القطوف الدانية

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

المجلد 1

اشارة

القطوف الدانية

-----------------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

-----------------

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الأوّل): 6-204539-964-978

-----------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

مقدمة المؤسسة

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

(القطوف الدانية) موسوعة دينية فكرية، مكوّنة من مجموعة من محاضرات المرجع الراحل آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى اللّه درجاته)، ألقاها في الكويت ومدينة قم المقدسة خلال ثلاثين عاماً، وقد تمّ تحريرها نصّيّاً، لكن مع الأسف لم يتم العثور على محاضراته في كربلاء المقدسة بسبب عدم تسجيل الكثير منها أو تعرّض أشرطتها للتلف نتيجة نهب الظالمين تراث الإمام الشيرازي في كربلاء بعد هجرته.

وتشتمل هذه المحاضرات على أفكار الإمام الشيرازي في مختلف القضايا، حيث ألقاها على العلماء وطلبة العلوم الدينية والجامعيين والمثقفين والكسبة والهيئات الدينية أو عامة الناس أو على الرجال أو النساء.

وتمتاز هذه المحاضرات بالأمور التالية:

أولاً: موضوعاتها تشتمل على أصول الدين وفروعه والأخلاق وغيرها.

أ- ففي أصول الدين ركّز الإمام الشيرازي على العقائد الحقة - من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد وما يرتبط بها - بهدف تقويتها في قلوب الناس وتعميقها ودحض الشبهات، وخاصة مع موجة الإلحاد والشيوعية التي عمّت

ص: 5

بعض البلدان الإسلامية في الستينيّات من القرن الماضي، ومع موجة الانبهار بأفكار المخالفين التي عمت البعض في السبعينيّات بحيث نقّصوا من مقامات الرسول والأئمة من أهل البيت (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، ومع موجة التأثر بالأفكار الغربية التي يدعو إليها البعض حالياً، فشحذ الإمام الشيرازي قلمه لمواجهة الأفكار المسمومة وانبرى لمقاومة تلك الموجات عبر الاستشهاد بالقرآن والحديث والعقل والتاريخ.

ب- وفي فروع الدين أجزل العطاء، فانبرى لبيان الأحكام الشرعية وبيان عللها ومصالحها، في ظلّ موجات التأثّر بالمناهج المستوردة ومطالبة البعض بتبديل أحكام الشرع بتلكم القوانين الوضعية، فكان يبيّن مصلحة البشرية في تلك الأحكام وأن تركها يوجب الخلل والإشكال في حياة الناس.

ج- أما في الأخلاق فقد كان يركّز على الفضائل الخُلُقية ويحذّر من رذائلها، وأن شخصية الإنسان المؤمن لا بدّ أن تكون متحليّة بتلك الأخلاق الفاضلة منزهة عن الرذائل، لبناء مجتمع إنساني مثالي يجمع بين رضى اللّه تعالى وتماسك المجتمع ووئامه.

كما تشتمل هذه المحاضرات على مواضيع تاريخية وثقافية واجتماعية وسياسية وعلى التوجيهات العامة، وغيرها.

ثانياً: نجد في هذه المحاضرات كثرة الاستشهاد بالقرآن الكريم وبأحاديث النبي وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) وبفقه أهل البيت، فهي زاد المؤمن، لأنها النور الذي فيه الهداية لمن وعاه وطبّقه في حياته، وكان يقول جواباً لمن سأله عن هذه الكثرة: «وهل وظيفتنا إلّا تعريف الناس بالقرآن والرسول وآله؟».

حيث كان كثير المطالعة والكتابة والتدريس لتفسير القرآن ولأحاديث الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) وكتب الفقهاء الماضين رحمهم اللّه، حتى

ص: 6

ألّف موسوعة فقهية واسعة وهي موسوعة الفقه في مائة وستين مجلداً والتي تشتمل مضافاً إلى البحوث المتداولة من الطهارة إلى الديات، بحوثاً في مختلف العلوم الحديثة لتبيان نظرة الإسلام فيها كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والبيئة وفلسفة التاريخ والسلام وغير ذلك، وكان ذلك أيضاً من موادّ محاضراته التي ضمّنها بعضاً من تلك البحوث بما يتناسب مع فهم المستمعين.

ثالثاً: كان من همّه إحياء سنن الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) والتي تركها المسلمون أو طواها النسيان، فكان يذكّر بها ويشجع الناس عليها، وخاصة في الأمور الاجتماعية كالزواج المبكر وطريقة الحياة في مختلف شؤونها، ولذا أكثر من ذكرها في محاضراته.

رابعاً: من خصائص محاضرات الإمام الشيرازي أنه اتّبع اسلوب السهل الممتنع، حيث كان يقرّب الأفكار السامية والتي يصعب فهمها بأيسر العبارات وأوضح الأمثلة، وكان يتجنّب التعقيد والاصطلاحات الصعبة، وإذا رأى من اللازم ذكر الاصطلاحات العلمية كان يشفعها بتوضيح وتسهيل للفكرة، وذلك اقتداءً بالقرآن حيث إن اللّه يسّره مع عمق معانيه لينتفع بظاهره الجميع وليتدبره من هو أهل لذلك.

خامساً: نجد في هذه المحاضرات الإكثار في القصص التي فيها العِبر، اقتفاءً للقرآن الكريم، لأن أسلوب القصة يعبّئ حماس المستمع أو القارئ، ولأن الأفكار السامية لو صيغت في قالب القصص كانت أكثر تأثيراً على الناس وأشد إقناعاً لهم وأجلى للفكرة بحيث يصبح فهمها أسهل، وخاصة إذا كانت القصص من الذين يتأسى بهم الناس ويعتقدون بهم ممّن دخلوا في وجدان الأمة كالأنبياء والأئمة^ والأصحاب الأجلاء والعلماء الخيرة، وكذلك قصص الأشرار الذين انتهكوا حرمة اللّه سبحانه وحُرَم رسوله وآله (عليهم الصلاة والسلام) حيث

ص: 7

تكون حكاية أفعالهم المشينة منفراً للناس عن تلكم الأعمال.

سادساً: ركّزت هذه المحاضرات على أوضاع المسلمين بنحو خاص، فقد كان الإمام الشيرازي كثير المطالعة وكثير التحقيق والبحث والسؤال عن أحوال المسلمين قديماً وحديثاً، رغم التعتيم الإعلامي، فما كان يلتقي بالزوار من البلاد الإسلامية أو غير الإسلامية إلّا ويسألهم عن أحوال المسلمين في تلكم البلاد وأمور معاشهم ومعادهم، كما كان يتابع المنشورات الإعلامية التي تنقل أخبار المسلمين وأمورهم في شرق الأرض وغربها، هذا مضافاً إلى إكثاره من مطالعة مختلف الكتب في هذا المضمار، ولذا كانت له معرفة واسعة بأحوالهم ويذكر شطراً منها في محاضرته للمثال أو للاستنهاض أو الحثّ والتحريض، فقد كان أكبر همّه إنقاذ المسلمين من وضعهم المرزي حيث تُركت أحكام الإسلام واُستبدلت بالأحكام الوضعية في مختلف مناحي الحياة، مع جور الظالمين واستبدادهم، وسيطرة المستعمرين على بلاد المسلمين ونهب ثرواتهم وقتل أبنائهم ومنع تطورهم مادياً ومعنوياً، وكان يرى أن العلاج يكمن في الرجوع إلى القرآن الكريم، وخاصة الآيات المنسيّة الخمس وهي: آية الأخوة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1)، وآية الأمة الواحدة: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(2)، وآية الحرية: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(3)، وآية الشورى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(4)، وآية التعددية: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(5)، وغيرها، ولذاركّز

ص: 8


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سورة المؤمنون، الآية: 52.
3- سورة الأعراف، الآية: 157.
4- سورة الشورى، الآية: 38.
5- سورة المطففين، الآية: 26.

على هذه الآيات كثيراً في محاضراته وكتبه، تذكيراً للمسلمين بها وإفهاماً وبياناً لهم، لعلّهم يعملون بها فينظر اللّه إليهم نظرة رحيمة وينقذهم مما هم فيه.

سابعاً: يتميّز الإمام الشيرازي - عملاً وقولاً وكتابةً - بأنه جمع بين القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، فهو تمسك بالإسلام وأحكامه وعقائده وأصوله، وأضاف إلى ذلك العلومَ الجديدة في ضمن أسس الاجتهاد الشرعي.

وهذا الجمع نادراً ما نراه، إذ إن أكثر من توجه إلى الأمور الجديدة لمّا رأى تعارض بعضها مع أحكام الشرع حاول تأويل التراث الإسلامي بما ينطبق على الأمور المحدثة، كما أن أكثر من تمسك بالتراث ترك العلوم الجديدة ولم يعتنِ حتى بالصحيح منها.

وأمّا الإمام الشيرازي فقد جمع بين التراث القرآني والروائي والفقهي مع ما لا يعارضها من المستجدات، ولذا كلّما رأى أو سمع علماً جديداً كان يدقق فيه فيقبل منه ما لا يعارض الكتاب وسنة الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) ويرفض ما كان يعارضهما، كما كان أحياناً يغيّر أو يطوّر في الجديد بحيث ينسجم مع الشرع القويم، هذا مضافاً إلى ما ابتكره من أفكار ورؤى وأطروحات ضمّنها في كتبه ومحاضراته.

ثامناً: إن الإمام الشيرازي مارس جهاد الكلمة ضد الحكومات الجائرة لكي تترك الأحكام والأساليب المخالفة للشرع القويم، أو لتغييرها إلى أنظمة تعمل حسب الكتاب وسنة الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) وكان يصدح بذلك في محاضراته وكتبه والتي كلّفته الكثير حتى طاردته الحكومات الجائرة فاضطر إلى هجرات متعددة، وقد منعت تلكم الأنظمة الجائرة نشر بعض كتبه ومحاضراته وأحياناً أبادت جزءاً منها، لكن ذلك كلّه لم يوقفه عن نشاطه الإسلامي والتوعوي والتربوي.

ص: 9

وهناك مميزات أخرى في هذه الموسوعة لم نذكرها اختصاراً، لكنّا نُحيلها إلى ذكاء الفاحص الخبير.

وقد واصل الإمام الشيرازي محاضراته إلى آخر ليلة من حياته رغم هجوم الأمراض والعلل والمشاكل السياسية عليه، وكان آخر ظهور علني له هو محاضرة ألقاها على جمع من المؤمنات والتي طُبعت بعد ذلك بعنوان (المحاضرة الأخيرة)، وبعد ذلك بقليل انتقلت روحه الطاهرة إلى بارئها، واستراح من همّ الدنيا وغمّها بعد خمسة وسبعين عاماً لم يعرف فيها الكلل والملل.

وحيث إنه أخلص للّه فإنه سبحانه أنمى ما بذره فكان مَثَل كلمته كمثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فقد قيّض اللّه تعالى ثلة من المؤمنين يحملون تلكم الأفكار وينشرون ذلك التراث رغم كثرة المعوقات، وما كان للّه ينمو.

وأما هذه المحاضرات فهي - كما ذكرنا - جزء من محاضراته ممّا عثرنا عليها، وقد قام جمع من الأفاضل بتنزيلها وصياغتها، وقد طبع بعضها في سنين متمادية وبشكل متفرق، إلّا أن (مؤسسة الشجرة الطيبة) قامت بجمع ما طُبع وإضافة ما لم يُطبع ثم تحريرها نصياً مع تخريج مصادرها ومراعاة آخر ما توصّل إليه علم التحقيق وعلائم التنقيط.

مع التنويه بأن هناك محاضرات كثيرة عثرنا عليها مؤخراً وهي في طور الإعداد، ولعلّ اللّه يوفقنا لطباعتها لاحقاً.

والشكر موصول إلى الأعلام الكرام الذين ساهموا في إعداد هذه المحاضرات وطباعتها، خاصة سماحة الشيخ فاضل الصفار وفضيلة الشيخ علي الفدائي حيث أعدّا أكثر هذه المحاضرات - كتابةً وصياغةً وتحقيقاً وغير ذلك - كما نتقدم بالشكر إلى فضيلة الشيخ مؤيد المؤيد حيث ساهم في ترتيب هذه الموسوعة

ص: 10

وتحقيقها والتدقيق فيها، وغيرهم ممن ساهم في إعداد وطباعة هذه المحاضرات.

فكانت هذه الموسوعة التي اقتبسنا اسمها من وصف الجنة في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٖ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}(1) فحقاً هذه المحاضرات رغم عمق مضامينها ميسّرة سهلة التناول لمن أراد أن يقتطف منها الأفكار الإسلامية الأصلية.

نسأل اللّه أن يُعلي درجات الإمام الشيرازي الراحل، النجم الذي لم يستطع الموت أن يُخفت نوره، وأن ينفع بهذه الموسوعة المؤمنين كما نفعهم بتلكم المحاضرات، وأن يجعل هذه الموسوعة حلقة من حلقات تطبيق تلك الأفكار، وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

مؤسسة الشجرة الطيبة

11 / ذي القعدة / 1441ه ق

يوم ميلاد الإمام الرضا(عليه السلام)

قم المقدسة

ص: 11


1- سورة الحاقة، الآية: 21-23.

ص: 12

الإصلاح الاجتماعي

الإصلاح

قال اللّه تعالى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(1).

هذه الآية الكريمة تدل على أهمية إلاصلاح الاجتماعي، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «صدقة يحبها اللّه إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا»(2).

وقال(عليه السلام): «ما عمل رجل عملاً بعد إقامة الفرائض خيراً من إصلاح بين الناس، يقول خيراً، أو يتمنى خيراً»(3).

وقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) وسائر أهل البيت^ خير مصداق للإصلاح بين الناس.

يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا رأيتَ بين إثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي»(4).

وروي في بحار الأنوار: عن غير واحد من أصحاب ابن دأب قال:

ص: 13


1- سورة النساء، الآية: 114.
2- الكافي 2: 209.
3- وسائل الشيعة 18: 441.
4- الكافي 2: 209.

لقيت الناس يتحدثون أن العرب كانت تقول: أن يبعث اللّه فينا نبياً يكون في بعض أصحابه سبعون خصلة من مكارم الدنيا والآخرة، فنظروا وفتشوا هل يجتمع عشر خصال في واحد فضلاً عن سبعين، فلم يجدوا خصالاً مجتمعة للدين والدنيا، ووجدوا عشر خصال مجتمعة في الدنيا، وليس في الدين منها شي ء...

قال ابن دأب: ثم نظروا وفتشوا في العرب، وكان الناظر في ذلك أهل النظر، فلم يجتمع في أحد خصال مجموعة للدين والدنيا بالاضطرار على ما أحبوا وكرهوا إلّا في علي بن أبي طالب(عليه السلام) فحسدوه عليها حسداً أنغل القلوب وأحبط الأعمال، وكان أحق الناس وأولاهم بذلك؛ إذ هدم اللّه عزّ وجلّ به بيوت المشركين، ونصر به الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واعتز به الدين في قتله مَن قتل من المشركين في مغازي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

قال ابن دأب: فقلنا لهم: وما هذه الخصال؟

قالوا: المواساة للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبذل نفسه دونه، والحفيظة ودفع الضيم عنه، والتصديق للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالوعد، والزهد، وترك الأمل، والحياء، والكرم، والبلاغة في الخطب، والرئاسة، والحلم، والعلم، والقضاء بالفصل، والشجاعة، وترك الفرح عند الظفر، وترك إظهار المرح، وترك الخديعة والمكر والغدر، وترك المثلة وهو يقدر عليها، والرغبة الخالصة إلى اللّه، وإطعام الطعام على حبه، وهوان ما ظفر به من الدنيا عليه، وتركه أن يفضل نفسه وولده على أحد من رعيته، وطعمه أدنى ما تأكل الرعية، ولباسه أدنى ما يلبس أحد من المسلمين، وقسمه بالسوية، وعدله في الرعية، والصرامة في حربه وقد خذله الناس، فكان في خذل الناس وذهابهم عنه بمنزلة اجتماعهم عليه، طاعة للّه وانتهاء إلى أمره، والحفظ وهو الذي تسميه العرب: العقل، حتى سمي: أذنا واعية، والسماحة، وبث الحكمة، واستخراج الكلمة، والإبلاغ في الموعظة، وحاجة الناس إليه إذا حضر، حتى

ص: 14

لايؤخذ إلّا بقوله، وانفلاق ما في الأرض على الناس حتى يستخرجه، والدفع عن المظلوم، وإغاثة الملهوف، والمروءة، وعفة البطن والفرج، وإصلاح المال بيده ليستغني به عن مال غيره، وترك الوهن والاستكانة، وترك الشكاية في موضع ألم الجراحة، وكتمان ما وجد في جسده من الجراحات من قرنه إلى قدمه، وكانت ألف جراحة في سبيل اللّه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود ولو على نفسه، وترك الكتمان فيما للّه فيه الرضى على ولده...

قال ابن دأب: فهل فكر الخلق إلى ما هم عليه من الوجود بصفته إلى ما مال غيره، ثم حاجة الناس إليه وغناه عنهم، إنه لم ينزل بالناس ظلماء عمياء كان لها موضعاً غيره، مثل مجي ء اليهود يسألونه ويتعنَّتونه، ويخبر بما في التوراة وما يجدون عندهم، فكم يهودي قد أسلم وكان سبب إسلامه هو، وأما غناه عن الناس فإنه لم يوجد على باب أحد قط يسأله عن كلمة، ولا يستفيد منه حرفاً، ثم الدفع عن المظلوم وإغاثة الملهوف.

قال: ذكر الكوفيون: أن سعيد بن قيس الهمداني رآه يوماً في فناء حائط، فقال: يا أمير المؤمنين، بهذه الساعة؟!

قال(عليه السلام): «ما خرجت إلّا لأعين مظلوماً، أو أغيث ملهوفاً»، فبينا هو كذلك، إذ أتته امرأة قد خُلع قلبها، لا تدري أين تأخذ من الدنيا، حتى وقفت عليه، فقالت: يا أمير المؤمنين، ظلمني زوجي وتعدى علي وحلف ليضربني، فاذهب معي إليه.

فطأطأ(عليه السلام) رأسه ثم رفعه، وهو يقول: «حتى يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، وأين منزلك؟»

قالت: في موضع كذا وكذا.

فانطلق(عليه السلام) معها حتى انتهت إلى منزلها، فقالت: هذا منزلي.

قال: فسلم، فخرج شاب عليه إزار ملونة فقال(عليه السلام): «اتق اللّه، فقد أخفت

ص: 15

زوجتك؟!».

فقال: وما أنت وذاك، واللّه لأحرقنها بالنار لكلامك!...

قال(عليه السلام) له: «آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، وترد المعروف؟...».

قال: وأقبل الناس من السكك يسألون عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حتى وقفوا عليه، قال: فأسقط في يده الشاب، وقال: يا أمير المؤمنين، اعف عني عفا اللّه عنك، واللّه لأكونن أرضاً تطؤني.

فأمرها بالدخول إلى منزلها، وانكفأ وهو يقول: «لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. الحمد للّه الذي أصلح بي بين مرأة وزوجها» يقول اللّه تبارك وتعالى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(1).

قال ابن دأب: ثم المروءة، وعفة البطن والفرج، وإصلاح المال، فهل رأيتم أحداً ضرب الجبال بالمعاول، فخرج منها مثل أعناق الجزر، كلما خرجت عنق، قال: بشر الوارث، ثم يبدو له فيجعلها صدقة بتلة(2) إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، لينصرف النيران عن وجهه، ويصرف وجهه عن النار، ليس لأحد من أهل الأرض أن يأخذوا من نبات نخلة واحدة حتى يطبق كل ما ساح عليه ماؤه.

قال ابن دأب: فكان يحمل الوسق فيه ثلاثمائة ألف نواة، فيقال له: ما هذا؟ فيقول: «ثلاثمائة ألف نخلة، إن شاء اللّه». فيغرس النوى كلها فلا يذهب منه نواة ينبع وأعاجيبها. ثم ترك الوهن والاستكانة، إنه انصرف من أحد وبه ثمانون

ص: 16


1- سورة النساء، الآية: 114.
2- أي: قطيعة بحيث لاخيار ولا عود فيها.

جراحة، يدخل الفتائل من موضع ويخرج من موضع، فدخل عليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عائداً وهو مثل المضغة على نطع، فلما رآه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكى وقال له: «إن رجلا يصيبه هذا في اللّه لحق على اللّه أن يفعل به ويفعل».

فقال(عليه السلام) مجيباً له وبكى: «بأبي أنت وأمي، الحمد للّه الذي لم يرني ولَّيت عنك، ولا فررت، بأبي أنت وأمي كيف حُرمتُ الشهادة؟».

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنها من ورائك إن شاء اللّه».

قال: فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أبا سفيان قد أرسل موعده بيننا وبينكم حمراء الأسد». فقال: «بأبي أنت وأمي، واللّه لو حملت على أيدي الرجال ما تخلفت عنك» قال: فنزل القرآن: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}(1).

ونزلت الآية فيه قبلها: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْأخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّٰكِرِينَ}(2).

ثم ترك الشكاية في ألم الجراحة، شكت المرأتان إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)ما يلقى وقالتا: يا رسول اللّه، قد خشينا عليه مما تدخل الفتائل في موضع الجراحات، من موضع إلى موضع، وكتمانه ما يجد من الألم. قال: فعدَّ ما به من أثر الجراحات عند خروجه من الدنيا فكانت ألف جراحة من قرنه إلى قدمه صلوات اللّه عليه...(3).

نعم، هكذا كان أمير المؤمنين(عليه السلام) وكذلك كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قبل، وكذلك هم أهل البيت^، وهكذا يلزم أن يكون تابعيهم والمقتدين بسيرتهم بعون اللّه.

ص: 17


1- سورة آل عمران، الآية: 146.
2- سورة آل عمران، الآية: 145.
3- بحار الأنوار 40: 97؛ وكذا في الإختصاص: 144.

الكفاءة والقدرة

الكفاءة والقدرة هي من مقومات الإصلاح الاجتماعي، وما نراه اليوم من كثرة المشاكل في بلاد المسلمين فإن من أسبابها عدم القدرة والكفاءة القيادية.

وليس المقصود بالكفاءة مجرد الادعاء بالكفاءة والأهلية، أو إطلاق الشعارات الخالية من المضمون، بل هي الحالة الواقعية للكفاءة التي يلزم أن نوجهها وننميها على مستوى الأفراد وعلى مستوى الجماعة، بل على مستوى الأمة؛ لأنه لا فرق في الحاجة إلى ذلك كله، أي إلى كفاءة الفرد وكفاءة المجتمع، حيث يعتبر أحدهما مكملاً للآخر، ولذا يلزم السعي الجاد والمتواصل من أجل تنمية الكفاءات للحصول على ثمراتها بالشكل الأفضل والمطلوب.

ومن الواضح أن وجود المؤهلات وعدمها في الفرد أو الأمة، يتضح من خلال أداء وإنجاز الأعمال الموكلة للفرد أو للأمة، ودرجة النجاح أوالفشل فيهما، فنقول - مثلاً - : إن الشخص الفلاني، أو الأمة الفلانية، لديها القدرة والكفاءة على أداء مهمتها، أو نقول العكس من ذلك: بأن ذلك الشخص أو تلك الأمة ليست لها القدرة أو الكفاءة على أداء مهامها في هذا المجتمع أو ذاك. وهذا التقييم موجود في المجتمعات كافة، سواء كانت تلك المجتمعات غربية أو شرقية، أو مجتمعات إسلامية.

ونحن المسلمون - وخاصة في القرن الأخير - خرجنا من الامتحان بنتائج غير موفقة، قابلها العالم بردود فعل معاكسة، وكانت ذلك بطبيعة الحال مؤشراً واضحاً على عدم أهلية وقدرة المسلمين على أداء الدور الريادي الذي خلفه لهم الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإمام المتقين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في إدارة الأمة، مما جعل أمورهم - أي المسلمين - تصبح تحت تسلط الغربيين والشرقيين، وأصبح بعض

ص: 18

المسلمين بأفعالهم عوناً لأعداء الإسلام وأعداء الدين على الإسلام والمسلمين، كما قالأحد الشعراء العرب:

وإخوانٍ تخذتهم دروعاً *** فكانوها ولكن للأعادي

وخلتهم سهاماً صائبات *** فكانوها ولكن في فؤادي(1)

والأمة الإسلامية حينما أدت الدور الرسالي، واستطاعت أن تثبت قدرتها على ريادة العالم وقيادته إلى شاطئ الأمن والسعادة، كانت ملتفة بقيادة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام)، فكانت مصداقاً حقيقياً للآية المباركة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ}(2).

فهنا في هذه الآية الكريمة تنبيه إلى لزوم الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

{كُنتُمْ} أيها المسلمون، وكان لمجرد الربط، لا بمعنى الماضي {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي: خير جماعة ظهرت للناس، فإن كل أمة تظهر للناس في فترة، ثم تختفي وتغيب، لتأخذ مكانها أمة أخرى. وإنما كان المسلمون خير أمة لخصال ثلاث، بها تترقى الأمم إلى أوج عزّها هي: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} فإن المجتمع إذا خلا من هذين الواجبين أخذ يهوي نحو السُّفل، لما جُبل عليه من الفساد والفوضى والشغب، فإذا تحلّى المجتمع بهذين الأمرين أخذ يتقدم نحو الكمال بمدارج الإنسانية والحضارة الحقيقية، حتى يصل إلى قمة البشرية {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إيماناً صحيحاً لا كإيمان أهل الكتاب والمشركين، والإيمان

ص: 19


1- الأبيات للشاعر علي بن العباس الرومي.
2- سورة آل عمران، الآية: 110.

الصحيح باللّه رأس الفضائل، فإنه مع قطع النظر عن كونه إدراكاً لأعظم حقيقة كونية، فهو محفّز شديد نحو جميع أنواع الخير، ومنفّر قوي عن جميع أصناف الشر {وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ} إيماناً صحيحاً بعدم الشرك، وقبول قول اللّه سبحانه في نبوة نبي الإسلام محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {لَكَانَ} إيمانهم {خَيْرًا لَّهُم} في دينهم ودنياهم، حتى تنظم دنياهم على ضوء الإسلام، فتخلو من الجهل والمرض والفقر والرذيلة، ويكونون في الآخرة سعداء ينجون من عذاب اللّه، وليس المراد ب- (خير) معنى التفضيل، بل هو تعبير عرفي، حيث يظهر للناس أنهم في خير في الجملة وعلى هذا يكون إيمانهم أكثر خيراً وأفضل... ، ثم بيّن سبحانه أن ليس كل الذين كانوا من أهل الكتاب بقوا على طريقتهم فإن {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} باللّه وبالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبما جاء به كالنجاشي وابن سلام وغيرهما، {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ} الخارجون عن طاعة اللّه باتباع أهوائهم المضلّة وطرائقهم الزائفة(1).

ولا يخفى ما لهذه الآية الكريمة من التأثير على إصلاح المجتمع. فإن الإصلاح بحاجة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبحاجة إلى الإيمان باللّه وبرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبالأئمة الأطهار^.

ولكن الأمة الإسلامية في يومنا هذا، فبعد أن حمل آباؤنا وأجدادنا مشاعل العلم والنور والحياة الحرة إلى العالم، أصبحنا اليوم - بالإضافة إلى كوننا غير قادرين على أداء مهماتنا الأساسية - نهدم ما بناه السابقون من مجد وشموخ.

لذا فعلى المسلمين إن أرادوا الحصول على مافقدوه من الكرامة والعزة والقدرات والإمكانات التي تؤهلهم لتحمل المسؤولية بالشكل المطلوب، أن يهتموا بالإصلاح، وهو يشمل إصلاح النفس أولاً، ثم إصلاح المتجمع،

ص: 20


1- راجع تفسير تقريب القرآن 1: 378.

والمجتمع على قسمين:

1- مجتمع صغير.

2- مجتمع كبير.

إصلاح المجتمع الصغير

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «وأروي: أن رجلاً سأل العالم(عليه السلام)(1) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(2) قال: يأمرهم بما أمرهم اللّه، وينهاهم عما نهاهم اللّه، فإن أطاعوا كان قد وقاهم، وإن عصوه كان قد قضى ما عليه»(3).

وعن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد(عليهما السلام) قال: «لا يزال المؤمن يورث أهل بيته العلم والأدب الصالح حتى يدخلهم الجنة جميعاً، حتى لا يفقد فيها منهم صغيراً ولا كبيراً ولا خادماً ولا جاراً، ولا يزال العبد العاصي يورث أهل بيته الأدب السيئ حتى يدخلهم النار جميعاً، حتى لا يفقد فيها منهم صغيراً ولا كبيراً ولا خادماً ولا جاراً»(4).

وعنه(عليه السلام) أنه قال: «لما نزلت: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(5) قَالَ النَّاسُ: كيف نقي أنفسنا وأَهلينا؟ قال: اعملوا الخير وذكِّروا به أَهليكم وأَدِّبوهم على طاعة اللّه ثم قال أَبو عبد اللّه(عليه السلام): إِنَّ اللّهَ تعالى يقول لنبيِه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوٰةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}(6) وقَالَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَٰبِ

ص: 21


1- أي الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام).
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- بحار الأنوار 97: 82.
4- مستدرك الوسائل 12: 201.
5- سورة التحريم، الآية 6.
6- سورة طه، الآية: 132.

إِسْمَٰعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِوَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَوٰةِوَالزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}(1)»(2).

يشكِّل الناس في هذه الحياة من حيث انتسابهم إلى العائلة أو المدرسة ونحوها مجتمعاً صغيراً، وهذه المجتمعات الصغيرة باندماجها مع بعض تكون مجتمعات كبيرة.

والمجتمع الصغير تقع مسؤولية إصلاحه على الأب والأم والمعلم، فاللازم على الأبوين أن يتعاملا مع الأطفال تعاملاً متزناً يجمع بين العقل والعاطفة معاً بدون إهمال أو تشديد، حتى تستكمل التربية جميع جوانبها العقلية والعاطفية، لأجل أن يستشعر الطفل بالأمن والاستقرار النفسي، وفي الوقت نفسه يعلمانه النظام والانضباط والنظافة والأدب والعمل وحب الآخرين والمشاركة الإيجابية معهم وعدم الاستبداد بالرأي وأن لا يكون أنانياً.

ولما كانت الأم قريبة على الطفل فإنها تتمكن من التعرف على خصائص طفلها ومشاعره وأحاسيسه، فالأم لها الدور الأعظم بتربية الطفل تربية صالحة، كما قال الشاعر:

والفضل للآباء في تلقيحهم *** غرس البنين بأنفس الأعلاق

والأم أولى الوالدين بولدها *** تسقيه من دم قلبها الخفاق

الأم مدرسة البنين وحسبهم *** أن يغتدوا من ثديها المهراق

هي ترضع الأجسام والأرواح ما *** في صدرها من صحة وخلاق(3)

ص: 22


1- سورة مريم، الآية: 54-55.
2- مستدرك الوسائل 12: 201.
3- الأبيات للشاعر أحمد تقي الدين.

أو كما قال الشاعر الآخر:

من لي بتربية النساء فإنها *** في الشرق علة ذلك الإخفاق

الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيب الأعراق

الأم روض إن تعهده الحيا *** بالري أورق أيّما إيراق

الأم أستاذ الأساتذة الألى *** شغلت مآثرهم مدى الآفاق(1)

ومن قبل ذلك قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجنة تحت أقدام الأمهات»(2).

وهذا لا يعني إلغاءً لدور الأب كما هو واضح، فإن للأب دوراً تربوياً مهماً، بل بمعنى بيان أهمية دور الأم، وإثبات الشيء لا ينفي ما عداه.

أما المدرسة، فهي محل التربية الفكرية والعملية، وتقويم الطفل فيها أصعب من تقويمه في البيت، لاختلاط الأجواء الحسنة والسيئة، والنفس في اكتساب السيئات أسرع من اكتسابها الحسنات غالباً.

أما في مرحلة الشباب والمراهقة، وخاصة عندما ندرك أن هذه المرحلة مرحلة حساسة وخطيرة؛ لأنها مرحلة تفتح ونضوج الشهوات والغرائز، يكون من اللازم إدامة التربية والتثقيف والتوعية الإسلامية، والمواظبة على الحذر الشديد خوفاً من سراية، أو استفحال العادات والأفعال السيئة بين صفوف الجيل الناشئ.

ومن هنا يلزم على الوالدين والمعلمين في المدارس، والمربين في المجتمع، كالخطباء والكتاب و... أن يهتموا بالشباب أكثر من غيرهم، لحساسية مرحلتهم في تكوين شخصيتهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي.

ولا يخفى أن المجتمع الصغير مندمج في المجتمع الكبير أو هو جزء لا

ص: 23


1- الأبيات للشاعر حافظ إبراهيم، الملقَّب بشاعر النيل.
2- مستدرك الوسائل 15: 180.

يتجزأ منه، بل إن المجتمعات الصغيرة أساس تكونه، فيلزم أن نصلح الأساسوالأصل وهو العائلة، التي هي بمثابة اللبنة الأساسية لتكوين مجتمع صالح وأساس صلاح العائلة هو صلاح الأبوين، إضافة إلى عناصر التربية الأخرى كالمدرسة والبيئة الصغيرة، ومن هنا يلزم التوجيه الصالح والحسن في كل فقرات هذا المجتمع الصغير، من بعده يصل الأمر إلى المجتمع الكبير.

إصلاح المجتمع الكبير

أما إصلاح المجتمع الكبير، فهو من أكثر الأمور تعقيداً وخطورة؛ إذ تتداخل في إصلاحه وتغييره نحو الأحسن عوامل كثيرة، منها: عامل الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والعمران، والتربية.

والتأثير على سيرة المجتمع وضبط سلوكه وتوعيته وتهذيبه، يحتاج إلى جيش من المثقفين والمبلغين والمصلحين والمفكرين، فإن محاربة تعاطي الخمور والمواد المخدرة والانحراف والشذوذ الجنسي - مثلا - لا يتم فقط بفتح مدرسة، أو إخراج مجلة، وما أشبه ذلك؛ لأنها أمور جزئية لايمكن تخليص المجتمع الكبير بها وحدها من هذه الآفة، وإنما هذا النوع من الإصلاح بحاجة إلى تخطيط عام وبرنامج كامل يشمل أموراً وجوانب متعددة ويعالج المشاكل من جذورها.

وأول الإصلاح هو أن يكون القائمون به صالحين، وإلّا فإن فاقد الشيء لا يعطيه.

والتخطيط العام لإصلاح المجتمع يبنى على دعائم وهي عديدة منها:

1- الإيمان.

2- توزيع القدرات (العلم والحكم والمال).

أما الإيمان، فإنه الوحيد الذي يمكن به تعديل الصفات والملكات والعواطف والأعمال، بحيث يجعلك مرتبطاً في كل أعمالك باللّه تعالى، فلن تجد الظلم أو

ص: 24

السرقة أو شرب الخمر أو الزنا وما شابه ذلك من المحرمات في مجتمع يسودهالإيمان.

والأمر الثاني: هو التكافؤ الموضوعي، أي الموازنة الدقيقة، والتعادل بين العلم والمال والحكم، لرفع الطغيان والاحتكار والتسلط، فإن في ذلك وقاية للمجتمع عن الانحراف والاستبداد، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج، فإن أحد الأمور الثلاثة إذا لم يكن في متناول الجميع على حد سواء - باستثناء عدم امتلاك البعض قابلية الأخذ والاستيعاب من جهة عدم الاستطاعة الذاتية فكرياً أو جسمياً - أوجب ذلك الحرمان، والحرمان ينتهي إلى الانحراف؛ ولذا يلزم تحرير هذه الثلاثة من نير الرأسمالية والشيوعية ونحوهما، حتى يكون الميزان: الكفاءة والعمل، فالكل سيقدر على أن يحصل على فرص كسب المال بقدر الآخر، وكل يقدر على أن يحصل على أرقى مراتب العلم: الجامعة وفوقها، وكلّ يقدر على أن يحصل على الحكم بعد وجود المؤهلات له من الشرائط الشخصية، كالعلم والعدالة.

فإذا حصلت الموازنة الصحيحة بين المعنويات (الإيمان والعلم) والماديات (المال والحكم) لم ينزلق المجتمع في مهاوي الانحراف، بخلاف ما إذا لم تحصل الموازنة، كما إذا كان المقام أو المنصب عند من لا علم له، أو العلم عند من لا تقوى لديه، أو المال عند من لا يمتلك الإيمان والرأفة على الفقراء، أو ما أشبه ذلك، فإن المجتمع حينئذٍ يصبح محلاً خصباً للانحراف، فعندها تثار التساؤلات والاحتجاجات العديدة: لماذا الشاب الفلاني يقدر على دخول الجامعة، وأنا لا أقدر مع أن مستواه الفكري مثلي؟

ولماذا تمكن فلان من الوصول إلى مجلس الأمة ولم أتمكن أنا؟

فهل ذلك لأنه من حاشية الحاكم، وأنا لست من حاشيته؟

وهل ميزان العدالة حاشية السلطان؟

ص: 25

ولماذا لا أتمكن أنا من كسب المال الكافي لشؤوني مع كوني أمتلك الكفاءةوالاستعداد الجيد للعمل؟

إلى غير ذلك من أسباب تواجد الطبقية المنحرفة في كل من العلم والمال والحكم، مما يؤدي أن يكون الاجتماع محلاً لولادة الانحراف والظلم.

إصلاح النفس

أما إصلاح النفس وهو اللبنة الأولى في إصلاح المجتمع، فيعني تزكية النفس وتطهيرها من الذنوب والآثام، وتنقيتها من العيب أو النقص. فإن الصالحين هم الذين صلحت نفوسهم وأعمالهم، قال اللّه تعالى عنهم: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّۧنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا}(1).

وقال عزّ اسمه: {وَأَدْخَلْنَٰهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّٰلِحِينَ}(2).

والصلاح على مراتب: فمنها ما هو مرتبة سامية وشريفة، ومنها متوسطة، وهكذا كل إنسان بحسب قدرته وقابليته على جهاد نفسه، فعن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «جاهدوا أنفسكم على شهواتكم تحلّ قلوبكم الحكمة»(3).

وعن إمام المتقين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال: «ذروة الغايات لا ينالها إلّا ذوو التهذيب والمجاهدات»(4).

لأن الغاية من صلاح النفس هي رضا وطاعة اللّه تعالى والابتعاد عن معاصيه والفوز بالجنة، فلا يتمكن الإنسان من الوصول إليها إلّا بتهذيب النفس ومجاهدتها

ص: 26


1- سورة النساء، الآية: 69.
2- سورة الأنبياء، الآية: 75.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 122.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 371.

من كل ظلم وطغيان، وعدم اتباع هواها، والالتزام بإطاعة اللّه وطاعة من أوجبطاعته من ولي الأمر المعصوم الواجب اتباعه، وطلب العلم، وتقديم التوبة.

وإن أفضل الجهاد، وهو جهاد النفس، وثمرته الفوز برضا اللّه تعالى والجنة، فإنها غاية الغايات، وقد جاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن المجاهد نفسه على طاعة اللّه وعن معاصيه عند اللّه سبحانه بمنزلة برٍّ شهيد»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر؟

قال: جهاد النفس، ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «كان في وصية أمير المؤمنين(عليه السلام) لأصحابه: إذا حضرت بليةٌ فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم، وإذا نزلت نازلةٌ فاجعلوا أنفسكم دون دينكم. واعلموا أن الهالك من هلك دينه، والحريب من حرب دينه، ألا وإنه لا فقر بعد الجنة، ألا وإنه لا غنى بعد النار؛ لا يفك أسيرها ولا يبرأ ضريرها»(3).

المؤهلات الذاتية

كان مدير بلدية كربلاء المقدسة - في مدة من الزمن - رجل يدعى (مكي جميل)، وقد قام هذا الشخص يوماً بجمع المهندسين وبعض طلبة الكليات المتخصصين في مجال العمارة والبناء، وطلب منهم أن يقدموا تقريراً هندسياً حول كيفية تجديد بناء قبة الإمام الحسين(عليه السلام)؟

ص: 27


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 232.
2- الأمالي للصدوق: 466.
3- وسائل الشيعة 16: 192.

فكان جوابهم له: إن هذا العمل في غاية الصعوبة، ويتطلب تنفيذه الاستعانةبمهندسين من خارج البلاد، وعلى الأقل من البلدان المجاورة كتركيا وإيران مثلاً، وحتى لو توفر ذلك الكادر فإن المدة اللازمة لإنجاز هذا العمل تقدر بستة أشهر على أقل تقدير. وبعد مدة جاء معماري من أهل الخبرة في البناء من مدينة النجف الأشرف يدعى (الحاج سعيد)، وقال: إنه مستعد لإنجاز هذا العمل بمدة لا تزيد على أربعين يوماً فيما إذا توافرت له كل الوسائل والإمكانات الضرورية، فوضع مدير كربلاء المقدسة كل ما يحتاجه هذا المعمار تحت تصرفه، وفعلاً جاء وأزال البناء القديم وأقام البناء الجديد بمدة أربعين يوماً، وكان ذلك طبعاً بفعل المهارة والكفاءة والخبرة التي يحملها ذلك المعماري.

هذه الواقعة تشير إلى أن وجود بعض الناس في مواقع لا يستحقونها، بل وإنهم يعتبرون خطراً على المجتمع بتقليدهم المناصب الكبيرة، بحيث اتخذوا من شهادتهم العلمية رمزاً يعلق على الجدران، وعند الأمور الصعبة والمحتاجة إلى بذل الوسع والجهد والتفكر تراهم يتجهون فوراً إلى غيرهم وخصوصاً البلاد الخارجية ولم يحاولوا لجهد بسيط في إنجاز أعمالهم.

وبسبب هؤلاء وغيرهم، نرى أن الغرب قد وضع يده على ثرواتنا وممتلكاتنا ومشاريعنا العمرانية والإنتاجية، في حين أن هناك في مجتمعاتنا من هو قادر وكفء على إقامة مثل هذه المشاريع وبتكاليف قليلة ومدة أقل، ولكنه لم يأخذ مكانه الصحيح، وغيره الذي يحمل عناوين كبيرة غير واقعية من شهادات جامعية وما أشبه، تراه في مكان ليس هو أهلاً له. ونرى بعض الحكومات تحارب هذه الكفاءات والقدرات الجيدة والحقيقية بحجة أنهم خطر على الدولة أو مرتبطون بفئة معادية، وحقيقة الأمر هي غير ذلك.

وفي مثل هذه القصة لا يحتاج الإنسان إلى أكثر من الهمّة العالية

ص: 28

والإمكانيات التي هي دائماً متوفرة في البلاد الإسلامية.

المبادئ الإسلامية

مبادئ الإسلام هي القوام للإصلاح الاجتماعي، ومن أهم ما تعانيه مجتمعاتنا المعاصرة هو ترك العمل بمبادئ الإسلام، في حين استفاد الغرب من هذه المبادئ، وتفهم تجربتنا وأخذ يعمل بها، فنرى اليوم الكثير من القوانين الإسلامية يعمل بها في الغرب ورغم أنها ليست بشكلها السليم الحقيقي لكنها تؤتي بثمارها عندهم وتوجب بعض الإصلاح الاجتماعي لديهم.

فمثلاً: لو ذهب شخص إلى الغرب وحصل على الإقامة الأصولية في بلادهم، نراهم يقدمون له كل ما يحتاجه في تطوير حياته، فعندما يريد أن يشتري بيتاً فإنهم يساعدونه بتقديم القرض لشراء الدار، وإذا أراد أن ينشأ مؤسسة ذات منفعة عامة للمجتمع تدفع له الدولة مبلغاً ربما يساوي نصف كلفة تلك المؤسسة دون عوض، إيماناً منهم بأن هذه المؤسسة ستقوم - بشكل أو بآخر - بتقديم خدمة لبلدهم ولشعبهم.

وهذا هو نوع من الضمان الاجتماعي المعمول به في بلاد الغرب، والمفقود في بلاد الإسلام غالباً.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«أيها الناس من ترك مالا فلأهله ولورثته، ومن ترك كلّاً أو ضياعا فعليَّ وإليَّ»(1).

وفي بعض الروايات: «ومن ترك دينا فعلي»(2).

ص: 29


1- الأمالي للشيخ للمفيد: 188.
2- الأمالي للشيخ للمفيد: 212.

وعن عطاء عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك، إن علي ديناً إذا ذكرتهفسد علي ما أنا فيه؟

فقال(عليه السلام): سبحان اللّه، وما بلغك أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يقول في خطبته: من ترك ضياعاً فعلي ضياعه، ومن ترك ديناً فعلي دينه، ومن ترك مالاً فآكله، فكفالة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ميتاً ككفالته حياً، وكفالته حياً ككفالته ميتاً».

فقال الرجل: نفست عني جعلني اللّه فداك(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أيما مؤمن أو مسلم، مات وترك ديناً لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه، فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك؛ إن اللّه تبارك وتعالى يقول: {إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَٰكِينِ}(2) الآية فهو من الغارمين وله سهمٌ عند الإمام فإن حبسه فإثمه عليه»(3).

وجاء في بعض الروايات أنه وبسبب هذه المقولة من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسلم عامة اليهود؛ لأن معنى ذلك أنه لو مات أحد وعليه دين فإن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الذي يقضي دينه، ولو ترك عيالاً دون معيل فإن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو كفيلهم، ولهذا أسلم عامة اليهود لأنهم عرفوا وتيقّنوا أن وعود الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم ستأخذ محلها للتطبيق قطعاً.

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، وعلي أولى به من بعدي، فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: قول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من ترك ديناً أو ضياعاً فعليَّ، ومن ترك مالاً فلورثته، فالرجل ليست له على نفسه ولايةٌ إذا لم يكن له مالٌ، وليس له على عياله أمرٌ ولا نهيٌ إذا لم يجر عليهم النفقة، والنبي

ص: 30


1- تهذيب الأحكام 6: 211.
2- سورة التوبة، الآية:60.
3- الكافي 1: 407.

وأمير المؤمنين(عليهما السلام) ومن بعدهما ألزمهم هذا، فمن هناك صاروا أولى بهم منأنفسهم، وما كان سبب إسلام عامة اليهود إلّا من بعد هذا القول من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإنهم آمنوا على أنفسهم وعلى عيالاتهم»(1).

فلو نظرنا بإمعان إلى حديث الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والذي جعل اليهود يعتنقون الدين الإسلامي، لرأينا وقتنا الحاضر عكس ما قد جرى؛ فإن الغربيين يطبقون بعض مصاديق حديث الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويشجعون الإعمار والتأسيس والتقدم بإعطاء نصف كلفة المشاريع لأجل ازدياد المؤسسات الخدمية والاجتماعية والدينية والتقدم الحضاري، فيكون مدعاة لجلب الناس إلى المعتقدات الغربية وتبهرهم الحضارة، في حين أن الإسلام هو أساس الحضارات، وقد استفاد منه غيرنا ونحن نعيش في ما يسمى بالعالم الثالث بعدما كنا نحن أسياد العالم.

التضحية لأجل الآخرين

من أهم ما يشترط في المصلحين أن يتحلوا بروح التضحية في سبيل اللّه وفي خدمة الآخرين.

كان الميرزا (علي آغا)(2)

نموذجاً فريداً في كل تصرفاته، وقد نقل أحد تلامذته هذه القصة حيث قال:

بينما كنت أمشي في أحد الأيام في سوق الخضار في النجف الأشرف، رأيت الميرزا (علي آغا) وهو يشتري الخس، وعندما اقتربت منه فإذا به يختار من الخس ما هو رديء وذابل، فقلت مع نفسي: ربما لديه حيوان داجن في داره

ص: 31


1- الكافي 1: 406.
2- هو السيد الميرزا علي آغا ابن السيد محمد حسن الشيرازي، وهو النجل الثاني للسيد المجدد الشيرازي، عالم كبير وفقيه قدير وورع زاهد، ولد في النجف الأشرف سنة 1287ه ، توفي(رحمه اللّه) في النجف الأشرف ليلة الأربعاء (18 ربيع الأول 1355ه).

ويريد أن يأخذ هذا الخس علفاً له، ولما سألته عن سبب اختياره للخسالرديء؟

أجابني: سأخبرك ولا يحق لك أن تنقل هذا الخبر عني للآخرين ما دمت حياً، والحقيقة هي أنني اختار الخس الرديء الذابل لأني أريد أن أدخل السرور على قلب البائع؛ وذلك لأن الناس يأتون ويختارون من الخس ما هو جيد وسالم، ويبقى هذا الخس الرديء دون طالب، ولربما سبّب ذلك لهذا البائع خسارة ما!!

يا ترى كم هو عدد هؤلاء الرجال - اليوم - بين المسلمين، الذين يفكرون في الآخرين قبل أن يفكروا في أنفسهم، ويهتموا لنفع الآخرين دون أنفسهم؟!

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أحب الأعمال إلى اللّه عزّ وجلّ إدخال السرور على المؤمن، إشباع جوعته، أو تنفيس كربته، أو قضاء دينه»(1).

ترويض النفس

سبق أن قلنا بأن ترويض النفس ومخالفة الهوى شرط للإصلاح، وقد كان والدنا (أعلى اللّه مقامه) من العلماء الذي يسعون دائماً إلى بناء النفس وترويضها بما يرضي باريها، وله قصص كثيرة في هذا الباب، وكان(رحمه اللّه) ينشد الكثير من الشعر، ولكن - للأسف الشديد - وقع أغلب ما كتبه بيد طغاة البعث في العراق(2)

ولا يعرف مصيرها حتى الآن، ومن جملة شعره قصيدة تقرب أبياتها المائتين في مدح الإمام صاحب الزمان (أرواحنا لمقدمه الفداء)، وكانت القصيدة بائية ومن أبياتها:

ص: 32


1- الكافي 2: 192.
2- حزب البعث العربي الإشتراكي: حزب تسلط على حكم العراق منذ (17/ تموز/ 1968م حتى 9/ 4/ 2003م.

أرى وجد نفسي مستطيل الجوانب *** وفيض دموعي مستهل الذوائب

وفي الصدر من نار الفراق شرارة *** يفور لظاها في زوايا الترائب

وقال(رحمه اللّه) في قصيدة أخرى:

يا رب إنا من نبات نعمتك *** فلا تصيرنا حصاد نقمتك

ونقل لي بعض الثقاة أن الوالد(رحمه اللّه) كان يذهب إلى المقبرة ويدخل قبراً خالياً وينام فيه ليتذكر القبر وأحواله، وكان يفترض أنه الميت، ثم يقول بصوت عال: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}(1) وكان يبكي من خوف اللّه وخوف القبر كثيراً، ثم ينادي نفسه ويقول: يا فلان لم يجيبوك ب{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} بل أرجعوك! فاعمل صالحاً واستعد لآخرتك.

الإنسان يتمكن أن يقوي جسمه ونفسه حتى لا تؤثر فيهما الأهواء والشهوات، كما يتمكن أن يسيطر على الطبيعية بزمام العلم، حتى لاتطغى عليه وقد جعل سبحانه وتعالى الكون مسخراً للإنسان، لا أنه جعل الإنسان مسخراً للكون، حيث قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(3). هذا بالإضافة إلى الأسباب الغيبية التي هي من وراء الماديات.

ص: 33


1- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
2- سورة لقمان، الآية: 20.
3- سورة الأعراف، الآية: 96.

كيفية إصلاح المجتمع الإسلامي

اشارة

تبين مما سبق بعض مقومات الإصلاح الاجتماعي والسبل الكفيلة لتجديد وإعادة المجتمع الإسلامي نحو الخير والتقدم والفضيلة، فإن العالم اليوم استبدت بقيادات غير رشيدة وحكومات فاسدة، وهي من أهم أسباب تأخر المجمتع الإسلامي.

علماً بأن الإصلاح الاجتماعي لا يقتصر على البلدان الإسلامية، فالواجب الشرعي والإنساني يقتضي السعي نحو المجتمع الصالح للبشرية جمعاء؛ لأن الإسلام هو دين البشرية على الإطلاق، فيلزم على الدعاة إرشاد الناس وهدايتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ}(1).

وإعادة المجتمع نحو الصلاح تكون بإذن اللّه تعالى بأسس خمسة وهي:

1- التنظيم واحتواء الجماهير

فعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «ونظم أمركم»(2).

ولأن أساس كل تنظيم وإصلاح هو الجماهيرية، فلابد من التوجه إلى الجماهير، لأنها المبدأ والقاعدة، وكل حركة اتخذت الصنمية والفردية والأنانية والاستبداد انفصلت عن الجماهير وكان مصيرها السقوط الحتمي.

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته للحسن(عليه السلام) قال: «اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك»(3).

ص: 34


1- سورة سبأ، الآية: 28.
2- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه.
3- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 31 من وصية له(عليهما السلام) للحسن بن علي(عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
2- التوعية العصري

ةالتوعية المناسبة والمواكبة للعصر - بعد الإيمان باللّه تعالى وبرسله^ - هي الرشد والنضوج والفهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيرها من الأمور المرتبطة بإدارة البلاد والعباد، فقد ورد في الزيارة الجامعة لأئمة أهل البيت^: «وساسة العباد»(1).

3- السلم

3- السلم(2)

من شروط إصلاح المجتمع اتخاذ منهج السلم واللاعنف. أما العنف فهو سبب للفساد والإفساد.

قال جلّ اسمه: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(3).

وقال سبحانه: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَٰمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}(4).

وقال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَٰمُ}(5).

وقال جلّ وعزّ: {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(6). ودار السلام من أسماء الجنة.

وقال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ

ص: 35


1- من لا يحضره الفقيه 2: 610. مفاتيح الجنان: الزيارة الجامعة الكبيرة.
2- وللإمام الراحل(رحمه اللّه) كتاب (الفقه: السلم والسلام) وفيه بحوث شيقة حول نظرية السلم والسلام في الإسلام.
3- سورة المائدة، الآية: 16.
4- سورة النساء، الآية: 94.
5- سورة الحشر، الآية: 23.
6- سورة يونس، الآية: 25.

الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}(2).

وقال تعالى: {هُوَ سَمَّىٰكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ}(3).

نعم، فإن السلام نبتة لا تقلعها العواصف، وشعار الإسلام: (السلام)، وحتى الدولة المرهوبة الجانب خير لها أن تحل مشاكلها بسلام؛ لأنه أحمد عاقبة، وأهنأ فراقاً، والقوة وضعت لأقصى حالات الاضطرار؛ ولذا نرى شعار الأنبياء عند دعوتهم (السلام)، وقد روي عن المسيح(عليه السلام) في الإنجيل: «أحبوا أعداءكم، وصلوا قاطعيكم، واعفوا عن ظالميكم، وباركوا على لاعنيكم»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «السلام اسم من أسماء اللّه تعالى، فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مرّ بالقوم فسلّم عليهم فإن لم يردوا عليه، ردَّ عليه من هو خير منهم وأطيب»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما فشا السلام في قوم إلّا أمنوا من العذاب، فإن فعلتموه دخلتم الجنة»(6). وقال(عليه السلام): «أفشوا السلام تسلموا...»(7).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «وأفشوا السلام في العالم، وردوا التحية على

ص: 36


1- سورة البقرة، الآية: 208.
2- سورة النساء، الآية: 90.
3- سورة الحج، الآية: 78.
4- شرح نهج البلاغة 10: 159.
5- روضة الواعظين 2: 459.
6- البرهان في تفسير القرآن 3: 346.
7- جامع الأخبار: 89.

أهلها بأحسن منها»(1).

وعن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال: «قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمون حوله مجتمعون أيها الناس،.. أحيوا القصاص، وأحيوا الحق لصاحب الحق، ولا تفرقوا، وأسلموا وسلِّموا تسلموا...»(2).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «أفشوا سلام اللّه، فإن سلام اللّه لاينال الظالمين»(3).

وعن أحدهما(عليهما السلام) قال: «ما طلعت الشمس بيوم أفضل من يوم الجمعة، وإن كلام الطير فيه إذا التقى بعضها بعضاً: سلام سلام، يوم صالح»(4).

4- شورى المرجعية

وهذا أمر واقعي سهل المنال إن وعت الأمة ذلك الأمر وعياً سياسياً دينياً، فإن في هذا الأسلوب تحكيم عبر الانتخابات الحرة للفقهاء المراجع الذين هم نواب الأئمة^ بملء حرية المجتمع، بدون ديكتاتورية الدولة وتسلطها على المرجعية، وبمعاونة أهل الخبرة الذين يعتمد عليهم المجتمع، لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(5)، وحينئذٍ لا يكون ضغط في التقليد أيضاً.

فإذا أراد جماعة من المجتمع أن يقلدوا مجتهداً آخر غير من هو في السلطة العليا يكون لهم ذلك بدون مزاحم.

وأبناء المجتمع هم الذين يختارون هذه السلطة العليا (شورى الفقهاء

ص: 37


1- بحار الأنوار 74: 292.
2- من لا يحضرة الفقية 4: 163.
3- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار: 196.
4- الكافي 3: 415.
5- سورة الشورى، الآية: 38.

المراجع) بالترشيح، وبمعاونة أهل الخبرة من أهل العلم والعدالة وأيضاً زعماء الأحزاب الحرة الإسلامية، وبدون تدخل من السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية لأنهم تحت السلطة العليا (شورى الفقهاء المراجع)(1).

5- الاكتفاء الذاتي

فكل محتاج إلى غيره منقاد له.

نعم الاحتياج الاجتماعي الطبيعي لا مانع منه، فأبناء المجتمع بعضهم يحتاج البعض لإمرار الحياة والمعاش، يقول الشاعر:

والناس بالناس من حضر وبادية *** بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم(2)

أما الحاجة التي تسبب أسر صاحبها وفقدان حريته، سواء كانت الحاجة شخصية أم عامة، على صعيد الفرد أم الأمة، فهي كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره»(3).

إن جميع البشر من بدوٍ ومن حضرٍ بعضهم يخدم بعضاً؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يوفّر كل شيء بمفرده ما لم يتعاون مع الآخرين، فالحاجة الاجتماعية حاجة متبادلة وضرورية لإقامة المجتمع الإنساني وديمومته، أما الحاجة التي تفقد شخصية صاحبها، وتجعله ينقاد إلى الآخرين، ويستسلم لإرادتهم، فهي التي لا ينبغي أن تكون عند المؤمن؛ لأنها تذله وتدمر شخصيته، وتسلب صفة

ص: 38


1- للتفصيل يراجع كتاب: (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، و(طريق النجاة)، و(الفقه السياسة)، للإمام الراحل(رحمه اللّه).
2- البيت لأبي العلاء المعري.
3- الإرشاد 1: 303.

القيادة عنده، وتفقده استقلاليته، وهي التي قال عنها أمير المؤمنين(عليه السلام): «احتج إلى من شئت تكن أسيره».

ونحن اليوم حينما نحتاج إلى الغرب أو الشرق، ولا نعتمد على مؤهلاتنا وقدراتنا الذاتية، ولا نعتمد على أنفسنا، فإن ذلك هو الذل والأسر ذاته، فيلزم علينا أن نحرر شعوبنا الإسلامية، وذلك بتنمية قدراتنا وطاقاتنا وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا أعسر أحدكم فليخرج ويضرب في الأرض، يبتغي من فضل اللّه ولا يغمَّ نفسه وأهله»(1).

وروي: أن سلمان المحمدي كان يسفُّ الخوص وهو أمير على المدائن ويبيعه ويأكل منه، ويقول: لا أحب أن آكل إلا من عمل يدي، وقد كان تعلم سفَّ الخوص من المدينة(2).

وفي كتابه إلى عمر بن الخطاب قال: وأما ما ذكرت أني أقبلت على سفّ الخوص وأكل الشعير، فما هما مما يعيَّر به مؤمنٌ ويؤنب عليه. وأيم اللّه يا عمر لأكل الشعير وسفّ الخوص والاستغناء عن رفيع المطعم والمشرب وعن غصب مؤمنٍ حقه وادعاء ما ليس له بحق، أفضل وأحب إلى اللّه عزّ وجلّ وأقرب للتقوى، ولقد رأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا أصاب الشعير أكل وفرح به، ولم يسخطه(3).

وسأل الإمام الصادق(عليه السلام) عن معاذ بياع الكرابيس(4)؟

فقيل له: ترك التجارة.

فقال: «عمل الشيطان، عمل الشيطان؛ من ترك التجارة ذهب ثلثا عقله، أما

ص: 39


1- السرائر 2: 228.
2- شرح نهج البلاغة 18: 35.
3- الاحتجاج 1: 131.
4- الكرابيس: جمع كرباس، وهو القطن.

علم أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما قدمت عير من الشام فاشترى منها واتجر فربح فيها ما قضى دينه»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما غدوة أحدكم في سبيل اللّه بأعظم من غدوته يطلب لولده وعياله ما يصلحهم»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الشاخص في طلب الرزق الحلال كالمجاهد في سبيل اللّه»(3).

وروي أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقف بغزوة تبوك بشاب جلد يسوق أبعرة سماناً، فقال أصحابه: يا رسول اللّه، لو كان قوة هذا وجلده وسمن أبعرته في سبيل اللّه، لكان أحسن! فدعاه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «أرأيت أبعرتك هذا أي شي ء تعالج عليها؟».

قال: يا رسول اللّه، لي زوجة وعيال، وأنا أكتسب بها ما أنفقه على عيالي، فأكفهم عن الناس وأقضي دينا علي.

قال: «لعل غير ذلك؟».

قال: لا، فلما انصرف قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لئن كان صادقاً إن له لأجراً مثل أجر الغازي وأجر الحاج وأجر المعتمر»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تحت ظل العرش يوم القيامة يوم لا ظل إلّا ظله رجل ضارب في الأرض يطلب من فضل اللّه ما يكف به نفسه ويعود به على عياله»(5).

وحكي عن داود(عليه السلام): أنه كان يتوخى من تلقاه من بني إسرائيل فيسأله عن

ص: 40


1- تهذيب الأحكام 7: 4.
2- السرائر 2: 228.
3- بحار الأنوار 100: 17.
4- عوالي اللآلي3 : 194.
5- عوالي اللآلي 3: 194.

حاله(1)؟

فيثني عليه، حتى لقي رجلاً فقال: نعم العبد لولا خصلة فيه، فقال: وما هي؟ قال: إنه يأكل من بيت المال، فبكى داود(عليه السلام) وعلم أنه قد أتي، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى الحديد: أن لن لعبدي داود. فألان اللّه له الحديد، فكان يعمل كل يوم درعاً يبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة وستين درعاً فباعها بثلاث مائة وستين ألفاً، فاستغنى عن بيت المال(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة سلام اللّه عليها تطحن وتعجن وتخبز»(3).

وروي أن رجلاً سأل الإمام الصادق(عليه السلام) فقال: أسمع قوما يقولون: إن الزراعة مكروهة؟ فقال(عليه السلام): ازرعوا واغرسوا، فلا واللّه ما عمل الناس عملاً أحل ولا أطيب منه، واللّه ليزرعن الزرع وليغرسن النخل بعد خروج الدجال»(4).

إذاً، يلزم علينا الاهتمام كثيراً بموضوع الإكتفاء الذاتي، ودراسته من كافة الجوانب، لننهض بالمجتمع الاسلامي اقتصادياً واجتماعياً.

كما يلزم علينا أن نتجنب الأخطاء في العمل عند السعي لبناء المجتمع، فلا نفسح المجال لدخول الانتهازية والنفعية التي لا تؤمن بها الجماعة، وأن يكون البرنامج مفهوماً ومعلوماً لدى الجميع، بحيث لا يكون الهدف منه مجهولاً وغامضاً، ورفع حاجز الخوف المسيطر على الناس نتيجة التجارب السابقة التي كانت في الساحة، ودراسة الأخطاء الماضية، التي أوقعت الجماعات الأخرى في متاهات التبعية والانقياد إلى القوى المهيمنة المستبدة والابتعاد عن الجماهير.

ص: 41


1- أي عن حال نفسه، حال داود(عليه السلام).
2- عوالي اللآلي 3: 199.
3- الكافي 5: 86.
4- الكافي 5: 260.

الحريات

ولابد من التمتع بكل أشكال الحرية عند تطبيق الأسس الخمسة المذكورة؛ وهي: (التنظيم، والتوعية، والسلم، وشورى المراجع، والإكتفاء الذاتي) إذ إن الأصل في الإنسان الحرية، وقد دعم الإسلام هذا الأصل، كما جاء في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(1) إلّا في المحرمات التي نهى الإسلام عنها وهي محددة في الشريعة، وبذلك ترتفع كل أشكال التبعية عند التطبيق، ويتنعم المجتمع الإسلامي بالسعادة والرفاه، نتيجة هذا الإصلاح والتطبيق العملي للأسس والمبادئ الراسخة التي جاء بها الإسلام.

وعند تطبيق هذه البنود الخمسة: (التنظيم، والتوعية، والسلم، وشورى المراجع، والإكتفاء الذاتي) على ما مر من بيانها واشتمالها على الإيمان باللّه والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والكتاب والعترة^، تتمكن الأمة الإسلامية بإذن اللّه تعالى من الإصلاح الاجتماعي ولو بالتدريج، وما ذلك على اللّه بعزيز.

«اللّهم صل على محمد خاتم الأنبياء، وآله البررة الأتقياء، وعلى عترته النجباء، صلاة معروفة بالتمام والنماء، وباقية بلا فناء وانقضاء.

اللّهم رب العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، أسألك من الشهادة أقسطها، ومن العبادة أنشطها، ومن الزيادة أبسطها، ومن الكرامة أغبطها، ومن السلامة أحوطها، ومن الأعمال أقسطها، ومن الآمال أوفقها... ومن الهمم أعلاها، ومن القسم أسناها، ومن الأرزاق أغزرها، ومن الأخلاق أطهرها، ومن المذاهب أقصدها، ومن العواقب أحمدها ومن الأمور أرشدها ومن التدابير أوكدها... اللّهم إني أسألك قلباً خاشعاً زكياً، ولساناً صادقاً علياً، ورزقاً واسعاً

ص: 42


1- سورة الأعراف، الآية: 157.

هنيئاً، وعيشاً رغداً مرياً...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الإصلاح الاجتماعي

قال تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(4).

إصلاح النفس

قال عزّ وجلّ: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(5).

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(6).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ}(7).

ص: 43


1- بحار الأنوار 91: 155.
2- سورة هود، الآية: 88.
3- سورة الأعراف، الآية: 142.
4- سورة الحجرات، الآية: 10.
5- سورة الشمس، الآية: 7-10.
6- سورة الرعد، الآية: 11.
7- سورة الحشر، الآية: 18.
المؤهلات الذاتية

قال تعالى: {وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ إِبۡرَٰهِيمَ رُشۡدَهُۥ مِن قَبۡلُ وَكُنَّا بِهِۦ عَٰلِمِينَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(3).

العمل سُلّم الاصلاح

قال جلّ وعلا: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(4).

وقال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِنَّ كُلًّا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَٰلَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(6).

وقال سبحانه: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(7).

المجتمع والشورى

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(8).

ص: 44


1- سورة الأنبياء، الآية: 51.
2- سورة البقرة، الآية: 124.
3- سورة الأنعام، الآية: 124.
4- سورة المدثر، الآية: 38.
5- سورة النجم، الآية: 39.
6- سورة هود، الآية: 111.
7- سورة الأنعام، الآية: 132.
8- سورة آل عمران، الآية: 159.

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْوَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

الإصلاح الاجتماعي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من استصلح الأضداد بلغ المراد»(3).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب(عليه السلام) فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم...»(4).

إصلاح النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «جاهد نفسك وحاسبها محاسبة الشريك شريكه، وطالبها بحقوق اللّه مطالبة الخصم خصمه، فإن أسعد الناس من انتدب لمحاسبة نفسه»(6).

ص: 45


1- سورة الشورى، الآية: 38.
2- جامع السعادات 2: 216.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 593.
4- بحار الأنوار 44: 329.
5- محاسبة النفس: 13.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 339.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من لم يجعل للّه له من نفسه واعظاً فإن مواعظالناس لن تغني عنه شيئاً»(1).

المؤهلات الذاتية

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «..فاعلم أن أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل، هُدِيَ وهَدَى، فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة...»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش..»(3).

العمل سُلم الإصلاح

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، إني رسول اللّه إليكم، وإني شفيق عليكم لا تقولوا: إن محمداً منا، فواللّه ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلّا المتقون.. ألا وإني قد أعذرت فيما بيني وبينكم وفيما بين اللّه عزّ وجلّ وبينكم وإن {لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ}(4)»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من رقى درجات الهمم عظمته الأمم»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أقصر نفسك عما يضرها من قبل أن تفارقك،

ص: 46


1- الأمالي للمفيد: 28.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 164 من كلام له(عليه السلام) لما اجتمع الناس إليه وشكوا ما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبته لهم.
3- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 45 من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة.
4- سورة يونس، الآية: 41.
5- صفات الشيعة: 5.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 621.

واسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك، فإن نفسك رهينة بعملك»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ينبغي أن يكون التفاخر بعلي الهمم»(2).

المجتمع والشورى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا مظاهرة أوثق من المشاورة ولا عقل كالتدبير»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «شاور في حديثك الذين يخافون اللّه، وأحبب الإخوان على قدر التقوى...»(4).

وقال(عليه السلام): «لا تستبد برأيك فمن استبد برأيه هلك»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يطمعن القليل التجربة المعجب برأيه في رئاسة»(6).

ص: 47


1- الكافي 2: 455.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 798.
3- المحاسن 2: 601.
4- بحار الأنوار 71: 187.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 752.
6- بحار الأنوار: 72: 98.

التجربة وسلوك الخبراء

الحياة مدرسة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): ­«الأيام تُفيد التجارب»(1).

الأيام صفحات بيضاء، يُكتب فيها الأحداث والوقائع التي تمرّ على الإنسان، ولكن بعضها حلو وبعضها مرّ، وهي ليست خارجة عن يده، بل للإنسان دور فاعل فيها حسب ما خلقه اللّه مختاراً وجعل الكون في دائرة قانون الأسباب والمسببات. فيضع الإنسان تفاعلاته الداخلية موضع التنفيذ على أرض الواقع، كما أن للمؤثرات الكونية الأخرى وباقي الموجودات تأثيراً فيها.

فاليوم يتألف من الزمن الذي يقدّر ب- (24 ساعة)، وكل حالة فيه - جزئية كانت أو كلية - حدث بسيط أو ضخم حسب أهميته في مسير الإنسانية. ومجموع هذه الأيام يشكل المرحلة الزمنية التأريخية، وتشكل أحداثه أحداث التاريخ. فالأيام عبارة عن مدرسة ينمو فيها الإنسان ويتكامل، فكل يوم منها يمر عليه يستفيد فيه من الأحداث التي يخوضها، فيأخذ من كل واقعة علماً مجرباً، ومن كل حادثة درساً متقناً. وهذا له تأثير في رفع مستوى الإنسان الفكري والعملي، فيستطيع أن يملأ فراغ يوم جديد بأفضل ما يكون، وبأقل الأخطاء بالنسبة إلى ما سبق، بحيث ينعكس ذلك على مجتمعه وعلى الموجودات الأخرى. وهذا كله

ص: 48


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 31.

يعود لتكامل الإنسان ورقيّه نتيجة إيمانه والعلوم والدروس التي حصل عليها بالتجربة من أحداث الأيام الماضية والمعاشة. فمعيشة الأحداث أو التجربة هي واحدة من العوامل التي تؤدي للتكامل البشري، وهي وسيلة لاستثمار الفطنة والذكاء، وإنضاج العقل الطبيعي، فكلما تمر الأيام تزداد التجارب، والفوز لمن يستغل هذه التجارب من أجل حياة أفضل، حيث قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «التجارب لا تنقضي، والعاقل منها في زيادة»(1).

من هو المغبون والمحروم؟

روى الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام) عن أبيه(عليه السلام) قال: «بينا أمير المؤمنين(عليه السلام) ذات يومٍ جالس مع أصحابه يعبيهم(2) للحرب، إذا أتاه شيخ عليه شحبة(3)

السفر، فقال: أين أمير المؤمنين؟

فقيل: هو ذا، فسلّم عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إني أتيتك من ناحية الشام، وأنا شيخ كبير، قد سمعت فيك من الفضل ما لا أحصي، وإني أظنك ستغتال، فعلمني مما علمك اللّه.

قال: نعم يا شيخ، من اعتدل يوماه فهو مغبون.

ومن كانت الدنيا همته اشتدت حسرته عند فراقها.

ومن كان غده شر يوميه فهو محروم.

ومن لم يبال بما رزئ من آخرته إذا سلمت له دنياه فهو هالك.

ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى.

ص: 49


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 83.
2- أي: يهيئهم للحرب بالتعليم أو دفع الزاد والراحلة وأمثالهما.
3- الشاحب: المتغير اللون والجسم من مرض أو سفر أو نحوهما.

ومن كان في نقصٍ فالموت خير له.

يا شيخ، ارض للناس ما ترضى لنفسك، وائت إلى الناس ما تحب أن يؤتى إليك.

ثم أقبل(عليه السلام) على أصحابه فقال: أيها الناس، أما ترون إلى أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوالٍ شتى، فبين صريعٍ يتلوى وبين عائدٍ ومعودٍ وآخر بنفسه يجود وآخر لا يرجى وآخر مسجى، وطالب الدنيا والموت يطلبه وغافلٍ وليس بمغفولٍ عنه، وعلى أثر الماضي يصير الباقي...

ثم أقبل(عليه السلام) على الشيخ فقال: يا شيخ، إن اللّه عزّ وجلّ خلق خلقاً ضيق الدنيا عليهم نظراً لهم، فزهّدهم فيها وفي حطامها، فرغبوا في دار السلام التي دعاهم إليها، وصبروا على ضيق المعيشة وصبروا على المكروه، واشتاقوا إلى ما عند اللّه عزّ وجلّ من الكرامة، فبذلوا أنفسهم ابتغاء رضوان اللّه، وكانت خاتمة أعمالهم الشهادة، فلقوا اللّه عزّ وجلّ وهو عنهم راضٍ، وعلموا أن الموت سبيل من مضى ومن بقي، فتزودوا لآخرتهم غير الذهب والفضة، ولبسوا الخشن وصبروا على البلوى، وقدموا الفضل وأحبوا في اللّه وأبغضوا في اللّه عزّ وجلّ، أولئك المصابيح وأهل النعيم في الآخرة والسلام.

قال الشيخ: فأين أذهب وأدع الجنة وأنا أراها وأرى أهلها معك يا أمير المؤمنين؟! جهزني بقوةٍ أتقوى بها على عدوك.

فأعطاه أمير المؤمنين(عليه السلام) سلاحاً وحمله، وكان في الحرب بين يدي أمير المؤمنين(عليه السلام) يضرب قدماً وأمير المؤمنين(عليه السلام) يعجب مما يصنع، فلما اشتد الحرب أقدم فرسه حتى قُتل رحمة اللّه عليه، وأتبعه رجل من أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) فوجده صريعاً ووجد دابته ووجد سيفه في ذراعه، فلما انقضت الحرب أتى أمير المؤمنين(عليه السلام) بدابته وسلاحه، وصلى عليه أمير المؤمنين(عليه السلام)

ص: 50

وقال: هذا واللّه السعيدحقاً، فترحموا على أخيكم»(1).

الاستزادة من التجارب

مما يلزم على الإنسان إذا أراد النجاح في الحياة: الاستزادة من التجارب والعبر، والاستفادة من التي تمر عليه منها، وإلّا فهو مغبون؛ كما ورد ذلك في العديد من الأحاديث الشريفة عن الأئمة الطاهرين^، فالذي يستوي يوماه هو إنسان لم يستزد من التجارب، فبقي في مكانه على النقص الذي كان فيه، ويتصرف على أساسه لتبقى نفس الأخطاء والعثرات في حياته. وهذا الإنسان يكون مغبوناً بتعبير المعصوم(عليه السلام)؛ لأنه يترك ما ينفعه في هذه الحياة الدنيا، ويأخذ بالذي يضره، ومن المعلوم أن هذه الدنيا هي مزرعة الآخرة، وأنها دار ممر وليست بدار مستقر، فإذا لم يزرع الإنسان فيها ما ينفعه للدار الأخرى والآخرة فإنه يكون من الخاسرين.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) يوماً وقد أحدق به الناس: «أحذّركم الدنيا، فإنها منزل قُلعة وليست بدار نُجعة، هانت على ربها فخلط شرها بخيرها، وحلوها بمرها، لم يصفُها لأوليائه، ولم يضَنَّ(2). بها على أعدائه، وهي دار ممر لا دار مستقر، والناس فيها رجلان: رجل باع نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها، إن اعذوذب منها جانب فحلا أمرّ منها جانب فأوبى، أولها عناء، وآخرها فناء، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، من ساعاها فاتته، ومن قعد عنها أتته، ومن أبصرها بصَّرته، ومن أبصر إليها أعمته، فالإنسان فيها غرض المنايا، مع كل جرعة شرق، ومع كل أكلة غصص، لا ينال منها نعمة إلّا بفراق أخرى»(3).

ص: 51


1- من لا يحضره الفقيه 4: 381.
2- ضنّ بالشيء: بخل به.
3- كشف الغمة 1: 172.

وقال(عليه السلام): «إنما الدنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممرّكم لمقرّكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها اختُبرتم ولغيرها خُلقتم، إن المرء إذا هلك قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟ للّه آباؤكم فقدموا بعضاً يكن لكم قرضاً، ولا تُخلفوا كُلاً فيكون فرضاً عليكم»(1).

نعم، إذا لم يعتبر الإنسان من هذه الدنيا ولم يستزد من تجاربها، فإنه يبدأ العد التنازلي في حياته لفقدان الكمالات يوماً بعد يوم. وهذا ناتج من كثرة الأخطاء والإخفاقات والغفلة المتكررة، وهذه ليست من صفات المؤمن، فإن: «المؤمن حسن المعونة، خفيف المئونة، جيد التدبير لمعيشته، لا يلسع من جحر مرتين»(2).

فحالة اللا استفادة من التجارب، لا تعطي إلّا تخريباً وشراً، وبذلك يستحق التأخر والبعد عن رحمة اللّه، كما تبيّنه الأحاديث الشريفة.

إن الإنسان الفاقد للكمالات بشتى صورها، يكون جزءً خاملاً في المجتمع، لا يعطي نتاجاً، وهذا أمر طبيعي؛ فكل إناء بالذي فيه ينضح، كما قيل، وحيث إن إناءه في تناقص فقابليته للعطاء ضعيفة جداً وبمرور الوقت يفقدها؛ لذلك فهو يكون ممن قيل فيهم: (إن حضر لا يُعد، وإن غاب لا يفتقد) وربما أصبح عامل شر وتخريب وفساد، نعوذ باللّه تعالى، كما كان المنافقون وأعداء أهل البيت^.

وهنا يقول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان غده شراً فهو ملعون، ومن لم يتفقد النقصان في عمله كان النقصان في عقله، ومن كان نقصان في عمله وعقله فالموت خير له من حياته»(3).

ص: 52


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 203 من كلام له(عليه السلام) في التزهيد من الدنيا والترغيب في الآخرة.
2- الكافي 2: 241.
3- إرشاد القلوب 1: 87.

نعم أصل وجود الإنسان وحياته للبناء وتعمير الدارين وسلوك طريق التكامل وعبادة اللّه عزّ وجلّ. أما الإنسان الذي لا يستفيد من التجارب وأخذ بالنقصان يوماً بعد يوم فالموت خير له، لكن هل بالموت تنتهي مأساة هذا الشخص؟

بالطبع لا؛ لأن الآخرة دار ثواب وعقاب، لا دار عمل واكتساب. وهذا يعني أن كل ما تحصّل عليه وزرعه في هذه الدنيا هو كل ما يملكه في الآخرة. وهذا النوع من البشر الخاسر يذهب للآخرة وليس له شيء يستحق به الثواب، بما ضيّع في الحياة الدنيا، فينظر إلى مقاعد الناس المؤمنين الذين كان يعرفهم في الدنيا، فيتحسر، ويشعر بخيبته وحقيقة ما فرّط فيه، فذلك اليوم يكون عليه يوم تغابن وحسرة، كما عبّر عنه القرآن الكريم، بقوله عزّ وجلّ: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}(1).

وقد ورد في التفسير: أن التغابن تفاعل من الغبن، وهو أخذ شر وترك خير، أو أخذ خير وترك شر، فالمؤمن ترك حظه من الدنيا وأخذ حظه من الآخرة، فترك ما هو شر له، وأخذ ما هو خير له فكان غابناً، والكافر ترك حظه من الآخرة وأخذ حظه من الدنيا فترك الخير وأخذ الشر فكان مغبوناً، فيظهر من ذلك اليوم الغابن والمغبون(2).

لذا لابد للإنسان أن ينتبه للتجارب والعبر، ويستفيد منها في حياته المادية والمعنوية، ويستغل كل ما في هذه الدنيا لبناء ذاته بالوسائل المشروعة، حتى يحسن من أفعاله كمّاً وكيفاً، ليسعد في الدنيا والآخرة، ويتقي يوم الغبن على الكافرين، ليكون رابحاً غير خاسر كما ورد في وصف المؤمنين.

ص: 53


1- سورة التغابن، الآية: 9.
2- تفسير مجمع البيان 10: 31.

فكل ما يحصل عليه الإنسان ليسد نقصه به ينعكس على آخرته، وتكون مرآته الثانية هي الكمالات والطاعات والمثوبات التي يحصل بسببها على بطاقة الدخول للجنة بفضل اللّه تعالى.

كان علي بن الحسين(عليهما السلام) يقول: «.. وإن استطعت أن تكون اليوم خيراً منك أمس، وغداً خيراً منك اليوم، فافعل»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما من يومٍ إلا وهو يقول: إني يوم جديد، وإن على كل ما يفعل فيَّ شهيد، ولو قد غربت شمسي لم أرجع إليكم أبداً»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما من يوم يأتي على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد، فقُل فيّ خيراً، واعمل فيّ خيراً، أشهد لك به يوم القيامة، فإنك لن تراني بعدها أبداً»(3).

وكان علي(عليه السلام) إذا أمسى قال: «مرحباً بالليل الجديد والكاتب الشهيد، اكتبا بسم اللّه ثم يذكر اللّه عزّ وجلّ»(4).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال في ذم الدنيا: «إنما الدنيا ثلاثة أيامٍ: يوم مضى بما فيه فليس بعائدٍ، ويوم أنت فيه يحق عليك اغتنامه، ويوم لا تدري من أهله ولعلّك راحل فيه، وأما أمس فحكيم مؤدب، وأما اليوم فصديق مودع، وأما غداً فإنما في يدك منه الأمل، فإن يكن أمس سبقك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته، وإن يكن يومك هذا آنسك بقدومه فقد كان طويل الغيبة عنك وهو سريع الرحلة عنك، فتزود منه وأحسن وداعه، خذ بالثقة في العمل، وإياك والاغترار بالأمل، ولا تُدخل

ص: 54


1- الأمالي للشيخ للمفيد: 184.
2- مستدرك الوسائل12: 148.
3- الكافي 2: 523.
4- الكافي 2: 523.

عليك اليوم همّ غدٍ يكفي اليومُ همَّه، وغداً إذا أحل لتشغله إنك إن حملت على اليوم هم غدٍ زدت في حزنك وتعبك، وتكلفت أن تجمع في يومك ما يكفيك أياماً، فعظم الحزن وزاد الشغل واشتد التعب وضعف العمل للأمل، ولو خلَّيت قلبك من الأمل تجد ذلك العمل، والأمل منك في اليوم قد ضرك في وجهين: سوّفت به في العمل، وزدت في الهم والحزن؛ أ ولا ترى أن الدنيا ساعة بين ساعتين: ساعةٌ مضت، وساعةٌ بقيت، وساعةٌ أنت فيها، فأما الماضية والباقية فلست تجد لرخائهما لذةً، ولا لشدتهما ألماً، فأنزل الساعة الماضية والساعة التي أنت فيها منزلة الضيفين نزلا بك، فظعن الراحل عنك بذمه إياك، وحل النازل بك بالتجربة لك، فإحسانك إلى الثاوي يمحو إساءتك إلى الماضي، فأدرك ما أضعت باغتنامك لما استقبلت، واحذر أن تجتمع عليك شهادتهما فيوبقاك، ولو أن مقبوراً من الأموات قيل له: هذه الدنيا من أولها إلى آخرها، تجعلها لولدك الذين لم يكن لك همّ غيرهم، أو يوم نرده إليك فتعمل فيه لنفسك، لاختار يوماً يستعتب فيه من سيئ ما أسلف على جميع الدنيا يورثها لولده ومن خلَّفه، فما يمنعك أيها المفرِّط المسوِّف أن تعمل على مهلٍ قبل حلول الأجل؟!

وما يجعل المقبور أشد تعظيماً لما في يديك منك؟!

ألا تسعى في تحرير رقبتك وفكاك رقِّك ووقاء نفسك؟!»(1).

وقال(عليه السلام): «العاقل من كان يومه خيراً من أمسه وعَقَل الذم عن نفسه»(2).

وقال(عليه السلام): «إن العاقل من نظر في يومه لغده، وسعى في فكاك نفسه، وعمل لما لابد منه، ولا محيص له عنه»(3).

ص: 55


1- التحصين: 16.
2- مستدرك الوسائل 12: 150.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 235.

ومن كلامه(عليه السلام) عند تلاوته قوله تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٌ}(1) «فلو مثَّلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة ومجالسهم المشهودة، وقد نشروا دواوين أعمالهم وفرغوا لمحاسبة أنفسهم على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، اُمروا بها فقصروا عنها، أو نُهوا عنها ففرطوا فيها، وحملوا ثقل أوزارهم ظهورهم فضعفوا عن الاستقلال بها، فنشجوا نشيجاً وتجاوبوا نحيباً، يعجّون إلى ربهم من مقام ندمٍ واعترافٍ، لرأيت أعلام هدًى ومصابيح دجًى، قد حفت بهم الملائكة وتنزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد المكرمات - إلى أن قال(عليه السلام) - فحاسب نفسك لنفسك، فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك»(2).

وقال(عليه السلام): «لا خير في العيش إلا لرجلين: رجلٍ يزداد في كل يومٍ خيراً، ورجلٍ يتدارك منيَّته بالتوبة»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ملعون مغبون من غبن عمره يوماً بعد يومٍ، ومغبوط محسود من كان يومه الذي هو فيه خيراً من أمسه الذي ارتحل عنه»(4).

إلى غيرها من الروايات الشريفة.

ما وراء التجربة

التجربة هي المعلومات والمعارف التي يحصل عليها الإنسان من خلال معايشة الأحداث التي تمر عليه بتعاقب الأيام، وتكون إما تجارب حسنة أو سيئة،

ص: 56


1- سورة النور، الآية: 37.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 222 من كلام له(عليه السلام) عند تلاوته قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْأصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} سورة النور، الآية: 36-37.
3- الكافي 2: 457.
4- مستدرك الوسائل 12: 148.

ولها دور مؤثر في حياة الشخص وتأمين سعادته، وهذا ما يُقرّه الدين والعلم.

فالتجارب ظاهرة إيجابية يمكن للفرد أن يحسّن بها من أداء أعماله، ويقلل من أخطائه، وذلك بملاحظة التجارب السابقة التي مر بها، مما يوفر له السعادة المنشودة في حياته بالنجاحات المتكررة في تلك الأعمال، فالإنسان خلقه اللّه تعالى وهو قادر على التطور، ليرتفع بغرائزه ويبلغ بها الكمالات العُلى، بالتعليم والتعويد، وذلك بالاستفادة من التجارب التي يمر بها، أو من تجارب الآخرين.

فإن التجارب قد تكون شخصية، وقد تكون غيرية، وفي الحديث الشريف: «العاقل من اتعظ بغيره»(1).

وعن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «شكا رجل إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحرفة(2).

فقال: انظر بيوعاً فاشترها ثم بعها، فما ربحت فيه فالزمه»(3).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أن رجلاً سأله فقال: يا رسول اللّه، إني لست أتوجه في شي ء إلّا حورفت فيه؟ فقال: «انظر شيئا قد أصبت فيه مرة فالزمه». قال: القَرَظ(4).

قال: «فالزم القرظ»(5).

وعن بشير النبال، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «إذا رزقت في شي ء فالزمه»(6).

وعن يحيى الحذاء، قال: قلت لأبي الحسن(عليه السلام): ربما اشتريت الشي ء بحضرة أبي فأرى منه ما أغتم به؟ فقال: «تَنَكَّبْه ولا تشتر بحضرته، فإذا كان لك على رجل

ص: 57


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 69.
2- الحرفة بالضم: الحرمان كالحرفة بالكسر، والمحارف بفتح الراء: المحروم الذي إذا طلب لا يرزق، أو يكون لا يسعى في الكسب. مجمع البحرين 5: 37 مادة (حرف).
3- الكافي 5: 168.
4- القَرَظ بالتحريك: ورق السلم يدبغ به الأديم. مجمع البحرين 4: 289 مادة (قرظ).
5- دعائم الإسلام 2: 15.
6- الكافي 5: 168.

حق فقل له فليكتب: وكتب فلان بن فلان بخطه وأشهد اللّه على نفسه وكفى باللّه شهيداً، فإنه يقضى في حياته أو بعد وفاته»(1).

وعن السكوني، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «إذا نظر الرجل في تجارة فلم ير فيها شيئاً فليتحول إلى غيرها»(2).

وعن الوليد بن صبيح، قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «من الناس من رزقه في التجارة، ومنهم من رزقه في السيف، ومنهم من رزقه في لسانه»(3).

وكل هذه من مصاديق التجارب وسلوك الخبراء.

ومن هنا جاءت أهمية الاستفادة من التجارب لضمان حياة أفضل، ومواصلة السير نحو التكامل البشري.

كما أن التجربة تعتبر وسيلة ناجحة لاستثمار الفطنة والذكاء، فهي تساعد على إنضاج العقل الطبيعي، وظهور الكثير من الاستعدادات الإنسانية إلى حيّز الفعل، وبخزن المعلومات التي يحصل عليها الشخص المجرّب ومطابقتها للواقع الصحيح تصبح لديه عقلية ثانية وهي العقلية التجريبية. وفي الحديث: «العقل عقلان عقل الطبع وعقل التجربة»(4).

عقل الطبع وعقل التجربة

قيل: إن العقل هو ذلك النور الذي يجده العاقل في نفسه بعد أن لم يكن، وحين وجده شرع بمعرفة الحَسَن والقبيح والخير والشر..، ولكن هذا قول تقريبي

ص: 58


1- الكافي 5: 318.
2- الكافي 5: 168.
3- الكافي 5: 305.
4- بحار الأنوار 75: 6.

في تعريف العقل؛ لأن علوم البشر بما هم بشر محدودة بمقدار المكتسبات؛ لذلك لا يستطيع الإنسان العادي معرفة حقائق الأشياء معرفة تامة.

وخير ما قيل في هذا المورد ما جاء عن الأئمة الأطهار^، حيث عرّفوا لنا العقل جملة وتفصيلاً، فعن الإمام الصادق(عليه السلام)، عند ما سُئل عن العقل؟ قال(عليه السلام): «ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان»(1).

وفي هذا الحديث إشارة إلى تفاعل القوى داخل الإنسان: (العقل والفطرة وتأثيرهما على الجوانح والجوارح) لتعطي هذه النتيجة المحمودة. فالعقول تستعمل ما فُطرت عليه، فتسلك ما تألفه وتعرفه بحسب طبيعتها، وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات.

والذي فُطرت عليه العقول هو أن تستعمل مقدمات يقينية بالوجدان، لاستنتاج المعلومات التصديقية الواقعية. وهذه هي العقول الفطرية، أو العقول الطبيعية، كما عبر عنها مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) في حديثه: «العقل عقلان عقل الطبع وعقل التجربة، وكلاهما يؤدي إلى المنفعة»(2).

والعقل الطبيعي هو موطن الكليات، كالحُسن والقبح العقليين، والخير والشر، وعدم اجتماع النقيضين، وما كان في عدادها من الأحكام العقلية، ولا يستطيع أن يحكم بالجزئيات إلّا بعد أن يمرّن ويطوّر بزيادة المعلومات والتجارب. وعقل التجربة ما يرتبط بالجزئيات والمصاديق.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقل غريزة تزيد بالعلم والتجارب»(3).

ص: 59


1- الكافي 1: 11.
2- بحار الأنوار 75: 6.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 91.

وفي هذا الحديث إشارة إلى أن الإنسان يولد وهو لا يملك سوى بعض العلم الذي منحه اللّه تعالى، ثم عن طريق الحس يبدأ بالتعلم، فيحصل لديه علم متحصل ومكتسب، عن طريق الفكر والنظر، فيبدأ الإنسان بخزن المعلومات والتجارب، ويحكم بصحة مطابقتها للواقع أم لا، وهذه المرحلة تعني أن الإنسان امتلك العقل التجريبي الذي أشار إليه الحديث الشريف.

ونتيجة العقل التجريبي والطبيعي واحدة، وهي منفعة النفس الإنسانية. فالطبيعي يرشد النفس للحُسن والقبح، ويرشدها لمعرفة الحقيقة الكبرى لخالق هذا الكون، وهو اللّه جلّ وعلا، ويحكم بضرورة عبادته. وهذا يفهم من حديث الإمام الصادق(عليه السلام) حين قال: «ما عُبد به الرحمن»، وبيّن النتيجة المترتبة عليه، وهي دخول الجنة.

وبالعقل التجريبي نستطيع معرفة أسباب الحوادث، وتشخيص نتائجها، فنختار بناءً على ذلك الموقف المصيب الحسن، الذي ينسجم وفطرة الإنسان انسجاماً تاماً. وعند ما ينسجم العقل والفطرة يتجه الإنسان والمجتمع نحو التصاعد والتقدم. وهو أمر نافع للنفس والمجتمع أيضاً.

اختلاف التجارب

إن التجارب الإنسانية مختلفة، فهي لا تأتي عن طريق المؤثرات الخارجية والآثار الحسيّة المتفرقة فقط، بل إن التجربة مؤلفة من مجموع التغييرات التي يوجدها المحيط الخارجي وتؤثر في أعمالنا، ومجموع التغيرات التي تولدها أعمالنا في المحيط الخارجي، إلى غير ذلك من الأسباب. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى شيء من التفصيل:

إن لكل حادثة ظروفاً معينة تحيط بها، إما خارجة عن يد الإنسان واختياره

ص: 60

بحيث تجعله على أن يتصرف وفقها، وهي تختلف من تجربة إلى أخرى، أو تكون بيد المجرّب نفسه وتكون باختياره، وهي تختلف أيضاً من مجرّب إلى آخر.

فمثال الظروف المختلفة من المجموعة الأولى تلك العناصر والظروف السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدينية أو العلمانية أو غيرها... الخارجة عن اختياره. وهي قد تكون مفردة أو مزدوجة من سياسية واقتصادية مثلاً، أو تكون مجتمعة كلها، إلّا الحالة العلمانية والدينية فإنهما لا تجتمعان.

وقد تكون التجربة في جوّ متشنج فيقتضي التقية وما شاكل، أو يكون غير متشنج فيقتضي الصراحة. كذلك ربما يختلف وقت التجربة وزمانها صيفاً أو شتاءً. في زمان فرعون أو في زمان صدام، وهكذا.

وكذلك نوعية المشتركين في التجربة، كالمميزات بين الشعوب وما تحملها من صفات وآثار تاريخية خارجة عن سلطة المجرّب.

أما المجموعة الثانية من العناصر، فمثالها ما يحمله الإنسان في داخله من فكر وما يختاره من أفعال، فهي إما أن تكون إلهياً توحيدياً إسلامياً، وقد تكون شيطانياً إلحادياً، فالإنسان المؤمن تكون تجربته على أسس ومبتنيات غير التي يحملها صاحب الفكر الوثني المشرك، كالإيمان والصبر والحلم، فالإيمان يجعل أقوال الإنسان وأفعاله في هذه الحياة وفقاً للأوامر والنواهي الإلهية.

فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في خصال المؤمن الصالح: «إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا، ولا تعرفوا حتى تصدقوا، ولا تصدقوا حتى تسلموا أبواباً أربعةً، لا يصلح أولها إلّا بآخرها، ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيهاً بعيداً، إن اللّه تبارك وتعالى لا يقبل إلّا العمل الصالح، ولا يقبل اللّه إلّا الوفاء بالشروط والعهود، فمن وفى للّه عزّ وجلّ بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل ما وعده، إن اللّه تبارك وتعالى أخبر العباد

ص: 61

بطرق الهدى وشرع لهم فيها المنار، وأخبرهم كيف يسلكون، فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ}(1) وقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(2) فمن اتقى اللّه فيما أمره لقي اللّه مؤمناً بما جاء به محمدٌ(صلی اللّه عليه وآله وسلم). هيهات هيهات، فات قومٌ وماتوا قبل أن يهتدوا، وظنوا أنهم آمنوا وأشركوا من حيث لا يعلمون، إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى، ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل اللّه طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما أنزل من عند اللّه عزّ وجلّ: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ}(3) والتمسوا البيوت التي أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوٰةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَٰرُ}(4) إن اللّه قد استخلص الرسل لأمره، ثم استخلصهم مصدقين بذلك في نُذُره، فقال: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}(5) تاه من جهل واهتدى من أبصر وعقل، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(6) وكيف يهتدي من لم يبصر وكيف يبصر من لم يتدبر؟!

اتبعوا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته^، وأقروا بما نزل من عند اللّه، واتبعوا آثار الهدى، فإنهم علامات الأمانة والتقى، واعلموا أنه لو أنكر رجلٌ عيسى ابن

ص: 62


1- سورة طه، الآية: 82.
2- سورة المائدة، الآية: 27.
3- سورة الأعراف، الآية: 31
4- سورة النور، الآية: 37.
5- سورة فاطر، الآية: 24.
6- سورة الحج، الآية: 46

مريم(عليه السلام) وأقر بمن سواه من الرسل لم يؤمن، اقتصوا الطريق بالتماس المنار، والتمسوا من وراء الحجب الآثار تستكملوا أمر دينكم، وتؤمنوا باللّه ربكم»(1).

والمؤمن الصالح بالتأكيد تكون تجاربه نافعة للآخرين، كتجارب الأنبياء والأئمة^ والعلماء والصالحين من البشر.

أما المشرك والملحد والفاسق وما أشبه ممن تكون أفكاره أفكاراً وثنية فسقية مبنية على أساس الإلحاد والمصالح الشخصية والأهواء النفسية والشيطانية، فإن التجارب القائمة على أساس كهذا تكون مضرة بالآخرين، كتجارب الطغاة على مرّ التاريخ وإن تلبس بعضها بلباس الدين.

تجربتان: ناجحة وفاشلة

قال تبارك وتعالى: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ}(2).

إن في قصة النبي يوسف(عليه السلام)، خير مثال للعبرة وللتجربة النافعة، فيوسف(عليه السلام) كان من المؤمنين الموحدين، ومن سلالة النبيين، فإنه ابن النبي يعقوب(عليه السلام)، وكان يتميز بالجمال الخارق، فضرب اللّه في قصته مع زليخا امرأة العزيز مثلاً ومثالاً للعفة والشرف. وخلاصة القصة:

أن اُلقي يوسف(عليه السلام) في البئر، والتقطه بعض المارة السيّارة، وحملوه إلى مصر وباعوه من عزيز مصر، فقال العزيز لزوجته: {أَكْرِمِي مَثْوَىٰهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}(3) وربياه، فلما بلغ أشده هوته امرأة العزيز، وكانت لا تنظر إلى يوسف امرأة

ص: 63


1- الكافي 1: 181.
2- سورة هود، الآية: 120.
3- سورة يوسف، الآية: 21.

إلّا هوته، ولا رجل إلّا أحبه لشدة جماله، فراودته امرأة العزيز عن نفسه عدة مرات وكان يمتنع أشد الأمتناع، ولكن الشيطان ما يزال يوسوس في صدر امرأة العزيز ويزين لها الفاحشة، وفي المرة الأخيرة قامت وألقت ملاءة على صنم لها في الغرفة، فقال لها يوسف(عليه السلام): ما تعملين؟

قالت: أُلقي على هذا الصنم ثوباً لكي لا يرانا، فإني استحي منه.

فقال يوسف(عليه السلام): أنت تستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر، ولا أستحي أنا من ربي؟! فوثب وَعَدَا، وَعَدَت خلفه، وأدركهما العزيز على هذه الحالة، فقالت امرأة العزيز: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا}(1)، فقال يوسف(عليه السلام) للعزيز: {هِيَ رَٰوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي}(2) فألهم اللّه يوسف(عليه السلام) أن قال للملك: سلْ هذا الصبي في المهد، فإنه يشهد أنها راودتني عن نفسي. فسأل العزيز الصبي، فأنطقه اللّه في المهد ليوسف(عليه السلام) حتى قال: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٖ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَٰذِبِينَ * وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّٰدِقِينَ}(3)، فلما رأى العزيز قميص يوسف(عليه السلام) تخرق من دبر قال لامرأته: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}(4)(5).

وهكذا نجا النبي يوسف(عليه السلام) من هذه المحنة، فكانت تجربته ناجحة، وذلك لشدة إيمانه باللّه تعالى الذي أنقذه من الموت في البئر وهيّأ له أناساً يأخذونه ويوضع موضع التقدير عند العزيز بحيث يأتمنه على عرضه وملكه. وبفضل هذا

ص: 64


1- سورة يوسف، الآية: 25.
2- سورة يوسف، الآية: 26.
3- سورة يوسف، الآية: 26-27.
4- سورة يوسف، الآية: 28.
5- انظر: تفسير القمي 1: 342.

الإيمان استطاع النجاة من الرذيلة، ومن ثم الحظوة بموضع التقدير عند الملك(1).

وفي هذه القصة تجربتان، ناجحة وهي تجربة يوسف(عليه السلام) حيث يلزم على كل شاب أن يتعلم الإيمان منه، وتجربة فاشلة وهي تجربة امرأة العزيز حيث أرادت المعصية وفشلت دنيوياً وأخروياً.

إن القرآن الكريم يحث الإنسان المؤمن على التدبر في قصص الكتاب الحكيم للاستفادة من التجارب القرآنية، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(2).

وفي قصة يوسف(عليه السلام) تنبيه لكل إنسان جميل أن لا يغتر بجماله، ولا يطلق العنان لغريزته الجنسية، بل يحكّم عقله على شهوته، ويفكر في عواقب الأمور، كذلك تعطينا الآيات الكريمة درساً في الصبر على الابتلاء الإلهي في التكليف والامتثال لقضائه وحكمه.

وفي هذه القصة أيضاً جانب آخر، وهو الفشل في الاختبار للشهوة الجنسية، والاغترار بالجمال الذي كانت تحمله زليخا. وهي مثال للتجربة الفاشلة والضارة؛ فيوسف(عليه السلام) بعفته وطهارته وصبره على الابتلاء اجتباه ربه للنبوة، وملّكه، ومنّ عليه وعلى يعقوب(عليهما السلام) برؤية أحدهما للآخر.

وهكذا كانت النتيجة والعاقبة الحسنة ليوسف(عليه السلام) كما في قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(3).

ص: 65


1- للمزيد راجع تفسير تقريب القرآن 2: 673.
2- سورة يوسف، الآية: 111.
3- سورة يوسف، الآية: 56.

هذا ما يختص بالدنيا، أما في الآخرة؛ فقد جاء في قوله تعالى: {وَلَأَجْرُ الْأخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}(1).

ولم ينكر يوسف(عليه السلام) على اللّه تعالى فضله وتعليمه والعناية به إذ قال: {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّٰلِحِينَ}(2). ثم يتوجه يوسف(عليه السلام) الى اللّه سبحانه، يشكره ما أنعم عليه، ويعدّد لطفه به، ويسأله حسن الخاتمة، قائلاً يا {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} أي: بعض ملك الدنيا وسلطانها، {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} تفسير المنامات، بما تؤول إليه، أنت ربي {فَاطِرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} خالقها ومبدعها، فلك الخلق ومنك الأمر والفضل {أَنتَ} دون سواك {وَلِيِّ} الذي يتولى كل شؤوني، كما تولى خلق السماوات والأرض {فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ} تتولى في الدنيا إصلاح حالي، وفي الآخرة سعادتي ونجاتي {تَوَفَّنِي} يارب، أي خذ روحي - وقت موتي - {مُسْلِمًا} لك في جميع الأمور {وَأَلْحِقْنِي} إذا توفيتني {بِالصَّٰلِحِينَ} الذين هم الأنبياء والأئمة والشهداء، ومن في زمرتهم، وهنا تنتهي قصة يوسف(عليه السلام) وقد كان فيها من العبر والعظات والتجارب الشيء الكثير، وهي من أبلغ الدروس لمن أراد أن يسلك سبل الحياة بكل طهارة ونظافة، ففيها التنبيه على الطهارة وعاقبتها، واللوث وعاقبته(3).

المقدمات والنتائج

إن لكل تجربة مقدمات تؤثر على نتيجة العمل، ولكن النتيجة تابعة لأخس

ص: 66


1- سورة يوسف، الآية: 57.
2- سورة يوسف، الآية: 101.
3- تفسير تقريب القرآن 3: 45.

المقدمات على رأي المناطقة، وفي القرآن الكريم إشارة إلى تأثير المقدماتوذلك في الآيات الشريفة التي تتحدث عن السنن الكونية، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1)، فالآية واضحة الدلالة على أن النتيجة، وهي تغيير ما بالقوم، متوقفة على المقدمة، وهي تغيير ما بالأنفس، وكيف ما يكون التغيير تكون النتيجة، فإن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} أي الحالة التي هي نازلة بقوم، من عزّ أو ذل، نعمة أو نقمة، رفعة أو انحطاط، صحة أو مرض، إلى غيرها {حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} أي: يغيروا الحالة التي هم عليها بأنفسهم، فإذا جدّوا واجتهدوا في العمل، أورثهم العز والسيادة، وإذا كسلوا أورثهم الانحطاط والذلة، وإذا تناولوا المحرمات أورثهم الأمراض، وإذا اتقوا أورثهم الصحة، وهكذا، فإن كل حالة فردية أو اجتماعية، فإنما هي وليدة عمل الفرد والجماعة(2).

كذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(3)، قوله تعالى: {ءَامَنُواْ} أي باللّه تعالى وبأنبيائه {وَاتَّقَوْاْ} معاصيه، وعملوا الصالحات {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} البركات هي: الخيرات النامية، وفتح الخير من السماء بكثرة الأمطار وطيب الهواء، وفتحه من الأرض بإخراج النبات والثمار وتفجّر العيون، إلى غيرهما من الخيرات المادية والمعنوية كاستجابة الدعاء ونحوها، وهذا إلى جنب كونه معنوياً بلطفه سبحانه، كذلك يكون بالأسباب الظاهرة، فإن الإيمان والتقوى يوجبان سيادة

ص: 67


1- سورة الرعد، الآية: 11.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 66.
3- سورة الأعراف، الآية: 96.

مناهج اللّه تعالى، وهي توجب الأخوة والتعاون مما يسببان ازدهار الحياة وتعميمالرفاه والأمن، كما أن الكفر والعصيان سببان لعكس ذلك {وَلَٰكِن كَذَّبُواْ} بالرسل ولم يؤمنوا {فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي بسبب كسبهم المعاصي والآثام(1).

وهذه الآية المباركة تبين علاقة النتيجة وهي فتح البركات من السماء والأرض، بالمقدمة التي هي الإيمان. كذلك تكون التجربة فإن النتائج فيها تبتني على المقدمات، وهذه المقدمات هي تأثير الشخص المجرّب في مجموع العوامل المؤثرة في التجربة، فيصيّرها وفق المباني الاعتقادية لدى الشخص، تلك المباني السليمة التي تعطي نتائج صحيحة لذلك الموقف، كتغيير مصدر التأثير في الحدث إلى مصدر آخر صحيح، أو تحويل الموقف من حالة الشدة إلى اللين، كما فعل الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تجربته الرائعة عند فتح مكة، حيث استخدم اللاعنف مع المشركين، الذين ظنوا أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سوف يقتلهم ويبيح أموالهم، كما فعلوا هم بالمسلمين ففاجأهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: «اذهبوا؛ فأنتم الطلقاء!»(2)، وبذلك غيّر الموقف من الشدة المتوقعة والمستحقة للمشركين، الأعداء الذين طالما آذوه وطاردوه وشردوه إلى اللين والرحمة والرأفة، على العكس مما اقترفوه بحقه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبحق أصحابه من المسلمين.

فأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يرجع سعد بن عبادة، المصدر الباعث للرعب والخوف في نفوس الناس، الذي كان حاملاً للراية يوم الفتح وهو ينادي: اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة إلى مصدر باعث للاطمئنان، حيث قال رسول

ص: 68


1- تفسير تقريب القرآن 2: 218.
2- الكافي 3: 513.

اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام): «أدرك سعداً فخذ الراية منه، وأدخلها إدخالاً رفيقاً». فأخذها علي(عليه السلام) وأدخلها كما أمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منادياً: «اليوم يوم المرحمة اليوم تُصانالحرمة»(1)، وفي هذين الموقفين تكتمل الصورة للتجربة الصحيحة، ونرى كيف أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استطاع أن يضع المقدمات الصحيحة، ويؤثر في العوامل الخارجية ويغيرها وفق مبناه الفكري الاعتقادي الذي أرسله به ربّ العزة، حيث قال في كتابه العزيز: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(2). لتأتي النتائج الصائبة بدخول الناس أفواجاً في الإسلام، وهو هدف الرسول العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

بين التجربة والمجازفة

ومن هنا يظهر أن التجربة الناجحة مبتنية على مقدمات ناجحة ومؤثرة... قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «خير من شاورت ذوو النّهى والعلم وأولو التّجارب والحزم»(3).

أما المجازفة والتهور فلا تبتني على ذلك، وإنما هي مخاطرة بالنفس، والتعامل مع الأحداث بلا ضوابط أو قوانين عقلائية. وهذه الحالة غالباً ما تنتشر في أوساط الشباب، خاصة في بداية تفتّحهم ونموّهم الجسمي والعقلي، حيث إن أعمارهم تتراوح بين السابعة عشر والثامنة عشر، وهي جزء من مرحلة المراهقة التي يمر بها الشباب. ومن سمات هذه المرحلة عدم النضوج الكافي، وتشوش الأفكار، وعدم الإتزان في التصرفات. وهذه تتلاءم مع روح الشباب الراغبة في الأمور المجهولة، لأنها أشياء جديدة تتفق مع أفكارهم. فهم ربما يفضلون المجهول على المعلومات التجريبية، ويتعاملون في كثير من الأحيان

ص: 69


1- إعلام الورى: 109؛ المبسوط للسرخسي 10: 39.
2- سورة الأنبياء، الآية: 107.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 356.

بالعواطف والأحاسيس التي تحكمهم بقوة، بعيداً عن الإتزان والتعقل.

فالإنسان الذي يتعامل بهذه الكيفية مع الأحداث التي تواجهه، أي حسب ماتمليه عليه عواطفه وإحساساته، بالإضافة إلى عدم امتلاكه فكراً واضحاً يتصرف على أساسه، فيخوض الحدث بصفة المغامرة والمجازفة، لا بصفة العقلانية والإتزان ومن دون أي تخطيط مسبق أو تجربة سابقة، فيدخل الحدث وهو فاقد لإمكانية التأثير في المحيط، تكون النتائج معكوسة بخلاف ما يريد.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «رأي الرجل على قدر تجربته»(1).

حيث يستفاد من هذا الحديث الشريف أن الذي لم تمحصه التجارب والمواقف، فإنه لا رأي سديد له، فتتّسم أعماله ومواقفه بطابع المخاطرة والمجازفة، ويكون مثله تماماً كالذي يرمي بنفسه في البحر، وهو لا يعرف السباحة، فهو في كثير من الأحيان يغرق ويموت، إلّا إذا أنجاه اللّه سبحانه فأرسل إليه من يوصله لبر الأمان؛ ولذلك فإن العقل يفرض على الإنسان الذهاب لتحصيل مقدمات السباحة مثلاً، من التمرن والتعلم على فنون السباحة وما شابه من الأساليب والمقدمات التي تساعد الإنسان بلوغ هدفه وتحصيل النتيجة، وأما غير ذلك فهو مجازفة وتهور.

التجربة وأهميتها

في الغرر عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) في مدح التجربة وحفظها روايات عديدة، منها:

قال(عليه السلام): «الأمور بالتجربة»(2).

ص: 70


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 388.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 19.

وقال(عليه السلام): «الأمور أشباه»(1).وقال(عليه السلام): «التجارب لا تنقضي والعاقل منها في زيادة»(2).

وقال(عليه السلام): «الأيام تفيد التجارب»(3).

وقال(عليه السلام): «العقل حفظ التجارب»(4).

وقال(عليه السلام): «حفظ التجارب رأس العقل»(5).

وقال(عليه السلام): «الحزم حفظ التجربة»(6).

وقال(عليه السلام): «من حفظ التجارب أصابت أفعاله»(7).

وقال(عليه السلام): «من الحزم حفظ التجربة»(8).

وقال(عليه السلام): «المجرّب أحكم من الطبيب»(9).

وقال(عليه السلام): «رأي الرجل على قدر تجربته»(10).

وقال(عليه السلام): «ليس كل من رمى يصيب»(11).

وقال(عليه السلام): «الظفر بالحزم و الحزم بالتجارب»(12).

ص: 71


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 139.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 83.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 31.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 3: 42.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 351.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 53.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 666.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 822.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 64.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 388.
11- غرر الحكم ودرر الكلم: 557.
12- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 444.

وقال(عليه السلام): «التجارب علم مستفاد»(1).وقال(عليه السلام): «التجربة تثمر الاعتبار»(2).

وقال(عليه السلام): «العاقل من وعظته التجارب»(3).

وقال(عليه السلام): «في كل تجربة موعظة»(4).

وقال(عليه السلام): «كفى عظة لذوي الألباب ما جرّبوا»(5).

وقال(عليه السلام): «كفى بالتجارب مؤدّباً»(6).

وقال(عليه السلام): «أملك الناس لسداد الرأي كل مجرّب»(7).

وقال(عليه السلام): «ثمرة التجربة حسن الاختيار»(8).

وقال(عليه السلام): «من قلّت تجربته خدع»(9).

وقال(عليه السلام): «من تجرّب يزدد حزما»(10).

وقال(عليه السلام): «من كثرت تجربته قلّت غرته»(11).

وقال(عليه السلام): «من أحكم التجارب سلم من المعاطب»(12).

ص: 72


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 56.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 59.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 63.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 477.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 521.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 519.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 196.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 327.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 585.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 590.
11- غرر الحكم ودرر الكلم: 593.
12- غرر الحكم ودرر الكلم: 444.

وقال(عليه السلام): «من غني عن التجارب عمي عن العواقب»(1).

الحاجة إلى أصحاب التجارب

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بمجالسة أصحاب التجارب، فإنها تقوّم عليهم بأغلى الغلاء، وتأخذها منهم بأرخص الرخص»(2).

إن هذا الحديث الشريف يبين لنا ضرورة الاستفادة من تجارب الذين حصلوا عليها بالمشقة والعناء، والاتعاظ بها. وهي من صفات العقلاء، حيث قال(عليه السلام) في مورد آخر: «إنما العاقل من وعظته التجارب»(3).

وعادة فإن كبار القوم هم أصحاب التجارب وعلى الإنسان أن يجالسهم ويستفيد منهم.

وربما يقول الشخص: لماذا نحتاج إلى تجارب الكبار؟

إن الجواب عن هذا السؤال يرتبط بمراحل نمو شخصية الإنسان وتغيراته النفسية وغيرها، فالذي يحتاج إلى صاحب الخبرة هو الإنسان القليل الخبرة في هذه المشكلة أو تلك أو جميع المشاكل. وهؤلاء على نوعين؛ أولهما: بعض الشباب الذين ليست لديهم الخبرة بالحياة، والذين يبدأون تجاربهم من الصفر، حيث إن التغيّرات في مرحلة البلوغ تغيّر الإنسان شكلاً وحجماً، فتتولد لهم مجالات نفسية خاصة يتعاملون بها، فهم قد لا يهتمون بالعقل ويستصغرون أحكامه، فتكون تصرفاتهم غير متزنة، فيرفضون مساعدة من هو أكبر منهم سناً وأكثر تجربة، وهذا قد يكون طبيعياً منهم؛ ولكن على ذوي العقول أن يرشدوهم

ص: 73


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 630.
2- شرح نهج البلاغة 20: 335.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 272.

إلى الصواب.

والنوع الثاني: هم ذوو الخبرة بالحياة، لكن بشكل غير كاف، فيحتاجون إلىمن هو أكثر خبرة منهم.

وهنا يجب أن يلتفت الإنسان إلى نفسه، ويُحصّنها من الأمراض الأخلاقية التي تمنع من الالتفات لتجارب الآخرين وسماع كلامهم، كالتكبر والغرور والعناد، ويوطنها على قبول ذلك؛ لأن التجارب قضية منطقية يسير عليها العقلاء، حاضراً وماضياً، وإلّا فبماذا يفسر وجود المعلمين والمدربين والمرشدين وأصحاب الخبرة في المجتمع؟ إنها الاستفادة من تجارب الآخرين العلمية والعملية.

إذاً، فالحاجة للكبار ليست تقليدية، بل ضرورة حياتية تصب في كمال وسعادة الإنسان، وهذا أمر فطري في تكوين الإنسان بحيث لا يمكن الاستغناء عنه أو التنكر له.

وخلاصة القول: إن الإنسان لابدّ له أن يستفيد من التجارب الناجحة، التي جاء بها الأنبياء والأولياء^، وتؤكد على ذلك المبادئ الإسلامية الواضحة فإن سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار^ تبين كل ما هو خير للإنسان وتبعده عن كل ما هو شر، فتحث الإنسان إلى الوحدة، والأخوة، والحرية، والاكتفاء الذاتي، والعفو، ومكارم الأخلاق، والاستشارة، والاستفادة من عقول الآخرين، فإن متابعة أولئك العظماء في أفعالهم وآثارهم في مسيرة حياتهم العظيمة، تكون لنا علماً مستفاداً عند خوض تجاربنا، وتمسكنا بالشريعة الإسلامية... ومتابعة تجارب الصالحين من عباد اللّه تعالى، وسيرة علمائنا الأعلام الماضين منهم والحاضرين، تكون مقدمة لبناء النفس وبناء المجتمع الإسلامي، كما أن علينا أن نورث الأجيال القادمة أيضاً علماً وتجارب ناجحة ليستفيدوا منها في حياتهم.

ص: 74

الوصايا تجارب العظماء

ومن هنا نرى العظماء كانوا يوصون لغيرهم بتجاربهم، ويتركون وصايالأولادهم ولسائر الناس بما يرونه من صالح الدين والدنيا، حتى يجعلوا في أيديهم تلك التجارب التي حصلوا عليها في حياتهم.

كما يشاهد ذلك بوضوح في وصايا لقمان لابنه، وكذلك في وصايا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام) ولأبي ذر(رحمه اللّه)، وهكذا وصايا أمير المؤمنين(عليه السلام) لولده الإمام الحسن(عليه السلام)، إلى غير ذلك مما هو كثير في تاريخ الأنبياء والأئمة^ وتاريخ العلماء والصالحين.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام) يوصيه: «من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدنيا، الساكن مساكن الموتى، والظاعن عنها غداً، إلى المولود المؤمل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام ورهينة الأيام ورمية المصائب، وعبد الدنيا وتاجر الغرور، وغريم المنايا وأسير الموت، وحليف الهموم وقرين الأحزان، ونصب الآفات وصريع الشهوات وخليفة الأموات.

أما بعد، فإن فيما تبيَّنتُ من إدبار الدنيا عني وجموح الدهر(1) علي، وإقبال الآخرة إلي ما يزعني(2) عن ذكر من سواي والاهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي، فصدفني رأيي وصرفني عن هواي وصرح لي محض أمري، فأفضى بي إلى جدّ لا يكون فيه لعبٌ وصدقٍ لا يشوبه كذبٌ، ووجدتك بعضي بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني وكأن

ص: 75


1- جُموح الدهر: استقصاؤه وتغلّبه.
2- يزعني: يكفّني ويَصدّني.

الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك كتابي، مستظهراً به إن أنا بقيت لك أو فنيت، فإني أوصيك بتقوى اللّه أي بنيولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله، وأيُّ سبب أوثق من سبب بينك وبين اللّه إن أنت أخذت به، أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوِّه باليقين، ونوِّره بالحكمة، وذلله بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذِّره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكِّره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلّوا ونزلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة وحلوا ديار الغربة، وكأنك عن قليلٍ قد صرت كأحدهم، فأصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك ودع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تُكلَّف، وأمسك عن طريقٍ إذا خفت ضلالته، فإن الكف عند حيرة الضلال خيرٌ من ركوب الأهوال، وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجهدك، وجاهد في اللّه حق جهاده ولا تأخذك في اللّه لومة لائم، وخض الغمرات للحق حيث كان، وتفقّه في الدين، وعوّد نفسك التصبر على المكروه، ونعم الخلق التصبر في الحق، وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك؛ فإنك تلجئها إلى كهفٍ حريزٍ ومانعٍ عزيزٍ، وأخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان، وأكثر الاستخارة، وتفهم وصيتي ولا تذهبن عنك صفحاً؛ فإن خير القول ما نفع.

واعلم أنه لا خير في علمٍ لا ينفع، ولا ينتفع بعلمٍ لا يحق تعلمه، أي بني، إني لما رأيتني قد بلغت سناً ورأيتني أزداد وهناً بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا، فتكون كالصعب النفور، وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما

ص: 76

ألقي فيها من شي ءٍ قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك، لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قدكفيت مئونة الطلب وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه، واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه.

أي بني، إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمرٍ نخيله(1)، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك، أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نيةٍ سليمةٍ ونفسٍ صافيةٍ، وأن ابتدئك بتعليم كتاب اللّه عزّ وجلّ وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره...

ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحبَّ إليَّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة، ورجوت أن يوفقك اللّه فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إليك وصيتي هذه.

واعلم يا بني، أن أحب ما أنت آخذٌ به إلي من وصيتي: تقوى اللّه، والاقتصار على ما فرضه اللّه عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك؛ فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عما لم يكلفوا، فإن أبت

ص: 77


1- نَخَل الشي ءَ يَنْخُله نَخْلاً وتَنَخَّله وانتَخَله: صَفَّاه واختارَه؛ وكل ما صُفِّيَ ليُعْزَل لُبابُه فقد انتُخِل وتُنُخِّل.

نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهمٍ وتعلمٍ لا بتورط الشبهات وعلق الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهكوالرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبةٍ أولجتك في شبهةٍ، أو أسلمتك إلى ضلالةٍ، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هماً واحداً فانظر فيما فسرت لك، وإن لم يجتمع لك ما تحب من نفسك وفراغ نظرك وفكرك فاعلم أنك إنما تخبط العشواء(1) وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط والإمساك عن ذلك أمثل، فتفهم يا بني وصيتي...

واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة، وأن الخالق هو المميت، وأن المفني هو المعيد، وأن المبتلي هو المعافي، وأن الدنيا لم تكن لتستقر إلّا على ما جعلها اللّه عليه من النعماء والابتلاء، والجزاء في المعاد أو ما شاء مما لا تعلم، فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك؛ فإنك أول ما خلقت به جاهلاً ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك. فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسواك، وليكن له تعبدك وإليه رغبتك ومنه شفقتك.

واعلم يا بني أن أحداً لم ينبئ عن اللّه سبحانه كما أنبأ عنه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فارض به رائداً وإلى النجاة قائداً، فإني لم آلك نصيحة وإنك لن تبلغ في النظر لنفسك وإن اجتهدت مبلغ نظري لك.

واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه لا يضاده في ملكه أحد، ولا يزول أبداً ولم يزل، أول قبل الأشياء بلا أولية، وآخر بعد الأشياء

ص: 78


1- العَشواء: الضعيفة البصر، أي تخبط خبط الناقة العشواء لا تأمن أن تسقط فيما لاخلاص منه.

بلا نهاية، عظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر. فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره، و قلة مقدرته وكثرة عجزه، وعظيمحاجته إلى ربه في طلب طاعته، والخشية من عقوبته والشفقة من سخطه، فإنه لم يأمرك إلّا بحسن، ولم ينهك إلّا عن قبيح.

يا بني إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها، وزوالها وانتقالها، وأنبأتك عن الآخرة وما أُعدّ لأهلها فيها، وضربت لك فيهما الأمثال لتعتبر بها وتحذو عليها، إنما مثل من خَبَرَ الدنيا كمثل قومٍ سَفْرٍ نَبا(1) بِهِم منزل جديب(2) فأموا(3) منزلاً خصيباً وجَناباً(4) مريعاً، فاحتملوا وعثاء الطريق وفراق الصديق وخشونة السفر وجشوبة المطعم ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشي ءٍ من ذلك ألماً، ولا يرون نفقةً فيه مغرماً، ولا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم وأدناهم من محلتهم، ومَثَل من اغترّ بها كمثل قومٍ كانوا بمنزلٍ خصيبٍ فنبا بهم إلى منزلٍ جديبٍ، فليس شي ءٌ أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه.

يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قَلَّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك.

ص: 79


1- نَبا المنزل بأهله: لم يوافقهم المقام فيه لو خامته.
2- الجديب: المقحط لا خير فيه.
3- أمّوا: قصدوا.
4- الجَناب: الناحية.

واعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب، فاسع في كدحك، ولا تكن خازناً لغيرك، وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك.

واعلم أن أمامك طريقاً ذا مسافةٍ بعيدةٍ ومشقةٍ شديدةٍ، وأنه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد وقدر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمِّله إياه، وأكثر من تزويده وأنت قادرٌ عليه؛ فلعلك تطلبه فلا تجده، واغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك.

واعلم أن أمامك عقبةً كئوداً(1)، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع، وأن مهبطك بها لا محالة، إما على جنةٍ أو على نارٍ، فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطئ المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتبٌ، ولا إلى الدنيا منصرف.

واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء وتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيرك بالإنابة، ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدد عليك في قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنةً، وحسب سيئتك واحدةً، وحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب وباب الاستعتاب، فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك وأبثثته ذات نفسك،

ص: 80


1- كئوداً: صعبة المرتقى.

وشكوت إليه همومك واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره، من زيادة الأعمار وصحة الأبدانوسعة الأرزاق، ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب(1) رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته؛ فإن العطية على قدر النية، وربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجزل لعطاء الآمل، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صرف عنك لما هو خيرٌ لك، فلرب أمرٍ قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له.

واعلم يا بني، أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنك في قُلعةٍ ودار بلغةٍ(2) وطريقٍ إلى الآخرة، وأنك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه، ولا يفوته طالبه، ولابد أنه مدركه، فكن منه على حذر أن يدركك، وأنت على حالٍ سيئةٍ قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة، فيحول بينك وبين ذلك، فإذاً أنت قد أهلكت نفسك.

يا بني أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتةً فيبهرك، وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها، وتكالبهم عليها، فقد نبأك اللّه عنها ونعت هي لك عن نفسها وتكشفت لك عن مساويها، فإنما أهلها كلابٌ عاويةٌ

ص: 81


1- شآبيب: جمع الشؤبوب - بالضم - وهو الدفعة من المطر.
2- قُلْعة - بضم القاف وسكون اللام، وبضمتين، وبضم ففتح - : يقال منزل قلعة أي لا يملك لنازله ولا يدري متى ينتقل عنه. البُلغة: الكفاية وما يتبلغ به من العيش.

وسباعٌ ضاريةٌ، يهرّ(1) بعضها على بعضٍ، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرهاصغيرها، نَعَمٌ معقلةٌ وأخرى مهملةٌ، قد أضلت عقولها وركبت مجهولها، سروح(2) عاهةٍ بوادٍ وعثٍ، ليس لها راعٍ يقيمها ولا مسيمٌ(3) يسيمها، سلكت بهم الدنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها وغرقوا في نعمتها، واتخذوها رباً، فلعبت بهم ولعبوا بها ونسوا ما وراءها. رويداً يُسفِر الظلام كأن قد وردت الأظعان يوشك من أسرع أن يلحق.

واعلم يا بني، أن من كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يسار به وإن كان واقفاً، ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً، واعلم يقيناً أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وأنك في سبيل من كان قبلك، فخفض في الطلب، وأجمل في المكتسب، فإنه رب طلبٍ قد جر إلى حَرَبٍ(4)، وليس كل طالبٍ بمرزوقٍ، ولا كل مجملٍ بمحرومٍ، وأكرم نفسك عن كل دنيةٍ، وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً، وما خيرُ خيرٍ لا ينال إلّا بشر، ويسرٍ لا ينال إلّا بعسرٍ، وإياك أن توجف بك مطايا الطمع، فتوردك مناهل الهلكة، وإن استطعت ألّا يكون بينك وبين اللّه ذو نعمةٍ فافعل، فإنك مدركٌ قسمك وآخذٌ سهمك، وإن اليسير من اللّه سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه، وإن كان كل منه.

وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك، وحفظ ما

ص: 82


1- يهِرّ - بكسر الهاء - : يعوي وينبح، وأصلها هرير الكلب وهو صوته دون حاجة من قلة صبره على البرد.
2- السّروح - بالضم - : جمع سرح بفتح فسكون: وهو المال السارح السائم من إبل ونحوها.
3- مُسيم: من أسام الدابة يسيمها: سرحها إلى المرعى.
4- الحَرَب - بالتحريك - : سلب المال.

في الوعاء بشد الوكاء(1)، وحفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يدي غيرك، ومرارة اليأس خيرٌ من الطلب إلى الناس، والحرفة مع العفة خيرٌ من الغنى مع الفجور، والمرء أحفظ لسره، ورب ساعٍ فيما يضره، من أكثر أهجر، ومن تفكر أبصر، قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم، بئس الطعام الحرام، وظلم الضعيف أفحش الظلم، إذا كان الرفق خُرقاً(2) كان الخُرق رفقاً، ربما كان الدواء داءً والداء دواءً، وربما نصح غير الناصح وغش المستنصح، وإياك والاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى(3)، والعقل حفظ التجارب، وخير ما جرّبت ما وعظك، بادر الفرصة قبل أن تكون غصةً، ليس كل طالبٍ يصيب، ولا كل غائبٍ يئوب.

ومن الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد، ولكل أمرٍ عاقبةٌ، سوف يأتيك ما قدر لك، التاجر مخاطرٌ، ورب يسيرٍ أنمى من كثيرٍ، لا خير في معينٍ مهينٍ، ولا في صديقٍ ظنينٍ، ساهل الدهر ما ذل لك قعوده، ولا تخاطر بشيءٍ رجاء أكثر منه، وإياك أن تجمح بك مطية اللجاج، احمل نفسك من أخيك عند صرمه(4) على الصلة، وعند صدوده(5) على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على العذر، حتى كأنك له عبدٌ وكأنه ذو نعمةٍ عليك، وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله، لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو

ص: 83


1- بشدّ وكائها: أي رباطها.
2- الخُرق - بالضم - : العنف.
3- النّوكى: جمع أنوك، وهو كالأحمق وزناً ومعنىً.
4- صَرمه: قطيعته.
5- الصُدود: الهجر.

قبيحةً، وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعةً أحلى منها عاقبةً ولا ألذ مغبّةً(1).

ولِن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك، وخذ على عدوك بالفضل فإنه أحلى الظفرين، وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيةً يرجع إليها إن بدا له ذلك يوماً ما، ومن ظن بك خيراً فصدق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخٍ من أضعت حقه، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك، ولا ترغبن فيمن زهد عنك، ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك، فإنه يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرك أن تسوءه.

واعلم يا بني أن الرزق رزقان: رزقٌ تطلبه ورزقٌ يطلبك، فإن أنت لم تأته أتاك، ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى، إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، وإن كنت جازعاً على ما تفلّت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك، استدل على ما لم يكن بما قد كان، فإن الأمور أشباه، ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة إلّا إذا بالغت في إيلامه، فإن العاقل يتعظ بالآداب والبهائم لا تتعظ إلّا بالضرب.

اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين، من ترك القصد جار، والصاحب مناسبٌ، والصديق من صدق غيبه، والهوى شريك العمى، ورب بعيدٍ أقرب من قريبٍ، وقريبٍ أبعد من بعيدٍ، والغريب من لم يكن له حبيبٌ، من تعدى الحق ضاق مذهبه، ومن اقتصر على قدره كان أبقى له، وأوثق سببٍ أخذت به سببٌ بينك وبين اللّه سبحانه، ومن لم يبالك(2) فهو عدوك، قد يكون اليأس إدراكاً إذا كان الطمع هلاكاً.

ص: 84


1- المغبّة: العاقبة.
2- لم يُبالك: أي لم يهتم بأمرك.

ليس كل عورةٍ تظهر، ولا كل فرصةٍ تصاب، وربما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده، أخِّر الشر فإنك إذا شئت تعجلته، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل، من أمن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه، ليس كل من رمى أصاب.

إذا تغير السلطان تغير الزمان، سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار، إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكاً وإن حكيت ذلك عن غيرك. وإياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفنٍ(1) وعزمهن إلى وهنٍ، واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن، وليس خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن، وإن استطعت ألّا يعرفن غيرك فافعل، ولا تملِّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، فإن المرأة ريحانةٌ وليست بقهرمانةٍ(2)، ولا تعد بكرامتها نفسها، ولا تطمعها في أن تشفع لغيرها، وإياك والتغاير في غير موضع غيرةٍ، فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقَم والبريئة إلى الريب.

واجعل لكل إنسانٍ من خدمك عملاً تأخذه به، فإنه أحرى ألّا يتواكلوا في خدمتك، وأكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول، استودع اللّه دينك ودنياك، واسأله خير القضاء لك في العاجلة والآجلة والدنيا والآخرة، والسلام»(3).

***

إلى غيرها من الوصايا الكثيرة المذكورة في كتب الروايات.

وهي تجارب وسلوك الخبراء التي قدموها لغيرهم، فينبغي الاستفادة منها إذا

ص: 85


1- الأفن - بالسكون - : النقص.
2- القَهرَمان: الذي يحكم في الأمور ويتصرف فيها بأمره كالخازن والوكيل الحافظ لما تحت يده.
3- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند إنصرافه من صفين.

أراد الإنسان أن يعيش حياة طيبة في الدنيا والآخرة.

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يبصرنا ويرشدنا إلى ما هو الخير والصلاح إنه سميع مجيب.

«اللّهم صل على محمد وآله، وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيتي إلى أحسن النيات، وبعملي إلى أحسن الأعمال...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

من مقومات التجربة استعمال العقل

قال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَالدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(3).

وقال سبحانه: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا ءَايَةَ بَيِّنَةً لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(5).

الإيمان سر نجاح التجارب

قال تبارك وتعالى: {ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ...}(6).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(7).

ص: 86


1- الصحيفة السجادية: الدعاء رقم 20، وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الاخلاق ومرضي الفعال.
2- سورة البقرة، الآية: 242.
3- سورة الأعراف، الآية: 169.
4- سورة العنكبوت، الآية: 35.
5- سورة الروم، الآية: 28.
6- سورة البقرة، الآية: 2-4.
7- سورة البقرة، الآية: 248.

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَٰنِهِمْ}(1).وقال جلّ وعلا: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}(2).

القرآن العظيم التجربة الناجحة

قال عزّ وجلّ: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(3).

وقال تعالى: {وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(4).

وقال سبحانه: {فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(6).

التأسي بسيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة^ والصالحين

قال تبارك وتعالى: {قُلْ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي

ص: 87


1- سورة يونس، الآية: 9.
2- سورة الحجرات، الآية: 7.
3- سورة المائدة، الآية: 15-16.
4- سورة الأنعام، الآية: 155.
5- سورة الأعراف، الآية: 157.
6- سورة النحل، الآية: 89.

يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(1).

وقال سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَالْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَقَالَ الَّذِي ءَامَنَ يَٰقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}(3).

وقال جلّ وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

استعمال العقل من مقومات التجربة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما يدرك الخير كله بالعقل، ولا دين لمن لا عقل له»(5).

وقال الإمام علي(عليه السلام): «بالعقل صلاح كل أمر»(6).

وقال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العقل دليل المؤمن»(8).

الإيمان سر نجاح التجارب

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان»(9).

ص: 88


1- سورة الأعراف، الآية: 158.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- سورة غافر، الآية: 38.
4- سورة الممتحنة، الآية: 4.
5- تحف العقول: ص54 ما روي عنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قصار الكلمات.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 304.
7- كنز الفوائد 1: 200.
8- الكافي 1: 25.
9- نهج الفصاحة: 598.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فبالإيمان يُستدل على الصالحات، وبالصالحات يستدل على الإيمان»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «وبالإيمان يُعمر العلم»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ}(3): «هي الإيمان باللّه يؤمن باللّه وحده لا شريك له»(4).

القرآن العظيم سر النجاح

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فعليكم بالقرآن... من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل...»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه اللّه في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(6).

وقالت موالتنا الزهراء(عليها السلام): «للّه فيكم عهد قدّمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم: كتاب اللّه بينة بصائرها، وآي منكشفة سرائره... وقائداً إلى الرضوان أتباعه، ومؤدياً إلى النجاة أشياعه...»(7).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «لو مات من بين المشرق والمغرب لما

ص: 89


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 156 من كلام له(عليه السلام) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 156 من كلام له(عليه السلام) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم.
3- سورة البقرة، الآية: 256.
4- الكافي 2: 14.
5- تفسير العياشي 1: 2.
6- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه.
7- السقيفة وفدك: 139.

استوحشت بعد أن يكون القرآن معي»(1).

التأسي بسيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار^

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «هُدي من سلّم مقادته إلى اللّه ورسوله وولي أمره»(2).

وقال(عليه السلام): «واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضل الهدي، واستنّوا بسنته فإنها أهدى السنن...»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «فتأس بنبيك الأطيب الأطهر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاءً لمن تعزّى، وأحب العباد إلى اللّه المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره...»(4).

وقال الإمام سيد الساجدين(عليه السلام): «ألا وإن أبغض الناس إلى اللّه من يقتدي بُسنة إمام ولا يقتدي بأعماله»(5).

ص: 90


1- الكافي 2: 602.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 94.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 110 من خطبة له(عليه السلام) في أركان الدين.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 160 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها عظمة اللّه ورسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وباقي الأنبياء^.
5- الكافي 8: 234.

التعاون والعمل

التقدم والتلاحم

قال اللّه تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}(1).

الذين يحبهم اللّه عزّ وجلّ هم المجاهدون لإعلاء كلمته وفي سبيل رضوانه، في حال كونهم مصطفّين بلا تبعثر أو تفرّق، كأنهم من شدة ثباتهم بناء مرصوص أُحكم بناؤه.

ويمكن في ضوء هذه الآية الكريمة أن نتناول جانبين تعرضت لهما الآية، وهما: التقدم والتلاحم.

الجانب الأول: مسألة الرقي والتقدم، وبذل الغالي والنفيس في ذلك، حيث قال تعالى: {يُقَٰتِلُونَ} فإن هذه الكلمة تعني - من ضمن ما تعنيه - السعي الحثيث وبكل ما يملك الإنسان نحو اعتلاء سُلّم الرقي والتقدم والوصول إلى الأهداف والدفاع عنها في سبيل اللّه، فإن الجهاد والمقاتلة دفاعاً عن الأهداف العالية يكشف عن الاهتمام بالترقي والتقدم حتى إنهم يقاتلون ويضحون بأنفسهم في سبيله.

ص: 91


1- سورة الصف، الآية: 4.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اغزوا تورثوا أبناءكم مجداً»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «جاهدوا تغنموا»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض»(3).

يذكر علماء الاجتماع أن حركة الشعوب تنقسم على ثلاث مراحل: إما أن تكون بحالة تقدم، أو حالة تراجع، أو حالة استقرار وركود.

ولو أخذنا - على سبيل المثال - حرباً دائرة بين دولتين، فإذا تمكنت إحداهما من تحقيق انتصارات واقعية على الأرض، تمكنت من خلالها اكتساح الطرف الآخر، فإنها تمر بحالة من التقدم العسكري، واذا لم تتمكن من ذلك، فإنها تمر بحالة من التراجع والتقهقر، وربما كانت الحرب الدائرة سجالاً بين الطرفين دون أن تتحقق الغلبة لأحدهما على الآخر، فهذا أقرب ما يكون إلى حالة الركود والجمود، وإن كان الأصح أنه حالة تقهقر وتراجع لأن الحرب تعني الخراب والدمار، ومن هنا كانت محرمة في الشريعة الإسلامية إلّا في أقصى موارد الضرورة.

وهكذا المعيار في سائر شؤون المجتمع.

والمطلوب من المؤمنين - كأُمة - أن يكونوا دائماً سائرين في طريق التقدم والبناء في أجواء من الوحدة والتعاون والمودة، فهو الطريق الموصل إلى رحمة اللّه تعالى ورضاه. أما حالة الركود - فكيف بالتراجع - فهي لا تليق بالمؤمنين، بل عليهم أن يرتقوا في كل يوم مرحلة في سلّم التطور والتقدم.

ص: 92


1- الكافي 5: 8.
2- الكافي 5: 8.
3- الكافي 5: 4.

المغبون والملعون

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كانت الدنيا همته اشتدت حسرته عند فراقها، ومن كان غده شر يوميه فهو محروم، ومن لم يبال بما رُزئ من آخرته إذا سلمت له دنياه فهو هالك، ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى، ومن كان في نقص فالموت خير له»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كان في غده شرَّ يوميه فهو مفتون، ومن لم يتفقد النقصان في نفسه دام نقصه، ومن دام نقصه فالموت خير له...»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة»(3).

وهذه الأحاديث الشريفة تبين لنا معيار التقدم والتأخر، والغبن واللعنة في هذا الباب.

فالمؤمن - كفرد أو كمجمتع وأُمة - إذا كان يوماه متساويين فهو مغبون، حيث قد ألحق بنفسه ضرر عدم التقدم؛ لأن وقتاً من عمره مضى ولم يستزد شيئاً جديداً في يومه الجديد، وبعبارة أخرى: إنه يمر بحالة من الركود والجمود، وأسوء من ذلك هو الذي يكون يومه أسوء من أمسه؛ إذ يمر بحالة التراجع والتأخر. فحالة التقدم المنشودة لا تكون إلّا إذا كان يومنا أفضل من أمسنا.

ص: 93


1- من لا يحضره الفقيه 4: 382.
2- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 107.
3- الأمالي للصدوق: 668.

شروط التقدم

هناك شروط ومقومات عديدة لتقدم الأمة وتطورها، من أهم هذه الشروط: الإخلاص والعمل الدؤوب.

فالأمة التي لا تكون مخلصة فيما بينها، والأمة الكسولة التي لاتعمل، لاتتقدم أبداً، بل تتأخر يوماً بعد يوم.

الإسلام كل لا يتجزأ

ثم إن من أهم ما يضمن لنا السير في طريق التقدم هو شدة ارتباطنا بالإسلام الحنيف بكل أبعاده دون تجزئة وتبعيض، فالإسلام كلّ لايتجزأ، وهو النهج الذي يرتقي ببلادنا صوب التقدم متحدياً كل الحواجز والعقبات التي وضعها الاستعمار في طريقنا؛ وذلك لما يمتلكه الإسلام من مميزات وخصائص تشكّل ضمانة لتقدم الأمة، فالإسلام يضمن لنا الاستقلال والحرية؛ ويزودنا بسلاح الإيمان وروح التضحية والشهادة، ويحثنا على تهيئة مقومات الاستقلال والوقوف بوجه كيد الأعداء وردّ خططهم، وذلك عبر نشر الثقافة والوعي قبل كل شيء، ومن ثم تقوية المسلمين من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والعسكرية.

يقول اللّه تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}(1). ويقول الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة»(2).

أما الأخذ بجانب وترك جانب فهو لا ينتج إلّا التأخر، فمثلاً الإسلام يضمن

ص: 94


1- سورة الأنفال، الآية: 60.
2- الكافي 5: 48.

لنا الاكتفاء الذاتي عبر الاقتصاد السليم الذي منه تبدأ عملية التنمية الحقيقية والاستقلال عن التبعية للشرق والغرب، حيث يجعل الإسلام كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية حراً في مختلف الميادين الاقتصادية بلا جمارك ولا رسوم ولا ضرائب غير مشروعة، فيكون فرداً مخلصاً مجدّاً في سبيل التنمية الاقتصادية. أما الاهتمام بالجانب العسكري فقط وتركُ الجوانب الأخرى الأهم كالجانب الثقافي والسياسي والاقتصادي وما أشبه فإنه لا ينتج إلّا التأخر والدمار.

التنظيم الاجتماعي

ومن أهم مقومات التقدم: روح التعاون التي يحث عليها الإسلام، إن الدين الإسلامي يهتم ببناء تنظيم اجتماعي راق وسام تسود فيه الأخلاق الطيبة والتضحية وحب الآخرين وقضاء حوائجهم وما إلى ذلك من مصاديق التعاون والمحبة، وكان هذا ما يثير إعجاب غير المسلمين لما يرونه من الترابط والتآلف بين المسلمين، فبدءً من تقوية العلاقات الأسرية إلى تقوية العلاقات الاجتماعية الأخرى بين مختلف أبناء الأمة(1)، خاصة النشاطات التي تنبثق في المساجد والمؤسسات الدينية والاجتماعية التي تمنح القوة الفكرية والميدانية للأمة الإسلامية في مختلف المجالات الحيوية.

وقد ورد في جملة من الروايات بيان أحكام العشرة والمعاشرة في السفر والحضر وغيرها(2)، مع المؤمنين والمنافقين وسائر الناس، نذكر بعضاً منها:

ص: 95


1- وهناك جملة كبيرة من الروايات في الآداب الاجتماعية ذكر قسماً منها الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في كتاب (الفقه: الاجتماع) و(الفقه: طريق النجاة) و(السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(الصياغة الجديدة) و(الفقه: السلم والسلام) وغيرها، فراجع.
2- كما في وسائل الشيعة في المجلد 12 تحت عنوان أبواب أحكام العشر ة في السفر والحضر، وفيه مائة وست وستون باباً تتضمن أحاديث شريفة تبين آداب واخلاق العشرة والمعاشرة، وغيرها من المجاميع الروائية.

عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام):

كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟

قال(عليه السلام):«تؤدون الأمانة إليهم، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم وتشهدون جنائزهم»(1).

وعن أبي أسامة زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام):

«اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي، السلام، وأوصيكم بتقوى اللّه عزّ وجلّ، والورع في دينكم، والاجتهاد للّه، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يأمر بأداء الخيط والمِخيَط، صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم؛ فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل: هذا أدب جعفر. فواللّه لحدثني أبي(عليه السلام): أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي(عليه السلام) فيكون زينها، آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه، فتقول: من مثل فلان، إنه لآدانا للأمانة وأصدقنا للحديث»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «عليكم بالورع والاجتهاد، واشهدوا الجنائز وعودوا

ص: 96


1- الكافي 2: 635؛ وسائل الشيعة 12: 5.
2- الكافي 2: 636.

المرضى، واحضروا مع قومكم مساجدكم، وأحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم، أمايستحيي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه، ولا يعرف حق جاره!»(1).

وعنه(عليه السلام) قال: «كان أبو جعفر(عليه السلام) يقول: عظموا أصحابكم ووقروهم، ولا يتهجم بعضكم بعضاً ولا تضاروا، ولا تحاسدوا، وإياكم والبخل، وكونوا عباد اللّه المخلصين»(2).

وكان(عليه السلام) يقول لأصحابه: «اتقوا اللّه، وكونوا إخوةً بررةً متحابين في اللّه، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه»(3).

وورد عن ابن أعين أنه سأل أبا عبد اللّه(عليه السلام): عن حق المسلم على أخيه، فلم يجبه! قال: فلما جئت لأودعه قلت: سألتك فلم تجبني! فقال(عليه السلام): «إني أخاف أن تكفروا، إن من أشد ما افترض اللّه على خلقه ثلاثاً: إنصاف المؤمن من نفسه حتى لا يرضى لأخيه المؤمن من نفسه إلّا بما يرضى لنفسه منه، ومواساة الأخ في المال، وذكر اللّه على كل حال، ليس سبحان اللّه والحمد للّه، ولكن عند ما حرم اللّه عليه فيدعه».(4)

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن مَلَكاً من الملائكة مرّ برجل قائم على باب دار، فقال له الملك: يا عبد اللّه ما يقيمك على باب هذه الدار؟ فقال: أخٌ لي فيها أردت أن أسلّم عليه.

فقال المَلَك: هل بينك وبينه رحم ماسَّةٌ أو هل نزعتك إليه حاجة؟

قال فقال: لا ما بيني وبينه قرابة، ولا نزعتني إليه حاجة؛ إلّا أخوة الإسلام

ص: 97


1- الكافي 2: 635.
2- الكافي 2: 173.
3- الكافي 2: 175.
4- الكافي 2: 170.

وحرمته، وأنا أتعاهده أسلّم عليه في اللّه رب العالمين.

فقال له الملك: إني رسول اللّه إليك وهو يقرئك السلام، ويقول: إنما إياي أردت ولي تعاهدتَ، وقد أوجبتُ لك الجنة، وأعفيتك من غضبي، وآجرتك من النار»(1).

كما ورد استحباب سؤال الإنسان جليسه عن اسمه وكنيته وعمله، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا أحب أحدكم أخاه المسلم فليسأله عن اسمه واسم أبيه واسم قبيلته وعشيرته، فإن من حقه الواجب وصدق الإخاء أن يسأله عن ذلك، وإلّا فإنها معرفة حُمق»(2).

وعن جعفر بن محمد(عليهما السلام) عن أبيه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ثلاثة من الجفاء: أن يصحب الرجل الرجل فلا يسأله عن اسمه وكنيته، وأن يدعى الرجل إلى طعام فلا يجيب، أو يجيب فلا يأكل، ومواقعة الرجل أهله قبل المداعبة»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويُؤلفون، وتوطَّأ رحالهم»(4).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «المؤمن مألوف، ولا خير فيمن لايألف ولا يُؤلف»(5).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من زي الإيمان الفقه، ومن زي الفقه الحلم، ومن زي الحلم الرفق، ومن زي الرفق اللين، ومن زي اللين السهولة»(6).

ص: 98


1- الأمالي للصدوق: 199.
2- الكافي 2: 671.
3- قرب الإسناد: 160.
4- الكافي 2: 102.
5- الكافي 2: 102.
6- الأمالي للطوسي: 189.

وكذلك وردت روايات كثيرة تدل على استحباب البشاشة عند رؤية القادم،فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا بني عبد المطلب، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «من خرج في حاجة ومسح وجهه بماء الورد، لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، ومن شرب من سؤر أخيه المؤمن يريد بذلك التواضع أدخله اللّه الجنة البتة، ومن تبسم في وجه أخيه المؤمن كتب اللّه له حسنةً، ومن كتب اللّه له حسنةً لم يعذبه»(2).

وعن الإمام الجواد محمد بن علي الرضا(عليهما السلام) عن آبائه^ قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه وحسن اللقاء، فإني سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم»(3).

إلى غير ذلك الكثير من روايات الآداب الاجتماعية الواردة عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته^ وهي مما تدل على اهتمام الإسلام بالجانب الاجتماعي والحث على التعاون والمحبة بين أفراد الأمة.

ومن مصاديق التعاون في زماننا تأسيس تنظيمات سياسية نزيهة تضمن استقلال بلادنا وتمنع انتشار الأفكار الهدّامة وتسلل العناصر الشريرة إلى داخل المجتمع الإسلامي(4)، على تفصيل ذكرناه في بعض كتبنا.

ص: 99


1- الكافي 2: 103.
2- مصادقة الإخوان: 52.
3- الأمالي للصدوق: 446.
4- للتفصيل انظر: من كتب الإمام الشيرازي(رحمه اللّه): (الدولة الاسلامية) ج1 و2 و(السبيل الى إنهاض المسلمين)، و(الصياغة الجديدة)، و(طريق النجاة)، و(السياسة) ج1 و2، و(السلم والسلام)، وغيرها.

البناء المرصوص

اشارة

أما الجانب الثاني الذي تعرضت الآية المباركة له، فهو التلاحم.

إن اللّه تبارك وتعالى شبّه المجتمع الإيماني الذي يطلب الرقي والتقدم ويضحي بنفسه في سبيل اللّه، بالبنيان المرصوص، في الآية الكريمة حيث قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}(1) والبنيان المرصوص يمتلك ثلاث خصائص متميزة تعطيه هذه الصفة(2):

الأولى: التراصّ والتماسك بين أجزائه، فلا يرى فيه خلل ولا فراغات، بل هو مشدود بعضه ببعض ومتراصّ.

الثانية: استقامة البنيان وعدم الإعوجاج فيه.

الثالثة: وضع اللبنات الأساسية كل منها في محلها.

وهكذا يريد اللّه تعالى من المسلمين أن يكونوا كالبنيان المرصوص في تلاحمهم وقوة تماسكهم ليتقدموا على غيرهم.

خصائص القوة

ثم إن من خصائص القوة خمسة أمور:

1: قداسة الهدف وشفافيته، فإنهم مقاتلون مدافعون لمنع الأعداء من النيل منهم ولتتقدم أمتهم وتزدهر، بكل إخلاص ومعنوية.

2: عدم وجود نقص وإعوجاج وخلل في أمورهم.

ص: 100


1- سورة الصف، الآية: 4.
2- رصص: رَصَّ البُنْيانَ يَرُصّه رَصّاً، فهو مَرْصُوصٌ ورَصِيصٌ، ورَصّصَه ورَصْرَصَه: أَحْكَمَه وجَمَعه وضمّ بعضَه إِلى بعض. وكلُّ ما أُحْكِمَ وضُمَّ، فقد رُصَّ. ورَصَصْتُ الشي ء أَرُصّهُ رَصّاً أَي أَلْصَقْتُ بعضَه ببعض، ومنه: بُنْيان مَرْصوصٌ، وكذلك التَّرْصِيصُ، وتَراصَّ القومُ: تضامُّوا وتلاصَقُوا، وتَراصُّوا: تصافُّوا في القتال والصلاة. انظر: لسان العرب 7: 40 مادة (رصص).

3: التلاحم والانسجام مع بعضهم.4: أن يحتل كل فرد منهم مكانه المناسب، وبعبارة أخرى جعل الفرد المناسب في المكان المناسب من دون ملاحظة المحسوبيات والمنسوبيات.

5: أن يكون عملهم دؤوباً مستمراً بلا توان وكسل.

مضافاً إلى ضرورة كونه واضح المعالم، وأنه في سبيل اللّه تعالى ومطابقاً لما أمره تعالى ضمن الضوابط الشرعية.

العرب وإسرائيل

من سلبيات عدم التعاون والعمل الجاد هو سيطرة الأعداء على الأمة، وأوضح مصداق لذلك القضية الفلسطينية.

إن المسلمين والعرب لو اتفقوا وتراصوا مع بعضهم البعض واتحدوا، وعملوا بإخلاص لأجل تحرير فلسطين من اليهود والصهاينة، فإن إسرائيل لا يمكن لها أن تبقى حتى فترة قصيرة في الوجود.

أما هذه المدة التي تمر على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين فإنها لعدم اتحاد المسلمين، ففي كل ليلة وعندما تستمع إلى نشرات الأخبار تجد أن أكثر البلدان العربية والإسلامية منشغلة بالنزاعات التافهة والمعارك الكلامية فيما بينها، يلقي بعضهم باللوم على البعض الآخر، من دون أن يخطو الخطوات اللازمة والحقيقية لإرجاع حق المسلمين في فلسطين، بل إن البعض إتجه بصورة مباشرة ليتفق مع إسرائيل(1)، والبعض الآخر يقدّم أفضل الخدمات لها بممارساته الظلم والاستبداد بالنسبة إلى الشعوب الإسلامية وقمع الكفاءات فيها مما يوجه الضربات القاسية على المسلمين وينهك قواهم.

ص: 101


1- اتفاقية (كامب ديفيد).

هذا ولا يخفى أن الإسلام كان أول من حذّر العرب والمسلمين قبل أربعةعشر قرناً من الزمان من الخطر اليهودي، وأول من تحدث عن بغضهم وحقدهم لكلّ ما يمت إلى الإسلام بصلة، حيث قال تبارك تعالى في كتابه الحكيم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ...}(1).

فقد وصف اللّه تعالى اليهود والمشركين بأنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، لأن اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين، مع أن المسلمين يؤمنون بنبوة موسى(عليه السلام) والتوراة الصحيح التي أتى بها، فكان المفروض أن يكون اليهود إلى من وافقهم في الإيمان بنبيهم وكتابهم أقرب، ولكنهم ظاهروا المشركين حسداً لنبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(2).

وهكذا نجد اليوم ممارسات إسرائيل المعادية للإسلام والمسلمين تجسّد هذه العداوة التي أشارت لها الآية الكريمة وبكل حقد، ولكن بعض المسلمين لم يستوعبوا هذا الأمر وتشاغلوا عنه بخلافاتهم وفرقتهم التي لا تخدم سوى أعداء الإسلام.

لذا يلزم علينا في المرحلة الأولى أن نتعاون مع بعض ثم نعمل بإخلاص، ولا ندع الأعداء يستفيدون من تفرقنا وتشرذمنا، ومن الواضح أن الشرق والغرب يخافون أشد الخوف من وحدتنا؛ لأنها تعني إنهاء سيطرتهم وتحكّمهم ببلادنا، أما تفرقنا فلا يخدم سوى مصالح عدونا.

وبهذا الصدد كان المرحوم كاشف الغطاء(رحمه اللّه)(3) وهو أحد العلماء الكبار

ص: 102


1- سورة المائدة، الآية: 82.
2- التبيان في تفسير القرآن 3: 614.
3- الشيخ محمد حسين بن علي آل كاشف الغطاء صاحب كتاب: (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) و(أصل الشيعة وأصولها).

- وكان في منتهى الشجاعة - يقول: بني الإسلام على أساسين: كلمة التوحيدوتوحيد الكلمة ولعل هذه هي خلاصة رسالة الإسلام في الحياة، ومع ذلك تركناها نحن وتمسك بها أعداؤنا، فتأخرنا وهوينا في مزالق مظلمة بينما تقدم العدو علينا.

الوحدة شعار الأنبياء^

يروى أن رجلاً مرّ بالمدينة المنورة في عهد الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ثم ذهب منها إلى بلاد الروم، فسأله ملك الروم: من هذا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي بُعث في الحجاز؟ وما هي أبرز مواقفه وأعماله؟

فقال الرجل: عندما اجتزت المدينة، سمعت أن قبيلتين فيها تسمى الأوس والخزرج(1) نشبت بينهما حرب طاحنة دامت مائة سنة، ولكن بجهود هذا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تم الصلح بينهما، بل وآخى بينهما.

فقال ملك الروم: إن هذا لنبي حقاً.

إن من عمل الأنبياء^ دائماً التوحيد والتأليف بين الناس، ومن عمل السلاطين والملوك هو التفرقة والمباعدة بين الناس، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم بقوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}(2)، وفي آية

ص: 103


1- الأوس والخزرج قبيلتان عربيتان من الأزد، وهم أبناء حارثة بن ثعلبة، ارتحلتا من اليمن إثر تصدع سد مأرب، فاستوطنوا المدينة المنورة، نصروا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآمنوا به، فسموا بالأنصار في قبال المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وكانت القبيلتان قبل الإسلام في حالة حرب ونزاع وتخاصم مستمرة ولأبسط الأسباب، وقد اشتهرت تلك الحروب بينهما حتى كانت لها أيام مشهورة عند العرب، منها: يوم الصفينة، وهو أول يوم جرت الحرب فيه، ويوم السرارة، ويوم وفاق بني خطمة، ويوم حاطب بن قيس، ويوم حضير الكتائب، ويوم أطم بني سالم، ويوم أبتروة، ويوم البقيع، ويوم مضرس ومعبس، ويوم الدار، ويوم بعاث الآخر، ويوم فجار الأنصار. وكانوا ينتقلون في هذه المواضع التي تعرف أيامهم بها، ويقتتلون قتالاً شديداً.
2- سورة القصص، الآية: 4.

أخرى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَيَفْعَلُونَ}(1).

وهكذا عرف ملك الروم وقال: إنه نبي لأنه أصلح بين قبيلتي الأوس والخزرج بعد مائة عام من الحرب. لأنه يعرف أخلاق الملوك وأنهم غالباً متسلطون على رقاب الناس ويعملون على إيجاد التفرقة وإيجاد التباغض بينهم، ويعرف أن الأنبياء^ صادقون؛ ويعملون ليل نهار في سبيل إيجاد روح المحبة والوئام، والوحدة والوفاق، ويستثمرون وحدة الناس لصالح الناس وسوقهم نحو الخير والفضيلة.

إذاً الوحدة والتعاون من أهم الأسس التي نحن بأمس الحاجة إليها في هذا الزمان المشحون بالحروب والأحقاد والضغائن.

إسلام الأوس والخزرج

روي أنه قدم أسعد بن زرارة، وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب، وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بُغاث(2)، وكانت الأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم، ولنا شغل لا نتفرغ لشيء.

ص: 104


1- سورة النمل، الآية: 34.
2- يوم بُغاث أو بُعاث، بضم الباء: يوم معروف، كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، هو من مشاهير أيام العرب، وبعاث: اسم حصن للأوس، انظر: لسان العرب 2: 117 مادة (بعث).

قال: وما شغلتكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟قال له عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول اللّه، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شباننا، وفرق جماعتنا.

فقال له أسعد: من هو منكم؟

قال: ابن عبد اللّه بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم - النظير وقريظة وقينقاع - أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب.

فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود، قال: فأين هو؟

قال: جالس في الحِجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم، فلا تسمع منه ولاتكلمه؛ فإنه ساحر يسحرك بكلامه. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر، لابد لي أن أطوف بالبيت؟ فقال: ضع في أذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشا أذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس في الحِجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني، أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا نعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم؟ ثم أخذ القطن من أذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنعم صباحاً. فرفع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأسه إليه، وقال: «قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم».

فقال له أسعد: إن عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمد؟

قال: «إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأني رسول اللّه، وأدعوكم {أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ

ص: 105

شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْالْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(1)».

فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأنك رسول اللّه، يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها اللّه بك فلا أجد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم اللّه لنا أمرنا فيك. واللّه يا رسول اللّه، لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد للّه الذي ساقني إليك، واللّه ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا، وقد أتانا اللّه بأفضل مما أتيت له.

ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد: هذا رسول اللّه الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلم وأسلم، فأسلم ذكوان، ثم قالا: يارسول اللّه، ابعث معنا رجلاً يعلّمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمصعب بن عمير، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم ولم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، وكان مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد، فأمره رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخروج مع أسعد، وقد كان تعلّم من القرآن كثيراً، فخرج هو مع أسعد إلى

ص: 106


1- سورة الأنعام، الآية: 151-152.

المدينة ومعهما مصعب بن عمير، وقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخبره، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان، وكان مصعب نازلاً على أسعد بنزرارة، وكان يخرج في كل يوم ويطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الإسلام فيجيبه الأحداث، وكان عبد اللّه بن أُبيّ شريفاً في الخزرج، وقد كان الأوس والخزرج اجتمعت على أن يملّكوه عليهم لشرفه وسخائه، وقد كانوا اتخذوا له إكليلاً احتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها، وذلك أنه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بغاث ولم يعن على الأوس، وقال: هذا ظلم منكم للأوس ولا أعين على الظلم، فرضيت به الأوس والخزرج، فلما قدم أسعد كره عبد اللّه ما جاء به أسعد وذكوان وفتر أمره.

فقال أسعد لمصعب: إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس، وهو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف، فإن دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا، فهلم نأتي محلتهم، فجاء مصعب مع أسعد إلى محلة سعد بن معاذ، فقعد على بئر من آبارهم، واجتمع إليه قوم من أحداثهم، وهو يقرأ عليهم القرآن، فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فقال لأسيد بن حضير وكان من أشرافهم: بلغني أن أبا أمامة أسعد بن زرارة قد جاء إلى محلتنا مع هذا القرشي يفسد شباننا، فأته وانهه عن ذلك.

فجاء أسيد بن حضير، فنظر إليه أسعد فقال لمصعب بن عمير: إن هذا الرجل شريف، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا، فأصدق اللّه فيه. فلما قرب أسيد منهم قال: يا أبا أمامة، يقول لك خالك: لا تأتنا في نادينا، ولا تفسد شباننا، واحذر الأوس على نفسك.

فقال مصعب: أو تجلس فنعرض عليك أمراً، فإن أحببته دخلت فيه، وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه. فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن. فقال: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟

ص: 107

قال: نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلي ركعتين. فرمى بنفسه مع ثيابه في البئر، ثم خرج وعصر ثوبه، ثم قال: أعرض عليّ، فعرض عليهشهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فقالها، ثم صلى ركعتين، ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا أبعث إليك الآن خالك وأحتال عليه في أن يجيئك.

فرجع أسيد إلى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: أقسم أن أسيداً قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا، فأتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب: {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}(1) فلما سمعها، قال مصعب: واللّه، لقد رأينا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، فبعث إلى منزله وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلى ركعتين، ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه وقال: أظهر أمرك ولا تهابنّ أحداً. ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح: يا بني عمرو بن عوف، لايبقينّ رجل ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبي إلّا أن يخرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب.

فلما اجتمعوا قال: كيف حالي عندكم؟

قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا، ولا نرد لك أمراً، فمرنا بما شئت.

فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم عليَّ حرام حتى تشهدوا: أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، والحمد للّه الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به. فما بقي دار من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلّا وفيها مسلم أو مسلمة، وحول مصعب بن عمير إليه وقال له: أظهر أمرك وادع الناس علانية. وأشاع الإسلام بالمدينة وكثر، ودخل فيه من البطنين جميعاً أشرافهم، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود.

ص: 108


1- سورة فصلت، الآية: 1-2.

وبلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام، وكتب إليه مصعب بذلك، وكان كل من دخل في الإسلام من قريش ضربه قومه وعذبوه،فكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأمرهم بالخروج إلى المدينة، وكانوا يتسللون رجلاً فرجلاً فيصيرون إلى المدينة فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم...(1).

اعتصموا بحبل اللّه

إن اللّه تعالى أمرنا في كتابه الحكيم بالتعاون والعمل، حيث قال عزّ وجلّ: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(2) وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(3).

كما أمرنا اللّه بالاتحاد والتآخي، ونهانا عن التفرقة ومعاداة بعضنا البعض؛ لذا علينا كمسلمين امتثال ذلك، فمن يخالف ويتخذ سياسة التفرقة والمعاداة بدل الاتحاد والتآخي، فليس هو من الإسلام في شيء، وعلى المسلمين معرفة ذلك كي لا تلتبس عليهم الأمور، فيخطط الأعداء لتمزيقهم وتشتيتهم.

قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(4).

قوله عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُواْ} أي: تمسكوا {بِحَبْلِ اللَّهِ} أي: دينه وقرآنه، شُبّه بالحبل لمناسبة أن من يتمسك بالحبل لا بدّ وأن يرتفع به للأعلى، وكذلك من يتمسك بالإيمان يصعد به في الدنيا إلى المراتب الراقية، وفي الآخرة إلى جنات

ص: 109


1- إعلام الورى بأعلام الهدى: 55.
2- سورة المائدة، الآية: 2.
3- سورة التوبة، الآية: 105.
4- سورة آل عمران، الآية: 103.

خالدة، وفي بعض الروايات أن حبل اللّه هم أهل البيت^ {جَمِيعًا} أي: جميعكم لا بعضكم دون بعض {وَلَا تَفَرَّقُواْ} بأن يتمسك البعض بحبل اللّه، والبعض بحبل الشيطان، وهذا تأكيد لقوله: (جَمِيعاً)، {وَاذْكُرُواْ} أي: تذكروا{نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً} قبل الإسلام يعادي بعضكم بعضاً {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} جعلها قريبة بعضها إلى بعض، حيث أدخل الإيمان فيها فخرج ما كان فيها من الضغينة والإحن والحسد والعداوة {فَأَصْبَحْتُم} أيها المسلمون {بِنِعْمَتِهِ} أي: بسبب نعمة الألفة التي وهبها اللّه إليكم {إِخْوَٰنًا} أحدكم أخ الآخر في الإيمان، له ما لأخيه وعليه ما عليه. وإن هذه النعمة قد خرقت المقاييس الجاهلية القبلية والعشائرية والعرقية والقومية وما أشبهها. وما ورد في بعض الأحاديث أن المراد من حبل اللّه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أو الأئمة^ أو القرآن، فإنما هي مصاديق جلية(1).

ورد عن ابن يزيد قال:سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن قوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}؟ قال: «علي بن أبي طالب حبل اللّه المتين»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «آل محمد^ هم حبل اللّه الذي أمرنا بالاعتصام به، فقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}»(3).

وفي (مجمع البيان) في تفسير الآية المباركة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ} قال: أي تمسكوا به، وقيل: امتنعوا به من غيره، وقيل في معنى حبل اللّه أقوال: أحدها أنه القرآن، عن أبي سعيد الخدري وعبد اللّه وقتادة والسدي.

ص: 110


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 1: 374.
2- تفسير العياشي 1: 194.
3- تفسير العياشي 1: 194.

وثانيها: إنه دين اللّه الإسلام.

وثالثها: ما رواه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد(عليهما السلام) قال: «نحن حبل اللّه الذي قال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}.

والأَولى حمله على الجميع، والذي يؤيده ما رواه أبو سعيد الخدري، عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «أيها الناس، إني قد تركت فيكم حبلين، إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». {وَلَا تَفَرَّقُواْ} معناه: ولا تتفرقوا عن دين اللّه الذي أمركم فيه بلزوم الجماعة والائتلاف على الطاعة، واثبتوا عليه. وقيل: معناه لا تتفرقوا عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وقيل: عن القرآن بترك العمل به. {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} قيل: أراد ما كان بين الأوس والخزرج، من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة، إلى أن ألّف اللّه بين قلوبهم بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد. وقيل: هو ما كان بين مشركي العرب من الطوائل.

والمعنى: احفظوا نعمة اللّه ومنته عليكم بالإسلام وبالائتلاف، ورفع ما كان بينكم من التنازع والاختلاف، فهذا هو النفع الحاصل لكم في العاجل، مع ما أعدّ لكم من الثواب الجزيل في الآجل؛ إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم بجمعكم على الإسلام، ورفع البغضاء والشحناء عن قلوبكم.

{فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ} أي: بنعمة اللّه {إِخْوَٰنًا} متواصلين، وأحباباً متحابين بعد أن كنتم متحاربين متعادين، وصرتم بحيث يقصد كل واحد منكم مراد الآخرين، لأن أصل الأخ من توخيت الشيء: إذا قصدته وطلبته. {وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ} أي: وكنتم يا أصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على طرف حفرة من جهنم، لم يكن

ص: 111

بينها وبينكم إلّا الموت، فأنقذكم اللّه منها بأن أرسل إليكم رسولاً، وهداكم للإيمان، ودعاكم إليه، فنجوتم بإجابته من النار. وإنما قال: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} وإن لم يكونوافيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها، من حيث كانوا مستحقين لدخولها(1).

وحدة الأعداء وفرقتنا

لا شك أن الوحدة أساس القوة والتقدم والتعاون والعمل، كما أن الفرقة تشكل العامل الأكبر للنكبات والهزائم التي تصيب الأمة، وليس على المسلمين إلّا أن يتحدوا لصد الهجمة الاستعمارية الواسعة التي تشن من مختلف الأطراف وبمختلف الأشكال، لإبادة الروح الإسلامية والقضاء على مبادئ الإسلام، وتعزيز السيطرة الاستعمارية، وفرض الوصاية وتمزيق الأمة الإسلامية.

فالوحدة تمثل حشداً للطاقات وتوجيهها باتجاه واحد يمنح الأمة قوتها الحقيقية.

والذي حصل للمسلمين أن أعداءهم وحّدوا جهودهم ضدهم، لأنهم أدركوا أن وحدتهم وحشد طاقاتهم تمكّنهم من السيطرة على المسلمين، وتمثل تمركزاً لقوتهم باتجاه القضاء على حركة الأمة الإسلامية ومقدّراتها.

فكانت الوحدة شعاراً عملياً لأعدائنا على اختلاف اتجاهاتهم ونواياهم ليتمكنوا من مواجهتنا وتفتيت مجتمعنا، والقضاء على روابطنا الدينية والاجتماعية، وحتى الأسرية، على عكسنا نحن المسلمين إذ ازددنا فرقةً وتناحراً في الوقت الذي اتحدّ فيه أعداؤنا من الكفار والمشركين أو أعداؤنا من الداخل، كبعض حكام بلادنا المستبدين الذين لا همّ لهم سوى البقاء على سدة الحكم

ص: 112


1- تفسير مجمع البيان 2: 356.

تحت مختلف الواجهات.

فأحدهم يدعي أنه: (منقذ الأمة العربية وأملها)!!

والآخر: (منقذ الدين الإسلامي والمسلمين)!!وقد يجعلون لأنفسهم واجهات من الشعارات الديمقراطية أو الاشتراكية أو الرأسمالية أو الإسلامية أو غيرها.

ومن حكام الدول العربية اليوم من يدّعي أنه يمثل: (قيادة القومية العربية)(1)، وفي الوقت نفسه نجده أشد خطراً وفتكاً على العرب من أعدائهم الآخرين.

والبعض الآخر من الحكام يدعي أنه: (حامي حمى الإسلام) في حين نجده يعتنق مذهباً من أشد المذاهب تعصباً وإثارة للتفرقة وطمس مبادئ الإسلام(2).

وكل هؤلاء الأعداء نجدهم يجلسون مع بعضهم البعض ويتحدثون وكأنهم أصدقاء على اختلاف اتجاهاتهم وأنظمتهم، لأن مصالحهم واحدة وهي القضاء على قوة الإسلام والمسلمين.

لذلك يلزم علينا أن ندرك الخطر الذي يأتينا من كل صوب ومكان، وعلينا أن نعلم كيف أن الرأسمالية التي تعتقد بأن المال هو أساس الحياة، أصبحت تتحد مع الشيوعية التي تناقضها وتعتقد خلاف ما تعتقده الرأسمالية، أصبح كل منهما حليفاً متعاوناً مع الآخر لضرب الإسلام والمسلمين. ذلك لأنهم تيقنوا بأن مصالحهم واحدة تكمن في استغلالنا ومحاربة تطورنا واستقلالنا؟

نقل عن بعض الذين يعملون في قطاع الثقافة الوطنية: أن هناك سبعين محطة راديو غربية وشرقية، عملها فقط النيل من الدول الإسلامية ومبادئ الإسلام!!

ص: 113


1- يشير الإمام الراحل(رحمه اللّه) إلى الطاغية المدحور صدام التكريتي، طاغوت العراق المخلوع.
2- إشارة إلى نظام آل سعود الذين تحالفوا مع مؤسس مذهب الوهابية، واتخذوه كمذهب مفروض على الدولة.

لذا لابد لنا أن نبذل ما بوسعنا وبكل ما استطعنا أن ننسجم ونتوحد لأن عدونا يستهدفنا جميعاً بلا تمييز، ولا يمكننا مواجهته بدون الوحدة والتعاون، وعلينا أن ننبذ الصراعات والخلافات الجانبية امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُوَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(1)، أي: تتبدّد صولتكم وقوتكم نتيجة فرقتكم ونزاعكم.

اليهود في بغداد

هناك قصة عن يهود العراق، وهي وإن كانت قصيرة إلّا أنها ذات دلالة كبيرة تدل على مدى تعاونهم فيما بينهم وعملهم الدؤوب، فقد كان اليهود في بغداد من التجار الكبار، وكانوا من الطبقة الراقية المترفة، بحيث لا يوجد بينهم فقير واحد آنذاك. وإذا أصاب الإفلاس أحدهم لم يكونوا يدعون أحداً يعرف بذلك ويسارعون للاجتماع حوله وينجونه من ورطته.

وفي أحد أهم الأسواق التجارية الكبرى في العراق وهو سوق (الشورجة) أعلن أحد التجار اليهود إفلاسه، فما كان من التجار اليهود إلّا أن اجتمعوا وقرروا إعطاءه سلعة من السلع وجعلوه ينفرد ببيعها واستيرادها ولمدة ستة أشهر، على أن لا يحق لأي تاجر آخر أن يتعامل بها لا استيراداً ولا بيعاً. وبالفعل فقد تم له ذلك، فعادت أموال هذا التاجر كما كانت، وعاد له نشاطه التجاري ومكانته المالية في السوق، وفي النهاية أنقذوا ذلك التاجر اليهودي من إفلاسه.

وفي طهران

وهناك قصة أخرى مشابهة حدثت في طهران، حيث إن أحد اليهود التجار في طهران انتشر خبر إفلاسه، فسارع الدائنون بتقديم الشكاوى ضده إلى المحكمة،

ص: 114


1- سورة الأنفال، الآية: 46.

وقرّرت المحكمة أن ترسل لجنة لحجر أمواله كالدكان والبيت والبستان، ولتبيعها وتعطي الدائنين حقهم.

وفي ليل ذلك اليوم اجتمع عشرة من كبار التجار اليهود وجاؤوا إلى دار ذلكاليهودي سائلين منه بأنه كيف أفلس وخسر أمواله؟ وبعد أن بين لهم ذلك، قالوا له: وكم أنت مدين للآخرين؟ قال: (ستة ملايين تومان) فقام التجار بكتابة شيكٍ بستة ملايين تومان، وقالوا له: تذهب غداً في الصباح الباكر إلى المصرف، وتستلم هذا المبلغ على أن تحوله إلى حسابك الخاص، ثم عد واجلس في دكانك وكل ما أتى دائن اكتب له شيكاً بالمبلغ الذي أنت مدين له به وسدّد دينك كله هكذا، وسنزورك في مساء يوم غد ونرى ماذا فعلت؟

وبالفعل قام اليهودي بما طلبوا منه، فوضع ذلك المبلغ في حسابه الخاص، ثم عاد وجلس في دكانه، ولما جاءه الدائنون يطالبون بأموالهم بالصياح والزعيق والمشاجرة، قال لهم بهدوء: ما الخبر؟

قالوا: عرفنا أنك أعلنت إفلاسك، ونحن نريد أموالنا.

فسأل أحدهم: كم تطلب يا هذا؟

قال له: أطلب مائة ألف تومان، فأخرج اليهودي الصك على الفور، وكتب له بمائة ألف تومان.

وهنا سخر الدائنون جميعاً وكانوا يقولون: هذا التاجر وبعد أن أعلن إفلاسه أخذ يكتب صكوكاً بلا رصيد؟ إلّا أن اليهودي قال لهم وبكل ثقة: اذهبوا إلى المصرف فإن لم يكن في حسابي أموال، ارجعوا حينذاك وتكلموا ما شئتم.

فراح الدائن الأول إلى المصرف وسلّم الصك واستلم مبلغه وعاد، ثم ذهب الثاني، وهكذا الثالث، وكثير منهم!

هنا توقف الدائنون مذهولين قائلين: اذاً خبر الإفلاس لهذا التاجر لا صحة له،

ص: 115

وهو لم يخسر أمواله. فرجع أكثرهم إليه وأعادوا ما أخذوه من مال، كما أن بقية الدائنين والذين كان من المتوقع أن يأتوا ويطالبوا بأموالهم، اقتنعوا بأقوال الدائنين الأوائل ولم يأت منهم أحد! وبعد كل هذا فإن التاجر المفلس لم ينقص من مبلغستة ملايين تومان الذي أودع عنده إلّا نصف مليون واحتفظ بالباقي كله.

وفي المساء جاءه أصدقاؤه من التجار اليهود إلى داره، فقام بدوره وسلّمهم ما تبقى من المبلغ (أي: خمسة ملايين تومان ونصف المليون)، حينذاك قالوا له: إنك تستطيع أن ترجع لنا ما بذمتك متى ما شئت.

والنتيجة: إن هذا اليهودي الذي أعلن إفلاسه قد خرج من محنته دون أن يعلم الآخرون بها، بسبب التعاون وجمع الكلمة والعمل الدؤوب.

وعلى ضوء هذا، نحن المسلمين بحاجة ماسة إلى مثل هذه المواقف من التكاتف والتلاحم والتعاون والعمل، فإن اليهود بالرغم من انحرافهم، وابتعادهم عن الحق، ومعاداتهم للإسلام والمسلمين - قديماً وحديثاً - كيف يتعاملون مع بعضهم ويقف أحدهم في مساندة الآخر؟ ولكن بعضنا كيف يتعامل مع أخوته المسلمين الآخرين؟

الحال المعكوس

إن حال كثير من المسلمين على العكس تماماً، أذكر لكم قصةً معاكسةً لهاتين القصّتين، والتي اطلعت عليها بنفسي، فإنها مع كونها قصة قصيرة إلّا أنها تستحق التوقف عندها، ودراسة أسبابها وسبل معالجتها.

حينما كنا في كربلاء المقدسة، وفي أحد الأيام كنت راجعاً من الصلاة قاصداً المنزل، رأيتُ امرأة واقفة على باب دارنا، وحينما رأتني تقدمت وناولتني رسالة، وعندما قرأت تلك الرسالة وجدت أن بعضاً من علماء بغداد قد كتبوا أن هذه المرأة وزوجها وفقوا لنيل شرف الإسلام بعد أن كانوا على دين المسيحية.

ص: 116

فسألتها: ماذا تريدين؟

قالت: منذ سنة اعتنقت الإسلام أنا وزوجي ولنا خمسة أطفال، وبعد ستة أشهر من اعتناقنا الإسلام مرض زوجي وفارق الحياة، فاضطررت لبيع كل ما كانعندي من الحلي الذهبية، وأنفقتها على أولادي؛ لأنهم صغار ولا أحد يقدر على كفالتهم، وبعد مدة نفذ ما كان عندي من مال ومدخرات ولم يبق منها شيء، فاضطررت على الذهاب إلى الكنيسة، حيث كان فيها صندوق خيري (وكان المتعارف عندهم إذا أتاهم نصراني مريض أو فقير وثبت ذلك لهم بشواهد بسيطة فإنهم يقدمون له مساعدة مالية جيدة)، وعندما ذهبت إلى الكنيسة قالوا لي: إنك لا تستحقين مساعدة من قبلنا بعد إسلامك؛ لأنك أصبحت مسلمة، فاذهبي للمسلمين لكي يعطوك! إلى أن قالت: عدت ولم تسمح لي نفسي أن أذهب لأحد وأقول له ذلك، فقررت بيع ما كل ما أملك من أثاث البيت لأنفقها على أطفالي، وأنا الآن أواجه مشكلة أكبر من هذا كله، وهي إني لم أكن أقدر على تسديد ما بذمتي من إيجار الدار ولمدة ستة أشهر حتى تراكم المبلغ وصار (90) ديناراً، والآن جاء صاحب الدار وأبلغني منذراً: إذا لم تدفعي الإيجار فإني سأقوم ببيع ما تبقى من أثاث بيتك واستوفي المبلغ، وأطردك خارج الدار، فلا أدري ماذا أفعل، وأنا أعيل هؤلاء الأطفال؟!

وكانت تقول هذا وهي تبكي بحرقة.

فتأثرت كثيراً لها وسألتها: ألم تذهبي - في بغداد - إلى من يعينك؟

قالت: نعم، ذهبت لبعض الناس وكان مجموع ما أعطوني هو خمسة دنانير، وقد طردني بعضهم وأهانني، وقال لي البعض الآخر: أنت تعتنقين الإسلام كذباً!، وأخيراً أشار عليّ أحد الناس: أن أعرض حاجتي عليكم لكي تجدوا لي حلاً.

ص: 117

فأعطيتها مقداراً من المال وذهبت.

ولكن هذا الموقف بقي في بالي حتى الآن، فلماذا نحن هكذا؟!

عندما يأتي مسيحي ويختار دين الإسلام، بدلاً من أن نريه خير الإسلامورحمته وعطفه ومحبته، نتركه بوضع كهذا؟ فهل سيرغب مسيحي آخر - لو تصرفنا بمثل هذه المعاملة التي لاقتها هذه المرأة - ليعتنق الإسلام؟

وهل هذا الموقف منا ينسجم مع موقف أمير المؤمنين(عليه السلام) في الكوفة، حيث روي أنه: مر شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما هذا؟!». فقالوا: يا أمير المؤمنين، نصراني.

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟! أنفقوا عليه من بيت المال»(1).

نعم، هكذا كان أمير المؤمنين(عليه السلام) وهكذا أمر شيعته ومواليه!

وللأسف إننا تركنا ما أمرنا به الإسلام من التعاون والعمل، لكن اليهود مع قلتهم متكاتفون متحدون، ونحن مع كثرتنا مختلفون ومتشتتون، وكل الذي بيننا هو التناحر والصدامات، وقد أوصى أئمتنا^ بإرضاء السائل ولو بالكلمة الطيبة.

ولو كنّا متفاهمين ومتحدين ويتفقد بعضنا الآخر، وكانت لدينا مؤسسات خدمية وصناديق خيرية وقروض شرعية ومعونات إنسانية لمساعدة المحتاجين، وكنّا نعمل بإخلاص لحل مشاكلنا وخلافاتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، لما بقيت لنا مشاكل، ولتقدمنا وتطورنا، فإن الإسلام دين التقدم والتطور.

إن علينا نحن المسلمين أن نعمل من أجل رفاه الناس، ولا يمكن ذلك إلّا عن طريق توحيد الصفوف والحث على التعاون والعمل والتنسيق.

ص: 118


1- تهذيب الأحكام 6: 293.
غاندي والعمل والتعاون

أخذ غاندي رجل الهند الشهير بأسس التقدم، من التعاون والعمل الدؤوب، حيث قام بمقاطعة البضائع الأجنبية، وتحريم استخدام وارتداء الملابس غيرالوطنية، وكان تعداد سكان الهند آنذاك حوالي (450) مليون نسمة(1) (مع أن الهند لم تكن تملك سلاحاً متطوراً بل كانت تحت حظر التسليح) وكانت تواجه أكبر إمبرواطورية في العالم أي بريطانيا المجهزة بالأسلحة المتطورة، وكانت بريطانيا في ذلك اليوم امبراطورية لا تغيب عنها الشمس كما يقولون، فأمر غاندي شعبه بأن لا يلبسوا الملابس الأجنبية أبداً، وشجع عوضاً عن ذلك بحياكة ونسج الملابس يدوياً.

فنلاحظ أن دولة كان تعداد سكانها (450) مليون نسمة، وهم بحاجة إلى الملابس الصيفية والشتوية، كم يستلزم من الوقت لكي يزرعوا وينتجوا محاصيل القطن، ثم يصنعوها ثم يرتدوها.

ولكن هذا الشعب - وبعدما أصدر غاندي قراره وأخذ مغزلاً بيده وهيأ لباسه لوحده - امتثل لهذا الأمر، ومنذ ذلك اليوم الذي أعلن فيه تحريم الملابس الأجنبية أصبح الشعب الهندي لا يرتدي تلك الملابس أبداً، وذلك لمجرد أن زعيمهم حرّمها، على الرغم من أن بريطانيا وضعت الهند تحت مختلف الضغوط إلّا أن الشعب الهندي لم يرضخ لها أبداً، وكان هذا الإجراء قد أثر على اقتصاد بريطانيا تأثيراً بالغاً حتى أعجزهم. وكانت النساء الهنديات يقضين الليل بغزل ألياف القطن والكتان، وكان المغزل يلاحظ في أغلب صور الزعيم الهندي حينذاك.

ص: 119


1- تشير بعض الإحصاءات الأخيرة إلى أن نفوس الهند بلغت ما يقرب من مليار وأربعمائة مليون نسمة في سنة (2018م).

وبهذا الأسلوب وغيره، وعبر التعاون والعمل، استطاع غاندي أن يحرر الهند من الاستعمار الإنجليزي؛ لأنه دخل ميدان العمل الفعلي - وليس الشعارات فقط -بكل قواه والتف حوله الشعب بكل أصنافه ودياناته وعقائده، وآزره وتلاحم معه، وهذا التجمع والوحدة والتعاون والعمل الذي سعى إليه غاندي كان هو السر في تحرير الهند آنذاك؛ لأن التعاون والروح الجماعية والألفة قوة معنوية، والقوة المعنوية تفوق القوى المادية.

أما الإنسان الذي لا يعمل ولا يتعاون لا يستطيع أن يتقدم؛ لأن النتائج الإيجابية دائماً مرتبطة بالعمل وليست بالتقاعس أو الأماني، فإن: «الأماني شيمة الحمقى»(1)

كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام).

وقال(عليه السلام): «الأمل سلطان الشياطين على قلوب الغافلين»(2).

وفي القرآن الحكيم: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَىٰهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العمل رفيق الموقن»(4).

وقال(عليه السلام):

«لو كان هذا العلم يحصل بالمنُى *** ما كان يبقى في البرية جاهل

اجهد ولا تكسل ولا تك غافلاً *** فندامة العقبى لمن يتكاسل»(5)

فلابد من العمل والتعاون لا العمل الفردي، فإن العمل الجماعي أبلغ لوصول

ص: 120


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 33
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 98.
3- سورة النجم، الآية: 39-41.
4- غرر الحكم ودرر الكلم 54.
5- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 334.

الغايات والأهداف، قال(عليه السلام): «يد اللّه مع الجماعة»(1).

وقفة أُخرى مع غاندي

عندما سافر غاندي إلى لندن بدعوة من بريطانيا ذهب ومعه عنزته، لأنه حين مرضه كان يتغذى على حليبها، وقد ذهب بهذه الهيئة وجلس مع اللوردات(2) وهم الذين يخططون ويتصدون لسياسة الإمبراطورية البريطانية، وكل ما أرادوا أن يقنعوا غاندي على التراجع عن قراره بمقاطعة البضائع الإنجليزية لم يتمكنوا، فقد أصرّ على قوله: يجب أن لاتتدخل بريطانيا في بلدي، بل رفض هناك أن يأكل الطعام الإنجليزي، فقد كان يتناول وجباته من لبن معزته، وذلك لكي يبين لهم إصراره وثباته على هذا الموقف.

وأراد اللوردات أن يدخلوا إليه من باب العاطفة فقالوا له: إن أهالي مانشستر، وجهوا لك دعوة لزيارة مدينتهم، فقال غاندي: لا مانع من ذلك، وعندما وصل إلى مدخل المدينة، وجد أن هناك جمعاً غفيراً من الناس قد اصطفوا على جانبي الطريق لرؤيته، وفي نهاية الطريق كانت هناك ساحة عامة، وبمجرد وصوله حضر ذلك الجمع من الناس حوله، ثم تحدث أحدهم باسم الجميع مخاطباً غاندي: أترى هذا الجمع الكثير من الناس؟

قال غاندي: نعم؟

فقال: أتعرف عددهم؟

قال غاندي: لا.

فقال الإنجليزي: إن عددهم 250 ألف شخص، أتعلم أنك قطعت الخبز عن

ص: 121


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 127 من خطبة له(عليه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين... .
2- يعتبر مجلس اللوردات ثاني المجالس البرلمانية للمملكة المتحدة بريطانيا.

هؤلاء؛ لأنهم جميعاً من عمال معامل الغزل والنسيج الذي كان يصدر إلى الهند، وهم الآن عاطلون عن العمل، فهل ترضى بذلك؟فأجابه غاندي قائلاً: كم عددهم؟

قال: 250 ألف شخص.

فسأله غاندي أيضاً: هل هؤلاء العمال ينامون جياعاً طوال الليل منذ أن حرمت الهند من استيراد الأقمشة من المعامل التي يديرها هؤلاء العمال؟

فقال الإنجليزي: لا، لأن أصحاب المعامل ملزمون بإعطاء العامل نصف راتبه في حالة توقف المعمل عن الإنتاج.

فسأله غاندي: هل هؤلاء العمال لا يملكون من الملابس ما يقيهم البرد القارص؟

قال: لا.

فقال غاندي: هل ينامون في الأزقة والشوارع؟

قال: لا، بل ينامون في معاملهم، أو بيوتهم.

قال له غاندي: إذاً ما الذي حصل لهم؟

فقال له الإنجليزي: خسارتان: خسارة أصحاب المعامل، والضائقة المادية التي يعاني منها هؤلاء العمال.

فقال غاندي: ليأتي هؤلاء العمال ال-250 ألف شخص وليشاهدوا الهند، فإن هناك عشرات الملايين من الناس يقضون الليل جياعاً، وإن الملايين منهم يفترشون الأرض وينامون في الأزقة والشوارع بدون سكن يأويهم، والآن أنتم تريدون أن تؤثروا على مشاعري فأساوي عمالكم هؤلاء بأولئك الملايين الذين ينامون جياعاً في الشوارع، في حين أن عمالكم - إن كانوا قد تضرّروا حقاً - فهم تضرّروا بضياع نصف رواتبهم فقط، وبسبب السياسات التجارية الجائرة مع

ص: 122

الشعوب الفقيرة، فهل أنتم أنفسكم ترضون بهذا الأمر؟ أنا أريد أن أحقق لبلدي استقلالاً اقتصادياً لكي لا نحتاج إلى ملابسكم، فنضطر لإخراج الأموال الطائلةمن بلادنا، نحن نريد أن نصنع ملابسنا بأيدينا، نحن نريد أن نزرع، نريد أن تكون لنا ثروة حيوانية مستقلة، كما إننا نريد الحصول على حقوقنا المشروعة ولم نأت إليكم لنعتدي عليكم، بل أنتم الذين جئتم للتسلط على بلادنا وشعبنا وإخضاعنا ونهب ثرواتنا.

دَور الأمّة

اشارة

وهنا لا بدّ أن نعرف من الذي وقف إلى جانب غاندي: الجواب: إن الذين وقفوا إلى جنبه ونصروه هم شعب الهند بكامله، فهم الذين قضوا الليالي الطوال حتى الصباح في الغزل وحياكة الملابس، ولو أن غاندي ألزمهم بتحريم الملابس الأجنبية ولم ينصاعوا له، فهل كانوا يحصلون على الاستقلال؟

ومن هنا يتبين أن روح المبادرة والتعاون يلزم أن تبادر لها الأمة وتصبح ظاهرة عامة؛ إذ لا يمكن للزعماء مهما أوتوا من قوة ونبوغ تحقيق أهداف الأمة بمعزل عنها. فلا بد أن تأخذ الأمة دورها في العمل وتسجل حضوراً دائماً في كافة الميادين، لتحقق النصر والتقدم، أما الأمة التي لا تعمل فهي في طريقها للسقوط والانهيار.

ولا يخفى أن الأمة بما هي أمة ليست مصدر القوة، بل الأمة وهي متحدة ومتعاونة ومتلاحمة وعاملة ونشطة، أساس القوة والقدرة.

العلاج من داخل الأمة

العلاج الرئيسي للمشاكل التي يعاني منها المجتمع الإسلامي هو بأيدينا نحن المسلمين، فلا يمكننا أن ننتظر أحداً غيرنا يأتي ليحل لنا مشاكلنا؛ فذلك خلاف

ص: 123

العقل والمنطق؛ إذ حينما انتشر الإسلام في زمن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان المسلمون هم الذين يتحملون العبء الأكبر ويجدون الحل لمشكلاتهم بأنفسهم، وبالتالي همالذين أخذوا على عاتقهم نشر الإسلام وازدهار الحضارة الإسلامية.

المعصومون^ أسوة في التعامل والعمل

ولننظر إلى حياة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام) ونأخذ الدروس والعبر منها، فقد تزوّجت(عليها السلام) وهي في عمر يقارب عشر سنوات، وظلت تتعهد إدارة المنزل لمدة ثماني سنوات حتى استشهدت مظلومة شهيدة، وكانت(عليها السلام) في حياتها تغزل وتخيط وتطحن حتى تدمى يداها، وكانت(عليها السلام) تعجن وتخبز، وكذلك كانت تقوم بتربية أطفالها على أحسن وجه، وكانت تستخرج الماء من البئر بنفسها، وكل هذه الأعمال مع أنها أنجبت خمسة أطفال؛ لذلك هي(عليها السلام) أعظم أسوة لنا جميعاً، ولنسائنا خاصة، في التعاون والعمل وتحمل الصعاب والمشاكل في سبيل اللّه عزّ وجلّ.

روي عن أبي سعيد الخدري، قال: أصبح علي بن أبي طالب(عليه السلام) ذات يوم ساغباً(1)، فقال: «يا فاطمة، هل عندك شيء تطعميني؟».

قالت(عليها السلام): «لا، والذي أكرم أبي بالنبوة وأكرمك بالوصية، ما أصبح عندي شيء يطعمه بشر، وما كان من شيء أطعمك منذ يومين إلّا شيء كنت أُوثرك به على نفسي، وعلى الحسن والحسين».

قال(عليه السلام): «أعلى الصبيّين! ألا أعلمتني فآتيكم بشيء»؟

فقالت: «يا أبا الحسن: إني لأستحيي من إلهي أن أكلّفك ما لا تقدر»(2).

ص: 124


1- ساغباً: أي جائعاً.
2- الأمالي للطوسي: 616.

وعن الإمام الباقر(عليه السلام): «تقاضى علي وفاطمة إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في الخدمة، فقضى على فاطمة بخدمة ما دون الباب، وقضى على علي ماخلفه، قال: فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلّا اللّه بإكفائي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) تحمل رقاب الرجال»(1).

وعن سلمان (رضوان اللّه عليه) قال: كانت فاطمة(عليها السلام) جالسة قدامها رحى تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دم سائل، والحسين(عليه السلام) في ناحية الدار يبكي، فقلت: يا بنت رسول اللّه، دَبِرَت(2) كفاك وهذه فضة؟! فقالت(عليها السلام): «أوصاني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن تكون الخدمة لها يوماً ولي يوماً، فكان أمس يوم خدمتها».

قال سلمان: إني مولى عتاقة، إما أن أطحن الشعير، أو أسكت لك الحسين(عليه السلام)؟ فقالت: «أنا بتسكيته أرفق، وأنت تطحن الشعير»، فطحنت شيئاً من الشعير، فإذا أنا بالإقامة، فمضيت وصليت مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلما فرغت، قلت لعلي(عليه السلام) ما رأيت، فبكى وخرج، ثم عاد يتبسم، فسأله عن ذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ قال: «دخلت على فاطمة(عليها السلام) وهي مستلقية لقفاها والحسين(عليه السلام) نائم على صدرها وقدامها الرحى تدور من غير يد» فتبسم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)وقال: «يا علي، أما علمت أن للّه ملائكة سيارة في الأرض يخدمون محمداً وآل محمد إلى أن تقوم الساعة»(3).

وروي أنه دخل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على علي فوجده هو وفاطمة(عليهما السلام) يطحنان في الجاروش، فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيكما أعيا؟».

ص: 125


1- قرب الإسناد: 52.
2- الدَّبَر بالتحريك كالجراحة تحدث من الرجل ونحوه.
3- الخرائج والجرائح 2: 530.

فقال علي(عليه السلام): «فاطمة، يا رسول اللّه».

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها: «قومي يا بنية»، فقامت وجلس النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) موضعها مع علي(عليه السلام) فواساه في طحن الحب(1).وروي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لرجل من بني سعد: «ألا أحدثك عني وعن فاطمة الزهراء(عليها السلام)؟ إنها كانت عندي فاستقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضر شديد. فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل؟ فأتت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوجدت عنده حداثاً فاستحيت فانصرفت. فعلم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنها قد جاءت لحاجة فغدا علينا... ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟... فقلت: أنا واللّه أخبرك يا رسول اللّه، إنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وجرَّت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت(2) البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت(3) ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم، إذا أخذتما منامكما، فكبّرا أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدة.

فقالت فاطمة(عليها السلام): رضيتُ عن اللّه وعن رسوله، رضيتُ عن اللّه وعن

ص: 126


1- بحار الأنوار 43: 51.
2- مجلت يداها أي ظهر فها المجل، وهو ما يكون بين الجلد واللحم من كثرة العمل الشاق، والمجلة القشرة الرقيقة التي يجتمع فيها ماءٌ من أثر العمل الشاق، وكسح: كنس.
3- الدكنة: لون يضرب إلى السواد.

رسوله»(1).

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) عن جابر الأنصاري: «أنه رأى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)فاطمة(عليها السلام) وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال: يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: يا رسول اللّه، الحمد للّه على نعمائه والشكر للّه على آلائه، فأنزل اللّه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ}(2)»(3).

وهكذا يلزم علينا جميعاً التعاون والعمل ومضاعفة الجهود من أجل توثيق روابط الأخوة والوحدة بين المسلمين لكي تتقدم الأمة نحو سعادة الدنيا والآخرة وذلك عن طريق العمل الصالح المثمر المستمر. ولتكن هذه الأهداف العليا فوق المصالح الضيقة والنظرات القاصرة، ولنقتد في عملنا بأهل البيت الأطهار^.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ تُعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(4).

من هدي القرآن الحكيم

واعتصموا بحبل اللّه

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ

ص: 127


1- من لا يحضره الفقيه 1: 320.
2- سورة الضحى، الآية: 5.
3- المناقب 3: 342.
4- الكافي 3: 424.

كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْعَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(3).

الوحدة شعار الأنبياء^

قال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَٰتِ وَاعْمَلُواْ صَٰلِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(4).

وقال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(5).

اليهود أعداء المؤمنين

قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(6).

وقال جلّ وعلا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا

ص: 128


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- سورة الأنعام، الآية: 153.
3- سورة الحجرات، الآية: 10.
4- سورة المؤمنون، الآية: 51-52.
5- سورة الأنبياء، الآية: 92.
6- سورة المائدة، الآية: 51.
7- سورة المائدة، الآية: 82.

كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

تعاونوا على البر والتقوى

تعاونوا على البر والتقوىقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم اللّه عزّ وجلّ: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}»(2)(3)

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «وليعن بعضكم بعضاً فإن أبانا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يقول: إن معاونة المسلم خير وأعظم أجراً من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أربعة من أخلاق الأنبياء: البر والسخاء والصبر على النائبة والقيام بحق المؤمن»(5).

وعن أبي إسماعيل قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): جُعلت فداك، إن الشيعة عندنا كثير، فقال: «فهل يعطف الغني على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء؟ ويتواسون؟» فقلت: لا، فقال(عليه السلام): «ليس هؤلاء شيعة؛ الشيعة من يفعل هذا»(6).

ذم الخصومة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصّر فيها ظلم، ولا

ص: 129


1- سورة آل عمران، الآية: 67.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- الكافي 2: 175.
4- الكافي 8: 9.
5- تحف العقول: 375.
6- الكافي 2: 173.

يستطيع أن يتقي اللّه من خاصم»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لا يخاصم إلّا شاك في دينه أو من لا ورع له»(2). وقالالإمام الباقر(عليه السلام): «إياك والخصومات، فإنها تورث الشك، وتحبط العمل، وتردي صاحبها، وعسى أن يتكلم الرجل بالشيء لايُغفر له»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إياكم والخصومة، فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق، وتكسب الضغائن»(4).

وحدة المجتمع الإسلامي

قال الإمام السجاد(عليه السلام) في رسالة الحقوق: «وأما حق أهل ملتك عامة فإضمار السلامة ونشر جناح الرحمة والرفق بمسيئهم وتألفهم واستصلاحهم وشكر محسنهم»(5).

وقال(عليه السلام): «يا زهريُّ! أما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك، وتجعل تِرْبَكَ(6) منهم بمنزلة أخيك. فأي هؤلاء تحب أن تظلم؟ وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه؟ وأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره؟»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمنون في تبارّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل

ص: 130


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 298.
2- التوحيد: 460.
3- الأمالي للصدوق: 417.
4- الكافي 2: 301.
5- تحف العقول: 271.
6- التِرب بالكسر، من وُلد معه.
7- الاحتجاج 2: 320.

الجسد إذا اشتكى تداعى له سائره بالسهر والحمى»(1).

ذم الخلاف والفرقة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الأمور المنتظمة يفسدها الخلاف»(2).

وقال(عليه السلام): «إلزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة»(3).

وقال(عليه السلام): «عرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة»(4).

وقال(عليه السلام): «من نكد الدنيا تنغيص الاجتماع بالفرقة، والسرور بالغصّة»(5).

وقال(عليه السلام): «سبب الفرقة الاختلاف»(6).

وقال(عليه السلام): «الخلاف يهدم الآراء»(7).

ص: 131


1- المؤمن: 39.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 63.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 5، ومن خطبة له(عليه السلام) لما قبض رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 675.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 396.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 58.

التهجير جناية العصر

جريمة التهجير

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}(1).

لتوضيح الآية المباركة نقول: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} إلى المدينة {وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ} أخرجهم المشركون من مكة، والآية عامة لكل مهاجر من دياره، ومخرج من بلاده {وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي} لأنهم آمنوا وأطاعوا {وَقَٰتَلُواْ} لأجل اللّه سبحانه {وَقُتِلُواْ} قتلهم الكفار {لَأُكَفِّرَنَّ} أي: أمحونّ {عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ} فلا آخذهم بها {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ} أي تحت نخيلها وقصورها {ثَوَابًا} أي: جزاءً لهم {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} على أعمالهم ومشاقهم في سبيله {وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} أي: الجزاء الحسن، ليس غيره ممن لايقدر ولايملك الثواب الحسن.

إذا تأمل الإنسان كيف يكون الكفار في هذه النعمة والراحة والسياحة والأسفار، والمسلمون مضطهدون يُخرجون من بلادهم ويؤذون، مع أن اللّه سبحانه ناصرهم وظهيرهم؟!

ص: 132


1- سورة آل عمران، الآية: 195.

فيأتي الجواب في الآية اللاحقة {لَا يَغُرَّنَّكَ} وأصل الغرور إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه، فالمعنى: لا يوهمنّك يا رسول اللّه، أن الكفار في سرور{تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَٰدِ} فإن تقلبهم لا يعود إليهم بالنفع؛ فإن ذلك {مَتَٰعٌ قَلِيلٌ} أي: يتمتعون بذلك في زمان قليل {ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ} مصيرهم {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي: ساء المستقر لهم(1).

إن قضية تهجير مئات الآلاف من المؤمنين من أبناء الشعب العراقي من القضايا المهمة على الصعيد الإسلامي عامة، وعلى الصعيد العراقي بشكل خاص، فقضية تهجير عشرات الألوف من أبناء الشعب العراقي المظلوم إلى إيران، وبأبشع الطرق التي تنافي الضمير الإنساني، فقد هجّروا وشردوا من ديارهم وسلبت أموالهم، بعد أن مورس بحقهم شتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي بما في ذلك التفريق بين العائلة الواحدة، حيث فرقوا بين الزوج وزوجته، والطفل وأبويه، وسفّروا قسماً من العائلة، وتركوا القسم الآخر رهناً للاعتقال في سجون نظام البعث المظلمة، ومارسوا بحق المهجّرين وأقاربهم، ومَن يمتّ لهم بصلة قربى ألواناً أخرى من التعذيب الجسدي، كالضرب والإهانات والشتائم والاعتداء على الأموال والأعراض والأنفس، منتهكين بذلك جميع القوانين والأعراف الإسلامية والدولية، حتى قال بعض المحققين: إنهم - أي طغاة العراق - فاقوا جميع السفاحين وحشية على مدى التاريخ قديماً وحديثاً، أمثال:

بني أمية

وبني العباس

ص: 133


1- تفسير تقريب القرآن: 1: 435.

وهولاكو

وجنكيز خانوهتلر

ومن أشبه.

فقد جمع أزلام هذا النظام جميع الصفات الإجرامية والأساليب اللاأخلاقية المتمثلة بالسفاحين، وحينما صهر المجرمون في بوتقة واحدة تولد عن هذا الخليط أبشع وأرذل وأخبث نظام عرفه العالم ألا وهو نظام عصابة البعث العراقي الحاكمة.

وفي هذا الكتاب نحاول أن نحيط ببعض المواضيع المتعلقة بهذا الحدث المهم، وسنحاول أيضاً أن نوضح طبيعة النظام الحاكم في العراق، الذي مارس هذه العملية بحق الأبرياء المؤمنين من إخواننا في العراق الجريح، ونبين الأساليب التي استخدمها هذا النظام، والظروف التي استغلها.

كذلك نناشد الروح الإسلامية المغروسة في الضمائر والنفوس الحية في أبناء الإسلام، وأصحاب الضمائر الحية لأحرار العالم للوقوف بوجه هذا النظام والإطاحة به، ومن اللّه التوفيق(1).

التركيبة السكانية

اشارة

بداية نحاول أن نبين التركيبة السكانية للشعب العراقي - بشكل موجز - وبعد ذلك نسلط الضوء على الفئة المستهدفة من عملية التهجير اللاإنساني من قبل

ص: 134


1- أصدر الإمام الراحل بيانات عدة حول جريمة التهجير، منها ما هو موجه إلى جمعيات حقوق الإنسان، ومنها ما هو موجه إلى المهجرين، حيث يوصيهم بالصبر والعمل الجاد في سبيل اللّه عزّ وجلّ؛ انظر: كتاب مجموعة بيانات آية اللّه العظمى الحاج السيد محمد الحسيني الشيرازي إلى الشعب العراقي المسلم، طبع وتوزيع علماء الدين المجاهدون في العراق.

النظام العراقي!

يتألف الشعب العراقي من مجموعة من القوميات كالعرب، والأكراد،والتركمان، وبعض الأقليات الأخرى، والغالبية العظمى من الشعب هم من العرب، وهذه الغالبية أيضاً منقسمة إلى قسمين: عرب عراقيين بالأصل، وعرب سكنوا العراق هم وآباؤهم وأجدادهم وهؤلاء كانوا يُسمون قديماً (بالموالي) وربما كانوا من أصل فارسي أو تركي أو ما أشبه، وقد عاشوا في العراق وولدوا في العراق، وتجنسوا بالجنسية العراقية، وبعضهم لم يمنحوا (شهادة الجنسية العراقية) بالمصطلح الحديث أو أنهم لم يتقدموا بطلبها، وبعضهم كتب في صحيفة أحواله المدنية اسم (تَبَعي). والظاهر أن المسألة هي ذاتها قديماً وحديثاً - من حيث التفرقة بين هذا عربي وغير عربي - ، إذ لم يتغير من الأمر شيئاً إلّا لفظة (الموالي) التي كانت السائدة في عصر بني أمية فتحولت إلى التبعية(1)، واستغل نظام الحكم في العراق هذه اللفظة - أي التبعية - والتي تتنافى مع الروح والتعاليم الإسلامية التي أُمرنا باتباعها؛ لأن المسلمين كلهم سواسية ولا فرق بينهم وهم أبناء الإسلام، واخوة في الدين، ووطنهم الواحد بلاد الإسلام أينما امتدت فلا يجوز شرعاً إخراج وتهجير وتسفير أحد لمجرد أنه من أصل آخر.

ص: 135


1- في ظل النظام الحاكم في العراق أصبحت لفظة (التبعية) أو (التبعي) تهمة عظيمة وسبة كبيرة، يرتعب منها ويحاول أن يبتعد عنها أي عراقي، حتى وصل الحال إلى أن يُجبر الزوج على تطليق زوجته؛ لأنها من أصول غير عربية - تبعية - والزوجة تنفصل عن زوجها لأنه من أصول غير عربية، بل كان الموظف في دوائر الدولة يطرد من وظيفته إذا لم يبادر إلى تطليق زوجته - التبعية - وكذلك الموظفات، كما أن النظام استغل بعض ضعاف النفوس من التبعية فعملوا لدى دوائر أمن النظام بصفة عملاء وجواسيس؛ لإثبات الولاء الأعمى واللامحدود للنظام العفلقي حتى لو أدى بهم ذلك إلى الوشاية بأقربائهم.

فقد قال تبارك وتعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).وقال عزّ من قائل: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لما كان يوم فتح مكة قام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الناس خطيباً فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، ليبلِّغ الشاهد الغائب أن اللّه تبارك وتعالى قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، والتفاخر بآبائها وعشائرها. أيها الناس، إنكم من آدم وآدم من طين، ألا وإن خيركم عند اللّه وأكرمكم عليه أتقاكم وأطوعكم له، ألا وإن العربية ليست بأب والد ولكنها لسان ناطق، فمن طعن بينكم وعلم أنه يبلغه رضوان اللّه حَسَبُه، ألا وإن كل دم مظلمة أو إحنة كانت في الجاهلية فهي تظل تحت قدمي إلى يوم القيامة»(3).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «أصل المرء دينه، وحسبه خلقه، وكرمه تقواه، وإن الناس من آدم شَرَع سواء»(4).

وروي: أن سلمان الفارسي رضي اللّه عنه دخل مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم، فعظموه وقدموه وصدروه؛ إجلالاً لحقه، وإعظاماً لشيبته، واختصاصه بالمصطفى وآله^ فدخل عمر فنظر إليه فقال: من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب؟

فصعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المنبر، فخطب فقال:

«إن الناس من آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على

ص: 136


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- مستدرك الوسائل 12: 88.
4- الزهد: 57.

العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى...»(1).

فأمثال هذه الحواجز والتمايزات اللاإسلامية لا يقرها الدين الحنيف، بلالمائز هو الإيمان والتقوى أمام الكفر.

نعود ونقول: إن نظام الحكم في العراق استغل لفظة (التبعية) واتهم العديد من العراقيين بذلك للقيام بعمليات التهجير الواسعة؛ وذلك لتغيير البنية السكانية والمذهبية للشعب العراقي، ولخلق نوع من الإرهاب والظلم الجماعي، بتشتيت وتفريق العوائل المتدينة والملتزمة بالإسلام، بإلصاق التهم والافتراءات الكاذبة عليهم والبعيدة عن الواقع؛ ليجد التبريرات الواهية التي تمكّنه من سلب أموالهم وتعذيبهم، ومن ثم تهجيرهم بكل قسوة ووحشية.

وتجسدت - في واحدة من أشدها - هذه العمليات الإجرامية، حينما جمع تجار ووجهاء السوق الكبير في بغداد (الشورجة) وسفّرهم إلى خارج العراق، مستولياً على أموالهم وممتلكاتهم، زاعماً أنهم غير عراقيين، وهكذا عملوا في جميع محافظات العراق وخصوصاً كربلاء المقدسة والنجف الأشرف والكاظمية المشرفة والكوت، وباقي المناطق التي يتواجد فيها الشيعة... .

سيرة الحزب الحاكم في العراق

إن أي شخص يريد أن يتناول سيرة نظام حزب البعث الحاكم في العراق سيعجز عن الوصف الكامل والدقيق لهذا النظام، ولا أعني بذلك وصف هيكله العام، أو الأفراد المنتمين إليه، أو الجهة التي ساعدت في نشأته، فكل ذلك سهل يسير على الباحث، ولكن الشيء العسير هو الإحاطة الكاملة بالأعمال الإجرامية التي مارسها أفراد هذا الحزب بحق أبناء الشعب العراقي المسلم، من التعذيب

ص: 137


1- الإختصاص: 341.

وقتل النفس التي حرمها اللّه، وهتك الأعراض، وسلب الأموال والممتلكات، وكذلك قيامه بعمليات التهجير الواسعة ضد أبناء شعبنا المظلوم، وما إلى ذلك من الأساليب التي يعجز القلم عن كتابتها، واللسان عن سردها.ولم يتوقف هذا النظام عن ظلم الشعب العراقي بجميع فئاته عرباً وأكراداً، شيعة وسنة، بل حتى الأقليات الصغيرة لم تسلم من حقده وظلمه وجوره، وكذلك تعدى في ظلمه حدود العراق والشعب العراقي فعم ظلمه الشعوب الأخرى، فحربه التي شنها على إيران أحد دوافعها الرئيسية هو حقده على الإنسانية بصورة عامة وعلى الشعبين المسلمين العراقي والإيراني بصورة خاصة.

كذلك دخوله في مؤامرات سرية و - بعض الأحيان - علنية مع القوى الكبرى المعادية للإسلام، لضرب الشعب العراقي المسلم، وضرب نهضته الإسلامية المتوقدة.

ومن هذه المؤامرات السرية تعاونه بصورة سرية مع الكيان الصهيوني لضرب الإسلام والمسلمين، ومن مؤامراته العلنية تحالفه مع نظام الشاه لضرب الأكراد في شمال العراق - على سبيل المثال لا الحصر - ودخل في تحالفات مشبوهة كثيرة لا يسع المجال لذكرها هنا.

الغاية في وجود الحزب الحاكم

من الطبيعي في نشوء أي فكرة أو نظام أو حزب أو ما إلى ذلك كله، أنه يحتاج إلى علة وغاية لوجوده(1)، سواء كانت الغاية سامية ونبيلة أم كانت سافلة ورذيلة. وفكرة إيجاد حزب البعث في العراق نشأت بأوامر وتوجيهات الاستعمار الغربي بصورة عامة، والاستعمار البريطاني بصورة خاصة.

ص: 138


1- المقصود من العلة: الموجد، والمقصود من الغاية: الهدف.

أما الغاية من إيجاده في جسد الأمة الإسلامية بصورة عامة، والشعب العراقي بصورة خاصة، فكانت كالتالي:

إن النفوذ الاستعماري لدول الغرب، أعقاب الحربين العالميتين اتخذ أبعاداًخطيرة، وخاصة الدول المنتصرة - الحلفاء - كأمريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي، ولقد عملت الدول المذكورة بكل ما تستطيع من قوى على إبقاء دول العالم هناك تحت هيمنتها، فقسمتها إلى مناطق نفوذ لها، فكل دولة أخذت مجموعة من الدول الصغيرة وضمتها إلى سيطرتها، وكان العراق من حصة بريطانيا(1)، وهذا فيه كلام كثير ذكر في محله.

والدول الاستعمارية عادة تفكر في أسهل وأرخص الأساليب لإدارة شؤون البلاد المستعمرة، إما بطريقة مباشرة بواسطة الاحتلال المباشر، أو بطريقة غير مباشرة، أي بزرع أنظمة وتكتلات من داخل البلاد المستعمرة تدير شؤون البلاد بطريقة تضمن مصالح الدولة الاستعمارية.

مارست بريطانيا الأسلوبين معاً في إدارة شؤون العراق، ففي بداية الأمر استخدمت الأسلوب الأول (التدخل المباشر)، عبر احتلال العراق عسكرياً، وذلك عام (1917م) عندما أكملت الجيوش البريطانية احتلال بغداد وقال قائدها: (إن جيوشنا لم تدخل مدنكم وأراضيكم بمنزلة قاهرين أو أعداء بل

ص: 139


1- وذلك عبر اتفاقية سايكس - بيكو (1916م) وهي اتفاقية سرية تم إبرامها في الفترة من (9-16/5/1916م) بين فرنسا وبريطانيا العظمى، بموافقة روسيا القيصرية، وأطلق عليها في البدء (الاتفاقية الإنكليزية الفرنسية الروسية) أو اتفاقية (سايكس - بيكو - سازانوف) نسبة إلى ممثلي الدول الثلاث المعنية، وقد تم بموجب هذه الاتفاقية، التفاهم على تقسيم سورية ولبنان والعراق وفلسطين وبعض الأراضي التركية فيما بين هذه الدول وتعتبر هذه الاتفاقية المشروع الذي اعتمدت عليه فرنسا وبريطانيا لتقسيم المشرق العربي فيما بعد.

محررين)، ولكن هذا الأسلوب فشل في إدارة شؤون العراق؛ وذلك للتصدي والمعارضة الشديدة التي أبداها أبناء الشعب العراقي بقيادة العلماء لمخططاتالاستعمار ومكائده، إبان ثورة العشرين(1) التي قادها العلماء المراجع ضد قوات الاحتلال البريطاني وجيوشه التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى أمام دول المحور، ولكنها خرجت منكسرة أمام جهاد الثوار وصمود وصلابة قادة الثورة الذين انضوى تحت قيادتهم كافة أفراد الشعب العراقي وعشائره. وفي ظل هذه الظروف أخذ الإنكليز بالمراوغة والتجئوا إلى الأسلوب الثاني، أي أسلوب زرع التنظيمات والتكتلات الاستعمارية داخل الشعب العراقي لإدارة شؤون البلاد والضغط على الشعب، ومن ثم عقد اتفاقيات ومعاهدات تمرر عبرها كل مؤامراتها ضد الإسلام والمسلمين عموماً والعراقيين خاصة.

وحتى تستفيد من أغلب خيرات العراق، الطبيعية والصناعية والمعادن والموارد الحيوية من نفط وغاز وفوسفات وكبريت...الخ، وكذلك لتستغل الأيدي العاملة العراقية لصالحها، ولتجميد عقول العراقيين عن التفكير في شؤون بلادهم وكيفية الوصول إلى الهدف المنشود، خلقوا للشعب مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية بجعل همهم الوحيد كيفية الحصول على لقمة العيش، والاحتراز من السيف المسلط عليهم من قبل النظام الحاكم.

الوعي الديني السياسي

من أهم الأسباب التي دعت الاستعمار البريطاني إلى إيجاد نظام تعسفي يدير شؤون العراق ويحكمه بالحديد والنار هو نمو الوعي الديني والسياسي، وظهور

ص: 140


1- هي ثورة عارمة ضد الاستعمار الإنكليزي في العراق عام (1338ه-1920م)، حيث اصدر قائد الثورة الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) والذي كان المرجع الأعلى للطائفة، فتواه الشهيرة ضد التواجد الإنكليزي في العراق مما اضطروا للخروج بعد الخيبة والانكسار.

الصحوة الإسلامية عند غالبية الشعب العراقي، فأغلبية الشعب العراقي اتحدتتحت لواء علماء الدين المتمثلة في تلك الفترة بمراجع الدين العظام(1)،

وكذلك تعددت قنوات التوعية في المجتمع العراقي، من أمثال الخطباء والشعراء الإسلاميين، وانتشار الكتب والمجلات والموسوعات العلمية، التي تحاول جميعها أن تجعل من الشعب العراقي شعباً واعياً في أمور دينه ودنياه. هذا كله إضافة إلى غايات سياسية أخرى جعلت الإنجليز يفكرون في إيجاد نظام يحمل جميع مواصفات الإجرام والتبعية، فزرع نظام حزب العفالقة في جسد الأمة الإسلامية في العراق، ليحقق لهم من المطامع والمصالح ما لم يستطيعوا هم تحقيقه مباشرة وبشكل لم يحلموا به، ومن ذلك يتبين لنا أن غاية وجود هكذا أنظمة في العراق إنما هو لصالح الاستعمار، وليس لصالح الشعب العراقي.

فعلى كافة المسلمين في هذه المعمورة وعلى المسلمين المجاهدين من أبناء شعبنا العراقي المظلوم، وخصوصاً الذي هجّرهم النظام البعثي، ونفاهم عن أراضيهم ومسقط رأسهم، وعلى كافة الخيرين في العالم الوقوف بوجه هذا النظام بكافة الوسائل والإمكانيات؛ لأن خطره ليس على الشعب العراقي فحسب، بل على العالم الإسلامي بأكمله، بل وعلى جميع الخيرين ومحبي الإنسانية في العالم، وإن جبين الإنسانية ليندى من تصرفات وأفعال هذا النظام الاستعماري الغادر، وقد قال الإمام الحسين(عليه السلام) كلمة الفصل حينما انبرى مخاطباً الإنسان الذي لا يعمل على مكافحة الظلم والطغيان: «أما بعد فقد علمتم أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قال في حياته: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم اللّه، ناكثاً لعهد

ص: 141


1- فقد كان في العراق وحده من المراجع الكبار الذين كان لهم الدور الكبير والمؤثر في السياسة الدولية كالمجدد الشيرازي والميرزا محمد تقي الشيرازي والسيد أبو الحسن الإصفهاني والشيخ كاظم الخراساني والسيد الحبوبي والسيد الحكيم وغيرهم من كبار العلماء.

اللّه، مخالفاً لسنة رسول اللّه، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان ثم لم يُغيّر بقول ولافعل، كان حقيقاً على اللّه أن يدخله مدخله...»(1).

التهجير وسلوكية الحزب الحاكم

إن من أشد المآسي التي ابتلي بها شعبنا العراقي المسلم، في ظل حكم العفالقة، هي مأساة التهجير اللاإنسانية والتي تتعارض مع أبسط حقوق الإنسان والقوانين والأعراف الدولية، خاصة مع تلك الظروف التي مر بها المهجرون خلال الحملات الهمجية المفتقدة لأبسط معاني الإنسانية.

حيث قام هذا النظام بتهجير مجاميع كبيرة من أبناء هذا الشعب المظلوم، يصل عدد المجموعة الواحدة إلى ألف شخص أو أكثر أو أقل - وفي بعض الأحيان عائلة واحدة تهيم على وجهها في البراري والقفار دون راشد أو دليل - في ظروف مأساوية وعبر مناطق حربية حدودية مزروعة بالألغام والمتفجرات، راح ضحيتها عدد كبير من هؤلاء الأبرياء، الذين سفرهم نظام البعث لا لذنب اقترفوه، سوى أنهم من شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام) ومن أنصار سبط رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحسين بن علي(عليهما السلام)، لا لأنهم غير عراقيين (تبعية) كما يدعي النظام.

فإن من سلوكية النظام البعثي الحاكم في العراق هو ملاحقة الخيرين ليس في العراق فحسب بل في جميع بقاع العالم.

فالشخص الملتزم صاحب المبادئ الذي يسير مع الحق ويحارب الظلم مستهدف من قبل النظام العراقي. ويستخدم النظام عدة وسائل في سبيل تصفية مثل هؤلاء الأشخاص في العراق، كالإعدام بتهم ملفقة، والسجن مع أشد التعذيب، أو التهجير وسلب الأموال والممتلكات الأخرى، كما فعل بهذه الثلة

ص: 142


1- بحار الأنوار 44: 382.

الخيرة من أبناء العراق الجريح، أو الغدر والاغتيال غيلة كما فعل بالأخ الشهيدالسيد حسن الشيرازي(1).

وغيره(2).

فالتهجير أسلوب استخدمه طغاة العراق لإرهاب الناس ونشر سيطرتهم على البلاد ونهب ثروات العراق، ولكنهم جهلوا أن هذا الأسلوب سوف يعود عليهم

ص: 143


1- آية اللّه الشهيد السيد حسن بن السيد الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه)، ينحدر من أسرة اشتهرت بالعلم والفضيلة والتقوى ومكافحة الاستعمار. وُلد في مدينة النجف الأشرف عام (1354ه). درس السطوح العليا على يد العلماء الكبار أمثال والده آية اللّه العظمى الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه) وآية اللّه العظمى السيد محمد هادي الميلاني» وآية اللّه العظمى الشيخ محمد رضا الأصفهاني(رحمه اللّه). اشتهر في الأوساط العلمية بالعلم والفقاهة والذوق الأدبي والعمل الدؤوب. كان من طليعة المحاربين للحكومات الجائرة التي تعاقبت على العراق بالفكر واللسان والعمل، فتعرَّض لمضايقات عديدة وللاعتقال والتعذيب. ترك العراق مهاجراً إلى لبنان وسوريا عام (1390ه) واستمر في نشاطه العلمي والديني والفكري والسياسي، على أرض المهجر وتعريف ظلامة الشعب العراقي للعالم. فأسس المدارس الدينية والمراكز الإسلامية والحسينيات، فأسس الحوزة العلمية الزينبية في سوريا عام (1393ه) بتوجيه من أخيه الإمام الراحل(رحمه اللّه) وكان يدرِّس فيها بحث خارج الفقه والأصول، وأسس مكتب جماعة العلماء في لبنان عام (1397ه) ومدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف ودار الصادق^ وغيرها. اغتيل «برصاصات عملاء نظام الطغاة الحاكم في العراق بمدينة بيروت عام (1400ه). خلّف آثاراً مطبوعة ومخطوطة منها: موسوعة الكلمة في 25 مجلداً تتضمن: كلمة اللّه (جل جلاله)، وكلمة الإسلام، وكلمة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكلمة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، كما ألف كتاب (خواطري عن القرآن) الذي يقع في ثلاثة مجلدات، والاقتصاد الإسلامي، ودواوين شعرية، والعمل الأدبي، والأدب الموجه، والشعائر الحسينية، وغيرها، للتفصيل راجع كتاب (حضارة في رجل) للسيد عبد اللّه الهاشمي، وكتاب (أسرة المجدد الشيرازي) لنور الدين الشاهرودي، و(الراحل الحاضر) لمؤسسة المستقبل للثقافة والإعلام و(الموجز الجامع) للشاهرودي والفدائي.
2- كالعلامة الشهيد السيد محمد مهدي بن آية اللّه العظمى الإمام السيد محسن الحكيم».

بالخزي والعار الآن وفي المستقبل، وسوف يسجل التاريخ على طغاة العراقوفي صفحة بارزة مفصلة جميع أعمالهم الإجرامية، لتكون شاهداً على تبعيتهم وانحرافهم قال تعالى في كتابه الكريم: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(1).

ولقد صبغ النظام البعثي العراقي هذه العملية (التهجير)، بصبغة قومية لتبرير أعماله اللاإنسانية، واستمالة بعض الأقلام المتعنتة المأجورة، التي تنادي بالقومية الجاهلية التي تخالف الإسلام.

لذا يلزم على جميع المثقفين من كتاب وصحفيين ومبلغين في جميع أنحاء المعمورة، وخصوصاً العراقيين منهم، أن يعملوا على فضح وتعرية أساليب هذا النظام، ففي الحديث الشريف: «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم»(2).

وأذكّر، بل وأحذّر الأخوة المسلمين من مهجّرين وغيرهم من مغبة التقاعس عن العمل، أو التهاون في طريقة التعامل مع هذا النظام، سواء كان بأسلوب مباشر أو بأسلوب غير مباشر، مثل: الكلام لصالحه دون قصد، أو الانخراط في المشاغل الشخصية فقط، وترك المسؤولية الكبرى وهي الجهاد في سبيل إسقاط نظام طغاة العراق عبر نشر الوعي والثقافة في جميع أوساط الأمة والتبليغ بالمال والقلم واللسان ونحو ذلك، وتأسيس المنظمة العالمية الإسلامية للدفاع عن الحقوق المهدورة.

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَٰتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ

ص: 144


1- سورة الأنعام، الآية: 123.
2- الكافي 2: 164.

وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُالظَّٰلِمُونَ}(1).

العناصر الدخيلة في نظام الحكم

إن النظام الحاكم في العراق عندما قام بتهجير عشرات الألوف من أبناء العراق بحجج وادعاءات واهية وضعيفة، مبنية على أساس أن هؤلاء المهجرين هم غير عراقيين من الذين لم تدرج أسماؤهم ضمن سجل الأحوال المدنية لسنة (1920م)، وأدّعى بأنهم من أصول فارسية وتركية، فهذا يبطله الواقع؛ لأن أغلب المهجرين هم من حملة الجنسية العراقية، وهم مولودون في العراق أباً عن جد، وقد ساهموا في إعمار وحماية العراق من المخاطر الخارجية والداخلية، وأغلبهم شارك هو أو آباؤه أو أجداده في الثورات التي قام بها أبناء الشعب العراقي ضد المستعمرين الأجانب، وخصوصاً ثورة العشرين التي قامت ضد الاستعمار الإنكليزي.

وإذا كان ما يدعيه النظام - صحيحاً - بأنه سفّر هؤلاء الخيرين من أبناء العراق لأنهم غير عراقيين، فهذا الإدعاء هو وحده كاف لإدانة هذا النظام؛ فالسؤال الذي يطرح نفسه هو:

إذا كان قرار التسفير أو التهجير مبنياً على عدم أصالة وانتماء الشخص إلى العراق، أي إذا كان الشخص من غير العراقيين الأصليين فهو معرض للتهجير، فمن أين تأتي الأصالة إلى أزلامه وعناصره المتنفذة، من أمثال:

ميشيل عفلق(2).

ص: 145


1- سورة الممتحنة، الآية: 9.
2- ميشيل عفلق مسيحي من أم يهودية مواليد دمشق (1910م)، أحد مؤسسي حزب البعث مع صلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني وغيرهم.

وشبلي العيسمي

وطارق يوحنا عزيز

والبيطار

وحفيد ساسون حسقيل (أحمد حسن البكر)

وصدام

فحقيقة هؤلاء الأشخاص تثبت أنهم غير عراقيين، بل إن بعضهم غير عربي أصلاً.

فالشخص الأول في الحزب وهو ميشيل عفلق لا ينتمي للعراق ولا للعروبة في أصل أو فرع، فهو مسيحي غربي، واختلف في ذلك أيضاً، هل هو غربي فرنسي أم غربي يوناني؟ فهو وأبوه ينتميان إلى الديانة المسيحية، أما أمه فهي من الديانة اليهودية، وهو الصديق الحميم لرئيس وزراء إسرائيل (مناحيم بيغن)، فقد درس معه في مدرسة واحدة، وفي صف واحد.

إضافة إلى ذلك فهو - عفلق - يُعد من العملاء المخلصين للحكومة البريطانية، وهو أحد الأعضاء الفاعلين لشركة لايف الصهيونية.

أما شخص شبل العيسمي، فهو أيضاً مسيحي وغير عراقي، فهو من أصل سوري، وقد حكم عليه بالإعدام في سوريا، وفرّ إلى العراق.

أما طارق يوحنا عزيز، فهو يدين بالمذهب الآشوري المسيحي.

أما حفيد ساسون حسقيل (أحمد حسن البكر)، فهذا جده يهودي الأصل، عمل تاجراً في سوق بغداد المعروف بسوق (الشورجة)(1)، وكان يدعى

ص: 146


1- وهو سوق كبير وقديم يقع في بغداد، كان التجار اليهود هم المسيطرون فيه على الأعمال التجارية، وفيه قبر الشيخ الحسين بن روح النائب الخاص للإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشريف.

ب(ساسون حسقيل)، وكان يعمل مع أبناء عمومته في نفس السوق (الشورجة)وحصل خلاف بينه وبين أبناء عمومته بشأن بعض المعاملات التجارية فقطع علاقته بهم، وترك العمل في دكانه وغير مجرى حياته، فرحل إلى تكريت، وأسلم ظاهرياً في تكريت على يد أحد علماء السنة يدعى (الشيخ عبد اللّه)، وأخذ يشتهر بين الناس في تكريت بأنه قد أسلم، وقد تبين فيما بعد أن هذا العمل ما هو إلّا خطة استعمارية، ثم بدّل هذا الملا - كما يدعى - اسمه إلى (أبو بكر) ثم جعلوا ينادونه باسم (بكر)، ثم يولد للبكر هذا ولد يسميه (حسن)، ومن الجدير بالذكر أن اسم (حسن) هو اسم قليل الشياع بين أهل السنة في العراق، فيتضح هنا بأن وضعهم لاسم (حسن) ما كان إلّا خطة مدروسة لتضليل أبناء الشعب العراقي، ولكسب عواطف الشيعة، ثم بعد ذلك ولد لهذا، أي ل(حسن) مولود سمي ب(أحمد).

وأما (صدام) فقد تحير العراقيون في إرجاع نسبه، هل هو عربي عراقي أم غير عراقي؟ وهل هو مسلم أو مسيحي أم يهودي أم ماذا؟

فبعضهم يقول: بأن اسم (حسين) هذا ليس هو الاسم الحقيقي لوالده، وكان بعض العراقيين يعرف أباه، ويقول أنه كان يعمل في السفارة البريطانية بصفة خادم، وبعضهم قال: إنما سماه الإنكليز بهذا الاسم - حسين - لكي لا يستطيع أحد أن يطلع على اسمه الحقيقي، فنسبه إذن من الأمور المجهولة على الشعب العراقي، وقيل بأن صدام كان قبل الانقلاب العسكري عام (1968م)، موظفاً صغيراً يعمل في دائرة الكهرباء براتب بسيط، وعندما جيء به من قبل الاستعمار إلى الحكم في العراق ما هي إلّا فترة حتى أصبح يعد من أغنياء العالم، والسبب معروف ونحن لسنا بصدد ذلك الآن.

إذن هؤلاء هم عناصر الحزب الحاكم في العراق، ومن على شاكلتهم أيضاً

ص: 147

هذه سيرتهم، فهم بالإضافة إلى أصولهم وأنسابهم غير العراقية، وغير العربية، أوالمشكوك فيها أصلاً عملوا على ظلم الشعب العراقي بكافة الوسائل التي وضعها لهم الاستعمار، وقتلوا وشرّدوا وسجنوا وسلبوا حقوق الشعب كافة، حتى أصبح العراق سجناً كبيراً بفعل تصرفاتهم المشبوهة، بل ويتبجحوا باتهام العراقيين بأنهم غير عراقيين، وغير عرب، فأي الفريقين أولى بالتسفير؟!

هل الأشخاص الذين يعملون في سبيل اللّه والوطن، وقاوموا الاستعمار وأطماعه هم وآباؤهم وأجدادهم، وضحوا بدمائهم وأموالهم في سبيل اللّه والإسلام والوطن، أم أولئك البُعداء عن الشعب والوطن المرتبطين بتحالفات مشبوهة وأحزاب تتستر بشعارات مزيفة، والذين عملوا ما عملوا بهذا الشعب من أعمال إجرامية قادت العراق إلى هذا الوضع المتردي والمزري الذي هو فيه الآن(1).

فجميع الأعراف والقوانين الدولية والمحلية ينددون بهذه الزمرة الطاغية التي ظلمت وشردت وقتلت أبناء الشعب العراقي؛ وذلك لأن الظلم قبيح، وعامل القبيح يستحق الذم والعقاب من قبل جميع العقلاء، فلينتظر حكام العراق مصيرهم الأسود بالقريب العاجل - إن شاء اللّه تعالى - قال عزّ من قائل في كتابه الكريم: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٖ}(2).

وقال تبارك وتعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(3).

ص: 148


1- وإن كان لهم تأريخ في العراق فتاريخهم يشهد على عمالتهم وخياناتهم وغدرهم بالأمة الإسلامية والعربية والعراق.
2- سورة هود، الآية: 81.
3- سورة آل عمران، الآية: 178.
طغاة العراق.. أهداف وأساليب

إن الأسلوب الذي تتبعه الأنظمة المستبدة الفاسدة في إدارة شؤون البلاد عادة ما يكون أسلوباً تعسفياً، مبنياً على الإرهاب والقتل والتشريد والتصفية الروحية والجسدية لمعارضيها، وهذا الأسلوب قريب جداً من أسلوب عمل العصابات العالمية، كعصابة المافيا في إيطاليا ومنظمة الهاغانا الصهيونية وجهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)، وما شابه ذلك. فهذه الأنظمة الفاسدة والعصابات العالمية تعتمد أسلوب التصفية لكل من يعارضها، وخصوصاً الأشخاص الذين كانوا منتمين إليها ثم خرجوا منها لسبب أو لآخر، مثلاً ينكشف لهم زيف الشعارات والأهداف التي كانت تنادي بها هذه الأحزاب والأنظمة هذا إذا كان دخولهم فيها لجهلهم بأسلوب تلك العصابات وغفلتهم عن ارتباطاتها وأهدافها، أو يقضون على عملائهم لانتفاء الحاجة إليهم، فتتم تصفيتهم بكافة الوسائل؛ لأن هؤلاء الأشخاص بدخولهم في تلك الأنظمة سوف يطلعون على أسرار عملها وطريقة تعاملها مع الناس والقضايا، وبما أنها على باطل فعندما يخرجون سوف يفضحونها ويكشفون للناس باطلها وزيفها وعمالتها؛ ولذا فإن تلك الأنظمة تسعى في قتلهم بكافة الوسائل. ويكون ذلك - القتل - عبر قتلهم شخصاً أوقتل شخصيتهم أيضاً في كثير من الأحيان.

وهذا الأسلوب نراه واضحاً في تعامل نظام البعث الحاكم في العراق مع عناصره، وهو دليل آخر مع آلاف الأدلة التي تثبت عمالة وهمجية هذا النظام، فقد عمد هذا النظام ومنذ الأيام الأولى لتأسيسه إلى هذا الأسلوب وهو القتل والسجن والتشريد لأغلب معارضيه، بل وأكثر من ثلاثة أرباع أتباعه المنتمين إليه، والذين حاولوا الخروج من هذا الحزب، فأين البعثيون الأوائل من أمثال:

حردان التكريتي؟!

ص: 149

وناصر الحاني؟!

وإبراهيم الداود؟!

وعدنان حسين الحمداني؟!

ومحمد عايش؟!

وعبد الخالق السامرائي، وعبد الوهاب الأسود، وغيرهم؟!

ألم ينته مصيرهم إلى القتل أو التشريد؟

فهذا (ناصر الحاني) الذي كان يعد من الحزبيين الكبار فيما يسمى بمجلس قيادة الثورة، اختلف في الرأي مع بعض العناصر الرئيسية في الحزب، وتشاجر معهم وهددهم، وقال لهم: سأذهب وأكشف زيفكم وحقيقتكم للشعب العراقي، وأقول لهم: بأن نظامكم عميل للإنكليز، والدليل على ذلك هو أن السفارة الإنكليزية كانت تمدكم بالمال عن طريقي أنا، فتم قتله في نفس الليلة، وثم إلقاء جثته في منطقة من مناطق بغداد يقال لها: منطقة قناة الجيش.

وهذا (حردان التكريتي) من القياديين في الحزب الحاكم، بمجرد اختلافه معهم تم عزله وعندما هدد بالقتل حاول أن يفشي أسرار طغاة العراق فتمت تصفيته وقتله في دولة الكويت في حادث اغتيال مدبر ولم تشفع له سنوات خدمته لهم.

وذاك (عبد الوهاب الأسود) أيضاً، حاول أن يعمل نفس العمل الذي قام به حردان وناصر الحاني، فتمت تصفيته أيضاً، وهكذا تمت تصفية أكثر من ثلاثة أرباع العناصر الأولى في جهاز حزب البعث العراقي. وهكذا لم تتوقف وحشية هذا النظام على العناصر التي عملت معه وحاولت كشف زيفه وتبعيته، بحيث جعل ذلك هدفاً لسياسته التعسفية، بل شملت جميع أصناف الشعب العراقي المظلوم.

ص: 150

فعلى جميع الأخوة الأحرار المؤمنين في المعمورة، وخصوصاً الأخوةالمؤمنين في العراق الوقوف بوجه هذا النظام الباغي عبر نشر الثقافة والوعي والمطالبة الدولية بحقوقهم المشروعة؛ واللّه تعالى سوف يعوضهم عن ذلك، حيث قال تعالى في كتابه الكريم: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(1).

أساليب التهجير

استعمل نظام البعث العراقي عدة وسائل وأساليب في تهجير أبناء العراق، نذكر بعضاً منها هنا وبإيجاز:

أولاً: مداهمة بيوت المهجّرين في هدأة الليل، وبصورة همجية، مستعينين برجال الأمن المدججين بالسلاح.

ثانياً: التحايل على المواطنين لاستدراجهم وتهجيرهم بحجة استجوابهم لمدة عشر دقائق فقط.

ثالثاً: تهجير أعداد كبيرة من المواطنين وهم بملابس النوم.

رابعاً: محاربة المهجرين بطرق الحرب النفسية والإرهاب والتخويف وقذفهم بألفاظ قذرة نابعة من الانحطاط الخلقي لعملاء النظام العراقي الحاكم.

خامساً: حجز الفتيات المسلمات من أبناء شعبنا العراقي في دائرة الأمن الإجرامية، والاعتداء عليهن بعد تهجير عوائلهن.

سادساً: إنزال المهجرين على مسافات بعيدة عن الحدود الإيرانية، وهم حفاة وفي أراضٍ جبلية وعرة جداً، وفي ظروف جوية رديئة، ولم يسلم من حقدهم حتى الطاعنون في السن والأطفال والمرضى.

ص: 151


1- سورة التوبة، الآية: 20.

سابعاً: مصادرة كافة الأموال المنقولة وغير المنقولة للمهجرين ووضعها تحتتصرف أزلام السلطة.

ثامناً: فصل الشباب الذين تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة عن عوائلهم المهجرة، وحجزهم في معتقلات الأمن الإرهابية، والتجنيد الإجباري لبعضهم، ومن يعارض ذلك يخضع للتعذيب الرهيب وقاموا بإعدام الكثير منهم.

تاسعاً: وضع الألغام في طريق المهجرين، بحيث راح ضحية ذلك العديد من الأبرياء.

نعم، فهذه بعض التصرفات والأعمال الوحشية التي قام بها النظام ضد المهجرين من أبناء العراق المسلم، ولا يتسع المجال إلى ذكر جميع الانتهاكات الوحشية التي اتبعها - وما زال يتبعها - النظام مع المواطنين؛ فإنها كثيرة جداً، ولا بأس بالإشارة إلى بعضها من باب التعرف على طبيعة النظام الحاكم في العراق، وليس من باب الحصر.

من أساليب النظام

اشارة

تعددت أساليب النظام البعثي الحاكم في العراق، في تعذيب معارضيه حتى فاقت جميع أساليب الأنظمة العميلة الأخرى، فذلك نظام الشاه العميل(1) للاستعمار الغربي الأمريكي، كان يعتقل ويعذب أبناء الإسلام في إيران، ويلفق لهم التهم الفارغة، مدعياً بأن هذا شيوعي وذاك متآمر وهكذا؛ وذلك ليبرر للعالم والشعب بأنه أعدم أو اعتقل هؤلاء لعمالتهم (كما يدعي)، ولكن نظام البعث العراقي تجاوز حتى هذا التعامل (أي تبرير عمله في قتل أبناء الشعب العراقي) فإنه يعتقل ويعذب أبناء الشعب العراقي المعارضين لحكمه وعلى الشبهة

ص: 152


1- محمد رضا بهلوي (1919-1980م).

والظنة، أو كل من يعد من المتدينين الإسلاميين بدون تهمة واضحة موجهة لهولو ظاهرياً، وإليكم هذا النموذج من أساليب التعامل مع المعتقلين، ينقله أحد الناجين من حبالهم، فقال:

في إحدى الليالي المظلمة داهمت عناصر النظام عدة منازل في مدينة كربلاء المقدسة، واعتقلت بعض من فيها، واستشهد إثر المداهمة البعض الآخر، وكان ضمن المعتقلين شخص يعمل في وزارة العدل، اعتقل في منتصف الليل بملابس نومه، وبحجة استجوابه لمدة عشر دقائق ذهبوا به إلى مديرية الأمن العامة، وفي الصباح تم إعدامه - أي بعد مرور أقل من (6ساعات) على اعتقاله - ويقول ناقل القصة، الذي كان أحد المعتقلين معه: تم اعتقالنا، وذهبوا بنا إلى بغداد ووضعونا في غرفة لكي تتم محاكمتنا، وشاهدت الذين اعتقلوا معنا في السجن، ولقد عرفت الكثير منهم، ثم سألت عن السبب الذي جاء بنا إلى هنا؟

قالوا: لأجل محاكمتكم.

كنا أربعاً وأربعين شخصاً، وضعونا في غرفة، وأغلقوا الباب علينا، وكان الحاكم جالساً فسأل الحاكم شخصاً يدعى حسين الدلال: ما اسمك؟

فقال: حسين.

ما هو لقبك؟

قال: الدلال.

فقال: أين تسكن؟

قال: كربلاء.

قال: ما هو عملك؟

قال: وكيل لوزارة العدل.

ص: 153

فأصدر الحاكم حكم الإعدام الفوري بحقه بعد انتهائه من هذه الأسئلة!!ثم اقتيد من قبل ثلاثة من رجال الأمن وذهبوا لتنفيذ حكم الإعدام به.

ثم جاء دوري للتحقيق معي، فسألني الحاكم: ما اسمك؟

وما لقبك؟

وأين تسكن؟

وما هو عملك؟

وبعد استجوابي أمر بإطلاق سراحي، بعد أن أجبت عن هذه الأسئلة، وأخرجوني من باب ثانٍ للسجن.

ويذكر - الراوي - سبب نجاته من حكم الإعدام فقال: بعد سماع خبر اعتقالي في منتصف الليل، من قبل والد زوجتي، الذي كان شخصاً ثرياً من سكنة كربلاء، ذهب إلى بغداد فوراً ومعه خمسون ألف دينار، وأوصل نفسه إلى أحد الجلاوزة من أعضاء ما يسمى بمجلس قيادة الثورة، بشكل من الأشكال، وأعطى المبلغ المذكور رشوة لهم، فاتصل هؤلاء بالحاكم تلفونياً، وأمروه بإطلاق سراحي فوراً، فأصدر الحاكم العفو عني وأطلق سراحي.

نعم، هكذا يقتل أبناء الشعب على يد هؤلاء الجلاوزة بدون أي مبرر للقتل، سوى حقدهم عليه وعلى جميع الشعب وعلى الإنسانية ولهذا عارضهم الشعب العراقي المسلم بشكل كبير، وأعطى الشهداء في سبيل ذلك، ولم يركن أو يستكن إلى الظلم والظلمة، بل حاربهم بكل ما يستطيع، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الصَّٰدِقُونَ}(1).

ص: 154


1- سورة الحجرات، الآية: 15.
من مآسي المهجرين

عند مطالعة بعض القصص والمآسي التي تحمّلها الشعب العراقي في ظل حكم هذا النظام الجائر سنعرف ولو جزئياً مقدار الظلم والانتهاكات الصارخة التي ارتكبت بحقه، ونرى لزاماً على المؤمنين نشرها في العالم أجمع وبيانها على مستوى منظمات هيئات حقوق الإنسان بالخصوص حتى تكون شاهداً وحجة مع آلاف الشواهد والحجج الأخرى على ظلم واستبداد هذا النظام.

ومن أبرز هذه المآسي والقصص مأساة التهجير والمهجرين التي نحن بصددها الآن.

فقد نقل أحد الإخوة المهجرين عن حادثة مأساوية لإحدى العوائل المهجرة، وكانت هذه العائلة تعيش في إحدى المحافظات الجنوبية في العراق، كانت عائلة متدينة وملتزمة بالتعاليم الإسلامية، شأنها شأن أغلب العوائل العراقية، وهي مكونة من زوجين طاعنين في السن، وخمسة أبناء، مصدر معيشتهم قطعة أرض يزرعونها فتدر عليهم ما يسد رمقهم ويؤمن مصاريف أبنائهم؛ حيث إن أكبرهم شاب في مرحلة الدراسة الجامعية، وأخته طالبة في المرحلة الثانوية، وأما الآخرون فهم صغار لم يبلغوا الحلم بعد.

فكان هذا الشاب ملتزماً دينياً، وكان يحث الشباب الضالين في مجتمعهم وفي محيطهم الجامعي من الطلاب على عدم الانخداع بأفكار الحزب الحاكم المنحرفة، فيبين لهم مفاهيم الإسلام، ويحثهم على العمل بالشريعة الإسلامية، ويفضح الأعمال الإجرامية التي يقوم بها النظام ضد أبناء الشعب المسلم، مما أثار حقد جلاوزة النظام وغيظهم عليه، فعنصر كهذا يعكر عليهم صفو حياتهم المليئة بالانحراف والجريمة فهم لا يتركونه لحاله.

لذا قاموا بفصله من الجامعة، ولم يكتفوا بذلك بل اعتقلوه وأرسلوه إلى مراكز

ص: 155

التعذيب ليبقى هناك تحت وطأة سياط الجلادين، أما عائلته فقد تم استدعاءهاإلى مراكز المخابرات، ومن ثم تم تهجيرها إلى إيران بحجة أنها غير عراقية، فخلفت وراءها ابنها الشاب في سجون النظام، وسكنت هذه العائلة بعد تهجيرها إحدى المناطق الحدودية في إيران، وبعد أن شن هذا النظام حربه على إيران ودخل المناطق الحدودية الإيرانية، كان من ضمن تلك المناطق الحدودية التي احتلها النظام المنطقة التي تسكنها هذه العائلة، وكعادة النظام عندما يدخل أو يسيطر على أي شيء يحاول تدميره، فدمر هذه المنطقة وقتل بعض أبنائها وأسر البعض الآخر، وكان ضمن الأسرى هذه العائلة المنكوبة، وبعد التحقيق معها في بغداد تبين لجلاوزة النظام أن هذه العائلة هي مهجرة سابقاً، وبعد حجزها عدة أشهر تم تسفيرها إلى إيران مرة ثانية، ولكن بعد أن أخذوا منها ابنتها الشابة هذه المرة، وهكذا فقدت هذه العائلة فردين من أفرادها، إضافة إلى جميع ممتلكاتها من أموال وغيرها، وتعرضها للويلات والتعذيب من قبل هذا النظام الطاغي، والكافر بكل الأعراف الإنسانية والأخلاقية، والذي لا يؤمن باللّه العظيم ولا باليوم الآخر.

نحن عراقيون

وهذه قصة أخرى بل صورة عن مأساة التهجير يرويها أحد المهجرين، نذكرها باختصار: يقول المهجَّرين:

اكتب قصة تهجيرنا بأمانة وإخلاص دون ذكر اسمي ومكاني، لا خوفاً من أحد بل خوفاً على أولئك الناس الطيبين الذين رفضوا الظلم ولم تكن لديهم الشجاعة لنصرة الحق، ولأسباب أمنية معروفة للجميع في عراق الظلم والإرهاب، ويبقى أملنا بالعودة كبير، ويكبر كل ما زادت سنين الغربة كما يشتاق الزرع للنبع كل ما زاد العطش.

ص: 156

هكذا نحن جميعاً وبلا استثناء نحن المهجَّرين أبناء دجلة والفرات، ونحنعلى أتم استعداد لأن نموت من أجل كرامة شعبنا ووطننا إذا ما أراد له الأعداء شراً، نضحي من أجله بكل الوسائل الممكنة حتى لو منعنا من دخوله عندما يكون الأمر حق.

تبلغت بضرورة الحضور أمام ضابط الجنسية وذلك من قبل إدارة مدرستي التي أعمل فيها، وبعد مراجعتي للضابط المذكور وجه لي بعض الأسئلة ومن جملتها مَن مِن أهلك تم تهجيرهم؟

فأجبته: بأن والدي البالغ من العمر (70 عاماً) هجّر مع جملة التجار الذين بدأت حملة التهجير الظالمة بهم.

ثم سألني: ما عندك من مستمسكات عراقية؟

فقلت له: إخلاصي للوطن وحبي لأبناء بلدي ومعاداتي للاستعمار وقبور أجدادي. قال: وغير ذلك؟

ففتحت حقيبتي اليدوية وأخرجت له ما عندي من المستمسكات وهي: جواز السفر العراقي العائد لي ولأفراد عائلتي، بطاقات الأحوال المدنية، دفتر إكمال الخدمة العسكرية، ونسخة من ورقة رسمية إقرار بالتملك العقاري (ورقة الطابو لبيتي) وضعت الجميع أمامه.

مدّ يده لأخذها ثم نظر إليّ وارتبك الرجل ولملم وبسرعة جميع المستمسكات ووضعها داخل مظروف، وكتب اسمي عليه وقال: أستاذ الآن هي الحادية عشر ظهراً، ماذا تقول إن تأتي الساعة الثانية بعد الظهر إلى البيت؛ لأنك شملت وعائلتك بقرار التهجير لإيران؟

فأجبته: أخي، لا اعتقد أن الساعات الثلاث كافية لأودع بها أهلي وجيراني

ص: 157

وتلاميذي وزملائي وأصدقاء الطفولة، والأهم من كل ذلك إنها لا تكفي لتقبيلكل شبر داسته قدماي من أرض الوطن، ثم كيف تسمح لنفسك أن يأتوا أفرادك إلى بيتي ويأمرونا بالصعود لسيارتهم، هل تعتقد أننا غجر!؟

فرد علي: كما تريد.

فقلت له: غداً صباحاً وفي تمام الساعة الثامنة سأكون وأفراد عائلتي جميعاً عندك في المكتب.

وفعلاً كان ذلك، جلبت أفراد عائلتي وجلست وزوجتي وأختي الخريجة الجديدة، وأخي طالب المعهد وأبنائي السبعة في مكتبه، وبعد أن أتم الإجراءات التي تخص تهجيرنا طلب منا أن ننتقل إلى غرفة مجاورة لمكتبه، وقال: أنتم الآن موقوفون بحكم القانون! لكن لا أستطيع أن أضعكم في غرفة التوقيف، فتفضلوا في هذه الغرفة حتى المساء كي يتم تهجيركم.

بقينا حتى السادسة مساء عندما جاءنا وأخبرني فقال: بأن مسؤول الحزب يريد التحدث إليك وهو الآن يجلس عند مدير الجنسية، ذهبنا جميعاً ودخلنا حيث يجلسون وبدأ الحديث والأسئلة والاستفسارات، ومن جملتها سألني قائلاً: أخي ماذا تقول إن لقبك عربي، وإن هذا من الألقاب العربية والمصنفة ضمن سجلاتنا؟

فقلت له: إذا كان كذلك فلماذا هجّرتم والدي ومن بعده أفراد عائلته، ألم يكن لقبهم عربياً وعراقياً؟

وإذا كنتم تعرفون ذلك فلماذا أنجزتم معاملة تهجيرنا؟

الحقيقة أنا لا أعرف بأي قانون تحكمون الناس، وما هو معيار المواطنة!!

هل الوثائق التي يحملها؟ فإن جميع مستمسكاتنا العراقية بين أيديكم.

ص: 158

وإذا كان معيار المواطنة هو الولاء للوطن فإن ابنتي الصغيرة (7سنوات)والتي تجلس هي أكثر وطنية منك أيها الرفيق.

عندها قاطعني هذا الرفيق متأثراً من كلامي، قائلاً: كيف أنها أكثر وطنية مني وهي في الصف الأول الابتدائي؟!

قلت له: كن على ثقة لو أن الأمر معكوس عليك لما تذكرت تراب الوطن كما هي تذكرته، وطلبت من ابنتي الناجحة للصف الثاني الابتدائي أن تثبت للرفيق ادعائي.

فتكلمت بهدوئها وخجلها المعهودين - وباللّهجة العراقية الدارجة - فقالت: عمو الصبح واحنا كاعدين نفطر فكرت اشلون راح انعوف بيتنا وأرضنا وبلدنا، فكمت وجبت كيس نايلون صغير وخليت بيه تراب من كاع حديقتنا حتى إذا رحت إلى إيران أضل أبوس بيه، وبعدين كلت لأبويه كام يبوس بيه ويبجي.

ما ان انتهت ابنتي من حديثها حتى أظهر جلاوزة النظام تأثرهم الواضح أو لعله وكما يقال دموع تماسيح.

ثم عاد هذا الرفيق مسؤول الحزب إلى مكانه، وقال بالحرف الواحد: واللّه يا أخي، هذي أوامر، وكلش زين نعرفك، عراقي ومواطن شريف لاكن منكدر إنكول: لا، وأنت تعرف قصدي.

فأجبته: لو كنت مكانك لقلت: لا وألف لا، لو كل شريف يقول للخطأ: لا لما استمر الظلم.

... اقتربت الساعة من السابعة والربع مساءً حيث رن جرس التلفون، فردّ عليه الضابط ولم نسمع سوى: نعم سيدي جاهزين وخمس دقائق يكونون عندكم.

بعد انتهاء المكالمة طلب منا الضابط النزول والتوجه إلى سيارة كانت معدة لنا خارج الدائرة، صعدنا وكان لفيف من الأهل والأقارب والأصدقاء ينتظروننا

ص: 159

للتوديع من بعيد، نقلنا إلى دائرة أخرى قريبة من مديرية الجنسية ودخلنا إلىغرفة كانت تنتظرنا فيها لجنة حزبية وضابط شرطة برتبة كبيرة، وضابطان عسكريان وامرأتان، جلست بعد أداء السلام، ومن معي بقي واقفاً لضيق المكان، وضعوا أمامي ورقة طلبوا وضع بصمة إبهامي عليها، ففعلت دون أن أقرأها، أخرج أحدهم أوراقاً نقدية من حقيبته وطلب مني استلامها، وقال: هذه هدية الحزب والثورة!! فرفضت استلامها، وقلت له: ما هي المناسبة التي يوزع الحزب فيها هداياه؟

فقال: يا أخي خذها أرجوك؛ لأنك ستذهب إلى مكان غريب لا تعرف عنه شيئاً، وعندك عائلة كبيرة!!

فأجبته: إذا كنت حقاً تؤكد بأنه بلد غريب فلماذا تقتلعوننا من بلدنا وترسلوننا إليه؟ هل قدمنا لكم طلباً بذلك؟

فأجاب كبيرهم: يا أخي متعرف ما نكدر نخالف الأوامر فأرجوك أن تأخذ هذا المبلغ البسيط.

فسألته: كم هو المبلغ؟

فأجاب: بما أن عائلتك كبيرة وعددهم (11 شخصاً) فقد قررنا إعطائكم (500 دينار).

فقلت له: حسناً لقد استلمت المبلغ لأنني وقعت وصل الاستلام، فأرجو استلام المبلغ مني واعتباره تبرعاً من عائلتي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم استدركت قائلاً: أو لأية جبهة أو منظمة فلسطينية ترتئونها؛ لأن علاقة العراق حينذاك لم تكن ودية مع منظمة التحرير.

وهنا ثارت ثائرة الرفيق المسؤول فقال بغضب: أخي شنو هذا الكلام؟

فقلت له: نحن المهجرين وإخواننا الفلسطينيين وجهان لعملة واحدة،

ص: 160

الفلسطينيون هجرتهم العصابات الصهيونية ونحن هجرنا من قبلكم، ولا أقبلهذا المبلغ البسيط بدل قيمة أرض آبائي وأجدادي؛ فليس للأرض والوطن ثمن غير دم الإنسان، ولا تحلو لي جنان الدنيا كلها مثل ما يحلو لي ذلك القبر المظلم المدروس في ثنية من ثنايا أرض وطني الحبيب، عندها خيّم على الجميع السكون ثم أطرقوا برؤوسهم، أما المرأتان فكان نحيبهما مسموعاً، اقترح الرجل المسؤول أن أقبل المبلغ وأتبرع فيه إلى المنظمة في طهران، وبعد أخذ ورد قبلت المبلغ.

وبعد ذلك أخذونا بعد أن احتجزوا أخي عندهم وفرقوه عنا؛ لأن أخي يبلغ من العمر عشرون عاماً، وقالوا: حسب الأوامر إنه لن يهجر معكم بل يحتجز. ولما سمع أولادي ذلك ولشدة تعلقهم به أجهشوا بالبكاء.

خرجنا من هذه الدائرة حيث نقلونا إلى أحد مراكز الشرطة وهنا أحسست بتوتر شديد ومرارة كبيرة ملأت نفوسنا، وبعد مرور ساعات قضاها الأولاد نوماً على أرض ممر مركز الشرطة والكبار سكنت شفاههم عن الحركة، وكل منا ينظر إلى وجه الآخر ولسان حالنا يقول: قاتل اللّه الظلم هل نحن في حلم؟ هل حقيقة أننا نفترش الأرض وعندنا الكثير من البيوت؟ فلماذا نعامل هكذا ونحن العائلة العريقة المعروفة بكل فضيلة؟ لماذا يصل الحقد بالحاكم الجائر لهذه الدرجة؟

صارت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وأخبرونا بأن السيارة جاهزة لنقلكم إلى الحدود الإيرانية، وكانت من النوع الذي يخصص لنقل المجرمين ذات الحاجز المشبك من الداخل، حيث يفصل المجرم عن طاقم الحرس المأمورين، وهنا جن جنون زوجتي والتي كانت في الأيام الأخيرة لوضع مولودها، فصرخت وبعصبية قائلة: ألا تخجلوا من أنفسكم لتنقلونا بمثل هذه السيارة هل نحن مجرمين؟

ص: 161

لم تجد إجابة لسؤالها شافية.اخترقت السيارة شوارع مدينتنا ونحن نمر من أمام بيوت أهلنا وأصدقائنا، نودعهم وهم نيام لا يعرفون بأن هناك عائلة لها جذورها في هذه الأرض قد اقتلعت، وهي محمولة في سيارة حقيرة لقذفها خارج حدود الوطن.

وبعد مسيرة طويلة استغرقت أربع ساعات ونصف وصلنا المخفر الحدودي، لم يدم بقاؤنا عند المخفر أكثر من ربع ساعة حيث ودعنا آخر قطعة أرض من الوطن ونحن نحمل ذكريات اللوعة والحزن على فعل بنا هذا النظام الذي ابتلى به العراق. وكانت المسافة بين المخفر الحدودي والخط الدولي الفاصل (500متر) تقريباً، جلسنا عند شاخصة إسمنتية كتب على وجه منها العراق وعلى الوجه الآخر إيران، ونحن لا نعرف هل نحن ولدنا في الهواء؟!

طلعت علينا شمس تموز من خلف جبال إيران لتشهد المأساة، مأساة أم حامل في أيامها الأخيرة وأطفال أبرياء بعمر الزهور قد ضاق بهم هذا الكوكب الواسع، مرت ساعة وساعتان وثلاث حتى انتصف النهار، ولا أحد من شرطة الحدود الإيرانيين يأتي لنقلنا، واشتدت حرارة الشمس ولم يكن في المكان شجرة أو شيئاً نستظل به، جمعت الأم أولادها الصغار وكان أكبرهم يبلغ من العمر (13 عاماً) جمعتهم تحت عبائتها وبدأت تقص لهم قصصاً قصيرة وهي يائسة خائرة القوى، عسى أن تنسيهم وتبعد عنهم الخوف من المصير المجهول الذي ينتظرهم، طلبت ابنتي الصغيرة قليلاً من الماء، فعندما أردت سكب الماء لها فوجئت بنفاده، حيث كان معنا قربة صغيرة فيها قليل من الماء نزل منها ما يكفي لتبليل الشفاه فقط، عندها رفضت الصغيرة وبإصرار على أن لا تشربه، فسألتها لماذا؟ فأجابتني: إذا شربت الماء فماذا يبقى لإخواني الصغار إذا عطشوا. لقد أثر هذا الموقف بنفسي كثيراً وأحسست بأن الموت قادم لنا جميعاً.

ص: 162

عندها أخذت اثنين من بناتي الصغيرات واتجهت بهم صوب مخفرنا سابقاً - أي:المخفر الحدودي العراقي - وأنا ألوّح بقطعة قماش كنت أقي بها طفلتي من حرارة الشمس، ألوّح بها لأفراد المخفر؛ عسى أن يقدموا نحونا لإسعافنا بقليل من الماء، تابعنا نحن الثلاثة مسيرنا نحوهم ونحن منهكي القوى، وأخذ العطش والتعب والخوف من المجهول منا مأخذه، حتى شاهدنا ثلاثة عسكريين يتقدمون نحونا، فالتقينا قريباً من المخفر وكان أحدهم ضابط المخفر والاثنان في حراسته، سألني الضابط وكان الحرج واضحاً عليه: لماذا وكيف دخلت الأراضي العراقية؟ لدينا أوامر من الرئيس صدام بأن نطلق النار عليك وعلى بناتك ونقتلكم؟ يقصد تنفيذ التأكيد الوارد في البرقية السرية لوزير الداخلية، والموجهة إلى الأجهزة الأمنية بخصوص عملية تهجير المواطنين المرقمة (2884 في 10/4/1988) حيث جاء في ذيل هذه البرقية: (نؤكد أمرنا في فتح النار على من يحاول العودة إلى الأراضي العراقية من المهجرين).

صرخت الطفلتان وطوقتاني بأذرعهما مذعورتين ثم تركتني إحداهما وأمسكت بالضابط متوسلة وهي تصرخ: لا، لا تقتلنا نحن عراقيون. ثم تابع الضابط كلامه فقال: أنا الآن مراقب ومسؤول لعدم تنفيذ أمر إطلاق النار عليكم. فأجبته: إن العطش سيقتل أولادي. فقال: هم سبعة ليمت منهم اثنان، أمس كانت عائلة مات منهم رجل مسن وطفل رضيع دفنهم أهلهم هناك!!

قال ذلك وكأنه يتحدث عن نعاج نفقت، قلت له: ألا تتحمل المسؤولية من أجل أبنائي؟

قال: لا.

قلت: لو كنت مكانك لضحيت بأبنائي السبعة من أجل إنقاذ طفل من أطفالك، وأتحدى كل قوانين الظلم من أجل موقف إنساني، فطلب من الطفلتين

ص: 163

السير خلفهم بعد أن طالبني بالرجوع حيث تجلس عائلتي، فزودوا الطفلتانبالماء وعندما عادتا قالتا لي: إن الجنود قالوا لهما: إذا بقيتم على الحدود إلى الليل تعالوا لنا خلسة كي نزودكم بالغذاء والماء، وكونوا حذرين أن لا يراكم ضابط المخفر. عادت الطفلتان تحملان الماء، فشرب الجميع دون تبذير.

طال انتظارنا وخيم اليأس على نفوسنا ونحن بانتظار حدوث المعجزة.

وبعد يأس كبير قررت أن أسير داخل الأراضي الإيرانية واستمر بالسير مهما طال الطريق؛ عسى أن اصل إلى قرية أو جماعة أو مخفر، سرت وبصعوبة بالغة، فقد أخذ الأمر مني مأخذه، وبعد أن قطعت مسافة طويلة استغرقت ساعة ونصف وإذا بأربعة شباب ينزلون وبسرعة فائقة من قمة جبل متوسط الارتفاع متجهين نحوي يحملون البنادق الرشاشة، وفهمت منهم أن اقف وأرفع يدي ففعلت، وقاموا بتفتيشي وبعد التأكد سألوني وأفهمتم بأني لا أعرف ما يقولون ولحسن الحظ كان من بينهم جندياً يعرف اللغة العربية من عبادان فترجم لهم أقوالي، بعدها اتصلوا بجهاز اللاسلكي وطلبوا على الفور سيارة تنقلنا إلى إيران.

لا تتكلموا، هذه أوامر صدام!

وهذه قصة أخرى يرويها أحد المهجرين من الذين عانوا من جريمة التهجير وذاقوا ظلم ومرارة نظام العفالقة، فيقول:

بدون سابق إنذار فوجئنا بمسلحين يطرقون باب بيتنا، ووقتها كنت وأمي وإخوتي الثلاثة وأختي الصغيرة جالسين نتناول طعام الغداء، ففزعنا جميعاً من شدة الطرق على الباب، وأسرعت لفتح الباب، فاقتحم رجال مسلحون الدار دون استئذان، وهددوا الجميع بعدم القيام بأية حركة، ثم أخبرونا بضرورة الإسراع وتهيئة أنفسنا للذهاب معهم إلى مركز الشرطة، حيث سيتم تهجيرنا إلى إيران، صعقنا جميعاً لهذا الخبر، وأخبرناهم بأننا عراقيون ولدينا كافة المستمسكات العراقية، وقد

ص: 164

ولدنا وآباؤنا وأجدادنا في العراق، وليس لنا أي وثائق تربطنا بإيران، ولا نعرف عنهاشيئاً لا من قريب ولا من بعيد، فلماذا تفعلون بأبناء الوطن هكذا؟!

فأجابونا بعصبية: لا تتكلموا؛ هذه أوامر الرئيس صدام.

اقتادونا بسيارتهم دون أن يسمحوا لنا بجلب أي شيء معنا، حتى وجبة الغداء بقيت على الأرض دون أن نكملها، أخذونا إلى سجن رقم واحد السيئ الصيت، وفيه شاهدنا عشرات العوائل جلبوها لنفس الغرض، بقينا عدة ساعات حتى جاء دورنا للتحقيق ولم يستغرق التحقيق الصوري أكثر من (15 دقيقة) حيث أخذوا منا جميع المستمسكات العراقية، وبعدها نقلونا نحن الأخوة الشباب الثلاثة إلى غرفة خاصة وعزلونا عن والدتي وأختي الصغيرة، وقالوا لأمي: سوف تذهبين إلى إيران وابنتك فقط وأما أولادكم سيتم حجزهم؛ لأن هذه أوامر الحكومة.

فلما سمعت أمي هذا الكلام صرخت ثلاث مرات: لا لا لا، وأغمي عليها، افترقنا ولم نعرف عنهم شيئاً، حيث تم اقتيادنا إلى مركز شرطة في منطقة البتاوبين في بغداد وحجزنا فيه مدة (20يوماً) ثم نقلنا إلى سجن أبو غريب الرهيب، تصوروا ثلاثة إخوة يفرقونهم عن أمهم وأختهم ويدخلونهم السجن دون أي ذنب أو جرم!! دخلنا سجن (صدام) ورأينا جميع غرف السجن الرهيب مليئة بشباب مثلنا وكان عددهم يزيد على (80 شخصاً)، وهؤلاء كلهم هجرت السلطة عوائلهم.

ما أن مرّ على بقائنا في السجن (8 أيام) حتى حدثت انتفاضة (5/5/1980) والتي قام بها الشباب العراقي المؤمن ليعلنوا غضبهم بوجه الجلاد، ولقد أضاف هذا اليوم رقماً جديداً في سجل بطولات الشعب العراقي المعروفة، تحطم كل شيء في هذا السجن وأبوابه الحديدية الداخلية القوية لم تصمد أمام عزيمتنا لأكثر من (10 دقائق) فقط أصبح السجن كالبحر تتلاطم فيه الأمواج، وارتبك الحرس وهربوا إلى السطح وبعد مدة قليلة وإذا بالمروحيات تنزل قواتاً من

ص: 165

الحرس الجمهوري وبدءوا بإطلاق الرصاص وبشكل عشوائي علينا، وأخذواينادوننا بمكبرات الصوت ويدعونا إلى الهدوء وتعهدوا لنا وباسم الطاغية صدام بأنه سيتم إخلاء سبيلنا، وفعلاً وبعد الانتفاضة بيومين تم نقلنا جميعاً وعلى شكل وجبات إلى الحدود الإيرانية، أما الذين هيئوا للانتفاضة فقد تم عزلهم ولايعرف أحد عن مصيرهم شيئاً.

لن نرضى بغير العراق وطناً

وهذه قصة أخرى يرويها أحد الأشخاص كان يعمل موظفاً في مديرية التأمين على الحياة - ولم يسعفه عمله في التأمين على حياته - حيث يذكر طريقة تهجيره فيقول: عند الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم (19/نيسان/1980) وبينما كنت منهمكاً بإنجاز بعض المعاملات - التأمين على الحياة!! - اتصلت بي والدتي تلفونياً وهي خائرة القوى، وطلبت مني الحضور وبسرعة إلى البيت؛ لان مجموعة من المسلحين دخلوا عليها وأخبروها بضرورة الذهاب معهم إلى مركز الشرطة لتهجيرها ومن معها إلى إيران.

خرجت من الدائرة بعد أن طلبت إجازة زمنية!! ولما وصلت إلى البيت وجدت أربعة أشخاص بيد كل منهم مسدساً، وكانوا في حالة تأهب وكأنهم دخلوا ليحتلوا موقعاً عسكرياً أو داراً للإذاعة، سلمت عليهم فرد علي أحدهم بعبارات نابية، وطلبوا مني الإسراع للذهاب معهم، فرجوتهم أن يعطوني فرصة كي أتصل بأختي الموظفة في وزارة الزراعة - زراعة بلد تطرد منه - وأختي الصغيرة في المدرسة وأخي في الصف الثاني المتوسط وولدي في الصف الأول الابتدائي؛ إذ لا يمكن أن نذهب بدونهم، وأخيراً تمكنت بعد عناء شديد من إقناعهم، ولما حضر الجميع صعدنا إلى السيارة المعدة لنا دون أن يسمحوا لنا بحمل أي شيء معنا، سوى جوازات سفرنا وهويات الأحوال المدنية ووثيقة إنهاء الخدمة العسكرية

ص: 166

ومستمسكات ثبوتية أخرى من أجل سحبها منا - وهم ومع كل هذه المستمسكاتوالأوراق الثبوتية يعتبروننا غير عراقيين حسب ضوابط نظام الطاغية - وفعلاً سحبت جميعها من قبلهم، وبعد ساعة واحدة من التحقيق السريع تم نقلنا وثلاث عوائل أخرى بواسطة إحدى السيارات إلى مخفر حدودي حيث تم تسليمنا لهم، وبعد التأكد من الأسماء الواردة في كتاب الإبعاد وضعونا على خط الحدود الفاصل بين العراق وإيران حتى جاءت سيارة تابعة إلى شرطة الحدود الإيرانية ونقلونا بها إلى مركزهم، ومن ثم وضعونا في مخيم محافظة خرم آباد.

نعم، هكذا وببساطة ودون رفة جفن واحدة هجرنا من بلدنا الذي ولدنا فيه نحن وآباءنا وأجدادنا، وفرقوا أختي عن خطيبها، وزوجتي عن أمها وأبيها، وصادروا كل ما عندنا حتى بيتنا الذي أكملنا بناءه قبل التهجير بستة اشهر والذي كلّفنا جهد العمر.

لقد تم تهجيرنا بهذه الصورة اللا إنسانية رغم كل ما نحمله من مستمسكات ثبوتية عراقية ورغم ولاداتنا المضاعفة حيث ولادة جدي في العراق عام (1881م) وولادة أبي عام (1915م) وولادتي وولادة أبنائي جميعاً ولا نعرف وطناً غير العراق، ولن نرضى بغير العراق وطناً لنا مهما طال الزمن ومهما طال عمر الظالم.

تهجير التجار غيلة

أما قضية تهجير التجار الجماعية فكما يرويها أحد التجار فيقول:

قامت غرف التجارة في بغداد وبقية المحافظات بتوجيه دعوة رسمية تم بها استدعاء كبار تجار الشيعة لاجتماع عاجل، بحجة التباحث والتداول والتشاور في بعض الأمور الاقتصادية بهدف حل أزمة المواد المعيشية التي استعصت على الدولة.

وهكذا ما أن وصل التجار إلى أمكنة الاجتماعات المزعومة، أصيبوا بالذهول

ص: 167

لهول الصدمة؛ إذ تم اعتقالهم فوراً والاستيلاء على سياراتهم التي قدموا بها، وإذابهم بعد دقائق داخل قفص محكم الطوق من قبل أزلام الطاغية من أفراد الأمن والاستخبارات وغيرهم. وانهم وقعوا في مكيدة خبيثة خسيسة نصبها لهم الطاغية.

وقبل أن يفيقوا من صدمتهم اقتيدوا بسيارات أعدت لهم خصيصاً إلى مديريات أمن المحافظات وسط إجراءات إرهابية، حيث أفرغت جيوبهم من كل محتوياتها، كالنقود والأوراق الخاصة والأوراق الثبوتية والصكوك والمفاتيح ودفاتر الهاتف، وأجري لكل منهم تحقيقاً سريعاً حيث أخذوا منهم المعلومات مثل: الاسم، العنوان، الرصيد في البنك، الأموال المنقولة وغير المنقولة، المحلات والتجار الذين يتعاملون معهم، عدد الأبناء والاخوة وعناوينهم وعناوين الأقارب حتى الدرجة الرابعة، وبعد الانتهاء من كل هذه الإجراءات الإرهابية سيقوا جماعات جماعات، وتحت حراسة مشددة إلى الحدود، فرموا بالعراء وأمروا بالسير نحو الأراضي الإيرانية، بعدما أبلغوهم بأنهم غير مرغوب في وجودهم في البلد؛ لأنهم - حسب زعم الطغاة - عجم!!! ويجب أن يعودوا إلى بلادهم، وأنذروهم بأن أي شخص يحاول العودة إلى الوطن، أو يتردد في الحركة إلى إيران فإن النار ستطلق عليه بدون إنذار.

وهكذا تمت مرحلة من مراحل جريمة التهجير المقترنة بكوابيس الإرهاب والرعب للمسلمين العراقيين من شيعة أهل البيت^، حيث جرى بها تشريد شعب كامل وتغيير بنيته السكانية ضمن مخطط شرير تكمن في أساسه عقدة الخوف من الشعب ذاته.

تهجير آلاف العوائل

وبعد مدة قصيرة جداً من ترحيل التجار، ودون سابق إنذار وطوال أيام مريرة

ص: 168

واجهت آلاف الأسر العراقية البريئة محنة التهجير القسرية، جريمة جناها الطغاة ترسيخاً لسياسة الإرهاب والتمييز القومي والطائفي، حيث تمت مداهمة بيوتالآمنين من قبل قوات الأمن والشرطة ومرتزقة الجيش الشعبي والأجهزة القمعية الأخرى، روعت النساء والأطفال وأهانت الأمهات والآباء الذين انتزعوا من أسرتهم وأخرجوا من بيوتهم بالقوة والإكراه بما عليهم من ملابس، بعد أن جردوا من كل ممتلكاتهم ومقتنياتهم كالنقود والمصوغات، وتم الاستيلاء على أملاكهم من العقارات والأراضي والبساتين بحجة أنها غنائم، ومنعوا من سحب الأموال من المصارف، كما منعوا من إعطاء وكالات لبعض من - لعله يقبل أن - ينوب عنهم في سبيل تصفية أمورهم المادية، وحرم عليهم أخذ أي زاد أو متاع أو اصطحاب أبسط حاجياتهم، وحذروا بأن كل من يخفي في ملابسه مالاً أو ذهباً سوف يقتل بتهمة سرقة أموال الدولة!

وبعد ذلك تم عزل الأبناء والإخوة من الشبان الذين تتراوح أعمارهم ما بين (16-28) سنة واحتجازهم، ثم حشرت الأسر المنكوبة من رجال ونساء وأطفال بسيارات شحن، انطلقت بهم إلى الحدود في ساعات الفجر الأولى، وتركوا في البرد والعراء تحت طائلة التهديد بإطلاق النار عليهم حتى الموت إن تلكؤا في المسير، أو حاولوا العودة إلى وطنهم، وأجبروا على السير على الأقدام باتجاه إيران، وأمروا أن يعبروا الخط الفاصل بين الدولتين، عبر مناطق جبلية وعرة غير مأهولة، في طقس قاس وسط الثلوج وفي ظروف صعبة، وهم في أشد حالات التعب والإرهاق والخوف.

أكراد العراق

اشارة

يتوزع الأكراد فيما بين العراق وإيران وتركيا وسوريا ومناطق أخرى من العالم،

ص: 169

ويبلغ تعدادهم - حسب بعض الإحصاءات - (25 مليون نسمة)(1) تقريباً موزعين بين هذه البلدان، وأكراد العراق وأسوة بإخوانهم من أفراد الشعب العراقي المظلوم عانوا ما عانوا من النظام الحاكم في العراق.

فجرائم النظام الحاكم بحق الأخوة الأكراد العراقيين هي مما لايمكن حصره بهذه الكلمات القليلة؛ وقد شاطروا إخوانهم الشيعة بما وقع عليهم من الظلم والاضطهاد بكافة أشكاله، فقد ارتكب النظام أبشع الجرائم وأشد أنواع الاضطهاد العنصري البغيض ضدهم؛ فإضافة للسجن والتعذيب والتهجير مورس بحقهم ما يعرف بحملات التعريب، حيث قام جلاوزة السلطة الحاكمة وبأوامر من رأس النظام بتهجير الأكراد من مدنهم وقراهم إلى مدن وقرى في جنوب ووسط العراق، وإسكان العرب مكانهم بعد تقديم إغراءات كبيرة لهم، وعند إسكانهم في مناطق العرب تم وضعهم في ظروف معيشية مهينة مجبرين على امتهان أدنى الأعمال في سبيل سد رمق أطفالهم وعيالهم، كما كان يقوم أفراد الحزب الحاكم بالضغط على الأكراد في سبيل تغيير قوميتهم وإغرائهم بالانتساب إلى القومية العربية، كما قام النظام الحاكم بإصدار الأوامر لجيشه بحرق قرى كردية بأكملها وأبادتها عن بكرة أبيها، لمجرد إظهار أي نوع من أنواع المعارضة للنظام أو الاحتجاج على أساليبه، وهذا كله مخطط له ومنسق مع أسياد النظام من الاستعمار الذين أتوا به ليحكم العراق.

جريمة حلبجة

لعل من أبشع الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب الكردي هي جريمة ضرب مدينة حلبجة الكردية بالأسلحة الكيماوية، حيث قام النظام بجريمته هذه قبل

ص: 170


1- أما الإحصائيات الأخيرة تشير إلى أن عددهم يتراوح ما بين (32 إلى 50) مليون نسمة.

نهاية الحرب التي شنها نظام العفالقة على إيران، وذلك عندما أشيع للنظام بأن القوات الإيرانية ستدخل مدينة حلبجة بمعونة الأكراد عندها أصدر صدام أوامره بضرب المدينة الآمنة بالأسلحة الكيماوية والغازات السامة، فقتل ما لا يقل عن (5000) مواطن كردي أعزل من السلاح، بينهم مئات الأطفال والشيوخ والنساء الذين لا ذنب لهم، وتعتبر هذه الجريمة من سلسلة الجرائم التي ارتكبت بحق أبناء هذا الشعب بعربه وأكراده وسائر قومياته.

كما تبعتها سلسلة من الجرائم الخطيرة ضد الأكراد، تمثلت في هدم عدة قرى كردية ومسحها عن وجه الأرض بحجة أنها تقع على الحدود مع إيران، وقام نظام صدام بقتل الآلاف من الأكراد في عمليات تعرف بالأنفال سيئة الصيت، هذا فضلاً عن استمرار سياسة التطهير العرقي بحق الأكراد الساكنين في المدن الكردية، وبخاصة من مدينة كركوك عبر اتباع نهج عنصري إجرامي في سبيل تغيير قومية الأكراد.

قصص من مأساة حلبجة

روى أحد الناجين من هذه الجريمة قائلاً:

لقد غض المجتمع الدولي الطرف عما جرى في حلبجة؛ لأن صدام كان آنذاك يحارب إيران، ولكنه اليوم وبعد ما أدى ونفذ ما طلب منه من قبل أسياده الإنكليز والأميركيين والصهاينة نراهم اليوم يستغلون معاناة الناس في هذه المدينة ويتاجرون بمآسيهم في سبيل تأليب الرأي العام ضد نظام صدام.

ويضيف - الراوي - : لقد نجوت من القصف بالغاز بأعجوبة فعندما هاجمت الطائرات العراقية المدينة وذلك في يوم (16 آذار 1988م) وقد كانت مدينة حلبجة تزخر بالحياة والحركة، أتذكر هدير الطائرات التي ألقت قنابل الموت، والقصف الذي نفذ آنذاك أسفر عن مقتل ما لا يقل عن خمسة آلاف مدني على

ص: 171

الفور، غالبيتهم من الأطفال والنساء. ودفن عدد كبير منهم في مقابر جماعية حول التلال المطلة على المدينة بالقرب من الحدود العراقية الإيرانية.

ويقول: رأيت مشاهد لن أنساها طوال العمر، فقد بدأ القصف بصوت قوي غريب لا يشبه بشيء انفجار القنابل، ثم دخل أحدهم إلى منزلنا صارخا: الغاز، الغاز، وقد صعدنا في السيارة على عجل وأغلقنا نوافذها، واعتقد أن السيارة سارت على جثث الأبرياء، وكان بعض الأشخاص يتقيئون سائلا أخضر اللون وبشرتهم تميل إلى السواد وتصبح متورمة، في حين أن آخرين أصيبوا بهستيريا وراحوا يقهقهون قبل أن يسقطون من دون روح، ثم شممت رائحة تفاح وفقدت الوعي. وعندما استيقظت، كانت الجثث متناثرة حولي بالمئات(1).

رواية أخرى للمأساة

وفي رواية أخرى لما جرى في حلبجة يقول الراوي:

في الساعات المتأخرة من صباح يوم (16 آذار 1988م)، ظهرت طوّافة تابعة لسلاح الجو العراقي فوق مدينة حلبجة، كانت الحرب الإيرانية - العراقية في سنتها الثامنة وكانت حلبجة على مقربة من خطوط الجبهة. ويسكنها قرابة ثمانين ألف كردي تعوّدوا العيش على مقربة من العنف في حياتهم اليومية، وكغيرها من معظم مناطق كردستان العراق، كانت حلبجة في ثورة دائمة ضد نظام صدّام،

ص: 172


1- ذكر الخبراء أن الطيران العراقي أمطر حلبجة بخليط من العناصر الكيميائية تتضمن الغاز المسيل للدموع المكثف وغاز الخردل وعنصر (في اكس) المتلف للأعصاب،. وكان العراق قد زود آنذاك بالأسلحة الكيماوية من جانب الدول الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا. وقد سببت هذه المأساة الكثير من التأثيرات الجانبية للغاز، وظهر العديد من الأمراض التي تفتك بأهالي مدينة حلبجة حتى الآن وهذه الأمراض هي: التشوه المنغولي، الربو، الإجهاض، ولادة الأجنة الميتة، أمراض الجلد والرئتين المزمنة، سرطان الدم، التشوهات في الحلق.

وكان سكانها من مؤيدي (البيشمرجا)، وهم المقاتلون الأكراد الذين كان يعني اسمهم: أولئك الذين يواجهون الموت.

وعند حوالي الساعة العاشرة، وربما أقرب إلى العاشرة والنصف، شوهدت طوّافة تابعة لسلاح الجو العراقي، غير أن الطوّافة لم تكن تهاجم، كان على متنها رجال يأخذون صوراً، كان مع أحدهم آلة تصوير عادية وكان آخر يحمل ما كان يبدو أنها آلة تصوير فيديو، دنوا منا كثيراً، ثم ابتعدوا. كان المشهد غريبا؟!

بدأ القصف قبل الحادية عشرة بقليل، أطلق الجيش العراقي المتمركز على الطريق التي تصل ببلدة سيد صديق، القذائف المدفعية على حلبجة وبدأت القوة الجوية إلقاء ما كان يعتقد بأنه قنابل النابالم على المدينة، وعلى الأخص على المنطقة الشمالية، ركضنا إلى القبو، واختبأنا فيه.

انحسر الهجوم حوالي الثانية بعد الظهر، وصعدنا السلم بكل تأن باتجاه مطبخ البيت الذي كنا فيه لحمل الطعام إلى العائلة، وعند توقف القصف، تغيّر الصوت، لم يكن قوياً، كان أشبه بقطع معدنية تتساقط دون أن تنفجر، لم نعرف سبب هذا السكون.

جمعنا الطعام بسرعة لكن لاحظنا مجموعة من الروائح الغريبة أتت بها الريح إلى داخل المنزل، في البداية، كانت الرائحة كريهة مثل رائحة النفايات، ثم تحولت إلى رائحة طيبة، مثل التفاح المحلّى، ثم مثل البيض، ألقيت نظرة على طير حجل داخل قفص في المنزل، كان الطائر يموت وقد استلقى جانباً، نظرت خارج النافذة: كان كل شئ هادئاً، لكن الحيوانات - الخراف والماعز - كانت تنفق، ركضت إلى القبو قلت للجميع: إن ثمة شيئا غير طبيعي.

تملّك الذعر الأفراد الموجودين في القبو، لقد هربوا إلى الطابق السفلي للنجاة من القصف، وكان من الصعب عليهم مغادرة الملجأ، كانت خيوط من النور

ص: 173

تدخل إلى الطوابق السفلية من المنازل، لكن الظلام كان يعطي شعوراً غريباً بالراحة، لقد أردنا البقاء مختبئين حتى عندما بدأنا نشعر بالمرض، لقد شعرت بألم في عيني كغرز الإبر، دنت شقيقتي من وجهي وقالت: عيناك كثيرة الاحمرار، ثم بدأ الأطفال بالتقيؤ، واستمروا على التقيؤ. لقد كانوا يشعرون بألم كبير ويبكون بشدة، كانوا يبكون طوال الوقت، وكانت أمي تبكي ثم بدأ المسنّون بالتقيؤ.

لقد ألقيت الأسلحة الكيماوية على حلبجة من قبل السلاح الجوي العراقي، الذي أدرك إن أي ملجأ تحت الأرض سوف يصبح شبيهاً بغرفة غاز.

عرفنا أن في الجو مواد كيماوية، أصيبت أعيننا بالاحمرار، كما إن السوائل كانت تخرج من أعين البعض، لقد قررنا الركض. توجهت وأقاربي إلى الخارج بحذر شديد، وأتذكر أني رأيت بقرتنا مستلقية على جانبها، كانت تتنفس بسرعة كبيرة، كما لو أنها كانت تركض، كانت الأوراق تتساقط من الأشجار مع أنه كان فصل الربيع، لقد مات طير الحجل، كانت هناك سحب من الدخان تصل إلى الأرض وكان الغاز أثقل من الهواء، وكان يدخل إلى الآبار وينزل فيها.

راقبت العائلة اتجاه الريح وقررّت الركض في الاتجاه المعاكس، كانت هناك صعوبة في الركض، لم يتمكن الأطفال من الركض؛ لأنهم كانوا يعانون من شدة المرض وكانوا منهوكي القوى من التقيؤ فحملناهم على أذرعنا.

أما في المدينة، كانت العائلات الأخرى تتخذ نفس القرارات، لقد قرر بعضهم التوجه مع عائلته إلى عناب، وهو مخيم في ضواحي حلبجة يضّم الأكراد الذين هجّروا عندما دمر الجيش العراقي قراهم، وعلى الطريق إلى عناب، بدأ العديد من النساء والأطفال يقضون نحبهم؛ فقد كانت السحب الكيماوية تغطي الأرض، كانت ثقيلة وكنا نراها. وكان الناس يموتون من حولنا، وعندما كان طفل ما يعجز عن السير، كانت الهستيريا تتملك أهله من الخوف،

ص: 174

فيتركونه خلفهم. لقد ترك العديد من الأطفال على الأرض، إلى جانب الطريق، وهكذا الحال بالنسبة للمسنين أيضاً، كانوا يركضون ثم يتوقّفون عن التنفس ويقضون.

كنا نريد الاغتسال أولاً وإيجاد ماء للشرب، وكنا نريد غسل وجوه الأطفال الذين كانوا يتقيئون وكانوا يبكون بشدة ويطالبون بالماء، وكانت هناك بودرة بيضاء على الأرض، لم نكن نستطيع أن نقرر بالنسبة لشرب الماء أو عدمه، لكن بعض الأفراد شربوا من ماء البئر لشدة عطشهم.

أما القصف فقد كان متواصلا بشكل متقطع بينما طائرات السلاح الجوي تحلق بشكل دائري من فوق، كانت تظهر على الناس عوارض مختلفة، لمس أحد الأشخاص البودرة، فبدأت تبرز على جلده فقاقيع.

وصلت إلى المكان شاحنة يقودها أحد الجيران، لقد رمى الناس أنفسهم فيها، وشاهدنا أناساً ممددين متجمدين على الأرض، كان هناك طفل رضيع على الأرض بعيداً عن أمه، ظننت أنهما نائمان، لكن يبدو أن هذه الأخيرة رمته أرضاً ثم ماتت، وأظن أن الطفل حاول الزحف لكنه مات هو أيضاً، لقد بدا كأنهم جميعاً نيام.

وبينما كانت سحب الغاز تغطّي المدينة، كان الناس يشعرون بالمرض والضياع. أحد الأشخاص علق في قبوه مع عائلته؛ قال: إن أخاه بدأ يضحك بشكل هستيري ثم خلع ثيابه، وبعدها بقليل مات، مع حلول الليل، بدأ أطفال العائلة يصبحون أشد مرضاً لدرجة لم يعد بإمكانهم التحرك.

في منطقة مجاورة أخرى، كان شاب في سن العشرين، قد هالته رائحة حلوة غريبة من الكبريت، وأدرك أن عليه إجلاء عائلته؛ كان هناك حوالي مائة وستين فرداً محشورين في القبو. قال: لقد رأيت سقوط القنبلة، كان ذلك على مسافة

ص: 175

ثلاثين متراً من المنزل أغلقت الباب المؤدي إلى القبو، سمعت أصوات صراخ وبكاء في القبو، وأصبح الناس يجدون صعوبة في التنفس، شوهد أحد الذين أصابهم الغاز وكان ثمة شئ يخرج من عينيه، كان شديد العطش ويطالب بالماء. أما الآخرون في الطابق السفلي من المنزل بدؤوا يشكون من الارتجاف.

ويقول: كان يوم السادس عشر من آذار يوم عقد قران أحد الشبان. وكانت كل الاستعدادات قد تمّت. كانت عروسه بين أول الذين قضوا في القبو، يتذكر عريسها أنها كانت تبكي بشدة، حاولت تهدئتها، قلت لها: إن الأمر هو مجرد قصف مدفعي، لكن رائحته غير الرائحة العادية للأسلحة، كانت ذكية وتعرف ما الذي يجري. لقد ماتت على السلم، حاول والدها مساعدتها لكن كان قد فات الأوان.

وطال الموت بسرعة أناساً آخرين، حاولت امرأة إنقاذ ابنتها ذات العامين بإرضاعها معتقدة أن الطفلة لن تتنفس الغاز وهي ترضع، لقد رضعت مدة طويلة، وماتت أمها وهي ترضع، لكنها ظلت ترضع. وكان معظم الناس الموجودين في الطابق السفلي من المنزل قد فقدوا الوعي؛ العديد منهم قد مات.

قصة أخرى

وهذه قصة أخرى يرويها أحد الإخوة الأكراد يبين فيها واحدة من المآسي التي جرت عليهم من نظام الطاغية فيقول:

في الحقيقة عندما يتم الحديث عن جرائم النظام العراقي وانتهاكات حقوق الإنسان في العراق، لا يمكن الإحاطة بهذه الجرائم بكاملها، ولكني سأتحدث بشيء من التفصيل حول إحدى الجرائم، كوني عشت حياة عشرات الآلاف أثناء الترحيل، وأثناء استخدام السلاح الكيمياوي من قبل النظام الجائر ضد المدنيين الأكراد، وهي من الجرائم البشعة التي تعرض لها شعبنا الكردي، وهي من أبشع

ص: 176

الصور في انتهاك حقوق الإنسان ارتكبت ضد شعب آمن لم يرتكب جرماً.

فاستخدام السلاح الكيماوي له وقع نفسي كبير على الناس، ومجرد ذكر هذا السلاح أمامهم يثير فيهم الفزع والحزن العميق، فالتأثير كان كبيراً، وفعلاً في يوم (24/8/1988) - أي بعد الإعلان الرسمي لنهاية الحرب بستة عشر يوماً - جاءت الأخبار عن وجود نية لهجوم كاسح، السلاح الأول فيه هو السلاح الكيماوي.

إن الليالي من (24/8/1988 ولغاية 28/8/1988) كانت قمة خوف وفزع ومأساة الجماهير، وكانت ليلة (27/8/1988) من أحرج الليالي، وكان العبور محدد بمناطق لايمكن العبور من غيرها، وهي مناطق محفوفة بالمخاطر، فالطريق الذي كان يعبرون منه لم يكن مستوياً، وقد عبر من واحدة من هذه المناطق أكثر من (13 ألف) كردي، ولم يستطع كل المتواجدين في تلك المنطقة أن يعبروا، لأن الوقت لم يسعهم فكان عليهم أن يتراجعوا وعوائلهم المتعبة الخائرة القوى مع المرضى وحيواناتهم وكل ما يملكون، فاضطروا في اليوم التالي إلى التسليم لقوات الحكومة التي كانت تحاصرهم في يوم (28/8/1988).

والحديث عن المأساة التي حصلت في منطقة كَلي بازي، وكَلي بازي هي قرية في البرواري، للذين لم يستطيعوا العبور إلى مناطق أكثر أمناً، حيث تم حصارهم وبعدما رفضوا الاستسلام لقوات النظام تم قتلهم جميعاً، وفي قرية أخرى قتل (48) رجلاً بعد أن تمت محاصرتهم ولم يسلموا أنفسهم، وفي قرية زيوه، القريبة من بامرني أيضاً تمت محاصرتها والكثير من سكانها الآن في عداد المفقودين لايعرف عنهم شيء حتى بلغ عددهم المئات ولا يعرف لهم مصير، وبهذه الطريقة صفي هؤلاء الناس.

الممارسة الأخرى التي هي بشعة أيضاً: تعامل أجهزة السلطة مع ممتلكات

ص: 177

الناس، فقد كانوا يحرقون كل شيء يجدونه في طريقهم، البيوت بكاملها وصولاً للإنسان نفسه.

هذا بعض معاناة الأكراد في العراق، أما من اضطر وهرب إلى تركيا فهناك المعاناة لاتقل مرارة، فواحدة من مناطق المجمعات مجمع ماردين الذي يسمى بالمجمع الرهيب، وهو فعلاً مجمع رهيب وفي هذا المجمع يعيش مايزيد على (16) ألف مواطن عراقي كردي في ظروف صعبة جداً، تتضمن أشكال من المعاناة والآلام، والتهديد بالتسليم للسلطات العراقية بالقوة، والمحاولات بجرهم لقرارات العفو المزعوم من قبل النظام، هذه القرارات التي يعرفها الجميع بأنها زائفة.

شيعة الأكراد

وهذه صورة من المعاناة التي كانت تعانيها طائفة أخرى من طوائف الشعب العراقي، ألا وهي معاناة شيعة أهل البيت^ من الأكراد، حيث تم اعتقالهم وسجنهم وتعذيبهم وتهجيرهم وقتلهم، فصار النظام يطاردهم لأنهم شيعة ولأنهم أكراد.

فطرد أكثر من (300000) مواطن كردي فيلي - الشيعة - إلى إيران وحجز أموالهم المنقولة وغير المنقولة وحجز نحو (10000) شاب كردي فيلي كرهائن، وذلك خلال سنوات (1970-1982). إلى غيرها من الإحصاءات المذكورة.

يروي أحدهم هذه المعاناة ويقول:

كثيرا ما يدور في خاطر المرء ويسجل ذكرياته عن الأيام الجميلة التي يقضيها ليحتفظ بها للأيام اللاحقة نموذجا، لكننا نحن الأكراد العراقيين لانملك من تلك الذكريات شيئا إلّا الحزينة منها، لا بل الكارثية بعد أن ابتلينا بشرور وأعمال الأنظمة المتخلفة التي حكمتنا وتحكمنا منذ تشكيل الدولة العراقية. وخلالال

ص: 178

عقود الماضية واجهت شرائح المجتمع الكردي صنوفا من الاضطهاد، ومأساة تهجير الأكراد الفيليين هي إحدى أشكال الاضطهاد والتمييز العنصري، ودليل على الترابط المصيري لمعاناة هذه الشريحة مع واقع معاناة الشعب الكردي في العراق عموماً.

فعند الرجوع إلى الماضي القريب وتذكر جريمة التهجير والحملات الظالمة التي طالت الأكراد بعد أن اصدر ما يسمى بمجلس قيادة الثورة القرار (666 في 7/4/1980) والذي سبب إبعاد ما يزيد على (400 ألف) كردي فيلي من ديارهم وسلب أموالهم.

فقد نكثت السلطات العراقية بوعودها - كما هي العادة - عندما زرعت بعض الأمل في نفوس آلاف البسطاء بإصدار القرار المرقم (180 في 3/2/1980) الصادر عن مجلس قيادة الثورة على أساس أنه وبموجب القرار ستمنح شهادة الجنسية العراقية للأكراد الفيليين، لكنها وبدلاً من تنفيذ ذلك القرار شرعت باعتقالهم وتسفيرهم إلى إيران، وقامت السلطات بالاستيلاء على ما كانوا يمتلكونه من أموال وعقارات وأوراق ثبوتية تؤكد أصالة عراقيتهم.

ولا بأس بالإشارة إلى بعض ما كانت تعانيه هذه الشريحة من المجتمع العراقي كنموذج لبعض ما جرى في تلك الليالي والأيام المشؤومة التي عاشها أبناء هذه الشريحة، وبما تحملوه من شتى أنواع الإهانات على أيدي أزلام السلطة الحاكمة في بغداد.

فقد كان أحد الشباب طالباً في السادس الأدبي، وقبل التسفير كان يأمل في نيل الشهادة في القانون، وكان أحد أعضاء فريق كرة القدم في منطقته، وبعد صدور قرار منح الجنسية بدأ العديد من الأكراد الفيليين بتقديم طلباتهم بحسن نية لنيل شهادة الجنسية العراقية، وكان والد هذا الشاب من ضمنهم وشعروا بسعادة غامرة لهذا

ص: 179

الأمر، فقد قال ذات مرة: لقد انهينا المعاملة وطلبوا منا (18) صورة شخصية لكل فرد من العائلة، لكنه وبعد مرور أكثر من شهر بدا هذا الشاب حزينا وقال: يا ليتنا لم نقدم معاملتنا لهذه الشهادة اللعينة، ولم يكن أحد من زملائه وأعضاء الفريق يدركون مغزى حديثه، حتى جاءت الليلة الظلماء التي توقعها وسفّر هذا المسكين مع عائلته المتكونة من والده العليل ووالدته وإخوته السبعة.

وبما أنه كان أحد الأعضاء الأساسيين في الفريق الكروي للمحلة؛ لذا فانه كان يحتفظ بالكرة دائما في بيته، وبعد أيام من تسفيرهم جاءت لجنة من الحزبيين وسجلوا ما في بيتهم من أثاث ومحتويات لمصادرتها وكأنها غنيمة حرب، وكانت (كرة الفريق) من ضمنها، ولما تقدم أحد أعضاء الفريق بعفوية وطلب من اللجنة إعادة الكرة إلى بقية أعضاء الفريق ردّ أحدهم وبكل حقد قائلا: كيف تلعب بكرة وصاحبها إيراني؟!

قصة أخرى

كان أحد الأشخاص يعمل قصاباً وكان لديه ثلاثة أطفال، وفي إحدى الليالي قام رجال الأمن بقطع التيار الكهربائي عن الحي فأصبح الجميع في ظلام دامس فأغاروا على بيت هذا المسكين ولم يمهلوهم كثيراً، بل قاموا بتسفيره فوراً، ولما كان يعمل قصاباً فقد أبقى في بيته عددا من الخراف للذبح، وبعد أن سفروهم جاءت لجنة المصادرة إلى بيته فكانت فيه أربعة خراف من ضمن الأشياء المصادرة، فقال أحد أعضاء اللجنة بخبث ساخراً: حتى لو تكون الأغنام إيرانية، فنحن لا نسفر الحيوانات بل نسفر أصحابها.

هذه هي بعض تصرفات الحزب الحاكم المتسلط على رقاب شعبنا في العراق بجميع شرائحه عرباً وأكراداً وأقليات أخرى، لكن غضب اللّه عزّ وجلّ

ص: 180

على هؤلاء الظالمين قريب جداً إن شاء اللّه تعالى، وسوف ينالون جزاءهم العادل، بإذن اللّه وقدرته، كما وعد في كتابه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٖ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَٰرُ}(1).

من الأمويين إلى طغاة العراق

إن التاريخ يعيد نفسه عادةً، فبالأمس كان هناك جانب الشر والظلم والسجون والاستبداد والسيطرة، وتقييد الأيدي، وكمّ الأفواه، المتمثل في حكم الأمويين، الذين استحوذوا على سدة الحكم في البلاد الإسلامية بالظلم والطغيان، أمثال معاوية بن أبي سفيان زعيمهم الذي مارس بحق من أبناء الإسلام ألواناً من الظلم والاضطهاد والتعذيب والقتل والتشريد، ولكن في مقابله برز رجال أحرار من رحم الأمة مجاهدين مناضلين ومضحّين بكل غالٍ ورخيص في سبيل إعلاء كلمة «لا إله إلّا اللّه»، ولقد تمركزت تلك الثلة الخيرة من شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام) في أوساط العراقيين في الكوفة والبصرة وبعض المناطق الإسلامية الأخرى.

فمارس والي معاوية على الكوفة والبصرة آنذاك، وهو (زياد بن أبيه)(2) بحقهم

ص: 181


1- سورة إبراهيم، الآية: 42.
2- زياد بن أبيه كما سمته عائشة وهو زياد، يقال له تارة: زياد بن أمة، وتارة زياد بن سمية، وأخرى زياد بن أبيه، استلحقه معاوية فقيل له: زياد بن أبي سفيان، وكان يقال له: أبو المغيرة، لحق بمعاوية، بعدما كتب له كتاباً يستعطفه منه وقد قال عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان شعراً أغضب معاوية فقال: ألا أبلغ معاوية بن حرب *** لقد ضاقت بما تأتي اليدان أتغضب أن يقال: أبوك عف *** وترضى أن يقال: أبوك زان فاشهد أن رحمك من زياد *** كرحم الفيل من ولد الأتان وأشهد أنها حملت زياداً *** وصخراً من سمية غير دان انظر الكنى والألقاب 1: 301 (ابن زياد).

ألواناً من التعذيب والسبي والقتل، حتى كثرت العوائل التي تعرضت لظلمهم،وأصبحت تهدد مصير عرش الظالم معاوية بن أبي سفيان، فكتب زياد إلى معاوية يخبره بقرب مصيرهم الأسود، فجاءت الأوامر من البيت الأموي في الشام بتهجير عوائل الشهداء والمجاهدين من العراق إلى خراسان لكي يتخلص منهم بابتعادهم عن مصادر القرار، ولكن النتيجة جاءت عكسية، فازداد السخط على نظام بني أمية وكثر المعارضون.

تلك كانت صورة الأمس، واليوم نلاحظ نفس الظلم السابق لا يتغير منه شيء، إن لم نقل بأنه أشد وأقوى، فبالأمس كان الظلم يتمثل ببني أمية ومقره الشام، واليوم يتمثل بالنظام البعثي ومقره العراق.

ولكنهم اليوم نسوا أو تناسوا مصير معاوية الأسود، فبعد الحكم والسيطرة والبطش، وبعد تمتعه بالقصور الفاخرة والجواري العديدة، وما إلى ذلك من وسائل البذخ، كيف أصبح مصيره الآن؟

فإذا ذكر معاوية ذكرت جميع الرذائل والصفات السيئة، أما إذا ذكر الجانب المقابل له، أي المعارض لحكم معاوية، من شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأصحابه من أمثال حجر بن عدي، وميثم التمار، ومالك الأشتر، وسلمان الفارسي، ومحمد بن أبي بكر (رضوان اللّه عليهم) - وغيرهم كثيرون - ذكرت معهم الصفات الحميدة التي كانوا يتمتعون بها، والذي استلهموها من سيد الوصيين وقائد الغر المحجلين، علي أمير المؤمنين(عليه السلام)، فهم أصبحوا مدرسة الخير والصلاح للأجيال يقتدى بها إلى يومنا هذا، فعلى طغاة العراق الاستفادة من هذا الدرس التاريخي، والاعتبار بمن كان قبلهم قبل فوات الوقت، إذا كانوا يملكون ذرة من الإنسانية، ولو أن هذا بعيد على نظام مثل نظامهم، الذي اقترف ما اقترف من الآثام والمعاصي، التي سوّدت صفحاتهم،

ص: 182

ولم تُبقِ لهم عودةً إلى الخير.

إذن، من اللازم على كافة المسلمين في العالم أن يساندوا إخوانهم في العراق قولاً وفعلاً، وعلى العراقيين المجاهدين في داخل العراق وخارجه، وخصوصاً المهجّرين منهم، أن يعملوا يداً واحدة، ويديموا روافد الجهاد حتى إسقاط هذا النظام الجائر وذلك بعد نشر الوعي والثقافة بين صفوف الأمة.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

بث روح الأخوة

قال تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَٰبِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَٰنِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(3).

ص: 183


1- الكافي 3: 424.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.
3- سورة الحجرات، الآية: 10-11.

قال جلّ وعلا: {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}(1).

قال سبحانه: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًا}(2).قال عزّ وجلّ: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}(3).

قال اللّه تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَٰمٍ ءَامِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ * نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(4).

الهجرة والتهجير

قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْأخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(5).

قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}(6).

قال جلّ وعلا: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(7).

قال عزّ وجلّ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا

ص: 184


1- سورة الأعراف، الآية: 65.
2- سورة الأعراف، الآية: 73.
3- سورة الأعراف، الآية: 85.
4- سورة الحجر، الآية: 45-49.
5- سورة النحل، الآية: 41-42.
6- سورة الحج، الآية: 58-59.
7- سورة النساء، الآية: 100.

مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الصَّٰدِقُونَ}(1).

حرمة الركون إلى الظالمين وإعانتهم

قال عزّ وجلّ: {وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْأَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(2).

قال تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّٰلِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}(3).

قال سبحانه: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(4).

قال جلّ وعلا: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ}(5).

الظالم والمظلوم

قال عزّ وجلّ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}(6).

قال سبحانه: {وَالظَّٰلِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ}(7).

قال تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ}(8).

قال جلّ وعلا: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَٰنًا}(9).

ص: 185


1- سورة الحشر، الآية: 8.
2- سورة هود، الآية: 113.
3- سورة سبأ، الآية: 31.
4- سورة الأنعام، الآية: 129.
5- سورة القصص، الآية: 17.
6- سورة الفرقان، الآية: 27.
7- سورة الشورى، الآية: 8.
8- سورة النساء، الآية: 148.
9- سورة الإسراء، الآية: 33.

من هدي السنّة المطهّرة

الهجرة والتهجير

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وإن الهجرة تهدمما كان قبلها...»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تهادوا تزدادوا حباً وهاجروا تورثوا أبنائكم مجداً...»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مَن فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(3).

وفي قوله تعالى: {يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَٰسِعَةٌ}(4) قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «معناه إذا عصي اللّه في أرض أنت فيها فاخرج منها إلى غيرها»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا أعسر أحدكم فليخرج يضرب في الأرض يبتغي من فضل اللّه ولا يَغُمَّ نفسه وأهله»(6).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سافروا تصحوا وجاهدوا تغنموا وحجوا تستغنوا»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى ليحب الاغتراب في طلب الرزق»(8).

ص: 186


1- نهج الفصاحة: 260.
2- نزهة الناظر: 19.
3- تنبيه الخواطر 1: 34.
4- سورة العنكبوت، الآية: 56.
5- بحار الأنوار 19: 36.
6- السرائر 2: 228.
7- المحاسن 2: 345.
8- من لا يحضره الفقيه 3: 156.

وسئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أي الهجرة أفضل؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من هجر السوء»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «يقول أحدكم إني غريب، إنما الغريب الذي يكونفي دار الشرك»(2).

وسئل أبو عبد اللّه(عليه السلام): عن الكبائر؟ قال(عليه السلام): «أكبر الكبائر الشرك وعقوق الوالدين والتعرّب بعد الهجرة...»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ليس من المروءة أن يحدث الرجل بما يلقى في سفره من خير أو شر»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ألا أنبئكم بشر الناس؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: من سافر وحده، ومنع رفده، وضرب عبده»(5).

جزاء الظالمين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يقول اللّه عزّ وجلّ أشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من ارتكب أحداً بظلم بعث اللّه عزّ وجلّ من يظلمه بمثله أو على ولده أو على عقبه من بعده»(8).

ص: 187


1- الأمالي للطوسي: 539.
2- تهذيب الأحكام 6: 174.
3- الخصال 2: 411.
4- المحاسن 2: 358.
5- المحاسن 2: 356.
6- الأمالي للطوسي: 405.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 605.
8- ثواب الأعمال: 273.
بث روح الأخوة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً إن يكُ ظالماً فأردده عن ظلمهوان يكُ مظلوماً فانصره»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنما أنتم إخوان على دين اللّه، ما فرق بينكم إلّا خبث السرائر، وسوء الضمائر فلا توازرون ولا تناصحون ولا تباذلون ولا توادّون»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق، فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال، أما إنه قد يرمي الرامي، وتخطيء السهام ويحيل(3)

الكلام»(4).

وعن أبان بن تغلب قال: كنت أطوف مع أبي عبد اللّه(عليه السلام) فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجة فأشار إلي، فكرهت أن أدع أبا عبد اللّه(عليه السلام) وأذهب إليه، فبينا أنا أطوف إذ أشار إليّ أيضاً فرآه أبو عبد اللّه(عليه السلام) فقال: «يا أبان إياك يريد هذا؟» قلت: نعم - إلى أن قال - قال: «فاذهب إليه» قلت: فاقطع الطواف؟ قال: «نعم» قلت: وإن كان طواف الفريضة، قال: «نعم» قال: فذهبت معه...(5).

جزاء إعانة الظالمين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الظلمة وأعوانهم، من لاق لهم دواةً، أو ربط كيساً، أو مدّ لهم مدّة قلمٍ، فاحشروهم معهم»(6).

ص: 188


1- نهج الفصاحة: 265.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 113 من خطبة له في ذم الدنيا.
3- يحيل: يتغير عن وجه الحق.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 141 من كلام له(عليه السلام) في النهي عن سماع الغيبة.
5- الكافي 2: 171.
6- ثواب الأعمال: 260.

وقال أبو جعفر(عليهما السلام) - في حديث - : «... فاذا ظهر إمام عدل فمن رضي بحكمه وأعانه على عدله فهو وليه، وإذا ظهر إمام جور فمن رضي بحكمه وأعانه علىجوره فهو وليه»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن عيسى ابن مريم(عليه السلام) قام في بني إسرائيل فقال: يا بني اسرائيل... ولا تعينوا الظالم على ظلمه فيبطل فضلكم»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من أعان ظالماً على مظلوم لم يزل اللّه عليه ساخطاً حتى ينزع عن معونته»(3).

الظالم والمظلوم

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم»(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من عذر ظالماً بظلمه سلط اللّه عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له ولم يأجره اللّه على ظلامته»(5).

وعن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه(عليهما السلام) قال: «ما يأخذ المظلوم من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من دنيا المظلوم»(6).

ص: 189


1- تنبيه الخواطر 1: 17.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 400.
3- وسائل الشيعة 16: 57.
4- نهج البلاغة، الحكم: الرقم 241.
5- الكافي 2: 334.
6- ثواب الأعمال: 272.

احذروا اليهود

اشارة

لو تفحصنا التاريخ الغابر والحاضر، لوجدنا أن هناك فاصلاً كبيراً بين اليهود وبين القيم الإنسانية العليا، كالسلم والوفاء.

وهذا ما يجعلهم منبوذين عند عموم الأمم والشعوب، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}(1) أي أنهم ثلة من الجياع والأذلاء الفقراء(2).

هذا من جانب، ومن جانب آخر يقول عزّ وجلّ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(3) والعزة بمعنى: الغلبة والقوة(4)، وهو يخص بها المؤمنين دون غيرهم.

ولكن وبنظرة واحدة نجد اليوم أنه قد تغير الأمر، فصارت العزة للأعداء.

فإذا رجعنا بالتاريخ خمسين عاماً الى الوراء، وفي فلسطين بالتحديد، لوجدنا أن اليهود فيها لا يتجاوزون ال(56000) نسمة، برجالهم ونسائهم وشيوخهم وأطفالهم، أما اليوم فإن الإحصاءات تقول: أن نفوس اليهود في الأراضي الفلسطينية أربعة ملايين نسمة(5)،

وهم في ازدياد مطرد، وقوتهم في تصاعد

ص: 190


1- سورة البقرة، الآية: 61.
2- يدور معنى المسكنة على الخضوع والذلة وقلة المال والحال السيئة.
3- سورة المنافقون، الآية: 8.
4- انظر: تفسير شبر: 518.
5- الإحصاءات الأخيرة تشير إلى أن عددهم أكثر من ستة ملايين نسمة في الأراضي الفلسطينية.

مستمر.

أما نحن المسلمين هل نخطو نحو الأمام كما هم يخطون؟!

بل كما أمرنا الإسلام؟

وقد ورد في الحديث الشريف: عن الإمام الصادق(عليه السلام) من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة»(1).

كيف حدث هذا؟

وكيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟

الحديث طويل، وهو ذو شجون، ولسنا الآن بصدد بحثه تفصيلاً.

من أسباب تأخر المسلمين

إن المسلمين في الحقيقة أخلّوا بأوامر اللّه وتركوا ما أمرهم به تبارك وتعالى، فانعكست بهم الآية، وسيطر عليهم من {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}(2) فلنتدبر كيف تكون العقوبة!

فقد جاء في الحديث القدسي في باب كلام اللّه مع أنبيائه^ «إذا عصاني من يعرفني سلّطت عليه من لا يعرفني»(3).

فإذا ما تفحصنا التاريخ وغصنا في أحداثه، سنجد هذا القانون العادل أمام العين في كل معادلة حيوية؟!

ص: 191


1- الأمالي للصدوق: 668.
2- سورة البقرة، الآية: 61.
3- الكافي 2: 276.

وقد كانت الفترة الأولى من حياة المسلمين تتميز بطابع خاص، وكانوا ينظرون إلى كلام اللّه والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما ينظرون الى المسلّمات غير القابلة للنقاش، سواء علموا سرّه، أم لم يعلموا.

وأقول: سواء قبلنا أم لم نقبل، إن المسلمين عصوا اللّه، فسلط عليهم اليهود، وليس هذا التسلط ليوم أو بعض يوم، بل هو خمسون عاماً.

المسلمون واليهود

اشارة

إن المسلمين اليوم ليسوا بأقليّة، فقبل عدة سنوات كانت أقل الإحصاءات تقول: إن عدد المسلمين يناهز الألف مليون مسلم، واليوم فإن عددهم قد ناهز المليار وستمائة مليون مسلم(1).

أما اليهود، فإن عددهم في جميع المعمورة(2)

لا يناهز الأربعة عشر مليون نسمة (14000000) منهم أربعة ملايين في اسرائيل، وخمسة ملايين في امريكا، والباقي في سائر انحاء العالم.

ومن باب المثال، ولا مناقشة في الأمثال: إن يهود العالم بأجمعهم أقل من نفوس مدينة طهران ذات الستة عشر مليون نسمة.

السؤال هو: كيف حدث أن أربعة ملايين يهودي في اسرائيل يصمدون في وجوه المسلمين، بل ينفذون ما يريدون ونحن ذوي المليار والستمائة مليون؟!

هذا بغض النظر عن أن المسلمين في العالم هم الأغنى! فمصادر الطاقة تحت أيدينا، بل احتياطي العالم من الطاقة تحت أراضينا، مما يجعلنا أسياد

ص: 192


1- وفي كتاب (عندما يحكم الإسلام) لعبد اللّه فهد النفيسي، الصفحة الاخيرة، 1996م يذكر ان عدد المسلمين حالياً مليارا مسلم (2000000000).
2- وفي يومنا هذا تشير أكثر الإحصاءات أن عددهم لا يتجاوز 18 مليون نسمة.

العالم ويكون الغرب والشرق خاضعاً لنا ومحتاجاً إلينا.

فكيف يحدث أن أربعة ملايين يهودي في إسرائيل يحكمون ويسيطرون على أراضينا، ونحن نملك العدة والقوة؟! وقد قال اللّه تعالى عنهم: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}(1).

وقال تعالى عنا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(2).

اتحادهم وتفرقنا

ولأجل تقريب معنى ما نعانيه اليوم، وما وصل بنا الحال نذكر هذه القصة الطريفة:

يحكى أنه كانت هناك قافلة ضخمة متجهة نحو إحدى المدن، وفي الطريق تعرض لها قطاع الطرق وسلبوا القافلة، حتى جرّدوهم من ثيابهم وتركوهم في العراء، وعند وصول القافلة إلى المدينة القريبة تعجب أهلها من هذا المنظر، وسألوا عن السبب؟

فقالوا لهم: لقد تعرض لنا قطاع الطريق وسلبونا وتركونا كما ترون؟!

فسألوهم: وكم كنتم؟

قالوا: مائة نفر.

ثم سألوهم: وكم عدد اللصوص؟

فقالوا: اثنان.

فتعجب أهل القرية، وأخذوا يضحكون من هؤلاء ويقولون كيف سلبكم اثنان وأنتم مائة؟!

ص: 193


1- سورة البقرة، الآية: 61.
2- سورة المنافقون، الآية: 8.

فقال أهل القافلة: ما كان ذاك إلّا لاتحادهم على باطلهم وتفرقنا عن حقنا!

وهكذا الحال في قضيتنا اليوم: فان أربعة ملايين يهودي متحدون على باطلهم والعرب - لو عبرّنا كما يعبّرون حيث جعلوا الصراع عربياً اسرائيلياً - مائتان وخمسون مليون متفرقون غير متحدين، هذا إن اخرجنا المسلمين غير المتحدين ايضاً من المعادلة والّا فنحن مليار وستمائة متفرقون.

في الواقع نحن خالفنا أوامر اللّه.

وقد ورد مثل هذا في القرآن الكريم في سورة البقرة، حيث يقول اللّه تعالى مخاطباً اليهود: {يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَٰلَمِينَ}(1).

أي: إنكم كنتم أمة قد ارتقت المراتب العالية من طيبة النفس وحسن الالتزام، مما استوجب تفضيلكم على بقية الأمم والشعوب في ذلك الزمان على الذين عتوا عن أمر ربهم ولم يلتزموا بأوامر الانبياء^.

وفي آية أخرى يقول عزّ وجلّ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ}(2).

فإن طاعة بني إسرائيل للّه تعالى جعلتهم ملوكاً واستطالوا على أهل زمانهم.

ولكن ذلك لم يدم طويلاً، فبمجرد أن تركوا أوامر اللّه تعالى جانباً سلب عنهم تاج الملوكية والعزة، وألبسوا لباس الخزي وجرّعوا الذل وهذه الآية تشير الى ذلك: {ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمْ تَظَٰهَرُونَ

ص: 194


1- سورة البقرة، الآية: 47.
2- سورة المائدة، الآية: 20.

عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَالْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ...}(1).

أي: لانكم خالفتم أوامر اللّه، ضربت عليكم الذلة والمسكنة.

ونفس هذا الأمر حصل مع المسلمين حيث أنهم - في بدو الأمر - انصاعوا لأوامر اللّه تعالى فكان ذلك سبب ازدهارهم وتفرقهم على جميع الأمم ففي القرآن الكريم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(3).

ولكن اليوم حيث ترك المسلمون أوامر اللّه سبحانه جانباً، سلب عنهم تاج العزة، وأصبحوا تحت سيطرة الأعداء.

بين العراق واسرائيل

لو قارنّا بين إسرائيل والعراق كمثال على ذلك فالإسرائيليون اليهود في قانونهم لا يُقتل يهودي واحد، وفي الجانب الآخر العراق كم قتل من الأبرياء المسلمين والعراقيين هناك؟!!

فالانتهاك لحقوق المسلمين في العراق وقتلهم للأبرياء لا يدخل ضمن دائرة الحصر.

فها نحن كسبنا صفاتهم وكسبوا صفاتنا.. سلكوا سبل العزة وسلكنا سبل

ص: 195


1- سورة البقرة، الآية: 85.
2- سورة آل عمران، الآية: 110.
3- نهج الحق وكشف الصدق: 515.

الذل!

وعلى مدى الخمسين عاماً لم يحصل أن إسرائيل اخرجت يهودياً واحداً منإسرائيل. أما العراق، فإنه اخرج أكثر من ثلاثة ملايين من العراقيين بين مهجر ومهاجر، ناهيك عن مئات الآلف من القتلى والمعوقين، هم حصاد حربين استنزافيتين وعشرات الآلاف من السجناء الأبرياء؟!

وهذا مجرد مثال بسيط، وبلاد المسلمين حبلى بأشباه ونظائر ما يحصل مع شعب العراق.

فالخلاصة: أنه بعد أن تبادل القوم الصفات الحسنة بالسيئة(1) وجّه اللّه الضربة علينا بذات الصفعة التي صفع بها اليهود آنذاك، فالدنيا دنيا الأسباب والمسببات، وقد قال تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ}(2).

هذا هو القانون الإلهي العادل في هذا الكون.

رسالة إلى ياسر عرفات

قبل فترة طويلة(3) بعثت برسالة إلى أحد القادة الفلسطينيين(4) قلت فيها ضمن كلام لي:

لا يمكن أن تحصلوا على النصر وتصلوا إلى أهدافكم - إزالة إسرائيل - وأنتم تتمسكون بأساليبكم هذه، وذلك لسببين:

الأول: العنف.

الثاني: ترك كتاب اللّه وراء أظهركم.

ص: 196


1- قال تعالى: {ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمْ} سورة البقرة، الآية: 85.
2- سورة الإسراء، الآية: 20.
3- في أوائل الثمانينات أو قبلها.
4- وهو ياسر عرفات.

أما محاولة الوصول إلى الهدف بواسطة العنف فهي فاشلة مقدماً، وذلك لسبب بسيط وهو أنكم تحملون السيف بوجه الرشاش الذي يحمله العدو - اسرائيل -فكيف يمكن لهذا العنف، غير المتوازن، إزالة إسرائيل؟!!

بغض النظر عن أسلوبكم في إدارة الأمور في فلسطين المستند الى الإرهاب والقتل.

فإسرائيل غالبة بما تملك من تقنية عالية في السلاح وهي في ذلك تفوقكم كمية وكيفية، ففي العقد الماضي كانت إسرائيل تصنع بنفسها ستمائة نوع من السلاح من الرصاص إلى الطائرات الحربية، وفي المقابل البلاد الإسلامية جمعاء لاتصنع من سلاحها ستمائة نوع، ولا يجاري سلاحها السلاح الإسرائيلي في الكيفية.

إذن العنف ليس هو الطريق الأسلم لاسترداد الحقوق، بل مردوده سلبي دائما، والطريق الأمثل والأنجح في العمل هو السلم واللاعنف وخير مثال على ذلك هو أسلوب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1) السلمي في مواجهة المؤامرات الضخمة التي كانت تحاك من قبل المشركين والكفار في الجزيرة العربية، وكيف تمكن من دخول مكة المكرمة - معقل المشركين - وفتحها بدون إراقة دماء أو اللجوء الى الإرهاب(2).

أما عن السبب الثاني

ترك العمل بكتاب اللّه تعالى

فلو ألقينا نظرة سريعة على تاريخ فلسطين لوجدنا أن القرآن - ومن ثم المسلمون وليس العرب فقط - هو الذي يحافظ على وجود هذا البلد بين أيدينا،

ص: 197


1- راجع كتاب (الصياغة الجديدة) و(ممارسة التغيير) و(السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(حكومة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)) للإمام المؤلف(رحمه اللّه).
2- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) للإمام المؤلف.

فكلما خرجت فلسطين من أيدينا استرجعها المسلمون من الصليبيين وغيرهم،وليس العرب - بعنوان أنهم عرب - أما أنتم(1) فتجعلون النزاع بين العرب فقط وإسرائيل، لا المسلمين بأجمعهم.

أما اليهود فإنهم صاروا كلهم إخوانا تحت مظلة الدين اليهودي، فاليهودي الروسي يحترم اليهودي اليمني، وكذلك الحال مع اليهودي الأمريكي والمغربي والأثيوبي الأسود و... فهولاء اليهود الذين هم من مختلف القوميّات يجتمعون تحت مظلة واحدة، هي الديانة اليهودية.

هذا العنوان الديني هو الذي أعطاهم هذا الكيان الضخم، الأمة الواحدة اليهودية، الأُخوة اليهودية، الحرية اليهودية.

ونحن المسلمون عندما تركنا عنوان الدين الإسلامي جانباً، وتركنا هذه الركائز تلقائياً، أصبحنا بعيدين عن الأمة الإسلامية الواحدة، الأُخوة الإسلامية، والحرية الإسلامية.

مع أن القرآن الكريم يشير إلى هذه النقاط المهمة في آيات متعددة.

قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(2).

لكننا أصبحنا أُمماً متشتتة: الأمة العراقية والإيرانية والباكستانية والسودانية و... و... فأصبحنا خمسين أمة بل أكثر.

أما اليهود فغدوا أمة واحدة، وصاروا إخوة، بخلاف ما عليه المسلمون الذين امتلأت حياتهم تفرقة وشتتهم الأممية والقومية(3).

ص: 198


1- الخطاب إلى ياسر عرفات.
2- سورة الأنبياء، الآية: 92.
3- لكل يهودي في العالم جنسيتان، الأولى إسرائيلية والثانية جنسية الوطن الذي يقطنه، وبلادنا تمنع الحصول على جنسية ثانية، بل ترى لنفسها الحق في إسقاط الجنسية عمن لا ترغب فيه.

ونتيجة هذه التفرقة انتهى الأمر بالقيادة الفلسطينية بعد جهاد طويل مرير إلىالتنازل عن الأرض الفلسطينية التي سفك على أعتابها دماء عشرات الآلاف من المسلمين للحفاظ عليها إسلاميةً، خالصةً لليهود والاقتناع بحكم شظايا صغيرة باسم (غزة وأريحا) تحت مظلة الحكم الإسرائيلي الذي ما انفك يشبعهم الإهانة تلو الإهانة، تحت مرأى ومسمع الفلسطينيين الذين يتجاوز عددهم الخمسة ملايين، والعرب ال(250) مليون، والمسلمين ال(الف وستمائة مليون)(1).

هذه هي النتيجة الحتمية، وإننا لن ولن ننجح ما دمنا ننتهج هذا الأسلوب الخاطئ، وما دمنا نبتعد عن النهج الذي رسمه القرآن الكريم لنا.

حتمية السقوط

وذكرت في محاضرة لي(2) أن عبد الناصر لن ينتصر على إسرائيل! في حين كان الجميع يظن خلاف ذلك، وكان لي الأدلة على ذلك، استفادتها من طريقة تعامل عبد الناصر حتى مع شعبه، وطريقة تعامل اليهود حتى مع غيرهم، فقرأت كتابين.

الأول اسمه: (أقسمت أن أقول).

والكتاب الثاني: (في معتقل الأنصار).

وعندما يقرأ الإنسان هذين الكتابين يعرف بعض المشكلة الموجودة في البلاد الإسلامية، ومن خلال ذلك قد يكون الأمر جلياً بعدم انتصار عبد الناصر، فالكتاب الأول لأحد السجناء المسلمين في زنزانات عبد الناصر، والثاني لفلسطيني قد سجن في إسرائيل.

ص: 199


1- وعدد المسلمين حالياً يقرب من ملياري مسلم.
2- ألقاها الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في أواخر عهد جمال عبد الناصر.

أشار صاحب الكتاب الاول إلى التعذيب الوحشي الذي يمارس في سجونعبد الناصر وكيف كانوا يتفننون في تعذيب المسلمين.

كما يذكر المؤلف الثاني ما مورس بحقه في سجون اسرائيل، فإن الممارسات الإسرائيلية اليهودية بحق ذلك الفلسطيني الذي يعتبر عدواً لهم تكون أخف مما كان في سجون عبد الناصر فلم تتجاوز بعض أنواع التعذيب النفسي وما أشبه.

مع فارق أن إسرائيل لا تعذب اليهود.

ولكنا لو راجعنا سجلات السجون والتعذيب القاسي - إن وجدت سجلات - في البلاد الإسلامية لما وجدناها تجاوزت المسلمين!

الخطر اليهودي

اشارة

لا يقتصر الخطر اليهودي على فلسطين وما جاورها، بل خطرها عام شامل. فهو لا يتوجه إلى الذين تصالحوا مع اليهود في إسرائيل فقط، بل خطرهم يتوجه إلى جميع المسلمين، بل وغير المسلمين.

ويمكن الإشارة إلى بعض الخطر المتوجه من قبلهم وتلخيصها بما يلي(1):

1- السيطرة على التجارة والاقتصاد.

2- نشر الفساد والجنس.

3- المخدرات.

4- الإيدز.

ص: 200


1- وهناك أخطار يهودية أخرى ايضاً، منها: شراء الأراضي العربية والإسلامية بمبالغ طائلة جداً وتملكها حتى تصبح يهودية، وقد اتخدوا هذه الطريقة منذ خمسين عاماً بل أكثر، وإلى يومنا هذا، وكمثال على ذلك نقلت مجلة (المجلة) العدد 920 ص 11 الصادرة بتاريخ 4/10/1997م أن: مليار دولار خصصها متموّل يهودي لشراء ما يمكن من الأراضي العربية في القدس والخليل و... .
1- السيطرة على التجارة

يحاول اليهود دائماً الإمساك بخيوط التجارة بكل الوسائل المتاحة، المشروعة وغيرها. والشواهد على ذلك كثيرة(1)، وأذكر لكم شاهداً واحداً على سبيل المثال وللاختصار:

أيام كنت في العراق(2) جاءني أحد الأشخاص وقال لي: إن عندي ذنباً كبيراً، فهل لي من توبة؟

قلت له: كل مذنب إذا تاب بإخلاص تاب اللّه عليه.

قال: إن ذنبي أكبر.

قلت: ليس بالضرورة أن تشرح لي ذنبك، ولكن اعلم أن اللّه يغفر لك ويتوب عليك: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}(3).

ولكنه أصر أن يكشف لي عن ذنبه الذي ارتكبه.

فقال: الواقع أني أذنبت ولم أكن أعلم أني أذنب، أي ارتكبت ذنباً كبيراً من حيث لا أشعر، كنت أعمل في ادارة البريد والتلغراف، في قسم التلغراف، براتب شهري (عشرة دنانير)(4) مثلاً.

وفي أحد الأيام جاءني أحد اليهود من بغداد، وسألني: كم راتبك؟

قلت: عشرة دنانير.

قال: وأنا أعطيك عشرة دنانير فوق راتبك مقابل عمل واحد بسيط فقط

ص: 201


1- ويمكن معرفة ذلك عبر ملاحظة الأسهم في الشركات العالمية الكبيرة.
2- هاجر الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) من العراق في 18 / شعبان / 1391ه خوفاً على حياته. راجع كتاب (أضواء على حياة الإمام الشيرازي) 61.
3- سورة الزمر، الآية: 53.
4- 10 دنانير في ذلك الوقت يمكن للإنسان أن يعيش بواسطتها حياة بسيطة.

تعمله لي.

قلت له: وما هو؟

قال: عندما يصلك تلغراف إلى التاجر الفلاني بقائمة الأسعار الجديدة للبضائع، أن تبعث بالقائمة لي قبل أن تعطيها إلى صاحبها بيوم واحد. وليس من الضرورة قدومك إليّ، بل يكفي الاتصال الهاتفي، وإعلامي بالأسعار.

فوافقت على ذلك، واستمر العمل عدة سنوات على هذا المنوال، ولم أكن أعلم ماذا يترتب على هذا الاتصال، وبعدها عرفت أنني كنت السبب في تضرر المسلمين بالملايين وكانت الأرباح تنصب في كيس اليهود!

2- نشر الفساد

قد رأيت في العراق كيف كان اليهود ينشرون كتب الفساد والانحراف الجنسي بين الفتيان والفتيات، بالإضافة الى المنهج الإباحي الذي كان يسير عليه فتيان اليهود وفتياتهم.

وبين هذا المنهج الإباحي، والكتب والمجلات الإباحية كان ينتشر الفساد بشكل غريب وسريع.

ينقل (عبد الجبار أيوب) في مذكراته حادثةً حصلت معه أيام كان رئيساً لسجن الكوت في العراق.

يقول: في إحدى الأيام سلمتني الدولة ثلاثة سجناء خطرين وأوصت أن يكونوا تحت الحماية المشددة، ولشدة خطرهم فكنت اشدد الحراسة عليهم تنفيذاً للأوامر، ولما قد يسببه فرارهم من الإهانة والتوبيخ والعقوبة.

بعد فترة وجيزة، جائني تاجران من تجار بغداد الكبار وكانا من اليهود(1) وبعد

ص: 202


1- الحادثة قبل ترحيل اليهود من العراق إلى فلسطين.

السلام والجواب قالا لي:

يوجد عندك ثلاثة سجناء من المسلمين - وليسوا من اليهود - ، ولا نريد أن نتحدث عنهم بشعور ديني، بل حديثنا عنهم من الجانب الإنساني البحت، والنظر إلى الوضع السيئ الذي تعيشه عوائلهم وأولادهم، والمطلوب منك أمر بسيط، هو نقلهم إلى سجن بغداد وهذا لا يضرك في شيء(1)، لا أمام الدولة ولا أمام الضمير بل بالعكس، فيه خدمة إنسانية!

وراحوا يسردون عليّ آيات من القرآن، وبعض الأقوال عن الأنبياء موسى وعيسى(عليهما السلام).

كل هذا الحديث اللطيف وأنا ارفض نقلهم إلى بغداد، وباءت محاولتهم بالفشل.

ذهبوا وبعد أيام وجيزة جاءوا عندي مجدداً، وناقشوني في الأمر، وكان من الصعب اقناعهم ورد مطلبهم، فقد قال لي أحدهم: لا يصعب عليك كتابة ثلاث كلمات: لا - مانع - لدي.

أعطيك على كل كلمة مائة دينار(2)

فرفضت هذا العرض المغري.

فقال: بترغيب اكثر: ماذا تريد؟ بيتاً؟ اكتب بنقلهم إلى بغداد وخذ ما تريد.

رفضت أيضاً.

وأصروا، ولكن من غير فائدة.

فخرجوا.

وبعد أيام عادوا مجدداً بصحبة ثلاث فتيات من أجمل ما رأيت، وكرروا الطلب.

ص: 203


1- لعل سبب طلب النقل إلى بغداد هو سهولة إخراجهم من السجن، لما يتمتع هؤلاء التجار من علاقات مع المسؤولين هناك، بحيث يمكنهم إخراج السجناء بسهولة.
2- وهذا مبلغ كبير جداً في ذلك الوقت حيث أن العائلة تكفيها عدة دنانير لمصاريف الشهر الواحد.

فرفضت.

فخرجوا من الغرفة بحجة شرب الماء وأخلوا الغرفة لي مع الفتيات، وعادوا بعد ساعة واستفسروا من الفتيات عن ردود فعلي، فأشرن بالنفي.

عند ذلك توجه إليّ أحدُهم بجدية قائلاً: حضرة (عبد الجبار أيوب) في البداية طلبنا منك حل المشكلة عن طريق الإنسانية والعواطف، فرفضت، ثم طلبنا الحل عن الطريق المال، فرفضت، وفي الثالثة عن طريق البنات، فرفضت ولم تقبل، فاستعد للبلاء.

ثم تركوني وخرجوا جميعاً.

ولم تمض برهة وجيزة حتى نقلت عن إدارة السجن، وتحققت بعدها فعلمت أن السجناء الثلاثة نقلوا إلى بغداد، ثم اطلق سراحهم.

فهذا هو دأب اليهود.

فهم يطلبون الوصول إلى غاياتهم بكل الطرق، وإن كان في طياتها الفساد والرشا والبغاء(1).

وهذا هو الخطر الثاني الذي يتوجه المسلمين من اليهود.

3- خطر المخدرات

وهي من الأخطار الجديدة التي استغلها اليهود أبشع استغلال، وبادروا في الإمساك بتجارتها، وهم الآن أكبر تجارها في العالم.

وهي تدر عليهم أرباحاً طائلة، لما تستنزفه من الناس من الأموال، فالذي

ص: 204


1- قد نقلت مجلة (الشراع) العدد 11787 عن صحيفة معارف: أن فتاة في التاسعة عشرة من عمرها ادعت على (الحاخام ابراهام راطا) بتهمة اغتصابها منذ كانت في الثامنة من عمرها! وأن كشفها هذا السر الآن جاء بعد أن تمادى هذا الحاخام في عمله الشائن واغتصابه شقيقتيها 11 و12 سنة اللتين عاشتا في منزل والده.

يعتاد على المخدر، لو اضطره الأمر أن يبيع أهله وأولاده ونفسه وعرضه مقابلالحصول على الجرعة التي تعيد له توازنه، لفعل بدون أدنى رادع.

وهو سلاح ذو حدّين، فهو من جانب يوفّر لليهود الأموال الطائلة بدون بذل جهود حقيقية، ومن الجانب الآخر ينحدر بالبيوت والمجتمعات التي تتعاطاها إلى الإفلاس والفساد والجوع والمرض، بل إلى كل أنواع الرذيلة والمهانة، ويشل المتعاطين لهذه السموم عن كل انواع الحركة والبناء، ويحولهم إلى مجاميع هدّامة.

ولليهود جماعاتهم التي مهمتها نشر هذه السموم بين المجتمعات الإسلامية وغيرها، وبين الآونة والاخرى تظهر فضائحهم في هذه المهمة اللا أخلاقية.

4- نشر الإيدز

الخطر الرابع الذي يواجه المسلمين وغيرهم من قبل اليهود: نشر الإيدز.

وهم المسؤولون عن ترويج هذا المرض الخيبث، خصوصاً في البلاد الإسلامية. فهم ينشرون هذا المرض بين المسلمين، تحت عناوين غير مشبوبة، مثل السياحة وما شابه.

وهذه الظاهرة بارزة في كل بلد فتح حدوده أمام السياحة الإسرائيلية، حيث إنهم يرسلون فتياتهم المصابات بهذا المرض الخبيث - الإيدز - للسياحة في البلاد الإسلامية، فيقومون باسم السياحة والتعارف بنشر هذا المرض الرهيب بين الشباب المسلمين، ومنهم ينتقل المرض إلى الفتيات المسلمات(1).

ص: 205


1- ذكرت مجلة الشراع اللبنانية في عددها الصادر بتاريخ 8 / ايلول/ 1997م برقم (797): في مصر - التي فتحت باب السياحة أمام اليهود - تم القاء القبض على عدد من العاهرات الاسرائيليات بعد ثبوت تورطهن بعلاقات مشبوهة مع شبان مصريين اصيبوا جميعاً بمرض الايدز وايضاً صدر الحكم بترحيل مئات الغواني الصهيونيات اللواتي ثبت تعمدهن نشر الامراض القاتلة بين الشبان المصريين كالايدز وغيره.

بل سيصاب بذلك حتى الأطفال(1).

فيجب علينا - المسلمين - أن نحصِّن أنفسنا ضد هذه الإخطار اليهودية التي قد ترد علينا بعناوين جميلة وشكليات قد يحميها القانون غير الواعي لبلادنا.

وأن نقوم بنشاطات توعوية كبيرة بين شبابنا وفتياتنا، لنبعدهم عن كل التصرفات المشبوهة، ليضمنوا لأنفسهم السعادة في الدنيا والآخرة.

وأن ننبذ الفرقة ونشعر أنفسنا بالأخوة الإسلامية، ونكون أكثر وعياً بما يجري حولنا لنحصّن أنفسنا وبلادنا من مطامع اليهود ومآربهم في بلادنا.

ونسأل اللّه سبحانه أن ينصر المسلمين على اليهود، إنه سميع الدعاء.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

ص: 206


1- ذكرت مجلة (العربي) الكويتية في عددها 468 نومبر 1997م ص 86-67 تحت عنوان (أطفال الإيدز) أنه: في مؤتمر حول الإيدز جرى عقده أخيراً في فانكوفر بكندا جرى تقديم بعض الأرقام ذات الدلالة، ففي كل يوم يصاب 8500 شخص بالإيدز، بينهم ألف طفل، وفي عام 1995م فارق الحياة بسبب الإيدز 1.3 مليون شخص بينهم 300 ألف طفل!... .
2- الكافي 3: 424.

احترام الإنسان في الإسلام

في البدء

قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق...»(2).

جاء في تفسير الآية المباركة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ} التقويم بمعنى تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون عليه من التأليف والتعديل، يعني الإنسان مخلوق في أحسن طراز من جهة حواسه وظواهره، ومن جهة مشاعره وأجهزته(3).

وقيل: أراد جنس الإنسان وهو آدم وذريته، خلقهم اللّه في أحسن صورة.

وقيل: {أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ} أي منتصب القامة، وسائر الحيوان مكب على وجهه إلّا الإنسان.

وقيل: أراد أنه خلقهم على كمال في أنفسهم، واعتدال في جوارحهم، وأبانهم عن غيرهم بالنطق والتمييز والتدبير، إلى غير ذلك مما يختص به الإنسان(4).

ص: 207


1- سورة التين، الآية: 4.
2- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 53 عهده(عليه السلام) لمالك الأشتر لمّا ولاه على مصر.
3- تفسير تقريب القرآن 5: 700.
4- راجع تفسير مجمع البيان 10: 393.

لذا فإن من أهم الأمور التي أكد عليها الإسلام تأكيداً بالغاً، هو احترام الإنسان بما هو إنسان، مع قطع النظر عن لونه ولغته وقوميته ودينه ورأيه، فالإسلام يؤكد على احترام كل الناس حتى إذا كانوا كفاراً غير مسلمين؛ لأن الإنسان بما هو إنسان محترم؛ والقرآن الكريم يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(1).

وجاء في بيان قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ} أي: تكريماً ذاتياً بالعقل، وحسن الخلقة، وتهيئة أسباب الراحة له، وتسخير كل شيء لأجل منافعه، إلى غير ذلك من أنواع التكريم {وَحَمَلْنَٰهُمْ} أي: هيئنا لهم وسائل الركوب {فِي الْبَرِّ} بالخيل والبغال والحمير، ومنه هذه الآلات الحديثة، فإنها تحمل الإنسان بفضل اللّه سبحانه، وإلّا فمن خلق الحديد، ومن جعل للنار قوة السير، ومن هيّأ وسائل الآلة؟ {وَالْبَحْرِ} بالسفن {وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ} أكلاً وشرباً ولبساً، ونكاحاً، وغيرها، فإن كل ذلك رزق خصهم اللّه سبحانه بها، وإن اشترك بعض الحيوانات في بعضها، ولكن ليس بهذا العموم، والشمول، والكيفية المرفهة {وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} إما المراد أنهم مفضلون على الكثير دون الكل، بأن يكون الملائكة أفضل من الإنسان جنساً، وإما المراد أن التفضيل على كثير، فليس المراد المفهوم، بل المراد الخلق الكثير الذي ملأ ما بين السماء والأرض، أن الناس مفضل عليه، ف{من} بيانية، لا تبعيضية، ولعل هذا هو الأقرب(2).

أفضل الخلق

اشارة

وقد اختلفت أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ} فهل

ص: 208


1- سورة الإسراء، الآية: 70.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 330.

المراد: ليس الإنسان مفضلاً على كل المخلوقات؟ فهل يوجد هناك مخلوق غير الإنسان أفضل من الإنسان؟

بعض المفسرين يعتقدون أن للّه مخلوقاً آخر أفضل من الإنسان، ولكن مما لا شك فيه أن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين^ هم أفضل الخلائق أجمعين.

فإن أهل البيت^ وإن كانوا خلقوا كبقية البشر من حيث إنهم مخلوقون، ولكن ورد في الرواية: «خلقكم اللّه أنواراً»(1)، فضلاً عن الروايات الكثيرة التي تصرح بأفضلية المعصومين^ على جميع المخلوقات بلا استثناء.

فقد ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام) عن آبائه^ عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ... إن اللّه تبارك وتعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك ثم إن اللّه تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً، وكان سجودهم للّه عزّ وجلّ عبودية ولآدم إكراماً وطاعةً؛ لكوننا في صلبه، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون...»(2).

وعن أبي محمد العسكري(عليهما السلام) أنه قال: «سأل المنافقون النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول اللّه، أخبرنا عن علي(عليه السلام) هو أفضل أم ملائكة اللّه المقربون؟

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وهل شرفت الملائكة إلّا بحبها لمحمد وعلي وقبولها لولايتهما، إنه لا أحد من محبي علي(عليه السلام) نظَّف قلبه من قذر الغش والدغل

ص: 209


1- من لا يحضره الفقيه 2: 613.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 262.

والغل ونجاسة الذنوب، إلّا كان أطهر وأفضل من الملائكة؛ وهل أمر اللّه الملائكةبالسجود لآدم إلّا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم أنه لا يصير في الدنيا خلق بعدهم إذا رفعوهم عنها، إلّا - وهم يعنون أنفسهم - أفضل منهم في الدين فضلاً، وأعلم باللّه وبدينه علماً، فأراد اللّه أن يعرفهم أنهم قد أخطئوا في ظنونهم واعتقاداتهم، فخلق آدم وعلمه الأسماء كلها ثم عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها، فأمر آدم أن ينبئهم بها وعرفهم فضله في العلم عليهم، ثم أخرج من صلب آدم ذرية منهم الأنبياء والرسل والخيار من عباد اللّه أفضلهم محمد ثم آل محمد، ومن الخيار الفاضلين منهم أصحاب محمد وخيار أمة محمد، وعرف الملائكة بذلك أنهم أفضل من الملائكة»(1).

وعن محمد بن الحنفية(عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: قال اللّه تعالى: لأعذبن كل رعية دانت بطاعة إمام ليس مني، وإن كانت الرعية في نفسها برة، ولأرحمن كل رعية دانت بإمام عادل مني وإن كانت الرعية غير برة ولا تقية، ثم قال لي: يا علي، أنت الإمام والخليفة بعدي، حربك حربي وسلمك سلمي، وأنت أبو سبطي وزوج ابنتي ومن ذريتك الأئمة المطهرون، وأنا سيد الأنبياء وأنت سيد الأوصياء، وأنا وأنت من شجرة واحدة، لولانا لم يخلق اللّه الجنة ولا النار ولا الأنبياء ولا الملائكة.

قال: قلت: يا رسول اللّه، فنحن أفضل أم الملائكة؟

فقال: يا علي، نحن أفضل خير خليقة اللّه على بسيط الأرض، وخيرة ملائكة اللّه المقربين، وكيف لا نكون خيرا منهم وقد سبقناهم إلى معرفة اللّه وتوحيده، فبنا عرفوا اللّه وبنا عبدوا اللّه وبنا اهتدوا السبيل إلى معرفة اللّه. يا علي، أنت مني

ص: 210


1- بحار الأنوار 26: 338.

وأنا منك، وأنت أخي ووزيري، فإذا مت ظهرت لك ضغائن في صدور قوم،وسيكون فتنة صيلم(1) صماء يسقط منها كل وليجة وبطانة، وذلك عند فقدان شيعتك الخامس من ولد السابع من ولدك، يحزن لفقده أهل الأرض والسماء، فكم من مؤمن متلهف متأسف حيران عند فقده»(2).

وهكذا فإن الكثير من المفسرين يعتقدون بأن اللّه لم يخلق مخلوقاً أفضل من الإنسان، ويقولون: إن آية {وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(3)، أريد بالكثير فيها: الجميع، فتكون «من» بيانية، والمعنى: وفضلناهم على من خلقنا وهم كثير، وجاءت الآية بهذه الصيغة كجملة بليغة، فإن الأديب في بعض الأحيان لا ينقل الكليات بضرس قاطع(4).

الإنسان المكرّم

فخلاصة الكلام هو: إن الأصل في الإنسان الاحترام والتقدير، بغض النظر عن مكانته ومقامه، وبغض النظر عن دينه ومذهبه، وبغض النظر عن عرقه ولونه ولغته.

وهذا هو الأصل الأولي الذي أقره القرآن الكريم في آية التكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ}(5)، تكريماً ذاتياً بالعقل، وحسن الخلقة، وتهيئة أسباب الراحة له، وتسخير كل شيء لأجل منافعه، إلى غير ذلك من انواع التكريم، وقد جاء التكريم بصيغة الجمع {بَنِي ءَادَمَ} بلا ملاحظة الجوانب الأخرى.

ص: 211


1- الصيلم: الداهية، وأمر صيلم: شديد مستأصل، لسان العرب 12: 340.
2- بحار الأنوار 26: 349.
3- سورة الإسراء، الآية: 70.
4- انظر: تفسير مجمع البيان 6: 274، وبحار الأنوار 57: 274، باب فضل الإنسان وتفيله على الملك.
5- سورة الإسراء، الآية: 70.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ليس شيء خيراً من ألف مثله إلّا الإنسان»(1).

وعن كرامة المؤمن قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مثل المؤمن عند اللّه عزّ وجلّ كمثل ملك مقرب، وإن المؤمن عند اللّه أعظم من ذلك، وليس شيء أحب إلى اللّه من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما خلق اللّه عزّ وجلّ خلقاً أكرم على اللّه عزّ وجلّ من المؤمن؛ لأن الملائكة خدّام المؤمنين...»(3).

وعن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟

فقال: «قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): إن اللّه عزّ وجلّ ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم»(4).

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واحترام الإنسان

لقد حفظ لنا التأريخ أحداث ووقائع ومواقف مشرفة تحكي الأسلوب الإسلامي الحقيقي في مراعاة حقوق الإنسان كائنا من كان، مسلماً كان أو منافقاً، مشركاً كان ذلك الإنسان أو كافراً، وقد تجسد ذلك بأعظم صورة من خلال الحياة الشريفة وأسلوب المعاشرة التي كان يتبعها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمة المعصومين^ مع كل الناس.

ص: 212


1- نهج الفصاحة: 661.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 29.
3- الكافي 2: 33.
4- علل الشرائع 1: 4.

فقد روي أنه ذات يوم دخل عدد من الكفار المشرّدين المحتاجين، مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المدينة، وسألوه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يأويهم ويلجئهم في مكان ما يستقرون فيه... فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأصحابه: كل منكم يأخذ أحدهم ضيفاً عنده، وكان أحد هؤلاء الكفار قبيح المنظر ذا شكل سيئ وكثير الأكل، فلم يأويه أحد، فبقي في المسجد، فأخذه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى بيته، فكان معه في غاية الرحمة والعطف، وعندما أحضروا الطعام عنده أكل حصته وحصة أهل المنزل كلهم، فبقي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جائعاً في ذلك اليوم، ولكنه احترم هذا الرجل كثيراً ووفر له الراحة والاطمئنان، وبعد أن رأى هذا الرجل عطف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليه واحترامه وتقديره له أسلم على يده(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ومثله ما روي عن ابن عباس حيث قال: خرج أعرابي من بني سليم يتبدى(1) في البرية، فإذا هو بضب قد نفر من بين يديه، فسعى وراءه حتى اصطاده، ثم جعله في كمه، وأقبل يزدلف نحو النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما أن وقف بإزائه ناداه: يا محمد يا محمد، وكان من أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا قيل له: يا محمد، قال: يا محمد، وإذا قيل له: يا أحمد، قال: يا أحمد، وإذا قيل له: يا أبا القاسم، قال: يا أبا القاسم، وإذا قيل له: يا رسول اللّه، قال: لبيك وسعديك، وتهلل وجهه.

فلما أن ناداه الأعرابي: يا محمد يا محمد، قال له النبي: «يا محمد يا محمد»، قال له: أنت الساحر الكذاب، الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة هو أكذب منك، أنت الذي تزعم أن لك في هذه الخضراء إلها، بعث بك إلى الأسود والأبيض، واللات والعزى، لولا أني أخاف أن قومي يسمونني: العجول، لضربتك بسيفي هذا ضربة أقتلك بها، فأسود بك الأولين والآخرين.

فوثب إليه عمر بن الخطاب ليبطش به، فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اجلس يا أبا

ص: 213


1- تبدّى الرجل: أقام بالبادية، وتبادى: تشبّه بأهل البادية، انظر: لسان العرب 14: 68 مادة (بدو).

حفص؛فقد كاد الحليم أن يكون نبياً». ثم التفت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الأعرابي، فقال له: «يا أخا بني سليم، هكذا تفعل العرب، يتهجمون علينا في مجالسنا يَجْبَهُوننا بالكلام الغليظ؟! يا أعرابي، والذي بعثني بالحق نبياً، إن من ضرَّ بي في دار الدنيا هو غداً في النار يتلظى، يا أعرابي، والذي بعثني بالحق نبياً، إن أهل السماء السابعة يسمونني: أحمد الصادق، يا أعرابي، أسلم تسلم من النار، يكون لك ما لنا وعليك ما علينا، وتكون أخانا في الإسلام».

قال: فغضب الأعرابي وقال: واللات والعزى،لا أومن بك يا محمد، أو يؤمن هذا الضب، ثم رمى بالضب عن كمه.

فلما أن وقع الضب على الأرض وَلّى هارباً، فناداه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الضب، أقبل إلي».

فأقبل الضب ينظر إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

قال: فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الضب، من أنا؟».

فإذا هو ينطق بلسان فصيح ذرب غير قطع فقال: أنت محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تعبد؟».

قال: أعبد اللّه عزّ وجلّ، الذي فلق الحبة وبرأ النسمة، واتخذ إبراهيم خليلاً، واصطفاك يا محمد حبيباً. ثم أنشأ يقول:

ألا يا رسول اللّه إنك صادق *** فبوركت مهدياً وبوركت هادياً

شرعت لنا دين الحنيفة بعد ما *** عبدنا كأمثال الحمير الطواغياً

فيا خير مدعو ويا خير مرسل *** إلى الجن بعد الإنس لبيك داعياً

ونحن أناس من سليم وإننا *** أتيناك نرجو أن ننال العوالياً

ص: 214

أتيت ببرهان من اللّه واضح*** فأصبحت فينا صادق القول زاكياً

فبوركت في الأحوال حياً وميتاً *** وبوركت مولوداً وبوركت ناشياً

قال: ثم أطبق على فم الضب فلم يحر جواباً، فلما أن نظر الأعرابي إلى ذلك قال: وا عجباً! ضب اصطدته من البرية، ثم أتيت به في كمي لا يفقه ولا ينقه، ولا يعقل، يكلم محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذا الكلام، ويشهد له بهذه الشهادة!! أنا لا أطلب أثراً بعد عين، مد يمينك فأنا أشهد: أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فأسلم الأعرابي وحسن إسلامه.

ثم التفت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أصحابه، فقال لهم: «علموا الأعرابي سوراً من القرآن».

قال: فلما أن علم الأعرابي سوراً من القرآن قال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هل لك شيء من المال؟».

قال: والذي بعثك بالحق نبياً، إنا أربعة آلاف رجل من بني سليم، ما فيهم أفقر مني، ولا أقل مالاً.

ثم التفت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أصحابه فقال لهم: «من يحمل الأعرابي على ناقة أضمن له على اللّه ناقة من نوق الجنة؟».

قال: فوثب إليه سعد بن عبادة، قال: فداك أبي وأمي، عندي ناقة حمراء عشراء وهي للأعرابي، فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا سعد، تفخر علينا بناقتك، ألا أصف لك الناقة التي نعطيكها بدلاً من ناقة الأعرابي؟»...

- إلى أن قال: - ثم التفت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أصحابه فقال لهم: «من يتوج الأعرابي، أضمن له على اللّه تاج التقى».

قال: فوثب إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وقال: «فداك أبي وأمي، وما تاج التقى؟».

ص: 215

فذكر من صفته قال: فنزع علي(عليه السلام) عمامته فعمم بها الأعرابي.

ثم التفت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «من يزود الأعرابي، وأضمن له على اللّه عزّ وجلّ زاد التقوى».

قال: فوثب إليه سلمان الفارسي فقال: فداك أبي وأمي، وما زاد التقوى؟

قال: «يا سلمان، إذا كان آخر يوم من الدنيا لقنك اللّه عزّ وجلّ قول شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فإن أنت قلتها لقيتني ولقيتك، وإن أنت لم تقلها لم تلقني ولم ألقك أبداً».

قال: فمضى سلمان حتى طاف تسعة أبيات من بيوت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يجد عندهن شيئا، فلما أن وَلّى راجعاً نظر إلى حجرة فاطمة(عليها السلام) فقال: إن يكن خير فمن منزل فاطمة بنت محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقرع الباب، فأجابته من وراء الباب: «من بالباب».

فقال لها: أنا سلمان الفارسي.

فقالت له: «يا سلمان، وما تشاء؟».

فشرح قصة الأعرابي والضب مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قالت له: «يا سلمان، والذي بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق نبياً، إن لنا ثلاثاً ما طعمنا، وإن الحسن والحسين(عليهما السلام) قد اضطربا علي من شدة الجوع، ثم رقدا كأنهما فرخان منتوفان، ولكن لا أرد الخير إذا نزل الخير ببابي، يا سلمان، خذ درعي هذا ثم امض به إلى شمعون اليهودي وقل له: تقول لك فاطمة بنت محمد: أقرضني عليه صاعاً من تمر وصاعاً من شعير، أرده عليك إن شاء اللّه تعالى».

- إلى أن قال: - وتزود الأعرابي واستوى على راحلته، وأتى بني سليم، وهم يومئذ أربعة آلاف رجل، فلما أن وقف في وسطهم ناداهم بعلو صوته قولوا: لا إله إلّا اللّه محمداً رسول اللّه، قال: فلما سمعوا منه هذه المقالة أسرعوا إلى سيوفهم فجردوها، ثم قالوا له: لقد صبوت إلى دين محمد الساحر الكذاب؟

ص: 216

فقال لهم: ما هو بساحر ولا كذاب، ثم قال: يا معشر بني سليم، إن إله محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير إله، وإن محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير نبي، أتيته جائعاً فأطعمني، وعارياً فكساني، وراجلاً فحملني، ثم شرح لهم قصة الضب مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنشدهم الشعر الذي أنشد في النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال: يا معاشر بني سليم، أسلموا تسلموا من النار، فأسلم في ذلك اليوم أربعة آلاف رجل، وهم أصحاب الرايات الخضر وهم حول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1).

من ينجيك مني؟

كان من كريم أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) العظيمة هي العفو حتى عمن حاول قتله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «نزل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرةٍ على شفير وادٍ، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل، فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً، فجاء وشد على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالسيف، ثم قال: من ينجيك مني يا محمد؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ربي وربك، فنسفه جبرئيل(عليه السلام) عن فرسه فسقط على ظهره، فقام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخذ السيف وجلس على صدره، وقال: من ينجيك مني يا غورث؟ فقال: جودك وكرمك يا محمد، فتركه فقام وهو يقول: واللّه لأنت خير مني وأكرم»(2).

أمير المؤمنين(عليه السلام) وأهل الذمة

وكذلك كان أمير المؤمنين علي(عليه السلام) راعياً لحقوق الإنسان واحترامه، كائناً من

ص: 217


1- بحار الأنوار 43: 69.
2- الكافي 8: 127.

كان، كيف لا وهو ربيب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي علمه من العلم ألف باب كل بابيفتح منه ألف باب. فقد روي في أحوال أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه:

مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما هذا؟!».

قالوا: يا أمير المؤمنين، نصراني.

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال»(1).

ولو تمعّنا في هذه القصة لكانت تصلح أن تكون قدوة في تأريخ الإنسانية في مراعاة حقوق الإنسان وكفالته.

وكذلك ورد عن أبي عبد اللّه عن آبائه^: «أن أمير المؤمنين(عليه السلام) صاحب رجلاً ذمياً، فقال له الذمي: أين تريد يا عبد اللّه؟

فقال(عليه السلام): أريد الكوفة.

فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه أمير المؤمنين(عليه السلام).

فقال له الذمي: أ لست زعمت أنك تريد الكوفة؟

فقال له: بلى.

فقال له الذمي: فقد تركت الطريق؟

فقال له: قد علمت!

قال: فلم عدلت معي، وقد علمت ذلك؟!

فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئةً إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقال له الذمي: هكذا قال؟

ص: 218


1- تهذيب الأحكام 6: 293.

قال: نعم.قال الذمي: لا جرم إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، فأنا أشهدك أني على دينك. ورجع الذمي مع أمير المؤمنين(عليه السلام) فلما عرفه أسلم»(1).

احترام جميع الناس

قال اللّه تبارك وتعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٖ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٖ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(2).

إن من السلبيات في تعامل بعض الناس مع الفقراء، أنهم إذا تصدقوا على فقير أو محتاج فإنهم يمنّون عليه، أو يؤلمونه بالكلام والتقريع!

بينما لو نتدبر في تفسير قوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} يعني: كلام حسن جميل، لا وجه فيه من وجوه القبح، يرد به السائل. وقيل: معناه دعاء صالح نحو أن يقول: صنع اللّه بك، وأغناك اللّه عن المسألة، وأوسع اللّه عليك الرزق، وأشباه ذلك. وقيل: إن معناه عفو المسؤول عن ظلم السائل، وعلى هذا فيكون ظلم السائل أن يسأل في غير وقته، أو يلحف في سؤاله، أو يسيء الأدب بأن يفتح الباب، أو يدخل الدار بغير إذن، فالعفو عن ظلمه، هو{خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٖ يَتْبَعُهَا أَذًى}؛ وإنما صار القول المعروف، والعفو عن الظلم، خيرا من الصدقة التي يَتْبَعُها أَذىً لأن صاحب هذه الصدقة، لا يحصل على خير، لا على عين ماله في دنياه، ولا على ثوابه في عقباه. والقول بالمعروف والعفو، طاعتان يستحق الثواب عليهما.

ص: 219


1- الكافي 2: 670.
2- سورة البقرة، الآية: 263-264.

وقد روي في الحديث القدسي كما عن أبي جعفر الباقر(عليهما السلام) قال: «كان فيماناجى اللّه عزّ وجلّ به موسى(عليه السلام) قال: يا موسى أكرم السائل ببذل يسير أو بردٍّ جميل، لأنه يأتيك من ليس بإنس ولا جانٍ، ملائكة من ملائكة الرحمان يبلونك فيما خوّلتك ويسألونك عما نوّلتك فانظر كيف أنت صانع يا بن عمران»(1).

وقوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٖ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ} ثم أكد تعالى ما قدمه بما ضرب من الأمثال، فقال:

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي: صدقوا اللّه ورسوله {لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ} أي: بالمنة على السائل. وقيل: بالمنة على اللّه {وَالْأَذَىٰ} بمعنى أذى صاحبها.

ثم ضرب تعالى مثلا لعمل المنان، وعمل المنافق جميعاً، فإنهما إذا فعلا الفعل على غير الوجه المأمور به، فإنهما لا يستحقان عليه ثواباً. وهذا هو معنى الإبطال: وهو إيقاع العمل على غير الوجه الذي يستحق عليه الثواب، فقال: {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} هذا يدخل فيه المؤمن والكافر إذا أخرجا المال للرئاء. {وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} هذا للكافر خاصة أي: لا يصدق بوحدانية اللّه، ولا بالبعث والجزاء. وقيل: إنه صفة للمنافق؛ لأن الكافر معلن غير مراء، وكل مراء كافر أو منافق {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} شبَّه سبحانه فعل المنافق والمنان، بالصفا الذي أزال المطر ما عليه من التراب، فإنه لا يقدر أحد على رد ذلك التراب عليه، كذلك إذا دفع المنان صدقة، وقرن بها المن، فقد أوقعها على وجه لا طريق له إلى استدراكه وتلافيه، لوقوعها على الوجه الذي لا يستحق

ص: 220


1- الكافي 4: 15.

عليه الثواب، فإن وجوه الأفعال تابعة لحدوث الأفعال، فإذا فاتت، فلا طريق إلىتلافيها. فقد تضمنت الآية، والآي التي قبلها، الحث على الصدقة، وإنفاق المال في سبيل الخير، وأبواب البر، ابتغاء مرضاة اللّه، والنهي عن المن والأذى، والرياء والسمعة، والنفاق، والخبر عن بطلان العمل بها.

ومما جاء في معناه من الحديث ما روي عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا كان يوم القيامة، نادى مناد يسمع أهل الجمع: أين الذين كانوا يعبدون الناس؟ قوموا خذوا أجوركم ممن عملتم له، فإني لا أقبل عملا خالطه شيء من الدنيا وأهلها»(1).

وروي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من أسدى إلى مؤمن معروفا، ثم آذاه بالكلام، أو منَّ عليه، فقد أبطل اللّه صدقته، ثم ضرب فيه مثلاً فقال: {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} إلى قوله {الْكَٰفِرِينَ}»(2).

وها نحن قد رأينا أن عظمة الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)مع ذلك الكافر لم تتمثل في عطائه واستضافته له وعنايته به فحسب، بل بقدر ما تمثل في تحمله لأذاه ومداراته. وفي ذلك درس لنا، مفاده: أنّ على الإنسان أن يحترم الجميع حتى الذين يخالفونه أو يعادونه، وهذا يدل على مدى كرامة الإنسان في الإسلام.

وقد روي: أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إحدى حروبه بعث اثنين من المسلمين لغرض الاستطلاع على معسكر الأعداء ودراسة أوضاعهم، وفي أثناء الطريق كمن هذان المسلمان عند بئر ماء كانت مورداً لأفراد معسكر الأعداء، فجاء اثنان من الأعداء لأخذ الماء فهجم عليهما المسلمان وأسراهما وأخذاهما إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكانا يضربانهما على وجهيهما من أجل انتزاع الأخبار المرتبطة بمعسكر الكفار،

ص: 221


1- روضة الواعظين 2: 414.
2- تفسير القمي 1: 91.

وعندما وصلا كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الصلاة فرأى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنهما يضربانهما، فخفف صلاته وأتمها بسرعة، ثم صاح بهما وزجرهما ونهرهما وقال: لماذا تضربانهما؟ لا يحق لكما ضربهما أبداً؟(1).

نعم، إن الإنسان له مقام محترم وقيمة عالية، حتى لو كان كافراً قد خرج لحرب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلا يجوز تعذيب الخصم مهما كانت الغاية والغرض من تعذيبه، وإنما جعل الإسلام طرقاً أخرى نزيهة لكسب المعلومات تنسجم مع الرحمة الإنسانية التي جاء بها الإسلام في التعامل مع الخصوم، وهي لا تخفى على من راجع سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في ذلك وخاصة في باب القضاء.

حرمة التعذيب لانتزاع الاعتراف

جاء ذات يوم رئيس منظمة الأمن العامة في العراق إلى أحد العلماء، وخلال حديثه قال: إني عذبت فلاناً حتى انتزعت منه الاعتراف بأنه سارق، فقال له - ذلك العالم - : لقد فعلت خلاف العقل والشرع؛ حيث إن التعذيب في دين الإسلام حرام، وهو بنظر العقل أمر قبيح(2)!

قال: إذن، فماذا أفعل لأجل انتزاع الاعتراف؟

ص: 222


1- انظر: تفسير القمي1: 260. سورة الأنفال، غزوة بدر، وفيه: وأقبلت قريش فنزلت بالعدوة اليمانية، وبعثت عبيدها تستعذب من الماء، فأخذهم أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحبسوهم، فقالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيد قريش، قالوا: فأين العير؟ قالوا: لا علم لنا بالعير، فأقبلوا يضربونهم، وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصلي فانفتل من صلاته فقال: «إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم! عليَّ بهم»، فأتوا بهم فقال لهم: «من أنتم؟» قالوا: يا محمد نحن عبيد قريش، قال: «كم القوم؟» قالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: «كم ينحرون في كل يوم جزوراً؟» قالوا: تسعة أو عشرة، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تسعمائة أو ألف»... فأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهم فحبسوهم، و بلغ قريشاً ذلك فخافوا خوفاً شديداً... .
2- الفقه، كتاب الحقوق 100: 366.

فقال له: افعل ما كان يفعله أمير المؤمنين(عليه السلام) اسأل المتهم في أوقات مختلفة وبأشكال مختلفة، فإذا كذب في المرة الأولى فإنه سينسى كذبته الأولى، وهكذا حتى يصدقك في مرة، وأول من استعمل هذه الطريقة للحصول على الحقيقة النبي دانيال(عليه السلام) كما نقل ذلك في الروايات(1).

فقد روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «أتي عمر بن الخطاب بجارية قد شهدوا عليها أنها بغت، وكان من قصتها أنها كانت يتيمة عند رجل، وكان الرجل كثيراً ما يغيب عن أهله فشبّت اليتيمة، فتخوفت المرأة أن يتزوجها زوجها، فدعت بنسوة حتى أمسكنها فأخذت عذرتها بإصبعها، فلما قدم زوجها من غيبته رمت المرأة اليتيمة بالفاحشة وأقامت البينة من جاراتها اللائي ساعدتها على ذلك، فرفع ذلك إلى عمر، فلم يدر كيف يقضي فيها، ثم قال للرجل: ائت علي بن أبي طالب(عليه السلام) واذهب بنا إليه.

فأتوا علياً(عليه السلام) وقصوا عليه القصة، فقال لامرأة الرجل: أ لك بينة أو برهان؟

قالت: لي شهود، هؤلاء جاراتي يشهدن عليها بما أقول. فأحضرتهن، فأخرج علي بن أبي طالب(عليه السلام) السيف من غمده فطرح بين يديه، وأمر بكل واحدة منهن فأدخلت بيتاً، ثم دعا بامرأة الرجل فأدارها بكل وجه فأبت أن تزول عن قولها، فردها إلى البيت الذي كانت فيه، ودعا إحدى الشهود وجثا على ركبتيه، ثم قال: تعرفيني أنا علي بن أبي طالب، وهذا سيفي، وقد قالت امرأة الرجل ما قالت ورجعت إلى الحق وأعطيتها الأمان، وإن لم تصدقيني لأملأن السيف منك.

فالتفتت إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين، الأمان عليَّ.

فقال لها أمير المؤمنين: فاصدقي.

ص: 223


1- سيأتي ذكره في الرواية المقبلة.

فقالت: لا واللّه، إلّا أنها رأت جمالاً وهيئة، فخافت فساد زوجها عليها،فسقتها المسكر ودعتنا فأمسكناها فافتضَّتها بإصبعها.

فقال علي(عليه السلام): اللّه أكبر، أنا أول من فرق بين الشاهدين إلّا دانيال النبي. فألزم علي المرأة حدّ القاذف، وألزمهن جميعاً العقر، وجعل عقرها أربعمائة درهم، وأمر المرأة أن تنفى من الرجل ويطلقها زوجها، وزوجه الجارية، وساق عنه علي(عليه السلام) المهر.

فقال عمر: يا أبا الحسن، فحدثنا بحديث دانيال؟

فقال علي(عليه السلام): إن دانيال كان يتيماً لا أم له ولا أب، وإن امرأة من بني إسرائيل عجوزاً كبيرة ضمته فربته، وإن ملكاً من ملوك بني إسرائيل كان له قاضيان، وكان لهما صديق وكان رجلاً صالحاً، وكانت له امرأة بهية جميلة، وكان يأتي الملك فيحدثه، واحتاج الملك إلى رجل يبعثه في بعض أموره، فقال للقاضيين: اختارا رجلاً أرسله في بعض أموري.

فقالا: فلان. فوجهه الملك.

فقال الرجل للقاضيين: أوصيكما بامرأتي خيراً.

فقالا: نعم.

فخرج الرجل، فكان القاضيان يأتيان باب الصديق، فعشقا امرأته فراوداها عن نفسها، فأبت.

فقالا لها: واللّه، لئن لم تفعلي لنشهدن عليك عند الملك بالزنى، ثم لنرجمنك!

فقالت: افعلا ما أحببتما.

فأتيا الملك فأخبراه وشهدا عنده، أنها بغت.

فدخل الملك من ذلك أمر عظيم، واشتد بها غمه، وكان بها معجباً، فقال لهما: إن قولكما مقبول، ولكن ارجموها بعد ثلاثة أيام، ونادى في البلد الذي هو

ص: 224

فيه: احضروا قتل فلانة العابدة؛ فإنها قد بغت، فإن القاضيين قد شهدا عليهابذلك، فأكثر الناس في ذلك.

وقال الملك لوزيره: ما عندك في هذا من حيلة؟

فقال: ما عندي في ذلك من شيء.

فخرج الوزير يوم الثالث وهو آخر أيامها، فإذا هو بغلمان عراة يلعبون وفيهم دانيال، وهو لا يعرفه، فقال دانيال: يا معشر الصبيان، تعالوا حتى أكون أنا الملك، وتكون أنت يا فلان العابدة، ويكون فلان وفلان القاضيين الشاهدين عليها، ثم جمع تراباً وجعل سيفاً من قصب، وقال للصبيان: خذوا بيد هذا فنحوه إلى مكان كذا وكذا، وخذوا بيد هذا فنحوه إلى مكان كذا وكذا، ثم دعا بأحدهما وقال له: قل حقاً، فإنك إن لم تقل حقاً قتلتك، والوزير قائم ينظر ويسمع، فقال: أشهد أنها بغت.

فقال: متى؟

قال: يوم كذا وكذا.

فقال: ردوه إلى مكانه، وهاتوا الآخر.

فردوه إلى مكانه وجاءوا بالآخر، فقال له: بما تشهد؟

فقال: أشهد أنها بغت.

قال: متى؟

قال: يوم كذا وكذا.

قال: مع من؟

قال: مع فلان بن فلان.

قال: وأين؟

قال: بموضع كذا وكذا.

فخالف أحدهما صاحبه!

ص: 225

فقال دانيال: اللّه أكبر، شهدا بزور، يا فلان، ناد في الناس: أنهما شهدا علىفلانة بزور، فاحضروا قتلهما.

فذهب الوزير إلى الملك مبادراً، فأخبره الخبر، فبعث الملك إلى القاضيين، فاختلفا كما اختلف الغلامان، فنادى الملك في الناس، وأمر بقتلهما»(1).

الاحترام بين الزوج والزوجة

لا شك أن أحد الأسباب التي أوجدت الاختلافات والتفرقات في مجتمعنا الإسلامي هو افتقاد الاحترام المتبادل فيما بين الناس؛ وهذا مما نهى عنه الإسلام أشد النهي، فإنه إذا لم يحترم زيد عمرواً في مكان ما فإن عمرواً سوف لا يحترم زيداً بعد ذلك، أو إذا لم يسلّم زيد عليه فإنه لا يسلم عليه عمرو، وهكذا، وهذا ممّا يدعو إلى افتقاد المحبة والألفة بين الناس.

أما الإسلام فقد ألزم على كل شخص أن يحترم الآخرين، سواء في المجتمع الصغير أو الكبير، بدءاً من العائلة والحياة الزوجية، حيث الزوج والزوجة، والوالدين والأولاد، وانتهاءً بسائر الناس.

فجعل على الزوجة أن تحترم زوجها، وهكذا على الزوج أن يحترم ويقدر مشاعر زوجته.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل اللّه صلاتها ولا حسنةً من عملها حتى تعينه وترضيه، وإن صامت الدهر وقامت وأعتقت الرقاب وأنفقت الأموال في سبيل اللّه، وكانت أول من ترد النار - ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وعلى الرجل مثل ذلك الوزر والعذاب إذا كان لها مؤذياً ظالماً. ومن صبر على سوء خلق امرأته واحتسبه أعطاه اللّه (بكل مرةٍ) يصبر عليها من الثواب مثل ما

ص: 226


1- الكافي 7: 425.

أعطى أيوب على بلائه، وكان عليها من الوزر في كل يوم وليلة مثل رمل عالج، فإنماتت قبل أن تعتبه، وقبل أن يرضى عنها حشرت يوم القيامة منكوسةً مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عيال الرجل أسراؤه، وأحب العباد إلى اللّه عزّ وجلّ أحسنهم صنعاً إلى أسرائه»(4).

ونقل عن سيرة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه عندما كان يخرج من الدار يرجع إلى الوراء القهقرى احتراماً وتقديراً للسيدة الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة(عليها السلام)، وكانت الزهراء(عليها السلام) بدورها تحترم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) غاية الاحترام إلى درجة أنها لم تكن تعترض عليه أبداً، ولو بالإشارة غير المباشرة، ولم تكن تتذمر من جشوبة العيش وبساطة الغذاء والمسكن والملبس، حتى إذا لم يدخل دارها أو جوفها طعام لعدة أيام.

فقد ذكر أنه لما مرضت فاطمة(عليه السلام) مرضاً شديداً بعد ما اعتدى عليها المعتدون الظلمة، ومكثت أربعين ليلة في مرضها الذي توفيت فيه (صلوات اللّه عليها) فلما نعيت إليها نفسها دعت أم أيمن وأسماء بنت عميس ووجهت خلف علي(عليه السلام) وأحضرته، فقالت: «يا ابن عم، إنه قد نعيت إلي نفسي، وإني لأرى ما بي لا أشك إلّا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي؟».

ص: 227


1- وسائل الشيعة 20: 163.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 555.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 443.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 555.

قال لها علي(عليه السلام): «أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)».

فجلس(عليه السلام) عند رأسها وأخرج من كان في البيت، ثم قالت(عليها السلام): «يا ابن عم، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني؟».

فقال(عليه السلام): «معاذ اللّه، أنت أعلم باللّه وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفا من اللّه من أن أوبخك بمخالفتي، قد عزّ علي مفارقتك وبفقدك، إلّا أنه أمر لابد منه، واللّه جُدّد عليَّ مصيبة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد عظمت وفاتك وفقدك، فإنا للّه وإنا إليه راجعون من مصيبة، ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها،هذه واللّه مصيبة لا عزاء عنها، ورزية لا خلف لها».

ثم بكيا جميعاً ساعةً، وأخذ علي(عليه السلام) رأسها وضمها إلى صدره، ثم قال(عليه السلام): «أوصيني بما شئت؛ فإنك تجديني فيها أمضي كل ما أمرتني به، وأختار أمرك على أمري».

ثم قالت(عليها السلام): «جزاك اللّه عني خير الجزاء يا ابن عم أوصيك أولاً: أن تتزوج بعدي بابنة أمامة؛ فإنها تكون لولدي مثلي؛ فإن الرجال لابد لهم من النساء».

قال - الراوي - : فمن أجل ذلك قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أربعة ليس إلى فراقهن سبيل: بنت أمامة، أوصتني بها فاطمة(عليها السلام)».

ثم قالت(عليها السلام): «أوصيك يا ابن عم أن تتخذ لي نعشاً، فقد رأيت الملائكة صوروا صورته».

فقال لها: «صفيه إليّ».

فوصفته، فاتخذه لها، فأول نعش عمل على وجه الأرض ذلك وما رأى أحد قبله، ولا عمل أحد.

ثم قالت: «أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، وأخذوا حقي؛ فإنهم أعدائي وأعداء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأن لا يصلي عليّ أحد

ص: 228

منهم ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار».

ثم توفيت صلوات اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها، فصاحت أهل المدينة صيحةً واحدةً واجتمعت نساء بني هاشم في دارها، فصرخن صرخةً واحدةً كادت المدينة أن تزعزع من صراخهن، وهن يقلن: يا سيدتاه يا بنت رسول اللّه، وأقبل الناس مثل عرف الفرس إلى علي(عليه السلام) وهو جالس و الحسن و الحسين(عليهما السلام) بين يديه يبكيان، فبكى الناس لبكائهما...(1).

نعم، فهذا أعظم نموذج وأفضل مثال لعلاقة الاحترام والمودة والرحمة بين الزوجين التي أمر بها الإسلام، وهكذا كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار^ فهم أعظم أسوة لنا في ذلك، وفي احترام الإنسان بما هو إنسان.

المحدود واحترامه

لقد جسد الإسلام العزيز بتعاليمه وأوامره أسمى درجات الاحترام للإنسان، فقد أوصى الإسلام باحترام الجميع حتى لو كان فاسقاً أقيم عليه حد من حدود اللّه، وفي ذلك الشأن قصص عديدة ومشهورة، منها قصة (ماعز) واعترافه بالزنا، فقد روي عن أبي الحسن(عليه السلام): «أن ماعز بن مالك أقر عند رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالزنا، فأمر به أن يرجم، فهرب من الحفيرة، فرماه الزبير بن العوام بساق بعيرٍ فعقله، فسقط فلحقه الناس فقتلوه، ثم أخبروا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك، فقال لهم: فهلا تركتموه إذا هرب يذهب؛ فإنما هو الذي أقر على نفسه، وقال لهم: أما لو كان علي(عليه السلام) حاضراً معكم لما ضللتم، قال: ووداه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من بيت مال المسلمين»(2).

وفي رواية أخرى عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «أتى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجلٌ فقال: إني

ص: 229


1- روضة الواعظين 1: 150.
2- الكافي 7: 185.

زنيت فطهرني، فصرف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجهه عنه، فأتاه من جانبه الآخر، ثم قال مثل ما قال،فصرف وجهه عنه، ثم جاء الثالثة فقال له: يا رسول اللّه، إني زنيت، وعذاب الدنيا أهون لي من عذاب الآخرة. فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أ بصاحبكم بأسٌ؟ يعني: جنةً. فقالوا: لا، فأقر على نفسه الرابعة، فأمر به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يرجم، فحفروا له حفيرةً، فلما وجد مس الحجارة خرج يشتد، فلقيه الزبير فرماه بساق بعيرٍ فسقط، فعقله به، فأدركه الناس فقتلوه، فأخبروا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك، فقال: هلّا تركتموه؟! ثم قال: لو استتر ثم تاب كان خيراً له»(1).

وفي هذه القصة نقطتان لا بد لنا من التأمل فيهما:

1- النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صنع مجتمعاً يفيض بالفضائل والمكرمات والأخلاق الحسنة، إلى درجة أن المذنب يأتي ويعترف بنفسه بما فعله من الجرم، مع أنه يعلم بأنه ليس وراء اعترافه إلّا الموت، بل الموت رجماً.

2- إن علم الحاكم والقاضي لا يكفي في باب الزنا وليس بحجة، فالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن كان يعلم بفعل هذا الشاب (ماعز)، لكنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المرحلة الأولى لم يتخذ أي قرار برجمه، بل اتخذ ذلك بعد الاعتراف الرابع وبعد تحقق الشروط المقررة شرعاً.

وذات يوم اطلع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على شخصين كانا يتكلمان معاً حول قصة ماعز، فقد روي: أنه لما رجم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الرجل في الزنا قال رجل لصاحبه: هذا قُعِصَ(2). كما يُقْعَصُ الكلب، فمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معهما بجيفة فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «انهشا منها!!».

ص: 230


1- الكافي 7: 185.
2- مات قصعاً: أصابته ضربة أو رمية فمات مكانه.

قالا: يا رسول اللّه صلى اللّه عليكَ، ننهش جيفةً؟!

قال: «ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه»(1).

وقيل: إنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لهما: «وقد أكلتم لحم ماعزٍ وهو أنتن من هذه، أما علمتما أنه يسبح في أنهار الجنة»(2).

نعم، فالإسلام يحترم حتى الإنسان الزاني والذي أجري عليه الحد.

وفي أخبار أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه لما رجم سراجة الهمدانية كثر الناس، فأغلق أبواب الرحبة، ثم أخرجها، فأدخلت حفرتها، فرجمت حتى ماتت، ثم أمر بفتح أبواب الرحبة، فدخل الناس، فجعل كل من كان يدخل يلعنها، فلما سمع ذلك(عليه السلام) أمر منادياً فنادى: «أيها الناس، لم يقم الحد على أحد قط إلّا كان كفارة ذلك الذنب، كما يجزى الدَّين بالدَّين»(3).

وفي قصة أخرى عن بشير بن المهاجر عن أبيه قال: كنت جالساً عند النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجاءته امرأة من غامد فقالت: يا نبي اللّه، إني قد زنيت وأريد أن تطهرني.

فقال لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ارجعي».

فلما كان من الغد أتته فاعترفت عنده بالزنا، فقالت: يا رسول اللّه، إني قد زنيت وأريد أن تطهرني.

فقال لها: «فارجعي».

فلما أن كان من الغد أتته فاعترفت عنده بالزنا فقالت: يا نبي اللّه، طهرني، فلعلك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك، فو اللّه إني لحبلى.

ص: 231


1- تنبيه الخواطر 1: 116.
2- مستدرك الوسائل 9: 120.
3- مستدرك الوسائل 18: 52.

فقال لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ارجعي حتى تلدين».

فلما ولدت جاءت بالصبي تحمله، قالت: يا نبي اللّه، هذا قد ولدت؟

قال: «فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه».

فلما فطمته جاءت بالصبي في يده كسرة خبز قالت: يا نبي اللّه هذا فطمته، فأمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين، وأمر بها فحفر لها حفرة فجعلت فيها إلى صدرها، ثم أمر الناس أن يرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فنضح الدم على وجنة خالد، فسبها، فسمع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سبه إياها، فقال: «مهلاً يا خالد، لاتسبها؛ فو الذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له» فأمر بها فصلي عليها فدفنت(1).

ولا يخفى أن الإسلام قد حدد ضوابط وشروط كثيرة لإجراء الحدود بحيث لا يمكن إقامتها بشكل عشوائي، وهي مذكورة في الفقه، ويظهر للمتتبع من خلالها مدى احترام الإنسان حتى المجرم في ظل الإسلام، فإن الأصل في الإسلام هو براءة الإنسان حتى تثبت إدانته بالدليل الشرعي والطرق المقررة شرعاً، فلا يجوز الأخذ بالظن والتهمة وما أشبه.

وقد روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه نظر إلى امرأة يسار بها، فقال: «ما هذه؟».

قالوا: أمر بها عمر لترجم، إنها حملت من غير زوج.

قال: «أو حاملٌ هي؟!».

قالوا: نعم.

فاستنقذها من أيديهم ثم جاء إلى عمر، فقال: «إن كان لكم عليها سبيل، فليس لك سبيلٌ على ما في بطنها».

ص: 232


1- بحار الأنوار 21: 366.

فقال عمر: لو لا علي لهلك عمر!(1).

احترام الأعداء

العدو إنسان، فله حقوقه واحترامه، هذا ما يؤكد عليه الإسلام، وقد كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحترم حتى أعدائه، فهذا عبد اللّه بن أبيّ بن سلول قائد المنافقين ورئيسهم(2) وكان يحوك الدسائس ضد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويخطط ضد الدولة

ص: 233


1- مستدرك الوسائل 18: 55.
2- عبد اللّه بن أبي بن سلول الخزرجي الأنصاري، وسلول أمرأة من خزاعة وهي أم أبيّ والد عبد اللّه وهو رأس المنافقين وزعيمهم في المدينة. كان عبد اللّه بن أبي بن سلول من رؤساء الخزرج قبل الإسلام، وكانت الخزرج قد اجتمعت أن يتوجوه ويسندوا أمرهم إليه، فلما جاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالإسلام إلى المدينة أسلم ظاهراً ولم يخلص للإسلام وأضمر النفاق حسداً وبغياً. وهو الذي قال في غزوة تبوك: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، سورة المنافقون، الآية: 8. وكان يعني الأذل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأعز هو والمنافقين، فلما نزلت هذه الآية توبخهم قال ابنه عبد اللّه لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): هو الذليل يا رسول اللّه وأنت العزيز. وابنه هو الذي قال لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: فمرني به فأنا أحمل اليك رأسه، فواللّه لقد علمت الخزرج ما كان بها رجلٌ أبر بوالديه مني واني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن انظر إلى قاتل عبد اللّه بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافرٍ فأدخل النار، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا». بحار الأنوار 20: 283. وكان عبد اللّه بن أبي بن سلول يثبط الناس، ويعمل على إضعاف الدولة الإسلامية التي أرسى دعائمها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكان معه عصبة من المنافقين يأتمرون بأمره، يعملون ليلاً ونهاراً في معاداة الإسلام وتثبيط الناس عنه، ويزرعون بينهم العداوة والبغضاء. واتهام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشتى التهم والتخطيط لاغتياله، كما تآمروا في قصة تنفير ناقة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل أن يصل إلى المدينة، ذلك في منطقة العقبة، وقد أنزل اللّه تعالى إثر هذه الحادثة قرآناً فقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}. سورة التوبة، الآية: 65. أما ابنه عبد اللّه الذي كان أسمه الحباب، وسماه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبد اللّه، فرغم أن أباه كان رأس المنافقين في المدينة، لكنه كان هو من أشراف الخزرج ومن خيار الصحابة، شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، استشهد عبد اللّه يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة للهجرة.

الإسلامية، وكان له ابن صالح يدعى عبد اللّه، وذات يوم طلب من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يعطيه من ريقه الشريف ليسقيه أباه علّه يهتدي ببركة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقبل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك، وجاء بإناء فيه ماء شرببعضه وترك الباقي وأعطاه لعبد اللّه، فأخذه فرحاً وذهب به إلى أبيه، وأعطاه ليشربه بعد أن نقل له القصة، فلم يكتف أبوه برفض شرب ذلك الماء للتبرك به، بل سبّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهانه، فجاء عبد اللّه إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونقل له ما حدث ثم قال: يا رسول اللّه، إئذن لي بقتل أبي؛ ليرتاح الجميع من شره ودسائسه!

لكن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يأذن له في ذلك وقال له: «دار أباك!»(1).

عطاء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

لقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المثل الأعلى في إكرام الإنسان واحترام الناس وكذلك في خدمة الآخرين وقضاء حوائجهم والعطاء والكرم والجود، حتى قيل فيه: إنه يعطي عطاء من لا يخاف الفقر(2)، فكان يعطي المهاجرين والأنصار وجميع المسلمين، بل وكان يعطي المنافقين والكفار أيضاً، تأليفاً لقلوبهم وردعاً لهم عن كيد المؤامرات ضد الإسلام والمسلمين... .

وقد حفظ التاريخ للنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عطايا فريدة في بابها لأعدائه وأعداء الإسلام أمثال: أبي سفيان وأولاده وغيرهم، فقد ورد: أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أجزل العطاء من غنائم حنين حتى لأعداء الإسلام: أمثال أبي سفيان، وابنه معاوية، وعكرمة ابن أبي جهل، وصفوان ابن أمية، والحرث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصين، وهمام أخي سهيل، ومالك بن عوف، وعلقمة بن

ص: 234


1- قريبٌ منه قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا» بحار الأنوار 20: 283.
2- كشف الغمة 1: 10.

علاثه، فكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعطي الواحد منهم مائة من الإبل، وأكثر من ذلك وأقل(1).

وفي البحار: ثم رجع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الجعرانة بمن معه من الناس، وقسم بها ما أصاب من الغنائم يوم حنين في المؤلفة قلوبهم من قريش ومن سائر العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وقيل: إنه جعل للأنصار شيئاً يسيراً، وأعطى الجمهور للمتألفين، قال محمد بن إسحاق: وأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، ومعاوية ابنه مائة بعير، وحكيم بن حزام من بني أسد بن عبد العزى مائة بعير، وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة مائة بعير، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي حليف بني وهدة مائة بعير، وأعطى الحارث بن هشام من بني مخزوم مائة، وجبير بن مطعم من بني نوفل بن عبد مناف مائة، ومالك بن عوف النصري مائة، فهؤلاء أصحاب المائة.

وقيل: إنه أعطى علقمة بن علاثة مائة، والأقرع بن حابس مائة، وعيينة بن حصن مائة، وأعطى العباس بن مرداس أربعاً، فتسخطها وأنشأ يقول:

أتجعل نهبي ونهب العبيد *** بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس *** يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما *** ومن تضع اليوم لا يرفع

وقد كنت في الحرب ذا تدرأ *** فلم أعط شيئاً ولم أمنع

ص: 235


1- انظر: بحار الأنوار 18: 118 وفيه: ومن أسمائه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) القثم، وله معنيان أحدهما: من القثم، وهو الإعطاء؛ لأنه كان أجود بالخير من الريح الهابة، يعطي فلا يبخل، ويمنح فلا يمنع، وقال الأعرابي للذي سأله: إن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، وروي: أنه أعطى يوم هوازن من العطايا ما قُوِّم خمسمائة ألف ألف، وغير ذلك مما لا يحصى. والوجه الآخر أنه من القثم وهو الجمع، يقال للرجل: الجموع للخير، قثوم وقثم، كذا حدث به الخليل، فإن كان هذا الاسم من هذا فلم تبق منقبة رفيعة ولا خلة جليلة ولا فضيلة نبيلة إلّا وكان لها جامعاً، قال ابن فارس: والأول أصح وأقرب.

فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟» فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي لست بشاعر، قال: «كيف قال؟». فأنشدهأبو بكر، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، قم إليه فاقطع لسانه».

قال عباس: فو اللّه، لهذه الكلمة كانت أشد علي من يوم خثعم، فأخذ علي(عليه السلام) بيدي فانطلق بي وقلت: يا علي، إنك لقاطع لساني؟

قال: «إني ممض فيك ما أمرت» حتى أدخلني الحظائر فقال: «اعقل ما بين أربعة إلى مائة». قال: قلت: بأبي أنتم وأمي، ما أكرمكم وأحلمكم وأجملكم وأعلمكم؟!

فقال لي: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعطاك أربعاً وجعلك مع المهاجرين، فإن شئت فخذها، وإن شئت فخذ المائة وكن مع أهل المائة».

فقال: فقلت لعلي(عليه السلام): أشر أنت علي؟

قال: «فإني آمرك أن تأخذ ما أعطاك وترضى».

قال: فإني أفعل(1).

مع ذي الخويصرة

قال أبو سعيد الخدري: بينا نحن عند رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يقسم، إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم، فقال: يا رسول اللّه، اعدل.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ويلك، من يعدل إن أنا لم أعدل، وقد خبت أو خسرت إن أنا لم أعدل».

فقال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه، ائذن لي فيه أضرب عنقه.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته،

ص: 236


1- بحار الأنوار 21: 169.

وصيامه مع صيامه، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافهفلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نَضِيِّه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في قذذه فلا فيه شيء قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على خير فرقة من الناس».

قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأشهد أن علي بن أبي طالب(عليه السلام) قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد، فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول اللّه الذي نعت(1).

وهذا نموذج بسيط من سياسة العطاء التي كان يمارسها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجاه أعدائه ومعارضيه.

فكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فريداً من نوعه في تاريخ البشرية عامة؛ فإن البعير الواحد ذلك اليوم كان يعد ثروة جيدة... تماماً مثل ما يمتلك اليوم بعض الناس مجموعة من السيارات الراقية.

بل البعير الواحد كان سيارة وكان مأكلاً وكان مشرباً وكان ملبساً؛ إذ أنه يستفاد من ظهره للركوب ومن لحمه للأكل ومن لبنه للشرب ومن وبره للملبس.

فهل يجد التاريخ الإنساني مثل هذه السياسة الحكيمة في احترام الأعداء واحتوائهم وتأليف قلوبهم؟!

وهذا كله من مصاديق احترام الإنسان بما هو إنسان.

العفو حتى في ميدان القتال

روي أنه في اليوم الثامن من معركة صفين، جاء رجل من عسكر الشام إلى

ص: 237


1- إعلام الورى: 121.

ميدان الحرب وطلب المبارزة.

فبرز إليه رجل من عسكر العراق، فلما اشتدت مبارزتهما وضع العراقي يدهفي عنق الشامي وجذبه إليه حتى سقطا عن فرسيهما، وفرَّ الفرسان، وفي آخر الأمر طرح العراقي خصمه الشامي أرضا فجلس على صدره وكشف المغفر عنه يريد ذبحه، فلما رآه عرفه فإذا هو أخوه لأبيه وأمه، فصاح به أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام): أجهز على الرجل! فقال: إنه أخي، قالوا: اتركه، قال: لا حتى يأذن لي أمير المؤمنين(عليه السلام) فأخبر أمير المؤمنين(عليه السلام) بذلك، فأرسل إليه: «دعه». فتركه فقام فعاد - الشامي - إلى صف معاوية. ورجع العراقي إلى عسكر الإمام(عليه السلام)(1).

مالك الأشتر قائد الجيوش

روي أن مالك الأشتر (رضوان اللّه عليه) كان يجتاز يوماً في سوق الكوفة، فشتمه رجل وأظهر عليه السفاهة والإهانة.

فلم يقل في جوابه شيئاً ولم يتعرض عليه وجاوزه.

فقال رجل للشاتم: أما عرفته؟ هذا مالك، أمير عسكر أمير المؤمنين(عليه السلام) وذكر له نبذاً من أوصافه.

فلما عرف الرجل أنه مالك دخله الرعب الشديد وظن أنه ينتقم منه، فذهب إلى أثره ليعتذر منه ليسلم من عقوبته...

فوجده في المسجد يصلي، فجلس في زاوية حتى يفرغ من صلاته.

فلما فرغ من صلاته نظر فرآه أنه يطلب من اللّه المغفرة للرجل المستهزئ.

فجاءه وأعتذر منه.

ص: 238


1- قريبٌ منه في وقعة صفين: 271.

فقال مالك: لا بأس عليك، فواللّه ما دخلت المسجد إلّا لأستغفر لك!(1).

من أخلاق الآخوند الخراساني(رحمه اللّه)

نقل أحد تلاميذ الآخوند الخراساني(رحمه اللّه) بعض أحوال أستاذه، فذكر منها: أنه كان يقوم احتراماً لكل من يدخل عليه في مجلسه ويرحب به، عالماً كان الداخل عليه أم طالباً مبتدئاً، وهذا ديدنه طوال حياته، ومنها: أنه كان يسلّم على الجميع صغيراً أو كبيراً، ويقول: إن الإنسان يجب أن يكون مورداً للاحترام والتقدير.

وكان الآخوند الخراساني(رحمه اللّه) يتمتع بهذه الصفات رغم ما اشتهر من شجاعة وجرأة في مواجهة الظالمين، فقد روي أنه(رحمه اللّه) بعث برقية احتجاج وتهديد إلى السطان العثماني عبد الحميد(2) لاقترافه الأعمال المنافية للشريعة المقدسة.

عندما انتشر خبر البرقية في الأوساط، توجه البعض إلى الشيخ الخراساني وقالوا له: هل تدري ماذا فعلت يا شيخنا؛ إنّ البرقية ستكون وبالاً علينا، ستصبح النجف الأشرف والحوزة العلمية هدفاً لقذائف العثمانيين. فهل تظن إن هذا كسلطان العجم يخاف منكم؟ ألا تدري أنه بإشارة واحدة قتل سبعين ألفاً من الأرمن؟ ألا تعلم إنّ هذا السلطان رجل جزّار لا يخاف اللّه ولا يرعى حرمة لأحد، وليس مهماً لديه أن تفنى النجف بأهلها.

أجابهم الشيخ بكل هدوء وطمأنينة: إنكم تخافون السلطان وأنا لا أهابه، وقد استخرت اللّه سبحانه في إرسال البرقية، وإن الخير ما اختاره اللّه سبحانه وهو معنا وسينصرنا. وكان الأمر كما ذكره الشيخ(رحمه اللّه)، فإن مواقف الشيخ من السلطان

ص: 239


1- قريبٌ منه في تنبيه الخواطر 1: 2.
2- عبد الحميد بن عبد المجيد بن محمود بن عبد الحميد الأول، السلطان العثماني ولد عام (1842م) مارس الحكم من سنة (1876م حتى 1909م).

العثماني والتفاف الناس حوله أضعف السلطان.

وهكذا نرى الشيخ الخراساني(رحمه اللّه) كان يحارب الروس والعثمانيين وسلاطين إيران في وقت واحد، وقد سبّب ذلك إنقاذ إيران والعراق من الأفكار التي كانتتهددهما آنذاك(1).

المرجع لسمح

نعم، إن سياسة الإسلام الإنسانية والحكيمة في احترام الناس وتقديرهم والرحمة بهم من أهم الأساليب التي ساعدت - وبشكل كبير - على انتشاره بين الناس وجلب قلوب الأعداء نحوه، حتى اليهود والنصارى والمنافقين، فجعلتهم يسلمون، فما أحوجنا اليوم إلى هذه المبادئ الحقة التي جاء بها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهداية الناس وإعادة الأمن والسلام في كل العالم، بعد أن أصبح الإنسان أرخص شيء في هذه الدنيا، وما أحوجنا إلى اتباع سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في التعامل مع الأعداء والأصدقاء، كي نتمكن من أن نرفع راية الإسلام عالية في كل مكان، كما قال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(2).

وقد كان أحد العلماء المعاصرين للآخوند الخراساني(رحمه اللّه) مخالفاً لبعض آراء الآخوند الخراساني(رحمه اللّه) ومظهراً لمخلافته له.

قال: جاءني ذات يوم رجل غريب وهو يحمل كيساً مملواً بليرات ذهبية وقال: من هو المرجع هنا؟

قلت: إنّ فلاناً هو من المراجع، وأنا موافق له لكنه لا يعطي، والآخوند هو من

ص: 240


1- انظر: حقائق من تأريخ العلماء: 33 للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
2- سورة التوبة، الآية: 33.

المراجع أيضاً وأنا مخالف له لكنه يعطي.

قال الرجل الغريب: ليس لي حاجة بمن لا يعطي، فاذهب بي إلى من يعطي.قال: فأخذته إلى دار الآخوند(رحمه اللّه) وأنا فقير معدم محتاج إلى ليرة واحدة منها، فدخلنا على الآخوند فرأيناه يتوضأ، فقلت للرجل الغريب: إنّ هذا الذي يتوضأ هو الآخوند، فالتفت إليه الرجل الغريب وقال: إنّ هذا المال هو ثلث ميّت، وقد جئت به إليك.

فقال له الآخوند: تقبّل اللّه منه ومنك ورحمه وايّاك، نعم ضعه على الحصير، ثمّ أتمّ وضوئه، وقد ذهب الرجل.

عندها قال لي الآخوند: خذ هذا المال لك.

فتعجبت من كلامه وقلت: لا إنّما آخذ بعضه.

فقال الآخوند: كلا، بل كلّه لك، وبالتالي وبإصرار كثير أعطاني المال كلّه ولم يرضَ لي بغيره، ممّا صار ذلك سبباً لأن ارفع اليد عن مخالفتي له، وأن أكون بعد اظهار الخلاف له ممّن يظهر الوفاق له ويعلن بالمحبّة والإجلال والمدح والثناء عليه.

نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا للاهتداء بسنّة نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)وأوليائه المعصومين^ في القول والعمل، وخاصة فيما يرتبط باحترام الإنسان وحقوق الناس.

«الحمد للّه مالك الملك، مجري الفلك، مسخّر الرياح، فالق الأصباح، ديّان الدين، ربّ العالمين، الحمد للّه على حلمه بعد علمه، والحمد للّه على عفوه بعد قدرته، والحمد للّه على طول أناته في غضبه، وهو القادر على ما يريد،

ص: 241

الحمد للّه خالق الخلق، باسط الرزق، فالق الإصباح، ذي الجلال والإكرام»(1) وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

كرامة الإنسان

قال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(2).

وقال سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}(4).

احترام جميع الناس

قال جلّ ثناؤه: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(5).

وقال تبارك وتعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}(6).

ص: 242


1- تهذيب الأحكام 3: 109.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- سورة المائدة، الآية: 32.
4- سورة النساء، الآية: 75.
5- سورة البقرة، الآية: 83.
6- سورة النساء، الآية: 36.

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(1).

الاحترام بين الزوج والزوجة

قال سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(2).

وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوٰةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}(3).وقال عزّ وجلّ: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَوٰةِوَالزَّكَوٰةِ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَا أَوْلَٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ}(5).

في ذم العداوة

قال سبحانه وتعالى: {فَإِنِ انتَهَوْاْ فَلَا عُدْوَٰنَ إِلَّا عَلَى الظَّٰلِمِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {...وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(7).

وقال تبارك وتعالى: {وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَٰرِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(8).

وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ

ص: 243


1- سورة الأنبياء، الآية: 107.
2- سورة النساء، الآية: 19.
3- سورة طه، الآية: 132.
4- سورة مريم، الآية: 55.
5- سورة المنافقون، الآية: 9.
6- سورة البقرة، الآية: 193.
7- سورة المائدة، الآية: 2.
8- سورة المائدة، الآية: 62.

وَيَتَنَٰجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}(1).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَٰجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَٰجَوْاْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَٰجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(2).

الإسلام يدعو إلى السلم

قال سبحانه: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ وَالْأُمِّيِّۧنَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَٰغُ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(5).

وقال جلّ ثناؤه: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}(6).

وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(7).

ص: 244


1- سورة المجادلة، الآية: 8.
2- سورة المجادلة، الآية: 9.
3- سورة آل عمران، الآية: 20.
4- سورة البقرة، الآية: 208.
5- سورة الأنفال، الآية: 61.
6- سورة النساء، الآية: 90.
7- سورة فصلت، الآية: 33.

من هدي السنّة المطهّرة

في ذم العداوة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم ومشاجرة الناس فإنها تظهر الغرّة وتدفن العزّة»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رأس الجهل معاداة الناس»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إياكم والخصومة فإنها تفسد القلب وتورث النفاق»(3).وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من زرع العداوة حصد ما بذر»(4).

وقال(عليه السلام): «إياكم والخصومة فإنها تشغل القلب وتورث النفاق وتكسب الضغائن»(5).

احترام جميع الناس

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «ليس منّا من لم يوقّر كبيرنا ويرحم صغيرنا»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «التودد إلى الناس نصف العقل»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «خالطوا الناس مخالطة إن متّم معها بكوا

ص: 245


1- بحار الأنوار 72: 210.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 377.
3- كشف الغمة 2: 133.
4- الكافي 2: 302.
5- الكافي 2: 301.
6- الكافي 2: 165.
7- الكافي 2: 643.

عليكم وإن عشتم حنّوا إليكم»(1).

وقال لقمان لابنه يوصيه: «يا بني لا تكالب الناس فيمقتوك، ولا تكن مهيناً فيذلّوك، ولا تكن حلواً فيأكلوك، ولا تكن مرّاً فيلفظوك»(2).

وقال أبو جعفر الباقر(عليهما السلام): «إنّ إعرابياً من بني تميم أتى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: أوصني فكان مما أوصاه: تحبب إلى الناس يحبوك»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «مجاملة الناس ثلث العقل»(4).

الاحترام بين الزوج والزوجة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في الزوج والزوجة: «من أساء إلى أهله لم يتصل به تأميل»(5).

وقال(عليه السلام): «من سعادة المرء أن يضع معروفه عند أهله»(6).

وقال(عليه السلام): «الزوجة الموافقة إحدى الراحتين»(7).

وقال(عليه السلام): «أنعم الناس عيشاً من منحه اللّه سبحانه القناعة وأصلح له زوجه»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن المرء يحتاج في منزله وعياله إلى ثلاث خصال يتكلفها وإن لم يكن في طبعه ذلك: معاشرة جميلة وسعة بتقدير وغيرة بتحصن»(9).

ص: 246


1- نهج البلاغة الحكم: الرقم 10.
2- الإختصاص: 338.
3- الكافي 2: 642.
4- الكافي 2: 643.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 598.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 822.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 87.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 212.
9- بحار الأنوار 75: 236.
الإسلام يدعو إلى السلم

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي إلّا بمثل ذلك: إن الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل، والعمل هو الأداء»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الإسلام عريان فلباسه الحياء، وزينته الوقار، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شيء أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت^»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحمد للّه الذي شرع الإسلام فسهل شرائعهلمن ورده، وأعز أركانه على من غالبه، فجعله أمناً لمن علقه، وسلماً لمن دخله، وبرهاناً لمن تكلم به...»(3).

وقال(عليه السلام): «إن اللّه تعالى خصّكم بالإسلام واستخلصكم له؛ وذلك لأنه اسم سلامة وجماع كرامة، اصطفى اللّه منهجه وبيّن حججه... لا تفتح الخيرات إلّا بمفاتيحه، ولاتكشف الظلمات إلّا بمصابيحه»(4).

ص: 247


1- الكافي: 2: 45.
2- الكافي 2: 46.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 106 من خطبة له(عليه السلام) يبين فضل الإسلام ويذكر الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 152 من خطبة له(عليه السلام) في صفات اللّه جلّ جلاله وصفات أئمة الدين.

أثر النشاط والحكمة في تقدم المسلمين

انتشار الإسلام

اشارة

في رواية عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذكرها الفريقان في كتبهم جاء فيها:

لما بعث محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنبوة، بعث كسرى رسولاً إلى باذان(1) عامله في أرض المغرب: بلغني أنه خرج رجل قبلك يزعم أنه نبي، فلتقل له: فليكفف عن ذلك، أو لأبعثن إليه من يقتله ويقتل قومه، فبعث باذان إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لو كان شيء قلته من قبلي لكففت عنه، ولكن اللّه بعثني» وترك رسل باذان وهم خمسة عشر نفراً ولا يكلمهم خمسة عشر يوماً ثم دعاهم، فقال: «اذهبوا إلى صاحبكم فقولوا له: إن ربي قتل ربّه الليلة، إن ربي قتل كسرى الليلة ولا كسرى بعد اليوم، وقتل قيصر ولا قيصر بعد اليوم» فكتبوا قوله، فإذا هما قد ماتا في الوقت الذي حدثه محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(2).

يتضمن حديث النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا إخباراً عن الغيب، ويكشف أيضاً عن واقع وحقيقة اجتماعية مؤداها أن المبادئ الحقة والقيم الصحيحة والفضائل الحميدة عندما تظهر للوجود تموت في مقابلها المبادئ الباطلة بجميع سماتها وخصوصياتها، وكذلك عندما يظهر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وينشر رسالته بين الناس

ص: 248


1- باذان: أحد ملوك اليمن، المنصوب من قبل كسرى.
2- الخرائج والجرائح 1: 132.

ويحكمهم بالعدل والمنطق فإنه يطيح بكل سلطان ظالم.

وقد أخبر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن مستقبل الأمة الإسلامية ومستقبل الأمم المجاورة لها؛ فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «لما حفر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الخندق مرّوا بكدية(1)،

فتناول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المعول من يد أمير المؤمنين(عليه السلام) أو من يد سلمان (رضي اللّه عنه) فضرب بها ضربةً فتفرّقت بثلاث فرق، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لقد فُتح عليَّ في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر، فقال أحدهما لصاحبه: يعدنا بكنوز كسرى وقيصر وما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلّى»(2).

عمومية الرسالة

من أسباب تقدم الإسلام عمومية رسالته، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لما أسري بي إلى السماء ما سمعت شيئا قط هو أحلى من كلام ربي عزّ وجلّ - قال - فقلت: يا رب، اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً، ورفعت إدريس مكاناً علياً، وآتيت داود زبوراً، وأعطيت سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فما ذا لي يا رب؟

فقال جلّ جلاله: يا محمد، اتخذتك خليلاً كما اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمتك تكليماً كما كلمت موسى تكليماً، وأعطيتك فاتحة الكتاب وسورة البقرة ولم أعطهما نبياً قبلك، وأرسلتك إلى أسود أهل الأرض وأحمرهم وإنسهم وجنّهم، ولم أرسل إلى جماعتهم نبياً قبلك، وجعلت الأرض لك ولأمتك مسجداً وطهوراً، وأطعمت أمتك الفيء ولم أحله لأحد قبلها، ونصرتك بالرعب حتى أن عدوك ليرعب منك، وأنزلت سيد الكتب كلها مهيمنا عليك قرآناً عربياً

ص: 249


1- الكدية، بالضم: قطعة غليظة صلبة لا يعمل فيها الفأس.
2- الكافي 8: 216.

مبيناً، ورفعت لك ذكرك حتى لا أذكر بشيء من شرائع ديني إلّا ذكرت معي»(1).

إن من العوامل التي تدعم النشاط الإسلامي على المستوى العالمي كون رسالة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عالمية، جاءت للناس كافة، جاءت للشرق والغرب، وللعرب والعجم؛كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(2).

فقد بين اللّه سبحانه شمولية نبوة نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ} يا محمد بالرسالة التي حملناكها {إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} أي: عامة للناس كلهم،العرب والعجم وسائر الأمم، ويؤيده الحديث المروي عن ابن عباس عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أعطيت خمساً ولا أقول فخراً: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً،وأحلّ لي المغنم ولا يحل لأحد قبلي...» الحديث(3).

وورد في تفسير الآية المباركة أن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ} أي: يارسول اللّه{إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} أي: للناس عامة، وكان تقديم {كَافَّةً} لإفادة أن الغرض المسوق له الكلام هو عموم الرسالة، وإنما كان {كَافَّةً} بمعنى عامة؛ لأنها إذا عمتهم فقد كفتهم - وصفتهم - أن يخرج منها أحد منهم(4).

ومن المؤيدات لعمومية الرسالة وشمولها للقاصي والداني وبقائها إلى يوم القيامة حديث الإمام الصادق(عليه السلام) في بيان الأنبياء من أولي العزم حتى انتهى إلى نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «... حتى جاء محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجاء بالقرآن وشريعته

ص: 250


1- بحار الأنوار 18: 305.
2- سورة سبأ، الآية: 28.
3- تفسير مجمع البيان 8: 217.
4- تفسير تقريب القرآن 4: 386.

ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة...»(1).

والمتوخى من التذكير بعمومية الرسالة الإسلامية هو أن همتنا وطموحنا في نشر الإسلام يجب أن يكونا بالمستوى العالمي،وأن تكون همة المسلمين عالية قادرة على إيصال الحق إلى أبعد نقطة في العالم، وأن يرقى منطقنا إلى مستوى رفيع، وأن تتسلح أجهزتنا التبليغية بروح المعرفة والوعي والحجج البالغة؛ لنشر التعاليم الإسلامية السامية،وسيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المطهرين^، فعندها ستكون عوامل التقدم والنهضة العالمية منجزة على أيدينا.

ومن هنا يتوجب على الرساليين معرفة السياسة الحكيمة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأسلوبه في التعامل مع أبناء العالم وملوكهم؛باعتباره مبعوثاً للخلق أجمع.

ولكي نقتدي به(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونهدي العالم إلى الإسلام وننقذ الناس من هذا الظلام الدامس نشير إلى بعض تلك النقاط من سياسة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لتكون لنا نوراً نستضيء به.

السياسة الحكيمة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة له يبين فيها فضل الرسول الكريم وأهل بيته^: «... حتّى أفضت كرامة اللّه سبحانه وتعالى إلى محمّدٍ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً، وأعزّ الأرومات(2) مغرساً، من الشّجرة الّتي صدع منها أنبياءه، وانتجب منها أمناءه. عترته خير العتر، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير الشّجر، نبتت في حرمٍ وبسقت(3) في كرمٍ، لها فروعٌ طوالٌ وثمرٌ لا ينال، فهو إمام

ص: 251


1- الكافي 2: 17.
2- الأرومات: جمع أرومة: الأصل.
3- بَسَقَتْ: ارتفعت.

من اتّقى وبصيرة من اهتدى، سراجٌ لمع ضوؤه وشهابٌ سطع نوره وزندٌ برق لمعه، سيرته القصد(1) وسنّته الرّشد وكلامه الفصل وحكمه العدل، أرسله على حين فترةٍ(2) من الرّسل، وهفوةٍ عن العمل وغباوةٍ من الأمم»(3).

وقال(عليه السلام): «بعثه والنّاس ضلالٌ في حيرةٍ، وحاطبون(4) في فتنة، قد استهوتهم الأهواء، واستزلّتهم الكبرياء، واستخفّتهم الجاهليّة الجهلاء، حيارى في زلزالٍ من الأمر، وبلاءٍ من الجهل، فبالغ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في النّصيحة، ومضى على الطّريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة...»(5).

وقال (صلوات اللّه وسلامه عليه) في ذكر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «مستقرّه خير مستقرٍّ، ومنبته أشرف منبتٍ، في معادن الكرامة ومماهد(6) السّلامة، قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، وثنيت إليه أزمّة الأبصار، دفن اللّه به الضّغائن، وأطفأ به الثّوائر(7)، ألّف به إخواناً، وفرّق به أقراناً، أعزّ به الذّلّة، وأذلّ به العزّة، كلامه بيانٌ، وصمته لسانٌ»(8).

لم يقدم التاريخ البشري حاكماً وزعيماً لدولة واسعة الأطراف والنواحي

ص: 252


1- القَصد: الاستقامة.
2- فترة: الزمان بين الرسولين.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 94 فيها يصف اللّه تعالى ثم يبين فضل الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته^ ثم يعظ الناس.
4- حاطبون: جمع حاطب، وهو الذي يجمع الحطب، يقال لمن يجمع الصواب والخطأ: حاطب ليل.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 95 يقرر فضيلة الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
6- المماهد: جمع ممهد: ما يمهد، أي يبسط فيه الفراش ونحوه.
7- الثوائر: جمع ثائرة، وهي العداوة.
8- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 96 من خطبة له(عليه السلام) في اللّه وفي الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

كرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إنسانيته وعدله وإخلاصه، وتواضعه للناس، وصبره واستقامته،وشهامته وشجاعته،وكل هذا من أسرار العظمة في شخصية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي جعلت منه سيد الأنبياء، وأنموذجاً فذاً لساسة العالم، ومعلماً للبشرية جمعاء،الذي قال فيه عزّ وجلّ: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}(1) وقال جلّ وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(2).

فقد استطاع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بسياسته العادلة الحكيمة أن يدخل في الإسلام أكبر عدد ممكن من البشر في مدة قصيرة أدهشت التاريخ حتى قال تبارك تعالى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}(3).

حيث جاء في تفسير السورة المباركة: {إِذَا جَاءَ} يا محمد{نَصْرُ اللَّهِ} على من عاداك، وهم قريش {وَالْفَتْحُ} فتح مكة. وهذه بشارة من اللّه سبحانه لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنصر والفتح قبل وقوع الأمر {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} أي: جماعة بعد جماعة، وزمرة بعد زمرة، والمراد بالدين الإسلام، والتزام أحكامه، واعتقاد صحته، وتوطين النفس على العمل به. قيل: لما فتح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكة، قالت العرب: أما إذا ظفر محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأهل الحرم، وقد أجارهم اللّه من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان، أي: طاقة، فكانوا يدخلون في دين اللّه أفواجاً أي: جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً، أو اثنين. فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام. وقيل: {فِي دِينِ اللَّهِ} أي: في طاعة اللّه وطاعتك، وأصل الدين الجزاء. ثم يعبر به عن الطاعة التي يستحق بها

ص: 253


1- سورة طه، الآية: 41.
2- سورة القلم، الآية: 4.
3- سورة النصر، الآية: 2.

الجزاء(1).

العفو العظيم

إن من أبرز سمات النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسياسته العظيمة العفو والصفح حتى عن أشرس الأعداء وأشد المنافقين؛ فإن من عظيم عفوه تعامله مع أهل مكة الذين قتلوا أصحابه وأنصاره وأقرباءه في عشرات المواقف والحروب، وفيهم الذين أخرجوه من بلد صباه وأرض شبابه ومرتع حياته، فأجبروه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على فراق وطنه وعذبوا المسلمين بأنواع التعذيب وقتلوا العديد منهم.

فقد روي عن الإمام السجاد(عليه السلام) قال: «لما بعث اللّه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة وأظهر بها دعوته، ونشر بها كلمته، وعاب أديانهم في عبادتهم الأصنام، وأخذوه وأساؤوا معاشرته، وسعوا في خراب المساجد المبنية كانت لقوم من خيار أصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشيعته وشيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام)، كان بفناء الكعبة مساجد يحيون فيها ما أماته المبطلون، فسعى هؤلاء المشركون في خرابها، وأذى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسائر أصحابه، وألجئوه إلى الخروج من مكة إلى المدينة، التفت(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخلفه إليها فقال: اللّه يعلم أني أحبك، ولولا أن أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً، ولا ابتغيت عنك بدلاً، وإني لمغتم على مفارقتك. فأوحى اللّه تعالى إليه: يا محمد، إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، ويقول سأردك إلى هذا البلد ظافراً غانماً سالماً، قادراً قاهراً، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖ}(2) يعني إلى مكة ظافراً غانماً. وأخبر بذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه، فاتصل بأهل مكة فسخروا منه. فقال اللّه تعالى

ص: 254


1- تفسير مجمع البيان10: 466.
2- سورة القصص، الآية: 85.

لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): سوف أظهرك بمكة، وأجريعليهم حكمي، وسوف أمنع عن دخولها المشركين حتى لا يدخلها منهم أحد إلّا خائفاً، أو دخلها مستخفياً من أنه إن عثر عليه قتل. فلما حتم قضاء اللّه بفتح مكة استوسقت له، أَمَّر عليهم عتاب بن أسيد...»(1).

فهؤلاء جاءهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاتحاً منتصراً عليهم، تُرى ما الذي كان سيفعله إنسان آخر غير النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من موقف كهذا؟

إنه بلا شك سيرتكب مجزرة رهيبة... فالأسرى الذين في قبضته الشريفة هم الظالمون أنفسهم لا غيرهم... أبو سفيان وهند، وأضرابهما من الرجال والنساء.

وعندما حمل الراية سعد بن عبادة زعيم الأنصار وجعل يسير في طرقات مكة ويهزها منادياً: اليوم يوم الملحمة،اليوم تسبى الحرمة. لكن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذا الأخلاق الرحمانية أبى أشد الأباء، وسجل نقطة مشرفة في تاريخ الإسلام والإنسانية، فأمر علياً(عليه السلام) أن يحمل الراية بدلاً عن سعد بن عبادة وأمره أن ينادي في أهل مكة بلين بعكس ذلك النداء، فنادى علي(عليه السلام) في طرقات مكة: «اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة» ثم جمع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أهل مكة فنادى فيهم: «ما تقولون إني فاعل بكم؟».

قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أقول لكم كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}»(2).

ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

ثم قال: «أيها الناس من قال: لا إله إلا اللّه فهو آمن، ومن دخل الكعبة فهو

ص: 255


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 55.
2- سورة يوسف، الآية: 92.

آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن...»(1).

الأسوة الحسنة

لقد كانت دعوة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للرؤساء والملوك إلى الإسلام تتضمن نفس الأسلوب الحكيم والوادع الذي دعا فيه أهل مكة - وغيرهم - إلى الإسلام، من حيث طريقة الخطاب واختيار الرسل والمبعوثين؛ إذ كانت تتلخص بالدعوة إلى الإسلام والأمن والإيمان، وأي عاقل يرفض دعوة الأمن والسلام والإيمان باللّه الواحد القهار؟! الأمر الذي كان يدعو المئات بل والآلاف من الناس إلى قبول الإسلام كدين ورسالة إلى الحياة، وهذه هي إحدى ركائز العظمة في شخصية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والباري جلّ وعلا في القرآن الكريم يطلب من المسلمين الاقتداء بنبيهم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ فهو خير قدوة لخير دين فقال عزّ وجلّ: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(2).

لذا - كما ورد في تفسير الآية - يلزم على المؤمن أن يقتدي بالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في سيرته العطرة وأخلاقه العظيمة، فإن قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ} يعني: أيها المسلمون {فِي رَسُولِ اللَّهِ} أي: في سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصبره وعنائه في اللّه {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي:مقتدى صالحاً، بحيث يراه الناس فيعملون كما يعمل(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والأسوة من الاتساء،كما إن القدوة من الإقتداء، بمعنى الإقتداء والمتابعة {لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ} أي: يرجو ثواب اللّه ونعيمه، ويرجو أن يكون في اليوم الآخر من الفائزين{لِّمَن}بدل من {لَكُمْ} والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة حسنة لمطلق الناس، وإنما من كان يرجو اللّه يتأسى فكان

ص: 256


1- انظر: بحار الأنوار 21: 130-132.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.

أسوة له؛ إذ الانتفاع بهذا المقتدىعائداً إليه {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} فإن من ذكره سبحانه ترسخ في كيانه الخوف من اللّه سبحانه؛ فيطيع أوامره ويقتدي برسوله فيما عمل وسار عليه(1).

في بعض التفاسير: هذا خطاب اللّه للمكلفين، يقول لهم: إن لكم معاشر المكلفين {فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: إقتداءً حسناً، في جميع ما يقوله ويفعله متى فعلتم مثله كان حسناً، والمراد بذلك الحث على الجهاد والصبر عليه في حروبه، والتسلية لهم في ما ينالهم من المصائب، فإن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شج رأسه وكسرت رباعيته في يوم أحد، وقتل عمه حمزة(عليه السلام) فالتأسي به في الصبر على جميع ذلك من الأسوة الحسنة... فمن تأسى بالحسن ففعله حسن {لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ} فالرجاء توقع الخير، فرجاء اللّه توقع الخير من قبله، ومثل الرجاء الطمع والأمل، ومتى طمع الإنسان في الخير من قبل اللّه فيكون راجياً له(2). لذا يلزم على المسلمين الاقتداء بسيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جميع نشاطاتهم الداخلية والخارجية، في الدعوة إلى الدين ونشر أحكامه بواسطة الحوار الهادئ والموعظة الحسنة والرفق واللين؛فقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «أحب العباد إلى اللّه تعالى المتأسي بنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمقتص أثره»(3).

وقال(عليه السلام): «اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أصدق الهدى واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن»(4).

وقال (صلوات اللّه وسلامه عليه): «يا أيها الناس، إنه لم يكن للّه سبحانه

ص: 257


1- تفسير تقريب القرآن 4: 320.
2- التبيان في تفسير القرآن 8: 327.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 110.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 155.

حجة في أرضه أوكد من نبينا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا حكمة أبلغ من كتابه القرآن العظيم،ولا مدح اللّه تعالى منكم إلّا من اعتصم بحبله واقتدى بنبيه، وإنما هلك من هلك عند ما عصاه وخالفه واتبع هواه؛ فلذلك يقول عزّ من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}»(1)(2).

اليقظة والفكر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لمحمد بن الحنفية: «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ، من تورط في الأمور غير ناظر في العواقب فقد تعرض لمفظعات النوائب، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم، والعاقل من وعظه التجارب، وفي التجارب علم مستأنف، وفي تقلب الأحوال علم جواهر الرجال»(3).

وقال(عليه السلام): «إذا قدمت الفكر في جميع أفعالك حسنت عواقبك في كل أمر»(4).

وقيل لأحد أصحاب كسرى - وكان شيخاً كبيراً طاعناً في السن - : «في أي شيء يكون نفع الإنسان؟».

قال: «أن يكون أعداء الإنسان كثيرين وأصدقاؤه قليلين؛ وذلك حتى يكون الإنسان في كل لحظة على حذر تام من كيد الأعداء، فحينئذ يكون مهتماً كثيراً لكي لا تصدر منه نقطة ضعف يريدها الأعداء، ودائماً يراقب أعماله وتصرفاته الشخصية والاجتماعية، فيكون هذا داعياً إلى رقي هذا الإنسان».

ص: 258


1- سورة النور، الآية: 63.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 806.
3- من لا يحضرة الفقيه 4: 384.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 58.

ومن الواضح أن الإنسان يصبح حذرا ويقظاً عندما يكثر أعداؤه في كل جوانب حياته، وجميع تصرفاته، لكن هذا وحده لا يكفي؛ إذ لابد من اقترانالحذر برفع النواقص ومواطن الضعف، واستبدالها بمقومات القوة والكمال، وهذا ما يحتاجه المسلمون اليوم؛ لما هم عليه من كثرة أعدائهم وقلة أصدقائهم، الأمر الذي يوجب شدة الحذر والإمعان في الاهتمام برفع النواقص، لكي لا يعطوا فرصة للعدو للتغلب عليهم.

لا يغيّر اللّه ما بقوم

إذا بقي المسلمون على حالهم هذه في الوقت الحاضر فإنهم سيتلقون الصفعات والنكبات المتتالية يوماً بعد يوم من هؤلاء الأعداء الذين وقفوا ضدهم.

حيث إن المسلمين غافلون عن التوجه إلى أنفسهم ولم يصلحوا أمورهم ويرفعوا نواقصهم المعنوية والمادية، فإن أوضاعهم - لا سمح اللّه ولا قدر - سوف تسير من سيئ إلى أسوأ؛ لأن اللّه يقول:

{لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1).

فإنه لا يغير ما فيهم أو يصلحهم إلّا إذا غيروا أنفسهم وتركوا المعصية والشرك وتوجهوا إلى الشكر والطاعة والإيمان، فحينئذ فقط تنهال العناية الإلهية والرحمة عليهم؛ لأنها تحتاج إلى مقدمات وقابليات.

صحيح أن رحمة اللّه تعالى عامة شاملة للجميع كما أخبر سبحانه وتعالى: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٖ رَّحْمَةً وَعِلْمًا}(2).

وقال عزّ وجلّ أيضاً: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ}(3).

ص: 259


1- سورة الرعد، الآية: 11.
2- سورة غافر، الآية: 7.
3- سورة الأعراف، الآية: 156.

ولكن هذا كلي مشكك - على اصطلاح المناطقة - وذو مراتب ودرجات، فيلزم على الإنسان أن يوفر في نفسه القابلية والاستعداد فيحصل على تمامالرحمة والعناية، فقد قال سبحانه:

{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}(1).

كيف انتشر الإسلام؟

اشارة

انتشر الإسلام بمقومات عديدة كان منها نشاط وحكمة المسلمين، قال الإمام جعفر بن محمد(عليهما السلام) للمفضل: «أي مفضل، قل لشيعتنا: كونوا دعاة إلينا بالكف عن محارم اللّه واجتناب معاصيه واتباع رضوان اللّه، فإنهم إذا كانوا كذلك كان الناس إلينا مسارعين»(2). لقد كان المسلمون في السابق يهتمون بتقدم الإسلام ونشره اهتماماً شديداً؛ لذلك ربّوا كوادر كثيرة عملت على خدمة الإسلام ورفع رايته. روي أن السيد الرضي أسس في بغداد تجمعاً يجمع تحت لوائه الأفراد البارزين من غير المسلمين ويطلعهم على محاسن الإسلام وأهدافه السامية وقوانينه السمحاء، وذلك من أجل جذبهم إلى الإسلام الحنيف،وكان من هؤلاء (مهيار الديلمي)(3) الذي كان مجوسياً، ولكن بعد التوجيه المركز والإرشاد المتواصل له من قبل السيد الرضي أصبح مسلماً وموالياً لأهل البيت^ ومن العلماء البارزين في عصره ومن الشعراء المشهورين أيضاً، ويعتبر ديوانه (ديوان

ص: 260


1- سورة الأعراف، الآية: 56.
2- دعائم الإسلام 1: 58.
3- مهيار بن مرزويه أبو الحسن الديلمي البغدادي. أديب فاضل وشاعر كبير من شعراء أهل البيت^ المجاهرين بولائهم الشديد، من تلامذة الشريف الرضي، توفي في سنة (428ه). انظر: أمل الآمل 2: 329.

مهيار الديلمي) من أفضل الدواوين في الشعر العربي والإسلامي، وكان هذا عملاً واحداً من الأعمال الكثيرة التي كان يقوم بها المسلمون علماء وشعراءوخطباء وغيرهم من أجل جذب الناس إلى الإسلام.

علم الهدى

ذكر أن الناس أصابهم السنين (قحط شديد) في بعض السنين في أيام السيد المرتضى علم الهدى(رحمه اللّه) فاحتال رجل يهودي على تحصيل قوت يحفظ نفسه من الهلاك، فحضر مجلس المرتضى وأستأذنه أن يقرأ عليه شيئا من علم النجوم، فأذن له وأمر له بجائزة تجري عليه كل يوم، فقرأ عليه برهة ثم أسلم على يده.

فقصة السيد المرتضى علم الهدى وسيرته مع اليهودي - وغيره - توضح دور رجال الإسلام الحريصين على نشر وإشاعة هذا الدين الحنيف، وقوة تأثيرهم على غيرهم والمخالفين معهم، كما هو شأن الأئمة^ مع الناس. فإننا نرى كيف أن اليهودي وقد نبذ يهوديته وأعتنق دين الإسلام لما شعر به من عظمة هذا الدين وعظمة الرجال القائمين عليه الممثلين له تمثيلاً مشرقاً يجذب القلوب والعقول إليه، لا تمثيلاً سيئاً ينفر الناس منه. فالسيد علم الهدى صاغ طلب العلم في إطار الإيمان باللّه عزّ وجلّ فعكس من خلاله الفكر الإسلامي والنظريات الإسلامية والآيات الدالة على جوانب الخير لحياة الإنسان؛ ولعل هذا من الأسباب التي جعلت السيد مؤهلاً لأن يدعي ب(علم الهدى) فكان علم نور وهداية، وسبباً مباشراً لهداية الناس لحقيقة الإيمان باللّه(1).

ستر العطاء

عندما كنا في مدينة كربلاء المقدسة وفي يوم من أيام الصيف الحار كنت

ص: 261


1- لؤلؤة البحرين: 317.

عائداً إلى البيت بعد أداء صلاتي الظهر والعصر، شعرت بأن أحداً يتابعني، وكان ذلك أيام حكومة (عبد السلام عارف)، واحتملت أنهم يريدون اعتقالي، لكنيواصلت المسير في طريقي حتى بلغت باب المنزل، فتقدم إليّ هذا الرجل الذي كان يعقبني وهو متزمل(1) بعباءة على رأسه وسلم عليّ فعرفته، حيث كان أحد التجار المعروفين في كربلاء، فقدم لي ظرفاً فيه ثلاثة آلاف دينار لدعم المشاريع الإسلامية، وقال: لا أريد أن يطلع أحد على ذلك!

أريد أن أقول: إن هنالك أفراداً يهتمون بالمسائل الدينية والمؤسسات الخيرية إلى هذه الدرجة، وهذه الحالة تنبع عند الأفراد من التربية الصالحة والمحيط الملتزم، وتنمو بالتركيز والاهتمام والمتابعة، والتأريخ مليء بالأفراد الذين تقدموا وأحرزوا مراتب عالية بسبب المواصلة المستمرة في العمل والتعب من أجل التقدم.

روي عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لما أخذت في غسل أبي علي بن الحسين(عليهما السلام) أحضرت معي من رآه من أهل بيته، فنظروا إلى مواضع السجود منه في ركبتيه وظاهر قدميه وبطن كفيه وجبهته قد غلظت من أثر السجود حتى صارت كمبارك البعير(2)، وكان (صلوات اللّه عليه) يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة».

ثم نظروا إلى حبل عاتقه وعليه أثر قد اخشوشن، فقالوا لأبي جعفر(عليه السلام): أما هذه فقد علمنا أنها من أثر السجود، فما هذا الذي على عاتقه؟!

قال(عليه السلام): «واللّه، ما علم به أحد غيري، وما علمته من حيث علم أني علمته،

ص: 262


1- التزمل: التلفف بالثوب، وقد تزمل بالثوب وبثيابه أي: تدثر، انظر: لسان العرب 11: 311، مادة (زمل).
2- مبارك البعير: من بَرَكَ البعير إذا أناخ في موضعه فلزمه، وتطلق البركة أيضا على الزيادة. انظر: لسان العرب 10: 396، مادة (برك).

ولولا أنه قد مات ما ذكرته، كان إذا مضى من الليل صدره قام وقد هدأ كل من فيمنزله، فأسبغ الوضوء وصلى ركعتين خفيفتين، ثم نظر إلى كل ما فضل في البيت عن قوت أهله، فجعله في جراب ثم رمى به إلى عاتقه وخرج محتسباً يتسلل لا يعلم به أحد، فيأتي دوراً فيها أهل مسكنة وفقر، فيفرق ذلك عليهم وهم لا يعرفونه، إلّا أنهم قد عرفوا ذلك عنه، فكانوا ينتظرونه، فإذا أقبل قالوا: هذا صاحب الجراب، وفتحوا أبوابهم له، ففرق عليهم ما في الجراب وانصرف به فارغاً، يبتغي بذلك فضل صدقة السر وفضل صدقة الليل وفضل إعطاء الصدقة بيده، ثم يرجع فيقوم في محرابه فيصلي باقي ليله، فهذا الذي ترون على عاتقه أثر ذلك الجراب»(1).

وعن معلى بن خنيس قال: خرج أبو عبد اللّه(عليه السلام) في ليلة قد رُشَّت(2)، وهو يريد ظلة بني ساعدة فاتبعته، فإذا هو قد سقط منه شيء، فقال: «بسم اللّه، اللّهم ردّ علينا».

فأتيته فسلمت عليه، فقال: «معلى؟». قلت: نعم جعلت فداك.

فقال لي: «التمس بيدك فما وجدت من شيء فادفعه إلي».

فإذا أنا بخبز منتشر كثير، فجعلت أدفع إليه، فإذا أنا بجراب أعجز عن حمله من خبز، فقلت: جعلت فداك، أحمله على رأسي فقال: «لا أنا أولى به منك، ولكن امض معي».

قال: فأتينا ظلة بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام، فجعل يدس الرغيف والرغيفين حتى أتى على آخرهم، ثمّ انصرفنا، فقلت: جعلت فداك، يعرف هؤلاء الحق؟

ص: 263


1- مستدرك الوسائل 7: 182.
2- أي: أمطرت.

فقال: «لو عرفوه لوا سيناهم بالدُّقَّةِ - والدُّقَّةُ هي الملح - إن اللّه تبارك وتعالىلم يخلق شيئاً إلّا وله خازن يخزنه إلّا الصدقة؛ فإن الرب يليها بنفسه - إلى أن قال(عليه السلام): - إن صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتمحو الذنب العظيم، وتهون الحساب، وصدقة النهار تثمر المال، وتزيد في العمر...»(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}(2).

قال: «الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه اللّه؛ إنما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يُسمع به الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربه - ثم قال: - ما من عبد أسرَّ خيراً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهر اللّه له خيراً، وما من عبدٍ يسر شراً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهر اللّه له شراً»(3).

الهمة العالية

مما يلزم على المسلمين في نشاطهم وتقدمهم التحلي بالهمة العالية عندما صدر كتاب القانون لابن سينا قام كثير من العلماء بشرح هذا الكتاب القيّم، وكان أحد الشرّاح يقيم في مدينة شيراز وكان معاصراً للشيخ نصير الدين الطوسي، وقد واجهته صعاب كثيرة لدى شرح القانون، فكان يسافر كثيراً إلى أصفهان ومنها إلى قزوين ليتباحث مع العلماء هناك كل ما واجهته مسألة صعبة في كتاب القانون، ولكنه بسفره إلى هاتين المدينتين ورغم لقائه للعلماء لم يستطع حل كل مشكلات الكتاب، ولم يعثر على أحدٍ يرشده إلى حلها، فقيل له: إن في بغداد

ص: 264


1- الكافي 4: 9.
2- سورة الكهف، الآية:110.
3- الكافي 2: 293.

شخصاً متبحراً في كتاب القانون، يدعى: الخواجة نصير الدين الطوسي فاذهبإليه لعله يعينك على أمرك.

فسافر من قزوين إلى بغداد وعندما وصلها بادر إلى السؤال عن نصير الدين الطوسي، فقيل له: إنه أصبح وزيراً لسلطان المغول، وإذا كنت تريد لقاءه فعليك أن تنتظر في المكان الفلاني عند وقت الصلاة حيث يخرج الخواجة للصلاة والاستراحة. فجعل هذا العالم ينتظر الشيخ في المكان المحدد حتى شاهد موكب الشيخ، فتقدم إليه طالباً لقاءه، فأخذه الشيخ الطوسي إلى داره وحل له جميع مشكلات القانون المستعصية.

فهذه القصة تدل على مدى علمية الخواجة نصير الدين الطوسي العميقة، وعلى مدى عزم وهمة العالم الشارح في نفس الوقت على المتابعة المستمرة في إنجاز ما شرع به من عمل، بالرغم من كثرة ما تطلبه ذلك من سفر وتحمل للصعوبات والمشاكل. والخواجة نصير الدين الطوسي بالرغم من كثرة مهام منصب الوزارة الذي يتقلده نراه يعطي مقداراً من وقته للشارح، ويحل له جميع غوامض كتاب القانون التي اعترضت ذلك العالم في شرحه.

كما يذكر أن الخواجة نصير الدين الطوسي(رحمه اللّه) سئل يوما من قبل أحد العلماء وهو في معركة القتال، وبينما كان واضعاً إحدى رجليه على الركاب والأخرى على الأرض عن أربعمائة مسألة من المعضلات والمشكلات الكلامية العلمية، فأجابها جميعاً في فترة قياسية قصيرة جداً، حتى أن السائل تعجب أشد التعجب من سرعة بديهة الخواجة وعلميته.

نعم، بهذا الاهتمام والجد والعمل كان يعمل علماؤنا في نشر الفضائل وإثراء الحياة بها.

ص: 265

الصينيون وإحياء بلادهم

جاء في تاريخ الصين أن بعض الصينيين كانوا كسالى جداً يقضون أكثر أوقاتهم في الاستراحة والنوم، فلو استيقظ أحدهم في العاشرة صباحاً - مثلاً - فإنه يقول: لا زال الوقت باكراً فلأعود إلى النوم، وهكذا كان أمرهم إلى أن فكروا ذات يوم ببناء وطنهم وعزموا على ذلك، وكانت النتيجة أن رفعوا مستوى بلادهم إلى مرتبة البلدان المتقدمة بسبب النشاط والعمل ليل نهار، ووصلوا إلى درجة من حب العمل والنشاط بحيث أنهم يستيقظون في وقت ما بين الطلوعين فيقولون لقد سبقنا الوقت!...

والمسلمون أيضاً باستطاعتهم أن يتداركوا تأخرهم وينفضوا عن أنفسهم غبار الكسل والتكاسل، على أن يعاهدوا أنفسهم على عدم السماح للفتور أن يتغلغل إلى أنفسهم وأعمالهم وأهدافهم، حتى يحققوا التقدم الزاهر بالعمل الجاد والنشاط المتواصل والمستمر. فقد ورد في الأحاديث الشريفة الحث الكثير على السعي الجاد والابكار في طلب قضاء الحوائج وطلب الرزق، حيث قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا كانت لك حاجة فاغْدُ فيها؛ فإن الأرزاق تُقَسَّم قبل طلوع الشمس، وإن اللّه تعالى بارك لهذه الأمة في بكورها، وتصدق بشيءٍ عند البكور فإن البلاء لا يتخطى الصدقة»(1).

يقظة الأعداء

إن الدوائر الاستعمارية تسعى لتشويه سمعة الإسلام في العالم، وتتبع أساليب خبيثة ماكرة لتعطي انطباعاً بشعاً عنه، وترسم عنه في الأذهان صورة مخالفة لفطرة الإنسان وحريته؛ لأنهم بدون تشويه صورة الإسلام لا يتمكنون من الوصول إلى

ص: 266


1- الأمالي للشيخ المفيد: 54.

أهدافهم.

وبهذا الأسلوب المخادع استطاعوا أن يستولوا على العالم، يقول أحد القساوسة: إن مثل الدين المسيحي في مقابل الدين الإسلامي كمثل النور الضعيف جداً في مقابل النور القوي جداً، ونحن إذا أردنا أن نتغلب على المسلمين علينا أن نطفئ ذلك النور القوي الذي يحملونه كي نسلخهم عن الإسلام، ونجمعهم حول الدين المسيحي(1).

ص: 267


1- فقد ذكر من نشاطهم في هذا الاتجاه: إن أوربا أخذت تغزو العالم الإسلامي غزوا استعمارياً عن طريق حملات التبشير، وذلك باسم العلم والخدمة الإنسانية، فرصدت لذلك الميزانيات الضخمة؛ وذلك لتمكين دوائر الاستخبارات السياسية ودوائر الاستعمار الثقافي من القيام بالدور المرسوم لها، وبهذا فتح باب العالم الإسلامي على مصراعيه، فانتشرت الجمعيات التبشيرية في كثير من البلدان الإسلامية، ومعظمها إنجليزية وفرنسية وأمريكية، فتغلغل النفوذ البريطاني والفرنسي عن طريقها، وأصبحت بمرور الزمن الموجهة للحركات القومية والمسيطرة على توجيه المتعلمين من المسلمين، وكان أثرها بليغا في العالم الإسلامي، ولعل من نتائج ذلك الغزو هو ما نعانيه اليوم من ضعف وانحطاط. وكانوا قد أسسوا في أواخر القرن السادس عشر الميلادي مراكز كبيرة للتبشير في (مالطة) وجعلوها قاعدة نشاطهم التبشيري على العالم الإسلامي، ومنها انطلقوا لبلاد الشام سنة (1625م) وحاولوا إيجاد حركات تبشيرية تساندهم في مساعيهم غير أن نشاطهم كان محدوداً لم يتعد تأسيس بعض المدارس الصغيرة ونشر بعض الكتب الدينية، وعانوا مشقات كبيرة بسبب تنبه علماء المسلمين لخطرهم فتصدى المسلمون لهم بمختلف الوسائل إلّا أنهم ثبتوا حتى سنة (1773م) حيث ألغيت الجمعيات التبشيرية لليسوعيين، وأغلقت مؤسساتهم ماعدا بعض الجمعيات التبشيرية الضعيفة، ولم يعد لهم وجود إلّا في مالطة حتى سنة (1820م) حيث أسس أول مركز تبشير في بيروت وبدأ نشاطهم فيها، فلاقوا صعوبات كثيرة وبالرغم من هذه الصعوبات استمروا في عملهم، وفي سنة (1824م) انتشرت البعثات التبشيرية في سائر بلاد الشام، ففتحت كلية في قرية عينطورة في لبنان، ونقلت الإرسالية الأمريكية مطبعتها من مالطة إلى بيروت لتقوم بطبع الكتب ونشرها، وقام إبراهيم باشا بتطبيق برنامج للتعليم الابتدائي في سوريا مستوحى من برنامج التعليم الموجود في مصر المأخوذ عن برنامج التعليم في فرنسا؛ وبهذه المقدمات وغيرها نشط الغرب في غزوه الفكري لبلاد الإسلام، وشاركت في الحركة التعليمية مشاركة ظاهرة، فهبت مواجهة شديدة من البغضاء بين المسلمين والنصارى أدت إلى مذابح كثيرة وتخريب وتدمير الممتلكات العامة، وأدى هذا الأمر إلى تدخل الدول الغربية بحجة إخماد الفتنة. ولم يقتصر أمر الاهتمام بالغزو التبشري باسم الدين والعلم على أمريكا وفرنسا وبريطانيا، بل شمل روسيا القيصرية فأرسلت البعثات التبشيرية، وبالرغم من تباين وجهات النظر السياسية بين البعثات التبشيرية بالنسبة لمنهجها السياسي باعتبار مصالحهم الدولية فقد كانت متفقة في الغاية، وهي: بعث الثقافة الغربية إلى الشرق، وتشكيك المسلمين في دينهم، وحملهم على الابتعاد عنه، وعلى احتقار تاريخهم، وتمجيد الغرب وحضارته، كل ذلك مع بغض شديد للإسلام والمسلمين واحتقارهم واعتبارهم برابرة متأخرين، يقول الفرنسي الكونت هنري ديكاستري في كتابه (الإسلام) سنة (1896م) ما لفظه: لست أدري مالذي يقوله المسلمون لو علموا أقاصيص القرون الوسطى وفهموا ما كان يأتي في أغاني المغنيين المسيحيين، فجميع أغانينا حتى التي ظهرت قبل القرن الثاني عشر ميلادي صادرة عن فكر واحد كان السبب في الحروب الصليبية، وكلها محشوة بالحقد على المسلمين؛ للجهل الكلي بديانتهم، وقد نتج عن تلك الأناشيد بتثبيت هاتيك القصص في العقول ضد ذلك الدين ورسوخ تلك الأغلاط في الأذهان ولا يزال بعضها راسخاً إلى هذا اليوم. فنتج عن هذه الغزوات التبشيرية تمهيد الطريق للاستعمار الأوروبي ليستولي على العالم الإسلامي سياسياً بعد أن تمكنت منه ثقافياً؛ فالاستعمار كان في مدارس المسلمين قبل استعمار الأرض عبر الاحتلال العسكري وبعده، حيث كان قد وضع بنفسه مناهج التعليم والثقافة، على أساس فلسفته وحضارته، ثم جعل الشخصية الغربية الأساس الذي تنتزع منه الثقافة، كما جعل تاريخه ونهضته وبيئته المصدر الأصلي لما يحشو به عقول المسلمين السذج منهم خاصة، فالدين الإسلامي يعلم في المدارس الإسلامية كمادة روحية أخلاقية فقط، وليس منهج ودستور متكامل للحياة في كافة مجالاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وهذا ترسيخ لمفهوم الغرب عن الدين الذي فصلوه عن الدولة. فحياة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تدرس لأبنائنا منقطعة الصلة عن النبوة والرسالة وتدرس كما تدرس حياة بسمارك ونابليون - مثلاً - . وتألفت في بيروت سنة (1870م) جمعية سرية، وأخذت هذه الجمعية تركز نفسها على فكرة سياسية، فأخذت تبعث فكرة القومية العربية، والذين قاموا بتأسيسها هم خمسة شبان من الذين تلقوا العلم في الكلية البروتستانتية في بيروت، وبعد مدة استطاعوا أن يضموا إليهم عدداً قليلاً، وبدأت تدعو هذه الجمعية عن طريق المنشورات وغيرها إلى استقلال العرب السياسي، وخاصة في سوريا ولبنان وإلى القومية العربية، والى إثارة العداء للدولة العثمانية وتسميها (التركية) وتعمل على فصل الدين عن الدولة، وجعل القومية العربية هي الأساس، والذي يتتبع تاريخ هذه الحركات يجد أن الغربيين هم أنشؤوها وأنهم كانوا يراقبونها ويشرفون عليها، للتفصيل انظر: كتاب من أسباب ضعف المسلمين للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

ص: 268

نعم، هذا ما أراده الأعداء منا حتى يتمكنوا من السيطرة علينا وتطويقنا، فنصبح بأيديهم أسراء، وأن طريق الخلاص من هذا الوضع السيئ هو النشاط والعمل الجاد والتواصل، بعد تشكيل الاجتماعات المكثفة والمؤتمرات الكبيرة لدراسة طرق العلاج وللتفكير والتخطيط في كيفية السعي نحو تقدم المجتمع الإسلامي من الناحية الفكرية والعلمية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية؛ لتحصين مجتمعنا أمام الغرب أولاً، ثم نعمل على نشر الإسلام في العالم، وقد أكد أمير المؤمنين(عليه السلام) في حديث شريف على لزوم اليقظة والتفكير في عواقب الأمور حيث قال(عليه السلام): «إذا قدمت الفكر في جميع أفعالك حسنت عواقبك في كل أمر»(1).

سياسة أعداء الإسلام

يطمح المستعمرون ويصرون على الوصول إلى أهدافهم مهما كلف الأمر؛ لذلك قاموا ويقومون برفع الموانع التي تعترضهم في هذا السبيل، بدءً بقتل واغتيال العلماء الكبار الذين يشكلون مانعاً كبيراً يعترض سبيلهم؛ حيث إنهم يقومون بفضح السياسة الاستعمارية أين ما حلوا، ويبطلون خططهم الخبيثة وسياستهم الآثمة المبنية على استغلال الشعوب المستضعفة والمسلمين العزل مستخدمين طريقتين للاغتيال هما:

ص: 269


1- تصنيف غرر الحكم ودررالكلم: 58.

أولاً: التصفية الجسدية ومثالها اغتيال المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه)بالسم بهدف الالتفاف على نتائج ثورة العشرين(1)، وكذلك ما جرى بعد ذلك من عمليات قتل واغتيال صريحة للعلماء في السجون أو في الشوارع والأزقة.

ثانياً: اغتيال الشخصية وتسقيط السمعة بالدعايات والتهم وأمثال ذلك، وفي كل ذلك تتم الاستفادة من وجوه غير معروفة أو حكومات دموية كحكومة البعثيين في العراق وأمثالهم، حتى إذا انكشف الأمر تبرؤوا منه فوراً ونسبوه إلى الحكومة، أو بعض الناس؛ لكي لا تتلوث سمعتهم إذ أنهم أغلب الأحيان لايتضررون ولا يحدث لهم شيء يسيء إلى سمعتهم مع كونهم السبب الأول في قتل العلماء واغتيال الشخصيات، وبالتالي يبقى القاتل مجهولاً ويضيع الأمر في أكثر الحالات.

إن أعداء الإسلام والتشيع في تربص وتخطيط دائم لاغتنام أية فرصة لضرب الإسلام والتشيع وضرب كل مسلم وشيعي على وجه البسيطة بلا سبب أو ذنب.

ولذلك علينا جميعاً بالخصوص العلماء والخطباء والمثقفين وأصحاب الأقلام، الدفاع عن الإسلام والتشيع بكل ما نؤتى من قوة، والتخطيط والتفكير لعبور الأزمات، وذلك عبر تأليف الكتب والمنشورات التوعوية التي توقظ المسلمين وتنبههم إلى مكائد الأعداء وإحباطها قبل وقوعها،خصوصاً وإننا نعلم أنهم مستمرين على نصب الشراك وإعداد الخطط، فيلزم نشر الأفكار الإسلامية

ص: 270


1- ثورة العشرين: هي ثورة عارمة ضد الاستعمار الإنجليزي في العراق عام (1338ه-1920م)، قادها الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) وذلك حين أصدر فتواه الشهيرة ضد التواجد الإنجليزي في العراق مما اضطروا للخروج من العراق بعد الخيبة والانكسار، انظر: الحقائق الناصعة، لمزهر آل فرعون.

التي كانت تحكم المجتمع الإسلامي في الصدر الأول، والسعي لترسيخ مبدأ الشورى في كل مرافئ الحياة الخطيرة منها والبسيطة، وتعدد الأحزاب الحرة،وتعدد القدرات والتوازن بينهما، لنوفر فينا القوة والحصانة مقابل هجمات الأعداء فتعم حياة المسلمين الإيمان والأمن والسلام بإذن اللّه.

الغرب والبعث

إن أعداء الإسلام لا يوقّفون دعمهم ولا يتبرؤن من أعوانهم الذين سلطوهم على بلادنا المسلمة؛ وذلك لتحطيم الإسلام، وقد روجوا لأفكار باطلة ونشروا مبادئ ومناهج لا تمت إلى الإسلام بصلة بل وتحارب الإسلام صراحة، وكان من هذه المبادئ إنهم روجوا للحزب الشيوعي وحزب البعث وما أشبه. وأبتلي العراق بهذه الحركات أشد ابتلاء وخاصة من حزب البعث؛ حيث عمل أعداء الإسلام لسنين طويلة من أجل تقوية هذا الحزب وجعله أداة قوية وفعالة لتنفيذ مصالحهم وأغراضهم. فلابد لهم الاستفادة منه عشرات السنين على الأقل قبل التخلي عنه. فصدام مثلاً الذي لم يترك منكراً إلّا فعله يسمى بطل القومية العربية أو رائد الأمة، وما إلى غير ذلك من الألقاب التي ما أنزل اللّه بها من سلطان. أفلا يعني هذا أنهم يريدون الاحتفاظ بهذا الحزب والإبقاء على قوته وصولته.

زارنا شخص قادماً من العراق، فسألته: هل تقام صلاة جماعة في صحن الإمام الحسين(عليه السلام)؟

قال: كلا، ولكن في بعض الأحيان يصلي أحد المعممين فيأتم به بضع مصلين الذين يكون بعضهم من عملاء النظام وجواسيسه من البعثيين، وليس لهم غاية من هذه الصلاة إلّا التجسس ومراقبة الناس!

نعم، هكذا يفعلون في سبيل حفظ وجودهم وتحكيم قدرتهم وسيطرتهم على

ص: 271

الناس، ونحن لا يمكننا أن نتخلص من هذه الأوضاع إلّا بالنشاط والاهتمام والتفكير والعمل الجدي المتواصل في سبيل الخلاص، ومن الواضح أن منأوّليّات خلاصنا هو الإيمان بضرورة تعدد القدرة وتعدد الأحزاب الحرة، وإيجاد شورى الفقهاء المراجع؛ فهذه العوامل تعد من السبل المهمة التي توفر لنا التحرر من أسر أعداء الإسلام وأذنابه،كما تعد من أبرز العوامل في إدامة استقلالنا ومنحنا الحياة الحرة الآمنة، ولكن إيجادها في حياتنا المعاصرة بحاجة إلى تفكير وحركة وعمل، ونفس طويل الأمد من الجميع والصبر على المشاكل حتى نحصل عليها، إن شاء اللّه تعالى.

الصبر وطول النفس

عن حفص بن غياث، قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا حفص، إن من صبر صبر قليلاً، وإن من جزع جزع قليلاً - ثم قال: - عليك بالصبر في جميع أمورك؛ فإن اللّه عزّ وجلّ بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فأمره بالصبر والرفق فقال: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ}(1)، وقال تبارك وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ}(2).

فصبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى نالوه بالعظائم، ورموه بها، فضاق صدره، فأنزل اللّه عزّ وجلّ عليه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّٰجِدِينَ}(3).

ص: 272


1- سورة المزمل، الآية: 10 - 11.
2- سورة فصلت، الآية: 34-35.
3- سورة الحجر، الآية: 97-98.

ثم كذبوه ورموه، فحزن لذلك، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنقَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا}(1).

فألزم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نفسه الصبر، فتعدوا فذكر اللّه تبارك وتعالى وكذبوه، فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي، ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٖ * فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ}(2). فصبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جميع أحواله، ثم بُشِّر في عترته بالأئمة^ ووصفوا بالصبر، فقال جلّ ثناؤه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(3). فعند ذلك قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فشكر اللّه عزّ وجلّ ذلك له فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}(4).

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إنه بشرى وانتقام، فأباح اللّه عزّ وجلّ له قتال المشركين، فأنزل اللّه: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٖ}(5)، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}(6) فقتلهم اللّه على يدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأحبائه، وجعل له ثواب صبره، مع ما ادخر له في الآخرة، فمن صبر واحتسب لم

ص: 273


1- سورة الأنعام، الآية: 33-34.
2- سورة ق، الآية: 38-39.
3- سورة السجدة، الآية: 24.
4- سورة الأعراف، الآية: 137.
5- سورة التوبة، الآية: 5.
6- سورة البقرة، الآية: 191.

يخرج من الدنيا حتى يقر اللّه له عينه في أعدائه، مع ما يدخر له في الآخرة»(1).

إن العدو يتبع سياسة الصبر وطول النفس؛ ولذا فإنه يحقق أهدافه ويتغلبعلينا في أحيان كثيرة، يقال: إن البريطانيين بحثوا في مجلس العموم البريطاني أنه إذا كانت سياسة ما تعطي نتائجها المطلوبة بعد ثلاثمائة سنة فلابد من اتباع هذه السياسة والاستمرار فيها طوال هذه المدة المخمنة؛ حتى تؤتي أكلها وثمارها! فعلينا نحن أيضاً أن لا نتوقع ظهور النتيجة فوراً بل لابد من طول النفس.

فأولئك هكذا يخططون وهكذا يتصرفون ويسيرون، من أجل الوصول إلى أهدافهم.

أما المسلمون فإن بعضهم يريدون ظهور النتيجة والوصول إلى الهدف فوراً وبأسرع وقت من ودون تخطيط مسبق وصحيح، وهذا لا يوصل إلى الهدف عادة، قال تعالى في كتابه الكريم: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْأخِرَةَ}(2) ومن الواضح إن الذي يتعجل على الثمرة قبل أوانها، أو يتسرع لحصول النتائج ثم تتأخر عليه سوف يصاب بالملل واليأس، والنتيجة هي الهزيمة، وفي أحيان كثيرة يلجئه التسرع إلى أن يسير في غير الطريق الصحيح الموصل إلى الهدف، غافلاً عن خطأ سيره وانحرافه؛ ولذلك لم يصل في آخر الأمر إلى النتيجة الحسنة التي كان يطلبها، كل ذلك لعدم أخذ الاستعداد الكافي، والتسلح بالروح العالية، وطول النفس، والثقافة القوية، فهذه العوامل - وغيرها - هي التي تعينه على تحقيق أهدافه.

والخلاصة: إن كل ما نريده مما تقدم هو أن يدرك المسلمون وضعهم، ويكونوا دائماً في يقظة وحذر، وأن يوسعوا من نشاطاتهم في التبليغ والكتابة

ص: 274


1- الكافي 2: 88.
2- سورة القيامة، الآية: 20-21.

الواعية والهادفة للوقوف أمام هذه المخططات، فإن للنشاط وانتشار الإسلام وتقدمه على المستوى العالمي أثراً بالغاً في تقدم المسلمين وعودة المبادئالإسلامية إلى الواقع بعد طرد الأفكار المعادية والمغرضة.

«سبحانك ما أضيق الطرق على من لم تكن دليله، وما أوضح الحق عند من هديته سبيله، إلهي، فاسلك بنا سبل الوصول إليك، وسيرنا في اقرب الطرق للوفود عليك، قرّب علينا البعيد، وسهل علينا العسير الشديد، وألحقنا بالعباد الذين هم بالبدار إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإياك في الليل يعبدون»(1).

من هدي القرآن الحكيم

لا للكسل

قال اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {فَلَا تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ}(4).

النشاط في العمل

قال جلّ وعلا: {لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ}(5).

ص: 275


1- بحار الأنوار 91: 147.
2- سورة النساء، الآية: 142.
3- سورة آل عمران، الآية: 139.
4- سورة محمد، الآية: 35.
5- سورة النجم، الآية: 39-40.

وقال سبحانه: {فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}(1).

وقال اللّه تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُكَٰتِبُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(3).

التطلع إلى المستقبل

قال عزّ وجلّ: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٖ}(4).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖ}(5).

النشاط الفكري

قال تبارك وتعالى: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(6).

وقال سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(7).

المسلمون والتنمية الاجتماعية

قال اللّه تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(8).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ

ص: 276


1- سورة الشورى، الآية: 15.
2- سورة الأنبياء، الآية: 94.
3- سورة الأنعام، الآية: 132.
4- سورة هود، الآية: 81.
5- سورة الحشر، الآية: 18.
6- سورة البقرة، الآية: 219
7- سورة الحشر، الآية: 21
8- سورة الفتح، الآية: 29.

تُرْحَمُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْإِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(2).

الإسلام دين اللّه

قال عزّ اسمه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(4).

الشورى في الإسلام

قال اللّه تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(5).

وقال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(6).

الأمة الإسلامية خير الأمم

قال عزّ وجلّ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(7).

وقال جلّ وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(8).

ص: 277


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.
3- سورة آل عمران، الآية: 85.
4- سورة آل عمران، الآية: 19.
5- سورة آل عمران، الآية: 159.
6- سورة الشورى، الآية: 38.
7- سورة آل عمران، الآية: 110.
8- سورة المائدة، الآية: 3.

من هدي السنّة المطهّرة

في ذم الكسل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي... إياك وخصلتين: الضجر والكسل، فإنك إنضجرت لم تصبر على حق، وإن كسلت لم تؤد حقاً»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) - وهو يصف المؤمن - : «بعيد كسله، دائم نشاطه، قريب أمله، حي قلبه»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «الكسل يضرّ بالدين والدنيا..»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عدوّ العمل الكسل»(4).

العمل الصالح

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن وإن قل أرضى للّه وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتباع الأهواء»(5).

ومن وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسين(عليهما السلام) قال: «يا بني أوصيك... وبالعمل في النشاط والكسل»(6).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من شيء أحب إلى اللّه عزّ وجلّ من عمل يداوَم عليه وان قل»(7).

ص: 278


1- من لا يحضره الفقيه 4: 355.
2- بحار الأنوار 75: 26.
3- بحار الأنوار 75: 180.
4- الكافي 5: 85.
5- الكافي 8: 8.
6- تحف العقول: 88.
7- الكافي 2: 82.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند اللّه من العمل الكثير على غير يقين»(1).

المسابقة إلى الخيرات

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من فتح له باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عليه»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «انتهزوا فرص الخير فإنها تمر مر السحاب»(3).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام): «الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «خذ لنفسك من نفسك خذ منها في الصحة قبل السقم، وفي القوة قبل الضعف، وفي الحياة قبل الممات»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي! بادر بأربع قبل أربع: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك»(6).

نشاط الفكر

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فإنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جدداً واضحاً يتجنب فيه الصرعة في المهاوي...»(7).

ص: 279


1- الكافي 2: 57.
2- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 22.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 152.
4- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 72.
5- الكافي 2: 455.
6- من لا يحضرة الفقية 4: 357.
7- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 153 صفات الغافلين.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن التفكر يدعو إلى البرّ والعمل به»(2).

المسلمون والتنمية الاجتماعية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «والذي نفسي بيده لا يضع اللّه رحمته إلّا على رحيم».

قالوا: يا رسول اللّه كلنا نرحم؟

قال: «ليس بالذي يرحم نفسه خاصة، ولكن الذي يرحم المسلمين عامة»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لكل شيء شيء يستريح إليه، وإن المؤمن يستريح إلى أخيه المؤمن كما يستريح الطائر إلى شكله، أو ما رأيت ذلك؟»(5).

المسلمون ومعرفة الأعداء

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه إن امرءاً يمكن عدوه من نفسه يعرُقُ لحمه(6)

ويهشم عظمه ويفري جلده لعظيم عجزه...»(7).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «كفى بنصر اللّه لك أن ترى عدوك يعمل بمعاصي

ص: 280


1- الكافي 2: 599.
2- الكافي 2: 55.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 11.
4- الكافي 2: 117.
5- الإختصاص: 30.
6- يعرق لحمه: يأكل حتى لا يبقى منه شيء على العظم.
7- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 34 من خطبة له(عليه السلام) في استنفار الناس إلى أهل الشام... .

اللّه فيك»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم»(2).وقال(عليه السلام): «كان فيما أوصى به لقمان ابنه ناتان أن قال له: يابني، ليكن مما تتسلح به على عدوك فتصرعه المماسحة وإعلان الرضا عنه، ولا تزاوله بالمجانبة؛ فيبدو له ما في نفسك فيتأهب لك»(3).

المسلمون والشورى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما من رجل يشاور أحداً إلا هدي إلى الرشد»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه»(5).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام): «ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم»(6).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «في التوراة أربعة أسطر: من لا يستشير يندم...»(7).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطأِ عاذراً»(8).

ص: 281


1- بحار الأنوار 75: 136.
2- الكافي 2: 335.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 668.
4- تفسير نور الثقلين 4: 584.
5- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 211.
6- تحف العقول: 233.
7- المحاسن 2: 601.
8- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 123.

إحياء الشعائر

معنى الإحياء

قال تعالى في كتابه المجيد: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}(1).

ورد في بعض التفاسير(2) أن من معاني الإحياء في هذه الآية الكريمة هو الخروج من الضلالة إلى النور، كما ورد عن سماعة، قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): أنزل اللّه عزّ وجلّ: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(3) قال: «من أخرجها من ضلال إلى هدى فقد أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلالة فقد قتلها».

وعن أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سألته {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}؟ قال: «من استخرجها من الكفر إلى الإيمان»(4).

وعن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}؟ قال: «من حرق أو غرق».

ص: 282


1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- تفسير العياشي 1: 313.
3- سورة المائدة، الآية: 32.
4- تفسير العياشي 1: 313.

قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟فقال: «ذاك تأويلها الأعظم»(1).

كما قال تبارك تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(2). فاعتبرت الآية أن من كان بعيداً عن الإيمان فهو بعيد عن نور العلم والهداية، وجعلت الإيمان بمثابة النور أو العلم الذي يعيش به الإنسان بين الناس، فالنور الذي بمعنى العلم أو الإيمان كما في الآية، هو أحد معاني الإحياء. وحيث إن الإحياء مفهوم كلي فله مصاديق عديدة(3)...

فتارة يكون إحياءً لإنسان منحرف بأن يأتي إليه أحد المؤمنين ويعمل على إصلاحه وهدايته، وتارة يكون إحياءً لأناس موتى وذلك بذكرهم وبيان تاريخهم كما ورد في الحديث الشريف: «من ورخ مؤمناً فكأنما أحياه»(4)، فتعقد مجالس خاصة لذكر سيرة المؤمن المتوفى وتذكر مناقبه وفضائله، وإيمانه وأعماله، أو تكتب وتنشر هذه الأمور فتكون أيضاً إحياءً له.

ومن مصاديق الإحياء أيضاً المجالس التي تُعقد لذكرى وفيات ومواليد الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار^ فإن إحياءها يعتبر وبلا شك، من الشعائر التي قال عنها اللّه عزّ وجلّ في كتابه المجيد: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(5).

ص: 283


1- الكافي 2: 210.
2- سورة الأنعام، الآية: 122.
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 152 سورة الأنعام.
4- سفينة البحار 8: 435 مادة (ورخ).
5- سورة الحج، الآية: 32.

فإن {ذَٰلِكَ} أي الأمر الذي هو من لوازم الإيمان وترك الشرك. {وَمَن يُعَظِّمْشَعَٰئِرَ اللَّهِ} جمع شعيرة، وهي الشيء الملاصق للبدن، وسمى شعيرة بعلاقة الملابسة، والمراد بها الأمور المرتبطة باللّه، وهو عام يشمل كل ما ورد به دليل خاص كالمناسك في الحج، أو دليل عام كالمدارس الدينية التي لم تكن في زمن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة^ وإنما تشملها الأدلة العامة، والإتيان بهذه الجملة هنا بمناسبة أن أعمال الحج من الشعائر،{فَإِنَّهَا} أي أن تعظيم الشعائر {مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} والضمير في {فَإِنَّهَا} عائد إلى الشعائر، والمراد به تعظيم الشعائر، من باب الملابسة - مجازاً - وإضافة التقوى إلى القلوب؛ لأن حقيقة التقوى في القلب، وإنما يظهر أثره على الجوارح، والتعظيم حقيقة لا ينشأ إلّا من تقوى القلب. والشعيرة هي الأمر المرتبط بشيء كأنه من علائمه ومزاياه، فشعائر الحج الأمور المربوطة بالحج، وشعائر اللّه الأمور المرتبطة باللّه، ولعل اشتقاقها من الشعر بمعنى الشعور كأنه يشعر بالشيء، أو من الشعر بمعنى ما ينبت من الإنسان، كأن الشعيرة تلازم الشيء تلازم الشعر، أو تلازم الشعار - الذي هو الثوب الذي على الجسد مقابل الدثار الذي هو الثوب الفوقاني - لبدن الإنسان، والشعائر في الآية - لكونها مطلقة - تشمل كل شيء كان أو أصبح من الأمور المرتبطة باللّه مما لم ينه عنه، فمعالم الحج من الشعائر، كما أن تشييد القباب على أضرحة الأئمة الطاهرين^ من الشعائر(1).

ص: 284


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 600. والشعائر لغة - كما في لسان العرب - : من شعر: شَعَرَ به وشَعُرَ يَشْعُر شِعْراً وشَعْراً وشِعْرَةً ومَشْعُورَةً وشُعُوراً، كله: عَلِمَ. وحكي: ما شَعَرْتُ بِمَشْعُورِه حتى جاءه فلان، وحكي أَيضاً: أَشْعُرُ فلاناً ما عَمِلَهُ، وأَشْعُرُ لفلانٍ ما عمله، وما شَعَرْتُ فلاناً ما عمله، قال: وهو كلام العرب. ولَيْتَ شِعْرِي: أَي ليت علمي أَو ليتني علمت، وليتَ شِعري من ذلك: أي ليتني شَعَرْتُ، وروي: ليتَ شِعْرِي ما صَنَعَ فلانٌ، أَي ليت علمي حاضر أَو محيط بما صنع. وأَشْعَرَهُ الأَمْرَ وأَشْعَرَه به: أَعلمه إِياه. والإِشْعارُ: الإِعلام. والشّعارُ: العلامة. والشَّعِيرة: البدنة المُهْداةُ، سميت بذلك لأَنه يؤثر فيها بالعلامات، والجمع شعائر. وشِعارُ الحج: مناسكه وعلاماته وآثاره وأَعماله، جمع شَعيرَة، وكل ما جعل عَلَماً لطاعة اللّه عزّ وجلّ كالوقوف والطواف والسعي والرمي والذبح وغير ذلك. والمَشْعَرُ: المَعْلَمُ والمُتَعَبَّدُ من مُتَعَبَّداتِهِ. والمَشاعِرُ: المعالم التي ندب اللّه إِليها وأَمر بالقيام عليها؛ ومنه سمي المَشْعَرُ الحرام لأَنه مَعْلَمٌ للعبادة وموضع؛ قال: ويقولون هو المَشْعَرُ الحرام والمِشْعَرُ، ولا يكادون يقولونه بغير الأَلف واللام. وقال الزجاج: شعائر اللّه: يعني بها جميع متعبدات اللّه التي أَشْعرها اللّه أَي جعلها أَعلاماً لنا، وهي كل ما كان من موقف أَو مسعى أَو ذبح، وإِنما قيل شعائر لكل علم مما تعبد به لأَن قولهم شَعَرْتُ به علمته، فلهذا سميت الأَعلام التي هي متعبدات اللّه تعالى شعائر. والمشاعر: مواضع المناسك. انظر: لسان العرب: 4: 409 مادة (شعر).

ومن أهم الشعائر الإلهية ما يرتبط بالمناسبات الدينية فإنه يصادف بعض أيام السنة العديد من المناسبات الإسلامية، ولابد من الاستعداد مسبقاً بشكل جيد لغرض إحيائها وتعظيمها بصورة تناسب نوع المناسبة؛ فإن إحياء المناسبات الإسلامية من الشعائر التي دعا إليها الإسلام. وليس هذا فحسب، بل حتى إحياء ذكرى موتى المؤمنين يعدّ بمثابة إحياء لهم، فيكون من باب أولى إحياء ذكرى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته^.

فقد ورد عن أبي جعفر محمّد بن عليّ(عليهما السلام) أنّه قال: «اجتمعوا وتذاكروا تحفّ بكم الملائكة، رحم اللّه من أحيا أمرنا»(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) لداود بن سرحان: «يا داود أبلغ مواليّ عنّي السّلام، وإنّي أقول: رحم اللّه عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا فإنّ ثالثهما ملكٌ

ص: 285


1- مصادقة الأخوان: 38.

يستغفر لهما، وما اجتمعتم فاشتغلوا بالذّكر فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءً لأمرنا، وخير النّاس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا»(1).

إحياء ذكرى المؤمن

ولكن ما معنى إحياء ذكرى المؤمن؟

فإنّ للإنسان بُعدان:

الأول: البعد المادي، المتمثل بالجسد وملازماته، من الطول والقصر واللون وما إلى ذلك... .

الثاني: البُعد الروحي، أي آثاره العلمية، وسيرته الطيبة، وكلماته البنّاءة، فهذا البعد - الذي نحن بصدده الآن - يعتبر بمثابة الإشعاع، وبحثنا يدور حول الفائدة التي نحصل عليها منه.

فإن الإسلام أكّد كثيراً على هذا البعد في حياة الإنسان وبعد موته. ففي حياته أكّد على طلب العلم والتعلم والاتصال باللّه تعالى بإخلاص، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الدنيا كلها جهل إلّا مواضع العلم، والعلم كله حجة إلّا ما عمل به، والعمل كله رياء إلّا ما كان مخلصاً، والإخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يُختم له»(3).

وحذّر الإسلام من الجهل باعتباره من عوامل التخلف، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الجهل مميت الأحياء ومخلد الشقاء»(4).

ص: 286


1- بشارة المصطفى: 110.
2- وسائل الشيعة 27: 27.
3- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 281.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 78.

ثم نهى عن رذائل الأخلاق من الغيبة وغيرها، التي تميت الإنسان وتعمل على عكس إحيائه فقد اعتبر الغيبة مثلاً من الذنوب العظيمة؛ لأنها عامل قوي في إسقاط البعد المعنوي للإنسان المؤمن، وذهاب سمعته، وشخصيته، فإن الغيبة سوف تجذر النفاق في المجتمع بما تسبب انقطاع أواصر المحبة والأخوة، ومن ثم تسري إلى أن يتلاشى البعُد الروحي في حياة الإنسان نفسه، ومن هنا جاء القرآن يمنع حالة الغيبة فقال تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}(1)، فإن الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره، ولو بالإشارة و{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} فالغيبة بمنزلة أكل لحم الأخ الميت في شدة قبحه وكراهته، ولعل التشبيه من باب أن للأخ ذاتاً وذكراً فكما أن قطع قطعة من لحمه ولوكها في الفم قبيح، كذلك قطع قطعة من ذكره (عرضه) ولوكها في الفم كذلك، وقد جعل كونه غائباً مثل كونه ميتاً في عدم شعور كليهما بما يصنع بلحمه وبذكره{فَكَرِهْتُمُوهُ} فكما كرهتم أكل لحمه اكرهوا أكل عرضه {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوا في عصيانه، وإذا اتقيتم اللّه وتبتم عما سلف منكم، ف- {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} كثير قبول التوبة {رَّحِيمٌ} يرحم العباد فلا يعاقبهم بعد توبتهم(2).

وقد وردت أحاديث كثيرة عن الأئمة^ ينهون فيها عن الغيبة، ويبينون عقوبة مرتكبها، منها:

عن الإمام أبي محمّد العسكريّ(عليهما السلام) قال:

«اعلموا أنّ غيبتكم لأخيكم المؤمن من شيعة آل محمّد^ أعظم في التّحريم من الميتة، قال اللّه عزّ وجلّ: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ

ص: 287


1- سورة الحجرات، الآية: 12.
2- تفسير تقريب القرآن 5: 208.

أَن يَأْكُلَ لَحْمَأَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}»(1)(2).

وقال الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام):

«إيّاكم والغيبة فإنّها إدام من يأكل لحوم النّاس»(3).

وعن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن موسى(عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك، الرّجل من إخواني يبلغني عنه الشّي ء الذي أكرهه فأسأله عن ذلك فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟

فقال لي: «يا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك؛ فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم، لا تذيعن عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته، فتكون من الّذين قال اللّه في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَٰحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}»(4)(5).

وقال الإمام الصّادق(عليه السلام): «إنّ للّه تبارك وتعالى على عبده المؤمن أربعين جُنّة، فمتى أذنب ذنباً كبيراً رفع عنه جُنّة، فإذا اغتاب أخاه المؤمن بشيء يعلمه منه انكشفت تلك الجنن عنه، ويبقى مهتوك السّتر، فيفتضح في السّماء على ألسنة الملائكة، وفي الأرض على ألسنة النّاس، ولا يرتكب ذنباً إلّا ذكروه، ويقول الملائكة الموكّلون به: يا ربّنا، قد بقي عبدك مهتوك السّتر وقد أمرتنا بحفظه! فيقول عزّ وجلّ: ملائكتي، لو أردت بهذا العبد خيراً ما فضحته، فارفعوا أجنحتكم

ص: 288


1- سورة الحجرات، الآية: 12.
2- بحار الأنوار 72: 258.
3- مستدرك الوسائل 9: 113.
4- سورة النور، الآية: 19.
5- الكافي 8: 147.

عنه، فوعزتي، لا يئول بعدها إلى خير أبداً»(1).

وقال(عليه السلام): «الغيبة حرام على كل مسلم مأثوم صاحبها في كل حال، - إلى أن قال(عليه السلام) - والغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب، أوحى اللّه تعالى عزّ وجلّ إلى موسى بن عمران(عليه السلام): المغتاب إن تاب هو آخر من يدخل الجنّة، وإن لم يتب فهو أول من يدخل النار، قال اللّه عزّ وجلّ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} ووجوه الغيبة يقع بذكر عيب في الخَلق والخُلُق والعقل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه، وأصل الغيبة تتنوّع بعشرة أنواع: شفاء غيظ، ومساعدة قوم، وتهمة، وتصديق خبر بلا كشفه، وسوء ظنّ، وحسد، وسخريّة، وتعجّب، وتبرّم، وتزيّن، فإن أردت السلامة فاذكر الخالق لا المخلوق فيصير لك مكان الغيبة عبرةً ومكان الإثم ثواباً»(2).

ومن هذا المعنى ندرك مدى اهتمام الإسلام بالإنسان حيث لم يسوغ له أن يغتاب أحداً فيقضي على البعد المعنوي فيه.

ومن جهة أخرى أكّد الإسلام على إحياء المؤمن بالذكر الحسن فحث على ذكر الناس المؤمنين بسيرتهم الصالحة أحياءً كانوا أم أمواتاً، والدعاء لهم، بل تقديمهم في الدعاء.

فقد جاء عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «ما من مؤمن دعا للمؤمنين والمؤمنات، إلّا ردّ اللّه عزّ وجلّ عليه مثل الذي دعا لهم به من كل مؤمن ومؤمنة مضى من أول الدهر أو هو آتٍ إلى يوم القيامة، إن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة فيسحب، فيقول المؤمنون والمؤمنات: يا ربِّ هذا الذي كان يدعو لنا،

ص: 289


1- الاختصاص: 220.
2- بحار الأنوار 72: 257.

فشفِّعنا فيه،فيشفّعهم اللّه عزّ وجلّ فيه فينجو»(1).

نعم، هذا قسم من البعد الروحي الذي يهتم الإسلام بتنميته، لما له من فوائد جليلة في الدنيا والآخرة. ونلمس هذا بوضوح في حكاية القرآن عن لسان إبراهيم(عليه السلام) في قوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٖ فِي الْأخِرِينَ}(2).

يعني: يا ربّ، أسألك أن تجعل الناس من بعدي يذكرونني بأن أكون قدوة لهم، فيثنون عليَّ ثناءً صادقاً، لكي تبقى طريقتي بين الناس، التي هي التوحيد، والعمل بشرع اللّه، وفي النهاية سيصبح الدين الذي أرسلتني به سبباً لسعادة الناس في الدنيا ونجاتهم يوم الحساب، وقد أجاب اللّه سبحانه دعاء إبراهيم(عليه السلام)، فقد مرت عشرات القرون والأمم كلها يثنون على إبراهيم(عليه السلام) ويذكرونه بتجلة وإكبار(3).

الاستعمار ومحاربة الشعائر

اشارة

إن الأجهزة الاستعمارية اليوم، تعارض وبشدة، إقامة مثل هذه المجالس والشعائر، في مختلف المناسبات، خوفاً من امتداد إشعاع الأئمة^ على كل طبقات المجتمع، فيفيق من نومه ويصحو كاشفاً مخططات الاستعمار فيفشلها، ولا بد من ذلك اليوم الذي تهدّ فيه أعمدة الكفر.

أما كيف كان الاستعمار يحارب المجالس فذلك عبر أساليب عديدة ومن جملة تلك الأساليب هو زرع أو تربية عملاء لمحاربة الدين وربما كان يتظاهر بعضهم بخدمة الدين. وهذا ما حصل بالفعل.

ص: 290


1- الكافي 2: 507.
2- سورة الشعراء، الآية: 84.
3- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 56.

فعلى سبيل المثال قام البهلوي الأول في إيران: بمحاربة قرّاء القرآن وخطباء المنابر كثيراً، وقد أوجد كثيراً من الضغوط عليهم، يقول شاعر فارسي قصيدة حول هذا الوضع ما مضمونه(1):

إن البهلوي أول أمره كان يركض حاسراً في العزاء، وآخر الأمر أقام حفلات الفسق في ليلة عاشوراء.

وكذلك كان ياسين الهاشمي(2) وهو أحد عملاء الاستعمار في العراق والمنطقة العربية، فإنه عمل كلّ ما بوسعه من أجل الضغط على هذه المجالس، وملاحقتها، ومنعها.

وقد كان مصطفى كمال أتاتورك في تركيا(3) كذلك، حيث حارب الدين

ص: 291


1- وأصل البيت باللغة الفارسية هو: اولش او سر برهنه در عزاها می دويد *** عاقبت جشنى بپا در ليله عاشور كرد
2- ياسين حلمي باشا سلمان الهاشمي، من مواليد بغداد عام (1882م)، تقلد رئاسة الوزارة مرتين. ومما ذكر في أحواله أنه بعد تعيينه زار المس بيل وصافحها قائلاً: نريد معونتكم ومعونتكِ أنت بوجه خاص، وتقول المس بيل في رسالتها إلى أبيها المؤرخة في (31 آب 1922م): اعتقد أن ياسين رجل القَدَر. أطلق عليه لقب (أتاتورك العراق) لتشابه المنهج والسياسة التي كانا يسيران عليها ولقساوته وعنفه وطغيانه، وتكفّل مهمة تصفية الحوزات العلمية في العراق، فطارد رجال الدين وقتل بعضهم ونفى البعض الآخر ومنع إجراء مراسم الشعائر الحسينية واستخدم العنف في تطبيق قانون التجنيد الإلزامي. وموسوعة السياسة: 7: 387 ياسين الهاشمي.
3- الشيعة يشكلون الملايين من سكان تركيا، وأغلبهم من العلويين حيث يقدر عددهم بأكثر من خمسة وعشرين مليوناً، لكنهم تعرّضوا إلى الضغوط والمضايقات أيام الملك العثماني سليم القانوني وغيره، ولذا أخفوا مذهبهم، فاختفى إلى جانب ذلك الوعظ والتبليغ والكثير من آداب المذهب الشيعي، وظهر في جماعة منهم بعض الأمور البعيدة عن واقعهم. وأتاتورك هذا هو مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938م) ولد في سلانيك، مؤسس الجمهورية التركية وأول رئيس لها، قام بنشر المفاسد في بلاده، رسخ العلمانية والأفكار الغربية في تركيا، وحارب كل ما يمت إلى الدين الإسلامي فيها، وغيّر كتابة اللغة التركية من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني.

والمتدينين ومنع مختلف الشعائر الدينية ومجالس العزاء وما أشبه، ثم إن هؤلاء الثلاثة (البهلوي والهاشمي وأتاتورك) كانوا قد ظهروا في وقت واحد.ولكن رُبَّ سائل يسأل: لماذا كان هؤلاء يحاربون الشعائر الدينية، التي من بينها مجالس العزاء، أو محافل القرآن وغيرها؟

نقول: إن محاربتهم للشعائر دليل واضح على مدى أهميتها، وقوة تأثيرها على أفراد الأمة، وإلّا لم يكن هناك مبرر ومقتض لمنع الناس عنها، ومنعها عنهم.

إن لمجالس العزاء أهمية كبيرة لا يمكن تجاهلها، وإن للمنبر الحسيني والشعائر دوراً عظيماً في إحياء الشعوب. وهذا مما لا ينكر، وإن لمحافل القرآن أثراً فعّالاً في النفوس، حيث يبقى صدى القرآن يرنّ في مسامع المؤمنين، وتطمئن قلوبهم لذكر اللّه، فيدخل القرآن في وجودهم وتكون آياته منطلقاً لهم، فالقرآن يرفض الظلم والعدوان،وأكل حقوق الناس،ومصادرة حرياتهم، واستعبادهم؛ قال تعالى في كتابه المجيد: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ}(1).

وقال سبحانه: {وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(2).

وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}(3).

وقال سبحانه أيضاً: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَٰفِرِينَ نُزُلًا}(4).

والمسلمون عندما يقرأون هذه الآيات، سوف يفتح اللّه لهم أفئدتهم ويرسخ

ص: 292


1- سورة المائدة، الآية: 47.
2- سورة البقرة، الآية: 190.
3- سورة الأنعام، الآية: 151.
4- سورة الكهف، الآية: 102.

في نفوسهم مفاهيم القرآن أكثر فأكثر ليدركوا أن الواقع الذين يعيشونه مخالف للقرآن فيسعون في إصلاحه.

من هنا عمل الطغاة على منع ومحاربة المنابر، ومجالس العزاء، التي تفضح المجرمين وتبشرهم بالعذاب الأليم، وتكشف الحقائق للأمة، وتجعلهم على دراية من الأمر.

أتأتي قبر الحسين(عليه السلام)؟

إن أئمة أهل البيت^ كانوا يؤكدون دائماً على إحياء الشعائر بمختلف أشكالها من الزيارة وإقامة المجالس والبكاء وما أشبه.

فقد ورد عن مسمع بن عبد الملك كردين البصري قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا مسمع، أنت من أهل العراق، أما تأتي قبر الحسين(عليه السلام)؟

قلت: لا؛ أنا رجل مشهور عند أهل البصرة، وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة وعدونا كثير من أهل القبائل من النصاب وغيرهم، ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثلون بي.

قال لي: «أفما تذكر ما صنع به؟».

قلت: نعم.

قال: «فتجزع؟».

قلت: إي واللّه واستعبر لذلك حتى يرى أهلي اثر ذلك علي، فامتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي.

قال: «رحم اللّه دمعتك، أما انك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنّا، أما انك سترى عند موتك حضور آبائي لك ووصيتهم ملك الموت بك، وما يلقونك به

ص: 293

من البشارة أفضل، وملك الموت أرق عليك وأشد رحمة لك من الأم الشفيقة على ولدها».

قال: ثم استعبر واستعبرت معه، فقال: «الحمد للّه الذي فضلنا على خلقه بالرحمة وخصنا أهل البيت بالرحمة، يا مسمع، إن الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين(عليه السلام) رحمة لنا، وما بكى لنا من الملائكة أكثر، وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا، وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا إلّا رحمه اللّه قبل أن تخرج الدمعة من عينه، فإذا سالت دموعه على خده فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنم لأطفأت حرّها حتى لا يوجد لها حر، وإن الموجع قلبه لنا ليفرح يوم يرانا عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتى يرد علينا الحوض، وإن الكوثر ليفرح بمحبنا إذا ورد عليه حتى أنه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه. يا مسمع، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ولم يستق بعدها أبداً، وهو في برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل، أحلى من العسل، وألين من الزبد، وأصفى من الدمع، وأذكى من العنبر، يخرج من تسنيم ويمر بأنهار الجنان، يجري على رضراض الدر والياقوت، فيه من القدحان اكثر من عدد نجوم السماء، يوجد ريحه من مسيرة ألف عام، قدحانه من الذهب والفضة وألوان الجوهر، يفوح في وجه الشارب منه كل فائحة حتى يقول الشارب منه: يا ليتني تركت هاهنا لا أبغي بهذا بدلاً ولا عنه تحويلاً. أما إنك يابن كردين ممن تروى منه، وما من عين بكت لنا إلّا نعمت بالنظر إلى الكوثر وسقيت منه من أحبنا، وإن الشارب منه ليعطى من اللذة والطعم والشهوة له أكثر مما يعطاه من هو دونه في حبنا، وإن على الكوثر أمير المؤمنين(عليه السلام) وفي يده عصاً من عوسج يحطم بها أعدائنا، فيقول الرجل منهم: إني أشهد الشهادتين! فيقول: انطلق إلى إمامك فلان فاسأله أن يشفع لك، فيقول: تبرأ مني إمامي الذي تذكره؟ فيقول: ارجع إلى

ص: 294

ورائك فقل للذي كنت تتولاه وتقدمه على الخلق، فاسأله إذا كان خير الخلق عندك أن يشفع لك، فإن خير الخلق حقيق أن لا يرد إذا شفع، فيقول: إني أهلك عطشاً؟ فيقول له: زادك اللّه ظمأ، وزادك اللّه عطشاً».

قلت: جعلت فداك وكيف يقدر على الدنو من الحوض ولم يقدر عليه غيره؟

فقال: «ورع عن أشياء قبيحة وكف عن شتمنا أهل البيت إذا ذكرنا، وترك أشياء اجترى عليها غيره، وليس ذلك لحبنا ولا لهوى منه لنا، ولكن ذلك لشدة اجتهاده في عبادته وتدينه ولما قد شغل نفسه به عن ذكر الناس، فأما قلبه فمنافق ودينه النصب واتباعه أهل النصب وولاية الماضين وتقدمه لهما على كل أحد»(1).

حيل الغرب في بلاد المسلمين

وسنذكر شاهداً حول هذا الكلام، ثم نعود لنسمع الحقائق على لسان أحدهم.

أما شاهدنا فهو من بلاد الهند وفي إحدى مدنها، التي كانت تعيش الإسلام في حياتها، ويتعالى في آفاقها صدى الأذان، ونداءات الإيمان، في تلك المدينة كان الناس يعيشون حياة هانئة في ظل الإسلام، ولكن عندما دخلها الإنكليز تحت خدعة وحيلة الشركات التجارية، حوّلوا الهند بعد عدة سنوات إلى بلاد مستعمرة بأيديهم - أي غزوها اقتصادياً - وحينما دخل الإنكليز كان في الهند شخص اسمه السلطان (تيبو)(2) فقام تيبو هذا بجمع الأعوان وتكوين جيش، وقاوم الاستعمار الإنكليزي، لكنه لم يكن يملك العدد الكافي من المقاتلين في حين كان الإنكليز يمتلكون كل القدرات الحربية. وكانت النتيجة أن تغلّب الإنكليز على (تيبو) وقتلوا جميع أعوانه وأنصاره، ثم أعطوا أمراً يقضي بقتل

ص: 295


1- كامل الزيارات: 101.
2- لقد قام سفير الهند في العراق بزيارة الإمام الراحل(رحمه اللّه) في مدينة كربلاء المقدسة، وتحدّث السفير عن السلطان تيبو، وقال: إنه قام بتلك المواجهة، لأنه كان علوياً، كما أن اسمه علي، وزوجته فاطمة.

نسائهم وأطفالهم وعرّضوا المدينة لمجزرة بشعة، وبقيت جثث القتلى مدة طويلة على الأرض حتى صارت طعمة للحيوانات الجائعة.

بعد ذلك وعندما أثبت الاستعمار الإنكليزي سيطرته على الهند، كان مما أصدروا قانوناً منعوا بموجبه إقامة محافل القرآن، ومجالس التعزية، بينما كان الهنود يهتمون بهذين الأمرين، ويقيمون مراسم العزاء والشعائر الحسينية بشكل جيد، وأكثر من هذا فقد أصدروا قانوناً مفاده: أن أي إنسان يقوم بعقد هذه المجالس، فإنه يُحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات.

وبعد مدة من صدور هذين القانونين، ظهر رجل متدين ومخلص، وكان من علماء الدين، وقال: حتى لو قررت الدولة حبسي فإنني عازم على تعليم الأطفال القرآن، وكان يقول لكثير من الآباء: أرسلوا أولادكم لكي يتعلموا القرآن، ونتيجة بطش السلطة خاف الناس من إرسال أولادهم إليه حيث لم يأته إلى المسجد في البداية غير طفل يتيم واحد، إلّا أن الرجل لم ييأس ولم يهن بل كان مصمماً على عمله، فاستمر في تدريس اليتيم مدة من الزمن حتى أخذ الطلاب يزدادون يوماً بعد يوم وشيئاً فشيئاً، حتى صار ذلك المسجد عامراً بالدرس والمجالس، بعد ذلك علمت الدولة بالموضوع، وأخذت الشيخ إلى السجن وضغطت عليه لكي يتعهد بعدم تدريس القرآن، إلّا أنه أظهر الثبات وعلو الهمة والاستقامة، فاستمر في تعليم القرآن، حتى بعد أن خرج من السجن.

وهكذا استمر على إقامة الدرس، حتى تكوّنت إلى جانب دروسه دروسٌ أخرى، ثم انتشرت بعد ذلك مدارس القرآن، في العديد من المساجد مرة أخرى.

يعلم من هذه القصة: أن الاستعمار وعملاءه يخافون من الثقافة الإسلامية وترويج الشعائر الإلهية، فيمنعون إقامتها في مستعمراتهم بشتى الطرق والمبررات، ولا يمكن مقابلتهم إلّا بالصمود والإصرار والتواصل حتى ولو كان

ص: 296

ذلك بمقدار قليل، فإن تحقيق الأهداف العظيمة إنما ينشأ من خطوات قصيرة، وكما في المثل: (طريق الألف ميل يبدأ بخطوة).

ومن هنا يلزم التأكيد على ضرورة إقامة المجالس الحسينية بمختلف أشكالها المعهودة، سواء كان للرجال أم النساء وحتى الأطفال، أما ما يقوله البعض بأن فلاناً يقرأ المجالس النسوية استصغاراً بشأنه، فإنه غير صحيح، وذلك لما تقدم من ذكر فائدة المجالس. فمثلاً: حين ما يقول القارئ: إن يزيد كان شارب الخمر، فإن المستمع سواء كان امرأة أو طفلاً، فإنه يفهم من هذا أن شرب الخمر شيء قبيح، وحين ما يقول: إن يزيد لم تكن لديه عفة، فإن المرأة والبنت الصبية تفهم من أن العفة شيء حسن، وهكذا بقية الصفات من هذا القبيل.

ثم إذا كان القارئ في المجالس قليل العلم، فيجب عليه أن يتعلم، ولا عيب في التعلم، بل كل العيب في الجهل، وفي إعطاء المفاهيم بصورة غير صحيحة، أما القارئ الذي يقرأ للنساء أو للأطفال فلا عيب فيه.

ورد عن أبي عبد اللّه عن أبيه(عليهما السلام) قال: «قال علي(عليه السلام) - في كلام له - : لا يستحي الجاهل إذا لم يعلم أن يتعلم»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، لا فقر أَشد من الجهل ولا مال أَعود من العقل»(2).

لذا فإن هذه المجالس تساهم بشكل مباشر في بث الوعي الديني بين الجماهير، وغرس المبادئ الصحيحة والأخلاق الحسنة، واقتلاع جذور الظالمين من البلاد الإسلامية، وتبعث اليأس في قلوب الطامعين في ثروات

ص: 297


1- بحار الأنوار 1: 176.
2- الكافي 1: 25.

البلاد الإسلامية.

مجالس التعزية على لسان قس مسيحي

نقل لي أحد مراجع الدين في مدينة قم المقدسة، قصة ظريفة؛ حيث قال: حين ما كنت أدرس في النجف الأشرف، سافرت مرة إلى بغداد مع بعض الطلبة، حيث عرضت لنا حاجة، وهناك سمعنا أن أحد القساوسة يبشّر للمسيحية، فأردنا أن نطلع على نشاطهم في بلادنا فذهبنا إلى المجلس الذي فيه ذلك القس.

وبعد انتهاء المجلس، وانصراف الناس، توجّه إلينا، وقال: من أنتم؟

فقلت له: نحن من أهل هذا البلد.

فقال: لا أعني هذا، بل إني أرى عليكم صفة أهل العلم، ولا أرى أنكم أتيتم إلى هنا لكي تستفيدوا.

فقلت له: إننا من طلبة العلوم الدينية، وندرس في النجف الأشرف.

فقال: نعم لقد أدركت هذا.

ثم قال ذلك المسيحي: سأقول لك حقيقة قد لا يقولها لك إنسان غيري، وهذه الحقيقة هي أن نبيكم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إنساناً عالماً واعياً فاهماً، ولا يدانيه أحد في ذلك، وقد ترك لكم أشياء لم يتركها أي نبي من الأنبياء لأمته من بعده، ولو كان عندنا واحدة من هذه الأشياء، لجعلنا العالم كله مسيحياً وهي كالتالي:

أولها: هو القرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة.

وثانيها: ذرية نبيكم الذين يطلق عليهم الآن (السادة)، الذين يوحون للناس بوجود الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وثالثها: مراقد الأئمة^ وأولادهم، فهي كالقطب، تستقطب الناس حولها دوماً، وهي مصدر روحي لهم، وهي مدرسة تذكر الناس بسيرتهم وشريعتهم.

ورابعها: مجالس العزاء التي تقام من أجلهم، فهي أفضل مراكز روحية تشد

ص: 298

الناس نحو الإسلام، وكما ترى فإنني هيأتُ هذه الكميات الكبيرة من الفواكه والحلويات، ولكن لم يأت إلى هذا المجلس إلّا العدد القليل من الناس، في حين أنكم بمجرد أن تضعوا راية على باب الدار، وتكتبون عليها (يا حسين) ولا تعطون غير الشاي، ومع هذا فإن جمعاً غفيراً من الناس يجتمع حولكم للاستماع إليكم.

وخامسها: علماؤكم فإنهم حصون الناس من الفتن.

نعم، إن مجالس العزاء تحظى بأهمية خاصة، وكذلك إقامة المراسيم، وإحياء الاحتفالات بمناسبة ولادات الأئمة الأطهار^.

فإن لهذه المجالس فوائد عظيمة جداً، حيث يطرح من خلالها رأي الإسلام تجاه كل شيء في الحياة، لا سيما مسألة الحكم والحكومة، ورئيس الدولة ومواصفاته، وكيفية سيرته، وغير ذلك من المواصفات التي ذكرها الإسلام بدقة، وتراها في سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين^ بشكل واضح.

وعندما تطرح هذه المسائل، من خلال هذه المجالس فإنها لا تتناسب مع رغبات حكّام الجور، وعندما تذكر صفات الأئمة^ وشجاعتهم وتضحياتهم من أجل الإسلام والمسلمين، وأمر الناس بالتحلي والتأسي بهم، والتوكل والاعتماد على اللّه عزّ وجلّ وعدم الخوف من أي أحد دونه، فهذه المواضيع كلها لاتتلاءم مع سياسة الطغاة، الذين يحاولون إبعاد الناس عن الإسلام، وإبعادهم عن حضارتهم، وتضعيف إيمانهم، والعمل على زرع مفاهيم ملحدة فيهم، بدل المفاهيم الإسلامية؛ مثل: الصدق والأمانة والإخلاص والمسؤولية، والجهاد والتضحية، وقول كلمة الحق، فيعمل هؤلاء الحكام على نشر مفاهيم الفساد وزرع الفتن وإبعاد الناس عن الأخوة الإسلامية بالتركيز على القومية وما أشبه من المفاهيم الخاطئة الباطلة، للتغطية على المفاهيم الصحيحة.

ومن هنا، كان الحكام الجائرون في حروب مستمرة مع مجالس العزاء

ص: 299

والشعائر الدينية، لا سيما مجالس أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام).

والكل يعلم ما للمنبر الحسيني من دور واضح، في توعية الأمة وبث الروح فيها، واستنهاض هممها وتعبئتها بالأفكار الإسلامية، ودعوة الناس إلى الخير والفضيلة، والتعاون والمحبة والتناصر والتأسي بالإمام الحسين(عليه السلام).

فاللازم على كافة المؤمنين الاهتمام بالشعائر الدينية والمجالس الحسينية، كما ينبغي أن تقام المجالس الأسبوعية في كل بيت ومسجد وحسينية وما أشبه، فإن هذه المجالس توجب الرحمة والبركة ونشر الوعي الديني بين الأمة.

من هدي القرآن الحكيم

حياة المؤمن

قال تعالى: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتُ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ}(1).

وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّئَِّاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ}(3).

وقال تبارك وتعالى: {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(4).

دور المجالس في إنهاض الأمة

قال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ

ص: 300


1- سورة البقرة، الآية: 154.
2- سورة الجاثية، الآية: 21.
3- سورة الأنفال، الآية: 42.
4- سورة يس، الآية: 70.

الْقُلُوبُ}(1).

وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}(2).

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(4).

الاستعداد الدائم للدفاع عن الإسلام

قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}(5).

وقال سبحانه: {وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَٰعُواْ}(7).

الدعوة لنشر الدين الإسلامي

قال عزّ وجلّ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ}(8).

ص: 301


1- سورة الرعد، الآية: 28.
2- سورة ق، الآية: 45.
3- سورة الأعراف، الآية: 201.
4- سورة القصص، الآية: 43.
5- سورة الأنفال، الآية: 60.
6- سورة الأنفال، الآية: 39.
7- سورة البقرة، الآية: 217.
8- سورة الروم، الآية: 43.

وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَالْمُسْلِمِينَ}(1).

وقال تعالى: {فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}(2).

وقال جلّ وعلا: {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

إحياء الشعائر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا...»(4).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «تجلسون وتحدثون؟»

قال قلت: نعم.

قال قال: «تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، يا فضيل فرحم اللّه من أحيا أمرنا. يا فضيل، مَن ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(5).

وعن معتب مولى أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سمعته يقول لداود بن سرحان: «يا داود، أبلغ موالي عني السلام، وإني أقول رحم اللّه عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا، فإن ثالثهما ملكٌ يستغفر لهما وما اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر، فإن في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءً لأمرنا وخير الناس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا

ص: 302


1- سورة فصلت، الآية: 33.
2- سورة الشورى، الآية: 15.
3- سورة غافر، الآية: 14.
4- الكافي 2: 236.
5- مصادقة الإخوان: 32.

إلى ذكرنا»(1).

وعن أم المؤمنين أم سلمة (رضي اللّه عنها) أنها قالت: سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «ما قومٌ اجتمعوا يذكرون فضل علي بن أبي طالب(عليه السلام) إلّا هبطت عليهم ملائكة السماء حتى تحف بهم، فإذا تفرقوا عرجت الملائكة إلى السماء فيقول لهم الملائكة: إنا نشم من رائحتكم ما لا نشمه من الملائكة، فلم نر رائحة أطيب منها؟ فيقولون: كنا عند قوم يذكرون محمداً وأهل بيته^ فعلق فينا من ريحهم فتعطرنا، فيقولون: اهبطوا بنا إليهم، فيقولون: تفرقوا ومضى كل واحد منهم إلى منزله، فيقولون: اهبطوا بنا حتى نتعطر بذلك المكان»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ما قال فينا مؤمن شعراً يمدحنا به إلّا بنى اللّه تعالى له مدينة في الجنة أوسع من الدنيا سبع مرات، يزوره فيها كل ملك مقرب، وكل نبي مرسل»(3).

وقال أيضاً(عليه السلام): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(4).

دور المجالس في إنهاض الأمة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «مجلس الحكمة غرس الفضلاء»(5).

ص: 303


1- بشارة المصطفى: 110.
2- بحار الأنوار 38: 199.
3- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 7.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 73.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 704.

وقال(عليه السلام): «مجالس العلم غنيمة»(1).

وقال(عليه السلام): «أيها الناس، إنه من استنصح اللّه وفّق، ومن اتخذ قوله دليلاً هُدِيَ للتي هي أقوم»(2).

وقال(عليه السلام): «ما جالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، أو نقصان في عمى»(3).

نفي البدع

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم، يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فانه شافع مشفع - إلى قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وهو أوضح دليل إلى خير سبيل...»(7).

ص: 304


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 705.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 147 من خطبة له(عليه السلام).
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 698.
4- الكافي 1: 54.
5- الكافي 2: 375.
6- الطرائف 2: 456.
7- عدة الداعي: 286.
الدعوة لنشر الدين الإسلامي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أدى إلى أمتي حديثاً واحداً يقيم به سُنّة ويرد به بدعة فله الجنة»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تعلم حديثين اثنين ينفع بهما نفسه، أو يعلمهما غيره فينتفع بهما كان خيراً من عبادة ستين سنة»(2).

عن الإمام الصادق(عليه السلام): «خطب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم منى فقال: نضّر اللّه عبداً(3). سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها - إلى أن قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ثلاثة لا يغل عليهن قلب عبد مسلم: إخلاص العمل للّه، والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم...»(4).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما نصر اللّه هذه الأمة بضعفائها ودعوتهم وإخلاصهم وصلاتهم»(5).

ص: 305


1- جامع الأخبار: 181.
2- منية المريد: 372.
3- أي: نعّمه.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 186.
5- المحجة البيضاء 8: 125.

إحياء معالم الإسلام

بين الرسول والنبي

اشارة

قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى تطرق إلى موضوع الرسالة وصفاتها في القرآن المجيد، وعبّر عن شخصية المرسَل بتعبيرين مختلفين، هما: الرسول بقوله: {أَرْسَلْنَٰكَ} والنبي في خطابه: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ}، فمعنى الرسول حامل الرسالة، ومعنى النبي حامل النبأ، فللرسول شرف الوساطة بين اللّه سبحانه وبين خلقه، وللنبي شرف العلم باللّه وصفاته، وبما عنده من أحكام وتعاليم للبشرية والإخبار بها.

وقيل: إن الفرق بين النبي والرسول بالعموم والخصوص المطلق، فالرسول هو الذي يبعث فيؤمر بالتبليغ فيحمل الرسالة، والنبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر، فالرسول أخص من النبي مطلقاً؛ لأن النبي له مصداقان أحدهما الرسول فيما إذا أمر بالتبليغ، والآخر إذا بعث ولم يؤمر بالتبليغ فهو نبي فحسب وليس برسول.

ص: 306


1- سورة الأحزاب، الآية: 45-46.

وهناك اعتبارات أخرى تتناسب مع بعض استعمالات اللغة العربية، قالتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَٰبِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}(1). والآية هنا في مقام المدح والتعظيم، وقد لايتناسب في هذا المقام التدرج من الخاص إلى العام؛ فربما كان النبي هنا بمعنى آخر، كالذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم، من أصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية اللّه من هداية الناس إلى سعادتهم، والرسول(عليه السلام) هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام الحجة لمن بعث إليهم، كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ}(2)، ولازمه أن للرسول شرف الوساطة بين اللّه تعالى وبين عباده، وللنبي شرف إخبار الناس بالأحكام الشرعية.

ويستفاد من بعض الروايات: إن الرسول هو الذي يظهر له المَلَك، أو المبعوث من اللّه تعالى كجبرائيل(عليه السلام) مثلاً ويحدثه، أما النبي فهو الذي يرى في منامه، وفي رواية عن زرارة قال:

سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}(3) ما الرسول، وما النبي؟

قال: «النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين المَلَك، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين المَلَك».

قلت: الإمام ما منزلته؟

قال: «يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين المَلَك» ثم تلا هذه الآية: «{وَمَا

ص: 307


1- سورة مريم، الآية: 51.
2- سورة النساء، الآية: 165.
3- سورة مريم، الآية: 51.

أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ}(1) ولا محدّث»(2).

وقيل في معنى النبي: النبي هو الإنسان المخبر عن اللّه بغير واسطة بشر، أعم من أن يكون له شريعة كمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو ليس له شريعة كيحيى(عليه السلام). وقيل: سمي نبياً لأنه أنبأ من اللّه تعالى، أي: أخبر. وقيل: هو من النبوة والنباوة لما ارتفع من الأرض، والمعنى: أنه ارتفع وشرف على سائر الخلق، وقيل غير ذلك. وفرق بينه وبين الرسول: أن الرسول هو المخبر عن اللّه بغير واسطة أحد من البشر، وله شريعة مبتدأة كآدم(عليه السلام) أو ناسخة كمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وبأن النبي هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت، ولا يعاين المَلَك، والرسول هو الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين، وبأن الرسول قد يكون من الملائكة بخلاف النبي. وجمع النبي أنبياء، وهم - على ما ورد في بعض الأحاديث - مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر.

وقد سئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكان آدم نبيا؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم):«نعم، كلمه اللّه وخلقه بيده».

وأربعة من الأنبياء عرب، وعد منهم هود وصالح وشعيب ورسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(3).

وفي حديث الإمام الصادق(عليه السلام): «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات: فنبي منبأ في نفسه لا يعدو غيرها، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى أحد وعليه إمام، مثل ما كان إبراهيم(عليه السلام) على لوط(عليه السلام)، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك، وقد أرسل إلى طائفة قلوا أو

ص: 308


1- سورة الحج، الآية: 52.
2- الكافي 1: 176.
3- انظر: تفسير نور الثقلين 5: 562.

كثروا،كيونس(عليه السلام) قال اللّه ليونس: {وَأَرْسَلْنَٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}(1) قال: يزيدون ثلاثين ألفاً وعليه إمام، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة، وهو إمام مثل أولي العزم، وقد كان إبراهيم نبياً وليس بإمام حتى قال اللّه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي}(2)؟ فقال اللّه: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(3)، من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماما»(4) انتهى.

وقد جمع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين النبوة والرسالة، فقد كان نبياً ورسولاً إلى الأمم. ومن الأنبياء من نبأ ولم يبعث إلى أمة أو قرية كالنبي إسماعيل(عليه السلام).

وهناك رسول بالمعنى الأعم لا يكون نبياً بالمعنى الأخص كجبرائيل(عليه السلام) حيث كان رسولاً من قبل اللّه لإبلاغ الوحي ولم يكن نبياً، وعلى هذا يكون الفرق بين النبي والرسول بنسبة العموم والخصوص من وجه - على اصطلاح المناطقة - لاشتراكهما في خاتم الأنبياء(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وافتراقهما في النبي إسماعيل(عليه السلام) وجبرائيل(عليه السلام).

ثم إن القرآن الكريم صرح بأن الأنبياء كثيرون وإن لم يذكر قصص الجميع، فإن الذي قصهم اللّه تعالى في كتابه بالاسم يبلغون بضعة وعشرين نبياً. وقد جاء في الروايات تفصيل أكثر لأخبار الأنبياء^ وكلها دروس وعبر(5).

ص: 309


1- سورة الصافات، الآية: 147.
2- سورة البقرة، الآية: 124.
3- سورة البقرة، الآية: 124.
4- الكافي 1: 173، وراجع مجمع البحرين 1: 404 مادة (نبأ).
5- انظر: (قصص الأنبياء^) للسيد نعمة اللّه الجزائري(رحمه اللّه) و(قصص الأنبياء^) لقطب الدين الراوندي. وهناك مؤلفات عديدة للإمام الراحل(رحمه اللّه) أورد فيها تأريخ الأنبياء^ وأحوالهم،منها: إلماع إلى تاريخ الأنبياء^/ مخطوط، قصص الأنبياء^ في القرآن والروايات/ مخطوط، القصص الحق/ مطبوع، من سيرة الأنبياء^/ مخطوط، وغيرها.
أولوا العزم

ثم إن سادات الأنبياء هم أولوا العزم منهم، وهم: (نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد^ فقد قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «سادة النبيين والمرسلين خمسة، وهم أولو العزم من الرسل وعليهم دارت الرحى: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى اللّه عليه وآله وعلى جميع الأنبياء»(1).

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}(2) وإن معنى العزم هنا هو الثبات على العهد الأول المأخوذ منهم، وعدم التعامل معه كالناسي. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّۧنَ مِيثَٰقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا}(3).

روي عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}(4) قال: «عهد إليه في محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة من بعده فترك ولم يكن له عزم أنهم هكذا، وإنما سموا أولو العزم؛ أنه عهد إليهم في محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأوصياء من بعده^ والقائم عجل اللّه تعالی فرجه الشريف وسيرته، فأجمع عزمهم على أن ذلك كذلك، والإقرار به»(5).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «إن اللّه تبارك وتعالى حيث خلق الخلق، خلق ماء عذباً وماء مالحاً أجاجاً، فامتزج الماءان، فأخذ طيناً من أديم الأرض، فعركه عركاً شديداً، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون: إلى الجنة بسلام، وقال

ص: 310


1- الكافي 1: 175.
2- سورة الأحقاف، الآية: 35.
3- سورة الأحزاب، الآية: 7.
4- سورة طه، الآية: 115.
5- تفسير القمي 2: 66.

لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي، ثم قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنتَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ}(1)، ثم أخذ الميثاق على النبيين، فقال: ألست بربكم، وأن هذا محمدٌ رسولي، وأن هذا علي أمير المؤمنين؟

قالوا: بلى، فثبتت لهم النبوة. وأخذ الميثاق على أولي العزم: أنني ربكم، ومحمدٌ رسولي وعلي أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي، وأن المهدي أنتصر به لديني، وأظهر به دولتي، وأنتقم به من أعدائي، وأعبد به طوعاً وكرهاً؟

قالوا: أقررنا يا رب، وشهدنا. ولم يجحد آدم ولم يقر، فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي، ولم يكن لآدم عزمٌ على الإقرار به؛ وهو قوله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}(2) قال: إنما هو فترك، ثم أمر ناراً فأججت، فقال لأصحاب الشمال: ادخلوها، فهابوها، وقال لأصحاب اليمين: ادخلوها، فدخلوها، فكانت عليهم برداً وسلاماً، فقال أصحاب الشمال: يا رب، أقلنا، فقال: قد أقلتكم اذهبوا، فادخلوا فهابوها، فثم ثبتت الطاعة والولاية والمعصية»(3).

من أوصاف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(4).

ص: 311


1- سورة الأعراف، الآية: 172.
2- سورة طه، الآية: 115.
3- الكافي 2: 8.
4- سورة الأحزاب، الآية: 45-46.

أرسل اللّه سبحانه وتعالى النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) داعياً إلى الحق، وزوده بالحججالكافية الوافية، مبشراً من أطاع بالجنة، ومنذراً من عصاه بعذاب أليم... وسيشهد غداً على هذا بأنه أعرض وتولى، ولذلك بأنه سمع وأطاع؛ فهو(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شاهدٌ ومبشر ونذير.

وفي نهج البلاغة لأمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «أرسله داعياً إلى الحق، وشاهداً على الخلق، فبلغ رسالات ربه، غير وانٍ ولامقصر، وجاهد في اللّه أعداءه، غير واهن ولا معذر(1)،

إمام من اتقى، وبصر من اهتدى»(2).

وسوف نتطرق إجمالاً إلى بعض مفردات هذه الآية المباركة، فإن {شَٰهِدًا} أي: شاهداً على أمتك في ما يفعلون من طاعة اللّه أو معصيته أو إيمان أو كفر؛ لتشهد لهم يوم القيامة أو عليهم، فيجازيهم اللّه عزّ وجلّ بحسب ذلك.

{وَمُبَشِّرًا} أي: مبشراً لهم بالجنة وثواب الأبد، إن أطاعوا اللّه سبحانه واجتنبوا معصيته، أي: إنك من المبشرين للذين يعملون الحسنات في الدنيا بالحسنى، كما قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}(3) والجزاء الأوفى في الآخرة، كما قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَىٰهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}(4).

{وَنَذِيرًا} أي: مخوّفاً من النار وعقاب الأبد لمن يرتكب المعاصي ويترك الواجبات. فالذين يعملون السيئات أنت لهم من المنذرين والمحذرين بسوء

ص: 312


1- وان: متباطئ متثاقل، واهن: ضعيف، مُعَذّر: من يعتذر ولا يثبت له عذر.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 116 من خطبة له(عليه السلام) وفيها ينصح أصحابه.
3- سورة الزلزلة، الآية: 7.
4- سورة النجم، الآية: 39-41.

العاقبة في الدنيا والآخرة، كما قال اللّه تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).

{وَدَاعِيًا} أي: وبعثناك داعياً لهم فتدعوهم. {إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} والإقرار بوحدانيته عزّ وجلّ، وامتثال ما أمرهم به والانتهاء عما نهاهم عنه، فإنك يا رسول اللّه تمتلك الوعاء الطاهر في جوفك، وهو قلبك الكبير السليم النظيف؛ لذا فأنت مؤهل لأن تكون صاحب إذن وإجازة من اللّه عزّ وجلّ لكي تدعو الناس إلى عبادته.

{وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} أي: أنت يا رسول اللّه بمنزلة السراج الذي يهتدي به الخلق، والمنير هو الذي يصدر النور من جهته، إما بفعله أو لأنه سبب له، فالقمر منير والسراج منير بالمعنى الأول، أي: ما يصدر منه النور، واللّه نور السماوات والأرض بالمعنى الثاني، أي: إنه خالق للنور وسبب لإنارتها، وفي هذه الآية المباركة يشبه اللّه سبحانه وتعالى الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمصباح المضيء الذي يضيء به قلوب الناس المظلمة، ليهتدي به التائهون إلى شاطئ السلام والأمان، ويهديها إلى سبيل الهدى والصلاح بإذن اللّه تعالى(2).

وهذا التشبيه «السراج المنير» في الاصطلاح البلاغي من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، أي: كما أن رؤية الأمور المادية تحتاج إلى الضوء والمصباح، فكذلك الأمور المعنوية تحتاج إلى من يبعث النور فيها لكي تتجلى لمن أراد أن يتبع طريق الحق والإيمان.

فالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الوقت الذي هو شاهد على أعمال الناس، هو أيضاً نور ومصباح، يشع بضوئه في قلوب المؤمنين، وما تزال أنواره دائمة باقية لا زوال لها ولا اضمحلال؛ حيث جعله اللّه سبحانه خاتماً لأنبيائه، وشريعته آخر الشرائع

ص: 313


1- سورة الزلزلة، الآية: 8.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 343، وانظر التبيان في تفسير القرآن 8: 349.

حيث قال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(1).

من معالم الإسلام

مسجد قبا

لقد ركز رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معالم الإسلام بنفسه الشريفة، لذا علينا أن نحيي تلك المعالم المقدسة ونحافظ عليها، فقد كان من سياسة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بناء المساجد، حيث أمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببناء أول مسجد في تأريخ الإسلام على بعد فرسخ من المدينة المنورة باسم مسجد قبا(2)، وذلك عند هجرة

ص: 314


1- سورة آل عمران، الآية: 85.
2- قبا: بالضم: وأصله اسم بئر هناك عرفت القرية بها وهي مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار، وهي قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة، بها أثر بنيان كثير، وهناك مسجد التقوى عامر قدامه ورصيف وفضاء حسن وآبار ومياه عذبة، قيل: كان المتقدمون في الهجرة من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن نزلوا عليه من الأنصار بنوا بقباء مسجداً يصلون فيه الصلاة سنة إلى البيت المقدس، فلما هاجر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وورد قباء صلى بهم فيه، وأهل قباء يقولون: هو المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، وقيل: إنه مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأقام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما هاجر بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وركب يوم الجمعة يريد المدينة، فجمع في مسجد بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، فكانت أول جمعة جمعت في الإسلام، وقد جاء في فضائل مسجد قباء أحاديث كثيرة، وقبا أيضا: موضع بين مكة والبصرة، انظر: معجم البلدان: 4: 301. باب القاف والباء وما يليهما. وقال صاحب كتاب (مرآة الحرمين) في مسجد قباء: حتى نزل بهم - رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في بني عمرو بن عوف بقباء على كلثوم بن الهدم بن امرئ القيس، وكان له مربد - الموضع الذي يبسط فيه التمر لييبس - فأخذه منه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأسسه وبناه مسجداً، وكان يعمل فيه بنفسه ولم يزل يزوره(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ويصلي فيه أهل قباء، وكان يؤمهم فيه معاذ بن جبل، ولما توفي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم تزل الصحابة تزوره وتعظمه. انظر مرآة الحرمين 1: 395-396.

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منمكة إلى المدينة حيث نزل في قبا وانتظر أمير المؤمنين علياً(عليه السلام) والفواطم (السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وفاطمة بنت أسد والدة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب) هناك ثم دخل المدينة بصحبتهم.

وقد كرم اللّه تعالى في كتابه الكريم هذا المسجد وقال: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}(1). وقد ذكر المفسرون أن المسلمين الذين شاركوا في بنائه كانوا من بني عمرو بن عوف.

ومازال هذا المسجد المبارك يفد إليه الملايين من المسلمين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي في موسم الحج وغيره لزيارته والتبرك به والصلاة فيه. وأغلب الروايات تشير إلى أن هجرة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة كانت في شهر ربيع الأول؛ إذ أنه خرج من مكة في اليوم الأول من ربيع الأول متخفياً ونام في فراشه أمير المؤمنين(عليه السلام) يفتديه بنفسه، وقد وصل(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة في الثاني عشر من ربيع الأول، وقيل: في الحادي عشر، وقيل: في الخامس من ربيع الأول، والأغلب يشير إلى الثاني عشر من ربيع الأول، وقد أقام في مسجد قبا وصلى فيه، وكان نازلاً على عمرو بن عوف ينتظر لحوق ابن عمه أمير المؤمنين ومعه الفواطم^(2).

والمقصود من قوله تعالى: {أَوَّلِ يَوْمٍ} في الآية المباركة هو ذلك اليوم الذي نزل فيه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقرب المدينة وصلى في مسجد قبا، وعلى هذا فالمسجد

ص: 315


1- سورة التوبة، الآية: 108.
2- انظر: بحار الأنوار 19: 104 وتفسير مجمع البيان 10: 10.

الذي أسس على التقوى هو مسجد قبا وربما يكون المصداق الأظهر، وبعضالمفسرين قصدوا به مسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقيل: بأن المقصود منه هو كل مسجد بني للإسلام(1).

مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

بعد أن دخل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة المنورة قام ببناء مسجد فيها أيضاً وهو المسجد الذي يطلق عليه اليوم (المسجد النبوي الشريف)، فإن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اشترى أرض المسجد وبنى هو بنفسه وأصحابه جداراً يحيط بالمسجد كله، وحول الجدار بنى غرفاً عديدة؛ لتكون محلاً لسكنه وسكن بعض أصحابه، وكان لهذه الغرف بابان باب من داخل المسجد وباب آخر يفتح على خارج المسجد، وكان مقابل كل غرفة ساحة خارج المسجد. فأغلقت جميع هذه الأبواب إلّا باب علي أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):«سدوا هذه الأبواب إلّا باب علي(عليه السلام)».

فتكلم في ذلك الناس، فقام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي(عليه السلام) فقال قائلكم، وإني واللّه ما سددت شيئاً ولافتحته، ولكني أمرت بشيء فاتبعته»(2).

ولهذا المسجد الشريف منزلة كبيرة عند جميع المسلمين، والى الآن هو محط تقدير وإجلال من قبلهم، لكونه كان محل سكن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين^ وأيضا محل مهبط جبرائيل(عليه السلام)؛ لذا فإن الصلاة في مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتضاعف أجرها وثوابها عند اللّه تعالى، جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام)

ص: 316


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 2: 463 وتفسير مجمع البيان 5: 126.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 333.

عن آبائه^ قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): صلاة في مسجدي هذا تعدل عند اللّه عشرة آلاف صلاة في غيره من المساجد، إلّا المسجد الحرام؛ فإن الصلاة فيه تعدل مائة ألفصلاة»(1).

وهناك روايات عديدة في فضل مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «أربعة من قصور الجنة في الدنيا: المسجد الحرام، ومسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ومسجد بيت المقدس، ومسجد الكوفة»(2).

وعن جميل بن دراج قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما بين منبري وبيوتي روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة، وصلاةٌ في مسجدي تعدل عشرة آلاف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام».

قال جميل: قلت له: بيوت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبيت علي منها؟

قال: «نعم، وأفضل»(3).

العتبات المقدسة

اشارة

لقد وردت روايات عديدة عن أهل البيت^ تبين المكانة السامية لمراقد ومقامات الأئمة^ وأن الأعمال تضاعف في الأجر والثواب، كما ورد أن في تربة سيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) الشفاء وتحت قبته يستجاب الدعاء وغفران الذنوب، فعن ابن عباس عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أنه أخبره بقتل الحسين(عليه السلام) - إلى أن قال: - «من زاره عارفاً بحقه كتب له ثواب ألف حجة وألف عمرة، ألا

ص: 317


1- ثواب الأعمال: 30.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 369.
3- الكافي 4: 556.

ومن زاره فكأنما زارني ومن زارني فكأنما زار اللّه، وحق الزائر على اللّه أن لا يعذبه بالنار، ألا وإن الإجابة تحت قبته، والشفاء في تربته، والأئمة من ولده»الحديث(1).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إن الحسين صاحب كربلاء قتل مظلوماً مكروباً عطشاناً لهفاناً، وحق على اللّه عزّ وجلّ، أن لايأتيه لهفان ولا مكروب ولا مذنب ولا مغموم ولا عطشان، ولا ذو عاهة، ثم دعا عنده وتقرّب بالحسين(عليه السلام) إلى اللّه عزّ وجلّ إلا نفّس اللّه كربته وأعطاه مسألته، وغفر ذنوبه ومد في عمره، وبسط في رزقه، فاعتبروا يا أولي الأبصار»(2).

وهناك روايات عديدة في هذا الباب وهذه أمور مجربة ومصداقيتها أشهر من نار على علم على مر التاريخ، ولا يسعنا المجال هنا لذكرها. وقد ذكر في كتب التاريخ والحديث، أمثال كتاب بحار الأنوار وكامل الزيارات والأمالي... فضل زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) وآدابها وأثر التوسل به إلى اللّه عزّ وجلّ(3).

ففي رواية عن الإمام الكاظم(عليه السلام) قال: «من أتى قبر الحسين بن علي(عليهما السلام) عارفاً بحقه غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»(4).

وروى قدامة بن زائدة عن أبيه قال: قال علي بن الحسين(عليهما السلام): «بلغني يا زائدة أنك تزور قبر أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) أحيانا؟».

فقلت: إن ذلك لكما بلغك.

ص: 318


1- كفاية الأثر: 16.
2- كامل الزيارات: 168.
3- انظر: بحار الأنوار 98: 1 تتمة كتاب المزار أبواب فضل زيارة سيد الشهداء(عليه السلام)، وكامل الزيارات: 111 - 298 والأمالي للشيخ الصدوق: 133 و 139 و 154.
4- كامل الزيارات: 139.

فقال لي: «فلماذا تفعل ذلك؛ ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأمة من حقنا؟».فقلت: واللّه، ما أريد بذلك إلّا اللّه ورسوله، ولا أحفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه.

فقال: «واللّه، إن ذلك لكذلك؟».

فقلت: واللّه، إن ذلك لكذلك، يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً.

فقال: «أبشر، ثم أبشر، ثم أبشر، فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب - البحر - المخزون، فإنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا وقتل أبي(عليه السلام) وقتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب، يراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يواروا، فعظم ذلك في صدري واشتد لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي(عليهما السلام) فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي؟

فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي، مصرعين بدمائهم مرملين بالعراء، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر؟!

فقالت: لا يجزعنك ما ترى؛ فواللّه إن ذلك لعهد من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جدك وأبيك وعمك، ولقد أخذ اللّه ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة، وهم معروفون في أهل السماوات، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً وأمره إلّا علواً.

ص: 319

فقلت: وما هذا العهد، وما هذا الخبر؟

فقالت: نعم، حدثتني أم أيمن أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) زار منزل فاطمة(عليها السلام) في يوم منالأيام، فعملت له حريرة وأتاه علي(عليه السلام) بطبق فيه تمر، ثم قالت أم أيمن: فأتيتهم بعس فيه لبن وزبد، فأكل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين^ من تلك الحريرة، وشرب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشربوا من ذلك اللبن، ثم أكل وأكلوا من ذلك التمر والزبد، ثم غسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يده وعلي يصب عليه الماء، فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه، ثم نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً، ثم إنه وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا، ثم خر ساجداً وهو ينشج، فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه، ثم رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنها صوب المطر، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين^ وحزنت معهم لما رأينا من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهبناه أن نسأله، حتى إذا طال ذلك، قال له علي، وقالت له فاطمة: ما يبكيك يا رسول اللّه، لاأبكى اللّه عينيك؛ فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك؟

فقال: يا أخي سررت بكم سروراً ما سررت مثله قط، وإني لأنظر إليكم وأحمد اللّه على نعمته عليَّ فيكم، إذ هبط علي جبرئيل(عليه السلام) فقال: يا محمد، إن اللّه تبارك وتعالى اطلع على ما في نفسك وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك، فأكمل لك النعمة وهنأك العطية، بأن جعلهم وذرياتهم ومحبيهم وشيعتهم معك في الجنة لا يفرق بينك وبينهم، يحبون كما تحب، ويعطون كما تعطي حتى ترضى وفوق الرضا، على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا، ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملتك ويزعمون أنهم من أمتك، براء من اللّه ومنك، خبطاً خبطاً وقتلاً قتلاً، شتى مصارعهم، نائية قبورهم، خيرة من اللّه لهم

ص: 320

ولك فيهم، فاحمد اللّه عزّ وجلّ على خيرته وارض بقضائه، فحمدت اللّه ورضيت بقضائه بما اختاره لكم.

ثم قال لي جبرئيل: يا محمد، إن أخاك مضطهد بعدك، مغلوب على أمتك، متعوب من أعدائك، ثم مقتول بعدك، يقتله أشر الخلق والخليقة وأشقى البرية، يكون نظير عاقر الناقة ببلد تكون إليه هجرته، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده، وفيه على كل حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم، وإن سبطك هذا، وأومأ بيده إلى الحسين(عليه السلام)، مقتول في عصابة من ذريتك وأهل بيتك وأخيار من أمتك، بضفة الفرات بأرض يقال لها: كربلاء، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريتك، في اليوم الذي لاينقضي كربه ولا تفنى حسرته، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة، يُقتل فيها سبطك وأهله، وأنها من بطحاء الجنة، فإذا كان ذلك اليوم الذي يقتل فيه سبطك وأهله، وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة، تزعزعت الأرض من أقطارها ومادت الجبال وكثر اضطرابها واصطفقت البحار بأمواجها وماجت السماوات بأهلها؛ غضباً لك يا محمد ولذريتك، واستعظاماً لما ينتهك من حرمتك، ولشر ما تكافى به في ذريتك وعترتك، ولايبقى شيء من ذلك إلّا استأذن اللّه عزّ وجلّ في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين، الذين هم حجة اللّه على خلقه بعدك.

فيوحي اللّه إلى السماوات والأرض والجبال والبحار، ومن فيهن: إني أنا اللّه الملك القادر، الذي لا يفوته هارب ولا يعجزه ممتنع، وأنا أقدر فيه على الانتصار والانتقام، وعزتي وجلالي، لأعذبن من وتر رسولي وصفيي، وانتهك حرمته وقتل عترته ونبذ عهده وظلم أهل بيته، عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، فعند ذلك يضج كل شيء في السماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتك واستحل حرمتك، فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولى اللّه عزّ وجلّ قبض أرواحها بيده،

ص: 321

وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة، معهم آنية من الياقوت والزمرد، مملوة من ماء الحياة وحلل من حلل الجنة، وطيب من طيب الجنة، فغسلواجثثهم بذلك الماء وألبسوها الحلل، وحنطوها بذلك الطيب، وصلت الملائكة صفاً صفاً عليهم.

ثم يبعث اللّه قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار، لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نيّة، فيوارون أجسامهم، ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء(عليه السلام) بتلك البطحاء، يكون علماً لأهل الحق وسبباً للمؤمنين إلى الفوز، وتحفه ملائكة من كل سماء مائة ألف ملك في كل يوم وليلة، ويصلون عليه ويطوفون عليه، ويسبحون اللّه عنده ويستغفرون اللّه لمن زاره، ويكتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمتك، متقرباً إلى اللّه تعالى وإليك بذلك وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم، ويوسمون في وجوههم بميسم نور عرش اللّه: هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء. فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نور تغشى منه الأبصار يدل عليهم ويعرفون به. وكأني بك يا محمد بيني وبين ميكائيل وعلي أمامنا، ومعنا من ملائكة اللّه ما لا يحصى عددهم، ونحن نلتقط مَن ذلك الميسم في وجهه من بين الخلائق، حتى ينجيهم اللّه من هول ذلك اليوم وشدائده، وذلك حكم اللّه وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمد، أو قبر أخيك، أو قبر سبطيك، لا يريد به غير اللّه عزّ وجلّ. وسيجتهد أناس ممن حقت عليهم اللعنة من اللّه والسخط، أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره، فلا يجعل اللّه تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً.

ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): فهذا أبكاني وأحزنني.

قالت زينب: فلما ضرب ابن ملجم لعنه اللّه أبي(عليه السلام) ورأيت عليه أثر الموت منه، قلت له: يا أبة، حدثتني أم أيمن بكذا وكذا، وقد أحببت أن أسمعه منك.

ص: 322

فقال: يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد، أذلاء خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً، فوالذيفلق الحبة وبرأ النسمة، ما للّه على ظهر الأرض يومئذ ولي غيركم، وغير محبيكم وشيعتكم، ولقد قال لنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين أخبرنا بهذا الخبر: إن إبليس لعنه اللّه في ذلك اليوم يطير فرحاً، فيجول الأرض كلها بشياطينه وعفاريته، فيقول: يا معاشر الشياطين، قد أدركنا من ذرية آدم الطلبة، وبلغنا في هلاكهم الغاية، وأورثناهم النار، إلّا من اعتصم بهذه العصابة، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم، وحملهم على عداوتهم وإغرائهم بهم وأوليائهم، حتى تستحكموا ضلالة الخلق وكفرهم، ولا ينجو منهم ناج، ولقد صدق عليهم إبليس وهو كذوب، أنه لاينفع مع عداوتكم عمل صالح، ولا يضر مع محبتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر». قال زائدة: ثم قال علي بن الحسين(عليهما السلام) بعد أن حدثني بهذا الحديث: «خذه إليك ما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولاً لكان قليلاً»(1).

ثم أن ما روي في فضل مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وزيارة الإمام الحسين(عليه السلام) ينطبق أيضاً في الجملة على زيارة الإمام أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والإمام الحسن وسائر الأئمة من أبناء الإمام الحسين^، وليس هنا محل التفصيل فيها، ومن هنا يلزم أن تقدّس هذه الأماكن الطاهرة وتحترم بالاحترام اللائق والمناسب.

الوهابيون وهدم مراقد الأولياء

لكن الوهابيين(2) وبحجة توسعة مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وغيره من المساجد

ص: 323


1- كامل الزيارات: 260.
2- الوهابيون أو الوهابية فرقة تنسب إلى محمد بن عبد الوهاب بن سليمان النجدي (1111-1206ه). ظهرت في بلاد الجزيرة العربية، ومحمد بن عبد الوهاب هذا كان قد أخذ شيئاً من العلوم الدينية، وكان مولعاً بمطالعة أخبار مدّعي النبوة كمسيلمة الكذّاب وسجاح والأسود العنسي وطُليحة الأسدي، فظهر منه أيام دراسته زيغ وانحراف كبير، ممّا دعا والده وسائر مشايخه إلى تحذير الناس منه، فقالوا فيه: سيضلّ هذا، ويضلّ اللّه به من أبعده وأشقاه! أظهر دعوته إلى مذهبه سنة (1143ه)، ولكن وقوف والده ومشايخه بوجهه أبطل أقواله ومزاعمه، فلم تلق رواجاً حتّى وفاة والده سنة (1153ه) فجددّ دعوته بين البسطاء والعوام، فتابعه حثالة من الناس، ثار عليه أهل بلده وهمّوا بقتله، ففرّ إلى (العُيينة) وهناك تقرب إلى أمير العيينة وتزوج أخت الأمير، ومكث عنده يدعو إلى نفسه وإلى بدعته، فضاق أهل العيينة منه ذرعاً فطردوه من بلدتهم، فخرج إلى (الدرعّية) شرقي نجد، وهذه البلاد كانت من قبل بلاد مسيلمة الكذّاب التي انطلقت منها أحزاب الردّة. فراجت أفكاره، وكان في ذلك كّله يتصرّف وكأنّه صاحب الاجتهاد المطلق. وقيل: إن العرب سيما أهل اليمن تحدثوا بأن راعياً فقيراً اسمه سليمان رأى في منامه كأن شعلة نار خرجت منه وانتشرت في الأرض وصارت تحرق من قابلها، فقصها على معبر، فعبرها بأن ولداً له يحدث دولة قوية، فتحققت الرؤيا في حفيده محمد بن عبد الوهاب بن سليمان المذكور، فلما كبر محمد ذاع صيته في بلده؛ بسبب ترويجه لهذه الرؤيا التي لا يعلم أنها كانت أم لا، فأخبرهم أنه من ذرية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واسمه كاسمه، وأنه يدعو إلى توحيد اللّه تعالى وأن القرآن قديم يجب اتباعه دون الفروع المستنبطة، وأن محمداً رسول اللّه وحبيبه، ولكن لا ينبغي وصفه بأوصاف المدح والتعظيم؛ إذ لا يليق ذلك إلّا بالقديم، وأن ذلك من قبيل الإشراك، وأن اللّه تعالى حيث لم يرض بهذا الشرك أرسله ليهدي الناس إلى سواء السبيل، فمن أجاب أجاب وإلّا وجب قتله، فبيّن مذهبه سراً فتبعه جماعة ثم سافر إلى الشام، فلم يتبعه أحد، فرجع إلى بلاد العرب بعد أن غاب عنها ثلاث سنين، فاتبعه ابن سعود (لعل الصحيح هو سعود نفسه) وهو من مشائخ عرب نجد، وبعد أن حكم قبيلته تغلّب على قبيلتين من اليمن، وبقوة السلاح والمال تبعته بعض العرب في الجزيرة، فأخذ في الانتشار ودان به جميع عرب نجد، فرتب محمد مذهبه واظهر الاجتهاد، فكان هو الرئيس الديني للوهابية وابن سعود رئيس الحكم والحرب، وصارت ذرية كل منهما تتولى رتبة سلفها. واختاروا مدينة الدرعية قاعدة بلادهم، وتقع في الجنوب الشرقي من البصرة في البادية. فلما مات ابن سعود خلفه ابنه عبد العزيز. وكان إذا أراد محاربة قبيلة دعاها إلى اعتقاد القرآن على ما يفسره الوهابية فان قبلت وإلّا قاتلها، وكان يستصفي جميع الأموال، وإذا أطاعته القبيلة أرسل إليها حاكماً ويأخذ منها عشر المواشي والنقود والعروض بل والأنفس، فيأخذ عشر الناس بالقرعة، فجمع أموالاً عظيمة، وصار جيشه يربو على مائة وعشرين ألف مقاتل، فأخضع جميع أهل البادية التي بين البحر الأحمر وبحر فارس وحوالي بلاد حلب ودمشق. ومن أبرز معتقدات الوهابية: تحريم التوسل والاستشفاع بالأنبياء والأئمة^ والأولياء إلى اللّه تعالى، وبناء قبورهم، أو المساجد قرب مراقدهم، والتوسل بجاههم عند اللّه عزوجل في قضاء الحوائج، وتحريم مناداة غير اللّه تعالى عند الشدائد ولو كان المنادى من الأنبياء أو الأوصياء^ فإنهم يعتبرونه شركاً باللّه، وإذا سمعوا ذلك من أحد شتموه وضربوه وقالوا له: أشركت، وادّعوا تحريم شرب القهوة والتتن ونحو ذلك - ويتساهلون فيهما بعض الأحيان - . ووصف الشيخ سلمان بن عبد الوهّاب، وهو أخو محمد بن عبد الوهاب - وهو أعرف الناس به - وقد ألف كتاباً في إبطال دعوة أخيه وإثبات زيفها، وممّا جاء فيه عبارة موجزة وجامعة في التعريف بالوهّابية ومؤسّسها، قال فيها: اليوم ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنّة ويستنبط من علومهما ولا يبالي من خالفه، ومن خالفه فهو عنده كافر، هذا وهو لم يكن فيه خصلة واحدة من خصال أهل الاجتهاد، ولاواللّه ولا عُشر واحدة، ومع هذا راج كلامه على كثير من الجهّال،فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون. انظر: (تاريخ نجد) لمحمود شكري الآلوسي، (الصواعق الإلهية في الردّ على الوهّابية) للشيخ سليمان بن عبد الوهاب، (فتنة الوهّابية) لأحمد زيني دحلان، (الحصون المنيعة) للسيد محسن الأمين، (الوهابية في صورتها الحقيقية) لصائب عبد الحميد.

ص: 324

الشريفة،محوا وهدموا الكثير من معالم الإسلام والتراث النبوي الشريف وآثار أهل البيت^، خاصة في المدينة المنورة. وكذلك فعلوا ما فعلوه بأضرحة أئمتنا الأطهار^ والعديد من مراقد الصحابة الأخيار والأولياء الكرام في البقيع، حيث عمدوا إلى تدميرها وتخريبها، علماً أن أهل البيت^ هم مدرسة الإسلام الصحيحة، وفي إحياء ذكرهم إحياء لذكر الإسلام والقرآن، فإنهم^ هم الذين بنوا صرح الإسلام عزيزاً عالياً(1).

ص: 325


1- حيث هاجم الوهابيون العتبات المقدسة في الحجاز والعراق، فإنهم بعدما اخترعوا ما اخترعوا في الدين أباحوا دماء المسلمين وتخريب قبور الأئمة المعصومين^ وباقي الصحابة، فقد أغاروا على مشهد الإمام الحسين(عليه السلام) فقتلوا الرجال والأطفال وأخذوا الأموال وعاثوا في الحضرة المقدسة فساداً وحرقاً وتخريباً، فافسدوا بنيانها وهدموا أركانها، وذلك في سنة (1216ه) ثم إنهم بعد ذلك استولوا على مكة المشرفة والمدينة المنورة وفعلوا بالبقيع ما فعلوا بكربلاء المقدسة، لكنهم لم يتمكنوا من هدم قبة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وفي سنة (1221ه) أغاروا على النجف الأشرف وأهلها في غفلة لم يكونوا يعلمون بالخطر الذي دهمهم، حتى أن بعض الوهابية صعدوا السور وكادوا يأخذون البلد، فظهرت لأمير المؤمنين(عليه السلام) المعجزات الظاهرة والكرامات الباهرة فقتل من جيشهم كثير ورجعوا خائبين. وفي سنة (1222ه) جاءوا من نجد بما يقرب من عشرين ألف مقاتل أو أكثر، فهاجموا النجف الأشرف غيلة فتحذر منهم أهل المدينة وصدوا هجومهم وتحصنوا بسور البلد، فأتوا ليلاً فرأوا الناس على حذر متأهبين بالبنادق والاطواب، فمضوا إلى الحلة وكانوا كذلك، ثم مضوا إلى مشهد الإمام الحسين(عليه السلام) غفلة فحاصروها حصاراً شديداً، فثبتوا لهم خلف السور وقتلوا منهم جماعة فرجعوا خائبين، بعد أن عاثوا في العراق فساداً وقتلاً، وقد استولوا على مكة المشرفة والمدينة المنورة فهدموا وخربوا وقتلوا من يعترض طريقهم ولايتبع ملتهم وتعطل الحاج ثلاث سنين. وذكر أن في سنة (1217ه) حضرت كتب من الحجاز إلى مصر فيها أن الوهابيين حضروا إلى الطائف فخرج إليهم (الشريف غالب) شريف مكة فهزموه فرجع إلى الطائف وأحرق داره وفر هارباً إلى مكة، وكان رئيس عسكر الوهابيين عثمان المضايفي زوج أخت الشريف وكان حصل بينهما وحشة فخرج المضايفي مع الوهابيين وطلب من سعود الوهابي أن يؤمره على العسكر الموجه لمحاربة الشريف، ففعل، فحاربوا أهل الطائف ثلاثة أيام حتى دخلوا البلدة عنوة، وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال، وهذا دأبهم مع من يحاربهم، وهدم المضايفي قبة ابن عباس الغريبة الشكل والوصف. وفي سنة (1218ه) حضر هجان إلى مصر معه كتب مؤرخة في العشرين من ذي الحجة وفيها: إن الوهابية أحاطوا ببلاد الحجاز، وأن الشريف غالب طلب من والي جدة وأمراء الحاج الشامي والمصري أن يبقوا معه أياماً لينقل ماله ومتاعه إلى جدة، فأجابوه بعد أن بذل لهم مالاً، فبقوا معه اثني عشر يوماً ثم رحلوا ورحل بعد أن احرق داره. وفي تلك السنة أيضاً وردت كتب من الحجاز إلى مصر بتاريخ منتصف المحرم وفيها أن الوهابيين استولوا على مكة في يوم عاشوراء بعد ارتحال الشريف غالب وبعد ارتحال الحاج بيومين لان الحاج تأخر بمكة ثمانية أيام زيادة على المعتاد. وحضر إلى مصر الشريف عبد اللّه بن سرور مع بعض أقاربه من شرفاء مكة واتباعهم نحواً من ستين شخصاً واخبروا أنهم خرجوا من مكة مع الحاج، وأن عبد العزيز بن سعود الوهابي دخل مكة بغير قتال وأنه هدم قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة والأبنية التي هي أعلى من الكعبة، وحضر مع الحجاج كثير من أهل مكة إلى مصر هربا من الوهابية. وفي سنة (1221ه) وردت أخبار إلى مصر بمسالمة الشريف غالب للوهابيين لما اشتد عليه الحصار، فأخذ العهد على دعاتهم بداخل الكعبة ومنع من شرب الاراكيل بالتنباك، وعاهده على أمور منها: ترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير اللّه من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وبناء القباب على القبور وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، وهدم القباب المبنية على القبور والأضرحة. وفي سنة (1222ه) ورد خبر إلى مصر برجوع الحاج الشامي من منزل هديه؛ لأن الوهابي أرسل إلى عبد اللّه باشا أمير الحاج أن يأتي بدون المحمل والطبل والزمر والأسلحة. وفي ثالث صفر من تلك السنة وصل الحجاج المغاربة إلى مصر، واخبروا أن سعود الوهابي دخل مكة بجيش كثيف، وانه هدم القباب وقبة آدم وقباب ينبع والمدينة وابطل شرب التنباك في الأسواق وغيرها. وقد طرد سعود الوهابي قاضي المدينة وجميع خدام الحرم المكي، وأنهم منعوا من زيارة المدينة المنورة، وأن الوهابي أخذ كل ما كان في الحجرة النبوية من الذخائر والجواهر؛ وعلل فعله بأنها لا ينبغي أن تكون للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لزهده في الدنيا، وأنه بعث ليكون نبياً لا ملكاً. وقيل: إن الوهابي ملأ أربعة صناديق من الجواهر المحلاة بالألماس والياقوت العظيمة القدر، ومن ذلك أربعة شمعدانات من الزمرد، ونحو مائة سيف لاتقوم قراباتها ملبسة بالذهب الخالص ومنزل عليها الماس وياقوت، ونصابها من الزمرد. انظر: (تاريخ نجد) لمحمود شكري الآلوسي، (الصواعق الإلهية في الردّ على الوهّابية) للشيخ سليمان بن عبد الوهاب، (فتنة الوهّابية) لأحمد زيني دحلان، وراجع مذكرات الجاسوس البريطاني (المستر همفر).

ص: 326

وقد جاء الوهابيون بأمر من الاستعمارً فأخذوا بتخريب هذه الأماكن المقدسة، وبدءوا يبحثون عن دليل يبرر لهم هدم تلك الآثار الشريفة في البقيع ومحو آثار النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت^ والصحابة، فلجئوا إلى الاستفتاء من بعض علماء المدينة المنورة حول حرمة البناء على القبور؛ محاولة منهم لتبرير موقفهم أمام الرأي العام الإسلامي - وخاصة في الحجاز - لأنهم كانوا يدركون جيداً أن المسلمين في الحجاز هم كالمسلمين في كل مكان، يعتقدون بكرامة أولياء اللّه وقدسيتهم والاهتمام بقبورهم وآثارهم، فحاول الوهابيون أن يلبسوا

ص: 327

جريمتهم هذه بلباس الإسلام والشرعية؛ دفعاً لنقمة المسلمين!!

ولكن علماء المسلمين حتى من أبناء العامة أفتوا بلزوم حفظ آثار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)وأهل بيته الطاهرين^ وجواز التبرك والتوسل بهم، ولكن الوهابيين استمروا في هدم الكثير من الآثار الإسلامية بما فيها المساجد وكذلك مزارات الصحابة الأخيار والعلماء الأبرار والشعراء الأتقياء، والتي يرجع تاريخها إلى مئات السنين وتعد رموزاً للحضارة الإسلامية. علماً بأن المقدسات محترمة عند جميع الناس حتى في اتفه الأشياء، وكما هو معروف بأن المسيحيين بنوا كنيسة عظيمة في المكان الذي فيه أثر لحافر حمار نبي اللّه عيسى(عليه السلام) وكل اعتقادهم بأن ذلك مبارك لانتسابه إلى عيسى(عليه السلام).

النصراني ورأس سيد الشهداء(عليه السلام)

اشارة

وقد روي عن الإمام زين العابدين(عليه السلام): «أنه لما أتي برأس الحسين(عليه السلام) إلى يزيد كان يتخذ مجالس الشراب، ويأتي برأس الحسين ويضعه بين يديه ويشرب عليه، فحضر في مجلسه ذات يوم رسول ملك الروم، وكان من أشراف الروم وعظمائهم، فقال: يا ملك العرب، هذا رأس من؟

فقال له يزيد: ما لك ولهذا الرأس؟

فقال: إني إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كل شيء رأيته، فأحببت أن أخبره بقصة هذا الرأس وصاحبه حتى يشاركك في الفرح والسرور.

فقال له يزيد: هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب^.

فقال الرومي: ومن أمه؟

فقال: فاطمة بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقال النصراني: أف لك ولدينك؛ لي دين أحسن من دينك، إن أبي من حوافد

ص: 328

داود(عليه السلام) وبيني وبينه آباء كثيرة، والنصارى يعظموني ويأخذون من تراب قدمي تبركاً بأني من حوافد داود، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما بينه وبين نبيكم إلّاأم واحدة، فأي دين دينكم؟!

ثم قال ليزيد: هل سمعت حديث كنيسة الحافر؟

فقال له: قل حتى أسمع؟

فقال: بين عمان والصين بحر مسيرة سنة، ليس فيها عمران إلّا بلدة واحدة في وسط الماء، طولها ثمانون فرسخاً في ثمانين، ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها، ومنها يحمل الكافور والياقوت، أشجارهم العود والعنبر، وهي في أيدي النصارى لا ملك لأحد من الملوك فيها سواهم، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة، أعظمها كنيسة الحافر، في محرابها حقة ذهب معلقة فيها حافر، يقولون إن هذا حافر حمار كان يركبه عيسى(عليه السلام) وقد زينوا حول الحقة بالذهب والديباج، يقصدها في كل عام عالم من النصارى، ويطوفون حولها ويقبلونها ويرفعون حوائجهم إلى اللّه تعالى، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار، يزعمون أنه حافر حمار كان يركبه عيسى نبيهم، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم!! فلا بارك اللّه تعالى فيكم، ولا في دينكم.

فقال يزيد: اقتلوا هذا النصراني؛ لئلا يفضحني في بلاده.

فلما أحس النصراني بذلك قال له: تريد أن تقتلني؟

قال: نعم.

قال: اعلم أني رأيت البارحة نبيكم في المنام يقول لي: يا نصراني، أنت من أهل الجنة، فتعجبت من كلامه! وأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم وثب إلى رأس الحسين(عليه السلام) فضمه إلى صدره، وجعل يقبله ويبكي،

ص: 329

حتىقتل»(1).

أثر الرسول

كذلك جاء في القرآن الكريم حيث يبين الباري تعالى أن التراب من تحت قدم فرس جبرائيل(عليه السلام) له الكرامة، إلّا أن السامري استغل هذه الكرامة لإغواء بني إسرائيل، فأخذ قبضة من التراب الذي كان يطأه فرس جبرائيل حيث كانت تبعث الحياة في الميت: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}(2).

كما إن التابوت أو الصندوق الذي وضع فيه نبي اللّه موسى(عليه السلام) وهو صغير وألقي في البحر، أصبح فيما بعد مبعثا للسكينة والاطمئنان في قلوب المؤمنين، قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ}(3).

روي عن أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن بني إسرائيل بعد موسى(عليه السلام) عملوا المعاصي وغيروا دين اللّه وعتوا عن أمر ربهم، وكان فيهم نبي يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه»(4).

وروي: أنه إرميا النبي(عليه السلام) فسلط اللّه عليهم جالوت وهو من القبط، فأذلهم وقتل رجالهم، وأخرجهم من ديارهم وأموالهم واستعبد نساءهم، ففزعوا إلى

ص: 330


1- بحار الأنوار 45: 141.
2- سورة طه، الآية: 96. وفي بحار الأنوار 13: 212. إن قوله تعالى: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} الآية، أي: علمت بما لم يعلموه، وفطنت بما لم يفطنوا به، وهو أن الرسول الذي جاءك به روحاني محض لا يمس أثره شيئاً إلّا أحياه، أو رأيت ما لم يروه وهو أن جبرئيل جاءك على فرس الحياة... .
3- سورة البقرة، الآية: 248.
4- تفسير القمي 1: 81.

نبيهم،وقالوا: سل اللّه أن يبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل اللّه، وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر لم يجمع اللّه لهم النبوة والملك في بيت واحد، فمن ذلك قالوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(1) فقال لهم نبيهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَٰتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَٰتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَٰرِنَا وَأَبْنَائِنَا}(2) وكان كما قال اللّه تبارك وتعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ}(3) ف- {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}(4).

فغضبوا من ذلك و{قَالُواْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ}(5) وكانت النبوة في ولد لاوي، والملك في ولد يوسف، وكان طالوت من ولد ابن يامين أخي يوسف لأمه لم يكن من بيت النبوة ولا من بيت المملكة، فقال لهم نبيهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(6) وكان أعظمهم جسماً وكان شجاعاً قوياً، وكان أعلمهم إلّا أنه كان فقيراً فعابوه بالفقر.

فقالوا: {لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ}(7) ف- {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحْمِلُهُ

ص: 331


1- سورة البقرة، الآية: 246.
2- سورة البقرة، الآية: 246.
3- سورة البقرة، الآية: 246.
4- سورة البقرة، الآية: 247.
5- سورة البقرة، الآية: 247.
6- سورة البقرة، الآية: 247.
7- سورة البقرة، الآية: 247.

الْمَلَٰئِكَةُ}(1) وكان التابوت الذي أنزله اللّه على موسى(عليه السلام)، فوضعته فيه أمه وألقته في اليم، فكان في بني إسرائيل يتبركون به، فلما حضر موسى(عليه السلام) الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوة، وأودعه يوشع وصيه، فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف ما دام التابوت عندهم، فلما عملوا بالمعاصي واستخفوا بالتابوت رفعه اللّه عنهم، فلما سألوا النبي وبعث اللّه إليهم طالوت ملكاً يقاتل معهم رد اللّه عليهم التابوت، كما قال اللّه: {إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَٰئِكَةُ}(2) قال: البقية ذرية الأنبياء وقوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}(3) فإن التابوت كان يوضع بين يدي العدو وبين المسلمين، فتخرج منه ريح طيبة لها وجه كوجه الإنسان(4).

فهل آثار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين^ ومراقدهم وقبورهم والأضرحة التي بنيت كرامة لهم ليست أماكن مقدسة، إن تراب قدم فرس جبرائيل موضع كرامة من اللّه؟ فهل تراب قبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقبور أهل البيت^ الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا ليست مواضع مقدسة؟! هذا مع ما ورد من الأدلة العقلية والنقلية العديدة الدالة على قدسية مراقدهم واستحباب زيارتها والتبرك بها، واستخلاص العبر من أصحابها.

ص: 332


1- سورة البقرة، الآية: 248.
2- سورة البقرة، الآية: 248.
3- سورة البقرة، الآية: 248.
4- بحار الأنوار 13: 438.
تواطؤ الإنجليز

عندما تسلط الاستعمار على الحجاز، أصدر أمراً لآل سعود الوهابيين بهدم قبور الأئمة الطاهرين^ وسائر قبور الأصحاب والعلماء والمؤمنين والمؤمنات بما فيهم زوجات النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمهات المؤمنين، فان أعداء الإسلام يعلمون أن هذه القبور الطاهرة خصوصاً قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأهل بيته الأطهار^ محل تجمع المسلمين، وباعث كبير يدعوهم إلى تذكر قادتهم الأطهار والسير على منهجهم القويم، كما يذكرهم بأمجاد المسلمين وتضحياتهم في صدر الإسلام، فإن الأعداء يعلمون أنه طالما بقيت هذه المراقد عامرة لايمكن إخضاع المسلمين بالشكل الذي يطمعون فيه؛ ولذلك عمدوا إلى الإيعاز لعملائهم بهدم تلك الأضرحة المباركة لأجل فصل المسلمين عن تراثهم وماضيهم المجيد، وخاصة تلك الآثار الموجودة في الحجاز؛ وذلك لكي يتمكنوا من تطبيق قانون (فرق - تسد) بين المسلمين بكل سهولة، حيث أخذوا يتهمون المسلمين بالكفر والزندقة.

قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

بعد أن نفذ عبد العزيز آل سعود أمر أسياده الإنجليز بهدم قبور أهل البيت^ أراد أن يهدم قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً، ولكن رأى المستعمرون أنه لو تم هدم قبر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيثور جميع المسلمين في العالم ضد مصالحهم، وهذا ما لا يحمد عقباه؛ وذلك بسبب التظاهرات والاحتجاجات الصاخبة التي اندلعت هنا وهناك في البلاد الإسلامية وبالأخص في مصر والهند، فخاف الإنجليز على مصالحهم في هذه البلدان أن تتعرض إلى الخطر. فأرسلوا السفير البريطاني لعبد العزيز لإبلاغه أمر الحكومة البريطانية بعدم هدم قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن عبد العزيز قال للسفير: نحن قلنا بأن هذه القبور

ص: 333

بدع وشرك باللّه، فكيف نبقي قبرالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وماذا نقول للناس إذا اعترضوا؟

فقال السفير البريطاني: الأمر بسيط، أعلن للناس بأنك رأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المنام وقال: ليس من الصلاح أن تهدم قبري، فاتركه على حاله، ولهذا انصرفت عن هدمه!

وفعلاً قام عبد العزيز بهذا العمل؛ ولهذا ترى قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الآن باقياً دون أن يهدم، أما مراقد الأئمة الأطهار^ في البقيع وسائر قبور الأولياء والصالحين فقد هدمت ولم يبق منها إلّا الآثار البسيطة فقط(1).

ص: 334


1- تشير المصادر التاريخية إلى أن أول من دفن في تلك البقعة الطاهرة - وكانت بستاناً يحوي أشجاراً من العوسج - هو الصحابي عثمان بن مظعون حيث شارك الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه الشريفة في دفنه في ذلك البستان، ثم دفن إلى جانبه إبراهيم بن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورغب المسلمون فيها وقطعوا الأشجار ليستخدموا المكان للدفن، وقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستغفر لأهل البقيع ويقول: «اللّهم اغفر لأهل بقيع الغرقد». أما أهم المدفونين في البقيع فهم: السيدة فاطمة الزهراء - على رواية - الإمام الحسن بن علي، والإمام علي بن الحسين، والإمام محمد الباقر، والإمام جعفر الصادق، وفاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين، وبنات النبي زينب ورقية وأم كلثوم (صلوات اللّه عليهم)، ولكثرة ما في مكة والمدينة من الآثار الدينية والشواهد التاريخية الإسلامية فقد كانتا من أكثر المدن تعرضاً لهجمات الهدم والتخريب والاعتداء على الأعتاب الشريفة من قبل الوهابية، وهذا ما أدمى قلوب المسلمين وهم يرون هذا التخريب لآثار عظيمة من تأريخهم وماضيهم المجيد خصوصاً آثار الرسول وأهل البيت^ والصحابة الأخيار. وكان عام (1220ه) تاريخ أول هدم لقبور أهل البيت^، ولكن المسلمين أعادوا بناءها على يد العثمانيين بعد سقوط دولة آل سعود الأولى. وعاود الوهابيون هجومهم على المدينة المنورة مرة أخرى في عام (1344ه) - وقيل عام (1343ه) وذلك بعد قيام دولتهم الثالثة، وأيضاً عادوا لسيرتهم بتهديم المشاهد المقدسة للائمة الأطهار وأهل البيت^ بعد تعريضها للإهانة والتحقير بفتوى من وعاظهم. ولم يكتف الوهابيون بتلك الجرائم بل حاولوا مراراً هدم قبة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلّا أنهم غيروا رأيهم؛ وذلك بسبب الخوف من حدوث ردود فعل من المسلمين في كل العالم. واصبح البقيع قاعاً صفصفاً بعد أن كان مزاراً مهيباً ومهوى لأفئدة المسلمين المحبين لأهل البيت^ أصبح مزبلة لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلاً عن أن تعرف صاحبه. وقد وصف أحد السياح الغربيين البقيع بعد الهدم فقال: تبدو مقبرة البقيع حقيرة جداً لا تليق بقدسية الشخصيات المدفونة فيها. وقد تكون أقذر واتعس من أية مقبرة موجودة في المدن الشرقية الأخرى التي تضاهي المدينة المنورة في حجمها، فهي تخلو من أي قبر مشيد تشييداً مناسباً، وتنتشر القبور فيها وهي أكوام غير منتظمة من التراب. يحد كل منها عدد من الأحجار الموضوعة فوقها، ويعزي تخريب المقبرة إلى الوهابيين. إلى أن قال: فالموقع بأجمعه عبارة عن أكوام من التراب المبعثر، وحفر عريضة ومزابل! أما جبل أحد فيقول عنه:أنه وجد المسجد الذي شيد حول قبر حمزة (رضوان اللّه عليه) وغيره من شهداء أحد، مثل مصعب بن عمير وجعفر بن شماس وعبد اللّه بن جحش قد هدمه الوهابيون، وعلى مسافة وجد قبور اثني عشر صحابياً من شهداء أحد وقد خرب الوهابيون قبورهم وعبثوا بها. وكانت فاجعة هدم البقيع الثانية أعظم وأجل من الأولى؛ فقد هوجم الوهابيين من قبل الجيش العثماني إثر عملية التخريب والاعتداء على مقدسات المسلمين الأولى، وتعرضوا لهزيمة منكرة قصمت ظهورهم، فقام المسلمون بإعادة بناء تلك القباب والمساجد الشريفة وبشكل فني رائع أجمل من السابق، وعادت هذه القبور المقدسة محط رحال المؤمنين، أما بعد واقعة التهديم الثانية ما زالت القبور الطاهرة مهدمة حتى الآن. وقد وصف المدينة بعد تعميرها - بعد الهدم الأول - أحد الرحالة الإنجليز فقال: بأنها تشبه استانبول أو أية مدينة أخرى من المدن الجميلة في العالم، وكان هذا في عام (1877-1878م) وذلك قبل تعرض المدينة المباركة لمحنتها الثانية. ويصف رحالة آخر البقيع والمدينة بعد جريمة الهدم الثانية فقال: لقد هدمت واختفت عن الأنظار القباب البيضاء التي كانت تدل على قبور آل البيت النبوي... وأصاب القبور الأخرى نفس المصير فسحقت وهشمت. راجع مذكرات المستر همفر الجاسوس البريطاني، وكتاب (الوهابية نقد وتحليل) لهمايون همتي وغيرها.

وظيفتنا إزاء مدينة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

يلزم على المسلمين أن يهتموا بمدينة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل اهتمام، وينبغي مراعاة الأمور التالية:

أولاً: لا بد من السعي الجاد والمثمر من أجل أن نجعل المدينة المنورة التي

ص: 335

تضم في أحضانها خير خلق اللّه عزّ وجلّ وخاتم أنبيائه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، مدينة عالمية لجميع المسلمين من دون أن يسيطر عليها الوهابيون وهم زمرة قليلة تكفّر جميع المسلمين، فإنه يلزم أن تشع المدينة المنورة بنورها إلى كل نقطة من نقاط العالم؛ لأن هناك مليار ونصف المليار من المسلمين في العالم(1)، وهم يعتقدون ويؤمنون كل الإيمان بهذا النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكل يوم يرددون اسمه الشريف على المآذن بكل إجلال واحترام.

إذن، فبأي حق تأتي جماعة يسمون أنفسهم بالوهابية لتتسلط على بلد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحكم فيها كيف ما تشاء؟! وبأي عنوان تصدر أحكاماً بين فترة وأخرى تمنع المسلمين من زيارة مكة والمدينة لأداء مناسك الحج والعمرة، أو تقلص من عددهم؟ بينما في العصور المتقدمة كان المسلمون يذهبون إلى الديار المقدسة في الحجاز متى شاؤوا، بلا منع أو حظر أو تحديد عدد، ومن دون حاجة إلى تأشيرة أو دفع ضريبة باسم (صك المطوف) أو ما أشبه؟!(2)

ثانياً: يلزم السعي لإحياء جميع الآثار الإسلامية في هذه البقعة الشريفة والتي قام الاستعمار بهدمها وخاصة آثار النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين^ وقبورهم الشريفة، وقد كان العلماء والفقهاء يهتمون وعلى مر التاريخ بحفظ وترميم هذه الآثار المقدسة، فقد توجه مجموعة من العلماء إلى المدينة وأخذوا بتثبيت وترميم سبعة وأربعين مسجداً بناها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهكذا بقية الآثار التي تركها خصوصاً مسجده الشريف وبيته وبيت الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام).

ص: 336


1- تبلغ نفوس المسلمين حسب الإحصاءات الأخيرة: ملياري نسمة.
2- روي أن عدد الحجاج بلغ ما يزيد على أربعة ملايين نسمة، وذلك في زمان الإمام زين العابدين(عليه السلام). انظر: كتاب (ليحج خمسون مليوناً كل عام) للإمام الراحل(رحمه اللّه).

وهكذا يجب علينا أن نسعى لأجل أن نعمر أيضاً قبور الشهداء في أحد وسائرالشهداء الآخرين، فإذا ما أعدنا ترميم مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهكذا محل سكناه، وأرجعنا سائر الآثار الإسلامية الأخرى إلى حالتها الأولى وترميمها بشكل يناسب مقامها فسوف نكون قد قمنا بخطوة في سبيل مهمة الدعوة إلى الإسلام؛ وذلك بصورة عملية واضحة وهادئة، قد تضمن لنا دخول الكثير من أبناء هذه المعمورة الاهتداء إلى الإسلام الحنيف.

لذا يجب علينا أن نسعى جادين للقيام بهذا الهدف السامي والنبيل لنحصل على مرضاة اللّه تعالى ورسوله والأئمة الأطهار^ فإن ذلك من تعظيم شعائر اللّه أولاً، كما قال تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(1)، ولأن في ذلك إحياءً لمعالم الإسلام وتراثه الحضاري العظيم الذي يعتبر وبحق رمزاً لعزة المسلمين ثانياً.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

دعوة الإسلام

قال تعالى: {يَٰقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٖ}(3).

ص: 337


1- سورة الحج، الآية: 32.
2- الكافي 3: 422.
3- سورة الأحقاف، الآية: 31.

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَايُحْيِيكُمْ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(2).

وقال تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(3).

صفات الأنبياء والرسل^

قال جلّ وعلا: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}(4).

وقال تبارك وتعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}(5).

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَايِٕ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}(6).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(7).

ص: 338


1- سورة الأنفال، الآية: 24.
2- سورة يونس، الآية: 25.
3- سورة فصلت، الآية: 33.
4- سورة النساء، الآية: 165.
5- سورة الأعراف، الآية: 68.
6- سورة الشورى، الآية: 51.
7- سورة الأحزاب، الآية: 45-46.
بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال عزّ وجلّ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(1).

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2).

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}(3).

بيوت اللّه جلّ جلاله

قال عزّ وجلّ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِۧمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَٰكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ}(5).

وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا أُوْلَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(6).

ص: 339


1- سورة التوبة، الآية: 128.
2- سورة الجمعة، الآية: 2.
3- سورة الكهف، الآية: 110.
4- سورة البقرة، الآية: 125.
5- سورة التوبة، الآية: 18.
6- سورة البقرة، الآية: 114.

من هدي السنّة المطهّرة

معالم الإسلام

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شعار المسلمين على الصراط يوم القيامة: لا إله إلا اللّهوعلى اللّه فليتوكل المتوكلون»(1).

أولوا العزم؟

قال علي بن الحسين(عليهما السلام): «من أحب أن يصافحه مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، فليزر قبر أبي عبد اللّه الحسين بن علي(عليهما السلام) في النصف من شعبان؛ فإن أرواح النبيين يستأذنون اللّه في زيارته، فيؤذن لهم، منهم خمسة أولوا العزم من الرسل» قلنا: من هم؟ قال: «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى اللّه عليهم أجمعين».

قلنا له: ما معنى أولي العزم؟

قال(عليه السلام): «بعثوا إلى شرق الأرض وغربها جنها وإنسها»(2).

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «سادة النبيين والمرسلين خمسة وهم أولوا العزم من الرسل، وعليهم دارت الرحى: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى اللّه عليه وآله وعلى جميع الأنبياء»(3).

النبي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء^

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنا خاتم النبيين، وعلي خاتم الوصيين»(4).

ص: 340


1- بحار الأنوار 90: 204.
2- كامل الزيارات: 179.
3- الكافي 1: 175.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 74.

وقال أبو جعفر الباقر(عليهما السلام): «لما حضر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الوفاة نزل جبرئيل(عليه السلام) فقال له جبرئيل: يا رسول اللّه، هل لك في الرجوع؟

قال: لا؛ قد بلغت رسالات ربي.

ثم قال له: يا رسول اللّه، أ تريد الرجوع إلى الدنيا؟

قال: لا بل الرفيق الأعلى، ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للمسلمين وهم مجتمعون حوله: أيها الناس، إنه لا نبي بعدي ولا سنة بعد سنتي، فمن ادعى ذلك فدعواه وبدعته في النار، ومن ادعى ذلك فاقتلوه ومن اتبعه؛ فإنهم في النار، أيها الناس، أحيوا القصاص وأحيوا الحق ولا تفرقوا وأسلموا وسلموا تسلموا {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}»(1)(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إلى أن بعث اللّه سبحانه محمداً رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لإنجاز عدته(3)، وإتمام نبوته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة، بين مشبه للّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشيرٍ إلى غيره، فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة، ثم اختار سبحانه لمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لقاءه ورضي له ما عنده، وأكرمه عن دار الدنيا، ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه إليه كريماً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخلف فيكم ما خلَّفت الأنبياء في أممها؛ إذ لم يتركوهم هملاً بغير طريق واضح، ولا علم قائم»(4).

ص: 341


1- سورة المجادلة، الآية: 21.
2- أمالي الشيخ المفيد: 53.
3- الضمير في «عدته» للّه تعالى، والمراد وعد اللّه بإرسال محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على لسان أنبيائه السابقين^.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر مبعث النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزَّ ذكره ختم بنبيكم النبيين فلا نبي بعده أبداً، وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبداً»(1).

زيارة قبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقبور الأئمة المعصومين^

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة»(2).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام) لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبتاه، ما لمن زارك؟».

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا بني، من زارني حياً أو ميتاً، أو زار أباك، أو زار أخاك، أو زارك، كان حقاً عليّ أن أزوره يوم القيامة وأخلصه من ذنوبه»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من أتى مكة حاجاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن أتاني زائراً وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة، ومن مات في أحد الحرمين مكة والمدينة لم يعرض ولم يحاسب، ومن مات مهاجراً إلى اللّه عزّ وجلّ حشر يوم القيامة مع أصحاب بدر»(4).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم»(5).

وعن يحيى بن يسار قال: حججنا فمررنا بأبي عبد اللّه(عليه السلام) فقال: «حاج بيت اللّه، وزوار قبر نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وشيعة آل محمد، هنيئاً لكم»(6).

ص: 342


1- الكافي 1: 269.
2- الكافي 4: 548.
3- الكافي 4: 548.
4- الكافي 4: 548.
5- وسائل الشيعة 4: 549.
6- الكافي 4: 549.

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فائت المنبر فامسحه بيدك، وخذ برمانتيه وهما السُفلاوان فامسح عينيك ووجهك به؛ فإنه يقال: إنه شفاء العين، وقم عنده فاحمد اللّه وأثن عليه وسل حاجتك؛ فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: ما بين منبري وبيتي روضةٌ من رياض الجنة، ومنبري على ترعة منترع الجنة، والترعة هي الباب الصغير، ثم تأتي مقام النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتصلي فيه ما بدا لك، فإذا دخلت المسجد فصل على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإذا خرجت فاصنع مثل ذلك، وأكثر من الصلاة في مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لما كان سنة إحدى و أربعين أراد معاوية الحج، فأرسل نجاراً وأرسل بالآلة وكتب إلى صاحب المدينة: أن يقلع منبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويجعلوه على قدر منبره بالشام، فلما نهضوا ليقلعوه انكسفت الشمس وزلزلت الأرض، فكفوا وكتبوا بذلك إلى معاوية»(2).

وعن أبي وهب القصري قال: دخلت المدينة، فأتيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك أتيتك ولم أزر قبر أمير المؤمنين(عليه السلام)؟

فقال: «بئس ما صنعت، لولا أنك من شيعتنا ما نظرت إليك؛ ألا تزور من يزوره اللّه تعالى مع الملائكة، ويزوره الأنبياء ويزوره المؤمنون؟!».

قلت: جعلت فداك، ماعلمت ذلك.

قال: «فاعلم، أن أمير المؤمنين(عليه السلام) عند اللّه أفضل من الأئمة كلهم، وله ثواب أعمالهم، وعلى قدر أعمالهم فُضِّلوا»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «من زار أمير المؤمنين(عليه السلام) ماشياً كتب اللّه له

ص: 343


1- الكافي 4: 553.
2- الكافي 4: 554.
3- الكافي 4: 580.

بكل خطوة حجةً و عمرةً، فإن رجع ماشياً كتب اللّه له بكل خطوة حجتين وعمرتين»(1).

وعن عمر بن عبد اللّه بن طلحة النهدي عن أبيه قال: دخلت على أبي عبداللّه(عليه السلام)، فقال: «يا عبد اللّه بن طلحة، أما تزور قبر أبي الحسين(عليه السلام)؟».

قلت: بلى، إنا لنأتيه.

قال: «تأتونه كل جمعة؟».

قلت: لا.

قال: «تأتونه في كل شهر؟».

قلت: لا.

قال: «ما أجفاكم، إن زيارته تعدل حجة وعمرة، وزيارة أبي عليٍّ(عليه السلام) تعدل حجتين وعمرتين»(2).

وذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) عند جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) فقال ابن مارد لأبي عبد اللّه(عليه السلام): ما لمن زار جدك أمير المؤمنين(عليه السلام)؟

فقال: «يا ابن مارد، من زار جدي عارفاً بحقه كتب اللّه له بكل خطوة حجة مقبولة وعمرة مبرورة، واللّه يا ابن مارد، ما يطعم اللّه النار قدماً اغبرت في زيارة أمير المؤمنين(عليه السلام) ماشياً كان أو راكباً، يا ابن مارد، اكتب هذا الحديث بماء الذهب»(3).

وعن عمارة بن زيد عن أبي عامر الساجي واعظ أهل الحجاز قال: أتيت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد(عليهما السلام) فقلت له: يا ابن رسول اللّه، ما لمن زار قبره - يعني

ص: 344


1- تهذيب الأحكام 6: 20.
2- تهذيب الأحكام 6: 21.
3- تهذيب الأحكام 6: 21.

أمير المؤمنين - وعمّر تربته؟

قال: «يا أبا عامر، حدثني أبي عن أبيه عن جده الحسين بن علي عن علي^: إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال له: واللّه، لتقتلن بأرض العراق وتدفن بها، قلت: يا رسول اللّه، مالمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها؟

فقال لي: يا أبا الحسن، إن اللّه جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنة وعرصةً من عرصاتها، وإن اللّه جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحن إليكم، وتحتمل المذلة والأذى فيكم، فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها؛ تقرباً منهم إلى اللّه، مودةً منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنة. يا علي، من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك له ثواب سبعين حجةً بعد حجة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه، فأبشر وبشر أولياءك ومحبيك، من النعيم وقرة العين بما لا عينٌ رأت ولاأذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكن حثالةً من الناس يعيِّرون زوار قبوركم بزيارتكم كما تعيَّر الزانية بزناها، أولئك شرار أمتي، لا نالتهم شفاعتي ولا يردون حوضي»(1).

وعن المفضل بن عمر الجعفي قال: دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فقلت له: إني أشتاق إلى الغري؟

فقال: «فما شوقك إليه؟».

فقلت له: إني أحب أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأحب أن أزوره.

قال: «فهل تعرف فضل زيارته؟».

ص: 345


1- تهذيب الأحكام 6: 22.

فقلت: لا يا ابن رسول اللّه، إلّا فعرفني ذلك.

قال: «إذا أردت زيارة أمير المؤمنين(عليه السلام) فاعلم أنك زائر عظام آدم، وبدن نوح، وجسم علي بن أبي طالب(عليه السلام)».

قلت: إن آدم(عليه السلام) هبط بسرنديب في مطلع الشمس، وزعموا أن عظامه في بيت اللّه الحرام، فكيف صارت عظامه بالكوفة؟

قال: «إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى نوح(عليه السلام) وهو في السفينة: أن يطوف بالبيت أسبوعاً، فطاف كما أوحى اللّه إليه، ثم نزل في الماء إلى ركبتيه فاستخرج تابوتاً فيه عظام آدم(عليه السلام)، فحمله في جوف السفينة حتى طاف بالبيت ما شاء اللّه تعالى أن يطوف، ثم ورد إلى باب الكوفة في وسط مسجدها، ففيها قال اللّه للأرض: {ابْلَعِي مَاءَكِ}(1) فبلعت ماءها من مسجد الكوفة كما بدأ الماء من مسجدها وتفرق الجمع الذي كان مع نوح في السفينة، فأخذ نوح التابوت فدفنه في الغري، وهو قطعة من الجبل الذي كلم اللّه عليه موسى تكليماً، و قدس عليه عيسى تقديساً، واتخذ عليه إبراهيم خليلاً، واتخذ عليه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حبيباً، وجعله للنبيين مسكناً، واللّه ما سكن فيه بعد آبائه الطاهرين آدم ونوح أكرم من أمير المؤمنين(عليه السلام)، فإذا زرت جانب النجف فزر عظام آدم وبدن نوح وجسم علي بن أبي طالب(عليه السلام) فإنك زائرٌ الآباء الأولين ومحمداً خاتم النبيين وعلياً سيد الوصيين، فإن زائره تفتح له أبواب السماء عند دعوته، فلا تكن عن الخير نوّاماً»(2).

وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: كنا عند الرضا(عليه السلام) والمجلس غاص

ص: 346


1- سورة هود، الآية: 44.
2- كامل الزيارات: 38.

بأهله، فتذاكروا يوم الغدير، فأنكره بعض الناس، فقال الرضا(عليه السلام): «حدثني أبي عن أبيه(عليهما السلام) قال: إن يوم الغدير في السماء أشهر منه في الأرض، إن للّه في الفردوس الأعلى قصراً لبنةٌ من فضة ولبنةٌ من ذهب، فيه مائة ألف قبة من ياقوتة حمراء ومائة ألف خيمة من ياقوت أخضر ترابه المسك والعنبر، فيه أربعة أنهار: نهر منخمر، ونهر من ماء، ونهر من لبن، ونهر من عسل، وحواليه أشجار جميع الفواكه، عليه طيور أبدانها من لؤلؤ وأجنحتها من ياقوت تصوت بألوان الأصوات، إذا كان يوم الغدير ورد إلى ذلك القصر أهل السماوات، يسبحون اللّه ويقدسونه ويهللونه، فتطاير تلك الطيور، فتقع في ذلك الماء وتتمرغ على ذلك المسك والعنبر، فإذا اجتمعت الملائكة طارت، فتنفض ذلك عليهم، وإنهم في ذلك اليوم ليتهادون نثار فاطمة(عليها السلام)، فإذا كان آخر ذلك اليوم نودوا: انصرفوا إلى مراتبكم، فقد أمنتم من الخطأ والزلل إلى قابل في مثل هذا اليوم، تكرمةً لمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام).

ثم قال: «يا ابن أبي نصر، أين ما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين(عليه السلام) فإن اللّه يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنةً، ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر، والدرهم فيه بألف درهم لإخوانك العارفين، فأفضل على إخوانك في هذا اليوم، وسُرَّ فيه كل مؤمن ومؤمنة».

ثم قال: «يا أهل الكوفة، لقد أعطيتم خيراً كثيراً، وإنكم لممن امتحن اللّه قلبه للإيمان، مستقلون مقهورون ممتحنون، يصب عليكم البلاء صباً، ثم يكشفه كاشف الكرب العظيم، واللّه لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات، لولا أني أكره التطويل لذكرت من فضل هذا

ص: 347

اليوم، وما أعطى اللّه فيه من عرفه ما لا يحصى بعدد»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما بين قبري ومنبري روضة منرياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة؛ لأن قبر فاطمة(عليها السلام)(2) بين قبره ومنبره، وقبرها روضة من رياض الجنة، وإليه ترعة من ترع الجنة»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من زار الحسن في بقيعه ثبت قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ومن زار الحسين(عليه السلام) عارفاً بحقه كتب اللّه له ثواب ألف حجة مقبولة، وألف عمرة مقبولة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»(5).

عن عبد الرحمن بن مسلم قال: دخلت على الكاظم(عليه السلام) فقلت له: أيما

ص: 348


1- تهذيب الأحكام 6: 24.
2- لا يخفى أن الروايات في قبر السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) مختلفة والقبر الشريف مجهول مكانه ليبقى دليلاً على مظلوميتها(عليها السلام). وقال العلامة المجلسي (رضوان اللّه عليه): وقبر عقيل بن أبي طالب ومعه في القبر ابن أخيه عبد اللّه الجواد بن جعفر الطيار، وقريب من قبة عقيل بقعة فيها زوجات النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقبر صفية بنت عبد المطلب عمة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على يسار الخارج من البقيع وفي طرف القبلة من البقعة قبر متصل بجدار البقعة عليه ضريح والعامة يعتقدون أنه قبر الزهراء(عليها السلام) وأن قبر فاطمة بنت أسد هو الواقع في زاوية المقبرة العمومية للبقيع في الطرف الشمالي من قبة عثمان وهو اشتباه؛ فإن من المحقق أن قبر فاطمة الزهراء(عليها السلام) إما في بيتها أو في الروضة النبوية على مشرفها آلاف الثناء والتحية، وأن القبر الواقع في الطرف القبلي من البقعة هو قبر فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين(عليه السلام) كما في بعض الأخبار، أن الأئمة^ الأربعة نزلوا إلى جوار جدتهم فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وأن القبر الواقع في المقبرة العمومية هو مشهد سعد بن معاذ الأشهلي أحد أصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما ذكره في تلخيص معالم الهجرة. و ممن عين قبر فاطمة بنت أسد حيث ما ذكرنا السيد علي السمهودي في (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى) بحار الأنوار 48: 298.
3- معاني الأخبار: 267.
4- بحار الأنوار 97: 141.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 215.

أفضل، زيارة الحسين بن علي، أو أمير المؤمنين^، أو لفلان و فلان، وسميت الأئمة واحداً واحداً؟

فقال لي: «يا عبد الرحمن، من زار أولنا فقد زار آخرنا، ومن زار آخرنا فقد زار أولنا، ومن تولى أولنا فقد تولى آخرنا، ومن تولى آخرنا فقد تولنا أولنا، ومن قضى حاجة لأحد من أوليائنا فكأنما قضاها لأجمعنا. يا عبد الرحمن، أحبنا وأحب من يحبنا وأحب فينا وأحبب لنا، وتولنا وتول من يتولانا وأبغض من يبغضنا، ألا وإن الراد علينا كالراد على رسول اللّه جدنا، ومن رد على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد رد على اللّه، ألا يا عبد الرحمن، ومن أبغضنا فقد أبغض محمداً ومن أبغض محمداً فقد أبغض اللّه ومن أبغض اللّه عزّ وجلّ كان حقاً على اللّه أن يصليه النار و ما له من نصير»(1).

المساجد المشرفة

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا تدع إتيان المشاهد كلها: مسجد قباء، فإنه المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، ومشربة أم إبراهيم، ومسجد الفضيخ، وقبور الشهداء، ومسجد الأحزاب وهو مسجد الفتح - قال - وبلغنا أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إذا أتى قبور الشهداء قال: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، وليكن فيما تقول عند مسجد الفتح: يا صريخ المكروبين ويا مجيب دعوة المضطرين، اكشف همي وغمي وكربي كما كشفت عن نبيك همه وغمه وكربه وكفيته هول عدوه في هذا المكان»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «مسجد الكوفة صلى فيه سبعون نبياً وسبعون

ص: 349


1- كامل الزيارات: 335.
2- الكافي 4: 560.

وصياً أنا أحدهم»(1).وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن مسجد الكوفة بيت نوح(عليه السلام) لو دخله رجل مائة مرة لكتب اللّه له مائة مغفرة؛ لأن فيه دعوة نوح(عليه السلام) حيث قال: {رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا}(2)(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «بالكوفة مسجد يقال له: مسجد السهلة، لو أن عمي زيداً أتاه فصلى فيه واستجار اللّه لأجاره عشرين سنة، فيه مناخ الراكب، وبيت إدريس النبي(عليه السلام)، وما أتاه مكروب قط فصلى فيه بين العشائين ودعا اللّه إلّا فرج اللّه كربته»(4).

ص: 350


1- بحار الأنوار 11: 57.
2- سورة نوح، الآية: 28.
3- بحار الأنوار 97: 262.
4- الكافي 3: 495.

إعداد الأجيال

التربية وأدواتها

قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَئًْا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَٰرَ وَالْأَفِْٔدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(1).

يعدد الباري تبارك وتعالى في هذه الآية الشريفة جملة من نعمه عزّ وجلّ على الإنسان، فإن قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم} يعني: أيها البشر {مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ} فمن يا ترى يقدر على هذا الإخراج بالأجهزة واللوازم الطبيعية التي جعلها في داخل الرحم إلى فم المخرج {لَا تَعْلَمُونَ شَئًْا} فإن الإنسان جاهل محض عند الولادة {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَٰرَ وَالْأَفِْٔدَةَ} (السمع) يراد به الجنس، والاختلاف بين الألفاظ بالجمع والمفرد للتفنن، و(الأفئدة) جمع فؤاد وهو القلب، أي: إنه تفضل عليكم بالحواس لتستقوا بها المعلومات وبالقلب لتعوا به الأشياء، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لكي تشكروا نعمه سبحانه(2).

وهذه الآية تبين للإنسان ما أنعم اللّه عليه من آلات تحصيل العلم بعد أن لم يكن يعلم شيئا، فرزقه اللّه السمع والبصر والفؤاد ولولاها لما تمكن الإنسان من تحصيل العلم أبداً، كما هو واضح.

ص: 351


1- سورة النحل، الآية: 78.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 245.

التربية والتعليم في الإسلام

إن الأمم إذا أرادت أن تتقدم وتزدهر وتبلغ أهدافها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فلا بدّ لها أن تهتم بالأجيال القادمة، فتقوم بتربية وتنشئة جيل صحيح قوي، مهيأ لتحمل مسؤلية قيادة الأمة وتسلمها من الآباء، فعلى الوالدين وغيرهم - من المسؤولين، من العلماء والحكام - أن يوفروا لأبنائهم مناهج التربية الصحيحة، ويهيّؤوا لهم وسائل تقدمهم وبناء شخصيتهم ومستقبلهم، أما الأمم التي لا تهتم بتربية وتنشئة أجيالها فلا توفر لأبنائها مثل هذه الأجواء الصحيحة والهادفة، فليس لها إلّا أن تتخلف عن مواكبة الأمم المتقدمة.

الآية الكريمة تشير إلى أن العلم والأدب من الأمور الكسبية التي يمكن أن يحصل عليها الإنسان في حياته عن طريق السمع والبصر والفؤاد.

فإن ما يحصل عليه الإنسان من أدب وحكمة، وعلم وحلم، إنما هو عبر ما يتعلمه ويتلقاه عن طريق سمعه وبصره وفؤاده؛ وعبر التعليم والتجربة وما أشبه، فتكوين الشخصية الاجتماعية والنفسية - في الغالب - ليس إرثاً ينتقل من الآباء إلى الأبناء، وإنما هو ناشيء عن طريق التعليم والتربية، وإن كان لعامل الوراثة التأثير المهم أيضاً.

ومن هنا يعلم ضرورة التربية للفرد، كما هي ضرورية للمجتمع، إذ أن تربية الأبناء تبدأ من خلال الأسرة، وتستمر في أجواء المجمتع - في المدرسة والسوق والتجمعات الاجتماعية وما أشبه - مما يعلم أن لكل من الأسرة والمجتمع الأثر العميق على المدى القريب والبعيد في تحديد ملامح شخصية الإنسان، لأن الإنسان يستند إليها في سنه المبكر ويعتمد عليها في شبابه وكبره، مضافاً إلى ما قد تلقاه من تعليم في صغره، وما سوف يحصل عليه من تجارب وعلوم في

ص: 352

مستقبله.

الاهتمام بالتربية

إن من أبرز المسائل التي حازت على أهمية خاصة في الدين الإسلامي هي التربية الصحيحة في كل جوانبها والاهتمام بها؛ وذلك لما لها من أثر عميق في صقل النفس الإنسانية ورفع مستواها المعنوي، وانقاذها من مزالق الشيطان ومرديات الهوى، وكذلك في إصلاح المجتمع وسوقها نحو الخير والفضيلة والمحبة والإنسانية. فالنفس متى ما تقدمت ونمت بالإتجاه الصحيح، فلن يجد الشيطان سبيلاً للتسلل إليها؛ وإذا قال الإنسان المسلم: (أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم) فإن كلامه هذا إنما يفيده فائدة تامة إذا كان قد ربى نفسه من جهة على مقاومة إغواء الشيطان ومجانبة تسويل النفس ومخالفة وساوس الهوى، ومن جهة ثانية على إطاعة اللّه وإطاعة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين^.

يقول تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَٰنٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(1)، فاللّه تبارك وتعالى أمر عباده بتهذيب أنفسهم، والتوكل على ربهم، وأن يتحصنوا من كيد الشيطان بصدق النية، والتوجه الصحيح إلى اللّه تعالى، وإلى رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإلى الأئمة المعصومين^، حتى لا يجعلوا مدخلاً للشيطان إلى أنفسهم.

ولا يكون هذا إلّا بالتربية الصحيحة، من هنا إذا أردنا مجتمعاً صالحاً علينا أن نقوم بإعداد الأجيال وتربيتها تربية شرعية صحيحة.

هذا ولا يخفى، أن تأثير التربية على سلوك الإنسان يشبه إلى حد كبير توفير

ص: 353


1- سورة النحل، الآية: 99-100.

التربة الصالحة والظروف الملائمة لنمو النبات ورشده، وثمره وينعه. وعليه:فالاهتمام بالتربية، يعني: توفير مستلزمات التوجه الصحيح، وتهيئة البيئة الصالحة لنشوء الأفراد الصادقين والصالحين.

التربية وأبعادها الثلاثة

اشارة

لقد رسم القرآن الحكيم للتربية ثلاثة أبعاد:

1- البعد الفردي. 2- البعد الأُسري. 3- البعد الاجتماعي.

يعني: إنه لم يحصر وجوب التربية على تربية الفرد لنفسه وتهذيبها فقط، وإنما أوجب عليه أن يقوم أيضا بتربية أسرته، وبتربية مجتمعه بل سائر المجتمعات بحسب الإمكان، على ما ذكره الفقهاء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويمكن أن نلمس ذلك بوضوح من خلال الآيات الكريمة التالية:

البعد الأول

بالنسبة إلى البعد الأول فقد قال اللّه تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}(1) وهذه الآية الكريمة توجب على الإنسان تربية نفسه، فإن (عليك) اسم فعل بمعنى: الزم واحفظ، أي: احفظوا {أَنفُسَكُمْ} عن الضلال والانحراف.

رُوي أن ثعلبة الخشني سأل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن هذه الآية: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(2) فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر، واصبر على ما أصابك، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً،

ص: 354


1- سورة المائدة، الآية: 105.
2- سورة المائدة، الآية: 105.

وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع أمر العامة»(1).

البعد الثاني
اشارة

أما بالنسبة إلى البعد الثاني (تربية الأسرة) فقد قال اللّه سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَٰئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(2) حيث توجب هذه الآية الكريمة على الإنسان بَعد تربية نفسه أن يربي أسرته.

فإن قوله تعالى: {قُواْ} أمر للجمع المذكر، من (وقى) بمعنى: حفظ، أي احفظوا {أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} وهم عائلة الإنسان من أولاده وزوجته وإخوته ومن شابههم {نَارًا} عن نار جهنم التي هي بهذه الصفة: {وَقُودُهَا} أي حطبها الموجب لإيقادها وإشعالها {النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وهما يزيدان في قوة النار لدسومة الأول وصلابة الثاني {عَلَيْهَا} أي: المأمورون على تلك النار {مَلَٰئِكَةٌ} جمع ملك، وأصله من الألوكة، بمعنى الرسالة؛ لأن الملائكة رسل من قبله سبحانه إلى الأنبياء^ {غِلَاظٌ} جمع غليظ، وكأن المراد غليظ القلب فلا يرحم أحداً {شِدَادٌ} جمع شديد، وكأن المراد شديد البنية والقوة، فما أراد تمكن منه {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} من عذاب أهل النار، فلا يرتشون ولايميلون نحو الكفار مخالفة للّه سبحانه {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} من قبل اللّه سبحانه، وهذا تأكيد لما سبق بأنهم لا يعصون(3).

من أحكام البُعد الثاني

ثم إن تربية الأسرة لا يعني جبرهم على شيء، بل أن يقوم بالأمر بالمعروف

ص: 355


1- بحار الأنوار 97: 83.
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- تفسير تقريب القرآن 5: 456.

والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، ويهيأ لهم مقدمات ومقومات الهداية والتربية الصالحة.

قال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «لما نزلت هذه الآية: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} جلس رجل من المسلمين يبكي، وقال: أنا قد عجزتعن نفسي؛ كُلّفت أهلي! فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك»(1).

وعن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أيما رجل رأى في منزله شيئاً من الفجور فلم يغيّر، بعث اللّه تعالى طيراً أبيض، تظلّ عليه أربعين صباحاً، فيقول كل ما دخل وخرج: غيّره غيّره، فإن غيّر، وإلّا مسح رأسه بجناحه على عينيه، وإن رأى حسناً لم يره حسناً، وإن رأى قبيحاً لم ينكره»(2).

وعن أبي بصير في قول اللّه عزّ وجلّ: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} قال: قلت - للإمام الصادق(عليه السلام) - : كيف أقيهم؟

قال: «تأمرهم بما أمر اللّه، وتنهاهم عما نهاهم اللّه، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك»(3).

وسُئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} كيف نقيهن؟ قال: «تأمرونهن وتنهونهن» قيل له: إنا نأمرهن وننهاهن، فلا يقبلن؟ قال: «إذا أمرتموهن ونهيتموهن فقد قضيتم ما عليكم»(4).

وعنه(عليه السلام) قال: «لا يزال العبد المؤمن يورث أهل بيته العلم والأدب الصالح،

ص: 356


1- الكافي 5: 62.
2- النوادر للراوندي: 47.
3- الكافي 5: 62.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 442.

حتى يدخلهم الجنة جميعاً، حتى لا يفقد فيها منهم صغيراً ولا كبيراً ولا خادماً ولا جاراً، ولا يزال العبد العاصي يورث أهل بيته الأدب السيء حتى يدخلهم النار جميعاً، حتى لايفقد فيها من أهل بيته صغيراً ولا كبيراً، ولا خادماً ولاجاراً»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «لما نزلت: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} قال الناس: كيف نقي أنفسنا وأهلينا؟ قال: اعملوا الخير، وذكّروا به أهليكم، وأدّبوهم على طاعة اللّه». ثم قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه تعالى يقول لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوٰةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}(2) وقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَٰبِ إِسْمَٰعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}»(3)(4).

البعد الثالث

قال اللّه عزّ وجلّ بالنسبة إلى البعد الثالث وهو تربية المجتمع:

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(5).

حيث توجب هذه الآية الكريمة على الإنسان مسؤولية هداية الآخرين وتربية المجتمع تربية صالحة.

فإن اللّه تبارك وتعالى بما أنعم على المسلمين من نعمة الهداية إلى الإسلام

ص: 357


1- دعائم الإسلام 1: 82.
2- سورة طه، الآية: 132.
3- سورة مريم، الآية: 54-55.
4- البرهان في تفسير القرآن 3: 741.
5- سورة آل عمران، الآية: 104.

وشرّفهم بالإيمان به، والنعمة يجب شكرها، ومن شكر هذه النعمة هو الاهتمام بهداية سائر الناس إلى الإسلام والإيمان، فإن قوله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} أي: يجب أن يكون منكم جماعة {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} كل خير: من الإسلام والدين والأحكام وغيرها {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} والمعروف كل فعلاستحسنه الشرع أو العقل سواء وصل إلى حد الوجوب أم إلى حد الندب، وإنما سمي معروفاً لأن الناس يعرفونه {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} وهو بعكس المعروف، كل ما استقبحه الشرع أو العقل، وسمي منكراً لأن الناس ينكرونه {وَأُوْلَٰئِكَ} الذين يتصفون بهذه الصفات الثلاث {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: الفائزون الناجون(1).

فإذا أراد الفرد النجاح، وكذلك إذا أرادت الأمة الفوز، فعليه وعليها بإعداد الأجيال وتربيتها تربية صالحة.

واجبات في التربية

تحصل مما سبق أنه تتعلق بالإنسان في مجال التربية ثلاثة واجبات وهي عبارة عمّا يلي:

أولاً: تربيته لنفسه وتهذيبها من رذائل الأخلاق وتحليتها بالفضائل والمحاسن.

ثانياً: تربيته لأسرته وتوفير الأجواء الصالحة والمناخ المناسب داخل العائلة، ليكون نشاط أفرادها وفق الموازين الإسلامية.

ثالثاً: مسؤوليته التربوية تجاه مجتمعه، وما يصاحب ذلك من إشاعة الفضائل وتهيئة الأجواء الإسلامية، حتى يمكن للجميع الارتقاء بأنفسهم إلى سماء المكارم، ويتسنّى لهم الوصول إلى مستوى السعادة المنشودة والكمال

ص: 358


1- تفسير تقريب القرآن 1: 376.

المطلوب، ويتجنبوا من الرذائل والموبقات.

هذا ولا يخفى، أن حدوث أي خلل أو نقص في أيٍ من هذه الأبعاد التربوية الثلاثة، موجب لتعثر المسيرة الأخلاقية في المجتمع، وهبوط المستوى الأخلاقي فيه، وعندئذ علينا أن نتوقع عواقب سيئة ونتائج وخيمة، ونشوء جيلغير متماسك بالقيم والأخلاق، وذلك حسب الموازين الطبيعية. حيث إن من سنن اللّه في الكون أن يحصد الإنسان ما زرعه.

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من زرع العداوة حصد ما بذر»(1).

وفي غرر الحكم عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «من زرع شيئاً حصده»(2).

وقال(عليه السلام): «من زرع خيراً حصد أجراً»(3).

وقال(عليه السلام): «من زرع الإحن حصد المحن»(4).

وقال(عليه السلام): «من زرع العدوان حصد الخسران»(5).

وقال(عليه السلام): «كما تزرع تحصد»(6).

القرآن الحكيم ومراتب التربية

اشارة

ثم إن فريضة التربية والبلاغ من النفس إلى عموم الناس - حسب الإمكان وحسب شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - تتدرج في خمس مراحل، كما ورد ذلك في آيات القرآن الحكيم، وهي:

ص: 359


1- الكافي 2: 302.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 668.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 610.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 665.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 592.
6- نهج البلاغة: الخطب الرقم 153.

1: النفس أولاً، بقوله تبارك وتعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(1).2: والأهل ثانياً، بقوله عزّ وجلّ: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(2).

3: والعشيرة ثالثاً بقوله تبارك اسمه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(3).

4: وأهل البلدة رابعاً، بقوله جلّ وعلا: {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ}(4).

5: وأهل العالم أجمع خامساً بقوله الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ}(5)، والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة، وبقوله سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}(6).

التربية وعوامل التأثير

ثم إن هناك ثلاثة عوامل رئيسية لها تأثير مباشر وكبير على تربية الإنسان، وقد أشار إلى ذلك القرآن الحكيم والروايات الشريفة. والعوامل الثلاثة هي عبارة عمّا يلي:

1- الوراثة
اشارة

العامل الأول في التربية: الوراثة، قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم على لسان نبيه نوح(عليه السلام): {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَٰفِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُواْ إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}(7).

ص: 360


1- سورة المائدة، الآية: 105.
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- سورة الشعراء، الآية: 214.
4- سورة التوبة، الآية: 122.
5- سورة سبأ، الآية: 28.
6- سورة آل عمران، الآية: 104.
7- سورة نوح، الآية: 26-27.

أي: {وَقَالَ نُوحٌ} في دعائه على قومه قبل أن يغرقوا، يا {رَّبِّ لَا تَذَرْ} أي: لا تدع ولا تبق سالماً {عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَٰفِرِينَ دَيَّارًا} أي: أحداً يعمر الديار، أو ينزل الدار، بل عمم عقابك على جميعهم. ثم بيّن(عليه السلام) علة هذا الدعاء بقوله: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} من نسل المؤمنين {وَلَا يَلِدُواْ} هم بأنفسهم {إِلَّافَاجِرًا} يفجر ويعصي {كَفَّارًا} كثير الكفر، يعني: أن أولادهم فاسدو العقيدة والعمل، فلا خير فيهم، وقد علم نوح(عليه السلام) ذلك من طريق الوحي(1).

فالآية الكريمة تكشف عن انتقال خصال الكفار الرذيلة، وصفاتهم الذميمة إلى أبنائهم، وذلك بحسب عامل التربية، والقرآن الكريم أشار في هذه الآية إلى العامل الوراثي قبل أن يصل إليه (مندل)(2) وغيره من علماء النفس والاجتماع،

ص: 361


1- تفسير تقريب القرآن 5: 523.
2- جريجور يوهان مندل (1822-1884م) أعتبر أبو علم الوراثة الحديث، عالم نبات وراهب نمساوي، نسب إليه اكتشاف الكثير من التجارب والقوانين الأساسية للوراثة، وأدت تجاربه في تكاثر نبات البازلاء إلى تطور علم الوراثة، وكانت تجاربه هي الأساس لعلم الوراثة الذي يشهد تقدماً في عالم اليوم. كان والداه مزارعين فقيرين، وكان مندل طالباً مجداً، وقرر أن يصبح مدرساً. دخل مندل دير القديس توماس في برون بالنمسا وعمره (21 عاماً)، وأصبح قسيساً في سلك الدير عام (1847م). ثم درس العلوم والرياضيات في جامعة فيينا، وعاد إلى الدير ودرّس علم الأحياء والفيزياء في مدرسة محلية لمدة (14سنة). جاءت شهرة مندل العالمية من بحوثه الصغيرة في حديقة الدير على نباتات البازلاء وزهورها وبذورها. قام مندل بتهجين آلاف النباتات وملاحظة خاصيات كل جيل لاحق من النباتات، استنتج أن السمات المميزة تنتقل خلال عناصر وراثية في الأمشاج، وتسمى هذه العناصر اليوم الجينات، واستنتج نتيجة تجاربه، أنه إذا ورثت نبتة جينين مختلفين لسمة ما، فسيكون أحد الجينين سائداً، بينما يكون الثاني متنحِّياً. وتظهر سمة الجين السائد في النبتة. فمثلاً، إذا كان جين البذور المستديرة سائداً وجين البذور المتجعدة متنحِّياً، فإن النبتة التي ترث كلا الجينين ستكون لها بذور مستديرة. كما اعتقد أن النبتة ترث كلاّ من سماتها مستقلة عن السمات الأخرى. ويُعرف هذان الاستنتاجان بقانون الفصل وقانون الاتساق المستقل. نشرت نتائج بحوث مندل وخلاصة تجاربه في علوم الوراثة عام (1866م) إلّا أن أحدا لم يتنبه إليها في حينها إلى أن عثر العلماء على بحوثه عام (1900م) فعرفت واشتهرت في علم الوراثة.

وأكدّ على أن لعامل الوراثة دوراً في انتقال التربية والأخلاق من الآباء إلى الأبناء، وأنه أول العوامل الرئيسية الثلاثة في حقل التربية، وهذا العامل أشير إليه فيالكثير من أحاديث الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين^ أيضاً.

عامل الوراثة في الروايات

ومن هذا المنطلق، نرى أن الإسلام يوصي الشابّ الذي يريد الزواج بالتعرّف على أسرة البنت التي يريد الزواج منها، والتحقيق عن أصالتها وعراقتها، ومكانتها وأخلاقها، لئلا تكون مصابة ببعض العاهات الروحية والأمراض النفسية، فتنتقل منها إلى الأبناء، ففي الخبر: أن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قام خطيباً بين أصحابه وقال: «إياكم وخضراء الدمن»(1)، قيل: يا رسول اللّه، وما خضراء الدمن؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

ص: 362


1- قال في مجمع البحرين: الدمنة، هي المنزل الذي ينزل فيه أخيار العرب، ويحصل فيه بسبب نزولهم تغير في الأرض بسبب الأحداث الواقعة منهم ومن مواشيهم، فإذا أمطرت أنبتت نبتا حسنا شديد الخضرة والطراوة، لكنه مرعى وبي ء للإبل مضر بها، فشبه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المرأة الجميلة إذا كانت من أصل ردي ء بنبت هذه الدمنة في الضر والفساد، والنهي للتنزيه. وفلان يدمن كذا أي يديمه. والدمن كحمل: ما يتلبد من السرجين، والجمع دمن كسدرة و سدر. مجمع البحرين 6: 247 مادة (دمن). ويقال: الماء متدمن إذا سقطت فيه أبعار الإبل والغنم. والدمنة، بهاء: آثار الدار والناس. وأيضا: ما سودوا وأثروا فيه بالدمن؛ ويقال: وقعوا على دمنة الدار، وهي البقعة التي سودها أهلها وبالت فيه وبعرت ماشيتهم. ومن المجاز: الدمنة: الحقد القديم الثابت المدمن للصدر. وقيل: لا يكون الحقد دمنة حتى يأتي عليه الدهر؛ ولذا وصفوه بالقديم. وقد دمن عليه، كفرح؛ ودمنت قلوبهم: أي ضغنت. وفي الحديث: شبه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المرأة بما ينبت في الدمن من الكلأ يرى له غضارة وهو وبيء المرعى منتن الأصل؛ قال شاعر: وقد ينبت المرعى على دمن الثرى *** وتبقى حزازات النفوس كما هيا راجع تاج العروس 18: 201 مادة (دمن).

«المرأة الحسناء في منبت السوء»(1).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «توقوا على أولادكم من لبن البغية والمجنونة؛ فإن اللبنيُعدي»(2).

ويقول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «تخيروا لنطفكم، فإن العرق دسّاس»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «تزوجوا في الحجز الصالح، فإن العرق دساس»(4).

وقد أهتم الأئمة المعصومون^ من أهل بيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كجدّهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اهتماماً كبيراً في بيان ما لعامل الوراثة من أثر كبير على تنشئة الأبناء وتربيتهم، حتى روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) عن جده أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «إياكم وتزويج الحمقاء؛ فإن صحبتها بلاء، وولدها ضياع»(5).

والإمام الصادق(عليه السلام) حينما استشاره أحد أصحابه في الزواج فقال(عليه السلام) له: «انظر أين تضع نفسك، ومن تُشركه في مالك، وتطلعه على دينك وسرّك، فإن كنت لا بدّ فاعلاً، فبكراً تُنسب إلى الخير، وإلى حسن الخلق»(6).

من شواهد تأثير الوراثة

كما روي أن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لأخيه عقيل(عليه السلام) - وكان نسابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم - : «أنظر إلى امرأة قد ولّدتها الفحولة من العرب؛ لأتزوّجها فتلد لي غلاما فارسا».

ص: 363


1- الكافي 5: 332.
2- مكارم الأخلاق: 223.
3- السرائر 2: 559.
4- مكارم الأخلاق: 197.
5- الكافي 5: 353.
6- الكافي 5: 323.

فقال له: تزوج أم البنين الكلابية، فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها. فتزوجها(عليه السلام)(1).

وهكذا نرى الإسلام يولي اهتماماً كبيراً بعامل الوراثة، ويؤكّد على تأثيره في تربية الأبناء وتنشئتهم، وذلك من أجل حماية الأسرة والمجتمع من عوامل الانحطاط الخلقي والنزعات النفسية الشريرة.

قال النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من نعمة اللّه على الرجل أن يشبهه ولده»(2).

وقال بعض أصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا رسول اللّه ما بالنا نجد بأولادنا ما لا يجدون بنا؟! قال: «لأنهم منكم ولستم منهم»(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً

ص: 364


1- عمدة الطالب لابن عنبة: 357. وورد في هامش مقتل أبي مخنف: إن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لأخيه عقيل وكان نسابة عالماً بأخبار العرب وأنسابها: «ابغني أمرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها؛ فتلد لي غلاماً فارساً». فقال له: أين أنت عن فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابية(عليها السلام)، فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس، وفي آبائها يقول لبيد للنعمان بن المنذر ملك الحيرة: نحن بنو أم البنين الأربعة *** ونحن خير عامر بن صعصعة الضاربون الهام وسط المجمعة فلا ينكر عليه أحد من العرب، ومن قومها ملاعب الأسنة أبو براء، الذي لم يعرف في العرب مثله في الشجاعة، والطفيل فارس قرزل، وابنه عمر فارس المزتوق، فتزوجها أمير المؤمنين(عليه السلام)، فولدت له وأنجبت. وأول ما ولدت العباس(عليه السلام) يلقب في زمنه: قمر بني هاشم، ويكنى أبا الفضل، وبعده عبد اللّه، وبعده جعفراً، وبعده عثمان، وعاش العباس مع أبيه أربع عشرة سنة، حضر بعض الحروب فلم يأذن له أبوه بالنزال، ومع أخيه الحسن(عليه السلام) أربعاً وعشرين سنة، ومع أخيه الحسين(عليه السلام) أربعاً وثلاثين سنة، وذلك مدة عمره، وكان(عليه السلام) أيداً شجاعاً فارساً وسيماً جسيماً، يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطان في الأرض. مقتل أبي مخنف: 175.
2- الكافي 6: 4.
3- من لا يحضرة الفقيه 3: 559.

جمع كل صورة بينه وبين آدم، ثم خلقه على صورة إحداهن، فلا يقولن أحد لولده: هذا لا يشبهني، ولا يشبه شيئاً من آبائي»(1).وقال(عليه السلام) أيضاً: «من سعادة الرجل أن يكون الولد يعرف بشبهه وخلقه وخلقه وشمائله»(2).

وعن أبي إبراهيم الكاظم(عليه السلام) قال: «إن جعفراً(عليه السلام) كان يقول: سعد من لم يمت حتى يرى خلفه من نفسه».

ثم أومأ بيده إلى ابنه علي فقال(عليه السلام): «وقد أراني اللّه خلفي من نفسي»(3).

2- الأسرة
اشارة

العامل الثاني من عوامل التربية: الأسرة، قال اللّه تبارك وتعالى في كتابه الحكيم وخطابه العظيم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى الْعَٰلَمِينَ * ذُرِّيَّةَ بَعْضُهَا مِن بَعْضٖ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٖ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}(6).

الأسرة وآية الاصطفاء

قال اللّه سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ} أي اختار لرسالته ووحيه، وجعلهم أنبياء

ص: 365


1- من لا يحضره الفقيه 3: 484.
2- مكارم الأخلاق: 222.
3- كفاية الأثر: 273.
4- سورة آل عمران، الآية: 33-34.
5- سورة الفرقان، الآية: 74.
6- سورة الطور، الآية: 21.

مرشدين {ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ} وهم الأنبياء الذين من نسله: إسماعيل واسحاق ويعقوب ويوسف وعيسى ومحمد^ {وَءَالَ عِمْرَٰنَ} موسى وهارون(عليهما السلام) {عَلَى الْعَٰلَمِينَ} وإنما خصّص بذلك هؤلاء الأنبياء، لكون آدم(عليه السلام) أبو البشر، ونوحوآل إبراهيم بما فيهم إبراهيم^ - فإنه يقال آل فلان للأعم منه ومن آله - وآل عمران الذين فيهم الأنبياء^، هم مدار الرسالات العالمية، حال كون نوح وآل إبراهيم وآل عمران^ {ذُرِّيَّةَ بَعْضُهَا مِن بَعْضٖ} في أداء الرسالة ومناصرة الدين وإرشاد الناس، فإن من خرج عن دين آبائه فهو ليس منهم، كما قال سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}(1) بخلاف من اتبع آباءه {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لما تقوله الذرية {عَلِيمٌ} بضمائرهم وأعمالهم؛ ولذا فضّلهم على من سواهم، إن هؤلاء الأنبياء كلهم، ذووا خصائص واحدة موروثة من جدهم آدم(عليه السلام) مما تؤهلهم لحمل الرسالة الواحدة التي هي الإسلام(2).

وعليه: فآية الاصطفاء الكريمة، وآيات أخرى في هذا المجال، تؤكد على أن للأسرة التأثير المباشر والكبير على تربية الإنسان، وأنه ثاني العوامل الرئيسية في حقل التربية، كما يقوله علماء النفس والاجتماع.

دعائم الأسرة

ثم إن دعائم الأسرة ثلاث: الأب، والأم، والأولاد، ولكل واحد من الأب والأم والأولاد حقوق وواجبات، ينبغي ذكر كل منها على حدة.

الأسرة وواجبات الوالدين

لا شك أن للأسرة - وخاصة الوالدين - الأثر البالغ في بناء شخصية الأبناء، وحملهم على العادات الطيبة، والتقاليد الجميلة، والقيم الرفيعة، والاتجاهات

ص: 366


1- سورة هود، الآية: 46.
2- تفسير تقريب القرآن 1: 333.

الحسنة، التي ينبغي لهم ملازمتها طوال حياتهم، وتطبيقها في سلوكهم الفردي والاجتماعي، كما أن لها - بالنتيجة - الدور الكبير في بناء المجتمع، وتشييد الحضارة الإنسانية، وإقامة العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، فالأسرة هيالتي تربّي الأبناء وتعدهم للمشاركة في الحياة؛ لذا فهي مسؤولة عن تنشئة أطفالها تنشئة سليمة متسمة بالاتزان والاستقامة، والبعد عن الإنحراف والتطرف، وهذا بحاجة إلى تمهيد ممهدّات وتقديم مقدمات، منها:

أن تهيّئ جواً من الإستقرار والود والطمأنينة، والرفق والمحبة داخل البيت، وأن تبعد عنهم مظاهر العنف والخرُق، والكراهية والبغض، وأن تدرّبهم على تحمل المشاق والصعوبات؛ لأن ذلك له دور كبير في تكوينهم تكويناً سليماً بعيداً عن الأمراض الروحية، والعُقد النفسية، التي قد تسبب لهم الكثير من المشاكل في حياتهم المستقبلية، فمتى ما قام الأبوان بواجبهما تجاه أبنائهم، وأدّت الأسرة وظيفتها أمام أبنائها، وذلك من خلال التعامل معهم بحسن ولين، ورفق ومحبة، واحترام وإكرام، وتوقير وتبجيل، كان الجيل الناشيء جيلاً صالحاً وسعيداً، ويكون فخراً للآباء والأسلاف وشرفاً لهم، بينما لو لم تؤدّ الأسرة وظيفتها وانشغل الآباء عن أبنائهم، ولم يهتموا بهم وبتنشئتهم، ولا بتربيتهم وتأديبهم، فسوف يكون الجيل الصاعد جيلاً لا يحمل - على الأقل - سمات الصالحين، ولا يكون مفخرة للأسلاف، وتكون النتائج سلبية وتنعكس على مستقبل الأبناء ومصيرهم.

اليتيم: يتيم الأدب والعلم

يقول أحد الشعراء:

وإذا النساء نشأن في أمِّية *** رضع الرجال جهالة وخمولاً

ليس اليتيم من انتهى أبواه من *** همّ الحياة وخلفاه ذليلاً

فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما *** وبحسن تربية الزمان بديلاً

ص: 367

إن اليتيم هو الذي تلقى له *** أماً تخلت أو أباً مشغولاً(1)

الجمال: جمال العلم والأدبونقل عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله:

ليس البلية في أيامنا عجباً *** بل السلامة فيها أعجب العجب

ليس الجمال بأثواب تزينها *** إن الجمال جمال العلم والأدب

ليس اليتيم الذي قد مات والده *** إن اليتيم يتيم العقل والحسب(2)

إيجاز عامل الأسرة

والخلاصة: إنه ينبغي للأسرة المؤمنة وخاصة الوالدين جميعاً، أن يخصصوا جزءً من وقتهم لأبنائهم، وأن يتفقوا على برنامج معين للتربية الصالحة، وأن تكون معايير السلوك لكل من الأم والأب بالنسبة للأطفال منسقة، فلا يصح أن يرى الأب - مثلاً - أسلوباً خاصاً من التعامل مع ابنه، أو تصرفاً معيناً لابنه غير مقبول، وترى الأم بأن هذا السلوك والأسلوب هو عين الصحة!

كما أنه ينبغي للوالدين جميعاً أن يعلموا، أن الأبناء بحاجة إلى رعاية مستمرة من الوالدين لهم، وأن تكون تصرّفاتهم أمام أبنائهم منتظمة ومتوازنة، لتكون نموذجاً للإقتداء بها، فالأب - مثلاً - عندما يكون في تعامله متصلباً وفي أسلوبه خشناً مع ولده ولا يُظهر حبّه له وشفقته عليه، فإنه يدفع ابنه بطريق غير مباشر للارتماء في أحضان أمه والنفور من الأب، وبالتالي إلى التأثر بها وتقليد أساليبها النسائية. فالولد يحتاج إلى أب ذي رجولة وقوة، على أن يكون في ذات الوقت عطوفاً يحيطه بالحنان والرعاية. أما البنت الصغيرة فتحتاج إلى أن تحس بأنها أنثى، وتشعر بأن من الأفضل لها أن تكون امرأة تتمتع بالعفاف والاستقامة، لا أن

ص: 368


1- الأبيات للشاعر أحمد شوقي.
2- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 66.

تعامل معاملة الولد لتكتسب صفات الرجولة في مستقبلها، وتبتعد عن وظائفها الأنثوية.

إذن: فإن حقوق الأولاد والأبناء على الآباء والأمهات ليست محصورة في تهيئة الخبز، وتوفير الطعام، وإعداد الغداء والعشاء، وتقديم الإحتياجات المادية لهم فحسب، بل هناك لهم حقوق كبرى في ذمة الوالدين تتعلق بتربيتهم وتنشئتهم، وتهذيبهم وتأديبهم، وتوجيههم الوجهة الصالحة، وتعويدهم على الخير والإحسان، والمحبة والإكرام، وعلى كل العادات الطيبة، وتحذيرهم من الشر والعدوان، والبغض والاستهزاء، ومن كل العادات السيئة.

الأسرة في الحديث الشريف

لقد جاء في رسالة الحقوق للإمام السجاد علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام) في حقوق الأولاد على الوالدين ما هو في منتهى الدقة والروعة، حيث قال(عليه السلام):

«وأما حق ولدك، فتعلم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب، والدلالة على ربّه، والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذر إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه ولا قوة إلّا باللّه»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) عن آبائه^ قال: «في وصية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام) قال: يا علي، حق الولد على والده، أن يحسّن اسمه وأدبه، ويضعه موضعاً صالحاً. وحق الوالد على ولده، أن لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس أمامه، ولا يدخل معه الحمام... . يا علي، لعن اللّه والدين حملا ولدهما

ص: 369


1- تحف العقول: ص263 ما روي عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) في طوال هذه المعاني.

على عقوقهما. يا علي، يلزم الوالدين من عقوق ولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما. يا علي، رحماللّه والدين حملا ولدهما على برّهما. يا علي من أحزن والديه فقد عقّهما»(1).

وعن يونس بن رباط عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رحم اللّه من أعان ولده على برّه»، قال: قلت: كيف يعينه على برّه؟ قال: «يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه ولا يخرق به، فليس بينه وبين أن يصير في حد من حدود الكفر إلّا أن يدخل في عقوق، أو قطيعة رحم»، ثم قال(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الجنّة طيّبة، طيّبها اللّه وطيّب ريحها، يوجد ريحها من مسيرة ألفي عام، ولا يجد ريح الجنة عاق، ولا قاطع رحم، ولا مرخي إزاره خيلاء»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من حق الولد على والده ثلاثة: يحسّن اسمه، ويعلّمه الكتابة، ويزوّجه إذا بلغ»(3).

وعليه: فعلى الأسرة المؤمنة وخاصة الأب أن يعتني بأبنائه أشد العناية، ويحيطهم بالعطف والحنان، ويقتدي بسيرة الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين^ في ذلك.

الأسرة في سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

لقد كان الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثير التعلق بسبطيه الحسن والحسين(عليهما السلام) وكان يقول لفاطمة الزهراء(عليها السلام): «ادعي إلي أبنيّ»، فتأتي بهما إليه، فيشمهما ويضمها

ص: 370


1- من لا يحضره الفقيه 4: 372.
2- الكافي 6: 50. والخيلاء بالضم والكسر بمعنى التكبر أي من جر ثيابه على الأرض تكبراً.
3- روضة الواعظين 2: 369.

إليه(1).

وروي في هذا المجال: أن الأقرع بن حابس لما رأى شدة إقبال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على الحسنين(عليهما السلام) قال له: إن لي عشرة من الأولاد، ما قبّلت واحداً منهم، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ماعلي إن نزع اللّه الرحمة منك!»(2).

وجاء رجل إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: ما قبّلت صبياً قط، فلما ولّى قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هذا رجل عندي أنه من أهل النار»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أحبوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم، فإنهم لا يرون إلّا إنكم ترزقونهم»(4).

ونظر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى رجل له ابنان، فقبَّل أحدهما وترك الآخر، فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فهلا واسيت بينهما»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «اعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف»(6).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «سموا أولادكم أسماء الأنبياء، وأحسن الأسماء: عبد اللّه، وعبد الرحمن»(7).

وقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «من عال ثلاث بنات، ومثلهن من الأخوات، وصبر

ص: 371


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة 1: 520.
2- مكارم الأخلاق: 220.
3- الكافي 6: 50.
4- الكافي 6: 49.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 483.
6- بحار الأنوار 101: 92.
7- مكارم الأخلاق: 220.

على إيوائهن، حتى يبنَّ(1) إلى أزواجهن، أو يمتن فيصرن إلى القبور، كنت أنا وهو فيالجنة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى. فقيل: يا رسول اللّه، واثنتين؟ قال: «واثنتين» قيل: وواحدة؟ قال: «وواحدة»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قبلوا أولادكم، فإن لكم بكل قبلة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين خمسمائة عام»(3).

وعن ابن عباس قال: قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور، فإنه من فرّح أنثى فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل(عليه السلام)، ومن أقرّ بعين ابن فكأنما بكى من خشية اللّه، ومن بكى من خشية اللّه أدخله جنات النعيم»(4).

عامل الأسرة وكيفية تطبيقه

روى عبد اللّه بن فضالة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أو أبي جعفر(عليه السلام) فقال: سمعته يقول: «إذا بلغ الغلام ثلاث سنين يقال له سبع مرات: قل: لا إله إلّا اللّه، ثم يُترك حتى يتم له ثلاث سنين وسبعة أشهر وعشرون يوماً، فيقال له: فقل: محمدٌ رسول

ص: 372


1- البَيْنُ على وجْهَين: يكون البَينُ الفُرْقةَ، ويكون الوَصْلَ، بانَ يَبِينُ بَيْناً وبَيْنُونةً، وهو من الأَضداد، والمُبايَنة: المُفارَقَة. وتَبايَنَ القومُ: تَهاجَرُوا. وتقول: ضربَه فأَبانَ رأسَه من جسدِه وفَصَلَه، فهو مُبِينٌ. وفي حديث الشُّرْب: «أَبِنِ القَدَحَ عن فيك» أَي: افْصِلْه عنه عند التنفُّس لئلا يَسْقُط فيه شي ءٌ من الرِّيق، والبَينِ البُعْد والفِراق. وتبَايَنَ الرجُلانِ: بانَ كلُّ واحد منهما عن صاحبه، وكذلك في الشركة إذا انفصلا. وبانَت المرأةُ عن الرجل، وهي بائن: انفصلت عنه بطلاق. والطَّلاقُ البائِنُ: هو الذي لا يَمْلِك الزوجُ فيه استِرْجاعَ المرأَةِ إلّا بعَقْدٍ جديدٍ، وقد تكرر ذكرها في الحديث. وبَيَّن فلانٌ بِنْتَه وأَبانَها إذا زوَّجَها وصارت إلى زوجها، وبانَت هي إذا تزوجت، وفي الحديث: «مَنْ عالَ ثلاثَ بناتٍ حتى يَبِنَّ أَو يَمُتْنَ» ويَبِنَّ بفتح الياء: أَي يتزوَّجْنَ. لسان العرب 13: 62 مادة (بين).
2- عدة الداعي: 90.
3- مكارم الأخلاق: 220.
4- ثواب الأعمال: 201.

اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سبع مرات، ويترك حتى يتم له أربع سنين، ثم يقال له: قل: سبع مرات قل صلى اللّه على محمد وآله ثم يترك حتى يتم له خمس سنين، ثم يقال له: أيهما يمينك وأيهما شمالك؟ فإذا عرف ذلك حوّل وجهه إلى القبلة، ويقال له: اسجد، ثميترك حتى يتم له ست سنين، فإذا تم له ست سنين وعُلّم الركوع والسجود، حتى يتم له سبع سنين، فإذا تم له سبع سنين قيل له: اغسل وجهك وكفيك، فإذا غسلهما قيل له: صلّ، ثم يترك حتى يتم له تسع سنين، فإذا تمت له عُلّم الوضوء وضرب عليه، وأُمر بالصلاة وضرب عليها، فإذا تعلم الوضوء والصلاة غفر اللّه لوالديه، إن شاء اللّه تعالى»(1).

من تطبيقات عامل الأسرة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبع سنين واضربوهم على تركها إذا بلغوا تسعاً، وفرقوا بينهم في المضاجع، إذا بلغوا عشراً»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم يُغفر لكم»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «الولد سيد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت أخلاقه لإحدى وعشرين، وإلّا فاضرب على جنبه، فقد أعذرت إلى اللّه تعالى»(4).

وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «لأن يؤدب أحدكم ولداً خير له من أن يتصدق بنصف صاع كل يوم»(5).

ص: 373


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 391.
2- دعائم الإسلام 1: 194.
3- مكارم الأخلاق: 222.
4- مكارم الأخلاق: 222.
5- بحار الأنوار 101: 95.

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «يرخى الصبي سبعاً، ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، وينتهي طوله في ثلاث وعشرين وعقله في خمسة وثلاثين، وماكان بعد ذلك فبالتجارب»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «يفرق بين الغلمان والنساء في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدَّب سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح وإلّا فإنه ممن لا خير فيه»(3).

وعنه(عليه السلام) عن آبائه^ قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الصبي والصبي، والصبي والصبية، والصبية والصبية، يفرق بينهم في المضاجع لعشر سنين»(4).

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «إذا بلغت الجارية ست سنين فلا تقبلها، والغلام لا تقبله المرأة إذا جاوز سبع سنين»(5).

وعنه(عليه السلام) قال: «احمل صبيك تأتي عليه ست سنين، ثم أدّبه في الكتاب ست سنين، ثم ضمّه إليك سبع سنين فأدّبه بأدبك، فإن قبل وصلح، وإلّا فخّل عنه»(6).

وعن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): اغسلوا صبيانكم من الغَمَر(7)، فإن الشيطان يشم الغمر فيفزع الصبي في رقاده، ويتأذى بها

ص: 374


1- مكارم الأخلاق: 223.
2- الكافي 6: 47.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 492.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 436.
5- مكارم الأخلاق: 223.
6- مكارم الأخلاق: 222.
7- الغمر، بالتحريك: السهك وريح اللحم وما يعلق باليد من دسمه.

الكاتبان»(1).

الأسرة وبعض آدابها

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أولادنا أكبادنا، صغراؤهم أمراؤنا، وكبراؤهم أعداؤنا، فإن عاشوا فتنونا، وإن ماتوا أحزنونا»(2).

وقال النبي الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «خمسة في قبورهم وثوابهم يجري إلى ديوانهم: من غرس نخلاً، ومن حفر بئراً، ومن بنى للّه مسجداً، ومن كتب مصحفاً، ومن خلف ابناً صالحاً»(3).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «ما سألت ربي أولاداً نضر الوجه، ولا سألته ولداً حسن القامة؛ ولكن سألت ربي أولاداً مطيعين للّه وجلين منه، حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع للّه قرت عيني»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال موسى(عليه السلام): يا رب، أي الأعمال أفضل عندك؟ فقال: حب الأطفال، فإني فطرتهم على توحيدي، فإن أمتهم أدخلتهم برحمتي جنتي»(5).

الأسرة وسيرة أهل البيت^

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الولد للوالد ريحانة من اللّه قسمها، وإن ريحانتي الحسن والحسين(عليهما السلام) سميتهما باسم سبطي بني إسرائيل: شبراً وشبيراً»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «رحم اللّه من أعان ولده على برّه؛ وهو أن يعفو عن سيئته،

ص: 375


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 69.
2- بحار الأنوار 101: 97.
3- جامع الأخبار: 105.
4- بحار الأنوار 101: 98.
5- المحاسن 1: 293.
6- عدة الداعي: 86.

ويدعو له فيما بينه وبين اللّه»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من قبّل ولده كتب اللّه عزّ وجلّ له حسنة، ومنفرّحه فرّحه اللّه يوم القيامة، ومن علّمه القرآن دُعي بالأبوين فيُكسيان حُلتين، يضي ء من نورهما وجوه أهل الجنة»(2).

وقال رجل من الأنصار لأبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): من أبر؟ قال: «والديك» قال: قد مضيا. قال: «برّ ولدك»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته، فهي تجري بعد موته، وسنة سنها هدىً فهي تعمل بها بعد موته، وولد صالح يستغفر له»(4).

الأسرة والتعليمات التربوية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تضربوا أطفالكم على بكائهم؛ فإن بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأربعة أشهر الصلاة على النبي وآله، وأربعة أشهر الدعاء لوالديه»(5).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اسقوا صبيانكم السويق في صغرهم، فإن ذلك ينبت اللحم ويشد العظم»، وقال(عليه السلام): «من شرب سويقاً أربعين صباحاً امتلأت كتفاه قوة»(6).

وقال بعضهم: شكوت إلى أبي الحسن موسى(عليه السلام) ابناً لي فقال: «لا تضربه؛

ص: 376


1- بحار الأنوار 101: 98.
2- الكافي 6: 49.
3- الكافي 6: 49.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 35.
5- التوحيد: 331.
6- المحاسن 2: 489.

واهجره ولا تطل»(1).

الأسرة ومنزلة الأم

لقد اهتم الإسلام بالأسرة اهتماماً كبيراً، وخاصة فيما يتعلق بالروابط بين أعضاء الأسرة وعلى الخصوص الأم من بينها، ولذلك شرّع آداباً مشتركة بين أعضاء الأسرة الواحدة، وجعل لكل فرد من أفرادها واجبات متعلقة به، تهدف إلى زيادة تماسك الروابط الأسرية، فقد اهتم بالبيت بوصفه المنبع الطبيعي للحياة الهادئة المطمئنة، وأوصى - مؤكداً - بأن تكون أجواء المحبة والتعاون هي السائدة فيه، وأمر - مشدداً - باجتناب كل ما يعكّر صفو الأجواء الداخلية ويهم سكونها وقرارها، وذلك لما فيها من عظيم الأثر على حياة الطفل وتكوينه النفسي. وتقع المسؤولية في توفير الأجواء الهادئة والمناسبة داخل البيت على الأم بالدرجة الأولى.

الأم مدرسة الأجيال

وإلى هذا المعنى أشار الشاعر وهو يقول:

الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيب الأعراق

الأم روض إن تعهَّده الحيا *** بالري أورق أيّما إيراق

الأم أستاذ الأساتذة الألى *** شغلت مآثرهم مدى الآفاق(2)

أحضان الأمّهات مدارس

وأشار الشاعر الآخر إلى (الأم) أيضاً وهو يقول:

ولم أر للخلائق من محل *** يهذبها كحضن الأمهات

فحضن الأم مدرسة تسامت *** بتربية البنين أو البنات

ص: 377


1- عدة الداعي: 89.
2- الأبيات للشاعر حافظ إبراهيم، الملقب بشاعر النيل.

وأخلاق الوليد تقاس حسناً *** بأخلاق النساء الوالدات

وليس ربيب عالية المزايا *** كمثل ربيب سافلة الصفات(1)

الزوجة الصالحة هي: أم صالحة

روي عن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أن شخصاً جاءه قائلاً له: إن لي زوجة إذا دخلت تلقتني، وإذا خرجت شيعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت: ما يهمك؛ إن كنت تهتم لرزقك فقد تكفل به غيرك، وإن كنت تهتم بأمر آخرتك فزادك اللّه هماً!

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بشرها بالجنة وقل لها: إنك عاملة من عمال اللّه، ولكِ في كل يوم أجر سبعين شهيداً»(2).

وعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: كنا جلوساً مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: فتذاكرنا النساء وفضل بعضهن على بعض، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا أخبركم بخير نسائكم؟».

قالوا: بلى يا رسول اللّه فأخبرنا؟

قال: «إن من خير نسائكم: الولود الودود، الستيرة العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرجة مع زوجها، الحصان مع غيره، التي تسمع قوله وتطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها، ولم تبذل له تبذل الرجل»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة، تسرّه إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله»(4).

ص: 378


1- الأبيات للشاعر معروف الرصافي.
2- مكارم الأخلاق: ص200 ب 8 ف2 في أصناف النساء.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 389.
4- الكافي 5: 327.

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «خير نساءكم الطيبة الريح، الطيبة الطبيخ، التي إن انفقت أنفقت بمعروف، وإن أمسكت أمسكت بمعروف، فتلك عامل منعمال اللّه، وعامل اللّه لايخيب، ولا يندم»(1).

من حقوق الأم

قال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «أما حق امك، فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لايعطي أحد أحداً، ووَقَتْك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتظلك، وتهجر النوم لأجلك، ووَقَتْك الحر والبرد، لتكون لها، فإنك لاتطيق شكرها إلّا بعون اللّه وتوفيقه»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «جاء رجل إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك»(3).

الأم: الحجر الأساس في التربية

إذن فأحضان الأم هي المدرسة الأولى في التربية، وتُعرف بأنها الحجر الأساس الأول في بناء شخصية الطفل وتحديد اتجاهاته وميوله، فالأم أكثر صبراً وتحمّلاً على تربية أبنائها، وأكبر دراية وبراعة في تنشئتهم، وذلك لما أودعه اللّه تعالى فيها من دافع فطري نحو أطفالها، ولأنها - بسبب تواجدها الدائم بالقرب منهم، تكون أعرف بطبيعتهم وصفاتهم، وميولهم ونفسياتهم، وأبصر بالوسائل التي تنفع في توجيههم وإرشادهم وهدايتهم وإصلاحهم.

ص: 379


1- الكافي 5: 325.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 621.
3- الكافي 2: 159.

ومن هذا المنطلق تكون مسؤولية الأم كبيرة، ووظيفتها ثقيلة؛ تستدعيها الاهتمام الدائم بكل الأمور التي تخص أبناءها وتتطلب منها الاعتناء المستمربجميع ما يرتبط بهم من معاملتهم بصورة متساوية، وبالشكل المناسب، وتوجيههم الوجهة الصحيحة، وبالصورة اللائقة، ومن تربيتهم على احترام الكبار وإكرامهم، وإيقافهم على معرفة مقام أبيهم ولزوم احترامه.

كما أنه ينبغي لها أن تربي بناتها على العفة والطهارة، وعلى ارتداء الحجاب والستر، وعلى الالتزام بأوامر الإسلام وأحكامه.

والأم التي تقوم بتأدية هذه الوظائف والواجبات بالصورة الصحيحة، وبالشكل اللائق، هي التي يكرمها الإسلام ويعزّها، ويرفعها إلى أعلى الدرجات، وأرقى المستويات، ولذا ورد في الحديث الشريف عن النبي الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجنة تحت أقدام الأمهات»(1). فالجنة قريبة من الأمهات اللاتي يؤدين دورهن بالشكل الأحسن، ويقمن بواجبهن على الوجه الأتم، تجاه البيت والأبناء، لنيل رضا اللّه سبحانه وتعالى.

التأدّب مع الأم

ومن أجل ذلك نرى أن اللّه سبحانه وتعالى جعل للأمهات على الأبناء حقوقاً أكثر... في مقابل ما جعله على الأبناء تجاه الآباء؛ وذلك لما تعانيه الأمهات في طريق ما تقدمه من خدمات للأبناء.

يقول إبراهيم بن مهزم: خرجت من عند أبي عبد اللّه(عليه السلام) ليلة ممسياً فأتيت منزلي بالمدينة، وكانت أمي معي، فوقع بيني وبينها كلام، فأغلظت لها، فلما أن كان من الغد صليت الغداة، وأتيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) فلما دخلت عليه فقال لي مبتدئاً:

ص: 380


1- مستدرك الوسائل 15: 180.

«يا أبا مهزم! مالك وللوالدة: أغلظت في كلامها البارحة، أما علمت أن بطنها منزل قد سكنته، وأن حجرها مهد قد غمزته، وثديها وعاء قد شربته»!قال: قلت: بلى.

قال: «فلا تغلظ لها»(1).

الأسرة وواجبات الأولاد

سبق أن أشرنا - بصورة مختصرة - إلى بعض ما يتعلق بالآباء والأمهات من واجبات ووظائف تجاه أبنائهم وأولادهم، وينبغي لنا الآن أن نقف وقفة سريعة أيضاً عند وظائف وواجبات الأبناء تجاه الوالدين.

توصية القرآن بالوالدين

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم وخطابه العظيم: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفّٖ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}(2).

قبس من الآيتين الكريمتين

في الآيتين الكريمتين نهى اللّه عزّ وجلّ عن الشرك في العبادة كما نهى اللّه سبحانه وتعالى عن الشرك في العقيدة حيث قال: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ} أي: أَمَرَ أَمْرَ إلزام وفرض {أَلَّا تَعْبُدُواْ} أيها البشر - أصله (أن لا) أدغمت النون في اللام، لقاعدة (يرملون)(3)-

{إِلَّا إِيَّاهُ} فالعبادة خاصة برب العالمين، وهي مشتقة من (عَبَد) أي

ص: 381


1- بصائر الدرجات 1: 243.
2- سورة الإسراء، الآية: 23-24.
3- قاعدة في علم التجويد: وهي كل ما جاء النون والتنوين مع حروف الياء والراء والميم واللام والواو والنون (حروف يرملون) فإنهما يدغمان ويصيران حرف واحداً مشدداً.

الإتيان برسوم العبودية فإن عزّ الإنسان أن يكون للّه عبداً(1) {وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا} أي: قضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين، وهما الأب والأم، والإحسانفوق العدل، ثم بيّن سبحانه لزوم الإحسان في حال كبرهما، لأن الإنسان - عادة - إذا كبر يسيئُ خلقه، ويكثر طلبه، ومن طرف ثان: إن الولد - كما هو عادة كل إنسان - إذا كبر ورشد، رأى نفسه في غنى عنهما، فكان مقتضى عدم الإحسان إليهما موجوداً عنده من جهتين؛ ولذا يخص سبحانه هذه الحال بالذكر، وقد قال بعض العارفين: إن أباك وأمك أحسنا إليك، وهما يريدان بقاءك ويهفو قلبهما إليك، وأنت تحسن إليهما - إن تحسن - وأنت ترى استغناك عنهما، فلا يبلغ إحسانك إحسانهما مهما أحسنت. وليعلم الولد، أن الدار دار مكافات، فمن أحسن إلى أبويه أحسن أولاده إليه، ومن أساء إليهما اساؤوا إليه، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ} أيها الولد، و(إمّا) أصله (إن ما) دخلت ما الزائدة على إن الشرطية للتزيين {الْكِبَرَ} الشيخوخة والكثرة في السن {أَحَدُهُمَا} أي: أحد الأبوين، وهو فاعل {يَبْلُغَنَّ} والكبر مفعوله، أي: إن عاش أحدهما {أَوْ كِلَاهُمَا} عندك حتى كبرا، وبلغا مبلغاً كبيراً من العمر {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفّٖ} وهي كلمة تستعمل عند الضجر، فقول مثل هذه اللفظة البسيطة، منهي عنه في الشريعة، وقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «لو علم اللّه لفظة أوْجَز في ترك عقوق الوالدين من أف لأتى بها»(2).{وَلَا تَنْهَرْهُمَا} النهر هو الزجر بإغلاظ وصياح، أي: لاتزجرهما، وإن أرادا منك شيئا لا تطردهما، كما قال سبحانه: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}(3) {وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} أي: خاطبهما،

ص: 382


1- إشارة إلى قول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في دعاءه حيث قال: «إلهي كفى لي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب» الخصال 2: 420.
2- بحار الأنوار 71: 42.
3- سورة الضحى، الآية: 10.

وتكلم معهما بكلام لطيف حسن جميل. {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} فكما أن فرخ الطائر يخفض جناحه لأبويه، تذللا وخضوعاً، فافعل أنت ذلك بأبويك {مِنَ الرَّحْمَةِ} أي: اعمل هذا العمل من جهةالرحمة، والعطف بهما، لا كالطائر الذي يفعل ذلك من جهة طلب الغذاء؛ فإن الإنسان قد يتواضع رحمة، وقد يتواضع طمعاً أو طلباً أو ما أشبه {وَقُل} داعياً لهما {رَّبِّ ارْحَمْهُمَا} تفضّل عليهما باللطف والكرامة {كَمَا رَبَّيَانِي} أي: جزاء تربيتهما لي في حال كوني {صَغِيرًا} فإنك يا رب أجزهما على أتعابهما، فإني لا أقدر على جزائهما، وفي الآثار الواردة عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين^ كثرة مدهشة من التأكيدات العجيبة حول الوالدين وخصوصا الأم(1).

عامل الأسرة ملخصاً

إن اللّه تبارك وتعالى، قد قرن وجوب طاعة الوالدين بطاعته جلّ وعلا، وأوصى الأبناء بالوالدين إحساناً، وأمرهم بالعمل بما يُرضي الوالدين، ويُرسخ الرضا في نفوسهم، وأن يقوموا بخدمتهم وإكرامهم، وشكرهم واحترامهم، وذلك بكل ألوان التكريم والخدمة، والاحترام والرعاية، مما يدل على أن رعاية احترام الوالدين وطاعتهم، والقيام بخدمتهم وإكرامهم، وخاصة بالنسبة إلى الأم، تمثل العناصر الأساسية في التربية الإسلامية والتنشئة الإيمانية، تلك التربية الهادفة إلى تماسك المجتمع وشدّ أواصره، وذلك على أساس من المودة والرحمة المتقابلة، والصفاء والاحترام المتبادل، فالأولاد إذن مسؤولون شرعاً وأخلاقاً عن رعاية حقوق الوالدين وخاصة الأم جزاءً لأتعابها الكبيرة، وعنائها العظيم، الذي تحملته في سبيل تربية الأولاد وتنشئتهم.

ص: 383


1- تفسير تقريب القرآن 3: 299.
الحديث الشريف والبر المتقابل
اشارة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما سمي الأبرار أبراراً لأنهم برّوا الآباء والأبناء والإخوان»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أبي(عليه السلام) يقول: خمس دعوات لا يحجبن عن الرب تبارك وتعالى: دعوة الإمام المقسط، ودعوة المظلوم، يقول اللّه عزّ وجلّ: لأنتقمن لك ولو بعد حين، ودعوة الولد الصالح لوالديه، ودعوة الوالد الصالح لولده، ودعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب فيقول: ولك مثله»(2).

وعن جابر قال: سمعت رجلاً يقول لأبي عبد اللّه الإمام الصادق(عليه السلام): إن لي أبوين مخالفين. فقال: «برهما كما تبر المسلمين ممن يتولانا»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «بروا آباءكم يبركم أبناؤكم، وعفّوا عن نساء الناس تعفّ نساؤكم»(4).

وعن معمر بن خلاد قال: قلت لأبي الحسن الرضا(عليه السلام): أدعو لوالدي إذا كانا لا يعرفان الحق(5)؟

قال: «ادع لهما، وتصدق عنهما، وإن كانا حيّين لا يعرفان الحق فدارهما؛ فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إن اللّه بعثني بالرحمة لا بالعقوق»(6).

الأم في الحديث الشريف

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تحت أقدام الأمهات روضة من رياض الجنة»(7).

ص: 384


1- وسائل الشيعة 16: 296.
2- الكافي 2: 509.
3- الكافي 2: 162.
4- الكافي 5: 554.
5- أي كانا مخالفين.
6- الكافي 2: 159.
7- مستدرك الوسائل 15: 181.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «إذا كنت في صلاة التطوع فإن دعاك والدك فلا تقطعها، وإندعتك والدتك فاقطعها»(1).

وروي أن رجلاً قال للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا رسول اللّه، أيّ الوالدين أعظم؟ قال: «التي حملته بين الجنبين، وأرضعته بين الثديين، وحضنته على الفخذين، وفدته بالوالدين»(2).

وقيل: يا رسول اللّه، ما حق الوالد؟ قال: «أن تطيعه ما عاش» قيل: وما حق الوالدة؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هيهات هيهات، لو أنه عدد رمل عالج وقطر المطر أيام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها»(3).

وقال رجل لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن والدتي بلغها الكبر، وهي عندي الآن، أحملها على ظهري، وأطعمها من كسبي، وأميط عنها الأذى بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي، استحياءً منها، وإعظاماً لها، فهل كافأتها؟ قال: «لا؛ لأن بطنها كان لك وعاءً، وثديها كان لك سقاءً، وقدمها لك حذاءً، ويدها لك وقاءً، وحِجرها لك حواءً، وكانت تصنع ذلك لك وهي تمنى حياتك، وأنت تصنع هذا بها وتحب مماتها»(4).

وقيل للإمام زين العابدين(عليه السلام): أنت أبر الناس، ولا نراك تؤاكل أمك! قال: «أخاف أن أمد يدي إلى شي ءٍ وقد سبقت عينها عليه، فأكون قد عققتها»(5).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «واعلم، أن حق الأم ألزم الحقوق وأوجبها؛ لأنها

ص: 385


1- مستدرك الوسائل 15: 181.
2- مستدرك الوسائل 15: 182.
3- عوالي اللئالي 1: 269.
4- مستدرك الوسائل 15: 180.
5- مستدرك الوسائل 15: 182.

حملت حيث لا يحمل أحد أحداً، ووقت بالسمع والبصر وجميع الجوارح،مسرورةً مستبشرةً بذلك، فحملته بما فيه من المكروه والذي لا يصبر عليه أحد، ورضيت بأن تجوع ويشبع ولدها، وتظمأ ويروى، وتعرى ويكتسي، ويظلّ وتضحى، فليكن الشكر لها، والبر والرفق بها على قدر ذلك، وإن كنتم لا تطيقون بأدنى حقها إلّا بعون اللّه، وقد قرن اللّه عزّ وجلّ حقها بحقه، فقال: {اشْكُرْ لِي وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}»(1)(2).

3- البيئة الاجتماعية
اشارة

العامل الثالث من عوامل التربية: البيئة الاجتماعية، قال اللّه تعالى في كتابه الكريم عن لسان خليله إبراهيم(عليه السلام): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ الْأُمُورِ}(4).

وقال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(5).

البيئة وآية الأمان

قوله تعالى: {وَ} أي اذكر يا رسول اللّه {إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ} في دعائه للّه تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا} البلد وهو مكة التي بني فيها البيت {الْبَلَدَ ءَامِنًا} عن الأخطار،

ص: 386


1- سورة لقمان، الآية: 14.
2- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 334.
3- سورة إبراهيم، الآية: 35.
4- سورة الحج، الآية: 41.
5- سورة القصص، الآية: 83.

أو محكوماً بحكم الأمن حكماً شرعياً(1).

البيئة وآية المُكنة

في هذه الآية الكريمة يمدح اللّه تعالى الذين إن كانت لهم سُلطة في الأرض مهدّوها لإصلاح الناس وإسعادهم، فجعلوا فيها البيئة الصالحة، وذلك بإقامة ما أمر اللّه به عليها.

قال اللّه سبحانه: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ} بأن كانت لهم المكنة والسلطة {أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ} أي: أدّوها بحقوقها وآدابها وشرائطها {وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ} أعطوها إلى من يستحق حسب موازينها الشرعية {وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ} وهو كل شيء أمر به الشرع أو العقل إيجاباً أو ندباً {وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ} وهو كل شيء نهى عنه الشرع أو العقل تحريماً أو تنزيهاً... {وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ الْأُمُورِ} أي: إن اللّه يرث الأشياء، فالعاقبة والخاتمة له، وهذا وعد للمؤمنين وإيجاد أمل فيهم(2).

البيئة وآية المصلحين

قال في (مجمع البيان) عند تفسير الآية الكريمة: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ...} روى زاذان عن أمير المؤمنين(عليه السلام): أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو دال، يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمرّ بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} ويقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس(3).

إذن: فالآيات الكريمات في هذا المجال تؤكد على أن للبيئة التأثير المباشر والكبير على تربية الإنسان، وأنه - بحسب ما قاله علماء النفس والاجتماع - ثالث

ص: 387


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 134.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 608.
3- تفسير مجمع البيان 7: 464.

العوامل الرئيسية في حقل التربية.

إن الأنبياء^ والسائرين على نهجهم يحاولون خلق الأجواء المناسبة والمناخ الصالح في البيئة، لحمل الذين يعيشون في تلك البيئة على الصلاح والفلاح،وعلى الفوز والنجاح. كما هو واضح لمن راجع سيرتهم الطاهرة.

المراد من عامل البيئة

ونعني بالبيئة هنا الأجواء الاجتماعية، والمناخ السائد من حيث علاقة أفراد المجتمع وجماعاته بعضهم مع بعض، في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية وما إلى ذلك.

إن استقرار البيئة الاجتماعية على الخير والبرّ، وعلى الأخلاق والآداب الإسلامية، لها دخل كبير في استقامة سلوك الأبناء؛ فالبيئة الاجتماعية والمناخ الاجتماعي، تتحمل في الدرجة الثالثة بعد عامل الوراثة وعامل الأسرة، مسؤولية أيّ انحطاط أو تأخر تربوي يصيب أبناءها، فاستقرارها على البرّ والخير، وعلى الاحترام والإكرام من أهم الأسباب والعوامل المؤثرة في تماسك وبناء شخصية الأجيال، وإبعادها عن جميع أشكال الشقاء والدمار، ومن كل أنواع البؤس والحرمان، ممّا تجعل الجيل يشعر أنه يعيش في عالم مرتبك ومتناقض، مليء بالغش والخداع، وبالتوتر والشقاء، وهو يرى نفسه أنه مخلوق ضعيف، لا حول له ولا قوة تجاه وضعه الاجتماعي المتوتر والمضطرب.

اهتمام الإسلام بالبيئة الاجتماعية

لقد اهتم الإسلام كثيراً في أمر البيئة الاجتماعية وإصلاحها، فكان يهدف لأن تسود فيها القيم الإنسانية الراقية من العدل والإنصاف، والحق والمساواة، وأن تنعدم منها مظاهر الفساد والعنف، والظلم والأنانية، وأن تكون مستقرة

ص: 388

خالية من الفتن والإضطرابات، لأن لهذا الجانب تأثيراً مهماً مباشراً على اكتساب الفرد العادات الطيبة، والأخلاق الحسنة من خلال العلاقات والصداقات، وهي من العوامل المؤثرة شديداً، والتي تنقل بسرعة فائقة عاداتالأفراد واتجاهاتهم، وميولهم وطباعهم إلى الآخرين.

وبهذا الخصوص حثّ الإسلام على ضرورة إصلاح البيئة ووعد عليه الأجر والثواب، وحذّر في المقابل من إفساد البيئة وتوعد عليه العذاب والنيران. قال اللّه تعالى: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا}(1).

كما وأكدّ الإسلام على مجانبة الأشرار والمفسدين من جهة، وحرّض من جهة ثانية على مصاحبة الأخيار والمتدينين ومرافقة ذوي الشرف والاستقامة؛ حتى يكسب الفرد منهم حسن السلوك ومكارم الأخلاق.

البيئة الاجتماعية في الروايات

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أحسن مصاحبة الإخوان استدام منه الوصلة»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) أيضاً: «خير الأصحاب أعونهم على الخير، وأعملهم بالبر، وأرفقهم بالمصاحب»(3).

ويقول الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) في وصيته لجنادة: «... وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة، فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك. وإن قلت صدّق قولك، وإن صُلت شدّ صولك، وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن بدت عنك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنة

ص: 389


1- سورة الأعراف، الآية: 56.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 632.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 365.

عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتدأك»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «استرعوا دين اللّه بالرغبة في مصاحبة العلموأهله قبل انتقاض عراه». قال عبد الرحمن بن الحجاج: كيف ينتقض عراه يا ابن رسول اللّه؟ قال: «إذا مات العالم انتقض عراه، وبقي الناس كالغنم لا راعي لها فضل مرعاها، ولا تهتدي مأواها»(2).

وروي أن لقمان الحكيم قال لابنه: «يا بني، إياك ومصاحبة الفساق، هم كالكلاب، إن وجدوا عندك شيئا أكلوه، وإلّا ذموك وفضحوك، وإنما حبهم بينهم ساعة. يا بني، معاداة المؤمن خير من مصادقة الفاسق(3).

يا بني، المؤمن تظلمه ولا يظلمك، وتطلب عليه ويرضى عنك، والفاسق لا يراقب اللّه فكيف يراقبك؟!»(4).

وقال نبي اللّه سليمان(عليه السلام): «لا تحكموا على رجل بشي ء حتى تنظروا من يصاحب، فإنما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه، وينسب إلى أصحابه وإخوانه»(5).

تلخيص عامل البيئة

وعليه: فإنه ينبغي للمؤمنين أن يسعوا جميعاً لتوفير البيئة السالمة والمستقرة، وأن يختاروا أصدقاءهم وجلساءهم ممن يتسمون بالأخلاق الحسنة والصفات الحميدة، والذين تتوفر فيهم الصفات التي أشار إليها الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)، وينبغي لهم أن يكونوا حذرين من مصاحبة المنحرفين في

ص: 390


1- كفاية الأثر: 228.
2- الدعوات: 220.
3- يريد بيان تشديد الحذر من مصادقة الفاسق، فإن معاداة المؤمن مع شدة حرمته هو أهون خطراً على الإنسان من مصادقة الفاسق؛ إذ مصادقة الفاسق تذهب بدنيا الإنسان وآخرته معاً.
4- الإختصاص: 338.
5- كنز الفوائد 1: 98.

أخلاقهم وسلوكهم؛ لأنهم سيشكلون عامل انحراف يدفع باتجاه الأثم والفساد، وعلى المؤمنين أن يراعوا هذه المواصفات في رسم وتحديد علاقات أبنائهم وأفراد أسرتهم فيالمجتمع؛ ليكسبوا الأخلاق الحميدة والعادات الحسنة، ويتجنبوا مزالق الانحراف ومهاوي الفساد.

التأكيد على مصاحبة الأخيار

وفي ما يخص صحبة الأخيار يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ليس شيء أدعى لخير وأنجى من شر، من صحبة الأبرار»(1).

ويقول(عليه السلام) أيضاً: «صحبة الولي اللبيب حياة الروح»(2).

وفيما يخص صحبة الأشرار ينهى الإمام(عليه السلام) عنها، لما لها من عواقب وخيمة فيقول: «صحبة الأشرار تكسب الشر، كالريح إذا مرت بالنتن حملت نتناً»(3).

ويقول(عليها السلام): «مصاحب الأشرار كراكب البحر، إن سلم من الغرق لم يسلم من الفرق»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «جُمع خير الدنيا والآخرة في: كتمان السر، ومصادقة الأخيار. وجُمع الشر في: الإذاعة، ومؤاخاة الأشرار»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «وأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى شعيب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أني معذب من قومك مائة ألف: أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفا من خيارهم. فقال(عليه السلام): يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟! فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه:

ص: 391


1- عيون الحكم والمواعظ: 411.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 420.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 420.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 709.
5- الإختصاص: 218.

داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي»(1).وقال الإمام الهادي(عليه السلام): «مخالطة الأشرار تدل على شرار من يخالطهم»(2).

التربية: مسؤولية الجميع

ظهر من هذه اللمحة المختصرة من الكلام، ما للتربية من أثر كبير في تنشئة الجيل الصالح، مضافاً إلى عامل البيئة الصالحة، مما يكشف أن مسؤولية تربية الأجيال أمانة في أعناق الجميع، بدءً من الأب والأم في محيط الأسرة الصغير، وانتهاءً بالمجتمع بصورة عامة، فجميعهم مسؤولون مسؤولية مشتركة عن رعاية الأجيال، وتوفير الأجواء المناسبة وإعداد مستلزمات التربية الصالحة لهم، وإبعادهم عن مزالق الرذيلة ومهاوي الجريمة.

يقول الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه تعالى سائل كل راع عمّا استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيّعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته»(3).

ويقول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «ألاكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(4).

ويقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «كل امرئ مسئول عمّا ملكت يمينه وعياله»(5).

ص: 392


1- الكافي 5: 56.
2- نزهة الناظر: 140.
3- نهج الفصاحة: 296.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 539.

ويقول الإمام زين العابدين(عليه السلام) في دعائه لبنيه ضمن أدعية الصحيفة السجادية: «اللّهم ومُنّ عليّ ببقاء ولدي، وبإصلاحهم لي وبإمتاعي بهم، إلهي امدد لي فيأعمارهم، وزد لي في آجالهم، وربِّ لي صغيرهم،وقوّ لي ضعيفهم، وأصح لي أبدانهم وأديانهم وأخلاقهم، وعافهم في أنفسهم، وفي جوارحهم، وفي كل ما عنيت به من أمرهم، وأدرر لي وعلى يدي أرزاقهم، واجعلهم أبراراً أتقياء بصراء سامعين مطيعين لك ولأوليائك، محبين مناصحين، ولجميع أعدائك معاندين ومبغضين، آمين. اللّهم اشدد بهم عضدي، وأقم بهم أودي، وكثِّر بهم عددي، وزين بهم محضري، وأحي بهم ذكري... وأعني على تربيتهم وتأديبهم وبرهم...»(1).

خلاصة البحث

والخلاصة: إن الآيات الكريمة وكذلك الروايات الشريفة، تثبت أن المسؤولية في إعداد الأجيال الصالحة تشمل الجميع، وفي عاتق الجميع، وذلك كلاً حسب اختصاصه وموقعه.

فينبغي لكل فرد منا أن يمارس دوره في العملية التربوية داخل أسرته ومجتمعه، وأن يجعل الآخرين يتحسسون بواجباتهم ومسئولياتهم تجاه أبنائهم ومجتمعهم؛ فإن فساد أسرة واحدة، بل شخص واحد، له تأثير سلبي ولو بنسبة معينة على المجتمع كله الذي يضم الأسر الأخرى والأفراد الآخرين، وله تأثير غير محمود على معايير المجتمع السلوكية والأخلاقية التي تربط أفراده بعضهم ببعض، وقد أوضحنا أن لكل من الفرد والأسرة والمجتمع تأثيراً على سلوك الأولاد والأبناء وتوجهاتهم المستقبلية، وهذا ما يحتّم علينا أن نسعى في إصلاح

ص: 393


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) لولده.

أنفسنا وإصلاح مجتمعنا حتى نتمكن من إعداد جيل مؤمن ومن إسعاف الأمة الإسلامية بالأجيال الصالحة المستقيمة التي تضمن تقدمها وازدهارها، وتقضيعلى عوامل التخلف والتأخر في كل المجالات المادية والمعنوية.

«اللّهم، ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة... وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة، وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرحمة، وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة... بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

من هدي القرآن الحكيم

التربية الإيمانية

قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٖ كُلُّ امْرِيِٕ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}(2).

وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ

ص: 394


1- البلد الأمين: 349.
2- سورة الطور، الآية: 21.
3- سورة آل عمران، الآية: 159.

تُفْلِحُونَ}(1).

التربية والبيئة الصالحة

قال تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَٰنُ لِلْإِنسَٰنِ خَذُولًا}(2).

وقال سبحانه: {قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَٰهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَٰكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}(5).

تزكية النفس

قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ}(6).

وقال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ

ص: 395


1- سورة آل عمران، الآية: 200.
2- سورة الفرقان، الآية: 27-29.
3- سورة الكهف، الآية: 66.
4- سورة الشعراء، الآية: 69-74.
5- سورة النساء، الآية: 140.
6- سورة النازعات، الآية: 40.

صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(2).وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}(3).

المجتمع والمسؤولية التربوية

قال عزّ من قائل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَعَلَى الثَّلَٰثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(5).

وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(7).

ص: 396


1- سورة التوبة، الآية: 103.
2- سورة التغابن، الآية: 16.
3- سورة النساء، الآية: 110.
4- سورة آل عمران، الآية: 104.
5- سورة التوبة، الآية: 118.
6- سورة المائدة، الآية: 2.
7- سورة الحجرات، الآية: 10.

من هدي السنّة المطهّرة

تزكية النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «جاهدوا أهواءكم تملكوا أنفسكم»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، تولوا من أنفسكم تأديبها، واعدلوابها عن ضراوة عاداتها»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «صلاح النفس قلة الطمع»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن أسلمت نفسك للّه سَلِمَتْ نفسك»(4).

وقال(عليه السلام): «أرجى الناس صلاحاً من إذا وقف على مساويه سارع إلى التحول عنها»(5).

وجاء في الدعاء عن الإمام زين العابدين(عليه السلام): «اللّهم صل على محمد وآله، وادرأ عني بلطفك، واغذني بنعمتك، وأصلحني بكرمك»(6).

تأثير الوراثة في سلوك الفرد

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق»(7).

وقال أبو جعفر(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لاتسترضعوا الحمقاء، فإن اللبن يعدي، وإن الغلام ينزع(8). إلى اللبن، يعني إلى الظئر، في الرعونة

ص: 397


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 122.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 359.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 416.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 258.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 215.
6- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 346.
8- نزع إليه: أشبهه، والرعونة: الحمق والاسترخاء.

والحمق»(1).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «استرضع لولدك بلبن الحسان، وإياك والقباح فإن اللبن قد يعدي»(2).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «لا تسترضع للصبي المجوسية... ولايشربن الخمر، ويمُنعن من ذلك»(3).

تأثير البيئة على الفرد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أولى الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) فيما كتب إلى الحارث الهمداني: «واحذر صحابة من يفيل(5).

رأيه وينكر عمله، فإن الصاحب معتبر بصاحبه»(6).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «لا تصحبوا أهل البدع، ولا تجالسوهم؛ فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): المرء على دين خليله وقرينه»(7).

وعن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) عن آبائه^ قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): سائلوا العلماء وخالطوا الحكماء، وجالسوا الفقراء»(8).

ص: 398


1- الكافي 6: 43.
2- الكافي 6: 44.
3- الكافي 6: 44.
4- من لا يحضرة الفقيه 4: 395.
5- فال الرأي، يفيل: أي ضعف.
6- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 69 من كتاب له(عليه السلام) إلى الحارث الهمذاني.
7- الكافي 2: 375.
8- النوادر للراوندي: 26.
مسؤولية الآباء تجاه الأبناء

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من حق الولد على والده ثلاثة: يحُسّن اسمه، ويعلّمه الكتابة، ويزوّجه إذا بلغ»(1).

وقال رجل: يا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما حق ابني هذا؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تحسّن اسمه وأدبه،وضعه موضعاً حسناً»(2).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أحبوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم؛ فإنهم لا يدرون إلّا أنكم ترزقونهم»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): حق الولد على والده إذا كان ذكراً أن يستفره أمه، ويستحسن اسمه، ويعلّمه كتاب اللّه، ويطهره، ويعلمه السباحة، وإذا كانت أنثى أن يستفره أمها ويستحسن اسمها، ويعلمها سورة النور، ولا يعلمها سورة يوسف، ولا ينزلها الغرف، ويعجل سراحها إلى بيت زوجها»(4).

ص: 399


1- روضة الواعظين 2: 369.
2- الكافي 6: 48.
3- الكافي 6: 49.
4- الكافي 6: 48.

اغتنام الفرص

الزمن وعمر الإنسان

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن الفرص تمر مرّ السحاب، فانتهزوها إذا أمكنت في أبواب الخير، وإلّا عادت ندماً»(1).

إن الإنسان في هذه الدنيا مرهون بساعات عمره من جهة، ومرهون بالزمن المحيط به من جهة أخرى، فلكل منهما قيمة لاتقدر بشيء؛ لأن الإنسان إنما يقيّم بعمله.

فاللّه عزّ وجلّ يحاسب الإنسان من منظار العمل، كما أن المجتمع يقّدر الإنسان ويقيمّه من خلال عمله أيضاً. إذن فالعمل هو الجهة المهمة في الإنسان، وعلى أساسها يكون للإنسان الاعتبار، ولكن هذا العمل مرهون بأمرين هما: العمر، والزمن.

ولا يخفى أن العمر يتكون من مجموعة ساعات متلاحقة، فإذا استطاع الإنسان أن يستثمر عمره هذا وساعاته تلك بعمل الخير، فإنه يكون قد ضمن مصيراً سعيداً لنفسه، يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن عمرك عدد أنفاسك وعليها رقيب تُحصيها»(2).

ص: 400


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 238.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 222.

فلا يحسب المرء أن لحظات عمره إنما تذهب اعتباطاً وبدون حساب، بل إنها تُسجل عليه، ويسجل كل ما يعمل فيها من عمل، خير أو شر، فهي محسوبة عليه وهو محاسب عليها بالنهاية، ولذا ينبغي له اغتنامها لحظة لحظة وجزءاً جزءاً، ولا يحسب أن عمره سيطول، فيؤجل عمله إلى الغد وبعد الغد، فإن: «العمر تفنيه اللحظات»(1).

إن تقدم العمر بالإنسان عبارة عن قرب نهاية وجوده على هذه البسيطة، وخاتمة عمره في هذه الدنيا، والدنيا - كما في الحديث الشريف - (مزرعة الآخرة)، فلا بدّ للعاقل من استغلالها للآخرة، وعليه: فالساعات التي يضيّعها الإنسان هنا وهناك، بلا استثمار ولا استغلال، فإنه إنما يضيع بها جزءاً من وجوده، ويخسر عبرها مقداراً من أيام عمره.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الساعات تنهب الأعمار»(2).

وقال(عليه السلام) في خطبة له: «أيها الناس، إنه من مشى على وجه الأرض فإنه يصير إلى بطنها، والليل والنهار يتنازعان في هدم الأعمار»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «واعلموا، أن الأمل يسهي العقل وينسي الذكر، فأكذبوا الأمل، فإنه غرور وصاحبه مغرور»(4).

وقال(عليه السلام): «فاللّه اللّه معشر العباد، وأنتم سالمون، في الصحة قبل السقم، وفي الفسحة قبل الضيق، فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها»(5).

ص: 401


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 30.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 30.
3- الكافي 8: 23.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 86 من خطبة له(عليه السلام) وفيها بيان صفات الحق جلّ جلاله.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 183 من خطبة له(عليه السلام) في قدرة اللّه وفضل القرآن.

وقال(عليه السلام): «إنكم إن رغبتم في الدنيا أفنيتم أعماركم في ما لاتبقون له، ولا يبقى لكم»(1).

وقال(عليه السلام): «إن أوقاتك أجزاء عمرك، فلا تنفد لك وقتاً إلّا فيما ينجيك»(2).

استثمار العمر

لكي يحافظ الإنسان على فرصة عمره يلزم عليه أن يستثمر ساعات العمر، ولحظات الزمن بالعمل الصالح؛ إذ بواسطته سوف يطول عمر الإنسان؛ لأن «بركة العمر في حسن العمل»(3) أو كما جاءت الأخبار متظافرة، في أن الصدقة وصلة الرحم تزيدان في العمر. فعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «صلة الأرحام تثمر الأموال وتنسيء في الآجال»(4).

وقال(عليه السلام): «بالصدقة تفسح الآجال»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسر الحساب، وتنسئ في الأجل»(6).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار»(7).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره

ص: 402


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 270.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 243.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 312.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 420.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 299.
6- الكافي 2: 150.
7- الأمالي للشيخ الطوسي: 305.

ثلاث سنين فيصيرها اللّه ثلاثين سنة، ويفعل اللّه ما يشاء»(1).

ولا يخفى أن الصدقة وصلة الرحم، كلاهما من العمل الصالح والبِرّ والخير الذي دعت الشريعة إليها وشجعت عليها.

ومن جهة ثانية: فإن الإنسان عندما يؤدي العمل الصالح ويأتي بفعل الخير، فإنه يشعر بالراحة النفسية؛ لأنه يرى أن فعله هذا صدر في محله، وأنه قد استفاد من الزمن استفادة تامة، وأنه سوف لا يتحسر يوم القيامة على هذه اللحظات والساعات، على العكس من الذي ضيع ساعات عمره في اللّهو واللعب، فإنه يندم على كل لحظة لم يستثمرها في فعل الخير، ويتعقب ذلك الندم حسرة نفسية وكآبة روحية.

ومن جهة ثالثة: فإن الذي يقدّر الزمن ويعمد إلى صالح الأعمال، إنما يزيد لروحه ومعنويته معنوية وكمالاً مضاعفاً، ومضافاً إلى طول عمره عندما يأتيه الموت تراه فرحاً مستبشراً؛ لأنه يشعر أنه غير مقصر في أمره، فلا يندم ولا يتحسر كما يتحسر من ضيع عمره، فبهذا الاهتمام والاغتنام وبفضل اللّه تعالى يضمن نجاته من أليم العذاب.

بعكس الذي لا يعرف قدر الزمن وثمن الساعات، فتمر عليه السنين والأعوام وهو في غفلة من أمره، فتراه يراوح في مكانه دون أن يتقدم، ودون أن يضفي على نفسه كمالاً، فهذا مضافاً إلى تأخره وتقهقره في حياته، واضطرابه وخوفه عند موته، يحصد يوم القيامة حسرة وندامة، نتيجة جهله بالزمن وتغافله عن قيمة العمر والحياة.

وعليه: فالزمن مجموعة ساعات تتخللها فرص ثمينة للإنسان، فالذكي من

ص: 403


1- الكافي 2: 150.

اغتنمها وعمل فيها فربحها، والشقي من غفل عنها ولم يعمل فيها فخسرها، فإنها لن تعود أبداً.

الفُرَص وطول الأمل

الفُرَص هي عبارة عن أوقات زمانية رائعة، لما تحمل في طيّاتها من خير للإنسان، ولكن على الإنسان أولاً: أن يدرك أن هذه اللحظات هي الفرصة التي لا تعود.

ويعرف ثانياً: كيف يستغلّها ويستفيد منها فائدة عقلائية، فالبعض من الناس عندما تتهيأ له الأسباب الجيدة، أو مقدمات النجاح، تراه يعرض عن استثمارها، بل أحياناً تأتي الفرصة جاهزة فيأتيه الخير كله، وما يبقى عليه إلّا أن يمد يده نحوه ليأخذه، ومع ذلك يتوانى ويفرّط ويترك الأمر، استجابة لطول الأمل، واتباعاً للهوى، واتكالاً على أن في العمر فسحة، وفي الأجل مدة!، وأن عمره طويل!، واعتقاداً بأنه إذا ذهبت هذه الفرصة فسوف تأتي فرصة أخرى بدلها، وهكذا يدع الفرص تمرّ من بين يديه مر السحاب، وهو ينظر إليها غير معتنٍ بها ولا مغتنم لها؛ والسبب في هذا التغافل هو انعدام الهدف في الحياة، ونسيان عالم الآخرة، والركون إلى الدنيا، والتعلق بها والانهماك فيها، ولكنه بعد مرور الزمن سوف يتحسر على خسران تلك الفرص، ويندم على إضاعة العمر وإتلاف الوقت، دون أن يستغله في خيره وكماله.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «قصّر الأمل، فإن العمر قصير، وافعل الخير فإن يسيره كثير»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «الفرص خلس، الفوت غصص»(2).

ص: 404


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 503.
2- مستدرك الوسائل 12: 141.

فعلى الإنسان العاقل والذكي أن يستغل أوقاته بشكل تام وصحيح، وأن يستقبل الفرص ويتقدم هو نحوها، لا أن ينتظر قدومها هي نحوه.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «رحم اللّه امرأ اغتنم المهل وبادر العمل...»(1).

أما الإتكال على طول الأمل، ومجّرد الأماني، والاغترار بالوساوس الشيطانية، والأفكار الواهية، وإقناع المرء نفسه بأنه طويل العمر، وأن عمل اليوم سوف يقوم به غداً، وما إلى ذلك، فهذا كله عبارة عن الإسراف والتبذير للعمر الغالي، والتسويف والتضييع للوقت الثمين، وهي ليست من علامات الإنسان الناجح، بل وليست من علامات الإنسان العاقل والمؤمن أيضاً.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «شيمة الأتقياء اغتنام المهلة والتزود للرحلة»(2).

ولا يخفى أن الفرص التي تتهيأ اليوم لعلها - بل غالباً - لا تتهيأ غداً، ولن تتوفّر أبداً، فيظل الإنسان يتجرع غصص الندم والحسرة. يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من وجد مورداً عذباً يرتوي منه فلم يغتنمه، يوشك أن يظمأ ويطلبه ولم يجده»(3).

ثم إن هناك أخباراً كثيرة تذم طول الأمل، وتعتبره من لوازم حب الدنيا المهلك للإنسان، وإنه أحد أسبابه. فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا ذر، إياك والتسويف بأملك، فإنك بيومك، ولست بما بعده، فإن يكن غد لك تكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غد لك لم تندم على ما فرطت في اليوم، ... يا أبا ذر، لو

ص: 405


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 373.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 414.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 596.

نظرت إلى الأجل ومسيره لأبغضت الأمل وغروره، ... يا أبا ذر، إذا أصبحت فلاتحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من أطال الأمل أساء العمل»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إياك وطول الأمل، فكم من مغرور افتتن بطول أمله، وأفسد عمله، وقطع أجله، فلا أمله أدرك، ولا ما فاته استدرك»(4).

ثم إن الجهل هو السبب الآخر لطول الأمل، ويمكن معالجته ودفعه بالعلم والفكر الصافي، كما ويمكن معالجة ودفع الأول، أي: حب الدنيا، بالتوجه إلى اللّه عزّ وجلّ.

وبالجملة: فاللازم على الإنسان أن يقصر أمله في هذه الحياة، وأن يرى الآخرة على مقربة منه، وأنه صائر عن قريب إليها، ومنقطع عن تدارك ما فاته فيها.

مع أسامة بن زيد

ورد في التاريخ أن أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر، فسمع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال: «ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر؛ إن أسامة لطويل الأمل، والذي نفسي بيده، ما طرفت عيناي إلّا ظننت أن شفريّ لا يلتقيان

ص: 406


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 526.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 42 من كلام له(عليه السلام) وفيه يحذر من ابتاع الهوى وطول الأمل في الدنيا.
3- نهج البلاغة، الحكم: الرقم 36.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 171.

حتى يقبض اللّه روحي، ولا رفعت طرفي وظننت أني خافضه حتى أقبض، ولا لقمتلقمة إلّا ظننت أني لا أسيغها لحصرتها من الموت، ثم قال: يا بني آدم، إن كنتم تعقلون، فعدّوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأتٖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}»(1)(2).

وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول في دعائه: «اللّهم، إني أعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة، ومن حياة تمنع خير الممات، وأعوذ بك من أمل يمنع خير العمل»(3).

وقال الأصمعي(4):

حدثني من أثق به قال: غزونا البحر سنة، فمالت بنا السفينة إلى جزيرة، فإذا قصر شاهق، وللقصر بابان وإلى جنبه قبر، وبين القبر والقصر فسيل(5)

لم أر فسيلاً أحسن منه، وعلى القبر مكتوب:

يؤمّل دنيا لتبقى له *** فمات المؤمل قبل الأمل

وبات يروي أصول الفسيل *** فعاش الفسيل ومات الرجل

وعلى وجه القصر مكتوب:

وفتى كأن جبينه بدر الدجى *** قامت عليه نوائح وروامس(6)

غرس الفسيل مؤملاً لبقائه *** فبقى الفسيل ومات عنه الغارس(7)

ص: 407


1- سورة الأنعام، الآية: 134.
2- مشكاة الأنوار: 87.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 273.
4- عبد الملك بن قريب أبو سعيد الأصمعي (122-216ه) أحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان.
5- الفَسيل: كل عود يقطع من شجرته فيغرس، صغار النخل.
6- الروامس: كل دابة تخرج بالليل.
7- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 128.
اغتنام الفرص دليل الحزم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا ذر، اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اغتنم المهل، وبادر الأجل، و تزود من العمل»(2).

وقال الغلابي: سألت الإمام الهادي(عليه السلام) عن الحزم؟ فقال(عليه السلام): «هو أن تنتظر فرصتك، وتعاجل ما أمكنك»(3).

لما كان طول الأمل أحد الدواعي الرئيسية لتفويت الفرص، كان التفريط هو السبب الثاني لذلك. ولكن تارة يكون التفريط فرعاً عن طول الأمل، أي: بسبب طول الأمل ينتج التفريط، وتارة أخرى ينتج بسبب الجهل، فالجاهل قدر الفرصة تمر الفرص من بين يديه وهو غير ملتفت إليها أبداً.

وعكس التفريط في الأمر هو الحزم في الأمور، وعدم تركها للظروف الإستثنائية، لأن ترك الأمر يؤدي إلى هدم حزم الإنسان وانهياره في داخله، يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ضادوا التفريط بالحزم»(4).

وحيث إن التفريط موجب لتفويت الفرصة وخسرانها، نرى أهل البيت^ يؤكدّون على الحزم والجزم في الأمور، وينهون عن التهاون والتفريط في الأعمال، ويحثّون على قصر الأمل وعدم التعويل على الأماني، لكي يكون الإنسان غانماً في حياته.

ص: 408


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 526.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 76 من خطبة له(عليه السلام) في الحث على العمل الصالح.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 138.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 427.

فهذا الإمام الحسن(عليه السلام) وهو في آخر لحظاته، وكان يقذف كبده الشريف قطعة قطعة!، كان في تلك اللحظات يَعِظْ (جنادة)، فقد روي عن جنادة بن أبي أمية(1) قال:

دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب^ في مرضه الذي توفي فيه، وبين يديه طست يقذف عليه الدم، ويخرج كبده قطعة قطعة من السم الذي أسقاه معاوية، فقلت: يا مولاي، ما لك لا تعالج نفسك؟

فقال(عليه السلام): «يا عبد اللّه، بماذا أعالج الموت؟!».

قلت: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}(2).

ثم التفت(عليه السلام) إليّ فقال: «واللّه، لقد عهد إلينا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة، ما منا إلّا مسموم أو مقتول».

ثم رفعت الطست، وبكى صلوات اللّه عليه وآله، قال: فقلت له: عظني يا ابن رسول اللّه.

قال: «نعم، استعد لسفرك، وحصل زادك قبل حلول أجلك. واعلم، أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك. ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه. واعلم، أنك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلّا كنت فيه خازناً لغيرك. واعلم، أن في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب. فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك، فإن كان ذلك حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر، فأخذت كما أخذت من الميتة، وإن كان العتاب فإن العتاب يسير. وأعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل

ص: 409


1- قال الشيخ في رجاله: جنادة بن أبي أمية الأزدي من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سكن مصر. رجال الطوسي: 34.
2- سورة البقرة، الآية: 156.

لآخرتك كأنك تموت غداً. وإذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذل معصية اللّه إلى عزّ طاعة اللّه عزّ وجلّ...»(1).

وهكذا كان الإمام الحسن(عليه السلام) فإنه قد اقتدى بجدّه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حيث إن الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو في آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة يحاول أن يستغل تلك الثواني ويستخدمها من أجل نفع الأمة، قائلاً: «أئتوني بدواة وكتف، اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً»(2) فكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حريصاً على سعادة الأمة بعده، وحريصاً على بقاء السير الواعي فيها، لكيلا تنقلب على عقبها.

ص: 410


1- بحار الأنوار 44: 138.
2- الإرشاد 1: 184. وذكر العلامة المجلسي في بحار الأنوار، بسنده عن عبد اللّه بن عباس قال: لما حضرت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الوفاة، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً» فقال: لا تأتوه بشي ء، فإنه قد غلبه الوجع!، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب اللّه، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول اللّه، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما كثر اللغط والاختلاف قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قوموا عني» قال عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة: وكان ابن عباس رحمه اللّه يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبين أن يكتب لنا ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. بحار الأنوار22: 474. وروي باختلاف يسير في اللفظ، في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 2: 55. ورواه البخاري في صحيحه 7: 9، ومثله في السنن الكبرى للنسائي3: 433، ورواه ابن حنبل في مسنده 1: 222، وفي السنن الكبرى للبيهقي عن سليمان بن أبي مسلم قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس رضي اللّه عنهما يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس، ثم بكى، ثم قال: اشتد وجع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «ائتوني اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً»، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقال: «ذروني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه». السنن الكبرى 9: 207، وعن الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن عباس قال: دعا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكتف فقال: «ائتوني بكتف، أكتب لكم كتاباً لا تختلفون بعدي أبداً» فأخذ من عنده من الناس في لغط، فقالت امرأة ممن حضر: ويحكم، عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليكم. فقال بعض القوم: اسكتي، فإنه لا عقل لك. فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنتم لا أحلام لكم». مجمع الزوائد 4: 215.

فالرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومون^ كانوا قد وظفوا كل أعمارهم حتى آخر لحظات حياتهم من أجل تقديم الهداية والسعادة للبشرية.

مع مؤلف مستدرك البحار

كنت وقبل خمسين عاماً تقريباً برفقة والدي المرحوم السيد ميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه) في زيارة للمرحوم السيد حسين القمي(رحمه اللّه) في سامراء، وكان الجوّ حاراً للغاية، فلما فرغ السيد القمي(رحمه اللّه) من صلاة العشائين وتناول قليلاً من الطعام، ذهب مع أصحابه العلماء إلى منطقة الشطيّة(1) وقضى ليلته هناك، وكان من جملة أصحابه الذين رافقوه: المرحوم الميرزا محمد الطهراني(2) ذلك العالم الفقيه، المتقي الخدوم، الذي كان لايعرف الكلل والملل، وكان منشدّاً ومنكباً على تأليف كتابه: «مستدرك البحار». وكان طوال تلك الليلة لا يفتر من الكتابة، وقضى أكثرها بالتأليف والتحقيق، وكان لا تصدّه الموانع، ولاتعيقه المشاكل والصعوبات، وكان يستضيء للكتابة بمصباح ذي بطّارية، حيث كان يأخذ المصباح بيد ويكتب باليد الأخرى، فاستغل وقت الراحة هذا بالتأليف والكتابة والبحث، فأفاد واستفاد(رحمه اللّه).

ص: 411


1- الشطيّة: منطقة في مدينة سامراء تقع قرب نهر دجلة تمتاز باعتدال المناخ ولطافة الهواء.
2- الشيخ الجليل الميرزا محمد بن رجب علي الطهراني (1281-1371ه) العسكري، نزيل سامراء. فقيه، بحاثة، محدث، عارف بالرجال. من آثاره: الفوائد العسكرية في ثلاث مجلدات، الصحيفة المهدوية في أدعية الإمام الثاني عشر(عليه السلام)، ومستدرك بحار الانوار في (25 مجلداً) ومستدرك إجازات بحار الأنوار في ست مجلدات. ورسالة في كرامات السيد محمد بن الإمام علي الهادي(عليه السلام). جاء في الذريعة: مستدرك بحار الأنوار: لمولانا العلامة الميرزا محمد بن رجب علي الطهراني العسكري نزيل سامراء، كتب أولاً (مصابيح الأنوار) في فهرس أبواب البحار ثم اشتغل باستدراك كل باب، واستدرك في كثير من أبوابه، واستدراك مجلده الأخير في الإجازات ثمينة جداً بلغ ست مجلدات كبار. انظر: معجم المؤلفين 9: 307 والذريعة إلى تصانيف الشيعة 21: 4.
مع المحدث القمي(رحمه اللّه)

ومما يذكر في هذا المجال أيضاً: إن إحدى الشخصيات المعروفة في النجف الأشرف، سافر ذات مرة إلى لبنان برفقة جماعة لأجل الاستجمام، فعمد إلى الشيخ عباس القمي(رحمه اللّه) مؤلف كتاب (مفاتيح الجنان) وأخذه معه.

يقول ذلك الشخص: فلما وصلنا إلى لبنان واستقر بنا المقام، انكب الشيخ عباس القمي(رحمه اللّه) على التأليف والكتابة ولزم غرفته، ولم يخرج منها إلّا للأمور الضرورية اللازمة، وكل ما أصررنا عليه حتى نأخذه معنا للمنتزهات البهيجة والمصايف الجميلة، لكي يرفه عن نفسه ويبتهج بمناظرها ومباهجها، وطراوة أشجارها وصفاء هوائها، لكنه لم يقبل ولم يستجب لنا، بل اغتنم الفرصة بجزم وحزم، وبقي مشتغلاً بالتأليف والتصنيف، وألفّ في ذلك المكان عدة مؤلفات، فللّه درّه وعليه أجره(رحمه اللّه).

الكتب بساتين العلماء

وكان والدنا السيد الميرزا مهدي(رحمه اللّه) من هذا الركب، فقد كان يؤثر البقاء في كربلاء المقدسة، ولم يكن يخرج منها للتنّزه والاستجمام في بساتينها ومزارعها، بين أشجارها وسنابلها، وأنهارها وعيونها، علماً بأن كربلاء المقدسة كانت تمتاز بكثرة بساتينها الوارفة ومياهها الغزيرة، وأشجارها ونخيلها، وكانت البساتين قريبة على كربلاء، هذا على الرغم من أن كثيراً من أصحابه ومقلديه كانوا يطلبون منه ذلك، ويصرّون عليه في الخروج إليهم، لكنه(رحمه اللّه) لم يخرج ولا مرّة، وذلك ليغتنم فرصة العمر ولايفوّت على نفسه لحظة من لحظاته قدر الإمكان، فإنه لو فات شيء منها لم يمكن استردادها ولا تداركها، لذلك كانوا كل ما أشاروا عليه بالتنّزه وقالوا بأن النزهة ضرورية لمثل سماحتكم وهكذا الاستراحة والترفيه، كان يذكر

ص: 412

الحديث الوارد عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الكتب بساتين العلماء»(1).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أدلكم على الخلفاء من أمتي، ومن أصحابي، ومن الأنبياء قبلي؛ هم: حملة القرآن والأحاديث عني وعنهم في اللّه وللّه عزّ وجلّ، ومن خرج يوماً في طلب العلم فله أجر سبعين نبياً»(2).

نماذج أخرى

هذا ولا يخفى: أن التنزه - مع رعاية الشروط الشرعية - شيء جائز، وربما كان ممدوحاً وجميلاً، فهناك روايات تدعو إليه وتمدحه، وليس قصدنا هنا ذم التنزه والتحامل عليه، وإنما نريد أن نقول: إن بعض الناس حريصون على وقتهم، شحيحون على عمرهم، بحيث يعتبرون التنزّه مضيعة للوقت، والاستجمام متلفة للعمر؛ ولذلك تراهم دائماً يرّجحون الأعمال والانجازات التي كانت تحت أيديهم على الاستجمام والتنزه ويقدّمون للمجتمع منجزات كبيرة ومعطيات عظيمة، وعلى الإنسان المؤمن أن يتعلم منهم ومن قدوتهم وأسوتهم الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين^ ذلك.

فقد روي عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: استقبلت أبا عبد اللّه الإمام الصادق(عليه السلام) في بعض طرق المدينة في يومٍ صائفٍ شديد الحر، فقلت: جعلت فداك، حالك عند اللّه عزّ وجلّ وقرابتك من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأنت تجهد لنفسك في مثل هذا اليوم؟!

فقال: «يا عبد الأعلى، خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك»(3).

ص: 413


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 54.
2- مستدرك الوسائل 17: 301.
3- الكافي 5: 74.

وعن الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «لقي رجل أمير المؤمنين(عليه السلام) وتحته وسق من نوى، فقال له: ما هذا يا أبا الحسن تحتك؟ فقال: مائة ألف عذقٍ، إن شاء اللّه، قال: فغرسه، فلم يغادر منه نواة واحدة»(1).

وفي رواية أخرى عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «إن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يخرج ومعه أحمال النوى، فيقال له: يا أبا الحسن، ما هذا معك؟ فيقول: نخلٌ، إن شاء اللّه، فيغرسه فلم يغادر منه واحدة»(2).

وعن أبي عمرو الشيباني قال: رأيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له، والعرق يتصاب عن ظهره، فقلت: جعلت فداك، أعطني أكفك؟ فقال لي: «إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة»(3).

نعم، هكذا كانوا^، وكذلك يلزم أن يكون شيعتهم.

مع مؤلف اللمعة الدمشقية

يُذكر أن الشهيد الأول(رحمه اللّه) استطاع أن يكتب كتابه: (اللمعة الدمشقية) في مدة لا تتجاوز السبعة أيام، ولم يحضره من المراجع الفقهية غير كتاب: (المختصر النافع) للمحقق الحلي، علماً بأن الشهيد(رحمه اللّه) كان لا يخلو بيته من أبناء العامة، ورجال السياسة الذين كانوا يضيّقون عليه، ولكنه عندما بدأ بكتابة (اللمعة الدمشقية) لم يدخل بيته ولم يمر به أحد منهم لمدة سبعة أيام!

وما زال هذا الكتاب المبارك يستفيد منه عشرات الآلاف من طلاب العلوم

ص: 414


1- الكافي 5: 75.
2- الكافي 5: 75.
3- الكافي 5: 76.

الدينية، والذين بدورهم ينشرونه على الملايين من البشر، عن طريق المنبر، والمحراب، والوكلاء، وكذلك المجتهدون مباشرة.

الشهيد الأول(رحمه اللّه) وكيفية شهادته

ولبيان همة هذا العالم الكبير - الشهيد الأول - وشدة معاناته، لابأس بذكر قصة استشهاده، فقد ذكر أن شخصاً يدعى محمد اليالوشي أسس في جبل عامل حزباً منحرفاً، استطاع أن يغوي به بعض عوام الناس ويخدعهم، ويثير بينهم النعرات الطائفية وفتنة داخلية، راح ضحيتها الكثير من الناس، ذلك بسبب حدوث الاضطرابات والمشاحنات في بعض بلاد الشام.

غير أن الشهيد الأول(رحمه اللّه) تصدى له، وأقنع الحكومة المركزية - آنذاك - بضرورة مواجهته وإخماده، فتحركت قطعات من الجيش لقمع الفتنة واستئصالها، فقتل محمد اليالوشي وبعض جماعته وأسر آخرون، واندحرت فلوله، لكن البعض استطاع الفرار إلى مناطق أخرى.

وكان من نتيجة ذلك أن جمع (قرن الشيطان) فلول تلك الحركة الضالة تحت قيادة (تقي الدين الجبلي) في الجنوب اللبناني، ثم توسعت الحركة في عهد (يوسف بن يحيى) الذي خلَّف (الجبلي) في قيادة الحركة، وقد تمكن بعض أفراده من الاندساس في القوة القضائية في مدينتي بيروت وحلب، وكان شغلهم الشاغل الانتقام من الشهيد الأول (رضوان اللّه تعالى عليه).

وهكذا استغلوا نفوذهم في القوة القضائية، وتقربوا من حاكم دمشق (بيدمر) وهو صاحب السلطة المطلقة آنذاك، ودبّجوا التقارير، وحاكوا المؤامرات للكيد بالشهيد الأول(رحمه اللّه).

وآخر تلك المؤامرات، كان افتعال رسالة مزورة تطفح بالارتداد ومخالفة

ص: 415

الشرع الإسلامي، دبّجها يوسف بن يحيى المذكور ونسبها إلى الشهيد، وأشهد عليها من جماعته سبعين رجلاً، وادّعوا أن الشهيد(رحمه اللّه) قد ارتد عن دين الإسلام!

ورفعوا المذكرة إلى قاضي صيدا، وهو أحد أعضاء حركتهم، ثم رفعها هو بدوره إلى القاضي عبّاد بن جماعة الشافعي، قاضي قضاة الشام في دمشق، وهو المنصب الثاني في البلاد، ولم يكن حقد هذا الأخير وحسده للشهيد بأقل من سابقيه، وطالما كان يتحيّن للشهيد فرصة كهذه ليزيحه من طريقه، خصوصاً وإن الشهيد كان قد سلب الأنظار عن ابن جماعة وأشباهه، وذلك لما اشتهر به من علم وتواضع، بحيث كان قاضياً محبوباً من جميع الأطراف والمذاهب، يقضي لكلّ على مذهبه، ويسعى دائماً من أجل لمّ الشمل ووحدة الصف.

اعتقال الشيخ الشهيد

عند ذلك أصدر (ابن جماعة) أمراً باعتقال الشهيد(رحمه اللّه)، وشكل محكمة صورية تحت إشراف برهان الدين المالكي، للنظر في تهمة الارتداد، واجتمع الملك بيدمر والأمراء والقضاة والشيوخ، وأُحضر الشهيد العاملي، وقرؤوا عليه المحضر. فأنكر الشهيد جميع التهم والافتراءات التي وجهت ضده.

فقيل له: قد ثبت ذلك عليك شرعاً، وإنّ القاضي قد حكم بارتدادك.

فرد الشهيد قائلاً: الحكم الغيابي الذي صدر بحقي باطل استناداً إلى قاعدة: (إن الغائب على حجته، فإن أتى بما يناقض الحكم جاز نقضه، وإلّا فلا، وها أنا أبطل شهادات من شهد بالجرح ولي على كل واحد حجة بينة) وهو كلام معقول، إلّا أن ذلك لم يسمع منه.

فقال القاضي برهان الدين، الذي يحكم وفق المذهب المالكي: إن الشهود قد أدلوا بشهاداتهم، وردّك للتهمة لا ينفي الحكم.

ص: 416

قال الشهيد: إنني على استعداد ان أبطل شهادات الشهود، بعد أن أثبت جرحهم.

قال القاضي: إن حكم القاضي غير قابل للفسخ.

فلمّا علم الشهيد إصرار القاضي على الباطل، توجه إلى القاضي عباد بن جماعة بالقول: أتزعم أنك إمام لمذهب الشافعي، فاقض لي حسب موازين مذهبك.

لكن ابن جماعة الشافعي قطع مقولة الشهيد وقال: إن المرتد حسب المذهب الشافعي يسجن سنة واحدة، ويفرج عنه إذا تاب، وإنك قد أنهيت مدة السجن، وما عليك إلّا أن تستغفر ربك، وتتوب لكي يطلق سراحك.

لكن مكرهم وحيلتهم لم تكن لتنطلي على رجل مثل الشهيد؛ ذلك لأنه لو نفذ طلبهم لاحتجوا بذلك لقتله؛ بذريعة أنه اعترف بالارتداد، فضلاً عن سقوطه اجتماعياً أمام الرأي العام، الذي سرعان ما تنطلي عليه أحابيل الإعلام ودعايته، ثم كيف يتوب من ذنب هو لم يرتكبه؟!

عندئذ توجّه ابن جماعة الشافعي إلى برهان الدين، وأوعز له بالقضاء على ضوء المذهب المالكي، فأصدر القاضي حكم الإعدام بحقه.

إن كنت عبدي فاصطبر

بعد ذلك اقتيد الشهيد الأول(رحمه اللّه) إلى قلعة دمشق، وفي وسط الطريق، كتب الشهيد على رقعةٍ كانت عنده: (ربّ إني مغلوب فانتصر)(1) ثم وضعها على الأرض، وما هي إلّا خطوات، وإذا بريح ترفع الرقعة وتلقي بها أمام الشهيد، وقد كتب على طرفها الآخر بخط غيبيّ: (إن كنت عبدي فاصطبر).

ص: 417


1- اقتباس من سورة القمر، الآية: 10 قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}.

هناك أيقن الشهيد أن التقدير الإلهي هو أن يقتل في سبيل اللّه عزّ وجلّ. كما ورد بالنسبة إلى سيد الشهداء الإمام أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام): «شاء اللّه أن يراك قتيلاً»(1).

وعند الفجر قطعوا رأس الشهيد(رحمه اللّه) وصلبوه، ثم نادوا في الناس، أن يرموا جثمانه الشريف بالحجارة. وعصر ذلك اليوم المشؤوم أضرموا في جسده الطاهر النار، ثم جمعوا رماده وذرّوه في الهواء.

نعم، لقد قتل الشهيد وأحرق وذرّ في الهواء، ولكن إرادة السماء شاءت أن يبقى اسم الشهيد خالداً، رغم مكر الآثمين وكيد الحاقدين. وصار قبر الشهيد في قلب كل مؤمن، وآراؤه وعلومه في قلب كل عالم، وقد انتقم اللّه سبحانه من كل من اشترك في بهذه الجريمة البشعة بأنواع العذاب حتى أبادهم عن آخرهم، ولعذاب الآخرة أشد(2).

ص: 418


1- روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «سار محمد بن الحنفية إلى الحسين(عليه السلام) في الليلة التي أراد الخروج صبيحتها عن مكة، فقال: يا أخي، إن أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعز من في الحرم وأمنعه، فقال: يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت. فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن، أو بعض نواحي البر، فإنك أمنع الناس به ولا يقدر عليك. فقال: انظر: فيما قلت، فلما كان في السحر ارتحل الحسين(عليه السلام) فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه، فأخذ زمام ناقته التي ركبها فقال له: يا أخي، أ لم تعدني النظر فيما سألتك؟! قال: بلى، قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: أتاني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين(عليه السلام) اخرج، فإن اللّه قد شاء أن يراك قتيلاً. فقال له ابن الحنفية: إنا للّه وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: قد قال لي: إن اللّه قد شاء أن يراهن سبايا. وسلم عليه ومضى». اللّهوف على قتلى الطفوف: 63.
2- روضات الجنات: 7: 12 ترجمة محمد بن مكي العاملي الشهيد الأول.
مع مصنّف تبصرة المتعلمين

ينقل عن العلامة الحلي(رحمه اللّه) الذي كان يقطن الحّلة الفيحاء، وكانت يوم ذاك مركزاً علمياً وحوزوياً كبيراً،أنه دعي ذات مرة لحضور مجلس عقد قران في قضاء المسيب في العراق، واستغرق سفره أسبوعاً كاملاً، وحين ما رجع العلامة لم يحضر ولده فخر المحققين صلاته - وكان فخر المحققين من العبّاد والزهاد - وعندما سُئل عن سبب عدم حضوره لاة جماعة والده، قال: كيف ترك والدي أعماله وذهب لإجراء عقد قران، لمدة أسبوع كامل؟! فلما سمع العلامة الحلي(رحمه اللّه) مقالته أخرج كتابه (تبصرة المتعلمين) وقال: إنني قد اغتنمت الوقت هناك، وألفت هذا الكتاب في سبعة أيام فقط، وكانت مصادر العلامة لتأليف كتابه هذا هي ذاكرته لا غير، فقد كان يتمتع بإحاطة كاملة بالفقه.

إذن، على الإنسان المؤمن أن يستفيد من الوقت، حتى ذلك الذي يخصصه للنزهة والاستجام، فإنه ينبغي له أن لا يضيّعه هدراً، بل عليه استغلاله في تدارك ما مضى، أو تهيئة مقدمات المستقبل. ومستقبل المؤمن عمله الذي يدّخره للآخرة، لذا عليه أن يملأ أوقات فراغه، بكل أمر مفيد ولو بالذكر، لأن اللّه يسمع ما يتكلم به عبده، وأنه يبصر ويرى، وهو عليم بذات الصدور.

مع أحد المأمومين

دعاني ذات مرة أحد المقلدين وكان من المواظبين على الاقتداء بنا والصلاة معنا. وطلب مني أن أستجيب لدعوته، فقلت له: إني أعتذر من قبول هكذا دعوات؛ وذلك لما فيها من الوقوع في محاذير أتجنبها، إلّا أنه أصر علي كثيراً، فقلت له: إذاً بشرط أن لا تكلف نفسك، وكان معي أحد السادة الفضلاء(رحمه اللّه) وعندما ذهبنا إلى بيته، وجدناه قد وفى بوعده جزاه اللّه خيراً.

وعندما جلسنا واستقر بنا المقام، رأيت من المناسب أن أغتنم هذا الوقت

ص: 419

لأطرح على الحاج موضوعاً لربما تكون من ورائه نتائج نافعة.فقلت له: عندي موضوع أودّ أن أكلمك فيه.

فقال: تفضل.

قلت له: إن بعض المدارس الدينية في مدينة مشهد المقدسة تعرضت للهدم ونالها التخريب، فقلّ عددها هناك، فما رأيك - لو كنت قادراً - أن تبني مدرسة علمية هناك بإسم الإمام الرضا(عليه السلام)؟

فقال: وأنت تشجّع على هذا المشروع؟

قلت له: نعم، فقال: وهل يمكن حساب كلفة البناء من الحقوق الشرعية؟

قلت له: نعم، فإن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «الخمس عوننا على ديننا»(1).

فقال الحاج: لا مانع لدي من ذلك، ثم قال: وكم تبلغ تكاليف هذا المشروع؟

قلت له: سأتصل بأحد أصدقائنا في طهران، وأخبرك بالموضوع، وبالفعل أخيراً تم بناء مدرسة الإمام الرضا(عليه السلام) في مدينة مشهد المقدسة، وكان سبب بنائها هو ذلك الحديث الذي لم يستمر أكثر من عشر دقائق!

يوم القيامة وساعات عمر الإنسان

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن جسده فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت»(2).

وجاء في بعض الروايات: أن في يوم القيامة يؤتى بساعات عمر الإنسان، كل ساعة على هيئة صندوق، ثم يفتحون تلك الصناديق واحداً واحداً، فإن كانت

ص: 420


1- الكافي 1: 548.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 593.

ساعات خير، خرج منها نور يضيء المحشر، فيسرّ به صاحبه. ولو كان الإنسان- والعياذ باللّه - قد ارتكب عملاً قبيحاً، خرجت من الصندوق رائحة كريهة، أو الأفاعي والعقارب، أما تلك الساعات التي لم يعمل فيها الإنسان لا شراً ولا خيراً، فإن الصندوق لتلك الساعة يأتي خالياً فيتحسّر عليها. أما ساعات النوم فإن كان نام الليل على وضوء، فإن جميع صناديق ساعات ليله تكون صناديق نور، أما لو نام الإنسان ليلة وباتت معه نية سوء، فستكون صناديق تلك الساعات، مملوءة بما يعبّر عن السوء.

قال الشيخ إبراهيم الكفعمي(رحمه اللّه) في كتاب (محاسبة النفس): يا نفس، وهذا يوم جديد، وهو عليك شهيد، فاعملي فيه للّه بطاعته، وإياك إياك من إضاعته، فإن كل نفس من الأنفاس، وحاسة من الحواس، جوهرة عظيمة، ليس لها قيمة:

أولى الذخائر في الحماية والرعاية والحراسة

عمر الفتى فهو النهاية في الجلالة والنفاسة

وحذار من تضييعه إن كنت من أهل الكياسة

وا علمي يا نفس، إن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، فاشتغلي فيها بالطاعة، فقد ورد في الخبر، عن سيد البشر(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنه ينشر للعبد كل يوم أربع وعشرون خزانة، بعضها فارغة وبعضها ملآة، فإذا فتحت له خزانة الحسنات، والمراضي والمثوبات، ناله من الفرح والسرور، والبهجة والحبور، بمشاهدة تلك الأنوار، التي هي وسيلة عند الملك الجبار، ما لو وزّع على أهل النار، لأدهشهم ذلك الفرح عن دار البوار. وإن فتحت له خزانة العصيان، والغيبة والبهتان، غشيه من نتنها وظلامها، وأصابه من شرها وآلامها، ما لو قسم على أهل النعيم، لنغّص عليهم التنعيم. وإن فتحت الفارغة من الأعمال، الموصوفة بالتكاسل والإهمال، لحقه الحزن العظيم، على خلوها من الثواب الدائم المقيم». فاملأها كلها يا

ص: 421

نفس من الحسنات، واشحنها بما شق من العبادات ولا تميلي إلى الكسلوالاستراحة، فما ملأ الراحة من استوطأ الراحة. وهب كنت مسيئة قد عفي عن جريرتك، وستر على سريرتك، أليس قد فاتك ثواب المحسنين، ودرجات الأبرار في عليين(1).

هذا وقد سبق أن أشرنا إلى أن تفويت الفرص لا تخلو من آثار سلبية على شخصية الإنسان وروحه، لأنه سوف يتأخر في الحصول على الكمالات، وبالتالي سوف يحرم من المقامات العالية في الدنيا والآخرة. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أخر الفرصة عن وقتها، فليكن على ثقة من فوتها»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من الخرق ترك الفرصة عند الإمكان»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من قعد عن الفرصة أعجزه الفوت»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «عود الفرصة بعيد مرامها»(5).

وقال(عليه السلام): «بادر الفرصة قبل أن تكون غصة، بادر البرّ فإن أعمال البر فرصة»(6).

نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لكي تكون كل ساعات عمرنا ميداناً لعمل الخير، ومجلبةً لرضا اللّه وثوابه، وأن يوفقنا لأغتنام الفرص، والقدرة على استخدامها واستغلالها في صالح الأعمال لخدمة النوع الإنساني، إن شاء اللّه تعالى.

ص: 422


1- محاسبة النفس: 5.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 638.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 681.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 614.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 343.
6- مستدرك الوسائل 12: 142.

«اللّهم صل على محمد وآله، ونبّهني لذكرك في أوقات الغفلة، واستعملني بطاعتك في أيام المهلة، وانهج لي إلى محبتك سبيلاً سهلة، وأكمل لي بها خيرالدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

هكذا املأ وقتك
1- بالعمل المفيد للدنيا والآخرة

قال اللّه تعالى: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَٰتُ الْعُلَىٰ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحًا تَرْضَىٰهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّٰلِحِينَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}(5).

2- فعل الخير

قال اللّه تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(6).

ص: 423


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة الأنعام، الآية: 132.
3- سورة طه، الآية: 75.
4- سورة النمل، الآية: 19.
5- سورة البروج، الآية: 11.
6- سورة آل عمران، الآية: 104.

وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَٰتِ وَإِقَامَ الصَّلَوٰةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوٰةِ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ}(1).وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {أُوْلَٰئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ}(3).

3- طلب العلم

قال اللّه تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(4).

وقال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّلْعَٰلِمِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6).

وقال جلّ وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(7).

4- ذكر اللّه على كل حال

قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}(8).

ص: 424


1- سورة الأنبياء، الآية: 73.
2- سورة الحج، الآية: 77.
3- سورة المؤمنون، الآية: 61.
4- سورة طه، الآية: 114.
5- سورة الروم، الآية: 22.
6- سورة الزمر، الآية: 9.
7- سورة المجادلة، الآية: 11.
8- سورة البقرة، الآية: 152.

وقال سبحانه: {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَٰرِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِالسَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(2).

وقال جلّ وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

هكذا املأ وقتك
1- بالعمل الصالح المفيد دنياً وآخرة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بإدمان العمل في النشاط والكسل»(5).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إن أحبكم إلى اللّه عزّ وجلّ أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند اللّه عملاً أعظمكم فيما عند اللّه رغبة، وإن أنجاكم من عذاب اللّه أشدكم خشية للّه، وإن أقربكم من اللّه أوسعكم خلقاً، وإن أرضاكم عند اللّه أسبغكم على عياله، وإن أكرمكم عند اللّه أتقاكم للّه»(6).

وقال الإمام أبو الحسن الثالث الهادي(عليه السلام): «الناس في الدنيا بالأموال، وفي

ص: 425


1- سورة آل عمران، الآية: 41.
2- سورة آل عمران، الآية: 191.
3- سورة الأعلى، الآية: 14-15.
4- الخصال 1: 178.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 444.
6- الكافي 8: 68.

الآخرة بالأعمال»(1).

2- فعل الخير

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من فتح له باب خير فلينتهزه؛ فإنه لا يدري متى يغلقعنه»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليكم بأعمال الخير فبادروها، ولا يكن غيركم أحق بها منكم»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) لزرارة: «اعلم، أن أأول الوقت أبداً أفضل، فعجِّل الخير ما أستطعت، وأحب الأعمال إلى اللّه ما داوم عليه العبد وإن قل»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا هممت بخير فلا تؤخره، فإن اللّه تبارك وتعالى ربما اطلع على عبده وهو على الشيء من طاعته، فيقول: وعزتي وجلالي لا أعذبك بعدها أبداً، وإذا هممت بمعصية فلا تفعلها فإن اللّه تبارك وتعالى ربما اطلع على العبد وهو على شيء من معاصيه فيقول: وعزتي وجلالي، لا أغفر لك أبداً»(5).

3- طلب العلم

قال الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(عليه السلام): «بينما أنا جالس في مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ دخل أبو ذر، فقال: يا رسول اللّه، جنازة العابد أحب إليك، أم مجلس العالم؟

ص: 426


1- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 139.
2- عوالي اللئالي 1: 289.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 448.
4- الكافي 3: 274.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 205.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا أبا ذر، الجلوس ساعة عند مذاكرة العالم، أحب إلى اللّه من ألف جنازة من جنازة الشهداء، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم، أحب إلى اللّه من قيام ألف ليلة يصلي في كل ليلة ألف ركعة، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إلى اللّه من ألف غزوة، وقراءة القرآن كله.

قال: يا رسول اللّه، مذاكرة العلم خير من قراءة القرآن كله؟!

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا أبا ذر، الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم، أحب إليّ من قراءة القرآن كله اثني عشر ألف مرة، عليكم بمذاكرة العلم؛ فإن بالعلم تعرفون الحلال من الحرام؛ ومن خرج من بيته ليلتمس باباً من العلم كتب اللّه عزّ وجلّ له بكل قدم ثواب نبي من الأنبياء، وأعطاه اللّه بكل حرف يستمع أو يكتب مدينة في الجنة، وطالب العلم أحبّه اللّه وأحبّه الملائكة وأحبّه النبيون، ولايحب العلم إلّا السعيد، وطوبى لطالب العلم يوم القيامة.

يا أبا ذر، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم خير لك من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، والنظر إلى وجه العالم خير لك من عتق ألف رقبة، ومن خرج من بيته ليلتمس بابا من العلم كتب اللّه له بكل قدم ثواب ألف شهيد من شهداء بدر، وطالب العلم حبيب اللّه، ومن أحب العلم وجبت له الجنة، ويصبح ويمسي في رضا اللّه، ولا يخرج من الدنيا حتى يشرب من الكوثر، ويأكل من ثمرة الجنة، ولا يأكل الدود جسده، ويكون في الجنة رفيق الخضر(عليه السلام)، وهذا كله تحت هذه الآية قال اللّه تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(1)»(2).

ص: 427


1- سورة المجادلة، الآية: 11.
2- جامع الأخبار: 37.

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من عبد يغدو في طلب العلم أو يروح، إلّا خاض الرحمة، وهتفت به الملائكة: مرحباً بزائر اللّه، وسلك من الجنة مثل ذلك المسلك»(1).وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «طالب العلم يستغفر له كل شيء، والحيتان في البحار، والطير في جو السماء»(2).

4- ذكر اللّه على كل حال

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بادروا إلى رياض الجنة» فقالوا: وما رياض الجنة؟ قال: «حَلَق الذّكر»(3).

وفيما أوصى به أمير المؤمنين(عليه السلام) عند وفاته: «هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب أخو محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وابن عمه وصاحبه، أول وصيتي: أني أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمداً رسوله وخيرته اختاره بعلمه وارتضاه لخيرته، وأن اللّه باعث من في القبور، وسائل الناس عن أعمالهم عالم بما في الصدور.

ثم إني أوصيك يا حسن - وكفى بك وصياً - بما أوصاني به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإذا كان ذلك يا بني الزم بيتك، وابك على خطيئتك، ولا تكن الدنيا أكبر همك، وأوصيك يا بني بالصلاة عند وقتها، والزكاة في أهلها عند محالِّها، والصمت عند الشبهة والاقتصاد، والعدل في الرضاء والغضب، وحسن الجوار، وإكرام الضيف، ورحمة المجهود و أصحاب البلاء، وصلة الرحم، وحب المساكين ومجالستهم، والتواضع فإنه من أفضل العبادة، وقصر الأمل، واذكر الموت، وازهد في الدنيا، فإنك رهين موت، وغرض بلاء، وصريع سقم. وأوصيك بخشية اللّه في سرِّ أمرك

ص: 428


1- ثواب الأعمال: 131.
2- بصائر الدرجات 1: 4.
3- معاني الأخبار: 321.

وعلانيتك، وأنهاك عن التسرع بالقول والفعل، وإذا عرض شي ء من أمر الآخرة فابدأ به، وإذا عرض شي ء من أمر الدنيا فتأنه حتى تصيب رشدك فيه، وإياك ومواطن التهمة والمجلس المظنون به السوء، فإن قرين السوء يَغُرُّ جليسه. وكنللّه يا بني عاملاً، وعن الخنا(1) زجوراً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً، وواخ الإخوان في اللّه، وأحب الصالح لصلاحه، ودار الفاسق عن دينك، وأبغضه بقلبك، وزايله بأعمالك، كي لا تكون مثله، وإياك والجلوس في الطرقات، ودع المماراة، ومجازاة من لا عقل له ولا علم. واقتصد يا بني في معيشتك، واقتصد في عبادتك، وعليك فيها بالأمر الدائم الذي تطيقه، والزم الصمت تسلم، وقدم لنفسك تغنم، وتعلم الخير تعلم، وكن للّه ذاكراً على كل حال، وارحم من أهلك الصغير، ووقّر منهم الكبير، ولا تأكلن طعاماً حتى تتصدق منه قبل أكله، وعليك بالصوم فإنه زكاة البدن وجُنة لأهله، وجاهد نفسك، واحذر جليسك، واجتنب عدوك، وعليك بمجالس الذكر، وأكثر من الدعاء فإني لم آلك يا بني نصحاً، وهذا فراق بيني وبينك. وأوصيك بأخيك محمد خيراً، فإنه شقيقك وابن أبيك، وقد تعلم حبي له، فأما أخوك الحسين فهو ابن أمك، ولا أزيد الوصاة بذلك، واللّه الخليفة عليكم، وإياه أسأل أن يصلحكم، وأن يكف الطغاة البغاة عنكم، والصبر الصبر حتى ينزل اللّه الأمر، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم»(2).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام) في إحدى مناجاته: «اللّهم صل على محمد وآل محمد واجعلنا من الذين اشتغلوا بالذكر عن الشهوات...»(3).

ص: 429


1- الخنا: الفحش في الكلام.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 7.
3- بحار الأنوار 91: 127.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «شيعتنا الذين إذا خلوا ذكروا اللّه كثيراً»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأصحابه: ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عندمليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من الدينار والدرهم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم وتقتلونهم، ويقتلونكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: ذكر اللّه كثيراً»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «قال اللّه تعالى: ابن آدم، اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي. ابن آدم اذكرني في خلاء، أذكرك في خلاء. ابن آدم اذكرني في ملأ، أذكرك في ملأ خير من ملائك - وقال: - ما من عبد يذكر اللّه في ملأ من الناس إلّا ذكره اللّه في ملأ من الملائكة»(3).

ص: 430


1- الكافي 2: 499.
2- المحاسن 1: 38.
3- المحاسن 1: 39.

أقسام الجهاد

أقسام الجهاد

اشارة

قال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «أما بعد فان الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه اللّه لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى، ودرع اللّه الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذل، وشمله البلاء ودُيِّث(1) بالصّغار والقماءة(2) وضرب على قلبه بالإسهاب(3) وأديل الحق منه بتضييع الجهاد...»(4).

عند البحث في موضوع الجهاد نلاحظه في أمور أربع، هي:

الأول: الهجرة إلى أرض الإسلام
اشارة

قال اللّه تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(5).

فقد ورد هنا - المهاجرة إلى اللّه - كناية عن المهاجرة إلى أرض الإسلام، وهذا معناه مفارقة أهل الشرك والكفر والهرب بالدين من الوطن إلى أرض الإسلام. وورد أيضاً: أخبر سبحانه أن مَن خرج من بلده مهاجراً من أرض الشرك فاراً بدينه

ص: 431


1- دُيِّث: مبني للمجهول من ديّثَهُ، أي: ذلَّله.
2- القماءة: الصّغار والذل.
3- الإسهاب: ذهاب العقل أو كثرة الكلام، أي حيل بينه وبين الخير بكثرة الكلام بلا فائدة.
4- نهج البلاغة،الخطبة: الرقم 27، قالها(عليه السلام) يستنهض بها الناس... ويذكر فضل الجهاد.
5- سورة النساء، الآية: 100.

إلى اللّه ورسوله {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} قبل بلوغه دار الهجرة وأرض الإسلام {فَقَدْ وَقَعَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أي ثواب عمله وجزاء هجرته على اللّه تعالى، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} أي ساتراً على عباده ذنوبهم بالعفو عنهم {رَّحِيمًا} بهم رفيقاً(1).

عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد (صلى اللّه عليهما وآلهما)»(2).

وعن محمد بن حكيم قال: وجه زرارة بن أعين ابنه عبيداً إلى المدينة ليستخبر له خبر أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) وعبد اللّه، فمات قبل أن يرجع إليه عبيد ابنه، قال محمد بن أبي عمير،حدثني محمد بن حكيم قال: ذكرت لأبي الحسن(عليه السلام) زرارة وتوجيهه عبيداً ابنه إلى المدينة فقال: «إني لأرجو أن يكون زرارة ممن قال اللّه فيهم: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}»(3).

ومما لا شك فيه إن آيات القرآن لا تختص بزمن معين أو مكان خاص بل هي عامة لكل الأزمنة والأمكنة، وإن كان نزولها على الصدر الأول من المسلمين الذين عاشوا في جزيرة العرب في عهد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الفترة بين هجرته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة وحتى فتح مكة.

في تلك الفترة كانت الأرض منقسمة يومئذ إلى أرض الإسلام وهي المدينة وما حولها حيث كان المسلمون فيها أحراراً في دينهم لا يستطيع المشركون من منعهم من أداء الشعائر أو الفروض، ويقابل أرض الإسلام أرض الشرك، وهي

ص: 432


1- تفسير مجمع البيان 3: 172.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 33.
3- تفسير مجمع البيان 3: 172.

مكة وما حولها التي كان للمشركين سطوة عليها، وتسود فيها الوثنية والجاهليةبكل وحشيتها وهمجيتها، ولا يمكن لمسلم أن يظهر دينه فيها دون أن يناله عسف أو أذى.

لكن ذلك لا يقتصر على تلك الفترة فالآيات القرآنية المباركة التي تناولت هذا التقسيم تشمل كل العصور والأزمنة، وهذا يعني أن المسلم عليه أن يتجه إلى الأماكن والبلدان التي يستطيع فيها من إقامة شعائر الإسلام وأحكامه وأن يغادر التي لا علم فيها بمعارف الدين ولا سبيل للعمل بأحكامه.

الهجرة اليوم

لكن في الواقع المعاصر تغيرت الأسماء وهجرت مصطلحات مثل دار الإسلام، ودار الشرك، فصار الدين جنسية، والإسلام مجرد اسم. في حين أن القرآن الكريم لا يعتني بكل ذلك ويرتب الأثر على حقيقة الإسلام والإيمان فقط.

فمثلاً دولة إسرائيل تحتل أرضنا المقدسة، وأهلها يهجَّرون ويهاجرون منها فراراً من التنكيل والتقتيل الجماعي الذي يُمارس ضدهم. وكذلك الحال بالنسبة لعراقنا الجريح حيث يتسلط الطاغوت على رقاب شعبنا المظلوم، ويعمل نظام البعث الصدامي الذي امتلأت صفحاته السوداء بالقتل والتعذيب فيه بما لم يشهد له العالم مثيلاً، الأمر الذي أدى أيضاً إلى هجرة عدد كبير من أبناءه(1).

هجرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)
اشارة

وهنا لابد من إدراك الفرق بين هذه الهجرات وهجرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين في صدر الإسلام فهي ليست كما يظن البعض إنها لمجرد الهروب من الأذى

ص: 433


1- تشير بعض الإحصاءات أن عدد المهاجرين والمهجرين العراقيين قد بلغ الثلاثة ملايين نسمة، مشتتين في مختلف بقاع الأرض.

والتنكيل والخلاص من المنع الذي يفرضه المشركون في مجال ممارسة الشعائرمثلما يلجئ العابد الزاهد إلى المسجد يقيم فيه الصلاة بعيداً عن المضايقة والضوضاء في الخارج.

فهجرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانت أبعد وأعمق؛ لأن فيها أبعاد إضافية تتعدى الهروب بالدين، ذلك إنها تنطوي على خطة مرسومة وممهدة للمعركة الفاصلة، بدأت بوصول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة عندما آخى بين المهاجرين والأنصار، فوُحِّدَ القلوب المتخاصمة من الأوس والخزرج، وأذاب العصبية والأحقاد الجاهلية وعندما حقق(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تلك الأهداف، صار المسلمون مهيئون لخوض غمار الجهاد، فبدأ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يرغِّبهم فيه ويحثهم عليه، دفاعاً عن كيانهم، وعقيدتهم، ضامناً الجنة لمن يقتل في سبيل اللّه، والعزة والكرامة دنيا وآخرة لمن ينجو من القتل، ولما أخذت هذه التعاليم سبيلها إلى نفوس المسلمين شرع(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تجنيدهم وتأليف السرايا، فصار يبعثها هنا وهناك وقاد بعضها بنفسه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكثر من مرة، وبذلك حقق الاستقرار(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأمن للمسلمين، كما أقلقت راحة قريش وسلامتها وتحولت السرايا إلى جيش يخوض معارك كبرى ويبذل جنده أرواحهم وأموالهم في سبيل الفتح حتى أتى اللّه بالفتح {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}(1).

ولعل في هذه الإشارة كفاية للاعتبار واستنتاج ما نحتاج إليه لندفع به نكبتنا في العراق بحزب البعث الكافر ومن يسانده.

لماذا الهجرة؟

لما تزايد اعتداء طغيان المشركين على الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هاجر من مكة ومعه أصحابه، كذلك هاجر وهجّر مسلموا العراق من الأماكن المقدسة،

ص: 434


1- سورة التوبة، الآية: 40.

ككربلاء المقدسة والنجف الأشرف وباقي مدن العراق، وكانت هجرتهم آنذاك ابتعاداً عنالوقوع في التهلكة وانسحاباً من ميدان المعركة لتجميع القوى والاستعداد لتوجيه الضربة إلى العدو، وهكذا يجب أن يظل دائماً وليس لأجل إخلاء البيت للصوص يسرحون ويمرحون فيه.

وهذا ما قام ويقوم به الشهداء على طريق تحرير العراق، الذين يموتون وينالون شرف الشهادة فختموا هذه الدنيا بسلام، لأنها دار فناء فهي مزرعة الآخرة(1)، فإذا مات الإنسان انقطع عمله(2)، فإذا كان موته هذا في سبيل اللّه وفي سبيل الإسلام فقد فاز فوزاً عظيماً؛ لأن الشهادة باب من أبواب الجنة وأي شيء أفضل من ذلك؟

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن جبرائيل أخبرني بأمر قرت به عيني وفرح به قلبي، قال: يا محمد، من غزا غزاة في سبيل اللّه من أمتك فما أصاه قطرة من السماء أو صداع إلّا كانت له شهادة يوم القيامة»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «للشهيد سبع خصال من اللّه أول قطرة من دمه مغفور له كل ذنب، والثانية يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه تقولان مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما، والثالثة يكسى من كسوة الجنة، والرابعة يبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيبة أيهم يأخذه معه، والخامسة أنه يرى منزلته، والسادسة يقال لروحه اسرح في الجنة حيث شئت، والسابعة أن ينظر في وجه اللّه وإنها لراحة لكل نبي وشهيد»(4).

ص: 435


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 183.
2- روضة الواعظين 1: 11.
3- الكافي 5: 8.
4- تهذيب الأحكام 6: 121.

فإذا حصل الإنسان على أشرف أنواع الموت وهو الموت في سبيل اللّهمجاهداً، فقد قال أمير المتقين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «إن الموت طالب حثيث، لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، إن أكرم الموت القتل، والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتةٍ على الفراش في غير طاعة اللّه»(1).

موت كموت بعير

لما اقترب أجل أحد أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان قد اشترك في عدد من الغزوات مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكن لم تكتب له الشهادة، فلما رأى نفسه على فراش الموت أخذ يبكي بكاءً مريراً رغم انه سيلقى اللّه وفيه من آثار الجهاد فقيل له: لماذا تبكي؟

قال: «موت كموت البعير» أي انه استنكر على نفسه أن يموت كما يموت البعير وانه أحب أن يستشهد في سبيل اللّه وينال ثواب الشهادة الذي يفوق كل ثواب واذا كان الموت قدر على كل إنسان ولا مفر منه، فلماذا لا يموت الإنسان في سبيل مبادئه، وعقيدته، وفي سبيل اللّه والدار الآخرة؟

روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه كتب القتل على قوم والموت على آخرين وكل آتيه منيته كما كتب اللّه له، فطوبى للمجاهدين في سبيل اللّه والمقتولين في طاعته»(2).

لذا فان المجاهدين الذين ماتوا في سبيل اللّه نالوا المنزلة الرفيعة عند اللّه والتي لا تضاهيها منزلة أخرى ولا يصل إليها إلّا من امتلأت قلوبهم حباً للّه وخشية منه. ولا بد من الإشارة إلى أن الشهيد لا يصدق على من يموت بسيف العدو فحسب. بل حتى لو كان سائراً في الطريق إلى المعركة أو أرض العدو.

ص: 436


1- نهج البلاغة، الخطبة: الرقم 123، من كلام له(عليه السلام) قاله لأصحابه في ساحة الحرب بصفين.
2- وقعة صفين: 111.
قصة استشهاد الراهب

في حرب صفين وبينما كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يسير مع أصحابه في الصحراء بقصد الوصول إلى ساحة المعركة نفد الماء عندهم، وأخذ العطش منهم مأخذاً وبينما هم كذلك رأوا ديراً، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «سارعوا إلى ذلك الراهب إن كان يوجد ماء قريب أو لا».

فقال لهم الراهب: نعم هناك ماء على بعد فرسخين، في هذه الأثناء نظر الإمام إلى أصحابه وقال لهم: احفروا هنا في هذا المكان، فامتثلوا أمر الإمام وشرعوا في الحفر حتى وصلوا إلى صخرة صماء لا يؤثر فيها ضرب المعاول ولم يستطع الأصحاب إزاحة الصخرة مهما بذلوا جهداً لإزالتها وعندها جاء الإمام(عليه السلام) ووضع يده المباركة تحتها ثم رفعها ورماها عدة أمتار وانفجر الماء زلالاً وشرب منه جميع الأصحاب حتى رووا ولما رأى الراهب فعل الإمام سأله هل أنت نبي؟

فأجاب(عليه السلام) أنه ليس كذلك، فسأل الراهب: هل أنت من الملائكة؟ فرد(عليه السلام) بالنفي أيضاً، فقال الراهب: فمن أنت اذن؟ فقال الإمام: أنا وصي رسول اللّه وخاتم الأنبياء محمد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نبي الإسلام.

فقال الراهب: لقد بنيت هذا الدير هنا للعثور على الشخص الذي يزحزح هذه الصخرة من محلها لأني سمعت من كبار علمائنا أن في هذا المكان صخرة لا يرفعها إلّا ولي من أولياء اللّه، ثم أسلم والتحق بجيش الإمام(عليه السلام) وقاتل معه واستشهد بين يديه في حرب صفين فصلى عليه الإمام ودفنه(1).

هذه الروح الصادقة والإيمان العميق والذوبان في دين اللّه أوصلت هذا الراهب إلى درجة الشهادة الرفيعة.

ص: 437


1- انظر: الإرشاد 1: 334.
الثاني: طلب الشهادة

إن من غير المستبعد أن يفكر الأخوة المؤمنون ويتمنون الشهادة في سبيل اللّه، ولعل هذه الرغبة هي التي تقف وراء رفع الأيادي بالدعاء أثناء القنوت وخارجه بالقول: اللّهم اجعلنا من الشهداء في سبيلك، أو كما في الدعاء الذي يقرأ بعد دعاء الافتتاح في كل ليلة من شهر رمضان وهو: «وقتلاً في سبيلك فوفق لنا»(1).

وهذا يؤخذ على وجهين، الوجه الأول منه هو الصحيح والثاني هو غلط. ويجب أن ننتبه إليه ونكون على حذر.

والوجه الأول هو: أن الإنسان المؤمن يقتل في سبيل اللّه وهي درجة لا ينالها إلّا الذين امتلأت قلوبهم إيماناً ولا ينالها إلّا ذو حظ عظيم، وكما جاء في الدعاء الخاص بالإمام الحجة بن الحسن(عليه السلام) المعروف بدعاء العهد والمنقول عن الإمام الصادق(عليه السلام) ويقول فيه: «اللّهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والذابين عنه... والمستشهدين بين يديه»(2). وهذا لا يعني أن الإنسان لا بدّ له أن يستشهد مع الإمام(عليه السلام) وبين يديه، ولكن يكفي أن يستشهد على طريقته وعلى منهجه، وحين ذاك يكون كمن استشهد بين يديه(عليه السلام) أو مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو مع سائر الأئمة^.

وإذا قتل الإنسان في سبيل غير سبيل اللّه (والعياذ باللّه) فان ذلك يعني أنه قتل على طريق الشيطان وطريق الكفر، وطريق الشرك والظالمين في كل زمان ومكان ومن سار على نهجهم من الظلمة وأعداء الحق والإنسانية فيحشر معهم، لأنه كما جاء في الحديث الشريف عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك فإن كان يحبّ أهل طاعة اللّه ويبغض أهل معصيته ففيك خير واللّه يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة اللّه ويحب أهل معصيته فليس فيك

ص: 438


1- إقبال الأعمال 1: 61.
2- المصباح للكفعمي: 550.

خير واللّه يبغضك والمرء مع من احب»(1).

فان أفضل ما يحصل عليه الإنسان في طريق أداء مهمة جهادية دفاعاً عن الإسلام، كأن يموت وهو يؤدي واجبه في أثناء تحركه الإسلامي وكلها مؤداها واحد وهو الاستشهاد في سبيل اللّه.

الوجه الثاني: أن لا نقتل اعتباطاً فقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(2) وماذا بعد {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} وهذا يعني أولاً: وجوب قتل الكفار والمنافقين الذين يحاربون الإسلام وأذنابهم وعملائهم، ونطهر الأرض منهم وبعد ذلك نُقتل في سبيل اللّه، أما أن نُقتل بدون أن نَقتل الكفار والمنافقين، فهذا ليس صحيحاً وكما دعا أمير المؤمنين(عليه السلام) إذا أراد القتال «اللّهم إنك أعلمت سبيلاً من سبلك جعلت فيه رضاك، وندبت إليه أولياءك، وجعلته أشرف سبلك عندك ثواباً، وأكرمها لديك مآباً، وأحبها إليك مسلكاً، ثم اشتريت فيه من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل اللّه فَيَقتلون ويُقتلون وعداً عليك حقاً، فاجعلني ممن اشتريت فيه منك نفسه ثم وفى لك ببيعك الذي بايعك عليه غير ناكث ولا ناقض عهداً ولا مبدلاً تبديلاً»(3).

وإنه(عليه السلام) قام بقتل أعداء اللّه من القاسطين والمارقين والناكثين أولاً ثم استشهد، والإمام الحسين(عليه السلام) كذلك استشهد ولكن بعدما قتل من الكفار والمنافقين جمعاً كبيراً.

إذن لا بدّ أن يكون تفكيرنا مثلهم، وأن تقاتل فتَقتل وتُقتل لا أن تُقتل فقط.

ص: 439


1- الكافي 2: 126.
2- سورة التوبة، الآية: 111.
3- الكافي 5: 46.

والآية الكريمة: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}(1).

فإن كثيراً من الأنبياء قاتل وجاهد معه وتحت لوائه أناس من المؤمنين منسوبون إلى الرب تعالى بالطاعة والعبادة والإيمان أو بمعنى أخيار فقهاء {فَمَا وَهَنُواْ} أي ما فتروا {لِمَا أَصَابَهُمْ} من القتل والسلب والجروح والقروح {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} للتنبيه على أن شدائدهم كانت في سبيل اللّه سبحانه {وَمَا ضَعُفُواْ} عن عدوهم {وَمَا اسْتَكَانُواْ} أي ما خضعوا ولا تضرعوا لعدوهم {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ} الذين يصبرون في الشدائد وفي الحروب(2).

وكذلك قال تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ...}(3).

وبهذا يظهر وجوب إعداد العدة الجيدة وبكافة الوسائل الشرعية بما يحق الحق ويبطل الباطل.

الثالث: قتل سمعة الأعداء
اشارة

القتل قتلان، قتل الذوات والأشخاص وقتل السمعة؛ ولهذا علينا حين نقاتل الأعداء أن نقتلهم كأشخاص وكسمعة وفكر؛ ولذا علينا أن نمرغ سمعة الأحزاب والمنظمات الكافرة والملحدة كبعث العراق والشيوعية وما أشبه وسائر المنافقين في الوحل، وهذا يعني أن نقتلهم معنوياً بأن نظهر مساوئهم وإنحرافهم وظلمهم وإجرامهم حتى ينفض الناس من حولهم والشاعر يقول:

ص: 440


1- سورة آل عمران: 146.
2- تفسير تقريب القرآن 1: 401.
3- سورة الأنفال، الآية: 60.

زعموا بأن قَتَل الحسين يزيدهم *** لكن ما قتل الحسين يزيداً

فالإمام الحسين(عليه السلام) قتل سمعة يزيد بل وبني أمية قاطبة، وإن كان الحسين(عليه السلام) هو المقتول جسداً؛ ولهذا فان مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة ويزيد يُلعن والحسين(عليه السلام) يُمدح ويقدّس ويزار ويجل، وضريحه في كربلاء يشهد له بذلك(1) وهذه هي صفة الحق فان الناس يلتفون حوله لأنه عدل وينفضون من حول الظلم.

السبيل إلى ذلك

أما ما هو السبيل إلى قتل سمعة الكفار؟ فانه يتم عبر تنشيط الإعلام ضدهم وبكل الوسائل المتاحة عبر الكتاب والمجلة والإنترنت وما أشبه، لتعلوهم الذلة والمهانة. فان الناس سينظرون إليهم باشمئزاز وازدراء، وهذا طبعاً يفرض على المسلم أن يكون شجاعاً وذكياً في فضح مؤامرات الكفار الشرقيين والغربيين وعملاءهم المتسلطين على رقاب المسلمين، الذين يقتلون ويهدرون دماء الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ وينتهكون الأعراض والحرمات، فان محاربة الكفار ولو بكلمة حق نقذفها على مسامعهم لهي من أفضل الجهاد وفي هذا يقول الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر»(2).

وذلك لأن كلمة العدل هذه سوف تقتل كلمة الجائر التي هي الباطل مهما كان مبدئه ومنهجه وسلوكه، وهذا هو الذي يريده الإسلام فان قتل الكافر هو أولاً قتل مبدئه وعقيدته الفاسدة وانتزاعها من اذهان الناس، إذ لا فائدة من قتله جسدياّ

ص: 441


1- لأن أدل دليل على الشيء هو الوقوع في الخارج.
2- الكافي 5: 60.

إذا ما بقيت أفكاره متداولة فالحجاج قتل، وكذلك ابن زياد، ويزيد، والمتوكل، وغيرهم من الطواغيت، لكن قتلهم كان يحتاج أيضاً إلى قتل أفكارهم حتى لا يقتدي بها أحد بعدهم.

واليوم حيث تعيش الأمة ظروف عصيبة في العراق وأفغانستان وفي أصقاع أخرى من العالم الإسلامي، تعيش صراعاً مريراً ضد الأفكار والمبادئ الزائفة التي يتبناها نظام البعث الصدامي، تلك الأفكار المملوءة بالأحقاد الاستعمارية الخبيثة والتي يرفعها النظام الكافر كشعار لسحق الدين الإسلامي الحنيف.

الرابع: قراءة القرآن
اشارة

إن قراءة القرآن ضرورية ومهمة لكل مسلم ولو بمقدار صفحة يومياً؛ لأن القرآن كتاب جهاد وثورة وتوجيه وتوعية وكتاب رشد وكتاب حركة وكتاب حياة.

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حملة القرآن عرفاء أهل الجنة والمجاهدون في اللّه قواد أهل الجنة، والرسل سادة أهل الجنة»(1).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «لقاح الإيمان تلاوة القرآن»(2).

وقال(عليه السلام): «تعلموا القرآن فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور»(3).

تقوى القلوب

لذا على الإنسان أن لا ينسى شيئين في حياته، أولهما: أن لا ينسى اللّه وأنه من اللّه، والى اللّه، واللّه مشرف عليه، وهو معه أين ما كان، في الحياة وفي الممات

ص: 442


1- النوادر للراوندي: 20.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 572.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 321.

وهو السميع البصير. ويجب أن يضع الإنسان اللّه عزّ وجلّ نصب عينيه في كل صغيرة وكبيرة دائماً، بأن يحاسب نفسه مع كل عمل يقوم به(1)، فان كان هذا العمل مرضي للّه ولرسوله فيستزيد منه، وإن لم يكن مرضٍ للّه ولرسوله فانه يمتنع عنه بكل قوة وعزم، متذكراً لحظة الوقوف بين يدي اللّه ولحظة الجزاء التي يجزى فيها بالخير خيراً، وبالشر شراً. والمجاهد أولى الناس بالتمسك بالتقوى. فقد قال اللّه تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما أحق الإنسان أن يكون له ساعة لا يشغله عنها شاغل يحاسب فيها نفسه فينظر فيما اكتسب لها وعليها في ليلها ونهارها»(3).

ولهذا لا بدّ أن تكون التقوى منطلقاً لأعمال المجاهدين. فلا ينطلقوا من الغضب أو الشهوة أو الشهرة ولا من حب الدنيا ولا من حب المال والزوجة، بل من منطلق التقوى والزهد والعمل الصالح الذي فيه رضا اللّه.

ذكر الموت

الأمر الثاني الذي يجب أن لا ينسى هو ذكر الموت؛ لأن الموت آت وإنه يوماً ما سيأتي تعود فيه إلى التراب سواء كان هذا اليوم قريباً أم بعيداً، قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسُ بِأَيِّ أَرْضٖ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُ}(4).

والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: «فاحذروا عباد اللّه الموت وقربه وأعدوا له

ص: 443


1- قال الإمام الكاظم(عليه السلام): «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسناً استزاد اللّه وإن عمل سيئاً استغفر اللّه منه وتاب إليه». الكافي 2: 453.
2- سورة المائدة، الآية: 8.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 698.
4- سورة لقمان، الآية: 34.

عدّته فإنه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل، بخير لا يكون معه شرٌ أبداً، أو شرٍ لايكون معه خيرٌ أبداً فمن أقرب إلى الجنة من عاملها ومن أقرب إلى النار من عاملها، وأنتم طرداء الموت إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم وهو ألزم لكم من ظَلّكم، الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تُطوى من خلفكم، فاحذروا ناراً قعرها بعيد وحرها شديد وعذابها جديد...»(1).

فهذه الحياة لابد لها من خاتمة ويجب أن تكون خاتمة خير؛ لأن الأيام تسرع بنا إليها، وأن الدنيا دار عمل بلا حساب والآخرة دار الحساب. فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنما أخاف عليكم اثنتين اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ارتجلت الآخرة مقبلة وارتحلت الدنيا مدبرة ولكل بنون، فكونوا من بني الآخرة ولا تكونوا من بني الدنيا، اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل»(2).

وقد سئل النبي نوح(عليه السلام) عن هذه الدنيا وهو الذي عاش ما يقرب من ألف وخمسمائة سنة، فقال: كأني دخلت من باب وخرجت من آخر، وتمثل أمير المؤمنين(عليه السلام) بأبيات شعر قال فيها:

إنما الدنيا فناء ليس للدنيا ثبوت *** إنما الدنيا كبيت نسجته العنكبوت

ولقد يكفيك منها أيها الطالب قوت *** ولعمري عن قليل كل من فيها يموت(3)

غير أن الجهاد عماد الدين ومنهاج السعادة وهو أفضل الأشياء بعد الفرائض، واللّه ما صلح دين ولا دنيا إلّا به.

ص: 444


1- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 27، من عهد له(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر حين قلّوه مصر.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 207.
3- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 116.

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يتغمد شهداء الإسلام في مشارق الأرضومغاربها برحمته الواسعة وأن يدخلهم فسيح جنانه، وأن يوفق الجميع لخدمة الإسلام والمسلمين، والإنصراف عن هذه الدنيا إلى الجهاد في سبيله سبحانه وتعالى.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الجهاد في سبيل اللّه

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ جَٰهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَٰفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}(2).

وقال سبحانه: {لَّا يَسْتَوِي الْقَٰعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَٰهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّٰبِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(5).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(6).

ص: 445


1- الكافي 3: 424.
2- سورة التحريم، الآية: 9.
3- سورة النساء، الآية: 95.
4- سورة محمد، الآية: 31.
5- سورة العنكبوت، الآية: 6.
6- سورة العنكبوت، الآية: 69.
الهجرة إلى اللّه تعالى

قال تعالى: {يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَٰسِعَةٌ فَإِيَّٰيَ فَاعْبُدُونِ}(1).وقال عزّ وجلّ: {قُلْ يَٰعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةٌ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(3).

جهاد الكلمة

وقال عزّ وجلّ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلَا بَلِيغًا}(4).

وقال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ الرَّبَّٰنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(6).

وقال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(7).

ص: 446


1- سورة العنكبوت، الآية: 56.
2- سورة الزمر، الآية: 10.
3- سورة النساء، الآية: 97.
4- سورة النساء، الآية: 63.
5- سورة المائدة، الآية: 63.
6- سورة الأعراف، الآية: 164.
7- سورة طه، الآية: 43-44.
تذكر الموت

قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِيقَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

الجهاد في سبيل اللّه تعالى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن جبرئيل(عليه السلام) أخبرني بأمر قرّت به عيني وفرح له قلبي قال: يا محمد، من غزا غزاة في سبيل اللّه من أمتك فما أصابه قطرة من السماء أو صداع إلّا كانت له شهادة يوم القيامة»(4).

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «ما من قطرة أحب إلى اللّه عزّ وجلّ من قطرتين قطرة دم في سبيل اللّه، وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها عبد إلّا اللّه عزّ وجلّ»(5).

ص: 447


1- سورة الزمر، الآية: 42.
2- سورة الجمعة، الآية: 8.
3- سورة سبأ، الآية: 14.
4- الكافي 5: 8.
5- الخصال 1: 50.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى اللّه سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فإنه ذروة الإسلام»(1).وقال الإمام الرضا(عليه السلام) عن آبائه^: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أفضل الأعمال عند اللّه عزّ وجلّ إيمان لا شك فيه، وغزو لا غلول فيه وحج مبرور، وأوّل من يدخل الجنة شهيد، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده، ورجل عفيف متعفف ذو عيال»(2).

أقسام الجهاد وشرائطه وأحكامه

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أربع لا يجزن في أربع: الخيانة والغلول والسرقة والربا، لا يجزن في حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صدقة»(3).

وقال(عليه السلام): «والجهاد واجب مع إمام عادل ومن قتل دون ماله فهو شهيد ولا يحل قتل أحد من الكفار والنصاب في دار التقية إلّا قاتل أو ساع في فساد، وذلك إذا لم تخف على نفسك ولا على أصحابك...»(4).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «بعثني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى اليمن وقال: يا علي لا تقاتلنَّ أحداً حتى تدعوه وأيم اللّه لأن يهدي اللّه على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا عليّ»(5).

وقال(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا التقى المسلمان بسيفيهما على غير سنة فالقاتل والمقتول في النار. فقيل: يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال:

ص: 448


1- نهج البلاغة، الخطبة: الرقم 110 في أركان الدين.
2- عيون أخبار الرضا 2: 28.
3- الخصال 1: 216.
4- الخصال 2: 607.
5- الكافي 5: 28.

لأنه أراد قتله»(1).

السبيل إلى الجهاد

سئل الإمام جعفر بن محمد(عليهما السلام) عن الحديث الذي جاء عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر» ما معناه؟ قال: «هذا على أن يأمره بقدر معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه وإلّا فلا»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته للحسنين(عليه السلام) عند وفاته: «قولاً بالحق واعملا للأجر وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»(3).

وأيضاً جاء في نفس الوصية عنه(عليه السلام): «اللّه اللّه في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل اللّه... لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم»(4).

الهجرة عن بلد المعاصي

قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام) في قوله تعالى: {يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَٰسِعَةٌ}(5) يقول: «لا تطيعوا أهل الفسق من الملوك فإن خفتموهم أن يفتنوكم على دينكم فإن أرضي واسعة...»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ليس بلد بأحق بك من بلدٍ، خير البلاد ما حملك»(7).

ص: 449


1- علل الشرائع 2: 462.
2- الخصال 1: 6.
3- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 47، من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم.
4- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 47، من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم.
5- سورة العنكبوت، الآية: 56.
6- تفسير القمي 2: 151.
7- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 442.

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «... إذا عصي اللّه في أرض أنت فيها فأخرج منها إلى غيرها»(1).

التحذير من مؤازرة الحكومات الجائرة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربعة من قواصم الظهر: إمام يعصي اللّه ويطاع أمره...»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... ومن خف لسلطان جائر كان قرينه في النار، ومن دلّ سلطاناً على الجور قرن مع هامان وكان هو والسلطان من أشد أهل النار عذاباً...»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير قول اللّه تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}(4): «واللّه، ما صلوا لهم ولا صاموا، ولكن أطاعوهم في معصية اللّه»(5).

ص: 450


1- تفسير مجمع البيان 8: 37.
2- الخصال 1: 206.
3- ثواب الأعمال: 281.
4- سورة التوبة، الآية: 31.
5- المحاسن 1: 246.

الأحلام من وجهة نظر الإسلام

تمهيدٌ

قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِي أَرَيْنَٰكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ}(1).

الرؤيا أو الأحلام من الأمور التي اهتم بها الإنسان منذ القدم والى الآن، لما تتركه من طابع خاص على المرء، ولما تؤثر به أحياناً على مزاجه الشخصي، فإما أن يكون فرحاً أو مستاءً. ولكل مجتمع تعابير خاصة به، يفسّر بموجبها الأحلام، ويعطي لها صوراً في الواقع الخارجي.

وفي بعض المجتمعات تكون الأحلام أمراً مهما في حياتهم، ولعلها تمثل لهم جزءً من تراثهم، فيما لا ترى مجتمعات أخرى للأحلام هذه المكانة، ولا تقيم لها وزناً، كما هو الحال في المجتمعات الأوروبية، وربما تعتبر الأحلام واحدة من المشاكل الروحية للبعض، لا سيما بعض الشباب، فعندما يرى المرء رؤيا تحمل في طياتها الجمال والشرف والرفعة، أو يرى نفسه في المنام بأنه يشغل منصباً عالياً، يتصور أن هذا الأمر لابد أن يحدث في الواقع، فيحاول جاهداً أن يرسم حول نفسه هالة من التعظيم، فيبدأ - أين ما جلس - يتحدث عن صورته الجميلة في عالم الرؤيا، وأن له شأناً عظيماً.

ومن الناس من يدعي أشياء خارجة عن الدين، أو يرتب على الأحلام سلوكاً

ص: 451


1- سورة الإسراء، الآية: 60.

خاصاً ينفرد به عن السلوك العام، فهذه في الواقع قد تكون أزمات نفسية روحية يعيشها البعض، دون أن يشعر بأنها مشاكل روحية، بل لعله يتصورها كمالاً روحياً أعطي له هو خاصة من دون الناس، ويتصور بأنه من المحال أن تكون من الأحلام التي يتدخل بها الشيطان، ليحرفه عن المجتمع أو الدين والأخلاق.

هذا ومن الناحية الشرعية قد تكون الرؤيا صادقة وقد لا تكون، لكن وبشكل عام الرؤيا لا تكون حجة شرعاً، ولا يترتب عليها أثر شرعي إلّا في بعض الموارد الخاصة كرؤيا الأنبياء^، قال تعالى: {إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّٰبِرِينَ}(1).

كيف تحدث الأحلام؟

في الكثير من القضايا والأحداث تكون هناك نظرتان:

1- نظرة مادية تفسر كل الظواهر على أساس المادة والتجربة والحس.

2- نظرة غير مادية، وهي نظرة ثانية تدخل الاتجاه الغيبي مع الظواهر كلها، باعتبار أن الكون بما فيه خاضع لإرادة اللّه عزّ وجلّ.

وفي مسألة الأحلام والرؤيا كذلك، فيقول صاحب الاتجاه المادي: إن الرؤيا تكون بسبب عوامل نفسية داخلية، وأخرى بدنية، فالنفسية مثلاً لو كان الشخص يفكر بأمر ما، ثم غلبه النوم فإنه سوف يرى ما كان يفكر به ذهنياً، أو أن خزانة اللاشعور المحتفظة بالصور الذهنية السابقة تقوم فتخرجها أثناء النوم فيراها الإنسان.

أما العوامل البدنية فهي مثل ما لو أكل الإنسان أنواعاً مختلفة من الطعام ثم أخلد إلى النوم، فإن ذلك سوف يظهر له عدة صور مختلفة، أو عندما يأكل حتى

ص: 452


1- سورة الصافات، الآية: 102.

الشبع، أو يتناول أغذية أو مشروبات حارة جداً أو باردة جداً، إلى غير ذلك مما يؤثر على روح الإنسان وتفكيره، فيرى صوراً متعددة وأحلاماً مختلفة. ومن هنا ذهب هؤلاء الماديون إلى القول بكذب وتكذيب جميع الأحلام، وأنها لااعتبار لها في الواقع.

أما الاتجاه الثاني الذي يدخل العوامل الغيبية في نظرياته، فإنه لاينفي العوامل المادية تماماً، وإنما يضيف إليها أسباباً أخرى لحدوث الأحلام، منها - على ما ذكروا - الأخلاق والسجايا الإنسانية، فهي شديدة التأثير في نوع التخيّل، فالإنسان الذي يحب إنساناً أو عملاً ما حبّا كبيراً، فإن ذلك يشغل تفكيره عادة، بحيث أنه لا يزول ولاينفك عن مخيلته، ويراه حتى في منامه، وكذلك من الأسباب طهارة القلب، وصفاء النفس، ومنها نوع العلاقة مع اللّه عزّ وجلّ، ومنها ما يكون كشفاً للحقائق، ماضية أو فعلية أو مستقبلية ويكون ذلك نتيجة جهاد النفس ومخالفة الهوى في درجاتها العالية، إلى غيرها من الأسباب.

الأحلام الصادقة والكاذبة

اشارة

والذي يلزم قوله هنا: أن الأحلام ليست كلها كاذبة ولا اعتبار لها، بل منها ما هو صادق، وله الأثر الفعال والفائدة الكبيرة، ومنها ما هو كاذب لا واقع له، فإن كان له بعض التأثير فإنما هو عن طريق حالة الإيحاء التي تركب صاحبها عادة.

تفسير الأحلام

لما كانت الأحلام مختلفة وبعضها صادقة قد يترتب عليها بعض الآثار، مضافاً إلى أن لبعض الأحلام الصادقة تأثيراً كبيراً في المستقبل على مستوى الفرد أو الأمة، كما هو الحال في زمن النبي يوسف(عليه السلام)، إذ كان لحلم الملك أثر على مستوى الأمة، من هنا لا يمكن تركها دون تمييز ما هو صالح منها، وهذا هو

ص: 453

فلسفة علم تفسير الأحلام علماً بأن هذا العلم يكون عادة من باب المقتضي لا العلة التامة، ومن المعلوم أنه ليس كل ما كتب في هذا الشأن يتصف بطابع الصحة، نعم ما ثبت وروده عن أهل البيت^ فهو صحيح لا شك فيه.

وقد ورد عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(1) قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «لم يبق من النبوة إلّا المبشرات». قالوا: يا رسول اللّه، وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة»(3).

وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «الرؤيا الصالحة بشرى من اللّه، وهي جزء من أجزاء النبوة»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الرؤيا ثلاثة: رؤيا بشرى من اللّه، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا يحدث بها الإنسان نفسه فيراها في المنام»(5).

وهذه إشارة إلى فوائد الأحلام الصادقة، والرؤيا الصالحة، أما كيف نميز الصالح من الرؤيا عن غيره؟

قالوا: إن العوالم ثلاثة: عالم الطبيعة، وهو عالمنا الذي نعيش فيه، والأشياء الموجودة فيه لها صور مادية عادة، وعالم المثال وهو فوق عالم الطبيعة وجوداً، فقالوا إنه أشرف من عالمنا هذا، وفيه صور الأشياء بلا مادة، وهو مؤثر نسبة في

ص: 454


1- سورة يونس، الآية: 64.
2- بحار الأنوار 58: 191.
3- بحار الأنوار 58: 177.
4- بحار الأنوار 58: 192.
5- عوالي اللئالي 1: 79.

حوادث عالم الطبيعة. والعالم الثالث هو عالم العقل، وهو فوق عالم المثالوجوداً، وفيه حقائق الأشياء من غير مادة ولا صورة.

والنفس الإنسانية عندما تتجرد عن البدن في النوم تتصل بأصلها، وهو عالم المثال وعالم العقل، فإذا نام الإنسان وتعطلت الحواس، انقطعت النفس عن الأمور الطبيعية المادّية، واتصلت بعالمها المسانخ لها، وشاهدت بعض ما فيه من الحقائق. وكل نفس تشاهد بمقدار مالها من استعداد وكمال وطهارة.

وقد قال إمامنا الباقر(عليه السلام): «ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء، وبقيت روحه في بدنه، وصار بينهما سبب كشعاع الشمس، فإذا أذن اللّه في قبض الأرواح أجابت الروح والنفس، وإن أذن اللّه في رد الروح أجابت النفس والروح، وهو قوله سبحانه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}(1) فمهما رأت في ملكوت السماوات فهو مما له تأويل، وما رأت في ما بين السماء والأرض فهو ما يخيله الشيطان ولا تأويل له»(2).

وكل ما كانت النفس عالية وطاهرة وشريفة ومخلصة للّه عزّ وجلّ، فإنها تصل إلى الملكوت، وبقوة كمالها تشاهد حقائق الأشياء، وتشاهد بعض الحوادث المستقبلية أيضاً، وكل ما كانت النفس ضعيفة وعلاقتها مع اللّه عزّ وجلّ سطحية وخالية من الكمالات، فإن غالب رؤاها تكون ما بين السماء والأرض، أي إنها لا تشاهد حقائق الأشياء عادة، بل ترى ما يصوّره الشيطان لها، وهي الرؤيا الكاذبة.

ولكن لا يستطيع الشيطان أن يتلبس بكل الموجودات، ويبطل كل الرؤى، فإذا كانت الموجودات تحمل كمالاتٍ شديدة، فإن الشيطان لا يستطيع أن يتلبس بها

ص: 455


1- سورة الزمر، الآية: 42.
2- بحار الأنوار 58: 27.

عادة، ويقلب صورتها الحقيقية، كما هو الحال في شخص النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أمين الوحيجبرائيل والأئمة الطاهرين^، فإنه لا يستطيع أن يأتي بهيئتهم أبداً.

من رآني فقد رآني

فعن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من رآني في منامه فقد رآني لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي، ولا في صورة أحد من أوصيائي، ولا في صورة أحد من شيعتهم، وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءاً من النبوة»(1).

القرآن والرؤيا

لقد تعرض القرآن إلى الأحلام، وأشار إلى أن الرؤيا في المنام إحدى طرق وصول الرسالة إلى الأنبياء^، واستعرض أيضاً عدة قصص حول الرؤيا، كما في قصة إبراهيم(عليه السلام)، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّٰبِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَٰدَيْنَٰهُ أَن يَٰإِبْرَٰهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا}(2) إذ كانت رؤيا إبراهيم(عليه السلام) صادقة، كما هو الحال في جميع رؤى الأنبياء^، فهذه من الأحلام الصادقة التي حكاها اللّه عزّ وجلّ في القرآن.

وكذلك ما حكاه من رؤيا النبي يوسف(عليه السلام) حيث قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَٰأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَٰجِدِينَ}(3).

ومنها رؤيا صاحبي السجن اللذين كانا مع يوسف(عليه السلام) في السجن.

ص: 456


1- من لا يحضره الفقيه 2: 585.
2- سورة الصافات، الآية: 102-105.
3- سورة يوسف، الآية: 4.

ومنها رؤيا الملك أيضاً.

وكذلك الحال بالنسبة لنبينا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عدة مواضع، منها قوله تعالى: {إِذْيُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَىٰكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ}(1).

ومنها قوله تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}(2).

ومنها الآية الكريمة التي هي موضوع بحثنا: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِي أَرَيْنَٰكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ}(3)، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال حول نزول هذه الآية وقصتها: «رأى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في منامه بني أمية يصعدون على منبره من بعده، ويضلون الناس عن الصراط القهقرى، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل(عليه السلام) فقال: يا رسول اللّه، مالي أراك كئيباً حزيناً؟

قال: يا جبرئيل، إني رأيت بني أمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي ويضلون الناس عن الصراط القهقرى.

فقال: والذي بعثك بالحق نبياً، إن هذا شيء ما اطلعتُ عليه، فعرج إلى السماء، فلم يلبث أن نزل عليه بآيٍ من القرآن يؤنسه بها، قال: {أَفَرَءَيْتَ إِن مَّتَّعْنَٰهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ}(4)، وأنزل عليه: {إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٖ}(5) جعل اللّه عزّ وجلّ ليلة القدر لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خيراً من ألف شهر

ص: 457


1- سورة الأنفال، الآية: 43.
2- سورة الفتح، الآية: 27.
3- سورة الإسراء، الآية: 60.
4- سورة الشعراء، الآية: 205-207.
5- سورة القدر، الآية: 1-3.

مُلك بني إمية»(1).وفي روايات أخرى أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأى قروداً تنزو على منبره(2)،

والقرود عبارة عن الشخصية الحقيقية بصورتها الواقعية في العالم الآخر، فكل إنسان له صورة في العالم الأخروي هي عبارة عن مجموعة أعماله وسلوكه ورغباته، فإما أن تكون بصورة الملوك الأجّلاء، وإمّا بصورة القرود أو الكلاب أو ما شابه ذلك نعوذ باللّه تعالى، فمن خلال رؤيا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذه، وغيرها، ومن تفسيره(صلی اللّه عليه وآله وسلم) القرود ببني أمية، نعرف بوجود رؤيا صادقة، ونستدل على صحة تعبير الرؤيا بشروطه.

نعم يبقى هناك، أنواع التفسير للرؤيا، وأنواع الرؤيا، ووقتها، وتفاصيل أخرى مذكورة في الكتب الخاصة بهذا العلم.

لا حجية للرؤيا

ثم إنه لا يخفى أن الرؤيا لا تكون حجة شرعاً فلا يترتب عليها أمر شرعي إلّا بعض الرؤى كما في الأنبياء^ فإذا رأى أحدنا رؤيا مهمة وعظيمة، وكان لها مساس بالشريعة الإسلامية، فهل هذه الرؤيا حجة علينا أم لا؟ أي: هل يجب أن نلتزم بما دلت عليه أم لا يكون كذلك؟

ولتوضيح السؤال أكثر نضرب مثالاً في الأحكام، وآخر في الموضوعات، أما في الموضوعات فلو رأى شخص في المنام مثلاً: أن فلاناً قتل فلاناً، أو زنى بفلانة، أو سرق شيئاً، أو ارتكب معصية، فهل يحق له أن يشهد ضده أو يخبر أهل المرأة بأن ابنتكم زانية، أو يذهب إلى صاحب المحل المسروق، ويقول له إن فلاناً سرق منك، لأنه شاهده في المنام، وهو يسرق أو يزني...؟ هل يحق لنا

ص: 458


1- الكافي 4: 159.
2- بحار الأنوار 28: 257، 44: 58.

ذلك أم لا؟

وأمّا في الأحكام، فلو رأى أحد في المنام أن العمل الكذائي المستحب مكروهوليس بمستحب، فهل يتركه ولا يأتي به من اليوم فصاعداً نظراً لكراهته؟ أم يبقى الحكم على استحبابه ولا حجية للرؤيا؟

والإجابة في كلا الموردين هي النفي؛ إذ لا حجية للرؤيا، ولا دليل قائم على حجيتها أبداً. فليس من الصحيح أن نرتّب أثراً خارجياً، وسلوكاً خاصاً على أثر رؤيا شاهدناها في المنام، أو نحكم ببطلان عمل فلان، أو عدم نزاهته وغير ذلك لمجرد الأحلام، بل يجب أن نلتفت إلى عدم الحجية، ولا نقع ضحيتها نحن وغيرنا، كما ويجب أن لا تؤدي الأحلام إلى اضطراب علاقتنا الاجتماعية، أو النفسية، ولا تؤثر على سلوكنا الشخصي. نعم، هي قد تفيد من ناحية إزدياد الإيمان، والتثبت في الدين، والحذر من النار، ومن كلّ الأسباب المؤدية إليها، والتنافس لعمل الخير، وربما تدل على عظمة الشخص، وزيادة إيمانه، كما لو كان دائماً يرى الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة الهدى^.

ابن سيرين وتعبير الرؤيا

وكما أسلفنا فإن للإخلاص أثراً فعالاً في عالم الرؤيا وهكذا في معرفة تعبير الرؤيا، ذكروا في حياة ابن سيرين، فقد جاء عنه إنه كان شابّاً وسيماً، وكان يعمل عند أحد البزازين(1)، وذات يوم جاءت إليه امرأة حسناء فاشترت منه أقمشة، وطلبت منه أن يحملها معها إلى المنزل، وبعد أن دخل دارها، غلَّقت عليه الأبواب، وطلبت منه أن يفعل الحرام معها، ولمّا لم يجد ابن سيرين مفراً منها، طلب أن يذهب إلى الكنيف، وبعد دخوله لطخ بدنه بالنجاسة، ثم خرج إليها

ص: 459


1- بائع الأقمشة.

فاستاءت منه، وطردته من بيتها، فتخلّص من ارتكاب الذنب، وجاء إلى بيته وطهر ثيابه وبدنه، ثم عاد إلى دكانه، وفي الليل رأى رؤياه التي أعطي فيها علم تفسير الأحلام.

فيلزم أن تكون الرؤيا والأحلام من القضايا التي تزيد من إيمان المرء وإخلاصه للّه عزّ وجلّ، لا أن نجعل من الأحلام أساطير وقصصاً خيالية كاذبة، تزيد رقماً إضافياً إلى حالة التخلف واللاوعي المتفشي في الأمة.

بل إن الرؤيا كما عبر عنها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشرى للمؤمنين وأحياناً إنذار لهم لا غير.

ومما يذكر أن امرأة رأت في المنام زوجها، وقد أدخلت هرة رأسها في بطنه، وأكلت ما كان في معدته من غذاء، فخافت هذه المرأة من هذه الرؤيا، وجاءت إلى ابن سيرين لمعرفة تفسيرها، فقال لها ابن سيرين: إن هذه الرؤيا ليست مخيفة أبداً، فقال: وإنما تعني أن أحد اللصوص قد دخل حانوت زوجك الليلة الماضية، وسرق منه مبلغاً من المال، فذهبت المرأة إلى الحانوت، فاتضح لها صحة ما قاله ابن سيرين.

وما حصل عليه ابن سيرين من العلم في تعبير الرؤيا، تدخلت به عوامل عديدة، منها ما سبق من إخلاصه للّه سبحانه، وخوفه منه، وابتعاده عن المحرمات، ومنها سعيه إلى معرفة عوامل علمية عديدة، تدخل في هذا المجال، كالطبيعيات والحساب وغيرها.

رؤيا الوالد وإصابته بالسكتة

وقد رأى والدنا في منامه - قبل أن يصاب بالسكتة وينجو منها - أن إحدى منائر ضريح الإمام الحسين(عليه السلام) قد وقعت، وأن الناس جاءوا، وبعد جهد كبير أعادوا المنارة إلى محلّها، ثم أصيب والدنا بالسكتة، وعوفي منها، فقال

ص: 460

المفسرون: إن وقوع المنارة هو دلالة على مرضه، وإن دعاء الناس هو الذي كان في الرؤيا عبارة عن مجيء الناس، وإعادة المنارة إلى محلها.

الدقة في تفسير الرؤيا

وفي كربلاء المقدسة كان هناك خطيب من الخطباء المعروفين، يمتاز بقدرته الفائقة على تفسير الأحلام، وذات مرة قيل له: إن شخصاً غير صالح - لم يذكروا اسمه - شاهد في عالم الرؤيا أنه أخرج بدن الإمام الحسين(عليه السلام) من قبره، ثم غسّله وكفّنه، وأعاده إلى قبره ثانية، وأن الشخص الذي كان قد شاهد هذه الرؤيا كان مسروراً جداً من رؤياه، ولكن الخطيب قال: إن سريرة هذا الشخص سيئة جداً، وإنه من أصحاب البدع والضلالة، حيث إنه ارتكب ثلاث معاصٍ:

الأولى: نبش القبر، وإخراج بدن الإمام(عليه السلام).

الثانية: أنه قام بتغسيل بدن الإمام(عليه السلام)، في حين أن بدن الشهيد لا يغسّل.

الثالثة: أنه قام بتكفين بدن الإمام(عليه السلام)، في حين أن بدن الشهيد لايكفن. إذن هذا الشخص هو من أهل البدعة.

وكانت الحقيقة كذلك، حيث كان الرجل من أهل البدعة، وكان قد تجاسر على المرحوم السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) مرات عديدة.

فالأحلام تنقسم إلى أقسام مختلفة ولكل واحد منها تعبيره الخاص به وليست كالمطر آخره الوقوع على الأرض.

فلو فرضنا مثلاً مدينة من المدن، فلربما يكون مجموع ما يراه أهلها من الأحلام قد يصل إلى مليون رؤيا أو حلم، ولربما أكثر من ذلك.

ومن الممكن أن يرى الإنسان أكثر من حلم في ليلة واحدة، وأن هذا العدد الكبير من الأحلام يشكّل عالماً واسعاً، وإن منها ما يدل على الماضي، ومنها ما يدل على الحاضر ومنها ما يدل المستقبل.

ص: 461

من هدي القرآن الحكيم

القرآن والرؤيا

قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَٰأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَٰجِدِينَ * قَالَ يَٰبُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ}(1).

وقال سبحانه: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَٰتٍ خُضْرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ يَٰأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَٰيَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}(3).

من أنباء الغيب

قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَٰفِرِينَ}(4).

وقال سبحانه: {عَٰلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(6).

الإيمان الحقيقي كاشف عن المغيبات

قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ}(7).

وقال سبحانه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ... أُوْلَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن

ص: 462


1- سورة يوسف، الآية: 4-5.
2- سورة يوسف، الآية: 43.
3- سورة الصافات، الآية: 102.
4- سورة الأنفال، الآية: 7.
5- سورة الجن، الآية: 26-27.
6- سورة يونس، الآية: 63-64.
7- سورة البقرة، الآية: 26.

رَّبِّهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).وقال عزّ وجلّ: {أُوْلَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنْهُ}(2).

تعبير الرؤيا

قال تعالى: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}(3).

قال سبحانه: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَىٰنِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْأخَرُ إِنِّي أَرَىٰنِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ... يَٰصَٰحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْأخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَٰتٍ خُضْرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ... قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

الرؤيا ومنشأها

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الرؤيا الصالحة من اللّه والحلم من الشيطان»(6).

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «الرؤيا ثلاثة: رؤيا بشرى من اللّه، ورؤيا تحزين من

ص: 463


1- سورة البقرة، الآية: 3 و5.
2- سورة المجادلة، الآية: 22.
3- سورة يوسف، الآية: 21.
4- سورة يوسف، الآية: 36 و41.
5- سورة يوسف، الآية: 43 و47-49.
6- عدة الداعي: 278.

الشيطان، ورؤيا يحدث بها الإنسان نفسه فيراها في النوم»(1).وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الرؤيا الصالحة إحدى البشارتين»(2).

وعن الإمام أبي محمّد العسكري(عليه السلام) قال: «من أكثر المنام رأى الأحلام»(3).

الرؤيا الصادقة والكاذبة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خياركم أولو النهى، قيل: يا رسول اللّه، ومن أولو النهى؟ فقال: أولو النهى أولو الأحلام الصادقة والأخلاق الطاهرة المطعمون الطعام المفشون السلام المتهجدون بالليل والناس نيام»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، ما من عبد ينام إلا عرج بروحه إلى رب العالمين، فما رأى عند رب العالمين فهو حق، ثم إذا أمر اللّه العزيز الجبار برد روحه إلى جسده، فصارت الروح بين السماء والأرض، فما رأته فهو أضغاث أحلام»(5).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: في قول اللّه عزّ وجلّ: {لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(6) قال: «هي الرؤيا الحسنة يرى المؤمن فيبشر بها في دنياه»(7).

عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): جعلت فداك الرؤيا الصادقة والكاذبة مخرجهما من موضع واحد؟ قال(عليه السلام): «صدقت أما الكاذبة المختلفة

ص: 464


1- عوالي اللئالي 1: 79.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 86.
3- الدرة الباهرة: 46.
4- مستدرك الوسائل 6: 334.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 146.
6- سورة يونس، الآية: 64.
7- الكافي 8: 90.

فإن الرجل يراها في أول ليله في سلطان المردة الفسقة، وإنما هي شيء يخيّل إلى الرجل وهي كاذبة مخالفة لا خير فيها، وأما الصادقة إذا رآها بعد الثلثين من الليل معحلول الملائكة وذلك قبل السحر فهي صادقة لا تخلف إن شاء اللّه...»(1).

تعبير الرؤيا

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «من رأى أنه في الحرم وكان خائفاً أمن»(2).

عن صفوان، عن داود عن أخيه عبد اللّه قال: بعثني إنسان إلى أبي عبد اللّه(عليه السلام)، زعم أنه يفزع في منامه من امرأته تأتيه، فيصيح حتى سمع الجيران، فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اذهب فقل له إنك لاتؤدي الزكاة» فقال: بلى واللّه إني لأؤديها قال: فقل له: «إن كنت تؤديها فانك لا تؤتيها أهلها»(3).

وروي أن أبا عمارة، المعروف بالطيّار، قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): رأيت في النوم كأن معي قناة، قال: «كان فيها زجُّ»؟ قلت: لا، قال: «لو رأيت فيها زجاً لولد لك غلام، ولكن تولد جارية»، ثم مكث ساعة يتحدث، ثم قال: «كم في القناة من كعب»؟ قلت: اثنا عشر كعباً، قال: «تلد الجارية اثنتي عشر بنتاً»(4).

عن إبراهيم الكرخي قال: قلت للصادق(عليه السلام): إن رجلاً رأى ربه عزّ وجلّ في منامه، فما يكون ذلك؟ فقال: «ذلك رجل لا دين له، إن اللّه تبارك وتعالى لا يُرى في اليقظة، ولا في المنام، ولا في الدنيا، ولا في الآخرة»(5).

ص: 465


1- الكافي 8: 91.
2- قرب الأسناد: 82.
3- ثواب الأعمال: 235.
4- الخرائج 2: 638.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 610.
الرؤيا على ما تعبر

عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: «ربما رأيت الرؤيا فأعبرها، والرؤيا على ما تعبر»(1).

لمن تقص الرؤيا؟

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الرؤيا لا تقص إلّا على مؤمن خلا من الحسد والبغي»(2).

سوء الأحلام

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أيضاً قال: «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: اللّهم إني أعوذ بك من الاحتلام ومن سوء الأحلام وأن يلعب بي الشيطان في اليقظة والمنام»(3).

إذا عُبرت وقعت

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «الرؤيا على رِجْلِ طائرٍ ما لم تعبّر فإذا عبرت وقعت»(4).

صدق رؤياه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثير الرؤيا ولا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح»(5).

رفع الرؤيا

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا يحزن أحدكم أن ترفع عنه الرؤيا، فإنه إذا رسخ في العلم

ص: 466


1- الكافي 8: 335.
2- الكافي 8: 336.
3- الكافي 2: 536.
4- عوالي اللئالي 1: 79.
5- مكارم الأخلاق: 292.

رفعت عنه الرؤيا»(1).

رؤيا الإمام(عليه السلام)

عن الإمام أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: «رأيت أبي(عليه السلام) في المنام فقال: يا بني إذا كنت في شدة فأكثر أن تقول يا رؤوف يا رحيم والذي تراه في المنام كما تراه فياليقظة»(2).

الرؤيا الصالحة

عن عبادة بن الصامت قال: «سألت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(3)؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له»(4).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الرؤيا الصالحة إحدى البشارتين»(5).

ما يكره من الرؤيا

عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «شكت فاطمة(عليها السلام) إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما تلقاه في المنام، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها: إذا رأيت شيئاً من ذلك فقولي: أعوذ بما عاذت به ملائكة اللّه المقربون، وأنبياء اللّه المرسلون، وعباد اللّه الصالحون، من شر رؤياي التي رأيت أن تضرني في ديني ودنياي، واتفلي على يسارك ثلاثاً»(6).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إذا رأى الرجل في منامه ما يكره فليتحول عن

ص: 467


1- تحف العقول: 50.
2- مهج الدعوات: 333.
3- سورة يونس،الآية: 64.
4- سعد السعود: 197.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 86.
6- فلاح السائل: 289.

شقه الذي كان عليه نائماً، وليقل: {إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَٰنِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَئًْا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}(1)، ثم ليقول: أعوذ بما عاذت به ملائكة اللّه المقربون وأنبياء اللّه المرسلون وعباد اللّه الصالحون من شر ما رأيت ومن شر الشيطان الرجيم»(2).وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «الرؤيا الصالحة من اللّه فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلّا من يحب وإذا رأى رؤيا مكروهاً فليتفل عن يساره»(3).

الروح والرؤيا

عن محمد بن القاسم النوفلي قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام) الرجل يرى الرؤيا فيكون كما يراه، وربما يرى الرؤيا فلا يكون شيئاً؟

فقال(عليه السلام): «إن المؤمن إذا نام خرجت من روحه حركة ممدودة وربما صعدت إلى السماء، فكل ما رأته روح المؤمن في موضع التقدير والتدبير فهو الحق، وكل ما رأته في الأرض فهو أضغاث أحلام» فقلت له: جعلت فداك ويصعد روحه إلى السماء؟

فقال(عليه السلام): ­«نعم»، فقلت له: جعلت فداك حتى لا يبقى منها شيء في بدن المؤمن؟

قال(عليه السلام): «لا لو خرجت كلها حتى لا يبقى منها شيء في بدن المؤمن لمات».

قلت: وكيف تخرج؟

ص: 468


1- سورة المجادلة، الآية: 10.
2- فلاح السائل: 289.
3- عدة الداعي: 277.

قال(عليه السلام): «أما ترى الشمس في السماء في موضعها وشعاعها في الأرض، فكذلك الروح أصلها في البدن وحركتها ممدودة»(1).

رؤيا أم سلمة(عليها السلام)

عن أم سلمة قالت: «رأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المنام وعلى رأسه التراب، فقلت: مالك يا رسول اللّه؟ فقال: شهدت قتل الحسين(عليه السلام) آنفاً»(2).وعن ابن عباس قال: «بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أم سلمة وهي تقول: يا بنات عبد المطلب أسعدنني وإبكين معي فقد قتل سيدكن.

فقيل: ومن أين علمت ذلك؟

قالت: رأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الساعة في المنام شعثاً مذعوراً، فسألته عن ذلك؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قتل ابني الحسين وأهل بيته فدفنتهم».

قالت: فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرائيل من كربلاء وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا صارت دماً فقد قتل إبنك...»(3).

ص: 469


1- جامع الأخبار: 172.
2- المناقب 4: 55.
3- المناقب 4: 55.

الأخوة الإسلامية

الأُخوّة وأقسامها

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1).

أي: إنهم إخوة في الإيمان، فكما أن الأخ النسبي يحنو على أخيه كذلك المؤمن يحنو على المؤمن {فَأَصْلِحُواْ} أيها المؤمنون {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} إذا حدث بينهما شقاق وشجار {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه فلا تنازعوا، وإن تنازع اثنان منكم فلا تتركوهما أعداءً بل أصلحوا بينهما {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فإن المتقي لا يعلم هل يموت على التقوى؟ وهل يبقى على التقوى في مستقبل عمره؟ فكونه مرحوماً ليس مقطوعاً به، بل لعله يرحم. وإذ كان المؤمنون إخوة، فاللازم عليهم أن لا يفعل البعض ما يسيء إلى البعض الآخر(2).

إذن، فقد بيّن الإسلام أنّ الأُخوّة عنده ليست قسماً واحداً، بل هي على أقسام:

منها: الأُخوّة النسبية، وهي التي تنشأ بين أخوين لأبوين أو لأب أو لأم.

وقد أشارت إليها الآية الكريمة عند قوله سبحانه: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ

ص: 470


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- تفسير تقريب القرآن 5: 205.

مِّنْهُمَا السُّدُسُ}(1).

وقوله عزّ وجلّ: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءَايَٰتٌ لِّلسَّائِلِينَ}(2).

وقوله تبارك وتعالى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَٰفِظُونَ}(3).

وقوله سبحانه: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}(4).

فالمراد من هذه الأُخوّة في هذه الآيات الكريمة هي الأُخوّة النسبية.

ومنها: الأُخوّة الرضاعية، التي ليست من أب وأم وإنما رضعوا من أم واحدة، ويشير لذلك قوله تعالى: {وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ}(5).

ومنها: الأخوة بالمشاكلة، قال تعالى: {يَٰأُخْتَ هَٰرُونَ}(6). أي شبيهته في الزهد والصلاح، وكان رجلاً عظيم الذكر في زمانه. وقيل: كان لمريم(عليها السلام) أخ يقال له: هارون.

ومثل قوله سبحانه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَٰنَ الشَّيَٰطِينِ}(7) يريد المشاكلة؛ لأن الإخوَّة إذا كانت في غير الولادة كانت بالمشاكلة والاجتماع في الفعل.

ومنها: الأُخوّة القبلية أو العشائرية، وإليها يشير قوله سبحانه وتعالى: {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}(8).

ص: 471


1- سورة النساء، الآية: 12.
2- سورة يوسف، الآية: 7.
3- سورة يوسف، الآية: 63.
4- سورة القصص، الآية: 11.
5- سورة النساء، الآية: 23.
6- سورة مريم، الآية: 28.
7- سورة الإسراء، الآية: 27.
8- سورة الأعراف، الآية: 65.

ولعل خطاب هود(عليه السلام) بالأخ لأنه كان من قبيلتهم فاختاره سبحانه بالرسالة من بينهم وأرسله إليهم. أو تنبيهاً على إشفاقه عليهم شفقة الأخ على أخيه(1).

ومنها: الأُخوّة الدينية والعقائدية، وإليها يشير قول اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(2).

وقوله(عليه السلام): «المؤمن أخ المؤمن»(3).

وقوله(عليه السلام): «المسلم أخ المسلم»(4).

وقال(عليه السلام): «المسلمون إخوة»(5).

فالمؤمنون والمسلمون بعضهم إخوة بعض من حيث الدين والعقيدة، ولأنهم إخوة في الدين فيلزم نصرة بعضهم بعضاً.

الأخوة في اللغة

أما (الأخوة) في اللغة فمعناه واضح، أخو: أخ وأخوان وإخوة وإخوان. وبيني وبينه أخوة وإخاء. وتقول: آخيته، ولغة طيء: واخيته. و هذا رجل من آخائي، بوزن أفعالي، وتقول: آخيت على أصل التأسيس، ومن قال: واخيت، بلغة طيء أخذه من الوخاء، وتأنيث الأخ: أخت، وتاؤها هاء. وتقول: أخت وأختان وأخوات. ولفلان عند الأمير أخية ثابتة(6).

وفي لسان العرب: الأَخُ من النسَب: معروف، وقد يكون الصديقَ والصاحِبَ،

ص: 472


1- مفردات ألفاظ القرآن: 68.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.
3- تحف العقول: 296.
4- تحف العقول: 203.
5- الكافي 1: 403.
6- كتاب العين 4: 319 مادة (أخو).

والأَخا، مقصور، الأَخُ أَصله أَخَوٌ، بالتحريك، لأَنه جُمِع على آخاءٍ مثل آباء، والذاهب منه واو لأَنك تقول في التثنية: أَخَوان، وبعض العرب يقول: أَخانِ، على النقْص، ويجمع أَيضاً على إِخْوان، وعلى إِخْوة وأُخْوة.

وقوله عزّ وجلّ: {وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ}(1)، يعني بإخوانهم: الشياطين لأَن الكفار إخوانُ الشياطين.

وقيل في الأنبياء: أخوهم وإن كانوا كَفَرة، لأنه إنما يعني أنه قد أتاهم بَشر مثلهم من ولد أبيهم آدم(عليه السلام)، وجائز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم فيكون أفْهَم لهم بأَنْ يأْخذوه عن رجُل منهم. وقولهم: فلان أخُو كُرْبةٍ وأخُو لَزْبةٍ وما أشبه ذلك، أي: صاحبها. وقولهم: إخْوان العَزاء وإخْوان العَمل، إنما يريدون أَصحابه ومُلازِمِيه، وقد يجوز أن يَعْنوا به أنهم إخْوانه، أي إخْوَتُه الذين وُلِدُوا معه، وقيل: إِنَّما يَنْجَحُ إِخْوان العَمَلْ. يعني من دَأبَ وتحرَّك ولم يُقِمْ.

وأَكثرُ ما يستعمل (الإِخْوانُ) في الأَصْدِقاء و(الإِخْوةُ) في الولادة، وقد جمع بالواو والنون، فإن الإِخْوةُ إِذا كانوا لأَبٍ، وهم الإِخوان إِذا لم يكونوا لأَب. وآخَى الرجلَ مُؤَاخاةً وإِخاءً ووخاءً.

وعامَّة الناس تقول: وَاخاهُ، حكي: آخَيْتَ وواخَيتَ وآسَيْتَ ووَاسَيْتَ وآكَلْتَ وواكَلْتَ.

وتأَخَّى الرجلَ: اتَّخذه أخاً أو دعاه أخاً(2).

الاخوة في الحديث الشريف

ورد عن الأئمة المعصومين^ أحاديث عديدة في باب (الأخوة) وحقوقها

ص: 473


1- سورة الأعراف، الآية: 202.
2- انظر: لسان العرب 14: 19 مادة (أخو).

وآدابها وما يتعلق بها.

فعنهم^ قالوا: «لا يكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يحب أخاه المؤمن»(1).

وعنهم^: «شيعتنا المتحابون المتباذلون فينا»(2).

وقال عبد المؤمن الأنصاري: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) وعنده محمد بن عبد اللّه الجعفري، فتبسمت إليه، فقال(عليه السلام): «أ تحبه؟».

فقلت: نعم، وما أحببته إلّا لكم.

فقال(عليه السلام): «هو أخوك، والمؤمن أخ المؤمن لأبيه وأمه، ملعون ملعون من اتهم أخاه، ملعون ملعون من غش أخاه، ملعون ملعون من لم ينصح أخاه، ملعون ملعون من استأثر على أخيه، ملعون ملعون من احتجب عن أخيه، ملعون ملعون من اغتاب أخاه»(3).

وعن جابر الجعفي قال: تقبَّضت بين يدي أبي جعفر(عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، ربما حزنت من غير مصيبة تصيبني، أو أمر ينزل بي حتى يعرف ذلك أهلي في وجهي وصديقي؟

فقال: «نعم يا جابر، إن اللّه عزّ وجلّ خلق المؤمنين من طينة الجنان، وأجرى فيهم من ريح روحه، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، فإذا أصاب روحاً من تلك الأرواح في بلد ٍمن البلدان حزن حزنت هذه؛ لأنها منها»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن أخ المؤمن، وهو عينه ومرآته ودليله، لا

ص: 474


1- بحار الأنوار 71: 236.
2- عدة الداعي: 187.
3- عدة الداعي: 187.
4- الكافي 2: 166.

يخونه ولا يخدعه، ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه»(1).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن لله عزّ وجلّ جنة لا يدخلها إلّا ثلاثة: رجل حكم على نفسه بالحق، ورجل زار أخاه المؤمن في اللّه، ورجل آثر أخاه المؤمن في اللّه»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «أيما مؤمن سأل أخاه المؤمن حاجة وهو يقدر على قضائها فرده عنها سلط اللّه عليه شجاعاً(3) في قبره ينهش من أصابعه»(4).

الأخوة الإيمانية

ثم إن الأُخوّة الإيمانية تمتاز على الأُخوّة الخالية من الإيمان؛ إذ قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(5)، أي إن أكثركم ثواباً وأرفعكم منزلة عند اللّه أتقاكم لمعاصيه، وأعملكم بطاعته(6)، لذا فمن أراد الرفعة عند اللّه فليجدّ في أن يكون أكثر تقوى من الآخرين(7).

هذا ولا يخفى أن مقياس إنسانية الإنسان - في الشريعة الإسلامية - ليس باللون والانتماء القبلي أو القومي، ولا بالأموال والانتساب الملكي أو السلطوي، بل جميع الناس متساوون من هذه الجهة، كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المؤمنون

ص: 475


1- عدة الداعي: 187.
2- الكافي 2: 178.
3- الشجاع: ضرب من الحيّات، تزعم العرب أن الرجل إذا طال جوعه تعرضت في بطنه حية يسمونها الشُّجاع والشِّجاع، لسان العرب 8: 174 مادة (شجع).
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 664.
5- سورة الحجرات، الآية: 13.
6- تفسير مجمع البيان 9: 230.
7- تفسير تقريب القرآن 5: 209.

كأسنان المشط يتساوون في الحقوق بينهم، ويتفاضلون بأعمالهم...»(1).

فكما أنّ المشط ليست في أسنانه ارتفاع وانخفاض عادة، بل كلها متساوية، فكذلك الناس من منظار الإسلام كلهم متساوون.

نعم، هناك في الإسلام معيار واحد للتفاضل وهو: التقوى، فيقيس الإسلام شخصيّة الإنسان بمقدار ما يتصف به من التقوى، ويكرمه بقدرها، ويفضله بحسبها، وذلك كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2).

نعم، إن الإسلام ينظر إلى الناس كل الناس بمنظار واحد، ويتعامل مع الجميع بصورة واحدة، فنظرته التصورية وتطبيقه العملي الخارجي متطابقان بالنسبة إلى الإنسان، فالنظرة نظرة واحدة، والتعامل تعامل واحد، لا تفاوت فيهما ولا تفاضل، وإلى هذا المعنى يشير الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله:

«أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلّا بالتقوى، قال اللّه تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}»(3).

فالتفاضل إنما هو بالتقوى، وفيما عدا ذلك فالناس فيه شرع سواء.

وبعبارة أخرى: كما أن الناس بالنسبة إلى الشمس سواسية، بحيث إنّ كل من يتعرض لأشعتها يحصل على نورها، وهكذا كل من يتعرض للأمور التكوينية الأخرى فإنه يفوز بالنيل منها، فكذلك الناس بالنسبة إلى رحمة الإسلام وهدى القرآن وقوانين الشريعة سواسية وشرع سواء، كما إنهم أمام عدل الإسلام وحُكمه

ص: 476


1- مستدرك الوسائل 8: 327.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- معدن الجواهر: 21.

وفصل قضائه على نحو سواء أيضاً.

ثم إن التقوى هو معيار مهم للتفاضل عند اللّه عزّ وجلّ، لا أمام القانون، فالناس مختلفون في الثواب بحسب امتثال أوامر اللّه تعالى ونواهيه، واتباع مناهجه وبرامجه، مع إزالة كلّ الفوارق الأخرى، ولكنهم يتساوون أمام القانون، فلا فرق في ذلك بين المتقي وغيره.

ومن هنا دعى الإسلام جميع الناس إلى الأخوة، لأنه لا يعتقد بالنظام الطبقية بين البشر.

آية الأُخوّة والتدبّر فيها

وهنا لا بأس بأن نتوقف عند هذه الآية المباركة: (آية الأخوة) لنتدبّر في مفرداتها، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1).

فنقول: إن كلمة {إِنَّمَا} الواردة في الآية الكريمة، تفيد الحصر في اللغة العربية، حيث ذكروا أن أبرز أدوات الحصر اثنتان هما: إنما، وما مع إلّا في جملة واحدة،كقوله تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}(2).

ومعنى الحصر هنا؛ أنّه سبحانه يقول: إن المؤمنين ليسوا إلّا إخوة بعضهم لبعض، فلا يكونون متباغضين ولا متناحرين ولا متنازعين ولا غير مبالين بعضهم ببعض، بل إنهم إخوة متحابين متبارين كما في الحديث الشريف عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «اتقوا اللّه وكونوا إخوة بررة متحابين في اللّه، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه»(3).

ص: 477


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سوة هود، الآية: 88.
3- الكافي 2: 175.

وإذا كانت أخوتهم هذه في اللّه، فما أحراها أن تدوم، وما أجدرها أن تسلم من تقلبات الزمن، كما قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «الإخوان في اللّه تعالى تدوم مودّتهم لدوام سببها»(1).

وأمّا (الفاء) في قوله: {فَأَصْلِحُواْ} فهي للتفريع، فيكون المعنى إذا حصل اختلاف بين الأخوة فأصلحوا ذلك الاختلاف، واجعلوا الأخوة قائمة بينهم على قدم وساق.

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لئن أصلح بين اثنين أحب إلي من أن أتصدق بدينارين»(3).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «صدقة يحبها اللّه، إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا»(4).

وربما يستفاد من هذه الآية الكريمة(5)

أنه في الوقت الذي تكون فيه مشاريع المسلمين بصورة جماعية مترابطة، يلزم حل نزاعاتهم، وجمع شملهم؛ لأنهم إخوة، فالإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول في وصيته لكميل بن زياد: «يا كميل، المؤمنون أخوة، ولا شيء آثر عند كلّ أخ من أخيه»(6).

ص: 478


1- غرر الحكم: 96.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 522.
3- ثواب الأعمال: 148.
4- الكافي 2: 209.
5- بدلالة الاقتضاء.
6- بشارة المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم): 26.

والإمام الصادق(عليه السلام) يقول: «إنما المؤمنون أخوة بنو أب وأم، وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون»(1).

أخوّة المسلمين الأوائل

قال معلى بن خنيس لأبي عبد اللّه(عليه السلام): ما حق المسلم على المسلم؟

قال(عليه السلام): «له سبع حقوق واجبات، ما منها حق إلّا هو واجب عليه، إن ضيع منها شيئا خرج من ولاية اللّه وطاعته، ولم يكن لله فيه نصيب».

قلت له: جعلت فداك، و ما هي؟

قال(عليه السلام): «يا معلى، إني عليك شفيق؛ أخاف أن تضيع ولاتحفظ، وتعلم ولا تعمل».

قلت له: لا قوة إلّا باللّه.

قال(عليه السلام): «أيسر حق منها: أن تحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك.

والحق الثاني: أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أمره.

والحق الثالث: أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك.

والحق الرابع: أن تكون عينه ودليله ومرآته.

والحق الخامس: أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى.

والحق السادس: أن يكون لك خادم، وليس لأخيك خادم، فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه.

والحق السابع: أن تبر قسمه وتجيب دعوته وتعود مريضه وتشهد جنازته، وإذا علمت أن له حاجة فبادره إلى قضائها، ولا تلجئه أن يسألكها، ولكن تبادره

ص: 479


1- الكافي 2: 165.

مبادرة، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته، وولايته بولايتك»(1).

ولقد جسد المسلمون الأوئل الأخوة الإسلامية بأسمى معانيها، حيث كان يشد بعضهم أزر البعض الآخر، يعطف ويعين ويساعد ويحنو، ويؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة وحاجة لما يعطي؛ وكان هذا كله من بركات الإسلام وتعاليمه السماوية، وقد أثمر ذلك انتشار الاسلام في بدايات الدعوة المباركة انتشارا سريعاً حتى كان الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً أفواجاً، ووحداناً وزرافات.

فقد روي من قصص الإيثار والمعونة بين المسلمين ما ملأ بطون الكتب، وما لم نجد له مثيلاً في عالم اليوم، وكان من أجلى مصاديق تلك الاخوة ما بينته روايات وأحاديث أهل البيت^.

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤاخي بين المسلمين

لقد آخى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين المسلمين مرتين(2)، مرة في مكة قبل الهجرة، ومرة في المدينة المنورة بعد الهجرة.

وفي كل مرة كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستخلص لاخوته أمير المؤمنين(عليه السلام) حتى كان علي(عليه السلام) يقول: «أنا عبد اللّه وأخو رسوله، لا يقولها بعدي إلّا كذاب..»(3).

ففي المؤاخاة الأولى والتي كانت قبل الهجرة، آخى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين أبي بكر وعمر، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان وعبدالرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن

ص: 480


1- الكافي 2: 169.
2- المحبر: 70؛ وانظر الغدير 3: 113 و 124.
3- فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام): 85.

عبيد اللّه، وبين علي(عليه السلام) وبينه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).(1)

أما المواخاة الثانية فقد كانت بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، حيث آخى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين المهاجرين والأنصار على المواساة والحق، فكانوا يتوارثون بالأخوة التي كانت بين المهاجري والأنصاري إلى أن نزلت آيات أولي الأرحام في الإرث.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما هاجر إلى المدينة آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، وجعل المواريث على الأُخوة في الدين لا في ميراث الأرحام، وذلك قوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ}(2) فأخرج الأقارب من الميراث وأثبته لأهل الهجرة وأهل الدين خاصةً، ثم عطف بالقول فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}(3) فكان من مات من المسلمين يصير ميراثه وتركته لأخيه في الدين دون القرابة والرحم الوشيجة(4)، فلما قوي الإسلام أنزل اللّه: {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَٰجُهُ أُمَّهَٰتُهُمْ وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَٰجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُواْ إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَٰبِ مَسْطُورًا}(5)...»(6).

ص: 481


1- المحبر: 70؛ عيون الأثر 1: 264.
2- سورة الأنفال، الآية: 72.
3- سورة الأنفال، الآية: 73.
4- الرحم الوشيجة: أي الرحم المتصلة المشتبكة.
5- سورة الاحزاب، الآية: 6.
6- مستدرك الوسائل: ج17 ص151 ب1 ح21014.

وكانت المواخاة بعد بنائه(عليه السلام) المسجد، وقيل: كان ذلك والمسجد يُبنى، وقيل:بعد قدومه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة لخمسة أشهر(1).

وقد وصف المهاجرون مواساة الأنصار فقالوا: يا رسول اللّه، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير، كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنى، حتى لقد خشينا أن قد ذهبوا بالأجر كله؟

قال: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم(2).

وروي: لقد رأيتنا وما الرجل المسلم بأحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم(3).

نعم، استقبل الأنصار المهاجرين الذين خرجوا من مكة تاركين فيها أموالهم، على الرحب والسعة حريصين على مواساتهم، متنافسين في استضافتهم، حتى ذكر أنه ما كان ينزل المهاجري على الأنصاري إلّا بالقرعة، حتى قال تعالى واصفاً الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(4).

وكان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع لما آخى بينهما رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلّت تزوجتها.

وقالت الأنصار لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): اقسم بيننا وبينهم النخل.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا، تكفونا المؤنة وتشركونا في التمر».قالوا: سمعنا واطعنا(5).

ص: 482


1- انظر: عيون الأثر: ج1 ص265 ذكر المواخاة.
2- فضيلة الشكر لله: 65.
3- عيون الأثر 1: 265.
4- سورة الحشر، الآية: 9.
5- صحيح البخاري 4: 222.

وقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد معركة حنين: «اللّهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار، يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاة والنعم وترجعون أنتم وفي سهمكم رسول اللّه؟».

قال: بلى رضينا.

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الأنصار كرشي وعيبتي، لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللّهم اغفر للأنصار»(1).

وكانت الأخوة الإسلامية على هذه الدرجة العالية، وبقيت كذلك إلى أن ترك المسلمون تعاليم الإسلام، وطبقوا قوانين الشرق والغرب، فحلت بنا الكارثة بل الكوارث.

الحدود المصطنعة بين الدول الإسلامية

إن أهم عامل يقوض الأخوة الإسلامية فيما بين المسلمين المنتشرين شرق الأرض وغربها، هو عامل الفرقة والتفريق بين الأمة، من خلال تأجيج النزعات القومية والقبلية والعرقية وما أشبه فيما بين المسلمين، حيث دأب أعداء الإسلام منذ زمن بعيد على ذلك من خلال إنشاء أحزاب قومية، أو إيجاد خلافات على حدود مصطنعة، إلى غير ذلك مما يرسخ الفرقة بين المسلمين أنفسهم.

إن هذه الحدود المصطنعة التي جاء بها الغرب وفرّق بها المسلمين من أهم أسباب ضياع الأخوة الإسلامية؛ ولذا من الواجب السعي لإزالة هذه الحدود المصطنعة وإرجاع الأمة الواحدة.

ص: 483


1- الإرشاد 1: 146.

إن الحكام المرتبطين بالدوائر الاستعمارية والذين تسلطوا على دفة الحكم في البلاد الإسلامية بالانقلابات العسكرية وما أشبه، عملوا كلّ ما بوسعهم لإيجاد وتعميق هذه الحدود بين البلاد الإسلامية، وهذه الحدود ليست الباعث في تزايد الاختلاف بين الأمة الإسلامية فقط، بل إنها تبعثر قوى المسلمين وقدراتهم وتشتت وحدتهم. هذا بالإضافة إلى زرع بؤر فتن واختلاف حول هذه البقعة من الأرض أو تلك وتشعل نيران الحرب بين فترة وأخرى.

وقد ترسخ تقسيم البلاد الإسلامية عبر معاهدات واتفاقات ومؤتمرات استعمارية فرضت على المسلمين من القوى الكبرى عبر عملاء الاستعمار، ومن أشهر هذه الاتفاقيات اتفاقية سايكس بيكو(1) ومؤتمر سان ريمو(2) ووعد بلفور المشؤوم، وغيرها.

السبيل إلى الأخوة

قال الإمام علي(عليه السلام): «... فإياكم والتلون في دين اللّه، فإن جماعة فيما

ص: 484


1- تفاهم سري استعماري بين بريطانيا وفرنسا، متمم لاتفاق رئيسي بين بريطانيا وفرنسا وروسيا لتقسيم تركة السلطة العثمانية والاستيلاء على المشرق العربي في أعقاب دخول الأتراك الحرب إلى جانب ألمانيا، ولدت الاتفاقية عام 1916م، عقدت بين المندوبين الفرنسي جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس الذي كان عضواً في مجلس العموم البريطاني، وقد شكلت الاتفاقية الأساس الفعال لخطة تمزيق المشرق العربي، والحيلولة دون نيل العرب الوحدة والاستقلال. انظر: موسوعة السياسة: 3: 120 حرف السين.
2- مؤتمر دولي عقده الحلفاء الغربيون واليابان المنتصرون على ألمانيا في الحرب العالمية الأولى في مدينة سان ريمو الايطالية عام (1920م) لبحث مصير السلطنة العثمانية ورسم معاهدة صلح مع تركيا الخاسرة للحرب، ولتقاسم وتقسيم المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا وتجزئته إلى دويلات تحت نفوذ الدول المنتصرة في الحرب، وفق خطة سايكس - بيكو الاستعمارية. انظر: موسوعة السياسة 3: 107 حرف السين.

تكرهونمن الحق خير من فرقة فيما تحبون من الباطل، وإن اللّه سبحانه لم يعط أحداً بفرقة خيراً ممن مضى، ولا ممن بقي»(1).

إذا أراد المسلمون أن يتمسكوا بدينهم ويسيروا بسيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار^، فإنه يلزم عليهم أن لا يعترفوا بهذه الحدود التي وضعت فيما بينهم لإبعادهم عن دينهم وعقيدتهم، وتسهيل السيطرة عليهم، وأن يعملوا كلّ ما من شأنه إزالة هذه الحدود المصطنعة التي تهدف إلى تحجيمهم وإيجاد الفوارق القطرية والقومية والعرقية واللغوية بين أبناء الأمة الواحدة.

وقد قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - كما مر - : «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلّا بالتقوى»(2).

فهذا هو معيار الأفضلية لا الحدود الجغرافية واللون ولا القومية، وما أشبه.

إن الاستعمار تنبه بشكل جيد إلى ما تعنيه هذه الآية حيث تركز الأخوة بين المسلمين، وتيقن أنه باتحاد وتماسك المسلمين تحت نهج الإسلام لن يتمكن من السيطرة عليهم وجعلهم خاضعين أذلاء تابعين له؛ ولذا درس وخطط وجرّب كل الطرق والمخططات الملتوية التي توصله إلى السيطرة على مقدرات الأمة الإسلامية، فهو يعلم جيداً ما تمتلكه هذه الأمة من الطاقات البشرية والفكرية والمادية والمعنوية، ومنابع الثروة، فكان أول ما حاول تحقيقه هو بث الفرقة والتنافر وتجزأة الأمة والقضاء على الإخوة الإسلامية.

ومنذ حوالي ما يزيد على مائة سنة تراه قد أحكم وضع أسس التفرقة بين

ص: 485


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبيِّن فضل القرآن وينهى عن البدعة.
2- معدن الجواهر: 21.

المسلمين بوضع الحدود غير الشرعية بينهم.

إنه لمن المؤسف جداً أن نرى المسلمين اليوم تشتتوا وتفرقوا، فصار كل منهم يفتخر ببلده وقوميته وانتمائه، ناسياً أو متناسياً الأخوة التي شرفه اللّه بها، فأحدهم يقول: أنا عربي، والآخر: أنا أفغاني، والآخر: أنا إيراني، والآخر: أنا باكستاني، وكلٌّ يرى نفسه أفضل من الآخر. في الوقت الذي نسوا قيم الإسلام ومعاييره في التفاضل، ونسوا قوله تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

الحج والأخوة

لا شك أن أداء شعيرة حج بيت اللّه الحرام وزيارة قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين^، هو من أبرز من مظاهر الأخوة الإسلامية، ومن أحسن السبل إلى تعميق الروابط الإيمانية بين المسلمين الذين يفدون إلى بيت اللّه الحرام والديار المقدسة من كل حدب وصوب. فإن من فوائد الحج هي مدارسة شؤون المسلمين، والعمل على اتحادهم وتكاتفهم وتكافلهم.

وقد تفطن أعداء الإسلام إلى ما يجلب الحج للمسلمين من منافع وفوائد، فسعوا بكل ما أوتوا من قوة لمحو المفهوم الحقيقي للحج. ولذا ترى هذه التعقيدات الكثيرة في سفر الحج والتقسيمات التي تعزل المسلمين بعضهم عن بعض، فمكان خاص للمسلمين الأتراك، ومكان خاص للإيرانيين، ومكان للباكستانيين، ومكان للأوربيين، ومكان للعرب، ولكل من العرب مكان معزول عن إخوانهم، وهكذا مما جعل المسلمين الوافدين من كل حدب وصوب لايتعرفون على إخوانهم المسلمين، ولا يطلعون على أوضاعهم ومشاكلهم. ومن

ص: 486


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.

هنا يلزم إرجاع الحج إلى ما كان عليه من روح الأخوة.

لورانس العرب

لورانس العرب(1)

إن من أبرز الاعداء الذين استطاعوا توجيه ضربة مهلكة لجسد الأمة الإسلامية وتشتيتها، وذلك قبل ما يقارب (80 سنة) كان المدعو (لورانس العرب)، والذي استطاع بعمله أن يمرر المخططات الغربية في بلاد المسلمين.

إنّ ضربات (لورانس) أدت إلى تمزيق وحدة المسلمين، وإلى تشتت أراضيهم، والذي أدى أخيراً إلى الضعف الشديد بالأمة الإسلامية كما هو واضح اليوم.

إنّ الإطلاع على حياة أمثال هؤلاء الأشخاص ودراسة مخططاتهم الإستعمارية ضروري جداً؛ فإنهم استطاعوا في مقابل عمل الأنبياء^ أن يصلوا

ص: 487


1- توماس ادوارد لورانس ولد عام (1888م) في مدينة ثرمادوك، اشتهر باسم (لورانس العرب) بعد نشره لمذكراته عن حرب الصحراء،تخرج من جامعة اكسفورد عام (1910م)، درس العربية في أكسفورد على يد مستشرق مشهور يدعى (ديفد جورج هوغارث) الذي يعتبر من أشهر جواسيس الإنجليز. ثم انتقل بعد ذلك إلى لبنان من أجل التدرب كجاسوس، منتحلاً شخصية عالم آثار، درس العربية على يد مدرسة لبنانية مسيحية فاتقن اللغة العربية وعمل على تعلم بعض اللّهجات العربية كاللبنانية، وفي بداية الحرب العالمية الأولى انتقل إلى القاهرة والتحق بجهاز مخابرات الجيش البريطاني، وانضم سنة (1916م) إلى القوات العربية المحاربة ضد الدولة العثمانية، بقيادة فيصل الأول بن الشريف حسين. لعب دوراً هاماً في تأجيج الثورة العربية على الأتراك، فقد قام بقطع الخط الحديدي الواصل بين المدينة ودمشق، وقاد الجيش العربي إلى احتلال ميناء العقبة ثم دخل مدينة دمشق سنة (1918م). رافق فيصل الأول إلى مؤتمر فرساي ولعب دوراً كبيراً في خداع العرب وتنفيذ سياسة الإنكليز في المنطقة العربية، وبعد أن فشل المؤتمر ونكثت بريطانيا وعودها للعرب رجع إلى بريطانيا وانضم إلى سلاح الجو البريطاني. نشر مذكراته عن حرب الصحراء (ثورة الصحراء) عام 1927م، و(أعمدة الحكمة السبعة) للتفصيل انظر: موسوعة السياسة: 5: 503، حرف اللام.

إلى أهدافهم الشريرة.

ولنسأل أنفسنا: كيف وصل هؤلاء إلى أهدافهم؟ وما هي الظروف التي ساعدت على ذلك؟

ولو كان المسلمون إخوة في اللّه متحدين مع بعضهم البعض، هل كان يصل مثل هؤلاء إلى مبتغاهم؟ وهل كانت تلك القوى الاستعمارية ومنفذوا مخططاتها يمتلكون هذه الإمكانات للتلاعب بمصير المسلمين وزجّهم في خلافات ومشاكل فيما بينهم؟!

نعم، إن الأسباب الرئيسية لكل ذلك يعود إلى ابتعاد المسلمين أنفسهم عن معاني (الأخوة الإسلامية) التي نادى بها القرآن الكريم، وانحرافهم عن جادة الشريعة المقدسة، وابتعادهم عن الأوامر الإلهية التي تضمن قوتهم.

لذا فمتى ما سلك المسلمون طريق الأخوة والوحدة الإسلامية في ظل تعاليم القرآن الكريم وسيرة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين^ فإنهم سيتمكنون من الوقوف بكل ثبات أمام مخططات الشرق والغرب؛ لأن وحدتهم هي سبيل تقدمهم وعندها سيكونون سادة الدنيا بالتزامهم بمبادئ دينهم وتقدمهم في جميع المجالات، ويتمكنون من إنقاذ العالم الغارق في مشاكل المادية.

إلى متى هذه الفرقة؟

قال تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(1).

ص: 488


1- سورة آل عمران، الآية: 103.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلاث(1) بسوءالأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم. فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها، والتواصي بها. واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم، وأوهن مُنَّتهم(2)، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي.

وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء، وأجهد العباد بلاء، وأضيق أهل الدنيا حالاً، اتخذتهم الفراعنة عبيداً فساموهم سوء العذاب وجرعوهم المرار، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة، لا يجيدون حيلة في امتناع ولا سبيلاً إلى دفاع، حتى إذا رأى اللّه سبحانه جدَّ الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً وأئمة أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تذهب الأمال إليه بهم.

فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة. ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين؟

فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتتت

ص: 489


1- المثلاث: العقوبات.
2- المُنة - بضم الميم - : القوة.

الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، قد خلعاللّه عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين...»(1).

نعم، إلى أن يستيقظ المسلمون من نومهم وسباتهم، وإلى أن يحس المسلمون فرداً فرداً بمسؤوليتهم، ويرجعوا الى رحمة الأخوة الإسلامية، ويضعوا أيديهم في أيدي البعض الآخر، فإن هذه التفرقات والنزاعات الحزبية والقومية موجودة وباقية، وكلنا سنكون تحت تسلط قوى الشرق والغرب.

ولكن فيما إذا توجه المسلمون يوماً للأخذ بأحكام وأهداف القرآن الكريم ومراعاة ذلك ومن أهمها (قانون الأخوة)، بالإضافة إلى مزج القول بالعمل والسير على نهج الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعترته الطاهرة^، ففي ذلك الوقت نصل - بعون اللّه تعالى - إلى النتيجة المطلوبة وهي بعث الأمة الإسلامية الواحدة، وتشكيل حكومتها العالمية بإذن اللّه تعالى، فإن من سنن الكون أن العاملين يصلون والذين لا يعملون لا يصلون الى أهدافهم، وهذا ما يُصرح به القرآن الكريم حيث قال تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ...}(2) أي أنّ كلّ من يستفيد من قدراته وطاقاته بالنحو الأفضل والأحسن فسنمده ونعطيه.

نعم، باليقظة والانتباه الكاملين للمسلمين في كلّ أنحاء المعمورة، وبالاتكال على اللّه تعالى واستمداد العون منه، وبتعميق وترسيخ معاني الأخوة الإسلامية، سيصل المسلمون إلى هدفهم، إن شاء اللّه، وهو نجاة كلّ الأمة من قيود القوى الإستعمارية والسائرين في ركابها. قال تبارك وتعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ

ص: 490


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.
2- سورة الإسراء، الآية: 20.

حَسْبُهُ}(1).

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

الأخوة النَسَبية

قال تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٖ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ}(3).

وقال سبحانه: {وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيًّا}(5).

وقال تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَٰرُونَ بَِٔايَٰتِنَا وَسُلْطَٰنٖ مُّبِينٍ}(6).

وقال عزّ من قائل: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي}(7).

وقال سبحانه: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوْءَةَ أَخِي}(8).

الأخوة الرضاعية

قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ

ص: 491


1- سورة الطلاق، الآية: 3.
2- الكافي 3: 424.
3- سورة يوسف، الآية: 59.
4- سورة يوسف، الآية: 69.
5- سورة مريم، الآية: 53.
6- سورة المؤمنون، الآية: 45.
7- سورة المائدة، الآية: 25.
8- سورة المائدة، الآية: 31.

وَخَٰلَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِوَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ}(1).

الأخوة الدينية

قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(2).

وقال تبارك وتعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ}(3).

وقال سبحانه: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ}(4).

لا للفرقة

قال عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(5).

وقال تعالى: {فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَىٰكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ}(6).

وقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(7).

ص: 492


1- سورة النساء، الآية: 23.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.
3- سورة الحجر، الآية: 47.
4- سورة التوبة، الآية: 11.
5- سورة آل عمران، الآية: 103.
6- سورة الحج، الآية: 78.
7- سورة آل عمران، الآية: 105.

من هدي السنّة المطهّرة

حقوق الأخوة الإسلامية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المؤمن مرآة لأخيه المؤمن ينصحه إذا غاب عنه، ويُميط عنه ما يكره إذا شهد، ويوسع له في المجلس»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ست خصال من كن فيه كان بين يدي اللّه وعن يمينه: إن اللّه يحب المرء المسلم الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، ويناصحه الولاية...»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أحبب أخاك المسلم وأحبب له ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك، إذا احتجت فسله، وإذا سألك فأعطه»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المسلم أخو المسلم، وحق المسلم على أخيه المسلم أن لا يشبع ويجوع أخوه، ولا يروى ويعطش أخوه، ولا يُكسى ويعرى أخوه، فما أعظم حق المسلم على أخيه المسلم»(4).

وقال(عليه السلام) لخثيمة: «يا خثيمة، أبلغ من ترى من موالينا السلام وأوصهم بتقوى اللّه العظيم، وأن يعود غنيهم على فقيرهم، وقويهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميتهم وأن يتلاقوا في بيوتهم فإن لُقيا بعضهم بعضاً حياةٌ لأمرنا، رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إن اشتكى

ص: 493


1- النوادر للراوندي: 8.
2- وسائل الشيعة 12: 212.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 323.
4- الإختصاص: 27.
5- الكافي 2: 175.

شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة وإن روح المؤمنلأشدّ اتصالاً بروح اللّه من اتصال شعاع الشمس بها»(1).

الأخوة الدينية

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إنما المؤمنون إخوة، بنو أب وأم، وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون»(2).

وقال الامام الباقر(عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمّه لأن اللّه عزّ وجلّ خلق المؤمنين من طينه الجنان، وأجرى في صورهم من ريح الجنّة، فلذلك هم أخوة لأب وأم»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام):

عليك بإخوان الصفا فإنهم *** عماد إذا استنجدتهم وظهور

وما بكثير ألف خلّ وصاحب *** وإن عدواً واحداً لكثير(4)

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من صحب مؤمناً أربعين خطوة سأله اللّه عنه يوم القيامة»(5).

وعنهم^:«لا يكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يحب أخاه»(6).

وعنهم^: «شيعتنا المتحابّون المتباذلون فينا»(7).

ص: 494


1- الكافي 2: 166.
2- الكافي 2: 165.
3- الكافي 2: 166.
4- ديوان أمير المؤمنين: 207.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 413.
6- عدة الداعي: 186.
7- عدة الداعي: 187.

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «لا تقطع أودّاء أبيك فيطفى نورك»(1).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم»(2).

الأخوة في اللّه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في اللّه»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) عند وفاته: «واخ الإخوان في اللّه وأحب الصالح لصلاحه»(4).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «من استفاد أخاً في اللّه عزّ وجلّ استفاد بيتاً في الجنّة»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا يدخل الجنة رجل ليس له فرط» قيل: يا رسول اللّه ولكنّا فرط، قال: «نعم إن من فرط الرجل أخاه في اللّه»(6).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «من زار أخاه في اللّه ولله جاء يوم القيامة يخطر بين قباطيَّ من نور، لا يمر بشيء إلّا أضاء له، حتى يقف بين يدي اللّه عزّ وجلّ، فيقول اللّه عزّ وجلّ: له مرحباً، وإذا قال مرحباً أجزل اللّه عزّ وجلّ له العطية»(7).

ص: 495


1- علل الشرائع 2: 582.
2- نهج البلاغة، الحكم: الرقم 12.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 47.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 222.
5- ثواب الأعمال: 151.
6- مصادقة الإخوان: 32.
7- الكافي 2: 177.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من زار أخاه في بيته قال اللّه عزّ وجلّ له: أنت ضيفي وزائري، عليّ قراك، وقد أوجبت لك الجنة بحبك إياه»(1).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن العبد المسلم إذا خرج من بيته يريد أخاه لله لا لغيره، التماس وجه اللّه عزّ وجلّ، ورغبة فيما عنده، وكَّل اللّه به سبعين ألف ملك ينادونه من خلفه إلى أن يرجع إلى منزله: ألا طبت وطابت لك الجنة»(2).

ص: 496


1- الكافي 2: 177.
2- المؤمن: 58.

المنبر الحسيني وبناء الإنسان

الأئمة وصِناعة النَوع الإنساني

اشارة

قال تعالى في كتابه الحكيم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1).

وقد جاء في تفسير الآية المباركة: أن اللّه سبحانه وتعالى يُظهر الدين ويؤيّده بالنصر، بالرغم من كُره المشركين والمعاندين. وفي ذلك دلالة واضحة على صحة نبوّة نبيّنا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لأنه سبحانه قد أظهر دينه على باقي الأديان بالإستعلاء وإعلان الشأن، كما وعده ذلك في حالة الضعف وقلّة الأعوان. وقد سُمِعَ أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}. «أَظَهَرَ بَعدُ ذلك؟» قالوا: نعم. قال: «كلّا، فوالذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية إلّا وينادى فيها بشهادة لا إله إلّا اللّه بكرة وعشيّاً»(2). وهو أمر طبيعي أن الرسالة يومئذٍ لم تكن قد وصلت بعد إلى كل أركان الأرض، لأنها كانت في بداية الأمر، وكان المقدّر لها أن تكون كذلك بمرور الزمن، لكن هذا لم يحصل لحد الآن، بل العكس بدأ يتراجع حتى من المناطق التي وصلها، فياترى ما السبب؟ هل إن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يبلِّغ على الوجه الأكمل والعياذ

ص: 497


1- سورة الصف، الآية: 9.
2- انظر تفسير مجمع البيان 9: 463 و 464.

باللّه؟ أم أن الأئمة من بعده لم يفعلوا ذلك نستجير باللّه؟ أم أن الاسلام ليس له قابلية الانتشار أو أنه لميستطع كنظرية حياة أن يقدّم الحلّ الأمثل للبشرية؟ والجواب على ذلك كله واضح: لأن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بلَّغ الرسالة على أكمل وجه، والدليل على ذلك انتشار الإسلام في أغلب بقاع العالم، والأئمة الأطهار^ من بعده أكملوا ذلك الخطّ أيضاً، وإلّا فكيف وصل هذا التراث الضخم إلى زماننا الحاضر ومن دون تحريف؟ والنظرية الإسلامية لها قابلية الإنتشار، وهي الحلّ الأمثل للبشرية جمعاء. والدليل على ذلك الصحوة الإسلامية التي تجتاح بعض بقاع العالم، وقبول الناس للإسلام كمبدأ للحياة. وهذا ما لم يحصل للأديان الأخرى، ولكن يبقى السؤال عالقاً في الذهن: ما السبب في عدم انتشار الإسلام بشكل كامل وتامّ؟

الحقيقة أن الإسلام له قابلية الانتشار، وهو الأطروحة الحياتية الناجحة مئة في المئة، لأنها إلهيّة جاءت من لدن خالق الحياة، فهو نورٌ كما يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ}(1). ومن ذا الذي يستطيع أن يحجب نور الشمس؟ ولكن العلّة في من يحمل الإسلام ويدخل الصراع مع المشركين أو النفس. حيث يكون منهزماً في داخله، لأنه يحمل ألفاظاً مجردة عن التطبيق. والإسلام دين لا يرضى إلّا بتطبيق أن يكون الإنسان الخاوي داخلياً خاسراً في أيّ صراع يدخله، ولذلك اهتم الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتربية دعاة للإسلام ثم التنصيص على خلفائه ليرعوه من بعده ويحفظوه من الضياع والتحريف.

ومع أن الأمة قد زوت الحق عن نصابه، والخلافة عن أهلها والحقيقين بها، وهم الأئمة الطاهرون^، إلّا أن أهل البيت^ قد سعوا جهدهم لرعاية تلك

ص: 498


1- سورة الصف، الآية: 8.

النبتة التي غرسها الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وروايتها وتعهدها، فكان أن تمخضت جهودهم الجبارة تلكعن ثلّة مؤمنة كزبر الحديد، لا ترى إلّا الحق ولا تعمل إلّا به، كأصحاب علي والحسين(عليهما السلام) ويوميات كربلاء عام (61ه) أوضح برهان على ذلك. ومن يراجع كتب التاريخ ويطالع مواقف زهير ومسلم بن عوسجة يرى جهود أهل البيت^ رأي العين، ويتلمس تلك التربية النوعية للعترة الطاهرة. فصلابة أنصار الحسين(عليه السلام) في معركة الطف لم تكن صلابة عاديّة أبداً، وكذلك صبرهم على حرّ السيف والعطش، على الرغم من كثرة الأعداء. وأبلغ من ذلك إرعابهم لقلوب الأعداء. فقد نقلت الروايات: أن عابس بن شبيب الشاكري نزل إلى أرض المعركة، والعدوّ يفرّ من أمامه، حتى أنه نزع لاَمَة حربه، فلم يزدهم ذلك إلّا فراراً(1). وما عابس إلّا مثال تكرر في سائر الأنصار، حتى أن عمرو بن الحجّاج أخذ يصيح في الناس قائلاً: يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوماً مستميتين لم يبرز إليهم أحد منكم إلّا قتلوه(2).

كذلك كان الأئمة^ يعملون على نشر الدين، وتهيئة الأجيال للدفاع عن حريمه. فإذا أردنا أن نكسب الصراعات لصالحنا، فيجب أن نكون كأولئك الذين ربّاهم الأئمة من خلال الاقتراب للعلماء الصالحين، وورثة الأنبياء الصادقين. حيث يقول الحديث الشريف عن الامام الصادق(عليه السلام): «إن العلماء ورثة الأنبياء...»(3).

المنبر الحسيني وبناء الذات

والمنبر وسيلة إعلامية مهمّة جداً، لأنها من أهم وسائل الاتصال الجماهيري، حيث تطرح من خلاله الأفكار الحقّة للجماهير بصورة مسموعة ومرئيّة، فهو

ص: 499


1- انظر وقعة الطف: 236.
2- الإرشاد 2: 103.
3- الكافي 1: 32.

يرسخ العقائد والأفكار بشكل تفصيلي ودقيق في ذهن المستمع، ويشدّه إلىالارتباط الروحي باللّه من خلال شكله المنتظم الجميل، الذي ينقل المستمعين إلى أجواء العظماء والشهداء والصالحين، ومواقفهم ومناقبهم، ومردوده إيجابي على الفرد في تقوية إرادته التي تكون من العوامل الحاسمة في الصراعات بشكل عام، فينهض المستمع من تحته بعقيدة وفكر راسخ، وروح قوية، وهذا ما يميّزه عن وسائل الإعلام الأخرى. لذلك يمكننا أن نعدّ هذه الخصيصة واحدة من أسرار خلوده إلى الآن، بالإضافة إلى جوانب أخرى لسنا بصددها الآن. وخير من عرّف المنبر، وبيّن الدور الذي يجب أن يقوم به هو الإمام زين العابدين(عليه السلام)، عندما قال ليزيد بن معاوية (عليه لعنة اللّه): «يا يزيد أتأذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلم بكلمات فيهن للّه رضا، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب...»(1). حيث إنه(عليه السلام) أوضح أن المنبر يجب أن يكون بناء للإنسان ضمن الخط الإلهي الذي يجعل في نفوس الحاضرين إرادة قويّة، من خلال تزكيتها وتصفيتها وربطها بالخالق المطلق وهو اللّه عزّ وجلّ.

خَصائِص المِنبر الحُسيني

اشارة

من هنا فلا نبالغ إذا قلنا: إن للمنبر دوراً هامّاً وحاسماً في تهيئة المناخ الحسن لبناء الإنسان، خصوصاً في هذين الشهرين، بل في هذه العشرة أيام بالذات(2). وبناءً على هذا لا بدّ من بيان كيفية البناء الذي يقوم به المنبر، والخصائص التي يتميز بها.

1- أن يكون منبراً بنّاءً

قلنا إن المنبر وسيلة مهمة من وسائل الاتصال الجماهيري، التي تبني الإنسان

ص: 500


1- انظر بحار الأنوار 45: 137.
2- المحاضرة ألقيت على مجموعة من الخطباء، قبل توجههم لأداء مهام المنبر الحسيني في شهر محرم الحرام.

وتقوّمه وتوجّهه الوجهة الصحيحة نحو هدفه الذي خُلِقَ من أجله، وهو الوصولإلى كماله الذي يربطه باللّه عزّ وجلّ. وخلاف ذلك لا يكون المنبر إلّا أعواداً لا قيمة لها. وفي محاورة سيد الساجدين(عليه السلام) ليزيد (لعنة اللّه عليه) خير شاهد على ما نقول، لأن يزيد أمر بمنبر، وخطيب يصعد المنبر، فيذم الحسين وأباه صلوات اللّه عليهما. فصعد الخطيب المنبر، ثم بالغ في ذم أمير المؤمنين والحسين الشهيد(عليهما السلام)، وأطنب في مدح معاوية ويزيد(1). ولم يكن هذا إلّا مخالفة لأمر اللّه، الذي نهى عن الأخلاق السيئة. والسبّ والشتم ليسا من صفات المسلمين. وهذا واضح عقلاً، لأن العقل يقبّح الفعل السيء، ولا أتصور أنَّ هناك عاقلاً يُحسِّن السبّ والشتم، مضافاً إلى أن فعله مخالفة صريحة لقوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(2). والسبّ والشتم خلاف حسن الخلق الذي فسّرته السنّة الشريفة بطيب الكلام. ففي الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام)، سُئل: ما حدّ حسن الخلق؟ «قال: تليّن جناحك، وتطيّب كلامك، وتلقى أخاك ببشرٍ حسن»(3).

أما ما فعله خطيب يزيد فليس إلّا تلويثاً للقلوب بالكلمات البذيئة التي تنمال من أولياء اللّه الصالحين. فأحدهم أخو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وابن عمه، وخليفته، وأب من آباء هذه الامة، وذلك قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي أنا وأنت أَبَوا هذه الأمة»(4). فهل يعقّ الابن أباه، وإن لم تكن أبوةً نسبيّة. وأما الآخر فابن الزهراء بضعة الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ونفس الرسول الأمجد، عندما قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسين مني وأنا من حسين».

ص: 501


1- انظر الفتوح لابن أعثم 5: 132.
2- سورة البقرة، الآية: 83.
3- الكافي 2: 103.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 657.

تلك إذن كانت بضاعة الخطيب ودخيلته، فلا رضا اللّه أراد، ولا الأجر والثواب للجالسين. بينما الإمام السجاد(عليه السلام) حين يصعد تلك الأعواد من بعد ذلك الخطيبيجعلها منبراً حقيقياً بناءً، لأنه ربطهم باللّه تبارك وتعالى، وعرفهم وقربهم بأهل بيت النبوّة، وعدل القرآن الكريم، وأيقظ فطرتهم التي لوّثها الطغاة، وزاد طينها بلةً ذلك الخطيب البائس، الذي اشترى مرضاة المخلوق بسخط الخالق.

2- نشر الوعي

فإن اللّه سبحانه يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(1).

وقد تناولت الآية المباركة جانب البصيرة، وهو جانب مهم لدى الإنسان. والبصيرة تأتي عن طريق وعي الإنسان للحوادث التاريخية وما شابه. ولعل من أظهر أدوار المنبر أثره في توعية الناس، ووضع أيديهم على العلل والأسباب الحقيقية للأحداث، الأمر الذي يكون له مردود إيجابي على المجتمع الإسلامي بشكل عام، في درك الأخطار قبل حدوثها، وعدم مرور المخططات الاستعمارية عليه. وجاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «فإنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جدداً واضحاً، يتجنّب فيه الصرعة في المهاوي»(2).

والخطيب الذي يصعد المنبر يجب أن يعطي هذه النقطة حقها من التحليل والتفصيل، ويربطها بالواقع الحاضر.

فمثلاً عندما يذكر الطواغيت وأفعالهم، ومنهاجهم في تضليل الناس، يجب

ص: 502


1- سورة الحج، الآية: 46.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 153 من خطبة له(عليه السلام).

أن يذكر طواغيت العصر الحاضر، لأن الطاغوت دائماً واحد، ولا فرق بين فرعون وغيره من العصر الحاضر. غاية ما في الأمر أن الأسلوب يختلف تبعاً لما يناسبالزمان الذي يعيش فيه.

بالإضافة إلى ذلك، التنبيه على الأخطار والمخططات التي قد تلحق بالأمة من جراء التصرفات الخاطئة. وهذا يعني أن خطيب المنبر الواعي يزرع في كل فرد، تحت منبره، جرساً للإنذار من الأخطار، وذلك عبارة عن وضوح الفكر والبصيرة الجيدة. فنحن نخاطب العباس بن علي(عليه السلام) في الزيارة المخصوصة به، ونقول له: «أشهد إنك مضيت على بصيرةٍ من أمرك»(1). وهذه البصيرة هي الوعي لقضية الحسين(عليه السلام) من خلال جلوسه، ومخالطته لأبيه وإخوته^. فكان ذلك سبباً لسلوكه لطريق الحق، واجتنابه لطريق الظلم ومغريات الدنيا. وبالتالي جلس مطمئناً في جنّة الفردوس عند مليك مقتدر.

3- أن يكون المنبر هادفاً

كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2). فإن الآية الشريفة تبيّن الهدف من خلق الإنسان، وهو عبادة اللّه سبحانه وتعالى. وهذا لا يأتي إلّا عن طريق الكمال الإنساني، الذي يوجّهه للكمال المطلق وهو اللّه عزّ وجلّ. وتبيّن أن لكل شيء في هذا الكون هدفاً، وأنه لم يخلق عبثاً، وتعطينا طريقاً ومنهجاً في الحياة لأن يكون لنا في كل صغيرة وكبيرة هدف نسعى إليه. والمنبر هو أحد الوسائل التي أسسها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وهدفها الأول والأخير بناء الإنسان وذاته، حتى يكون قوياً في الصراعات، وقوراً في الشدائد والأزمات. فإذا كان

ص: 503


1- مصباح المتهجد 2: 726.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.

المنبر يخدم الأغراض الشخصية والفئوية فهو وإن كان هادفاً إلّا أن أهدافه تكون غير مشروعة، فيتحول إلى أعواد لا قيمة لها، أما إذا كان قاصداً للصالح العامولخير المجتمع فهو هادف، وهدفه مشروع. فيتلاقى مع الآية المباركة المذكورة آنفاً، لأنه حينئذ يكون موصلاً إلى اللّه سبحانه وتعالى وهو المطلوب.

فالمنبر المطلوب إذن هو البنّاء والهادف والتوعوي، الذي يستلّ تعاليمه من كتاب اللّه وسيرة المعصومين، بعيداً عن الفئوية الضيّقة، والمصالح الشخصية الأنانية.

وما سوى ذلك فهو مجرد أعواد لا يكون فيها للّه رضاً، ولا للجالسين أجر وثواب كما قال امام الساجدين(عليه السلام).

ملاحظات على المِنبر

على أنه يجدر بنا التذكير بأنّ قسماً من الناس يظن أنّ كثرة الصياح وحركة اليد هي التي تنفع الخطيب، وتجعل الناس ينسجمون معه، في حين أنّ العكس هو الصحيح، فالمنبر الهادئ هو المنبر النافع. لأن الصياح والنياح الزائد على طريقة المنبر الشائعة هي دلالة على الإفلاس. ولقد عرفنا - ولا بدّ أنكم عرفتم كذلك - من الخطباء من لا يستخدم اسلوب الصياح، ولا يخرج عن خط المنبر العام، فلم يمنع ذلك الناس من أن ينجذبوا إليه من بداية المجلس، ويستمعوا بشوق. وإذا بدأ بقراءة المصيبة بكوا جميعاً، علماً بأنه لا يطيل في قراءة المصيبة أكثر من دقيقة أو دقيقتين. فالبكاء لا يأتي بإطالة المصيبة، بل بتهييج مكامن العاطفة.

ثم ينبغي على الخطيب عند ذكر الشواهد والقصص تحليلها وبيان وجه الشاهد فيها للخروج منها بالفائدة المرجوّة، كما أن عليه أن يبتعد كل البعد عن ذكر القضايا المجلة أو المبهمة التي تثير الشكوك في نفوس الحاضرين، أو القضايا الخلاقية بين العلماء، التي تحتاج إلى الدقّة العلمية والاطلاع التخصصي.

ص: 504

الإيمان والبناء

للإيمان معنىً ينقله الحديث المروي عن الإمام الباقر(عليه السلام): «الإيمان ما استقرّفي القلب وأفضى به إلى اللّه عزّ وجلّ وصدَّقه العمل»(1).

فالإيمان أساس متين لتربية ثابتة وبناء دائم مضمون النتائج والاستمرار وبهذا يكون للإنسان المؤمن سيرة معلومة ويكون في حياته الأحكام والترتيب والانسجام، ونستطيع أن نقول بكل جزم أنه سيعمل العمل الفلاني في الوقت الفلاني، أما غير المؤمن لا سيرة ثابتة له في حياته إذ أن له أن يظهر بمظهر الشيطان متى يشاء وهذا أمر طبيعي لأنه لا يلتزم فكرة معينة ولم تستقر في قلبه عقيدة من العقائد. والإيمان لا يكون دائماً مصدر خير، فربما بُني الإيمان على الخرافات والأساطير كما هو في الأديان الوثنية أو الفِرق الضالّة وهو الإيمان غير الصحيح الذي يهدم ذات الإنسان ويجعل قوتها بقوة المعتقد الذي آمن به. ولأهمية الإيمان في بناء الفرد نلاحظ أن عمل الأنبياء هو غرس الإيمان في نفوس الناس والأمثلة على ذلك كثيرة: فبلال الحبشي كان عبداً مسلوب الإرادة لا يملك من أمره شيئاً نشاهد كيف انه تحوّل إلى عملاق في وجه زعماء مشركي قريش حتى أنه لم يكن يحتاج في حربه النفسية معهم إلى أكثر من سبابته كسلاح لهزيمتهم تحركها قوة الإيمان التي زرعها في نفسه نبينا محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمجرد طرحه للمعتقد الصحيح وبالأسلوب الحِسي والعقلي المتلائم مع الفطرة الإنسانية السليمة.

خلاصة القول

إذن نحن بحاجة ماسّة لصناعة إنسان قوي في مواجهة صعوبات الحياة المادية ومواجهة الأمواج والتيارات والأعاصير الفكرية المنحرفة، بحاجة إلى

ص: 505


1- الكافي 2: 26.

صناعة إنسان مؤمن بعقيدته الربانيّة وفكره الإلهي وكل ذلك لا يكون إلّا ببناء داخل الإنسان بالإنبات الحسن المثمر والمنبر الحسيني أحد الأدوات المهمة فيطريق الإنبات والتربية وترسيخ الإيمان لنصل إلى الهدف والكمال الذي تتوخاه الإنسانية من هذا الوجود الرائع.

«اللّهم إني أسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلمَّ بها شعثي، ... وتُزكّي بها عملي، وتُلهمني بها رشدي، وتعصمني بها من كل سوء. اللّهم أعطني إيماناً صادقاً، ويقيناً خالصاً، ورحمةً أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة»(1). بحق محمّد وآل محمّد الغُرّ الميامين والحمد للّه ربّ العالمين.

من هدي القرآن الحكيم

من أهم ما يجب أن يدعو إليه خطيب المنبر الحسيني
التمسك بالإسلام

قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(2).

وقال سبحانه: {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ}(5).

ص: 506


1- مصباح المتهجد 1: 268.
2- سورة آل عمران، الآية: 19.
3- سورة آل عمران، الآية: 20.
4- سورة آل عمران، الآية: 85.
5- سورة الحج، الآية: 34.
العمل للآخرة

قال عزّ اسمه: {وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(1).وقال جلّ شأنه: {وَمَنْ أَرَادَ الْأخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}(2).

وقال عزّ من قائل: {وَإِنَّ الدَّارَ الْأخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(3).

وقال جلّ ثناؤه: {وَإِنَّ الْأخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}(4).

الإلتزام بمكارم الأخلاق

قال تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(5).

وقال سبحانه: {وَءَاتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ...}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ وَأُوْلَٰئِكَ مِنَ الصَّٰلِحِينَ}(7).

وقال جلّ شأنه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}(8).

ص: 507


1- سورة الأنعام، الآية: 32.
2- سورة الإسراء، الآية: 19.
3- سورة العنكبوت، الآية: 64.
4- سورة غافر، الآية: 39.
5- سورة البقرة، الآية: 83.
6- سورة البقرة، الآية: 177.
7- سورة آل عمران، الآية: 114.
8- سورة الحجرات، الآية: 12.
اتّباع الحق أن لا أقول على اللّه إلّا الحق

قال عزّ اسمه: {حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}(1).وقال جلّ وعلا: {وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ}(2).

وقال عزّ من قائل: {إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

من أهم ما يجب أن يدعو إليه خطيب المنبر الحسيني
التمسك أكثر بالاسلام

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا شرف أعلى من الإسلام»(4).

وقال(عليه السلام): «إن اللّه تعالى خصَّكم بالإسلام، واستخلصكم له. وذلك لأنه اسمُ سلامةٍ، وجِماع كرامة... لا تُفتح الخيرات إلّا بمفاتيحه، ولا تُكشف الظلمات إلّا بمصابيحه»(5).

وقال(عليه السلام): «لا مَعقِلَ أمنَع من الإسلام»(6).

العمل للآخرة

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شرُّ الناس من باع آخرته بدنياه»(7).

ص: 508


1- سورة الأعراف، الآية: 105.
2- سورة محمد، الآية: 3.
3- سورة العصر، الآية: 3.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 371.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 152 من خطبة له(عليه السلام).
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 777.
7- من لا يحضره الفقيه 4: 353.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إجعل هَمَّك وجِدِّك لآخرتك»(1).

وقال(عليه السلام): «إنك مخلوق للآخرة فاعمل لها»(2).

الالتزام بمكارم الأخلاق

قال نبي الرحمة والهدى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليكم بمكارم الأخلاق، فإن اللّه عزّ وجلّ بعثني بها، وإن مِن مكارم الأخلاق أن يعفو الرجل عمّن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وأن يعود من لا يعوده»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن لأهل الدين علامات يُعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، ووفاء بالعهد، وصلة الأرحام ورحمة الضعفاء وقلّة المراقبة للنساء - أو قال: قلّة المواتاة للنساء(4)

- وبذل المعروف وحسن الخلق وسعة الخلق واتباع العلم وما يقرب إلى اللّه عزّ وجلّ زلفى»(5).

وعن جرَّاح المدائني قال: قال لي أبو عبد اللّه (الإمام الصادق)(عليه السلام): «ألّا أحدثك بمكارم الأخلاق؟» قلت: بلى: قال: «الصّفح عن الناس، ومؤاساة الرجل أخاه في ماله، وذكر اللّه كثيراً»(6).

اتّباع الحق والقول بالحق والعمل بالحق

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أتقى الناس من قال الحق في ما له وعليه»(7).

ص: 509


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 133.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 267.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 478.
4- المواتاة: الموافقة والمطاوعة.
5- الكافي 2: 239.
6- معاني الأخبار: 191.
7- الأمالي للشيخ الصدوق: 20.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحق مَنجاةٌ لكل عاملٍ وحجةٌ لكل قائل»(1).

وقال(عليه السلام): «إن أفضل الناس عند اللّه من كان العملُ بالحقِ أحبَّ إليه وإن نقَصَه وكَرَثَة...»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن الحق مُنيف(3) فاعملوا به»(4).

ص: 510


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 69.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 125 من كلام له(عليه السلام) في التحكيم.
3- منيف: عالٍ، مشرف.
4- بحار الأنوار 69: 232.

مع المبلّغين

اشارة

قال اللّه تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}(1).

حديثنا اليوم مع بعض طلبة العلوم الدينية، الذين سوف يتوجَّهون قريباً إن شاء اللّه إلى مراكز التبليغ للقيام بمهمة الوعظ والإرشاد، ويدور حديثنا معهم حول توضيح جملة من المواضيع منها:

أولاً: التعريف بالداعية المسلم المُبَلِّغ.

ثانياً: الشروط أو الصفات التي يجب توفرها فيه.

ثالثاً: الواجبات التي يجب أن يعملها الداعية في رحلته التبليغيّة.

ولا مفرّ لنا عند الخوض في موضوع خطير كهذا من الرجوع إلى المدرسة الأخلاقية، المَعين الذي لا يَنْضب، المتمثل بالقرآن الكريم وسيرة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآل بيته الكرام^، لأنهم الوسائط إلى اللّه في أرضه، ومَنهل جميع العلوم. ولأن كلّ العلوم التي لا تأتي من القرآن والسنّة هي مبهمة، وغير واضحة، وبما أنه لا يمكن العمل بالشيء المبهم، وغير الواضح، لأنّ نتائجه غير مضمونة، فتحتاج دائماً إلى المُفسر والمبيّن. والمفسر والمبين لجميع العلوم هو محمّد وآل محمّد (صلوات ا للّه وسلامه عليهم أجمعين) لأنهم كاشفون عن الحق، ومبينّون

ص: 511


1- سورة الأحزاب، الآية: 39.

لشريعة اللّه في الأرض، كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... بهم - أي آل محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - عاد الحق إلى نصابه وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته»(1).

المُبَلِّغ المُسْلِم

المبلّغ المسلم هو الداعي إلى اللّه سبحانه وتعالى، الذي يحمل مبادئ الإسلام وأفكاره، ويحاول أن يوصلها إلى البشرية جمعاء تقرّباً إلى اللّه تعالى وابتغاءً لمرضاته.

قال اللّه تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(2).

والمبلّغ المسلم، الذي يتمسّك بتعاليم النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت^ عقيدةً وعملاً وتطبيقاً على نفسه، أولاً يعتبر سفير اللّه في أرضه.

فعلى كل شخص يريد أن يقوم بتلك المهمة النبيلة، أن يضع في حسابه أنه سفير للّه تعالى، بما تحمله هذه الكلمة من معان، وما يترتب عليها من واجبات، فإن الواجبات التي يتحملها تختلف عن الواجبات التي يتحملها الشخص العادي، وما يترتب عليها من أثر عند اللّه سبحانه. فمثلاً الشخص المبلّغ، يختلف عن بائع السلعة والتاجر، وعن سائق السيارة، لأن بائع السلعة وأمثاله إن أخطأ فإنه لا يضر إلّا نفسه، أو مجموعة قليلة من المقربين إليه، أمّا الشخص المبلّغ فإذا عمل على عكس رسالته، وحاول أن ينشر أفكاراً وتعاليم مضادة وهدامة، سواءً كان ذلك بقصد أم بدون قصد (أي بقصور أو تقصير) فإن تأثيره يكون على المجتمع أكبر، ونتائجه على مجتمعه أخطر، بل وحتى على نفسه وعلى دينه.

ص: 512


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 239 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها آل محمد^.
2- سورة آل عمران، الآية: 104.

وربما يترتب عليه عقاب من اللّه سبحانه وقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا ظهرت البدعه في أمتي فليُظهر العالم عِلمه، فإنْ لم يفعل فعليه لعنةُ اللّه»(1).

ومعنى ذلك أن الشخص العالم - أي الشخص الذي يحمل علماً ويكتمه ولا يعمل بعلمه في خدمة نفسه ومجتمعه، فإنّ اللّه تعالى سوف يعاقبه أشد عقوبة، فكيف حال الذي يحرّف العلم عن مواضعه، ويشوه أفكار الناس، ويزج في أذهانهم بتعاليم محرّفة فاللّه سبحانه وتعالى سوف يضعه في أسفل دركات الجحيم.

فعلى المبلّغ المسلم أن يتحصن ويتسلح بالعلم والمعرفة والتقوى والإخلاص قولاً وعملاً، وأن لا يكتم علمه عن الناس، وإلّا وقع في حبال الشيطان، وعليه أن لا يخشى أحداً في الحق، أي: أن لا يخاف من أي شخص، مهما لاقى من مصائب ومتاعب في طريق الحق، فيقف دائماً مع الحق وأهله، ويقف ضد الباطل وأهله، ويحاول أن يحرّض الناس على دفع الباطل أينما وجد، ولا يخشى في ذلك سوى اللّه تعالى تماماً مثل أولئك: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}(2).

وعلى المبلّغ بالإضافة إلى ذلك أن يدرك أنّ أمامه عملاً كبيراً، وله أعداءً كثيرين يملكون من وسائل التضليل الشيء الكثير، مثل الإعلام بجميع أنواعه من إذاعة وتلفاز، وكتب وجرائد، ومجلات، تحاول تشويه الإسلام والمسلمين بنظر العالم، وهم بالإضافة إلى ذلك يُسخِّرون الأموال الطائلة لخدمة غرضهم هذا، وما إلى ذلك من وسائل، فإنهم يعملون طوال (1400) عام ونيف (أي منذ انبثاق الرسالة الإسلامية ولحد الآن) على إزالة الإسلام من الوجود، وغايتهم من

ص: 513


1- المحاسن 1: 231.
2- سورة الأحزاب، الآية: 39.

ذلك أن كما قال اللّه تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(1).

وصف اللّه تعالى أعداء الحق والدين وصفاً بليغاً في هذه الآية، ففي بعض التفاسير شبّه اللّه تعالى القرآن والإسلام بنور اللّه، ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى أنهم يريدون أن يطفئوا نور اللّه الشعشاع الوضّاح بنفخ أفواههم الواهن الكليل. فالإطفاء معناه الإخماد، وذكر سبحانه الأفواه لأنّ النفخ الذي يتوسل به لإخماد الأنوار والسُرج يكون بالأفواه، وغالباً ما يكون النفخ بالأفواه مؤثراً في الأنوار الضعيفة، ولا يقدر على إخماد الأنوار الساطعة. وهذا من أعظم البيان، وذلك تصغير شأن أعداء الحق والدين(2).

فعلينا والحال هذه، أن نجنّد كافة إمكانياتنا العلمية والمادية للوقوف بوجه أعداء الإسلام.

ولعل فينا من يتساءل: كيف يمكن الوقوف بوجه هؤلاء الأعداء المتكالبين علينا، مع ما يمتلكونه من الإمكانات الهائلة، ووسائل التضليل المتنوعة، في ما نجد أنفسنا عزّلاً مجرّدي من أمثال هذه الأسلحة والوسائل المؤثرة؟

والجواب هو: صحيح أن الأعداء يملكون من الإمكانات والوسائل المادية الشيء الكثير، والتي لا نملك بقدرها ولكن نحن نملك من الوسائل المعنوية الشيء الكثير، وكذلك نحن مع الحق والحق هو المنتصر في النهاية، كما قال اللّه تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَٰفِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(3).

ص: 514


1- سورة التوبة، الآية: 32.
2- انظر تفسير مجمع البيان 5: 44.
3- سورة الأنفال، الآية: 7-8.

وكل هذه الأعمال التي ذكرناها من إحقاق الحق، وتعرية الباطل، وتوعية الناس، وما إلى ذلك من الأعمال الكثيرة تقع مسؤوليتها وبدرجة كبيرة على المبلّغ، لأن المبلّغ المسلم العامل بالإسلام والملتزم بكل أصوله وفروعه، يُعدّ ترجمان الحق فلا تنحصر وظيفته في بيان زاوية من أخلاق الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار، ولا ببيان بعض المسائل الشرعية أو الأخلاقية كآراء ونظريات يطرحها على الناس فحسب، بل لا بدّ أن يبيّن للناس كيفية تجسيد هذه المعاني العظيمة، والعمل بها وتطبيقها في كلّ شؤونهم الحيوية، على النفس والأسرة والمجتمع. وهذا ليس بالعمل الهيّن، بل يحتاج إلى الكثير من الجدّ والاجتهاد مع التحمل والصبر، وذلك لأنه كما أن المباديء الحقة والاعتقاد بها والالتزام بها في العقيدة من الواجبات، كذلك العمل بها وتطبيقها في السلوك أيضاً من الواجبات، لأن العقيدة إذا لم تطبق على أرض الواقع من السلوك والعمل يبقى أثرها ضعيفاً ولا ينتفع منها صاحبها.

وخير شاهد على كلامنا هذا قول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «علمٌ بلا عمل، كشجرٍ بلا ثمر»(1).

حيث شبّه الإمام(عليه السلام) الشخص الذي يحمل العلم ولا يعمل به بالشجرة التي لا تثمر. فعلى المبلّغ المسلم أن ينذر ويحذر المسلمين من التقاعس في العمل والاعتماد على الأقوال فقط، لأنّ ذلك الهلكة وانتقام اللّه تعالى، كما انتقم تعالى من اليهود، عندما انحرفوا ولم يعملوا بما أنزل في التوراة من العلم وانجرفوا وراء أهوائهم، وحرّفوا التوراة نفسها حسب مصالحهم وأهوائهم.

الصِّفات التي يجب توفّرها في المُبلّغ المسلم

اشارة

يعتبر المبلّغ الحق، مرتكز المجتمع الإسلامي، وهو من الأركان الأساسية

ص: 515


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 463.

التي يعتمد عليها الإسلام في نشر الثقافة والفكر والعلوم الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وكذلك في تصحيح الأفكار المشوّهة عند المجتمعات غير المسلمة. وتترتب على الشخص الذي يريد أن يصبح مبلّغاً ناجحاً جملة من الشرائط والصفات التي يجب توفرها فيه، لكي يتمكن من تأدية مسؤوليته الدينية بنجاح، ونذكر هنا وبإيجاز بعض الشرائط المهمة منها:

أولاً

أن يكون المبلّغ مؤمناً باللّه ورسوله، وبجميع الكتب والرسل المنزلة، من اللّه تعالى، وأن يكون كذلك مؤمناً بالفكرة التي يقوم بالدعوة إليها إيماناً كاملاً، لأن الشخص غير المؤمن بالفكرة التي يبلّغ من أجلها لا يستطيع أن يوصل فكرته بالشكل المقبول إلى الطرف المقابل.

فمثلاً لو أراد شخص أن يوصل فكرة مّا إلى شخص، وهو غير مؤمن أساساً بفكرته، فتلاحظه يتعثر في إيصالها إلى المقابل بل ربما يفشل في ذلك فشلاً ذريعاً.

وقد ورد ذكر الإيمان والحث عليه في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة، ومنها ذكر اللّه تعالى الإيمان في الكتاب العزيز؛ قال تعالى: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}(1).

فإنّ الإيمان من العوامل المهمة في وصول الفرد إلى هدفه.

روي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصف الإيمان أنه قال: «الإيمان شجرة أصلها اليقين، وفرعها التُّقى ونورها الحياء وثمرها السخاء»(2).

ص: 516


1- سورة الحجرات، الآية: 7.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 95.
ثانياً

أن يكون المبلّغ على قدر وافٍ من العلم، لأنّ العلم سلاح ينجي صاحبه من الوقوع في شرك الجهالة والتخبّط، وقد ورد فضل العلم، والحث عليه، ووجوب طلبه، وثواب العالم والمتكلم في كثير من الموارد في القرآن والسنة النبوية الشريفة، فقد ذكر اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(1). وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(2).

وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في إحدى خطبه قال: «ولا كنز أنفع من العلم»(3).

وأغلب الناس مشغولين بأعمالهم الخاصة ومسؤولياتهم اليومية، ولذا فهم يعتمدون على الخطباء والمبلّغين في مواسم التبليغ في أخذ العلوم والمعارف والتوجيهات، ولذا فهو يتوقع من الموجّه أن يكون كفؤاً في هذا المجال، فإذا وجده عكس ما يتوقع سوف يبتعد عنه وربما يتركه ولا يستفيد منه شيئاً.

ثالثاً

أن يمتلك المبلّغ أسلوباً جيداً في المناقشة والإقناع والمنطق، وأن يتمتع بفطنة عالية وسرعة بديهة، وأن يمتلك قوة على المصاعب (أي أن يكون صبوراً) لأن الناس الذين سوف يلاقيهم يختلفون من حيث المزاج والطبائع، وأن يوضّح المسائل التي ترد عليه توضيحاً لا لبس منه، وأن يتطرق إلى الموضوع المناسب في الزمان والمكان المناسب (أي أن يكون جيد الاختيار). وفي الوقت نفسه أن يكون ليّناً وهشاً وهاديء النفس والبال مبتعداً عن الحدة والغضب والعنف، لأن هذا مما يفشل المبلّغ ويضعف من البرهان، ولو في أعين الناس ويجعل البعض

ص: 517


1- سورة طه، الآية: 114.
2- سورة المجادلة، الآية: 11.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 321.

لا يقبلون توجيهاته تعصباً أو غير ذلك... .

مِن مَهام المُبَلِّغين

اشارة

وكما أن المبلّغ المسلم يختلف عن الشخص العادي في بعض الصفات، فكذلك الواجبات التي تقع عليه أيضاً تختلف عنها بالنسبة إلى الشخص العادي، فإنّ الواجبات والمسؤوليات التي تقع عليه كثيرة ومتعددة، منها: ترجمة الأقوال التي جاءت في القرآن الكريم، وتجسيد الأقوال والأفعال التي قام بها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار^ (أي نقل هذه الأقوال والأفعال إلى الناس وتعليمهم كيفية تجسيدها على أرض الواقع).

ولكن يجب على المبلّغ أن يطبق هذه الأقوال والأفعال على نفسه أولاً، ويكون في سلوكه مرآة صافية تعكس مباديء الإسلام الحق وقيمه الإنسانية والإلهية الرفيعة، ثم يدعو الناس إليها بأقواله وأفكاره ثانياً، كما كان إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) يفعل.

ففي إحدى خطبه قال(عليه السلام): «... أيها الناس، إني، واللّه ما أحثكم على طاعة إلّا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلّا وأتناهى قبلكم عنها»(1).

وكذلك يجب على المبلّغ غرس الثقافة والوعي في المجتمع الإسلامي، والحث على الحرية، والوقوف بوجه الظالمين، وتحفيز المجتمع الإسلامي على الاكتفاء الذاتي، والتركيز على العوامل التي تساعد على انتشار الإسلام ومبادئه القيّمة في داخل المجتمعات الغربية والشرقية، خصوصاً وأنّ الظروف في هذه الفترة تساعد على نشر المفاهيم الإسلامية في هذه المجتمعات، نظراً لفشل النظريات المعادية للإسلام، وتخبط المجتمعات الشرقية والغربية في دوّامة الانحلال الخلقي.

ص: 518


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 175 من خطبة له(عليه السلام) في الموعظة وبيان قرباه في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فعلى المبلّغ المسلم أن يركز على هذه العوامل لخدمة الإسلام والمسلمين، وليحقق الأهداف التي جاء من أجلها الإسلام، ويكون مرآة تعكس المبادئ الحقة قولاً وفعلاً.

الإكتفاء الذّاتي

من جملة المهام التي تقع على عاتق المبلّغ المسلم هو توعية المسلمين بشأن مجموعة من النقاط، من ضمنها إرشادهم إلى كيفية الحصول على الاكتفاء الذاتي في جميع جوانب الحياة المادية، وذلك لأنّ الحاجة إلى الغير والتبعية لهم في الصناعات ونحوها تعدّ من الأسباب المؤثرة في ضعف المسلمين وسيطرة الأجانب عليهم. فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «أمنن على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمّن شئت تكن نظيره»(1).

ومن أهم الطرق التي توصلنا إلى الاكتفاء الذاتي:

استغلال المسلمين للموارد الطبيعية والأيدي العاملة المتوفرة في بلادهم من دون حاجة إلى الغير، أضف إلى ذلك الاستفادة من خيرات المسلمين.

نعم يمكن أن نستفيد من خيرات الغير وتقدّمهم، ثم نوظّف هذه الخيرات في مصالح الإسلام وبلاد الإسلام، ولكن يجب أن لا يكون مصحوباً بالذيلية والتبعية.

فقد أثبت العلم الحديث بأن للاقتصاد دوراً مهماً في استقرار المجتمع ورفاهيته، وبما أنّ منطقتنا الإسلامية غنية بما أنعم اللّه تعالى عليها من ثروات طبيعية هائلة، من نفط وفوسفات وكبريت، ومعادن مثل الذهب والفضة والحديد والخارصين(2) والنحاس والألمنيوم الخ... بالإضافة إلى توفر الأرض الزراعية

ص: 519


1- الخصال 2: 420.
2- هو الزِّنك.

الخصبة، ذات المسافة الجغرافية الواسعة، مع توفر الأيدي العاملة المسلمة مما يساعد المسلمين على النهوض والتقدم والاستغناء عن الغير. فلو استغلت هذه الثروات بالشكل المطلوب لأصبح المسلمون في وضع جيد أفضل مما هم عليه الآن من تشتت وضياع واستبداد في السياسة والحكم، وذلك كله ناجم عن تصرف بعض الحكام الذين ابتلُي المسلمون بهم في تسليم ثروات المسلمين، بيد الأجانب أعداء الإسلام والمسلمين.

فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال:

«إن من بقاء المسلمين وبقاء الإسلام أن تصير الأموال عند من يعرف فيها الحق، ويصنع المعروف، فإنّ(1) من فناء الإسلام وفناء المسلمين أن تصير الأموال في أيدي من لا يعرف فيها الحق، ولا يصنع فيها المعروف»(2).

وعلى هذا الأساس فإنّ السبيل الوحيد للخلاص من الظلم الاقتصادي الذي عليه المسلمون اليوم، ولتحقق العدل الاقتصادي، هو إعادة تربية الإنسان وصياغة مفاهيمه ونظراته إلى الحياة والمال والثروة، صياغة موضوعية جيّدة وسليمة تتناسب مع منهج القرآن والسنة، وهذه من مسؤوليات علماء الإسلام ومبلغيه، إذ عليهم أن يطرحوا هذه الأفكار الصحيحة، ويرشدوا الناس إليها في الاقتصاد والصناعة والعمل والزراعة ونحو ذلك.

الحريّة ورسالة المُبَلِّغ

اشارة

إنّ من جملة الأهداف التي دعا إليها الأنبياء والأوصياء^، وسعوا إلى تركيزها وتنقيتها في المجتمعات: تحرير الإنسان من العبودية، حيث قال اللّه

ص: 520


1- في وسائل الشيعة 16: 285: «وإنّ».
2- الكافي 2: 25.

تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

فإنّ اللّه سبحانه وتعالى في هذه الآية عندما يخاطب الناس بصورة عامة، واليهود والنصارى بصورة خاصة، يحثهم على اتباع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأخذ بالتعاليم السماوية التي جاء بها لأنها جاءت لإنقاذهم ورفع القيود التي كانت تقيدهم وتوصلهم إلى الحرية الحقيقية، إذا ما تمسكوا بها.

والحرية هذه كلمة ذات معنى كبير ومهم، وقد استغلت اليوم في المجتمعات الغربية، وأغلب المجتمعات الشرقية، ومن سار على طريقتهم، بحيث خرجت عن حدودها الأخلاقية والإنسانية.

فعلى المبلّغ المسلم أن يوضّح للعالم أجمع - وخصوصاً للمجتمعات الإسلامية التي غزتها الأفكار الغربية والشرقية المعادية للإسلام المعنى الحقيقي للحرية، والذي جاء به الإسلام، وهو أن الحرية هي حرية الفكر، وحرية التقدم والاستقلال، وحرية الوعي والمسؤولية، وحرية الكرامة والحقوق، لا الحرية التي تنادي بها أغلب المجتمعات الغربية والشرقية اليوم، وهي بنظرهم حرية التحلل الأخلاقي والاستهتار، وحرية إباحة المنكرات مثل شرب الخمر ومخالطة النساء، وحرية الميوعة والطيش، وما إلى ذلك من التفاسير التي حاول أعداء الإسلام أن يزرعوها في المجتمعات الإسلامية. وللأسف فقد نجحوا في بعض خططهم، وذلك بمساعدة أعوانهم، كبعض الحكام المسلمين.

ص: 521


1- سورة الأعراف، الآية: 157.

فالمهمة اليوم تقع على عاتق جميع المسلمين، وخصوصاً المبلغين لتوضيحالهدف الذي يصبوا إليه الأعداء وكيفية مواجهتهم. وكما قلنا في كلمة سابقة: إن خير وسيلة لمواجهة الأعداء هي أن تترك موضع الدفاع وتتحول إلى الهجوم، ولا تركن في الجانب وتنتظر الحل. فعلينا والحال هذه أن نبيّن للجميع معنى الحرية الحقيقية التي جاء بها الإسلام، ونحاول الإحاطة بكافة الوسائل التي تهين الإسلام، وتهتك كرامة المسلمين، التي زرعها الأعداء في مجتمعاتنا وعلى المبلّغ أن يفهم الناس بأن لا يكونوا عبيداً لغيرهم وقد خلقهم اللّه أحراراً، كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لابنه الإمام الحسن(عليه السلام): «ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً»(1).

فإنّ في هذه الوصية درساً أخلاقياً كبيراً ليس للمسلمين فقط، وإنما للبشرية جمعاء، فلو تمسكوا به عاشوا أحراراً سعداء. وعلى المبلّغين أيضاً أن يفهموا المسلمين بأنهم قادرون على الوصول إلى الحرية الحقيقية، إذا تضافروا وعملوا بجد، وأن لا يكونوا كالذين قال فيهم الشاعر:

كالعِيس في البَيْداء يَقْتُلها الظّما *** والماءُ فوقَ ظهورِها مَحْمُول

أي: يكونوا هم أهل الإسلام الذي بكل جوانبه حرية وكرامة، وهو الذي شرع للناس جميعاً مبادئ الحرية، وعلمهم كيف يكونون أحراراً، ومع ذلك نجد أعداداً كبيرة من المسلمين محرومين من الحرية. ألّا ينطبق هذا القول على بعض المجتمعات في عالمنا الإسلامي اليوم؟

الأنبياء والدعوة إلى الحريّة

إن الأنبياء^ استهدفوا هذا الهدف، وجعلوه في قمة أهدافهم، لأنهم بعثوا

ص: 522


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) لولده الحسن(عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.

لأن يزيحوا الشقاء والتعب عن حياة الإنسان، ولأن يضعوا عنه القيود والأغلال التي تقيده، ولأن يخلّصوه من عبادة الناس، ويحولّوه إلى عبادة اللّه تعالى، حتى يتمتعبالحرية والكرامة من غير الركون لأي جائر أو ظالم، ويعلموا الناس أن لهم كرامة وحرية، وأن الناس سواسية عند اللّه تعالى، حيث قال رسول الإنسانية(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلّا بالتقوى»(1). وما دام الناس خلقوا سواسية، أي أن ربهم واحد، وأباهم واحد، ولا فرق بين واحد وآخر إلّا بالتقوى، كما قال الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلماذا نجد اليوم أُناساً يستخدمون الآخرين، ويذلونهم ويسومونهم سوء العذاب؟ ونلاحظ التسلط والظلم؟ فالناس أحرار كما خلقهم اللّه. فما معنى أن يستبد به جائر، ويصادر كل حقوقهم، وينتهك حرماتهم. فالإنسان بلا حرية كما قال علماء الاجتماع يعني: إنساناً بلا روح. وعندما كان المسلمون يرفلون بالعز في عصر الحرية، كانت الحياة متوهجة وفي قمة أوجها، وبرز في تلك الفترة علماء ومجددون كثيرون، خدموا الإسلام والإنسانية جميعاً، من أمثال الشيخ المفيد والعلامة والشيخ الطوسي والكليني (رحمة اللّه عليهم)، وكذلك في جانب الطب اشتهر في تلك الفترة أستاذ الطب والمعقول ابن سينا، وكذلك في الكيمياء اشتهر جابر بن حيان الكوفي، واكتشف الذرة وأسرارها كما نقل بعض المؤرخين، وكذلك الحسن بن الهيثم رجل الرياضيات، وغيرهم الكثيرون في شتى مجالات الحياة الأخرى. وفي نفس الوقت كانت المجتمعات الغربية والتي كانت لا توجد فيها الحرية تتخبط في الجهل والظلام، وكانت الكنيسة تحرق العلم والعلماء، وعاشت

ص: 523


1- تحف العقول: 34.

أوروبا في تلك الفترة في ظلام دامس، وقد جاء في بعض المصادر أن الكنيسة قتلت في تلك الفترة أكثر من ثلاثين ألف عام من أمثال غاليليو وغيره. فعلى المبلّغين أن يعملوابجد لتنبيه الناس على المخاطر التي تحيط بهم من جراء الديكتاتورية والاستبداد، ويفهموهم كيفية الخلاص من هذا الوضع المزري الذي يعيشه بعض المسلمين، وعلى المسلمين أن يبذلوا في سبيل تحقيق هذا الهدف، لو اقتضى الأمر، وبإذن العلماء الأعلام، النفس والمال، لأن الحرية لا تنال بالكتابة على الورق والمقالات والشعارات فقط، وإنما تحتاج إلى جهاد ومصابرة ورباطة جأش وبذل النفس في سبيل ذلك. وروي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «إن الحر حر على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكَّت عليه المصائب لم تكسره، وإن أُسر وقُهر واستبدل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق الأمين(عليه السلام)، لم يضرر حريته أن استعبد وقهر وأُسر، ولم تضرره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله، ... فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصبر توجروا»(1).

اليَهود ومُعْجِزَة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)

حينما نريد أن نتصفح التاريخ الإسلامي فسوف يتبين لنا أن اليهود في زمن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانوا دائماً يحاولون توجيه الضربات المتوالية لقطع جذور الدين الإسلامي، وكانوا يلجأون إلى إلقاء الشبهات، حيث كانوا يقولون: إذا كان حقاً ما يدعيه محمد فليأت لنا بمعجزة. ولهذا أراهم اللّه تعالى معجزات كثيرة على نبوة النبي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ منها معجزة قلع باب خيبر على يد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهي أن باب حصنهم الذي كان يحتاج لتحريكه إلى (44) شخصاً. استطاع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أن يقلعه من أساسه. وقد قال ابن أبي الحديد، المعتزلي

ص: 524


1- الكافي 2: 89.

المذهب، مشيراً إلى ذلك في قصيدة له:يا

قالِع البابَ الذي عن هَزِّها *** عجزت أكف أربعون وأربع(1)

كان باب خيبر هذا - الذي قلعه الإمام علي(عليه السلام) موجوداً في الحجاز إلى قبل مائة سنة، وكان يعدّ من الأشياء القيمة التي تكشف عن معجزات الاسلام، التي قام بها أمير المؤمنين(عليه السلام). إلّا أن الوهابيين حطّموا هذا الباب، وجعلوه قطعاً قطعاً، ثم أزالوا آثاره. وفي جملة الأشخاص الذين شاهدوا هذا الباب أكثر من مرة هو المرحوم الحاج علي أكبر النائيني(2)، حيث شاهده مرتين حينما ذهب لأداء فريضة الحج. ومما ذكرته كتب السنة: أن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بعدما قلع الباب بيد واحدة وضعه على ضفتي خندق، وقيل نهر، كان محيطاً بقلعة اليهود، وجعله جسراً، فعبر جيش المسلمين عليه، ثم رفعه ورماه في مكان بعيد، لكي لا يستفيد الأعداء منه(3). نعم. كان قلع باب خيبر من قبل الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) معجزة أظهرها اللّه تعالى بواسطة أمير المؤمنين(عليه السلام) إضافة إلى معجزات الإسلام الأخرى، مثل معجزة القرآن، ومعجزة قتل الإمام(عليه السلام) لمرحب، وغيرها، لكي ينتبه اليهود وغيرهم إلى أن هذه المعجزات كمعجزة عصى موسى(عليه السلام)، ومعجزة خلق عيسى(عليه السلام) الطير وإبرائه الأكمه والأبرص، ونحو ذلك من المعجزات التي تظهر على أيدي أولياء اللّه تعالى بإذنه سبحانه، للدلالة على الحق واتباع الفضيلة. فعلى المبلّغ المسلم اليوم أن يقوم بفضح ومعالجة الأساليب التي يقوم بها أعداء الدين من يهود ونصارى وغيرهم، للنيل من الإسلام كما كان المسلمون الأوائل

ص: 525


1- الروضة المختارة (شرح القصائد العلويات السبع): 132.
2- هو الذي تعلم على يده الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) القراءة والكتابة كما قرأ عنده گلستان سعدي الشيرازي.
3- انظر المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب(عليه السلام): 344، والأمالي للشيخ الصدوق: 399 و 514، والإرشاد 1: 128.

يفضحون ويعرّون ادعاءات اليهود وغيرهم حفاظاً على الإسلام والمسلمين.

عاشوراء درسُ البطولة

عندما يتبادر إلى ذهن الإنسان المسلم كلمة عاشوراء يحضر في ذهنه معنى البطولة والإقدام والشهادة، وأغلب الصفات الحسنة المرسومة عن هذا اليوم وأصحابه^ ونحن نتعرض لهذه النقطة (أي موضوع عاشوراء) في موضوعنا هذا، لجملة من الأسباب: منها أهمية هذا اليوم في الإسلام، وللتحول الذي حصل في الإسلام من جراء قتل الإمام الحسين(عليه السلام) في هذا اليوم، ولكون هذا اليوم يعتبر مدرسة أخلاقية يشتمل على كافة القيم الإنسانية، وذلك لأن الإمام الحسين(عليه السلام) علّمنا معنى الحرية، ومعنى البطولة، وعلّمنا كيف نقف بوجه الباطل ولا نرضخ للظالم مهما بلغت الخسائر والتضحيات. ومن المعروف في كتب التاريخ أن من أبرز الكلمات التي حفظها التاريخ للبشرية للإمام الحسين(عليه السلام)، «إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم»(1). وهذا الدرس لا يختص بنا فقط، وإنما هو درس لكافة البشرية، وقد قال زعيم الهند غاندي، وهو غير مسلم: (تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر).

وفي يوم عاشوراء دروس كثيرة لا يسع المجال لذكرها الآن، وذلك لأنها كالسيل الذي لا ينقطع، وكذلك لوجود الكتب الكثيرة التي تناولت هذا الموضوع، فأوصى الطلبة الذين سوف يتوجهون إلى مواقع التبليغ لقراءة هذه الكتب والاستفادة منها، وتذكير الناس بمفاهيمها وفضائلها، ولكن أريد في هذا الموضوع أن أُبيّن للطلبة أن يفهّموا الناس ويوضّحوا لهم لماذا خرج الإمام الحسين(عليه السلام) إلى أرض أنه مقتول فيها، وكذلك يبينوا لهم ما هي الدروس والعبر التي

ص: 526


1- بحار الأنوار 45: 51.

استفادت منها البشرية، وما يجب أن يستفيد منها الجميع بصورة عامة، والمسلمونبصورة خاصة من يوم عاشوراء. إن الإمام الحسين سيد الأحرار والشهداء(عليه السلام) عندما قام بثورته العظيمة ضد الظلم والطغيان، لا لكي يذكر اسمه في التاريخ، أو أن يحصل على مكاسب مادية من مال وجاه، أو سلطان أو غير ذلك، من الأقاويل التي أرجف بها بعض المغرضين والحاقدين على الإسلام. فهو(عليه السلام) غني عن كل ذلك. وإنما قام الإمام(عليه السلام) في سبيل إحقاق الحق ونشر العدالة الإلهية في المعمورة، وقام لكي ينشر الحرية الحقيقية، ويحارب الباطل وأهله، وقام لكي يكون درساً للحق يقتدى به، وجميع ما عمله الإمام من بذل حياته وأهل بيته وكل شيء في الدنيا، كل هذا لابتغاء مرضاة اللّه تعالى، وتطبيقاً لأوامره تعالى. فعندما خرج الإمام الحسين(عليه السلام) إلى كربلاء فإنه كان يعلم أنه سوف يقتل في تلك الأرض، ولكن أراد من ذلك أن يعلّم الإنسانية محاربة الظلم وبذل النفس في سبيل اللّه. وعندما دخل الإمام(عليه السلام) المعركة وفقد جميع أهل بيته وأصحابه^ لم تنثني عزيمته عن محاربة الظلم وإحقاق الحق. فلو كان ما يريده الإمام كما يدعيه المغرضون والحاقدون هو المصلحة الدنيوية لخاف وتزعزع، لأنه سوف يفقد حياته لا محالة. ولكن الإمام بعكس ذلك كله وقف مستبشراً وبيده سيف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبين جنبيه قلب أبيه أمير المؤمنين(عليه السلام)، وتحته فرس جده(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يمتطيه وبيده الأخرى راية الحق، وعلى لسانه كلمة التقوى، وهو يقول:

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى *** إذا ما نوى حقّاً وجاهد مُسلماً

وواسى الرّجال الصالحين بنفسه *** وفارقَ مثبوراً وخالف مُجرماً

فإنْ عِشت لم أنْدَم وإنْ متُّ لَم أُلَم *** كفى بِك ذُلاً أنْ تَعيش وتُرغماً(1)

ص: 527


1- كامل الزيارات: 96.

فعلى المبلّغين أن يوضحوا للناس هذه الأهداف ويبيّنوا الدروس والعبر التياستفادت منها البشرية من هذه الثورة العظيمة، وكيفية تجسيدها على أرض الواقع بالإضافة إلى ذكرهم مصيبة المولى سيد الشهداء، وكيفية قتله(عليه السلام)، وكيفية سبي أهل بيته، وذلك لكي يحيطوا بكل العبر والدروس التي أحاطت بها ثورة الإمام الحسين(عليه السلام)، ويجسِّدوا معانيها على أرض الواقع.

ومن الواضح أن شخصية الحسين(عليه السلام) ومواقفه ومواقف أصحابه وأهل بيته جسدت فضائل الإسلام ومناقبه، وأظهرت القيم الإنسانية بشكل واضح لا يقبل التشويه والتحريف. فالمبلّغ الذي يجسِّد هذه الحقائق للناس قولاً وعملاً على نفسه وعلى مستمعيه يكون قد نجح في مهمته الدينية العظيمة.

{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1).

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال، ... وصحح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد منّي»(2) برحمتك يا أرحم الراحمين.

من هدي القرآن الحكيم

مِن صِفات المُبَلِّغ
الإيمان مع العَمل

قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزْقًا قَالُواْ هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهًا

ص: 528


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- الصحيفة السجادية وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(1).وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَٰنِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَٰرُ فِي جَنَّٰتِ النَّعِيمِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّٰتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّٰلِحِينَ}(4).

الإخلاص

قال عزّ اسمه: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(5).

وقال جلّ شأنه: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي}(6).

وقال عزّ من قائل: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(7).

وقال جلّ ثناؤه: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(8).

الأخلاق الحسنة

قال تعالى: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(9).

ص: 529


1- سورة البقرة، الآية: 25.
2- سورة يونس، الآية: 9.
3- سورة الكهف، الآية: 107.
4- سورة العنكبوت، الآية: 9.
5- سورة الأعراف، الآية: 29.
6- سورة الزمر، الآية: 14.
7- سورة غافر، الآية: 65.
8- سورة البينة، الآية: 5.
9- سورة آل عمران، الآية: 134.

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُالْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٖ فَخُورٖ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَٰتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

من صفات المبلّغ
الإيمان مع العمل

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن الإيمان ما خلص في القلوب وصدّقه الأعمال»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الإيمان إخلاص العمل»(5).

وعن أحدهما(عليهما السلام) قال: «الإيمان إقرار وعمل، والإسلام إقرار بلا عمل»(6).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «الإيمان هو الإقرار باللسان وعقد في القلب وعمل بالأركان»(7).

ص: 530


1- سورة المؤمنون، الآية: 3.
2- سورة الفرقان، الآية: 63.
3- سورة لقمان، الآية: 17-19.
4- معاني الأخبار: 187.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 50.
6- الكافي 2: 24.
7- الكافي 2: 27.
الإخلاص

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مخبراً عن جبرئيل عن اللّه عزّ وجلّ أنه قال: «الإخلاص سرُ من أسراري أستودعه قلب من أحببته من عبادي»(1).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الاخلاص شيمة أفاضل الناس»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الإخلاص يجمع فواضل الأعمال، وهو معنى مفتاحه القبول وتوقيعه الرضا...»(3).

الأخلاق الحسنة

قال الرسول الأمين(عليه السلام): «إن التواضع لا يزيد العبد إلّا رفعة فتواضعوا يرفعكم اللّه، ... والعفو لا يزيد العبد إلّا عزة فاعفوا يعزكم اللّه»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... واكظم الغيظ، وتجاوز عند المقدرة، واحلُم عند الغضب، واصفح مع الدولة، تكن لك العاقبة...»(5).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إن من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدر الإقتار(6)، والتوسع على قدر التوسع، وإنصاف الناس من نفسه، وابتداؤه إياهم بالسلام»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «صدقة يحبّها اللّه إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا»(8).

ص: 531


1- منية المريد: 133.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 39.
3- مصباح الشريعة: 36.
4- مستدرك الوسائل 7: 160.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 69 من كتاب له(عليه السلام) إلى الحارث الهمداني.
6- الإقتار: ضيق المعيشة.
7- الكافي 2: 241.
8- الكافي 2: 209.

الإنسان جسدٌ وروح

اشارة

قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(1).

الإنسان مركب من الروح والجسد، فيتعرض الجسد إلى الصحة والسقم والمرض والسلامة، وهذا الجسد كما أنه تكوَّن يوماً من الأيام ونمى، فكذلك سوف يأتي يوم يكون فيه دماره وفناؤه، والذي يبقى هو الروح الذي هو الجانب المهم في الإنسان. بعض الأحيان يكون جسم الإنسان سالماً معافى، بسبب عيشته الفارهة المنعّمة، إلّا أن روحه خاوية حائرة مضطربة، وتارة يعيش في ضيق وضنك، إلّا أن روحه سامية متفائلة، لذا فمن الواجب على الإنسان السعي لأجل أن يوجد نوعاً من التوازن والإكتفاء في الطرفين، سواء الجانب الجسدي أو الروحي، وقد ذكرنا سابقاً بأن للروح والجسد تأثيراً متبادلاً بينهما، فكل منهما يؤثر على الآخر، سواء في الصحة أو السقم.

ولكن الروح يضع تأثيره على الجسد في كلتا الحالتين، فالإنسان السعيد يكون جسمه في راحة وليس في ألم، ذلك لأن روحه في خير.

إذن قيمة الإنسان ليست بجسده وإنما بروحه. فقيمة الشيخ الأنصاري جاءت من سمو روحه وعلوّها، وتفاهة الظالمين أمثال يزيد وشمر جاءت من دناءة أرواحهم، وإن كانت أجسادهم قوّية وكبيرة. وذلك هو القرآن الكريم يقول: {إِلَّا

ص: 532


1- سورة الشعراء، الآية: 88-89.

مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(1). أي من أتى اللّه بروح مؤمنة شريفة، ذات نوايا صالحة وأعمال خيرة، لأن الروح هي محل الأخذ والعطاء والردّ والقبول.

لقد كان ابن سينا وابن مسكويه يعيشان في زمن واحد، ولكن كان لكل منهما طريق خاص في السلوك الروحي، فابن سينا قضى عشرين سنة من عمره في دراسة العلوم الطبية والطبيعية والدنيوية الأخرى حتى أتمّها، وكان يُعدّ من العلماء الكبار في ذلك اليوم. وفي أحد الأيام جاء إلى مجلس ابن مسكويه وحضر عند درسه، وكان آنذاك شابّاً، يمتلك الحيوية والعلم، بحيث كان يتصور بأنه يعرف كل شيء، فأراد أن يُظهر فضله ومنزلته في مجلس ابن مسكويه، وقد كانت بيده جوزة فألقاها أمام ابن مسكويه، وقال له: عَيِّن لي مساحة هذه الجوزة! وذلك لأن هناك أسلوباً خاصاً لمعرفة مساحة سطح الأجسام الدائرية والكروية، فما كان من ابن مسكوية إلّا أن وضع كتابه الذي كتبه في الأخلاق أمام أبي علي ابن سينا وقال له: من الأولى لك أن تقرأ هذا الكتاب أولاً، لكي تصلح دواخلك وقلبك، وبعدها أقول لك مساحة هذه الجوزة، فأنت تحتاج إلى إصلاح النفس أكثر من احتياجك لمعرفة مساحة هذه الجوزة. ومن البديهي أن قيمة الإنسان مرتبطة بأخلاقه، فترتفع قيمته مع ارتفاع أخلاقه، وتنزل قيمته من انعدامها، فتأثر أبو علي من كلام ابن مسكويه، وأصبحت الجملة التي قالها له ابن مسكويه باعثاً نحو اهتمامه بتربية وتزكية نفسه.

النفس وقواها

اشارة

ولا يخفى أن حقيقة الإنسان إنما روحه التي بين جنبيه، فهي الجوهر الملكوتي الرحماني، وما البدن إلّا آلة لذلك الجوهر. ولقد قيل: إن النفس

ص: 533


1- سورة الشعراء، الآية: 89.

تسمى روحاً لتوقف حياة البدن عليه، وتسمى عقلاً لإدراكه المعقولات وتسمى قلباً لتقلبه في الخواطر(1).

ومن المعروف أن النفس تمتاز بأربع قوى تشكل قوامها، وهي: القوة العقلية - القوة الغضبية - القوة الشهوية - القوة الوهمية. ويمكن أن يقال: إن القوى الثلاث الأخيرة إذا طغت عن حدّ الإعتدال يقال لها: القوة الشيطانية باعتبار أن مصدرها وملاكها واحد وهو الهوى.

ولعل قائلاً يقول: إذا كانت هذه القوى لها هذا الخطر العظيم، فلما أودعها اللّه عزّ وجلّ في الإنسان؟ فنقول وبكل بساطة: إنه لولا القوة الغضبية، أي لولا الغضب، لما دافع الإنسان عن عرضه وماله ودينه وأرضه، ولما أخذته الحميّة، ولو فقدت القوة الشهوية لما مال الإنسان إلى المأكل والملبس والزواج، ولاضطربت حياته كل اضطراب، وهكذا في القوة الوهمية، فبها يستطيع المرء أن يستنبط وجوه المكر والحيل. وعلى هذا نجد أن وجود هذه القوى سبب لبقاء الإنسان وانسجامه مع الناس وبقاء بدنه واستمرار حياته. ولكن هذا الكلام في ما إذا تعادلت القوى، أي في ما إذا لم يمل الإنسان إلى حدّ الإفراط أو التفريط، فمثلاً الشجاعة صفة كمال وجمال للإنسان، ولكن إذا تهوّر هذا الإنسان واستفاد من قوته وشجاعته استفادة سيئة، بحيث يعتدي على الناس ويغتصب أموالهم ويهدد أعراضهم، فإن ذلك إفراط، وهو مذموم عند الناس جميعاً، أو بالعكس حيث لا يستفيد الإنسان من قوته، ومن الطاقة الموجودة فيه، ومن بدنه، فيركن إلى الجبن، فهو الآخر قبيح، وهكذا في باقي الصفات، من العفة والصبر. فكما أنّ الشجاعة هي الحدّ المعتدل في القوة الغضبية لتنزهها عن التهور (الإفراط) وعن الجبن (التفريط) وسيرها في خطّ النمط الأوسط الذي تتتعادل فيه جميع

ص: 534


1- انظر جامع السعادات 1: 51.

القوى النفسانية. كذلك الأمر في باقي الصفات. فإذا عادل الإنسان في قواه، واعتدل في سلوكه، حينئذ يكون إنساناً، وإلّا ففي كلا جانبي الإفراط والتفريط يفقد الإنسان إنسانيته، ويتصف بصفات الحيونات والعجماوات.

حفظ التوازن

إن حفظ التوازن العام للسلوك من أدق الأمور وأصعبها، لا سيما في الظروف الصعبة والمواقف الحرجة، إذ يتطلب الأمر أن يكون المرء على ثقة عالية بنفسه وتفعيله وتجسيده صفات الحسن والجمال، كالصبر والحلم والتأني وعدم الانفعال في المواقف التي ينفعل فيها الإنسان العادي. فمما يذكر أن نصرانياً قال للإمام الباقر(عليه السلام): أنت بقر؟ قال الإمام: «أنا باقر»، قال: أنت ابن الطباخة؟ قال: «ذاك تلك حرفتها»، قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذّية؟ قال: «إن كنت صدقت غفر اللّه لها، وإن كنت كذبت غفر اللّه لك»، قال فأسلم النصراني(1).

لما رأى حلم الإمام وأجوبته الطيّبة، التي تنم عن طهارة القلب واتساع العلم.

وهناك رواية تقول: أم جميل زوجة أبي لهب قالت حول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

مذمَّماً أبينا *** ودينه قلينا

وأمره عصينا(2)

فلم يلتفت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: «إنهم يذمون مذمّماً، وأنا محمد»(3)! فالإنسان إذا سمح لنفسه الإنخراط في السفاسف والاهتمام بالأمور الصغيرة فإنه سوف ينشغل عن تحقيق أهدافه وأعماله الكبيرة. فلكي يحفظ الإنسان

ص: 535


1- مناقب آل ابي طالب^ 4: 207.
2- إعلام الورى: 30.
3- انظر الخرائج والجرائح 2: 776.

توازنه في السلوك والمنطق لا بدّ أن يمتلك عشرات الصفات، وذلك عن طريق جمعها في نفسه بصورة تدريجية، وأن يبعد عن نفسه عشرات الصفات السيئة أيضاً، وذلك لكي يصح أن يطلق عليه بأنه كريم، وحليم، وعالم، ومتواضع، وخدوم وغير متكبر، ويحب الخير للآخرين، فإذا استطعنا إبعاد السيئات عن أنفسنا وجلب الخيرات، يصح عندها أن نقول لأنفسنا: بأننا هذّبناها. ذلك لأن تهذيب النفس وحفظ التوازن كبناء الدار تماماً، كما أن الدار تحتاج إلى عشرات الأشياء، بل كل شيء من هذه اللوازم تحتاج بدورها إلى عشرات الأعمال فالحجارة التي هي عامل مهم في بناء البيت، تحتاج إلى أنواع التكسير والنقل والترصيف وما إلى ذلك من الأمور الأخرى، وكما أن البيت المسكون يحتاج إلى التعمير والصينانة المستمرة، كذلك النفس تحتاج إلى التعمير والتنظيف الدائمين، لذا يقول بعض الحكماء: بأن الدنيا دار بناءٍ وفساد. أي: فكما أن الشجرة تنمو وتعطي ثمارها، فكذلك يأتي عليها يوم تذبل وتتلاشى وتموت، وهكذا الإنسان؛ أحياناً يكون سليماً وطيباً، وأحياناً يمرض ويموت، هكذا عملية صقل وإصلاح النفس، فالإنسان لا بدّ عليه أن يستمر في تهذيب نفسه إلى آخر عمره، قال سبحانه وتعالى في كتابه المجيد عن لسان عيسى(عليه السلام): {وَأَوْصَٰنِي بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}(1). والسرّ الذي جعل الصلاة أن تكون عمود الدين هو لكونها تدعو الإنسان بصورة مستمرة إلى النظافة الروحية والجسدية، أو بكلمة واحدة: إلى تهذيب نفسه، فكما أن السقف يحتاج إلى جدران لترفعه فكذلك الصلاة بالنسبة إلى الدين إذ أنَّها عمود الدين، هكذا هي طريقة تهذيب النفس وتزكيتها، ولهذا كان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 536


1- سورة مريم، الآية: 31.

يقول: «اللّهم لا تكلني إلىنفسي طرفة عينٍ أبداً»(1).

إذن فمن الممكن للإنسان السقوط والهلاك لو ترك وخُلِّي مع نفسه.

ومما يحضرني الآن أنه كان لي صديق، صادف أن انقطعت أخباره عنّي لعدّة أيام، فسألت عنه، فقالوا لي: بأنه راقد في المستشفى لحادث اصطدام وقع له بالسيارة، وبعد مدة زارني وكانت يداه ورجلاه مشدوَدتين، ولا يستطيع المشي بصورة طبيعية، فسألته عن ذلك، فقال: كنت أسوق سيارتي، فغفلت نفسي لحظة واحدة، وإذا بي أسمع صوتاً شديداً مع ضربة قوية من الخارج ففهمت بأني اصطدمت مع سيارة أخرى، بعدها فتحت عيني وإذا أنا في المستشفى، هذه اللحظة أو الثانية التي غفلت فيها أدّت بي إلى هذه النتيجة.

آفة النفس

من طبيعة هذا العالم أن الأشياء بعضها مسلط على البعض، فالحيوانات بعضها يتغذى على البعض الآخر وعلى النبات أيضاً، والنبات يعاني من تسلط الأمراض عليه، ومما يؤدي إلى موته... وكذا الحال بالنسبة إلى النسيان، فإنه آفة العلم والعجلة آفة النفس، والجهل آفة السعادة... فكما أن لكل شيء آفة، فإن النفس لها آفة أيضاً وهي مجموع القبائح والمعاصي التي يرتكبها الإنسان فإنها تلوِّث روحه وفطرته التوحيدية التي فطره اللّه عليها، مما يؤدي إلى تنكره للدين والرسالات فيقف محارباً لرسل اللّه وكتبه.

فمثلاً: الجهل قبيح ونتائجه أقبح منه، فأرقى مستوى يعيشه الجاهل هي الخرافة، والأساطير التي تنمّي فيه جانب اللاوعي والقوة الوهمية، فيعيش الخيالات والأمنيات الكاذبة، ويركن إلى السكون في الوصول إلى أمانيه، والعجله

ص: 537


1- الكافي 7: 2.

أيضاً أمر قبيح؛ إذ أنها تفوِّت الفرص المناسبة على الإنسان، وتورثه الندامة والحسرة، وتجعله إرتجالياً في جميع مواقفه، مما لا ينسجم مع منطق التفكير والتدبر. والزنا من المعاصي والقبائح، إذ أنه يقتل العفّة والمروءة في الإنسان وبالتدرج يفقد الحياء الذي هو من أُمهات الشخصية الإنسانية والإسلامية. فقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام): «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة»(1). وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الحياء حياءان: حياء عقل، وحياء حمق، فحياء العقل هو العلم، وحياء الحمق هو الجهل»(2). فالزاني والسارق والغاصب و... لا حياء لهم، ولا علم لهم، لأنهم لو علموا بما يصنعون وما يرتكبون من القبائح لما فعلوها، ولكن فعلهم لها دليل جهلهم وحمقهم، وهكذا الأمر في بقيّة الذنوب والقبائح.

لأن الإنسان عندما خلقه اللّه عزّ وجلّ، وبثّ فيه الروح، كانت تلك الروح متَّسمة بالإيمان باللّه وتوحيده، ولديها الاستعداد التامّ لحمل كافة الصفات الحسنة التي أمر اللّه بها، كالعدل والصبر والإحسان والوفاء والصدق و... ولكن عندما يسوء إختيار الإنسان في حياته، فإنه يكون قد لوّث روحه بالقبائح، فبدل أن يختار العمل والسعي، نراه يفضّل طريق السرقة وغصب أموال الناس، لأنه طريق أسهل، رغم قباحته. وبدل أن يختار الزواج وبناء الأسرة وتربية الأولاد نراه ينحرف إلى اختيار سيء، فيزني. وبدل أن يكون صادقاً فانه يختار طريق الكذب لتحقيق أغراضه، وهكذا. فهذه الاختيارات السيئة تلوِّث الروح، وتكون آفة لقتل الإيمان وانحراف الإنسان إلى الطرق غير المستقيمة، التي لا تتلاءم وهدفه في هذه الحياة الدنيا.

ص: 538


1- الكافي 2: 106.
2- الكافي 2: 106.
القلب السليم

ولهذا نجد أن الآية - التي افتتحنا بها الكلام - قالت: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(1)، أي: أن يكون قلب الإنسان سليماً خالياً من الآفات الظاهرة والباطنة(2). لأننا قلنا: إن آفات النفس أو القلب أو الروح، أو - بالأعم - الإنسان، إنما هي القبائح، واللّه عزّ وجلّ نهى الإنسان عن الاقتراب أو اقتراف هذه القبائح، لأنها لا تنسجم مع غرض المولى لخلق الإنسان.

إذ أن اللّه تعالى أراد له الكمال الحقيقي، الذي يضمن له الخلود النهائي في جنات الرحمن، وهو لا يتأتّى إلّا بالإيمان والعمل الصالح، ومجانبة القبائح. ولذلك قالت الآية: إن كل الأشياء والمتعلقات لا تنفع يوم القيامة، إلّا أن يأتي الإنسان إلى ربه بقلب طاهر حافظ على فطرة التوحيد التي تدعوه دوماً إلى طاعة اللّه وتنفيذ أوامره، وليس المراد بالقلب هذا الشكل الدموي الصنوبري، وإنما كناية عن الروح الطاهرة. لأنها إما أن تتقلب في أجواء الإيمان والصالحات، فتقدم إلى ربها وخالقها بصورة أحسن من صورة الملائكة، وإما أن تعيش أجواء الانحراف والقبائح، فتحشر على شكل القوة التي كانت الروح تتحرك معها. فمثلاً: إذا كانت صفة الإنسان الغالبة عليه في الدنيا هو الغضب، فإنه يحشر على شكل السباع، وإذا كانت القوة الوهمية هي المتحكمة في سلوك وسير الإنسان، فإنه سوف يُحشر على شكل البهائم التي همها بطنها وفرجها وهكذا... فيوم الحشر لا ينفع الإنسان شيء سوى أن يأتي إلى ربه بروح طاهرة ابتعدت في الدنيا عن الآفات، لتقدم على اللّه بطهارة مطلقة وسمات حسنة.

فتكون تلك الطهارة في القلب أو الروح، أو تلك السلامة - كما عبّر القرآن

ص: 539


1- سورة الشعراء، الآية: 89.
2- انظر مفردات ألفاظ القرآن: 421.

الكريم عنها - سبباً كافياً لنجاة الإنسان وعدم احتياجه لأحد سوى رحمة ربه، بعكس أولئك الذين أمضوا حياتهم بالسيئات والقبائح، فإنهم يومئذٍ يختصمون في ما بينهم، كلٌّ يلقي اللّوم على صاحبه، ويجعله سبباً لانحرافه وتلوثه: {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَٰفِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٖ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(1). ولكن هيهات، إنها أُمنيّة لا تتحقق أبداً، ولو تحققت لعادوا إلى نفس الانحراف لأنّ قلوبهم طبعت على حبّ الفساد والميل إلى الانحراف، لفساد اختياراتهم وتلوُّث قلوبهم، تماماً عكس نتائح أصحاب القلوب السليمة: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2). الذين جعلوا أنفسهم في تقوى من المعاصي.

اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، «اللّهم وفِّر بلطفك نيَّتي، وصحّح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد مني، ... اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد ومتِّعْني بهدى صالح لا أستبدل به، وطريقة حقٍ لا أزيغ عنها، ونيّة رشد لا أشك فيها»(3)، بحق محمّد وآل محمّد.

ص: 540


1- سورة الشعراء، الآية: 96-102.
2- سورة الشعراء، الآية: 90.
3- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

فهرس المحتويات

مقدمة المؤسسة... 5

الإصلاح الاجتماعي

الإصلاح... 13

الكفاءة والقدرة... 18

إصلاح المجتمع الصغير... 21

إصلاح المجتمع الكبير... 24

إصلاح النفس... 26

المؤهلات الذاتية... 27

المبادئ الإسلامية... 29

التضحية لأجل الآخرين... 31

ترويض النفس... 32

كيفية إصلاح المجتمع الإسلامي... 34

1- التنظيم واحتواء الجماهير... 34

2- التوعية العصرية... 35

3- السلم... 35

4- شورى المرجعية... 37

5- الاكتفاء الذاتي... 38

الحريات... 42

من هدي القرآن الحكيم... 43

ص: 541

الإصلاح الاجتماعي... 43

إصلاح النفس... 43

المؤهلات الذاتية... 44

العمل سُلّم الاصلاح... 44

المجتمع والشورى... 44

من هدي السنّة المطهّرة... 45

الإصلاح الاجتماعي... 45

إصلاح النفس... 45

المؤهلات الذاتية... 46

العمل سُلم الإصلاح... 46

المجتمع والشورى... 47

التجربة وسلوك الخبراء

الحياة مدرسة... 48

من هو المغبون والمحروم؟... 49

الاستزادة من التجارب... 51

ما وراء التجربة... 56

عقل الطبع وعقل التجربة... 58

اختلاف التجارب... 60

تجربتان: ناجحة وفاشلة... 63

المقدمات والنتائج... 66

بين التجربة والمجازفة... 69

التجربة وأهميتها... 70

الحاجة إلى أصحاب التجارب... 73

الوصايا تجارب العظماء... 75

ص: 542

من هدي القرآن الحكيم... 86

من مقومات التجربة استعمال العقل... 86

الإيمان سر نجاح التجارب... 86

القرآن العظيم التجربة الناجحة... 87

التأسي بسيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة^ والصالحين... 87

من هدي السنّة المطهّرة... 88

استعمال العقل من مقومات التجربة... 88

الإيمان سر نجاح التجارب... 88

القرآن العظيم سر النجاح... 89

التأسي بسيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار^... 90

التعاون والعمل

التقدم والتلاحم... 91

المغبون والملعون... 93

شروط التقدم... 94

الإسلام كل لا يتجزأ... 94

التنظيم الاجتماعي... 95

البناء المرصوص... 100

خصائص القوة... 100

العرب وإسرائيل... 101

الوحدة شعار الأنبياء^... 103

إسلام الأوس والخزرج... 104

اعتصموا بحبل اللّه... 109

وحدة الأعداء وفرقتنا... 112

اليهود في بغداد... 114

ص: 543

وفي طهران... 114

الحال المعكوس... 116

غاندي والعمل والتعاون... 119

وقفة أُخرى مع غاندي... 121

دَور الأمّة... 123

العلاج من داخل الأمة... 123

المعصومون^ أسوة في التعامل والعمل... 124

من هدي القرآن الحكيم... 127

واعتصموا بحبل اللّه... 127

الوحدة شعار الأنبياء^... 128

اليهود أعداء المؤمنين... 128

من هدي السنّة المطهّرة... 129

تعاونوا على البر والتقوى... 129

ذم الخصومة... 129

وحدة المجتمع الإسلامي... 130

ذم الخلاف والفرقة... 131

التهجير جناية العصر

جريمة التهجير... 132

التركيبة السكانية... 134

سيرة الحزب الحاكم في العراق... 137

الغاية في وجود الحزب الحاكم... 138

الوعي الديني السياسي... 140

التهجير وسلوكية الحزب الحاكم... 142

العناصر الدخيلة في نظام الحكم... 145

ص: 544

طغاة العراق.. أهداف وأساليب... 149

أساليب التهجير... 151

من أساليب النظام... 152

من مآسي المهجرين... 155

نحن عراقيون... 156

لا تتكلموا، هذه أوامر صدام!... 164

لن نرضى بغير العراق وطناً... 166

تهجير التجار غيلة... 167

تهجير آلاف العوائل... 168

أكراد العراق... 169

جريمة حلبجة... 170

قصص من مأساة حلبجة... 171

رواية أخرى للمأساة... 172

قصة أخرى... 176

شيعة الأكراد... 178

قصة أخرى... 180

من الأمويين إلى طغاة العراق... 181

من هدي القرآن الحكيم... 183

بث روح الأخوة... 183

الهجرة والتهجير... 184

حرمة الركون إلى الظالمين وإعانتهم... 185

الظالم والمظلوم... 185

من هدي السنّة المطهّرة... 186

الهجرة والتهجير... 186

ص: 545

جزاء الظالمين... 187

بث روح الأخوة... 188

جزاء إعانة الظالمين... 188

الظالم والمظلوم... 189

احذروا اليهود

من أسباب تأخر المسلمين... 191

المسلمون واليهود... 192

اتحادهم وتفرقنا... 193

بين العراق واسرائيل... 195

رسالة إلى ياسر عرفات... 196

أما عن السبب الثاني... 197

حتمية السقوط... 199

الخطر اليهودي... 200

1- السيطرة على التجارة... 201

2- نشر الفساد... 202

3- خطر المخدرات... 204

4- نشر الإيدز... 205

احترام الإنسان في الإسلام

في البدء... 207

أفضل الخلق... 208

الإنسان المكرّم... 211

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واحترام الإنسان... 212

من ينجيك مني؟... 217

ص: 546

أمير المؤمنين(عليه السلام) وأهل الذمة... 217

احترام جميع الناس... 219

حرمة التعذيب لانتزاع الاعتراف... 222

الاحترام بين الزوج والزوجة... 226

المحدود واحترامه... 229

احترام الأعداء... 233

عطاء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 234

مع ذي الخويصرة... 236

العفو حتى في ميدان القتال... 237

مالك الأشتر قائد الجيوش... 238

من أخلاق الآخوند الخراساني(رحمه اللّه)... 239

المرجع لسمح... 240

من هدي القرآن الحكيم... 242

كرامة الإنسان... 242

احترام جميع الناس... 242

الاحترام بين الزوج والزوجة... 243

في ذم العداوة... 243

الإسلام يدعو إلى السلم... 244

من هدي السنّة المطهّرة... 245

في ذم العداوة... 245

احترام جميع الناس... 245

الاحترام بين الزوج والزوجة... 246

الإسلام يدعو إلى السلم... 247

ص: 547

أثر النشاط والحكمة في تقدم المسلمين

انتشار الإسلام... 248

عمومية الرسالة... 249

السياسة الحكيمة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 251

العفو العظيم... 254

الأسوة الحسنة... 256

اليقظة والفكر... 258

لا يغيّر اللّه ما بقوم... 259

كيف انتشر الإسلام؟... 260

علم الهدى... 261

ستر العطاء... 261

الهمة العالية... 264

الصينيون وإحياء بلادهم... 266

يقظة الأعداء... 266

سياسة أعداء الإسلام... 269

الغرب والبعث... 271

الصبر وطول النفس... 272

من هدي القرآن الحكيم... 275

لا للكسل... 275

النشاط في العمل... 275

التطلع إلى المستقبل... 276

النشاط الفكري... 276

المسلمون والتنمية الاجتماعية... 276

الإسلام دين اللّه... 277

ص: 548

الشورى في الإسلام... 277

الأمة الإسلامية خير الأمم... 277

من هدي السنّة المطهّرة... 278

في ذم الكسل... 278

العمل الصالح... 278

المسابقة إلى الخيرات... 279

نشاط الفكر... 279

المسلمون والتنمية الاجتماعية... 280

المسلمون ومعرفة الأعداء... 280

المسلمون والشورى... 281

إحياء الشعائر

معنى الإحياء... 282

إحياء ذكرى المؤمن... 286

الاستعمار ومحاربة الشعائر... 290

أتأتي قبر الحسين(عليه السلام)؟... 293

حيل الغرب في بلاد المسلمين... 295

مجالس التعزية على لسان قس مسيحي... 298

من هدي القرآن الحكيم... 300

حياة المؤمن... 300

دور المجالس في إنهاض الأمة... 300

الاستعداد الدائم للدفاع عن الإسلام... 301

الدعوة لنشر الدين الإسلامي... 301

من هدي السنّة المطهّرة... 302

إحياء الشعائر... 302

ص: 549

دور المجالس في إنهاض الأمة... 303

نفي البدع... 304

الدعوة لنشر الدين الإسلامي... 305

إحياء معالم الإسلام

بين الرسول والنبي... 306

أولوا العزم... 310

من أوصاف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 311

من معالم الإسلام... 314

مسجد قبا... 314

مسجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 316

العتبات المقدسة... 317

الوهابيون وهدم مراقد الأولياء... 323

النصراني ورأس سيد الشهداء(عليه السلام)... 328

أثر الرسول... 330

تواطؤ الإنجليز... 333

قبر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 333

وظيفتنا إزاء مدينة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 335

من هدي القرآن الحكيم... 337

دعوة الإسلام... 337

صفات الأنبياء والرسل^... 338

بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 339

بيوت اللّه جلّ جلاله... 339

من هدي السنّة المطهّرة... 340

ص: 550

معالم الإسلام... 340

أولوا العزم؟... 340

النبي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء^... 340

زيارة قبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقبور الأئمة المعصومين^... 342

المساجد المشرفة... 349

إعداد الأجيال

التربية وأدواتها... 351

التربية والتعليم في الإسلام... 352

الاهتمام بالتربية... 353

التربية وأبعادها الثلاثة... 354

البعد الأول... 354

البعد الثاني... 355

من أحكام البُعد الثاني... 355

البعد الثالث... 357

واجبات في التربية... 358

القرآن الحكيم ومراتب التربية... 359

التربية وعوامل التأثير... 360

1- الوراثة... 360

عامل الوراثة في الروايات... 362

من شواهد تأثير الوراثة... 363

2- الأسرة... 365

الأسرة وآية الاصطفاء... 365

دعائم الأسرة... 366

الأسرة وواجبات الوالدين... 366

ص: 551

اليتيم: يتيم الأدب والعلم... 367

الجمال: جمال العلم والأدب... 368

إيجاز عامل الأسرة... 368

الأسرة في الحديث الشريف... 369

الأسرة في سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 370

عامل الأسرة وكيفية تطبيقه... 372

من تطبيقات عامل الأسرة... 373

الأسرة وبعض آدابها... 375

الأسرة وسيرة أهل البيت^... 375

الأسرة والتعليمات التربوية... 376

الأسرة ومنزلة الأم... 377

الأم مدرسة الأجيال... 377

أحضان الأمّهات مدارس... 377

الزوجة الصالحة هي: أم صالحة... 378

من حقوق الأم... 379

الأم: الحجر الأساس في التربية... 379

التأدّب مع الأم... 380

الأسرة وواجبات الأولاد... 381

توصية القرآن بالوالدين... 381

قبس من الآيتين الكريمتين... 381

عامل الأسرة ملخصاً... 383

الحديث الشريف والبر المتقابل... 384

الأم في الحديث الشريف... 384

3- البيئة الاجتماعية... 386

ص: 552

البيئة وآية الأمان... 386

البيئة وآية المُكنة... 387

البيئة وآية المصلحين... 387

المراد من عامل البيئة... 388

اهتمام الإسلام بالبيئة الاجتماعية... 388

البيئة الاجتماعية في الروايات... 389

تلخيص عامل البيئة... 390

التأكيد على مصاحبة الأخيار... 391

التربية: مسؤولية الجميع... 392

خلاصة البحث... 393

من هدي القرآن الحكيم... 394

التربية الإيمانية... 394

التربية والبيئة الصالحة... 395

تزكية النفس... 395

المجتمع والمسؤولية التربوية... 396

من هدي السنّة المطهّرة... 397

تزكية النفس... 397

تأثير الوراثة في سلوك الفرد... 397

تأثير البيئة على الفرد... 398

مسؤولية الآباء تجاه الأبناء... 399

اغتنام الفرص

الزمن وعمر الإنسان... 400

استثمار العمر... 402

الفُرَص وطول الأمل... 404

ص: 553

مع أسامة بن زيد... 406

اغتنام الفرص دليل الحزم... 408

مع مؤلف مستدرك البحار... 411

مع المحدث القمي(رحمه اللّه)... 412

الكتب بساتين العلماء... 412

نماذج أخرى... 413

مع مؤلف اللمعة الدمشقية... 414

الشهيد الأول(رحمه اللّه) وكيفية شهادته... 415

اعتقال الشيخ الشهيد... 416

إن كنت عبدي فاصطبر... 417

مع مصنّف تبصرة المتعلمين... 419

مع أحد المأمومين... 419

يوم القيامة وساعات عمر الإنسان... 420

من هدي القرآن الحكيم... 423

هكذا املأ وقتك... 423

1- بالعمل المفيد للدنيا والآخرة... 423

2- فعل الخير... 423

3- طلب العلم... 424

4- ذكر اللّه على كل حال... 424

من هدي السنّة المطهّرة... 425

هكذا املأ وقتك... 425

1- بالعمل الصالح المفيد دنياً وآخرة... 425

2- فعل الخير... 426

ص: 554

3- طلب العلم... 426

4- ذكر اللّه على كل حال... 428

أقسام الجهاد

أقسام الجهاد... 431

الأول: الهجرة إلى أرض الإسلام... 431

الهجرة اليوم... 433

هجرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 433

لماذا الهجرة؟... 434

موت كموت بعير... 436

قصة استشهاد الراهب... 437

الثاني: طلب الشهادة... 438

الثالث: قتل سمعة الأعداء... 440

السبيل إلى ذلك... 441

الرابع: قراءة القرآن... 442

تقوى القلوب... 442

ذكر الموت... 443

من هدي القرآن الحكيم... 445

الجهاد في سبيل اللّه... 445

الهجرة إلى اللّه تعالى... 446

جهاد الكلمة... 446

تذكر الموت... 447

من هدي السنّة المطهّرة... 447

الجهاد في سبيل اللّه تعالى... 447

أقسام الجهاد وشرائطه وأحكامه... 448

ص: 555

السبيل إلى الجهاد... 449

الهجرة عن بلد المعاصي... 449

التحذير من مؤازرة الحكومات الجائرة... 450

الأحلام من وجهة نظر الإسلام

تمهيدٌ... 451

كيف تحدث الأحلام؟... 452

الأحلام الصادقة والكاذبة... 453

تفسير الأحلام... 453

من رآني فقد رآني... 456

القرآن والرؤيا... 456

لا حجية للرؤيا... 458

ابن سيرين وتعبير الرؤيا... 459

رؤيا الوالد وإصابته بالسكتة... 460

الدقة في تفسير الرؤيا... 461

من هدي القرآن الحكيم... 462

القرآن والرؤيا... 462

من أنباء الغيب... 462

الإيمان الحقيقي كاشف عن المغيبات... 462

تعبير الرؤيا... 463

من هدي السنّة المطهّرة... 463

الرؤيا ومنشأها... 463

الرؤيا الصادقة والكاذبة... 464

تعبير الرؤيا... 465

الرؤيا على ما تعبر... 466

ص: 556

لمن تقص الرؤيا؟... 466

سوء الأحلام... 466

إذا عُبرت وقعت... 466

صدق رؤياه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 466

رفع الرؤيا... 466

رؤيا الإمام(عليه السلام)... 467

الرؤيا الصالحة... 467

ما يكره من الرؤيا... 467

الروح والرؤيا... 468

رؤيا أم سلمة(عليها السلام)... 469

الأخوة الإسلامية

الأُخوّة وأقسامها... 470

الأخوة في اللغة... 472

الاخوة في الحديث الشريف... 473

الأخوة الإيمانية... 475

آية الأُخوّة والتدبّر فيها... 477

أخوّة المسلمين الأوائل... 479

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤاخي بين المسلمين... 480

الحدود المصطنعة بين الدول الإسلامية... 483

السبيل إلى الأخوة... 484

الحج والأخوة... 486

لورانس العرب... 487

إلى متى هذه الفرقة؟... 488

ص: 557

من هدي القرآن الحكيم... 491

الأخوة النَسَبية... 491

الأخوة الرضاعية... 491

الأخوة الدينية... 492

لا للفرقة... 492

من هدي السنّة المطهّرة... 493

حقوق الأخوة الإسلامية... 493

الأخوة الدينية... 494

الأخوة في اللّه... 495

المنبر الحسيني وبناء الإنسان

الأئمة وصِناعة النَوع الإنساني... 497

المنبر الحسيني وبناء الذات... 499

خَصائِص المِنبر الحُسيني... 500

1- أن يكون منبراً بنّاءً... 500

2- نشر الوعي... 502

3- أن يكون المنبر هادفاً... 503

ملاحظات على المِنبر... 504

الإيمان والبناء... 505

خلاصة القول... 505

من هدي القرآن الحكيم... 506

من أهم ما يجب أن يدعو إليه خطيب المنبر الحسيني... 506

التمسك بالإسلام... 506

العمل للآخرة... 507

الإلتزام بمكارم الأخلاق... 507

ص: 558

اتّباع الحق أن لا أقول على اللّه إلّا الحق... 508

من هدي السنّة المطهّرة... 508

من أهم ما يجب أن يدعو إليه خطيب المنبر الحسيني... 508

التمسك أكثر بالاسلام... 508

العمل للآخرة... 508

الالتزام بمكارم الأخلاق... 509

اتّباع الحق والقول بالحق والعمل بالحق... 509

مع المبلّغين

المُبَلِّغ المُسْلِم... 512

الصِّفات التي يجب توفّرها في المُبلّغ المسلم... 515

أولاً... 516

ثانياً... 517

ثالثاً... 517

مِن مَهام المُبَلِّغين... 518

الإكتفاء الذّاتي... 519

الحريّة ورسالة المُبَلِّغ... 520

الأنبياء والدعوة إلى الحريّة... 522

اليَهود ومُعْجِزَة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)... 524

عاشوراء درسُ البطولة... 526

من هدي القرآن الحكيم... 528

مِن صِفات المُبَلِّغ... 528

الإيمان مع العَمل... 528

الإخلاص... 529

الأخلاق الحسنة... 529

ص: 559

من هدي السنّة المطهّرة... 530

من صفات المبلّغ... 530

الإيمان مع العمل... 530

الإخلاص... 531

الأخلاق الحسنة... 531

الإنسان جسدٌ وروح

النفس وقواها... 533

حفظ التوازن... 535

آفة النفس... 537

القلب السليم... 539

فهرس المحتويات... 541

ص: 560

المجلد 2

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 2/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

-----------------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

-----------------

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الأوّل): 6-204539-964-978

-----------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

الأخلاق المثالية

الإنسان الحقيقي

أفضل نموذج للإنسان الحقيقي الجامع لجميع صفات الخير هو الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد وصفه الباري عزّ وجلّ في كتابه بأخلاقه المثالية حيث قال تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

فقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ} أي يا محمد {لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} الخُلُق بضمتين: السجية والطبع والدين والأخلاق الحسنة والمروءة.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما يوضع في ميزان امرئ يومَ القيامة أفضل من حسن الخلق»(3).

وفي الحديث الشريف: «أكثر ما يُدخل الناسَ الجنةَ تقوى اللّه وحسن الخلق، وخير ما أعطي الإنسان الخلق الحسن، وخير الزاد ما صحبه التقوى، وخير القول ما صدقه الفعل»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»(5).

ص: 5


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- بحار الأنوار 67: 372.
3- الكافي 2: 99.
4- إرشاد القلوب 1: 194.
5- الكافي 2: 99.

وقيل: {خُلُقٍ عَظِيمٖ} أي على دين عظيم وهو الإسلام.

وقيل: هو أدب القرآن.

وقالوا: كان خُلُق النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما تضمنه العشر الأُول من سورة (المؤمنون)(1).

وقالوا: الخُلُق المرور في الفعل على عادة، والخُلُق الكريم الصبر على الحق وسعة البذل، وتدبير الأمور على مقتضى العقل، وفي ذلك الرفق والأناة والحلم والمداراة، ومن وصفه اللّه بأنه على خُلُق عظيم، فليس وراء مدحه مدح.

وقيل: وإنك لعلى خُلُق عظيم بحكم القرآن، وكل ذلك عطف على جواب القسم(2).

وذكر أيضاً في معناها: إنك متخلق بأخلاق الإسلام، وعلى طبع كريم، وحقيقة الخُلُق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب. وإنما سمي خُلُقاً، لأنه يصير كالخلقة فيه. فأما ما طبع عليه من الآداب، فإنه الخيم(3). فالخُلُق هو الطبع المكتسب. والخيم: هو الطبع الغريزي.

وقيل: الخُلُق العظيم: الصبر على الحق، وسعة البذل، وتدبير الأمور على مقتضى العقل بالصلاح، والرفق، والمداراة، وتحمل المكاره في الدعاء إلى اللّه سبحانه، والتجاوز، والعفو، وبذل الجهد في نصرة المؤمنين، وترك الحسد، والحرص، ونحو ذلك.

ص: 6


1- {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَٰفِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.
2- راجع التبيان في تفسير القرآن 10: 75 سورة القلم.
3- الخِيم: الشيمة والطبيعة والخلق والسجية. وقيل: بالكسر الخلق، وقيل: سعة الخلق، وقيل: الأصل فارسي معرب لا واحد له من لفظه. لسان العرب 2: 194، مادة: خيم.

وقيل: سمي خُلُقه عظيماً؛ لأنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عاشر الخلق بخلقه، وزايلهم بقلبه، فكان ظاهره مع الخَلق، وباطنه مع الحق.

وقيل: لأنه امتثل تأديب اللّه سبحانه إياه بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(1).

وقيل: سمي خُلُقه عظيماً، لاجتماع مكارم الأخلاق فيه.

ويعضده ما سبق من قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(2).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أدبني ربي فأحسن تأديبي»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار»(5).

وعن الرضا علي بن موسى(عليهما السلام) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «عليكم بحسن الخلق، فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق فإن سوء الخلق في النار لا محالة»(6).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «أحبكم إلى اللّه أحسنكم أخلاقاً، الموطأون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون. وأبغضكم إلى اللّه المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، الملتمسون للبراء العثرات»(7).

ص: 7


1- سورة الأعراف: 199.
2- بحار الأنوار 67: 372.
3- عيون أخبار الرضا 2: 37.
4- بحار الأنوار 16: 210.
5- بحار الأنوار 68: 382.
6- عيون أخبار الرضا 2: 31.
7- تفسير مجمع البيان 10: 87.

من مصاديق الخلق العظيم

اشارة

إن هناك أخلاقيات مهمة يلزم على كل مسلم أن يتحلى بها، لكي يكون قد تأسى بصاحب الخُلُق العظيم وهو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، من تلك الصفات: التقوى، وحسن الأخلاق، وخدمة الناس؛ فإن هذه الأخلاقيات هي سُلّم وصول الإنسان إلى مراتب السمو والكمال، فيكون إنساناً حقيقياً، وهذه الأمور هي التي تميز الإنسان عن الحيوان، فإن تعمد تركها واتبع الشهوات انحط إلى مرتبة الحيوان، بل كان أضل سبيلاً كما يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(1).

إن للإنسان والحيوان جهة اشتراك هي: أن كليهما جسمٌ نامٍ حساسٌ متحركٌ بالإرادة، حسب تعبير علماء المنطق، وكليهما يشغل حيزاً في الفراغ(2)، كما يعبّر بعض الطبيعيين، ولكن الفرق بينهما أن الإنسان عاقل ناطق، يمكنه أن يختار الأعمال الصالحة التي دلّه عليها العقل، أو أرشده إليها الشارع(3)، وعرّفه بحسنها، كالتقوى والأخلاق والصدق والأمانة وخدمة الناس وغيرها، ويترك الأعمال القبيحة والمضرة، والتي نهاه عنها العقل والشارع، كشرب الخمر ولعب القمار والكذب والغيبة وغيرها. فلنكن أناساً حقيقيين بمعنى الكلمة، وهذا الأمر يستلزم منّا أن نجتهد ونعمل بجميع ما أمرنا به الشارع، ونتجنب عن جميع ما نهانا عنه.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ذللوا أنفسكم بترك العادات، وقودها إلى فعل الطاعات، وحمّلوها أعباء المغارم، وحلّوها بفعل المكارم، وصونوها دنس

ص: 8


1- سورة الفرقان، الآية: 44.
2- هذه عبارة ثانية عن الجسم حيث إنه المتحيز كما ذكروا.
3- بخلاف الحيوان حيث إن أفعاله ناشئة من غرائزه التي أودعها اللّه فيه.

المآثم»(1).

وقال(عليه السلام): «بغلبة العادات الوصول إلى أشرف المقامات»(2).

التقوى قوام الأخلاق

قال سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(3).

قوله عزّ وجلّ: {أَتْقَىٰكُمْ} يعني أكثركم تقوىً، فمن أراد الرفعة عند اللّه فليجدّ في أن يكون أكثر تقوى من الآخرين، وكل ما زاد الإنسان تقوى زاد كفاءة. منتهى الأمر أن الكفاءة عند أهل الدنيا عبارة عن الكفاءات الدنيوية فقط، وعند اللّه هي الكفاءات المعنوية والروحية، مضافاً إلى الدنيوية، لأن الإسلام دنيا وآخرة.

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} أي بكل أموركم {خَبِيرٌ} والخبير فوق العليم، لأنه عبارة عن العلم والتجربة، فالذي تعلّم الطب ولم يجرّب لا يسمى خبيراً، بخلاف ما إذا جرب، والمراد به في اللّه سبحانه أنه في غاية العلم والإدراك، فمن أطاعه علم ذلك وجزاه، ومن عصاه علم ذلك وأخزاه(4).

والتقوى(5) هي وقاية النفس وصيانتها من الرذائل والمعاصي، وهي من أهم

ص: 9


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 372.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 302.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.
4- تفسير تقريب القرآن 5: 209.
5- الاتقاء: الامتناع من الردى باجتناب ما يدعو إليه الهوى، والتقوى فعلى كنجوى، والأصل فيه (وقوى) من وقيته: منعته، قلبت الواو تاء وكذلك تقاة والأصل وقاة. للتفصيل انظر: مجمع البحرين 1: 448 مادة: وقا.

مقومات الأخلاق المثالية، ومن الفضائل النفسية التي تسمو بالإنسان إلى مراتبالعلو والكمال وإلى مراتب القرب من اللّه تعالى، فالتقوى لا تزيد الإنسان طولاً أو عرضاً، أو ما إلى ذلك من الأبعاد الجسمية، وإنما هي جانب معنوي رفيع.

كما أن الإنسان لا يُدعى إنساناً بلحاظ جسمه وصفاته المادية، بل بلحاظ روحه وأبعاده المعنوية من تقوى وأخلاق وغير ذلك.

قال الشاعر:

أقبل على النفس واستكمل فضائلها *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

وهذه الآية الكريمة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1) تشير إلى أن الميزان في تفاضل الناس هو التقوى، وإلّا فهم من حيث الخلق سواء.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الناس كأسنان المشط سواء»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المؤمنون كأسنان المشط يتساوون في الحقوق بينهم ويتفاضلون بأعمالهم»(3).

كما تشير الآية إلى أن الإنسان كريم على اللّه تعالى ما دام تقياً، حيث لا ينفعه نسبه أو حسبه.

فعن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر(عليهما السلام) قال: «جلس جماعة من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينتسبون ويفتخرون، وفيهم سلمان(رحمه اللّه)، فقال له عمر: ما نسبتك أنت يا سلمان؟ وما أصلك؟

ص: 10


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 379.
3- مستدرك الوسائل 8: 327.

فقال: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت عائلاًفأغناني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فهذا حسبي ونسبي يا عمر!

ثم خرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فذكر له سلمان ما قال عمر، وما أجابه.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا معشر قريش، إن حسب المرء دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(1) ثم أقبل على سلمان(رحمه اللّه) فقال له: يا سلمان، إنه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلّا بتقوى اللّه، فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه»(2).

وقول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذه الرواية لا يدع مجالاً للشك بأن الناس سواسية، وليس هناك ميزان فاضل فيما بينهم إلّا التقوى، فلا تمايز في نظر الإسلام على أساس اللون، كسواد البشرة أو بياضها، ولا الغنى أو الفقر، ولا الطول أو العرض، ولا العروبة أو العجمة، ولا غيرها من الفوارق المادية.

وقد قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ}(3) والحكمة في الاختلاف في اللون والطول والألسن، إنما هي للتعارف وللدلالة على خلق اللّه تعالى، حيث قال عزّ وجلّ: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ}(4).

ص: 11


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الأمالي، للشيخ الطوسي: 147.
3- سورة النساء، الآية: 1.
4- سورة الروم، الآية: 22.

الشيعة والأخلاق المثالية

اشارة

من صفات شيعة أهل البيت(عليهم السلام) حسن أخلاقهم وشدة ورعهم وتقواهم.

فإن كلمة الشيعة مأخوذة من (المشايعة) بمعنى المتابعة، وهم شيعة أمير المؤمنين علي(عليه السلام) وأولاده المعصومين(عليهم السلام) فيلزم عليهم أن يتبعوهم في أخلاقهم المثالية.

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن شيعة علي(عليه السلام) كانوا خمص البطون، ذُبُل الشفاه، أهل رأفة وعلم وحلم، يعرفون بالرهبانية، فأعينونا على ما أنتم عليه بالورع والاجتهاد»(1).

وعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «إن أصحاب علي(عليه السلام) كانوا المنظور إليهم في القبائل وكانوا أصحاب الودائع، مرضيين عند الناس، سهار الليل، مصابيح النهار»(2).

وعن ربيعة بن ناجد قال: سمعت عليا(عليه السلام) يقول: «إنما مثل شيعتنا مثل النحلة في الطير، ليس شيء من الطير إلّا وهو يستضعفها، فلو أن الطير تعلم ما في أجوافها من البركة لم تفعل بها ذلك»(3).

وعن أبي بصير، قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إياك والسفلة من الناس» قلت: جعلت فداك وما السفلة؟ قال: «من لا يخاف اللّه! إنما شيعة جعفر من عف بطنه وفرجه وعمل لخالقه، وإذا رأيت أولئك فهم أصحاب جعفر»(4).

وعن مهزم قال: دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فذكرت الشيعة! فقال: «يا

ص: 12


1- الكافي 2: 233.
2- مشكاة الأنوار: 63.
3- مشكاة الأنوار: 63.
4- مشكاة الأنوار: 63.

مهزم إنما الشيعة من لا يعدو سمعه صوته، ولا شحنه بدنه، ولا يحب لنامبغضاً، ولا يبغض لنا محباً، ولا يجالس لنا غالياً، ولا يهر هرير الكلب، ولا يطمع طمع الغراب، ولا يسأل الناس وإن مات جوعاً، المتنحي عن الناس الخفي عليهم، وإن اختلفت بهم الدار لم تختلف أقاويلهم، إن غابوا لم يفقدوا، وإن حضروا لم يؤبه بهم، وإن خطبوا لم يزوجوا، يخرجون من الدنيا وحوائجهم في صدورهم، إن لقوا مؤمناً أكرموه، وإن لقوا كافراً هجروه، وإن أتاهم ذو حاجة رحموه، وفي أموالهم يتواسون». ثم قال: «يا مهزم قال جدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي رضوان اللّه عليه: يا علي كذب من زعم أنه يحبني ولايحبك، أنا المدينة وأنت الباب ومن أين تؤتى المدينة إلّا من بابها»(1).

وعن ميسرة قال:قال أبو جعفر(عليه السلام): «يا ميسر ألا أخبرك بشيعتنا؟» قلت: بلى جعلت فداك، قال: «إنهم حصون حصينة في صدور أمينة، وأحلام رزينة، ليسوا بالمذاييع البذر، ولا بالجفاة المراءين، رهبان بالليل، أُسد بالنهار»(2).

والبذر: القوم الذين لا يكتمون الكلام.

إن كلمة الشيعة تعنى الأتباع، وقد أطلقت في القرآن الكريم على أتباع نوح(عليه السلام) حيث قال تعالى: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَٰهِيمَ}(3).

وأطلقها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أتباع الإمام علي(عليه السلام) وسماهم بهذا الاسم، كما رواه المؤرخون والمحدثون شيعة وسنة في كتبهم، أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «يا

ص: 13


1- مشكاة الأنوار: 61.
2- مشكاة الأنوار: 62.
3- سورة الصافات، الآية: 83.

علي، أنت وشيعتك الفائزون»(1).

فكان أتباع الإمام علي(عليه السلام) يعرفون بهذا الاسم منذ أيام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أول من أطلق عليهم هذا الاسم. وحيث إن كلام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحي من اللّه تعالى إذ قال سبحانه في القرآن الحكيم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(2) فتسمية الشيعة بهذا الاسم إنما هو وحي من اللّه تعالى. و(الشيعة) هم المسلمون الذين شايعوا واتبعوا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأولاده الطاهرين(عليهم السلام) بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إتباعاً للرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال قبل وفاته: «إني يوشك أن أدعى فأجيب، وإني تاركٌ فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا من بعدي أبداً، كتاب اللّه وعترتي أهل

ص: 14


1- (الشيعة) في اللغة: هم الأتباع والأنصار، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، وهو من المشايعة والمتابعة، وفي العرف العام أصبح التشيع علماً على من تولى علياً(عليه السلام) وبنيه(عليهم السلام) وأقر بإمامتهم. والتشيع في أصل اللغة هو الإتباع على وجه التدين في الولاء للمتبوع، قال تعالى: {فَاسْتَغَٰثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} سورة القصص، الآية: 15. وقال تعالى: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَٰهِيمَ} سورة الصافات، الآية: 83. فالتشيع يضمن في معناه الإتباع والنصرة من جماعة لرجل عموماً، ولكن كلمة (شيعة) مجردة لا تعني العموم، وإنما تنصرف في دلالة خاصة إلى الجماعة التي ناصرت علياً(عليه السلام) وشايعته، وألتفت حوله وأقرت بإمامته، تقتدي به وتجعل له مقاماً يسمو على مقام معاصريه من الصحابة. قال أبو الحسن الأشعري: إنما قيل لهم: الشيعة، لأنهم شايعوا علياً(عليه السلام) ويقدمونه على سائر أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وذكر ابن حزم الأندلسي: أن من وافق الشيعة في أن علياً(عليه السلام) أفضل الناس بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو شيعي. قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مشيراً إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام): «والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة» راجع تاريخ مدينة دمشق 42: 371؛ شواهد التنزيل 2: 467؛ الدر المنثور 6: 379. أما ما ورد في مصادر الشيعة فكثير، انظر: الإرشاد 1: 41 وكشف الغمة 1: 53.
2- سورة النجم، الآية: 3-4.

بيتي»(1).وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علي مع الحق والحق مع علي»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب، فإنّه أوّل من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو معي في السماء الأعلى، وهو الفاروق بين الحق والباطل»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سيكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب فإنه الفاروق بين الحق والباطل»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تكون بين الناس فرقة واختلاف فيكون هذا - يعني عليّاً(عليه السلام) - وأصحابه على الحق»(5).

وتسمى الشيعة ب(الإمامية) أيضاً، لأنهم يعتقدون بإمامة علي أمير المؤمنين وأولاده الأحد عشر(عليهم السلام). وتسمى ب- (الجعفرية) لاتباعهم في الحلال والحرام أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، حيث إنهم(عليهم السلام) أعلم بكتاب اللّه، وأدرى بما قاله رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وسادسهم الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) الذي تمكّن من نشر العلوم الإسلامية أصولاً وفروعاً وآداباً وأخلاقاً باستيعاب وشمول أكثر، بما لم تسمح الظروف لسائر الأئمة(عليهم السلام) بهذا القدر من النشر، والشيعة أخذوا منه(عليه السلام) أكثر معالم الدين، ولذا نُسبوا إليه، وأما سائر الأئمة(عليهم السلام) فلم تتاح لهم الفرصة بذلك المقدار، فكانوا يلاقون الاضطراب، كما في زمان أمير المؤمنين علي

ص: 15


1- صحيح مسلم 7: 123؛ تاريخ مدينة دمشق 69: 240.
2- تاريخ مدينة دمشق 42: 449؛ المعيار والموازنة: 119؛ شرح نهج البلاغة 2: 297.
3- تاريخ مدينة دمشق 42: 450.
4- أسد الغابة 5: 287؛ المناقب للخوارزمي: 105.
5- حديث الثقلين: 1؛ المعجم الكبير 19: 147.

والحسن والحسين(عليهم السلام)، أو الكبت والإرهاب على أيدي الحكام الأمويين والعباسيين، لكنالإمام الصادق(عليه السلام) عاصر فترة أفول دولة بني أمية وظهور دولة بني العباس، حيث اغتنم الفرصة لنشر حقائق الإسلام بصورة واسعة.

كما تسمى الشيعة ب(الإثني عشرية) لأنهم يعتقدون بإمامة الأئمة الإثني عشر(عليهم السلام)، وقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الخلفاء بعدي اثنا عشر»(1).

فالشيعة هم الصيغة العملية للإسلام كما طرحه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام)(2).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي بشّر شيعتك وأنصارك بخصال عشر: أولها طيب المولد، وثانيها حسن إيمانهم باللّه، وثالثها حب اللّه عزّ وجلّ لهم، ورابعها الفسحة في قبورهم، وخامسها النور على الصراط بين أعينهم، وسادسها نزع الفقر من بين أعينهم وغنى قلوبهم، وسابعها المقت من اللّه عزّ وجلّ لأعدائهم، وثامنها الأمن من الجذام والبرص والجنون، يا علي وتاسعها انحطاط الذنوب والسيئات عنهم، وعاشرها هم معي في الجنة وأنا معهم»(3).

من صفات الشيعة

أما ما يلزم أن يتصف به الشيعة ويكونوا عليه، فقد بينته الروايات الشريفة في هذا الشأن، ففي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال لأحد أصحابه واسمه جابر(4):

«يا جابر، أيكتفي من انتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت. فو اللّه، ما شيعتنا

ص: 16


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 310.
2- للتفصيل راجع كتاب الشيعة والتشيع للإمام الراحل(رحمه اللّه). وكتاب (الشيعة في القرآن) لسماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازيK.
3- الخصال 2: 430.
4- جابر بن يزيد الجعفي.

إلّا من اتقى اللّه وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والأمانة، وكثرة ذكر اللّه والصوم والصلاة، والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة، والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء».

قال جابر: فقلت: يا ابن رسول اللّه، ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة؟

فقال: «يا جابر لا تذهبن بك المذاهب، حَسْب الرجل أن يقول: أحب علياً وأتولاه، ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إني أحب رسول اللّه فرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير من علي(عليه السلام)، ثم لا يتبع سيرته ولايعمل بسنته، ما نفعه حبه إياه شيئاً. فاتقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى اللّه عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، واللّه ما يتقرب إلى اللّه تبارك وتعالى إلّا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على اللّه لأحد من حجة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عليك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وحسن الخلق وحسن الجوار، وكونوا دعاةً إلى أنفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، وعليكم بطول الركوع والسجود؛ فإن أحدكم إذا أطال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه وقال: يا ويله أطاع وعصيت، وسجد وأبيت»(2).

وعن علي بن أبي زيد عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد اللّه(عليه السلام) فدخل عيسى

ص: 17


1- الكافي 2: 74.
2- الكافي 2: 77.

بن عبد اللّه القمي، فرحب به وقرب من مجلسه، ثم قال: «يا عيسى بن عبد اللّه،ليس منا ولا كرامة، من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون، وكان في ذلك المصر أحدٌ أورع منه!»(1).

وعن عمرو بن سعيد بن هلال الثقفي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال، قلت له: إني لا ألقاك إلّا في السنين فأخبرني بشيءٍ آخذ به، فقال: «أوصيك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد، واعلم أنه لا ينفع اجتهادٌ لا ورع فيه»(2).

وقال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «أعينونا بالورع؛ فإنه من لقي اللّه عزّ وجلّ منكم بالورع كان له عند اللّه فرجاً، وإن اللّه عزّ وجلّ يقول: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّۧنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا}(3) فمنا النبي ومنا الصديق والشهداء والصالحون»(4).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «إنا لا نعد الرجل مؤمناً حتى يكون لجميع أمرنا متبعاً مريداً، ألا وإن من اتباع أمرنا وإرادته الورع، فتزينوا به يرحمكم اللّه، وكبِّدوا أعداءنا به ينعشكم اللّه»(5).

وعن أبي الحسن الأول موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال: «كثيراً ما كنت أسمع أبي(عليه السلام) يقول: ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن، وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم من خلق اللّه أورع منه»(6).

ص: 18


1- الكافي 2: 78.
2- الكافي 2: 76.
3- سورة النساء، الآية: 69.
4- الكافي 2: 78.
5- الكافي 2: 78.
6- الكافي 2: 79.

وعن جابر الجعفي قال: تقبضت(1) بين يدي أبي جعفر(عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، ربما حزنت من غير مصيبة تصيبني، أو أمر ينزل بي حتى يعرف ذلك أهلي في وجهي وصديقي؟!

فقال: «نعم يا جابر، إن اللّه عزّ وجلّ خلق المؤمنين من طينة الجنان وأجرى فيهم من ريح روحه؛ فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، فإذا أصاب روحاً من تلك الأرواح في بلد من البلدان حزنٌ حزنت هذه لأنها منها»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله، لايخونه ولا يظلمه ولا يغشُّه، ولا يعده عدةً فيخلفه»(3).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية»(4).

وعن أبي الحسن الماضي(عليه السلام): «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد اللّه، وإن عمل سيئاً استغفر اللّه منه وتاب إليه»(5).

وعن أبي الربيع الشامي قال: دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) والبيت غاص بأهله فيه الخراساني، والشامي، ومن أهل الآفاق، فلم أجد موضعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبد اللّه(عليه السلام) وكان متكئاً ثم قال: «يا شيعة آل محمد اعلموا، أنه ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يحسن صحبة من صحبه، ومخالقة من خالقه، ومرافقة من رافقه، ومجاورة من جاوره، وممالحة من مالحه. يا شيعة

ص: 19


1- تقبضت: التقبض ظهور أثر الحزن، ضد الإنبساط.
2- الكافي: ج2 ص166 باب أخوة المسلمين بعضهم لبعض ح2.
3- الكافي 2: 166.
4- الكافي 2: 78.
5- الكافي 2: 453.

آل محمد،اتقوا اللّه ما استطعتم، ولا حول ولا قوة إلا باللّه»(1).

وقال أبو جعفر الباقر(عليهما السلام): «عظموا أصحابكم ووقروهم ولايتهجم بعضكم على بعض، ولا تضاروا ولا تحاسدوا، وإياكم والبخل، كونوا عباد اللّه المخلصين الصالحين»(2).

من آداب الشيعة

عن أبي الحسن(عليه السلام): «إن للحق أهلا وللباطل أهلا، فأهل الحق في شُغُل عن أهل الباطل، ينتظرون أمرنا ويرغبون إلى اللّه إن يروا دولتنا، ليسوا بالبذر المذيعين ولا بالجفاة المراءين، ولا بنا مستأكلين ولا بالطّمِعين، خيار الأمة نور في ظلمات الأرض ونور في ظلمات الفتن ونور هدى يستضاء بهم، لا يمنعون الخير أولياءهم، ولا يطمع فيهم أعداؤهم، إن ذُكرنا بالخير استبشروا وابتهجوا واطمأنت قلوبهم وأضاءت وجوههم، وإن ذُكرنا بالقبح اشمأزت قلوبهم واقشعرت جلودهم وكلحت وجوههم وأبدوا نصرتهم وبدا ضمير أفئدتهم، قد شمروا فاحتذوا بحذونا، وعملوا بأمرنا، تعرف الرهبانية في وجوههم، يصبحون في غير ما الناس فيه، ويمسون في غير ما الناس فيه، يجأرون إلى اللّه في إصلاح الأمة بنا، وأن يبعثنا اللّه رحمة للضعفاء والعامة، يا عبد اللّه أولئك شيعتنا وأولئك منا وأولئك حزبنا وأولئك أهل ولايتنا»(3).

وقال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): «إن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث وأدى الأمانة وحَسَّن خُلُقَه مع الناس قيل هذا جعفري، فيسرني ذلك،

ص: 20


1- الكافي 2: 637.
2- الكافي 2: 637.
3- مشكاة الأنوار: 63.

وقالوا هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، واللّه لقد حدثني أبي(عليه السلام) أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي رضوان اللّه عليه فكان أقضاهم للحقوق وأداهم للأمانة وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، يسأل عنه فيقال من مثل فلان، فاتقوا اللّه وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جُرّوا إلينا كل مودة وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل لنا فما نحن كذلك، لنا حق في كتاب اللّه وقرابة من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتطهير من اللّه وولادة طيبة لا يدعيها أحد غيرنا إلّا كذاب، أكثروا ذكر اللّه وذكر الموت وتلاوة القرآن والصلاة على النبي، فإن الصلاة عليه عشر حسنات، خذ بما أوصيتك به وأستودعك اللّه»(1).

وعن إسماعيل بن عمار قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أوصيك بتقوى اللّه والورع وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الجوار وكثرة السجود، فبذلك أمرنا محمد»(2).

وعن عمرو بن سعيد بن هلال قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام) جعلت فداك إني لا أكاد أن ألقاك إلّا في السنين فأوصني بشيء آخذ به، قال: «أوصيك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد، واعلم أنه لم ينفع ورع إلا بالاجتهاد، وإياك أن تطمع نفسك إلى من فوقك، وكثيراً ما قال اللّه جلّ ثناؤه لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُمْ}(3)، وقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(4)، فإن داخلك شيء فاذكر عيش رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما كان قوته الشعير وحلاوته التمر ووقوده السعف، وإذا أصبت بمصيبة في نفسك فاذكر مصابك

ص: 21


1- مشكاة الأنوار: 64.
2- مشكاة الأنوار: 66.
3- سورة التوبة، الآية: 55.
4- سورة طه، الآية: 131.

برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن الخلائق لم يصابوا بمثله قط»(1).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «يا معشر شيعة آل محمد عليه وعليهم السلام كونوا النمرقة الوسطى، إليكم يرجع الغالي، وبكم يلحق التالي»، فقال رجل: جعلت فداك وما الغالي؟ قال: «قوم يقولون فينا ما لانقوله في أنفسنا، فليس أولئك منا ولسنا منهم» قال: فما التالي؟ قال: «المرتاد يريد الخير يبلغه الخير ويؤجر عليه، ثم أقبل علينا فقال: «واللّه ما معنا من اللّه براءة وما بيننا وبين اللّه قرابة ولا لنا على اللّه حجة ولا يتقرب إلى اللّه إلّا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً نفعته ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لم تنفعه ولايتنا»(2).

وعن عمر بن أبان قال سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «يا معشر الشيعة إنكم قد نُسبتم إلينا، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، ما يمنعكم أن تكونوا مثل أصحاب علي رضوان اللّه عليه في الناس؟! إن كان الرجل منهم ليكون في القبيلة فيكون إمامهم ومؤذنهم وصاحب أماناتهم وودائعهم»(3).

وعن علي بن يقطين قال: قال أبو الحسن موسى(عليه السلام):

«مر أصحابك أن يكفوا من ألسنتهم ويدعوا الخصومة في الدين ويجتهدوا في عبادة اللّه، وإذا قام أحدهم في صلاة فريضة فليحسن صلاته وليتم ركوعه وسجوده ولا يشغل قلبه بشيء من أمور الدنيا، فإني سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول:

إن ملك الموت يتصفح وجوه المؤمنين من عند حضور الصلوات المفروضات»(4).

ص: 22


1- مشكاة الأنوار: 66.
2- مشكاة الأنوار: 66.
3- مشكاة الأنوار: 67.
4- مشكاة الأنوار: 68.

وعن الكاظم عن أبيه عن جده(عليهم السلام) قال: «إن أبي علي بن الحسين(عليهما السلام) أخذ بيدي وقال: يا بني افعل الخير إلى كل من طلبه منك، فإن كان أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحول إلى يسارك فاعتذر إليك فاقبل منه»(1).

وعن جعفر بن كليب قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اتقوا اللّه وتحابوا وتزاوروا وتواصلوا وتراحموا وكونوا إخواناً بررة»(2).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنا زعيم ببيت في الجنة لمن حسن خلقه مع الناس، وترك الكذب في المزاح والجد، وترك المراء وهو محق»(3).

وعن أبي إبراهيم(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسن الخلق يثبت المودة، وحسن البشر يذهب السخيمة، واستنزلوا الرزق بالصدقة، ومن أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة، وإياك أن تمنع حقا فتنفق في باطل مثليه»(4).

وعن علي بن زيد عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ليس من شيعتنا من كان في مصر فيه مائة ألف وكان في المصر أورع منه»(5).

وعن أبي الصامت عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «مررت أنا وأبو جعفر(عليه السلام) على الشيعة وهم ما بين القبر والمنبر، فقلت لأبي جعفر(عليه السلام): شيعتك مواليك جعلني اللّه فداك، قال: أين تراهم؟ فقلت: أراهم ما بين القبر والمنبر، فقال: اذهب بي

ص: 23


1- الكافي 8: 152.
2- مشكاة الأنوار: 70.
3- مشكاة الأنوار: 70.
4- مشكاة الأنوار: 70.
5- السرائر 3: 639.

إليهم، فذهب فسلم عليهم ثم قال: إني لأحب ريحكم وأرواحكم، فأعينوا معهذا بورع واجتهاد، إنه لا ينال ما عند اللّه إلّا بورع واجتهاد، وإذا ائتممتم بعدٍ فاقتدوا به، أما واللّه إنكم لعلى ديني ودين آبائي إبراهيم وإسماعيل ...»(1).

وعن محمد بن عمر بن حنظلة قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ليس من شيعتنا من قال بلسانه وخالفنا في أعمالنا وآثارنا ولم يعمل بأعمالنا، ولكن شيعتنا من وافقنا بلسانه وقلبه واتبع آثارنا وعمل بأعمالنا، أولئك شيعتنا»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مثل المؤمن عند اللّه كمثل ملك مقرب، وإن المؤمن عند اللّه أعظم من ذلك، وليس شيء أحب إلى اللّه من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة»(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدونا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها»(4).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «إنما شيعة علي(عليه السلام) الشاحبون الناحلون الذابلون، ذابلة شفاههم، خميصة بطونهم، متغيرة ألوانهم، مصفرة وجوههم، إذا جنَّهم الليل اتخذوا الأرض فراشاً، واستقبلوا الأرض بجباههم، كثير سجودهم، كثيرة دموعهم، كثير دعاؤهم، كثير بكاؤهم، يفرح الناس وهم يحزنون»(5).

وقال الباقر(عليه السلام): «سُئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن خيار العباد؟ فقال: الذين إذا

ص: 24


1- الكافي 8: 240.
2- السرائر 3: 639.
3- عيون أخبار الرضا 2: 29.
4- الخصال 1: 103.
5- الخصال 2: 444.

أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا، وإذا أعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذاغضبوا غفروا»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجمّاتِها(2)

على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنه قضي فانقضى على لسان النبي الأمي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: يا علي لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق»(3).

وقال علي بن الحسين(عليهما السلام): «إذا قام قائمنا أذهب اللّه عن شيعتنا العاهة وجعل قلوبهم كزُبَر الحديد وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلاً ويكونون حكام الأرض وسنامها»(4)(5).

وقال الباقر(عليه السلام): «ما من عبد من شيعتنا يقوم إلى الصلاة إلا اكتنفته بعدد من خالفه ملائكة يصلون خلفه يدعون اللّه حتى يفرغ من صلاته»(6).

وقال الإمام الصادق عن آبائه(عليهم السلام) قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أحبنا أهل البيت فليحمد اللّه على أول النعم، قيل: وما أول النعم؟ قال: طيب الولادة، ولا يحبنا إلّا من طابت ولادته»(7).

وقال الباقر(عليه السلام): «من أصبح يجد برد حبنا على قلبه فليحمد اللّه على بادئ

ص: 25


1- الكافي 2: 240.
2- الجمّات: جمع جَمّة بفتح الجيم، وهو من السفينة مجتمع الماء المترشح من ألواحها والمراد لو كفأت عليهم الدنيا بجليلها وحقيرها.
3- نهج البلاغة: الحكم، الرقم 45.
4- سنام كل شيء: أعلاه.
5- الخصال 2: 541.
6- من لا يحضره الفقيه 1: 209.
7- الأمالي للشيخ الصدوق: 475.

النعم» قيل: وما بادئ النعم؟ قال: «طيب المولد»(1).

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتلا هذه الآية: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(2) ثم التفت إليه فقال: «يا ابن أم سليم ترى فيمن أنزلت هذه الآية؟ فينا وفي شيعتنا»، قلت: ومن يدعي الإسلام ليس من شيعتكم؟، قال: «نعم تباعدهم من الإسلام عداوتهم لأهل بيتي وتقربهم من اليهودية والنصرانية»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من رزقه اللّه حب الأئمة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة فلا يشكن أنه في الجنة، وإن في حب أهل بيتي عشرين خصلة، عشر منها في الدنيا، وعشر في الآخرة، أما في الدنيا: فالزهد والحرص على العلم والورع في الدين والرغبة في العبادة والتوبة قبل الموت والنشاط في قيام الليل واليأس مما في أيدي الناس والحفظ لأمر اللّه عزّ وجلّ ونهيه والتاسعة بغض الدنيا والعاشرة السخاء، وأما في الآخرة: فلا ينشر له ديوان ولا ينصب له ميزان، ويُعطى كتابه بيمينه ويكتب له براءة من النار ويبيض وجهه ويُكسى من حلل الجنة ويشفع في مائة من أهل بيته وينظر اللّه عزّ وجلّ إليه بالرحمة ويتوج من تيجان الجنة والعاشرة يدخل الجنة بغير حساب فطوبى لمحبي أهل بيتي»(4).

وعن أبي الصامت الخولاني قال: قال أبو جعفر(عليه السلام): «يا أبا الصامت إن اللّه خلق شيعتنا من طينة مخزونة لا يزيد فيهم واحد ولا ينقص منهم واحد إلى يوم

ص: 26


1- معاني الأخبار: 161.
2- سورة الرعد، الآية: 28.
3- مشكاة الأنوار: 91.
4- مشكاة الأنوار: 81.

القيامة، وإن الرجل من شيعتنا ليمر بالبقعة من بقاع الأرض فيصلي عليها أويمشي عليها فتفتخر تلك البقعة على البقاع التي حولها فتقول مر عليَّ رجل من شيعة آل محمد»(1).

وعن منصور بن عمرو بن الحمق الخزاعي قال: أغمي على أمير المؤمنين(عليه السلام) حين ضربه ابن ملجم لعنه اللّه، فأفاق وهو يقول: «طوبى لهم وطوبى لكم وطوباهم أفضل من طوباكم»، قال: قلت: صدقت يا أمير المؤمنين طوباهم برؤيتك وطوبانا بالجهاد معك وطوبانا بطاعتك، ومن هؤلاء الذين طوباهم أفضل من طوبانا؟ قال(عليه السلام): «أولئك شيعتي الذين يأتون من بعدكم يطيقون ما لا تطيقون ويحملون ما لاتحملون»(2).

الشيعة في يوم القيامة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يخرج أهل ولايتنا يوم القيامة مشرقة وجوههم، قريرة أعينهم، وقد أعطوا الأمان مما يخاف الناس ولا يخافون، ويحزن الناس ولا يحزنون، واللّه ما يشعر أحد منكم يقوم إلى الصلاة إلّا وقد اكتنفته الملائكة يصلون عليه، ويدعون له حتى يفرغ من صلاته، ألا وإن لكل شيء جوهراً وإن جوهر بني آدم محمد ونحن وشيعتنا، يا حبذا شيعتنا ما أقربهم من عرش اللّه وأحسن صنع اللّه إليهم يوم القيامة، واللّه لولا زهوهم لعظم ذلك لَسَلَّمَت عليهم الملائكة قُبُلاً»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه وملائكته وأرواح النبيين يستغفرون للشيعة،

ص: 27


1- مشكاة الأنوار: 91.
2- مشكاة الأنوار: 96.
3- مشكاة الأنوار: 93.

ويصلون عليهم إلى يوم القيامة»(1).

وعن أنس قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب» قال، ثم التفت إلى علي(عليه السلام) فقال: «هم من شيعتك وأنت إمامهم»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن في يمين العرش منابر من نور، عليها رجال وجوههم من نور، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، قال: فقال له عمر بن الخطاب: فمن هؤلاء يا رسول اللّه؟ قال: هم الذين تواصوا في اللّه، وتواخوا في اللّه، وتواصلوا في اللّه، وتحابوا في اللّه، فدخل علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: هم شيعة هذا وأشار إلى علي(عليه السلام)»(3).

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «خرجت أنا وأبي حتّى إذا كنّا بين القبر والمنبر، إذا هو بأناسٍ من الشيعة فسلّم عليهم ثم قال: إني واللّه لأحب رياحكم وأرواحكم، فأعينوني على ذلك بورع واجتهاد، واعلموا أن ولايتنا لا تنال إلّا بالورع والاجتهاد، ومن ائتمّ منكم بعبد فليعمل بعمله، أنتم شيعة اللّه وأنصار اللّه وأنتم السابقون الأولون والسابقون الآخرون، والسابقون في الدنيا(4) والسابقون في الآخرة إلى الجنة، قد ضمنّا لكم الجنة بضمان اللّه عزّ وجلّ وضمان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ... أنتم الطيبون ونساؤكم الطيبات، كل مؤمنة حوراء عيناء(5) وكل مؤمن صديق»(6).

ص: 28


1- مشكاة الأنوار: 94.
2- الإرشاد 1: 42.
3- مشكاة الأنوار: 97.
4- في الأمالي للشيخ الصدوق: 626: «السابقون في الدنيا إلى ولايتنا».
5- أي: في الجنة على صفة الحورية في الحسن والجمال.
6- الكافي 8: 212.

وقال جابر: كنت ذات يوم عند النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ أقبل بوجهه على علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: «ألا أبشرك يا أبا الحسن!» قال: «بلى يا رسول اللّه»، قال: هذا جبرئيل يخبرني عن اللّه جلّ جلاله أنه قد أعطى شيعتك ومحبيك سبع خصال: الرفق عند الموت، والأنس عند الوحشة، والنور عند الظلمة، والأمن عند الفزع، والقسط عند الميزان، والجواز على الصراط، ودخول الجنة قبل الناس نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): «يا علي شيعتك هم الفائزون يوم القيامة، فمن أهان واحداً منهم فقد أهانك، ومن أهانك فقد أهانني، ومن أهانني أدخله اللّه نار جهنم خالداً فيها وبئس المصير، يا علي أنت مني وأنا منك، روحك من روحي، وطينتك من طينتي، وشيعتك خلقوا من فضل طينتنا، فمن أحبهم فقد أحبنا، ومن أبغضهم فقد أبغضنا، ومن عاداهم فقد عادانا، ومن ودّهم فقد ودّنا، يا علي شيعتك مغفور لهم على ما كان فيهم من ذنوب وعيوب، يا علي أنا الشفيع لشيعتك غداً إذا أقمت المقام المحمود، فبشرهم بذلك يا علي، شيعتك شيعة اللّه وأنصارك أنصار اللّه وأولياؤك أولياء اللّه وحزبك حزب اللّه، يا علي سعد من تولاك، وشقي من عاداك، يا علي لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه تبارك و تعالى يبعث أناسا وجوههم من نور، على كراسي من نور، عليهم ثياب من نور، في ظل العرش بمنزلة الأنبياء وليسوا بالأنبياء، وبمنزلة الشهداء وليسوا بالشهداء».

فقال رجل: أنا منهم يا رسول اللّه؟ قال: «لا».

ص: 29


1- الخصال 2: 402.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 16.

قال الآخر: أنا منهم يا رسول اللّه؟ قال: «لا».

قيل: من هم يا رسول اللّه؟ قال: فوضع يده على رأس علي(عليه السلام) وقال: «هذا وشيعته»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تستخفوا بفقراء شيعة علي وعترته من بعده، فإن الرجل منهم ليشفع في مثل ربيعة ومضر»(2).

وعن هذيل السابري قال: قال أبو جعفر(عليه السلام): قال علي(عليه السلام): «أسندني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى صدره ثم قال: يا أخي سمعت قول اللّه {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(3) هم أنت وشيعتك تقدمون علي غراً محجلين ويقدم عدوكم سودا مقمحين، قالها ثلاث مرات»(4).

حب أهل البيت(عليهم السلام) والعمل

من هذه الروايات الشريفة يستفاد أن حب أهل البيت(عليهم السلام) وولايتهم هو الأساس في قبول الأعمال، ولكنه مشروط بالعمل الصالح والتقوى.

قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(5).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «..إن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يقول: لا خير في الدنيا إلّا لأحد رجلين: رجل يزداد فيها كل يوم إحساناً، ورجل يتدارك منيته بالتوبة، وأنى له بالتوبة؟! فو اللّه، أن لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل اللّه عزّ وجلّ منه عملاً إلّا بولايتنا أهل البيت، ألا ومن عرف حقنا أو رجا الثواب بنا،

ص: 30


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 244.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 307.
3- سورة البينة، الآية: 7.
4- مشكاة الأنوار: 91.
5- سورة المائدة، الآية: 27.

ورضي بقوته نصف مدٍّ كل يوم، وما يستر به عورته، وما أكنَّ به رأسه، وهم مع ذلك واللّه خائفون وجلون، ودّوا أنه حظّهم من الدنيا، وكذلك وصفهم اللّه عزّ وجلّ حيث يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}(1) ما الذي أتوا به؟ أتوا واللّه بالطاعة مع المحبة والولاية، وهم في ذلك خائفون أن لا يقبل منهم، وليس واللّه خوفهم خوف شك فيما هم فيه من إصابة الدين؛ ولكنهم خافوا أن يكونوا مقصرين في محبتنا وطاعتنا»(2).

وقال أبو جعفر الباقر(عليهم السلام) في قوله تعالى: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(3) قال: «هم الأئمة(عليهم السلام)»(4).

وروي عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «ليس في الدنيا نعيم حقيقي» فقال له بعض الفقهاء ممن يحضره: فيقول اللّه عزّ وجلّ: {ثُمَّ لَتُسَْٔلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(5)، أما هذا النعيم في الدنيا، وهو الماء البارد؟ فقال له الرضا(عليه السلام) وعلا صوته: «كذا فسرتموه أنتم وجعلتموه على ضروب؟، فقالت طائفة: هو الماء البارد. وقال غيرهم: هو الطعام الطيب. وقال آخرون: هو النوم الطيب!».

قال الرضا(عليه السلام): «ولقد حدثني أبي(عليه السلام) عن أبيه أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): أن أقوالكم هذه ذكرت عنده في قول اللّه تعالى: {ثُمَّ لَتُسَْٔلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} فغضب(عليه السلام) وقال: إن اللّه عزّ وجلّ لا يسأل عباده عمّا تفضل عليهم به، ولا يمن بذلك عليهم؛ والامتنان بالإنعام مستقبح من المخلوقين، فكيف يضاف إلى

ص: 31


1- سورة المؤمنون، الآية: 60.
2- الكافي 8: 128.
3- سورة الشورى، الآية: 23.
4- الكافي 1: 413.
5- سورة التكاثر، الآية: 8.

الخالق عزّ وجلّ مالا يرضى المخلوق به، ولكن النعيم حبنا أهل البيت وموالاتنا، يسأل اللّه عباده عنه بعد التوحيد والنبوة؛ لأن العبد إذا وفى بذلك أداه إلى نعيم الجنة الذي لا يزول...»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «..ومن سرّه أن يعلم أن اللّه يحبه فليعمل بطاعة اللّه وليتبعنا ألم يسمع قول اللّه عزّ وجلّ لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(2) واللّه لا يطيع اللّه عبد أبداً إلّا أدخل اللّه عليه في طاعته اتباعنا، ولا واللّه لا يتبعنا عبد أبداً إلّا أحبه اللّه، ولا واللّه لا يدع أحد اتباعنا أبداً إلّا أبغضنا، ولا واللّه لا يبغضنا أحد أبداً إلّا عصى اللّه، ومن مات عاصياً لله أخزاه اللّه وأكبه على وجهه في النار»(3).

نعم، كما أن حب أهل البيت(عليهم السلام) واجب، ولا يدخل الجنة من يبغضهم، وبحبهم ينال الإنسان الثواب كما في الروايات الكثيرة، إلّا أن ترك العمل بتعاليمهم ووصاياهم يصل بالإنسان إلى عقاب اللّه، بل الأكثر من ذلك أن الإنسان الذي يعرف فضل أهل البيت(عليهم السلام) ويعرف منزلتهم ويحبهم لذلك، وهو لا يمتثل لما يأمرون به، بل يعمل على عكس ذلك فعتابه عند اللّه تعالى أشد، بل إن المحبة الحقيقية التي هي مورد الروايات لا تعني إلّا أن يكون المحب محباً من جميع الجهات، ومنها فعل ما أمره وترك ما نهاه، وقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): «ما أحب اللّه عزّ وجلّ من عصاه» ثم تمثل فقال:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا محال في الفعال بديعل

ص: 32


1- عيون أخبار الرضا 2: 129.
2- سورة آل عمران، الآية: 31.
3- الكافي 8: 14.

لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع(1)

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في إحدى خطبه: «إن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند اللّه ألوم»(2).

فالميزان ليس في تعلم العلم فقط، وإنما المهم في ذلك هو تطبيق العلم الذي تعلمه الإنسان حتى ينتفع بعلمه ويؤجَر ويثاب عليه، وإلّا فيكون ذلك العلم حجة عليه كما يقول الإمام(عليه السلام): «من لم يعمل بالعلم كان حجة عليه ووبالاً»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «قوام الدنيا بأربع: عالم يعمل بعلمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني يجود بماله على الفقراء، وفقير لايبيع آخرته بدنياه، فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنياه»(4).

التقوى والقانون

اشارة

تُنظّم حياة البشر مجموعة من القوانين والنُظُم، وقد اختلف الناس في أصل هذه القوانين أي من وضع القانون الأول في الحياة؟ فاختلفوا إلى مذاهب وآراء كثيرة، لو أردنا ذكرها لطال بنا المقال، فنتوقف هنا على رأي الإلهيين في ذلك، وهو:

أن الواضع الأول للقانون هو اللّه تعالى، بمعنى أن اللّه تعالى عندما خلق الإنسان جعل معه نظاماً لكل شيء، وأنزل له كتباً ودساتير بواسطة أنبيائه(عليهم السلام)

ص: 33


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 489.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 110 من خطبة له(عليه السلام) في أركان الإسلام وفضل القرآن.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 651.
4- عيون الحكم والمواعظ: 370.

تنظم له حياته بما يناسب المستوى الفكري لكل أمة من الأمم، إلى أن وصل الحال إلى زمن نبينا الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فأنزل عليه القرآن العظيم، وفيه الإحاطة التامة الكاملة بكل احتياجات الإنسان إلى قيام الساعة، كما قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖ}(1).

والقانون: هو الضابط المهم للحياة، حيث إنه يضمن الحريات لجميع البشر، كما يضمن تأمين النظام والسلام، وبه تتحقق العدالة بصورة عامة، فالقانون الإسلامي وضع على أساس العدالة والرحمة الربانية، ومضامين هذا القانون تعكس القواعد الأخلاقية التي رعاها الواضع عزّ وجلّ فيها.

وهذا الكلام هو في القانون الإلهي، لأن القانون الوضعي فيه كثيراً من الهفوات والأخطاء، إذ أصبح بيد جماعة من المستفيدين فربما يضعون فقرات القانون حسب أهوائهم، وتماشياً مع مصالحهم، وربما يخطئون في تشخيص المصالح والمفاسد، بخلاف القانون الإلهي فهو بعيد عن الأهواء والمصالح الخاصة والأخطاء، فإنه صادر من اللّه العالم بكل شيء، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(2).

ومن فقرات هذا القانون الإلهي: التقوى، يعني أن يكون الإنسان مرتبطاً باللّه تعالى في كل أعماله، وعن طريق الارتباط باللّه تعالى يحصل الإنسان على الترتيب والتنظيم في دنياه وفي آخرته، فالإنسان المرتبط باللّه - المتقي - تجده سعيداً في الدنيا والآخرة؛ لأن الالتزام بالقوانين الإلهية توجب السعادة في الدنيا والآخرة، حيث إنها شرعت حسب مصالح الإنسان الواقعية، فإذا تابعها كان

ص: 34


1- سورة الكهف، الآية: 54.
2- سورة النجم، الآية: 3-4.

سعيداً، وإلّا فقد خسر في الدنيا والآخرة. قال تبارك وتعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٖ قَدْرًا}(1).

وجاء في رواية عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «اعلموا عباد اللّه، أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم»(2).

فلنكن من المتقين لنفوز في الدنيا والآخرة، ولا ينبغي أن نترك الآخرة للدنيا فإنها فانية، والناس جميعهم سوف يوارون في التراب، وستغلق صحائف أعمالهم، فلا الذين قبلنا خلدوا في الدنيا، ولا نحن الخالدون، ولا من يأتي بعدنا، فالجميع راحلون، كما قال الشاعر:

الموت باب وكل الناس داخله *** فليت شعري بعد الباب ما الدار؟

الدار جنة خلدٍ إن عملت بما *** يرضي الإله وإن قصرت فالنار(3)

لذا علينا أن نتذكر دائماً بأننا نرحل من هذه الدنيا عاجلاً أم آجلاً، وهذا هو ما نص عليه القانون الإلهي في الكون، بأن الحياة فانية، والدار الآخرة هي الباقية، ففي خطبة لإمام المتقين(عليه السلام) قال فيها واصفاً الدنيا: «فإن الدنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازاً، لتزوَّدوا منها الأعمال إلى دار القرار»(4).

فلنتزود بالتقوى لأنها أفضل الأعمال وهي الأساس في الأخلاق المثالية. قال

ص: 35


1- سورة الطلاق، الآية: 2-3.
2- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 27 من عهد له(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر حين قلده مصر.
3- الأبيات للشاعر أبي العتاهية.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 132 من خطبة له(عليه السلام) يعظ فيها ويزهد في الدنيا.

أمير المؤمنين(عليه السلام) عندما سُئل: أي عمل أفضل؟ قال: «التقوى»(1).

ولنتزود بالتقوى، لأنها أفضل زاد في الدنيا والآخرة، كما وصفها إمام المتقين(عليه السلام) حيث قال لما دخل المقابر: «يا أهل التربة، ويا أهل الغربة، أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، وأما الأموال فقد قسمت، فهذا خبر ما عندنا، وليت شعري ما عندكم؟» ثم التفت إلى أصحابه، وقال: «لو أذن لهم في الجواب لقالوا: إن خير الزاد التقوى»(2).

العبادة والتقوى

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن الناس يعبدون اللّه عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء، وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفاً من النار فتلك عبادة العبيد، وهي رهبة، ولكنّي أعبده حباً له عزّ وجلّ، فتلك عبادة الكرام، وهو الأمن لقوله عزّ وجلّ: {وَهُم مِّن فَزَعٖ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ}(3) ولقوله عزّ وجلّ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(4) فمن أحب اللّه أحبه اللّه، ومن أحبه اللّه عزّ وجلّ كان من الآمنين»(5).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «إني أكره أن أعبد اللّه لأغراض لي ولثوابه، فأكون كالعبد الطَّمِع المطيع، إن طمع عمل، وإلّا لم يعمل، وأكره أن أعبده لخوف عقابه؛ فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل»، قيل: فلم تعبده؟ قال: «لما

ص: 36


1- فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام): 119.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 179.
3- سورة النمل، الآية: 89.
4- سورة آل عمران، الآية: 31.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 38.

هو أهله بأياديه عليّ وإنعامه»(1).

وقال الإمام محمد بن علي الباقر(عليهما السلام): «لا يكون العبد عابداً لله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كلهم إليه، فحينئذ يقول: هذا خالص لي، فيقبله بكرمه»(2).

قال تعالى: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ فَاعْبُدُوهُ}(3).

إذاً تنقسم دوافع الناس في عبادتهم لله سبحانه إلى أقسام ثلاثة هي:

أولاً: الخوف، حيث إن بعض الناس يعبدون اللّه خوفاً من عذابه، فإن طبيعة الإنسان يحرص على أن يتجنب الوقوع في المهالك والأخطار، وبما أن اللّه تعالى حذّر الإنسان ووعده بالعذاب في حالة عصيانه، حيث قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}(4) وغيرها في كثير من الآيات والروايات في هذا الجانب، فنلاحظ أغلب الناس يعبدون اللّه تعالى خوفاً من عذابه.

قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ}(5).

وقال تعالى: {يَٰأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَٰنِ وَلِيًّا}(6).

وقال تعالى: {وَيَٰقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ}(7).

ص: 37


1- بحار الأنوار 67: 198.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 328.
3- سورة الأنعام، الآية: 102.
4- سورة آل عمران، الآية: 28.
5- سورة الأنعام، الآية: 15.
6- سورة مريم، الآية: 45.
7- سورة غافر، الآية: 32.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الخوف من اللّه في الدنيا يؤمن الخوف في الآخرةمنه»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «هيهات أن ينجو الظالم من أليم عذاب اللّه وعظيم سطواته»(2).

ثانياً: الطمع، فإن هناك من الناس مَن يعبد اللّه طمعاً في الحصول على الثواب، فكلما فكر فيما وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات، من النعمة والكرامة وحُسن العاقبة ازداد طمعاً، وبالغ في التقوى والتزم بعمل الخير، وترك عمل الشر، وذلك طمعاً في المغفرة والجنة والنعم والأجر الأخروي، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَا}(3). كما تبين ذلك الآيات والروايات كثيرة في هذا الشأن.

قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّٰتِ عَدْنٖ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(4).

وقال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٖ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ}(5).

وقال تعالى: {مُتَّكِِٔينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَٰكِهَةٖ كَثِيرَةٖ وَشَرَابٖ}(6).

ص: 38


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 125.
2- عيون الحكم والمواعظ: 512.
3- سورة الفتح، الآية: 29.
4- سورة التوبة، الآية: 72.
5- سورة آل عمران، الآية: 15.
6- سورة ص، الآية: 51.

وقال تعالى: {وَالسَّٰبِقُونَ السَّٰبِقُونَ * أُوْلَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّٰتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْأخِرِينَ * عَلَىٰ سُرُرٖ مَّوْضُونَةٖ * مُّتَّكِِٔينَ عَلَيْهَا مُتَقَٰبِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٖ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٖ مِّن مَّعِينٖ * لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَاوَلَا يُنزِفُونَ * وَفَٰكِهَةٖ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٖ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَٰلِ اللُّؤْلُوِٕ الْمَكْنُونِ * جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «انتفعوا ببيان اللّه واتعظوا بمواعظ اللّه واقبلوا نصيحة اللّه، فإن اللّه قد أعذر إليكم بالجلية واتخذ عليكم الحجة وبين لكم محابه من الأعمال ومكارهه منها؛ لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه، فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يقول: إن الجنة حفت بالمكاره، وإن النار حفت بالشهوات، واعلموا، أنه ما من طاعة اللّه شيء إلّا يأتي في كره، وما من معصية اللّه شيء إلّا يأتي في شهوة، فرحم اللّه امرأً نزع عن شهوته وقمع هوى نفسه، فإن هذه النفس أبعد شيء منزعاً، وإنها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى. واعلموا عباد اللّه، أن المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلّا ونفسه ظنون(2) عنده، فلا يزال زاريا(3) عليها ومستزيداً لها، فكونوا كالسابقين قبلكم والماضين أمامكم، قوضوا من الدنيا تقويض الراحل وطووها طي المنازل»(4).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «قال الخضر لموسى(عليه السلام): يا موسى إن أصلح يوميك الذي هو أمامك فانظر أي يوم هو وأعد له الجواب، فإنك موقوف

ص: 39


1- سورة الواقعة، الآية: 10-24.
2- الظنون: الضعيف والقليل الحيلة.
3- زارياً عليها: أي عائباً.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.

ومسئول، وخذ موعظتك من الدهر فإن الدهر طويل قصير، فاعمل كأنك ترى ثواب عملك، ليكون أطمع لك في الآخرة، فإن ما هو آت من الدنيا كما هو قدولّى منها»(1).

ثالثاً: الحب، وهناك قسم ثالث من الناس - وما أقلهم - يُعتبرون خاصة اللّه في أرضه من أنبياء وأوصياء وصالحين، فهؤلاء هم العلماء باللّه، لا يعبدون اللّه خوفاً من عذابه ولا طمعاً في ثوابه، وإنما يعبدونه حباً له حيث تكون قلوبهم مغمورة بالمحبة الإلهية، قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(2) وأصحاب هذا الطريق هم الأبرار الغالبون، ولهم ثواب عظيم في الآخرة، وفي أعلى عليين. ويأتي في قمة هؤلاء نبينا العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا شوقاً إلى جنتك، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(3).

ويرى أصحاب هذا الطريق - حب اللّه تعالى - أن عبادة اللّه تعالى خوفاً من عذابه، أو طمعاً في ثوابه، لا يشتمل على الدرجات العالية من الإخلاص؛ إذ لعل بعض هؤلاء لو وجدوا طريقاً موصلاً إلى الجنة، ويخلصهم من عذاب اللّه تعالى لم يعبدوا اللّه تعالى، واستدلالهم على ذلك هو أن الإنسان الذي يعبد اللّه تعالى خوفاً من عذابه، يبعثه هذا الخوف على ترك المحرمات، فالزهد في الدنيا هو للفوز في الآخرة والنجاة من عذابها، وكذلك عبادته تعالى طمعاً في الثواب تبعث الإنسان على العبادة في الدنيا لنيل الآخرة.

ص: 40


1- الكافي 2: 459.
2- سورة البقرة، الآية: 165.
3- نهج الحق وكشف الصدق: 248.

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

اشارة

أول قدوة في الأخلاق المثالية هو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال اللّه تعالى في كتابهالكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1) إن المتتبع لسيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجد وبوضوح ما يتمتع به الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أخلاق فاضلة كريمة، فهو منبع الأخلاق، ويعد بحراً زاخراً من المثل العليا، والقيم الإنسانية، والفضائل الأخلاقية، في كل مناحي الحياة وجوانبها، فهو القائد المعلم، وهو الأب الروحي، وهو المرشد، وهو المصلح، وهو الأمين، إلى آخر قاموس الفضائل التي يعجز القلم عن الإحاطة بها. فالأخلاق المثالية في حياة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واضحة وجلية في مختلف زوايا الحياة وشاملة لجميع الناس، تجده مع الصديق والمحب أباً ومرشداً، ومع العدو معلماً منقذاً، فكان يعامل الكل(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معاملة طيبة.

عفو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

فها هو وحشي قاتل حمزة(عليه السلام) عم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسنده القوي غدراً وغيلة، وقد مثل بجسده الطاهر ذلك التمثيل الشنيع الذي يقشعر بدن الإنسان من سماع وصفه، دون رؤيته حتى وصف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يومها بأنه أشد يوم مرّ على قلبه الطاهر، ذلك القلب المليء بالحب والعطف والإنسانية، والبعيد كل البعد عن البغض والغلظة والكراهية، ذلك القلب العامل بالإيمان الذي لا يهمه شيء سوى مرضاة اللّه تعالى، ومع هذا كله عند ما جاء وحشي من وراء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأعلن إسلامه عفا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنه(2).

ص: 41


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- روي: أنه لما أسلم قال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أوحشي؟» قال: نعم، قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) «اجلس وحدثني قتلت حمزة؟» فلما أخبره قال: «قم وغيب عني وجهك». شرح نهج البلاغة 18: 16، وشرح الأخبار 3: 231.

أيُّ أخلاق هذه! هذه هي أخلاق رسول الإنسانية، خير خلق اللّه تعالى، فقد كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أجمع الناس لدواعي الرفعة والسمو. فقد كان أوسطالناس نسباً، وأنقاهم حسباً، وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم، وما إلى ذلك من الصفات الحسنة(1).

تواضع النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشد الناس تواضعاً، فعن الإمام علي بن موسى الرضا عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): خمسٌ لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض(2) مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً(3)، وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان؛ لتكون سنّةً من بعدي».(4)

وجاء في بحار الأنوار: أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان أوسط الناس نسباً، وأوفرهم حسباً، وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم، وهذه كلها من دواعي الترفع، ثم كان من تواضعه أنه كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويركب الحمار، ويعلف الناضح، ويجيب دعوة المملوك، ويجلس في الأرض، ويأكل في الأرض، وكان يدعو إلى اللّه من غير زبر ولا كهر ولا زجر، ولقد أحسن من مدحه في قوله:

فما حملت من ناقة فوق ظهرها *** أبرّ وأوفى ذمة من محمد(5)

قال الإمام أمير المؤمنين(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واصفاً أخلاق الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كان أجود الناس

ص: 42


1- التي كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأخذ المرتبة العالية منها، فما من صفة إلّا وترى قد استعملت صيغة التفضيل فيه: أعلم، أحلم، أفقه، وما إلى ذلك من الصفات.
2- الحضيض: قرار الأرض وأسفل الجبل.
3- الأكاف والوكاف: البردعة، وهي كساء يلقى على ظهر الدابة.
4- عيون أخبار الرضا 2: 81.
5- بحار الأنوار 16: 199.

كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهمعشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أرَ مثله، قبله ولا بعده»(1).

وأجاد من قال:

بلغ العلى بكماله *** كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله *** صلوا عليه وآله

هذه بعض خصال نبي الرحمة(صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي يعجز اللسان عن ذكر بعضها فضلاً عن جميعها، والقلم عن الإحاطة بكتابتها على أن يعطي الحق الكامل لهذه الصفات.

فليتخلق المسلمون اليوم بأخلاق ذلك الرائد العظيم، ليفوزوا في الدنيا والآخرة. قال اللّه تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(2).

ذكر الشيخ الطبرسي(رحمه اللّه) في كتابه القيم مكارم الأخلاق(3): فوجدت في كلام

ص: 43


1- بحار الأنوار 16: 231.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- مكارم الأخلاق لمؤلفه رضي الدين حسن بن فضل الطبرسي من علماء القرن السادس الهجري. وهو ابن أمين الإسلام الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان. استلهاما من وحي قول النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، أي: إن الهدف من بعثته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو بيان وتتميم الأخلاق الفاضلة؛ لأن الإسلام دين يعطي للأخلاق أهمية كبيرة، سواء الأخلاق الفردية أو الأخلاق الاجتماعية. و لهذا فإنه - وعلى مدى تأريخ الإسلام - قد ألفت كتب كثيرة في مجال الأخلاق، ونظراً للرواية المذكورة آنفاً فإن كثيراً من العلماء الكبار قد جعلوا عناوين كتبهم (مكارم الأخلاق)، منهم: أبو جعفر محمد البرقي، ومير سيد علي الهمداني، وأبو جعفر محمد النيشابوري، وغياث الدين البلخي، والسيد محمد نور بخش، والسيد عبد اللّه شبر صاحب التفسير المعروف. وكتاب (مكارم الأخلاق) للشيخ الجليل القدر رضي الدين الطبرسي من أكثر الكتب في هذا الموضوع شهرة. وهذا الكتاب يحتوي على اثني عشر باباً، وترجم الكتاب إلى لغات عدة، وحاول بعض المنحرفين تحريف الكتاب من خلال الحذف والإضافة والتغيير بغية تشويه سمعة الشيعة، وقد تنبه لذلك العلماء فقاموا بفضحهم وتنبيه الناس إلى ذلك. وبعد الاطلاع على هذه المؤامرة المشئومة، جمعت بأمر الميرزا الشيرازي الكبير في سنة (1314ه) جميع النسخ الخطية والقديمة للكتاب، وقام الحاج الشيخ محمود البروجردي بتطبيق الكتاب مع هذه النسخ، ثم طبع الكتاب بدقة تامة في التصحيح وبشكل جميل.

أمير المؤمنين علي(عليه السلام) ما يحتوي على حقيقة سير الأنبياء(عليهم السلام)، وهي الانقطاع بالكل عن الناس إلى اللّه، في الرجاء والخوف، وعن الدنيا إلى الآخرة. وخص من جملتهم نبينا محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكمال هذه السيرة وحثنا ورغبنا على الاقتداء به فقال(عليه السلام) بعد كلام له طويل لمدع كاذب يدعي بزعمه أنه يرجو اللّه:

«كذب والعظيم ما باله، ولا يتبين رجاؤه في عمله، وكل من رجا عرف رجاؤه في عمله إلّا رجاء اللّه؛ فإنه مدخول، وكل خوف متحقق إلّا خوف اللّه فإنه معلول، يرجو اللّه في الكبير ويرجو العباد في الصغير، فيعطي العبد ما لا يعطي الرب، فما بال اللّه جلّ ثناؤه يقصر به عمّا يصنع بعباده، أتخاف أن تكون في رجائك له كاذباً، أو تكون لا تراه للرجاء موضعاً، وكذلك إن هو خاف عبداً من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه، فجعل خوفه من العباد نقداً وخوفه من خالقه ضماراً(1)

ووعداً، وكذلك من عظمت الدنيا في عينه وكبر موقعها في قلبه، آثرها على اللّه فانقطع إليها، وصار عبداً لها، ولقد كان في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كاف لك في الأسوة، ودليل على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها ووطئت لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها، وزوي عن زخارفها، وإن شئت ثنيت بموسى(عليه السلام) كليم اللّه، إذ يقول: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٖ

ص: 44


1- الضمار: الوعد المسوَّف.

فَقِيرٌ}(1)واللّه، ما سأله إلّا خبزاً يأكله؛ لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق(2) بطنه لهزاله، وتشذّب(3) لحمه، وإن شئت ثلَّثت بداود صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل من سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه أيكم يكفيني بيعها، ويأكل قرص الشعير من ثمنها، وإن شئت قلت في عيسى ابن مريم(عليه السلام) فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه وخادمه يداه. فتأس بنبيك الأطيب الأطهر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى، وأحب العباد إلى اللّه المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره، قضم الدنيا قضماً(4)، ولم يعرها طرفاً، أهضم(5) أهل الدنيا كشحاً(6)، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن اللّه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقّر شيئاً فحقره، وصغّر شيئاً فصغره، ولو لم يكن فينا إلّا حبنا ما أبغض اللّه، وتعظيمنا ما صغر اللّه، لكفى به شقاقاً لله، ومحادة عن أمر اللّه، ولقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار

ص: 45


1- سورة القصص، الآية: 24.
2- الصفاق: ككتاب، هو الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر اوجلد البطن وهو المراد هنا.
3- التشذب: التفرق.
4- قضم الشيء: كسره بأطراف أسفانه وأكله، والمراد الزهد في الدنيا والرضا منها بالدون.
5- الهضم: خمص البطن وخلوها.
6- الكشح: ما بين السرة ووسط الظهر.

العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته تكون فيه التصاوير فيقول: يا فلانة، لإحدىأزواجه، غيبيه عني؛ فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً(1)، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده، ولقد كان في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها؛ إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله، أ أكرم اللّه بذلك محمداً، أم أهانه؟ فإن قال: أهانه، فقد كذب واللّه العظيم، وأتى بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه، فليعلم أن اللّه قد أهان غيره؛ حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه، فإن تأسى متأس بنبيه، واقتص أثره، وولج مولجه، وإلّا فلا يأمن الهلكة، فإن اللّه جعل محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) علماً للساعة، ومبشراً بالجنة، ومنذراً بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصاً، وورد الآخرة سليماً، لم يضع حجرا على حجر، حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه، فما أعظم منّة اللّه عندنا، حين أنعم علينا به، سلفاً نتبعه، وقائداً نطأ عقبه. واللّه، لقد رقّعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: أ لا تنبذها؟ فقلت: اغرب عني، فعند الصباح يحمد القوم السرى»(2).

الأخلاق الإسلامية

إن النفس البشرية صفحة بيضاء، تنقش عليها الأعمال والأفعال، فإن كانت حسنة ازدادت هذه الصفحة بياضاً ونصاعة، وسمت بصاحبها إلى مراتب العلو

ص: 46


1- الرياش: ما كان فاخراً من اللباس والأثاث.
2- مكارم الأخلاق: 8.

والقرب من اللّه سبحانه ومن الناس وإن كانت رديئة سيئة تلوثت الصفحة،وجعلتها سوداء داكنة، وتحطّ من صاحبها، وتزيد من بعد المرء عن اللّه تعالى وعن الناس.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن النفس لجوهرة ثمينة من صانها رفعها ومن ابتذلها وضعها»(1).

والنفس البشرية من نفس واحدة تكويناً كما صرّح بذلك القرآن الكريم: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ}(2)، ولكن لها مراتب ودرجات، فهي من الكليات المشككة - كما يقول البعض - فيمكن أن تتحول بفعل بعض الأعمال إلى نفس مطمئنة فاضلة، وذلك لأن صاحبها حصّنها وروّضها على ترك الأفعال القبيحة وغير اللائقة بالإنسان، فيستحق صاحبها على ذلك الفوز الإلهي، كما وعد اللّه تعالى المؤمنين: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(3).

ويمكن أن تتحول إلى نفس كدرة ومنحطة، كما عند بعض الناس؛ وذلك لأن صاحبها لم يتجنب فعل الرذائل، وغاص بها إلى أعماقه، فصاحبها قد اشترى لنفسه غضب اللّه تعالى - والعياذ باللّه - وانتقامه، وكُره الناس له، قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}(4).

خلاصة الكلام

فخلاصة الكلام: أن المسير بيد الإنسان، فله السير على كلا الطريقين: طريق

ص: 47


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 227.
2- سورة الأنعام، الآية: 98.
3- سورة الروم، الآية: 47.
4- سورة الأحزاب، الآية: 64.

يؤدي به إلى أن يتسامى بالنفس الفاضلة، وذلك بعمل الأخلاق المثالية والأعمالالحسنة، مثل: الصدق والأمانة والوفاء والمحبة والتقوى، وغيرها من الفضائل التي ذكرها اللّه تعالى في كتابه الكريم، ووضحها لنا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار(عليهم السلام)؛ وذلك ببيانها وتحلِّيهم وعملهم بها، فهم(عليهم السلام) منبع الأخلاق الحميدة، وأساس كل فضيلة، وسالك هذا الطريق لا يضل، بل يضمن الفوز في كلا الدارين؛ الفوز في الدنيا، كما هو معلوم؛ لأن جميع العقلاء يمدحون صاحب الأخلاق الفاضلة الحميدة، ويذمون صاحب الأخلاق الفاسدة والسيئة، أما الفوز في الآخرة فهذا أيضاً معلوم وبديهي، يؤكده العقل والنقل.

أما العقل فلأن اللّه تعالى عادل - بحكم العقل - فلا يضيع أجر من عمل صالحاً وسيجزيه على ذلك الثواب.

وأما النقل فكثرة الآيات المباركة والروايات الشريفة التي تحث على عمل الفضائل والاجتناب عن الرذائل وما يقابلها من الأجر الجزيل، حيث قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}(1) وقال سبحانه: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَُٔونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّٖ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَٰلِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ

ص: 48


1- سورة الزلزلة، الآية: 7.
2- سورة التوبة، الآية: 120-121.

بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُعِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}(1). والمتفحص للكتاب والسنة يجد مئات الآيات والروايات بل ربما آلافها في هذا الباب، فسلوك هذا الطريق يأتي بنا إلى الفوز بالدنيا والآخرة عقلاً ونقلاً(2).

أما الطريق الآخر، فهو طريق يؤدي إلى أن تصبح النفس منحطة ملوثة؛ وذلك بارتكاب الأعمال السيئة؛ مثل: الكذب والخيانة والغيبة والسرقة والعنف والظلم وغيرها من الأعمال الرذيلة.

هذان طريقان، والإنسان مخير بالمسير في كلا الطريقين؛ طريق الفضيلة، وطريق الرذيلة. قال اللّه تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(3) وقال تعالى: {وَهَدَيْنَٰهُ النَّجْدَيْنِ}(4). والإسلام يختار للإنسان ويحثه على سلوك طريق الفضيلة، لما به من محاسن ومنافع خاصة وعامة، تعود إلى نفسه وأسرته والى المجتمع. ويطرح الإسلام دلائل ونماذج على ذلك، في قمتها النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وآل بيته الأطهار(عليهم السلام)، ومن سار على طريقهم ومنحاهم.

نماذج أخلاقية

اشارة

الأخلاق على قسمين: أخلاق حسنة، وأخلاق سيئة، ولكن عندما يطلق لفظ

ص: 49


1- سورة آل عمران، الآية: 194-195.
2- راجع كتاب مكارم الأخلاق للطبرسي، وجامع السعادات للنراقي، وثواب الأعمال والخصال للشيخ الصدوق، وتنبيه الخواطر ونزهة النواظر للأمير ورام بن أبي الفوارس، ومحاسبة النفس للسيد ابن طاووس، وغيرها كثير.
3- سورة الإنسان، الآية: 3.
4- سورة البلد، الآية: 10.

الأخلاق فالمراد منه الأخلاق الحسنة، فنعني بقولنا: نماذج أخلاقية، نماذج من الأخلاق الحسنة.والتاريخ يعرض لنا نماذج كثيرة من الأخلاق لتلامذة الأئمة(عليهم السلام) استمدت من أخلاق الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار(عليهم السلام) وسيرتهم، قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1). نذكر بعضاً منها هنا لكي تكون عبرة وأسوة لأولي الألباب، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(2).

الإمام الحسين(عليه السلام) وتعامله مع الشامي

جاء في كتاب منازل الآخرة للمحدث القمي(رحمه اللّه):

روي عن عصام بن المصطلق أنه قال: دخلت المدينة فرأيت الحسين ابن علي(عليهما السلام) فأعجبني سمته ورواؤه، وأثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض، فقلت له: أنت ابن أبي تراب؟ فقال: «نعم». فبالغت في شتمه وشتم أبيه! فنظر إلي نظرة عاطف رؤوف، ثم قال: «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}(3) ثم قال لي: «خفض عليك، استغفر اللّه لي ولك، إنك لو استعنتنا لأعناك، ولو استرفدتنا لرفدناك، ولو استرشدتنا لرشدناك». قال عصام: فتوسم مني الندم على ما فرط مني. فقال: «{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ

ص: 50


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- سورة الذاريات، الآية: 55.
3- سورة الأعراف، الآية: 199-202.

الرَّٰحِمِينَ}(1) أمن أهل الشام أنت؟». قلت: نعم. فقال: «شنشنة اعرفها من أخزم(2)حيانا

اللّه وإياك، انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك، تجدني عند أفضل ظنك، إن شاء اللّه تعالى». قال عصام: فضاقت علي الأرض بما رحبت، وودت لو ساخت بي، ثم سللت منه لواذاً، وما على الأرض أحب إلي منه ومن أبيه(3).

ولو فرضنا أن الإمام(عليه السلام) غضب من سباب هذا الرجل وعاملة معاملة أخرى - وحاشا الإمام أن ينتهج هذا الأسلوب، ولكن نقول: لو فرضنا، وفرض المحال ليس بمحال - لو عمل الإمام(عليه السلام) ذلك، ألم يكن قد ازداد هذا الرجل غضباً وحقداً على الإمام وأبيه(عليهما السلام)، وظلّ يسير على طريق الضلالة، ولامتلأ قلبه حقداً أكثر من ذي قبل؟ لكن بما أن الإمام(عليه السلام) مسئوليته الإلهية هي هداية الناس، استطاع(عليه السلام) أن يحوّل هذا الرجل من طريق الضلالة، وهو بغض الإمام أمير المؤمنين وأهل بيته(عليهم السلام) جميعاً، إلى طريق الهداية وهو محبة الإمام أمير المؤمنين وأهل بيته(عليهم السلام) عن طريق حسن أخلاقه (عليه وأبيه الصلاة والسلام).

الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) ورجل من ولد عمر

روي: أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى(عليه السلام) ويسبه إذا رآه ويشتم علياً(عليه السلام)، فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي، وزجرهم أشد الزجر، وسأل عن

ص: 51


1- سورة يوسف، الآية: 92.
2- الشنشنة: السجية والطبيعة. وقيل القطعة المضغة من اللحم. وهو مثل، وأول من قاله أبو أخزم الطائي وذلك: أن اخزم كان عاقاً لأبيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم، وضربوه وأدموه، فقال: إن بني زملوني بالدم *** شنشنة أعرفها من أخزم
3- منازل الآخرة : 207.

العمري، فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن(عليه السلام) بالحمار حتى وصل إليه فنزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه، وقال له: «كم غرمت في زرعك هذا؟».فقال له: مائة دينار.

قال: «وكم ترجو أن تصيب فيه؟».

قال: لست أعلم الغيب.

قال: «إنما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك فيه؟».

قال: أرجو فيه مائتي دينار.

قال: فأخرج له أبو الحسن(عليه السلام) صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقال: «هذا زرعك على حاله، واللّه يرزقك فيه ما ترجو»، قال: فقام العمري فقبل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه الحسن(عليه السلام) وانصرف، قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً، فلما نظر إليه قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته، قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قصتك، قد كنت تقول غير هذا؟! قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن(عليه السلام) فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن إلى داره، قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: «أيما كان خيراً: ما أردتم، أو ما أردت، إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم، وكفيت به شره»(1).

نعم، هذه هي أخلاق أهل بيت النبوة(عليهم السلام) المستمدة من أخلاق حامل الرسالة الإلهية، يعاملون المسيء بالإحسان.

ص: 52


1- الإرشاد 2: 233.

فالرجل أساء إلى الإمام(عليه السلام) ولكن الإمام(عليه السلام) لم يعامله بالمثل، وإنما أحسن إليه، واستطاع بهذا العمل تحقيق ثلاثة أهداف:

أولها: رضا اللّه تعالى وهو أهمها عند الإمام(عليه السلام).

وثانيها: إصلاح المسيء وجره إلى جادة الحق.وثالثها: أن يكون عمل الإمام هذا أسوة ومنهجاً لكافة المسلمين.

فلنتخلق بأخلاق النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعترته الطاهرة(عليهم السلام) ففي ذلك فوز لنا بالدنيا والآخرة.

صور من الخلق المثالي

روى الشيخ عباس القمي(رحمه اللّه) قال: إن مالك الأشتر (رضي اللّه عنه) كان مجتازا بسوق الكوفة وعليه قميص خام، وعمامة منه، فرآه بعض السوقة فأزدرى بزيه، فرماه ببندقة تهاوناً به، فمضى ولم يلتفت. فقيل له: ويلك، أتدري بمن رميت؟! فقال: لا. فقيل له: هذا مالك صاحب أمير المؤمنين(عليه السلام). فارتعد الرجل، ومضى إليه ليعتذر منه، فرآه وقد دخل مسجداً وهو قائم يصلي، فلما انفتل أكب الرجل على قدميه يقبلهما. فقال: ما هذا الأمر؟!

فقال: أعتذر إليك مما صنعت. فقال: لا بأس عليك، فواللّه، ما دخلت المسجد إلّا لأستغفرن لك(1).

يقول - القمي(رحمه اللّه) - : انظر كيف كسب هذا الرجل الأخلاق من أمير المؤمنين(عليه السلام) فمع أنه من أمراء جيش أمير المؤمنين، وكان شجاعاً، وشديد الشوكة، وإن شجاعته بلغت درجة بحيث قال ابن أبي الحديد: لو أن إنساناً يقسم، أن اللّه تعالى ما خلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلّا أستاذه علي بن أبي

ص: 53


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 2.

طالب(عليه السلام) لما خشيت عليه الإثم، ولله در القائل، وقد سُئل عن الأشتر: ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام، وهزم موته أهل العراق. وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في حقه: «كان الأشتر لي كما كنت لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1). وقال لأصحابه: «وليت فيكممثله اثنان، بل ليت فيكم مثله واحد يرى في عدوي مثل رأيه»(2). وبالجملة، فمع هذه الجلالة والشجاعة والشدة والشوكة يصل به حسن خلقه إلى أن يهينه رجل سوقي ويستهزئ به، فلا يظهر في حاله أي تغيير وتبدل، بل يذهب إلى المسجد ويصلي، ويدعو ويستغفر له.

وإذا تلاحظ جيداً فإن هذه الشجاعة التي عنده وغلبه هوى نفسه، أعلى مرتبة من شجاعته البدنية. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أشجع الناس من غلب هواه»(3)(4).

روي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) سمع رجلاً يشتم قنبراً وقد رام قنبر أن يرد عليه. فناداه أمير المؤمنين(عليه السلام):«مهلاً يا قنبر! دع شاتمك مهاناً ترض الرحمن، وتسخط الشيطان، وتعاقب عدوك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه»(5).

العلماء الأبرار

وكذلك كان علماؤنا الأبرار فقد اقتدوا بنبيهم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمتهم(عليهم السلام) في السيرة والسلوك وحسن الخلق، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وهذه القصة تبين لنا بعض

ص: 54


1- شرح نهج البلاغة 2: 214.
2- بحار الأنوار 32: 547.
3- بحار الأنوار 67: 76.
4- منازل الآخرة: 210.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 118.

ذلك:

نقل عندما كان شيخ الفقهاء العظام المرحوم الحاج الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء موجوداً في أصفهان وقد قسم يوماً حقوقاً شرعية على الفقراء قبل شروعه بالصلاة الأولى، ثم قام للصلاة وعند انتهائه من تلك الصلاة، وقيامه للصلاة الأخرى جاءه أحد الفقراء وكان من السادة - الذين أُخبروا بالأمر - بينالصلاتين، وقال له: أعطني من مال جدي. فقال له: لقد جئت متأخراً، ولا يوجد عندي الآن شي لأعطيك منه.

فغضب ذلك السيد، وبصق على لحية الشيخ المباركة!

فقام الشيخ من المحراب، ورفع طرف ردائه وأخذ يدور في صفوف الجماعة وهو يقول: من كان يحترم شيبة الشيخ فليساعد هذا السيد. فملأ الناس طرف ثوبه بالأموال، ثم أعطاها الشيخ للسيد واعتذر منه، وبعد ذلك توجه لصلاة العصر!

تأمل في هذا الخلق الشريف بأي محل بلغ، لهذا العالم الكبير الذي كان رئيساً للمسلمين، وحجة الإسلام، وفقيه أهل البيت(عليهم السلام) وقد وصلت فقاهته إلى درجة بحيث إنه ألف كتاب (كشف الغطاء) في السفر، ونقل عنه أنه كان يقول: لو مسحتم كل الكتب الفقهية فإني أستطيع أن اكتب من الطهارة إلى الديات. وكان جميع أولاده فقهاءً وعلماءً أجلاء.

نعم، هذه هي الأخلاق التي يجب أن يتمتع بها المسلمون، ثم إن ما قام به الشيخ كاشف الغطاء(رحمه اللّه) هذا لم يحط من قدره، مع أنه كان مرجعاً كبيراً، بل زاده احتراماً وتقديراً، وحاز على رضا اللّه تعالى واحترام الناس، فلو غضب الشيخ وأمر بضرب ذلك السيد - مثلاً - لحصل شجار وهرج ومرج وتدخل الناس، واختل النظام في الجامع، مما يؤدي إلى تأخير الصلاة وكثرة الكلام غير

ص: 55

المرغوب فيه، إضافة إلى مشاكل أخرى، لكن الشيخ بسماحته وأخلاقه المثالية تصرّف عكس ذلك تماماً، حيث قام وجمع له مبلغاً من المال من المصلين، مما دفع ذلك السيد إلى التفكير في خطأه في حق الشيخ وتجاوزه الكبير عليه، فقام بالاعتذار من الشيخ، ولم يحصل أي شجار أو زعزعة.

وهذه الأخلاق تعلمها الشيخ من أخلاق أئمة الهدى(عليهم السلام).

يقول العلامة النوري(رحمه اللّه) صاحب المستدرك وإن تأملت في مواظبته للسنن والآداب وعباداته، ومناجاته في الأسحار، ومخاطبته نفسه بقوله: كنت جعيفراً، ثم صرت جعفراً، ثم الشيخ جعفر، ثم شيخ العراق، ثم رئيس الإسلام، وبكائه وتذلّله، لرأيته من الذين وصفهم أمير المؤمنين(عليه السلام) من أصحابه للأحنف بن قيس(1).

حيث روي أنه لما قدم أمير المؤمنين(عليه السلام) البصرة بعد قتال أهل الجمل دعاه الأحنف بن قيس واتخذ له طعاماً فبعث إليه صلوات اللّه عليه وإلى أصحابه، فأقبل ثم قال: «يا أحنف، ادع لي أصحابي» فدخل عليه قوم متخشعون كأنهم شنآن بوالي، فقال الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي نزل بهم، أ من قلة الطعام، أو من هول الحرب؟!

فقال (صلوات اللّه عليه): «لا يا أحنف، إن اللّه سبحانه أحب قوماً تنسَّكوا له في دار الدنيا تنسّك من هجم على ما علم من قربهم من يوم القيامة من قبل أن يشاهدوها، فحملوا أنفسهم على مجهودها، وكانوا إذا ذكروا صباح يوم العرض على اللّه سبحانه توهموا خروج عنق يخرج من النار يحشر الخلائق إلى ربهم تبارك وتعالى، وكتاب يبدو فيه على رؤوس الأشهاد فضائح ذنوبهم، فكادت أنفسهم تسيل سَيَلاناً، أو تطير قلوبهم بأجنحة الخوف طَيَراناً، وتفارقهم عقولهم

ص: 56


1- مستدرك الوسائل، الخاتمة 2: 117.

إذا غلتْ بهم من أجل التجرد إلى اللّه سبحانه غَلَياناً، فكانوا يَحِنّون حنين الواله في دجى الظلم، وكانوا يفجعون من خوف ما أوقفوا عليه أنفسهم، فمضوا ذبل الأجسام، حزينة قلوبهم كالحة وجوههم ذابلة شفاههم خامصة بطونهم، تراهم سكارى، سمّار وحشة الليل متخشعون، كأنهم شنآن بوالي، قد أخلصوا للهأعمالهم سراً وعلانية، فلم تأمن من فزعه قلوبهم، بل كانوا كمن حرسوا قباب خراجهم، فلو رأيتهم في ليلتهم وقد نامت العيون وهدأت الأصوات وسكنت الحركات من الطير في الرکود، وقد نبَّههم هول يوم القيامة والوعيد، كما قال سبحانه: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَٰتًا وَهُمْ نَائِمُونَ}(1) فاستيقظوا إليها فزعين، وقاموا إلى صلاتهم مُعْوِلين باكين تارة، وأخرى مسبحين، يبكون في محاريبهم ويرنّون، يصطفّون ليلة مظلمة بهماء يبكون، فلو رأيتهم يا أحنف في ليلتهم قياماً على أطرافهم منحنية ظهورهم يتلون أجزاء القرآن لصلاتهم، قد اشتدت إعوالهم ونحيبهم وزفيرهم إذا زفروا، خِلْتَ النار قد أخذت منهم إلى حلاقيمهم، وإذا أعولوا حسبت السلاسل قد صفدت في أعناقهم...»(2).

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفقنا للتحلي بالأخلاق المثالية لنفوز بسعادة الدنيا والآخرة إنه قريب مجيب.

«اللّهم وصل على محمد وآله، كأفضل ما صليت على أحدٍ من خلقك قبله، وأنت مصل على أحد بعده، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا برحمتك عذاب النار»(3).

ص: 57


1- سورة الأعراف، الآية: 97.
2- صفات الشيعة: 39.
3- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضى الأفعال.

من هدي القرآن الحكيم

التقوى قوام الأخلاق

قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَاللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}(1).

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}(3).

وقال جلّ وعلا: {يَٰبَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَٰرِي سَوْءَٰتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَٰجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَٰجَوْاْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَٰجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(5).

دوافع العبادة
1- الخوف من النار

قال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}(6).

وقال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ

ص: 58


1- سورة النساء، الآية: 131.
2- سورة الأعراف، الآية: 96.
3- سورة الحج، الآية: 1.
4- سورة الأعراف، الآية: 26.
5- سورة المجادلة، الآية: 9.
6- سورة الإنسان، الآية: 10.

وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}(2).

2- الطمع في تحصيل الثواب

قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزْقًا قَالُواْ هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(3).

3- حب اللّه عزّ وجلّ

قال عزّ وجلّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}(4).

وقال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(5).

وقال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(6).

ص: 59


1- سورة الرعد، الآية: 21.
2- سورة الإسراء، الآية: 57.
3- سورة البقرة، الآية: 25.
4- سورة البقرة، الآية: 165.
5- سورة آل عمران، الآية: 31.
6- سورة المائدة، الآية: 54.
مصاديق للأخلاق المثالية

قال جلّ وعلا: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(1).

وقال تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}(2).وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(4).

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال جلّ وعلا: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(5).

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(6).

وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(7).

ص: 60


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- سورة النساء، الآية: 148.
3- سورة هود، الآية: 115.
4- سورة الحجرات، الآية: 12.
5- سورة آل عمران، الآية: 159.
6- سورة الأنبياء، الآية: 107.
7- سورة التوبة، الآية: 128.

وقال عزّ وجلّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

التقوى قوام الأخلاق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس، ... إن العربية ليست بأب ووالدة، وإنما هو لسان ناطق، فمن تكلم به فهو عربي، ألا إنكم من آدم وآدم من تراب وأكرمكم عند اللّه أتقاكم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... وأوصاكم بالتقوى، وجعلها منتهى رضاه، وحاجته من خلقه، فاتقوا اللّه الذي أنتم بعينه، ونواصيكم بيده، وتقلبكم في قبضته»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اتقوا اللّه وصونوا دينكم بالورع»(4).

وكتب أبو جعفر الباقر(عليه السلام) إلى سعد الخير: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، أما بعد، فإني أوصيك بتقوى اللّه، فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب، إن اللّه عزّ وجلّ يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله، ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله»(5).

دوافع العبادة
1- الخوف من النار

قال علي بن الحسين(عليهما السلام): «... فاشعروا قلوبكم خوف اللّه، وتذكروا ما قد

ص: 61


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- تفسير القمي 2: 322.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 183 من خطبة له(عليه السلام) في قدرة اللّه وفي فضل القرآن، وفي الوصية بتقوى اللّه تعالى.
4- الكافي 2: 76.
5- الكافي 8: 52.

وعدكم اللّه في مرجعكم إليه من حسن ثوابه، كما قد خوفكم من شديد العقاب»(1).

2- الطمع في تحصيل الثواب

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «.. وقوم عبدوا اللّه تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأُجَراء»(2).

3- حب اللّه عزّ وجلّ

في ما جاء في صحيفة إدريس(عليه السلام): «طوبى لقوم عبدوني حباً، واتخذوني إلهاًورباً، سهروا الليل ودأبوا النهار، طلباً لوجهي من غير رهبة ولا رغبة، ولا لنار ولا جنة، بل للمحبة الصحيحة والإرادة الصريحة»(3).

مصاديق للأخلاق السامية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا بني عبد المطلب، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فالقَوْهُم بطلاقة الوجه وحسن البشر»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «عليكم بالورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة إلى من أئتمنكم عليها، براً كان أو فاجراً»(5).

وروي عن الإمام الرضا(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): عليكم بمكارم الأخلاق؛ فإن اللّه عزّ وجلّ بعثني بها، وإن من مكارم الأخلاق أن يعفو الرجل عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه،

ص: 62


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 505.
2- الكافي 2: 84.
3- بحار الأنوار 92: 467.
4- الكافي 2: 103.
5- تحف العقول: 299.

وأن يعود من لا يعوده»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ}(2) قال: «اصبروا على المصائب»(3).

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما صافح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجلاً قط فنزع يده حتى يكونهو الذي ينزع يده منه»(4).

وقال(عليه السلام): «كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكثر ما يجلس تجاه القبلة»(5).

وعن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده(6).

وعن أبي الحميساء قال: تابعت(7)

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل أن يبعث، فواعدته مكاناً فنسيته يومي والغد، فأتيته يوم الثالث فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا فتى، لقد شققت عليّ؛ أنا ها هنا منذ ثلاثة أيام»(8).

وعن أنس بن مالك قال: إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أدركه أعرابي فأخذ بردائه، فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد أثرت به حاشية الرداء

ص: 63


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 477.
2- سورة آل عمران، الآية: 200.
3- الكافي 2: 92.
4- الكافي 2: 182.
5- الكافي 2: 661.
6- مكارم الأخلاق: 19.
7- في مستدرك الوسائل 8: 460: بايعت
8- مكارم الأخلاق: 21.

من شدة جبذته، ثم قال له: يا محمد، مر لي من مال اللّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فضحك، وأمر له بعطاء(1).

وعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيياً لا يُسأل شيئاً إلّا أعطاه. وعنه أيضاً قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه(2).

ص: 64


1- مكارم الأخلاق: 17.
2- مكارم الأخلاق: 17.

الارتباط باللّه وجهاد النفس

بين متاع الدنيا والآخرة

اشارة

قال اللّه تعالى في القرآن الحكيم: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَٰطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَٰمِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمََٔابِ}(1).

(زُيّن) فعل ماضٍ مبني للمجهول، وقد ذكر المفسرون في فاعله وهو المزين(2) عدة وجوه:

فمنهم من قال: إنه اللّه، وقال آخرون: بل هو الشيطان، وذلك بالاعتبارين كما لا يخفى.

وبناءً على التفسير الأول - وهو الأظهر - فإن اللّه خلق الإنسان وجعله مجبولاً من الناحية الغريزية على حب اللذائذ والشهوات(3)، فإنه كما أودع فيه العقل أودع فيه الشهوة أيضاً، وألهم النفس فجورها وتقواها. والشيطان يحسّن للإنسان - عبر الوسوسة - الأعمال القبيحة ويقبّح له الأعمال الحسنة.

والأمور التي ذكرت في هذه الآية ليست قبيحة بذاتها، بل هي طيبة في أصل

ص: 65


1- سورة آل عمران، الآية: 14.
2- وهذا لا ينافي قول النحويين بأن المجهول هو الذي لا يكون له فاعل؛ لأن مرادهم في عالم الإثبات - أي: عالم الألفاظ - ومراد المصنف في عالم الثبوت أي: عالم الواقع والفاعل الواقعي.
3- لأن الدنيا دار امتحان واختبار.

وجودها. نعم، قد تعنون بالخبيث لكن هذا عارض خارجي وليس ذاتياً له(1) وذلك نتيجة لانحراف الإنسان واستخدامه النعم الإلهية استخداماً باطلاً خدمة لأغراض شيطانية، وما ذكرناه كان مستفاداً من الآية المباركة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَٰتِ مِنَ الرِّزْقِ}(2).

وفي آية أخرى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ}(3).

ولكن قد تصبح هذه الأشياء الطيبة - ذاتاً - أداة هدم للإنسان، وسبباً لتحطيم كرامته، وهدم رفعته المعنوية، إذا اتخذها الإنسان هدفاً بذاتها لا طريقاً إلى الآخرة، وذلك حين يتعلق قلبه بهذه الشهوات والملذات ويجعلها هدفاً وغاية لسعيه في هذه الدنيا، فلايبالي حينئذ بتكاليفه الشرعية ولا يلتزم بالواجبات وترك المحرمات.

ص: 66


1- ذكروا في الحسن والقبح أن موضوعهما على ثلاثة أقسام: 1- على نحو العلة التامة أي متى كان هذا الموضوع فالحكم - الحسن والقبح - موجود، كالظلم فإنه عنوان يحمل (القبيح) عليه، وكالعدل فإنه عنوان يحمل (الحسن) عليه. 2- على نحو المقتضي، والفارق بين هذا والأول: أن موضوع الأول إن تحقق لا يتخلّف عنه حكمه - القبيح - فإنه متى وجد الظلم فإنه قبيح، بخلاف القسم الثاني فإنه قد يتخلف عنه الحكم مع كون الموضوع باقياً على حاله، خذ في ذلك مثال الصدق، فإنه حسن لكن قد تعرضه جهة من الجهات فتجعله قبيحاً مع كونه صدقاً - كما إذا كان سبباً للضرر على الغير - وهكذا الكذب فإنه قبيح لكن قد يكون حسناً - كما إذا كان سبباً للإصلاح - مثلاً. 3- ما لا يقتضي أياً منهما بما هو هو، وإنما هو باعتبار حسن وباعتبار آخر قبيح، وهذه الأمور المذكورة في المتن من هذا القسم حيث أنها بما هي هي لا قبيحة ولا حسنة. نعم، قد تعرضه جهة القبح فقبيح أم الحسن فحسن.
2- سورة الأعراف، الآية: 32.
3- سورة المائدة، الآية: 4.
تفسير آخر

ثم إن هناك تفسيراً آخر في (المُزيِّن) لحب الشهوات فالمجموع ثلاثة أقوال:

الأول: زينه الشيطان؛ لأنه لا أحد أشد ذماً لها من خالقها.

الثاني: أنه زينه اللّه تعالى بما جعل في الطباع من المنازعة، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(1).

الثالث: أنه زين اللّه عزّ وجلّ ما يحسن منه، وزين الشيطان ما يقبح منه.

و{الشَّهَوَٰتِ}: جمع شهوة، وهي توقان النفس إلى الشيء، يقال: اشتهى يشتهي شهوة واشتهاء، وشهاه تشهية، وتشهى تشهّياً.

وخلق الشهوة من فعل اللّه تعالى لا لا يقدر عليها أحد من البشر، وهي ضرورية فينا؛ لأنه لا يمكننا دفعها عن أنفسنا.

و{الْقَنَٰطِيرِ}: جمع قنطار.

واختلفوا في القنطار، فقال معاذ بن جبل: هو ألف ومائتا أوقية. وقال ابن عباس: هو ألف ومائتا مثقال. وروي: أنه ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم. وقال قتادة: ثمانون ألفاً من الدراهم أو مائة رطل. وقال مجاهد: سبعون ألف، وقال أبو نضر: هو ملئ مسك ثور ذهباً. وقال الربيع وابن أنس: هو المال.

ومعنى المقنطرة: المضاعفة، وقيل: هي كقولك: دراهم مدرهمة، أي: مجعولة كذلك. وقال السدي: مضروبة دراهم، أو دنانير. والقنطرة: البناء المعقود للعبور، والقنطر الداهية. وأصل الباب القنطرة المعروفة. والقنطار لأنه مال عظيم كالقنطرة. والذهب والفضة معروفان.

و{الْخَيْلِ}: الأفراس سميت خيلاً؛ لاختيالها في مشيها. والاختيال: من

ص: 67


1- سورة الكهف، الآية: 7.

التخيل؛ لأنه يتخيل به صاحبه في صورة من هو أعظم منه كبراً. والخيال كالظل؛ لأنه يتخيل به صورة الشيء، وأصل الباب التخيل: التشبه بالشيء.

وقوله: {الْمُسَوَّمَةِ} ذكر في معناها أربعة أقوال: الراعية، وقيل: الحسنة، وقيل: المعلمة. وقيل: المعدة للجهاد.

و{الْحَرْثِ}: الزرع.

{ذَٰلِكَ مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ} المتاع: ما يستنفع به مدة ثم يفنى.

{وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمََٔابِ} المآب: المرجع من آب يؤوب أوباً وإياباً وأوبة ومآباً إذا رجع، وتأوب تأوباً: إذا ترجع، وأوبه تأويباً: إذا رجعه. وأصل الباب الأوب: الرجوع(1).

أو معنى قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ}: أن حب الإنسان للمشتهيات والملذات سبب لهم أن تتزين الدنيا في نفوسهم، فيطلبون اللذائذ ولو في المحرمات، ولم يذكر الفاعل؛ لأنه ليس بمقصود، وقد تقرر في علم البلاغة أن مقتضاه: أن لايذكر الفاعل أو المفعول حيث لم يكن مقصوداً.

{مِنَ النِّسَاءِ} بيان (الشهوات). {وَالْبَنِينَ} فإن حب الأولاد يسبب إطاعتهم والتحفظ عليهم ولو بذهاب الدين.

{وَالْقَنَٰطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ} القناطير جمع (قنطار) وهو ملئ مسك ثور ذهباً؛ وإنما سمي قنطاراً لأنه يكفي للحياة، فكأنه قنطرة يعبر بها مدة الحياة، والمقنطرة بمعنى المجتمعة المكدسة، كقولهم: دراهم مدرهمة ودنانير مدنرة.

{مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} فإن الإنسان بحبه للأموال يعصي اللّه في جمعه وفي عدم إعطاء حقوقه.

ص: 68


1- التبيان في تفسير القرآن 2: 411.

{وَالْخَيْلِ} عطف على النساء، والخيل: الأفراس.

{الْمُسَوَّمَةِ} المعلّمة، من سوم الخيل التي علّمها، ولا تعلم إلّا الجيد الحسن منها.

{وَالْأَنْعَٰمِ} جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم.

{وَالْحَرْثِ} أي: الزرع، فهذه كلها محببة للناس، لكن {ذَٰلِكَ} كله {مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} أي: ما يستمتع به في الدنيا ولا تنفع الآخرة إلّا إذا بذلت في سبيل اللّه - كل حسب بذله - {وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمََٔابِ} المرجع، أي: أن المرجع الحسن في الآخرة منوط باللّه سبحانه، فاللازم أن يتزهد الإنسان في الملذات ولايتناول المجرد منها رجاء ثواب اللّه ونعيمه المقيم، الذي لا زوال له ولا اضمحلال، فلا تسبب هذه المشتهيات عدول الإنسان عن الحق إلى الباطل وعن الرشاد إلى الضلال(1). ثم إن بعض الناس يتصور أن سعادة الإنسان تكمن في الماديات إذا حصلت له على وجهها التام، مثل: الصحة، والزوجة الملائمة، والمال الوفير، والجاه العريض الذي يحفظ الكرامة، وغير ذلك من الماديات كالمسكن والمركب والمأكل والمشرب. ومنشأ هذا الرأي في أذهان البعض هو رؤيته الضيقة للحياة وللمجتمع، حيث ينظر إلى السعادة من خلال نفسه وحاجته، لا من خلال الواقع الذي ينبغي أن يعيشه، وإذا كان الأمر كذلك فأين الشعور بمشاكل البشرية؟ وأين الشعور بآلام الناس؟ وقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(2)، وأين الخوف من الوقوع في الأخطاء ومن سوء العاقبة والمصير السيئ؟، وأين دور الآخرة والمعنويات في

ص: 69


1- تفسير تقريب القرآن 1: 319.
2- الكافي 2: 163.

حياته؟ نعم، إن الدنيا ليست داراً للراحة والدعة، والثبات والاستقرار حتى يمتلك الإنسان فيها السعادة الكاملة، وإنما هي دار الابتلاءات والاختبارات الإلهية(1). ولو أبصرنا في هذه الدنيا لوجدناها مليئة بالمنغصات والهموم، والمعاناة والمشاكل. فإذا أراد الإنسان أن يكون نافعاً مفيداً في هذه الدنيا، فعليه أن يتحمل - من أجل ذلك - كل الضغوط والمضايقات، وجميع المصاعب والمشكلات، فحينما يستخدم الإنسان عقله ويهتدي بنور الإيمان ويضع كل شيء في موضعه، وينّظم حياته بصورة هادفة وواعية وفق موازين الحكمة العملية، يكون العقل حينئذ هو الدليل المرشد في كل التصرفات والأعمال، ويحصل على ثمرة الاطمئنان النفسي، والسلامة الروحية من الآثام والذنوب.

اللّه بشّر أهل العقل

قال هشام بن الحكم: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام):

«يا هشام، إن اللّه تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

يا هشام، إن اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلهم على ربوبيته بالأدلة، فقال: {وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٖ وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

ص: 70


1- كما قال جلّ وعلا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} سورة هود، الآية: 7.
2- سورة الزمر، الآية: 17- 18.

لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(1).يا هشام، قد جعل اللّه ذلك دليلاً على معرفته بأن لهم مدبراً، فقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(2).

وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(3).

وقال: {وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ}(4){وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(5).

وقال: {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(6).

وقال: {وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٖ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٖ يُسْقَىٰ بِمَاءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٖ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(7).

وقال: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(8).

ص: 71


1- سورة البقرة، الآية: 163- 164.
2- سورة النحل، الآية: 12.
3- سورة غافر، الآية: 67.
4- سورة الجاثية، الآية: 5.
5- سورة البقرة، الآية: 164.
6- سورة الحديد، الآية: 17.
7- سورة الرعد، الآية: 4.
8- سورة الروم، الآية: 24.

وقال: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَابَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1).

وقال: {هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَٰكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(2).

يا هشام، ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة، فقال: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(3).

يا هشام، ثم خوف الذين لا يعقلون عقابه فقال تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْأخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(4).

وقال: {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا ءَايَةَ بَيِّنَةً لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(5).

يا هشام، إن العقل مع العلم فقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَٰلِمُونَ}(6).

يا هشام، ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ

ص: 72


1- سورة الأنعام، الآية: 151.
2- سورة الروم، الآية: 28.
3- سورة الأنعام، الآية: 32.
4- سورة الصافات، الآية: 136- 138.
5- سورة العنكبوت، الآية: 34-35.
6- سورة العنكبوت، الآية: 43.

نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَئًْا وَلَايَهْتَدُونَ}(1).

وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمُّ بُكْمٌعُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(2).

وقال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لَا يَعْقِلُونَ}(3).

وقال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(4).

وقال: {لَا يُقَٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرِ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}(5).

وقال: {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَٰبَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(6).

يا هشام، ثم ذم اللّه الكثرة، فقال: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(7).

وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(8).

وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا

ص: 73


1- سورة البقرة، الآية: 170.
2- سورة البقرة، الآية: 171.
3- سورة يونس، الآية: 42.
4- سورة الفرقان، الآية: 44.
5- سورة الحشر، الآية: 14.
6- سورة البقرة، الآية: 44.
7- سورة الأنعام، الآية: 116.
8- سورة لقمان، الآية: 25.

لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(1).يا هشام، ثم مدح القلة فقال: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(2).

وقال: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}(3).

وقال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَٰنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}(4).

وقال: {وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}(5).

وقال: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(6).

وقال: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(7).

وقال: وأكثرهم لا يشعرون(8).

يا هشام، ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر، وحلّاهم بأحسن الحلية، فقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(9).

وقال: {وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ

ص: 74


1- سورة العنكبوت، الآية: 63.
2- سورة سبأ، الآية: 13.
3- سورة ص، الآية: 24.
4- سورة غافر، الآية: 28.
5- سورة هود، الآية: 40.
6- سورة الأنعام، الآية: 37.
7- سورة المائدة، الآية: 103.
8- مستفاد من مضمون آيات عديدة.
9- سورة البقرة، الآية: 269.

الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3).

وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(4).

وقال: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

وقال: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَٰءِيلَ الْكِتَٰبَ 53 هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(6).

وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(7).

يا هشام، إن اللّه تعالى يقول في كتابه: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}(8) يعني عقل.

وقال: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَٰنَ الْحِكْمَةَ}(9) قال: الفهم والعقل.

ص: 75


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة آل عمران، الآية: 190.
3- سورة الرعد، الآية: 19.
4- سورة الزمر، الآية: 9.
5- سورة ص، الآية: 29.
6- سورة غافر، الآية: 53-54.
7- سورة الذاريات، الآية: 55.
8- سورة ق، الآية: 37.
9- سورة لقمان، الآية: 12.

يا هشام، إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس، وإن الكيس لدى الحق يسير، يا بني، إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكنسفينتك فيها تقوى اللّه، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل، وقيِّمها(1)

العقل، ودليلها العلم، وسكانها الصبر.

يا هشام، إن لكل شيء دليلاً ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت، ولكل شيء مطية(2) ومطية العقل التواضع، وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه. يا هشام، ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن اللّه، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، وأما الباطنة: فالعقول.

يا هشام، إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام، من سلَّط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

يا هشام، كيف يزكو عند اللّه عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك، وأطعت هواك على غلبة عقلك.

يا هشام، الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن اللّه اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند اللّه، وكان اللّه أنسه في الوحشة، وصاحبه

ص: 76


1- القيّم: مدبر أمر السفينة.
2- المطبة: الناقة التي يركب مطاها أي ظهرها.

في الوحدة، وغناه في العيلة(1)، ومعزه من غير عشيرة.

يا هشام، نصب الحق لطاعة اللّه، ولا نجاة إلّا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد(2)، ولا علم إلّا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل.

يا هشام، قليل العمل من العالم مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.

يا هشام، إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا؛ فلذلك ربحت تجارتهم.

يا هشام، إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض.

يا هشام، إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها، فعلم أنها لاتنال إلّا بالمشقة، ونظر إلى الآخرة، فعلم أنها لا تنال إلّا بالمشقة فطلب بالمشقة أبقاهما.

يا هشام، إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة؛ لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.

يا هشام، من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرع إلى اللّه عزّ وجلّ في مسألته بأن يكمل عقله؛ فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً.

ص: 77


1- العيلة: الفقر.
2- يعتقد: أي يشد ويستحكم.

يا هشام، إن اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْهَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(1) حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها، إنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه، ومن لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة، يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه، ولا يكون أحد كذلك إلّا من كان قوله لفعله مصدّقاً، وسره لعلانيته موافقاً؛ لأن اللّه تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلّا بظاهر منه وناطق عنه.

يا هشام، كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: ما عبد اللّه بشيء أفضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع اللّه من العز مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيراً منه وأنه شرهم في نفسه، وهو تمام الأمر.

يا هشام، إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه.

يا هشام، لا دين لمن لا مروة له، ولا مروة لمن لا عقل له، وإن أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً، أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلّا الجنة فلا تبيعوها بغيرها. يا هشام، إن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق. إن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: لايجلس في صدر المجلس

ص: 78


1- سورة آل عمران، الآية: 8.

إلّا رجل فيه هذه الخصال الثلاث، أو واحدة منهن، فمن لم يكن فيه شيء منهن فجلس فهو أحمق.

وقال الحسن بن علي(عليهما السلام): إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، قيل: يا ابن رسول اللّه، ومن أهلها؟ قال: الذين قص اللّه في كتابه وذكرهم، فقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1) قال: هم أولو العقول.

وقال علي بن الحسين(عليهما السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح، وآداب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستثمار المال تمام المروءة، وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة، وكف الأذى من كمال العقل وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً.

يا هشام، إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد ما لا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه»(2).

تحرير النفس من أسر الهوى

قال الإمام الباقر(عليه السلام) لجابر بن يزيد الجعفي يوصيه: «... إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها، فمرة يقيم أودها(3)

ويخالف هواها في محبة اللّه، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه(4)

اللّه فينتعش، ويقيل اللّه عثرته فيتذكر ويفزع إلى التوبة والمخافة، فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف، وذلك بأن اللّه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم

ص: 79


1- سورة الرعد، الآية: 19.
2- الكافي 1: 13- 20.
3- الأود: العوج.
4- نعشه اللّه: رفعه وأقامه وتداركه من هلكة وسقطة.

مُّبْصِرُونَ}(1)».

إلى أن قال(عليه السلام): «واعلم، أنه لا علم كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب، ولا عقل كمخالفة الهوى، ولا خوف كخوف حاجز، ولا رجاء كرجاء معين، ولا فقر كفقر القلب، ولا غنى كغنى النفس، ولا قوة كغلبة الهوى، ولا نور كنور اليقين، ولا يقين كاستصغارك الدنيا، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك، ولا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق، ولا شرف كبعد الهمة، ولا زهد كقصر الأمل، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات، ولا عدل كالإنصاف، ولا تعدي كالجور، ولا جور كموافقة الهوى»(2).

إن تحرير النفس من قيود الشهوة وأسر الهوى يتطلب جهداً مستمراً، ومثابرة دائمة، كي يحكم الإنسان عقله فيها، ومن الواضح أن أول مرحلة في مسيرة التكامل العقلي، وبلوغ الرشد الإنساني، هي السيطرة التامة على جميع الشهوات والرغبات، وإخضاعها لمبدأ العقل وموازين الشرع، ليحرر ذاته من وثاق الشهوة، ويفكّ نفسه من عبوديتها، تلك العبودية البغيضة الحاجبة عن العبودية الحقة لله عزّ وجلّ. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «عبد الشهوة أذل من عبد الرق»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «طاعة الشهوة تفسد الدين»(4).

ولكن لا يمكن الغلبة على تلك الشهوات إلّا عبر المكافحة المستمرة، فإن العقل لا يستسيغ التطرف في الشهوة والركض وراءها؛ ولذا يحاول مكافحتها عبر الطرق المتّزنة، والأساليب المتاحة لدى الإنسان من قريب أو بعيد: عبر

ص: 80


1- سورة الأعراف، الآية: 201.
2- تحف العقول: 284.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 464.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 434.

لسانه وكلامه، وعبر جوارحه وعمله، كالصمت والسكوت، مثلاً.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كف لسانه ستر اللّه عورته، ومن ملك غضبه وقاه اللّه عذابه، ومن اعتذر إلى اللّه قَبل عذره»(1).

وقال أعرابي لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا رسول اللّه، دلني على عمل أنجو به؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أطعم الجائع، واروِ العطشان، وأمُر بالمعروف، وأنهِ عن المنكر، فإن لم تطق فكف لسانك، فإنه بذلك تغلب الشيطان»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه عند لسان كل قائل فليتق اللّه أمرؤ، وليعلم ما يقول»(3). وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا رأيتم المؤمن صموتاً وقوراً فأدنوا منه فإنه يلقي الحكمة»(4).

وعن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «من علامات الفقه: الحلم والعلم والصمت، وإن الصمت باب من أبواب الحكمة، إن الصمت يكسب المحبة، إنه لدليل على كل خير»(5).

وقال عيسى(عليه السلام): «العبادة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت، وجزء في الفرار من الناس»(6).

بين الصمت المطلوب والصمت المبغوض

من الواضح أن المراد من الصمت في الأحاديث الشريفة الآنفة هو: السكوت عن التحدث بالباطل، كالغيبة، والتهمة، والنميمة، أو الإنشاءات الباطلة، وهكذا

ص: 81


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 105.
2- إرشاد القلوب 1: 103.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 61.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 98.
5- الكافي 2: 113.
6- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 106.

الإخبارات الغيبية والماورائيات بدون استناد إلى جهة مقبولة، لا الصمت عن التحدث بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمورد الروايات المباركة التي تقول بالصمت هو في مورد لم يكن للتكلم وجه شرعي، أما إذا كان هناك للتكلم وجه، فالصمت غير مطلوب، بل هو بين حرام إذا كان التكلم من الواجبات كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين مكروه إذا كان التكلم مستحباً.

إذن، فالصمت المطلوب، المذكور في الروايات الشريفة الآنفة الذكر، هو واحد من هذه الأمور لمساعدة الإنسان على مكافحة الشهوات، والتفصيل في علم الأخلاق وقد ذكرناه هنا استطرداً.

وأما أن تحطيم الرغبات الشهوانية، يحصل عبر مخالفة الهوى وزمّ النفس، فهو من الحقائق الواضحة، حيث إن الإنسان إذا خالف نفسه وهواه وجعل رغباته النفسية تحت قدميه، فإنه يربح شيئاً أنفع وهو: العلاقة باللّه تعالى والقرب منه سبحانه(1)، وفي هذه الحالة يتجه نحو المعنويات العالية، ولم يعد يجعل كل همّه على الأمور المادية الدانية، ولا يجعل المعايش الدنيوية هي المقياس الوحيد له؛ وذلك لأن فكره وعقله قد اتسع، فانفتحت له الآفاق المعنوية والأجواء الروحية.

قال أمير المؤمنين (صلوات اللّه وسلامه عليه): «طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينس ذكر اللّه بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أعطي غيره»(2).

ص: 82


1- لأن اللّه سبحانه وتعالى يحب العبد الزاهد في الدنيا والذي يخالف هواه.
2- الكافي 2: 16.
القنوت بدعاء أبي حمزة

نُقل عن أحد طلبة العلوم الدينية الذين درسوا في حوزة إصفهان - بعد أن قصدها من إحدى القرى المحيطة بأطراف المدينة - أنه قال: كنت أصلي في شهر رمضان في أحد مساجد البلد، وكان إمام المسجد من رجال الدين الطاعنين في السن، وحين ما كان يصل إلى قنوت الصلاة كان يقرأ دعاء أبي حمزة الثمالي بأكمله، وكان يستغرق قنوته أكثر من ساعة، وكان المصلون يتابعونه دون ملل.

إن هذه الحالة المعنوية التي أوجدها هذا العالم الفقيه في هذا الجمع الغفير رغم تقدم سنه وشيخوخته، تعكس لنا حالة الإخلاص لله التي كان يعيشها هذا المؤمن، ومدى تسلّطه على نفسه وهواه، والخلاص من سيطرة أية شهوة أو رغبة دنيوية، فهو لم يتماهل عن عبادته ولم يُضيعها رغم شيخوخته، بل عمل على نقل حالته هذه إلى المأمومين أيضاً.

القرآن الكريم والقنوت به

يُنقل عن أحد الولاة واسمه: عبد اللطيف باشا، أنه حين ما كان يأتي لزيارة الإمام الحسين(عليه السلام) وبعد أن ينتهي من قراءة الزيارة يقف باتجاه القبلة ويرفع يديه بهيئة القنوت ويقرأ القرآن وهو بتلك الحال لمدة ثماني ساعات متواصلة حتى يختمه كاملاً وبالجملة.

ومن المعلوم: أن هذا العمل ليس بالأمر الهين، بل يحتاج إلى قوة في العزيمة، ودافع نفسي كبير، كما ويحتاج أيضاً إلى الرشد والتعقل، لئلا يخضع إلى حب الدعة والراحة، ولئلا يستسلم إلى إلحاح الشهوة، أو الخلود إلى اللّهو واللعب، أو الركون إلى النعاس والنوم، لتحول هذه الأمور بينه وبين الوصول إلى عبادة اللّه سبحانه وتعالى، التي تشكل أسمى مراتب السمو الإنساني.

ص: 83

موسوعتان عظيمتان

إن من له نوع إلمام بالفقه، إذا راجع كتاب: (مفتاح الكرامة)(1)، وكتاب: (جواهر الكلام)(2) أيقن ببذل الجهد الجهيد من جانب مؤلفي الكتابين، أقر لهما بشدة تعبهما ونصبهما في ذلك ومخالفتهما لهوى النفس.

نعم، إن صاحب كتاب (مفتاح الكرامة) لم يوفق لكتابة هذا الكتاب القيّم إلّا بعد شدة الارتباط باللّه عزّ وجلّ ومخالفة النفس، وقد تم تأليف الكتاب قبل ما يزيد على (180عاماً تقريباً)، وهو كتاب فقهي دقيق وعميق - وقد بذل مؤلفه كل ما لديه من طاقة من أجل إخراجه إلى حيّز الوجود، وذلك رغم قلة وسائل الكتابة والتأليف في ذلك الزمان، ورغم مصاعب الحياة ومتاعبها حين ذاك.

وكذلك تلميذه صاحب كتاب (جواهر الكلام) الذي يقع كتابه في (43 مجلداً) فإنه قضى ثلاثين عاماً في تأليفه، متخطياً كل الصعوبات التي اعترضته في هذا المسار.

وهذا النضج في التفكير، والعمل الدائب، والجهاد المستمر في العمل، ومخالفة الهوى وشدة الارتباط باللّه، كان السبب لأن يخلد هؤلاء أعلاماً في دنيا المعرفة والعلم طوال هذين القرنين من الزمن.

بين اللذتين: المادية والمعنوية

وهنا لا بأس بأن نوضح الفرق بين اللذتين: اللذة المادية واللذة المعنوية، ليظهر الفرق بينهما جلياً وواضحاً.

ص: 84


1- كتاب (مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة) للسيد محمد جواد بن محمد الحسيني العاملي، ولد عام (1164ه) في قرية شقراء من قرى جبل عامل في لبنان، وتوفي بالنجف، أواخر سنة (1226ه).
2- كتاب (جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام)، للشيخ محمد حسن بن الشيخ باقر بن الشيخ عبد الرحيم بن محمد الصغير بن عبد الرحيم، المشهور بصاحب الجواهر، ولد عام (1202ه).

أما المادية: فتظهر على الإنسان عند ما كان صبياً في أول حركته وتمييزه، فإنه تظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب، حتى يكون عنده كثيراً ما ألذ من سائر الأشياء، ثم يظهر فيه بعد ذلك استلذاذ اللّهو ولبس الثياب الملونة وركوب الدواب، ثم تظهر فيه بعد ذلك لذة التجمل وحب النساء، وحب المنزل والخدم، فيحقّر ما سواها، ثم تظهر بعد ذلك فيه لذة الجاه والرياسة، والتكاثر بالمال والثروة، والتفاخر بالأعوان والأتباع، والأولاد والأحفاد، وهذه آخر لذات الدنيا، وإلى هذه المراتب أشار سبحانه وتعالى بقوله عزّ من قائل: {أَنَّمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ}(1). هذه هي اللذة المادية التي تنتهي بانتهاء الإنسان، بل تنتهي بانتهائها هي.

وأما اللذة المعنوية: وهي التي تظهر في البعض من الناس دون جميعهم، هي لذة المعرفة باللّه تعالى، والقرب منه، والمحبة له، والقيام بوظائف عبادته وترويح الروح بمناجاته، ولذة العمل بكتابه، والعمل بأحكامه، واتباع سيرة نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وانتهاج منهج أوليائه، ومودّة أهل بيت نبيه (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) وهذه هي اللذة الباقية، التي لا تنتهي بانتهاء الإنسان، ولا تزول بزواله، بل تبقى لبقاء مبدئها ومنشئها. فيستحقر معها الإنسان جميع اللذات السابقة.

ولذا سيبقى هؤلاء الذين وجدوا اللذة والسعادة الحقيقية في المعرفة والطاعة وبذل الوسع في سبيل الدين والإنسانية متمسكين بما هم عليه؛ إذ هم قد عرفوا زوال اللذائذ الدنيوية وزيفها، وعلموا فناءها وتبعاتها، فزهدوا في جميع تلك الملذات الفانية والزائلة من أجل الآخرة ولذائذها الباقية والدائمة، حتى أصبحوا مشاعل هدى، وذخائر علوم ربانية، وسفن نجاة في هذه الحياة الدنيا، فضلاً عن الأجر الأخروي الذي لا يُعَد ولا يُحصَى والذي سينالوه في الآخرة، إن شاء اللّه تعالى.

ص: 85


1- سورة الحديد، الآية: 20.

وهذه اللذة هي لذة عقلية أيضاً، وهي أسمى وألذ بكثير من اللذة الجسمية أو الوهمية، التي سبقت الإشارة إليها في الكلام حول اللذات المادية.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا بلغت باب المسجد فاعلم أنك قد قصدت باب بيت ملك عظيم لا يطأ بساطه إلّا المطهرون، ولا يؤذن بمجالسته مجلسه إلّا الصديقون، وهب القدوم إلى بساطه خدمة الملك فإنك على خطر عظيم، إن غفلت هيبة الملك واعلم أنه قادرٌ على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك، فإن عطف عليك برحمته وفضله قَبِلَ منك يسير الطاعة وآجرك عليها ثواباً كثيراً، وإن طالبك باستحقاقه الصدق والإخلاص عدلاً بك حجبك وردّ طاعتك وإن كثرت، وهو فعال لما يريد. واعترف بعجزك وتقصيرك وفقرك بين يديه، فإنك قد توجهت للعبادة والمؤانسة، واعرض أسرارك عليه، ولتعلم أنه لا تخفى عليه أسرار الخلائق أجمعين وعلانيتهم، وكن كأفقر عباده بين يديه، وأخل قلبك عن كل شاغل يحجبك عن ربك؛ فإنه لا يقبل إلّا الأطهر والأخلص، وانظر من أي ديوان يخرج اسمك، فإن ذقت من حلاوة مناجاته ولذيذ مخاطباته وشربت بكأس رحمته وكراماته من حسن إقباله عليك وإجابته فقد صلحت لخدمته، فادخل، فلك الأمن والأمان، وإلّا فقف وقوف مضطر من انقطع عنه الحيل وقصر عنه الأمل وقضى عليه الأجل، فإذا علم اللّه عزّ وجلّ من قلبك صدق الالتجاء إليه نظر إليك بعين الرحمة الرأفة والعطف، ووفقك لما يحب ويرضى، فإنه كريمٌ يحب الكرامة لعباده المضطرين إليه، المحترقين على بابه لطلب مرضاته، قال اللّه عزّ وجلّ:

{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}»(1)(2).

ص: 86


1- سورة النمل، الآية: 62.
2- بحار الأنوار 80: 373.
مع المؤلف الكبير: الشيخ البلاغي

كان المرحوم: الشيخ البلاغي(رحمه اللّه)(1) من كبار العلماء في العراق، ومن الذين قاموا بجهاد أنفسهم في سبيل اللّه عزّ وجلّ، وقد ألّف كتباً مهمة في شؤون العقيدة وأصول الدين، وقدّم خدمات جليلة للإسلام والمسلمين، وعانى من أجل ذلك الكثير الكثير.

فلقد كان أثناء إقامته في مدينة سامراء، التي كان يواصل درسه فيها، يحاول تعلّم لغة التوراة - العبرية - ليكشف تحريف اليهود لها، فكان يدفع نصف راتبه الشهري - وكان بمجموعه راتباً ضئيلاً لايكاد يكفي لمأكله وملبسه - إلى يهودي كان يسكن هناك لكي يتعلم منه اللغة العبرية، حتى استطاع بعد ذلك أن يستخرج التوراة - حسب طبعتها العبرية - ويطابقها مع التوراة العربية، فاكتشف كثيراً من التحريف.

يقول المرحوم السيد حسن القزويني(رحمه اللّه): ذهبت إلى منزل الشيخ البلاغي(رحمه اللّه) في النجف الأشرف، فوجدته جالساً في حجرته منشغلاً بالكتابة، وكان ذلك في أشد أيام الصيف حرارة، وكانت حجرته حارة جداً بحيث لا يطاق الجلوس فيها، ثم إني التفت إليه وإذا بمنديل له وعليه بقع من الدم؟! وبعد الاستفسار عن ذلك عرفت أن الشيخ البلاغي(رحمه اللّه) يعاني من التهاب شديد في صدره، وإنه جاءته نوبة من السعال نفث الدم من صدره، لكن الشيخ رغم هذا المرض ومعاناته الكبيرة وآلامه الشديدة كان يواصل تحقيقاته وتأليفاته القيمة.

وذكر أيضاً: إن الشيخ البلاغي(رحمه اللّه) كان يعيش حالة من الفقر وضيق العيش، ومع هذا لم تثنه كل هذه المشاكل عن إنجاز كتبه القيمة. وذكر أنه لما توّفي

ص: 87


1- هو الشيخ محمد جواد بن الشيخ حسن طالب البلاغي النجفي الربعي (نسبة إلى ربيعة القبيلة المشهورة) (1282-1352ه).

الشيخ البلاغي(رحمه اللّه) وانتشر خبر وفاته قامت الكنائس في بغداد وأوروبا بقرع نواقيسها فرحاً بموته؛ لأن ذلك اليوم كان يُعدّ عندهم يوم ارتياحهم من شخص استطاع في أثناء حياته أن يكشف التزوير والتدليس الذي ادخلوه على تعاليم الدين المسيحي، وأن يرد وبموضوعية علمية كبيرة على كتبهم المضللة المزورة التي ينسبونها إلى الدين المسيحي واليهودي.

ولم يكن الشيخ(رحمه اللّه) وباقي العلماء من الشخصيات الكبيرة التي سجلها التاريخ يستطيعون من إنجازات هذه المشاريع لولا أن بذلوا أغلى ما عندهم، ولولا أن طلقوا الدنيا وما فيها من نعيم زائل لا يدوم، ولولا أن جاهدوا أنفسهم وخالفوا هواها ومشتهياتها، وذلك من أجل مهمة هداية الناس وإرشادهم إلى طريق الحق رضاً لله عزّ وجلّ.

ومن الواضح: أن هذه الأمور إنما تتحقق لكل من ارتضاه اللّه عزّ وجلّ، ولا يرتضي اللّه إلّا من أوقف نفسه للدين، وهداية الناس أجمعين، وفي هذا جاء عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الناس في الدنيا ضيف وما في أيديهم عارية، وإن الضيف راحل وإن العارية مردودة، ألا وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل قاهر، فرحم اللّه من نظر لنفسه ومهّد لرمسه وحبله على عاتقه ملقى، قبل أن ينفذ أجله، وينقطع أمله، ولا ينفع الندم»(1).

من أسباب قوة غاندي

ثم إن مخالفة النفس وهواها توجب قوة الإنسان، مهما كان اتجاهه ومعتقداته. لقد بنى غاندي حياته - حسب ما قيل عنه - على نمط خاص، فلم يكن يأكل اللحم إطلاقاً، بل كان يكتفي دائماً بالفاكهة بل ببعض أنواعها فقط، ولا يرغب

ص: 88


1- إرشاد القلوب 1: 23.

في تناول الأغذية الحلوة والمالحة، وكان يعتقد أن هذه الأكلات هي حاجات نفسية يلزم الابتعاد عنها؛ فهو كان يرى أن الأكل ضرورة لحياة الجسم لا لإشباع رغبة في الأكل.

وفي الحقيقة أن هذه الفكرة، وهذا النحو من العمل الصعب لايحصل لأحد إلّا إذا جاهد نفسه، وتأمل بدقة، وتفكر بعمق، وكان هذا من أسباب قوة غاندي حيث كان يخالف هوى نفسه.

الإنسان والمعرفة

اشارة

قال عزّ من قائل: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَٰزِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعْلُومٖ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٖ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَٰحِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ}(2).

لم تقم السماوات سُدى وعبثاً، ولا على إفراط وتفريط، كما لم يتحقق أيّ فعل من أفعال اللّه دون قانون إلهي دقيق حكيم.

والإنسان لا يستطيع أن يصل إلى هدفه وإلى حل مشكلاته دون تحرك عملي منتظم، وجهود منتظمة مبذولة في ذلك الطريق.

وأهم ما يجب على الإنسان السعي من أجل تحققه والتعمق فيه للتغلب على هوى نفسه: هو معرفة اللّه عزّ وجلّ، حيث إنه إذا لم يتعمق الإنسان في معرفة اللّه فلا يمكنه أن يزداد خوفاً منه ولايمكنه التغلب على نفسه، وعندئذ لا يكون

ص: 89


1- سورة الحجر، الآية: 19- 21.
2- سورة القمر، الآية: 49- 50.

بمقدوره إنجاز أفضل الأعمال كما ورد ذلك في الروايات.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عرف نفسه فقد عرف ربه، ثم عليك من العلم بما لا يصح العمل إلّا به وهو الإخلاص»(1).

ومن طرق معرفة اللّه: التأمل في مخلوقاته حيث تتجلى عظمته سبحانه حتى في أصغر وأدق شيء منها، فمثلاً:

إن في ذرة اليورانيوم الواحدة هناك جزيئة يدور حولها (86 قمراً) وبسرعة (3 ملايين) دورة في الثانية، على ما نقل عن علماء الذرة في ذلك. أليس هذا الأمر عجيباً بل أعجب من العجيب؟!

لذا فإن المعرفة باللّه عزّ وجلّ تقربنا من اللّه سبحانه وتعالى خالق الكون، ومدبر الأمور كلها. فالتأمل في مخلوقات اللّه هي إحدى طرق العمل لتحصيل القدرة على إنجاز أفضل الأعمال ومخالفة الهوى. وعليه: فلا بدّ أن نعمل لنشر هذه الثقافة في الأوساط وبين الناس جميعاً: معرفة اللّه عزّ وجلّ، ويتبعها معرفة دينه ومعرفة رسله ومعرفة أوصيائهم(عليهم السلام).

الفكر والتفكر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا عبادة كالتفكر في صنعة اللّه عزّ وجلّ»(2).

وقال(عليه السلام): «لا علم كالتفكر»(3).

وقال(عليه السلام) لابنه الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام): «أي بني، إني وإن لم أكن عُمِّرتُ عُمُرَ من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في

ص: 90


1- بحار الأنوار: ج2 ص32 ب9 ح22.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 146.
3- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 113.

آثارهم،حتى عُدْتُ كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم قد عُمِّرتُ مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله(1)، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله...»(2).

هذا وقد ثبت لدى العلماء، المسلمين وغير المسلمين، أن للفكر دوراً كبيراً في بناء شخصية الإنسان، وتهذيبها بالمواعظ، وإلزامها بالفضائل، فإن التفكر الصحيح يؤدي إلى جهاد النفس ومخالفة الهوى وهو من أسرار تكون شخصية العظماء في التاريخ.

فمن الشخصيات القوية التي بناها الفكر والتفكير في تاريخ الإسلام هي شخصية أبي ذر (رضوان اللّه عليه)، وقد قال عنه الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أكثر عبادة أبي ذر رحمة اللّه عليه خصلتين: التفكر والاعتبار»(3).

ومن هنا نرى شدة التزام أبي ذر(رحمه اللّه) بقيمه ومبادئه ومخالفته لهوى نفسه، حتى أنه لم يخضع للسلاطين وردّ منحهم فعاش وحيداً غريباً، ومات وحيداً غريباً، ولكنه فاز برضا اللّه عزّ وجلّ.

من عجائب صنع اللّه

قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ}(4).

يقول المختصون: إن في الأُذن أعصاباً بعدد كل الحروف المنطوقة، وإن الإنسان إنما يدرك الكلمة بواسطة تلك الأعصاب، وإذا حدث أن اختل واحد من

ص: 91


1- النخيل: المختار المصفى.
2- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
3- الخصال 1: 42.
4- سورة التين، الآية: 4.

تلك الأعصاب فإن الإنسان لا يسمع ذلك الحرف، كما ذكروا أيضاً أن هناك (24) مليون لون في الطبيعة وقد عرضوا (300) ألف لون من هذه الألوان في معرض أقاموه في إحدى الدول الغربية.

وقالوا أيضاً: إن في العين أعصاباً هي بعدد الألوان في المحيط الخارجي، وأن كل عصب من تلك الأعصاب يختص بلون معين، ولو حدث أن عصباً من تلك الأعصاب أصابه خلل فإن العين لاترى ذلك اللون الذي هو من اختصاص ذلك العصب، وهذا جزء من عظمة اللّه عزّ وجلّ في مخلوقاته، وفي القرآن الحكيم: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا}(1).

فعلى الإنسان أن يضع شهواته وميوله النفسية جانباً، ويعمل بكل جُهد وجد لنيل الكمال الإنساني، وبلوغ السعادة الأبدية، حتى يعمر بذلك دنياه وآخرته.

العقل والتعقل

نعم، على الإنسان أن يرقى بروحه، ويعرج بعقله، ويجعل شهواته وميوله النفسية تحت قدميه، وهذا أمر صعب جداً، ولا يتم إلّا بالتعقل والتفكر في كل صغيرة وكبيرة، لأن النجاة من تعلقات هذه الدنيا الدنيئة لا يتم إلّا به.

فعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن اللّه تبارك وتعالى خلق العقل من نور مخزون مكنون في سابق علمه، الذي لم يطلع عليه نبي مرسل ولا ملك مقرب، فجعل العلم نفسه، والفهم روحه، والزهد رأسه، والحياء عينيه، والحكمة لسانه، والرأفة فمه، والرحمة قلبه، ثم حشّاه وقوّاه بعشرة أشياء: باليقين والإيمان والصدق والسكينة والإخلاص والرفق والعطية والقنوع والتسليم والشكر، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: تكلم،

ص: 92


1- سورة آل عمران، الآية: 191.

فقال:الحمد لله الذي ليس له ند ولا شبه، ولا شبيه ولا كفو، ولا عديل ولا مثل ولا مثال، الذي كل شيء لعظمته خاضع ذليل، فقال الرب تبارك وتعالى: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك، ولا أطوع لي منك، ولا أرفع منك، ولا أشرف منك، ولا أعز منك، بك أوحَّدُ، وبك أُعبدُ، وبك أُدعى، وبك أُرتجى، وبك أُبتغى، وبك أُخاف، وبك أُحذر، وبك الثواب، وبك العقاب، فخرّ العقل عند ذلك ساجداً وكان في سجوده ألف عام، فقال الرب تبارك وتعالى بعد ذلك: ارفع رأسك، وسَل تُعط، واشفع تشفَّع، فرفع العقل رأسه فقال: إلهي أسألك أن تشفعني فيمن خلقتني فيه، فقال اللّه جلّ جلاله لملائكته: اُشهدكم أني قد شفّعته فيمن خلقته فيه»(1).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «إذا رأيتم الرجل كثير الصلاة كثير الصيام فلا تباهوا به حتى تنظروا كيف عقله»(2).

وجاء في قوله تعالى: {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(3) يعني من كان عاقلاً(4).

ومن وصايا لقمان(عليه السلام) لابنه، أنه قال: «تواضع للحق تكن أعقل الناس، وإن الكيّس لدى الحق يسير. يا بني، إن الدنيا بحر عميق، قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّه، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل، وقيّمها العقل، ودليلها العلم، وسكانها الصبر»(5).

ص: 93


1- معاني الأخبار: 313.
2- الكافي 1: 26.
3- سورة يس، الآية: 70.
4- انظر: مجمع البيان 8: 288. سورة يس، والتبيان في تفسير القرآن: ج8 ص474 سورة يس.
5- الكافي 1: 16.

ولقد أحسن من قال:

إذا لم يكن للمرء عقل يزينه *** ولم يك ذا رأي سديد ولا أدب

فما هو إلّا ذو قوائم أربع *** وإن كان ذا مال كثير وذا حسب(1)

«ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد اللّه فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا»(2).

من هدى القرآن الحكيم

الطريق إلى معرفة اللّه

قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِي الْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَفِي الْأَرْضِ ءَايَٰتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(5).

الإخلاص للّه تعالى

قال عزّ وجلّ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَٰبِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}(6).

وقال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(7).

ص: 94


1- إرشاد القلوب 1: 198.
2- مصباح المتهجد 2: 662.
3- سورة فصلت، الآية: 53.
4- سورة الذاريات، الآية: 20- 21.
5- سورة الشمس، الآية: 7- 10.
6- سورة مريم، الآية: 51.
7- سورة ص، الآية: 82-83.

وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}(1).وقال جلّ وعلا: {بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(2).

هكذا عباد اللّه

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(3).

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}(4).

وقال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(6).

العدل والاعتدال

قال عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}(7).

ص: 95


1- سورة الزمر، الآية: 11.
2- سورة البقرة، الآية: 112.
3- سورة المائدة، الآية: 54.
4- سورة الأنفال، الآية: 2- 4.
5- سورة الفرقان، الآية: 63.
6- سورة الشعراء، الآية: 215.
7- سورة النحل، الآية: 90.

وقال تعالى: {فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَاأَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَٰبٖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ}(2).

الذكرى تفيد المتعقلين

قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}(3).

وقال سبحانه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(5).

من هدى السنة المطهرة

النفس من طرق معرفة اللّه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عرف نفسه فقد عرف ربه»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس»(7).

ودخل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجل اسمه مجاشع فقال: يا رسول اللّه، كيف

ص: 96


1- سورة الشورى، الآية: 15.
2- سورة المائدة، الآية: 8.
3- سورة ق، الآية: 37.
4- سورة الرعد، الآية: 19.
5- سورة الزمر، الآية: 21.
6- متشابه القرآن ومختلفه 1: 44.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 720.

الطريق إلى معرفة الحق؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «معرفة النفس».فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى موافقة الحق؟

قال:«مخالفة النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى رضا الحق؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سخط النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى وصل الحق؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هجر النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى طاعة الحق؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عصيان النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى ذكر الحق؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نسيان النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى قرب الحق؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «التباعد من النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى أنس الحق؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الوحشة من النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى ذلك؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الاستعانة بالحق على النفس»(1).

الإخلاص للّه سبحانه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قال اللّه تعالى: لا أطلع على قلب عبد فأعلم فيه حب

ص: 97


1- بحار الأنوار 67: 72.

الإخلاص لطاعتي لوجهي، وابتغاء مرضاتي، إلّا توليت تقويمه وسياسته، ومناشتغل بغيري فهو من المستهزئين بنفسه، ومكتوب اسمه في ديوان الخاسرين»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأخلص لله عملك وعلمك وحبك وبغضك وأخذك وتركك وكلامك وصمتك»(2).

وقال(عليه السلام): «صفتان لا يقبل اللّه سبحانه الأعمال إلّا بها: التقى والإخلاص»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن لله عباداً عاملوه بخالص من سرّه، فعاملهم بخالص من بره، فهم الذين تمر صحفهم يوم القيامة فرغاً،وإذا وقفوا بين يديه تعالى ملأها من سرّ ما أسرّوا إليه...»(4).

التواضع يسّبب الرفعة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تواضع لله رفعه اللّه»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنك إن تواضعت رفعك اللّه»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه، ومن تكبر وضعاه»(7).

وقال(عليه السلام): «التواضع أصل كل خير نفيس ومرتبة رفيعة، ولو كان للتواضع لغة

ص: 98


1- رسائل الشهيد الثاني: 133.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 141.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 423.
4- عدة الداعي: 207.
5- الكافي 2: 122.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 266.
7- الزهد: 62.

يفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما في مخفيات العواقب، والتواضع ما يكون في اللّه ولله، وما سواه مكر، ومن تواضع لله شرفه اللّه على كثير من عباده، ولأهل التواضعسيماء يعرفها أهل السماء من الملائكة وأهل الأرض من العارفين، قال اللّه عزّ وجلّ: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَىٰهُمْ}(1) وأصل التواضع من جلال اللّه وهيبته وعظمته، وليس لله عزّ وجلّ عبادة يقبلها ويرضاها إلّا وبابها التواضع، ولا يعرف ما في معنى حقيقة التواضع إلّا المقربون المستقلين بوحدانيته، قال اللّه عزّ وجلّ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(2) وقد أمر اللّه عزّ وجلّ أعز خلقه وسيد بريته محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالتواضع؛ فقال عزّ وجلّ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(3) والتواضع مزرعة الخشوع والخضوع والخشية والحياء، وإنهن لا يأتين إلّا منها وفيها، ولا يسلم الشرف التام الحقيقي إلا للمتواضع في ذات اللّه تعالى»(4).

العدل: ميزان اللّه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أحب الناس يوم القيامة وأقربهم من اللّه مجلساً إمام عادل، إن أبغض الناس إلى اللّه وأشدهم عذاباً إمام جائر»(5).

وقال أمير المؤمنين(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن العدل ميزان اللّه سبحانه الذي وضعه في الخلق ونصبه لإقامة الحق، فلا تخالفه في ميزانه ولاتعارضه في سلطانه»(6).

ص: 99


1- سورة الأعراف، الآية: 46.
2- سورة الفرقان، الآية: 63.
3- سورة الشعراء، الآية: 215.
4- بحار الأنوار 72: 121.
5- روضة الواعظين 2: 466.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 224.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ثلاثة هم أقرب الخلق إلى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه إلى أن يحيف علىمن تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة، ورجل قال بالحق فيما له وعليه»(1).

التعقّل والتواصي به

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل، تعرفوا به ما أُمرتم به ونهيتم عنه، وأعلموا أنه مجدكم عند ربكم، وأعلموا أن العاقل من أطاع اللّه...»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جواب شمعون بن لاوي بن يهودا من حواري عيسى(عليه السلام) حيث قال: أخبرني عن العقل ما هو، وكيف هو، وما يتشعب منه وما لا يتشعب، وصف لي طوائفه كلها؟ فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن العقل عقال من الجهل، والنفس مثل أخبث الدواب، فإن لم تُعقل حارت فالعقل عقال من الجهل، وإن اللّه خلق العقل فقال له: أقبل فأقبل، وقال له: أدبر فأدبر، فقال اللّه تبارك وتعالى: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أعظم منك، ولا أطوع منك، بك أبدأ وبك أعيد، لك الثواب وعليك العقاب»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقل يهدي وينجي والجهل يغوي ويردي»(4).

ص: 100


1- الكافي 2: 145.
2- المحجة البيضاء 1: 170.
3- تحف العقول: 15.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 124.

الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش

قانون الاكتفاء والبساطة

اشارة

من أهم أسباب التقدم في الأمم وكذلك الأفراد: الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش، وهذا يوجب سعادة الدارين، ولاتختص السعادة المترتبة عليه بالأمور الدنيوية فحسب.

قال الباري تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْأخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

وهذه الآية المباركة تدل على أنه لا فرق في عطاء قانون الاكتفاء وقانون البساطة، بين المسلم والكافر، والمؤمن والمنافق، فمن أخذ بهذين القانونين تقدم في الحياة، ومن تركهما تأخر.

العمل طريق الاكتفاء

إن الاكتفاء الذاتي بحاجة إلى العمل المستمر، والقضاء على البطالة، وترك الكسل والضجر واليأس.

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «أن رجلاً أتى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليسأله، فسمعه وهو(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه. فانصرف ولم يسأله، ثم عاد إليه

ص: 101


1- سورة الإسراء، الآية: 19-20.

فسمع مثل مقالته فلم يسأله، حتى فعل ذلك ثلاثاً. فلما كان في اليوم الثالث مضى واستعارفأساً وصعد الجبل، فاحتطب وحمله إلى السوق فباعه بنصف صاع من شعير فأكله هو وعياله، ثم أدام على ذلك حتى جمع ما اشترى به فأساً، ثم اشترى بكرين وغلاماً وأيسر. فصار إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أليس قد قلنا: من سأل أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه»(1).

وجاء في فقه الرضا(عليه السلام): «وأروي عن العالم(عليه السلام)(2) أنه قال: وقوا دينكم بالاستغناء باللّه عن طلب الحوائج، واعلموا أنه من خضع لصاحب سلطان جائر أو لمخالف، طلباً لما في يديه من دنياه، أهمله اللّه ومقت عليه ووكله إليه، فإن هو غلب على شي ء من دنياه نزع اللّه منه البركة، ولم ينفعه بشي ء في حجته، ولغيره من أفعال البر»(3).

البساطة في العيش

البساطة في العيش توجب أن يركز الإنسان في حياته على الضروريات بعيداً عن الكماليات، وهي من أهم أسباب التقدم. أما إذا اشتغل الإنسان بالكماليات والمسائل الرفاهية وما أشبه، فإنه سيبتعد شيئاً فشيئاً عن الضروريات والأمور المهمة، وكثيراً ما يقع في الحرام ويرتكب الموبقات.

روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «إن وَلِيَّ علي(عليه السلام) لايأكل إلّا الحلال؛ لأن صاحبه(عليه السلام) كان كذلك، وإن وليَّ عثمان لا يبالي أحلالاً أكل أو حراماً؛ لأن صاحبه كذلك». قال: ثم عاد إلى ذكر علي(عليه السلام) فقال: «أما والذي ذهب بنفسه، ما أكل(عليه السلام)

ص: 102


1- بحار الأنوار 72: 108.
2- أي: عن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام).
3- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 367.

من الدنيا حراماً قليلاً ولا كثيراً حتى فارقها، ولا عرض له أمران كلاهما لله طاعة إلّا أخذبأشدّهما على بدنه، ولا نزلت برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شديدة قط إلّا وجّهه(عليه السلام) فيها ثقةً به، ولا أطاق أحد من هذه الأمة عمل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعده غيره(عليه السلام)، ولقد كان(عليه السلام) يعمل عمل رجل كأنه ينظر إلى الجنة والنار، ولقد أعتق ألف مملوك من صلب ماله، كل ذلك تحفّى(1) فيه يداه وتعرق جبينه التماس وجه اللّه عزّ وجلّ والخلاص من النار، وما كان قوته(عليه السلام) إلّا الخل والزيت، وحلواه التمر إذا وجده، وملبوسه الكرابيس(2)، فإذا فضل عن ثيابه شيء دعا بالجَلَم(3) فجزه»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان علي(عليه السلام) أشبه الناس طعمة وسيرة برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكان يأكل الخبز والزيت ويطعم الناس الخبز واللحم - قال: - وكان علي(عليه السلام) يستقي ويحتطب، وكانت فاطمة(عليها السلام) تطحن وتعجن وتخبز وترقع، وكانت من أحسن الناس وجهاً كأن وجنتيها وردتان، صلى اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها ووُلدها الطاهرين»(5).

وهذه الروايات كلها تدل على البساطة في العيش وهي من مقومات الاكتفاء الذاتي.

من سمات النجاح

إذن هناك سمات للإنسان الناجح، والمجتمع المتقدم في الحياة، وهي أمور

ص: 103


1- حفى من كثرة المشي حتى رقّت قدمه من باب تعب، وتحفّى في الشيء: اجتهد.
2- الكرابيس: جمع كرباس، الثوب الخشن.
3- جَلَمَ الشيءَ يَجْلِمُه جَلْماً: قطعه. والجَلَمانِ: المِقْراضانِ، واحدهما جَلَمٌ للذي يُجَزُّ به. لسان العرب 12: 102. مادة (جلم).
4- الكافي 8: 163.
5- الكافي 8: 165.

عدة، من أهمها أمران:الأول: الاكتفاء الذاتي، وذلك بأن يسد احتياجاته الصغيرة والكبيرة - مهما أمكن - بنفسه، ولا يتوقع أو ينتظر من الغير إسداء العون إليه.

الثاني: أن تكون حياته قائمة على البساطة والزهد، بلا تكلف ولااهتمام بالكماليات والمسائل الرفاهية المختلفة والشكليات المعقدة، التي تهدر أوقاته وأمواله وعمره بالأمور التافهة مما يؤثر سلباً على الأصول المهمة في العيش، وذلك إقتداءً وأسوة بالأنبياء والأئمة والصالحين(عليهم السلام) حيث اتخذوا الزهد في الدنيا وما فيها.

مقومات الاكتفاء

ويرد هنا سؤال هو: كيف يمكن أن نقوي فينا واقع الاكتفاء الذاتي؟

وماذا يجب أن نعمل كي نكتفي ذاتياً؟

وفي الجواب نقول:

هناك مقدمتان أساسيتان تشكلان مبدأ الاكتفاء الذاتي في كل إنسان وكل مجتمع وكل أمة:

الأولى: ثقافة الاكتفاء، أي الفكر والتوعية التي تبين لنا أهمية الاكتفاء وضرورته في سبيل تقدم الفرد والأمة.

والثانية: التخطيط العملي للاكتفاء وم ثم تطبيق تلك البرامج والأفكار في الحياة اليومية والواقع المعاش، وهذه المقدمة الثانية أصعب من الأولى.

خير أسوة

إن أفضل أسوة وأحسن مصداق عملي للبساطة والزهد في العيش نجده في حياة الإمام أمير المؤمنين علي وفاطمة الزهراء(عليهما السلام)؛ حيث جعلا فراشهما جلد شاة بدلاً من الفراش والرياش، واستعملا الأواني الخزفية التي كان يستخدمها

ص: 104

أبسط الناس حينذاك، بدلاً من القوارير الفضية، وكانا يستعملان التراب في الغسل والتنظيف، حتى في غسل الأطفال وتنظيفهم.

قال الإمام الصادق(عليه السلام):«إن علياً(عليه السلام) تزوج فاطمة(عليها السلام) على جرد بردٍ(1)، ودرع، وفراش كان من إهاب(2) كبش»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «لما تزوج علي فاطمة(عليهما السلام) بسط البيت كثيباً(4)، وكان فراشهما إهاب كبش، ومرفقهما محشوة ليفاً، ونصبوا عوداً يوضع عليه السقاء فستره بكساء»(5).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «أدخل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة على علي(عليه السلام) وسترها عباءٌ، وفرشها إهاب كبش، ووسادتها أدم محشوة بمسد»(6)(7).

وعنه(عليه السلام) قال: «إن فراش علي وفاطمة(عليهما السلام) كان سلخ كبش يقلبه فينام على صوفه»(8).

وعن جهاز أمير المؤمنين والصديقة الزهراء(عليهما السلام) يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «وسكب الدراهم في حجره، فأعطى منها قبضة كانت ثلاثة وستين أو ستة وستين إلى أم أيمن لمتاع البيت، وقبضة إلى أسماء بنت عميس للطيب، وقبضة إلى أم

ص: 105


1- البَرد: الخَلَق من الثياب، والبُرد: نوعٌ من الثياب معروف، ثوبُ فيه خطوط، والجمع أبراد وأبرد برود.
2- الإهاب: الجلد ما لم يدبَّغ.
3- الكافي 5: 377.
4- الكثيب: الرمل.
5- مكارم الأخلاق: 131.
6- الأدم: الجلد المدبوغ، المسد: الليف.
7- مكارم الأخلاق: 131.
8- مكارم الأخلاق: 131.

سلمة للطعام، وأنفذ عماراً وأبا بكر وبلالاً لابتياع ما يصلحها، وكان مما اشتروهقميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبرية، وسرير مزمل بشريط(1)، وفراشان من خيش(2) مصر حشو أحدهما ليف، وحشو الآخر من جز الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها إذخر(3)، وستراً من صوف، وحصير هجري، ورحاء اليد، وسقاء من أدم، ومِخْضَبٌ(4) من نحاس، وقعب للَّبن، وشن للماء، ومطهرة مزفتة، وجرة خضراء، وكيزان(5) خزف - وفي رواية - ونطع من أدم، وعباء قطواني، وقربة ماء»(6).

من كتاب زهد أمير المؤمنين(عليه السلام) عن عقيل بن عبد الرحمن الخولاني قال: كانت عمتي تحت عقيل بن أبي طالب(عليه السلام) فدخلت على علي(عليه السلام) بالكوفة وهو جالس على بَرذَعة(7) حمار مبتلة! قالت: فدخلت على علي(عليه السلام) امرأة له من بني تميم فقلت لها: ويحك إن بيتك ممتلئ متاعاً وأمير المؤمنين(عليه السلام) جالس على برذعة حمار مبتلة؟ فقالت: لا تلوميني فو اللّه ما يرى شيئاً ينكره إلّا أخذه فطرحه في بيت المال(8).

ص: 106


1- الشريط: خيط أو حبل يفتل من خوص.
2- الخيش: نسيج خشن من الكتان.
3- الإذخر: حشيش طيب الريح.
4- المِخْضَب: وعاء لغسل الثياب أو خضبها، والقعب: القدح الضخم الغليظ، والشن: القربة الصغيرة والمزفتة: المطليه بالزفت، وهو نوع من القير.
5- اكيزان: جمع اكوز وهو معروف.
6- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 352.
7- البَرْذَعة: الحِلس الذي يلقى تحت الرحل، والجمع البراذع، وخص بعضهم به الحمار، وقيل هي برذعة وبردعة بالذال والدال. انظر: لسان العرب مادة (برذع).
8- مكارم الأخلاق: 132.

وقد كان كثير من الأصحاب المؤمنين يتبعون نفس هذا الأسلوب في الحياةالزوجية والاجتماعية، إقتداءً بهما(عليهما السلام)، وعملاً بما جاء به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ولذا نرى الأمة الأسلامية في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعهد أمير المؤمنين(عليه السلام) كانت من الأمم المتطورة والتي لا تحتاج إلى أي أمة أخرى في زراعتها وصناعتها وسلاحها وسائر ما يرتبط بحياتها.

وفي البيت العائلي

روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال لرجل من بني سعد:

«ألا أحدثك عني وعن فاطمة الزهراء(عليها السلام)، أنها كانت عندي فاستقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت(1) يدها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضر شديد.

فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألته خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل؟

فأتت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوجدت عنده حُدّاثاً(2)، فاستحيت فانصرفت.

فعلم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنها قد جاءت لحاجة، فغدا علينا ونحن في لحافنا، فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا.

ثم قال: السلام عليكم، فسكتنا.

ثم قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك فيسلّم ثلاثاً فإن أذن له وإلّا انصرف، فقلنا: وعليك السلام يا رسول اللّه، أدخل.

فدخل وجلس عند رؤوسنا، ثم فقال: يا فاطمة، ما كانت حاجتكِ أمس عند

ص: 107


1- مجلت يداها: أي ظهر فيها المجل، وهو ماء يكون بين الجلد واللحم من كثرة العمل الشاق، وكسح كمنع: أي كنس، والدكنة: لون يضرب إلى السواد.
2- أي جماعة يتحدثون.

محمد.

قال: فخشيت إن لم نجبه أن يقوم، فأخرجتُ رأسي فقلت: أنا واللّه أخبرك يا رسول اللّه، إنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألته خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل.

قال: أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم، إذا أخذتما منامكما فكبّرا أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدة.

فأخرجت فاطمة(عليها السلام) رأسها، فقالت: رضيتُ عن اللّه وعن رسوله، رضيتُ عن اللّه وعن رسوله»(1).

وفي الخبر أنه رأى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة(عليها السلام) وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «يا بنتاه، تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة». فقالت: «يا رسول اللّه، الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه. فأنزل اللّه سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ}»(2)(3).

سيرة الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)

وهكذا كان أنبياء اللّه(عليهم السلام) كما أخبر الصادق الأمين، حيث ورد عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):«وإن شئت نبأتك بأمر داود خليفة اللّه في

ص: 108


1- من لا يحضره الفقيه 1: 320.
2- سورة الضحى، الآية: 5.
3- التمحيص: 6.

الأرض كان لباسه الشعر وطعامه الشعير» - إلى أن قال: - «وإن شئت نبأتك بأمر إبراهيمخليل الرحمن، كان لباسه الصوف وطعامه الشعير، ... وإن شئت نبأتك بأمر عيسى ابن مريم فهو العجب كان يقول: إدامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف»(1).

وفي الحديث: دخل الإمام الصادق(عليه السلام) الحمام، فقال له صاحب الحمام: نخليه لك؟

فقال: «لا، إن المؤمن خفيف المئونة»(2).

وهذه الخفة والبساطة كانت السمة الغالبة لحياة المسلمين في الصدر الأول للإسلام، وهي التي جعلتهم يتقدمون ذلك التقدم الباهر والسريع على سائر الأمم التي كانت معاصرة لبدء الإسلام، فاستطاعوا بذلك أن يفتحوا قسماً كبيراً من إمبراطورية الروم شمالاً، وبلاد فارس شرقاً، فضلاً عن بلاد النجاشي، والهند، وجزءً من الصين؛ لأن التقدم لا يحصل إلّا بالهمة والنشاط والعمل، وهذه كلها لا تنسجم مع الحياة الناعمة والعيش المرفه الوثير، ولا تنسجم أيضا مع الكسل والضجر واليأس وما أشبه.

العمل الدءوب

أتذكر ذات مرة، ذهبنا مع جماعة من الأصدقاء لزيارة مرقد أولاد مسلم(عليهما السلام)(3) في المسيب، وبعد أن وصلنا إلى هناك وأتممنا زيارتنا ذهبنا إلى جسر المسيب

ص: 109


1- مكارم الأخلاق: 447.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 117.
3- هما الشهيدان محمد وإبراهيم ابنا الشهيد مسلم بن عقيل(عليه السلام) اللذان قتلا على يد أحد جلاوزة عبيد اللّه بن زياد، ومرقدهما يقع بالضواحي الغربية لمدينة المسيب التي تقع شمال مدينة كربلاء المقدسة حوالي (30 كم) على ضفاف نهر الفرات.

وكان الجو حاراً جداً. فرأينا العمال منهمكين في تصليح وترميم الجسر علىالرغم من حرارة الجو اللاهبة، وعند الظهر حانت ساعة الاستراحة فتوقف جميع العمال عن العمل والتجئوا إلى الظل ليتناولوا غذاءهم ويحصلوا على قسط من الراحة. ولكن الأمر الذي لفت انتباهنا هو حالة المهندس الذي كان مسئولاً عن ترميم الجسر فإنه الوحيد الذي لم يرفع يده عن العمل، بل استمر تحت وهج الشمس المحرقة، يباشر فحص مواد التعمير ودراستها والتأكد من إتمام العمل فيها وعدم نقصه، ومع أن العرق كان يتصبب منه بغزارة لكنه لم يلتفت لذلك أبداً، ولم يسترح طوال الوقت حتى أنهى مهمته.

نعم، الذين يتقدمون في الحياة هم الذين لا يعرفون التعب، ويعملون ليل نهار بدون توقف، بالرغم من كل المشاكل والصعاب التي تعترض سبيلهم. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من بذل جهد طاقته بلغ كنه إرادته»(1).

وقال(عليه السلام): «ما أدرك المجد من فاته الجد»(2).

وقال(عليه السلام): «ما أقرب النجاح ممن عجل السراح»(3).

العمل في فترة الاستجمام

نقل أحد الأدباء(4) قصة ذكر فيها ما لمسه من اهتمام الغربيين بالوقت حتى في أوقات استجمامهم، فقال:

سافرت مرة إلى تونس للاستجمام والترفيه عن النفس، وفي نفس الفندق الذي حجزت فيه غرفة، كان يقيم أيضاً شخص غربي، وبعد أن تعرفت عليه

ص: 110


1- عيون الحكم والمواعظ: 462.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 688.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 687.
4- هو الكاتب المصري مصطفى محمود.

وحادثته، قال لي: بأنه جاء إلى تونس بحثاً عن معالم التراث والآثار القديمة،وكان هذا الشخص جاداً في عمله، فيومياً كان يخرج ويحمل معه مقداراً من الماء والخبز ومسحاة وفأساً، ويصطحب معه عاملاً، ويذهب إلى الصحارى المحيطة بتلك المنطقة، ويقوم بالحفر هنا وهناك، ويستخرج بعض الأحجار والآثار القديمة، ويأتي بها إلى الفندق ويجمعها.

وفي أحد الأيام، عندما كان خادم الفندق ينظف الغرف، ألقى بهذه الأحجار في سلة المهملات لجهله بها، فأخذتها سيارة القمامة والنفايات التابعة للبلدية، وألقتها خارج المدينة مع سائر النفايات التي جمعتها. وعندما أتى هذا الرجل السائح واطلع على حقيقة الأمر تأثر تأثراً كبيراً، وقال بحزن وأسف شديدين: قد ضاعت جهود شهرين كاملين، فإن هذه الأحجار كانت من أهم ما عثرت عليه من الآثار المهمة في هذه المنطقة وبسبب جهل الخادم ضاعت مني.

نعم، هؤلاء حتى في السياحة والاصطياف لا يضيعون الوقت بل يستغلونه بالبحث والتنقيب والتدقيق.

وكم رأينا من السياح والأجانب يأتون إلى كربلاء المقدسة من الأماكن البعيدة، فيقطعون المسافات الطويلة بواسطة الدراجات النارية مع بساطة الإمكانات، نراهم يقضون الأيام والليالي في الصحارى والمناطق القاحلة، بلا ماء أو غذاء، ويصل الأمر بهم في بعض الأحيان إلى أكل الحشائش والأعشاب الصحراوية، ويستريحون في المزارع والحدائق العامة، أو على قارعة الطريق، ثم يستأنفون رحلتهم وجولتهم من أجل رؤية بلاد العالم عن كثب، ودراسة أوضاعها من قرب، ومعرفة أساليب معيشة الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم، وربما لأهداف أخرى كالتجسس وما أشبه، حيث إن بعض هؤلاء كان هدفهم التجسس وتمهيد السبيل للاستعمار، ولكن البعض الآخر منهم كان من السياح الحقيقيين الذين

ص: 111

تهمهم قضايا المعرفة والاستطلاع.

ومهما كانت الأهداف فالكلام في الجد والعمل وعدم الضجر والكسل والملل.

المسلمون بين الأمس واليوم

قال تبارك وتعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

إن حياة الدنيا ونعيمها ينالها - عادة - الذين يعملون ويجتهدون بلا ملل أو كلل، فيتعبون أنفسهم بكل عزيمة، جاعلين البساطة وعدم التعقيد شعارهم، كما أنهم يهتمون بالأمور الحقيقية المهمة ويتركون الجزئيات غير المهمة.

بينما في الوقت الحاضر، نجد أن كثيراً من المسلمين يقضون أوقاتهم في طلب الراحة والدعة، والجاه والمنصب الفارغ من محتواه الحقيقي، فلا يفكرون في استقلالهم وحريتهم، بل وحتى لايهتمون بحياتهم الخاصة وتقدمهم الاجتماعي والعلمي.

ولو ألقينا نظرة فاحصة على تاريخ صدر الإسلام وذلك التقدم الكبير الذي حصل للمسلمين، لرأينا أن من أسبابه بساطة الحياة وعدم التعقيد.

ومن الشواهد التي يمكن أن نستشهد بها على ذلك، ما ذكر من أحداث ووقائع إبان فتح المسلمين لإيران التي كانت تسمى بالإمبراطورية الساسانية، فكتب اللّه للمسلمين النصر لما اتصفوا به من همة عالية وإخلاص في النية وزهد في الدنيا، وتصميمهم القوي على إنقاذ الناس من نير حكام الجور والأنظمة الفاسدة. حيث ذكر أنه في ذلك اليوم عندما تحرك المسلمون من أجل

ص: 112


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

تخليص بلاد فارس من القهر والظلم الكسروي، وبعد مناوشات عديدة مع جيش الفرس عسكروا في مقابل عسكرهم، فأرسل (رستم) قائد جيش الفرس رسولاً يسألهم: لماذا أتيتم إلى قتالنا؟

فأرسل المسلمون رجلاً منهم إلى رستم، يرتدي ملابس خلقة، ويحمل معه سيفاً بلا غمد، قد علقه بكتفه بحبل من خوص النخيل، فعندما شاهد رستم هيئة ولباس ذلك الرجل المسلم، قال له: أنتم الأعراب لم تكونوا تحاربون من أجل هدف، وإنما من أجل تحصيل حمل بعير من التمر أو الحنطة، وأنا الآن أعطيكم هذه الأشياء، فارفعوا أيديكم عن الحرب وعودوا إلى أوطانكم!

فقال له المسلم: كلامك صحيح سابقاً؛ إذ كنا أذلاء وضعفاء، وكنا نحارب لغرض السلب والنهب، ونبذل في ذلك دماءنا وأعراضنا، أما الآن فقد أعزنا اللّه وشرفنا بالإسلام، وجعلنا نفكر في إنقاذ المستضعفين من نير المستكبرين والطغاة، ولأجل ذلك جئنا إلى هذه الديار، فنحن نحارب لا لأجل الدنيا بل لأجل إنقاذ الناس ونشر الإسلام.

فأخرج رستم سيفاً مرصعاً بالجواهر والأحجار النفيسة وقال له: هذا هدية لك بشرط أن تعود!

فقال المسلم: كلا، فإن هذا السيف لا ينفعنا، نحن نريد هداية الناس، ثم أخرج سيفه وضرب به سيف رستم فتطايرت بعض المجوهرات منه، فتحير رستم من هذه الجرأة والشجاعة وتعجب كثيراً لموقفه الحازم(1).

نعم، هكذا كان يطمح المسلمون في نصرة الإسلام، وإعلاء كلمة اللّه، وهداية الناس إلى الحق بهمم عالية، وبأرواح متفانية في سبيل اللّه عزّ وجلّ،

ص: 113


1- انظر: تاريخ ابن خلدون القسم الثاني من 2: 91، وتاريخ الطبري: 3: 15، وفتوح البلدان 2: 315.

ولذلك وصلوا إلى أهدافهم وأوصلوا الإسلام إلى مختلف آفاق المعمورة.

وفي بعض التواريخ:

أنه ركب رستم غداة تلك الليلة وصعد مع النهر وصوب حتى وقف على القنطرة، وأرسل إلى زهرة فواقفه وعرض له بالصلح، وقال: كنتم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونحفظكم، ويقرر صنيعهم مع العرب، ويقول زهرة: ليس أمرنا بذلك وإنما طلبنا الآخرة، وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث اللّه فينا رسولاً دعانا إلى دين الحق فأجبناه وقال: قد سلطتكم على من لم يدن به وأنا منتقم بكم منهم وأجعل لكم الغلبة.

فقال رستم: وما هو دين الحق؟

فقال: الشهادتان، وإخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة اللّه، وأنتم أخوان في ذلك.

فقال رستم: فإن أجبنا إلى هذا ترجعون؟

فقال: إي واللّه.

فانصرف عنه رستم ودعا رجال فارس وذكر ذلك لهم، فأنفوا وأرسل إلى سعد قائد الجيش: أن ابعث لنا رجلاً نكلمه ويكلمنا.

فبعث إليهم ربعي بن عامر، وحبسوه على القنطرة حتى أعلموا رستم، فجلس على سرير من ذهب، وبسط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب. وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدودة بعصب، وقدم حتى انتهى إلى البساط ووطئه بفرسه، ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما وجعل الحبل فيهما، فلم يقبلوا ذلك وأظهروا التهاون، ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها، وأشاروا إليه بوضع سلاحه، فقال: لو أتيتكم فعلت كذا بأمركم وإنما دعوتموني.

ص: 114

ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه حتى أفسد ما مر عليه من البسط، ثم دنا من رستم وجلس على الأرض، وركز رمحه على البساط، وقال: إنا لا نقعد على زينتكم.

فقال له الترجمان: ما جاء بكم؟

فقال: اللّه بعثنا لنخرج عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأرسلنا بدينه إلى خلقه فمن قبله قبلنا منه وتركناه وأرضه، ومن أبى قاتلناه حتى نفيء إلى الجنة أو الظفر.

فقال رستم: هل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟

قال: نعم، كم أحب إليك يوماً أو يومين؟

قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا؟

فقال: إن مما سن لنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم واختر: إما الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزية فنقبل ونكف عنك وان احتجت إلينا نصرناك، أو المنابذة في الرابع إن تنبذ، وأنا كفيل بهذا عن أصحابي.

قال: أسيدهم أنت؟

قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يجيز بعضهم عن بعض، يجيز أدناهم على أعلاهم.

فخلا رستم برؤساء قومه، وقال: رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا الرجل؟

فأروه الاستخفاف بشأنه وثيابه، فقال: ويحكم، إنما أنظر إلى الرأي والكلام والسيرة، والعرب تستخف اللباس وتصون الاحساب.

ثم أرسل إلى سعد: أن ابعث إلينا ذلك الرجل. فبعث إليهم حذيفة بن

ص: 115

محصن، ففعل كما فعل الأول ولم ينزل عن فرسه، وتكلم وأجاب مثل الأول.

فقال له: ما قعد بالأول عنا؟

فقال: أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي.

فقال رستم: والمواعدة إلى متى؟

فقال: إلى ثلاث من أمس.

وانصرف وحاص رستم بأصحابه يعجبهم من شأن القوم، وبعث في الغد عن آخر فجاءه المغيرة، فلما وصل إليهم وهم على زيهم وبسطهم على غلوة من مجلس رستم، فجاء المغيرة حتى جلس معه على سريره فأنزلوه.

فقال: لا أرى قوماً أسفه منا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضاً فظننتكم كذلك، وكان أحسن بكم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، مع أني لم آتكم وإنما دعوتموني، فقد علمت أنكم مغلوبون ولم يقم ملك على هذه السيرة.

فقالت السفلة: صدق واللّه العربي.

وقالت الأساطين: لقد رمانا بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل اللّه من يصغر أمر هذه الأمة.

ثم تكلم رستم فعظم من أمر فارس، بل من شأن فارس وسلطانهم، وصغر أمر العرب، وقال: كانت عيشتكم سيئة وكنتم تقصدونا في الجدب فنردكم بشيء من التمر والشعير، ولم يحملكم على ما صنعتم إلّا ما بكم من الجهد، ونحن نعطي أميركم كسوة وبغلاً وألف درهم، وكل رجل منكم حمل تمر وتنصرفون، فلست اشتهي قتلكم.

فتكلم المغيرة وخطب فقال: أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف فنعرفه ولا ننكره، والدنيا دول والشدة بعدها الرخاء، ولو شكرتم ما

ص: 116

آتاكم اللّه لكان شكركم قليلاً عمّا أوتيتم، وقد أسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال، وإن اللّه بعث فينا رسولاً.

ثم ذكر مثل ما تقدم إلى التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال وقال: يدخل من قُتل منا الجنة، ويظفر من بقى منا بكم.

فاستشاط رستم غضباً وحلف أن لا يقع الصلح أبداً حتى أقتلكم أجمعين، وانصرف المغيرة.

وخلا رستم بأهل فارس وعرض عليهم مصالحة القوم، وحذرهم عاقبة حربهم فلجوا، وبعث إليه سعد يعرض عليه الإسلام ويرغب، فأجابه بمثل ما كان يقول لأولئك من الامتنان على العرب والتعريض بالمطامع، فلم يتفق شيء من رأيهم(1).

ابن سينا

يمر حوالي ألف سنة على وفاة ابن سينا وهو من كبار علماء المسلمين وكان فريداً في زمانه، وقد كتب كتباً قيمة وكثيرة في الطب وباقي العلوم، فإن كتبه الغنية - حتى في هذا الزمان - موضع إقبال أهل العلم والمعرفة في شتى الفنون، مع أنه لم يكن من ورائه مال أو دولة تدعمه، وما ذلك إلّا لأنه كان راسخ العزم في العمل المتواصل، وكان صاحب همة عالية من أجل التحقيق والتدقيق، وبذلك استطاع أن يحتل موقعاً رائعاً في التأريخ الإسلامي والإنساني.

يذكر ابن سينا في قصة حياته: إنه كان يقرأ ويراجع بعض المطالب أربعين مرة حتى يفهمها ويدرك مغزاها، وهذا الاستمرار عمل صعب جداً ولا يستطيع كل أحد أن يفعله، ولذلك نراه قد تقدم وترقى وقدّم للناس، بينما كثير من العلماء

ص: 117


1- تاريخ ابن خلدون القسم 2 من 2: 94.

والمحققين في العصر الحاضر لايتوصلون إلى ما توصل إليه ابن سينا.

ينقل القفطي في كتاب تاريخ الحكماء عن ابن سينا قوله:

ثم عدت إلى العلم الإلهي وقرأت كتاب: ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. فإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه عليَّ فرددته رد متبرم معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: اشتر مني هذا، فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم، وصاحبه محتاج إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض ما بعد الطبيعة. فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته، فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه قد صار لي على ظهر القلب، وفرحت بذلك وتصدقت ثاني يومه بشيء كثير على الفقراء شكراً لله تعالى(1).

وينقل عن ابن سينا أنه قال: إن مما كلفني أُستادي في الأدب حفظ ديوان ابن الرومي، فحفظته في ستة أيام ونصف يوم(2).

وقيل: إن أحداً من فحول علماء أصفهان المسمى بأبي منصور كان حاضراً في مجلس السلطان علاء الدولة، فبلغ الكلام إلى علم اللغة، فتصرف الشيخ - أي ابن سينا - فيه، فقال له أبو منصور: أنت حكيم وليس لك خبر وإطلاع باللغة، وهي محتاجة إلى السماع ولم تتبع في متن اللغة.

فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، فواظب اللغة والمطالعة فيها ودرسها

ص: 118


1- منية المريد، للشهيد الثاني: 342 الهامش رقم 4.
2- الغدير 3: 30.

فضبطها في قليل من الزمان، فأنشد قصائد ثلاثة ورسائل كذلك، وأدرج فيها الألفاظ الغريبة واللغات العجيبة وسودها في قراطيس عتيقة وطلب من علاء الدولة مجمعاً بين أبي منصور وبينه، وقال له: إني أريد الإطلاع على مضامين هذه الأوراق وترجمتها.

فعمل بمقتضى سؤاله، فسئل من أبي منصور معاني تلك الألفاظ في الأوراق، فمهما اختفى عليه معنى لغة منها بينها الشيخ، وكان يقول: إنها في الكتاب مسطور ومعناها كذا وكذا.

فالتفت أبو منصور من مزيد الكياسة والفطانة أن هذه القصائد والرسائل من مؤلفات الشيخ، فلا جرم قد قدم بالاعتذار وأقر بفضيلة الشيخ وتقدمه في كل العلوم.

وقد نقل أنه قد كتب رسالة في المنطق، فاتفق وقوعها في شيراز بيد علمائها، وقد اشتبه عليهم كثير من مواضعها لم ينكشف، فثبتوا موارد الاشتباه في جزء وأعطوه بيد من يحمله إلى الشيخ، وينحل عقدها ويرتفع الحجاب والستور عن وجوهها، فوصل إلى أصفهان عند غروب الشمس في فصل الحرارة، فلاقاه وأخذ الجزء.

فلما فرغ من صلاة العشاء الآخرة اشتغل بمطالعته وتدوين جوابه، وقد كتب في خمسة أجزاء كل جزء عشرة أوراق، ثم نام وصلى صلاة الصبح أداءً على قانونه وطريقته، وأعطى الأجزاء بيد أبي القاسم وقال: استعجلت في الجواب، فتعجب أبو القاسم(1).

قال ابن سينا: ورغبت في الطب وبرزت فيه وقرؤوا عليَّ، وأنا مع ذلك أختلف

ص: 119


1- طرائف المقال 2: 493.

إلى الفقه، وأناظر ولي ست عشرة سنة. ثم قرأت جميع الفلسفة، وكنت كلّما أتحير في مسألة، أو لم أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فتح لي المنغلق منه. وكنت أسهر... - إلى أن قال - حتى استحكم معي جميع العلوم، وقرأت الكتاب (ما بعد الطبيعة)، فأشكل عليَّ حتى أعدت قراءته أربعين مرة، فحفظته ولا أفهمه، فأيست. ثم وقع لي مجلد لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب (ما بعد الحكمة الطبيعية)، ففتح عليَّ أغراض الكتب ففرحت وتصدقت بشيء كثير.

واتفق لسلطان بخارى نوح مرض صعب، فأُحضرت مع الأطباء وشاركتهم في مداواته، فسألت إذناً في نظر خزانة كتبه، فدخلت فإذا كتب لا تحصى في كل فن فظفرت بفوائد - إلى أن قال - فلما بلغت ثمانية عشر عاماً فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه معي اليوم أنضج، وإلّا فالعلم واحد لم يتجدد لي شيء، وصنفت (المجموع) فأتيت فيه على علوم، وسألني جارنا وكان مائلاً إلى الفقه والتفسير والزهد، فصنفت له (الحاصل والمحصول) في عشرين مجلدة، ثم تقلدت شيئاً من أعمال السلطان، وكنت بزي الفقهاء إذ ذاك بطيلسان محنك، ثم انتقلت إلى نسا ثم أبا ورد وطوس وجاجرم ثم إلى جرجان(1).

قال ابن سينا: لما بلغت التميز سلمني أبي إلى معلم القرآن ثم إلى معلم الأدب، فكان كل شيء قرأ الصبيان على الأديب احفظها، والذي كلفني أُستاذي كتاب (الصفات) و(غريب المصنف) ثم (أدب الكاتب) ثم (إصلاح المنطق) ثم (كتاب العين) ثم (شعر الحماسة) ثم (ديوان ابن الرومي) ثم (تصريف المازني) ثم (نحو سيبويه) فحفظت تلك الكتب في سنة ونصف سنة، ولولا تعويق الأستاذ

ص: 120


1- سير أعلام النبلاء 17: 531.

لحفظتها بدون ذلك، وهذا مع حفظي وظائف الصبيان في المكتب، فلما بلغت عشر سنين كان في بخارى يتعجبون مني، ثم شرعت في الفقه فلما بلغت اثنتي عشرة سنة كنت أفتي في بخارى على مذهب أبي حنيفة، ثم شرعت في علم الطب، وصنفت (القانون) وأنا ابن ست عشرة سنة، فمرض نوح بن منصور الساماني، فجمعوا الأطباء لمعالجته فجمعوني معهم، فرأوا معالجتي خيراً من معالجات كلهم فصلح على يدي. فسألته أن يوصي خازن كتبه أن يعيرني كل كتاب طلبت ففعل، فرأيت في خزانته كتب الحكمة من تصانيف أبي نصر طرخان الفارابي، فاشتغلت بتحصيل الحكمة ليلاً ونهاراً حتى حصلتها، فلما انتهى عمري إلى أربع وعشرين كنت أفكر في نفسي ما كان شيء من العلوم أني لا اعرفه(1).

وهذه نماذج من حياة الذين عملوا وأتعبوا أنفسهم وسهروا الليالي طلباً لما أرادوه فوصلوا إليه.

طعم الحياة

إن البساطة في العيش هي مسؤولية الحكام أولاً، فإن من تولى أمور الناس عليه أن يعيش بحال أضعفهم، وهكذا كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) في حكومتيهما العادلة.

جاء في نهج البلاغة: من كتاب لأمير المؤمنين(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة، وقد بلغه: أنه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها، فقال له:

«أمّا بعد يا ابن حنيفٍ، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى

ص: 121


1- الكنى والألقاب 1: 320.

مأدبةٍ، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان(1)، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قومٍ عائلهم مجفوٌّ، وغنيّهم مدعوٌّ.

فانظر إلى ما تقضمه(2) من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه، ألا وإنّ لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستضي ء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(3)،

ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهادٍ، وعفّة وسدادٍ، فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبراً(4)، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلّا كقوت أتانٍ دبرةٍ، ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصةٍ مقرةٍ(5). بلى كانت في أيدينا فدكٌ(6)

من كلّ ما

ص: 122


1- الجِفان: جمع جفنة وهي القصعة، وعائلهم: محتاجهم، ومجفوّ: أي مطرود من الجفاء.
2- قَضِمَ - كسمع - : أكل بطرف أسنانه، والمراد الأكل مطلقاً.
3- الطِمْر - بالكسر - : الثوب الخلق البالي.
4- التِبْر: فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ، والوَفْر: المال.
5- مَقِرَة: أي مرة، مقر الشيء، أي صار مراً.
6- فدك: منطقة زراعية خصبة ذات حوائط عامرة سبعة، تبعد من خيبر بنحو خمسين كيلومتراً, وعن المدينة المنورة بما يقرب من (140) كيلومتراً وكان يسكنها اليهود. فعندما فرغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من خيبر عقد لواءً ثم التفت(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى علي(عليه السلام) وقال: «يا علي، قم إليه فخذه». فقام علي(عليه السلام) إلى اللواء فأخذه، فبعثه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) به إلى فدك. وكان أهل فدك قد سمعوا بما دمر اللّه على أهل خيبر وبمسير علي(عليه السلام) فاتح خيبر إليهم، فامتلأت قلوبهم من ذلك خوفاً ورعباً، فأرسلوا إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل وصول علي(عليه السلام) إليهم يصالحونه على فدك، ويسألونه أن يسترهم بأثواب، ويحقن دماءهم، ويتركوا له أرضهم وأموالهم، وكان الذي مشى بينهم وبين رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك محيصة بن مسعود أحد بني حارثة، فصالحهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أن يحقن دماءهم. فكانت حوائط فدك ملكاً لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاصة خالصة، لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فنزل جبرئيل عليه وقال: «يا رسول اللّه، إن اللّه عزّ وجلّ يأمرك أن تؤتي ذا القربى حقه». قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا جبرئيل، ومن قرباي وما حقه؟». قال جبرئيل: «فاطمة(عليها السلام) فاعطها حوائط فدك وما لله ولرسول اللّه فيها». فدعا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة(عليها السلام) وأعطى بأمر من اللّه تعالى فدكاً إليها(عليها السلام) نحلة لها وبلغة لابنيها، وملكاً خاصاً لها، وبقيت في ملكها وبيدها(عليها السلام) في حياة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى انتزعها منها أبو بكر. انظر: بحار الأنوار21: 22. ولما ورد أبو الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) على المهدي - العباسي - رآه يرد المظالم فقال: «ما بال مظلمتنا لا ترد؟». فقال له: و ما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: «إن اللّه تبارك و تعالى لما فتح على نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدكاً وما والاها لم يوجف عليه بخيلٍ ولا ركابٍ، فأنزل اللّه على نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ} - سورة الإسراء، الآية: 26- فلم يدر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هم، فراجع في ذلك جبرئيل، وراجع جبرئيل(عليه السلام) ربه فأوحى اللّه إليه: أن ادفع فدكاً إلى فاطمة(عليها السلام)، فدعاها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لها: يا فاطمة، إن اللّه أمرني أن أدفع إليكِ فدكاً. فقالت: قد قبلت يا رسول اللّه من اللّه ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلما ولي أبو بكرٍ أخرج عنها وكلاءها، فأتته فسألته أن يردها عليها فقال لها: ائتيني بأسود أو أحمر يشهد لكِ بذلك. فجاءت بأمير المؤمنين(عليه السلام) وأم أيمن فشهدا لها فكتب لها بترك التعرض فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: ما هذا معكِ يا بنت محمدٍ؟ قالت: كتابٌ كتبه لي ابن أبي قحافة. قال: أرينيه؟ فأبت فانتزعه من يدها، ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوكِ بخيلٍ ولا ركابٍ، فضعي الحبال في رقابنا». فقال له المهدي: يا أبا الحسن حدها لي؟ فقال: «حد منها جبل أحدٍ، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل». فقال له: كل هذا؟! قال: «نعم يا أمير هذا كله، إن هذا كله مما لم يوجف على أهله رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخيلٍ ولا ركابٍ». فقال: كثيرٌ وأنظر فيه. الكافي 1: 543.

أظلّته السّماء، فشحّت عليها نفوس قومٍ، وسخت عنها نفوس قومٍ آخرين، ونعم الحكم اللّه، وما أصنع بفدكٍ وغير فدكٍ، والنّفس مظانّها في غدٍ جدثٌ، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرةٌ لو زيد في فسحتها، وأوسعت يدا حافرها، لاضغطها الحجر والمدر، وسدّ فرجها التّراب المتراكم، وإنّما هي نفسي أروضها(1) بالتّقوى، لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق.

ولو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح،

ص: 123


1- أروضها: أي أذللها، والمزلق: موضع الزلل والمراد هنا الصراط.

ونسائج هذا القزّ(1)، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشّبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى(2)،

وأكبادٌ حرّى، أو أكون كما قال القائل:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ *** وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات، كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها(3)، تكترش من أعلافها، وتلهو عمّا يراد بها، أو أترك سدًى، أو أهمل عابثاً، أو أجرّ حبل الضّلالة، أو أعتسف(4) طريق المتاهة.

وكأنّي بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالبٍ فقد قعد به الضّعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشّجعان، ألا وإنّ الشّجرة البرّيّة أصلب عوداً، والرّواتع الخضرة أرقّ جلوداً، والنّابتات العذية(5) أقوى وقوداً، وأبطأ خموداً، وأنا من رسول اللّه كالضّوء من الضّوء، والذّراع من العضد، واللّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد في أن أطهّر الأرض من هذا الشّخص المعكوس، والجسم المركوس(6)، حتّى تخرج

ص: 124


1- القزّ: الحرير.
2- بطون غرثى: جائعة.
3- تقمّمها: أي التقاطها للقمامة، وتكترش: أي تملأ كرشها.
4- أعتسف: ركب الطريق على غير قصدٍ.
5- النابتات العذية: التي تنبت عِذياً، والعِذي: الزرع لا يسقيه إلّا ماء المطر، والوَقود: اشتعال النار.
6- المركوس: من الركس، وهو رد الشيء مقلوباً وقلب آخره على أوله، والمَدَرَة: قطعة الطين اليابس، وحب الحصيد: حب النبات المحصود كالقمح ونحوه، والمراد بخروج المدرة من حب الحصيد أنه يطهر المؤمنين من المخالفين.

المدرة من بين حبّ الحصيد.

إلى أن قال(عليه السلام): إليك عنّي يا دنيا، فحبلك على غاربك(1)، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذّهاب في مداحضك(2).

أين القرون الّذين غررتهم بمداعبك؟

أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك؟

فها هم رهائن القبور ومضامين اللّحود.

واللّه لو كنت شخصاً مرئيّاً، وقالباً حسّيّاً، لاقمت عليك حدود اللّه في عبادٍ غررتهم بالأمانيّ، وأممٍ ألقيتهم في المهاوي، وملوكٍ أسلمتهم إلى التّلف، وأوردتهم موارد البلاء، إذ لا ورد ولا صدر(3).

هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ(4) عن حبائلك وفّق، والسّالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه(5)، والدّنيا عنده كيومٍ حان انسلاخه. اعزبي عنّي فو اللّه لا أذلّ لك فتستذلّيني، ولا أسلس(6) لك فتقوديني.

وايم اللّه، يميناً أستثني فيها بمشيئة اللّه، لاروضنّ نفسي رياضةً تهشّ(7) معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولادعنّ مقلتي كعين

ص: 125


1- الغارب: ما بين السنام والعنق، وقوله(عليه السلام) للدنيا: «حبلك على غاربك» والجملة تمثيل لتسريحها تذهب حيث شاءت، وانسل من مخالبها: أي لم يعلق به شيء من شهواتها.
2- المداحض: المساقط والمزالق.
3- الصَدَر: الصدور عن الماء بعد الشرب.
4- ازورَّ: مال وتنكب.
5- مُناخه: أصله مبرت الإبل، من أناخ ينيخ والمراد به هنا: مقامه.
6- أسلس: أي لا أنقاد.
7- تهِشّ إلى القرص: تنبسط إلى الرغيف وتنرح به من شدة ما حرمته.

ماءٍ نضب(1) معينها، مستفرغةً دموعها، أ تمتلئ السّائمة(2) من رعيها فتبرك! وتشبع الرّبيضة(3) من عشبها فتربض! ويأكل عليٌّ من زاده فيهجع، قرّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسّائمة المرعيّة.

طوبى لنفسٍ أدّت إلى ربّها فرضها، وعركت(4) بجنبها بؤسها، وهجرت في اللّيل غمضها، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسّدت كفّها، في معشرٍ أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، {أُوْلَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(5).

فاتّق اللّه يا ابن حنيفٍ، ولتكفف أقراصك ليكون من النّار خلاصك»(6).

نعم، إن طعم الحياة ولذتها والمعاني الحقيقية فيها تكمن في خوض الصعوبات في سبيل اللّه، وفي تحمل المشاكل لوجه اللّه.

وجني الثمار المفيدة تتم عبر الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش، وليس عبر الرفل بالنعيم والراحة.

نعم، على الإنسان أن يجعل اللذة في سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى، لا لأجل صرف الوقت في الملذات والهوى وملء البطن والتمتع والأمور التافهة.

ص: 126


1- نَضَبَ: غار.
2- السائمة: الأنعام التي تسرح.
3- الربيضة: الغنم مع رعاتها إذا كانت في مرابضها، والربوض للغنم: كالبروك للإبل، ويَهْجَع: أي يسكن كما سكنت الحيوانات بعد طعامها.
4- عرك البؤس: الصبر عليه، والغُمْض: أي النوم، والكرى: أي النُعاس.
5- سورة المجادلة، الآية: 22.
6- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 45 من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة.

وهناك بعض القصص من حياتنا المعاصرة تدل على الفرق بين من يعمل ومن لا يعمل.

الفرق بين الشخصيتين

سافر اثنان من طلبة العلوم الدينية لأجل التبليغ خارج بلدتهم، وكان أحدهما يمتاز بروحية عالية، وقد ربى نفسه على البساطة في العيش والاكتفاء الذاتي في أموره مهما أمكن؛ لذلك فقد أحرز نجاحاً واسعاً في مهمة التبليغ، وكان يشعر براحة نفسية كبيرة؛ لأنه قد قام بواجبه وأوصل رسالته ونال هدفه، فكان يتحدث عن تجربته الناجحة وما أنجزه بروحية عالية وسعادة بالغة، وكان على أمل حصول الثواب الإلهي الذي وفق لأسبابه في مجال التبليغ وهداية الناس ونشر المذهب الحق، رغم الصعاب التي كان لاقاها والمشاق التي تحملها.

أما الثاني، حيث لم يكن قد ربى نفسه على روح البساطة والاكتفاء، وكان يتصور بأنه متى ما يباشر في التبليغ فإن الناس سوف يهرعون إليه، ويستقبلونه بحرارة فائقة ويلبون جميع حوائجه ويقضونها له؛ لذلك عندما صدمه الواقع وخالف توقعاته عاد من التبليغ وهو ساخط على الناس غير راض عنهم. فكان أينما يجلس يبدأ ببث آلامه وهمومه، ويقول: نحن في آخر الزمان، فالناس لاينفعهم التبليغ والإرشاد، إلى غير ذلك من الأعذار والعلل الضعيفة.

إن الفرق بين هذين الشخصين، إنما هو في الشخصية: فإن أحدهما كان قد ربى نفسه وبناها على الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش، ووطنها على العمل الجاد والمثابرة والمبادرة في كل شيء مما يرضي الرب عزّ وجلّ، بينما الثاني ترك نفسه ولم يربها على الاكتفاء الذاتي والبساطة، بل رباها على الاتكال على الغير، والانتظار من الجميع ليهبوا في خدمته وإنجاز أعماله ووظائفه.

ص: 127

الحسينية العامرة

وفي قصة أخرى، سُلمت إدارة حسينية من الحسينيات إلى أحد الأشخاص، وذلك للإشراف عليها وإقامة البرامج والأنشطة الدينية فيها.

فعندما حل شهر محرم الحرام وباشر بإقامة المجالس فيها، لوحظ الجمود والرتابة فيها وعدم الإقبال والتفاعل من قبل الناس على هذه الحسينية على عكس سائر الحسينيات، وفي النهاية آلت إدارة هذا الفرد إلى الفشل، ولم يستطع أن يقدم شيئاً في هذا المجال، ولا أن يجمع الناس حوله لإنجاح الحسينية.

عند ذلك أوكلت مهام هذه الحسينية إلى فرد آخر لإدارتها، فأجاد في إدارتها وأقام فيها مأتماً ضخماً، بالرغم من أنه لم يكن من أهل العلم، فسألته عن سبب هذا التجمع الغفير والبرنامج الضخم في جميع المجالات من إقامة العزاء والطبخ وما أشبه، فقال: إنني استقبل كل من يدخل الحسينية بحرارة وأودعه بحفاوة وتقدير، وأقول له: أنت جئت إلى هذا المكان من أجل الإمام الحسين(عليه السلام) فماذا تهدي وتقدم للإمام(عليه السلام)؟ فأحدهم يهدي شاة والآخر أرزاً، والثالث سمناً، وهكذا، وكان هذا الأسلوب باعثاً شديداً على قوة المجالس واستمرارها في هذه الحسينية.

ونفس هذا الفرد عند ما كان في كربلاء المقدسة أوكلت إليه إدارة مسجد خلف صحن مولانا أبي الفضل العباس(عليه السلام)، وكان خرباً ومفروشاً بالحصير. فعندما تسلمه هذا الفرد، عمد أولاً إلى تعميره تعميراً حسناً، ثم فرشه بفراش جيد، وأقام فيه صلاة الجماعة، وأعاد للمسجد رونقه المادي والمعنوي.

وكان السبب في هذا النشاط هو الروح الكبيرة والهمة العالية التي امتاز بها، مضافاً إلى الاعتماد على المواهب الذاتية الكامنة في نفسه وفي نفوس إخوانه المؤمنين من جهة أخرى.

ص: 128

الشكوى دائماً

وهناك أفراد خاملون وقاعدون، تراهم يشكون دائماً وفي كل الأحوال، ويبثون شكواهم لهذا وذاك باستمرار، ومن دون سبب أو داعٍ مقبول، حتى أن أحدهم عندما كنت أسأله عن أحواله وصحته كان يشتكي ويتألم دائماً، حتى صار بث الهم والشكوى من سماته. فكان كثير الشكوى، وعندما لم تكن لديه أية مشكلة كان يشتكي حتى من الخدشة!، ففي مرة سألته عن حاله؟ فقال: في الليلة الماضية آذتني ذبابة!!

ولذلك كان أصدقاؤه يتحاشون السؤال عن أحواله... لأن جوابه كان الشكوى والتذمر من كل شيء للحالة النفسية التي يحملها.

استثمار الوقت

ذكروا في أحوال المحدث القمي(رحمه اللّه) صاحب كتاب (مفاتيح الجنان) والكتب الأخرى المفيدة:

إن أحد المؤمنين كان قادماً ذات يوم من مدينة أراك إلى مدينة قم المقدسة، وفي الطريق بين المدينتين يرى الشيخ عباس القمي(رحمه اللّه) وحيداً في الصحراء، جالساً على جانب الطريق، وهو منهمك في الكتابة والتأليف، فتعجب من ذلك، وأوقف سيارته عنده وسأله عن سبب وجوده في الصحراء؟!

فقال: إن السيارة التي كانت تقلني قد تعطلت في منتصف الطريق، وقال سائق السيارة: بأن حصول هذه النكبة وعطب السيارة إنما لحقنا بسببك!، ثم أنزلني من السيارة وتركني كما ترى، وذهبوا بعدما أصلحوا السيارة، والآن مضى على تواجدي هنا ساعتان تقريباً، ومن أجل الاستفادة من الوقت وعدم هدره أخذت بالكتابة والتأليف!

يقول هذا الشخص: فطلبت من الشيخ أن أوصله إلى قم المقدسة بسيارتي،

ص: 129

فلم يمانع(رحمه اللّه).

نعم، هكذا يجب أن يُستثمر الوقت ويُستفاد من فرص العمر في العمل حتى يتحقق الاكتفاء الذاتي والبناء والتقدم، كما يلزم التحلي بالبساطة في العيش والزهد في الدنيا، وبذلك يمكن التقدم في الحياة الشخصية والاجتماعية.

«اللّهمّ صلّ على محمّدٍ وآله، وصن وجهي باليسار(1)، ولا تبتذل جاهي بالإقتار، فأسترزق أهل رزقك، وأستعطي شرار خلقك، فأفتتن بحمد من أعطاني، وأبتلى بذمّ من منعني، وأنت من دونهم وليّ الإعطاء والمنع»(2).

من هدي القرآن الحكيم

حقيقة الزهد

قال تعالى: {لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَٰبَكُمْ}(3).

وقال سبحانه: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ}(4).

الحث على العمل

قال عزّ وجلّ: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَٰتِ وَإِقَامَ الصَّلَوٰةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوٰةِ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ}(5).

وقال سبحانه: {قُلْ يَٰقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ}(6).

ص: 130


1- اليسار: الغنى، وبذل الجاه: إسقاط المنزلة من القلوب، والإقتار: الفقر.
2- الصحيفة السجادية: وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلا ق ومرضي الأفعال.
3- سورة آل عمران، الآية: 153.
4- سورة الحديد، الآية: 23.
5- سورة الأنبياء، الآية: 73.
6- سورة الأنعام، الآية: 135.

وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَٰتِ وَاعْمَلُواْ صَٰلِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}(2).

وقال تعالى: {اعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(3).

وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}(4).

وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}(5).

وقال سبحانه: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَٰتِبُونَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

البساطة في العيش

روي: أنه لما نزلت هذه الآية على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَٰبٖ لِّكُلِّ بَابٖ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ}(7)، بكى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكاءً شديداً وبكت صحابته لبكائه، ولم يدروا ما نزل به جبرائيل(عليه السلام) على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من

ص: 131


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- سورة المؤمنون، الآية: 51.
3- سورة سبأ، الآية: 13.
4- سورة النساء، الآية: 124.
5- سورة طه، الآية: 112.
6- سورة الأنبياء، الآية: 94.
7- سورة الحجر، الآية: 43-44.

الوحي، ولم يستطع أحدٌ من صحابته أن يكلمه، وكان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا رأى فاطمة(عليها السلام) فرح بها.فانطلق بعض أصحابه إلى باب بيتها فوجد بين يديها شعيراً وهي تطحن فيه، وتقول: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(1)، فسلم عليها وأخبرها بخبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبكائه.

فنهضت والتفَّت بشملة لها خلقة، قد خيطت في اثني عشر مكاناً بسعف النخل، فلما خرجت نظر سلمان الفارسي إلى الشملة وبكى، وقال: واحزناه، إن بنات قيصر وكسرى لفي السندس والحرير، وابنة محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً!! فلما دخلت فاطمة(عليها السلام) على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قالت: «يا رسول اللّه، إن سلمان تعجب من لباسي، فو الذي بعثك بالحق، مالي ولعلي منذ خمس سنين إلّا مسك(2) كبشٍ تعلف عليها بالنهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وإن مرفقتنا لمن أدمٍ(3) حشوها ليفٌ». فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا سلمان، إن ابنتي لفي الخيل السوابق، ...»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال عيسى بن مريم(عليه السلام) في خطبة قام بها في بني إسرائيل: أصبحت فيكم وإدامي الجوع، وطعامي ما تنبت الأرض للوحوش والأنعام، وسراجي القمر، وفراشي التراب، ووسادتي الحجر، ليس لي بيت

ص: 132


1- سورة القصص، الآية: 60.
2- المَسك - بفتح الميم - : الجلد.
3- الأدم: جمع الأديم: الجلد المدبوغ، والليف: قشر النخل وما شاكله.
4- بحار الأنوار 8: 303.
5- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 45 من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.

يخرب، ولا مالٌ يتلف، ولا ولد يموت، ولا امرأة تحزن. أصبحت وليس ليشيء، وأمسيت وليس لي شيء، وأنا أغنى ولد آدم»(1).

وقال إسماعيل بن جابر: أتيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) وإذا هو في حائط له، بيده مسحاة وهو يفتح بها الماء، وعليه قميص شبه الكرابيس، كأنه مخيط عليه من ضيقه»(2).

الزهد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما اتخذ اللّه نبياً إلّا زاهداً»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما يعبد اللّه بشيء مثل الزهد في الدنيا»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العجز آفة، والصبر شجاعة، والزهد ثروة،والورع جُنة(5)، ونعم القرين الرضا»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا»(7).

ذم الطمع

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم واستشعار الطمع! فإنه يشوب القلب شدة الحرص، ويختم القلب بطابع حب الدنيا، وهو مفتاح كل سيئة، ورأس كل

ص: 133


1- معاني الأخبار: 252.
2- الكافي 5: 76.
3- مستدرك الوسائل 12: 51.
4- عدة الداعي: 121.
5- الجُنة: الوقاية.
6- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 4.
7- الكافي 2: 128.

خطيئة، وسبب إحباط كل حسنة»(1).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما هدم الدين مثل البدع، ولا أفسد الرجال مثل الطمع. إياك والأماني! فإنها بضائع النوكى»(2)(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «الطمع سجية سيئة»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «بئس العبد عبد له طمع يقوده، وبئس العبد عبد له رغبة تذله»(5).

العمل

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الإخلاص خير العمل»(6).

وقال(عليه السلام): «قدموا خيراً تغنموا، وأخلصوا أعمالكم تسعدوا»(7).

وقال(عليه السلام): «أفضل العمل ما أريد به وجه اللّه»(8).

وقال(عليه السلام): «من نصح(9) في العمل نصحته المجازاة»(10).

وقال(عليه السلام): «لا يدرك أحد رفعة الآخرة إلّا بإخلاص العمل، وتقصير الأمل،

ص: 134


1- عدة الداعي: 313.
2- كنز الفوائد 1: 350.
3- النوكى: جمع أنوك وهو الأحمق.
4- نزهة الناظر وتنبية الخاطر: 140.
5- الكافي 2: 320.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 22.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 501.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 191.
9- النصح والنصيحة: الخلوص.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 610.

ولزوم التقوى»(1).

وقال(عليه السلام): «تصفية العمل أشد من العمل»(2).

ص: 135


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 790.
2- الكافي 8: 24.

الأكثرية الشيعية في العراق

الشعور بالمسؤولية

اشارة

قال اللّه تعالى: {لَقَدْ جِئْنَٰكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَٰرِهُونَ}(1). تعدّ المسؤوليات الاجتماعية من أصعب الأمور وأهمها، لأنّها تتطلّب التضحية والبذل والعطاء، وليس كل الناس قادرين على تفهّمها، بل إنّ بعضهم ليسوا على استعداد حتى لبحثها والخوض فيها، ولو كانوا مستعدّين يوماً لتعلّم هذه المسائل، فهم غير مستعدين لإبداء نشاط إيجابي واضح وصحيح للعمل في هذا المجال، لذا نرى أن تأخّر المسلمين في بعض المجالات وبالخصوص في مجالات الحقوق والسياسة والاقتصاد والتجارة وما أشبه، ناشئ من عدم أداء بعضهم للواجب الملقى على عاتقهم بشكل صحيح ومتقن. والغريب أن البعض يعتقدون بأنّهم متقدمون في هذا المجال، ثم يلجئون لتبرير جهلهم وتقصيرهم تجاه المجتمع، ويلقون بالّلوم على عاتق الآخرين، في حين أنّهم جزء لايتجزأ من أولئك الأفراد المتأخرين. فقد رُوي: «فلا تزلّوا عن الحق فمن استبدل بالحق هلك، وفاتته الدنيا وخرج منها ساخطاً»(2).

فهناك أفراد في المجتمع - مثلاً - يدرسون إلّا أنهم لا يأتون بجديد سوى أنّهم

ص: 136


1- سورة الزخرف، الآية: 78.
2- بحار الأنوار 67: 179.

يعتبرون هذا العمل وظيفة شرعية أو للكسب، لا وظيفة اجتماعية وحيوية أيضاً،فلا يتعرّضون لقضايا الأمة ومشاكلها، لأنّهم لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم، وحين ذاك تكون النتيجة أن يظلّ المسلمون في تأخرهم الذي هم عليه الآن، وتظهر المشاكل في ضياع حقوق الناس، وسيطرة الأقليّة على الأكثرية أو ما أشبه.

من مشاكل العراق

لقد طالعت الكثير عن ماضي العراق وحاضره، فوجدت أنّ فيه مشاكل قد تكون مشتركة في كل البلاد الإسلامية وقد تكون خاصة به تبعاً لتركيبة الشعب أو لجغرافية منطقته، أو لتاريخه المليء بالأحداث الساخنة والمتميزة، إلّا أن حقيقة الأمر هي أنّ هناك مشكلتين رئيسيتين موجودتان في العراق، أولاهما: انعدام الوعي في ميادين السياسة والحقوق وفهم الحياة، وهذا الانعدام جعل الكثير من أبناء الشعب لايعرف ما يدور حوله من مكائد ومؤامرات استعمارية... ، وثانيهما: سيطرة الأقلية على الأكثرية. فالمشكلة لا تقتصر على سلب الحقوق ومصادرة تضحيات الأكثرية بل تتعداه إلى أنّ المستفيد من هذه التضحيات هم أناس بعيدون عن الجهاد والتضحية سوى أنّهم يرتبطون ببريطانيا، وقبلها كانوا يقتاتون على الحكم العثماني، فهم يتحينون الفرص الملائمة ليضربوا أصحاب الحق. في حين أن الشيعة يشكلون نسبة 85% من مجموع الشعب، وهم الذين وقفوا بوجه الاستعمار البريطاني في ثورة العشرين ومن قبله العثمانيين وقدّموا الشهداء والتضحيات الجليلة، ولكننا نراهم معزولين ومبعدين عن الحكم، ويعانون من الظلم والاضطهاد، فضلاً عن أنّ القانون الديمقراطي الذي يحكم أوسع رقعة جغرافية من العالم اليوم، يقضي بأن الاتجاه السياسي والمذهبي للدولة، يجب أن يختاره الشعب طبق ميزان التوزيع، وحق الأكثرية، مع احترام حقوق الأقليات، فنسبة 85 % هي التي يجب أن تحكم في العراق مع احترام الأقليات

ص: 137

الأخرى بقدر حقّها الذي أشرنا إليه.

هدف حكام العراق

والسؤال هنا: لو كان هدف صدام هو العمل الحزبي السياسي فقط، وليس التعصب المذهبي، فلماذا كل هذه المحاربة للشيعة؟ لماذا هذا التبعيض؟ ولماذا كل هذه الضغوط على الحوزات العلمية الشيعية؟ وليس هذا منحصراً في صدام وحده، بل كل الذين جاءوا إلى السلطة من ملكيين وجمهوريين، وبعثيين وقوميين وشيوعيين ومن على شاكلتهم، مما يكشف عن كون حقيقة الحكم في العراق بشتى صوره وأصنافه قائمة على الاضطهاد المذهبي والتعصب الطائفي.

النصب التاريخي

من الشخصيات التي يرد اسمها في التاريخ (عبد المحسن السعدون)(1) وقد تسلّم منصب رئاسة الوزراء في العراق، وكان يتمتع آنذاك بقدرة تامة في تنفيذ أوامره، وكان عميلاً معروفاً لبريطانيا، وقد استفادت منه كثيراً في تمرير مؤامراتها على العراق. وأول ما قام به هو إبعاد عدد من علماء الشيعة وبعض مراجعهم، ومنهم المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) إلى إيران، لكن نصبه التذكاري لا يزال موجوداً في بغداد، وإن بعض الشيعة هم كذلك لايسألون، من هو هذا

ص: 138


1- تسلم رئاسة الوزراء في العراق في عهد الملك فيصل الأول، في سنة 1922م بعد استقالة حكومة عبد الرحمن النقيب. وكان السعدون متحمساً لإجراء انتخابات المجلس التأسيسي، والمعاهدة العراقية البريطانية التي كانت من صنيعة بريطانيا، فوقفت بريطانيا إلى جانبه ومعها الملك في سبيل ضرب المعارضة الدينية المتمثلة بالمراجع العظام، أمثال السيد أبو الحسن الأصفهاني، والميرزا النائيني، والشيخ مهدي الخالصي والعشائر العراقية. ولأجل قمع المعارضة قام السعدون بتسفير الشيخ الخالصي وأولاده إلى جدة، والسيد أبو الحسن الأصفهاني والميرزا النائيني وجماعة من العلماء آنذاك إلى إيران، ويبلغ عددهم (26) عالماً. راجع كتاب تاريخ العراق السياسي ل- (لطفي جعفر فرج): 87.

الشخص؟ وماذا كان؟ وكيف بقي تمثاله قائماً في شوارع بغداد إلى الآن؟ولا يدرون أنّ هذا التمثال هو لذلك الشخص الذي أبعد المراجع العظام، وزعماء الطائفة الشيعية الموقرة، من العراق إلى إيران، والشيء العجيب أن الحكومات الملكية تأتي ثم الشيوعيون والديمقراطيون والبعثيون، وهذا التمثال موجود من دون أن تتعرض له الحكومات المتعددة بسوء، وذلك لأن كلّ هذه الحكومات التي جاءت إلى السلطة كانت - وما زالت - تعمل ضد الشيعة، وهدفها قمع الأكثرية الشيعية - قيادات وجماهير - وسحق حقوقها.

التعصب الشديد ضد الشيعة في العراق

في أيام الحكم الملكي في العراق قرّرنا أن نؤسس مدرسة باسم مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)، ونظراً لأن السلطة كانت بيد السنّة الذين يشكلون 12% من الشعب، فإن الحكومة رفضت أن تمنحنا الإجازة، لأنها تعدّ ذلك تقوية للشيعة، وقال أحد المسؤولين: يجب أن تغيروا اسم هذه المدرسة إلى اسم آخر، إلّا أننا بذلنا السعي الحثيث ولمدة ستة أشهر فاستطعنا أن نبقي اسم المدرسة (مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)). أما لو كانت المدرسة تحمل اسماً لغير أئمة الشيعة(عليهم السلام) أو لا يرمز إلى التشيع ولا يرتبط به لكانت الإجازة تمنح بفترة قليلة وبلا أتعاب!!

وحدة الأمة

قام الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) أثناء قيادته لثورة العشرين ضد قوات الاحتلال البريطانية، بمحاولة تحقيق وحدة الأمة، وجعلها قوة متماسكة ضد الاحتلال، وإزالة الخلافات من خلال الوحدة بين السنة والشيعة في الحركة السياسية، فوجّه عدة رسائل إلى شخصيات سنية وشيعية، يطلب منها الاتحاد والتعاون.

ص: 139

ففي رسالة بعثها إلى الشيخ جعفر أبو التمن، بتاريخ 3 رجب 1338ه جاءفيها: «... سرّنا اتحاد كلمة الأمة بغدادية، واندفاع علمائها ووجوهها وأعيانها، إلى المطالبة بحقوق الأمة المشروعة، ومقاصدها المقدسة، فشكر اللّه سعيك ومساعي إخوانك وأقرانك من الأشراف، وحقق المولى آمالنا وآمال علماء وفضلاء حاضرتكم، الذين قاموا بواجباتهم الإسلامية. هذا وإننا نوصيكم أن تراعوا في مجتمعاتكم قواعد الدين الحنيف والشرع الشريف، فتظهروا أنفسكم بمظهر الأمة المتينة الجديرة بالاستقلال التام، المنزّه عن الوصاية الذميمة، وأن تحفظوا حقوق مواطنيكم الكتابيين الداخلين في ذمة الإسلام، وأن تستمرّوا في رعاية الأجانب الغرباء، وتصونوا نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، محترمين كرامة شعائرهم الدينية، كما أوصانا بذلك نبينا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والسلام عليكم وعلى العلماء والأشراف والأعيان».

وجاء في رسالة ثانية أرسلها بتاريخ 4 رجب 1338ه إلى الشيخ أحمد الداود أحد علماء السنّة في بغداد: «... تلقيت بالابتهاج برقيتكم، فما وجدتها أعربت مقدراً، ولا أبرزت مستتراً، هذا ما أعتقده في عامة المسلمين أن يكونوا على مبدأ القرآن، ومنهج الحق، وقول الصدق، فكيف بمن ربّي في حجر العلم... ولا أرى أنه يسرك أن تراني مقتنعاً بما عاهدت عليه اللّه وقد أخذ في ذلك عليك عهدك من قبل أن يبرأك... وليكن التوفيق رائدك في عمل الخير، وكن لساناً ناطقاً بالصواب، داعياً إلى الشرع الشريف أهله، سالكاً بهم محجته البيضاء...».

ومن رسالة أخرى أرسلها الشيرازي في 3 رجب إلى الشيخ موحان خير اللّه، أحد رؤساء عشائر المنتفك جاء فيها: «... إن جميع المسلمين إخوان، تجمعهم كلمة الإسلام، وراية القرآن الكريم والنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فالواجب علينا جميعاً الاتفاق والاتحاد والتواصل والوداد، وترك الاختلاف، والسعي في كل ما يوجب

ص: 140

الائتلاف، وتوحيد الكلمة، وجمع شتات الأمة، والتعاون على البر والتقوى،والتوافق في كل ما يرضي اللّه تعالى، فإنكم إن كنتم كذلك جمعتم بين خير الدنيا والآخرة، ونلتم الدرجة العلياء، والشرف الدائم والذكر الخالد...».

ولكن حينما نستقرئ أحداث ثورة العشرين نرى أن استجابة السنّة لم تكن بنفس المستوى الذي تحرك فيه علماء الشيعة، وشيوخ العشائر بشكل خاص، والشيعة كأفراد بشكل عام، في مقاومة الإنجليز وعملائهم الداخليين، فقد ظلّ بعض شيوخ العشائر السنية وبعض علمائها يوالون الإنجليز. والسبب في ذلك يعود إلى عدم انسجامهم مع فكرة تأسيس حكومة مستقلة في العراق، إذ أنهم كانوا يعلمون بأن من الطبيعي أن تكون الحكومة القادمة شيعية، باعتبار أن القائد العام للثورة كان شيعياً، بل ومرجعاً دينياً، وهو الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) ومعه علماء الشيعة، ومركز قوة المقاومة العشائرية بيد العشائر الشيعية، فمن الطبيعي أن تكون الحكومة شيعية أيضاً. لذلك اتجه بعض السنّة وقتها إلى موالاة الحكم البريطاني، ضدّ أبناء شعبهم ودينهم، ليحقّق لهم مطامحهم في الحكم والخلاص من الشيعة، بالرغم من أن هناك تقارباً شيعياً سنياً تحت مظلة الميرزا الشيرازي قد حدث خلال الإعداد للثورة ولكنّه كان تقارباً من بعض السنّة فاستطاع الإنجليز أن يقيّدوه، ويعملوا على تضييق دائرته ومحاصرته.

ضرورة وعي الأكثرية

من الأشياء العجيبة، والتي تشير إلى عدم وعي بعض الشيعة في العراق، هو أنّ الحكام الذين توالوا على السلطة من: (فيصل الأول) و(غازي) و(فيصل الثاني) و(عبد الكريم قاسم) و(الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف) و(البكر) و(صدام)، كانوا كلهم من السنّة، وإن تلبّسوا بلباس العروبة والإسلام وغيره. فأين ذهبت نسبة 85% الذين هم الشيعة في العراق، فالالتزام الديني

ص: 141

لايعني ترك الحقوق وعدم الاشتغال بالسياسة وما أشبه، وإن بعض الشيعةملتزمون بطقوسهم وعباداتهم التزاماً تاماً، وإن العتبات المقدسة ومراقد الأئمة الأطهار(عليهم السلام) ملأا بالزائرين الشيعة، وكذلك الجيش غالبيته من الشيعة - عدا كبار الضباط، فإنهم من السنّة - وكل المحافظات العراقية شيعية عدا أربع محافظات وهذه هي أيضاً يوجد فيها عدد كبير من الشيعة، ولكننا نرى بعض الشيعة خلال السبعين سنة الماضية هم أشبه شيء بكرة من طين تعبث بها الأيدي السنية المتعصبة دون رحمة.

وإن الشيعة في العراق لو استمروا على هذا الحال، فإنهم سوف يبقون - لا سمح اللّه - على هذه الحالة من التأخر وضياع حقوقهم...!!

وعلى هذا لو أن صدام - الحاكم الحالي - أزيل من السلطة، وجاء شخص آخر هو أيضاً ليس من الشيعة، فربّما سيقول بعض الشيعة: الحمد لله لقد ولى عهد صدام، وجاء شخص جديد إلى الحكم هو أفضل منه، لكن هذا وبعد أن يحكم قبضته على السلطة فإنه يفعل ما فعله الذين سبقوه أيضاً. لأن الجوهر واحد في الحكومات الطائفية وإن تبدّلت الوجوه والصور. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من لايعقل يهن، ومن يهن لا يوقّر»(1).

مرض الطائفية

في أحد الأيام قمنا ببناء مسجد في العراق بين منطقة الحر الرياحي وكربلاء باسم (مسجد المتقين)، وبينما كنت ذاهباً يوماً لزيارة المرقد المطهّر للإمام الحسين(عليه السلام) جاءني شخص وأنا في طريقي إلى حرم الإمام(عليه السلام) وقال لي: إن البلدية قطعت التيار الكهربائي عن مسجد المتقين، بسبب عدم تسديد فاتورة

ص: 142


1- تحف العقول: 94.

الكهرباء والبالغة ثمانية دنانير، وطلب مني تسديد هذا المبلغ.فقلت له: اذهب وقل لذلك الشخص الذي قطع الكهرباء عن المسجد: كيف يصحّ أن تبنوا مسجداً للسنّة في كربلاء بمبلغ 250 ألف دينار! في حين أن كربلاء ليس فيها سنّة ليصلوا بهذا المسجد، لكن من أجل ثمانية دنانير تقطعون التيار الكهربائي عن مسجد شيعي، يستفيد منه كثير من المصلين!!، ألا يعبّر هذا عن مدى الطائفية الحكومية!!

مداهمات وأشغال شاقة

نقل لي السيد سلطان الواعظين صاحب كتاب (ليالي بيشاور) أثناء زيارته لكربلاء، فقال:في زمن عبد الكريم قاسم، كنت قد ذهبت إلى حمام في الكاظمية، حيث كنت وقتها مريضاً جدّاً، وأثناء ما كنت في الحمام كان عدة من الرجال يستحمون أيضاً، وفجأة قام جنودٌ من قبل السلطة بمداهمة الحمام وألقوا القبض علينا ونقلونا في سيارة مغلقة إلى وزارة الدفاع، وكان الهواء حينها بارداً جداً، وهناك وضعونا في مرآب(1) قذر متعفّن، فوجدنا هناك الآلاف من الذين اعتبروهم إيرانيين، قد وضعوا في حالة يرثى لها، وحينما حل وقت الظهر حيث كنا جياعاً جداً، جاءوا لنا بالرز والمرق، إلّا أنهم وضعوه في عربات تدفع بالأيدي، تستخدم لنقل الطابوق والتراب عادة، وقالوا لنا: تحركوا مجموعات مجموعات، كل مجموعة تقف على عربة وتتناول الطعام، استهانةً بنا. كان الوضع يجري هكذا في العراق، وكان رئيس الدولة هو عبد الكريم قاسم، ثم شاهدنا بأعيننا ذلك الشيعي الجاهل، الذي رسم صورة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفي وسطها صورة عبد الكريم قاسم وإلى يساره صورة الإمام علي بن أبي

ص: 143


1- مرآب: مكان لإصلاح السيارات والدراجات وإيوائها.

طالب(عليه السلام)، وهو يربط سيفاً على محزم عبد الكريم قاسم، وكانت الصورتان معلقتين علىباب الدخول لحرم الإمام أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) بأمر من الحكومة!!

الأطماع الخارجية

كانت المشكلة القائمة بين الدول الكبرى هو تنافسها للاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من العالم. ففي العراق كان الصراع قائماً بين أمريكا وبريطانيا، ففي حقبة من الزمن كانت أمريكا تدّعي بأنها تملك الحق في السيطرة على العراق، ومرة أخرى تتصدى بريطانيا لهذا الإدعاء، وبقيت هاتان الدولتان تتعاقبان على امتصاص ثروات العراق، وتدمير ما بقي من هذه الثروة. وقد قرأت في إحدى المجلات أنّ كيلو اللحم في العراق أصبح يباع بسعر خيالي وهو أضعاف مما كان عليه سابقاً، في حين أتذكر أن كيلو اللحم كان يباع سابقاً ب(24 فلساً)، أي ما يعادل (24) رغيف من الخبز، أما الآن فإن كيلو اللحم يعادل ألف رغيف من الخبز، مع العلم أن المعروف عن العراق أنه كان من الدول المصدرة للّحوم سابقاً، أما اليوم فقد أصبح مستورداً لها.

كيفية الخلاص من هذه المشاكل

إنّ القرائن الموجودة - بحمد اللّه - تدلّ على زوال حكومة البعث في العراق. وبناءً على ذلك فيجب الاهتمام بعدة أمور، لحل مشاكل العراق مستقبلاً:

1- إن الحكومة القادمة يجب أن تكون بيد الشيعة، لأنهم الأكثرية، وحتى لو قيل: إن هذا الحاكم الفلاني هو إنسان طيّب ومسلم وملتزم حتى بالمستحبات، فلا ينبغي أن ننخدع بذلك، فيجب أن يكون حاكم البلاد شيعياً، لأن الأكثرية في البلاد هم الشيعة، وأنّ القانون الإلهي والقانون المتعارف عليه دوليّاً يقرّ بذلك، نعم

ص: 144

من الضروري أن نعطي للآخرين (الأقليات) حقوقهم بقدر تمثيلهم في الشعب.

2- تصعيد الإعلام، وبيان ذلك لكل العالم، بأن العراق يجب أن يكونحاكمه شيعياً، وحينما يطرح ذلك، يجب أن لا يكون هناك خوف من أحد، فيطرح هذا الرأي على جميع الفئات على البقال والخباز والمهندس والموظف والعسكري وعلى غيرهم من شرائح المجتمع، وهؤلاء هم الذين يمثلون (الوحدة القاعدية) عند السياسي وهم جماهير الناس، ولهم مطالب منبعثة من الدين أو القومية أو الاقتصاد، فإنها توجب الضغط على القوى الكبرى أو الدولة في سياستها خاصة، إيجاباً أو سلباً أو تعديلاً، وأسلوب ضغط الجماهير وإن لم يكن بشكل خاص، إلّا أنّه بالنتيجة يؤثّر على الرأي العام ككل، وبالتالي الضغط على أصحاب النفوذ والقوى، فإذا كانت الدولة استشارية تتفادى سخط الرأي العام وترضخ لمطالبه. وإذا كانت ديكتاتورية فهي تتجاهل الرأي العام وبالتالي ستكون نتيجتها السقوط. إنّ الإعلام والتأثير على الرأي العام سوف يوجد تكاتفاً واسعاً في الرأي وسيكون بالنتيجة سدّاً بوجه القوى الكبرى، التي تمنع من تحقيق ذلك. وقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من جهل وجوه الآراء أعيته الحيل»(1).

دور الرأي العام في الضغط على الظالم

حين ما أخذ المأمون العباسي السلطة من أخيه الأمين، في خديعة يذكر التاريخ مفرداتها بالتفصيل، ثم روّج حيلةً معينة انطلت على بعض الشيعة آنذاك بحيث صدّقوها، لكنّه حينما جاء إلى السلطة قام بقتل ذرية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن والاهم، وإنّ أكثر القبور المتناثرة لذرية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إيران والعراق هي من فعل المأمون وجلاوزته، أخيراً عاد المأمون إلى بغداد وكأنه لم يفعل شيئاً. وفي

ص: 145


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 584.

يوم من الأيام شاهد يحيى بن أكثم - الذي كان وزيراً للمأمون - أن المأمون يذرع القصر جيئة وذهاباً، وهو يقول: مالك يا فلان أتحلل وتحرم؟ وكان المأمون يريد بخطابهالخليفة الثاني، ويقول له: هل لك حق التحليل والتحريم؟ يقول يحيى بن أكثم: فقلت للمأمون: ما هي المناسبة لكلامك هذا؟ فقال المأمون: يا ابن أكثم لماذا حرّم الخليفة الثاني المتعة، في حين أنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد حلّلها، أما الآن يا ابن أكثم، فصدّر أمراً إلى المنادين لينادوا بين الناس أنه من الآن فصاعداً قد أجزت حليّة الزواج المؤقت. يقول ابن أكثم: فقلت للمأمون: لا تفعل هذا أيها الخليفة، لأنك حين ما قتلت الأمين صار لك معارضون - وهم أهل السنّة - ، ولو أنك فعلت اليوم هذا فإنهم سوف يؤلبون عليك الرأي العام وتثور الناس ضدك، وبهذا استطاع أن يخوّف المأمون حتى صرفه عن الرأي(1).

فعلينا أيضاً كسب الرأي العام، وقضيتنا قضية الحق والمطالبة به، ونحتاج في هذه المرحلة إلى الإعلام المركّز والصحيح.

يجب أن تكون الحكومة بيد الشيعة

يذكر الشيخ جعفر الرشتي(رحمه اللّه) أنه قبل ثمانين سنة - في زمان لم تكن آن ذاك (الجنسية) متعارفة بين الناس التي جاء بها الاستعمار لبلادنا - كان هناك جسر على طريق بغداد قبل الوصول إلى مدينة كربلاء المقدسة بفرسخ واحد، وكذلك كان على طريق (كربلاء - النجف) مكان يدعى ب(خان الهندي)، وهو يبعد عن كربلاء فرسخاً واحداً، يقول الشيخ الرشتي: وكان الزوّار في ذلك الزمان لكثرتهم ينامون على امتداد جانبي هذا الطريق، أي من الجسر الأبيض حتى كربلاء، ومن كربلاء حتى خان الهندي في الطرف الآخر من المدينة. فانظر كم كان عدد

ص: 146


1- انظر: وفيات الأعيان 6: 149؛ الكنى والألقاب 3: 44.

الزائرين آن ذاك؟ وهنا نتساءل: أين ذهبت تلك الأعداد الكبيرة من الزوار؟ والجواب: لما أحكمت الحكومات السنية المتعصبة قبضتها على الشيعة، قامتبمنع وقمع كل هذه الجموع من الشيعة، فمنعتهم من زيارة إمامهم أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) وسائر الأئمة الأطهار(عليهم السلام)، وذلك إما باستخدامهم القوة والبطش، أو بإدخال الأفكار المنحرفة إلى عقول بعض السذّج لكي يصرفوهم عن أئمتهم، إذ أخذوا يروّجون بأن هذه الأعمال والشعائر هي من الخرافات، وتقف حائلاً أمام التقدم والحضارة (المستوردة) وغيرها من الدعاوى الباطلة.

إيجاد الديمقراطية في العراق

كما يجب أن يكون الحكم في العراق قائماً على أساس إعطاء الناس حقوقهم، وأن يعمل بالشورى والمشورة، وأن تعطى للأحزاب الإسلامية حرية العمل والتنافس، وأن يكون لها الحق في نقد الحكومة، وحين ذاك سوف لا تكون الحكومة قادرة حتى على قتل خمسة أشخاص بالباطل، كما رأينا ذلك بأعيننا حين ما كانت التعددية الحزبية هي الحاكمة. أما إذا جاءت إلى السلطة حكومة ديكتاتورية فسيؤول وضع العراق من سيئ إلى أسوأ.

«اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا فيها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

نتائج الإعراض عن الحق

قال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَٰؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِ

ص: 147


1- الكافي 3: 424.

يَسْتَهْزِءُونَ}(1).وقال سبحانه: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وِزْرًا}(2).

وقال عزّ اسمه: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَٰمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(3).

إيثار الحق والعمل به

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَٰتِحِينَ}(5).

وقال جلّ جلاله: {وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(6).

التعصب الأعمى

قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَٰهِلِيَّةِ}(7).

وقال عزّ شأنه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(8).

وقال جلّ وعلا: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَٰرَهُمْ * أَفَلَا

ص: 148


1- سورة الأنعام، الآية: 5.
2- سورة طه، الآية: 100.
3- سورة البقرة، الآية: 75.
4- سورة النساء، الآية: 135.
5- سورة الأعراف، الآية: 89.
6- سورة الأعراف، الآية: 159.
7- سورة الفتح، الآية: 26.
8- سورة البقرة، الآية: 206.

يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(1).

الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامي

قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(3).

وقال تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

إيثار الحق والعمل به

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم، قيل: يا رسول اللّه ومن هم؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الذين يقبلون الحق إذا سمعوه ويبذلونه إذا سألوه، ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم، هم السابقون إلى ظل العرش»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي ثلاثة تحت ظل العرش: رجل أحبّ لأخيه ما أحبّ لنفسه، ورجل بلغه أمر فلم يقدم فيه ولم يتأخر حتى يعلم أنّ ذلك الأمر لله رضاً أو سخط، ورجل لم يعب أخاه حتى يصلح ذلك العيب من نفسه»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحق وإن ضرّك،

ص: 149


1- سورة محمد، الآية: 23-24.
2- سورة الأنبياء، الآية: 92.
3- سورة آل عمران، الآية: 103.
4- سورة النساء، الآية: 175.
5- النوادر للراوندي: 15.
6- تحف العقول: 7.

على الباطل وإن نفعك، وأن لا يجوز منطقك علمك»(1).

من صفات الشيعة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا، الذين إن غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا، بركةٌ على من جاوروا، سلمٌ لمن خالطوا»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إنما شيعة علي الحلماء، العلماء، الذبل الشفاه، تعرف الرهبانية على وجوههم»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «شيعتنا أهل الهدى، وأهل التقى، وأهل الخير، وأهل الإيمان، وأهل الفتح والظفر»(4).

المؤمنون أخوة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):«المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام):«الإخوان في اللّه تعالى تدوم مودتهم لدوام سببها»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام):«المؤمن أخ المؤمن، وهو عينه ومرآته ودليله»(7).

ص: 150


1- المحاسن 1: 205.
2- الكافي 2: 236.
3- الكافي 2: 235.
4- الكافي 2: 233.
5- الكافي 1: 404.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 96.
7- عدة الداعي: 187.
الاهتمام بأمور المسلمين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(1).وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عليك بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يعظم حرمة المسلمين إلّا من عظّم اللّه حرمته على المسلمين. ومن كان أبلغ حرمة لله ورسوله كان أشدّ حرمة للمسلمين، ومن استهان بحرمة المسلمين فقد هتك ستر إيمانه»(3).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «إنّه من عظّم دينه عظّم إخوانه، ومن استخفّ بدينه استخفّ بإخوانه»(4).

الموعظة والإرشاد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمعاذ بن جبل لماّ بعثه إلى اليمن: «واتبع الموعظة، فإنها أقوى لهم على العمل بما يحبّ اللّه، ثم بثّ فيهم المعلمين، واعبد اللّه الذي إليه ترجع، ولا تخف في اللّه لومة لائم»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فيالها مواعظ شافيه لو صادفت قلوباً زاكية وأسماعاً واعية وآراءً عازمة»(6).

ص: 151


1- الكافي 2: 163.
2- الكافي 2: 164.
3- بحار الأنوار 71: 227.
4- الأمالي للشيخ الطوسی: 98.
5- تحف العقول: 25.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 485.

الأمة الواحدة

الأمة الواحدة

اشارة

قال تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

وقال سبحانه وتعالى أيضاً: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(2).

وقد اختلف في معنى الأمة الواحدة؛ ففي بعض التفاسير جاء: أي هذا دينكم دين واحد، عن ابن عباس ومجاهد والحسن، وأصل الأمة الجماعة التي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة واحدة، لاجتماعهم بها على مقصد واحد، وقيل: معناه جماعة واحدة في أنها مخلوقة مملوكة لله تعالى، أي فلا تكونوا إلّا على دين واحد. وقيل: معناه: هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء فريقكم الذي يلزمكم الاقتداء بهم في حال اجتماعهم على الحق، كما يقال: هؤلاء أمتنا أي فريقنا وموافقونا على مذهبنا»(3).

ولكن الظاهر أنّ سياق الآية يدل على وحدة العقيدة، ووحدة الأمة، ووحدة

ص: 152


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة المؤمنون، الآية: 52.
3- تفسير مجمع البيان 7: 111.

رسالة الأنبياء. وتجد أيضاً في آية الأمة الواحدة، أنّ الباري عزّ وجلّ يخاطب عباده بأن يكونوا أمة واحدة مجتمعة على مقصد واحد يجمعهم دين وكلمةواحدة. وهنا لسائل أن يسأل: ولكن أين الآن هذا الاجتماع، وأين هذه الوحدة التي تحدث عنها القرآن الكريم؟

الوحدة بين الادعاء والتطبيق

إنّ الواقع الحالي يكشف لنا وبكل وضوح أنّ الوحدة التي أشار لها القرآن الكريم غير موجودة بين أبناء الأمة الإسلامية، أو بين البشر أجمع، نعم كانت في عهد الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واليوم قد حلّ العكس منها، وظهرت حالة أخرى بدلاً عن تلك الوحدة التي دعا لها الباري عزّ وجلّ، وهي حالة التفرقة والتشتت التي ابتدعها الاستعمار والحكام المنحرفون، الذين يتمسكون بالقوميات والعنصريات، في الوقت الذي يلصقون أنفسهم بالإسلام، ولكن أفكارهم وأعمالهم تؤكد عدم إسلامهم، فقد قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}(1).

هذه الحالة التي تعيشها البلدان الإسلامية في الوقت الحاضر، والتي أدت إلى ذلة المسلمين واستعبادهم على أيدي الغزاة المستعمرين، وتجزئة الأراضي الإسلامية التي كانت موحّدة في عصر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إلى دويلات متناثرة ومتباعدة بعضها عن البعض الآخر، ووضع الحواجز والحدود الجغرافية المصطنعة، التي تفصل الدولة عن جارتها الأخرى، كي تسهل لهم عمليات النهب والاستغلال، بل والاستعباد أيضاً.

ص: 153


1- سورة الصف، الآية 3- 4.

نحن لا نضع اللّوم كلّه على أعداء الإسلام من الغرب والشرق، بل يجب أن نضع بعضه على أنفسنا نحن فنوبّخها؛ لأننا بأنفسنا وبأيدينا عبّدنا الطريقللمستعمرين لغزو بلادنا الإسلامية بتركنا العمل بأوامر اللّه تعالى، فسلبوا واغتصبوا ما تزخر به بلادنا من ثروات، بل إنّهم تمكنوا أن يجرّدوا الإنسان المسلم من شخصيته الإسلامية، وقد تم لهم ذلك عن طريق محو الشخصية الإسلامية، وطمس وتشويه الثقافة والأفكار الإسلامية الصحيحة، ودسوا بدلاً عنها أحكاماً وقوانين وضعية مزيّفة، خدمة لمصالحهم ومطامعهم التي كانوا يصبون إلى تحقيقها.

فقدان الوعي

كل هذه الترويجات الغربية، وهذه الأحكام المزيفة التي غزت البلاد الإسلامية، وفعلت ما فعلت بالمسلمين قد تدفقت بسبب فسح المجال لها بالدخول، وعدم التصدي لها إلّا من قبل بعض العلماء الذين يعدّون على عدد الأصابع، ومن الواضح أنّ اليد الواحدة لا تصفّق، ولذا لم يتمكنوا من منعها كلها، بل منعوا جزءاً يسيراً منها، أمّا الباقي فقد تسرّب إلى شعوب البلاد الإسلامية، واختلط بنفوس المسلمين، بحيث أخذ الناس في بلادنا يستمرئون أفكارهم ويتلبسون بها بدون شعور. والسبب في ذلك يعود إلى مسألة الإعراض عن ذكر اللّه، والقوانين الإلهية في الكتاب الحميد، وهجر سيرة نبيّنا الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمتنا الهداة الصالحين(عليهم السلام)، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ}(1)، قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أيها الناس اتبعوا هدى اللّه تهتدوا وترشدوا، وهو هداي وهداي وهدى علي بن أبي طالب فمن اتبع هداه في حياتي

ص: 154


1- سورة طه، الآية: 123.

وبعد موتي فقد اتبع هداي ومن اتبع هداي فقد اتبع هدى اللّه ومن اتبع هدى اللّه فلايضل ولا يشقى»(1).

هذا الإعراض عن الأفكار الصحيحة والسيرة النبيلة لأئمة الإسلام، أدّى بنا إلى بقاء حالتنا على ما هي عليه من المآسي والويلات، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ}(2).

الضنك في المعيشة

{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي عيشاً ضيّقاً... وهو أن يقتر اللّه عليه الرزق، عقوبة له على إعراضه، فإن وسّع عليه، فإنّه يضيّق عليه المعيشة، بأن يمسكه ولا ينفقه على نفسه، وإن أنفقه فإنّ الحرص على الجمع، وزيادة الطلب يضيّق المعيشة عليه... وقيل: معناه: أن يكون عيشه منغّصاً، بأن ينفق إنفاق من لا يوقن بالخلف... وقيل: عيشاً ضيّقاً في الدنيا لقصرها وسائر ما يشوبها ويكدرها، وإنما العيش الرغد في الجنة(3). لذا فان {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أي بأن لم يتبع أوامري التي ذكرته بها. وسميت الأوامر ذكراً؛ لما أودع في فطرة الإنسان من أصولها وجذورها {فَإِنَّ لَهُ} في الدنيا {مَعِيشَةً ضَنكًا} أي ضيقة؛ وذلك لأن أوامر اللّه سبحانه أكثر ملائمة للحياة، فالإعراض عنها يوجب ضيق العيش مادياً أو روحياً، ولذا نرى أن الكفار حتى في أوج ماديتهم الظاهرية هم في أضنك الحالات الروحية، وأضيق المجالات النفسية {وَنَحْشُرُهُ} أي نحشر المعرض، ومعنى الحشر جمعه مع سائر بني نوعه في {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ} العين لا يرى

ص: 155


1- تأويل الآيات: الظاهرة: 314.
2- سورة طه، الآية: 124.
3- تفسير مجمع البيان 7: 63.

شيئاً(1).

فهذه الأقوال الكثيرة، أغلبها يؤكد على المعيشة الضيقة، التي يعيشها الإنسان البعيد عن ذكر اللّه والمعرض عن أحكامه السماوية.

الواقع الإسلامي

نعم، فهذا الضيق الذي يصفه الباري جلّت قدرته، هو عين الضيق الذي يعيشه المسلمون حالياً، حقاً ما وصف به الباري عزّ وجلّ معيشتهم الضنك التي ابتلاهم بها من جراء إعراضهم عن ذكر اللّه، فالمسلمون اليوم يعيشون نفس هذه المعيشة الضنك، والسبب هو الإعراض عن ذكر الباري وأحكامه الجليلة، ولن يرفع عنهم إلّا بعد الرجوع إلى اللّه، والعمل بما يكون فيه مرضاته، وتطبيق أحكامه. وبالإضافة إلى ذلك جعل سيرة المعصومين(عليهم السلام) المبدأ الأساس في العمل، والاقتداء بهم في كل حركة وسكون.

وبالرغم من هذه المضايقات التي يعيشها المسلمون اليوم، وما تعانيه البلاد الإسلامية من مؤامرات ومخططات، تسعى دوائر الاستعمار دائماً إلى أن تنفذ إلى داخل صفوف المسلمين لتهيئة الأجواء التي من شأنها أن تثير الخلافات والصراعات بين المسلمين، بالإضافة إلى إلقاء الفتن العنصرية بينهم، وذلك للقضاء على الخطر الإسلامي الذي يعتبره الاستعمار المشكلة الأولى والأخيرة التي تقف بوجه أطماعه، فلنبحث عن السبب الذي ساعد المستعمرين في أن يتمكنوا من النفوذ والتغلغل بين المسلمين.

نقاط الضعف

اشارة

لنرجع إلى المجتمع ونضرب مثالاً بسيطاً ومن ثم نقارنه بالوضع العام، مثلاً: إذا كان شخصان متخاصمين لأيّ سبب كان، فكلاهما يحاول أن يجد نقطة

ص: 156


1- تفسير تقريب القرآن 3: 515.

ضعف في خصمه ليستطيع بها أن ينكل به، ثم ينتصر عليه، فإذا ما وجد نقطة ضعف أو طرقاً مؤدية وممهدة في خصمه توصله إلى نقاط ضعفه، اغتنم تلك الطرق وتمكن بواسطتها أن يصل إلى نقطة ضعف الخصم ومن ثم ينتصر عليه.

ونحن اليوم توجد الكثير والكثير من نقاط الضعف فينا، والكثير الكثير من الطرق الممهدة التي توصل العدو إلى نقاط ضعفنا، ونحن بأنفسنا أوجدنا بعض هذه النقاط، وبأنفسنا سهّلنا للعدو الوصول والتغلغل إلى صفوفنا عن طريق تمهيدنا له، وإعلامه بشكل مباشر وغير مباشر بنقاط ضعفنا.

ومن أهم وأبرز نقاط ضعفنا التي مهّدت الطريق لاستعمارنا:

1- التخلف العلمي والجهل المتفشي في كافة مجالات الحياة وبشكل واسع، فبالرغم من أنّ الإسلام يشجّع على طلب العلم والمعرفة، لا بل أنه يفرضه على المسلمين كواجب شرعي ففي الحديث الشريف عن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اطلبوا العلم ولو بالصين»(2).

بالإضافة إلى أنّ الإسلام يعتبره أساساً وقاعدة لبناء شخصية الإنسان كما جاء في الحديث:

قال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «لا يصلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجب من يفهم، ويظفر من يحلم، والعلم جنة، والصدق عز، والجهل ذل، والفهم مجد، والجود نجح، وحسن الخلق مجلبة للمودة، والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(3).

ص: 157


1- بصائر الدرجات 1: 2.
2- روضة الواعظين 1: 11.
3- تحف العقول: 356.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان في ما وعظ لقمان ابنه أن قال له: يا بني اجعل في أيامك ولياليك وساعاتك نصيباً لك في طلب العلم، فانك لن تجد له تضييعاً مثل تركه»(1).

وعن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد(عليهما السلام) وقد سئل عن قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ}(2) فقال: «إذا كان يوم القيامة قال اللّه تعالى للعبد: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت. وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلمت فيخصمه، فتلك الحجة البالغة لله عزّ وجلّ على خلقه»(3).

2- عدم وجود التنظيم الذي هو العمود الفقري لتوحيد الطاقات والصفوف، فلأن المسلمين يفتقرون اليوم إلى التنظيم، نرى أن طاقاتهم وجهودهم مبعثرة غير منظمة في الوقت الذي يسعى أعداؤهم إلى التنظيم في محاربة الإسلام والمسلمين، فهم ينظمون أنفسهم ليجمعوا قواهم ومخططاتهم ضد الإسلام والمسلمين، وينضوي أبناء المسلمين تحت تنظيمات منحرفة لكي لا يستفيد منها المسلمون.

3- انعدام الوحدة والأخوة الإسلامية التي تحدّث عنها القرآن الكريم، ومن ثم دعا لها المعصومون(عليهم السلام)، وحثوا المسلمين على العمل بها، كما فعلوا هم(عليه السلام).

ومن الواضح أنّ انعدام مثل هذه الأمور المهمة بين المسلمين، سهّلت للعدو الوصول وبدون أي مشقة إلى أهدافه وأطماعه، فسيطر على بلاد الإسلام، وبسط

ص: 158


1- الأمالي للشيخ المفيد: 292.
2- سورة الأنعام، الآية: 149.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 292.

نفوذه فيها، فقام باستغلال الموارد والثروات الطبيعية التي تزخر بها أراضيالبلدان الإسلامية، وتسخيرها لنفسه، واستثمار رؤوس أموالها لصالح منافعه الشخصية، بين ما القرآن الكريم يقول لنا: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

ما هي البداية؟

إذاً فلا بدّ من تبديل هذه الحالات المريضة إلى الحالات الإيمانية الصالحة، إذ لا بد وأن تتبدل حالة التفرقة هذه التي يعيشها المسلمون اليوم إلى حالة الوحدة والأخوة، ولا بدّ من تشكيل الأمة الإسلامية الواحدة.

ولأجل تحقيق هذا الأمر المهم، لا بدّ لنا من تأسيس منظمة، أو مؤسسة، أو هيئة قوية، تأخذ على عاتقها تحقيق الوحدة والأخوة الإسلامية التي أشار إليها القرآن الكريم. كما يجب أن تكون هذه المؤسسة في بلدٍ تسوده الحرية، ليتمكن أعضاء هذه المؤسسة من القيام بدورهم من دون أن يُفرض عليهم، أي نوع من الضغوطات التي من شأنها أن تحدد أو تقلّص من نشاطاتهم في هذا المجال.

ولأجل أن تصل هذه المؤسسة إلى هذا الهدف الكبير، يجب أن تعمل وبجهد وإخلاص على إيجاد الأمور التالية بين المسلمين:

1- تنظيم المسلمين وتوحيد طاقاتهم وكفاءاتهم، ومن ثم صبّها في وعاء أو مجهود واحد، يعود إلى خدمة الإسلام والمسلمين.

2- نشر الوعي وثقافة الحياة المنبثقة من القرآن وسيرة أهل البيت(عليهم السلام)، كبديل عن التخلف المتفشي، والسائد بين المسلمين، وكبديل أيضاً عن الثقافة المزيفة

ص: 159


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.

والمنحرفة التي غزت بلاد الإسلام، حتى نعدّ من الأجيال اللاحقة أجيالاً واعيةمثقفة عارفة بمكائد الغزاة المستعمرين، ومتبصرة بأمور دينها ودنياها.

ومن الخطوات التي يمكن أن تعمل عليها في هذا المجال هي: إصدار الكتب في هذا المجال تتحدث عن كيفية تكوين الأمة الإسلامية الموحدة، والسبل التي تحقق ذلك، والموانع التي يمكن أن تحول دونها وهكذا.

كما أنّ من المهم جداً أن يتحلّى أعضاء المؤسسة بالأخلاق الكريمة والصفات الحميدة والوعي والإخلاص والتفاني، كي يتمكنوا من تبديل عدة أمور منتشرة في المجتمع إلى مضاداتها على الصورة الآتية:

أ: تبديل حالة حبّ الذات والامتيازات الشخصية إلى «فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك»(1) ونبذ روح (الأنا) التي أصبحت الكلمة الجارية على ألسن المسلمين، وزرع مبدأ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، ورعاية حقوقهم كبديل عنها. فلو تتبعنا التاريخ الإسلامي لوجدنا أن أحد الأمور التي دعت كفّار قريش إلى أن يقفوا ضد الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأن يحاربوا رسالته، بالرغم من أنهم يعرفونه بالصادق الأمين، هو أنهم لاحظوا أنّ بإيمانهم برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وتصديقهم رسالته، يتحتم عليهم أن يرفعوا أيديهم عن الامتيازات التي كانت تحت تصرفهم، لكنهم لا يدركون أن الإسلام لا يلغي الامتيازات الصحيحة والمشروعة لذوي الكفاءات، كما يرتقي أصحاب الوجاهة، والمقامات الرسمية والاجتماعية إلى مراتب أعلى وأعلى؛ لأن الأمة إذا ارتقت وارتفعت ارتفع كل شيء فيها، فقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَٰتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ

ص: 160


1- تحف العقول: 74 والرواية وصية من أمير المؤمنين لابنه الإمام المجتبى(عليهما السلام).

لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ}(1).

ب: تبديل حالة التفرقة الموجودة بين المسلمين إلى حالة الاجتماع والوحدة، كما كان عليه المسلمون الأوائل في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(2)، وإذا ما قمنا بهذا الأمر فسوف يكون تأثيره جيداً مع مرور الزمن، وخصوصاً على أفكار الشباب، فمن شبّ على شيء شاب عليه، ومن مال إلى فكرة أو عقيدة فإنها ستكون جزءاً منه بمرور الزمن، فإذا تمكّنا أن نوجد هذه الفكرة على الساحة العملية، عندها ستتبدل الثقافات والأهداف الإقليمية المحددة الضيقة بين المسلمين، إلى تفكير أسمى، وهدف واحد أكبر وأوسع، وهو ضرورة الانضمام إلى الأمة الإسلامية الواحدة، التي تضم تحت أكنافها جميع شرائح وطبقات المسلمين، على اختلاف هوياتهم وجنسياتهم، وعلى اختلاف ألوانهم وألسنتهم، إذ لا اعتبار باللون أو الجنسية، كما في الحديث الشريف عن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إذ «لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود، إلّا بالتقوى»(3).

فإذن يجب على المسلمين أن يجدّوا بإخلاص في تحقيق هذا الأمر الإلهي، ذلك أن الاستعمار على أتم الاستعداد والتأهب للانقضاض على الإسلام والمسلمين، فإنه إذا ما شاهد مثل هذه الفرصة وهي عدم الوحدة فإنه سرعان ما ينتهزها، ولا يجعلها تفلت من يده، فيحقق بها مصالحه وأغراضه الاستعمارية

ص: 161


1- سورة الأعراف، الآية: 32.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.
3- الإختصاص: 341.

التي هي هدف ومبدأ أساسي من أهدافه ومبادئه العنصرية.

مسؤولية المسلمين

اشارة

هناك مسألة لا بأس بذكرها ومن ثم نقارنها مع ما عليه حال المسلمين في الوقت الحاضر؛ فلقد كانت مسألة العبيد منتشرة في أمريكا كما كان قبل ظهور الإسلام، كانت حياة العبيد في أمريكا سيئة جداً، وهناك كتاب يشرح هذه القضية لا بأس بمراجعته(1)، وستتعرف عند مطالعته على الحالة المروّعة التي كان يعيشها العبيد في أمريكا، وظلت أحوالهم ومعاناتهم على هذه الحالة المأساوية، بانتظار المنقذ الذي ينجيهم من هذه المآسي والأحوال، حتى جاء من كان يريد إنقاذهم(2) وتحريرهم، فأخذ يدعو إلى تحرير العبيد، وإعطائهم حرياتهم، كإخوانهم البيض، والمطالبة بحقوقهم كافة بلا استثناء، فقدم في سبيل ذلك الغالي والنفيس، حتى قيل: إنه ضحّى بنفسه في سبيل ذلك المبدأ الذي أعلن فيه المطالبة بحقوق وحريات العبيد.

وكتب المؤرخون أنه بعد أن طرح نظريته على الساحة العملية قام بعض العبيد بالمظاهرات الاحتجاجية ضد نظرية التحرير، ومعنى ذلك أنهم كانوا يطلبون البقاء على عبوديتهم وحياتهم الأولى، حياة العبودية والحرمان، بحيث أنهم كانوا يعتقدون أن حياة العبودية هي أفضل لهم من حياة الحرية؛ والسبب يعود إلى أنهم لم يذوقوا ولو لمرة واحدة طعم الحرية في حياتهم، فقد قضوا سنيناً طويلة على هذه الحالة، فتشبعت نفوسهم وأفكارهم بالعبودية، فكانت النتيجة أنهم فضّلوها على الحرية، واعتبروا أن الحياة لا يوجد فيها شيء مضاد

ص: 162


1- كتاب تشريح جثة الاستعمار لمحمد مورو.
2- هو إبراهام لينكون.

للعبودية، بل أنّ الاستعباد هو كل شيء في هذه الحياة وإنّ الأمثال تضرب ولا تقاس.

المسلمون اليوم

فلو قارنّا بين حال عبيد أمريكا وبين ما هو عليه حال بعض المسلمين اليوم، لوجدنا أن الأمر جارٍ هكذا أيضاً في بعض البلاد الإسلامية، فاليوم ترى ما يحدث في بلاد الإسلام من مخططات استعمارية خبيثة، هدفها القضاء على شخصية المسلم بصورة خاصة، وعلى الإسلام بصورة عامة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ما نراه يحدث اليوم من نشوب الحروب الكثيرة بين المسلمين أنفسهم وليس مع غيرهم، بل إنّ المسلم في الدولة الكذائية مثلاً بدأ يقتل أخاه المسلم الذي يعيش معه على أرض واحدة، وتجمعهم عقيدة واحدة، وتربطهم روابط اجتماعية معينة، ولكن من داوعي الأسف أن يفقد بعض المسلمين هذه الروابط ويستبدلها بالتناحر والتنازع.

بالإضافة إلى ذلك ما تعانيه البلدان الإسلامية ككل من عمليات نهب واستغلال لثرواتها الطبيعية الوفيرة، حيث أخذ المستعمرون يستغلونها لصالح منافعهم الشخصية، ومن ثم يضربون بها المسلمين.

ومع كل هذه المعاناة، وهذه الأوضاع، فإنّا لو طرحنا مبدأ الوحدة الإسلامية ترى البعض لا يقبلون بتكوين الأمة الإسلامية الواحدة، أو يتصورون أنّ إرجاع المسلمين إلى الأمة الإسلامية الواحدة من المسائل المثالية التي لا تقبل التحقق؛ وذلك بسب رسوخ حالة التفرقة والتشتت بين المسلمين. فالبعض من الناس يهلكون أنفسهم لأجل شهوة مؤقتة، فمثلاً هناك من يدخن الكثير من السجائر بالرغم من منع الطبيب له، فما هو السبب الذي يدعوه لهذا؟

الجواب: إنّ الإنسان الذي يدخّن كثيراً، بالرغم من منع الطبيب له هو: أنه قد

ص: 163

أبطل قدرته الفكرية، وهكذا بالنسبة إلى إرادته، فقد عطلهما عن العمل، بحيث أنه جعل الرغبة هي البديل، فأصبح هذا الإنسان مسيّراً من قبلها، ويعمل بحسبالإيحاءات التي توجهها له شهوته من دون أن يراجع نفسه وعقله، ومثل هذا الأمر تراه يجري الآن عند بعض المسلمين، إذ أنهم يرغبون بالتفرقة والتشتت بدلاً من الوحدة والأخوة، وذلك تلبية لنداء الشهوة والشيطان والعصيان، ومثل هذه الأمور تصبّ في صالح الاستعمار الذي يدعو إليها، ويعمل ليله ونهاره على خلق مثل هذه الأجواء المضطربة التي من خلالها يسعى إلى تحقيق غاياته وأهدافه العنصرية.

الاستعمار وراء التجزئة

اشارة

قبل مائتي سنة كانت أفغانستان جزءاً من إيران، ولكن اليوم نجدهما على هيئة أخرى، فقد أصبحت أفغانستان دولة ذات سيادة مستقلة استقلالاً تاماً عن إيران.

ومن الأمثلة الأخرى، أننا لو تتبعنا التاريخ المعاصر، ووقفنا وقفة قصيرة عند العهد العثماني، حيث كانت الإمبراطورية العثمانية قد سيطرت سيطرة تامة على مناطق شاسعة وكبيرة من الدول الإسلامية، فلم تكن هناك أي موانع أو حواجز تعرقل وتقيد تحرك الأفراد من منطقة إلى أخرى، على العكس مما هو عليه الآن، لأن عمر الحدود الجغرافية بين بلاد المسلمين لم يتجاوز الستين سنة، حيث كانت البلاد الإسلامية بلداً واحداً والشعب المسلم شعباً واحداً، فلا تفرّق ولا عنصريات ولا قوميات، وبقي الأمر على هذا الحال يجري وفق مجراه، حتى بات الضعف والعجز يدبّان في إدارة ومؤسسات الحكومة العثمانية؛ نتيجة سياساتهم الهوجاء.

وقد فسح هذا الضعف المجال لبوادر الاستعمار أن تنشأ وتتهيأ للظهور على

ص: 164

الساحة العالمية، وبالفعل ظهرت هذه القوى الجديدة، وأخذت تباشر عملها العدواني ضد الإسلام، فأول عمل قامت به هو أنها عملت على تشتيت هذاالشمل وتمزيقه، فتجزأت دولة العثمانيين - بعد أن كانت موحّدة - إلى دويلات ذات حواجز وحدود جغرافية تفصلها عن جاراتها، فأصبحت الدولة الإسلامية منقسمة تحت سيطرة واستعمار قوى استعمارية عديدة. فما هو السبب الذي يقف وراء مثل هذه العمليات الاستعمارية في تجزئة بلادنا الإسلامية؟

الجواب: الكل يعرف أنّ هدف الاستعمار الأول والأخير هو النهب والاستغلال، فكيف يتم له ذلك؟ لا بدّ من وجود طرق توصله إلى ما يريد، ومن هذه الطرق: تجزئة الدول الإسلامية، وهذا ما يسعى الاستعمار إلى تحقيقه بالذات، فإنهم يعملون ليل نهار على إيجاد مخططات عدوانية بموجبها يتم ترسيخ تجزئة البلاد الإسلامية، ومن بعدها تتم لهم السيطرة عليها، هذا من جانب، ومن جانب آخر تراهم ينشرون الفساد، وبشتى أنواعه في بلادنا؛ ولهذا نرى أن الفساد يزداد يوماً بعد آخر، بدون أن نشعر به، وما علينا إلّا أن نقف بكل حزم وقوة أمام هذه الهجمات الاستعمارية، لرد هذا المكر الشيطاني الذي يستخدمه العدوّ وسياساته العدوانية ضد أبناء أمتنا الإسلامية.

التخلف خطة استعمارية

أحد الأمور التي جعلت الاستعمار يتكالب على البلاد الإسلامية هو ما تزخر به أراضي هذه البلاد من ثروات معدنية هائلة، وهناك أمور أخرى كثيرة مذكورة في محلها، ولكن الأمر الذي لا بدّ من الإشارة إليه هو أنّ ما تعانيه البلدان الإسلامية من التخلف الطاغي عليها هو الذي مكّن الاستعمار أن يسيطر على هذا البلاد، ويسخّر ما يشاء من ثرواتها لصالحه، وقد عمل المستعمرون على تكريس هذا التخلف حتى لا يفيق المسلمون من سباتهم، ومن ثم يطالبون

ص: 165

بالتحرر والاستقلال.

وقد رأى أن الحل الوحيد للحد من هذه الأخطار هو تجزئة هذه البلاد إلىدويلات، فبعد أن تمّ له ما أراد وجد أنه وبتجزئة هذه البلاد يستطيع أن ينشّط نفوذه ويقويه بين حين وآخر، وأنه يتمكن من بسط هيمنته متى ما يشاء، فأخذ يسرح ويمرح كيف ما يريد. فالواجب علينا إيجاد الحل للتخلص والقضاء على هذه المخططات الاستعمارية.

التصدي للمخططات الاستعمارية
اشارة

ولأجل القضاء عليها نستطيع أن نوجز بعض النقاط علّها تكون جزءاً من الحل لهذه المخططات الغربية:

1- إننا إذا أردنا أن نقف بوجه هذه المخططات، فالأمر الأول الذي يجب علينا أن نعمل به، هو أن نغيّر ما بأنفسنا كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1).

فالواجب علينا أن نغير من أنفسنا تغييراً جذرياً، وهذا يتم بالرجوع إلى القرآن الكريم وسيرة رسولنا الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأئمتنا الطاهرين(عليهم السلام)، وأن نعمل بمثل ما عملوا، فإذا تمكنا من السير على نهجهم بالشكل الصحيح، فسوف نتمكن من طرد الاستعمار من بلادنا بالتأكيد، وإننا على أقلّ تقدير سوف لا نكون سوقاً لتصريف منتجاتهم وبضائعهم، بل سوف نسعى إلى الاعتماد على أنفسنا في ما يسمى بعالم اليوم بالاكتفاء الذاتي والاستعمار يعلم أنه إذا حصل المسلمون على سيادتهم وكرامتهم الكاملة سوف لا يطول عمره كثيراً.

فسيرة الأئمة الهداة المعصومين عليهم الصلاة والسلام شعلة وضاءة تكشف

ص: 166


1- سورة الرعد، الآية: 11.

لنا سواد الظلمات، وترشدنا إلى سبل الضياء والنور، الذي يرضي اللّه سبحانه وتعالى ورسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

روي عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في وصيته لعبد اللّه بن جندب أنه قال: «يا ابن جندب! حقّ على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها، وإن رأى سيئة استغفر منها...» ثم قال(عليه السلام): «رحم اللّه قوماً كانوا سراجاً ومناراً، كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود طاقتهم، ليس كمن يذيع أسرارنا...»، ثم قال(عليه السلام): «يا ابن جندب! إنّ للشيطان مصائد يصطاد بها، فتحاموا شباكه ومصائده».

قلت: يا ابن رسول اللّه وما هي؟

قال: «أمّا مصائده فصد عن برّ الإخوان، وأمّا شباكه فنوم عن قضاء الصلوات التي فرضها اللّه...» ثم قال(عليه السلام): «يا ابن جندب، الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحط بدمه في سبيل اللّه يوم بدر وأحد، وما عذّب اللّه أمة إلّا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم. يا ابن جندب، بلِّغ معاشر شيعتنا، وقل لهم، لا تذهبنّ بكم المذاهب، فواللّه لا تنال ولايتنا إلّا بالورع والاجتهاد في الدنيا، ومواساة الإخوان في اللّه، وليس من شيعتنا من يظلم الناس!» ثم قال(عليه السلام): «يا ابن جندب إنّ عيسى بن مريم(عليه السلام) قال لأصحابه: أرأيتم لو أن أحدكم مرّ بأخيه، فرأى ثوبه قد انكشف عن بعض عورته، أكان كاشفاً عنها كلّها أم يرد عليها ما انكشف منها؟

قالوا: بل نرد عليها.

قال: كلا بل تكشفون عنها كلها - فعرفوا أنه مثل ضربه لهم - .

فقيل: يا روح اللّه وكيف ذلك؟

قال: الرجل منكم يطّلع على العورة من أخيه فلا يسترها، بحق.

ص: 167

أقول لكم: إنكم لا تصيبون ما تريدون إلّا بترك ما تشتهون. ولا تنالون ما تأملون إلّا بالصبر على ما تكرهون، إيّاكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة،وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه. لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب، وانظروا في عيوبكم كهيئة العبيد، إنما الناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا المبتلى واحمدوا اللّه على العافية»(1).

ومن وصيته(عليه السلام) لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول مؤمن الطاق جاء فيها وهو يخاطب ابن النعمان: «يا ابن النعمان إيّاك والمراء فإنه يحبط عملك...» إلى أن قال(عليه السلام) «إن أبغضكم إليّ المترئسون، المشاؤون بالنمائم، الحسدة لإخوانهم، ليسوا مني ولا أنا منهم، إنما أوليائي الذين سلّموا لأمرنا واتبعوا آثارنا واقتدوا بنا في كل أمورنا»(2).

2- العمل على تنمية ثلاثة أمور: العقل، العلم، التربية.

أ: العقل

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «لما خلق اللّه العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب»(3).

فيجب على المسلمين أن يعملوا على تنمية عقول أبنائهم؛ لأن العقل نعمة أنعم بها اللّه عزّ وجلّ على عباده؛ حتى يتمكن العبد من مواجهة الأهواء

ص: 168


1- تحف العقول: 301.
2- تحف العقول: 307.
3- الكافي 1: 10.

والشهوات والانحرافات التي يواجهها من كل حدب وصوب، فالعقل يجب أن يكون هو الحاكم لدى الفرد المسلم لا الشهوة والرغبة، فإذا ما أصبح العقل هوالحاكم، وهو المقرر، فستتغير بالتأكيد جميع أعمال الإنسان، وتتجه نحو الصواب والصلاح.

لقد وردت أحاديث كثيرة عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) تبيّن دور العقل، وتفضيل اللّه سبحانه وتعالى له على باقي المخلوقات في البدن الإنساني.

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لكل شيء آلة وعدة، وآلة المؤمن وعدته: العقل، ولكل شيء مطية، ومطية المرء العقل، ولكل شيء دعامة ودعامة الدين العقل، ولكل شيء غاية، وغاية العبادة العقل، ولكل قوم راع وراعي العابدين العقل، ولكل تاجر بضاعة، وبضاعة المجتهدين العقل، ولكل خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل، ولكل سفر فسطاط يلجأون إليه وفسطاط المسلمين العقل»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ليس الرؤية مع الأبصار، وقد تكذب العيون أهلها، ولا يغش العقل من انتصحه»(2).

وقال الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام): «من لم يكن عقله من أكمل ما فيه، كان هلاكه من أيسر ما فيه»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «يغوص العقل على الكلام، فيستخرجه من مكنون الصدر كما يغوص الغائص على اللؤلؤ المستكنّة في البحر»(4).

ص: 169


1- أعلام الدين: 170.
2- بحار الأنوار 1: 95.
3- الإحتجاج 2: 320.
4- الإختصاص: 244.
ب: العلم

وهو كالمصباح المضيء في الظلمات، إذ يحفظ الإنسان من الوقوع فيالمهلكات، وبالعلم يتمكن الإنسان أن يحفظ نفسه، ويقيها من الانحراف إلى تيارات الكفر والعصيان؛ فلذا يجب أن يتعلم كل فرد صغيراً كان أو كبيراً من المسلمين، لينتبهوا إلى ما يحاك لهم من مؤامرات تريد الهلاك لهم؛ لذا يجب أن تطبع الكتب فضلاً عن الصحف والمجلات والإذاعات وباقي وسائل التوعية؛ لأنّ عدد المسلمين في العالم أكثر من مليار ونصف المليار(1).

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اطلبوا العلم ولو بالصين فان طلب العلم فريضة على كل مسلم»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «كلّما زاد علم الرجل زادت عنايته بنفسه، وبذل في رياضتها وصلاحها جهده»(3).

وقال(عليه السلام): «يا مؤمن، إن هذا العلم والأدب ثمن نفسك فاجتهد في تعلمها فما يزيد من علمك وأدبك يزيد في ثمنك وقدرك فإن بالعلم تهتدي إلى ربك وبالأدب تحسن خدمة ربك وبأدب الخدمة يستوجب العبد ولايته وقربه فاقبل النصيحة كي تنجو من العذاب»(4).

وقد جعل الباري عزّ وجلّ العلم ذا شأن وشرف عظيم، وهذه الشرفية والشأنية العظيمة لا تليق بأن تستودع في غير محلها، فلا بد وأن توضع في المحل المناسب لها، وقد وضعها سبحانه في مكانها الذي يتلاءم مع منزلتها الرفيعة

ص: 170


1- آخر الإحصاءات ذكرت أن عدد المسلمين بلغت الملياران.
2- روضة الواعظين 1: 11.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 535.
4- روضة الواعظين 1: 11.

فأودعها في أفضل مخلوقاته، وهو الإنسان.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أنّ الباري عزّ وجلّ في أول سورة أنزلها على نبيه الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تحدث عن العلم والمعرفة، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدلّ على أن القرآن قد أعطى للعلم مكانة خاصة من بين آياته الشريفة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: طلب العلم فريضة على كل مسلم... به يطاع الرب وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام والعلم إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء»(1).

ج: التربية

وهي عامل مهم في تعديل وتهذيب أفكار المسلمين، ونرى الذين اهتموا بهذا الجانب رأوا ثماراً طيبة ونتاجاً رائعاً، وأصل التربية هي هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من كلّف بالأدب قلت مساويه»(2).

وقال(عليه السلام): «إن الناس إلى صالح الأدب أحوج منهم إلى الفضة والذهب»(3).

وفي وصية لقمان لابنه قال: «يا بني إن تأدبت صغيراً انتفعت به كبيراً، ومن غني بالأدب اهتمُ به ومن أهتم به تكلف علمه، ومن تكلف علمه اشتد طلبه ومن اشتد طلبه أدرك منفعته فاتخذه عادة فانك تخلف في سلفك وتنفع به من خلفك ويرتجيك فيه راغب ويخشى صولتك راهب وإياك والكسل عنه والطلب لغيره..»(4). ولكن الشيء الذي يثير الحزن هو أن بلادنا الإسلامية أصبحت

ص: 171


1- بحار الأنوار 1: 171.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 606.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 237.
4- تفسير القمي 2: 164.

مملوءة بالمناهج والأفكار الغربية.

قال أحد الشخصيات الغربية: بأنّ مناهجنا في البلد الكذائي موجودة كاملاً، ولكن دون أن يشعروا بذلك كالماء الموجود في إناء زجاجي شفاف فالذي ينظر إلى الإناء يتصور أنّه فارغ، ولكنّه مملوء بالماء.

هكذا تسللت المناهج الغربية إلينا، وأخذنا نعمل بها دون أن نشعر، بين ما جعلنا الأحكام الإسلامية الصحيحة التي دعانا اللّه عزّ وجلّ وأئمتنا الهداة(عليهم السلام) إلى تطبيقها على الرفوف للتراث، أو للزينة فقط.

إذاً، فلا بدّ أن نسعى إلى تحقيق تلك الأمور التي ذكرناها آنفاً، وأن نعمل على تنميتها لأنها من الأمور العليا التي دعا إليها الإسلام العظيم، وإن شقّ علينا ذلك وطال بنا العناء والجهد، إذ أنّ اللّه عزّ وجلّ وراء عباده المؤمنين، وقد وعدهم بنصره حيث قال سبحانه وتعالى:

{إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(1).

«اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

الإسلام يرفض التفرقة

قال تعالى: {وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ}(3).

ص: 172


1- سورة محمد، الآية: 7.
2- الكافي 3: 424.
3- سورة البقرة، الآية: 163.

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ}(1).وقال عزّ وجلّ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ}(2).

وقال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَٰحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}(3).

وقال عزّ من قائل: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(4).

مسؤولية المسلمين

قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسَْٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسَْٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(6).

وقال سبحانه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ}(7).

وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(8).

ص: 173


1- سورة النساء، الآية: 1.
2- سورة المائدة، الآية: 48.
3- سورة يونس، الآية: 19.
4- سورة الحجرات، الآية: 13.
5- سورة الحجر، الآية: 92-93.
6- سورة النحل، الآية: 93.
7- سورة الصافات، الآية: 24.
8- سورة الأنفال، الآية: 46.
الإسلام يدعو للعلم والتعلم

قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1).وقال سبحانه: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(2).

وقال جلّ وعلا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(4).

العمل بسيرة المعصومين(عليهم السلام)

قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ}(5).

وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

الإسلام يرفض التفرقة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزال أمتي بخير ما تحابوا وتهادوا، وأدّوا الأمانة»(7).

ص: 174


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة طه، الآية: 114.
3- سورة العلق، الآية: 1- 5.
4- سورة النحل، الآية: 43.
5- سورة الأحزاب، الآية: 21.
6- سورة الممتحنة، الآية: 6.
7- عيون أخبار الرضا 2: 29.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «لا تزال أمتي بخير ما لم يتخاونوا وأدوا الأمانه وآتوا الزكاة وإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين»(1).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إلزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة»(2).وقال(عليه السلام): «إياكم والفرقة فإنّ الشاذ عن أهل الحق للشيطان كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب»(3).

وقال(عليه السلام): «إياكم والتدابر والتقاطع لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(4).

مسؤولية المسلمين

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا معاشر قرّاء القرآن اتقوا اللّه عزّ وجلّ فيما حمَّلكم من كتابه فإني مسؤول وإنّكم مسؤولون، إني مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأما أنتم فتسألون عمّا حملتم من كتاب اللّه وسنتي»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم بتقوى اللّه فيما أنتم عنه مسؤولون وإليه تصيرون فإن اللّه تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(7)، ويقول:

ص: 175


1- ثواب الأعمال: 251.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 175.
4- روضة الواعظين 1: 137.
5- الكافي 2: 606.
6- الكافي 2: 164.
7- سورة المدثر، الآية: 38.

{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}(1)، ويقول: {فَوَرَبِّكَ لَنَسَْٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(2) يا عباد اللّه أن اللّه جلّ وعزّ سائلكم عن الصغير من عملكموالكبير»(3).

عن سفيان قال سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «عليك بالنصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(4).

السنة تدعو للعلم والتعلم

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «تعلموا العلم فإنّ تعلمه حسنة»(5).

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لست أحب أن أرى الشاب منكم إلّا غادياً في حالين: إما عالماً أو متعلماً»(6).

وعن قال الإمام الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار وتواضعوا لمن تُعلِّمونَه العلم وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فذهب باطلكم بحقكم»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام):«عليكم بالتفقه في دين اللّه ولا تكونوا أعراباً»(8).

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط

ص: 176


1- سورة آل عمران، الآية: 28.
2- سورة الحجر، الآية: 92-93.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 260.
4- الكافي 2: 164.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 615.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 303.
7- الكافي 1: 36.
8- الكافي 1: 31.

حتى يتفقهوا»(1).

العمل بسيرة المعصومين(عليهم السلام)

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في خطبة له في حجة الوداع:«يا أيها الناس، واللّه ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلّا وقد نهيتكم عنه»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اسمعوا وأطيعوا لمن ولّاه اللّه الأمر فإنه نظام الإسلام»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أسّ الإسلام النامي، وفرعه السامي»(4).

ص: 177


1- الكافي 1: 31.
2- الكافي 2: 74.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 14.
4- الكافي 1: 200.

الإنسان والمحبة الاجتماعية

بين المحبة والمودّة

اشارة

قال تعالى في محكم كتابه الكريم:

{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا}(1).

الوُدّ معناه المحبة والألفة وأحياناً يفرق بين المودة والمحبة، فالمودة تطلق على الحب الذي يتجاوز القلب ويظهر من خلال الأفعال ولكن المحبة حب يكمن في القلب ولا يتجاوزه إلى السلوك. فأحياناً يحب الإنسان صديقاً له في قلبه فقط فهذا يسمى (الحب) وأحياناً يهدي إليه كتاباً تعبيراً له عن حبّه وإظهاراً لمودته فيسمى مودة، فاللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} يجعل لهم اللّه مودة وهذا أمر طبيعي؛ لأن القلوب كلها بيد اللّه سبحانه، واللّه عزّ وجلّ هو الذي يجعل الإنسان الصالح موضع اعتزاز الناس ومحبوباً عند الجميع.

ولذلك ورد في الخبر: ما أقبل عبد بقلبه إلى اللّه إلّا أقبل اللّه بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقهم مودتهم ورحمتهم ومحبتهم.(2) وورد أيضاً: إن اللّه إذا أحب مؤمناً قال لجبرائيل: إني أحببت فلاناً فأحبه فيحبّه جبرائيل، ثم ينادي في السماء ألا إن

ص: 178


1- سورة مريم، الآية: 96.
2- تفسير مجمع البيان 6: 455.

اللّه أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له قبول في أهل الأرض(1).

ومن هنا جاء ما صح عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «لو ضربت خيشوم(2) المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ولو صببت الدنيا بجماتها(3) على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك انه قضي فانقضى على لسان النبي الأمي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: يا علي، لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق»(4).

فان قلوب الناس بيد اللّه تعالى وهو يهديها إلى الحب والولاء لبعض الأشياء وينفرها عن الأشياء الأخرى.

ولذلك ورد في الآية الكريمة: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}(5).

الناس يحبون الصالحين

إن الإنسان الصالح له مكانة خاصة في قلوب الناس ويحظى بمحبتهم وودهم، فمثلاً إذا كان الطبيب لا يأخذ أجرته إلّا بمقدار حقّه وجهده وعمله عد من الصالحين وعرف بالصلاح بين الناس، وبهذا يكون موضع اعتزازهم واحترامهم. وهكذا كل إنسان مهما كان عمله فما دام يعمل لله ويخدم الناس فان اللّه معه، وسيلقي محبته في قلوبهم، وبذلك يكون محبوباً عند الجميع، هذه سنة من سنن الحياة التي أودعها اللّه في هذا الكون أن الصالح محبوب والطالح مبغوض.

ص: 179


1- تفسير مجمع البيان 6: 455.
2- الخيشوم: أصل الأنف.
3- الجمّات: جمع جمّة بفتح الجيم، وهو من السفينة مجتمع الماء المترشح من ألواحها، والمراد لو كفأت عليهم الدنيا بجليلها وحقيرها.
4- نهج البلاغة، قصار حكم: الرقم 45.
5- سورة الحجرات، الآية: 7.
قصة الطبيب مع الفقراء

كان في مدينة بغداد طبيب عرف بمعاملته الجيدة تجاه مراجعيه، وإذا كان المراجع فقيراً ضعيف الحال، كان يعفيه عن دفع أجور المعاينة، بل كان أحياناً يعطي تكاليف الدواء والغذاء لمريضه أيضاً كي يحصل على الشفاء التام، وذات يوم راجعه أحد أهل العلم لبعض الالتهابات التي كانت قد أصابت حنجرته، وبعد أن قام بالفحص التام عن المرض وصف الدواء المناسب، ورفض أن يأخذ أجور العلاج بل وأصر على ذلك، رغم المحاولات الكثيرة التي بذلت من أجل الدفع، إذ كان يقول: إني لا آخذ المال من طلاب العلوم الدينية وعلماء الدين.

فمن الطبيعي أن إنساناً كهذا يحبه الناس ويحترمونه، وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): «... ثلاثة تورث المحبة: الدين والتواضع والبذل»(1).

ولذلك لما توفي هذا الطبيب الطيب جرى له تشييع مهيب وكأنه عظيم من عظماء البلد، وهذا نتيجة أعماله الصالحة وخدمته للناس، وقد روي عن الإمام الباقر(عليه السلام): «إن فيما ناجى اللّه عزّ وجلّ به عبده موسى(عليه السلام) قال:

إن لي عباداً أبيحهم جنّتي وأحكّمهم فيها، قال: يا رب ومن هؤلاء الذين تبيحهم جنتك وتحكّمهم فيها؟ قال: من أدخل على مؤمن سروراً، ثم قال: إن مؤمناً كان في مملكة جبار فولع(2) به فهرب منه إلى دار الشرك، فنزل برجل من أهل الشرك فأظله وأرفقه وأضافه، فلما حضره الموت أوحى اللّه عزّ وجلّ إليه وعزّتي وجلالي لو كان لك في جنتي مسكن لأسكنتك فيها ولكنها محرمة على من مات بي مشركاً ولكن يا نار هيديه(3) ولا تؤذيه ويؤتى برزقه طرفي النهار»،

ص: 180


1- تحف العقول: 316.
2- ولع: استخف.
3- الهَيْدُ: الحركة، هدته، أهيده هيداً: كأنك تحركه ثم تصلمه، وفي مجمع البحرين 3: 170. أي: حركيه من غير أن تؤذيه.

قلت: من الجنة؟ قال: «من حيث شاء اللّه»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنوا إليكم»(2).

حسن الخلق ضرورة

ونحن طلبة العلوم الدينية ينبغي علينا أن نعاشر الناس على نحو يتمنون أن نكون بينهم لنهديهم إلى الرشاد، كما كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) يعاشرون الناس، ولو لم نكن كذلك لخابت آمال الناس بنا بل الأسوأ من ذلك أنهم سيسيئون الظن بالإسلام أيضاً؛ لأن الناس يرون الإسلام من خلال أخلاقنا وأعمالنا، فعلينا أن نتعامل بشكل لا يجلب احترام ومحبة الأصدقاء فحسب بل حتى الأعداء أيضاً وهذه هي سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام).

قال اللّه العظيم في القرآن الكريم: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}(3).

حتى أن فرعون كان يكن محبة خاصة لموسى(عليه السلام) وذلك لسلوك وأخلاق موسى(عليه السلام) الحسنة، فان الناس يميلون إلى الإحسان والأخلاق الحسنة.

وقد ورد عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسن الخلق يثبت المودة»(4).

وعن الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «من حسن خلقه كثر محبوه وأنست النفوس به»(5).

ص: 181


1- الكافي 2: 188.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 10.
3- سورة طه، الآية: 39.
4- تحف العقول: 45.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 663.

وبعكس ذلك سوء الخلق فانه ينفر عن الإنسان حتى أقرب الناس إليه كما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «سوء الخلق يوحش القريب وينفّر البعيد»(1)، وأيضاً: «من ساء خلقه ملّه أهله»(2).

الفضل ما شهدت به الأعداء

ومن هذا القبيل ذكر أنه: لما دخل سنان على عبيد اللّه بن زياد برأس الحسين(عليه السلام) أنشأ يقول:

أوقر ركابي فضة وذهبا *** أنا قتلت الملك المحجبا

ومن يصلي القبلتين في الصبا *** قتلت خير الناس أمّاً وأباً

وخيرهم إذ ينسبون نسباً

فقال عبيد اللّه: ما تلقى مني خيراً إلّا الحقتك به وأمر بقتله(3).

وهذا يعني أن أخلاق الإمام الحسين(عليه السلام) وسلوكه الصالح مع أصدقائه وأعدائه أثارت مكنون ضمير قاتله وسابي نسائه حتى مدحه بهذه الأبيات الشعرية وذلك بوجه ألد أعدائه.

الثبات على الخلق الحسن

كان في كربلاء شخص يحبه الناس حباً جماً حتى أنه أصبح أمين الناس وموضع ثقتهم، فكانوا يودعون عنده أسرارهم وأماناتهم، وقد ساهمت سمعته الجيدة هذه بين الناس في تنصيبه قاضي القضاة في المدينة، ولكنه مع الأسف ما إن وصل إلى هذا المقام شوّه ماضيه الحسن وذكره الجميل، فقد قابل الناس

ص: 182


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 400.
2- تحف العقول: 214.
3- مناقب آل ابي طالب(عليهم السلام) 4: 113.

بالقسوة والغلظة الشديدة، الأمر الذي كشف للناس أن حب الدنيا كان مغروساً في قلبه طوال الأربعين عاماً الماضية، حتى أنه بمجرد أن وصل إلى السلطة مال نحو الدنيا وحبَّذ مغرياتها على حياة الآخرة.

بين ما في المقابل نرى أن أحد علماء الدين البارزين في العراق أصبح رئيساً للوزراء في فترة سياسية معينة(1) حيث أنه قبل أن يرتقي إلى هذا المنصب كان رجلاً بسيطاً في تعامله وخلوقاً مشهوداً له، وبعد وصوله إلى هذا المقام لم يتغير وضعه وسلوكه أبداً، وإنما استمر على الوضع السابق فقد كان يدرِّس في المدرسة الهندية(2)، وكانت له خالة عجوزاً تسكن بجوار المدرسة يزورها باستمرار ويسأل عنها قبل حصوله على منصب رئاسة الوزراء وعن صحتها وقد استمر على زيارتها حتى بعد توليه هذا المنصب.

وذات يوم شوهدت سيارة فخمة واقفة أمام باب المدرسة الأمر الذي لم يعهده الطلاب من قبل، فكان الأمر بالنسبة إليهم غريباً تماماً وباعثاً على الدهشة والاستفسار! وبعد لحظات خرج رئيس الوزراء من دار خالته العجوز، فعلم الناس أن هذا الرجل لم يغيره المنصب، ويخدعه ويضعه في زاوية حادة مع الناس لا يرى أحداً ولا يراه أحد(3)، فهو مع مقامه المرموق هذا لم ينس خالته العجوز ولم ينس تدريسه في المدرسة الهندية، وأعماله الكثيرة لم تحل دون

ص: 183


1- وهو السيد محمد حسن الصدر من مواليد سامراء عام (1887م) أسس حزب حرس الاستقلال عام (1338ه/ 1919م)، لعب دوراً بارزاً في ثورة العشرين التي قادها الإمام الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه) وحرّض العشائر على محاصرة القوّات الإنجليزية.
2- إحدى المدارس العلمية في كربلاء المقدسة.
3- حقاً أن الرجل قدم خدمات كثيرة إبان توليه منصب رئاسة الوزراء منها أن أخرج العراق من الفوضى والحالة الاقتصادية والاجتماعية العشوائية التي كانت تعم الناس. للمزيد راجع كتاب (تلك الأيام) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

زيارتها وصلتها، وممارسة تدريسه في المدرسة.

القول والعمل

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «ذللوا أخلاقكم بالمحاسن وقودوها إلى المكارم وعودوها الحلم واصبروا على الإيثار على أنفسكم فيما تحمدون عنه قليلاً من كثير..»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «رحم اللّه عبداً حببنا إلى الناس ولم يبغضنا إليهم، أما واللّه لو يروون محاسن كلامنا، لكانوا به أعزّ وما استطاع أحد أن يتعلق عليهم بشيء»(2).

نقل أحد الأصدقاء بأنه قبل خمسة عشر عاماً أقيم مؤتمر لمعارضة الخمور والحد من انتشار ظاهرة الإدمان على الخمور وتعاطيها، وألقى بعض العلماء محاضرات جيدة في ذم الخمور والمشروبات الكحولية وبيّنوا الفساد الذي تسببه للإنسان من الناحية النفسية والصحية، وكان أحد الأطباء من جملة المحاضرين في المؤتمر حيث ألقى كلمة غراء مهمة ومثيرة جداً، بحيث لو سمعها أحد مدمني الخمر لتأثر من كلامه ولعله ترك الشرب، ولكن في اليوم الآتي - والكلام للصديق قال - كنت أسير في الطريق، وإذا بي أرى سكراناً يترنح يميناً وشمالاً، ولما دققت النظر في وجهه اندهشت كثيراً لأني رأيت أنه ذلك الطبيب الذي ألقى تلك المحاضرة القيمة في ذم الخمور والكحول!! فسلمت عليه وقلت له: إنك كنت في الأمس تذم الشراب ولكني أراك اليوم سكراناً تترنح؟! فأجاب: في الأمس كان الكلام واليوم هو العمل!!

ص: 184


1- مشكاة الأنوار: 180.
2- الكافي 8: 229.

نعم، وكما قيل كلام الليل يمحوه النهار، وهذه القصة عبرة لنا حتى لا نكون من الذين يقولون ما لا يفعلون وقد قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(1).

فمن الضروري جداً أن نلتزم بالعمل بما نقول ونروي عن سيرة المعصومين(عليهم السلام) حتى تتطابق أقوالنا مع أعمالنا ويرى الناس أننا نعمل على ضوء أقوال الإمام الصادق(عليه السلام) والأئمة(عليهم السلام).

وفي التاريخ الكثير الكثير من أمثال هذه العبر، فحين ما حمل جيش الإسلام على الروم، اجتمع كبار العسكريين الروم وأخذوا يتباحثون في أسباب تقدم المسلمين في الحرب مع أنهم يفقدون التكتيك العسكري والأسلحة الثقيلة في الحرب؟ فأبدى واحد من المجتمعين رأيه ولكن لم يحظ بالقبول، إلى أن قال أحدهم: لنسأل هذا العبد الذي يخدم الحضور في المجلس فسألوه، فقال: الخادم هل أنا في أمان لو قلت لكم الحقيقة؟ قالوا: نعم، فقال: إن السبب يكمن فيكم لأنكم استعبدتم الشعب الرومي حتى نبذوكم وانفضوا من حولكم، وحين ما رأوا المسلمين وسلوكهم وأخلاقهم الحسنة صاروا تائقين مشتاقين، إليهم وأنا أحد الذين يتمنون انتصار المسلمين.

فسألوه عن سبب ذلك.

فأجابهم: كان لي بالقرب من هذا المكان (أي مكان الاجتماع) بستان أعيش فيه مع زوجتي وأولادي الأربعة في رغد وصفاء، حتى جاء نبأ هجوم المسلمين على بلاد الروم فأخذتم كل أولادي للحرب، ولم ينفعكم إصراري الكثير لبقاء أحد أولادي معي على الأقل ليكون عوناً لي في خدمة العائلة، ولما مر جيش

ص: 185


1- سورة الصف، الآية: 3.

الروم من أمام بستاني لمقاتلة المسلمين خطف قادة عسكركم زوجتي من بيتي، وهدموا بستاني، بحجة أنه كان واقعاً في طريق الجيش، واليوم أصبحت عاجزاً لا أملك من المال شيئاً حتى اضطررت لأن أخدمكم ههنا!! فهذه السياسة المملوءة بالعنف والغلظة هي التي سببت انهزامكم أمام المسلمين الذين يتمتعون بالتعامل الإنساني والرحمة والإحسان حتى مع خصومهم وهم يسيرون على نهج دين يدعو للرحمة والمحبة وينهى عن الظلم والاعتداء والغلظة.

حقوق الناس

الإسلام هو الدين الوحيد الذي أعطى لكل ذي حق حقه بمنتهى العدالة والدقة، فإن الناس في المنظار الإسلامي سواسية لا يُفرق بينهم، رجالاً ونساءً شيوخاً وشباباً وأطفالاً وحتى الجنين في بطن أمه، فان لكل واحد منهم الحقوق والأحكام الإلهية التي لا يجوز التعدي عليها تحت أي عنوان كان، فقد جاء أن أحد الزهّاد وتاركي الدنيا عبد اللّه كثيراً وحارب نفسه بشدة، حيث كان لا يأكل إلّا القليل من الطعام، ولا ينام على مكان ناعم ومريح وترك جميع الملذات، وقد استمر على هذا الحال حتى بلغ الستين من العمر وفارقت روحه الدنيا، وبعد فترة شاهده أحد الصالحين في عالم الرؤيا وسأله: يا فلان كيف أنت؟ قال: حتى الآن لم يدخولني الجنة لأني أخذت إبرة من شخص على شكل عارية ولم أرجعها إليه واليوم منعوني من دخول الجنة لتعلق حق الناس في رقبتي(1).

يقول اللّه سبحانه وتعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ

ص: 186


1- ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من حبس حق المؤمن أقامه اللّه يوم القيامة خمسمائة عام على رجليه حتى يسيل من عرقه أودية وينادي مناد من عند اللّه: هذا الظالم الذي حبس عن المؤمن حقّه، فيوبَّخ أربعين يوماً ثم يؤمر به إلى النار». ثواب الأعمال: 240.

ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).

والإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) لما وصلته الخلافة الظاهرية(2) نادى في الناس: «واللّه لو وجدته قد تُزوج به النساء ومُلك به الإماء لرددته؛ فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق»(3).

وقال(عليه السلام): «... وايم اللّه لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته(4) حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً»(5).

فإن حقوق الناس من الأمور الخطيرة في الإسلام التي يحاسب الإنسان عليها لا في الدنيا فقط بل في الآخرة، ولا ينال الإنسان رحمة اللّه ولا يذوق طعم العفو والمغفرة الإلهية إلّا إذا رضي أصحاب الحقوق عنه.

المكر والخديعة

كان عبد الكريم قاسم يحافظ على نفسه بشدة وقاية من الاغتيال، حتى أن زائريه كان يجب عليهم العبور من تسعة مواضع بعناوين مختلفة مثل السكرتير أو المسؤول أو غير ذلك حتى يتمكنوا من الوصول إليه. ذات يوم ذهب بعض الناس في عمل خيري للقاءه، ولما وصل إلى السكرتير الأول رآه يؤذي الناس ويهينهم ولا يقيم لأحد وزناً فتركه حتى خلى به المجلس فعاتبه قائلاً: لماذا تعامل الناس

ص: 187


1- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
2- لأن الإمام(عليه السلام) هو الخليفة الحق لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سواء كان على الحكم أو لم يكن.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 15 فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان، وهي عبارة عن ما منحه عثمان من الأراضي والأموال، وكان الأصل فيها أن تنفق غلتها على أبناء السبيل وأشباههم، كقطائعه لمعاوية ومروان وغيرهم من أقاربه.
4- الخِزامة - بالكسر - : حَلْقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشد فيها الزمام ويسهل قياده.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 136 في أمر البيعة.

هكذا؟ قال: واللّه العظيم أنا أيضاً مثل الطير المحبوس في القفص، فمن ناحية عبد الكريم قاسم يعد الناس باللقاء، ومن ناحية أخرى يقول لي: لا تسمح لهم بالدخول عليّ، ولا أدري ماذا أصنع في هذه الحيرة!؟

هناك مثل شائع يقول: الإنسان يستطيع أن يتكئ على رؤوس الحراب ولكن لا يستطيع الجلوس عليها، والحاكم الذي يستغل الناس ويستعبدهم لا يتمكن أن يستقر حبّه في قلوبهم ولا يحظى برضاهم وتأييدهم، إن الحاكم القوي هو الذي يتمكن أن ينفذ إلى قلوب الناس ويعيش في وجدانهم بالإحسان إليهم واحترامهم ومنحهم حقوقهم، إنّ عبد الكريم بسياسته الكاذبة الغليظة هذه لا يتمكن من البقاء على كرسي الحكم إلّا فترة وجيزة، وفعلاً لم تمر أيام قلائل حتى أطيح به عن كرسي الرئاسة.

فان الناس يحبّون الصالحين ويودون الرحماء ويدعمونهم بكل شيء، بين ما تجدهم ينفضون عن الأشداء الذين يعاملون الآخرين كعبيد لهم ولا يقيمون وزناً لأي شيء.

نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا من الصالحين الذين يخدمون الناس ويحظون بحبهم ومودتهم.

من هدي القرآن الحكيم

الذين يحبهم اللّه عزّ وجلّ

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(2).

ص: 188


1- سورة البقرة، الآية: 195.
2- سورة آل عمران، الآية: 76.

وقال عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(3).

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}(4).

هؤلاء لا يحبهم اللّه عزّ وجلّ

قال جلّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(5).

وقال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}(7).

وقال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(8).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}(9).

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}(10).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(11).

ص: 189


1- سورة آل عمران، الآية: 146.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة المائدة، الآية: 42.
4- سورة البقرة، الآية: 222.
5- سورة البقرة، الآية: 190.
6- سورة آل عمران، الآية: 57.
7- سورة البقرة، الآية: 276.
8- سورة المائدة، الآية: 64.
9- سورة النساء، الآية: 36.
10- سورة النساء، الآية: 107.
11- سورة الأنعام، الآية: 141.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَٰفِرِينَ}(3).

وقال سبحانه: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

موجبات المحبة

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «ثلاثة تورث المحبة: الدين والتواضع والبذل»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أيضاً: «ثلاث يوجبن المحبة: حسن الخلق وحسن الرفق والتواضع»(6).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «البشر الحسن وطلاقة الوجه مكسبة للمحبة وقربة من اللّه، وعبوس الوجه وسوء البشر مكسبة للمقت وبعد من اللّه»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثلاث خصال تجتلب بهنّ المحبة: الإنصاف في المعاشرة والمواساة في الشدة والانطواع(8)

والرجوع إلى قلب سليم»(9).

ص: 190


1- سورة الأنفال، الآية: 58.
2- سورة النحل، الآية: 23.
3- سورة الروم، الآية: 45.
4- سورة النساء، الآية: 148.
5- تحف العقول: 316.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 332.
7- تحف العقول: 296.
8- الانطواع: أي الانقياد.
9- كشف الغمة: 2: 349.

وقال رجل للنبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا رسول اللّه، علمني شيئاً إذا أنا فعلته أحبني اللّه من السماء وأحبني أهل الأرض؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ارغب فيما عند اللّه يحبك اللّه، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «رحم اللّه عبداً اجتّر مودة الناس إلى نفسه فحدّثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حسن الخلق يورث المحبة ويؤكد المودة»(3).

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «من لان عوده كثفت أغصانه»(4)(5).

أعمال يحبها اللّه عزّ وجلّ

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاثة يحبها اللّه سبحانه: القيام بحقه والتواضع لخلقه والإحسان على عباده»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاثة يحبها اللّه: قلة الكلام وقلة المنام وقلة الطعام، ثلاثة يبغضها اللّه: كثرة الكلام وكثرة المنام وكثرة الطعام...»(7).

وسئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أي الأعمال أحب إلى اللّه عزّ وجلّ؟ قال: «اتباع سرور المسلم» قيل: يا رسول اللّه، وما اتباع سرور المسلم؟ قال: «شبع جوعته

ص: 191


1- تهذيب الأحكام 6: 377.
2- الخصال 1: 25.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 347.
4- لين العود كناية عن قبول الانعطاف في إجراء الأمور وحسن العشرة والتواضع مع الأحباء والأصدقاء والوفود، فمن كان كذلك يرغب الناس في صحبته ويميلون إلى معاشرته ويوادّونه، فيكثر رفاقه وأنصاره.
5- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 214.
6- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: 2: 121.
7- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 121.

وتنفيس كربته وقضاء دينه»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أحب الأعمال إلى اللّه عزّ وجلّ، إدخال السرور على المؤمن، إشباع جوعته أو تنفيس كربته أو قضاء دينه»(2).

كيف نكسب حبّ اللّه سبحانه؟

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في حديث المعراج: «أن النبي سأل ربه ليلة المعراج فقال: يا رب أي الأعمال أفضل؟ فقال اللّه تعالى: ... يا محمد، وجبت محبتي للمتحابين فيّ ووجبت محبتي للمتعاطفين فيّ ووجبت محبتي للمتواصلين فيّ ووجبت محبتي للمتوكلين عليّ، وليس لمحبتي علم ولا غاية ولا نهاية، وكلّما رفعت لهم علماً وضعت لهم علماً...»(3).

وقيل لعيسى(عليه السلام): علّمنا عملاً واحداً يحبنا اللّه عليه؟ قال: «ابغضوا الدنيا يحببكم اللّه»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا تخلّى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب اللّه، وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط، وإنما خالط القوم حلاوة حب اللّه فلم يشتغلوا بغيره»(5).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «..وطلبت حب اللّه عزّ وجلّ فوجدته في بغض أهل المعاصي»(6).

ص: 192


1- قرب الإسناد: 145.
2- الكافي 2: 192.
3- إرشاد القلوب 1: 199.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 134.
5- الكافي 2: 130.
6- مستدرك الوسائل 12: 173.
أي الناس أحب إلى اللّه سبحانه؟

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أحب عباد اللّه إلى اللّه أنفعهم لعباده وأقومهم بحقه، الذين يحبب إليهم المعروف وفعاله»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «وسئل(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من أحب الناس إلى اللّه؟ قال: أنفع الناس للناس»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الخلق عيال اللّه، فأحب الخلق إلى اللّه من نفع عيال اللّه وأدخل على أهل بيت سروراً»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال اللّه عزّ وجلّ: الخلق عيالي فأحبهم إليّ الطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم»(4).

وعنه(عليه السلام) أيضاً:

«إن لله عباداً من خلقه في أرضه يفزع إليهم في حوائج الدنيا والآخرة، أولئك هم المؤمنون حقاً آمنون يوم القيامة ألا وإن أحب المؤمنين إلى اللّه من أعان الفقير من الفقر في دنياه ومعاشه ومن أعان ونفع ودفع المكروه عن المؤمنين»(5).

ص: 193


1- تحف العقول: 49.
2- الكافي 2: 164.
3- الكافي 2: 164.
4- الكافي 2: 199.
5- تحف العقول: 376.

البعثة النبوية الشريفة والدين الإسلامي

البعثة المباركة

مِن أكبر نعم اللّه تعالى علينا بل على البشرية جمعاء، أن بعث اللّه فينا رسوله محمد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولولا هذه البعثة المباركة، لما بقي من الإنسانية شيء، ولا بقي من القيم والآداب والمُثُل شيء، وقد جاءت البعثة الشريفة في الوقت المناسب والمكان المناسب والشخص المناسب. حيث بعث اللّه عزّ وجلّ أفضل خلقه محمدا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمةً للناس أجمعين، وذلك في ليلة 27 من شهر رجب في مكة المكرمة بغار حراء.

قال عزّ وجلّ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ}(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: إن بعض قريش قال لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): بأي شي ء سبقت الأنبياء وفُضّلت عليهم وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟

قال: إني كنت أولّ من أقرّ بربي جلّ جلاله، وأول من أجاب حيث أخذ اللّه ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربكم قالوا بلى، فكنتُ أول نبي قال بلى، فسبقتهم إلى الإقرار باللّه عزّ وجلّ»(2).

ص: 194


1- سورة آل عمران، الآية: 164.
2- علل الشرائع 1: 124.

أفضلية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

اشارة

في الإختصاص: عن صفوان الجمال عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال لي: «يا صفوان هل تدري كم بعث اللّه من نبي؟»

قال: قلت: ما أدري.

قال: «بعث اللّه مائة ألف نبي وأربعة وأربعين ألف نبي(1) ومثلهم أوصياء، بصدق الحديث وأداء الأمانة والزهد في الدنيا، وما بعث اللّه نبياً خيراً من محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا وصياً خيراً من وصيه»(2).

وفي وصية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): «يا علي إن اللّه عزّ وجلّ أشرف على أهل الدنيا فاختارني منها على رجال العالمين، ثم اطلع الثانية فاختارك على رجال العالمين، ثم اطلع الثالثة فاختار الأئمة من ولدك على رجال العالمين، ثم اطلع الرابعة فاختار فاطمة على نساء العالمين»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنا سيد من خَلَقَ اللّه عزّ وجلّ، وأنا خير من جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش وجميع ملائكة اللّه المقربين وأنبياء اللّه المرسلين، وأنا صاحب الشفاعة والحوض الشريف، وأنا وعليٌ أبوا هذه الأمة، من عرفنا فقد عرف اللّه عزّ وجلّ، ومن أنكرنا فقد أنكر اللّه عزّ وجلّ، ومن عليٍ سبطا أمتي وسيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين، ومن وُلد الحسين تسعة أئمة طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي تاسعهم قائمهم ومهديهم»(4).

وعن الحسين بن عبد اللّه قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 195


1- عدد الأنبياء(عليهم السلام) حسب المشهور بين العلماء: 124000 نبي.
2- الإختصاص: 263.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 374.
4- كمال الدين 1: 261.

سيد ولد آدم؟ فقال: «كان واللّه سيد من خلق اللّه، وما برأ اللّه بريةً خيراً من محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أتى يهودي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقام بين يديه يحد النظر إليه، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا يهودي ما حاجتك؟

قال: أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلمه اللّه وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظله بالغمام؟

فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه ولكني أقول: إن آدم(عليه السلام) لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللّهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما غفرت لي، فغفرها اللّه له.

وإن نوحاً(عليه السلام) لما ركب في السفينة وخاف الغرق قال: اللّهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني من الغرق، فنجاه اللّه عنه.

وإن إبراهيم(عليه السلام) لما ألقي في النار قال: اللّهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني منها، فجعلها اللّه عليه برداً وسلاماً.

وإن موسى(عليه السلام) لما ألقى عصاه وأوجس في نفسه خيفة قال: اللّهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أمنتني، فقال اللّه جلّ جلاله: لا تَخَفْ إنك أنت الأعلى، يا يهودي إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ما نفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته النبوة.

يا يهودي ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته فقدمه وصلى خلفه»(2).

ص: 196


1- الكافي 1: 440.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 218.
المؤمنون ونصرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

تبين هذه الآية الشريفة وظيفة المؤمنين تجاه بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشخصه الكريم الذي أحل لهم الطيبات وكان سبباً لهدايتهم إلى نور الإسلام، فمن اللازم عليهم أن ينصروه ويؤازروه.

قال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}(2).

إن الناس إذا تولوا عن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأعرضوا عنه، فإنهم قد أضروا بأنفسهم، وخسروا الدنيا والآخرة، ولم يضروا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً.

{لَقَدْ جَاءَكُمْ} أيها البشر، أو أيها المؤمنون {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من جنس نفوسكم، وهو محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وهذا تحريض لإتباعه والأخذ بأمره، حيث أنه من أنفسهم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: صعب عليه عنَتَكم(3)، وما يلحق بكم من الضرر والأذى..

{حَرِيصٌ عَلَيْكُم} أي على حفظكم وتقدمكم وسعادتكم، فلستم بهيّنين

ص: 197


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة التوبة، الآية: 128-129.
3- العَنَتُ: دُخُولُ المَشَقَّة على الإنسان، ولقاءُ الشدَّة؛ يقال: أَعْنَتَ فلانٌ فلاناً إِعناتاً، إِذا أَدْخَل عليه عَنَتاً أَي مَشَقَّةً.

عليه حتى لا يهمّه أمركم، ويُلقي بكم في المهالك اعتباطاً، فإذا أمركم بأمر فإن فيهسعادتكم وخيركم؛ لأنه جاء من المُشفق الحريص على شؤونكم، فهو {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ} والرأفة شدة الرحمة، وهو{رَّحِيمٌ} للتأكيد وتفهيم من لا يفهم معنى الرؤوف، فهو وصف توضيحي من قبيل (سعدانة نبت)(1).

قال الصحابي الجليل جابر بن عبد اللّه الأنصاري: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«أنا أشبه الناس بآدم(عليه السلام)، وإبراهيم(عليه السلام) أشبه الناس بي خَلْقُه وخُلُقُه، وسمّاني اللّه عزّ وجلّ من فوق عرشه عشرة أسماء، وبين اللّه وصفي، وبشر بي على لسان كل رسول بعثه إلى قومه، وسماني ونشر في التوراة اسمي، وبثَّ ذكري في أهل التوراة والإنجيل وعلمني كتابه، ورفعني في سمائه، وشق لي اسماً من أسمائه: فسمّاني محمداً وهو محمود، وأخرجني في خير قرن من أمتي، وجعل اسمي في التوراة أحيد، وهو من التوحيد، فبالتوحيد حرَّم أجساد أمتي على النار، وسمّاني في الإنجيل أحمد، فأنا محمود في أهل السماء، وجعل أمتي الحامدين، وجعل اسمي في الزبور ماح، محا اللّه عزّ وجلّ بي من الأرض عبادة الأوثان، وجعل اسمي في القرآن محمداً، فأنا محمود في جميع القيامة في فصل القضاء لا يشفع أحد غيري(2)، وسمّاني في القيامة حاشراً، يحشر الناس على قدميّ، وسمّاني المُوقِف، أوقف الناس بين يدي اللّه جلّ جلاله، وسماني العاقب أنا عَقِبُ النبيين، ليس بعدي رسول، وجعلني رسول الرحمة، ورسول التوبة، ورسول الملاحم، والمقفّى قفيت النبيين جماعةً، وأنا القيم الكامل الجامع، ومنَّ عليَّ ربي وقال: يا محمد صلى اللّه عليك قد أرسلت كل رسول إلى أمته بلسانها، وأرسلتك إلى كل أحمر

ص: 198


1- تفسير تقريب القرآن 2: 487.
2- أي بالشفاعة الكبرى.

وأسود من خلقي، ونصرتك بالرعب الذي لم أنصر به أحداً، وأحللت لك الغنيمةولم تحل لأحد قبلك، وأعطيت لك ولأمتك كنزاً من كنوز عرشي، (فاتحة الكتاب) وخاتمة سورة البقرة، وجعلت لك ولأمتك الأرض كلها مسجداً، وترابها طهوراً، وأعطيت لك ولأمتك التكبير، وقرنت ذكرك بذكري حتى لا يذكرني أحد من أمتك إلّا ذكرك مع ذكري، طوبى لك يا محمد ولأمتك»(1).

وهكذا بعث رسول اللّه محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاتم النبيين، فلا نبي بعده، قال تبارك وتعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّۧنَ}(2). أي: آخرهم، فقد ختمت به النبوة، ولذا يلزم عليه أن يُبطل كل ما يخالف الصلاح العام، ويقدم برنامجاً متكاملاً لسعادة الإنسان إلى يوم القيامة، فإنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس كسائر الأنبياء الذين تقدموا، فإن رسالتهم كانت مؤقتة ولكن رسالة نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خالدة إلى يوم يبعثون.

وفعلاً قد بلّغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كل ما كان عليه أن يبلّغه، وختم الدين والإسلام وأكمله بولاية أمير المؤمنين علي(عليه السلام) حتى نزلت الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(3).

عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال:

«لما حضر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الوفاة نزل جبرئيل(عليه السلام)، فقال له جبرئيل: يا رسول اللّه، هل لك في الرجوع؟

قال: لا، قد بلغت رسالات ربي.

ص: 199


1- الخصال 2: 425.
2- سورة الأحزاب، الآية: 40.
3- سورة المائدة، الآية: 3.

ثم قال له: يا رسول اللّه، أتريد الرجوع إلى الدنيا؟قال: لا بل الرفيق الأعلى.

ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للمسلمين وهم مجتمعون حوله: أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا سنة بعد سنتي، فمن ادعى ذلك فدعواه وبدعته في النار، ومن ادعى ذلك فاقتلوه ومن اتبعه، فإنهم في النار. أيها الناس، أحيوا القصاص، وأحيوا الحق، ولا تفرقوا، وأسلموا وسلموا تسلموا، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}»(1)(2).

وبالاضافة إلى كل تلك المقامات والصفات التي اتسم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بها في الحسابات الإلهية، فإنه يُعدّ في الحسابات الإنسانية أيضاً الشخص الأول في هذا الوجود، ويحتل موقع الصدارة، وقد شهد بذلك لسان الماضي والحاضر، وكذلك سيشهد له لسان المستقبل، ولا فرق في ذلك بين الأعداء والأصدقاء، وهذه هي نظرة غير المسلمين إليه أيضاً (صلوات اللّه وسلامه عليه)، إذ كتب رجل مسيحي عن ذلك فقال: إن الدنيا ولدت مائة وجه مضيء على رأس تلكم المائة نبي الإسلام محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

سبب شهرة نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

اشارة

لقد قام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأهم أربعة أعمال، كانت بأعلى مستويات الإنجاز، ولعلها كانت هي السبب وراء شهرته بين الأمم واحترامهم له، فإنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وبغض النظر عن كونه خاتم الأنبياء(عليهم السلام) وهادي السبيل، والنبي المعصوم، وأفضل أهل الأرض، فإنه يعد أقدس شخصية يكنّ لها العالم المسلم وغير المسلم - من

ص: 200


1- سورة المجادلة، الآية: 21.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 53.

المنصفين - كامل الاحترام والتبجيل، وذلك بسبب ما قدمه للعالم من عطاءباعث على الإجلال والتعظيم. أما تلك الأعمال الأربعة فهي:

أولاً: الإسلام والقرآن الكريم والعترة
اشارة

قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(1)

إن الإسلام والقرآن والعترة الطاهرة أفضل هدية قدمها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للبشرية جمعاء.

إن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو النبي الوحيد الذي استطاع أن يوصل رسالته السمحاء لكل العالم.

وفضل هذه الرسالة وأهميتها قد لا يدركه الكثير من المسلمين إذ حالهم في ذلك كمثل سمكة صغيرة جاءت إلى سمكة كبيرة تسألها، أين الماء؟ في حين أنها تعيش في الماء، لكنها لم تعرف قدر الماء إلّا بعدما وقعت في شبك الصياد وألقاها خارج الماء.

ونحن المسلمين كذلك؛ لأننا منذ الولادة عشنا في أحضان الإسلام الحبيب، وأحضان القرآن الكريم الذي أنزل على النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفي مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وسنبقى على الإسلام والإيمان إن شاء اللّه، حتى الرمق الأخير. لذا فإن العديد منا لايعرف قيمة هذا الدين العظيم، ولاقيمة هذا القرآن المجيد، ولاقدر هذا المذهب الحق الذي هدانا اللّه إليه، حق قدره وحق معرفته؛ ولذا تجد بعض المسلمين يشرق ويغرب في أفكاره ومبادئه، وربما يترك تعاليم هذا الدين القويم، ويترك معارف القرآن العظيم، مع أنه الأساس في بناء الحضارة الإسلامية

ص: 201


1- سورة سبأ، الآية: 28.

والعالمية، والتي أنقذت العالم والإنسانية من الويلات، ودفعته إلى التقدم الهائل في جميع أبعادالحياة المختلفة، وهذا باعتراف الكثير من غير المسلمين أيضاً.

روايات حول القرآن

وقد ورد في فضل القرآن الكريم عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوله: «إن هذا القرآن مأدبة اللّه، فتعلموا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل اللّه وهو النور البين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه»(1).

وقال أمير المومنين(عليه السلام): «وتعلموا القرآن، فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص، وإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند اللّه ألوم»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام):«هو حبل اللّه المتين، وعروته الوثقى وطريقته المثلى، المؤدي إلى الجنة، والمنجي من النار، لا يخلق على الأزمنة، ولا يغث على الألسنة، لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، والحجة على كل إنسان، {لَّا يَأْتِيهِ الْبَٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٖ}»(3)(4).

روايات حول العترة(عليهم السلام)

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»(5).

ص: 202


1- وسائل الشيعة 6: 168.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم110 من خطبة له(عليه السلام) في أركان الدين.
3- سورة فصلت، الآية: 42.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 130.
5- المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب(عليه السلام): 260.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إني تارك فيكم خليفتين: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فإنهما لنيفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(1).

سر النجاح

نعم، إن القرآن والإسلام والعترة، هي التي أوجدت في المسلمين الروح المعنوية العالية، والإيمان باللّه واليوم الآخر، والخوف من النار والرغبة بالجنة، والترغيب والحث على التحلي بالأخلاق الحميدة.

وهي أول مبعث لانطلاق المسلمين، تلك الانطلاقة المذهلة التي اعترف الغرب والشرق بأنها كانت وراء النهضة العلمية في الغرب، وبأن المسلمين هم أساس العلم الحديث.

ولكن - ومع الأسف - نحن المسلمين تركنا الإسلام، وتركنا القرآن وتركنا العترة الطاهرة، وسيأتي يوم نندم على ذلك ولكن الوقت قد فات - لا سامح اللّه - وأن كل شيء قد انتهى.

وهذه الحقيقة قد يلمسها الإنسان عندما يصل به العمر إلى آخر مرحلة من مراحل حياته في هذه الدنيا، وحينها لا يفيد الندم، على ما ضيع أيام قوته وشبابه، فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال لابن مسعود: «يا ابن مسعود: أكثر من الصالحات والبر، فإن المحسن والمسيء يندمان، يقول المحسن: يا ليتني ازددت من الحسنات، ويقول المسيء قصّرت، وتصديق ذلك قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}»(2)(3). وعلى الإنسان أن يسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يجعله ممن لاتبطره نعمة، ولا تقصّر به عن طاعة ربّه غاية، ولا تحل به بعد الموت ندامة وكآبة.

ص: 203


1- كمال الدين 1: 240.
2- سورة القيامة، الآية: 2.
3- مكارم الأخلاق: 454.
حقيقة الإسلام

يقول اللّه تبارك وتعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي إلّا بمثل ذلك: إن الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل، والعمل هو الأداء»(2).

وقال(عليه السلام): «إن اللّه تعالى خصّكم بالإسلام واستخلصكم له؛ وذلك لأنه اسم سلامة وجماع(3) كرامة، اصطفى اللّه تعالى منهجه وبيّن حججه، من ظاهر علم وباطن حكم، لا تفنى غرائبه ولاتنقضي عجائبه، فيه مرابيع(4) النعم ومصابيح الظلم، لا تفتح الخيرات إلّا بمفاتيحه، ولاتكشف الظلمات إلّا بمصابيحه، قد أحمى حماه وأرعى مرعاه، فيه شفاء المستشفي وكفاية المكتفي»(5).

لقد دلت الآيات الكريمة والروايات الشريفة على تأكيد حقيقة الإسلام وبيان كماله، فمن كلام لأمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لا شرف أعلى من الإسلام»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ابتعثه بالنور المضي ء والبرهان الجلي والمنهاج البادي والكتاب الهادي، أسرته خير أسرة، وشجرته خير شجرة، أغصانها معتدلةٌ، وثمارها متهدِّلةٌ(7)، مولده بمكة، وهجرته بطيبة،

ص: 204


1- سورة آل عمران، الآية: 85.
2- الكافي 2: 45.
3- جماع الشيء: مجتمعه.
4- مرابيع: جمع مِرباع، المكان ينبت نبته في أول الربيع.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 152 من خطبة له(عليه السلام).
6- الكافي 8: 19.
7- متهدِّلة: متدلّية، دانية للإقتطاف.

علا بها ذكره،وامتد منها صوته، أرسله بحجة كافية، وموعظة شافية، ودعوة متلافية(1)، أظهر به الشرائع المجهولة، وقمع به البدع المدخولة، وبيّن به الأحكام المفصولة(2)، فمن يبتغ غير الإسلام ديناً تتحقق شقوته، وتنفصم عروته، وتعظم كبوته(3)، ويكن مآبه(4) إلى الحزن الطويل والعذاب الوبيل...»(5).

وقالت الصديقة فاطمة(عليها السلام) في خطبتها: «أنتم عباد اللّه نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء اللّه على أنفسكم، وبلغاءه إلى الأمم، زعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم، كتاب اللّه الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائداً إلى الرضوان اتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج اللّه المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، فجعل اللّه الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً للفرقة، والجهاد عزاً للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة،

ص: 205


1- متلافية: من تلافاه: تداركه بالإصلاح قبل أن يهلكه الفساد، فدعوة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تلافت أمور الناس قبل هلاكهم.
2- المفصولة: التي فصلها اللّه، أي قضى بها على عباده.
3- الكبوة: السقطة.
4- المآب: المرجع.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 161 من خطبة له(عليه السلام) في صفة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) وأتباع دينه، وفيها يعظ بالتقوى.

وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأةً(1) في العمر ومنماةً للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفة، وحرم اللّه الشرك إخلاصاً له بالربوبية، فاتقوا اللّه حق تقاته ولا تموتن إلّا وأنتم مسلمون، وأطيعوا اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه إنما يخشى اللّهَ من عباده العلماءُ...»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في القرآن:

«كتاب ربكم فيكم، مبيناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصه وعامه، وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه، مفسراً مجمله، ومبيناً غوامضه، بين مأخوذ ميثاق علمه، وموسع على العباد في جهله، وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنة نسخه، وواجب في السنة أخذه، ومرخص في الكتاب تركه، وبين واجب بوقته، وزائل في مستقبله، ومباين بين محارمه، من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه، وبين مقبول في أدناه، موسع في أقصاه»(3).

ومن الواضح، أن الإسلام بهذه القيم والمعارف والعظمة، والتعاليم المنطقية والتي تتطابق مع فطرة البشر، يبعث على احترامه واحترام رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتبجيله، حتى عند غير المسلمين الذين يؤمنون بالمقاييس الإنسانية المجردة عن الاعتبارات السماوية. وهل يعرف العالم أسمى من الإسلام في الإنسانية!!

ص: 206


1- منسأة للعمر: مؤخرة.
2- الإحتجاج 1: 97.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها مبعث النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن والأحكام الشرعية.
ثانياً: الأحكام العادلة

الثاني مما أنجزه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): بيان الأحكام والشريعة العادلة، والملبية لجميع حاجات البشر، والتي لا تخالف فطرة الإنسان، مضافاً إلى كونها مستوعة لمختلف مجالات الحياة.

قال تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إني لأعلم ما في السماوات، وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون»، قال: ثم مكث هنيئة، فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه، فقال: «علمت ذلك من كتاب اللّه عزّ وجلّ، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: فيه تبيان كل شي ء»(2).

إن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جاء بدين يحتوي على كل الأحكام التي تتطلبها الحياة، من الطهارة البدنية والروحية، وإلى آخر ما يحتاجه الإنسان في مسائله الشخصية والعائلية والاجتماعية من حدود وتعزيرات، وديات، واقتصاد، وسياسة، واجتماع... فأحكام الإسلام هي الوحيدة التي تعد كاملة ومستوعبة لكل جوانب الإنسان، وكل الأحكام الأخرى التي جاءت بها الديانة المسيحية والديانة اليهودية التي سبقته بزمن، كانت ناقصة لم تستوعب كل الحياة، فضلاً عن تحريفها وخلطها بالأباطيل، ومعلوم أن الأحكام الكاملة تشير إلى كمال صاحبها أيضاً، مما يدعو إلى تقديسه واحترامه. وهذا هو السبب الثاني للمكانة العالية لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين جميع البشر.

ص: 207


1- سورة النحل، الآية: 89.
2- الكافي 1: 261.
ثالثاً: الأمة الواحدة
اشارة

العمل الثالث الذي تفرد به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أنه استطاع خلال (23سنة) فقط أن يخلق من المسلمين أمة واحدة موحدة، في الوقت الذي كانت الفرقة والتقاليد البالية والعصبيات الجاهلية هي الغالبة السائدة، مضافاً إلى أن المسلمين كانوا من مختلف القبائل والقوميات فوحدهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تحت راية الإسلام.

الوصي(عليه السلام) يصف البعثة

وقد وصف أمير المؤمنين(عليه السلام) الحال قبل البعثة النبوية الشريفة، فقال(عليه السلام): «... إلى أن بعث اللّه سبحانه محمداً رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لإنجاز عدته، وإتمام نبوته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورةً سماته، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة، بين مشبه لله بخلقه، أو ملحد(1) في اسمه، أو مشير إلى غيره، فهداهم به(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة، ثم اختار سبحانه لمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لقاءه، ورضي له ما عنده، وأكرمه عن دار الدنيا، ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه إليه كريماً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها؛ إذ لم يتركوهم هملاً بغير طريق واضح، ولا عَلَم قائم...»(2).

وقال(عليه السلام): «.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع؛ إزاحةً للشبهات، واحتجاجاً بالبينات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمَثُلاتُ(3)، والناس في

ص: 208


1- الملحد في اسم اللّه: الذي يميل به عن حقيقة مسماه.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها مبعث النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن والأحكام الشرعية.
3- المَثُلات - جمع مثله - : العقوبات.

فتن انجذم(1) فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النجر، وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل، والعمى شامل، عصي الرحمن، ونصر الشيطان، وخذل الإيمان، فانهارت دعائمه، وتنكرت معالمه، ودرست سبله، وعفت شركه، أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه، ووردوا مناهله، بهم سارت أعلامه، وقام لواؤه في فتن داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون، في خير دار وشر جيران، نومهم سهود وكحلهم دموع، بأرض عالمها ملجم وجاهلها مكرم»(2).

وقال(عليه السلام) في خطبة أخرى: «إن اللّه بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نذيراً للعالمين وأميناً على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شرّ دين، وفي شرّ دار، مُنيخون(3) بين حجارة خشن، وحيات صمٍّ(4)، تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة»(5).

الصديقة(عليها السلام) تصف البعثة

وقالت السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام): «أيّها الناس، اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... {وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ}(6)، مذقة الشارب(7)، ونهزة

ص: 209


1- انجذم: انقطع، والسواري: جمع سارية وهو العمود والدعامة، النَّجرْ: الأصل.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 2 من خطبة له(عليه السلام) بعد انصرافه من صفين.
3- منيخون: مقيمون.
4- وصف(عليه السلام) الحيات بالصم لأنها أخبثها، إذ لا تنزجر بالأصوات كأنها لا تسمع، الجَشِبْ: الطعام الغليظ.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 26 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يصف العرب قبل البعثة.
6- سورة آل عمران، الآية: 103.
7- المُذْقَة: الجرعة، والنهزة: الفرصة، وقبسة العجلان: القبسة ما تقبضه بيدكْ وهو مَثَل في الإستعجال.

الطامع،وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق(1)، وتقتاتون القِدّ، أذلّة خاسئين، {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ}(2) من حولكم، فأنقذكم اللّه تبارك وتعالى بمحمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد اللتيا والّتي..»(3).

وقالت(عليها السلام) في بداية خطبتها: «الحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم.. ثم جعل الثواب على طاعته ووضع العقاب على معصيته، ذيادةً(4) لعباده من نقمته، وحياشة لهم إلى جنته، وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله، اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من اللّه تعالى بمآيل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور، ابتعثه اللّه إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير رحمته، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها، فأنار اللّه بأبي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ظلمها، وكشف عن القلوب بُهَمَهَا(5)، وجلى عن الأبصار غُمَمَهَا، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العَمَاية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم، ثم قبضه اللّه إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وإيثار...»(6).

ص: 210


1- الطَرق: ماء السماء الذي تبول به الإبل وتبعر، والقِدّ: سير يقد من جلد غير مدبوغ.
2- سورة الأنفال، الآية: 26.
3- الإحتجاج 1: 100.
4- الذِيادة: أي طرداً عنهم ومنعاً لهم عن المعاصي الجالبة للنقم، والحياشة: - مِن حاشَ الإبل - أي: جمعها وساقها.
5- بُهَمَهَا: أي: مبهماتها وهي المشكلات من الأمور، وغُمَمَها: - جمع غُمة - أي: المبهم والملتبس.
6- الإحتجاج 1: 98.
من بركات البعثة
اشارة

البشرية كانت محرومة من العدالة والمساواة في الإنسانية والمساواة أمام القانون، وفي ذلك العالم المليئ بالظلم والطبقية، وفي ذلك المحيط الجاهلي أسس الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مبدأ العدالة والمساواة، فلا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى، وبهذه الوسيلة استطاع أن يجمع حوله مختلف أفراد المجتمع، ويوحدهم تحت لواء واحد، وعقيدة واحدة. ومن المعلوم أن توحيد الكلمة بين أناس متفرقين متشتتين من أعظم الأعمال التي يستحق صاحبها التعظيم.

التعامل الإنساني مع الكل

ومن بركات البعثة النبوية الشريفة: الحث على التعامل الإنساني مع الكل حتى مع غير المسلمين.

ولقد كانت معاملة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع سائر الفئات غير المسلمة، من أفضل المعاملات الإنسانية، فقد كان يحترم الجميع ويعايشهم بحسن الجوار والتزاور وعيادة المرضى والمناظرة والمحاورة والعطف والمحبة والوفاء بالعهود وقضاء حوائجهم والدعاء لهم والذب عنهم...

ولم يكن ذلك مع المسلمين فقط، بل حتى مع غير المسلمين، حتى ورد عنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أخذ شيئاً من أموال أهل الذمة ظلماً فقد خان اللّه ورسوله وجميع المؤمنين»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تدخلوا على نساء أهل الذمة إلّا بإذن»(2).

فمن الواضح، أن هذه الأعمال جعلت تلك الفئات تتشوق إلى الدخول في

ص: 211


1- الجعفريات: 81.
2- الجعفريات: 82.

الدين الحنيف الذي جاء به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبذلك استطاع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من توسيع القاعدة الإسلامية وجمع عدد كبير من الناس حوله، ونشر الإسلام بين البشرية على أوسع نطاق وفي أقصر مدة.

وهذه بعض الشواهد، التي تعكس عظمة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفضله العظيم على الإنسانية:

يهودي يحبس رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)!

روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن يهودياً كان له على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دنانير، فتقاضاه، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك!

فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إذاً أجلسُ معك، فجلس معه، حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتهددونه ويتواعدونه، فنظر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟

فقالوا: يا رسول اللّه يهودي يحبسك؟!

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لم يبعثني ربي عزّ وجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره. فلمّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل اللّه. أما واللّه ما فعلت بك الذي فعلت، إلّا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت في التوراة: محمد بن عبد اللّه مولده بمكة ومهاجره بطيبة وليس بفظٍّ ولا غليظ ولا سخابٍ ولا متزيّنٍ بالفحش، ولا قول الخفى، وأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنك رسول اللّه، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل اللّه، وكان اليهودي كثير المال»(1).

ص: 212


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 465.
أخلاقيات البعثة

فبهذا السلوك العظيم والأخلاق الرفيعة استطاع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يخلق أمة واحدة عظيمة، بهرت التاريخ وحيّرت العقول، حتى أن اللّه سبحانه وتعالى وصفهم قبل الإسلام بالجاهلية، ثم عاد فوصفهم بعد الإسلام ب(خير الأمم) حيث يقول القرآن الكريم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ}(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما صافح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجلاً قط فنزع يده حتى يكون هو الذي ينزع يده منه»(2).

وعن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده(3).

وعن أنس بن مالك قال: إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أدركه أعرابي فأخذ بردائه، فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال له: يا محمد، مر لي من مال اللّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فضحك، وأمر له بعطاء(4).

وعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيياً لا يُسأل شيئاً إلّا أعطاه.

وعنه أيضاً قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان

ص: 213


1- سورة آل عمران، الآية: 110.
2- الكافي 2: 182.
3- مكارم الأخلاق: 19.
4- مكارم الأخلاق: 17.

إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه(1).

وعن أبي ذر قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجي ء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكاناً(2)

من طين وكان يجلس عليه ونجلس بجانبيه(3).

وعن أنس بن مالك قال: صحبت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشر سنين، وشممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيب من نكهته(4).

وعن ابن عباس عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «أنا أديب اللّه وعلي(عليه السلام) أديبي، أمرني ربي بالسخاء والبر، ونهاني عن البخل والجفاء، وما شي ء أبغض إلى اللّه عزّ وجلّ من البخل وسوء الخلق، وإنه ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل»(5).

وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) إذا وصف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً، من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه، لم أر مثله قبله ولا بعده مثله»(6).

وروي عن الصادق(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أقبل إلى الجعرانة(7) فقسم فيها

ص: 214


1- مكارم الأخلاق: 17.
2- الدكان: مكان ممهد قليل الارتفاع عن الأرض يجلس عليه.
3- مكارم الأخلاق: 16.
4- بحار الأنوار 16: 230.
5- مكارم الأخلاق: 17.
6- مكارم الأخلاق: 18.
7- الجِعْرانة: وهي ماء بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أقرب.

الأموال وجعل الناس يسألونه ويعطيهم، حتى ألجئوه إلى شجرة، فاُخذت برده وخُدشت ظهره حتى رحلوه عنها، وهم يسألونه، فقال: أيها الناس، ردوا علي بردي، واللّه لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم ما ألفيتموني جباناً ولا بخيلاً، ثم خرج من الجعرانة في ذي القعدة، قال: فما رأيت تلك الشجرة إلّا خضراء كأنما يُرشّ عليها الماء».(1)

وعن بحر السقاء قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا بحر، حسن الخلق يُسر» ثم قال: «ألا أخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة؟».

قلت: بلى.

قال: «بينا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم، فأخذت بطرف ثوبه، فقام لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم تقل شيئاً ولم يقل لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الرابعة، وهي خلفه فأخذت هدبةً(2) من ثوبه، ثم رجعت فقال لها الناس: فعل اللّه بك وفعل(3)، حبست رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثلاث مرات لا تقولين له شيئاً، ولا هو يقول لك شيئاً، ما كانت حاجتك إليه؟

قالت: إن لنا مريضاً فأرسلني أهلي لآخذ هدبةً من ثوبه ليستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني، فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني، وأكره أن أستأمره في أخذها فأخذتها».(4)

وهكذا كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قمة في الأخلاق الطيبة حتى قبل بعثته الشريفة.

ص: 215


1- الخرائج والجرائح 1: 98.
2- هُدْب الثوب: طرف الثوب مما يلى طرته، خمل الثوب.
3- فعل اللّه بك وفعل: دعاء عليها.
4- الكافي 2: 102.

عن أبي الحميساء قال: تابعت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل أن يبعث، فواعدته مكاناً فنسيتهيومي والغد، فأتيته يوم الثالث فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا فتى، لقد شققت عليّ؛ أنا ها هنا منذ ثلاثة أيام»(1).

التأسي برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

وهكذا يلزم على المسلمين، أن يتأسوا برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حسن تعامله مع جميع الناس حتى مع الكفار، فتكون معاملتهم ومعاشرتهم في هذا العصر أيضا معاشرة مبتنية على أسس الحكمة والموعظة الحسنة، وإن كان الكفر قد فتح أفواهه من كل جانب لابتلاع الإسلام والمسلمين، وسحقهم وإبادتهم.

كما ينبغي أن تكون سياسة المسلمين اليوم، سياسة الاحتواء والجمع والاغضاء والتشجيع، حتى يعود المسلمون قوة قاهرة، تهدي الأمم للتي هي أقوم كما صنع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

أما إذا كانت السياسة سياسة إلغاء الآخرين، والتفرقة وعدم الإغضاء، فهي توجب ضعف المسلمين.

العفو عن القاتل

روى الشيخ الكليني(رحمه اللّه) في الكافي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أُتي باليهودية التي سمّت الشاة للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟

فقالت: قلت: إن كان نبياً لم يضره، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه! قال(عليه السلام): فعفا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنها»(2).

ص: 216


1- مكارم الأخلاق: 21.
2- الكافي 2: 108.

كما أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عفا عن وحشي(1) قاتل عمه حمزة(عليه السلام)، وعن هبّار بنالأسود(2) قاتل ابنته زينب، إلى غير ذلك من أخبار عفوه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ص: 217


1- وحشي بن حرب الحبشي مولى بني نوفل، قاتل حمزة عم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في معركة أحد، قدم بعد ذلك على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع وفد أهل الطائف وأسلم، عفى عنه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن أمره أن يغيّب وجهه عنه، شارك مع عبد اللّه بن زيد الانصاري في قتل مسيلمة الكذاب، سكن الشام ومات فيها على الخمر. وفي إعلام الورى بأعلام الهدى: 83. في ذكر مغازي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه وسراياه..: وكان وحشي يقول: قال لي جبير بن مطعم - وكنت عبداً له - : إن علياً قتل عمي يوم بدر، يعني طعيمة، فإن قتلت محمداً فأنت حر، وإن قتلت عم محمد فأنت حر، وإن قتلت ابن عم محمد فأنت حر، فخرجت بحربة لي مع قريش إلى أُحد أريد العتق لا أريد غيره، ولا أطمع في محمد - (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وقلت: لعلي أصيب من علي أو حمزة غرة فأزرقه، وكنت لا أخطئ في رمى الحراب تعلمته من الحبشة في أرضها، وكان حمزة يحمل حملاته ثم يرجع إلى موقفه. قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «وزرقه وحشي فوق الثدي، فسقط وشدوا عليه فقتلوه، فأخذ وحشي الكبد، فشد بها إلى هند بنت عتبة فأخذتها وطرحتها في فيها، فصارت مثل الداغصة، فلفظتها». قال: وكان الحليس بن علقمة نظر إلى أبي سفيان، وهو على فرس وبيده رمح يجاء به في شدق حمزة، فقال: يا معشر بني كنانة، انظروا إلى من يزعم أنه سيد قريش، ما يصنع بابن عمه الذي صار لحماً، وأبو سفيان يقول: ذق عقق، فقال أبو سفيان: صدقت إنما كانت مني زلة اكتمها علي...
2- روي عن عروة بن الزبير أن رجلا أقبل بزينب بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلحقه رجلان من قريش فقاتلاه حتى غلباه عليها، فدفعاها فوقعت على صخرة فأسقطت وهريقت دما، فذهبوا بها إلى أبي سفيان، فجاءته نساء بنى هاشم فدفعها إليهن، ثم جاءت بعد ذلك مهاجرة فلم تزل وجعة حتى ماتت من ذلك الوجع، فكانوا يرون أنها شهيدة. وقيل: لما أرادت زينب بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اللحاق بأبيها، قدم لها كنانة بن الربيع - شقيق زوجها العاص - بعيراً فركبته وأخذ قوسه وكنانته، وخرج بها نهاراً يقود بعيرها وهي في هودج لها، وتحدث بذلك الرجال من قريش والنساء وتلاومت في ذلك، وأشفقت أن تخرج ابنة محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من بينهم على تلك الحال، فخرجوا في طلبها سراعا حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد ونافع بن عبد القيس الفهري، فروَّعها هبار بالرمح وهي في الهودج، وكانت حاملاً، فلما رجعت طرحت ذا بطنها، وكانت من خوفها رأت دماً وهي في الهودج؛ فلذلك أباح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة دم هبار بن الأسود. وروي أن هبار بن الأسود كان ممن عرض لزينب بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين حملت من مكة إلى المدينة، فكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأمر سراياه إن ظفروا به أن يقتلوه، فلم يظفروا به، حتى إذا كان يوم الفتح هرب هبار، ثم قدم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمدينة، ويقال: أتاه بالجعرانة حين فرغ من أمر حنين، فمثل بين يديه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقبل إسلامه وعفى عنه. راجع بحار الأنوار 19: 350.

ترى أي ملك، أو رئيس يعفو عن جرائم كهذه، وهل تجد لهذه القصص في غير الأنبياء والأولياء(عليهم السلام) مثيلاً؟

نعم، إنه الدين الحنيف، وإنه الارتباط الوثيق بالخالق، وإنه العفو الذي بلغ منتهاه، وبالتالي إنه الإسلام، وإنها أخلاق نبي الإسلام (صلوات اللّه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين)، فهو الجامع لكل الفضائل والمكرمات. وهو الذي نزل فيه قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

فأي عاقل يرى هذه المعاني السامية، متجسدة في شخصية كبيرة وعظيمة، كرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا يقدسه ويجلّه ويطيعه؟!

رابعاً: دولة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)
اشارة

الإنجاز الرابع الذي جعل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خالداً في التاريخ، ومعظماً عند جميع البشر، دولته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المباركة.

إن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استطاع أن يؤسس دولة عالمية كبرى، خضعت لها أكثر بقاع الأرض، وقامت على أركان العدالة والفضيلة والتقوى، وهذا الأمر الذي لم يصنعه حتى أولي العزم من الأنبياء(عليهم السلام) الذين سبقوه كموسى وعيسى(عليهما السلام).

ص: 218


1- سورة القلم، الآية: 4.

ثم إن الإسلام لا يفرق في الانتماء إليه بين أسود وأبيض، بل قال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّأَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(1).

إن رسالة الإسلام تشمل جميع الناس من كل أشكالهم وألوانهم وألسنتهم وأعراقهم، أما اليهودية مثلاً فإنهم لا يقبلون بانتماء أحد إلى دينهم. فإذا أراد إنسان أن يذهب إلى عالم اليهود (الحاخام)(2) ويتهوّد لا يقبل منه، وسيقال له: إن اليهودي هو الشخص الذي ينحدر عن اليهود، من أصلابهم أو من أم يهودية، لأنهم وبحسب اعتقادهم وادعائهم {أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ}(3)، كما قالوا بأن عزيراً ابن اللّه(4)...

وفي سورة التوبة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}(5).

ص: 219


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الحاخام: هو رئيس الكهنة عند اليهود، وهو مقدس في كتاب التلمود ويعتبرونه معصوماً، حتى ورد: إذا جاءك الحاخام وقال لك: إن هذه اليد اليمنى هي يدك اليسرى فصدقه، وأن أقوالهم صادرة عن اللّه، وأن مخالفتهم هي مخالفة اللّه، ومن قولهم في ذلك: يلزم المؤمن أن يعتبر أقوال الحاخامات كالشريعة، لأن أقوالهم هي قول اللّه الحي. وقال بعض الحاخامات لما سأل عن أقوالهم المتناقضة: إنها كلام اللّه مهما وجد فيها من تناقض، فمن لم يؤمن بها لا إيمان له، ومن قال: إنها ليست أقوال اللّه، فقد أخطأ في حق اللّه. انظر: ابتلاء الأمم: 102.
3- سورة المائدة، الآية: 18.
4- جاء في كتاب الاحتجاج للطبرسي(رحمه اللّه): عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه طالبهم بالحجة فقالوا: أحيا - أي عُزير - لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت ولم يفعل بها هذا إلّا لأنه ابنه. فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فكيف صار عُزير ابن اللّه دون موسى؟ وهو الذي جاء لهم بالتوراة ورئي منه من المعجزات ما قد علمتم، ولئن كان عزير ابن اللّه لما ظهر من إكرامه بإحياء التوراة، فلقد كان موسى بالنبوة أولى وأحق». الإحتجاج 1: 23.
5- سورة التوبة، الآية: 30.

وفي سورة المائدة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ}(1).أما غير أولئك فلا يحق لهم الدخول في اليهودية، فاليهود يعتقدون أن هذا الفضل مختص بهم، ولا يحظى به أي أحد غيرهم، ولا يحق لأحد أن يشاركهم فيه!!

بعكس دين الإسلام الذي يرى الناس سواسية، ويشجع على دخول كل الناس إليه، ويفسح المجال لكل البشر أن يرتبطوا بربهم في الدعاء والعبادة متى شاؤوا، وبهذا الانفتاح وهذه النظرة الشمولية ولسائر التعاليم العادلة دخل الناس في الإسلام أفواجاً، حتى قامت دولة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أسس العدالة والخير والفضيلة.

قال اللّه تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٖ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(2).

فقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ} فإن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما حذّرهم نقمة اللّه وعذابه، فقالوا: نحن أبناؤه، والابن الحبيب لا يخاف من نقمة الأب الودود {قُلْ} يا رسول اللّه لهؤلاء المفترين: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم} اللّه {بِذُنُوبِكُم}؟ حيث تعترفون بما حكى القرآن عنهم في آية أخرى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}(3)، فإن كنتم أبناءً أحباءً لم يكن

ص: 220


1- سورة المائدة، الآية: 18.
2- سورة المائدة، الآية: 18- 19.
3- سورة البقرة، الآية: 80.

معنىً للعذاب، ولعل المراد من (المستقبل): الماضي؛ أي لِمَ عذبكم سابقاً بذنوبكم، حيث جعل منكم القردة والخنازير وأشباه ذلك؟ {بَلْ أَنتُم} أيها اليهود والنصارى {بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} تعالى إن أحسنتم جُوزيتم، وأن أسأتم جُوزيتم، كما يُجازى غيركم من الناس {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} من العاصين {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} منهم؛ لأنه لا بنوّة ولاعواطف خاصة بين اللّه وبينكم {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} فليس شيء من نفس اللّه حتى لا يملكه سبحانه - كما تدعون أنتم من كونكم أبناءه - {وَمَا بَيْنَهُمَا} من سائر المخلوقات، والمراد بالسماء هنا: الكواكب وما يُرى في ناحيتها - كما هو المنصرف - حتى يتصور ما بينهما، لا جهة العلو {وَإِلَيْهِ} سبحانه {الْمَصِيرُ} المرجع والمآل، فليس هناك غيره يملك شيء أو يرجع إليه في أمر(1).

إن الدولة التي أقامها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد تشيّدت في وسط مجتمع كان غارقاً في عبادة الأصنام والأوثان، والظلم والاستبداد، وبين دولتين عظيمتين هما الامبراطورية الساسانية والامبراطورية الرومانية، بحيث حوّل ذلك المجتمع الغارق في وحل الجهل والتخلف واللاقانون، إلى مجتمع نموذجي في العلم والرشد والانضباط، فتبوء المركز الأول في قيادة العالم، دون أن يعوقه اختلاف الناس وتباعدهم في القومية والعادات والثقافات، أو أن يفل من عزمه الامكانيات المتواضعة التي كانت متوفرة بين يديه.

أو ليس من يجمع الناس المتفرقين، المحاطين بالأعداء من كل جانب تحت راية واحدة، ويكوّن منهم دولة قوية تتغلب على أعدائها يستحق التعظيم والإجلال؟!

ص: 221


1- راجع تفسير تقريب القرآن 1: 623.
مفتاح القوة والضعف

وهنا ربما يخطر هذا السؤال في الأذهان: لماذا آل وضع المسلمين إلى ما هم عليه الآن، من التأخر والتباعد والفرقة والبغضاء فيما بينهم؟!

الجواب: إن السبب يكمن في ضعف المسلمين وابتعادهم عن تعاليمالإسلام ودين النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ وإننا نستطيع بواسطة أفعالنا وأساليبنا ورجوعنا إلى الكتاب والعترة أن نبدّل ضعفنا إلى قوة تمكننا من النهوض في هذا العصر، لأن مفتاح القوة والضعف بأيدينا.

يقول أحد المسيحيين: لقد أصبحت المسيحية كالفاكهة البائرة في محلات البيع، ولكي يروجها البائع فقد وضعها في مكان بارز، وسلّط عليها الكثير من الأنوار، حتى صارت براقة تجذب نظر المشتري، بعكس الإسلام الذي هو أشبه بالفاكهة الطازجة الطرية إلّا أن صاحبه وضعه في محل مظلم، والناس لا يجتمعون دائماً إلّا حول الفاكهة البراقة المغرية، حتى وإن كان داخلها هو خلاف ظاهرها.

وهذا ما أكدته إحدى الصحف العربية حيث ذكر فيها ووفق بعض الإحصائيات أن عدد الذين يعتنقون المسيحية ستون ألف شخص يومياً في كل أنحاء العالم(1).

ص: 222


1- بمراجعة سريعة لبعض مواقع الإنترنت المهتمة بنشاط التنصير نجد نشاطات كبيرة جداً وأرقام مهولة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: تحت ستار تقديم العون الغذائي والدوائي، يتم العمل الدؤوب لتنصير المسلمين في مناطق عدة من العالم، تطبيقاً لمخططات تم وضعها بعناية عبر توفير الامكانيات البشرية والمالية اللازمة، ومن خلال مؤتمرات عقدت لهذا الغرض، ويأتي في مقدمتها المؤتمر الذي عقد فى ولاية كلورادو الامريكية عام (1978م) والذي وضع خطة شاملة لتنصير المسلمين خلال خمسين عاماً، نظمته لجنة (تنصير لوزان) وكان نقطة الانطلاق المحورية والتاريخية قي العصر الحديث في ميدان التنصير، اجتمع هذا المؤتمر للمرة الأولى مائة وخمسون متخصصاً وفدوا من شتى أرجاء العالم، يمثلون مختلف الكنائس والهيئات والدوائر التنصيرية، ألقوا بتجاربهم وخبراتهم في مجال تنصير المسلمين على طاولات النقاش، وخرجوا بخطط هجومية لمحاولة هدم عقيدة ملايين المسلمين، وقرروا إنشاء معهد أبحاث ينسق الجهود نحو الخطط المرسومة، وحمل هذا المعهد اسم (صمويل زويمر) أشهر العاملين في مجال التنصير. وعقد مؤتمر آخر في مدينة امستردام الهولندية نظمته الطائفة البروتستانتية في شهر آب عام (2000م) واستمر تسعة أيام، حضره عشرة آلاف مندوب من أنحاء العالم، وتكلف المؤتمر (45 مليون دولار) تبرع بها المنصر الشهير بيلي جراهام، كما شهدت مدينة (انديانا بولس) الأمريكية مؤتمراً آخر شارك فيه (35 ألف) مندوب من أنحاء العالم، وأعلن فى هذا المؤتمر أن متوسط دخول الناس فى النصرانية من خلال الطائفة المنظمة للمؤتمر هو عشرة آلاف شخص يومياً. ورصد مؤتمر (يونايتد ميثوديستس) الذي عقد فى مدينة كليفلاند الأمريكية (545 مليون دولار) لأنشطة طائفتهم فى السنوات الأربع القادمة، وقد أسفرت تلك الجهود عن نتائج مؤسفة، ففي دولة إندونيسيا المسلمة، تم تنصير البعض، فحتى عام (1989م) تم تنصير ثلاثة ملايين، ولم يكتف الغرب بذلك بل نجح فى فصل (تيمور الشرقية) عن إندونيسيا بعد سنوات من الجهود المنظمة من جانب المنظمات التبشيرية بالتعاون مع أعوانهم فى البلدان الغربية. وفي اكتوبرعام (2000م) نقلت وسائل الإعلام نبأ إقامة الكنيسة الباكستانية حفلاً تنصيرياً كبيراً فى مدينة (لاهور) عاصمة اقليم بنجاب شارك فيه أكثر من عشرة آلاف نسمة (60%) منهم كانوا فى الأصل مسلمين وتحولوا عن دينهم! وهناك مشروع يطلق عليه اسم (اليسوع) تقوم بتمويله (71 منظمة) تنصيرية غربية تتولى جمع الأموال لدعم مشاريع التنصير وبناء الكنائس، التي بلغ عددها في دولة مثل بنجلاديش (170 كنيسة) خلال ثلاث سنوات، وقامت بالتعاون مع المنظمات الأخرى بمضاعفة عدد الكنائس في افريقيا خلال العقد الأخير لتصل إلى أكثر من (24 ألف) كنيسة. وكشفت التقارير التى تصدرها المنظمات التنصيرية أن حوالى (150 ألف) مغربي يتلقون عبر البريد من مركز التنصير الخاص بالعالم العربي دروساً في المسيحية، ولدى هذا المركز منصرين يعملون وسط المليوني مسلم القادمين من دول المغرب العربي والمقيمين في فرنسا، وتملك هذه المنظمات إلى جانب ذلك برامج إذاعية وتليفزيونية دولية لنشر الإنجيل، إضافة إلى (635 موقع) تنصيري على الإنترنت. وذكر في تقرير إحصائي لعمليات التنصير العالمية يعرض مخطط التنصير حتى عام (2025م) تم رصد (87 مليار) دولار، و(10 آلاف) محطة إذاعة وتلفزيون، و(7 ملايين) منصراً، و(250 دورية وكتاباً)، وتجاوز مجموع نسخ الإنجيل التي وزعت في أنحاء العالم (مليار) نسخة، وبلغ عدد الكتب التي تتحدث عن المسيح(عليه السلام) كمحور رئيسي في مكتبات العالم عشرات الآلاف. وذكر أنه في عام (1989م) بلغ مجموع التبرعات للأغراض الكنسية (151) مليار دولار، أي: ما يعادل ميزانية خمس عشرة دولة نامية، أما المجلات والنشرات الدورية الكنيسة التي توزع في كل أنحاء العالم فيبلغ عددها (22.700) مجلة ونشرة. وتستخدم المنظمات المسيحية حالياً في تخطيط برامجها أحدث التقنيات ابتداءً من الحاسوب وانتهاء بمحطات الإرسال الحديثة والأقمار الصناعية، حيث إنها تستغل حوالي (45 مليون) جهاز حاسوب في تخطيط برامجها. ودخل أفريقيا وحدها (112 ألف) منصّر حتى عام (1990م) ويشرف هؤلاء المنصّرون على (5 ملايين) طالب وطالبة، بالاضافة إلى إشرافهم على (500) مدرسة لاهوتية. كما أن في أفريقيا ما يزيد على (20) ألف معهد كنيسي. وفيها أيضاً (50) إذاعة تنصيرية تبث برامجها بمختلف اللغات واللّهجات. كما أن هناك (8 آلاف) نسمة في إقليم السند بالهند تنصّروا في يوم واحد. وفي بنغلادش توجد (1500) منظمة تنصيرية، أما في ليبيريا فهناك (500) منظمة تنصيرية. وهناك (30) جمعية صليبية تتظاهر بمساعدة الأفغان!! أما الشرق الأوسط، فيوجد (1300) منصّر متفرغ بالشرق الأوسط يديرون مراكز طبية وثقافية وخدمية وما أشبه. وذكر أنه يبلغ مجموع المنصّرين العاملين في أنحاء العالم حوالي (17) مليون منصّر.

ص: 223

وهذا يعكس لنا حجم التحرك المسيحي...

وقد شاهدت بعض نشاطاتهم في بلادنا الإسلامية، فعندما كنا في الكويت كان عدد المسيحيين فيها مائة نسمة فقط، إلّا أنهم كانوا يملكون (26) كنيسة، في حين أن الشيعة الذين كانوا يشكلون ثلث نفوس الكويت لم يكونوا يمتلكون أكثر من (15) مسجداً!، ومن الواضح أن أولئك النفر القلائل كانوا يستخدمون

ص: 224

هذا العدد الضخم من الكنائس قياساً إلى عددهم لأغراض التبشير والدعوة إلى المسيحية، أما مساجد المسلمين فكان بعضها مهجوراً، لا يقام فيها أي نشاط.

فالحقيقة أن نور الإسلام لم يضعف إلّا أن الذين يوصلون هذا النور هم الذين ضعفوا.

سبب رقي الإسلام أيام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

بعد فتح مكة، وخضوع أبي سفيان للأمر الواقع، وحصوله على الأمان وإعلان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه من دخل بيت اللّه فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، فإن أبا سفيان والذي كان في حرب طويلة الأمد مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دامت حوالي عشرين عاماً، جاء وأعلن إسلامه في الظاهر وأدى الشهادتين.

يقول الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «قال علي بن الحسين(عليهما السلام): لما بعث اللّه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة وأظهر بها دعوته، ونشر بها كلمته، وعاب أديانهم في عبادتهم الأصنام، وأخذوه وأساءوا معاشرته، وسعوا في خراب المساجد المبنية، كانت لقوم من خيار أصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشيعته وشيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام)، كان بفناء الكعبة مساجد يحيون فيها ما أماته المبطلون، فسعى هؤلاء المشركون في خرابها، وأذى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسائر أصحابه، وألجئوه إلى الخروج من مكة إلى المدينة، التفت(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خلفه إليها فقال: اللّه يعلم أني أحبك، ولولا أن أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً، ولا ابتغيت عنك بدلاً، وإني لمغتم على مفارقتك. فأوحى اللّه تعالى إليه: يا محمد، إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، ويقول: سأردك إلى هذا البلد ظافراً غانماً سالماً، قادراً قاهراً، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖ}(1) يعني إلى مكة ظافراً غانماً.

ص: 225


1- سورة القصص، الآية: 85.

وأخبر بذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه، فاتصل بأهل مكة فسخروا منه. فقال اللّه تعالى لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): سوف أظهرك بمكة، وأجري عليهم حكمي، وسوف أمنع عن دخولها المشركين حتى لا يدخلها منهم أحد إلّا خائفاً، أو دخلها مستخفياً من أنهإن عثر عليه قتل. فلما حتم قضاء اللّه بفتح مكة استوسقت(1) له أمَّر عليهم عتاب بن أسيد..»(2).

فهؤلاء جاءهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاتحاً منتصراً عليهم، تُرى ما الذي كان سيفعله إنسان آخر غير النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في موقف كهذا؟ إنه بلا شك سينتقم منهم لما ارتكبوه في حقه وحق أصحابه من جرائم وانتهاكات، فالكفار الذين أصبحوا في قبضته الشريفة كانوا هم الظالمين الذين حاربوا المسلمين، وعلى رأسهم أبو سفيان وهند، وأضرابهما من الرجال والنساء القتلة.

ولكن عندما حمل الراية سعد بن عبادة زعيم الأنصار، وجعل يسير في طرقات مكة ويهزها منادياً: اليوم يوم الملحمة،اليوم تسبى الحرمة. أرجعه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صاحب الأخلاق الرحمانية، وسجل نقطة مشرفة في تاريخ الإسلام والإنسانية، فأمر علياً(عليه السلام) أن يحمل الراية بدلاً عن سعد بن عبادة، وأن يغير نداء الوعيد والتهديد والتشديد إلى نداء العفو والوعد بالرحمة والأمن والسلام، حيث أمره أن ينادي في أهل مكة بلين بعكس ذلك النداء، فنادى علي(عليه السلام) في طرقات مكة: «اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة»، وفي نص آخر «اليوم تصان الحرمة».

ثم جمع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أهل مكة فنادى فيهم: «ما تقولون إني فاعل بكم؟».

قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.

ص: 226


1- استوسق: أي اجتمع وانقاد.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 554.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أقول لكم كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}»(1).

ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(2).ثم قال: «من قال: لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وشهد أن محمداً رسول اللّه، وكف يده، فهو آمن، ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن،... من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..»(3).

وبعد ذلك حدثت واقعة حنين(4)، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي سفيان: إنك كنت

ص: 227


1- سورة يوسف، الآية: 92.
2- انظر: الكافي 3: 513، 4: 225؛ والإرشاد 1: 60.
3- انظر: إعلام الورى 1: 221؛ بحار الأنوار 21: 129.
4- حُنين اسم موضع في طريق الطائف، وقيل: حنين اسم ماء بين مكة والطائف، حصلت فيه واقعة بين جيش رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبني هوازن وهي قبيلة كبيرة من قبائل العرب، وذلك بعد فتح مكة سنة ثمان للهجرة. وكان سببها أن هوازن لما رأت فتح مكة، قالت:قد فرغ لنا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه، فلنقاتله قبل أن يقاتلنا، وظلوا يحشدون الجموع له من جهات عديدة، وجعلوا قائدهم مالك بن عوف النضري، وكان عدد جيشه ثلاثين ألفاً، وساقوا معهم أموالهم ونساءهم كي يثبتوا على القتال، فأمر مالك بالخيل فجعلت صفوفاً، ثم جعل الأبل والبقر والغنم وراء ذلك، فلما بلغ ذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلم اجتماعهم اجمع على الخروج إليهم، فخرج بمن كان معه في فتح مكة وعددهم اثني عشر ألف مقاتل. قال علي بن إبراهيم القمي: فمضوا حتى كان من القوم على مسيرة بعض ليلة قال: وقال مالك بن عوف لقومه: ليصير كل رجل منكم أهله وماله خلف ظهره، واكسروا جفون سيوفكم، وأكمنوا في شعاب هذا الوادي، وفي الشجر، فإذا كان في غلس الصبح فاحملوا حملة رجل واحد، وهدوا القوم، فإن محمداً لم يلق أحداً يحسن الحرب. قال: فلما صلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الغداة انحدر في وادي حنين، وهو واد له انحدار بعيد، وكانت بنو سليم على مقدمه، فخرجت عليها كتائب هوازن من كل ناحية، فانهزمت بنو سليم، وانهزم القوم من ورائهم، ولم يبق أحد إلا انهزم، وبقي أمير المؤمنين(عليه السلام) يقاتلهم في نفر قليل، ومر المنهزمون برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لايلوون على شي ء، وكان العباس أخذ بلجام بغلة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن يمينه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب عن يساره، فأقبل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينادي: «يا معشر الأنصار، إلى أين المفر، ألا أنا رسول اللّه» فلم يلو أحد عليه، وكانت نسيبة بنت كعب المازنية تحثو التراب في وجوه المنهزمين وتقول: أين تفرون عن اللّه وعن رسوله. ومر بها عمر فقالت له: ويلك ما هذا الذي صنعت؟ فقال لها: هذا أمر اللّه. فلما رأى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد شهر سيفه، فقال: «يا عباس، اصعد هذا الطرب وناد: يا أصحاب البقرة، ويا أصحاب الشجرة، إلى أين تفرون هذا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)». ثم رفع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يده فقال: «اللّهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان». فنزل جبرئيل(عليه السلام) عليه فقال له: «يا رسول اللّه، دعوت بما دعا به موسى حين فلق اللّه له البحر ونجاه من فرعون» ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي سفيان بن الحارث: «ناولني كفا من حصى» فناوله فرماه في وجوه المشركين ثم قال: «شاهت الوجوه» ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللّهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد» فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون: لبيك، ومروا برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واستحيوا أن يرجعوا إليه ولحقوا بالراية. فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للعباس «من هؤلاء يا أبا الفضل؟» فقال: يا رسول اللّه، هؤلاء الأنصار، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الآن حمي الوطيس، ونزل النصر من السماء، وانهزمت هوازن» فكانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجو، وانهزموا في كل وجه، وغنم اللّه رسوله أموالهم ونساءهم وذراريهم، وهو قول اللّه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}. سورة التوبة، الآية: 25. تفسير القمي 1: 286.

قبل هذا قائداً لجيش الكفر، فهل أنت على استعداد لأن أعطيك منصب القيادة لبعض كتائب جيش المسلمين؟ فقبل أبو سفيان ذلك، وسار فعلاً، بكتيبة تعدادها ألف مقاتل من أهل مكة، ضمن جيش الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى حنين(1).

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أراد أن يبين هذه الحقيقة، وهي أن الهدف حين ما يكون

ص: 228


1- ورد عن زرارة قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) في قوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}؟ سورة التوبة، الآية: 60. قال: «هم قوم وحدوا اللّه وخلعوا عبادة من يعبد من دون اللّه تبارك وتعالى، وشهدوا أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، وهم في ذلك شكاك من بعد ما جاء به محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأمر اللّه نبيهم أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم، ويثبتوا على دينهم الذين قد دخلوا فيه، وأقروا به، وإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم حنين تألف رءوسهم من رءوس العرب من قريش وسائر مضر، منهم: أبو سفيان بن حرب وعيينة بن حصين الفزاري وأشباههم من الناس... تفسير العياشي 2: 91.

هو إعلاء كلمة لا إله إلّا اللّه، فهو بحاجة إلى جمع الطاقات، وتوحيد الكلمة، وتوظيف قدرات كل الأفراد، على اختلاف خصوصياتهم، في سبيل ذلك الهدف،حتى ولو كان كأبي سفيان الذي حارب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشرين عاماً. وإن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما يفعل ذلك فإنه يؤدي وظيفة إلهية، بغض النظر عن الجوانب الأخرى، من العقل والحكمة وحسن التدبير في إدارة البلاد والعباد ومعاملة الناس وحسن الأخلاق.

أما مصائر الناس، وعواقب أمورهم، ورشدهم وغيّهم، وحسابهم وكتابهم فهو على اللّه، وكل سيحاسب على نيته ودرجة إيمانه، ولم يكن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مسؤولاً عن محاسبته في الدنيا، فإنما هو مذكر، وليس عليهم بمصيطر، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(1).

التعامل بحسب الظاهر

إن مما يلزم على الحاكم أن لا يحاسب على النوايا والخفايا، فلا يصح للقائد أن يتهم القائد شعبه وأصحابه بسوء النوايا والقصد، فإنه لا يمكنه أن يدخل إلى قلوب الناس.

القائد الناجح هو الذي يوحّد شعبه، ويدفع جميع أبنائه لنصرة الحق، أما حقيقة أعمالهم ونواياهم فهي عند اللّه سبحانه وتعالى؟

فإن السرائر لا يعرفها سوى اللّه سبحانه، أو من يخبره اللّه بذلك.

قال تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٖ}(2).

وعلى الرغم من أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعلم حقيقة أبي سفيان ونواياه وحقيقة

ص: 229


1- سورة الغاشية، الآية: 21-22.
2- سورة ق، الآية: 45.

غيره من المنافقين، إلّا أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يتعامل مع الناس بحسب ظواهرهم لا بواطنهم، وذلك لمقتضى الحكمة الربانية، وأنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يؤمر بمحاسبة بواطنهم.لذا فإن المسلمين لو استطاعوا أن ينشروا أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأقبل الناس إلى دين اللّه أفواجاً، ولهرعوا إلى اعتناق الإسلام في مختلف بقاع الأرض ومن شتى المذاهب الأخرى.

وقد جاء في بعض الروايات: إن كثيراً من اليهود الذين كانوا في أطراف المدينة دخلوا الإسلام، بسبب ما شاهدوه من علو أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعظيم تعاليمه.

وإن الحقيقة التي لا ريب فيها، هي أن الإسلام سوف يأخذ طريقه ليستقر في قلوب الناس وليشمل أكبر بقعة من العالم، إذا سار المسلمون على خط رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة(عليهم السلام)، وما ذلك على اللّه بعزيز.

أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

لقد جاءت روايات عديدة تصف أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأسلوبه في التعامل مع الناس، منها: ما ورد عن ربيب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن فتح عينيه عند الولادة في وجهه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يفتحها في وجه أحد قبله، وهو الذي غمض النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عينيه في آخر لحظات حياته الكريمة في حجره، ولم يغمضها في حجر أحد غيره، ألا وهو أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) فهو الأعرف برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو أخوه وربيبه ووصيه، فقد روي عنه(عليه السلام) أنه قال: «ما صافح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أحداً قط فنزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده. وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف. وما نازعه الحديث فيسكت حتى يكون هو الذي يسكت، وما رُئي مقدماً رجله بين يدي جليس له قط»(1).

ص: 230


1- مكارم الأخلاق: 23.

وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه كان إذا وصف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً،وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهمعريكة، وأكرمهم عشرة، ومن رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، لم أر قبله ولا بعده مثله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1).

وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين. فعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «سمعت أبي يحدث عن أبيه عن جده(عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض(2) مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً(3)، وحلب العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان؛ لتكون سنة من بعدي»(4).

فمن الضروري لأي داعية ومبلغ إلى الإسلام أن يتحلى بأقصى ما يمكن من مكارم الأخلاق، وسعة الصدر، والمعاملة العطوفة مع الناس، لكي يجلبهم إلى الإسلام، ويثبتهم على الإسلام راسخي القدم والعقيدة، فإن أفضل العوامل وأعمقها لزرع المحبة في القلوب، هي الأخلاق الفاضلة، والمعاملة الإنسانية العطوفة، فإن ذلك من أعظم مقومات مداراة الناس.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «جاء جبرئيل(عليه السلام) إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، ربك يقرئك السلام، ويقول لك: دارِ خلقي»(5).

ص: 231


1- مكارم الأخلاق: 18.
2- الحضيض: الأرض.
3- الأكاف: برذعة الحمار، والبرذعة: كساء يلقى على ظهر الدابة.
4- الخصال 1: 271.
5- الكافي 2: 116.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أمرني ربي بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ألا أخبركم بأشبهكم بي؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه.

قال: أحسنكم خلقاً، وألينكم كنفاً، وأبركم بقرابته، وأشدكم حباً لإخوانه في دينه، وأصبركم على الحق، وأكظمكم للغيظ، وأحسنكم عفواً، وأشدكم من نفسه إنصافاً في الرضا والغضب»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، واستشعروا الحمد يؤنس بكم العقلاء، ودعوا الفضول يجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس تعمر ناديكم، وحاموا عن الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا الناس من أنفسكم يوثق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنية فإنها تضع الشريف وتهدم المجد»(3).

اللّهم إنّا نسألك المزيد من صلواتك وسلامك على مصدر الفضائل وينبوع الأخلاق، الذي ظل ماضياً على إنفاذ أمرك حتى أضاء الطريق للعالمين وهدى اللّه به القلوب، محمد وآله الطاهرين. اللّهم اجعلنا ممن يتخلق بأخلاقه في الدنيا، واجعله اللّهم شفيع ذنوبنا في الآخرة.

«اللّهم صل على محمد وآله، واجعل صلواتك وصلوات ملائكتك وأنبيائك والمرسلين وعبادك الصالحين، وأهل السماوات والأرضين، ومن سبح لك يا رب العالمين من الأولين والآخرين، على محمد عبدك ورسولك ونبيك وأمينك ونجيبك وحبيبك وصفيك وصفوتك وخاصتك وخالصتك وخيرتك من خلقك،

ص: 232


1- الكافي 2: 117.
2- الكافي 2: 240.
3- تحف العقول: 215.

وأعطه الفضل والفضيلة والوسيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً يغبطه بهالأولون والآخرون»(1).

من هدي القرآن الحكيم

بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

وقال سبحانه: {قُلْ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * قُلْ مَا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا}(3).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}(4).

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(5).

البعثة النبوية ومكارم الأخلاق

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(6).

ص: 233


1- جمال الأسبوع: 29.
2- سورة الأعراف، الآية: 158.
3- سورة الفرقان، الآية: 56-57.
4- سورة المدثر، الآية: 1-3.
5- سورة الأنبياء، الآية: 107.
6- سورة آل عمران، الآية: 159.

وقال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(3).

البعثة النبوية والمسؤولية

قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(4).

وقال سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(5).

وقال عزّ وجلّ: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ}(6).

بعثة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأمة الواحدة

قال جلّ وعلا: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(7).

وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ

ص: 234


1- سورة الأعراف، الآية: 199.
2- سورة التوبة، الآية: 61.
3- سورة الشعراء، الآية: 214- 215.
4- سورة التوبة، الآية: 128.
5- سورة الكهف، الآية: 6-7.
6- سورة طه، الآية: 1-2.
7- سورة الأنبياء، الآية: 92.

كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اكتتم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة مستخفياً خائفاً خمس سنين ليس يظهر، وعلي(عليه السلام) معه وخديجة(عليها السلام)، ثم أمره اللّه تعالى أن يصدع بما يؤمر فظهر وأظهر أمره»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «رنَّ(3) إبليس أربع رنات: أولهن يوم لعن، وحين أهبط إلى الأرض، وحين بُعث محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على حين فترة من الرسل، وحين أنزلت أم الكتاب، ونخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، وحين أهبط من الجنة»(4).

وقال أبو الحسن الأول(عليه السلام): «بعث اللّه عزّ وجلّ محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين في سبع وعشرين من رجب، فمن صام ذلك اليوم كتب اللّه له صبام ستين شهراً...»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدّعي نبوة، فساق الناس حتى بوأهم مَحَلّتَهم(6)، وبلغهم

ص: 235


1- سورة آل عمران، الآية: 103-104.
2- الغيبة للشيخ الطوسي: 332.
3- رن رنيناً: رفع صوته بالبكاء.
4- الخصال 1: 263.
5- الكافي 4: 149.
6- بوأهم مَحَلّتهم: أنزلهم منزلتهم.

منجاتهم، فاستقامت قناتهم(1)، واطمأنت صفاتهم»(2).

بعثة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومكارم الأخلاق

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعد رجلاً إلى صخرة فقال: أني لك هاهنا حتى تأتي، قال: فاشتدت الشمس عليه، فقال له أصحابه: يا رسول اللّه، لو أنك تحولت إلى الظل، قال: قد وعدته إلى ها هنا، وإن لم يجئ كان منه المحشر»(3).

وقال(عليه السلام): «كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل»(4).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «أتاني جاء إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ملك فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول: إن شئت جعلت لك بطحاء مكة ذهباً، قال: فرفعت رأسي إلى السماء وقلت: يا رب أشبع يوماً فأحمدك، وأجوع يوماً فأسألك»(5).

المسؤولية وإقامة الدين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لو وضعت الشمس في يميني، والقمر في شمالي، ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أقتل دونه...»(6).

ص: 236


1- القناة: العود والرمح، والمراد به القوة والغلبة والدولة، وفي قوله «استقامت قناتهم» تمثيل لاستقامة أحوالهم.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 33 من خطبة له(عليه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة.
3- علل الشرائع 1: 78.
4- الكافي 2: 662.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 124.
6- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 58.

وعن عبد اللّه بن عباس قال: دخلت على أمير المؤمنين(عليه السلام) بذي قار - وهو يخصف نعله(1) - فقال لي: «ما قيمة هذا النعل؟» فقلت: لا قيمة لها. فقال(عليه السلام): «واللّه، لهي أحب إلي من إمرتكم، إلّا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه، لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها،على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة(3) ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها(4)، ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى...»(5).

حقيقة الإسلام

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإسلام عريان، فلباسه الحياء وزينته الوقار، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، ولا ينسبه أحد بعدي إلّا بمثل ذلك، إن الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل، والعمل هو الأداء...»(7).

ص: 237


1- يخصف نعله: يخرزها.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 33 من خطبة له(عليه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة.
3- جُلب الشعيرة، بضم الجيم: قشرتها.
4- قَضِمَت الدابة الشعير: كسرته بأطراف أسنانها.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 224 من كلام له(عليه السلام) يتبرأ من الظلم.
6- الكافي 2: 46.
7- الكافي 2: 45.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الإسلام يحقن به الدم، وتؤدى به الأمانة، وتستحل به الفروج، والثواب على الإيمان»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين، إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي...»(2).

التأسي بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أحب العباد إلى اللّه تعالى المتأسي بنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمقتص لأثره»(3).

وقال(عليه السلام): «ارض بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رائداً وإلى النجاة قائداً»(4).

وقال(عليه السلام): «اقتدوا بهدي نبيكم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنه أفضل الهدى، واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن»(5).

وقال(عليه السلام): «إن ولي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أطاع اللّه وأن بعدت لُحْمته(6)، وإن عدو محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من عصى اللّه وإن قربت قرابته»(7).

ص: 238


1- الكافي 2: 24.
2- الكافي 1: 200.
3- بحار الأنوار 16: 285.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 144.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 110، ومن خطبة له(عليه السلام) في أركان الدين.
6- لُحْمته: أي نسبه.
7- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 96.

البلاد الإسلامية بين الحاجة والاستعمار

الحاجة أساس الفقر

اشارة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره»(1).

إن مفهوم الحاجة إذا سيطر على اللاشعور عند الإنسان فإنه يفقد صاحبه إرادته؛ حيث يصبح السؤال والطلب من الآخرين سجية في الإنسان وعادة، وهذه الصفة تحجم وتضعف الإرادة الإنسانية. وأحياناً الحاجة تذل الإنسان وترهقه، وتفقده كرامته وموقعه، وبالتالي سوف يفقد الإنسان نفسه، ويضيع عليه كثير من الفرص، إما بسبب عدم قدرته على اتخاذ الموقف المطلوب في الوقت المناسب، أو بسبب سوء اختياره.

ولو أردنا أن نوسع دائرة الكلام لقلنا: إن فقدان الإنسان لإرادته سوف يزرع في داخله الخضوع والذل؛ فإنه دائماً ينتظر ماذا يحدّد له الآخرون، وماذا يقدمون له، وهكذا إلى أن يصبح شبيهاً ب(الإنسان الآلي) أو (الإنسان المسيّر).

وهذه القابلية المذمومة، هي قابلية إتباع الغير إتباعاً أعمى، ونستطيع أن نسميها: قابلية إخضاع الإنسان واستسلامه، أو قابلية العبودية للآخرين، قد ورد في ذمها العديد من الآيات القرآنية والروايات الشريفة. وكم هو رائع تعبير الإمام

ص: 239


1- الإرشاد 1: 303.

أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث قال: «احتج إلى من شئت تكن أسيره» وعادة يكون الأسير فاقداً لإرادته واختياره، بل يتصرف حسب ما يملون عليه من الأوامر.

والأمة عندما تصبح بهذه الصورة سوف تكون جسراً لمرور الاستعمار.

عليك بالسوق

في الرواية: إن رجلاً جاء إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: ما طعمت طعاماً منذ يومين؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليك بالسوق».

فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول اللّه، أتيت السوق أمس فلم أصب شيئاً فبت بغير عشاء؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فعليك بالسوق».

فأتى بعد ذلك أيضاً فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليك بالسوق».

فانطلق إليها، فإذا عير قد جاءت وعليها متاع فباعوه بفضل دينار، فأخذه الرجل وجاء إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: ما أصبت شيئاً؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هل أصبت من عير آل فلان شيئاً؟».

قال: لا.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بلى ضرب لك فيها بسهم وخرجت منها بدينار».

قال: نعم.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فما حملك على أن تكذب؟».

قال: أشهد أنك صادق، ودعاني إلى ذلك إرادة أن أعلم أتعلم ما يعمل الناس، وأن أزداد خيراً إلى خير.

فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «صدقت، من استغنى أغناه اللّه، ومن فتح على نفسه باب مسألة فتح اللّه عليه سبعين باباً من الفقر، لا يسد أدناها شي ء».

ص: 240

فما رئي سائل بعد ذلك اليوم.

ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الصدقة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي»(1)(2).

من استغنى أغناه اللّه

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «اشتدت حال رجل من أصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالت له امرأته: لو أتيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسألته، فجاء إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما رآه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه.

فقال الرجل: ما يعني غيري.

فرجع إلى امرأته فأعلمها.

فقالت: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشر فأعلمه.

فأتاه، فلما رآه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه.

حتى فعل الرجل ذلك ثلاثاً.

ثم ذهب الرجل فاستعار مِعْولاً ثم أتى الجبل فصعده فقطع حطباً، ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق، فرجع به فأكله، ثم ذهب من الغد فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى معولاً، ثم جمع حتى اشترى بكرين وغلاماً، ثم أثرى حتى أيسر، فجاء إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): قلت لك: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه»(3).

كيف تغلغل الاستعمار في بلادنا؟

إن أكثر الشعوب الإسلامية كانت قد فقدت إرادتها تحت ظلم حكامها ووطأة

ص: 241


1- المرة: القوة والشدة، والسوي: الصحيح الأعضاء.
2- الخرائج والجرائح 1: 89.
3- الكافي 2: 139.

الحروب وقمع الطواغيت لها، وهذا ما حصل بالفعل في مختلف البلادالإسلامية، ونتيجة للحالة الاقتصادية الرديئة، والحالة الاجتماعية المتخلفة، ناهيك عن الجانب الثقافي والسياسي وغيرها، تعرضت الأمة الإسلامية لأبشع صور الظلم والاستعمار، وبالتالي تكوّن في داخلها بعض الأفراد الذين لديهم قابلية لأن يُستعمَروا، فوجد الاستعمار ضالته فيهم، واستطاع الدخول إلى البلاد الاسلامية عبرهم.

وهؤلاء الأفراد على اختلاف مستوياتهم، تارة يكونون أفراداً مثقفين - نسبياً - إلّا أن تقبّل فكرة الاستعمار تعيش في اللاشعور عندهم ولا يملكون أدنى مقدار من إرادتهم.

وتارة يكونون من الأفراد العاديين المضطهدين الذين أرهقتهم الأحداث والسلطات والفقر والحاجة والأجواء الاجتماعية المريضة.

وتارة ثالثة يكونون من الأشخاص الذين يعبدون الجاه والسلطة والجلوس على الكرسي، فيضحون بكل شيء من أجل الحصول على منصب، فيتعاونون مع الظالمين والطغاة والمستعمرين من أجل الوصول إلى مآربهم.

روي عن علي بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي: استأذن لي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) فاستأذنت له عليه، فأذن له، فلما أن دخل سلم وجلس ثم قال: جعلت فداك، إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم».

قال: فقال الفتى: جعلت فداك، فهل لي مخرج منه؟

ص: 242

قال: «إن قلت لك تفعل؟».

قال: أفعل.

قال له: «فاخرج من جميع ما اكتسبت في ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدقت به، وأنا أضمن لك على اللّه عزّ وجلّ الجنة».

قال: فأطرق الفتى رأسه طويلاً ثم قال: قد فعلت جعلت فداك.

قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة، فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلّا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه، قال: فقسمت(1) له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا إليه بنفقة.

قال: فما أتى عليه إلّا أشهر قلائل حتى مرض، فكنا نعوده، قال: فدخلت عليه يوماً وهو في السَّوق(2)

قال: ففتح عينيه، ثم قال لي: يا علي، وفى لي واللّه صاحبك.

قال: ثم مات فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فلما نظر إليَّ قال: «يا علي، وفينا واللّه لصاحبك».

قال: فقلت: صدقت جعلت فداك، هكذا واللّه قال لي عند موته(3).

أعوان الظلمة

ثم إن بعض هؤلاء وأولئك من أعوان الظلمة يكونون وليدي الأجواء العامة الرهيبة التي أفرزت لنا أمثالهم.

ومما ساعد على إفراز هذه الحالة أيضاً:

1- التخلف الثقافي.

ص: 243


1- فقسمت: أي أخذت من كل رجل من أصدقائي له شيئاً.
2- السَّوق: النزع، وساق بنفسه سياقاً: نزع بها عند الموت.
3- الكافي 5: 106.

2- غياب الوعي السياسي.

3- الابتعاد عن الدين الإسلامي.

4- التنازل عن الأخلاق الإسلامية العظيمة، التي كان الاسلام دائماً يدعو إلى التحلي بها، والتخلي عن كل مظاهر الانحلال التي تذل الإنسان وتجعله أسير غيره. حيث قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(1).

وسُئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقيل: يا رسول اللّه، ما أفضل ما أعطي المرء المسلم؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الخلق الحسن».(2)

وبدخول الاستعمار تراكمت حالات التخلف وإبتعاد الدين عن الحياة، وساءت الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأمة الإسلامية.

ثم أصبح شيئاً فشيئاً همُّ الشعوب الأول هو التخلص من الاستعمار، واتخذت عملية التخلّص منه عدة أشكال:

تارة: بالمواجهة الدامية.

وأخرى: بإنشاء أحزاب، أو تأسيس حركات ثقافية تدعو إلى توعية الناس وتنمية إحساسهم بالمسؤولية، وإعادة الثقة إليهم.

وثالثة: بإنشاء حركات مسلحة سرية، إلى أن تم إخراجه بصورة ظاهرة.

وما تزال الكثير الشعوب تعاني من ارتباط حكوماتها بالاستعمار، أو ما يعرف بالاحتلال من الباطن، علماً أن الطريقة الصحيحة لمواجهة الاستعمار هي طريقة توعية الأمة واتخاذ سياسة السلم واللاعنف بعيداً عن كل مظاهر الخشونة واللاعنف.

ص: 244


1- بحار الأنوار 16: 210.
2- الخصال 1: 30.
مخلفات الاستعمار

كثير من الأمور السلبية تسربت إلى بلادنا الإسلامية عبر الحاجة والاستعمار، فمثلاً الروح القومية التي شتت الأمة الإسلامية، وإن قيل بأنها لعبت دوراً نسبيا في أوروبا في القرن التاسع عشر - بناء على صحة ذلك - ، فقد سرَّبها الاستعمار إلى بلادنا.

ففي قبال جمعية الاتحاد والترقي(1)

التي أرادت تتريك العناصر العربية، نهض البعض من العرب وشكلوا الجمعيات، مثل جمعية الإخاء العربي العثماني(2)، والمنتدى العربي(3) وغيرها، وساعد الاستعمار على إنشاء القومية وترسيخها في بعض بلاد المسلمين. ثم لم يكتف بذلك، بل حاول الاستعمار تحت ذريعة الثقافة والعلم تأسيس الإرساليات الدينية الأجنبية وبعث المؤسسات التبشيرية، من أمريكية وإنجليزية وفرنسية وإيطالية(4) ... فإن المبعوثين كانوا يمتزجون بأهل البلاد، ويتخلقون بأخلاقهم، فيبثون فيهم مبادئ مدنية الغرب، عبر المدارس

ص: 245


1- الاتحاد والترقي: جمعية عثمانية نشأت في أوروبا كحركة مناوئة للإستبداد ومنادية بالتجديد والتحديث في الدولة العثمانية.
2- جمعية الإخاء العربي - العثماني: أولى الجمعيات العربية التي تأسست بعد الانقلاب العثماني عام (1908م).
3- المنتدى الأدبي العربي: جمعية سياسية أدبية أسسها بعض رجال العرب من الأدباء والشباب ورجال السياسة، هدفها المعلن إنماء الحياة الثقافية بين العرب، وترقية الصلات بين الأوساط الثقافية في الولايات العربية، التي منها الدولة العثمانية.
4- الإرساليات الأجنبية: إن مصطلح (إرسالية) مأخوذ في الأصل من القاموس الديني المسيحي، ويعني قيام طائفة دينية بإرسال ممثلين أو مندوبين عنها لنشر معتقداتهم، وإنشاء المؤسسات بين أناس يجهلون حقيقة مقاصدهم، والإرساليات الأجنبية مصطلح آخر يدل على البعثات التبشيرية والتعليمية التي انطلقت من أوروبا منذ ما قبل الاكتشافات البحرية باتجاه مناطق آسيا وأفريقيا، ثم تزايدت بعد الاكتشافات وشملت القارة الأمريكية.

التبشيرية(1)،

كالجامعة الأمريكية، والكلية اليسوعية وما أشبه، فكانت هذه المدارس وسيلة لتحقيق مطامع الاستعمار، وحادت عن الغرض العلمي(2).

الاستعمار الاقتصادي

أما مخلفات الاستعمار على المستوى الاقتصادي فإنه عمل على أن تبقى الدول المستعمَرة - بالفتح - متأخرة صناعياً، كأن يجعل منها سوقاً خصبة لتصريف السلع الغربية من خلال أساليب اقتصادية معينة، حيث يقل الطلب على المنتوج المحلي داخل هذه البلاد، فتتسع دائرة البطالة، ويكون اعتماد السوق والمستهلك المحلي على البضائع الأجنبية، والتي تصل بالعملة الصعبة(3).

ومن جانب آخر عمل الاستعمار على زرع روح الخمول والكسل والاتكالية في الشعوب المسلمة، وأعظم أمر قام به المستعمرون هو ربط الحكم ونظام الحكم بشكل كلي بهذه الدول الاستعمارية، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وغير ذلك. ففي الجانب الاقتصادي يؤدي هذا الارتباط إلى فرض أسلوب اقتصادي يخدم مصالح الاستعمار ويضر بمصلحة البلد الإسلامي، كأن يفرض تسويق نوع خاص من الصادرات أو تحديد نوعية الواردات، أوتحجيم الصادرات أو التحكم في نوعية الصناعات والاستثمارات في البلاد الإسلامية، وبالتالي تظل هذه الدول

ص: 246


1- المدارس التبشيرية، هي الأيديولوجية التي أقامتها الكنيسة المسيحية في العالم، الهدف منها تعليم الدين المسيحي ونشره في جميع دول العالم.
2- انظر: تاريخ الحضارة الأوربية الحديثة، علي حيدر سليمان: 428-430.
3- العملة الصعبة: اصطلاح مالي شاع استخدامه بعد الحرب العالمية الثانية، للدلالة على العملات القوية التي يكون الطلب العالمي عليها وحاجته إليها أكبر من المعروض منها. وأشهر ما انطبق هذا المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية على الدولار الأمريكي.

في حاجة دائمة ومقيدة بمشيئة الدول الاستعمارية، حتى في حال تغيير صورة الحكم.

ولا يخفى أن الاستعمار عندما يعشعش في بلد ما، فإنه يطّلع ويتسلل إلى كل زوايا هذا البلد وكل خفاياه، وعندما يطرد منه فإنه يكون قد امتلك تقارير ومعلومات كاملة حول نقاط الضعف والقوة فيه. فيعمل بعد ذلك على إبقاء نقاط الضعف، واستغلال نقاط القوة لصالحه أو إضعافها، ليتمكن من التلاعب به، فمتى شاء الدخول إليه أو التأثير فيه أو إرباك وضعه قام بذلك، ونقاط القوة متمثلة في الثروات الطبيعية والمصادر الثانوية (التصنيع) وغيرها، ونقاط الضعف عكس تلك، مع بيان ثغرات الحاجة.

الحكومات الإسلامية أدوات الاستعمار

ومن أهم أدوات الاستعمار في بلادنا هؤلاء الحكام الذين لايريدون إلّا الشر لشعوبهم مثل أكثر حكوماتنا اليوم إن لم نقل بكلها، فإنها على اختلاف ألوانها وأسمائها هي كمثل ما كان يفعله بعض الكسبة في العراق من قبل؛ حيث كانوا يصنعون من المثلجات أشكالاً وألواناً ويضعون فيها أعواداً من الخشب بمثابة المقبض، وكانت تباع أيام الصيف للأطفال، والأمر الذي كان يجذب الأطفال إليها هو ألوانها المتعددة، ولكنها مع تعدد الألوان يبقى لها طعم واحد.

وكذلك الأمر في كثير من الحكومات التي تحكم بلادنا الإسلامية، تارة تكون الحكومة فيها ملكية أو جمهورية، وكذا الأنظمة في داخلها تارة تعمل بالنظام الشيوعي، وأخرى بالرأسمالي، وثالثة تجري على عدة أنظمة، وهي كلها عبارة عن ألوان مختلفة، ولكن يبقى الأصل واحداً وهو التبعية للاستعمار، وهو الذي يهيئ أجواء الانقلابات العسكرية والمدنية، ويحدد رؤوس الحكم وشكل النظام وأسلوب التطبيق وكلها تعمل لبقاء الحاجة والفقر في البلاد الإسلامية.

ص: 247

قانون الإصلاح الزراعي

في عام (1958م) حدث انقلاب عسكري في العراق أدى إلى تسلم عبد الكريم قاسم ومجموعة من الضباط الحكم. فصدر ما سمي في حينه بقانون (الإصلاح الزراعي)(1)، فأخذوا بعض الأراضي من شيوخ العشائر وملاكها، وقاموا بتوزيعها على الفلاحين، وشجعت الحكومة المزارعين، وهيأت أموراً أخرى لهذه المسألة، إلّا أنها كلها باءت بالفشل، إضافة إلى حدوث الفوضى في البلد.

وصادف في ذلك الحين مجيء خبير اقتصادي من أحد البلدان الغربية، فلما سمع بالأمر واطلع على إجراءات التطبيق التي قامت بها الحكومة القاسمية حينها، دار حديث بينه وبين أحد المختصين بذلك، فقال الخبير: هل تملكون أراضي واسعة صالحة للزارعة، لكي تجري فيها عمليات الإصلاح الزراعي؟ ثم هل لديكم لوازمها من مياه وأيد عاملة وأسمدة ومضادات؟

فقال له: نعم نمتلك كل ذلك.

فاستغرب هذا الخبير من الأمر؛ لأنه إذا كانت كل لوازم الإصلاح الزراعي متوفرة، فلماذا الفشل؟!

عندها سأله سؤالاً آخر، فقال له: هل تملكون ثروات طبيعية؟

فقال له: نعم، نحن نمتلك النفط.

عندها قال الخبير: نعم، هنا يكمن السر؛ حيث إنكم تملكون النفط، فإن الإستعمار يعمد إلى تجهيل وصرف الناس عن الاشتراك والعمل في مجالات

ص: 248


1- هو تقييد الملكية الزراعية، بحيث لا تتجاوز حداً معيناً، ونزع ملكية ما تجاوز عن ذلك الحد بقصد توزيعه في ملكيات صغيرة.

كثيرة، ويزرع فيهم روح الإتكال على ثروة النفط، كما هو الحال في بعض دول الخليج، فتبقى هذه الدول على حد ثابت من القدرة الاقتصادية.

والاستعمار هو الذي يرسم الخطوط العامة للسياسة الخارجية، فمثلاً يقرر بأن كوبا يجب أن تصدر السكر فقط، وأن العراق يصدر النفط فقط، وعلى هذا المنوال. والاستراتيجية التي يعمل وفقها، تارة تكون بصورة مباشرة، وأخرى بواسطة العملاء. فمثلاً عبد الكريم قاسم كان له سبعة عشر رفيقاً قبل أن يصل إلى الحكم، ولكن ما إن وصل إلى الحكم وصارت بيده السلطة، حتى اتهم رفاقه بالتخطيط لخيانته، فحكم عليهم بالاعدام، فأعدموا شنقاً حتى الموت، في ساحة أم الطبول في بغداد، كل ذلك بسبب عدم خضوعهم لما يريد أو خوفه من ذلك.

كتاب الإصلاح الزراعي

عندما كنا في العراق، صدر كتاب لأحد العلماء عن الإصلاح الزراعي(1)، يتضمن بياناً موجزاً عن رأي الإسلام في النظام الزراعي والعمراني، وبياناً لأحدث الآراء العالمية فيه. وعقد مقارنة بين الزراعة في ظل الإسلام والزراعة في ظل الحكومات التابعة للقوانين الغربية، وغيرها من القوانين الدخيلة، رغم توفر المواد الأولية وغيرها مما يحتاجه المزارع، وقد صودرت الطبعة الأولى من الكتاب من قبل الحكومة العراقية، وسجن صاحب المطبعة وغرم بغرامة ثقيلة، وكان تأليف هذا الكتاب أحد أسباب مطاردة ومضايقة مؤلفه حتى آل الأمر إلى هجرته نتيجة لنشاطه الإسلامي، وقد ذكر وزير الزراعة العراقي آن ذاك(2) بأنه

ص: 249


1- من تأليفات سماحة المرجع الديني آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازيK شقيق الإمام المجدد السيد محمد الشيرازي (أعلى اللّه درجاته).
2- وهو الدكتور عبد الصاحب علوان.

يرفض عرض الكتاب في الأسواق؟! فطلبت من أحد الأصدقاء أن يذهب إلى الوزير ويعطيه نسخة من الكتاب، ويطلب رأيه فيه بعد قراءته، وبعد أسبوع اتصل صاحبنا بالوزير وسأله عن الكتاب؟

فأجاب الوزير ضاحكاً: إن كل الذي دون في هذا الكتاب صحيح، ولا يرد عليه أي إشكال ولكن مسألة الإصلاح الزراعي في البلد ليست كل قنواتها بيدي، بل هناك أمور خارجة عن يد الحكومة نفسها، أحدها التأثيرات الدولية على الحكومة ومقرراتها وخططها؛ إذ أن من مصلحة كثير من الدول الغربية أن تبقى مشكلة التخلف الزراعي والإرباك والاضطراب الاقتصادي قائمة في بلادنا.

تبعية البلاد الإسلامية للاستعمار

عندما حدث الانقلاب العسكري ضد عبد الكريم قاسم في (الثامن من شباط سنة 1963م)، وجاء محله (عبد السلام عارف) للحكم، طلبوا من أحد وزراء الحكومة العراقية الجديدة أن يعطي توضيحات عن سوء الأعمال التي يمارسها الرئيس، ثم يقترح عليه لو أنه يعدل إلى غيرها.

فأجاب الوزير: هل تتصورون أن عبد السلام عارف يمتلك الحرية الكافية التي بها يتم إدارة البلاد بشكل أفضل؟!

إن العراق كان ملغوماً بشكل كبير بشبكات التجسس الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية وغيرها، وعبر هذه الشبكات تتدخل تلك الدول، وتستغل الجو القلق والمضطرب دائماً.

فعندما تطلب بريطانيا - مثلاً - من عبد السلام عارف أن يكون النظام العراقي قائماً على أساس معين، فلا يملك عارف أي رأي أمام رغبة بريطانيا وإرادتها.

وهكذا الأمر في مصر، وفي البلاد التابعة الأخرى.

إذاً، فكل ادعاءات التحرر والاستقلال التي تتبجح بها أغلب الحكومات

ص: 250

الإسلامية عبر أبواقها وإعلامها، ما هي إلّا أكاذيب وخدع وأباطيل لتضليل الرأي العام والشعوب المغلوبة على أمرها.

حوار حول الإصلاح الزراعي المزعوم

ذكر لي أحد الأشخاص - أيام المد الشيوعي في العراق - : أن هنالك أحد الشيوعيين من الحلة يريد مقابلتك، وبعد أن حذرني - الشخص - من أن أتكلم بشيء لأن الرجل الشيوعي سيخبر السلطة برأيي حول ما يسمى بالإصلاح الزراعي. (وكان الزمان إبان طغيان عبد الكريم قاسم).

جاء الرجل الشيوعي وكان يظهر أنه مثقف، ومعه الشخص الذي أخبرني عنه.

وبعد مقدمة، قال: المعروف عنك أنك مخالف للإصلاح الزراعي؟

قلت: هل تريد أن نتكلم حول الموضوع من الوجهة السياسية، أو من الوجهة الدينية، أو من الوجهة الاجتماعية؟

قال: وهل يختلف الأمر من الوجهات المختلفة؟

قلت: نعم.

قال: إذاً نتكلم من الوجهة الاجتماعية؟

قلت: تفضل.

قال: ألا تعترف بأن الملاكين الكبار والإقطاعيين قد ظلموا الناس الفلاحين المساكين، وامتصوا دماءهم، ولعبوا بمقدراتهم؟

قلت: لنفرض كل ذلك؟

قال: فلا بدّ من إزالتهم، وتوزيع الأرض للفلاحين!

قلت: ولماذا هذا الحل؟

قال: فماذا تصنع؟

قلت:نقول كما قال الإسلام.

ص: 251

قال: وماذا قال الإسلام؟

قلت: نوقف الملاك عند حده، والفلاح عند حده، فلا يظلم الملاك الفلاح ولا يظلم الفلاح الملاك.

قال: وكيف؟

قلت: نجعل أرض الملاك في يده، ونمنعه من ظلم الفلاح. قال: وهل الأرض للملاك؟

قلت: فلمن إذاً؟!

قال: للدولة.

قلت: ولماذا للدولة؟ إن الملاك تعب حتى حصل على الأرض، فلماذا تهدر أتعابه؟!

قال: وهل الإسلام يقر أن يلعب الملاك بملايين الدنانير والفلاح لا قوت له؟

قلت: الإسلام يقول: لكل تعبه وعمله. ويقول: إن الفلاح يجب أن يكون له قوت، إما من تعبه، وإن لم يحصل من تعبه فعلى الدولة أن تقوم بالإنفاق عليه.

قال: ولماذا الفرق بين الفلاح والملاك؟

قلت: ولماذا الفرق بين المهندس والعامل، ولماذا الفرق بين السلطة والشعب، ولماذا الفرق بين الطبيب والشخص العادي؟!

قال: لأن أولئك تعبوا ودرسوا، فما يحصلونه من العيش السعيد إنما هو إزاء تعبهم.

قلت: والملاك تعب وجهد، فما حصله إنما هو إزاء تعبه.

قال: إن الملاك حصل على الأرض من جراء النهب والظلم والسلب.

قلت: أي ملاك كان كذلك، كان اللازم على الدولة بعد التحقيق أن ترد الأرض إلى المنهوب منه، أما أن نقول: كل المالكين كذلك، فهذا إدعاء فارغ.

ص: 252

قال: من يميز بين الملاك الظالم والملاك غير الظالم؟

قلت: المحكمة والحاكم والشهود.

قال: لماذا تفاوت الطبقات؟

قلت: هذا شيء طبيعي.

قال: وكيف؟!

قلت: لماذا تقدم الذكي على الغبي، والنشيط على الكسول، والمفكر على العادي؟

قال: جزاءً لتفوقهم الطبيعي.

قلت: وفي الملاك والفلاح، ما المانع من أن يكون التفاوت جزاءً لتفوق الملاكين؟

قال: أليس الأحسن أن نسوي كل الطبقات؟

قلت: الشيوعيون لا يقبلون ذلك.

قال: بل العكس؛ فإن في الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية، كل الناس متساوون.

قلت: فلماذا طبقة تحكم على طبقة؟ ولماذا طبقة لها خصائص دون طبقة؟

قلت: ثم إنكم أيها الشيوعيون عندكم الملاك والفلاح.

قال: وكيف؟

قلت: إنكم تجعلون الملاك الدولة، والفلاح هو الفلاح، وحاله عندكم أسوء من الفلاح عند الملاك.

قال: وكيف؟

قلت: لأن الفلاح عند الملاك، إذا ظلمه الملاك اشتكاه عند الدولة، أما الفلاح عند الدولة إذا ظلمته الدولة، فليس هناك من يشتكي عنده، وكذلك

ص: 253

حدث في زمن ستالين، حيث قتل وشرد ملايين الفلاحين، في تطبيق نظام المزارع الجماعية، فهل حدث مثل ذلك تحت ظل القوانين الإسلامية المعترفة بالملاك والفلاح؟

قال: إذاً أنت لا تعترف بظلم الملاك للفلاح.

قلت: نعم لا اعترف بهذا، كما لا اعترف بظلم الفلاح للملاك.

قال: لا نظلم الملاك وإنما نوزع أراضيه بين الفلاحين!

قلت: أليس هذا ظلماً، ثم ولماذا نفعل ذلك؟!

قال: ليكثر الزرع.

قلت: وهل الاتحاد السوفييتي أكثر زراعة أم أمريكا الرأسمالية، إني لا أعترف برأسمالية أمريكا، لكن أريد نقض كلامك، ثم أليس من الأفضل أن نوزع الأراضي البائرة بين الفلاحين ونسعفهم باللوازم، ليكونوا هم (ملاكين) بدون أن نظلم الملاك، وبذلك قد عمرنا كل الأرض، كما كان الإسلام يفعل كذلك؟!

قال: إذاً أنت إقطاعي؟

قلت: الإقطاع بهذا المعنى الذي ذكرت - أنا - نعم، أما بالمعنى الذي أنت تذكر، فلا.

ثم أردفت: فالأفضل أن تترك أنت الشيوعية، وتقبل الإسلام.

قال: إني من المستحيل أن أترك الشيوعية.

قلت: لكنك تهدم بلدك وتظلم الناس.

قال: وكيف؟

قلت: لأنك الآن اعترفت بأن الإسلام خير من الشيوعية، ومع ذلك تقف بعيداً عن الإسلام، وتعتنق المبدأ الذي فيه ظلم الناس، وتقليل للزرع.

قال: وعلى كل.

ص: 254

قلت: يكفيني أن أُثبت لك أنك تهدم البلد وتظلم الناس.

وهنا توسط الشخص الذي جلبه ليقنعه بقبول كلامي، لكنه لم يقبل، وقاما وذهبا، وبعد زمان جاء الصديق، وقال: إني أتعجب من هذا الإنسان! كنت أحسبه مثقفاً وتبين أنه جاهل عنود؛ ولذا الأفضل أن أتركه.

قلت: بل الأفضل أن تصادقه لتنقذه.

الاختلاس وعدم الإخلاص

قبل ما يقارب أربعين سنة زار أحد نواب المجلس الوطني الإيراني صديقاً له، وكان أيضاً وكيلاً لمجلس البرلمان، وكانت الزيارة في بيته، فلما دخل بيت صديقه - الذي هو وكيل في المجلس مثله - تعجب من حاله ووضعه المعيشي الضعيف، حيث كانت حالة بيته والأثاث الموجودة فيه بسيطة وعادية؟! فقال له: لماذا وضعك هكذا، وأنت نائب في المجلس؟

فقال صاحبه: إن وضعي المادي لا يساعدني لأن أكون أفضل من هذه الصورة.

فقال له: أعلمك طريقة تحصل من خلالها على أموال كثيرة، وبها تستطيع أن تحسن حالك المعاشي! والطريقة هي: أن تقوم غداً وعندما يعلنون عن الاجتماع المقبل لوكلاء المجلس، تقوم وتسأل رئيس الوزراء: أين صرفت أموال النفط لهذه السنة؟ وما هي الموارد التي صرفت فيها؟ وأين هي السجلات والاعتمادات في ذلك؟ ثم التزم الصمت ولا تتكلم أبداً، وسترى كيف تأتيك الأموال ليلاً؟ فإذا جاءتك الأموال لا تتسلمها وأخبرني بما يحدث.

وفعلاً قام صاحبه بهذا الأمر، فقال له رئيس الوزراء: سوف أتحدث لك بشكل مفصّل في وقت آخر إذا عقدت الجلسة فالوقت لا يسمح بذلك، وفي الليل طرق عليه الباب بعض الأفراد وقدموا له مقدار من المال فرفض استلامه.

ص: 255

ثم أخبر صاحبه بالأمر. وفي اليوم التالي قال له صاحبه: اليوم أيضاً اعترض في المجلس، وقل نفس الكلام السابق، وفعلاً تم ذلك، وأوصاه بأن لا يقبل المال هذا اليوم أيضاً.

وفي اليوم الثالث قال له صاحبه: في هذا اليوم قدم اعتراضك أيضاً، ولكن بصورة أخرى. وإذا جاءوا إليك بالأموال ليلاً فخذها، فإنها أكثر بكثير من الأموال التي جاءوا بها في اليوم الأول والثاني، وإذا لم تستلمها فسيحكم عليك إما بالسجن أو الإعدام أو التبعيد، بعد أن يلقوا عليك تهمة كبيرة، وفعلاً في الليلة الثالثة أخذ الأموال التي جاءوا بها إليه، وقالوا له: خذ هذه الأموال هدية لك من رئيس الوزراء، فأخذها وحسّن بها وضعه المادي!

هذا نموذج من الحكومات التي تدير البلاد الإسلامية، وهو مثال بسيط لما يتم من حالات الاختلاس وأخذ الرشوة، على حساب الشعب المسلوب المنهوب.

كيف نعالج الوضع؟

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «دعامة الإنسان العقل، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالماً حافظاً ذاكراً فطناً فهماً، فعلم بذلك كيف ولم وحيث، وعرف مَن نصحه ومَن غشه، فإذا عرف ذلك عرف مجراه ومَوْصوله ومفصوله وأخلص الوحدانية لله والإقرار بالطاعة، فإذا فعل ذلك كان مستدركاً لما فات

ص: 256


1- الكافي 1: 25.

ووارداً على ما هو آت، يعرف ما هو فيه ولأي شي ء هو هاهنا ومن أين يأتيه وإلى ما هو صائر، وذلك كله من تأييد العقل»(1).

نحن أمام مشكلتين:

الأولى: أزمة التخلف التي تمر بها شعوبنا الإسلامية.

الثانية: مشكلة وجود هؤلاء الحكام العملاء والدكتاتوريين.

ويمكن أن نعالج كلتا الحالتين معاً؛ وذلك عبر تثقيف الناس وبث الوعي العام بين صفوف الأمة الإسلامية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى عبر تربية أفراد المجتمع الإسلامي وكوادرها على الإخلاص في العمل، وإشعارهم بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عواتقهم. ورويداً رويداً سوف تنتج لنا هذه الشعوب جيلاً يحمل الصفات الإنسانية الرفيعة، والمثل العليا، ويطبق القيم على أرض الواقع، فقد حثت أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) على الإخلاص واعتبرته أفضل العبادة، روي عن الإمام الجواد(عليه السلام) قال: «أفضل العبادة الإخلاص»(2).

كما جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «قال اللّه عزّ وجلّ أنا خير شريك، ومن أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً»(3).

أما التثقيف وبث روح الوعي والمعرفة؛ فذلك يتم بأمور منها السعي وراء تأسيس المدارس والمعاهد العلمية والحوزوية، وإنشاء المكتبات العامة، وطباعة المزيد من الكتب والمجلات والجرائد الهادفة، كما نحتاج إلى زيادة عدد المبلغين ونشرهم في كل القرى والأرياف، وذلك في كل منطقة يتواجد فيها مسلم، كما نحتاج إلى تأسيس إذاعات مرئية وصوتية تبين أحكام الإسلام إلى

ص: 257


1- الكافي 1: 25.
2- عدة الداعي: 233.
3- المحاسن: 252.

جانب المبادئ الإسلامية والقيم العظيمة، وإرشاد الناس إلى مسألة الاكتفاء الذاتي، وشرح أبعاده وفوائده بصورة مبسطة، ولو بتشجيعهم على ترك الأمور الكمالية التي نحتاج بها إلى الغرب. ولو عمل المسلمون بهذه الخطوات لتقدموا إلى الأمام، مهما قلّت نسبة التقدم.

من برامج التنمية والاكتفاء الذاتي

بطبيعة الحال إن ما ذكرناه آنفاً في (كيفية علاج الوضع) يقف جنباً إلى جنب مع برامج التنمية والاكتفاء الذاتي، حيث أنه هو جزء منها ولا يستهان به مطلقاً، إن الأصل هو إيجاد حالة الوعي - الاقتصادي - التي تفقدها الأمة، ومن ثم محاولة البناء على هذه الأرضية الخصبة.

ولعل برامج الاكتفاء الذاتي تبدأ أولاً من خلق فرص العمل للمواطنين، وتسهيل أمور العمل وتوفير لوازمه، وفق الحريات الإسلامية الاقتصادية، بلا ضريبة ولا رسوم ولا ما أشبه، فيتم القضاء على حالة البطالة التي تهدم الأمة، وهذه البرامج هي من واجبات الدولة قبل الآخرين، وذلك عبر السعي في تشغيل أكبر قدر ممكن من الشعب، وفتح المعاهد والجامعات التي تهتم بتدريس وتخريج الكوادر الأساسية، التي يقع على عاتقها وضع البرامج للدولة والأمة. ثم محاولة إعطاء أكبر قدر ممكن من الحرية الفكرية لأبناء الشعب، لتحريضهم على الابداع، وتوفير المواد الأولية لذلك، لتتم مراحل الاكتشاف والاختراع والتقدم.

وكذلك وضع الأكفاء المؤهلين في مناصبهم الحقيقية التي بها يتمكنون من إظهار قدراتهم وطاقاتهم في سبيل بناء وخدمة الأمة الإسلامية، وعدم إهدار قوى المجتمع، وإحراق طاقاته، وذلك بجعل المهندس الكيميائي - مثلاً - معلماً في المدارس الابتدائية، وتنصيب المعلم رئيساً لنقابة المهندسين، بل لابد من توزيع

ص: 258

الأدوار بصورة صحيحة وعادلة، ليكون الناتج مثمراً.

وأيضاً إلغاء الضرائب غير المشروعة والعالية، بل فتح متنفس للشعب من خلاله يستطيع أن يبدع.

ثم لابد من إعطاء فرص إنشاء شركات أهلية، تحاول أن تستفيد من المواد الأولية المحلية واستثمارها، وكذلك الشركات الحكومية بشرط عدم الإجحاف بالآخرين، من خلال استخراج المعادن واستكشاف موارد الثروات الطبيعة غير المكتشفة والمستغلة. وتنظيم أمور الناس وغيرها من البرامج، التي تصب في مجال التنمية والتقدم، والحث على الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي. وعندها سوف تصبح هذه البرامج تطبيقاً لقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «واستغن عمن شئت تكن نظيره»(1).

نسأل اللّه عزّ وجلّ أن ينعم علينا بالاكتفاء الذاتي والتقدم الاقتصادي للتخلص من التبعية والاستعمار.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

الخسران في العبودية لغير اللّه تعالى

قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ

ص: 259


1- الإرشاد 1: 303.
2- الكافي 3: 424.

يَنصُرُونَ}(1).

وقال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ شَئًْا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَئًْا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفّٖ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَٰطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}(4).

وقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَٰفِلُونَ}(5).

الابتعاد عن الإسلام وعاقبته

قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَٰتِ}(6).

وقال سبحانه: {وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ

ص: 260


1- سورة الأعراف، الآية: 197.
2- سورة النحل، الآية: 73.
3- سورة الأنبياء، الآية: 66- 67.
4- سورة الحج، الآية: 62.
5- سورة الأحقاف، الآية: 5.
6- سورة البقرة، الآية: 257.
7- سورة هود، الآية: 113.

الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}(2).

وقال عزّ اسمه: {وَأَلَّوِ اسْتَقَٰمُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّاءً غَدَقًا}(3).

العبادة المطلوبة هي الإخلاص

قال اللّه تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(4).

وقال سبحانه: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(7).

وقال عزّ اسمه: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}(8).

فضيلة العلم والمعرفة

قال اللّه تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(9).

ص: 261


1- سورة طه، الآية: 124.
2- سورة نوح، الآية: 21.
3- سورة الجن، الآية: 16.
4- سورة النساء، الآية: 146.
5- سورة الأعراف، الآية: 29.
6- سورة غافر، الآية: 14.
7- سورة غافر، الآية: 65.
8- سورة البينة، الآية: 5.
9- سورة البقرة، الآية: 269.

وقال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَٰتُوَالنُّورُ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الإنسان وكرامته في الاستغناء

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ويكون استغناؤك عنهم - عن الناس - في نزاهة عرضك وبقاء عزك»(3).

وقال(عليه السلام): «من أتحف العفة والقناعة حالفه العز»(4).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «شرف المؤمن قيام الليل وعزّه استغناؤه عن الناس»(5).

العبودية فقط للّه عزّ وجلّ

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أمّا بعد، فإنّي أوصيكم بتقوى اللّه الّذي ابتدأ خلقكم، وإليه يكون معادكم، وبه نجاح طلبتكم، وإليه منتهى رغبتكم، ونحوه قصد سبيلكم، وإليه مرامي مفزعكم؛ فإنّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم(6)، وضياء سواد ظلمتكم،

ص: 262


1- سورة الرعد، الآية: 16.
2- سورة الرعد، الآية: 19.
3- الكافي 2: 149.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 256.
5- الكافي 2: 148.
6- الجأش: ما يضطرب في القلب عند الفزع.

فاجعلوا طاعةاللّه شعاراً(1) دون دثاركم، ودخيلاً دون شعاركم، ولطيفاً بين أضلاعكم، وأميراً فوق أموركم، ومنهلاً لحين ورودكم، وشفيعاً لدرك(2) طلبتكم، وجنّةً ليوم فزعكم، ومصابيح لبطون قبوركم، وسكناً لطول وحشتكم، ونفساً لكرب مواطنكم، فإنّ طاعة اللّه حرزٌ من متالف مكتنفةٍ، ومخاوف متوقّعةٍ، وأوار(3)

نيرانٍ موقدةٍ، فمن أخذ بالتّقوى عزبت عنه الشّدائد بعد دنوّها، واحلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له الصّعاب بعد إنصابها(4)، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدّبت عليه الرّحمة بعد نفورها، وتفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها(5)، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها، فاتّقوا اللّه الّذي نفعكم بموعظته، ووعظكم برسالته، وامتنّ عليكم بنعمته، فعبّدوا أنفسكم لعبادته، واخرجوا إليه من حقّ طاعته»(6).

وقال(عليه السلام): «قال اللّه عزّ وجلّ من فوق عرشه: يا عبادي، اعبدوني فيما أمرتكم ولا تعلّموني ما يصلحكم؛ فإني أعلم به ولا أبخل عليكم بمصالحكم»(7).

وقالت الصديقة فاطمة(عليه السلام): «من أصعد إلى اللّه خالص عبادته أهبط اللّه إليه أفضل مصلحته»(8).

ص: 263


1- الشِعار: ما يلي البدن من الثياب، والدِثار: ما فوق الشِعار.
2- الدَرَك: اللحاق، والطَلِبَة: المطلوب.
3- الأُحرار: حرارة النار ولهيبها، وعَزَبت: غابت وبعدت.
4- الإِنصاب: مصدر بمعنى الإتعاب، وتحدَّب عليه: عطف.
5- نَضَبَ الماء نضوباً: غار وذهب في الأرض، ونضوب النعمة: قلتها أو زوالها، ووَبَلَت السماء: أمطرت مطراً شديداً، وأرذّت إرذاذاً: مطرت مطراً ضعيفاً في سكون كأنه الغبار المتطاير.
6- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 198 من خطبة له(عليه السلام) ينبه على إحاطة علم اللّه ويحث على التقوى.
7- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 108.
8- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 327.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «خرج الحسين بن علي(صلوات اللّه عليهما) ذات يوم على أصحابه فقال بعد الحمد لله جلّ وعزّ، والصلاة على محمد رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا أيها الناس، إن اللّه ما خلق العباد إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته من سواه...»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «في التوراة مكتوب: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، ولا أكلك إلى طلبك، وعليَّ أن أسد فاقتك، وأملأ قلبك خوفاً مني، وإن لا تفرغ لعبادتي أملأ قلبك شغلاً بالدنيا، ثم لا أسد فاقتك وأكلك إلى طلبك»(2).

ما هو الإخلاص؟

سُئل سيد الأولون والآخرون نبينا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن الإخلاص؟

فقال: «سألته عن جبرئيل، فقال: سألته عن اللّه تعالى، فقال: الإخلاص سر من سري أودعه في قلب من أحببته»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن لكل حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيء من عمل اللّه»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ومن لم يختلف سره وعلانيته وفعله ومقالته فقد أدى الأمانة وأخلص العبادة...»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «والعمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه

ص: 264


1- كنز الفوائد 1: 328.
2- الكافي 2: 83.
3- مستدرك الوسائل 1: 101.
4- روضة الواعظين 2: 414.
5- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 26 من عهد له(عليه السلام) إلى بعض عماله وقد بعثه على الصدقة.

أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ»(1).

فضيلة العلم والمعرفة

قال الرسول الصادق الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بالعلم يطاع اللّه ويُعبد، وبالعلم يُعرف اللّه ويوحد، وبه توصل الأرحام،ويعرف الحلال والحرام، والعلم إمام العقل»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفضلكم إيماناً أفضلكم معرفة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المعرفة نور القلب»(4).

وعن أبي الصلت الهروي قال: كنت مع الرضا(عليه السلام) لما دخل نيسابور وهو راكب بغلة شهباء وقد خرج علماء نيسابور في استقباله، فلما سار إلى المرتعة تعلقوا بلجام بغلته، وقالوا: يا ابن رسول اللّه، حدثنا بحق آبائك الطاهرين، حدِّثنا عن آبائك (صلواتك عليهم أجمعين).

فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف(5) خَزٍّ فقال: «حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنة، عن أبيه أمير المؤمنين(عليهم السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: أخبرني جبرئيل الروح الأمين عن اللّه تقدست أسماؤه وجل وجهه، قال: إني أنا اللّه لا إله إلّا أنا وحدي، عبادي فاعبدوني، وليعلم من لقيني منكم بشهادة: أن لا إله إلّا اللّه مخلصا بها أنه قد دخل حصني، و من دخل

ص: 265


1- الكافي 2: 16.
2- تحف العقول: 28.
3- جامع الأخبار: 5.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 37.
5- المِطْرَف: رداء من خز ذو أعلام.

حصني أمن عذابي».قالوا: يا ابن رسول اللّه، وما إخلاص الشهادة لله؟

قال(عليه السلام): «طاعة اللّه و رسوله وولاية أهل بيته(عليهم السلام)»(1).

ص: 266


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 588.

التصرفات العقلائية واللاعقلائية

وظيفة العقل

قال اللّه العظيم في كتابه الحكيم: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ}(1).

لقد اهتم القرآن الكريم بالعقل كثيراً، وورد ذكر العقل والعقلاء في كتاب اللّه عزّ وجلّ والأحاديث الشريفة بشكل ملحوظ.

يقول تعالى في الآيتين الشريفتين {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} أي: هؤلاء الكفار المكذبون بنبوتك يا رسول اللّه {فِي الْأَرْضِ} اليمن والشام، وسائر البلاد التي أهلك أهلها لما كذبوا الرسل، حتى يعتبروا ويعقلوا عن غيّهم. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ما يرون من العبر، وآثار الخرائب التي بقيت بعد إهلاك الأمم السابقة، الذين كذّبوا نبياءهم {أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أخبار الأمم السابقة، فإن الإنسان إذا سافر، سمع من أهل البلاد أخبار الماضين منهم، وأنهم كيف كانوا، وكيف ماتوا، حتى يحكوا لهم أن أسلافهم هلكوا حيث كذبوا الأنبياء(عليهم السلام) وعملوا بالكفر والمعاصي {فَإِنَّهَا} الضمير للشأن والقصة، ويأتي هذا الضمير للإلفات والتنبيه إلى أن ما

ص: 267


1- سورة الحج، الآية: 46-47.

بعده أمر مهم، فإذا كان مذكراً، سمي ضمير الشأن، وإن كان مؤنثاً سميضمير القصة، والجملة ما بعد الضمير مفسرة له {لَا تَعْمَى الْأَبْصَٰرُ} الناظرة إذ البصر ينظر ويرى {وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ} وتنفلق عن الهدى {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} والإتيان بهذا الوصف للتعميم، كقوله: {وَمَا مِن دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَٰئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}(1).

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} يا رسول اللّه، أي: هؤلاء الكفار، فقد كانوا يطلبون من الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يأتي به {بِالْعَذَابِ} الذي وعدهم، استهزاءً به(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لكن اللّه سبحانه لا يأتي بالعذاب إلّا في الوقت المحدد له، حسب حكمته ومصلحته {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} فقد وعد بالعذاب فيأتيه، كما وعد لهم مدة معينة، فلا يأخذهم قبل انقضائها {وَإِنَّ يَوْمًا} وهو يوم القيامة {عِندَ رَبِّكَ} أي: في حسابه {كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وهذا تهديد، أي: أن وراءهم يوماً يعادل ألف سنة، بحساب الإنسان، وإن كان عند اللّه سبحانه يعد يوماً واحداً، وهذا كما تقول للمجرم: سيأتي وقتك، وفي حساب الحكومة لك يوم هو عشرون سنة في حسابك، تريد أن عليه الحبس تلك المدة. إنهم كيف يستعجلون بالعذاب، ألم يعلموا ماذا صنع بمن كان قبلهم من الأمم المكذبة؟!(2).

ومن الواضح الإرجاع إلى العقل ودوره في حياة الإنسان في الآية الكريمة حيث قال عزّ وجلّ: {يَعْقِلُونَ بِهَا}.

وفي كتاب (التبيان في تفسير القرآن) للشيخ الطوسي(رحمه اللّه) قال:

لما أخبر اللّه تعالى عن إهلاك الامم الماضية جزاءً على كفرهم ومعاصيهم، نبّه الذين يرتابون بذلك. فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ

ص: 268


1- سورة الأنعام، الآية: 38.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 611.

بِهَا} إذا شاهدوا آثار ما أخبرنا به، وسمعوا صحة ما ذكرناه عمن أخبرهم بصحته من الذين عرفوا أخبار الماضين، وفيها دلالة على أن العقل هو العلم؛ لأن معنى {يَعْقِلُونَ بِهَا} يعلمون بها، مدلول ما يرون من العبرة.

وفيها دلالة على أن القلب محل العقل والعلوم، لأنه تعالى وصفها بأنها هي التي تذهب عن إدراك الحق، فلولا أن التبيين يصح أن يحصل فيها؛ لما وصفها بأنها تعمى، كما لايصح أن يصف اليد والرجل بذلك.

والهاء في {إِنَّهَا لَا تَعْمَى} هاء عماد، وهو الاضمار على شروط التفسير، وانما جاز أن يقول: ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، للتأكيد، لئلا يتوهم بالذهاب إلى غير معنى القلب؛ لأنه قد يذهب إلى أن فيه اشتراكاً كقلب النخلة، فإذا قيل هكذا كان أنفى للبس بتجويز الاشتراك، وأما قوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}(1) فلأن القول قد يكون بغير الفم. والمعنى في الآية: أن الأبصار وإن كانت عمياً، فلا تكون في الحقيقة كذلك، إذا كان عارفاً بالحق. وإنما يكون العمى عمى القلب الذي يجحد معه معرفة اللّه ووحدانيته. ثم قال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} يا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {بِالْعَذَابِ} أن ينزل عليهم ويستبطؤونه، وإن اللّه لا يخلف ما يوعد به. {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} قيل: يوم من أيام الآخرة يكون كألف سنة من أيام الدنيا. وقيل: إنه أراد يوماً من الايام التي خلق اللّه فيها السماوات والأرض. والمعنى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ} من أيام العذاب، في الثقل والاستطالة {كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} في الدنيا، فكيف يستعجلونك بالعذاب لولا جهلهم؟! وهو كقولهم: أيام الهموم طوال، وأيام السرور قصار... وقيل: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} في طول الإمهال للعباد

ص: 269


1- سورة آل عمران، الآية: 167.

لصلاح من يصلح منهم، أو من نسلهم، فكأنه ألف سنة لطوال الأناة. وقيل: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} في مقدار العذاب في ذلك اليوم، أي: إنه لشدته وعظمه كمقدار عذاب ألف سنة من أيام الدنيا على الحقيقة. وكذلك نعيم الجنة، لأنه يكون في مقدار يوم السرور والنعيم، مثل ما يكون في ألف سنة من أيام الدنيا لو بقي ينعم ويلتذ فيها(1).

إذاً، يبين اللّه تبارك وتعالى في هذه الآيات - وكثير غيرها - إلى أهمية هذه النعمة العظيمة التي تسمى: العقل، أو: اللب، أو: القلب، أو العلم، وضرورة إعمالها في ما يمر على الإنسان في حياته، فعليه أن يتبصر ويدقق في تجارب الآخرين ويعتبر من الأمم السابقة وما مر عليها. وكل ذلك بواسطة نعمة العقل التي وهبها اللّه تبارك وتعالى للإنسان.

فالعقل والعلم من أهم أسباب التصرفات العقلائية، والجهل وترك العقل من أهم أسباب التصرفات اللاعقلائية والتي توجب خسارة الدارين.

العقل في القرآن

هذا وهناك آيات آخر كثيرة تذكِّر وتنبِّه إلى نعمة العقل والعلم وأهميتها عند الإنسان وتركز عليها، كما في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَٰلِمُونَ}(2).

وقوله تبارك اسمه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٖ وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِوَالْأَرْضِ

ص: 270


1- التبيان في تفسير القرآن 7: 326.
2- سورة العنكبوت، الآية: 43.

لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(1).

وقوله تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَٰقُ الْكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلَٰدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٖ}(3).

وقال سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٖ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٖ مُّنِيبٍ}(4).

وقال تبارك اسمه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(5).

وقال سبحانه وتعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(7).

ص: 271


1- سورة البقرة، الآية: 164.
2- سورة الآعراف، الآية: 169.
3- سورة ق، الآية: 36- 38.
4- سورة ق، الآية: 31- 33.
5- سورة البقرة، الآية: 179.
6- سورة البقرة، الآية: 269.
7- سورة آل عمران، الآية: 190.

العقل في الأحاديث الشريفة

اشارة

أما ما ورد في العقل وأهميته وفضله في الأحاديث الشريفة، فكثير جداً...

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما قسم اللّه للعباد شيئاً أفضل من العقل؛ فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث اللّه نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته، وما يضمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض اللّه حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولو الألباب الذين قال اللّه تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}»(1)(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً - في حديث - : «... يا علي، العقل ما اكتسبت به الجنة، وطلب به رضا الرحمن. يا علي، إن أول خلق خلقه اللّه عزّ وجلّ العقل، فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. فقال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، بك آخذ وبك أعطي، وبك أثيب وبك أعاقب...»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين لمن لا عقل له»(4).

وأثنى قوم بحضرته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على رجل حتى ذكروا جميع خصال الخير، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كيف عقل الرجل؟» فقالوا: يارسول اللّه، نخبرك عنه باجتهاده في العبادة وأصناف الخير، تسألنا عن عقله؟! فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات

ص: 272


1- سورة البقرة، الآية: 269.
2- الكافي 1: 12.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 369.
4- تحف العقول: 54.

وينالون الزلفى منربهم على قدر عقولهم»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق...»(2).

وعن أبي جعفر الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «لما خلق اللّه العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. ثم قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلّا فيمن أحب. أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب»(3).

بشارة لأهل العقل

قال هشام بن الحكم: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام):

«يا هشام، إن اللّه تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(4).

يا هشام، إن اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين(عليهم السلام) بالبيان، ودلهم على ربوبيته بالأدلة، فقال: {وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٖ وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(5).

ص: 273


1- تحف العقول: 54.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 38.
3- المحاسن 1: 192.
4- سورة الزمر، الآية: 17- 18.
5- سورة البقرة، الآية: 163- 164.

يا هشام، قد جعل اللّه ذلك دليلاً على معرفته بأن لهم مدبراً، فقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖيَعْقِلُونَ}(1) وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(2) وقال: إن في {اخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}(3)، {وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(4)، وقال: {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(5).

وقال: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَٰوِرَٰتٌ وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٖ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٖ يُسْقَىٰ بِمَاءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٖ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(6) وقال: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(7) وقال: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(8) وقال: {هَل

ص: 274


1- سورة النحل، الآية: 12.
2- سورة غافر، الآية: 67.
3- سورة الجاثية، الآية: 5.
4- سورة البقرة، الآية: 164.
5- سورة الحديد، الآية: 17.
6- سورة الرعد، الآية: 4.
7- سورة الروم، الآية: 24.
8- سورة الأنعام، الآية: 151.

لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَٰكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(1).

يا هشام، ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة، فقال: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّالَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(2).

يا هشام، ثم خوف الذين لا يعقلون عقابه فقال تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْأخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(3) وقال: {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا ءَايَةَ بَيِّنَةً لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(4).

يا هشام، إن العقل مع العلم فقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَٰلِمُونَ}(5).

يا هشام، ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَئًْا وَلَايَهْتَدُونَ}(6).

وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمُّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(7) وقال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لَا يَعْقِلُونَ}(8) وقال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا

ص: 275


1- سورة الروم، الآية: 28.
2- سورة الأنعام، الآية: 32.
3- سورة الصافات، الآية: 136- 138.
4- سورة العنكبوت، الآية: 34-35.
5- سورة العنكبوت، الآية: 43.
6- سورة البقرة، الآية: 170.
7- سورة البقرة، الآية: 171.
8- سورة يونس، الآية: 42.

كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(1) وقال: {لَا يُقَٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرِ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}(2) وقال: {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَٰبَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(3).

يا هشام، ثم ذم اللّه الكثرة، فقال: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(4).

وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(5) وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(6).

يا هشام، ثم مدح القلة فقال: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(7) وقال: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}(8) وقال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَٰنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}(9) وقال: {وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}(10) وقال: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(11) وقال: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(12) وقال: وأكثرهم لا

ص: 276


1- سورة الفرقان، الآية: 44.
2- سورة الحشر، الآية: 14.
3- سورة البقرة، الآية: 44.
4- سورة الأنعام، الآية: 116.
5- سورة لقمان، الآية: 25.
6- سورة العنكبوت، الآية: 63.
7- سورة سبأ، الآية: 13.
8- سورة ص، الآية: 24.
9- سورة غافر، الآية: 28.
10- سورة هود، الآية: 40.
11- سورة الأنعام، الآية: 37.
12- سورة المائدة، الآية: 103.

يشعرون(1).

يا هشام، ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر، وحلّاهم بأحسن الحلية، فقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال: {وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3) وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(4).

وقال: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5) وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6) وقال: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(7) وقال: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَٰءِيلَ الْكِتَٰبَ * هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(8) وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(9) يا هشام، إن اللّه تعالى

ص: 277


1- أي ما معناه ذلك، كقوله تعالى في سورة الأنعام، الآية: 111: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- سورة آل عمران، الآية: 7.
4- سورة آل عمران، الآية: 190.
5- سورة الرعد، الآية: 19.
6- سورة الزمر، الآية: 9.
7- سورة ص، الآية: 29.
8- سورة غافر، الآية: 53-54.
9- سورة الذاريات، الآية: 55.

يقول في كتابه: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}(1) يعني: عقل، وقال: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَٰنَ الْحِكْمَةَ}(2) قال: الفهم والعقل..

يا هشام، إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس، وإن الكيس لدى الحق يسير. يا بني، إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكنسفينتك فيها تقوى اللّه، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل، وقيّمها العقل، ودليلها العلم، وسكانها الصبر.

يا هشام، إن لكل شيء دليلاً ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت، ولكل شيء مطية ومطية العقل التواضع، وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه.

يا هشام، ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلّا ليعقلوا عن اللّه، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، وأما الباطنة: فالعقول.

يا هشام، إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام، من سلط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

يا هشام، كيف يزكو عند اللّه عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك، وأطعت هواك على غلبة عقلك؟!

ص: 278


1- سورة ق، الآية: 37.
2- سورة لقمان، الآية: 12.

يا هشام، الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن اللّه اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند اللّه، وكان اللّه أنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة وغناه في العيلة ومعزه من غير عشيرة.

يا هشام، نصب الحق لطاعة اللّه، ولا نجاة إلّا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد(1)، ولا علم إلّا من عالم رباني، ومعرفةالعلم بالعقل.

يا هشام، قليل العمل من العالم مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.

يا هشام، إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا؛ فلذلك ربحت تجارتهم.

يا هشام، إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض.

يا هشام، إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها، فعلم أنها لا تنال إلّا بالمشقة، ونظر إلى الآخرة، فعلم أنها لا تنال إلّا بالمشقة، فطلب بالمشقة أبقاهما.

يا هشام، إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة؛ لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.

يا هشام، من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرع إلى اللّه عزّ وجلّ في مسألته بأن يكمل عقله؛ فمن عقل قنع بما

ص: 279


1- يعتقد: أي يشدو يستحكم.

يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً.

يا هشام، إن اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا:

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(1) حين علموا: أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها، إنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه، ومن لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة، يبصرهاويجد حقيقتها في قلبه، ولا يكون أحد كذلك إلّا من كان قوله لفعله مصدقاً، وسره لعلانيته موافقاً؛ لأن اللّه تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلّا بظاهر منه وناطق عنه.

يا هشام، كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: ما عبد اللّه بشيء أفضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع اللّه من العزّ مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيراً منه وأنه شرهم في نفسه، وهو تمام الأمر.

يا هشام، إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه.

يا هشام، لا دين لمن لا مروة له، ولا مروة لمن لا عقل له، وإن أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً، أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلّا الجنة فلا تبيعوها بغيرها.

يا هشام، إن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه

ص: 280


1- سورة آل عمران، الآية: 8.

ثلاث خصال: يجيب إذا سُئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق. إن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: لا يجلس في صدر المجلس إلّا رجل فيه هذه الخصال الثلاث، أو واحدة منهن، فمن لم يكن فيه شيء منهن فجلس فهو أحمق. وقال الحسن بن علي(عليهما السلام): إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، قيل: يا ابن رسول اللّه، ومن أهلها؟ قال: الذين قصّ اللّه في كتابه وذكرهم، فقال: {إِنَّمَايَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1) قال: هم أولو العقول. وقال علي بن الحسين(عليهما السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح، وآداب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستثمار المال تمام المروءة، وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة، وكف الأذى من كمال العقل، وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً.

يا هشام، إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد ما لا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه»(2).

إلى غيرها من الروايات الكثيرة التي وردت عن أهل البيت(عليهم السلام) في وصف العقل والعقلاء.

العقل رأس الفضائل

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «هبط جبرئيل على آدم(عليه السلام) فقال: يا آدم، إني أُمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث، فاخترها ودع اثنتين. فقال له آدم: يا جبرئيل، وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين.

ص: 281


1- سورة الرعد، الآية: 19.
2- الكافي 1: 13.

فقال آدم(عليه السلام): إني قد اخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل، إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان!! قال: فشأنكما، وعرج»(1).

هذه الرواية الشريفة تكشف لنا أهمية العقل، وكذلك تكشف أهمية التصرف العقلائي الذي اتبعه آدم(عليه السلام)، فمن جهة فإن اختيار آدم(عليه السلام) للعقل يدل دلالة واضحةعلى كونه أهم من الحياء والدين! لا من حيث إن الدين والحياء لا أهمية لهما؛ وإنما أهميتهما منوطة بالعقل، فإذا جردا من العقل كانا كمثل من يملك مالاً كثيراً ولكنه محجور عليه لسفه أو غير ذلك، فلا تنفعه كثرة ماله.

فالعقل هو رأس الفضائل كلها، فالذي يملك العقل السليم يستطيع أن يختار العقيدة الحقّة ولا تتفرق به السبل ولا يضل عن جادة الحق، وفي ذلك قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا دين لمن لا عقل له»(2).

ومن جهة أخرى، فإن هذه الرواية تشير إلى التصرف العقلائي الذي تصرفه أبونا آدم(عليه السلام) في هذه المسألة، فلو كان تصرفه غير عقلائي لخسر الجميع؛ لأنه لو اختار الدين أو الحياء لخسر العقل، وبخسارة العقل يخسر الجميع، لأن الدين والحياء يدوران مدار العقل، فأين ما ذهب يذهبان معه. فتصرفه هذا كان ناشئاً من حكمته ونضجه وعقله.

وقد شرح المازندراني(رحمه اللّه) هذا الحديث بشرح لطيف نذكره لمزيد الفائدة:

قوله(عليه السلام): «هبط جبرئيل(عليه السلام) على آدم(عليه السلام)» الظاهر أن ذلك كان بعد هبوط

ص: 282


1- الكافي 1: 10.
2- تحف العقول: 54. وذلك واضح لأن الدين هو مجموعة من الأوامر والنواهي الإلهية التابعة لمصلحة الإنسان نفسه ومن الواضح أن الداعي نحو الفعل أو الترك ليس إلّا العقل فمن لا عقل له لا دين له، أي لا يملك واقع وجوهر الدين.

آدم(عليه السلام) من الجنة، وبعد قبول توبته «فقال: يا آدم، إني أُمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث»، أي: خصلة واحدة من ثلاث خصال «فاخترها ودع اثنتين، فقال آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟» الظاهر أن الواو لمجرد حسن الارتباط وزيادة الاتصال لا للعطف «فقال: العقل والحياء والدين». العقل هنا، قوة نفسانية وحالة نورانية، بها يدرك الإنسان حقائق الأشياء، ويميّز بين الخير والشر وبين الحق والباطل، ويعرفأحوال المبدء والمعاد. وبالجملة هو نور إذا لمع في آفاق النفوس يكشف عنها غواشي الحجب، فتتجلى فيها صور المعقولات - التي يمكن تصورها - كما يتجلى في العين صور المحسوسات. والحياء، خلق يمنع من ارتكاب القبيح وتقصير في الحقوق، وقال الزمخشري: هو تغيّر وانكسار يلحق من فعل ما يمدح به، أو ترك ما يذم به، وهو غريزة، وقد يتخلق به من يجبل عليه، فيلتزم منه ما يوافق الشرع... ، والدين، هو الصراط المستقيم الذي يكون سالكه قريباً من الخيرات بعيداً عن المنهيات، وهو عبارة عن معرفة مجموع ما يوجب القرب من الرب، والعمل بما يتعلق به الأمر، ومعرفة مجموع ما يوجب البعد عنه، وترك العمل بما يتعلق به النهي «فقال آدم: إني اخترت العقل» لا يقال: اختياره للعقل لم يكن إلّا لملاحظة أن حسن عواقب أموره في الدارين يتوقف عليه، وإن نظام أحواله في النشأتين لا يتم إلّا به، ولا يكون ذلك إلّا لكونه عاقلاً متفكراً متأملاً فيما ينفعه عاجلاً وآجلاً، لأنا نقول: المراد بهذا العقل، العقل الكامل الذي يكون للأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، واختياره يتوقف على عقل سابق يكون درجته دون هذا، وللعقل درجات ومراتب. وقد يقال هذه الأمور الثلاثة كانت حاصلة له(عليه السلام) على وجه الكمال، والتخيير فيها لا ينافي حصولها، والغرض منه إظهار قدر نعمة العقل، والحث على الشكر عليها «فقال جبرئيل(عليه السلام) للحياء والدين: انصرفا

ص: 283

ودعاه» أي: انصرفا عن آدم ودعاه مع العقل معه «فقالا: يا جبرئيل» الظاهر أن هذا القول حقيقة بلسان المقال بحياة خلقها اللّه تعالى فيهما، ولا يبعد ذلك عن القدرة الكاملة، وقد ثبت نطق اليد والرجل على صاحبهما، ونطق الكعبة والحجر، وغيرهما. ويحتمل أن يكون ذلك مجازاً بلسان الحال، أو يخلق اللّه سبحانه فيهما كلاماً أسمعه جبرئيل وآدم(عليهما السلام) كما قد خلق ذلك في بعض الأجسام الجماديةوأسمعه من شاء من خلقه «إنا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان» أي: حيث وجد، أو حيث كان موجوداً، يفهم منه أن العقل مستلزم لهما وهما تابعان له، والأمر كذلك؛ لأن بالعقل يعرف اللّه سبحانه وجلاله وجماله وكماله وتنزهه عن النقايص وإحسانه وإنعامه وقهره وغلبته، بحيث يرى كل جلال وجمال وكمال وإحسان وإنعام وقهر وغلبة مقهوراً تحت قدرته، مغلوباً تحت قهره وغلبته، بل لا يرى في الوجود إلّا هو، فيحصل له بذلك خوف وخشية يرتعد به جوانحه كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1) ويحصل له بذلك قوة وملكة تمنعه عن مخالفته طرفة عين، وهذه القوة هي المسماة بالحياء، ثم بتلك القوة يسلك الصراط المستقيم وهو الدين القويم، ومن ههنا ظهر: أن الحياء مستلزم للدين والدين تابع له، ثم جبرئيل(عليه السلام) إن كان عالماً بكونهما مأمورين بذلك كان قوله: «انصرفا ودعاه» محمولاً على نوع من الامتحان، لإظهار شرف العقل ونباهة قدره، وإن لم يكن عالماً كان ذلك القول محمولاً على الطلب «قال: فشأنكما وعرج» الشأن بالهمزة الأمر والحال والقصد، أي: فشأنكما معكما، أو ألزما شأنكما...(2).

ص: 284


1- سورة فاطر، الآية: 28.
2- شرح أصول الكافي للشيخ المازندراني 1: 77.
العقل والعقلاء

العقل لغة بمعنى المنع، واشتق منه العقال وغيره، وهو الذي يقيد شهوات الإنسان ويمنعه منها، أما اصطلاحاً أي المعنى المتداول في لسان الشرع المقدس، فهو نور إلهي وهبة ربانية، وهبه اللّه عزّ وجلّ إلى الإنسان؛ لكي يعرف خالقه، ويدرك به الأشياء، ويميز به بين الخير والشر والحق والباطل، وهذه الهدية الإلهيةهي الفارق الأساسي في ما بين الإنسان وباقي المخلوقات، كالحيوانات والجمادات. وسميت بالعقل لأنه يمنع الإنسان من أن يرتكب ما يناسب الجهل والجهالة والجهال. فإن الإنسان والحيوان يشتركان في أمور عدة، منها:

1- الحس: إذ الإنسان حساس، وجميع الحيوانات الباقية تحس أيضاً.

2- الخيال: فالإنسان له قوة خيال، وبعض الحيوانات لها قوة خيال أيضاً، كما قيل.

3- الوهم: فالإنسان له وهم، وبعض الحيوانات لها قوة وهم أيضاً، كما قيل.

هذه بعض نقاط الاشتراك، ولكن أهم نقطة افتراق بين الإنسان والحيوانات وكثير من المخلوقات، والتي لها الأهمية العظمى في حياة الإنسان هو: العقل.

فالعقل الذي منحه اللّه للبشر، يختص بالإنسان وحده دون بقية الحيوانات، فبه عرف الإنسان خالقه، وعرف أمور دينه، وأمور حياته، فمن الأمور الدينية التي أرشده العقل إليها: معرفة اللّه والأنبياء والرسل والملائكة، واتباع الحق، ودحض الباطل، وما إلى ذلك(1).

ص: 285


1- أما معرفة الخالق بالعقل فواضح، لأن البراهين الدالة على وجود اللّه تعالى وعلى صفاته براهين عقلية يصل إليها العقل. وأما معرفة أمور دينه فلأنها تتوقف على الايمان بصدق النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولزومه، وهذا مما يدركه العقل، ولا يخفى إمكان القول برجوع هذا الأمر إلى الأمر الأول، أما أمور حياته فواضح أيضاً لأن الحياة مبنية على الاجتماع السليم وهو لا يتم إلّا عبر التعاون والمحبة والود والخدمة للمجتمع، وتلك المعاني التي لا يدرك حسنها إلّا العقل.

أما الأمور الدنيوية (الحيوية) فالعقل كان من ورائها وسببا لتطور الإنسان فيها، فإنه يدل الإنسان على كيفية إيجاد الغذاء، وكيفية صنعه، وإيجاد المسكن والملبس، وهكذا في التطور فيها، وكذلك في الصناعات وسائر أمور الحياة الأخرى، أصلاً وتطوراً.

فالوجه في تفضيل اللّه الإنسان على باقي مخلوقاته هو فيما ملكه من العقل وما يترتب على العقل، قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(1).

الملائكة والإنسان

إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الملائكة ومنحها العقل ولكن جرّدها عن الشهوة، بخلاف الحيوانات فقد أعطاها الشهوة وجردها عن العقل، ولكنه سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان أعطاه العقل والشهوة معاً، فإذا غلب عقله على شهوته يفضّل على الملائكة، أما إذا كان العكس أي سيطرت شهوته على عقله فهنا يصبح الإنسان أسوء حتى من الحيوانات.

وقد أشار الإمام الصادق(عليه السلام) إلى هذا المعنى حين ما سُئل: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال(عليه السلام): «قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): إن اللّه عزّ وجلّ ركب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم»(2).

نعم يمكن للإنسان المؤمن أن يرتفع ببركة عقله، فيصير أفضل من الملائكة،

ص: 286


1- سورة الإسراء، الآية: 70.
2- علل الشرائع 1: 4.

كما ورد عن الامام الرضا(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: «مثل المؤمن عند اللّه عزّ وجلّ كمثل ملك مقرب، وإن المؤمن عند اللّه أعظم من الملك، وليس شيء أحب الى اللّه من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة».(1)

من هم العقلاء؟

روى سماعة بن مهران قال: كنت عند أبي عبد اللّه(عليه السلام) وعنده جماعة من مواليه، فجرى ذكر العقل والجهل، فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اعرفوا العقل وجنده، والجهل وجنده، تهتدوا».

قال سماعة: فقلت: جعلت فداك، لا نعرف إلّا ما عرفتنا.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره، فقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، فقال اللّه تبارك وتعالى: خلقتك خلقاً عظيماً، وكرمتك على جميع خلقي، - قال: - ثم خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانياً، فقال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: أقبل، فلم يقبل!! فقال له: استكبرت، فلعنه، ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً، فلما رأى الجهل ما أكرم اللّه به العقل، وما أعطاه أضمر له العداوة، فقال الجهل: يا رب، هذا خلق مثلي خلقته وكرمته وقويته، وأنا ضده، ولا قوة لي به، فأعطني من الجند مثل ما أعطيته؟ فقال: نعم، فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي؟ قال: قد رضيت، فأعطاه خمسة وسبعين جنداً.

فكان مما أعطى العقل من الخمسة والسبعين الجند، الخير، وهو وزير العقل، وجعل ضده الشر، وهو وزير الجهل، والإيمان وضده الكفر، والتصديق وضده الجحود، والرجاء وضده القنوط، والعدل وضده الجور، والرضا وضده السخط،

ص: 287


1- عيون أخبار الرضا 2: 29.

والشكر وضده الكفران، والطمع وضده اليأس، والتوكل وضده الحرص، والرأفة وضدها القسوة، والرحمة وضدها الغضب، والعلم وضده الجهل، والفهم وضده الحمق، والعفة وضدّها التهتك، والزهد وضده الرغبة، والرفق وضده الخرق،والرهبة وضده الجرأة، والتواضع وضده الكبر، والتؤدة(1) وضدها التسرع، والحلم وضدها السفه، والصمت وضده الهذر، والاستسلام وضده الاستكبار، والتسليم وضده الشك، والصبر وضده الجزع، والصفح وضده الانتقام، والغنى وضده الفقر، والتذكر وضده السهو، والحفظ وضده النسيان، والتعطف وضده القطيعة، والقنوع وضده الحرص، والمؤاساة وضدها المنع، والمودة وضدها العداوة، والوفاء وضده الغدر، والطاعة وضدها المعصية، والخضوع وضده التطاول، والسلامة وضدها البلاء، والحب وضده البغض، والصدق وضده الكذب، والحق وضده الباطل، والأمانة وضدّها الخيانة، والإخلاص وضدّه الشوب، والشهامة وضدها البلادة، والفهم وضده الغباوة، والمعرفة وضدّها الإنكار، والمداراة وضدها المكاشفة، وسلامة الغيب وضدها المماكرة، والكتمان وضده الإفشاء، والصلاة وضدها الإضاعة، والصوم وضده الإفطار، والجهاد وضده النكول، والحج وضده نبذ الميثاق، وصون الحديث وضده النميمة، وبرّ الوالدين وضده العقوق، والحقيقة وضدها الرياء، والمعروف وضده المنكر، والستر وضده التبرج، والتقية وضدها الإذاعة، والإنصاف وضده الحمية، والتهيئة وضدها البغي، والنظافة وضدها القذر، والحياء وضدها الجلع، والقصد وضده العدوان، والراحة وضدها التعب، والسهولة وضدها الصعوبة، والبركة وضدها المحق(2)، والعافية وضدها البلاء، والقوام

ص: 288


1- التُؤَدة: الرزانة والتأني - أي عدم المبادرة إلى الأمور بلا تفكر فإنها توجب الوقوع في المهالك.
2- المَحْق: هو النقص والمحو والإبطال.

وضده المكاثرة، والحكمة وضدّها الهواء، والوقار وضده الخفة، والسعادة وضدها الشقاوة، والتوبة وضدها الإصرار، والاستغفار وضده الاغترار، والمحافظة وضدها التهاون، والدعاء وضده الاستنكاف، والنشاط وضده الكسل، والفرح وضدهالحزن، والألفة وضدها الفرقة، والسخاء وضده البخل.

فلا تجتمع هذه الخصال كلها من أجناد العقل إلّا في نبي، أو وصي نبي، أو مؤمن، قد امتحن اللّه قلبه للإيمان، وأما سائر ذلك من موالينا فإن أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود، حتى يستكمل وينقى من جنود الجهل، فعند ذلك يكون في الدرجة العليا مع الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، وإنما يدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده، وبمجانبة الجهل وجنوده، وفقنا اللّه وإياكم لطاعته ومرضاته»(1).

ومن هذا الحديث الشريف يُعرف العاقل عن غيره، فالعقلاء هم الذين أخذوا بجنود العقل، وغير العقلاء من تركها وأخذ بجنود الجهل.

العقلاء هم الناس الذين يستخدمون العقل في المسار الصحيح، ويسخرونه في طريق تكاملهم، وتكامل مجتمعهم وخدمة الناس بما أمر به الشرع، ويبتعدون عن كل ما يلوث العقل، ويبعده عن صوابه، مثل: شرب الخمر وأعمال السوء، وغير ذلك من الأمور المشينة للعقل، والمنافية للتصرف العقلائي الصحيح.

ومن هنا يمكننا معرفة العقلاء وتشخيصهم في الحياة، حيث يلزم أن يعاشر الإنسان العقلاء ويبتعد عن غيرهم، فالعقلاء من كانت تصرفاتهم عقلائية، وغيرهم من كانت تصرفاتهم غير عقلائية.

ص: 289


1- الكافي 1: 20.
قانون المعرفة وطرقها

إن اللّه سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان جعله خاضعاً لقوانين وأنظمة خاصة سن الحياة عليها، ومن تلك القوانين: قانون المعرفة، وقد ذكر الحكماءلمعرفة الأشياء عدة طرق، منها:

قاعدة: أنه تعرف الأشياء بأمثالها، أي: معرفة الشيء بمقارنته بمثله.

وقاعدة: أنه تعرف الأشياء بأضدادها، أي: معرفة الشيء بمقارنته بضده.

فيمكن معرفة بعض الأشياء إما بمقارنته بشيء مثله، أو بمقارنته بشيء ضده، مثلاً: إذا أريد معرفة البياض وشدته، يمكن تعريفه بمقارنته ببياض آخر، وكلاهما يفرّق نور البصر لكن على درجات، أو نعرفه بمقارنته بضده الذي هو السواد، فالسواد قابض للبصر، وهكذا في سائر الأشياء.

وهذه القاعدة تنطبق نوعاً ما على معرفة العقلاء وتصرفاتهم، ومعرفة غير العقلاء وتصرفاتهم.

فإذا أردنا معرفة العقلاء وتشخيصهم في المجتمع والتأريخ، يمكن لنا ذلك وبسهولة فنقارنهم بأضدادهم الذين هم - غير العقلاء - أي: السفهاء والمجانين الذين يمارسون الأعمال الاعتباطية مما يضرون به أنفسهم ويضرون الآخرين به، فإذا وجدنا إنساناً لا يمارس الأعمال الاعتباطية، ولا يضر نفسه، ولا الآخرين فهو من العقلاء. ولا يخفى أن العقل كل العقل هو طاعة اللّه عزّ وجلّ، فإنه أمان من الأضرار والأخطار. وقد روي أنه قيل للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ماالعقل؟ قال: «العمل بطاعة اللّه، وإن العمال بطاعة اللّه هم العقلاء»(1).

وهكذا تكون لدينا صورة واضحة لتشخيص الإنسان العاقل وغير العاقل، عبر

ص: 290


1- روضة الواعظين 1: 4.

التصرفات العقلائية وغير العقلائية، فإن من يقوم بمساعدة المحتاجين وينبه الغافلين، ويدل الناس على الصراط المستقيم، ويحنو على إخوانه ويرعاهمويكون أمينا على أموالهم وأنفسهم وعيالهم، فهو من العقلاء الممدوحين في الناس على طول الخط.

أما من يُعرف - والعياذ باللّه - برذيلة شرب الخمر أو الكذب أو الغيبة أو السفه في تصرفاته، وعدم التوازن في مأكله وملبسه ومعشره، فهو من غير العقلاء.

فمثلاً لو كان هناك والد يهتم بولده ويربيه تربية حسنة ويسعى لإبعاده عن الأمراض والأعراض فإذا أصابته وعكة أو أحس بمرضه أخذه إلى الطبيب واعتنى به حتى يبرء، فإن هذه التصرفات تدل على عقله وأنه من العقلاء.

وإذا رأينا شخصاً قام بالإضرار على أولاده ولم يحسن التصرف في تأديبهم، فإذا ارتكب طفل غير رشيد خطأ، رأيت هذا الوالد في حالة عصبية شديدة هستيرية لا يمكن ردعه عنها فيأخذ السكين فيقطع يد ولده وفلذة كبده!! أو يعمل عملاً يضر بنفسه أو غيره، فهل يسمى هذا عاقلاً وهل يمكن أن يعد من العقلاء؟!!

إن التصرفات العقلائية واللاعقلائية هي التي تبين ببرهان الإنّ(1) مدى عقل الإنسان.

من آثار عدم التعقل

إن الابتعاد عن التصرفات العقلائية يوجب آثاراً سلبية كثيرة، والتاريخ شاهد على ما نقول:

ص: 291


1- ذكر المناطقة أن البرهان قد يكون لمياً وقد يكون إنياً. فإذا وصلنا من العلة للمعلول فهو اللم، وإن وصلنا من المعلول للعلة فالإنّ.

كان أحد الأشخاص الأثرياء، ويعمل بوظيفة مدير لإحدى المدارس، كثير التدخين حتى أضر التدخين به واضطر أن يسافر إلى لندن للعلاج، وقد حذرهالأطباء هناك بأن استمراره في التدخين يوجب السرطان وسيقضي على حياته، والمفروض أن يكون الشخص المثقف في المجتمع يراعي صحته، والمتوقع منه أن يكون قدوة لغيره في التصرفات العقلائية، ولكن هذا الشخص بعد ما أحس بتدهور حالته الصحية، ذهب إلى لندن للمعالجة والفحص العام لحالته البدنية ورجع، فقمنا بزيارته برفقة جمع من الأصدقاء، وبعد تهنأته بسلامة العودة، سألناه عن نتائج الفحص وأسباب تدهور صحته، وعن تشخيص الأطباء لحالته؟

فقال: إن الأطباء المتخصصين قالوا: إن مرضي ناتج عن الإفراط في التدخين، وفي حالة استمراري على التدخين فإني سأصاب بمرض السرطان حتماً، وفي أثناء كلامه هذا أخرج علبة السجائر من جيبه وبدأ بالتدخين!! حينها قال له الجالسون بتعجب: كيف تدخن، ولا تترك التدخين، رغم تحذير الأطباء لك؟!

فأجابهم بلا مبالاة: ليس الأمر مهماً - أي اصابته بالسرطان - !!

وبالفعل بعد فترة قصيرة، سمعنا أنه استفحل عليه المرض بشدة هذه المرة، فذهب إلى لندن للعلاج مرة ثانية، وحين ما عاد من سفره الثاني، وذهبنا لزيارته أيضاً، أخبرنا قائلاً: إن الأطباء يقولون: إن المرض في هذه المرّة تحول وبشكل أكيد إلى سرطان في الرئة، وأني قد لا أعيش وأقاوم هذا المرض أكثر من ستة أشهر!!

وفعلاً، وبعد ستة أشهر ودّع هذا الرجل الدنيا، وذهبنا لحضور تشييع جنازته!!

فهل هذا التصرف مقبول ومعقول من إنسان كان اللازم عليه أن يكون أكثر عقلانياً، بحكم ثقافته ومركزه الوظيفي والاجتماعي، وهل هناك من يمدحه على تصرفه هذا ولا مبالاته واستهانته بصحته التي أنعم بها عليه الباري؟!

ص: 292

فلو كان تصرف هذا الشخص تصرفاً عقلائياً، لما وصل إلى هذه الحالة التي أفقدته حياته بهذه السهولة، صحيح أن الموت والآجال بيد اللّه، ولكنه سبحانهوتعالى جعل لكل شيء سبباً، وعلى الإنسان أن يتبع الأساليب الصحيحة لتدبير أموره والحفاظ على صحته من خلال الالتزام بالعادات الصحية والاجتناب عن العادات السيئة، وامتثال أوامر اللّه تعالى والانزجار والردع عن نواهيه، والباقي على اللّه.

فلو مرض الإنسان يجب عليه أن يهيئ الأسباب لعلاجه كتوفير المال والواسطة، والبحث عن الطبيب الحاذق لكي يعالجه، وما إلى ذلك...

فإذا كانت له القدرة على ذلك ولم يهتم بتوفير الأسباب فسوف يحاسبه اللّه تعالى على تقصيره، فقد روي عن الامام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سببٍ شرحاً، وجعل لكل شرح علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحن»(1).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «قال موسى(عليه السلام): يا رب، من أين الداء؟

قال: مني.

قال: فالشفاء؟ قال: مني.

قال: فما تصنع عبادك بالمعالج؟! قال: يطبب بأنفسهم، فيومئذٍ سمي المعالج: الطبيب»(2).

وسُئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنتداوى؟

ص: 293


1- الكافي 1: 183.
2- وسائل الشيعة 25: 221.

قال: «نعم، فتداووا، فإن اللّه لم ينزل داءً إلّا وقد أنزل له دواء، وعليكم بألبان البقر، فإنها ترعى من كل الشجر»(1).

إذاً، الإنسان الذي لا يسير بسيرة العقلاء ولا يتصرف بالتصرفات العقلائية نراه دائماً يبتلي مع مرور الزمن بأمور هو في غنى عنها وكان يمكن له تجنبها بالسير على سيرة العقلاء، وليس سيرة السفهاء أو المتهورين، وقد قال اللّه تعالى في قرآنه الكريم: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}(2) مشيراً سبحانه وتعالى إلى ضرورة التحلي بالاعتدال واختيار حالة الوسط العقلائية في كل فعل يقوم به، وعمل يقدم عليه، وفكرة يريد تبنيها أو مناقشتها.

الحيوانات ورسائلها

اشارة

ذكر بعض العلماء قصصاً فيها حكم وعبر على لسان الحيوانات، وهذه القصص والحكايات فيها إشارات ودلالات ترمز إلى قضايا مهمة في حياة البشر، ينقل أن دجاجة قالت يوما لأحد أفراخها: إياك أن تقترب من القطة؛ لأنها عدوتك تريد أن تأكلك، فالحذر الحذر منها.

ولكن الفرخ لم يقبل النصحية من أمه وقال: لا يا ماما، إن القطة لاتفعل ذلك، فهي حيوان لطيفة جميلة!! فاقترب يوماً الفرخ من القطة دون مبالاة ودون التفات لتحذير أمه، وإذا بالقطة تمسكته وبسرعة خاطفة بمخالبها، وراحت تأكله قطعة قطعة.

وهكذا يكون الإنسان الذي لا يعتني بعقله، ويتصرف تصرفات غير عقلائية، فإنه يكون مصيره السقوط في الهاوية والعياذ باللّه، ويخسر الدنيا والآخرة، فلا

ص: 294


1- وسائل الشيعة 25: 223.
2- سورة البقرة، الآية: 143.

يكون إنساناً نافعاً لا لنفسه ولا لمجتمعه.

كيفية إنماء العقل

قال اللّه العظيم في محكم كتابه الحكيم: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

وقال تبارك اسمه: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَٰنِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَئًْا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٖ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعَا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ سَلَٰسِلَاْ وَأَغْلَٰلًا وَسَعِيرًا * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٖ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}(2).

وقال تبارك اسمه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَٰعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(3).

إن اللّه سبحانه وتعالى عندما منح الإنسان العقل، منحه لكافة الناس وخلقهم أحراراً يمكنهم الأخذ بما تحكم به عقولهم، كما يمكنهم ترك العقل واتباع الهوى والشيطان.

كما جعل العقل بحيث يمكن تطويره، فالإنسان هو الذي يعمل على تنمية هذه الجوهرة بالأعمال الصالحة والابتعاد عن الأعمال السيئة، أو يعمل على تعطيلها أو تحجرها بالأعمال السيئة والابتعاد عن أعمال الخير.

إن اللّه سبحانه وتعالى خلق يزيد بن معاوية - وغيره من العباد - وخلق لجميعهم العقل، فكل الناس لها من العقل المدرك للخير والشر تكويناً،

ص: 295


1- سورة الإسراء، الآية: 20.
2- سورة الانسان، الآية: 1- 6.
3- سورة فصلت، الآية: 17.

فالصالح تمسك بعقله واهتدى به إلى النور، ولكن الفاسق أخذ بالانحراف عن جادة الحق واتبع طريق الشر والرذائل ولم ينمّ عقله بعمل الخير ومرضات اللّه،فحول عقله الذي أنعم اللّه به عليه إلى نقمةٍ عليه.

العقل وشبيهه

هذا وقد سبق في الروايات: أن العقل ما يكتسب به الجنان، والمقصود أنه لو أخذ بالعقل فهو يوجب له الجنة والرضوان، فلا يقال: إنا نرى الفساق والفجار يتصرفون بعض التصرفات العقلائية، فكيف يتم ذلك بملاحظة الرواية الشريفة؟!

لأننا نقول: إن تمام العقل الذي يصح أن نقول لصاحبه: هو عاقل، هو في اتباعه والسير على جادة الحق، وما دونه ليس بتمام العقل، وإنما هو شبيه بالعقل، ففي رواية عن أبي عبد اللّه الإمام الصادق(عليه السلام) قال: قلت له: ما العقل؟

قال(عليه السلام): «ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان».

قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟

فقال(عليه السلام): «تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهةٌ بالعقل، وليست بالعقل»(1).

وروي أنه مر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمجنون فقال:«ما له؟» فقيل: إنه مجنون، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بل هو مصاب، إنما المجنون من آثر الدنيا على الآخرة»(2).

وهكذا كان يزيد حيث ارتكب أبشع جريمة في التأريخ وأعظم مصيبة في السماوات والأرض بقتله الإمام الحسين(عليه السلام) ريحانة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد عصى اللّه سبحانه وتعالى بذلك، وخسر الدنيا والآخر، وأخّر مجتمعه عن الكمال والتطور والتقدم والخير والفضيلة؛ ونال اللعنة من اللّه ورسوله ومن المؤمنين إلى يوم الدين،

ص: 296


1- الكافي 1: 11.
2- روضة الواعظين 1: 4.

مضافا إلى العذاب الأليم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّۧنَ بِغَيْرِحَقّٖ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(1).

وكذلك قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْخَٰسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ}(2).

كما أنه أخّر وأضر بمجتمعه؛ لأن بعضهم اتبعوه في عمله السيئ، واتخذوه قدوة لهم فخسروا خسراناً كبيراً، حيث قال سبحانه: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}(3).

الإنسان وعمل الخير

أما الإنسان المؤمن الذي يتبع العقل ويتصرف بالتصرفات العقلائية، وينمي عقله بعمل الخير والابتعاد عن المعاصي وعن التصرفات غير العقلائية، فان اللّه يبارك في عمله ويعطيه أجره، حيث قال اللّه تعالى في كتابه العزيز: {بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(4).

فالواجب على الإنسان العاقل أن يتعلم ويعمل قبل أن يسقط في وادي الجهالة والهلكة، وأن يكسب العلم مع العقل، والعمل مع العلم، وحينئذ يصبح نافعاً لنفسه ومجتمعه، ويفوز بسعادة الدارين.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) مخاطباً الشخص الذي كان يتحدث بما لا يليق ويتكلم بفضول الكلام: «يا هذا، إنك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربك، فتكلم

ص: 297


1- سورة آل عمران، الآية: 21.
2- سورة الزمر، الآية: 15.
3- سورة النساء، الآية: 119.
4- سورة البقرة، الآية: 112.

بما يعنيك ودع ما لا يعنيك»(1).

فيدل كلام الإمام(عليه السلام) على لزوم أن ينتبه الإنسان ويعرف أنه قبل أن يخرج الكلام من بين شفتيه... فإن هناك ملكين كريمين يكتبان ما ينطق به كل شخص، ثم يعرضانه على اللّه، وفي هذا الصدد يقول اللّه تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ * كِرَامًا كَٰتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}(2).

ولما كان قول الإنسان تحت المراقبة، فكيف بعمله الذي هو أشد فعلاً وتأثيراً من القول عادة؟! وتشير الآية المباركة إلى هذه الجهة: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} إذاً، لابد من الانتباه والحيطة على أقوالنا وأفعالنا، كما علينا أن نحكم عقولنا في كل أعمالنا لتكون التصرفات عقلائية وبعيدة عن اللا عقلائية، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال أمير المؤمنين: لا تقطعوا نهاركم بكذا وكذا، وفعلنا كذا وكذا؛ فإن معكم حفظة يحصون وعلينا عليكم»(3).

رضا خان والسلطة

إن رضا خان البهلوي أراد أن يتظاهر بحب الإسلام والتدين، ويخفي بذلك حقيقته، حيث إنها كانت على العكس تماماً، وقد حاول عندما تسلّم السلطة أن يكسب عواطف بعض الناس وذلك بزيارته العتبات المقدسة، والتظاهر بالاهتمام بشأن إعمارها - وقام بالتبرع لتعميرها(4)،

وربما أطلق لحيته، أو شارك الناس في مراسيم العزاء الحسيني.

ص: 298


1- من لا يحضره الفقيه 4: 396.
2- سورة الانفطار، الآية: 10- 12.
3- الخصال 2: 613.
4- وهذه سياسة يتخذها أكثر الحكام المستبدين لجلب المحبوبية كما يحدثنا التاريخ عن ذلك في الكثير من الحكّام.

ولكن عندما استقر له الحكم وتوطدت أركانه وبسط سيطرته ظهرت حقيقته وانكشفت نواياه السيئة للإسلام والمسلمين، فوجه ضرباته القاسية على الإسلام والمسلمين بكل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فمثلاً أمر بسنّ قانون السفور، ومنع الحجاب في إيران (هذا القانون الذي لم تعرف له البلاد الاسلامية مثيلاً في كل الأزمنة السابقة في تأريخها، والذي ذهب بسببه الآلاف من الناس المؤمنين، فبعدما اعترض الشرطة النساء المحجبات ومنعوهن من ارتداء الحجاب، حدثت مواجهات في مناطق عديدة من إيران راح ضحيتها عدد كبير من المؤمنين بل وحتى من النساء المؤمنات.

وشهد رضا خان على نفسه - مرة أخرى - أنه عدو للإسلام وللشرع الحنيف، حيث قام بمنع إقامة مجالس عزاء الامام الحسين(عليه السلام) بكل أشكالها - بل وسائر الشعائر الدينية، حتى أنه منع الإيرانيين من الذهاب إلى العتبات المقدسة في العراق وغيره.

كما أنه لم يكتف بسد الأبواب الدينية فقط ومنع مظاهر التدين، بل سعى إلى فتح أبواب الفحشاء والدعارة والبغضاء والمنكرات.

كما قام بأفعاله الإجرامية بمحاربة العلماء والحوزات العلمية، ومنعهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسجنهم أو تبعيدهم إلى مناطق بعيدة عن التجمع والناس.

نعم، كان سلوك رضا خان متناقضاً قبل الحكم وبعده بشدة، فبينما هو يتبنى الدين والتدين قبل حكمه ويتظاهر بتأييده، وإذا به يرفضه ويحاربه بعد استيلائه على مقاليد الحكم؛ فقبل تربعه على كرسي السلطة، كان يشارك في مواكب عزاء فرق الجيش يوم عاشوراء في مراسيم عزاء التطبير وغيره، ويتظاهر بالإيمان والتديّن والحزن والاهتمام بالشعائر الحسينية. كما كان يذهب إلى بيوت العلماء

ص: 299

ويتظاهر بحبهم والاحترام لهم، وهكذا كان في بداية حكمه، حيث كان يتردد أحياناً على منزل المرجع الأعلى الشيخ عبد الكريم الحائري(رحمه اللّه)، ويطلب رسالتهالعملية ويدعّي أنه أحد مقلديه، ولكنه عندما توفي الشيخ الحائري منع حتى من إقامة مجالس الفاتحة على روحه؟!

وهكذا هم الطغاة - غالباً - فحين ما تستتب لهم الأوضاع يشيحون اللثام عن وجههم الحقيقي، ويبدون الخافي من نواياهم الخبيثة، وعداوتهم للإسلام والتشيع والشعائر الحسينية!

واستمات رضا خان في خدمة أسياده الغربيين في محاربة الاسلام وقد أصدر قوانين صريحة منع بموجبها الحجاب، وشجع وأباح التبرج والسفور والفجور! الأمر الذي دفع بالعلماء إلى أن يقفوا في وجهه، ويتخذوا منه موقفاً صارماً معارضاً بكل الوسائل المشروعة الممكنة، ومن هؤلاء وعلى رأسهم كان المرجع الأعلى الشيخ عبد الكريم الحائري(رحمه اللّه)، والمرجع الكبير آية اللّه العظمى السيد حسين القمي وغيرهم.

وفي زمنه حدثت واقعة مسجد (كوهر شاد) بمدينة مشهد المقدسة حيث قتل ألوف الناس فيها(1).

إرادة اللّه فوق كل شيء

وهنا تدخلت إرادة اللّه التي تفوق كل الإرادات وكل التخطيطات، فوضعت حداً لتصرفات رضا خان، فكانت نهايته نهاية مأساوية لكي يكون عبرة لكل الظلمة والطغاة من بعده، فحين ما أخرج رضا خان من إيران، قيل إنه أخذ معه

ص: 300


1- مقتلة قام بها البهلوي الأول في مشهد الإمام الرضا(عليه السلام) في مسجد (كوهر شاد) الملاصق بالحرم الشريف ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف إنسان.

حوالي (2000) حقيبة من المجوهرات والأشياء الثمينة والأثرية والتراثية من ممتلكات الشعب الإيراني.

ولكن وقبل أن يصل رضا خان إلى جزيرة (موريس) - وبعملية مصطنعة - رست السفينة التي كانت تقله إلى منفاه على ساحل إحدى الجزر بحجة عطل محركها، ثم نقل إلى سفينة أخرى، ولما سألهم عن تلك الحقائب والأموال والمقتنيات القيمة؟ قالوا له: إنها ستنقل بعدك إلى سفينتك الجديدة.

إلّا أن الذي حدث أن السفينة الأولى التي نزل منها رضا خان واصلت مسيرها لتنقل معها أموال وثروة المسلمين في إيران إلى (لندن) عاصمة بريطانيا، التي كانت تغتصب - ولا زالت - ثروات المسلمين في كل مكان.

ولما وصل رضا خان إلى جزيرة (موريس) استأجر بيتاً من أحد اليهود هناك، وكان بيتاً عادياً على خلاف ما كان يسكنه في طهران من القصور الفخمة، فذاق البهلوي في سكناه عذاباً كثيراً، وبعد عدة أشهر جاءه اليهودي (صاحب الدار) وأخرجه من الدار، مما اضطره إلى أن يسكن داراً أسوأ من الأولى.

وحين ما عقد مؤتمر في إيران بعد الحرب العالمية الثانية وحضر (تشرشل)، و(ستالين)، قال ستالين للشاه الابن محمد رضا البهلوي: إن والدك يعيش وضعاً متردياً في جزيرة (موريس) لذا أرى أن تطلب من (تشرشل) أن ينقله إلى منطقة أحسن، تكون فيها وسائل عيش وهواء مناسب كأن تكون على سواحل البحر الأسود، فقام - البهلوي - بطلب ذلك من (تشرشل) الذي - حسب الظاهر - لم يبدي ممانعة في ذلك.

ولكن بعد انتهاء جلسات المؤتمر أعطى (تشرشل) الضوء الأخضر لسفيره في إيران بقتل رضا خان خوفاً من روسيا وحصولها على أسرار إيران وبريطانيا منه، فإن ايران كانت تحت الاستعمار البريطاني، فيصبح هذا صيداً ثميناً لروسيا. ولتنفيذ هذا

ص: 301

الأمر ذهب شخص إنجليزي إلى جزيرة (موريس) واستطاع أن يقتل رضا خان بزرقه إبرة خاصة مات على اثرها. وهكذا يكون مصير الطغاة من الذل والهوان.

طغيان المتوكل

وفي التاريخ أن المتوكل العباسي وكان من أشد الطغاة وأظلمها، أمر بالهجوم ليلاً على دار الإمام علي الهادي(عليه السلام) حيث أنه سعي إلى المتوكل وقيل له بأن في منزل الإمام كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنه عازم على الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا داره ليلا، فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوا الإمام في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصى خاضعاً خاشعاً لله عزّ وجلّ، يتلو آيات من القرآن، فحملوا الإمام(عليه السلام) على حاله تلك إلى المتوكل، وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشرب، فدخل عليه - الإمام(عليه السلام) - والكأس في يد المتوكل، فلما رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه، وأراد أن يناوله الكأس التي كانت في يده!! فقال الإمام(عليه السلام): «واللّه ما يخامر لحمي ودمي قط»فقال - المتوكل - : أنشدني شعرا؟ فقال(عليه السلام): «إني قليل الرواية للشعر». فقال: لا بد. فأنشده(عليه السلام) وهو جالس عنده:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم *** غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم *** وأسكنوا حفراً يا بئسما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد دفنهم *** أين الأساور والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعمة *** من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم *** تلك الوجوه عليها الدود تقتتل

قد طال ما أكلوا دهراً وقد شربوا *** وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا

ص: 302

فبكى المتوكل حتى بلت لحيته دموع عينيه وبكى الحاضرون، وضرب المتوكل بالكأس على الأرض، وتنغص عيشه في ذلك اليوم... ثم دفع إلى الإمامالهادي(عليه السلام) أربعة آلاف دينار، ورده إلى منزله مكرماً(1).

نعم هكذا تكون تصرفات الطغاة غير عقلائية وبذلك يهلكون أنفسهم ويهلكون الآخرين.

عبرة لذوي العقول

اشارة

قال الإمام الصادق(عليه السلام) للمفضل: «يا مفضل، لا يفلح من لايعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف يَنجُبُ من يفهم(2)، ويظفر من يحلم، والعلم جُنة، والصدق عز، والجهل ذل، والفهم مجد، والجود نجح، وحسن الخلق مجلبة للمودة، والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس» - إلى أن قال(عليه السلام): - «ومن خاف العاقبة تثبت عن التوغل فيما لا يعلم، ومن هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه، ومن لم يعلم لم يفهم، ومن لم يفهم لم يسلم، ومن لم يسلم لم يُكرم، ومن لم يُكرم يهضم، ومن يهضم كان ألوم، ومن كان كذلك كان أحرى أن يندم»(3).

نعم، إن تصرفات رضا خان غير العقلائية ونهايته المأساوية، وكذلك حال الطغاة في كل عصر ومصر، يجب أن تكون عبرة لكل ذي لب، وللحكام وأصحاب السلطة - خاصة - حيث عليهم أن يفكروا بما كانت نهاية رضا خان

ص: 303


1- راجع بحار الأنوار 50: 211.
2- النجيب: الفاضل النفيس في نوعه، والمراد أنه من يكون ذا فهم فهو قريب من أن يصير عالماً بما يجب عليه وما ينبغي بعقله والتدبر فيه. وقيل: لأن الفهيم بنور فهمه يميز بين الحق والباطل، وبين الصفات الحسنة والقبيحة، فهو بمرور الأيام يكتسب المحاسن ويجتنب الرذائل، ويصير عالماً فاضلاً غالباً على النفس وقواها، حتى يصير نجيباً في الدنيا والأخرة.
3- الكافي 1: 29.

وغيره من الظلمة، من ذل في الدنيا، وجحيم في الآخرة، قال اللّه سبحانه وتعالى:{فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَءَاثَرَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}(1).

وكذلك هي عبرة لعامة الناس، إذ يلزم عليهم أن ينتبهوا حتى لايمكّنوا السلاطين من رقابهم وأنفسهم وأموالهم، ولا ينخدعوا بأقوالهم؛ لأن أغلب الحكّام في بادئ الأمر يمني الناس ويشاركهم في أفراحهم وأحزانهم ويملئ عليهم الوعود، ولكن عندما يحكم سيطرته على الحكم، ينقض وعوده ويتحكم في مصيرهم بأهوائه، كما سجّل ذلك تاريخ الملوك والسلاطين.

التصرف غير العقلائي في العراق

عندما جاء النظام الحالي - نظام البعث العفلقي - في العراق(2) كانت هناك أحزاب وحركات تنافسه على السلطة، ومنها الحزب الشيوعي، ولكن بما أن مبدأ الشيوعية كان مرفوضاً في المجتمع الإسلامي، فان الشعب العراقي شعب مسلم فرفضه ورفض مبادءه(3)، فجاء حزب البعث بأسلوب جديد لكي يتقرب من أبناء

ص: 304


1- سورة النازعات، الآية: 37- 39.
2- أي حال كتابة هذا الكتاب.
3- فقد وصلت الشيوعية إلى البلاد الإسلامية ومنها العراق، وتغلغلت الأفكار الشيوعية بين أوساط البسطاء من الجماهير في العراق عبر عملاء الاستعمار, الذين طبّلوا وزمروا كثيراً لتلك الأفكار المزيفة والشعارات الفارغة، فأخذ كثير من السذج والبسطاء من الناس يطالبون بتحقيق ما يسمى بالعدالة الاجتماعية وفق مبدأ الشيوعية، وعلى إثر ذلك شعر الإمام الراحل(رحمه اللّه) - الذي كان عمره الشريف لم يتجاوز الثلاثين - والكثير من العلماء بمسئوليتهم تجاه تلك الأفكار الفاسدة والآراء المنحرفة، فتصدوا لها عبر وسائل عديدة، موضحين أن الإسلام وحده هو القادر على تحقيق العدالة الاجتماعية. وقد ذكر الإمام الراحل(رحمه اللّه) مساوئ ومخازي الشيوعية والشيوعيين وبعض الأساليب التي اتبعها في مواجهة الشيوعية، وذلك في كتابه (تلك الأيام) و(موسوعة الفقه، السياسة: المجلد 106)، وكتاب (مباحثات مع الشيوعيين)، و(القوميات في خمسين سنة)، و(ماركس ينهزم)، وغيرها.

الشعب، رافعاً شعار الدين الذي كان أمل الشعب، وشعار القومية وما إلى ذلكمن الشعارات التي أراد بها تضليل الشعب. وفعلاً، انخدع بعض أفراد الشعب فساندوا هذا الحزب حتى تمكن قادته وأزلامه من خطف السلطة والحكم، وعندما استلم السلطة تحكم في مصير أبناء هذا الشعب أسوأ تحكم، فصادر حرياته وملأ السجون بالمعارضين له من كل أبناء العراق وقتل الملايين وشرّد الملايين.

مجيء الحكومة البعثية

لم يكن مجيء حكومة البعثيين العفالقة إلى السلطة في العراق يتبع أي تصرف عقلائي، حيث لم تتبع أي موازين مشروعة ومقبولة ومتعارفة، كالانتخابات العقلائية الموجودة في العالم، لذا كانت هذه الحكومة مكروهة من الشعب، مرفوضة من قبل العقلاء، لأسباب كثيرة نوجزها بما يلي:

أولاً: أتت إلى السلطة دون رغبة الشعب، ودون علمه بواقعها الحقيقي، الكامن خلف الشعارات الزائفة، لأن البعثيين جاءوا تحت جنح الظلام، وخطفوا الحكم بالانقلاب العسكري المدعوم من قبل الغرب ومن خلال الدبابة والبندقية، ولم يكن مجيئهم عبر أساليب حرة كأن ينتخبها الشعب العراقي، فإن الأصل في انتخاب الحكومة - بالنسبة إلى عصر الغيبة - هو انتخاب الشعب(1).

ثانياً: سيطرة الأقلية على الأكثرية ظلماً واستبداداً، حيث جاءت هذه الفئة

ص: 305


1- ذلك لأن الحكومة إنما كانت وتكون لتنظيم أمور الناس اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وغير ذلك من الأمور الحياتية. وعلى الشعب أن يختاروا - طبعاً بالاختيار العقلائي الناضج - من يدير شؤونهم، هذا في غير المعصوم(عليه السلام) الذي هو منصوب من قبل اللّه تعالى، كما هو واضح.

القليلة إلى السلطة لتحكم الأكثرية دون أي حق قانوني أو شرعي أو عقلي لهم؛لأن أقلية من الشعب العراقي هي التي استأثرت بالحكم وموارده المالية الضخمة وامتيازاته العالية، وهذا ينافي التشكيلة السكانية للشعب العراقي والقوانين العادلة، لأن جميع القوانين الإسلامية والقوانين الوضعية الديمقراطية الحديثة، تتفق على أنّ الحق القانوني يلزم أن تكون الحكومة لمن يمثل أكثرية الشعب! والعراق ينقسم من حيث التركيبة السكانية إلى أغلبية من (المسلمين الشيعة) إذ يمثلون حوالي (85%) من تركيبة هذا الشعب، الذين هم محرومون من أغلب حقوقهم المشروعة في الحكم منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، كإستلام المناصب العليا في الدولة، بل هم محرومون حتى من نشر ثقافتهم وأفكارهم الدينية والعمل بشعائرهم العبادية، إذ تُملى عليهم عقائد غيرهم التي لا يؤمنون بها وبالفرض كما يلاحظ ذلك في الكتب المدرسية وفي الإعلام وغيرهما، وهم محرومون أيضاً من حرية إبداء الرأي، ومن ممارسة شعائرهم الدينية، وما إلى ذلك من الحقوق التي يجب أن تكون لهم.

ويتكون هذا الشعب - أيضاً - من أقلية من (المسلمين السنة) الذين يشكلون ما نسبته (12%) من الشعب العراقي، ولكن نرى أن بيدهم كل المناصب الحساسة في الدولة، وأقلية من (المسيحيين) و(الصابئة) و(الإيزيديين) الذين يشكلون (3%) من الشعب.

لذا فإن الوضع العقلائي المفروض تحققه بالنسبة إلى الشعب العراقي هو أن يكون مستقبل الحكومة في العراق للأغلبية، أي للمسلمين الشيعة، ويضمن لباقي الأقليات حقوقهم كاملة أيضاً، بمعنى أن يكون رئيس الدولة من الأغلبية وكذلك سائر المناصب الوزارية وغيرها، نعم هناك تمثيل للأقليات في البرلمان وما أشبه بما لا ينافي حق الأكثرية ويضمن حق الأقلية لهم، وهذا فقط هو الذي

ص: 306

يضمن الأمن والاستقرار في العراق ويتماشى مع القانون والعقل والشرع(1).

الحكومات غير الشرعية

الحكومات عادة تسير على خلاف العقلانية، والحكام عادة يسيرون على الهوى، ومن هنا ترى الظلم والجور والفساد والإفساد في كل مكان.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة له: «... فصبرت، وفي العين قذًى وفي الحلق شجاً(2)،

أرى تراثي نهباً، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلانٍ بعده، - ثم تمثل بقول الأعشى: -

شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابر(3)

فيا عجباً!! بينا هو يستقيلها(4)

في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لَشَدَّ ما تشطّرا(5) ضرعيها، فصيرها في حوزةٍ خشناء، يغلظ كَلْمُها ويخشن مسها، ويكثر

ص: 307


1- للتفصيل راجع كتاب: (الشيعة والحكم في العراق) للإمام الراحل(رحمه اللّه).
2- الشّجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه، والتراث: الميراث.
3- في رسائل الشريف المرتضى 2: 109: هذا البيت لأعشى قيس من جملة قصيدة، أولها: علقم ما أنت إلى عامر *** الناقض الأوتار والواتر فأما حيان أخو جابر، فهو رجل من بني حنيفة، فأراد ما أبعد ما بين يومي على كور المطية أدأب وأنصب في الهواجر والصنابر وبين يومي وادعاً قاراً منادماً لحيان أخي في نعمة وخفض وأمن وخصب. وروي: أن حيان هذا كان شريفاً معظماً عتب على الأعشى، كيف نسبه إلى أخيه وعرفه به؟! واعتذر الأعشى أن القافية ساقته إلى ذلك. والغرض في تمثيله (صلوات اللّه عليه) بهذا البيت، تباعد ما بينه(عليه السلام) وبيت القوم، لأنهم قلدوا بآرائهم ورجعوا بطلابهم، وظفروا بما قصدوه واشتملوا على ما اعتمدوه. وهو(عليه السلام) في أثناء ذلك كله مجفو في حقه مكمد من نصيبه، فالبعد كما رآه عنهم، واختلاف شديد والاستشهاد بالبيت واقع في موقعه ووارد في موضعه.
4- يستقيلها: يطلب إعفاءه منها بمعنى الاستقالة.
5- تشطّراْ: اقتسماه فأخذ كل منهما شطراً، وكَلْمُها: جرحها.

العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة(1) إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر اللّه بخبطٍ(2)

وشماسٍ وتلونٍ واعتراضٍ، فصبرتُ على طول المدة وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعةٍ، زعم أني أحدهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر!! لكني أسففت(3) إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، فصغا رجلٌ منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهنٍ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً(4) حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون(5) مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته...»(6).

وقال(عليه السلام) في خطبة أخرى وفيها يصف زمانه بالجور، ويقسِّم الناس فيه خمسة أصناف، ثم يزهد في الدنيا: «أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دهرٍ عنودٍ وزمنٍ كنودٍ(7) يعد فيه المحسن مسيئاً، ويزداد الظالم فيه عتواً لا ننتفع بما علمنا،

ص: 308


1- الصعبة من الإبل: ما ليست بذبول، وأشنق لها بالزمام: إذا جذبه إلى نفسه وهو راكب ليمسكها عن الحركة العنيفة، والخَرَم: قطع. وأسلس: أرخى، وتقحَّم: رمى بنفسه في القحمة أي الهلكة.
2- خَبْط: سير على غير هُدى، والشِّماس: إباء ظهر الفرس عن الركوب، الاعتراض: السير على غير خط مستقيم، كأنه يسير عرضاً في حال سيره طولاً.
3- أسفَّ الطائر: دنا من الأرض، صغا صغواً وصغى صغياً: مال، الضغن: الضغينة والحقد.
4- نافجاً حضنيه: رافعاً لهما، والحضن: ما بين الإبط والكشح، يقال للمتكبر: جاء نافجاً حضنيه، والنثيل: الروث وقذر الدواب المعتلف: موضع العلف.
5- الخَضْم: أكل الشيء الرطب، وانتكث عليه فتلُهُ: انتقض، وأجهز عليه عمله: تمّم قتله، وكَبَت به: من كبابه الجواد إذا سقط لوجهه. والبِطنة: البطر والأشر والتخمة.
6- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 3 من خطبة له(عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية، وتشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها، ثم مبايعة الناس له.
7- الكنود الكفور، يقال: كند النعمة إذا كفرها فهو كنود، ومنه إمرأة كنود، و: «أصبحنا في زمن كنود» أي: لا خير فيه.

ولانسأل عمّا جهلنا، ولا نتخوف قارعةً حتى تحل بنا.

والناس على أربعة أصنافٍ: منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلّا مهانة نفسه، وكلالة(1) حده ونضيض وفره(2)، ومنهم المصلت لسيفه والمعلن بشره، والمجلب بخيله ورجله، قد أشرط نفسه(3) وأوبق دينه لحطامٍ ينتهزه، أو مقنبٍ(4) يقوده أو منبرٍ يفرعه(5)، ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً، ومما لك عند اللّه عوضاً. ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامَن(6) من شخصه وقارب من خطوه، وشمّر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة، واتخذ ستر اللّه ذريعةً إلى المعصية. ومنهم من أبعده عن طلب الملك ضئولة نفسه(7)، وانقطاع سببه، فقصرته الحال على حاله، فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس أهل الزهادة، وليس من ذلك في مراحٍ(8) ولا مغدًى.

وبقي رجالٌ، غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريدٍ ناد(9)، وخائفٍ مقموعٍ(10)، وساكتٍ مكعومٍ(11)، وداعٍ مخلصٍ

ص: 309


1- كلالة حدّه: يقال كلَّ السيف كلالة إذا لم يقطع.
2- قلة ماله، فالنضيض القليل، والوفر المال.
3- أشرط نفسه: هيأها وأعدها للشر والفساد في الأرض، وأو بق دينه: أهلكه.
4- المقنب: طائفة من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين.
5- فرع المنبر: علاه.
6- طامَن: خفض.
7- ضُؤولة النفس: حقارتها.
8- مَرَاح: إذا ذهب في العشي، والمغدى: إذا ذهب في الصباح.
9- الناد: المنفرد الهارب من الجماعة.
10- المقموع: المقهور.
11- المكعوم: من كعم البعير، شد فاه لئلا يأكل أو يعض.

وثَكلان(1) موجعٍ، قد أخملتهم التقية وشملتهم الذلة، فهم في بحرٍ أجاجٍ، أفواههم ضامزة(2)، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملّوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا.

فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ(3)، وقراضة الجلم(4). واتعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمةً، فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم»(5).

نعم، هذه الدنيا في زمان أمير المؤمنين(عليه السلام).

وذكر أن معاوية بن أبي سفيان قال يوماً لعمرو بن العاص - بما معناه - : أنا كنت أستحق الوصول إلى السلطة والحكم لذا صرت خليفة.

فقال له عمرو بن العاص: ليس الأمر هكذا؛ بل إن الصحيح إنك ما كنت تحصل على ذلك لولا أن الناس كانوا جهّالاً، أي: لا يعقلون، وسأثبت لك ذلك بالدليل.

وفي يوم من الأيام قام عمرو بن العاص بعد الصلاة، والتفت إلى الناس قائلاً: لقد سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إن اليقطين يحتاج إلى التذكية الشرعية، فهي تذبح كما تذبح الشاة!! وبعد أن عادا إلى الصلاة وهما - معاوية وعمر - في الطريق شاهدا الناس واقفين صفوفاً على أبواب ودكاكين القصابين الذين كانوا قد

ص: 310


1- ثكلان: حزين، وأخمله: أسقط ذكره حتى لم يعدله بين الناس نباهة.
2- ضامزة: ساكتة.
3- القَرَظ: ورق السلم، أو ثمر السنط يدبغ به.
4- الجَلَم: مقراض يجز به الصوف، وقراضته: ما يسقط منه عند القرض والجز.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 32 من خطبة له(عليه السلام) يصف زمانه بالجور، ويقسم الناس فيه خمسة أصناف، ثم يزهد في الدنيا.

شرعوا في قطع رأس اليقطين وكأنه يذبح كما تذبح الأغنام!!

إذاً، هذا العمل - وغيره - من الناس يدلّ دلالة واضحة على أن الأكثرية في زمن معاوية كانوا جهالاً وتصرفاتهم غير عقلائية، حتى وصلت بهم الحال إلى مقارنة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بمعاوية، وأي مقارنة ظالمة هذه التي تقارن بين أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي اتخذ الحكم لإقامة الحق وإبطال الباطل وخدمة الرعية، وبين معاوية الذي كان يأخذ البريء بذنب الآثم أو الجاني، وكان مسرفاً في البذخ والمتعة له ولزبانيته وبطانته، فيجعله قدوة لمن يقتدون به في السرف والمغالاة(1).

ص: 311


1- قال العلامة الأميني(رحمه اللّه) في موسوعته الرائعة (الغدير في الكتاب والسنة) 2: 117: قال الإسحاقي في (لطايف أخبار الدول) 41: كتب معاوية إلى عمرو بن العاص: إنه قد تردد كتابي إليك بطلب خراج مصر، وأنت تمتنع وتدافع ولم تسيره، فسيره إلي قولاً واحداً وطلباً جازماً، والسلام. فكتب إليه عمرو بن العاص جواباً وهي القصيدة الجلجلية المشهورة التي أولها: معاوية الفضل لا تنس لي *** وعن نهج الحق لا تعدل نسيت احتيالي في جلق *** على أهلها يوم لبس الحلي؟ وقد أقبلوا زمرا يهرعون *** ويأتون كالبقر المهل ومنها أيضاً: ولولاي كنت كمثل النساء *** تعاف الخروج من المنزل نسيت محاورة الأشعري *** ونحن على دومة الجندل؟ وألعقته عسلاً بارداً *** وأمزجت ذلك بالحنظل ألين فيطمع في جانبي *** وسهمي قد غاب في المفصل وأخلعتها منه عن خدعة *** كخلع النعال من الأرجل وألبستها فيك لما عجزت *** كلبس الخواتيم في الأنمل ومنها أيضاً: ولم تك واللّه من أهلها *** ورب المقام ولم تكمل وسيرت ذكرك في الخافقين *** كسير الجنوب مع الشمأل نصرناك من جهلنا يا بن هند *** على البطل الأعظم الأفضل وكنت ولن ترها في المنام *** فزفت إليك ولا مهر لي وحيث تركنا أعالي النفوس *** نزلنا إلى أسفل الأرجل وكم قد سمعنا من المصطفى *** وصايا مخصصة في علي ومنها أيضاً: وإن كان بينكما نسبة *** فأين الحسام من المنجل؟ وأين الثريا وأين الثرى؟ *** وأين معاوية من علي؟ فلما سمع معاوية هذه الأبيات لم يتعرض له بعد ذلك. انتهى.

وهذا هو معاوية يقر بعدم تعقل أبناء مملكته عندما بعث برسالة إلى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قائلاً: أنا أقاتلك بمائة ألف رجل ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل.

فقد روي: أن رجلاً من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفين، فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين. فارتفع أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بينة يشهدون أنها ناقته!! فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه فقال الكوفي: أصلحك اللّه إنه جمل وليس بناقة؟! فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه وبره وأحسن إليه، وقال له: أبلغ علياً ((عليه السلام)) أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل.

ولقد بلغ من أمرهم في طاعتهم لمعاوية، أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رؤسهم عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص: إن علياً((عليه السلام)) هو الذي قتل عمار بن ياسر حين

ص: 312

أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي(عليه السلام) سنة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير(1).

نعم، هذا هو حال أغلب الناس في زمن معاوية.

أما في زماننا هذا، فقد وصلت حالة عدم التعقل عند بعض الناس إلى شبه ما كان في الماضي وربما أسوأ، فترى بعض الناس يمجد ويرفع شخصاً جاهلاً مجرماً منحرفاً لا يدخر وسعاً في انتهاك الحرمات وارتكاب الظلامات، فينعتونه بنعوت ما أنزل اللّه بها من سلطان، ذلك هو صدام التكريتي الذي وصلت القباحة بأحد الأشخاص المدعين للأدب بأن يقول - ممتدحاً عبارة قالها هذا الطاغية - : هذه العبارة من نصوص الرئيس ذات صياغة متميزة، ستبقى أحاديثه وخطبه آيات مشرفة!!

وصدام نفسه لا يعقل ولا يصدق بأنه في يوم من الأيام يأتي مثل هؤلاء فينعتونه بهذه النعوت، لكنهم قالوا فيه ما قالوا وقدّسوا شخصه ومجدوا حزبه، ووصفوه بمحاسن ليست فيه، جهلاً منهم ورياءً!!

وهذه التصرفات غير العقلائية من الناس تكون سبباً لاستمرارية الطغيان.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة. اللّهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه، اللّهم المم به شعثنا، واشعب به صدعنا، وارتق به فتقنا، وكثر به قلتنا، وأعزز به ذلتنا، وأغن به عائلنا»(2) برحمتك يا أرحم الراحمين.

ص: 313


1- الغدير 10: 195.
2- تهذيب الأحكام 3: 111.

من هدي القرآن الحكيم

دور العقل

قال اللّه تعالى اسمه: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(3).

مدح العقلاء بتصرفاتهم العقلائية

قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(4).

وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6).

ذم التصرفات غير العقلائية

قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}(7).

ص: 314


1- سورة البقرة، الآية: 242.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- سورة آل عمران، الآية: 190.
4- سورة الفرقان، الآية: 67.
5- سورة الزمر، الآية: 17-18.
6- سورة آل عمران، الآية: 7.
7- سورة الحشر، الآية: 14.

وقال عزّ وجلّ: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(1).وقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَئًْا وَلَايَهْتَدُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(3).

مدح التفكر والاعتبار

قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(5).

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَٰبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا

ص: 315


1- سورة الملك، الآية: 10.
2- سورة البقرة، الآية: 170.
3- سورة الفرقان، الآية: 44.
4- سورة آل عمران، الآية: 190- 191.
5- سورة الجاثية، الآية: 13.
6- سورة النحل، الآية: 10- 11.

كَثِيرًا}(1).

ذم عدم التعقل

وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

دور العقل والتعقل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العقل: «أول ما خلق اللّه العقل»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقل فضيلة الإنسان»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العقل دليل المؤمن»(6).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «من لم يكن عقله أكمل ما فيه، كان هلاكه من أيسر ما فيه»(7).

مدح العقلاء بتصرفاتهم العقلائية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العاقل من أطاع اللّه، وإن كان ذميم المنظر حقير

ص: 316


1- سورة البقرة، الآية: 269.
2- سورة الأنفال، الآية: 22.
3- سورة الأنعام، الآية: 32.
4- الجواهر السنية: 145.
5- عيون الحكم والمواعظ: 27.
6- الكافي 1: 25.
7- بحار الأنوار 1: 94.

الخطر»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العاقل إذا سكت فكر، وإذا نطق ذكر، وإذا نظراعتبر»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العاقل من كان ذلولاً عند إجابة الحق، منصفاً بقوله... يترك دنياه، ولا يترك دينه»(3).

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفر(عليهما السلام): «إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض»(4).

ذم التصرفات غير العقلائية

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في يصف بني أمية وهم من أظهر مصاديق غير العقلاء والمنحرفين:

«ليتأس صغيركم بكبيركم وليرأف كبيركم بصغيركم، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية؛ لا في الدين يتفقهون ولا عن اللّه يعقلون، كقيض(5) بيضٍ في أداحٍ، يكون كسرها وزراً، ويخرج حضانها شراً، افترقوا بعد ألفتهم وتشتتوا عن أصلهم، فمنهم آخذٌ بغصنٍ، أين ما مال مال معه، على أن اللّه تعالى سيجمعهم لشر يومٍ لبني أمية، كما تجتمع قزع(6) الخريف، يؤلف اللّه بينهم، ثم يجمعهم

ص: 317


1- كنز الفوائد 1: 55.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 97.
3- بحار الأنوار 1: 130.
4- الكافي 1: 17.
5- القَيْض: القشرة العليا اليابسة على البيضة، والأداحي - جمع أدحي - وهو مبيض النعام في الرمل تدحوه برجلها لتبيض فيه.
6- القَزَع: القطع المتفرقة من السحاب واحدته قزعة بالتحريك.

ركاماً(1) كركام السحاب، ثم يفتح لهم أبواباً يسيلون من مستثارهم، كسيل الجنتين، حيث لم تسلم عليه قارةٌ، ولم تثبت عليه أكمةٌ(2)، ولم يرد سَنَنَه رص طودٍ، ولا حداب أرضٍ، يذعذعهم(3) اللّه في بطون أوديته، ثم يسلكهم ينابيع في الأرض، يأخذ بهم من قومٍ حقوق قومٍ، ويمكن لقومٍ في ديار قومٍ، وأيم اللّه، ليذوبن ما في أيديهم بعد العلو والتمكين كما تذوب الألية على النار.

أيها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقو من قوي عليكم، لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل. ولعمري، ليضعّفنّ(4) لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى، ووصلتم الأبعد. واعلموا، أنكم إن اتبعتم الداعي لكم سلك بكم منهاج الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكفيتم مئونة الاعتساف(5) ونبذتم الثقل الفادح عن الأعناق»(6).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لايعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصد عنه»(7).

ص: 318


1- الرُكام: السحاب المتراكم، والمستثار: موضع انبعاثهم ثائرين، وسَيل الجنتين: هو الذي سماه اللّه سيل العَرَم الذي عاقب به قوم سبأ، والقارة: ما اطمأن من الأرض.
2- الأَكَمَة: غليظ من الأرض يرتفع عمّا حواليه، وسَنَنَه: طريقه، وطود مرصوص: أي جبل شديد التصاق الأجزاء بعضها ببعض. والحداب - جمع حَدَب - : ما غلظ من الأرض في ارتفاع.
3- يذعذعهم: يفرقهم.
4- ليضعّفنّ لكم التيه: لتزادنّ لكم الحيرة أضعاف ما هي لكم الآن.
5- الاعتساف: سلوك غير الطريق.
6- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 166 من خطبة له(عليه السلام).
7- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 87 من خطبة له(عليه السلام) وهي في بيان صفات المتقين وصفات الفساق والتنبيه الى مكان العترة الطيبة(عليهم السلام).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من أُعجب بفعله أصيب بعقله»(1).

وقال(عليه السلام): «إن أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان: رجل وكله اللّه إلى نفسه، فهوجائر عن قصد السبيل، مشغوف(2) بكلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته، وبعد وفاته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته.

ورجل قَمَشَ(3) جهلاً مُوضِعٌ في جهال الأمة، عاد(4) في أغباش الفتنة عمٍّ بما في عقد الهدنة قد سماه أشباه الناس: عالماً، وليس به بكر، فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من ماء آجن(5)، واكتثر من غير طائل، جلس بين الناس قاضياً ضامناً، لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً رثا من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خَبّاطُ(6) جهالات، عاش ركاب عَشَوَات، لم يعض على العلم بضرس قاطع، يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم، لا ملي(7) واللّه بإصدار ما ورد عليه، ولا أهل لما قُرِّظ به(8)، لا يحسب العلم في

ص: 319


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 612.
2- المشغوف بشيء: المولع به حتى بلغ حبه شغاف قلبه، وهو غلافه.
3- قَمَشَ جهلاً: جمعه، وأصل القمش جمع المتفرق.
4- عاد: جار بسرعة، من عدا يعدو إذا جرى، وأغباش - جمع غَبَش = : أغباش الليل: بقايا ظلمته، وعَمٍّ: وصف من العمى والمراد: الجاهل.
5- الماء الآجن: الفاسد المتغيّر اللون والطعم.
6- خبّاط: صيغة المبالغة من خبط الليل إذا سار فيه على غير هُدى، وعاشٍ: خابط في الظلام.
7- الملي بالشيء: القيّم به الذي يجيد القيام عليه.
8- ولا أهلٌ لما قُرِّظ به: مدح.

شي ء مما أنكره، ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهباً لغيره، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعجّ(1) منه المواريث، إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهالاً و يموتون ضلالاً، ليس فيهم سلعة أبور(2) من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا سلعة أنفق(3) بيعاً ولا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حرف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر»(4).

مدح التعقل والتفكر

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما يدرك الخير كله بالعقل...»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «دعامة الإنسان العقل، ومن العقل: الفطنة والفهم والحفظ والعلم...»(7).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «لكل شيء دليل، ودليل العاقل التفكر، ودليل التفكر الصمت»(8).

ص: 320


1- العَجّ: رفع الصوت، وعجّ المواريث هنا: تمثيل لحدة الظلم، وشدة الجور.
2- أبْوَر: - من بارت السلعة - كسدت.
3- أنفَق: - من النَّفاق - وهو الرواج.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 17 من كلام له(عليه السلام) في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل.
5- تحف العقول: 54.
6- كنز الفوائد 1: 200.
7- علل الشرائع 1: 103.
8- تحف العقول: 386.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقل ينبوع الخير»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقليكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره...»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لاينتفع بشيء إلّا به العقل الذي جعله اللّه زينة لخلقه ونوراً لهم...»(3).

ص: 321


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 41.
2- الكافي 1: 25.
3- الكافي 1: 28.

التكامل والشمولية في الشريعة الإسلامية

شمولية الشريعة الإسلامية

تمتاز الشريعة الإسلامية بتكاملها وشموليتها لجميع مناحي الحياة.

قال اللّه تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}(1).

وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}(3).

وقال تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(4).

إن الشريعة الإسلامية التي نزلت من عند اللّه تعالى على قلب نبيّنا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتضمّنتها آيات القرآن الحكيم وبينتها السيرة الشريفة هي خاتمة الشرائع السماوية وأكملها، وتكون باقية إلى يوم القيامة؛ وذلك لأنها هي المنهاج القويم للبشرية جمعاء؛ ولأنها قد امتازت من بين الشرائع السماوية بالشمول

ص: 322


1- سورة الشورى، الآية: 13.
2- سورة الجاثية، الآية: 18.
3- سورة المائدة، الآية: 48.
4- سورة المائدة، الآية: 3.

والدوام، فهي شاملة لجميع أبعاد الحياة من سياسة واقتصاد، وحقوق واجتماع، وعباداتومعاملات، وأخلاق وآداب، وعقائد وأحكام، وغير ذلك.

قال اللّه تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ}(1).

وقال سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَٰهُ فِي إِمَامٖ مُّبِينٖ}(2).

وهذه الشريعة المقدسة متضمنة على مبادئ إنسانية راقية، مثل: إطلاق الحريات بأنواعها المشروعة، كحرية الفكر والعقيدة، وحرية التجارة والزراعة، وحرية السفر والإقامة، وحرية الكسب والعمل، وحرية التجمع والرأي، وحريات كثيرة أخرى غير ذلك، ما عدا المحرمات التي نهى اللّه تعالى ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنها وهي قليلة جداً بالنسبة إلى المحللات، وقد منع اللّه عنها لمصلحة البشر نفسه، قال اللّه تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3).

وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(4).

كما تتضمن الشريعة الإسلامية على مبادئ حيوية، كمبدأ المساواة وعدم التفرقة بين الناس، مساواة عادلة مبتنية على إلغاء الفوارق الوهمية التابعة للشكل

ص: 323


1- سورة الأنعام، الآية: 59.
2- سورة يس، الآية: 12.
3- سورة الأعراف، الآية: 157.
4- سورة البقرة، الآية: 185.

واللغة، والانتساب واللون، والعرق والدم. وفيها أيضا مبادئ احترام الغير والأخذبمدأ الاستشارة والشورى ووضع حدود للسلطة الحاكمة.

قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَٰبِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَٰنِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(3).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ}(5).

وقال سبحانه: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(6).

كما أن الشريعة الإسلامية تنظم كل ما يرتبط بحياة الفرد كالأحوال الشخصية وغيرها، وتلبي جميع متطلباته وكل حاجياته، الفطرية والعقلية والروحية والجسمية، وذلك في حدودها المشروعة والمعقولة، وتنظم حياة الجماعة أيضاً، كما في شؤون الحكم والإدارة والسياسة، وتهتم بشؤون المجتمع وسعادته وتهيئة

ص: 324


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- سورة الحجرات، الآية: 11.
3- سورة الشورى، الآية: 38.
4- سورة المائدة، الآية: 55.
5- سورة المائدة، الآية: 99.
6- سورة النحل، الآية: 35.

الأجواء الصالحة والمناسبة لتقدّمه ورُقيّه.

قال اللّه تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ الْأُمُورِ}(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيئ غيره»(2).

وقال(عليه السلام): «ما خلق اللّه حلالاً ولا حراماً إلّا وله حد كحدّ الدور، وإن حلال محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ولأن عندنا صحيفة طولها سبعون ذراعاً، وما خلق اللّه حلالاً ولا حراماً إلّا فيها، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدور فهو من الدور حتى أرش الخدش وما سواها، والجلدة ونصف الجلدة»(3).

هذا من ناحية الشمول...

أما من ناحية الدوام، فقد اشتملت الشريعة على أحكام كليّة وعامة تصلح لكل الأزمنة والأمكنة، ولجميع المتطورات والمستحدثات إلى يوم القيامة، كما أشير إلى ذلك في قوله(عليه السلام): «حلال إلى يوم القيامة... وحرام إلى يوم القيامة».

حق الحاكمية في الشريعة الإسلامية

ومن ميزات الشريعة الإسلامية المقدسة: المنهاج السياسي الصحيح، حيث ينفي حاكمية أحد على أحد، ويسلب سلطة البعض على البعض، ويجعل حق الحاكمية والولاية لله تعالى، ومن بعده لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوليائه المعصومين(عليهم السلام) فقط،

ص: 325


1- سورة الحج، الآية: 41.
2- الكافي 1: 58.
3- بصائر الدرجات 1: 148.

فالولاية تكون:

أولاً: لله تبارك وتعالى، وهو خالق الإنسان وله حق الولاية والحاكمية بالذات.

ثانياً: لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ثالثاً: لأهل بيت الرسول الكريم(عليهم السلام).

فإن الولاية قد منحها اللّه تعالى لرسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام) على الناس جميعاً، فحق الولاية والحاكمية لهم بالعَرَض أي بمنح اللّه عزّ وجلّ لهم ذلك، فإنه تعالى وجدهم أهلاً للولاية والإمامة، فأوكل إليهم حق الولاية والحاكمية على خلقه، ولايةً تكوينية وتشريعية، وأوكل إليهم إبلاغ دينه، وحفظ أحكامه، وجعلهم خلفاءه في أرضه وسفراءه بين خلقه، وأشار إلى حصر الحاكمية والولاية في هؤلاء الثلاثة بقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(1) ثم أمر بوجوب طاعتهم رعاية لحق ولايتهم بقوله سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(2).

وقد جاء في تفسير هذه الآية: وإنما أفرد الأمر بطاعة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن كانت طاعته مقترنة بطاعة اللّه، مبالغةً في البيان وقطعاً لتوهّم من توهّم أنه لا يجب لزوم ما ليس في القرآن من الأوامر، ونظيره قوله: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(3)، وقوله: {وَمَا ءَاتَىٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ}(4)، وقوله:

ص: 326


1- سورة المائدة، الآية: 55.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- سورة النساء، الآية: 80.
4- سورة الحشر، الاية: 7.

{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ}(1)... لأن طاعة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي طاعة اللّه وامتثال أوامره امتثال أوامر اللّه...

قوله: {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} ... - قال بعض المفسرين من أبناء العامة - : إنهم الأمراء... - و - قال - الآخر: إنهم العلماء... - ولكن المروي - عن الإمام الباقر والصادق(عليهما السلام): أنّ أولي الأمر هم الأئمة من آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) و(عليهم السلام) حيث أوجب اللّه طاعتهم بالإطلاق، كما أوجب طاعته وطاعة رسوله...(2).

أما ولاية الفقيه فلم تكن مطلقةً، وقد ذكرنا بعض حدودها وتفاصيلها في كتاب البيع(3).

الشريعة الإسلامية وسعادة الإنسان

من مميزات الشريعة الإسلامية أنها تسير بالإنسان - وفق أوامرها ونواهيها - إلى كماله وسعادته والفوز بالدارين - الدنيا والآخرة - وذلك بشرط اتباع الإنسان الأوامر واجتناب النواهي الشرعية.

لأن أوامر الشريعة ونواهيها جاءت من خالق الإنسان الذي يعلم ما يصلح الإنسان مما يفسده، ولذلك جاءت مطابقة لفطرة الإنسان وملبية لطلباته ورغباته، الجسدية والروحية، المعنوية والمادية؛ وذلك لأن الإنسان مركب من جسم وروح، ومادة ومعنى، ويحتاج في سعادته وهنائه إلى التوازن بين الروح والجسم، والمادة والمعنى، وإذا فقد التوازن بينهما فقد سعادته وهناءه، وليس هناك ما ينظم التوازن بينهما سوى الشريعة الإسلامية وتعاليمها الراقية وأحكامها العادلة.

ص: 327


1- سورة النجم، الآية: 3.
2- تفسير مجمع البيان 3: 113.
3- البيع 5: 11؛ كما ذكر المؤلف هذا البحث في الفقه الدولة الإسلامية 101: 48.

قال اللّه تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٖ}(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام) - في حديث - : «إن السعيد حق السعيد من أحبك وأطاعك، وإن الشقي كل الشقي من عاداك ونصب لك وأبغضك. يا علي كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك. يا علي من حاربك فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب اللّه عزّ وجلّ. يا علي من أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض اللّه، وأتعس اللّه جَدَّه، وأدخله نار جهنم».(2)

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «إنه ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلّا التاط(3)

فيها بثلاث: شغل لا ينفد عناؤه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لاينال منتهاه. ألا إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه، ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها على فانية لا ينفد عذابها، وقدّم لما يقدَمُ عليه مما هو في يديه قبل أن يخلفه لمن يسعد بإنفاقه وقد شقي هو بجمعه»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «بالإيمان يُرتقى إلى ذروة السعادة ونهاية الحبور»(5)(6).

ص: 328


1- سورة هود، الآية: 105- 108.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 382.
3- التاط: التصق.
4- أعلام الدين: 345.
5- الحُبُور: السرور.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 304.

وقال(عليه السلام) أيضاً: «هذا ما أمر به عبد اللّه علي أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الأشتر، في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها، أمره: بتقوى اللّه وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلّا باتباعها، ولا يشقى إلّا مع جحودها وإضاعتها...»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن حقيقة السعادة أن يختم للمرء عمله بالسعادة، وإن حقيقة الشقاء أن يختم للمرء عمله بالشقاء»(2).

وسُئل الإمام الصادق(عليه السلام): ما السعادة وما الشقاوة؟

فقال(عليه السلام): «السعادة سبب خير تمسك به السعيد فيجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان تمسك به الشقي فجره إلى الهلكة، وكل بعلم اللّه تعالى»(3).

تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها

ومن مميزات الشريعة الإسلامية أنها جاءت متكاملة تلبي جميع المتطلبات المشروعة، ومما يدل على أنها متكاملة ولا يوجد فيها نقص أبداً أمور تالية:

أولاً: أنها آخر شرايع السماء وخاتمتها، كما أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي جاء بها هو خاتم الأنبياء(عليهم السلام) فكان الرسول الخاتم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أشرف المرسلين... فكذلك الشريعة الإسلامية الخاتمة لشرايع السماء هي أشرف الأديان والرسالات، وشرافتها بمعنى تماميتها وكمالها، ودوامها لجميع العصور والأزمان.

ثانياً: أنها جاءت ناسخة للشرايع والأديان السماوية التي نزلت من قبل

ص: 329


1- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 53 كتب(عليه السلام) للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها، وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن.
2- معاني الأخبار: 345.
3- بحار الأنوار 10: 184.

وحاكمة ومهيمنة عليها، فإذا لم تكن أفضل من غيرها لا يمكنها أن تفوق عليها وتنسخها.

قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}(1).

وقال سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).

والشريعة الناسخة تكون أتم وأكمل من الشرايع المنسوخة؛ لأن الناسخة تجمع كل محسنات المنسوخة وزيادة، وهو أمر واضح.

قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «... ثم إن هذا الإسلام دين اللّه الذي اصطفاه لنفسه، واصطنعه على عينه وأصفاه خيرة خلقه، وأقام دعائمه على محبته، أذل الأديان بعزته، ووضع الملل برفعه، وأهان أعداءه بكرامته، وخذل مُحادّيه(3) بنصره، وهدم أركان الضلالة برُكنه، وسقى من عطش من حياضه، وأتأق الحياض بمواتحه، ثم جعله لا انفصام لعروته، ولا فك لحلقته، ولا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا انقلاع لشجرته، ولا انقطاع لمدته ولا عفاء(4) لشرائعه، ولا جذ لفروعه ولا ضنك لطرقه، ولا وعوثة لسهولته، ولا سواد لوضحه، ولا عوج لانتصابه، ولا عَصَل(5) في عُودِه، ولا وعث لفجه، ولا انطفاء لمصابيحه، ولا

ص: 330


1- سورة المائدة، الآية: 48.
2- سورة آل عمران، الآيه: 85.
3- مُحادّيه - جمع مُحادّ - : الشديد المخالفة، والركن: العز والمنعة، وتَئِق الحوض - كَفِرحَ - : امتلأ وأتأقه: ملأه، والمواتح - جمع ماتح - نازع الماء من الحوض.
4- العفاء: الدروس والاضمحلال، والجذ: القطع، والضَنْك: الضيق، والوُعُوْثَة: رخاوة في السهل تغوص بها الأقدام عند السير فيعسر المشي فيه، والوَضَح: بياض الصبح.
5- العَصَل: الاعوجاح يصعب تقويمه، والفجّ: الطريق الواسع بين جبلين.

مرارة لحلاوته؛ فهو دعائم أَساخ(1) في الحق أَسْناخَها، وثبت لها آساسها، وينابيع غزرت(2) عيونُها، ومصابيح شَبَّت نيرانُها، ومنارٌ اقتدى بها سُفّارها(3)، وأعلامٌ قصد بها فِجَاجُها، ومناهل روي بها وُرّادُها. جعل اللّه فيه منتهى رضوانه وذروة دعائمه وسنام طاعته، فهو عند اللّه وثيق الأركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مضي ء النيران، عزيز السلطان، مُشْرِف المنار(4)، مُعْوِذُ المثار، فشرفوه واتبعوه، وأدوا إليه حقه وضعوه مواضعه».(5)

وقال(عليه السلام) أيضاً: «ابتعثه بالنور المضي ء والبرهان الجلي والمنهاج البادي والكتاب الهادي، أسرته خير أسرةٍ وشجرته خير شجرةٍ، أغصانها معتدلةٌ وثمارها متهدّلةٌ(6)، مولده بمكة وهجرت بطيبة، علا بها ذكره وامتد منها صوته، أرسله بحجةٍ كافيةٍ، وموعظةٍ شافيةٍ ودعوةٍ مُتلافيةٍ(7)، أظهر به الشرائع المجهولة، وقمع به البدع المدخولة، وبيّن به الأحكام المفصولة، فمن يبتغ غير الإسلام ديناً تتحقق شقوته، وتنفصم عروته، وتعظم كبوته(8)، ويكن مآبه إلى الحزن الطويل

ص: 331


1- أساخ: أثبت، والأسناخ: الأصول.
2- غزرت: كثرت، وشبَّت النار: ارتفعت من الإيقاد.
3- السُفّار: ذووا لسفر، أي يهتدي إليه المسافرون في طريق الحق.
4- مُشْرِف المنار مرتفعه، مُعْوِذُ المثار - من أَعْوَذ - : بمعنى ألجأ، والمثار: مصدر ميمى من ثار الغبار إذا هاج، أي لو طلب أحدٌ إثارة هذا الدين لألجأه إلى مشقة لقوته ومتانته.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 198 من خطبة له(عليه السلام) ينبه على إحاطة علم اللّه بالجزئيات ثم يحث على التقوى ويبين فضل الإسلام والقرآن.
6- مُتهدّلة: متدلية، دانية للاقتطاف.
7- مُتلافية: من تلافاه، تداركه بالاصلاح قبل أن يهلكه الفساد، فدعوة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تلافت أمور الناس قبل هلاكهم.
8- الكبوة: السقطة.

والعذاب الوبيل...»(1).

ثالثاً: إنها جاءت لتبقى ما دام الإنسان باقياً على الأرض وإلى يوم القيامة، كما قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّۧنَ}(2) فمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو نبي البشر إلى يوم القيامة، وهذا مستلزم لأن تكون شريعته هي شريعة كل البشر إلى يوم القيامة أيضاً، كما هو واضح.

وقد مرّ قوله(عليه السلام): «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(3).

ومن المعلوم أن الشريعة التي تحمل مؤهلات البقاء رغم التغير والتطور والتقدم الذي سيحصل للإنسان إلى يوم القيامة لابد وأن تكون تامة كاملة، ولا تحتاج إلى أي تعديل وإضافات، ويؤيد ذلك قول الإمام زين العابدين(عليه السلام) حيث سُئل عن التوحيد، فقال(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون، فأنزل اللّه تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(4) والآيات من سورة الحديد إلى قوله: {وَهُوَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(5) فمن رام وراء ذلك فقد هلك»(6).

رابعاً: إن الشريعة الإسلامية جاءت تامة ومتكاملة بنص القرآن الحكيم كما في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(7). فالآية الكريمة صريحة في تمامية الشريعة الإسلامية

ص: 332


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 161 من خطبة له(عليه السلام) في صفة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام).
2- سورة الأحزاب، الآية: 40.
3- بصائر الدرجات 1: 148.
4- سورة الإخلاص، الآية: 1.
5- سورة الحديد، الآية: 6.
6- الكافي 1: 91.
7- سورة المائدة، الآية: 3.

وكمالها، والجدير بالذكر إن هذه الآية: وهي آية تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها، نزلت بعد فريضة الولاية، أي: بعد أن نصب الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبأمر من اللّه تعالى علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأحد عشر إماماً(عليهم السلام) من ذريته خلفاء من بعده، وأئمةً للمسلمين إلى يوم القيامة، مما يدل على أن لمسألة الولاية والإمامة المنصوصة من اللّه تعالى، التي هي امتداد للنبوة والرسالة، من أهمية كبرى ودور عظيم في تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها، وإن من لم يعتقد بها ويرفضها عن علم وعمد فإسلامه ناقص وغير مرضي عند اللّه تعالى.

الغدير وتمامية الشريعة الإسلامية

ذكر المفسرون أن آية تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها نزلت على النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد أن بلّغ بأمر اللّه تعالى ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الناس، فإنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما قرّر الذهاب إلى الحج في السنة الأخيرة من حياته الشريفة، والذي عُرفت فيما بعد بحجة الوداع، وجّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نداءه إلى المسلمين كافة يدعوهم فيه إلى أداء فريضة الحج، وتعلّم مناسكه منه، فانتشر نبأ سفره، وصدى ندائه في المسلمين جميعاً، وتوافد الناس إلى المدينة المنورة، وانضمّوا إلى موكب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى بلغ عدد الذين خرجوا معه (120) ألفاً حسب الروايات، وفي بعض المصادر (180) ألفاً، والتحق بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أناس كثيرون من اليمن ومكة وغيرهما(1)، ولمّا أدى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مناسك الحج انصرف راجعاً إلى المدينة، وخرجت المسيرة التي كانت تربو على (120ألفاً) من المسلمين،

ص: 333


1- كان معه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جموع لا يعلمها إلّا اللّه تعالى قيل: خرج معه (90 ألفاً) وقيل: (114 ألف) وقيل: (120 ألف) وقيل: (124 ألف) وقيل أكثر من ذلك، وهذه عدة من خرج معه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأما الذين حجوا معه فأكثر من ذلك، كالمقيمين بمكة، والذين أتوا من اليمن مع علي(عليه السلام) وأبي موسى. انظر: الغدير: 1: 9.

حتى وصلت إلى أرض تسمى (خُم)(1) وفيها غدير يجتمع فيه ماء المطر يدعى (غدير خم) وكان وصولهم إليه في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة من عام حجة الوداع، وفي السنة العاشرة من هجرته المباركة(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وعندما وصلت المسيرة العظيمة إلى هذه المنطقة هبط الأمين جبرئيل(عليه السلام) من عند اللّه تعالى على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هاتفاً بالآية الكريمة: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(2) أي: في علي(عليه السلام) فأبلغ جبرئيل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رسالة اللّه إليه: بأن يقيم علي بن أبي طالب(عليه السلام) إماماً على الناس وخليفة من بعده ووصياً له فيهم، وأن يبلغهم ما نزل في علي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أمر الولاية وفرض الطاعة على كل أحد.

فتوقف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن المسير وأمر أن يلحق به من تأخر عنه ويرجع من تقدم عليه، وكان الجو حاراً جداً حتى كان الرجل منهم يتصبب عرقاً من شدة الحر، وبعضهم كان يضع بعض ردائه على رأسه، والبعض الآخر تحت قدميه لإتقاء جمرة الحر وشدته.

وأدركتهم صلاة الظهر فصلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالناس ومدت له ظلال على شجرات ووضعت أحداج الإبل بعضها فوق بعض حتى صارت كالمنبر، فوقف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليها لكي يشاهده جميع الحاضرين ورفع صوته من الأعماق ملقياً فيهم خطبة بليغة مسهبة، ما زالت تصكُّ سمع الدهر، افتتحها بالحمد والثناء على اللّه سبحانه، وركّز حديثه وكلامه حول شخصية خليفته علي أمير المؤمنين(عليه السلام)، وذكر فضائله ومناقبه ومزاياه ومواقفه المشرّفة ومنزلته الرفيعة عند

ص: 334


1- هي المنطقة التي تتشعّب منها الطرق إلى المدينة والعراق ومصر واليمن.
2- سورة المائدة، الآية: 67.

اللّه ورسوله، وأمر الناس بطاعته(عليه السلام) وطاعة أهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، وأكّد أنهم حججاللّه تعالى الكاملة، وأولياؤه المقرَّبون وأُمناؤه على دينه وشريعته، وأنّ طاعتهم طاعة اللّه تعالى ورسوله، ومعصيتهم معصية لله ورسوله، وأنّ شيعتهم في الجنة ومخالفيهم في النار.

وكان مما قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أيها الناس، إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلُ، إلّا وقد عُمِّر، ثم دعاه اللّه فأجابه، وأوشك أن أُدعي فأجيب، وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون، فما أنتم قائلون؟».

قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحت وأديت وما عليك، فجزاك اللّه أفضل ما جزى المرسلين.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألستم تشهدون أن لا إله إلا اللّه، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حقّ وناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللّه يبعث من في القبور».

قالوا: بلى نشهد بذلك.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم اشهد».

ثم قال: «أيها الناس ألا تسمعون؟».

قالوا: نعم.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فإني فرط على الحوض، وأنتم واردون عليّ الحوض، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبُصرى(1) فيه أقداح عدد النجوم من فضة، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».

فنادى منادٍ: وما الثقلان يا رسول اللّه؟

ص: 335


1- بُصرى: منطقة في بلاد الشام، قصبة كورة حوران من أعمال دمشق.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الثقل الأكبر: كتاب اللّه، طرف بيد اللّه عزّ وجلّ وطرف بأيديكم،فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا»! ثم أخذ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيد الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) فرفعها حتى بان بياض إبطيهما وعرفه القوم أجمعون فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس مَن أولى الناس بالمؤمنين مِن أنفسهم؟». فقالوا: اللّه ورسوله أعلم.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه» - يقولها ثلاث مرات - ثم قال: «اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وأحب من أحبَّه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب»(1).

ثم تابع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خطبته فقال: «فاعلموا معاشر الناس ذلك، فإن اللّه قد نصبه لكم إماماً، وفرض طاعته على كل أحد، ماض حكمه جائز قوله، ملعون من خالفه، مرحوم من صدقه، اسمعوا وأطيعوا، فإن اللّه مولاكم وعلي(عليه السلام) إمامكم، ثم الإمامة في ولدي من صلبه إلى يوم القيامة، لا حلال إلّا ما حلله اللّه وهم، ولا حرام إلّا ما حرمه اللّه وهم فصلوه، فما من علم إلّا وقد أحصاه اللّه فيَّ ونقلته إليه - إلى علي أمير المؤمنين(عليه السلام) - .

لا تضلوا عنه ولا تستنكفوا منه، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به، لن يتوب اللّه على أحد أنكره، ولن يغفر له، حتم على اللّه أن يفعل ذلك، وأن يعذبه عذاباً نكراً أبد الآبدين، فهو - علي(عليه السلام) - أفضل الناس بعدي ما نزل الرزق وبقي الخلق، ملعون من خالفه.

ص: 336


1- راجع بحار الأنوار 37: 121 - 141.

قولي عن جبرائيل عن اللّه {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖ}(1) افهموا محكم القرآن ولا تتبعوا متشابهه، ولن يفسر لكم ذلك إلّا من أنا آخذ بيده شائل بعضده. ألا وقد أديتُ، ألا وقد بلّغتُ، ألا وقد أسمعتُ، ألا وقد أوضحتُ. إن اللّه قال وأنا قلت عنه: لا تحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره».

ثم رفعه إلى السماء حتى صارت رجله(عليه السلام) مع ركبته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: «معاشر الناس، هذا أخي ووصيي، وواعي علمي، وخليفتي على من آمن بي وعلى تفسير كتاب ربي، اللّهم إنك أنزلت عند تبيين ذلك في علي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(2) بإمامته، فمن لم يأتم به وبمن كان من ولدي من صلبه إلى القيامة ف{أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ}»(3)(4).

ثم تابع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خطبته وحثَّ الناس على اتباع علي أمير المؤمنين(عليه السلام) وأهل بيته(عليهم السلام)، وانتهت الخطبة النبوية المسهبة والتي تناولت أموراً كثيرة وحيوية بتعيين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) أميراً على المؤمنين ووصياً وخليفة لرسول ربِّ العالمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وهكذا هبط جبرئيل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(5) وقد جاء في التفاسير: بأنّ هذه الآية جاءت بعد أن نصب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبأمر من اللّه تعالى علياً أمير المؤمنين(عليه السلام) إماماً على العالمين، وتسمى هذه الآية بآية الكمال أي:

ص: 337


1- سورة الحشر، الآية: 18.
2- سورة المائدة، الآية: 3.
3- سورة التوبة، الآية: 17.
4- الصراط المستقيم 1: 301.
5- سورة المائدة، الآية: 3.

كمال الدين، وهي -بحسب بعض الروايات - آخر فريضة أنزلها اللّه تعالى على رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1).

ويستفاد من بعض الروايات أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخذ يؤكد على ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) وخلافته من بعده في عدة مواقف من حجة الوداع، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «لما نزل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل، فقال له: يا محمد، إنّ اللّه يقرؤك السلام ويقول لك: قل لأمتك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بولاية علي بن أبي طالب(عليه السلام) {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}، ولست أنزل عليكم بعد هذا، قد أنزلت عليكم الصلاة والزكاة والصوم والحج وهي الخامسة(2)، ولست أقبل هذه الأربعة إلا بها»(3).

فولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) كمال للدين فمن تمسّك بها فاز بدنيا سعيدة، وآخرة حميدة بأعلى الجنان، ومن لا يؤمن بها فقد ضل ضلالاً مُبيناً وخسر دنياه وآخرته. نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) وأولاده المعصومين(عليهم السلام)(4).

الشريعة الإسلامية مكملة وناسخة للشرايع

اشارة

وعليه: فالشريعة الإسلامية هي المكمّلة للشرائع السابقة التي نزلت على نوح(عليه السلام) وعلى إبراهيم(عليه السلام) وعلى موسى(عليه السلام) في التوراة وعلى عيسى(عليه السلام) في

ص: 338


1- انظر: تفسير العياشي 1: 293؛ تفسير القمي 1: 162؛ تفسير فرات الكوفي: 120؛ التبيان في تفسير القرآن 3: 413؛ تفسير مجمع البيان 3: 257؛ تفسير نور الثقلين 1: 587؛ شواهد التنزيل 1: 201.
2- أي: الولاية لأمير المؤمنين(عليه السلام).
3- بحار الأنوار 37: 138.
4- انظر: قصة الغدير وتصريح النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) من بعده بألفاظ مختلفة وفي أحاديث متواترة رواها العلامة الأميني(رحمه اللّه) في كتابه القيم موسوعة (الغدير).

الإنجيل. وإنها جاءت للناس كافة بما فيهم اليهود والنصارى والعرب والعجم والشرقوالغرب. حيث وجّه الباري جلّ شأنه خطابه للرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ}(1).

وسُئِل الإمام الصادق(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}(2) فقال: «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى(عليهم السلام) ومحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)».

قلت: كيف صاروا أولي العزم؟

قال(عليه السلام): «لأن نوحاً بعث بكتاب وشريعة، وكل من جاء بعد نوح(عليه السلام) أخذ بكتاب نوح(عليه السلام) وشريعته ومنهاجه حتى جاء إبراهيم(عليه السلام) بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح(عليه السلام) لا كفراً به، فكل نبي جاء بعد إبراهيم(عليه السلام) أخذ بشريعة إبراهيم(عليه السلام) ومنهاجه وبالصحف، حتى جاء موسى(عليه السلام) بالتوراة وشريعته ومنهاجه وبعزيمة ترك الصحف، وكل نبي جاء بعد موسى(عليه السلام) أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه، حتى جاء المسيح(عليه السلام) بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى(عليه السلام) ومنهاجه، فكل نبي جاء بعد المسيح(عليه السلام) أخذ بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فهؤلاء أولوا العزم من الرسل(عليهم السلام)»(3).

من آثار التكامل والشمول

وهذا التكامل والشمول للشريعة أعطى تماسكاً في تطبيق المبادئ التي جاءت الشريعة بها؛ إذ أنها ليست نظريات من جعل البشر لتحتاج دائماً إلى

ص: 339


1- سورة سبأ، الآية: 28.
2- سورة الأحقاف، الآية: 35.
3- الكافي 2: 17.

التهذيب والتقويم والتعديل والإضافة، بل هي حقائق كونية، وواقعيات فطرية، مصبوبة من قبل خالق الإنسان والعالم بما يصلح الإنسان مما يفسده، في أحكام شرعية متينة وأمينة، وثابتة وراسخة، لاتقبل الزيادة والنقيصة، ولا تتحمل تعديلاً ولا تهذيباً، لأنها تامة وكاملة، وجامعة وشاملة، ودائمة وأبدية، إنها أحكام خمسة:

1- فما كان من أمر ضروري مقوم لصلاح الإنسان وفلاحه، بحيث يفقد الإنسان بفقده صلاحه وفلاحه، ويذوق الشقاء والهوان، جعله اللّه فرضاً وواجباً، وأطلق عليه اسم: (الواجب والفريضة) كالصوم والصلاة.

2- وما كان عكس ذلك أي: كان عدمه ضرورياً وفقده مقوماً لصلاح الإنسان وفلاحه، ومع وجوده يقع الإنسان في هوان وشقاء، نهى اللّه عنه وجعله حراماً، وأطلق عليه اسم: (الحرام) كالكذب والظلم والخمر والميسر.

3- وما كان وجوده راجحاً نافعاً، مدحه وحبّذه وأطلق عليه اسم: (المستحب) كالصدقة وصلاة الليل.

4- وما كان عدمه وفقده راجحاً، ذمّه ورغّب عنه، وأطلق عليه اسم: (المكروه).

5- وما كان متساوي الطرفين ولا رجحان لوجوده وعدمه، أباحه وأجاز فعله وتركه بلا ترجيح، وأطلق عليه اسم (المباح) كشرب الماء.

فهذه خمسة أحكام تشمل كل فعل وقول، وحركة وسكون، وتتضمن جميع ما يحتاجه الإنسان.

مضافاً إلى كل ذلك قامت الشريعة الإسلامية وبحكمة بالغة بمعالجة العديد من الأمور بكليّات قابلة للانطباق على جزئيات حادثة إلى يوم القيامة، وبعمومات صالحة للتطابق مع صغريات مستجدة حتى قيام الساعة، وذلك ببيان واضح، وصياغة سهلة، وعبارة جامعة وشاملة، تتماشى مع جميع العصور

ص: 340

والأزمنة، مما جعل أغلب القوانين الوضعية تستقي أسسها - بصورة غير مستقيمة وبشكل محرف ومشوه - من الشريعة الإسلامية وقوانينها، كقانون (لاضرر)، وقانون (لاحرج)، وقانون (الإلزام)، وقانون (التجاوز)، وقانون (أصالة الصحة)، وقانون (أصالة الحل)، وغيرها من العمومات والإطلاقات.

الشريعة لا تقبل التبعيض

نعم، إن ما جاءت به الشريعة الإسلامية، مجموعة متكاملة ومترابطة، موافقة للفطرة الإنسانية، ومتطابقة مع العقل والمنطق السليم، ذات مناهج عادلة، ومبادئ سهلة وواضحة، وهي لا تقبل التجزء والتبعيض، لكن البعض صار يؤمن ببعضها ويكفر ببعض. فبعضها تمسك بها المسلمون في يومنا هذا، والبعض الآخر قد أهملوها عمداً أو جهلاً، فآل الأمر إلى تراجع الأمة الإسلامية وتأخر العالم الإسلامي نتيجة هذا التبعيض في أغلب الميادين الحيوية التي يحتاجها المسلمون للوصول إلى أهدافهم المنشودة.

ما تركه المسلمون

ومن هذه المناهج العادلة والمبادئ الواضحة التي لم تجد مجالاً للتطبيق في واقع المسلمين اليوم، ولا ترى لها أثراً إلّا على الورق، هي مبدأ الاستشارة والشورى، والمساواة والعدالة، ومنهج الأخوة الإيمانية، والأمة الإسلامية الواحدة، وقانون إطلاق الحرّيات المشروعة غير المحرمة...

وبتركها حدث صدع كبير وشرخ عظيم في صرح الإسلام والمسلمين، مما أدى إلى انعدام الترابط، وانفصام التماسك، بحيث لم يبق حجر على حجر، كالسبحة التي انقطع خيطها وتفرقت حباتها، فكذلك الشريعة الإسلامية المتكاملة والمترابطة إذا ترك جزء منها فقد انقطعت حلقة من حلقات سلسلتها وتمزقت السلسلة بأجمعها وتفرقت رغم أنها كانت وتكون متكاملة، كما في

ص: 341

الأحاديث الشريفة.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، إن اللّه تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنزل إليه الكتاب بالحق وأنتم أُميّون عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن أرسله، على حين فترة من الرسل وطول هجعة(1) من الأمم، وانبساط من الجهل واعتراض من الفتنة، وانتقاض من المبرم وعمًى عن الحق، واعتساف(2) من الجور، وامتحاق من الدين، وتلظ(3) من الحروب، على حين اصفرار من رياض جنات الدنيا، ويبس من أغصانها، وانتثار من ورقها، ويأس من ثمرها، واغورار(4) من مائها، قد درست أعلام الهدى، فظهرت أعلام الردى، فالدنيا متهجمةٌ في وجوه أهلها مكفهرةٌ(5) مدبرةٌ غير مقبلة، ثمرتها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف، مزقتم كل ممزق، وقد أعمت عيون أهلها، وأظلمت عليها أيامها، قد قطعوا أرحامهم وسفكوا دماءهم، ودفنوا في التراب الموءودة بينهم من أولادهم، يجتاز دونهم طيب العيش ورفاهية خفوض(6) الدنيا، لا يرجون من اللّه ثواباً ولا يخافون واللّه منه عقاباً، حيهم أعمى نجسٌ وميتهم في النار مبلسٌ(7)، فجاءهم بنسخة ما في الصحف الأولى وتصديق الذي بين يديه وتفصيل الحلال من ريب الحرام، ذلك القرآن

ص: 342


1- الهَجْعة: نومة خفيفة من أول الليل وهي هنا بمعنى الغفلة والجهالة.
2- الاعتساف: الأخذ على غير الطريق.
3- التلظى: اشتعال النار واللّهب الخاص، وقوله(عليه السلام): «على حين اصفرار - إلى قوله - أيامها» استعارات وتشريحات لبيان خلو الدنيا حينئذٍ عن آثار العلم والهداية وما يوجب السعادة الأخروية.
4- اغورار الماء: ذهابه في باطن الأرض.
5- المُكْفهر من الوجوه: الوجه غير المنبسط والمعتبس.
6- الخفوض: جمع الخفض وهو الدعة والراحة والسكون.
7- الإبلاس: الغم والإنكسار والحزن والأياس من رحمة اللّه تعالى.

فاستنطقوه، ولن ينطق لكم، أُخبركم عنه: إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلىيوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلَّمتكم»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وجعل لكل شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى الحد حداً»(2).

وقال(عليه السلام): «إذا حدثتكم بشي ء فاسألوني من كتاب اللّه» ثم قال في بعض حديثه: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال» فقيل له: يا ابن رسول اللّه، أين هذا من كتاب اللّه؟ قال: «إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ}(3) وقال: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَٰلَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا}(4) وقال: {لَا تَسَْٔلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}»(5)(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شي ء، حتى واللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد؛ حتى لايستطيع عبدٌ يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلّا وقد أنزله اللّه فيه»(7).

ص: 343


1- الكافي 1: 60.
2- الكافي 7: 176.
3- سورة النساء، الآية: 114.
4- سورة النساء، الآية: 5.
5- سورة المائدة، الآية: 101.
6- الكافي 1: 60.
7- الكافي 1: 59.
التوعد للمبعّضين

وقد توعد اللّه تعالى المبعضين، وهدد المجزئين الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، توعدهم بالخزي في الحياة الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة، فقال سبحانه وتعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}(2).

وقال جلّ وعلا: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَٰنَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ}(3).

وقال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ}(4).

من هنا وحفاظاً على التكامل والشمولية يلزم الأخذ بالشريعة بأكملها والإيمان بالمجموع لا ببعض دون بعض.

ضمان لتطبيق الشريعة

اشارة

الشريعة الإسلامية تمتاز بأمور عديدة، أشرنا إلى بعضها، ومن تلك الأمور عدالة قانون الحدود والتعزيرات، وبتعبير آخر: إن قوانين الجزاء الشرعية

ص: 344


1- سورة البقرة، الآية: 85.
2- سورة النساء، الآية: 150-151.
3- سورة محمد، الآية: 26-28.
4- سورة الرعد، الآية: 36.

والعقوبات الإسلامية هي التي تنطبق تماماً مع الفطرة السليمة ولا تتضمن إجحافاً وظلماً، ولا إفراطاً ولا تفريطاً، ولأجل أن نقف على ضرورة وجود قوانينالعقوبات لابدّ أن نقول:

لقد ثبت في علم النفس والاجتماع، أن كل قانون يوضع للتطبيق والإجراء، لابد في تنفيذه وتطبيقه في المجتمع أن يكون له ضامن إجراء وتنفيذ، والضامن هو وضع مشجعات ومشوقات ومرغبات لمن يقوم بتنفيذ القانون وتطبيقه ويحترم القانون في حياته، هذا من جهة، ومن جهة ثانية: وضع محذرات وعقوبات لمن يتعدى على القانون وينتهكه ولا يحترم القانون في حياته، وكلما كانت المشجعات أعظم والمحذرات أشد، جاء التطبيق أقوى والتنفيذ أعلى نسبةً وأرقى درجة.

والشريعة الإسلامية التي جاءت بأتم وأكمل شريعة تضمن سعادة البشر، قامت - من أجل سوق المسلمين وغيرهم نحو الخير والسعادة، وتطبيق ما جاءت به من قوانين عادلة وأحكام متينة وأمينة، ولضمان عدم التعدي من أحد عليها بخرقها وهتكها - بوضع مشوقات ومشجعات عظيمة: من ثواب وأجر، وجنة ونعيم، وبوضع محذرات وعقوبات شديدة، تلائم المشوقات والمشجعات من شدة وعظمة، من تعزير وحدّ في الدنيا، ونار وعذاب في الآخرة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، إن اللّه تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلّا بأن يعرّفهم ما لهم وما عليهم، والتعريف لا يكون إلّا بالأمر والنهي، والأمر والنهي لا يجتمعان إلّا بالوعد والوعيد، والوعد لايكون إلّا بالترغيب، والوعيد لا يكون إلّا بالترهيب، والترغيب لايكون إلّا بما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم، والترهيب لا يكون إلّا بضد ذلك، ثم خلقهم في داره وأراهم طرفاً من اللذات؛ ليستدلوا به

ص: 345

على ما وراءهم من اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم، ألا وهي الجنة. وأراهم طرفاً من الآلام؛ ليستدلوا به على ما وراءهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبهالذة، ألا وهي النار. فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطاً بمحنها، وسرورها ممزوجاً بكدرها وهمومها»(1).

الشريعة الإسلامية وقانون العقوبات

بعد أن اتضح ضرورة قانون العقوبات، وأنه لابدّ لكل قانون من ضمان يضمن تطبيقه وتنفيذه، وكلما كان ذلك الضمان - الذي هو عبارة عن مشوقات ومحذرات - أعظم وأشد، جاء التطبيق أقوى والتنفيذ أرقى، ظهر لنا بوضوح حكمة الشريعة الإسلامية في ما جاءت به من قوانين الجزاء والعقوبات، وتبين لنا مدى عدلها وتوازنها في ذلك، ومن تلك القوانين الجزائية هي قانون الحدود الإسلامية، علماً بأن الحدود والتعزيرات لا تكون إلّا في بعض المحرمات الشرعية، والمحرمات قليلة بالنسبة إلى المباحات والحريات التي منحها اللّه للبشر.

ثم إنه قد ذكرنا في بعض كتبنا أن الحدود في الإسلام تمتاز بقوة الطرح أكثر من قوة التطبيق، لأنها في مرحلة التطبيق مشروطة بشروط كثيرة جداً قلّ ما تجتمع. والكلام هنا لبيان الحدّ بشكل عام؛ إذ أنه سنّة إلهية مقدّرة عقوبةً لبعض المحرمات التي نهى عنها اللّه تعالى، أو ترك بعض الواجبات التي أمر بها اللّه سبحانه.

ومثال فعل الترك، أي المنهي عنه هو: شرب الخمر، والسرقة، والزنا.

ومثال ترك الفعل، أي المأمور به هو: ترك الصلاة.

ص: 346


1- الإحتجاج 1: 207.

والعقوبة المقدّرة لهذه الأفعال تسمى: (حدّاً) كحد الزنا، وحد شارب الخمر، وحد السرقة، وربما كانت تعزيراً، كما بالنسبة إلى تارك الصلاة.

ولا شك في أنّ اللّه تعالى وضع هذه الحدود والتعزيرات لحكمة دقيقة، كما أشرنا إلى جانب منها، وكما سبق ذلك في المروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، وفي رواية قال الإمام الباقر(عليه السلام) عندما سُئل من قبل أحد أصحابه، عن رجل أقيم عليه الحد في الدنيا: أيعاقب في الآخرة؟

قال(عليه السلام): «اللّه أكرم من ذلك»(1).

ووردت روايات عديدة تحثّ على إقامة الحدّ وإنه خير من مطر أربعين صباحاً، حيث قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ساعةٌ من إمامٍ عدلٍ أفضل من عبادة سبعين سنةً، وحد يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً»(2).

وعن عمرو بن قيسٍ قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا عمرو بن قيسٍ، أشعرت أن اللّه عزّ وجلّ أرسل رسولاً وأنزل عليه كتاباً، وأنزل في الكتاب كل ما يحتاج إليه، وجعل له دليلاً يدل عليه، وجعل لكل شي ء حداً، ولمن جاوز الحد حداً؟».

قال: قلت: أرسل رسولاً وأنزل عليه كتاباً، وأنزل في الكتاب كل ما يحتاج إليه، وجعل عليه دليلاً، وجعل لكل شي ءٍ حداً؟

قال: «نعم». قلت: وكيف جعل لمن جاوز الحد حداً؟

قال: قال: «إن اللّه عزّ وجلّ حد في الأموال أن لا تؤخذ إلّا من حلها، فمن أخذها من غير حلها قطعت يده حداً لمجاوزة الحد، وإن اللّه عزّ وجلّ حد أن لا ينكح النكاح إلّا من حله، ومن فعل غير ذلك إن كان عزباً حد، وإن كان محصناً

ص: 347


1- الكافي 7: 265.
2- الكافي 7: 175.

رجم لمجاوزته الحد»(1).وعن أبي إبراهيم(عليه السلام)(2) في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}(3) قال: «ليس يحييها بالقطر؛ ولكن يبعث اللّه رجالاً فيحيون العدل، فتحيا الأرض لإحياء العدل، ولَإقامةُ الحد لله أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً»(4).

من شروط قانون العقوبات

ثم إن قانون العقوبات في الإسلام يمتاز بحالة الردع أكثر من التطبيق الخارجي، فإن كل حد من الحدود المقررة في الشريعة الإسلامية من قوانين الجزاء والعقوبات، له شروط كثيرة وكثيرة جداً، حتى قيل: إنها شروط تعجيزية، وأنها مشمولة لقاعدة: (كلما كثر قيوده قلّ وجوده)، فالشريعة الإسلامية رغم عدالة قوانين جزائها، وحكمة العقوبات والحدود الشرعية فيها، جعلت لإثبات الجريمة التي أوجبت الحد عليها شروطاً شبه تعجيزية، بحيث لا تتحقق تلك الشروط إلّا نادراً وقليلاً جداً، مما يجعل إجراء الحد شبه المعدوم، والتاريخ الإسلامي خير شاهد على ذلك، حيث لم يذكر في صفحاته المشرقة ولمئات السنين إجراء حد إلّا نادراً، هذا بالإضافة إلى أن الشريعة الإسلامية تعالج المفاسد من جذورها.

حدّ الارتداد

ومن تلك الحدود التي قلنا إنها في التحقق والوقوع تكون كنسبة المعدوم هو

ص: 348


1- الكافي 7: 175.
2- أبو ابراهيم وأبو الحسن الأول وأبو الحسن الماضي وأبو علي هي من كنى الإمام الكاظم(عليه السلام)، وكذلك يعرف بالعبد الصالح والنفس الزكية وزين المجتهدين والوفي والصابر والأمين والزاهر... انظر: مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 323.
3- سورة الروم، الآية: 19.
4- الكافي 7: 174.

حدّ الارتداد، فلم ير في التاريخ إجراء هذا الحد إلّا الأندر من النادر، فالحدود بلحاظ شروطها أشبه شيء بالتخويف من التطبيق.

ولبيان ذلك نشير إلى عدة أمور:

أولاً: بيان حدّ الإرتداد.

ثانياً: شروط إقامة الحد، وإمكان إجرائه تحت وطأة القوانين الوضعية.

ثالثاً: النسبة بين الحدّ الشرعي وأصالة حرية الإنسان.

الأمر الأول: حدّ الارتداد هو القتل في الجملة، وذلك بعد استتابته وعدم توبته بل عناده على الباطل، بشرط عدم وجود شُبهة وفتنة وما أشبه من الشروط الكثيرة المذكورة في الفقه، علماً بأن الحد هو عقوبة دنيوية، يلاقيها مرتكب الجريمة لو ثبتت جريمته ثبوتاً شرعياً في الدنيا، وأما في الآخرة فله حسابه وجزاؤه الخاص عند اللّه سبحانه، وجزاء المرتد في الآخرة قد أشار إليه القرآن الحكيم حيث قال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(1).

وكيف كان: فالارتداد موضوع فقهي، يدخل في باب الحدود والتعزيرات، والآية الكريمة المتقدمة هي من النصوص القرآنية الواردة في بيان الموضوع والحكم الشرعي والعقاب الأخروي للارتداد، بالإضافة إلى العديد من الروايات.

ومن الملاحظ في روايات الارتداد ونصوصها أنها تطرح الحد بقوة - كما في سائر المعاصي التي توجب الحد - بحيث تمنع الإنسان وتردعه عن مخالفة القانون وعصيان اللّه عزّ وجلّ، حفظاً لنفسه وصوناً للمجتمع عن الانحراف، ومن الواضح أن الانحراف العقائدي هو أهم الانحرافات بحيث يترتب عليها سائر المفاسد، فإن

ص: 349


1- سورة البقرة، الآية: 217.

الانحراف الجوانحي يتبعه الانحراف الجوارحي. والطرح بقوة لا يعني التطبيق بقوة، وذلك من خلال الشروط التي جعلها الشارع في تطبيق الحدود.

مضافاً إلى أن العقيدة الإسلامية هي المطابقة للفطرة السليمة، وباب الحوار والاحتجاج مفتوح بمصارعيه في الإسلام، فلا يبقى هناك سبب للارتداد بعد تطبيق قوانين الإسلام العادلة وانسجامها أصولاً وفروعاً مع فطرة الإنسان ومتطلباته.

فإذا أراد معاند أن يخالف الحق مع معرفته بالحق، ويرتد عن الإسلام بعد اعتناقه، وإذعانه بصحته فإنه لا يُقبل منه، بل جاءت الروايات لتردع بشدة عن تلك الحالات المرضية والمعدية.

روي عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «من بدّل دينه فاقتلوه»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل اللّه على محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد إسلامه، فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت منه امرأته، ويُقسّم ما ترك على ولده»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المرتد تعزل عنه امرأته، ولا تُؤكل ذبيحته، ويُستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلّا قُتل يوم الرابع»(3).

أقسام المرتد

المرتد على قسمين، فطري وملّي.

1: فإذا كان الإنسان قد تولد من أبوين مسلمين أو كان أحدهما مسلماً ثم ارتد فهذا مرتد فطري.

ص: 350


1- عوالي اللئالي 2: 239.
2- الكافي 7: 256.
3- الكافي 7: 258.

2: وإن كان الإنسان كافراً ثم أسلم ثم ارتدّ فهو مرتد ملي.

والظاهر أن التوبة مقبولة من المرتد مطلقاً، سواء كان فطرياً أو ملّياً.

متى تجرى الحدود؟

ثم إن الحد لا يجُرى إلّا بعد تطبيق قوانين الإسلام بأجمعها من القوانين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها.

قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا}(1).

أما أخذ بعض القوانين وترك الآخر فإنه لا يجوز، ولا تجرى الحدود عندئذ. وقد فصلنا الكلام في موضوع الارتداد وحكمه في (الفقه: كتاب الحدود والتعزيرات)(2).

وعليه: فإن ما ذكر من حكم المرتد وأنه القتل، سواء كان مرتداً فطرياً أو مرتداً ملّياً، هو أشبه بالتهديد من التطبيق، لعدم وجود مصداق له عادة بعد تطبيق القوانين الإسلامية والتي تضمن للإنسان سعادته في الدنيا قبل الآخرة، وتلبي جميع حاجاته الجسدية والروحية، وبعد وضوح العقائد الإسلامية الحقة التي تنسجم مع الفطرة السليمة، وفي ما إذا لم يكن ارتداده عن شبهة، وإنما كان عن علم وعمد، وتعصب وعناد، وإرادة واختيار.

فالحد يكون قوياً بعد عدم توبته، بقتله وتبيّن زوجته المسلمة(3)، وأنها تعتد عدة الوفاة، وتقسّم أمواله بين ورثته، ولا يرثهم هو إذا كانوا مسلمين.

أما في مثل زماننا هذا، حيث لا تطبيق لسائر قوانين الإسلام في مختلف

ص: 351


1- سورة الأعراف، الآية: 56.
2- راجع الفقه للامام الشيرازي(رحمه اللّه) 88: 265.
3- بانت: أي انفصلت وفارقت بطلاق أو ردّة.

مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وحيث كثرت الشبهات والفتن، فلا تُجرى الحدود، وذلك على التفصيل المذكور في الفقه.

الحد رحمة شرعية

قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم وهو يخاطب رسوله الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(1) يعني: ليس الهدف من إرسالك يا رسول اللّه، بالرسالة الإسلامية بجميع قوانينها إلّا لتعم رحمتك الناس وتشمل العالمين جميعاً، فالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - بحسب هذه الآية الكريمة وآيات أخرى والروايات الشريفة - بُعث بالشريعة السهلة السمحاء رحمةً للعالمين، وهكذا يكون كل ما جاء به من قوانين، فهي رحمة للبشر، ومن ضمن تلك الرحمة: مسألة العقوبات؛ إذ إن العقوبة هي الجزاء المقرّر عند عصيان أمر الشارع، وعند مخالفة القانون، ومن المعلوم أن عصيان أمر الشارع ومخالفة القانون الصحيح، هو نقمة على الناس وشقاء للعالمين، ومن أجل الحفاظ على مصلحة المجتمع وعدم وقوعهم في نقمة العصيان وشقائه، جعل اللّه الحد صارماً وشديداً حتى يستأصل مادة النقمة والشقاء من بين الناس، ويجتثها من جذورها، كما يستأصل الطبيب الجراح الغدة السرطانية، أو يقطع العضو الفاسد من جسد المريض ليستعيد سلامته وعافيته وترجع إليه الرحمة والسعادة، فكما يعد عمل الطبيب وإجراء عمليته الجراحية رحمة للمريض، فكذلك حكم الشارع على المرتد وغيره ممن جعل عليه الحد، رحمة للناس أيضاً، فاستئصال مادة النقمة والشقاء من بين الناس: ضمان صلاح حالهم، وصون حياتهم من المفاسد، وكفّهم عن المعاصي، وبعثهم على الطاعة.

ص: 352


1- سورة الأنبياء، الآية: 107.

إذن، جاء الحد الشرعي لضمان صلاح حال المجتمع، وصيانة مصالحه، وحفظ سلامته وسعادته، مما يجعل فائدة الحد يرجع على المجتمع بل على الإنسان نفسه حيث يردعه عن العصيان، لأن اللّه تعالى لا تضرّه المعصية ولو عصاه أهل الأرض جميعاً، ولا تنفعه الطاعة ولو أطاعه أهل الأرض جميعاً. وإنما جاء النهي عن المعاصي، والأمر بالطاعات، والحد على المتمرد والعاصي لأجل تنظيم حياة الناس والمجتمع، ورفع الفوضى والشقاء من بينهم، وبذلك تكون العقوبات - بما فيها الحد - قد شُرّعت لأجل مصلحة الناس عامة، ولضمان نظام الجماعة كافة، وهذا هو عين الرحمة التي بعث اللّه من أجل تحققها رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... ومن الواضح أن الحدود مفردات من مفردات الرحمة ولا يصح أن ينظر إليها الإنسان ويأخذ بتطبيقها مع ترك سائر المفردات من القوانين الإسلامية.

شروط إقامة الحد وإجرائه

الأمر الثاني: شروط إقامة الحد وهي كثيرة جداً، بحيث لا تجتمع عادةً في الظروف الحالية والأزمنة الفعلية وتحت وطأة القوانين الوضعية، فلا تجرى هذه الحدود في زماننا هذا.

أما ما نرى في بعض الدول التي تدعي الإسلام وهي تجري الحدود من دون إقامة بقية قوانين الشريعة الإسلامية وأحكامها الراقية وحرياتها المشروعة في سائر مجالات الحياة: من صناعة وزراعة، وسفر وحضر، وحقوق واجتماع، وسياسة واقتصاد، وما إلى ذلك، فهي تعد جريمة لاتُغفر، لأنها مضافاً إلى ما فيها من تشويه الصورة السمحة للإسلام هو تبعيض في الدين ومشمول لقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا

ص: 353

خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ}(1).

وعليه: فالشرط الأساسي والرئيسي لإقامة الحد الشرعي المقرر في الشريعة الإسلامية هو: أن يكون تطبيقه ضمن تطبيق المجموعة المتكاملة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية من أحكام في كل مجالات الحياة، وأن لا تنفرد من بينها في التطبيق.

ومضافاً إلى هذا الشرط الرئيسي، هناك شروط عديدة أخرى يجب تحققها عند إقامة الحدّ الشرعي بصورة عامة، ولدى إجرائه على المرتدّ بصورة خاصة، فإذا لم تتحقق كل تلك الشروط لا يمكن عندها إجراء الحد على المرتد، ومن تلك الشروط ما يلي:

البلوغ، والعقل، والاختيار، وتعني أن لا يكون المرتد صبيّاً أو مجنوناً أو مضطراً، وذلك لوجود أحاديث شريفة ترفع الحد عنهم، كما في قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث الرفع(2)، وهذا ما يقرّه جميع العقلاء وتلتزم به القوانين الوضعية في جملة من قوانينها.

روي: أن مجنونةً فجر بها رجل، وقامت البيّنة عليها، فأمر عمر بجلدها الحد، فمر بها علي أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: «ما بال مجنونة آل فلان تُقتل؟!». فقيل له: إن رجلاً فجر بها فهرب وقامت البينة عليها، وأمر عمر بجلدها!

فقال(عليه السلام) لهم: «ردوها إليه، وقولوا له: أما علمت أن هذه مجنونة آل فلان، وأن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: رُفع القلم عن المجنون حتى يفيق، وأنها مغلوبة على عقلها

ص: 354


1- سورة البقرة، الآية: 85.
2- إشارة إلى قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رفع عن أمتي تسع: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة ولا لسان» تحف العقول: 50.

ونفسها»، فردوها إليه فدرأ عنها الحد(1).

ومن تلك الشروط أيضاً: أن لا يكون الإنسان مُكرَهاً على الارتداد، كما قال اللّه تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالْإِيمَٰنِ}(2) وكما جاء في حديث الرفع عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رُفع عن أمتي... ما استكرهوا عليه»(3).

ومن مصاديق الإكراه، الإكراه الأجوائي على تفصيل ذكرناه في الفقه.

ومن تلك الشروط أيضاً: أن يكون المرتد رجلاً لا امرأة، فإن المرأة إذا ارتدّت من دون شبهة ولم تتب، لا يكون حدها إلّا أن تحبس ويضيّق عليها في المعاش إلى أن تتوب، سواء كانت ردتها عن فطرة أم عن غيرها، وفي ذلك روايات عديدة.

عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «في المرتد يستتاب، فإن تاب وإلّا قُتل، والمرأة إذا ارتدت عن الإسلام استتيبت فإن تابت ورجعت، وإلّا خلدت في السجن وضيق عليها في حبسها»(4).

ومن تلك الشروط أيضاً: أن لا يكون للإنسان المرتد شبهة بالنسبة إلى الاعتقاد بوحدانية اللّه تعالى، أوالنبوة، أو المعاد... خاصة إذا لم يكن هناك من يستطيع إفهامه وإزاحة الشبهة عن ذهنه، ففي مثل هذا الفرض تُدرأ الحد، للشبهة، كما في قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إدرءوا الحدود بالشبهات»(5).

ومن تلك الشروط أيضاً:

ص: 355


1- وسائل الشيعة 28: 23.
2- سورة النحل، الآية: 106.
3- متشابه القرآن ومختلفه 2: 181 وقريب منه بصيغ أخرى كما مرّ في تحف العقول: 50 والكافي 2: 463.
4- الكافي 7: 256.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 74.

أن لا يكون ذلك الباطل من مذهبه، كما نرى من القول بالتجسيم والتشبيهعند بعض العامة(1)، فإنه لا يجرى عليه الحد الشرعي للحديث الشريف: «ألزموهم بما ألزموا أنفسهم»(2).

ص: 356


1- المجسمة: هم القائلون بأن اللّه جسم - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - وهم طائفتان: القائلون بالتجسيم على وجه الحقيقة، وأنه (تعالى) جسم حقيقة كسائر الأجسام. والقائلون بالتجسيم على وجه التسمية، وأنه جسم لا كالأجسام. واختلف في ارتدادهم ونجاستهم أو طهارتهم. أما المشبهة، فهم الذين يشبهون اللّه تعالى بمخلوقاته، وقرنهم بعض العلماء بالمجسمة.
2- تهذيب الأحكام 9: 322. وذكر الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في كتاب القواعد الفقهية - نورده باختصار- : قاعدة الإلزام: وهي قاعدة مشهورة، دلّ عليها النصّ والإجماع، بل ربما العقل أيضاً: حيث إن مقتضى عدم إلزام الناس بالإسلام يلازم تقريرهم على أحكامهم. وقد ذكرنا في (الفقه) أن الإسلام يخيّر الكافر - ولو غير الكتابي - بين الجزية والإسلام والقتال، وإنه ليس خاصاً بالكتابي، كما دلّت عليه سيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والوصي(عليه السلام)، بل وسيرة المسلمين إلى اليوم. وهذه القاعدة شاملة للمخالفين سواء منهم المنافق وغيره، وللكفّار كتابيّاً أو غير كتابيّ، لما ذُكِر فيها من التعاليل، مثل قوله الإمام الباقر(عليه السلام): «تجوز على أهل كل ذوي دين ما يستحلّون» وسائل الشيعة 26: 158، وقوله الإمام الصادق(عليه السلام): «من كان يدين بدين قوم لزمته أحكامهم». من لا يحضره الفقيه 3: 407. ولا فرق في الكافر بين من له قانون ومن له دين سماويّ بزعمه، إذ القانون أيضاً دين، أترى قوله سبحانه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} سورة الكافرون، الآية: 6. كما أنه لو كان لجماعة دين وقانون فإنه يؤخذ بالأغلب عندهم، مثلاً: في الغرب حاليّاً القانون هو الأغلب، بل هو أيضاً دينهم السماوي لما رووه من قول المسيح(عليه السلام): (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ولذا نلزمهم بقانونهم. ولا فرق في الإلزام بين نفعهم وضررهم، للإطلاق، ولذا حكم الفقهاء للمجوسي بإرثين، مع أنه في نفعه لا في ضرره. وممّا تقدّم يعلم عدم الفرق بين أقسام الكفّار والمخالفين معنا، أو مع بعضهم المتّفق، أو مع بعضهم المختلف، مثلاً: الحنفي والحنبلي أو اليهودي والنصراني، فإذا تحاكموا إلينا اخترنا ما نرى من هذا المذهب أو ذلك المذهب، أو هذا الدين وذلك الدين. نعم، بين المسلم مطلقاً والكافر مطلقاً يُقدّم المسلم، كما أن بين المؤالف والمخالف يقدّم المؤالف، الأول لعلوّ الإسلام، والثاني لأن الحق معنا. وعلى هذا يصح الإلزام في البيع والشراء والشركة والشفعة - إذا كان يرى الشفعة ولا نراها فنأخذه بالشفعة - والمضاربة والمزارعة والمساقاة والوصيّة والرهن والوقف والهبة وإحياء الموات والحيازة وغيرها. وليس الإلزام عزيمة علينا - مطلقاً - بل رخصة فإذا رأى أنّ الحيازة لا تكون إلّا برخصة الدولة لا يلزمنا ذلك، بل لنا الحيازة. ثمّ إنّ هناك بعض ما يقطع بأنه من قانون الإلزام، وبعض ما يقطع بأنه ليس منه، وبعض ما يشك فيه، فاللازم الرجوع إلى القواعد المرتبطة بموضع الشكّ. مثلاً: لاشك في جريان القاعدة في النكاح والطلاق والإرث وما أشبه ممّا تقدّم ذكره، لكن من المقطوع به - ولو لضرورة أو إجماع أو ارتكاز أو سيرة - أنه لا يجوز لنا شرب الحرام وأكله، وكذا النجس ممّا يعتقدون طهارته وحلّيته، ولا يجوز لنا الزنا بنسائهم واللّواط بغلمانهم، وإن أباحوا ذلك، حسب ما في كتبهم المقدّسة، من زنا لوط(عليه السلام) ببنتيه، وسليمان(عليه السلام) بزوجة أوريا، والعياذ باللّه. والأخير جائز في قانونهم، وحيث لم يصرّح بالحرمة في دينهم يرونه حلالاً يتعاطونه. ومن المقطوع به في قانون الإلزام لو لم يأت بطواف النساء، - رجلاً كان أو امرأة - فإنه لا يحرم على الزوج الآخر. انظر القواعد الفقهية: 45.

ومن تلك الشروط أيضاً: أن لا يكون المرتد في مكان لا يمكن إقامة الحدّ عليه فيه، كأن يكون في أرض العدو مثلاً، أو في بلاد بعيدة عن بلاد الإسلام، أو في مكان يوجب الحد تشويهاً لسمعة الإسلام.

ومن تلك الشروط أيضاً: أن لا يكون الارتداد لتقية من الكفار، وقد ورد جواز التقية في القرآن الحكيم حيث قال تعالى: {إِلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَىٰةً}(1).

وكما وردت أيضاً أحاديث على جواز التقية، منها: ما جاء عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إنما جُعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية»(2)، وقال(عليه السلام): «التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له»(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «اتقوا على دينكم فاحجبوه بالتقية، فإنه لا

ص: 357


1- سورة آل عمران، الآية: 28.
2- الكافي 2: 220.
3- الكافي 2: 220.

إيمان لمن لا تقية له، إنما أنتم في الناس كالنحل في الطير، لو أن الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلّا أكلته، ولو أن الناس علموا ما في أجوافكم أنكم تحبّونّا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم(1) في السر والعلانية، رحم اللّه عبداً منكم كان على ولايتنا»(2).

وقال(عليه السلام): «اتقوا اللّه وصونوا دينكم بالورع وقوّوه بالتقية...»(3).

ومن تلك الشروط أيضاً: أن تكون الحكومة الإسلامية قائمة، والأحكام الشرعية والحريات الدينية والاجتماعية كلها - وفي كل مجالات الحياة - مطبقة وجارية، وأن يكون هناك حاكم للشرع ليجري الحدود الشرعية عامة، وحد المرتد خاصة، وأن لا يحدث خلاف بين الفقهاء بالنسبة إلى إجراء الحد الشرعي، على المرتد ولو حدث اختلاف في ذلك، وجب تحكيم رأي الأكثرية فيه أي شورى الفقهاء المراجع.

ومن تلك الشروط - أيضاً - : عدم وجود شبهة مضلة، وذلك بأن يؤخذ بنظر الاعتبار قبل الحكم بارتداد المسلم، أن لا يكون ارتداده من جرّاء التأثّر بشبهة مضلة، أو بغزو فكري منحرف ومعادٍ يدخل البلاد الإسلامية على نطاق واسع، وإعلام مغرض مكثف وكبير، من قبيل الأفكار الإلحادية التي تروّج لنشرها الماركسية، وتلقى رواجاً في بعض البلاد الإسلامية بسبب الانخداع بشعاراتها البرّاقة التي يطلقها إعلامهم الموجّه بشكل مكثّف، فلو ارتد هؤلاء المنخدعون عن الإسلام، فإنه لا يحكم بارتدادهم، ولا يقام عليهم الحد الشرعي للارتداد، وإنما يجب إرشادهم إلى الصواب، وإزالة الشبهة عن أذهانهم حتى يرجعوا

ص: 358


1- نَحَلَه القول: أضاف اليه قولاً قاله غيره وادعاه عليه، نحل زيداً: سابّه.
2- الكافي 2: 218.
3- الكافي 5: 105.

ويتوبوا وتقبل توبتهم.

كما حصل في الوقائع والأحداث التي حدثت في زمن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث لم يقم الحد على المنخدعين الخارجين عليه بعد أن ظفر بهم، كما في معركة الجمل، وبعد أن تابوا ورجعوا، كما في حرب النهروان.

محارب المعصوم(عليه السلام)

قال الشيخ الطوسي(رحمه اللّه) في (تلخيص الشافي): عندنا - الإمامية - أن من حارب أمير المؤمنين(عليه السلام) وضرب وجهه ووجه أصحابه بالسيف كافر، والدليل المعتمد في ذلك إجماع الفرقة المحقّة الإمامية على ذلك... وأيضاً فنحن نعلم: أنّ من حاربه كان منكراً لإمامته ودافعاً لها، ودفع الإمامة كفر كما أن دفع النبوة كفر؛ لأن الجهل بهما على حد واحد، وقد روي عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» وميتة الجاهلية لا تكون إلّا على كفر. وأيضاً روي عنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «حربك يا علي حربي، وسلمك يا علي سلمي» ومعلوم: أنه إنما أراد أحكام حربك تماثل أحكام حربي، ولم يرد أن أحد الحربين هي الأخرى، لأن المعلوم ضرورة خلاف ذلك، فإن كان حرب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كفراً وجب مثل ذلك في حرب أمير المؤمنين(عليه السلام) لأنه جعله مثل حربه. ويدل على ذلك أيضاً قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه» ونحن نعلم: أنه لا يجب عداوة أحد بالإطلاق إلّا عداوة الكفار...(1).

مع المرتدين من أصحاب الجمل

إذاً من حارب علياً(عليه السلام) فقد كفر وارتد؛ لأنه كمن حارب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولكن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) حين ما استقرّ له الأمر في معركة الجمل، ووضعت

ص: 359


1- بحار الأنوار 32: 330.

الحرب أوزارها، لم يتبع مدبراً، ولم يجهز على جريح، ولم يسب أحداً، وترك أموالهم، وعفى عن المرتدين.

وهذا يبين لنا الحكم في إجراء حد الارتداد والكفر وشروطه.

فمن كلام له(عليه السلام) بالبصرة بعد حمد اللّه تعالى والثناء عليه قال:

«أما بعد: فإن اللّه ذو رحمة واسعة، ومغفرة دائمة، وعفوٍ جم، وعقاب أليم، قضى أن رحمته ومغفرته وعفوه لأهل طاعته من خلقه، وبرحمته اهتدى المهتدون، وقضى أن نقمته وسطواته وعقابه على أهل معصيته من خلقه، وبعد الهدى والبيّنات ما ضلّ الضالّون، فما ظنّكم يا أهل البصرة وقد نكثتم بيعتي وظاهرتم علي عدوي؟».

فقام إليه رجل فقال: نظن خيراً ونراك قد ظفرت وقدرت، فإن عاقبت فقد إجترمنا ذلك، وإن عفوت فالعفو أحب إلى اللّه.

فقال(عليه السلام): «قد عفوت عنكم فإيّاكم والفتنة، فإنكم أول الرعية نكث البيعة وشق عصا هذه الأمة»(1).

مع الخوارج المرتدين

أما الخوارج، فكانوا قد مرقوا عن الدين وخرجوا عنه وعاثوا في الأرض فساداً، وخرجوا على إمام زمانهم الحق وصي الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأعلنوا الحرب عليه في معركة النهروان، فواجههم الإمام(عليه السلام) وكانوا اثني عشر ألفاً فأرشدهم إلى الصواب وأوضح لهم الحق، فرجع منهم ثمانية آلاف وتابوا إلى اللّه تعالى، فقبل(عليه السلام) توبتهم، وأصر الباقون على عنادهم وهم أربعة آلاف على الحرب والمقاتلة، وبدؤوا بقتال علي(عليه السلام) ولم يبدأهم

ص: 360


1- الإرشاد 1: 257.

بالقتال، فلما قتلوا بعضاً منأصحابه قاتلهم(عليه السلام) دفاعاً، ولم تضع الحرب أوزارها إلّا على قتلهم وفرار عدد منهم، فلم يعقبهم(عليه السلام) ولم يأمر بتعقبهم، وإنما قال الإمام(عليه السلام): «لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه»(1).

وربما يستفاد من قصة الخوارج أنه لو كان الارتداد والكفر لشبهة لاتجرى الحدود، فإن عدداً من الخوارج كان إنكارهم للحق عن شبهة فلذلك رجعوا عندما وعظهم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام).

وهكذا في حرب صفين حيث ارتد الكثيرون، وكان من أسباب ارتدادهم الشبهة التي حصلت في مسألة التحكيم ورفع المصاحف، وهذه الشبهة كان وراءها تيار معادٍ للإسلام العظيم، وللرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام)، وكان سلاحه المكر والخديعة.

ومع كل ذلك الإمام(عليه السلام) لم يقتل أحداً ممن ارتد عليه.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) للخوارج حين رجع إلى الكوفة، بعد حمد اللّه والثناء عليه: «اللّهم إن هذا مقام من فلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة، ومن نَطِفَ(2) فيه أو غلَّ {فَهُوَ فِي الْأخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا}(3) نشدتكم باللّه، أ تعلمون أنهم حين رفعوا المصاحف فقلتم: نجيبهم إلى كتاب اللّه، قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني صحبتهم وعرفتهم أطفالاً ورجالاً فكانوا شرَّ أطفال وشرَّ رجال، امضوا على حقكم وصدقكم، إنما رفع القوم لكم

ص: 361


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 61. وقال الشريف الرضي(رحمه اللّه): المراد من طلب الباطل فأدركه يعني معاوية وأصحابه.
2- نَطِفَ: تلطخ بالعيب واتهم بالريبة.
3- سورة الاسراء، الآية: 72.

هذه المصاحف خديعةً ووهناً ومكيدةً، فرددتم عليَّ رأيي وقلتم: لا بل نقبلمنهم، فقلت لكم: اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إياي، فلما أبيتم إلّا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا على ما أحياه القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في الكتاب، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء».

فقال له بعض الخوارج: فخبِّرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟

فقال(عليه السلام): «إنا لم نحكِّم الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال».

قالوا له: فخبِّرنا عن الأجل لِمَ جعلته فيما بينك وبينهم؟

قال: ليتعلم الجاهل ويتثبت العالم، ولعل اللّه أن يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، ادخلوا مصركم رحمكم اللّه»(1).

وروي: لما عاد أمير المؤمنين(عليه السلام) من صفين إلى الكوفة بعد إقامة الحكمين أقام ينتظر انقضاء المدة التي بينه وبين معاوية ليرجع إلى مقاتلته والمحاربة، إذ انخزلت طائفة من خاصة أصحابه في أربعة آلاف فارس، وهم العباد والنساك، فخرجوا من الكوفة وخالفوا علياً(عليه السلام) وقالوا: لا حكم إلّا لله ولا طاعة لمن عصى اللّه، وانحاز إليهم نيف عن ثمانية آلاف ممن يرى رأيهم، فصاروا اثني عشر ألفاً، وساروا إلى أن نزلوا بحروراء وأمروا عليهم عبد اللّه بن الكواء، فدعا علي(عليه السلام) عبد اللّه بن عباس فأرسله إليهم فحادثهم فلم يرتدعوا...

إلى أن قال:

قالوا: فإنا نقمنا عليك أنك حكَّمت حَكَماً في حق هو لك؟

ص: 362


1- الإرشاد 1: 270.

فقال(عليه السلام): «إن رسول اللّه حَكَّم سعد بن معاذ في بني قريظة، ولو شاء لم يفعل،وأنا اقتديت به، فهل بقي عندكم شي ء؟».

فسكتوا وصاح جماعة منهم من كل ناحية: التوبة التوبة يا أمير المؤمنين، واستأمن إليه ثمانية آلاف، وبقي على حربه أربعة آلاف، فأمر(عليه السلام) المستأمنين بالاعتزال عنهم في ذلك الوقت، وتقدم بأصحابه حتى دنا منهم، وتقدم عبد اللّه بن وهب وذو الثدية حرقوص، وقالا: ما نريد بقتالنا إياك إلّا وجه اللّه والدار الآخرة!!

فقال علي(عليه السلام): {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(1) ثم التحم القتال بين الفريقين واستعر الحرب بلظاها وأسفرت عن زرقة صبحها وحمرة ضحاها فتجادلوا وتجالدوا بألسنة رماحها وحداد ظباها... واختلطوا فلم يكن إلّا ساعة حتى قتلوا بأجمعهم وكانوا أربعة آلاف، فما أفلت منهم إلّا تسعة أنفس... وغنم أصحاب علي(عليه السلام) غنائم كثيرة وقُتل من أصحاب علي(عليه السلام) تسعة بعدد من سلم من الخوارج، وهي من جملة كرامات علي(عليه السلام) فإنه قال: «نقتلهم ولا يُقتل منا عشرة ولا يسلم منهم عشرة».

فلما قُتلوا قال علي(عليه السلام): «التمسوا المخدج، فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي(عليه السلام) بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض. فقال: «أخروهم فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر علي(عليه السلام) وقال: «صدق اللّه وبلَّغ رسوله»(2).

ومن هنا يُعرف الفرق بين هؤلاء الخوارج حيث وصفهم الإمام(عليه السلام) بأنهم ممن طلب الحق فأخطأه، وبين أصحاب معاوية وأتباعه الذين أثاروا هذه الشبهة،

ص: 363


1- سورة الكهف، الآية: 103- 104.
2- بحار الأنوار 33: 394.

حيث اعتبرهم ممن طلب الباطل فأدركه، وهو يعلم بأنه باطل وليس لشبهة.

إلى ما شابه ذلك من الأمور التي ترفع الحكم بالقتل بعد التوبة والرجوع إلى الإسلام.

وروي أن الإمام الرضا(عليه السلام) سمع بعض أصحابه يقول: لعن اللّه من حارب علياً(عليه السلام). فقال(عليه السلام): «قل: إلّا من تاب وأصلح». ثم قال: «ذنب من تخلّف عنه ولم يتب أعظم من ذنب من قاتله ثم تاب!!»(1).

استنتاج

نستنتج من خلال ما تقدم من القضايا والأحداث التي جرت في زمن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أن المسلمين الذين انخدعوا بفعل التيارات التي ابتدعها وافتعلها معاوية ومن يدور في فلكه بعد مقتل عثمان، وكذلك في مسألة التحكيم، وكذلك ما ابتدعه وافتعله طلحة والزبير في معركة الجمل، ومن تعامل الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) معهم بعد عودتهم إلى طريق الحق بقبول التوبة والعفو عنهم، نستنتج من ذلك كله: قبول توبة المرتد الذي انحرف عن جادّة الصواب على أثر الشبهات المثارة، والتيارات المبتدعة الباطلة.

وتحصل مما سبق أنه ليس الحكم دائماً القتل بالنسبة إلى المرتد بل هناك شروط وشروط لابد من توفرها، وما أصعب توفرها.

الحد الشرعي وحرية الإنسان

الأمر الثالث والأخير: مدى تقييد الحد الشرعي لحرية الإنسان المطلقة، فما هي النسبة بين الحدود وأصالة الحرية؟

إن الحريات التي منحتها الشريعة الإسلامية للإنسان، وإن كانت مطلقة

ص: 364


1- وسائل الشيعة 15: 335.

وعامة تشمل كل مجالات الإنسان وجميع مرافق الحياة، إلّا أنها مقيدة بكونها مشروعة ومعقولة، وبأنها لا تضر الناس والمجتمع، فإذا كان هناك مصداق منمصاديق الحرية غير مشروع، أو غير معقول، أو يضر بالناس، أو ما أشبه، فهو غير داخل في الحريات التي منحتها الشريعة الإسلامية للإنسان.

نعم، لقد اهتمت الشريعة الإسلامية اهتماماً بالغاً بمسألة الحريات العامة للإنسان وضمنت له الحريات بما لا مثيل له في أي تشريع وقانون، منها: حرية الرأي والفكر، وحرية العلم والعمل، وحرية السفر والحضر، حرية الاقتصاد والسياسية والاجتماع، وغير ذلك، ومن أجلها بعث اللّه سبحانه الأنبياء والرسل، وقد وصف الرسول الخاتم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك كما في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(1). وقوله عزّ وجلّ في مسألة حرية الفكر والعقيدة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(2).

ثم منحت الشريعة الإسلامية الإنسان الاختيار بعد أن بيّنت له الحق من الباطل، والخير من الشر، والضار من النافع، وأطّرت له الحرية بإطار عدم الإضرار بالآخرين كما أطرته بإطار الشرع والعقل، فلا حرية في المحرمات الشرعية والمنهيات العقلية، ومن بين هذه المحرمات الشرعية والعقلية الارتداد عن الدين الإسلامي: عن دين الفطرة، ودين العقل والمنطق.

وعليه: فالذي يختار الإسلام سواء عن فطرة أو عن غير فطرة من الذين اهتدوا إلى طريق الحق والصواب، لا تسمح له الشريعة ولا العقل بالخروج عن هذا الطريق المستقيم النافع، وهذا ليس كالكافر الأصلي فإن الكافر المتولد بين

ص: 365


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة البقرة، الآية: 256.

أبوين كافرين يشمله قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فيمكنه البقاء على اليهودية أو النصرانية أو غيرها، دون أن يجرى عليه الحد الشرعي في الدنيا، نعم يبقى لهعقاب الآخرة والنار إذا لم يكن قاصراً.

أما الذي دخل الإسلام واختاره ديناً له، لا يجوز له الرجوع عنه من دون شبهة، وإذا رجع عنه معانداً للحق فهو قد خالف العقل، وتجاوز الشرع، وتعدى على الأصول العرفية والعقلائية، وخرج عن إطار الحريّات التي أطلقها الإسلام. ودخل الحدود الممنوعة التي لا يجوز الاقتراب منها، وبذلك يكون قد استحق العقاب والصد عن غيه وتجاوزه، ومعه لا يكون ذلك تقييداً لشيء من الحرية المطلقة التي منحتها الشريعة الإسلامية للإنسان، كما هو واضح.

بين الإسلام وسائر الأنظمة

ثم إن الشريعة الإسلامية تراعي في إجراء الحد الشرعي - على فرض ثبوت الجريمة وتوفر كل شروطها - أنظف السبل وأجمل الطرق الممكنة، كما وتراعى في تطبيقها الأخلاق الإنسانية، والآداب الإسلامية العادلة، فلا تهين أحداً ولا تحقره، ولا تستخدم في حقه ما لايليق به ولا يوافق شأنه كإنسان؛ ولذا فإنها تحرم ممارسة التعذيب في حقه بكافة أشكاله وجميع أقسامه، روحياً وجسدياً، لفظياً وعملياً، وتكتفي بإجراء الحد الشرعي فقط وتنفيذه فحسب، والتاريخ الإسلامي الناصع خير شاهد على ذلك(1).

أما في قوانين الشرق والغرب، فإنها مضافاً إلى قسوة عقوباتها وشدتها، وعدم عقلانيتها وعدم عرفيتها، فهي مصحوبة بجفوة التطبيق وبذاءة التنفيذ، واستخدام مختلف أساليب التعذيب وأنواع التحقير في حق الإنسان الذي يخالف شيئاً من

ص: 366


1- انظر: الكافي 7: 174 كتاب الحدود، ومن لا يحضره الفقيه 4: 23 كتاب الحدود.

قوانينهم الوضعية غير العادلة، فإن الغرب لا يسمح لأفراده مخالفة القوانين الرأسمالية ويعتبرها هدماً لنظامهم، وهكذا الشرق، فإنه لا يسمح لأي واحد منالناس بمخالفة أسس الشيوعية والقوانين الاشتراكية، ويعتبرها هدماً لنظامهم وكيانهم، علماً بأن هذين النظامين يتمسكان بعقيدتين مادّيتين ويبنيان نظامهما على أساس مادي بحت، بينما الإسلام ليس كذلك، فإنه يبني نظامه على أساس متين أمين، يلبى نداء الفطرة والعقل، ويعطي طلبات الروح والجسم، ويشبع البعد المادي والمعنوي للإنسان، فيكون الارتداد عن الإسلام خروجاً على العقل والمنطق، وليس كذلك الخروج على قانون من قوانين الشرق والغرب.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

شمولية الشريعة الإسلامية ودوامها

قال اللّه تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}(2).

وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(3).

ص: 367


1- الكافي 3: 424.
2- سورة الشورى، الآية: 13.
3- سورة الجاثية، الآية: 18.

وقال عزّ وجلّ: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّۧنَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}(1).وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(2).

تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها

قال اللّه تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(3).

وقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ}(5).

حق الحاكمية في الشريعة الإسلامية

قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(6).

وقال سبحانه: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا ءَاتَىٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ

ص: 368


1- سورة الأحزاب، الآية: 40.
2- سورة آل عمران، الآية: 19.
3- سورة آل عمران، الآية: 85.
4- سورة المائدة، الآية: 3.
5- سورة الأنعام، الآية: 125.
6- سورة المائدة، الآية: 55.
7- سورة المائدة، الآية: 92.

إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(1).

الحريات المطلقة في الشريعة الإسلامية

قال اللّه تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِوَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(2).

وقال سبحانه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(5).

الثواب والعقاب ضمان لتطبيق الشريعة

قال اللّه تعالى: {بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَٰطَتْ بِهِ خَطِئَتُهُ فَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(6).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}(8).

وقال جلّ وعلا: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ

ص: 369


1- سورة الحشر، الآية: 7.
2- سورة البقرة، الآية: 256.
3- سورة الكهف، الآية: 29.
4- سورة الأعراف، الآية: 157.
5- سورة الإنسان، الآية: 3.
6- سورة البقرة، الآية: 81.
7- سورة البقرة، الآية: 82.
8- سورة آل عمران، الآية: 195.

يَعْمَلُونَ}(1).

وقال تبارك اسمه: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(2)

الشريعة الإسلامية وحدة لا تقبل التجزئة والتبعيض

قال اللّه تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(3).

وقال سبحانه: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

شمولية الشريعة الإسلامية ودوامها

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى اللّه الذي ابتدأ خلقكم وإليه يكون معادكم، وبه نجاح طلبتكم، وإليه منتهى رغبتكم، ونحوه قصد سبيلكم، وإليه مرامي مفزعكم(6)، فإن تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، وبصر عمى

ص: 370


1- سورة النحل، الآية: 97.
2- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
3- سورة البقرة، الآية: 85.
4- سورة النساء، الآية: 150.
5- سورة محمد، الآية: 26.
6- مرمى المَفْزَع: ما يدفع إليه الخوف وهو الملجأ: أي وإليه ملاجئ خوفكم.

أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عَشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم(1)، وضياء سواد ظلمتكم، فاجعلوا طاعة اللّه شِعاراً(2) دون دثاركم، ودخيلاً دون شِعاركم، ولطيفاً بين أضلاعكم، وأميراًفوق أموركم، ومنهلاً لحين ورودكم، وشفيعاً لدَرَك(3) طَلِبَتكم، وجنة ليوم فزعكم، ومصابيح لبطون قبوركم، وسكناً لطول وحشتكم، ونفساً لكرب مواطنكم، فإن طاعة اللّه حرز من متالف مكتنفة، ومخاوف متوقعة، وأوار(4) نيران موقدة، فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوّها، واحَلَوْلَت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له الصعاب بعد إنصابها(5)، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتَحَدَّبت عليه الرحمة بعد نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها(6)، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها، فاتقوا اللّه الذي نفعكم بموعظته، ووعظكم برسالته، وامتن عليكم بنعمته، فعبِّدوا أنفسكم لعبادته واخرجوا إليه من حق طاعته.

ثم إن هذا الإسلام دين اللّه الذي اصطفاه لنفسه، واصطنعه على عينه، وأصفاه خيرة خلقه، وأقام دعائمه على محبته، أذل الأديان بعزته، ووضع الملل برفعه، وأهان أعداءه بكرامته، وخذل محاديه بنصره، وهدم أركان الضلالة بركنه، وسقى

ص: 371


1- الجأش: ما يضطرب في القلب عند الفزع أو التهيب أو توقع المكروه.
2- الشِعار: ما يلي البدن من الثياب، والدِثار: ما فوق الشِعار.
3- الدَرَك: اللحاق، والطَلِبَة: المطلوب.
4- الأُوار: حرارة النار ولهيبها.
5- الإنصاب: مصدرٌ بمعنى الإتعاب، وتَحَدَّب عليه: عطف.
6- نضب الماء نضوباً: غار وذهب الماء في الأرض ونضوب النعمة: قلتها أو زوالها، ووبلت السماء: أمطرت مطراً شديداً. وأرَذّت إرذاذاً: مطرت مطراً ضعيفاً في سكون كأنه الغبار المتطاير.

من عطش من حياضه، وأتأق الحياض بمواتحه(1)، ثم جعله لا انفصام لعروته، ولا فك لحلقته، ولا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا انقلاع لشجرته، ولا انقطاع لمدته، ولا عفاء(2) لشرائعه، ولا جذّ لفروعه، ولا ضنك لطرقه، ولا وعوثةلسهولته، ولا سواد لوضحه(3)، ولا عوج لانتصابه، ولا عصل في عوده، ولا وعث لفجه، ولا انطفاء لمصابيحه، ولا مرارة لحلاوته، فهو دعائم أساخ(4) في الحق أسناخها، وثبت لها آساسها، وينابيع غزرت عيونها، ومصابيح شَبَّت نيرانها، ومنار اقتدى بها سُفّارها، وأعلام قصد بها فجاجها، ومناهل روي بها ورادها، جعل اللّه فيه منتهى رضوانه، وذروة دعائمه وسنام طاعته، فهو عند اللّه وثيق الأركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مضي ء النيران، عزيز السلطان، مشرف المنار، معوذ المثار(5)، فشرفوه واتبعوه وأدوا إليه حقه وضعوه مواضعه.

ثم إن اللّه سبحانه بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق حين دنا من الدنيا الانقطاع وأقبل من الآخرة الاطلاع(6)، وأظلمت بهجتها بعد إشراق، وقامت بأهلها على ساق، وخشن منها مهاد، وأزف(7) منها قياد، في انقطاع من مدتها، واقتراب من

ص: 372


1- تَئِقَ الحوض: امتلأ وأتأقه: ملأه. المواتح - جمع ماتح - : نازع الماء من الحوض.
2- العَفاء: الدروس والاضمحلال، والجَذّ: القطع، والضَنْك: الضيق، والوعوثة: رخاوة في السهل تغوص بها الأقدام عند السير فيعسر المشي فيه.
3- الوَضَح: بياض الصبح، والعَصَل: الاعوجاح يصعب تقويمه، وَعث الطريق: تعسر المشي فيه، والفج: الطريق الواسع بين الجبلين.
4- أساخ: أثبت، والأسْناخ: الأصول.
5- مُعْوِذُ المَثار: من أعوذ بمعنى ألجأ، والمَثار: مصدر ميمي من ثار الغبار إذا هاج أي لو طلب أحد إثارة هذا الدين لألجأه إلى مشقة لقوته ومتانته.
6- الاطّلاع: الإتيان، اطّلع فلان علينا: أي أتانا.
7- أزِف: أي قرب، والمراد من القياد انقيادها للزوال، والأشراط - جمع شَرَط - : أي علامات انقضائها.

أشراطها، وتصرم من أهلها، وانفصام من حلقتها، وانتشار من سببها(1)، وعفاء من أعلامها، وتكشف من عوراتها، وقصر من طولها، جعله اللّه بلاغاً لرسالته، وكرامة لأمته، وربيعاً لأهل زمانه، ورفعة لأعوانه، وشرفاً لأنصاره.

ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقُّده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وتبياناً لا تهدم أركانه، وشفاءً لا تخشى أسقامه، وعزاً لا تهزم أنصاره، وحقاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته(2)، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافيّ الإسلام وبنيانه، وأودية الحق وغيطانه(3)، وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها(4) الواردون، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام(5) لا يجوز عنها القاصدون، جعله اللّه رياً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجّ(6) لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاه، وسلماً لمن دخله، وهدى لمن ائتم به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن

ص: 373


1- انتشار الأسباب: تبددها حتى لا تضبط، وعفاء الأعلام: اندراسها.
2- بحبوحة المكان: وسطه، والرياض - جمع روضة - وهي مستنقع الماء في رمل أو عشب، والغُدْران - جمع غدير - : وهو القطعة من الماء يغادرها السيل، والأثافيّ - جمع أثفيّة - : الحجر يوضع عليه القدر، أي عليه قام الإسلام.
3- غِيطان الحق - جمع غاط أو غوط - : وهو المطمئن من الأرض.
4- لا يَغيضها - من غاض الماء - : نقصه.
5- آكام - جمع أكمة - : وهو الموضع يكون أشد ارتفاعاً مما حوله، وهو دون الجبل في غلظ لا يبلغ أن يكون حجراً.
6- المَحَاجّ - جمع محجّة - : وهي الجادة من الطريق.

خاصم به، وفلجاً(1) لمن حاج به، وحاملاً لمن حمله، ومطية لمن أعمله، وآية لمن توسم، وجنة لمن استلأم(2)، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماًلمن قضى»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) أيضاً: «أيها الناس إن اللّه تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنزل إليه الكتاب بالحق وأنتم أميون عن الكتاب ومن أنزله وعن الرسول ومن أرسله» إلى أن قال(عليه السلام):

«فجاءهم بنسخة ما في الصحف الأولى، وتصديق الذي بين يديه، وتفصيل الحلال من ريب الحرام، ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه: إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلَّمتكم»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شي ء، حتى واللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد؛ حتى لا يستطيع عبدٌ يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلّا وقد أنزله اللّه فيه»(5).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصلٌ في كتاب اللّه عزّ وجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(6).

ص: 374


1- الفَلْج: الظفر والفوز.
2- استلأم: أي لبس اللامة وهي الدرع أو جميع أدوات الحرب، أي إن من جعل القرآن لامة حربه لمدافعة الشُبه كان القرآن وقاية له.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 198 من خطبة له(عليه السلام) ينبه على إحاطة علم اللّه بالجزئيات، ثم يحث على التقوى، ويبين فضل الإسلام والقرآن.
4- الكافي 1: 60.
5- الكافي 1: 59.
6- الكافي 1: 60.
الحريات التي منحتها الشريعة الإسلامية

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً...»(1).وقال(عليه السلام): «لا يسترقنّك الطمع وقد جعلك اللّه حراً»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثير مستمتع: أولها الوفاء، والثانية التدبير، والثالثة الحياء، والرابعة حسن الخلق، والخامسة - وهي تجمع هذه الخصال - الحرية»(3).

الشريعة الإسلامية لا تقبل التجزئة والتبعيض

سُئل أمير المؤمنين(عليه السلام): ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً، وما أدنى ما يكون به كافراً، وما أدنى ما يكون به ضالاً؟

قال(عليه السلام): «أدنى ما يكون به مؤمنا أن يعرفه اللّه نفسه فيقر له بالطاعة وأن يعرفه اللّه نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيقر له بالطاعة، وأن يعرفه اللّه حجته في أرضه وشاهده على خلقه، فيعتقد إمامته فيقر له بالطاعة». قيل: وإن جهل غير ذلك؟ قال(عليه السلام): «نعم، ولكن إذا اُمر أطاع، وإذا نُهي انتهى، وأدنى ما يصير به مشركاً أن يتدين بشي ء مما نهى اللّه عنه، فيزعم أن اللّه أمر به ثم ينصبه دينا، ويزعم أنه يعبد الذي أمر به، وهو غير اللّه عزّ وجلّ، وأدنى مايكون به ضالاً أن لا يعرف حجة اللّه في أرضه وشاهده على خلقه فيأتم به»(4).

وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قلت له: أرأيت من جحد إماماً منكم ما حاله؟ فقال(عليه السلام): «من جحد إماماً من الأئمة وبرئ منه ومن دينه، فهو

ص: 375


1- تحف العقول: 77.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 753.
3- الخصال 1: 284.
4- دعائم الإسلام 1: 13.

كافر ومرتد عن الإسلام؛ لأن الإمام من اللّه ودينه دين اللّه...»(1).

وعن سعيد الأعرج قال: دخلت أنا وسليمان بن خالد، على أبي عبد اللّهجعفر بن محمد(عليهما السلام) فابتدأني فقال: «يا سليمان ما جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) يؤخذ به» إلى أن قال: «والراد عليه في صغير أو كبير على حد الشرك باللّه...»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أما واللّه إن أحب أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم بحديثنا، وإن أسوأهم عندي حالاً وأمقتهم إليّ الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا، فلم يعقله ولم يقبله قلبه اشمأز منه وجحده وكفر بمن دان به، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا ينظر اللّه إلى عبده ولا يزكيه، إذا ترك فريضة من فرائض اللّه أو ارتكب كبيرة من الكبائر»، قال: قلت: لا ينظر اللّه إليه! قال: «نعم، قد أشرك باللّه». قلت: أشرك باللّه! قال: «نعم، إن اللّه أمره بأمر وأمره إبليس بأمر، فترك ما أمر اللّه عزّ وجلّ به وصار إلى ما أمر به إبليس، فهذا مع إبليس في الدرك السابع من النار»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «.. وأما الكفر المذكور في كتاب اللّه فخمسة وجوه: منها كفر الجحود، ومنها كفر فقط، والجحود ينقسم على وجهين، ومنها كفر الترك لما أمر اللّه تعالى به، ومنها كفر البراءة، ومنها كفر النعم، فأما كفر الجحود

ص: 376


1- وسائل الشيعة 28: 351.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 205.
3- بصائر الدرجات 1: 537.
4- وسائل الشيعة 1: 36.

فأحد الوجهين منه جحود الوحدانية، وهو قول من يقول: لا رب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور، وهؤلاء صنف من الزنادقة، وصنف من الدهرية الذينيقولون: {مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}(1) وذلك رأي وضعوه لأنفسهم، استحسنوه بغير حجة، فقال اللّه تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}(2) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(3) أي: لا يؤمنون بتوحيد اللّه. والوجه الآخر من الجحود هو الجحود مع المعرفة بحقيقته، قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(4) وقال سبحانه: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(5) أي: جحدوه بعد أن عرفوه، وأما الوجه الثالث من الكفر، فهو كفر الترك لما أمر اللّه به، وهو من المعاصي، قال اللّه سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ}(6) فكانوا كفاراً لتركهم ما أمر اللّه تعالى به، فنسبهم إلى الإيمان بإقرارهم بألسنتهم على الظاهر دون الباطن، فلم ينفعهم ذلك لقوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا...}»(7).

ص: 377


1- سورة الجاثية، الآية: 24.
2- سورة الجاثية، الآية: 24.
3- سورة البقرة، الآية: 6.
4- سورة النمل، الآية: 14.
5- سورة البقرة، الآية: 89.
6- سورة البقرة، الآية: 84- 85.
7- بحار الأنوار 69: 100.
أهمية الحد والقصاص في الشريعة

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس: أحيوا القصاص وأحيوا الحق ولا تفرقواوأسلموا وسلّموا تسلموا، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}»(1)(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فرض اللّه الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر، والزكاة تسبيباً للرزق، والصيام ابتلاءً لإخلاص الخلق، والحج تقربةً للدين، والجهاد عزاً للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحةً للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء، وصلة الرحم منماةً للعدد، والقصاص حقناً للدماء، وإقامة الحدود إعظاماً للمحارم، وترك شرب الخمر تحصيناً للعقل، ومجانبة السرقة إيجاباً للعفة، وترك الزنى تحصيناً للنسب، وترك اللواط تكثيراً للنسل، والشهادات استظهاراً على المجاحدات، وترك الكذب تشريفاً للصدق، والسلام أماناً من المخاوف، والأمانة نظاماً للأمة، والطاعة تعظيماً للإمامة»(3).

وعن الامام الحسن بن علي العسكري(عليهما السلام) - في تفسيره - عن آبائه(عليهم السلام) عن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}(4) يعني المساواة وأن يسلك بالقاتل في طريق المقتول المسلك الذي سلكه به من قتله {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ}(5) تقتل المرأة بالمرأة إذا قتلتها {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فمن عفي له القاتل ورضي هو وولي

ص: 378


1- سورة المجادلة، الآية: 21.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 53.
3- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 252.
4- سورة البقرة، الآية: 178.
5- سورة البقرة، الآية: 178.

المقتول أن يدفع الدية وعفا عنه بها {فَاتِّبَاعُ} من الولي مطالبة {بِالْمَعْرُوفِ} وتقاص {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ} من المعفو له القاتل {بِإِحْسَٰنٖ} لا يضاره ولا يماطله لقضائها {ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} إذ أجاز أن يعفو ولي المقتول عن القاتل على ديةٍ يأخذها فإنهلو لم يكن إلّا العفو أو القتل لقلّما طابت نفس ولي المقتول بالعفو بلا عوضٍ يأخذه فكان قلّما يسلم القاتل من القتل {فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ} من اعتدى بعد العفو عن القتل بما يأخذه من الدية فقتل القاتل بعد عفوه عنه بالدية التي بذلها ورضي هو بها {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1) في الآخرة عند اللّه وفي الدنيا القتل بالقصاص لقتله لمن لا يحل قتله له، قال اللّه عزّ وجلّ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ}(2) لأن من همّ بالقتل فعرف أنه يقتص منه فكف لذلك عن القتل كان حياةً للذي همّ بقتله، وحياة الجاني قصاص الذي أراد أن يقتل، وحياةً لغيرهما من الناس إذا أعلموا أن القصاص واجب لا يجترون على القتل مخافة القصاص»(3).

ص: 379


1- سورة البقرة، الآية: 178.
2- سورة البقرة، الآية: 179.
3- وسائل الشيعة 29: 54.

التواصي والمواساة طريقا الإصلاح

التواصي وأهميته

قال تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(1).

وقال سبحانه: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ}(2).

وفي اللغة: تواصى القوم: أي أوصى بعضهم بعضاً(3).

وفي البحار(4):

في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} أي: وصي بعضهم بعضاً بالصبر على فرائض اللّه، والصبر عن معصية اللّه.

من أهم طرق الإصلاح هي رعاية قانون التواصي والمواساة، وقد استثنى القرآن الحكيم في سورة العصر من الإنسان الخاسر: المؤمنين الذين يتواصون ويواسون.

والتواصي من باب التفاعل، أي: يوصي كل واحد منهم الآخر في طريق الإصلاح. وإذا كان أفراد المجتمع يراعون قانون التواصي فيما بينهم وفي جميع مجالات الحياة، لأصبح ذلك المجتمع مجتمعاً فاضلاً متقدماً، وهكذا كانتالأمة الإسلامية في عصر تقدمها.

ص: 380


1- سورة العصر، الآية: 3.
2- سورة البلد، الآية: 17
3- لسان العرب 15: 394.
4- بحار الأنوار 7: 171.

وقد ورد في تفسير وتأويل سورة العصر المباركة التي تؤكد على قانون التواصي عدة روايات:

عن المفضل قال: سألت الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ}؟ قال(عليه السلام): «العصر: عصر خروج القائم(عليه السلام)، {إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ} يعني: أعداءنا، {إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} يعني: بآياتنا، {وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} يعني: بمواساة الإخوان، {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ} يعني: بالإمامة، {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(1) يعني: في الفترة»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}. فقال: «استثنى أهل صفوته من خلقه حيث قال: {إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} بولاية علي أمير المؤمنين(عليه السلام) {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ} ذرياتهم ومن خلفوا بالولاية, وتواصوا بها وصبروا عليها»(3).

وفي البحار(4) قال(عليه السلام): «{إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} بولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)، {وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} أي: أدوا الفرائض، {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ} أي: بالولاية، {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} أي: وصوا ذراريهم ومن خلفوا من بعدهم بها وبالصبر عليها».

وعن ابن عباس:

{إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} قيل: إنها

ص: 381


1- سورة العصر، الآية: 1-3.
2- كمال الدين 2: 656.
3- تفسير القمي 2: 441.
4- بحار الأنوار 24: 215.

نزلت في علي(عليه السلام)(1).

وعن علي بن عبد اللّه بن عباس، قال: {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(2) علي بن أبي طالب(عليه السلام)(3).

وورد أنه قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «{وَالْعَصْرِ} ورب عصر القيامة {إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ} أعداء آل محمد {إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} بولايتهم {وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} بمواساة إخوانهم {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} في غيبة غائبهم»(4).

وفي سورة البلد قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْمَيْمَنَةِ}(5).

وورد في تفسيره: {وَتَوَاصَوْاْ} أي أوصى بعضهم بعضاً {بِالصَّبْرِ} على طاعة اللّه {بِالْمَرْحَمَةِ} أي بالرحمة على عبادة أو بموجبات رحمة اللّه {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْمَيْمَنَةِ} أي اليمين أو اليمن(6).

وفي تفسير القمي: عن ابن عباس في قوله: {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} على فرائض اللّه عزّ وجلّ {وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ} فيما بينهم ولا يقبل هذا إلّا من مؤمن(7).

وعن ابن عباس قال: جمع اللّه هذه الخصال كلها في علي(عليه السلام) {إِلَّا الَّذِينَءَامَنُواْ} كان واللّه أول المؤمنين إيماناً {وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} وكان أول من صلى

ص: 382


1- كشف الغمة 1: 314.
2- سورة البلد، الآية: 17، سورة العصر، الآية: 3.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 120.
4- إقبال الأعمال 1: 457.
5- سورة البلد، الآية: 17- 18.
6- بحار الأنوار 66: 364.
7- تفسير القمي 2: 423.

وعبد اللّه من أهل الأرض مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ} يعني بالقرآن، وتعلم القرآن من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان من أبناء سبع وعشرين سنة {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} يعني وأوصى محمد علياً بالصبر عن الدنيا وأوصاه بحفظ فاطمة وبجمع القرآن بعد موته(1) وبقضاء دَينه وبغسله بعد موته وأن يبني حول قبره حائطاً... وأوصاه بحفظ الحسن والحسين فذلك قوله {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(2).

التواصي عبر الأحزاب الحرة

اشارة

ثم إن التواصي قد يكون فردياً، وقد يكون عبر المؤسسات الاجتماعية والسياسية، ومن أهم مصاديق ومقومات التواصي بالحق والصبر والفضيلة والخير في يومنا هذا، وجود الأحزاب الحرة، وأسلوب التعددية السياسية، ففي ظل ذلك يمكن التواصي بالحق، فالأحزاب المتنافسة تقوم بعملية التواصي في ما بينها وكذلك تقوم بتوصية المسئولين في الحكومة وتمنعهم من الظلم والاستبداد وسرقة ثروات الشعب.

أما في ظل النظام الاستبدادي فلا يمكن التواصي بالخير والفضيلة كما هو واضح.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة: «أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، فإنها خير ما تواصى العباد به وخير عواقب الأمور عند اللّه»(3).

ص: 383


1- أي بجمع تفسير القرآن وتأويله وأسباب نزوله وعلومه، وإلّا فالقرآن جُمع في حياة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبأمر وإشراف مباشر منه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبهذا الشكل الموجود بأيدينا اليوم. للتفصيل راجع كتاب متى جمع القرآن؟ للإمام الشيرازي الراحل(رحمه اللّه).
2- شواهد التنزيل 2: 483.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 173 ومن خطبة له(عليه السلام) في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن هو جدير بأن يكون للخلافة.
تصوير الوقائع التاريخية
اشارة

تشير بعض الآيات الشريفة في القرآن الحكيم إلى الوقائع التاريخية المصيرية في صدر الإسلام، مصورة بالكلمات البليغة عن تلك الأحداث التي جرت أثناء بداية الانتشار الإسلامي برسالته السماوية عبر الجهود المتواصلة التي قام بها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ومن تلك الآيات الشريفة قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَئًْا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ}(1).

والآية في سورة آل عمران، حيث إنها تحمل في طياتها الكثير من الأحداث والوقائع التي جرت بين المسلمين والكافرين، وبين المسلمين أنفسهم. ومن الطبيعي أن هذه الآية وما بعدها تحمل مواضيع شتى ترتبط بالمجتمع الإسلامي المعاصر، ولا يمكن استغراقها خلال هذا البحث المختصر، إلّا أن من أهم النقاط الأساسية التي يمكن الاستفادة منها من خلال هذه الآيات، هو موضوع التواصي والمواساة، وبمعنى أدق: أسلوب الطاعة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وضرورة الالتزام بما أمر به، وميزان الأخوة الإسلامية والتعاون، والذي يؤدي بالنتيجة إلى النصر والقوة في المجتمع الإسلامي داخلياً وخارجياً، والتحرر من كل القيود الخارجية التي تحيكها القوى المضادة.

معنى الآية الشريفة

يشير القرآن الحكيم ضمن الآيات التي سبقت هذه الآية المباركة إلى تأنيبالمؤمنين على موقفهم يوم أحد، حيث إن جماعة منهم قبل الغزوة كانوا يتطلعون

ص: 384


1- سورة آل عمران، الآية: 144.

إلى الجهاد ويتمنون الاستشهاد، ولما حضر وقت الجهاد والحرب فروا منهزمين، وفوق ذلك أن إيمان بعضهم كان بدرجة من الوهن حتى أنهم لما سمعوا بموت الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كادوا أن يرتدوا {وَلَقَدْ كُنتُمْ} أيها المؤمنون {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} ولقاء الموت كناية عن لقاء مقدماته والوقوع في الأهوال المنتهية إليه {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} في الغزوة؛ إذ رأيتم غلبة الكفار وقتل جماعة من المؤمنين {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}(1) أي: تشاهدون المعركة، وهذا تأكيد لمعنى {رَأَيْتُمُوهُ} حتى لا يتوهم أحد أن الرؤية كانت بالقلب، فإن (رأى) قد يستعمل بمعنى (علم). {وَمَا مُحَمَّدٌ}(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {إِلَّا رَسُولٌ} أي: ليس هو إلهاً لا يموت؛ إنما هو بشر اختاره اللّه للرسالة، فيجري عليه ما يجري على البشر من الموت والقتل، وليس بدعاً من الرسل، بل {قَدْ خَلَتْ} أي: مضت وتقدمت {مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الذين جرت عليهم سنة اللّه من الموت ومفارقة الحياة {أَفَإِيْن مَّاتَ} موتاً اعتيادياً {أَوْ قُتِلَ} واستشهد {انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ} استفهام إنكاري توبيخي، أي: لم يكن حالكم هكذا، حتى ترتدوا بموت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنّى عن الارتداد بالمشي القهقرى (الانقلاب على الأعقاب) الذي هو رجوع نحو الوراء {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} أي: من يرتد عن دينه {فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَئًْا} إذ اللّه سبحانه غني مطلق لا يحتاج إلى إيمان أحد حتى يضره ارتداده {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ}(2) الذين يشكرون نعمة الإيمان ويثبتون عليه، فإن الارتداد من أعظم أقسام الكفر، كما قال: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَىٰكُمْ لِلْإِيمَٰنِ}(3)(4).

ص: 385


1- سورة آل عمران، الآية: 143.
2- سورة آل عمران، الآية: 144.
3- سورة الحجرات، الآية: 17.
4- تفسير تقريب القرآن 1: 399.

إذاً، تعني الآية وباختصار: أن أمر اللّه تعالى لابد أن يتم، وأن الرسالة السماوية التي حملها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) باقية، حتى لو مات الرسول أو قتل، فليس الموت بمستحيل عليه ولا القتل؛ لأنه من البشر، أما الإيمان أو الإسلام فهو مرتبط بالرسالة الإلهية، وليس فقط بوجود الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلا يجوز لكم الارتداد إلى الكفر بعد موته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأما لو انقلبتم من الإسلام إلى الكفر فعلاً، فلن تضروا اللّه شيئاً، بل إنكم ترتكبون المعصية والمضرة التي تعود عليكم بالتأخر في الدنيا واستحقاقكم العقاب الدائم، أما مَن التزم بإيمانه وبقي على دينه ولم يرتد، فسيجزيه اللّه على شكره للنعمة؛ لأن شكر النعمة هو طاعة اللّه تعالى، فيكون المراد بالشاكرين هم المطيعين لأمر اللّه تعالى.

هذا هو المعنى العام للآية، ولابد أن نتعرف على المناسبة التي نزلت فيها الآية الكريمة.

سبب النزول

ذكر المفسرون في مناسبة نزول هذه الآية الشريفة أنها كانت في معركة أُحد والتي قاد فيها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الجيش الإسلامي بنفسه، وبعد أن كان الجيش الإسلامي منتصراً في أحد، أخل الرماة بأوامر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقد وضعهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على سفح الجبل لحماية ظهر جيش المسلمين خشية من أن يلتف جيش المشركين من وراء جبل أحد، وكان الرماة خمسين رجلاً وقائدهم عبد اللّه بن جبير من بني عمرو بن عوف. وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قال لهم: «أقيموا بأصل الجبل، وانضحوا عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا لا تبرحوامكانكم؛ فإنا لن نزال غالبين ما ثبتّم مكانكم»(1)، وحين ما هزمت قريش وفر

ص: 386


1- عين العبرة: 57.

جيش المشركين أمام جيش المسلمين في بداية المعركة، تبعهم القسم الأكبر من الرماة طمعاً في الغنائم، وبقي قسم آخر متحيراً. أما عبد اللّه بن جبير ومعه القليل من الرماة فقد ظلوا ملازمين لمكانهم، فألتف خالد بن الوليد الذي كان على ميمنة قريش على الجبل، بعد أن شاهد نزول أغلب الرماة، فمال أولاً على هؤلاء الرماة وقتلهم فاستشهد عبد اللّه بن جبير ومن معه أثناء عبور جيش خالد، وهجم خالد بجيشه على المسلمين من الخلف، فتفاجأ المسلمون بجيش خالد الذين كان أغلبهم من الفرسان مما سبب الاضطراب الشديد في صفوف المسلمين، وشاع بين المسلمين أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قتل، وكان هذا الخبر كذباً محضاً أشاعه الكفار والمنافقون لإلقاء الهزيمة في نفوس المسلمين، وبعد انتشار الخبر انقسم المسلمون إلى قسمين:

القسم الأول: وهم الذين بقوا صامدين ولم يتزحزح إيمانهم، واستمروا في قتال المشركين ودافعوا عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببسالة فائقة وقد جرح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذه المعركة بجراحات كبيرة.

القسم الثاني: وهم على العكس من القسم الأول، حيث كانوا ضعيفي الإيمان، بل إن بعضهم أراد أن يتصالح مع كفار قريش للحصول على الأمان؛ إذ لما فشا في الناس أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قُتل، قال البعض: ليت لنا رسولاً إلى عبد اللّه بن أُبي(1) فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: فالحقوا بدينكم الأول.

وقال أنس بن النضر: يا قوم، إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول

ص: 387


1- رأس المنافقين في المدينة وكان صديقاً لرأس المشركين أبي سفيان.

اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللّهم إني أعتذر إليك مما يقوله هؤلاء - يعني: المنافقين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني: المنافقين - ثم شد بسيفه فقاتل حتى قُتل(1).

فنزلت هذه الآية تحكي لنا حال ضعفاء الإيمان والمتزلزلين من ناحية، وتثبت حال من قوي إيمانه وبقي صابراً ومجاهداً من ناحية أخرى، من أجل حماية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحماية الدين الإسلامي(2).

ومما يستفاد من قصة أحد وهذه الآيات: ضرورة التواصي بالحق والتواصي بالصبر.

الانقلاب بعد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

وقد حدث انقلاب بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وارتد الكثير من الناس، وضعف حالةالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إني على الحوض أنظر من يرد عليَّ منكم، وليقطعن

ص: 388


1- بحار الأنوار 20: 27.
2- قال زيد بن وهب: قلت لابن مسعود: انهزم الناس عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى لم يبق معه إلّا علي بن أبي طالب وأبو دجانة وسهل بن حنيف؟! فقال: انهزم الناس إلّا علي بن أبي طالب وحده، وثاب إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نفر، وكان أولهم عاصم بن ثابت وأبا دجانة وسهل بن حنيف ولحقهم طلحة بن عبيد اللّه، فقلت له: وأين كان أبو بكر وعمر؟ قال: كانا ممن تنحى. قال قلت: وأين كان عثمان؟ قال: جاء بعد ثالثة من الواقعة، فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لقد ذهبت فيها عريضة؟». قال: فقلت له: فأين كنت أنت؟ قال: كنت ممن تنحى. قال فقلت: له: فمن حدثك بهذا؟ قال: عاصم وسهل بن حنيف. قال: قلت له: إن ثبوت علي(عليه السلام) في ذلك المقام لعجب؟! فقال: إن تعجبت من ذلك، فقد تعجبت منه الملائكة، أما علمت أن جبرئيل(عليه السلام) قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء: «لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا علي». فقلت له: فمن أين علم ذلك من جبرئيل؟ فقال: سمع الناس صائحاً يصيح في السماء بذلك، فسألوا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنه؟ فقال: «ذاك جبرئيل». الإرشاد 1: 83.

برجال دوني، فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي؟ فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، إنهم ما زالوا يرجعون على أعقابهم القهقرى»(1).

وقال عبد اللّه بن عباس: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنكم محشورون حفاة عراة غُرْلاً(2) - ثم قرأ - {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٖ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ}(3) ألا وإن أول من يُكسى إبراهيم(عليه السلام)، ألا وإن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي؟! - قال - فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح عيسى(عليه السلام): {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} - إلى قوله - {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}»(4)(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حتى إذا قبض اللّه رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج(6)، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير موضعه، معادن كل خطيئةٍ، وأبواب كل ضارب في غمرة(7)، قد ماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة، على سنة منآل فرعون، من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين»(8).

ص: 389


1- الأمالي للشيخ المفيد: 37.
2- الغركة: القلفة، والأغرل: الأقلف وهو الذي لم يختن.
3- سورة الأنبياء، الآية: 104.
4- سورة المائدة، الآية: 117- 118.
5- كشف الغمة 1: 110.
6- الولائج - جمع وليجة - : وهي البطانة وخاصة الرجل من أهله وعشيرته، ويراد بها دخائل المكر والخديعة.
7- الغَمْرة: الشدة، وماروا: تحركوا واضطربوا.
8- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 150 ومن خطبة له(عليه السلام) يومي فيها إلى الملاحم ويصف فئة من أهل الضلال.

وكتب أمير المؤمنين(عليه السلام) لمعاوية: «وأرديت جيلاً من الناس كثيراً، خدعتهم بغيك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظلمات، وتتلاطم بهم الشبهات، فجازوا عن وجهتهم(1)، ونكصوا على أعقابهم، وتولوا على أدبارهم، وعَوَّلُوا على أحسابهم، إلّا من فاء من أهل البصائر؛ فإنهم فارقوك بعد معرفتك، وهربوا إلى اللّه من موازرتك؛ إذ حملتهم على الصعب، وعدلت بهم عن القصد، فاتق اللّه يا معاوية في نفسك، وجاذب الشيطان قيادك؛ فإن الدنيا منقطعة عنك، والآخرة قريبة منك، والسلام»(2).

أقسام الانقلاب

إن الانقلاب على قسمين:

الأول: التغير من الحالة السيئة إلى الحالة الجيدة، وهذا يعني: الانتقال إلى الهداية والتحسن، كما لو أسلم شخص كان كافراً، فإنه انقلب وانتقل من الضلال إلى الهداية وتحسن حاله.

الثاني: التغير من الحالة الجيدة إلى الحالة السيئة - نعوذ باللّه - وهذا يعني: الارتداد والارتجاع والنكوص، مثل ما حصل في معركة أُحد عندما سمع بعض المسلمين الخبر الكاذب بأن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قُتل.

قال الطبرسي(رحمه اللّه) في مجمع البيان: (فسمي الارتداد: انقلاباً على العقب، وهوالرجوع القهقري؛ لأن الردة خروج إلى أقبح الأديان، كما أن الانقلاب خروج إلى أقبح ما يكون من المشي)(3).

ص: 390


1- وِجهتهم: أي جهة قصدهم، ونكصوا: رجعوا، وعوّلوا: اعتمدوا، فاء: رجع والمراد هنا الرجوع إلى الحق.
2- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 32 ومن كتاب له(عليه السلام) إلى معاوية.
3- تفسير مجمع البيان 2: 406.

وعلى هذا يكون الانقلاب في الحالة الأولى التحول من الجاهلية إلى الإسلام، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الضلالة إلى الهدى، أما الانقلاب في الحالة الثانية فهو الغواية والضلال والرجوع إلى الكفر والجاهلية، نتيجة الضعف في الإيمان، وحب الدنيا، وحب الشهوات.

ومن الأمور المهمة في ثبات الإنسان على طريق الصلاح والإصلاح وعدم انقلابه القهقرى: هو التواصي بالحق والتواصي بالصبر، فإنه ضمان لعدم خسران الإنسان كما ورد ذلك في سورة العصر، حيث قال تعالى:

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(1).

هذا بالنسبة إلى الأمر الأول وهو التواصي وتأثيره في الإصلاح.

المواساة

اشارة

الأمر الثاني مما يحتاجه المجتمع الإسلامي في تقدمه وتطوره وصلاحه وإصلاحه، في كل الميادين والأزمان - مضافاً إلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر - : هو موضوع المواساة ونكران الذات، في سبيل إقامة دين اللّه على الأرض وخدمة الناس، وخير شاهد على ذلك موضوع الآية الشريفة المتقدمة؛ إذ نستفيد منها - من خلال هذه الرواية - التي نقلتها كتب الشيعة والعامة، أهمية المواساة.

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لما كان يوم أحد انهزم أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حتىلم يبق معه إلّا علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وأبو دجانة سَمّاك بن خَرَشَة(2)،

ص: 391


1- سورة العصر، الآية: 1-3.
2- سَمّاك بن خَرَشَة الخزرجي البياضي الأنصاري، المعروف بأبي دجانة: صحابي، كان شجاعاً بطلاً، له آثار جميلة في الإسلام. شهد بدراً وثبت يوم أحد وأصيب بجراحات كثيرة، واستشهد باليمامة، كانت له مشية عجيبة في الخيلاء يضرب بها المثل. نظر إليه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في معركة وهو يتبختر بين الصفين، فقال: «هذه مشية يبغضها اللّه إلا في هذا المكان». وكان يقال له: ذو المشهرة، وهي درع يلبسها في الحرب. وذو السيفين لقتاله يوم أحد بسيفه وسيف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقيل في نسبه: سماك بن أوس بن خرشة، توفي في 11 للهجرة.

فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا أبا دجانة، أما ترى قومك؟

قال: بلى.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الحَقْ بقومك.

قال: ما على هذا بايعت اللّه ورسوله.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنت في حل.

قال: واللّه لا تتحدث قريش بأني خذلتك وفررت، حتى أذوق ما تذوق، فجزاه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خيراً.

وكان علي(عليه السلام) كلما حملت طائفة على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استقبلهم وردهم، حتى أكثر فيهم القتل والجراحات، حتى انكسر سيفه، فجاء إلى النبي فقال: يا رسول اللّه، إن الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي. فأعطاه ذا الفقار. فما زال يدفع به عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى أثر وانكسر فنزل عليه جبرئيل وقال: يا محمد، إن هذه لهي المواساة من علي لك. فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إنه مني وأنا منه.

فقال جبرئيل(عليه السلام): وأنا منكما(1)، وسمعوا دوياً من السماء: لا سيف إلّا ذو

ص: 392


1- قال الشيخ الصدوق(رحمه اللّه): قول جبرئيل(عليه السلام): «وأنا منكما» تمنٍ منه لأن يكون منهما، فلو كان أفضل منهما لم يقل ذلك، ولم يتمن أن ينحط عن درجته إلى أن يكون ممن دونه. وإنما قال: وأنا منكما ليصير ممن هو أفضل منه، فيزداد محلاً إلى محله، وفضلاً إلى فضله، علل الشرائع 1: 7. وقد ذكر هذا الحديث أو مثله في كثير من مصادر العامة، منها: مجمع الزوائد 6: 122، والمعجم الكبير 1: 318.

الفقارولا فتى إلّا علي»(1).

ولهذا يلزم التركيز على المواساة بين أفراد المجتمع الإسلامي الواحد، للوصول إلى المرتبة السامية، والتي يطمح إليها الإنسان دائماً، لبلوغ الكمال وطاعة اللّه تعالى، بمثل ما صنعه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأبو دجانة (رضوان اللّه عليه) في يوم أُحد، ببذل أنفسهما للدفاع عن الرسالة السماوية والرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ومواساتهما مع الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أني لم أرُدَّ على اللّه ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تَنْكُصُ فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نَجْدَة(2) أكرمني اللّه بها...»(3).

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه، ويحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم اللّه عزّ وجلّ رحماء بينكم، متراحمين، مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم، على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(4).

المواساة سبيل الإصلاح
اشارة

إن طريق الإصلاح ليس مفروشاً بالورود، بل هو طريق شائك، بحاجة إلى التضحية والفداء، ومن هنا تتبين أهمية المواساة بين المؤمنين في سبيل الإصلاح، فإذا أرادت الأمة الإسلامية أن تتخلص من واقعها الحالي حيث

ص: 393


1- علل الشرائع 1: 7.
2- النَجْدة: الشجاعة.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 197 ومن كلام له(عليه السلام) ينبه فيه على فضيلته لقبول قوله وأمره ونهيه.
4- الكافي 2: 174.

المآسي والحرمان والتأخر والضياع، فعليها أن تتحلى بخصلة المواساة، كما تحلى بها المسلمون الأوائل في صدر الإسلام.

أما إذا أخذ كل يفكر في نفسه ومصلحته فقط، أو يجر النار إلى قرصه فحسب، فإننا لا نزداد إلّا سوءاً والعياذ باللّه.

ورد في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٖ}(1):

أي اختبرنا الأغنياء بالغنى لننظر كيف مواساتهم للفقراء، وكيف يخرجون ما فرض اللّه عليهم في أموالهم، واختبرنا الفقراء لننظر كيف صبرهم على الفقر وعمّا في أيدي الأغنياء(2).

وقد جعل أمير المؤمنين(عليه السلام) المواساة من علائم شيعته، حيث قال(عليه السلام): «اختبروا شيعتي بخصلتين، فإن كانتا فيهم فهم شيعتي: محافظتهم على أوقات الصلوات، ومواساتهم مع إخوانهم المؤمنين بالمال، وإن لم تكونا فيهم فأعزب ثم أعزب ثم أعزب»(3).

وكذلك قال الإمام الصادق(عليه السلام): «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدونا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها»(4).وعن أحمد بن النضر، عن أبي إسماعيل، قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): جعلت فداك، إن الشيعة عندنا كثير. فقال(عليه السلام): «فهل يعطف الغني على الفقير، وهل يتجاوز المحسن عن المسيء ويتواسون؟». فقلت: لا. فقال: «ليس هؤلاء شيعة،

ص: 394


1- سورة الأنعام، الآية: 53.
2- تفسير القمي 1: 202.
3- جامع الأخبار: 35.
4- الخصال 1: 103.

الشيعة من يفعل هذا»(1).

وعن جراح المدائني، قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ألا أحدثك بمكارم الأخلاق؟». قلت: بلى. قال: «الصفح عن الناس، ومؤاساة الرجل أخاه في ماله، وذكر اللّه كثيراً»(2).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «ثلاث دعوات لا يحجبن عن اللّه تعالى - منها - ... رجل مؤمن دعا لأخ له مؤمن واساه فينا، ودعاؤه عليه إذا لم يواسه مع القدرة عليه واضطرار أخيه إليه»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لم يَدَعْ رجل معونة أخيه المسلم حتى يسعى فيها ويواسيه، إلّا ابتلي بمعونة من يأثم ولا يؤجر»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن من حق المؤمن على المؤمن: المودة له في صدره، والمواساة له في ماله...»(5).

وقال(عليه السلام): «... ويحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل، والتعاون على التعاطف، والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض...»(6).وفي الحديث في بيان علة وجوب الزكاة، يقول الإمام الرضا(عليه السلام):

«... والحث لهم على المواساة وتقوية الفقراء، والمعونة لهم على أمر الدين...»(7).

ص: 395


1- الكافي 2: 173.
2- معاني الأخبار: 191.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 280.
4- الكافي 2: 366.
5- الكافي 2: 171.
6- الكافي 2: 174.
7- من لا يحضره الفقيه 2: 8.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من واسى الفقير من ماله، وأنصف الناس من نفسه، فذلك المؤمن حقاً»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... رحم اللّه امرأً واسى أخاه بنفسه...»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لكميل: «يا كميل، البركة في مال من آتى الزكاة، وواسى المؤمنين، ووصل الأقربين»(3).

وقال علي(عليه السلام): «قليل من الأغنياء من يواسي ويسعف»(4).

وقال(عليه السلام): «لا تعدن صديقاً من لا يواس بماله»(5).

وعن محمد بن سنان، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: سألته عن عمل السلطان والدخول معهم، وما عليهم فيما هم فيه؟ قال: «لا بأس به إذا واسى إخوانه، وأنصف المظلوم، وأغاث الملهوف من أهل ولايته»(6).

وعن الحسن البزاز، قال: قال لي: أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ألا أخبرك بأشد ما فرض اللّه على خلقه ثلاث؟». قلت: بلى. قال: «إنصاف الناس من نفسك، ومواساتكأخاك، وذكر اللّه في كل موطن»(7).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن، يحق عليه نصيحته، ومواساته، ومنع عدوه منه»(8).

ص: 396


1- الكافي 2: 147.
2- الكافي 5: 40.
3- تحف العقول: 172.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 498.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 750.
6- مستدرك الوسائل 13: 131.
7- الكافي 2: 145.
8- المؤمن: 42.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «والذي بعثني بالحق نبياً، إن عبداً من عباد اللّه ليقف يوم القيامة موقفاً يخرج عليه من لهب النار أعظم من جميع جبال الدنيا، حتى ما يكون بينه وبينها حائل، بينا هو كذلك قد تحير إذ تطاير من الهواء رغيف أو حبة قد واسى بها أخاً مؤمناً على إضافته، فتنزل حواليه فتصير كأعظم الجبال مستديراً حواليه، تصد عنه ذلك اللّهب، فلا يصيبه من حرها ولا دخانها شي ء، إلى أن يدخل الجنة». قيل: يا رسول اللّه، وعلى هذا تنفع مواساته لأخيه المؤمن؟ فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إي والذي بعثني بالحق نبياً، إنه لينفع بعض المواسين بأعظم من هذا»(1).

هذا ومن أسماء شهر رمضان المبارك: «وشهر المواساة»(2).

وفي الدعاء: «اللّهم صل على محمد وآل محمد، واعمر قلبي بطاعتك، ولا تخزني بمعصيتك، وارزقني مواسات من قترت من رزقك بما وسعت عليَّ من فضلك، ونشرت عليَّ من عدلك، وأحييتني تحت ظلك»(3).

إلى غيرها من الروايات الشريفة التي تؤكد على مبدأ المواساة بين المؤمنين.

المواسي ابن المواسي

كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أشرف مصداق في المواساة وقد باهى به اللّه عزّ وجلّ في ليلة المبيت، قال ابن عباس: لما انطلق النبي إلى الغار أقام علياً(عليه السلام) في مكانه وألبسه برده، فجاءت قريش تريد أن تقتل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فجعلوا يرمون علياً وهم يرون أنه النبي، فجعل يتضور(4) فلما نظروا

ص: 397


1- تفسير الإمام العسكري(عليه السلام): 525.
2- الكافي 4: 66.
3- المزار الكبير: 401.
4- التضوّر: التلوي من وجع الضرب.

إذا هو علي(عليه السلام)(1).

وكذلك مواساة علي(عليه السلام) يوم أحد حيث نداء جبرئيل(عليه السلام) من السماء.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «انهزم الناس يوم أحد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فغضب غضباً شديداً - قال - وكان إذا غضب انحدر عن جبينه مثل اللؤلؤ من العرق - قال - فنظر فإذا علي(عليه السلام) إلى جنبه، فقال له: الحق ببني أبيك مع من انهزم عن رسول اللّه. فقال: يا رسول اللّه، لي بك أسوة. قال: فاكفني هؤلاء. فحمل فضرب أول من لقي منهم، فقال جبرئيل(عليه السلام): إن هذه لهي المواساة يا محمد. فقال: إنه مني وأنا منه. فقال جبرئيل(عليه السلام): وأنا منكما يا محمد». فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «فنظر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جبرئيل(عليه السلام) على كرسي من ذهب بين السماء والأرض وهو يقول: لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا علي»(2).

نعم، كذلك كان شبل علي(عليه السلام) أبو الفضل العباس قمر بني هاشم (صلوات اللّه عليهما)، حيث جاء في زيارته(عليه السلام): «أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك، فنعم الأخ المواسي...»(3).

وفي زيارة أخرى له(عليه السلام) جاء فيها: «السلام على العباس بن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له الواقي، الساعي إليه بمائه،المقطوعة يداه...»(4).

وقد وصل مولانا العباس(عليه السلام) إلى هذه المرتبة السامية من العظمة والمقام الرفيع، بفضل مواساته لأخيه الإمام الحسين(عليه السلام)، وأهل بيته من النساء والأطفال.

ص: 398


1- إعلام الورى: 190.
2- الكافي 8: 110.
3- كتاب المزار 124.
4- المزار الكبير: 489.

حقيقاً بالبكاء عليه حزناً *** أبو الفضل الذي واسى أخاه

وجاهد كل كفار ظلوم *** وقابل من ضلالهم هداه

فداه بنفسه لله حتى *** تفرق من شجاعته عداه

وجاد له على ظمأ بماء *** وكان رضا أخيه مبتغاه(1)

كيف كانت مواساة العباس(عليه السلام)

لو تطرقنا إلى شجاعة أبي الفضل العباس(عليه السلام) فإنه يطول الحديث وهي مما لا يختلف عليها اثنان، كيف لا وهو حامي الخيام، وحامل لواء جيش الإمام الحسين(عليه السلام) وهو ساقي العطاشى، وهو قمر بني هاشم لشدة حسنه وجماله.

ففي (أسرار الشهادة) للعلامة الدربندي(رحمه اللّه) عند ذكر شهادة العباس(عليه السلام) قال:

أتى زهير إلى عبد اللّه بن جعفر بن عقيل قبل أن يُقتل، فقال: يا أخي ناولني الراية. فقال له عبد اللّه: أَ وَ فيَّ قصور عن حملها؟! قال: لا، ولكن لي بها حاجة. قال: فدفعها إليه وأخذها زهير، وأتى فجاء إلى العباس بن علي، وقال: يا بن أمير المؤمنين، أريد أن أحدثك بحديث وعيته. فقال: حدث فقد حلا وقت الحديث. فقال: اعلم يا أبا الفضل، أن أباك أمير المؤمنين لما أراد أن يتزوج أم البنين بعث إلى أخيه عقيل، وكان عارفاً بأنساب العرب فقال(عليه السلام): «يا أخي، أريد منك أن تخطب لي امرأة من ذوي البيوت والحسب والنسب والشجاعة؛ لكي أصيب منهاولداً شجاعاً وعضداً ينصر ولدي هذا - وأشار إلى الحسين(عليه السلام) - ليواسيه في طف كربلاء»، وقد أدخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصر عن حلائل أخيك وعن أخواتك. قال: فارتعد العباس وتمطى في ركابه حتى قطعه، وقال: يا زهير، تشجعني في مثل هذا اليوم؟! واللّه لأرينك شيئاً ما رأيته قط، قال: فهمز جواده

ص: 399


1- مثير الأحزان: 71.

نحو القوم حتى توسط الميدان(1).

وفي بحار الأنوار: أن عشية التاسع من المحرم جاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين(عليه السلام)، وقال: أين بنو أختنا - وقصد العباس وإخوته - فخرج إليه العباس وإخوته، فقالوا: ما تريد؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون. فقال له العباس وإخوته: لعنك اللّه ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول اللّه لا أمان له(2).

وهنا ننقل صوراً جليلة من المواساة العظيمة لقمر بني هاشم(عليه السلام)، فعند ما خاض بفرسه نهر الفرات، بعد ما أزاح جيش ابن سعد عن المشرعة الذي كان قد وضع أربعة آلاف مقاتل ليمنع سيد الشهداء(عليه السلام) من الماء، فملأ القربة بالماء ثم مد كفيه ملأهما بالماء، وقربهما من فمه وذلك لشدة عطشه، ولكنه تذكر عطش أخيه الحسين(عليه السلام)، وعطش النساء والأطفال، فرمى الماء من يده، وهو يقول:

يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنت أن تكوني

هذا حسين وارد المنون *** وتشربين بارد المعين

تاللّه ما هذا فعال ديني *** ولا فعال صادق اليقين

فلم يشرب من ذلك الماء قطرة واحدة مواساة لأخيه، ومواساة للنساء والأطفال، واستمر في جهاده ومقارعة الأعداء، ليوصل الماء إلى العيال، ولكنه(عليه السلام)أحيط به من كل جانب، حتى قطعوا يمينه ويساره، وضربه لعين بعمود على رأسه، وانهالت عليه السهام من كل جانب فمزقت جسده الشريف وأصاب سهم عينه، فسقط صريعاً على الأرض، منادياً: أخي أبا عبد اللّه أدركني. فأسرع الإمام الحسين(عليه السلام) إليه، ورمى بنفسه الشريفة عليه، وحاول أن يحمله إلى الخيام

ص: 400


1- الأنوار العلوية: 443 نقلاً عن إكسير العبادات في أسرار الشهادات.
2- انظر: بحار الأنوار 44: 391.

ليقضي إلى جنب إخوته وبني عمومته، ولكنه التمس من الإمام أن يتركه حيث هو! ولما سأله الإمام عن السبب؟ قال: إني مستح من ابنتك سكينة فقد وعدتها بالماء ولم آتها به(1).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام) لما رآه صريعاً على شط الفرات: «الآن انكسر ظهري وشمت بي عدوي».

وفيه(عليه السلام) يقول الشاعر:

أحق الناس أن يبكى عليه *** فتى أبكى الحسين بكربلاء

أخوه وابن والده علي *** أبو الفضل المضرج بالدماء

ومن واساه لا يثنيه شيء *** وجاء له على عطش بماء

وفيه(عليه السلام) يقول شاعر آخر:

بذلت يا عباس نفساً نفيسة *** بنصر حسين عزّ بالنصر من قبل

أبيت التذاذ الماء قبل التذاذه *** فحسن فعال المرء فرع من الأصل

فأنت أخو السبطين في يوم مفخر *** وفي يوم بذل الماء أنت أبو فضل(2)

وانتقل العباس(عليه السلام) إلى جوار ربه شهيداً خالداً، ينير الدرب للأجيال من الأمة الإسلامية، في الدفاع عن الحق والمبادئ السامية، ويدعم بدمه الطاهر دربالمواساة، ليرقى بالمجتمع الإسلامي إلى الخلود والعظمة.

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال لسدير: «والذي بعث محمداً بالنبوة، وعجل روحه إلى الجنة، ما بين أحدكم وبين أن يغتبط ويرى السرور، أو تبين له الندامة والحسرة، إلا أن يعاين ما قال اللّه عزّ وجلّ في كتابه: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ

ص: 401


1- انظر: معالي السبطين 1: 449 نقلاً عن إكسير العبادات في أسرار الشهادات.
2- شرح الأخبار 3: 193.

قَعِيدٌ}(1) وأتاه ملك الموت يقبض روحه، فينادي روحه فتخرج من جسده، فأما المؤمن فما يحس بخروجها، وذلك قول اللّه تبارك وتعالى: {يَٰأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}(2) - ثم قال - ذلك لمن كان ورعاً مواسياً لإخوانه وصولاً لهم، وإن كان غير ورع ولا وصولاً لإخوانه، قيل له: ما منعك من الورع والمواساة لإخوانك؟ أنت ممن انتحل المحبة بلسانه، ولم يصدق ذلك بفعل، وإذا لقي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) لقيهما مُعرضين مُقطبين في وجهه، غير شافعين له»(3).

أنصار الحسين(عليه السلام)

من شواهد المواساة العظيمة في التأريخ: موقف الأصحاب الأماجد المستشهدين بين يدي سيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) في واقعة الطف في كربلاء، فقد تسابق هؤلاء الأبطال ببذل أنفسهم في سبيل الحفاظ على الدين الإسلامي، والدفاع عن أهل البيت(عليه السلام) بكل ما يملكون، فكانوا خير مواسين لإمامهم، ليكونوا درساً آخرَ في طريق بناء المجتمع الإسلامي الكبير.

ليلة العاشر

فعند ما جمع الإمام الحسين(عليه السلام) أصحابه في ليلة العاشر من المحرم، قالالإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليها السلام): «فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: أثني على اللّه أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء، اللّهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين. أما

ص: 402


1- سورة ق، الآية: 17.
2- سورة الفجر، الآية: 27-30.
3- المحاسن: 177.

بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي، فجزاكم اللّه عني خيراً، ألا وإني لأظن يوماً لنا من هؤلاء، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم حرج مني ولا ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً.

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد اللّه بن جعفر: لِمَ نفعل ذلك، لنبقى بعدك؟! لا أرانا اللّه ذلك أبداً، بدأهم بهذا القول العباس بن علي(عليه السلام) وأتبعته الجماعة عليه، فتكلموا بمثله ونحوه.

فقال الحسين(عليه السلام): يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم بن عقيل، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم.

فقالوا: سبحان اللّه، ما يقول الناس؟ نقول: إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟! لا واللّه، ما نفعل ذلك، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلنا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح اللّه العيش بعدك.

وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلي عنك، وبما نعتذر إلى اللّه في أداء حقك؟! لا واللّه، حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، واللّه لا نخليك، حتى يعلم اللّه أنا قد حفظنا غيبة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيك، أما واللّه، لو علمت أني أُقتل ثم أُحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرى يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتكحتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً.

وقام زهير بن القين فقال: واللّه، لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة، وإن اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء

ص: 403

الفتيان من أهل بيتك.

وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد، فجزاهم الحسين(عليه السلام) خيراً وانصرف إلى مضربه».

وقيل لمحمد بن بشر الحضرمي في تلك الحال: قد أسّر ابنك بثغر الري؟

فقال: عند اللّه أحتسبه ونفسي، ما أحب أن يؤسر وأنا أبقى بعده.

فسمع الحسين(عليه السلام) قوله فقال: «رحمك اللّه، أنت في حلّ من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك».

فقال: أكلتني السباع حياً إن فارقتك.

قال: «فأعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه».

فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار.

وبات الحسين وأصحابه تلك الليلة ولهم دوي كدوي النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً(1).

يوم عاشوراء

ولقد وقف أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) مع إمامهم حتى آخر لحظة، وهم يعلمون بأنهم لا محالة صرعى في صحراء كربلاء، فجعلوا يسارعون إلى القتل بين يدي الإمام الحسين(عليه السلام) وكانوا كما قيل فيهم:

قوم إذا نودوا لدفع ملمة *** والخيل بين مدعس ومكردس

لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا *** يتهافتون على ذهاب الأنفس

نصروا الحسين فيا لها من فتية *** عافوا الحياة وألبسوا من سندس(2)

ص: 404


1- بحار الأنوار 44: 392.
2- معالي السبطين 2: 483.

وكان بعضهم من صحابة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كحبيب بن مظاهر الأسدي والبعض الآخر من فقهاء الأمة، ويعدون من سادة قرّاء القرآن في الأمصار كبرير بن خضير الهمداني، وكان فيهم حتى المسيحي الذي أسلم على يد الإمام(عليه السلام) عندما قابل الإمام(عليه السلام) في الطريق إلى كربلاء(1)، وكذلك فيهم عدة رجال من الموالي(2)، وأطفال ونساء.

مع الغلام التركي

ومن بين الأبطال المواسين لإمامهم ذلك الغلام التركي، الذي كان مملوكاً للإمام(عليه السلام)، وتعلم عنده اللغة العربية وقراءة القرآن، وقف هذا البطل في ساحة المعركة في يوم عاشوراء يواسي إمامه ويدافع عنه، بعد أن استشهد أكثر الأصحاب، وبقي الإمام(عليه السلام) مع ثلة قليلة من أهل بيته(عليهم السلام)، فلم يترك هذا العبد مولاه في هذه الساعة متحيراً بل ألقى بنفسه إلى المعركة، وكان يرتجز ويقول:

البحر من طعني وضربي يصطلي *** والجو من سهمي ونبلي يمتلي

إذا حسامي في يميني ينجلي *** ينشق قلب الحاسد المبجل ***

وكان يحمل يميناً وشمالاً، حتى وقع على الأرض قتيلاً، ورزق بمواساته

ص: 405


1- جاء في أمالي الشيخ الصدوق: وهب بن وهب وكان نصرانياً أسلم على يد الحسين(عليه السلام) هو وأمه فاتبعوه إلى كربلاء فركب فرساً وتناول بيده عمود الفسطاط، فقاتل وقتل من القوم سبعة أو ثمانية، ثم استؤسر فأتي به عمر بن سعد (عليه اللعنة) فأمر بضرب عنقه ورمى به إلى عسكر الحسين(عليه السلام). وأخذت أمه سيفه وبرزت فقال لها الحسين(عليه السلام): «يا أم وهب، اجلسي؛ فقد وضع اللّه الجهاد عن النساء، إنك وابنك مع جدي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الجنة». الأمالي للشيخ الصدوق: 161.
2- أمثال سليمان بن رزين، أو بن أبي رزين، مولى الحسين(عليه السلام)، وقارب بن عبد اللّه مولى الحسين(عليه السلام) وسعد بن الحرث الخزاعي مولى علي بن أبي طالب(عليه السلام) وشوذب مولى شاكر بن عبد اللّه الهمداني الشاكري، وغيرهم. انظر: مقتل الحسين(عليه السلام) لأبي مخنف: ص243.

لإمامه الشهادة(1)، كما نالها الإمام وأهل البيت(عليهم السلام)، والصحابة من أنصار الحسين رضوان اللّه عليهم أجمعين.

عمرو بن قرطة الأنصاري

خرج عمرو بن قرطة الأنصاري فاستأذن الحسين(عليه السلام) فأذن له، فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء، وبالغ في خدمة سلطان السماء، حتى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد، وجمع بين سداد وجهاد، وكان لا يأتي إلى الحسين(عليه السلام) سهم إلّا اتقاه بيده، ولا سيف إلّا تلقاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين(عليه السلام) سوء حتى أثخن بالجراح، فالتفت إلى الحسين(عليه السلام) وقال: يا ابن رسول اللّه أوفيت؟ فقال: «نعم، أنت أمامي في الجنة، فاقرأ رسول اللّه عني السلام، وأعلمه أني في الأثر»، فقاتل حتى قتل رضوان اللّه عليه.

جون مولى أبي ذر(رحمه اللّه)

ثم برز جون مولى أبي ذر وكان عبداً أسودَ، فقال له الحسين(عليه السلام): «أنت في إذن مني، فإنما تبعتنا طلباً للعافية فلا تبتل بطريقنا».

فقال: يا ابن رسول اللّه أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم!، واللّه إن ريحي لمنتن، وإن حسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفس عليَّ بالجنة فتطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيض وجهي، لا واللّه لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم، ثم قاتل رضوان اللّه عليه حتى قُتل.

الصيداوي

قال الراوي: ثم برز عمرو بن خالد الصيداوي، فقال للحسين(عليه السلام): يا أبا عبد اللّه، جعلت فداك قد هممت أن ألحق بأصحابك، وكرهت أن أتخلف فأراك

ص: 406


1- انظر: بحار الأنوار 45: 30.

وحيداً بين أهلك قتيلاً.

فقال له الحسين(عليه السلام): «تقدم فإنا لاحقون بك عن ساعة».

فتقدم فقاتل حتى قُتل رضوان اللّه عليه.

حنظلة الشامي

قال الراوي: وجاء حنظلة بن أسعد الشامي، فوقف بين يدي الحسين(عليه السلام) يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره، وأخذ ينادي: يا قوم، إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب، مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، وما اللّه يريد ظلماً للعباد، ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد، يوم تولون مدبرين ما لكم من اللّه من عاصم. يا قوم، لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم اللّه بعذاب وقد خاب من افترى.

ثم التفت إلى الحسين(عليه السلام)، فقال له: أفلا نروح إلى ربنا ونلحق بإخواننا؟

فقال: «بلى، رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى».

فتقدم فقاتل قتال الأبطال وصبر على احتمال الأهوال حتى قُتل رضوان اللّه عليه.

سعيد بن عبد اللّه الحنفي

قال: وحضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين(عليه السلام) زهير بن القين وسعيد بن عبد اللّه الحنفي أن يتقدما أمامه بنصف من تخلف معه، ثم صلى بهم صلاة الخوف، فوصل إلى الحسين(عليه السلام) سهم، فتقدم سعيد بن عبد اللّه الحنفي ووقف يقيه بنفسه ما زال ولا تخطى حتى سقط إلى الأرض، وهو يقول: اللّهم العنهم لعن عاد وثمود، اللّهم أبلغ نبيك عني السلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت ثوابك في نصر ذرية نبيك، ثم قضى نحبه رضوان اللّه عليه. فوجد به ثلاثة عشرسهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح(1).

ص: 407


1- اللّهوف على قتلى الطفوف: 107- 111.
مواساة النساء

وكذلك كان موقف نساء أصحاب الحسين(عليه السلام) مواسياً لنساء الحسين وأهل بيته(عليه السلام) فقد روي أن الإمام الحسين(عليه السلام) خطب ليلة عاشوراء وقال: «ألا ومن كان في رحله امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد». فقام علي بن مظاهر وقال: ولماذا يا سيدي؟ فقال(عليه السلام): «إن نسائي تُسبى بعد قتلي، وأخاف على نسائكم من السبي». فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته، فقامت زوجته إجلالاً له فاستقبلته وتبسمت في وجهه، فقال لها: دعيني والتبسم. فقالت: يا ابن مظاهر، إني سمعت غريب فاطمة(عليها السلام) خطب فيكم، وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة، فما علمت ما يقول؟

قال: يا هذه، إن الحسين(عليه السلام) قال لنا: «ألا ومن كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني عمها؛ لأني غداً أُقتل ونسائي تُسبى». فقالت: وما أنت صانع؟ قال: قومي حتى ألحقكِ ببني عمكِ بني أسد. فقامت ونطحت رأسها في عمود الخيمة، وقالت: واللّه ما أنصفتني يا ابن مظاهر، أيسرك أن تُسبى بنات رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنا آمنة من السبي؟! أيسرك أن تُسلب زينب إزارها من رأسها وأنا استتر بإزاري؟! أيسرك أن تذهب من بنات الزهراء أقراطها وأنا أتزين بقرطي؟! أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول اللّه ويسود وجهي عند فاطمة الزهراء؟! واللّه، أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء!

فرجع علي بن مظاهر إلى الحسين(عليه السلام) وهو يبكي، فقال له الحسين(عليه السلام): «ما يبكيك؟». فقال: سيدي أبت الأسدية إلّا مواساتكم، فبكى الحسين(عليه السلام)، وقال:«جزيتم منا خيراً»(1).

ص: 408


1- معالي السبطين 1: 342.
فما بالموت عار

في الشعر المنسوب إلى الإمام الحسين(عليه السلام) قال:

سأمضي فما بالموت عار على الفتى *** إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً

وواسى

الرجال الصالحين بنفسه *** وفارق مثبوراً وخالف مجرماً

فإن مت لم أندم وإن عشت لم ألم *** كفى بك ذلاً أن تموت وترغماً(1)

المواساة في المال

ومن أقسام المواساة، المواساة في المال:

قال عبد الأعلى بن أعين: كتب بعض أصحابنا يسألون أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن أشياء، وأمروني أن أسأله عن حق المسلم على أخيه، فسألته فلم يجبني، فلما جئت لأودعه فقلت: سألتك فلم تجبني؟!

فقال(عليه السلام): «إني أخاف أن تكفروا؛ إن من أشد ما افترض اللّه على خلقه ثلاثاً: إنصاف المرء من نفسه حتى لا يرضى لأخيه من نفسه إلّا بما يرضى لنفسه منه، ومواساة الأخ في المال، وذكر اللّه على كل حال، ليس سبحان اللّه والحمد لله، ولكن عندما حرم اللّه عليه فيدعه»(2).

وعن أبان بن تغلب عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) - في حديث - أنه قال له: أخبرني عن حق المؤمن على المؤمن؟

فقال: «يا أبان، دعه لا ترده».

قلت: بلى جعلت فداك.

فلم أزل أردد عليه، فقال: «يا أبان، تقاسمه شطر مالك». ثم نظر إليَّ فرأى ما

ص: 409


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 154.
2- الكافي 2: 170.

دخلني، فقال: «يا أبان، أما تعلم أن اللّه عزّ وجلّ قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟»(1).

قلت: بلى جعلت فداك. فقال: «أما إذا أنت قاسمته فلم تؤثره بعد! إنما أنت وهو سواء، إنما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر»(2).

الاكتفاء الذاتي والمواساة

من الأمور المهمة في إصلاح المجتمع الإسلامي: مسألة السعي إلى ترسيخ حالة الاكتفاء الذاتي بين الأمة، عبر الاعتماد على الموارد الطبيعية المتوفرة في بلاد الإسلام، للتحرر من القيود الغربية الاستعمارية، وذلك يتأتى من خلال مقدمات عديدة منها المواساة المالية بين أفراد المجتمع، فإن المواساة تكون في كل النواحي الاقتصادية، من تبادل السلع، وبذل الأموال لاستغلالها من قبل المصنعين المسلمين في توفير المواد الأولية للإنتاج، وما شاكل ذلك من الأمور التي تمنع النفوذ الأجنبي في بلادنا.

وقد سُئل الإمام الرضا(عليه السلام): ما حق المؤمن على المؤمن؟ فقال: «إن من حق المؤمن على المؤمن: المودة له في صدره، والمواساة له في ماله، والنصرة له على من ظلمه، وإن كان فيء للمسلمين وكان غائباً أخذ له بنصيبه، وإذا مات فالزيارة إلى قبره، ولا يظلمه، ولا يغشه، ولا يخونه، ولا يخذله، ولا يغتابه، ولا يكذبه، ولايقول له: أفٍ، فإذا قال له: أفٍ فليس بينهما ولاية، وإذا قال له: أنت عدوي، فقد كفرَّ أحدهما صاحبه، وإذا اتهمه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في

ص: 410


1- إشارة إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} سورة الحشر، الآية: 9.
2- الكافي 2: 172.

الماء - إلى قال(عليه السلام) - وإن أبا جعفر الباقر(عليه السلام) أقبل إلى الكعبة وقال: الحمد لله الذي كرّمكِ وشرّفكِ وعظمكِ وجعلكِ مثابة للناس وأمناً، واللّه لحرمة المؤمن أعظم حرمة منكِ. ولقد دخل عليه رجل من أهل الجبل، فسلّم عليه، فقال له عند الوداع: أوصني؟

فقال له: أوصيك بتقوى اللّه، وبر أخيك المؤمن، فأحبّ له ما تحب لنفسك، وإن سألك فأعطه، وإن كف عنك فأعرض عليه، لا تمله فإنه لا يملك، وكن له عضداً، فإن وجد عليك فلا تفارقه حتى تسل سخيمته، فإن غاب فاحفظه في غيبته، وإن شهد فاكنفه وأعضده وزره وأكرمه وألطُف به، فإنه منك وأنت منه، وفطرك لأخيك المؤمن وإدخال السرور عليه أفضل من الصيام وأعظم أجراً»(1).

فإن المال يكون أداة في أيدي الناس، لتأمين الأرزاق وسد مختلف حاجات الإنسان، ورشده واستقلاله وبروز مواهبه، ويكون ذلك حقاً لجميع الناس مع مراعاة قانون الملكية الفردية التي أقرها الإسلام، وبدون أن يكون حكراً على طبقة معينة. فالغني عليه أن يواسي الفقير، ليكون مؤمناً حقاً، ومؤدياً للواجبات التي ألقيت على عاتقه من قبل اللّه تعالى وذلك بأداء الحقوق الواجبة والمستحبة في أمواله.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من واسى الفقير، وأنصف الناس من نفسه، فذلك المؤمن حقاً»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال للوصافي: «يا أبا إسماعيل أرأيت في ما قبلكم، إذا كان الرجل ليس له رداء، وعند بعض إخوانه فضل رداء، يطرحه عليه حتى

ص: 411


1- بحار الأنوار 71: 232.
2- الخصال 1: 47.

يصيب رداءً؟».

قال: قلت: لا.

قال: «فإذا كان ليس عنده إزار، يوصل إليه بعض إخوانه بفضل إزارٍ؛ حتى يصيب إزاراً؟».

قال: قلت: لا.

قال: فضرب بيده على فخذه، ثم قال: «ما هؤلاء بأخوة»(1).

ابدأ بنفسك

ومن كل ما تقدم يمكن القول: إنه يلزم على كل المسلمين أن يطبقوا (قانون التواصي بالحق وبالصبر)، و(مبدأ المواساة) فيما بينهم، إضافة إلى وحدتهم، فإنها من عوامل الاكتفاء الذاتي للمسلمين من الناحية الاقتصادية، فضلاً عن النواحي الأخرى التي أرسى مبادءها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والأئمة الأطهار(عليهم السلام)، بتحملهم الآلام والأحزان، وتقديمهم قوافل الشهداء، من أجل تثبيت وتدعيم الدين الإسلامي، ورعاية حقوق المؤمنين، فيجب على كل فرد في المجتمع الإسلامي، أن يبدأ العمل بنفسه، لكي يضمن حدوث التغيير نحو الأفضل في هذا المجتمع، بشكل كامل وشامل لكل البرامج والمواضيع.

فمن كلام لأمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «فلو مثلتهم لعقلك.. وقد نشروا دواوين أعمالهم، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم، على كل صغيرة وكبيرة اُمِروا بها فقصروا عنها، أو نُهُوا عنها ففرطوا فيها، وحملوا ثقل أوزارهم ظهورهم، فضعفوا عنالاستقلال بها، فنشجوا نشيجاً، وتجاوبوا نحيباً، يعجون إلى ربهم من مقام ندمٍ واعترافٍ - إلى أن قال(عليه السلام) في آخر كلامه - فحاسب نفسك لنفسك، فإن

ص: 412


1- مصادقة الإخوان: 36.

غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك»(1).

وقال الإمام(عليه السلام) أيضاً في كلام له جاء في نهج البلاغة:

«وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى؛ لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز(2).

ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً، وحولي بطون غرثى(3)

وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحن إلى القد(4)

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش»(5).

ومن الأمور المهمة في هذه المواساة الاقتصادية: الابتعاد عن اللّهاث وراء اقتناء الألبسة والأغذية والمواد التجملية الغربية والشرقية، والعمل بجد والسعي للاكتفاء الذاتي، لنصبح أحراراً في دنيانا.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في الشعر المنسوب إليه:

كُدّ كَدّ العبدِ إن أحببت أن تُصبح حراً *** واقطع الآمال مِن مال بني آدم طراً

ص: 413


1- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 222 ومن كلام له(عليه السلام) قاله عند تلاوته قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْأصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} سورة النور: 36- 37.
2- القز: الحرير.
3- بطون غرثى: جائعة.
4- القِدّ: سير من جلد غير مدبوغ.
5- نهج البلاغة، الرسائل: الرقم 45 ومن كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف وكان عامله على البصرة.

لا تقل ذا مكسبٌ يُزري فقصد الناس أزرى *** أنت ما استغنيت عن غيرك أعلى الناس قدراً(1)

نموذج للاكتفاء الذاتي

اشارة

لقد ورد أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما هاجر إلى المدينة المنورة ورأى أن اليهود قد نشبت مخالبهم في أهل المدينة وذلك بسيطرتهم على اقتصاد الناس؛ لأن اليهود كانوا محيطين بالمدينة، وكانت البضائع بأيدي تجارهم وكذلك السلاح، وإن كان السلاح ذلك اليوم لا يتعدى السيف والسهم والرمح وما أشبه.

ورأى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن اليهود أفسدوا أهل المدينة أيضاً، بالخمر والبغاء والشذوذ الجنسي ونحو ذلك.

لذا عمل على أن ينقذ أهل المدينة من التبعية الاقتصادية والثقافية لليهود، إذ عندما أسر جماعة من المشركين في معركة بدر جعل فداءهم أن يعلّم كل أسير يعرف القراءة والكتابة عشرة من المسلمين بدلاً عن المال.

فقد جاء في التأريخ: أنه كان فداء أسرى بدر أربعة آلاف إلى مادون ذلك، أو أن يعلّم غلمان الأنصار الكتابة.

وروي أيضاً: أسر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم بدر سبعين أسيراً، وكان يفادي بهم على قدر أموالهم، وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة فعلّمهم، فإذا حذقوا فهو فداؤه.

وروي: كان فداء أهل بدر أربعين أوقية، أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده علمعشرة من المسلمين الكتابة، فكان زيد بن ثابت ممن علم(2).

ص: 414


1- الديوان المنسوب لأمير المؤمنين(عليه السلام): 210.
2- الطبقات الكبرى 2: 22.

وهكذا إلى أن استقل المسلمون بعد تعلّمهم القراءة والكتابة بتعليم أنفسهم(1).

نعم كان المعلم الأول للأمة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه حيث قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2).

وبعد ذلك أمرهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يذهبوا ويتعلموا صنع السلاح، وذهب بعضهم إلى اليمن وتعلم صنع السلاح، فانقطعت سيطرة اليهود من ناحية السلاح أيضاً.

وكذلك حرّم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه سبحانه وتعالى، الزنا واللواط، والخمر، والقمار، والتي كانت من الأسباب المفسدة التي كان يروجها اليهود بين أهل المدينة قبل الإسلام؛ لأن الفساد يحطم الأمم.

فبهذا العمل حقق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للمسلمين الاستقلال الاقتصادي والثقافي والعسكري، وأبعدهم عن الشهوات المحرمة وإتباع النفس الأمارة بالسوء، فحصل للمسلمين الاكتفاء الذاتي، وبعدها أصبحت المدينة المنورة كقاعدة أساسية لانطلاق الدولة الإسلامية الكبرى.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أمنن على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره»(3).

ثورة الهند

ويمكن لنا أن نذكر مثالاً للتواصي والمواساة والاكتفاء الذاتي من خلال قصةتحرير الهند بقيادة غاندي وذلك في التأريخ الحديث، فخلال ثورة المائة مليون

ص: 415


1- للتفصيل انظر: تفسير القمي 1: 255.
2- سورة الجمعة، الآية: 2.
3- الخصال 2: 420.

هندي، بقيادة حزب المؤتمر(1) طلب غاندي من الشعب مقاطعة البضائع الأجنبية كافة وعلى الأخص الإنجليزية منها، وذلك لأجل الوصول إلى تحرير الهند من الاحتلال الإنجليزي، وأمرهم بالامتناع من استيراد الأقمشة وكافة المواد الأخرى من خارج الهند، وحتى المواد الأولية التي تدخل في الصناعات الهندية؛ وذلك لغرض تحرير الهند الكامل من التبعية لاقتصاد المستعمر الإنجليزي.

فبذلك ألزم على كل فرد من أفراد الشعب الهندي أن لا يرتدي الملابس المستوردة، وشجع على العمل في المعامل الهندية، ومنع العمل في المعامل غير الهندية. ولم يكتف بذلك؛ فبعد أمره هذا قام بتطبيق هذه الأوامر والنصائح أولاً على نفسه وعلى أهل بيته، لكي يرى شعبه مصداقيته أولاً فيقتدوا به، فقام بخلع ملابسه وأحرقها بالنار، أمام جموع الناس المحتشدة، للدلالة على رفض الأحرار لقيود وأغلال الاستعمار الإنجليزي، وبهذه الطريقة - المصداقية والتطبيقية - تمكن غاندي أن يحرر الهند بعد جهد وعناء طويل.

الطالب للرزق

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «من طلب الرزق في الدنيا استعفافاً عن الناس، وتوسيعاً على أهله، وتعطفاً على جاره، لقي اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المواساة أفضل الأعمال»(3).

فإن المسلم لا تنحصر مسؤولياته في أدائه الصلاة والصوم والزكاة والحجفقط... بل من واجباته أيضاً: نصرة المظلوم ومساعدة المحتاج واجتناب الكبائر

ص: 416


1- أقدم وأكبر الأحزاب الهندية، تأسس عام 1885م.
2- الكافي 5: 78.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 70.

والصغائر، وجميعها من الواجبات الملقاة على عاتق كل مسلم ومسلمة من الأمة، فبتوجهنا إلى أداء الأعمال الصالحة وخدمة المجتمع، نصل إلى أعلى مراتب الإيمان والتي بها يفتح اللّه على الناس من الخيرات كما جاء في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(1).

فالأساس في نزول النعم ورفع النقم عن الأمة هو الإيمان والتقوى، ومن شُعب الإيمان - كما جاء في بحثنا المتقدم - : المواساة ونكران الذات، والعمل على الاكتفاء الذاتي لبلاد المسلمين، فبإحياء روح الأخوة الإسلامية، ووقوف الأغنياء بجانب الفقراء، واستغلال الموارد في داخل الأمة الإسلامية، ورعاية قانون المواساة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، يمكن إحداث نهضة في البلاد والتحرر من قيود الاستعمار، تلك القيود التي جاءت بسبب الحاجة إلى بعض البضائع والمواد الأولية، في حين أننا نملك أكبر ثروة في العالم منحها اللّه تعالى لأمتنا، ألا وهي الثروة النفطية، والتي مهدنا الطريق للأجنبي ليستولي عليها، ولكي تكون عاملاً مساعداً له في نهضته هو وتأخرنا نحن(2).

ص: 417


1- سورة الأعراف، الآية: 96.
2- إذ تشير الدراسات والإحصاءات إلى أن الأمة الإسلامية تمتلك ثروات استراتيجية كبيرة وأهم هذه الثروات: النفط والغاز والأرض والزراعة وثروات معدنية مثل الحديد والنحاس والفوسفات وغيرها، حيث يختزن ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط في الأراضي الإسلامية، و5ر22% من الاحتياط العالمي للغاز، ويشكل النفط 65% من احتياجات أوروبا و80% من احتياجات اليابان و15% من احتياجات الولايات المتحدة. بالإضافة إلى تمتع العالم الإسلامي بموقع استراتيجي هام بالنسبة للتجارة العالمية وبمزايا مهمة يصعب على القوى المعادية فرض سيطرتها عليه بالكامل مما يجعل لديه عمقاً استراتيجياً مهماً في أية استراتيجية إسلامية ودولية.

وليكن العمل بهذه الأمور كما أشرنا، هو أن نبدأ بأنفسنا على التطبيق العملي الصحيح، فنتعامل حسب موازين الإسلام في الأخوة والتعاون والمواساة، مضافاً إلى رعاية التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ثم بمجموع ذلك يكون إصلاح المجتمع الكبير إن شاء اللّه تعالى.

«الحمد للّه الّذي خلق اللّيل والنّهار بقوّته، وميّز بينهما بقدرته، وجعل لكلّ واحدٍ منهما حدّاً محدوداً،وأمداً ممدوداً، يولج كلّ واحدٍ منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه، بتقديرٍ منه للعباد فيما يغذوهم به، وينشئهم عليه، فخلق لهم اللّيل ليسكنوا فيه من حركات التّعب ونهضات النّصب، وجعله لباساً ليلبسوا من راحته ومنامه، فيكون ذلك لهم جماماً(1) وقوّةً، ولينالوا به لذّةً وشهوةً، وخلق لهم النّهار مبصراً ليبتغوا فيه من فضله، وليتسبّبوا إلى رزقه، ويسرحوا في أرضه، طلباً لما فيه نيل العاجل من دنياهم، ودرك الآجل في أخراهم، بكلّ ذلك يصلح شأنهم، ويبلو أخبارهم، وينظر كيف هم في أوقات طاعته، ومنازل فروضه، ومواقع أحكامه، ليجزي الّذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الّذين أحسنوا بالحسنى»(2).

من هدى القرآن الكريم

الإسلام يحث على المواساة

قال تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}(3).

وقال سبحانه: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(4).

ص: 418


1- الجَمام: الاستراحة لرفع التعب والكسل.
2- الصحيفة السجادية: وكان من دعائه(عليه السلام) عند الصباح والمساء.
3- سورة آل عمران، الآية: 92.
4- سورة الحشر، الآية: 9.

وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}(1).

الإنفاق المالي

قال عزّ وجلّ: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}(2).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَٰعَةٌ}(3).

وقال سبحانه: {وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَىٰكُمْ}(4).

وقال جلّ وعلا: {ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}(5).

ابدأ بتغيير نفسك

قال تبارك تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(6).

وقال سبحانه: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}(8).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖ وَاتَّقُواْ

ص: 419


1- سورة البقرة، الآية: 237.
2- سورة المنافقون، الآية: 10.
3- سورة البقرة، الآية: 254.
4- سورة النور، الآية: 33.
5- سورة الحديد، الآية: 7.
6- سورة الرعد، الآية: 11.
7- سورة الأنفال، الآية: 53.
8- سورة المائدة، الآية: 105.

اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ}(1).

الاكتفاء الذاتي

قال تعالى: {وَعَلَّمْنَٰهُ صَنْعَةَ لَبُوسٖ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَٰكِرُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَٰنَ الشَّيَٰطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَٰنُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

المواساة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام): «يا علي، سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومواساة الأخ في اللّه عزّ وجلّ، وذكر اللّه تبارك وتعالى على كل حال»(6).

وعن خلاد السندي - رفعه - قال: أبطأ على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجل، فقال: «ما أبطأ بك؟».

فقال: العري يا رسول اللّه.

ص: 420


1- سورة الحشر، الآية: 18.
2- سورة الأنبياء، الآية: 80.
3- سورة الأعراف، الآية: 31.
4- سورة المائدة، الآية: 66.
5- سورة الإسراء، الآية: 27.
6- الخصال 1: 125.

فقال: «أما كان لك جار له ثوبان يعيرك أحدهما؟».فقال: بلى يا رسول اللّه، فقال: «ما هذا لك بأخ»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كان له قميصان فليلبس أحدهما، وليُلْبس الآخر أخاه»(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «خصلتان من كانتا فيه وإلّا فاعزب ثم اعزب ثم اعزب». قيل: وما هما؟ قال: «الصلاة في مواقيتها والمحافظة عليها والمواساة»(3).

المواساة المالية

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «مواساة الأخ في اللّه عزّ وجلّ تزيد في الرزق»(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدونا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها»(5).

وسُئل أبو عبد اللّه(عليه السلام): ما أدنى حق المؤمن على أخيه؟ قال: «أن لا يستأثر عليه بما هو أحوج إليه منه»(6).

وسأله رجل: في كم تجب الزكاة من المال؟ فقال(عليه السلام) له: «الزكاة الظاهرة أم

ص: 421


1- مصادقة الإخوان: 36.
2- مكارم الأخلاق: 471.
3- الخصال 1: 47.
4- بحار الأنوار 71: 395.
5- الخصال 1: 103.
6- روضة الواعظين 2: 386.

الباطنة تريد؟». قال: أريدهما جميعاً؟فقال: «أما الظاهرة ففي كل ألف خمسة وعشرون، وأما الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليك منك»(1).

ابدأ بتغيير نفسك

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن سمت همتك لإصلاح الناس فابدأ بنفسك»(2).

وقال(عليه السلام): «تولوا من أنفسكم تأديبها، واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها»(3).

وقال(عليه السلام): «كلما ازداد علم الرجل زادت عنايته بنفسه، وبذل في رياضتها وصلاحها جهده»(4).

وقال(عليه السلام): «من لم يصلح نفسه لم يصلح غيره»(5).

الاكتفاء الذاتي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم والسرف في المال والنفقة، وعليكم بالاقتصاد فما افتقر قوم قط اقتصدوا»(6).

وسُئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن قوله اللّه تعالى: {وَيَسَْٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}(7)؟ قال(عليه السلام): «الكفاف»(8).

ص: 422


1- الكافي 3: 500.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 259.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 319.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 535.
5- عيون الحكم والمواعظ: 427.
6- تفسير مجمع البيان 8: 222.
7- سورة البقرة، الآية: 219.
8- تفسير العياشي 1: 106.

وعن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أ ترى اللّه أعطى من أعطى منكرامته عليه، ومنع من منع من هوانٍ به عليه، لا ولكن المال مال اللّه يضعه عند الرجل ودائع، وجوز لهم أن يأكلوا قصداً، ويشربوا قصداً، ويلبسوا قصداً، وينكحوا قصداً، ويركبوا قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ويلموا به شعثهم، فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالاً، ويشرب حلالاً، ويركب حلالاً، وينكح حلالاً، ومن عدا ذلك كان عليه حراماً - ثم قال: - {وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(1) أترى اللّه ائتمن رجلاً على مالٍ خول له أن يشتري فرساً بعشرة آلاف درهمٍ ويجزيه فرسٌ بعشرين درهماً، ويشتري جاريةً بألف دينارٍ ويجزيه جاريةٌ بعشرين ديناراً وقال: {وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}»(2).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «وعليك بالاقتصار وإياك والإسراف فإنه من فعل الشيطنة»(3).

نشر العلوم الإسلامية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رحمة اللّه على خلفائي».

قالوا: وما خلفاؤك؟ قال: «الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد اللّه، ومن يحضره الموت وهو يطلب العلم ليحي به الإسلام فبينه وبين الأنبياء درجة»(4).

وقال الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام): «علّم الناس وتعلم علم غيرك؛ فتكون قد

ص: 423


1- سورة الأعراف، الآية: 31.
2- تفسير العياشي 2: 13.
3- بحار الأنوار 50: 292.
4- مستدرك الوسائل 17: 300.

أتقنت علمك وعلمت ما لم تعلم»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قام عيسى بن مريم(عليه السلام) خطيباً في بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل، لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن اللّه سائلكم يوم القيامة»(3).

ص: 424


1- كشف الغمة 1: 571.
2- الكافي 1: 42.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 126.

الثبات على المبدأ

الصبر

قال تعالى: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(1).

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «من ركب مركب الصبر اهتدى إلى مضمار النصر»(2).

إن للصبر تعاريف وتفاسير متعددة، لعل من أفضلها هو ما جاء في رواية مرفوعة إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «جاء جبرئيل(عليه السلام) إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، إن اللّه أرسلني إليك بهدية لم يعطها أحداً قبلك، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما هي؟ قال: الصبر - إلى قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - قلت: يا جبرئيل، فما تفسير الصبر؟ قال: تصبر في الضرّاء كما تصبر في السرّاء، وفي الفاقة كما تصبر في الغناء، وفي البلاء كما تصبر في العافية، فلا يشكو حاله عند المخلوق بما يصيبه من البلاء...»(3).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) لحفص بن غياث:

«يا حفص، إنّ من صبر صبر قليلاً، وإنّ من جزع جزع قليلاً، - ثمّ قال - عليك بالصّبر في جميع أمورك؛ فإنّ اللّه عزّ وجلّ بعث محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأمره بالصّبر

ص: 425


1- سورة الأنفال، الآية: 46.
2- كشف الغمة 2: 346.
3- معاني الأخبار: 260.

والرّفق فقال: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِيالنَّعْمَةِ}(1) وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ}(2) فصبر حتّى نالوه بالعظائم، ورموه بها، فضاق صدره فأنزل اللّه عليه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّٰجِدِينَ}(3) ثمّ كذّبوه ورموه، فحزن لذلك فأنزل اللّه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا}(4) فألزم النّبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نفسه الصّبر، فتعدّوا فذكروا اللّه تبارك وتعالى وكذّبوه فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ}(5) فصبر في جميع أحواله، ثمّ بشّر في عترته بالأئمّة(عليهم السلام) ووصفوا بالصّبر فقال جلّ ثناؤه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(6) فعند ذلك قال النّبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الصّبر من الإيمان كالرّأس من الجسد. فشكر اللّه ذلك له فأنزل اللّه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}(7) فقال: إنّه بشرى وانتقام، فأباح اللّه له قتال المشركين،

ص: 426


1- سورة المزمل، الآية: 10-11.
2- سورة فصلت، الآية: 34-35.
3- سورة الحجر، الآية: 97-98.
4- سورة الأنعام، الآية: 33- 34.
5- سورة طه، الآية: 130.
6- سورة السجدة، الآية: 24.
7- سورة الاعراف، الآية: 137.

فأنزل اللّه: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٖ}(1)،{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}(2) فقتلهم اللّه على يدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأحبّائه، وجعل له ثواب صبره مع ما ادّخر له في الآخرة، فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدّنيا حتّى يقرّ اللّه له عينه في أعدائه مع ما يدّخر له في الآخرة»(3).

كمال الشخصية

اشارة

يدور البحث حول: الصبر والاستقامة والثبات على المبدأ.

وهذه الثلاثة من الأعمال المهمة التي تساعد على كمال شخصية الإنسان، ولتوضيح ذلك نحتاج إلى ذكر بعض القصص والروايات، التي ذكرت في التأريخ، عن صبر وجهاد الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، في سبيل تبليغ رسالاتهم السماوية، وما تكبّدوه من معاناة وآلام في سبيل ذلك، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(4)، وكذلك نستشهد ببعض الوقائع والأحداث في عصرنا الحالي، لكي تكون حافزاً لنا على العمل في سبيل تحقيق أهدافنا، حتى لا نستسلم للأحداث مهما كانت شاقة، وأن نسير في طريق الاستقامة بثبات وعزيمة، وأن لا يثنينا عن ذلك كثرة العراقيل والمعوقات، واللّه المستعان.

نوح(عليه السلام) وقومه

قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَاءِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَٰبِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ

ص: 427


1- سورة التوية، الآية: 5.
2- سورة البقرة، الآية: 191.
3- وسائل الشيعة 15: 261.
4- سورة يوسف، الآية: 111.

وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَارًا}(1).

أوحى اللّه تعالى إلى النبي نوح(عليه السلام) بأن يدعو قومه إلى عبادة اللّه تعالى، وأنيتركوا ما كانوا عليه عاكفين، من أصنام وغيرها. فنفّذ نوح(عليه السلام) أمر اللّه تعالى، وأخذ يبلّغ رسالة ربه، ولكن قومه كذبوه، بل وأكثر من ذلك، أنهم عمدوا على إيذائه ومقاطعته(عليه السلام)، إلى حد أنهم إذا سمعوا صوته وهو يبلّغهم بما أُنزل إليه من ربّه ليرجعوا إلى رشدهم، وينبذوا عاداتهم وتقاليدهم المغلوطة، ويتوجهوا إلى عبادة اللّه تعالى، وضعوا أصابعهم في آذانهم، كي لا يسمعوا صوته(عليه السلام). وكلّما رأوه وضعوا ثيابهم على وجوههم كي لا يشاهدوه(عليه السلام)، إضافة إلى هذا كله كانوا يُسمعونه أقوالاً قبيحة لا تليق بمقامه الشريف. وكانوا يمارسون ضده بعض الأعمال الخشنة. ولكن مع هذا كلّه لم يدخل الجزع إلى نفسه، ولم يرضخ لهم، وأخذ يبلّغ رسالة ربه ليل نهار، ويقول المفسرون في كلمة {لَيْلًا وَنَهَارًا} المقصود منها: هو كناية عن دوامه في تبليغ الرسالة الإلهية من غير فتور ولا توان(2).

وخلاصة الكلام: إن في القصة عبرةً ودرساً بليغاً ضربه لنا نوح(عليه السلام) فيجب علينا أن نستفيد منه في مسيرتنا الجهادية لنشر الإسلام، حتى يكون الرسالي على أهبة الاستعداد للتضحية وتحمل العنت والمشقّات، ولو طال ذلك كثيراً كما حصل لنبي اللّه نوح(عليه السلام)، كما يتطلب منه أن لا يتوقف عن أداء مهمته، وأن لا يدع لليأس طريقاً إلى نفسه أبداً، وأن يحافظ على نشاطه ومساعيه بنفس الحرارة التي بدأ فيها، وإن الآية الكريمة أشارت إلى أن نوحاً(عليه السلام) ظل طوال (950) عاماً

ص: 428


1- سورة نوح، الآية: 5-7.
2- انظر: تفسير جامع الجوامع 4: 364.

من العمل الدؤوب {مَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}(1)، حتى قال بعضهم: إن هذا العدد القليل هوسبعة أشخاص(2) فقط، وعن حمران عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول اللّه: {وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} قال: «كانوا ثمانية»(3).

الاستقامة

قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال له أصحابه: أسرع إليك الشيب يا رسول اللّه؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شيبتني هود والواقعة»(5).

قال ابن عباس: ما نزل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) آية كانت أشد عليه ولا أشق من هذه الآية؛ ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب يا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟! قال: «شيبتني هود والواقعة»(6)،

ويقصد عن سورة هود على المشهور الآية: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}.

فالآية الكريمة من سورة هود احتوت على خطابين، الأول: موجّه إلى الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والثاني: موجّه إلى من تاب معه، وهذا معناه: أن الأمر موجّه إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والى من معه من المسلمين، فلا تكفي استقامة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى ينزل نصر اللّه تعالى؛ لأن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو قمّة الصبر والاستقامة مؤيداً من قبل اللّه، وإنما الأمر يتعلق باستقامة المسلمين أيضاً.. والاستقامة هي: أداء

ص: 429


1- سورة هود، الآية:40.
2- انظر: التبيان في تفسير القرآن 5: 486.
3- تفسير العياشي 2: 148.
4- سورة هود، الآية: 112.
5- الخصال 1: 199.
6- بحار الأنوار 17: 52.

المأمور به والانتهاء عن المنهي عنه.هذا ما نقل عن مجمع البيان في تعريف الاستقامة(1).

وقيل: معنى الآية الكريمة هو استقم أنت على الأداء وليستقيموا هم على القبول وغيرها من المعاني(2).

إذن، فالاستقامة ضرورية في كل عمل يعمله الإنسان فبالإضافة إلى الصبر والثبات نحتاج أيضاً إلى الاستقامة لكي نحظى برضا اللّه تعالى ورحمته، أولاً وننجح في الأعمال المطلوبة منا ثانياً.

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحمل الأذى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما أؤذي نبي مثل ما أوذيت»(3).

إن أغلب الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، تحملوا المتاعب والمصاعب الكبيرة، في سبيل نشر الرسالة التي أمرهم اللّه تعالى بتبليغها إلى البشرية، ومنهم خاتم الأنبياء الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

والشخص المتفحص للتاريخ وخصوصاً لتاريخ قريش قبيلة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وسير الحياة فيها، سوف يلاحظ صعوبة الدخول في قريش، وتغيير أفكارهم. فقريش قبيلة كبيرة لها نظامها الخاص وأسلوبها في الحياة. فالعادات الجاهلية كانت منتشرة في هذه القبيلة وغيرها من القبائل القاطنة في الجزيرة العربية. والتفاخر بالأنساب والألقاب، والسبي والقتل، وعبادة الأوثان هي السائدة، ومع كل هذا يخرج الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وينفي كل هذه العادات

ص: 430


1- انظر: مجمع البيان للطبرسي 5: 341.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 2: 652.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 247.

والتقاليد، التي كانوا يتوارثونها أباً عن جد. بل وأكثر من ذلك، تراه يدعوهم لنبذ هذهالأعمال ويدعوهم لعبادة اللّه الواحد وحفظ الجوار والتآخي ونفي التعالي والتفاخر إلّا بما يقرب إلى اللّه الواحد. فماذا تتوقع من أناس أعماهم الجهل عن رؤية الحقيقة، وجعلهم يرون بأنّ هذه الأعمال والأفعال التي يعملونها هي الصحيحة؟

فكان الرد على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنيفاً، ولقد ألحقوا به أذىً عظيماً ابتداءً بتكذيبه ومحاصرته إعلامياً، إلى أن تيقنوا من عدم الجدوى من وراء ذلك، فأمروا أولادهم ونساءهم بالتعرض للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقذفه بالحجارة ووضع الأشواك في طريقه ومصادرة أمواله والاستهزاء به، وقالوا: إنه ساحر ومجنون(1). وقالوا: إنه شاعر أو كاهن مسّه بعض آلهتنا بسوء(2)، وغيرها من الأساليب التي ابتدعوها لكي يشوّهوا صورة النبي العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نظر الناس.

ولكن جهاد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصبره وثباته على مبدئه أفشل جميع مخططاتهم وكيدهم، متخطياً بذلك هذه الصعوبات. واستطاع نتيجة ذلك تغيير الكثير من قومه، حتى دخلوا في الإسلام عندما رأوا صدقه وصلابته على مبدئه، وحرصه على مصلحتهم، وتفانيه في احترامهم، حيث أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما واجهه قومه بالتكذيب والأذى، وعملوا ما عملوا لإيذائه وإيذاء أصحابه لم يجزع، بل دعا لهم ربه واستغفر لهم. ففي رواية أن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يمسح الدم عن وجهه

ص: 431


1- فقال تعالى - محاكاة لقولهم - : {وَعَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٌ كَذَّابٌ} سورة ص، الآية: 4 وقال تعالى: {كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} سورة الذاريات، الآية: 52.
2- قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ * فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٖ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} سورة الطور، الآية: 28- 30.

عندما ضربه المشركون من قومه في يوم أحد على جبهته الشريفة ويقول: «اللّهم اهدِقومي فانهم لا يعلمون»(1).

وكلامنا هو: أن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما قابله قومه بالتكذيب والاستهزاء والاعتداء عليه بالضرب والمقاطعة، وغيرها من صنوف الأذى لم ينهزم أو يستسلم أمامهم، بل صبر وصابر ورابط على مبدئه، بدون ضعف أو هوان، والنتيجة كانت ان انتشر الإسلام في بقاع واسعة من المعمورة، وأصبحت رسالته خالدة إلى يوم يبعثون، ومن تمسّك بتلك الرسالة فاز في الدنيا والآخرة.

فعلينا اليوم أن نتأسى بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في صبره وجهاده كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(2). لكي نتغلب على الصعوبات والعراقيل التي تقف حائلاً أمام مسيرتنا الإسلامية ودعوتنا إلى اللّه تبارك وتعالى.

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والثبات على المبدأ

بعد أن رأى المشركون تأثير دعوة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين الناس أقدموا على مؤامرة آلت بالنتيجة إلى الخيبة والخسران وهي:

عقد رؤساء قبائل قريش اجتماعاً لهم في دار الندوة، وكتبوا صحيفة قرروا فيها أمراً يقضي بإلزام كل قريش بقطع علاقاتها ببني هاشم، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وإن أي شخص من قريش يريد أن يقيم علاقة مع بني هاشم، فعلى قريش أن لا تسلم عليه ولا ترد عليه السلام، وأن تصادر أمواله إذا أقام تجارة مع بني هاشم، حتى يدخل في عزلة تجبره أخيراً على الاستسلام إلى إرادة قريش.

ص: 432


1- إعلام الورى: 83.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.

وفي المقابل قرّر رسول اللّه وأبو طالب البحث عن وسيلة لخلاص بني هاشممن هذا الخطر، فقرروا أن ينزلوا في شعب أبي طالب مع مائة وعشرين فرداً من بني هاشم على أن يخرجوا إلى هناك ليلاً، ليتخلصوا من الأذى الجسمي، والعذاب النفسي الذي تسببه مقاطعة قريش لهم، إن الأذى الذي تحمّله بنو هاشم كان بقدر لا يطاق، فمن تعب ومعاناة إلى جوع وعطش، حتى أنهم صاروا صُفر الوجوه، وقد بان الضعف على أبدانهم، وما موت خديجة(عليها السلام) إلّا نتيجة لما لاقته من أذى في شعب أبي طالب، عندما كانت تذهب إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه وتحمل لهم قليلاً من الأكل والماء، ووصلت الحالة بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه أنهم كانوا يتوسدون حجر الجبال وينامون بعض الليل، حتى أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لهم عند قليب بدر: «بئس عشيرة الرجل كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وأواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس»(1).

الصبر والثبات أقوى

وفي نهاية الأمر وقع اختلاف بين رؤساء قريش، فبعضهم قد عارض قطع العلاقات مع بني هاشم وطالبوا بإعادتها، مثل مطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزهير بن أمية المخزومي. في حين كان البعض الآخر يرى ضرورة إدامة قطع تلك الروابط مثل أبي سفيان، وأبي جهل، وأتباعهما. ولما أتى على رسول اللّه وأصحابه في الشعب أربع سنين، بعث اللّه على صحيفتهم النكراء دابة الأرض فلمست جميع ما فيها من قطيعة وظلم وتركت ما كان فيه ذكر لله سبحانه، وهو قولهم (باسمك اللّهم)(2)، ونزل جبرائيل(عليه السلام) على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 433


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 60.
2- انظر: مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 65.

فأخبره بذلك، فأخبر رسول اللّه أبا طالب، وذهب بدوره إلى قريش وأخبرهم بذلك،فبعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة وعليها أربعون خاتماً، فلما أتوا بها نظر كل رجل منهم إلى خاتمه، ثم فكّوها فإذا ليس فيها حرف واحد إلّا (باسمك اللّهم). فقال أبو طالب: يا قوم اتقوا اللّه وكفوا عمّا أنتم عليه، فتفرق القوم ولم يتكلم أحد(1).

وما خروج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه من الشعب منتصرين بنصر اللّه دون أن يعطوا أي تنازل للمشركين عن مبدئهم إلّا نتيجة لتحملهم وصبرهم على أذى قريش.

وخلاصة القول هو: إن الإنسان المؤمن الذي يريد الوصول إلى أهدافه لابد له من الثبات والصبر والتحمل، وعدم التنازل للأعداء قيد أنملة.

تشكيل الحكومة الإسلامية

تشكيل الحكومة الإسلامية(2)

إن نتائج الصبر والثبات على المبدأ تحقق أغلب الطموحات والأماني، فإنّ الأمل الذي يراود أغلب المسلمين هو: تشكيل حكومة إسلامية موحدة للمسلمين تحافظ على مصالحهم، وتصون حقوقهم وممتلكاتهم، وذلك لا يتم ولا يتحقق بدون الصبر والاستمرار على النهج القويم الذي خطّه لنا أئمتنا(عليهم السلام).

وكذلك نحتاج إلى بعض الأمور المهمة التي تعد كمقدمات لهذا الهدف، منها: توفير كادر إسلامي متخصص من العلماء من ذوي الاختصاص، تشمل

ص: 434


1- إعلام الورى: 52.
2- للتفصيل راجع: الدولة الإسلامية (جزأين)، والسبيل إلى الوحدة الإسلامية، والسبيل إلى إنهاض المسلمين، والصياغة الجديدة، والحكومة العالمية الواحدة (مخطوط) والكثير غيرها، من مؤلفات الإمام الراحل(رحمه اللّه) في هذا المجال.

حقول الاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، وغيرها من مجالات الحياة؛ ليقوموابمتابعة الحالة العامة للمسلمين، ودراستها دراسة مستفيضة ومحيطة بكل الجوانب، وتعيين نقاط الضعف، ونقاط القوة، ووضع الحلول المناسبة لذلك، بمعونة وإشراف المراجع العظام. وكذلك تهيئة كادر إسلامي أوسع نطاقاً، يتكون من المبلغين والكتّاب والأساتذة كلٌّ في اختصاصه، للقيام بنقل التوصيات والتعليمات التي أقرّها الإسلام، وتطبيقها على أرض الواقع. ومن المقدمات المهمة لذلك هي:

أولاً: الأخوّة الإسلامية، اللازم تحقيق الأخوّة الإسلامية في نفوس المسلمين ليصبح المسلمون إخوة، تجمعهم وشائج الإسلام أين ما كانوا، بحيث يصبح المسلم العربي أخاً للمسلم الفارسي، وهذا أخاً للمسلم التركي، والأخير أخاً للهندي... وهكذا سائر المسلمين مصداقاً للآية الكريمة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1) والحديث النبوي الشريف: «..المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحرمه، فيحق على المسلمين الاجتهاد فيه - الزمان الشديد - والتواصل والتعاون عليه والمواساة لأهل الحاجة والعطف منكم، يكونون على ما أمر اللّه فيهم {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(2) متراحمين»(3). فحينئذ يصبح من السهل تشكيل الحكومة الإسلامية الموحدة الجامعة لكل المسلمين.

إن النصوص الواردة في القرآن والسنة، وهي كثيرة، تبين ما بين المسلمين من

ص: 435


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- الكافي 4: 50.

أخوة عميقة، هي أخوّة الدين والإيمان، وبتطبيقها يتحقق المطلوب ونخطوخطوات كبيرة إلى الأمام(1).

ثانياً: نشر الحرية الإسلامية في البلاد، ورفع القيود التي تقيد الإنسان وتحد من عمله، فإن الإسلام لا يقر القيود والأغلال التي تفرض على الإنسان فقد قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(2)، وإنما جاء الإسلام لكي يرفع هذه القيود والأغلال التي كانت تكبله في العصور المظلمة، والتي سبقت بزوغ نجم الإسلام، وقد ذكر في بعض التفاسير(3) أن هذه الآية نزلت على اليهود والنصارى تصف لنا حياتهم قبل مجيء الإسلام. فقد كانوا في كبت وضيق وعندما أتى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رفع عنهم هذا الكبت، وهذه الأغلال، كما يفهم من الآية التي تليها: {قُلْ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(4) إن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مبعوث إلى كافة الناس فإذا كان يرفع الأغلال والقيود عن اليهود والنصارى فمن باب أولى يرفعها عن المسلمين. ومن هنا عرف الإسلام بأنه دين المحبة والسلام والحرية.

إذ أن من خواص الإسلام أنه يطلق الحريات المعقولة، فالسفر والإقامة والتجارة والزراعة والصناعة والبيع والاشتراء والكلام والكتابة والتجمع وغيرها، كلها مباحة لا قيود لها، إلّا بعض الشرائط الطفيفة التي هي في صالح المجتمع والفرد، ولا يعلم مدى ذلك إلّا بالمقايسة إلى الأنظمة والمناهج الدنيوية التي كلها كبت واستعباد واستغلال.

ص: 436


1- انظر: الكافي 2: 165 ووسائل الشيعة 16: 285- 385.
2- سورة الأعراف، الآية: 157.
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 374.
4- سورة الأعراف، الآية: 158.

ثالثاً: الأمة الواحدة، قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْفَاعْبُدُونِ}(1) إن القرآن والإسلام يحث المسلمين على الوحدة ورفع الحواجز والحدود في ما بينهم؛ لأن في تفرقتهم ضعفهم وهوانهم، ويطمع الأعداء فيهم. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة»(2).

ففي تحقق هذه النقاط الثلاث: الأخوة الإسلامية والحرية الإسلامية والأمة الواحدة في المجتمع الإسلامي، وإزالة المخاوف التي تراود المسلمين من قيام حكومة إسلامية - والتي زرعها الاستعمار في قلوب بعض المسلمين - يصبح من السهل تشكيل حكومة إسلامية عالمية، تدافع عن المسلمين وتحافظ على مصالحهم.

مفتاح النجاح

إن الشيء المهم الذي يعدّ مفتاح النجاح والفلاح في جميع الأهداف، هو الثبات والدوام على النهج الإسلامي القويم، وعدم الملل والكلل، لأن أي هدف مهما كان بسيطاً يحتاج إلى الصبر والاستمرار في العمل.

أضرب هنا مثلاً: الطالب سواء كان حوزوياً أم طالباً في المدارس الأكاديمية، عندما يدخل في المدرسة يتحمل البرد والجوع أحياناً، وضنك العيش، وربما يصرف أموالاً طائلة لكي يحصل على ثمرة عمله، فالطالب الصبور المستمر في دراسته تلاحظه يتوفق غالباً، ويصل إلى هدفه، بعكس الطالب القليل الصبر، فإنه ينهزم من أول مشكلة تصادفه، ويقطع دراسته، ويصبح فاشلاً في حياته غالباً.

وهذا المثل الذي ضربناه لكم، يعدّ مثلاً صغيراً جداً، مقارنة مع هدفنا في

ص: 437


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.

تشكيل الحكومة الإسلامية. أما هدفنا العظيم هذا فهو يحتم علينا الصبر الكثيروإدامة العمل مهما كانت المعوقات والمشاكل، وفي التاريخ الكثير من القضايا التي تعد درساً بليغاً في ذلك. مثلاً، أحد أصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين ما أشرف على الموت أخذ يبكي بكاءً شديداً، فسأله أصحابه الذين اجتمعوا حوله، عن سبب بكائه؟ فقال: لأن الإنسان لابد ميت، وإني لأخشى أن يفاجئني أجلي على فراشي، دون أن أرزق الشهادة تحت راية رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهذا المعنى ورد عن إمامنا الحسين(عليه السلام) في أبيات منسوبة له(عليه السلام):

فإن تكن الدنيا تعد نفيسة *** فإن ثواب اللّه أعلى وأنبل

وإن تكن الأبدان للموت أنشئت *** فقتل امرء بالسيف في اللّه أفضل(1)

قال بعض الرواة: فواللّه ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه، وإن كانت الرجال لتشد عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب، ولقد كان يحمل فيهم وقد تكمَّلُوا أَلفاً فينهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول: «لا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم»(2).

فموقف إمامنا الحسين(عليه السلام) هذا هو درس وافٍ لتلخيص المبادئ التي تحدثنا عنها (الصبر والاستقامة والثبات على المبدأ) وغيرها من المبادئ والعبر. فالإمام(عليه السلام) كان ينبوع الصبر، أيُّ إنسان قتل أهل بيته، وأصحابه وبات وحيداً فريداً، لا ناصر له ولا معين، أمام جيش جرار، مدجج بالسلاح مصمم على قتله، فيما بقي عيالاته وحرمه بغير راع أو كفيل، يواجه كل ذلك أمام عينيه، فلا يتسرب

ص: 438


1- اللّهوف: 74.
2- بحار الأنوار 45: 50.

إلى نفسه جزع أو اضطراب، بل يبكي لا لأجل نفسه، بل لأن كل تلك الألوفالمؤلفة ستدخل النار بسبب العدوان على حقه... فيتقدم إليهم رابط الجأش، مشرق الوجه يعظهم، وينذرهم بغضب اللّه وسخطه.

ولما لم يجد تأثيراً لنصحه وتذكيره، بل وجدَ القوم يطفحون بالشر والكفر، بحيث لا يقبلون بغير رأسه بدلاً، تقدم إليهم بلامة حربه شاهراً سيفه وهو لا يفتأ يردّد: «لا حول ولا قوة إلّا باللّه... نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين»(1) صابراً محتسباً، لأمر اللّه وقضائه ثابتاً على المبدأ الذي آمن به، مستقيماً على دين جده المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حتى ضحّى بحياته وأهل بيته وأصحابه؛ في سبيل ذلك الهدف، وفي سبيل كسب رضا اللّه تعالى، وفي سبيل أن يبقى الإسلام حياً في قلوب البشر، وفي زيارة الناحية نقرأ هذه المقاطع:

«... أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر والعدوان، وأطعت اللّه وما عصيته، وتمسكت به وبحبله، فأرضيته وخشيته، وراقبته واستجبته، وسننت السنن، ... وكنت لله طائعاً ولجدك محمداً صلى اللّه عليه وآله تابعاً، ولقول أبيك سامعاً والى وصية أخيك مسارعاً ولعماد الدين رافعاً وللطغيان قامعاً وللطغاة مقارعاً وللأمة ناصحاً، وفي غمرات الموت سابحاً... وللحق ناصراً وعند البلاء صابراً وللدين كالئاً وعن حوزته مرامياً...»(2).

فنسأل اله تعالى أن يجعلنا من الصابرين المحتسبين والثابتين على الصراط المستقيم.

«اللّهم بك أساور، وبك أجادل، وبك أصول، وبك انتصر، وبك أموت، وبك

ص: 439


1- كشف الغمة 2: 29.
2- المزار الكبير: 501.

أحيا، أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك، لا حول ولا قوة إلّا باللّه العليالعظيم»(1).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

من هدي القرآن الحكيم

جزاء الصابرين

قال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٖ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ الْأَمْوَٰلِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَٰتِ وَبَشِّرِ الصَّٰبِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ * أُوْلَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَالصَّٰبِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٖ}(5).

وقال تعالى: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}(6).

ص: 440


1- المجتنى: 22.
2- سورة البقرة، الآية: 249.
3- سورة البقرة، الآية: 155 و157.
4- سورة البقرة، الآية: 177.
5- سورة الزمر، الآية: 10.
6- سورة آل عمران، الآية: 146.
الاستقامة طريق النجاح

قال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْوَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}(2).

وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَٰمُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّاءً غَدَقًا}(3).

الصبر في العمل وتحمل الأذى

قال سبحانه: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا ءَاذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ}(6).

وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(7).

ص: 441


1- سورة فصلت، الآية: 30.
2- سورة الأحقاف، الآية: 13.
3- سورة الجن، الآية: 16.
4- سورة إبراهيم، الآية: 12.
5- سورة آل عمران، الآية: 195.
6- سورة الأنعام، الآية: 34.
7- سورة آل عمران، الآية: 186.
الثبات على المبدأ

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ}(1).وقال عزّ وجلّ: {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَفِي الْأخِرَةِ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

جزاء الصابرين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: بدناً صابراً ولساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وزوجة صالحة»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) (حاكياً) عن اللّه تعالى: «إذا وجِّهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً»(6).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له»(7).

ص: 442


1- سورة آل عمران، الآية: 200
2- سورة الأنفال، الآية: 66.
3- سورة محمد، الآية: 7.
4- سورة إبراهيم، الآية: 27.
5- مستدرك الوسائل 2: 414.
6- جامع الأخبار: 116.
7- الكافي 2: 89.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عجبت من المؤمن وجزعه من السقم، ولو يعلم ماله في السقم الثواب لأحب أن لا يزال سقيماً حتى يلقى ربه عزّ وجلّ»(1).وقال أبي عبد اللّه(عليه السلام): «من إبتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد»(2).

الاستقامة طريق النجاح

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «استقم وليحسن خلقك للناس» وقال أيضاً(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «استقيموا ونعمّا إن استقمتم»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العمل العمل، ثم النهاية النهاية، والاستقامة الاستقامة، ثم الصبر الصبر، والورع الورع... ألا وإن القدر السابق قد وقع والقضاء الماضي قد تورد(4) وإني متكلم بعِدَةِ(5) اللّه وحجته قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(6) وقد قلتم: ربنا اللّه فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته، ثم لا تمرقوا منها، ولا تبتدعوا فيها، ولا تخالفوا عنها»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من استقام فإلى الجنة، ومن زلّ فإلى

ص: 443


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 501.
2- الكافي 2: 92.
3- نهج الفصاحة: 210.
4- تَورَّدَ: هو تفعّل كتنزّل، أي ورد شيئاً بعد شيء.
5- عِدَة اللّه - بكسر ففتح - : وعده.
6- سورة فصلت، الآية: 30.
7- نهج البلاغة، الخطبة: الرقم 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.

النار»(1).

وقال(عليه السلام): «لا مسلك أسلم من الاستقامة»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «لا سبيل أشرف من الاستقامة»(3).

الصبر في العلم وتحمل الأذى

قال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «إنه سيكون زمان لا يستقيم لهم الملك إلّا بالقتل والجور، ولا يستقيم لهم الغنى إلّا بالبخل، ولا يستقيم لهم الصحبة إلّا باتباع أهوائهم والاستخراج من الدين، فمن أدرك ذاك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على الذل وهو يقدر على العز، وصبر على بغضه الناس وهو يقدر على المحبة، أعطاه اللّه تعالى ثواب خمسين صديقاً»(4).

ومن وصايا الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه الحسين(عليه السلام) أنه قال له: «يا بني أوصيك... بالعمل في النشاط والكسل»(5).

وقال الإمام أبو جعفر(عليه السلام): «أحب الأعمال إلى اللّه عزّ وجلّ ما داوم عليه العبد، وإن قل»(6).

وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اتقوا اللّه واصبروا فإنه من لم يصبر أهلكه الجزع، وإنما هلاكه في الجزع أنه إذا جزع لم يؤجر»(7).

ص: 444


1- نهج البلاغة، الخطبة: الرقم 119 من كلام له(عليه السلام) وقد جمع الناس وحضهم على الجهاد فسكتوا ملياً.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 775.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 771.
4- جامع الأخبار: 116.
5- تحف العقول: 88.
6- الكافي 2: 82.
7- التمحيص: 64.
بالصبر ينال المطلوب

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً إن مع العِسر يسرا»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من ركب مركب الصبر اهتدى إلى مضمارالنصر»(2).

وقال(عليه السلام): «الصبر يرغم الأعداء»(3).

وقال الإمام أبي عبد اللّه(عليه السلام): «إن العبد يكون له عند ربه درجة لا يبلغها بعمله فيبتلى في جسده، أو يصاب في ماله، أو يصاب في ولده، فان هو صبر بلغه اللّه إياها»(4).

ص: 445


1- من لا يحضره الفقيه 4: 412.
2- كشف الغمة 2: 346.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 46.
4- المؤمن: 26.

الجدال بالتي هي أحسن

الموعظة الحسنة

قال اللّه تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(1).

إن اللّه سبحانه أمر نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدعوة الناس إلى الحق والصراط المستقيم فقال: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ} أي: ادع إلى دينه لأنه الطريق إلى مرضاته {بِالْحِكْمَةِ} أي: بالقرآن، أو مطلق ما يكون مطابقاً للحكمة، وسُمّي القرآن حكمةً، لأنه يتضمن الأمر بالحَسَن والنهي عن القبيح. وأصل الحكمة المنع، ومنه حكمة اللجام. وإنما قيل لها حكمة، لأنها بمنزلة المانع من الفساد، وما لا ينبغي أن يختار. وقيل: إن الحكمة هي المعرفة بمراتب الأفعال في الحُسن والقبح، والصلاح والفساد، لأن بمعرفة ذلك يقع المنع من الفساد، والاستعمال للصدق والصواب في الأفعال والأقوال. {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} معناه: الوعظ الحسن، وهو الصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه، والتزهيد في فعله، وفي ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع. وقيل: إن الحكمة هي النبوة، والموعظة الحسنة مواعظ القرآن، روي ذلك عن ابن عباس. {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: ناظرهم بالقرآن، وبأحسن ما عندك من الحجج، وتقديره بالكلمة التي هي أحسن.

ص: 446


1- سورة النحل، الآية: 125.

والمعنى: اصرف المشركين عما هم عليه من الشرك، بالرفق والسكينة، ولين الجانب في النصيحة، ليكونوا أقرب إلى الإجابة، فإن الجدل(1) هو فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج، وقيل: هو أن يجادلهم على قدر ما يحتملونه، كما جاء في الحديث: «أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس على قدر عقولهم»(2)(3).

وقد ذكرنا في (التقريب): {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ} أي: أدع الناس إلى طريقه سبحانه {بِالْحِكْمَةِ} وهي وضع الشيء موضعه، بأن تكون الدعوة حكيمة في الأسلوب والزمان والمكان {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} بأن تكون الدعوة وعظاً حسناً، لا يسبب تشريد الناس، بل إقبالهم، فقد يقول الإنسان للفاسق: يا فاسق، ويبصق في وجهه - فإنه يزيده عناداً - وقد يقول له: أيها الأخ، إنك شاب جميل، فلماذا لاتسلك سبيل ربك الذي نهاك عن العمل الكذائي؟ وهكذا،{وَجَٰدِلْهُم} أي حاجج وناظر من كفر وعصى {بِالَّتِي} أي بالطريقة التي {هِيَ أَحْسَنُ} الطرق، حيث لا تثير عنادهم ولا تجرح كبرياءهم {إِنَّ رَبَّكَ} يا رسول اللّه {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} واعرف بطباعهم ونفسياتهم، فأمره إياك بالدعوة هكذا، ليس إلّا لأنه أعلم بما يُصلحهم {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} الذين اهتدوا فجزاؤهم عليه، وليس عليك إلّا الدعوة بهذه الكيفية(4).

بناءً على ما ذكر من أن الحكمة هي القرآن أو رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو ما يناسب الزمان والمكان وسائر الشرائط، ينبغي لحملة الرسالة والمبلغين أن يتحلوا

ص: 447


1- الجَدَل: اللَّدَدُ في الخُصومة والقدرةُ عليها.
2- عوالي اللئالي 2: 103.
3- تفسير مجمع البيان 6: 210.
4- تفسير تقريب القرآن 3: 278.

بالحكمة، ليؤثر كلامهم في الناس، وكذلك الموعظة الحسنة.

ولا فرق في ذلك بين الكلام اللفظي والكتبي والعملي.

فينبغي أن يكون الخطيب حكيماً ويتصف بحسن الموعظة، وكذلك الكاتب، وهكذا المبلّغ الديني في سيرته العملية، فإن الناس كثيراً ما ينظرون إلى فعل الإنسان قبل قوله.

ومن جانب آخر، قد يكون من مصاديق الحكمة والموعظة الحسنة: أنه لا بد للخطيب أو الكاتب أو الباحث قبل أن يخوض في بحثٍ، أو يناقش مسألة، أو يكتب كتاباً، أو يبيّن فكرة مّا، أن يدعم موضوعه وفكرته بالنور الساطع، المتمثل بالقرآن الكريم، وسنة النبي العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) ليكتمل موضوعه ويتصف بالحكمة؛ لأنهم(عليهم السلام) لم يتركوا شيئاً من أمور الدنيا والآخرة إلّا وقد وضّحوه لنا، إمّا بالمباشرة أو بنحو العمومات وما أشبه، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرح علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحن»(1).

وهناك العديد من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، التي تدل على هذا الموضوع، كما أن قصصاً كثيرة من التاريخ الإسلامي، ومن واقعنا الحالي، تشهد على ذلك.

التقسيمات الأولية للمناقشة

اشارة

المناقشة: فن جميل، ينبغي لكل مسلم أن يحاول تعلّمها وتعليمها، فإنّ لها

ص: 448


1- الكافي 1: 183.

منافع جمة يستطيع بها الإنسان من الوصول إلى مراده بأقل عناء وتعب.فالشخص الذي يجيد أسلوب المناقشة يصبح من السهولة عليه أن يقنع الآخرين ويجرهم إلى فكرته وهدفه، على العكس من الشخص الذي لا يجيده، فإنّه حتى لو كان على حق، وكانت فكرته التي يريد إيصالها نافعة وصحيحة، فإنّه يلاقي صعوبة كبيرة في إيصال مراده إلى الطرف المقابل، إن لم نقل بأنّه سيفشل في ذلك.

وقد قسّم المختصون في فن المناقشة - الناس من حيث النقاش - إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الخواص المميزون، وهم أصحاب النفوس المشرقة، القوية الاستعداد لإدراك الحقائق العقلية، فهؤلاء عادة يدعون بالحكمة، وتكون المناقشة معهم بالبراهين والأدلة العقلية.

الثاني: عموم الناس ممن لهم فهم عادي واستعداد ليس بالفائق، وتكون شدة ألفتهم بالمحسوسات، وقوة تعلقهم بالرسوم والعادات كبيرة، وربما كانوا قاصرين عن تلقي البراهين العلمية، من غير أن يكونوا معاندين للحق، وهؤلاء تكون نوع المناقشة معهم عن طريق الموعظة الحسنة.

الثالث: قلة من الناس وهم أصحاب العناد واللجاج، اللذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ويكابرون ليطفئوا نور اللّه بأفواههم، وهؤلاء لا ينفع معهم النقاش عن طريق البراهين والأدلة، أو عن طريق الموعظة الحسنة، وإنما يلزم مجادلتهم بأحسن الجدال حيث قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1).

ص: 449


1- سورة النحل، الآية: 125.
تبديل حالة الدفاع إلى الهجوم

ذكر المختصون في أساليب المناقشة ضرورة اتخاذ سياسة الهجوم بدل الدفاع، خاصة في حال كون الطرف المقابل معانداً.

ولا نقصد بالهجوم ما ينافي الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، بل هجوماً منطقياً خاضعاً لإحدى المراتب الثلاثة المذكورة في الآية الكريمة، أي هجوماً بحكمة، أو هجوماً بموعظة حسنة، أو هجوماً جدلياً بالتي هي أحسن.

فإن الغالب - عادة - هو المهاجم وليس المدافع، وهذه القضية مطابقة للجانب التكويني أيضاً، حيث يقول أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «ما غُزي قوم قطّ في عقر دارهم إلّا ذلوا»(1).

فإذا اتخذ العدو حالة الهجوم، وأصبحت أنت في حالة الدفاع فقط، فإنك ستُغلب - غالباً - ؛ لذا عليك أن تتخذ الهجوم مقابل الهجوم، حتى يضطر العدو إلى الركون واللجوء إلى حالة الدفاع، وهذا ما يذكر في العلوم العسكرية والحربية أيضاً.

والبحث هنا حول المناقشة والمجادلة والمحادثة، فأحياناً لايكون الطرف المقابل إنساناً معانداً، بل هو يقتنع بالدليل مقابل الدليل، ويحترم البرهان والموعظة الحسنة، فنناقشه بحسب الأدلة والبراهين أو بالموعظة الحسنة كما ذكرنا. وقد يكون الطرف المقابل معانداً ويتبع الهجوم، فهنا لا يصح أن نتبع معه البحث العادي، بل لا بدّ أن نسلك معه الطريق الأخير وهو: الجدال بالتي هي أحسن.

وفي كل ذلك اتخاذ سبيل الهجوم الحواري أفضل من الاقتصار على سبيل

ص: 450


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 27 من خطبة له(عليه السلام) وقد قالها يستنهض بها الناس... .

الدفاع في ذلك، كما هو واضح.

الجدال الحسن والمذموم

الجدال كما ذُكر في الكتاب والسنة على قسمين:

1- جدال حسن.

2- جدال مذموم.

وقبل الدخول في تفصيل هذين القسمين لا بد من توضيح نقطة مهمة، هي أنّ الجدال بما هو جدال مذموم، فالجدال لغرض الجدال أمرٌ غير محبّب، أي إذا كان الجدال لأمور نفسانية كقصد الغلبة، ومجرد إفحام الطرف المقابل، والمباهاة على الآخرين، والتشوّق لإظهار الفضل، لا لقصد إظهار الحق، فهنا يصبح الجدال مذموماً، بل إنه يكشف عن الصفات السلبية التي ذمها اللّه تعالى.

فالجدال على ما ذكر، وأولاً وبالذات مذموم؛ لأنّه يستلزم العناد والمكابرة والابتعاد عن الحق.

لكن الجدال لهدف معنوي سام، وباعتباره ثانياً وبالعرض هو حسن، بل ربما يكون واجباً، فلو صادفك شخص وهذا الشخص من النوع المعاند الذي لا يذعن للبراهين والأدلة والحجج الدامغة، بل يكابر ويصرّ على رأيه، فهنا تزول مذمومية الجدال ويصبح الجدال بالتي هي أحسن مع هذا الشخص حسناً، بل قد يتوجب عليك مجادلته؛ فيما إذا كان ترك جداله سبباً لتصور الناس أنه على الحق، فإذا جئته بالمنطق والبراهين والأدلة لكنه لا يقتنع بل يصر على رأيه الباطل، ويخدع الآخرين بآرائه الباطلة. ففي هذه الحالة يلزم أن تجادله بالتي هي أحسن، أي بالطريقة الحسنى كما جاء في الآية الكريمة: {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1).

ص: 451


1- سورة النحل، الآية: 125.

وبعد أن ذكرنا أن الجدال على قسمين: قبيح وحسن، يأتي الدور إلى مراتب القُبح والحُسن، فالجدال الحسن ينقسم أيضاً إلى قسمين:

1- جدال حسن.

2- جدال أحسن.

والقسم الثاني منه هو المأمور به من قبل اللّه تعالى. فعلى المؤمنين أن يتصفوا بالجدال الأحسن.

الجدال في الكتاب والسنة

في القرآن الكريم مصاديق عديدة لأنواع الجدال، الحسن والأحسن، والقبيح والأقبح.

قال تعالى: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1).

وقال سبحانه: {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2).

ومن النوع الثاني بقسميه: قول اللّه تعالى في الكتاب الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٖ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَٰنٖ مَّرِيدٖ}(3).

وقوله سبحانه: {وَجَٰدَلُواْ بِالْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ}(4).

وقوله تعالى: {يُجَٰدِلُونَ فِي ءَايَٰتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَٰنٍ أَتَىٰهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَٰلِغِيهِ}(5).

كما ورد في الروايات الشريفة المروية عن أهل البيت(عليهم السلام) ذلك بشقّيه الحسن

ص: 452


1- سورة العنكبوت، الآية: 46.
2- سورة النحل، الآية: 125.
3- سورة الحج، الآية: 3.
4- سورة غافر، الآية: 5.
5- سورة غافر، الآية: 56.

والمذموم، والأحسن والأكثر ذماً.

ففي الجدال الحسن، قال أبو محمد الحسن بن علي العسكري(عليهم السلام):

«ذكر عند الصادق(عليه السلام) الجدال في الدين، وأن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) قد نهوا عنه؟ فقال الصادق(عليه السلام): لم يُنه عنه مطلقاً، ولكنه نُهي عن الجدال بغير التي هي أحسن؛ أما تسمعون اللّه يقول: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1) وقوله: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2) فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين، والجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه اللّه على شيعتنا، وكيف يحرم اللّه الجدال جملةً وهو يقول: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَٰرَىٰ}(3) وقال اللّه تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(4) فجعل اللّه علم الصدق والإيمان بالبرهان، وهل يؤتى ببرهان إلّا بالجدال بالتي هي أحسن».

قيل: يا ابن رسول اللّه فما الجدال بالتي هي أحسن؟ وبالتي ليست بأحسن؟

قال(عليه السلام): «أما الجدال بغير التي هي أحسن، فأن تجادل به مبطلاً فيورد عليك باطلاً، فلا ترده بحجة قد نصبها اللّه، ولكن تجحد قوله، أو تجحد حقاً يريد بذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة؛ لأنك لا تدري كيف المَخلص منه، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنةً على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته، وضعف في يده حجةً له على باطله، وأما

ص: 453


1- سورة العنكبوت، الآية: 46.
2- سورة النحل، الآية: 125.
3- سورة البقرة، الآية: 111.
4- سورة البقرة، الآية: 111.

الضعفاء منكم فتُغم قلوبهم لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل، وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر اللّه تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له، فقال اللّه له حاكياً عنه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ الْعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٌ}(1) فقال اللّه تعالى في الرد عليه: {قُلْ} يا محمد {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ}(2)، إلى آخر السورة، فأراد اللّه من نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم؟ فقال اللّه تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٖ} أفيعجز من ابتدأ به لا من شيء أن يعيده بعد أن يُبلى؟! بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته، ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} أي: إذا أكمن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب، ثم يستخرجها، فعرفكم أنه على إعادة ما بلي أقدر ثم قال: {أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّٰقُ الْعَلِيمُ}(3) أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي، فكيف جوزتم من اللّه خلق هذا الأعجب عندكم، والأصعب لديكم، ولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي؟!

قال الصادق(عليه السلام): فهو الجدال بالتي هي أحسن؛ لأن فيها قطع عذر الكافرين، وإزالة شبههم. وأما الجدال بغير التي هي أحسن، فأن تجحد حقاً لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق، فهذا

ص: 454


1- سورة يس، الآية: 78.
2- سورة يس، الآية: 79-80.
3- سورة يس، الآية: 81.

هو المحرم؛ لأنك مثله، جحد هو حقاً وجحدت أنت حقا آخر»(1).

وعن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه(عليهما السلام) قال: «من أعاننا بلسانه على عدونا، أنطقه اللّه بحجته يوم موقفه بين يديه عزّ وجلّ»(2).

أما ما ورد من الأحاديث في التحذير من الخوض في الجدال فإن المراد به الجدال المذموم والقبيح بمراتبه المختلفة. فقد روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إيّاكم والجدال فإنه يورث الشكّ في دين اللّه»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إياك والخصومة فإنها تورث الشك وتحبط العمل وتردي بصاحبها، وعسى أن يتكلم بشيء فلا يغفر له»(4).

وروي أن رجلاً قال للإمام الحسين(عليه السلام): أجلس حتى نتناظر في الدين.

فقال: «يا هذا، أنا بصير بديني مكشوف عليّ هداي، فإن كنت جاهلاً بدينك فاذهب فاطلبه، ما لي وللمماراة، وإن الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه، ويقول: ناظر الناس لئلا يظنوا بك العجز والجهل، ثم المراء لا يخلو من أربعة أوجه: إما أن تتمارى أنت وصاحبك فيما تعلمان، فقد تركتما بذلك النصيحة وطلبتما الفضيحة وأضعتما ذلك العلم، أو تجهلانه فأظهرتما جهلاً وخاصمتما جهلاً، وإما تعلمه أنت فظلمت صاحبك بطلب عثرته، أو يعلمه صاحبك فتركت حرمته ولم تنزله منزلته، وهذا كله محال، فمن أنصف وقبل الحق وترك المماراة فقد أوثق إيمانه، وأحسن صحبة دينه وصان عقله»(5).

ص: 455


1- الاحتجاج 1: 21.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 33.
3- بحار الأنوار 2: 138.
4- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 384.
5- منية المريد: 171.
من معاني الجدال

وعرّف بعض الجدال بأنّه الحجة التي تستعمل لصرف الخصم عما يصرّ عليه وينازع فيه، من غير أن يريد به ظهور الحق.

من مصاديق الجدال

هناك مصاديق عديدة للجدال الحسن والأحسن ينبغي مراعاتها، وفي المقابل مصاديق للجدال القبيح والأقبح ينبغي تركها.

فإنه يلزم على الشخص المجادل حتى إذا كان على الحق، أن يحترز عن سوء التعبير والإزراء بالخصم وبما يقدّسه من المعتقدات، وأن لايجرح مشاعره، ويبتعد عن السبّ والشتم، وأي جهالة أخرى، فإنه من الجدال القبيح، وإن كان لإثبات الحق، لأن ذلك من إحياء للحق بإحياء الباطل وهذا مرفوض، لأنه بالتالي إماتة للحق؛ لأنّ الحق لايحييه الباطل، بل الحق يحيى بإحيائه وباتباع الأساليب الحقة، وبالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وليس الحسن فحسب.

ثم إن الجدال يحتاج إلى حُسن أكثر مما هو شرط في الموعظة، لأن الآية الكريمة دعت إلى الموعظة الحسنة، وفي الجدال دعت إلى الأحسن.

جدال المعاند

سبق أن أشرنا إلى ضرورة اتخاذ سبيل الهجوم في الجدال، لا الدفاع، فإنه كثيراً ما لا يمكن إثبات الحق لبعض الناس إلّا بالهجوم على الباطل، ومن الواضح أن الملحد إذا أورد إشكالاً مّا على التوحيد وإثبات الباري عزّ وجلّ، فإذا أردت أن تجيب ربما جاء بإشكال جديد، وحينما تبدأ بإجابة ذلك الإشكال الجديد فسيأتيك بإشكال ثالث وهكذا، وفي كثير من الأحيان لا يمكن إقناعه أو حصره، فعليك هنا إذا صادفك مثل هذا النموذج من الناس أن تبدأ أنت بالجدال

ص: 456

الهجومي وتبادره بالسؤال، وتقول له: ما هو دليلك على عدم وجود اللّه؟ وبمجرد أن يأتي لك بدليل، تبدأ أنت بصياغة إشكال له، وهكذا، كل ذلك لكي توصله إلى طريق مسدود فيذعن لك؛ لأنّه على باطل، والباطل مهما كان قوياً فنتيجته الخذلان، والمعاند الذي لا يعترف بوجود اللّه مهما امتلك من القدرة والكفاءة، فإنه يعجز في النتيجة عن إثبات ذلك؛ لأن الباطل هو الزائل الزاهق، بعكس الحق فإنه الثابت، ووجود اللّه تعالى حقيقة ثابتة، بل أظهر الحقائق وأقواها، وإذا كان جدالك مع المعاند لإظهار الحق فإنك الفائز كما ذكر اللّه تعالى في كتابه المجيد: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَٰطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(1) وقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}(2).

روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «ليس من باطل يقوم بإزاء الحق إلّا غلب الحق الباطل...»(3).

وقال الحاجي السبزواري في منظومته:

الغرض التحرز والابتلا *** لرغم لدٍّ حبذا سلاسلا(4)

حوار مع ملحد

عند ما كنا في العراق جاءني أحد المؤمنين بملحد لمناقشته وحواره وجداله بالتي هي أحسن، فقال الملحد: هل أنت تقول بوجود اللّه؟

فقلت له على الفور: وهل أنت تقول: بأن اللّه ليس موجوداً؟

قال: نعم.

ص: 457


1- سورة الشورى، الآية: 24.
2- سورة الأنبياء، الآية: 18.
3- الكافي 8: 242.
4- شرح المنظومة، للسبزواري 1: 319.

فقلت له: فما هو دليلك عليه... فهل ذهبتَ إلى كل السماوات والبحار والكواكب والغابات، وفتّشتَ عنه فيها ولم تجده حتى تقول بأن اللّه ليس موجوداً؟!

فلم يتمكن من الجواب وتحيّر في الرد على هذا السؤال، وعندها صار كلامه فاقداً لأية قيمة.

لذا فإنّ المختصين بعلم المناظرات، وهو العلم الذي وضع لأجل أمثال هذه المواطن، ذكروا أنّ على الإنسان أن يخرج نفسه من موقع الدفاع إلى حالة الهجوم، مما يجعل الخصم المعاند يصاب بالحصر في النقاش، هذا إذا لم يصل إلى درجة الاقتناع بالفكرة.

المسلمون الأوائل والأسوة الحسنة

إن المسلمين في القرن الأخير اتخذوا موضع الدفاع بعدما كانوا هم الذين يمتلكون زمام المبادرة والهجوم في المحاججات والمحاورات والمناظرات العلمية والعقائدية، وكذلك في سائر ميادين الحياة، فراحوا يخرجون من هزيمة وانكسار ليدخلوا في خسارة وانكسار جديدين، وظلوا في عداد المتأخرين عن ركب الأمم.

لذا يجب على المسلمين أن يتخلّصوا من هذه الحالة التأخرية، ويتخذوا موضع الهجوم الحواري - بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن - في مختلف مجالات الحياة حتى يلجأ أعداء الإسلام والمسلمين - من غربيين وشرقيين - إلى موضع الدفاع، ولا نعني بالهجوم، الهجوم المسلح، بل نحن نرى ضرورة اتخاذ سياسة السلم واللاعنف دائماً، نعم قد يكون التحرك المسلح عند أقصى حالات الضرورة آخر وسيلة تستخدم ضد العدو حين تقصر الوسائل الأخرى، من قبيل التحرك السياسي والدبلوماسي والإعلامي والثقافي

ص: 458

والاقتصادي والاجتماعي والعلمي والفكري والكلامي في المناقشة وغيرها، ففي بادئ الأمر يلزم على المسلمين أن يستخدموا أسلوب المحاورة والمجادلة العلمية والفكرية في القول والعمل؛ لأن الإسلام دين المنطق والبرهان لا السيف والحرب، فقد قال تبارك وتعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(1). فإذا عجزوا عن ذلك وداهمهم العدو للقضاء على الإسلام والمسلمين، ولم تنفع سائر السبل المذكورة، فحينذاك يمكن استخدام الأساليب الأخرى ضمن المقررات الشرعية وبقرار من شورى الفقهاء المراجع ودراسة من الأخصائيين، تأسياً برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث كان يستخدم أولاً أسلوب المحاورة والمناقشة العلمية القائمة على البراهين والأدلة أمام خصومه، فإذا لم تنفع هذه الوسائل، أي: تعنّتَ الطرف المقابل، وأخذ بمحاربة الإسلام والمسلمين فاجأه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخطة دفاعية محكمة يلاحظ فيها التفوق والمبادرة.

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدوة

إن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو مدرسة متكاملة في جميع الاتجاهات، ففي أسلوب المناقشة والمحاورة والمجادلة نجده في القمة، وكذلك في الأسلوب الإداري والمدني، وهكذا في الميدان الحربي والعسكري.

وقد اعترف للرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذه القدرات كبار العلماء في الفكر والأدب والحرب، وكثير منهم غير مسلمين:

فقد قال الفيلسوف الروسي (تولستوي)(2)

في فضل الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): (لا ريب في أنّ محمداً خدم الاجتماع خدمات جليلة، ويكفيه فخراً أنه هدى مئات

ص: 459


1- سورة النمل، الآية: 64.
2- ليون تولستوي (1828م-1910م) كاتب قصصي روسي.

الملايين إلى نور الحق والسكينة والسلام، ومنح الإنسانية طريقاً للحياة، وهو عمل عظيم لا يقوم به إلّا إنسان أوتي قوة وإلهاماً وعوناً من السماء).

وكذلك قال الشاعر الألماني الكبير (جوته)(1) في النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفي الإسلام: (إذا كان الإسلام هو التسليم للّه لا للأهواء والأغراض، ففي الإسلام نحيا وعليه نموت).

وكما قال أيضاً: (عندما قرأت تاريخ رسول الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ألّفت النشيد المحمدي وكتب مسرحية محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)).

نعم، هذا هو نبينا الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلو تمسّك المسلمون اليوم بسيرته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة أهل بيته(عليهم السلام) قولاً وفعلاً لأصبحوا أسياد العالم كما كانوا من قبل بدون منازع.

عبرة لمن يعتبر

ذكرنا أن من أسباب تأخر المسلمين موقف الدفاع المتأخر دائماً، فعلينا أن نبدّل مواضعنا الدفاعية في مختلف مجالات الحياة الإعلامية والحوارية وغيرها إلى خطوات هجومية سلمية، إنّ اليهود سابقاً سواء كانوا في الغرب أو الشرق، لم يكونوا بقادرين حتى على الدفاع عن أنفسهم، وكانوا دائماً يُطردون من قبل الآخرين وذلك لفسادهم وإفسادهم، لكن بعدما حصلوا على مواضع الهجوم، وسعوا إلى تقوية بنيتهم المالية والإعلامية والتنظيمية والثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها من وسائل القدرة، تمكنوا من أن يجعلوا الغرب بحاجة إليهم، وهم الآن في مجتمعاتهم يعدون من سادات الدنيا، في الوقت الذي لا يصل عددهم في العالم إلى أكثر من (13 مليون نسمة)، إلّا أنّ الكثير من

ص: 460


1- يوهان فون غوته (1749م-1832م) أديب وسياسي وعالم من كبار أدباء ألمانيا.

الجامعات والبنوك ومراكز القرار السياسي والاقتصادي، وكبار رؤساء الجيوشفي الغرب هي بيد اليهود؛ وانقلبت المعادلة فصار الغرب والشرق مقابل هؤلاء في موضع دفاع لا أكثر. إنّ اليهود ثبتوا في مواقفهم، وأخذوا بزمام المبادرة، وأسس التقدم، رغم انحرافهم وفسادهم وضلالهم العقائدي والأخلاقي، وصار هذا سبباً لأن تبقى إسرائيل دولة قوية في قلب العالم الإسلامي، وهي باستمرار تزيد من مساحتها الجغرافية ومن نفوسها وقدراتها؛ لذا على المسلمين الذين يشكلون قاعدة جماهيرية كبيرة تزيد المليار، ويملكون من الإمكانات المعنوية والمادية الشيء الكثير، أن يخرجوا من حالة الدفاع ويتأهبوا لحالة المبادرة في مختلف مجالات الحياة، كما كان المسلمون في صدر الإسلام متطورين متقدمين وهذا ما يعترف به الغرب والشرق.

مناقشة مع شيوعي

حينما كنّا في الكويت قال لي أحد الشباب: إن لي أخاً يعيش في خارج البلاد، وهو يعد أحد الأشخاص الذين هم من النواة المركزية للحزب الشيوعي هناك، وهو يمتاز بقوة الحجّة والدليل وبمهارة في المجادلة والنقاش، وإني أريد أن آتي به إليكم لتناقشوه عسى أن يهتدي؟

فقلت له: لا مانع من ذلك.

فذهب هذا الشخص وأخبر أخاه فامتنع عن الحضور في بادئ الأمر، وقال له: إن علماء الدين ليس لديهم استدلال منطقي أبداً، وهم دائماً يستدلون بالقرآن والروايات فحسب، ولا إيمان لي بهما!

وعندما أخبرني أخوه بذلك قلت له: سوف أناقشه - بعون اللّه - على أساس الموازين العقلية وما أشبه. وعلى أي حال جاء ذلك الشخص، وكان عمره زهاء أربعين سنة، وكان ذكياً فطناً، وقد أحرز على عدد من الشهادات العالية - الدكتوراه

ص: 461

وما أشبه - في عدة علوم، وفي البداية جاء وجلس بكل تكبّر ثم قال: عندي جملةأسئلة. فقلت له: تفضّل.

فقال: أولاً، أنا لا أعتقد بأيّ نبي، ولا بالقرآن، ولا بالأحاديث.

فقلت له: سوف أناقشك - إن شاء اللّه - على ضوء الموازين العقلية التي تعتقد بها. قال: بأي دليل تستدل على وجود اللّه الذي تعتقد به؟ في الوقت الذي لا يوجد هناك شيء سوى الطبيعة؟

وقد طال الحديث بيننا حوالي الساعتين، وكلّما دخلنا في عمق الحديث وضع إشكالات وأصرّ على رأيه، ففكرت مع نفسي وقلت: حينما يكون المقابل معانداً فلا يصح أن تتبع معه المناقشة بالبرهان والدليل والحجة، بل عليّ أن أواصل البحث معه طبقاً لأساليب علم المناظرة، لذا سأستخدم معه أسلوب الهجوم الحواري حتى يتخذ هو أسلوب الدفاع، وفي أثناء حديثه كان هو يستشهد بكلام لينين.

وستالين، فقلت له: لقد خالفت شروط البحث التي اتفقنا عليها، ففي الوقت الذي أنا أؤمن باللّه والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا استدل بشيء من كلامهما، يتوجب عليك بالمقابل أن لا تستشهد بقول لينين وستالين، فإما كلانا له الحق أن يستشهد بما يعتقد وإلّا فلا، وعلى هذا الأساس فلا يحق لك أن تأتي بشاهد.

فقال: أنا أختلف عنك في ذلك؛ لأن ما عندك هو مجموعة خرافات، وأنت تريد أن تحمّلني إياها، لكن الذين عندي هو شيء آخر، وإني حينما أريد أن أناقش وأستشهد فإن لينين وستالين قد كانا من رجالات الفكر والمعرفة!!

فقلت له: أما بالنسبة لي فأنا لا أعتقد بستالين ولا بلينين (قلت له هذا محاولة مني للانتقال إلى حالة الهجوم).

فقال: لماذا؟

ص: 462

فقلت له: إني لا أعترف بأقوال ستالين؛ لأنه رجل يقول عكس ما يفعل(وأردت بذلك أن يتحول الخصم إلى حالة الانفعال لكي يهرب بعدها من الميدان، وذلك طبقاً لموازين علم المناظرة).

فقال: وهل تقدر أن تثبت لي بأن ستالين كان إنساناً يقول عكس ما يفعل؟

فقلت له: نعم، أثبت لك ذلك، ألم يقل ستالين: يجب أن يتساوى الناس جميعاً، فكيف وضع بعد ذلك قبة من الذهب في بيته؟!

فقال: إن هذا الكلام كذب.

فقلت له: إن هذا الكلام ذكرته كتب طبعت في موسكو، وإن الكتاب الذي ذكر هذا الكلام هو معي الآن، ولأنه كان يعرف ذلك أخذ الانفعال يبدو عليه، ولم يتمكن من إعطاء أي جواب.

فقلت له: إذاً، عليك أن لا تستشهد من الآن فصاعداً بكلام ستالين، لأن الشخص الذي يقول عكس ما يفعل لا يمكن أن يتخذ كلامه للشهادة.

وبعد أن أثبتنا هذا (وإن الذي أردته أنا هو إسقاط زعيمهم الذي إذا سقط من الحساب فسيسقط هو كذلك).

قلت له: وإن لينين كذلك، فانزعج كثيراً، وقال: لينين لماذا؟!

فقلت له: إن هذا واضح، لأن النظام الذي وضعه لينين خلف خلفاً هو ستالين، هذا الذي تسبب في ارتكاب آلاف الجرائم الفظيعة.

وكان الحديث مع هذا الرجل الشيوعي بهذه الطريقة الهجومية، فتوقف عن الكلام نهائياً، لأنّه كلّما كان يقول رأياً كنت أوجه إليه هجوماً آخر، وبعدما انتهى كل ما عنده قلت له: والآن وبعد أن عرفت أنّ مبادءك كلها باطلة، تعال وتمسك بمبادئنا، لأننا نملك دليلاً على أن ديننا قائم على أسس صحيحة مائة في المائة.

ولأنه رأى أن الهجومات التي وجهت إليه كانت بالشكل الصارم، فقد ظل

ص: 463

خائفاً ينتظر فرصة للهرب، لذلك قال: إنني سوف ألتقي بكم ثانية لو سنحتالفرصة، إن شاء اللّه!!

فقلت له: ألست أنت المنكر للّه، فكيف تقول: إن شاء اللّه؟!

فقال: هي عادة اعتدناها. وبعد هذا اللقاء جاءنا أخوه، وقال: إن أخي كان معجباً جداً بحديثكم، ويقول: إنه لم يسمع من قبل بمثل حديثكم معه، إلّا أنّه لم يأت بعد ذلك لإدامة النقاش.

اليهودي وعبقرية أمير المؤمنين(عليه السلام)

يذكر أن رجلاً من اليهود قال لأمير المؤمنين(عليه السلام): إنكم في الوقت الذي لم تدفنوا جنازة نبيكم بعد، اختلفتم حوله؟!

فقال له الإمام(عليه السلام): «إن المسلمين قد اختلفوا حول وصية نبيهم لا أنهم اختلفوا حوله، لكنكم أنتم اليهود، حينما كنتم مع موسى(عليه السلام) وعبرتم البحر وأغرق اللّه فرعون وأعوانه، وفي الوقت الذي لم تكن فيه أرجلكم قد جفت بعدُ من ماء البحر، فإنكم قلتم لنبيكم: يا موسى اجعل لنا صنماً نعبده كما يعبد الآخرون أصنامهم!».

فبهت اليهودي، وحصر عن الكلام(1).

وكلامنا هو: أن الإنسان إذا رأى خصمه التزم جانب العناد فعليه أن يبدأ بأسلوب الهجوم الجدالي والحواري نحوه، لأنه والحالة هذه قد لا يمكنه أن يرد على إشكاله بجواب مقنع يقبله، وربما كان في جوابه مناقشات... وهكذا.

ص: 464


1- انظر: نهج البلاغة، الحكم الرقم: 317. وفيه: (قَالَ لَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ: مَا دَفَنْتُمْ نَبِيَّكُمْ حَتَّى اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ؟ فَقَالَ(عليه السلام) لَهُ: إِنَّمَا اخْتَلَفْنَا عَنْهُ لا فِيهِ، وَلَكِنَّكُمْ مَا جَفَّتْ أَرْجُلُكُمْ مِنَ الْبَحْرِ حَتَّى قُلْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ {اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}). سورة الأعراف، الآية: 138.

هل تعتقد بزواج المتعة؟

اشارة

ذكر أحد الفضلاء أنه عندما سافر مرة إلى تركيا، تعرف هناك على بعض الأشخاص، يقول وبينما كنت جالساً مع جماعة كان فيهم بعض الوجهاء والضباط من السنة والشيعة وإذا أحدهم يقول لي، وكان يبدو أنه سنيٌ متعصب: هل أنت من علماء الشيعة؟

فقلت له: نعم.

قال: وهل تعتقد بزواج المتعة؟

فقلت له: نعم.

قال: لو فرضنا أنك أتيت يوماً إلى تركيا وتزوجت امرأة بزواج المتعة، وبعد أن قضيت معها ليلة الزواج، حملت هذه المرأة تلك الليلة، ثم أردت أن تعود إلى وطنك، فماذا ستفعل المرأة حينها؟ وما هو مصير الطفل الذي سيولد؟

يقول هذا الأخ: إني رأيت هذا الضابط معانداً ومجادلاً ويتكلم بخشونة وفضاضة، فأردت أن أخرج معه بنتيجة وبأسرع وقت، وأخرجه من حالة المعاندة التي يلتزمها، فاتبعت معه هذه الطريقة، فقلت له: إذا كان إشكالك هذا صحيحاً فإن نفس الإشكال يرد عليك بالمقابل أيضاً، فهل أنت مسلم، وهل تعتقد بشرعية النكاح الدائم؟

قال: نعم.

قلت له: لو فرضنا أنك تزوجت امرأة من هذه المدينة زواجاً دائماً، وفي صباح اليوم الثاني طلّقتها، ثم تبيّن بعد الطلاق بأن اللّه رزقها منك طفلاً، فماذا ستفعل هذه المرأة ومن يقوم بكفالة ولدها؟

فاحمرَّ وجهه خجلاً ولم يعط جواباً، وظل الحضور ينظرون إليه، نظرة استغراب وانزعاج، معناها: لماذا لم تعط جواباً.

ص: 465

فكان الغلب على هذا المعاند بهذه الجملة المختصرة وليس أكثر.فعلى الإنسان أن يتخذ مثل هذا الأسلوب خاصة مع أشخاص معاندين كهذا، الذين لا يقبلون بالاستدلال والمنطق.

مع ملك الإسكندرية

لما أرسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حاطباً إلى ملك الإسكندرية(1)، قال ملك الإسكندرية لحاطب: هل تدعي يا حاطب أن هذا الشخص (ويعني الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)) هو نبي؟ قال حاطب: نعم.

فقال الملك: فهل هو نبي مرسل من اللّه؟ قال حاطب: نعم.

قال الملك: هل أن دعاء هذا النبي مستجاب؟

قال حاطب: نعم.

فقال الملك: فإذن لماذا لم يدعُ هذا النبي ربه، لكي يدحر أهل مكة وينصره، في حين أنه قد أجبر على الفرار إلى المدينة.

فقال حاطب - فوراً - : وهل أنت تعتقد بنبوة المسيح؟

قال الملك: نعم.

فقال حاطب: فهل تعتقد بأن المسيح نبي مرسل من اللّه؟

فقال الملك: نعم أعتقد ذلك، وهو كذلك ابن اللّه!

قال حاطب: وهل أنّ دعاءه مستجاب؟ قال الملك: نعم.

فقال حاطب: إذا كان الأمر هكذا، فكيف لم يدعُ المسيح ربه ليدحر اليهود، حتى لا يدخلوا داره ولا يقتلوه كما تعتقدون بذلك؟!

ص: 466


1- حاطب بن أبي بلتعة كنيته أبو عبد اللّه، آخى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين حاطب بن أبي بلتعة ورخيلة بن خالد، شهد مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدراً وأحُداً والخندق وغيرها وهو الذي كتب إلى أهل مكة يعلمهم عزيمة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتح مكة وقصته مشهورة.

فتعجب الملك من سرعة إتيان حاطب بهذا الدليل المفحم، وقال: حكيم منعند حكيم(1).

يعني: إن النبي الذي أرسلك وعلّمك الحكمة هو رجل حكيم.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رسول الرجل ترجمان عقله»(2).

قصة من الهند

هناك قصة طريفة - من هذا القبيل - حدثت في الهند، يذكر أنه جاء أحد القساوسة إلى ذلك البلد لغرض التبشير، وأخذ يدخل في مباحثات ومناقشات عديدة مع علماء المسلمين هناك، ولأنه كان فطناً حاد الذكاء كان يسعى على أن يتغلب أمام أنظار الناس في مجادلته، وحدث يوماً أن دخل هذا المسيحي في نقاش مع عالم شيعي من الطراز الأول وبحضور الآلاف من الناس، وكان من أعراف بعض مناطق الهند والباكستان أن تكون المناقشة في حضور جمع من الناس.

وعندما دار النقاش بين القس والشيعي، لم يستطع القس أن يتغلب على الشيعي، وأخيراً انهزم أمام الشيعي، وكان انكساره بمشاهدة من الحاضرين، وقد كان سؤال المسيحي وقتها أنه قال: إنكم أيها الشيعة تقيمون العزاء للحسين(عليه السلام) وتبكون وتلطمون، فهل تعتقدون أن الحسين - (عليه السلام) - هو ابن النبي؟

فقال الشيعي: نعم.

قال المسيحي: وهل أن دعاء هذا النبي مستجاب؟

فقال الشيعي: نعم.

ص: 467


1- انظر: الإصابة 6: 296.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 389.

قال المسيحي: إذا كان دعاء هذا النبي مستجاباً، فلماذا لم يدع ربه لينجي ابنهمن هذه المشكلة، والمفروض أن النبي هو حي، لا فرق بين حياته وموته؟

فأجابه الشيعي قائلاً: إنكم تعتقدون أن المسيح هو ابن اللّه، ونحن نعتقد أن الحسين ابن النبي، أصحيح هذا؟

فقال المسيحي: نعم.

قال الشيعي: إن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يطلب من اللّه أن ينجي ولده؛ لأنه رأى لو أنه طلب من ربه ذلك في يوم كربلاء، لكان جواب اللّه له: إني لم أنج ولدي المسيح، فلا يمكن أن أنجي ولدك!!

فانقطع المسيحي عن الكلام، ولم يستطع أن يعطي جواباً، وافتضح أمام الجماهير الحاضرة.

والذي نستفيده من هذه القصة هو اتخاذ حالة الهجوم على الشخص المعاند ليغلبه ويفحمه ويخلص الناس من شبهاته.

نبي اللّه إبراهيم(عليه السلام) ونمرود

اشارة

وعندما نقرأ عن حياة الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) نجد أنهم كانوا يختارون أفضل أساليب الحوار والجدال مع خصومهم، وخاصة حينما كان الطرف المقابل يلتزم حال العناد، قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم حاكياً عن نبي اللّه إبراهيم(عليه السلام) أنه قال للنمرود: {قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ} {قَالَ} نمرود: {أَنَا۠ أُحْيِ وَأُمِيتُ}، فلما رأى إبراهيم(عليه السلام) أن نمرود دخل في حالة العناد واجهه بالهجوم قائلاً: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}(1).

ص: 468


1- سورة البقرة، الآية: 258.

وقد ذكرت لنا الآيات والروايات كثيراً من التفاصيل بهذا الخصوص، ويظهرذلك بوضوح لمن راجع مثل كتاب (الاحتجاج)(1).

وعلينا اليوم أن نتبع مع الغرب وأعوانه نفس الأسلوب المنطقي في الحوار، من خلال الإعلام والكتب والندوات والمؤتمرات الحوارية وما أشبه، وهذا العمل يتطلب الكثير من الجهد والمطالعة والتعلم والاجتهاد في معرفة أساليب المناظرة والمجادلة والمحاججة، ولتحقيق الغلبة في هذا النوع من الصراعات هناك مقومات أساسية لا بد من اتباعها.

مقومات النصر

خلاصة القول: إن على المسلمين أن يتبعوا سيرة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام)، في كيفية المناقشة والمجادلة والمناظرة مع الآخرين، وكيفية التحول من موضع الدفاع إلى موضع الهجوم الحواري في الدعوة إلى الإسلام... .

أما اليوم فنلاحظ المسلمين خاملين في مواضعهم الدفاعية، أو يراوحون في محلهم، بل أكثر من ذلك نلاحظ البعض يعمل على إبعاد الناس عن الإسلام من حيث يعلم أو لا يعلم، فعليهم - والحال هذه - الحيطة والحذر في السير على نهج الرسالة المحمدية والعلوية إذا أرادوا الفلاح. ويتم ذلك عبر اتخاذ خطوات عديدة، من أهمها:

1- تشكيل التنظيمات الإسلامية في كل أنحاء العالم.

2- تقوية العمل التبليغي الإسلامي في كل البلدان، خصوصاً وأن التبليغ في هذا العصر يحظى بأهمية خاصة، حيث إن أعداء الإسلام جعلوا التبليغ ضد

ص: 469


1- مؤلفه: أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، من علماء القرن السادس الهجري.

الإسلام من أعمالهم الرئيسية في كل بقعة من بقاع الأرض، وبمختلف وسائل الإعلام الحديثة المرئية والمسموعة، والقديمة منها كالكتب والمجلاتوالنشرات والخطب في المساجد والأماكن العامة وإقامة المهرجانات وغير ذلك.

3- إنشاء الصناديق المالية في البلدان الإسلامية وغيرها، لتأمين الجانب المادي الداعم لهذه النشاطات.

ويجب علينا أن لا نجعل اليأس في قاموسنا؛ لأننا إذا عملنا بشكل جيد ومتقن، فمن الممكن جداً وفي عدد من السنين القليلة أن يعطي هذا العمل المبارك ثماره النافعة - إن شاء اللّه - ونكون قد حققنا خطوات متقدمة في طريق النصر والدعوة إلى الإسلام، كما أن اللّه سبحانه وتعالى يهب النصر لمن يهيئ الأسباب له، قال في القرآن الكريم: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}(1)، وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً...»(2).

وإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عانى كثيراً من المصائب حتى استطاع أن يدفع عجلة الإسلام إلى الأمام، وقد اتخذ الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأسلوبين المعروفين في المواجهة، معاً لأداء مهمته: الأسلوب الكلامي والأسلوب العملي في مختلف الميادين.

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهُدى والاستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة»(3).

ص: 470


1- سورة الكهف، الآية: 89.
2- الكافي 1: 183.
3- المصباح للكفعمي: 280.

من هدي القرآن الحكيم

القرآن أسوة في الجدال الأحسن

قال تبارك وتعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(2).

وقال سبحانه: {هَٰذَا بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(3).

وقال جلّ اسمه: {ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(4).

التسلح بالحكمة والمعرفة

قال تبارك وتعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(5).

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ}(6).

وقال عزّ اسمه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}(7).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(8).

ص: 471


1- سورة المائدة، الآية: 16.
2- سورة الإسراء، الآية: 9.
3- سورة الجاثية، الآية: 20.
4- سورة البقرة، الآية: 2.
5- سورة البقرة، الآية: 269.
6- سورة الجمعة، الآية: 2.
7- سورة الأنعام، الآية: 50.
8- سورة الزمر، الآية: 9.
الاستعانة بالعقل

قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي النُّهَىٰ}(1).وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال جلّ اسمه: {هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(3).

الجدال بالحسنى

قال سبحانه: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(5).

وقال تبارك وتعالى: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(6).

الإصلاح هدف الجدال

قال سبحانه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(7).

وقال تبارك وتعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(8).

وقال عزّ وجلّ: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(9).

ص: 472


1- سورة طه، الآية: 54.
2- سورة الزمر، الآية: 21.
3- سورة غافر، الآية: 54.
4- سورة النحل، الآية: 125.
5- سورة النمل، الآية: 64.
6- سورة العنكبوت، الآية: 46.
7- سورة هود، الآية: 88.
8- سورة الأعراف، الآية: 142.
9- سورة الأنفال، الآية: 1.

من هدي السنّة المطهّرة

القرآن أسوة في الحوار

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أيها الناس إنكم في زمان هدنة،وأنتم على ظهر السفر، والسير بكم سريع، فقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاز لبعد المفاز.

فقام المقداد فقال: يا رسول اللّه، ما دار الهدنة؟

قال: دار بلاء وانقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن؛ فإنه شافع مشفّع، وماحل(1) مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل، ليس بالهزل، له ظهر وبطن، فظاهره حكمة وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له تخوم وعلى تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنازل الحكمة ودليل على المعروف لمن عرفه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «استفتحوا بكتاب اللّه، فإنه إمام مشفق، وهاد مرشد، وواعظ ناصح، ودليل يؤدِّي إلى جنة اللّه عزّ وجلّ»(3).

وقالت السيدة زينب(عليها السلام): «قالت فاطمة(عليها السلام) في خطبتها في قصة فدك: للّه فيكم عهد قدّمه إليكم وبقية استخلفها عليكم: كتاب اللّه، بينة بصائره، وآيٌ

ص: 473


1- ماحل: من محل به القرآن يوم القيامة، يقال: محل فلان بفلان إذا قال عليه قولاً يوقعه في مكروه.
2- تفسير العياشي 1: 2.
3- الأمالي، للشيخ الطوسي: 235.

منكشفة سرائره، وبرهان متجلية ظواهره، مديم للبرية استماعه، وقائد إلى الرضوان أتباعه، مؤدٍّياً إلى النجاة أشياعه...»(1).

التسلح بالمعرفة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العالم بين الجهال كالحي بين الأموات، وإن طالب العلم ليستغفر له كل شي ء حتى حيتان البحر، وهوام الأرض وسباع البر وأنعامه، فاطلبوا العلم فإنه السبب بينكم وبين اللّه عزّ وجلّ، وإن طلب العلم فريضة على كل مسلم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: طلب العلم فريضة على كل مسلم، فاطلبوا العلم من مظانه واقتبسوه من أهله، فإن تعلمه للّه حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة فيه تسبيح، والعمل به جهاد، وتعلّمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى اللّه تعالى؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمونس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والتزين عند الأخلاء، يرفع اللّه به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة، تُقتبس آثارهم، ويُهتدى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه. إن العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظلمة، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار، ومجالس الأبرار، والدرجات العلى في الآخرة والأولى، الفكر فيه يعدل بالصيام،

ص: 474


1- من لا يحضره الفقيه 3: 567.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 28.

ومدارسته بالقيام، به يطاع الرب ويعبد، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال والحرام. العلم إمام العمل، والعمل تابعه، ويلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء، فطوبى لمن لميحرم اللّه منه حظه»(1).

وقال(عليه السلام): «يا كميل، ما من حركة إلّا وأنت محتاج فيها إلى معرفة»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في وصيته لجابر الجعفي: «... وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل، وتحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ...»(3).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «قال جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام): علماء شيعتنا مرابطون بالثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة؛ لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم»(4).

الاستعانة بالعقل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما يدرك الخير كله بالعقل، ولا دين لمن لا عقل له»(5).

وأثنى قوم بحضرته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على رجل حتى ذكروا جميع خصال الخير، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كيف عقل الرجل؟» فقالوا: يا رسول اللّه، نخبرك عنه باجتهاده

ص: 475


1- إرشاد القلوب 1: 165.
2- تحف العقول: 171.
3- تحف العقول: 285.
4- بحار الأنوار 2: 5.
5- تحف العقول: 54.

في العبادة وأصناف الخير، تسألنا عن عقله؟!

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفعالعباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحلم غطاء ساتر، والعقل حسام قاطع، فاستر خلل خلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك»(2).

وقال علي بن الحسين(عليهما السلام): «من لم يكن عقله أكمل ما فيه، كان هلاكه من أيسر ما فيه»(3).

وسُئل الإمام الرضا(عليه السلام) - في حديث - : فما الحجة على الخلق اليوم؟ قال(عليه السلام): «العقل، يُعرف به الصادق على اللّه فيصدقه، والكاذب على اللّه فيكذبه»(4).

الجدال بالحسنى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نحن المجادلون في دين اللّه»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «من أعاننا بلسانه على عدونا أنطقه اللّه بحجته يوم موقفه بين يديه عزّ وجلّ»(6).

وعن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إن الناس يعيبون علي بالكلام، وأنا أكلم الناس؟

ص: 476


1- تحف العقول: 54.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 424.
3- بحار الأنوار 1: 94.
4- الكافي 1: 24.
5- بحار الأنوار 2: 125.
6- الأمالي للشيخ المفيد: 33.

فقال(عليه السلام): «أما مثلك من يقع ثم يطير فنعم، وأما من يقع ثم لايطير فلا»(1).

وعن الطيار قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): بلغني أنك كرهت منا مناظرة الناس،وكرهت الخصومة؟

فقال(عليه السلام): «أما كلام مثلك للناس فلا نكرهه، من إذا طار أحسن أن يقع، وإن وقع يحسن أن يطير، فمن كان هكذا فلا نكره كلامه»(2).

الإصلاح هو الهدف

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيتها النفوس المختلفة والقلوب المتشتتة، الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم، أظأركم(3) على الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد؟ هيهات أن أطلع بكم سرار(4) العدل، أو أقيم اعوجاج الحق. اللّهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطلة من حدودك، اللّهم إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلّا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالصلاة...»(5).

وقال(عليه السلام): «وليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم...»(6).

ص: 477


1- رجال الكشي: 319.
2- رجال الكشي: 348.
3- أظأركم: أعطفكم.
4- السَرار: كسحاب وتكسر أيضاً، في الأصل آخر ليلة من الشهر، والمراد الظلمة.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 131 من كلام له(عليه السلام) وفيه يبين سبب طلبه الحكم ويصف الإمام الحق.
6- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 136 من كلام له(عليه السلام) في أمر البيعة.

وقال الإمام الحسين(عليه السلام) - في حديث - : «فاللّه الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا. اللّهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهرالإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا وتنصفونا، قوي الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيكم، وحسبنا اللّه، وعليه توكلنا، وإليه أنبنا، وإليه المصير»(1).

ص: 478


1- تحف العقول: 239.

الجهل المركب وطريق الخلاص منه

الأخسرون أعمالاً

قال اللّه سبحانه في الكتاب العزيز: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(1).

أي: {قُلْ} يا رسول اللّه، لهؤلاء الكفار، أو لكل من يسمع، مؤمناً كان أم كافراً {هَلْ نُنَبِّئُكُم} أي نخبركم {بِالْأَخْسَرِينَ} أي بأخسر الناس {أَعْمَٰلًا} الذين يكون خسائرهم أكثر من خسائر غيرهم؟ {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} فكل ما سعوا وعملوا في هذه الحياة ضل وضاع عنهم {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} أي: يظنون أنهم يعملون حسناً، و«الذين ضل» من تتمة الاستفهام، بدل من «الأخسرين»(2).

من مصاديق {الأخسرين أعمالاً}

اشارة

علماً بأن هناك مصاديق كثيرة للأخسرين أعمالاً، منهم: من أشار إليه مولانا الكاظم(عليه السلام) في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا} قال(عليه السلام): «إنهم الذين يتمادون بحج الإسلام ويسوفونه»(3).

ص: 479


1- سورة الكهف، الآية: 103- 104.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 422.
3- عوالي اللئالي 2: 86.

ومنهم: النصارى والقسيسون والرهبان وأهل الشبهات والأهواء، ففي البحارعن أبي الجارود عن أبي جعفر(عليه السلام) في قوله {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} قال: «هم النصارى والقسيسون والرهبان وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة والحرورية وأهل البدع»(1).

الخوارج هم الأخسرون

ومن مصاديق {الْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا}: الخوارج الذين حاربوا أمير المؤمنين(عليه السلام) في النهروان.

عن الأصبغ بن نباتة قال: خطبنا أمير المؤمنين(عليه السلام) على منبر الكوفة فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، سلوني فإن بين جوانحي علماً جماً».

فقام إليه ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين، ما الذاريات ذروا؟

قال(عليه السلام): «الرياح».

قال: فما الحاملات وقراً؟

قال(عليه السلام): «السحاب».

قال: فما الجاريات يسرا؟

قال(عليه السلام): «السفن».

قال: فما المقسمات أمرا؟

قال(عليه السلام): «الملائكة».

قال: يا أمير المؤمنين، وجدت كتاب اللّه ينقض بعضه بعضاً؟

قال(عليه السلام): ثكلتك أمك يا ابن الكواء، كتاب اللّه يصدق بعضه بعضاً، ولا

ص: 480


1- بحار الأنوار 2: 298 عن تفسير القمي.

ينقض بعضه بعضاً، فسل عما بدا لك».قال: يا أمير المؤمنين، سمعته يقول: {رَبِّ الْمَشَٰرِقِ وَالْمَغَٰرِبِ}(1)، وقال في آية أخرى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}(2)، وقال في آية أخرى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}(3)؟

قال(عليه السلام): «ثكلتك أمك يا ابن الكواء، هذا المشرق وهذا المغرب، وأما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} فإن مشرق الشتاء على حدة، ومشرق الصيف على حدة، أما تعرف بذلك من قرب الشمس وبعدها، وأما قوله: {رَبِّ الْمَشَٰرِقِ وَالْمَغَٰرِبِ} فإن لها ثلاثمائة وستين برجاً، تطلع كل يوم من برج، وتغيب في آخر، فلا تعود إليه إلّا من قابل في ذلك اليوم».

قال: يا أمير المؤمنين، كم بين موضع قدمك إلى عرش ربك؟

قال(عليه السلام): «ثكلتك أمك يا ابن الكواء، سل متعلّماً ولا تسأل متعنّتاً، من موضع قدمي إلى عرش ربي، أن يقول قائل مخلصاً: لا إله إلّا اللّه».

قال: يا أمير المؤمنين، فما ثواب من قال: لا إله إلّا اللّه؟

قال(عليه السلام): «من قال: لا إله إلّا اللّه، مخلصاً، طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرق الأبيض، فإن قال ثانية: لا إله إلّا اللّه، مخلصاً، خرقت أبواب السماوات وصفوف الملائكة، حتى يقول الملائكة بعضها لبعض: اخشعوا لعظمة اللّه، فإذا قال ثالثة: لا إله إلّا اللّه، مخلصاً، تنته دون العرش، فيقول الجليل: اسكني، فو عزتي وجلالي، لأغفرن لقائلك بما كان فيه»، ثم تلا(عليه السلام)

ص: 481


1- سورة المعارج، الآية: 40.
2- سورة الرحمن، الآية: 17.
3- سورة الشعراء، الآية: 28.

هذه الآية: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُ}(1) يعني إذا كان عمله صالحاً ارتفع قوله وكلامه... .

قال: يا أمير المؤمنين، فأخبرني عن نفسك؟

قال(عليه السلام): «كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتدئت».

قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا}(2) الآية.

قال(عليه السلام): «كفرة أهل الكتاب اليهود والنصارى، وقد كانوا على الحق فابتدعوا في أديانهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً».

ثم نزل(عليه السلام) عن المنبر وضرب بيده على منكب ابن الكواء، ثم قال: «يا ابن الكواء، وما أهل النهروان منهم ببعيد».

فقال: يا أمير المؤمنين، ما أريد غيرك، ولا أسأل سواك.

قال - الراوي - : فرأينا ابن الكواء يوم النهروان، فقيل له: ثكلتك أمك، بالأمس تسأل أمير المؤمنين(عليه السلام) عما سألته، وأنت اليوم تقاتله؟! فرأينا رجلاً حمل عليه فطعنه فقتله(3).

وعن أبي الطفيل أنه سأل ابن الكواء أمير المؤمنين(عليه السلام) عن قوله تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا} فقال(عليه السلام): «إنهم أهل حروراء» ثم قال {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} في قتال علي بن أبي طالب(عليه السلام)»(4).

ص: 482


1- سورة فاطر، الآية: 10.
2- سورة الكهف، الآية: 103.
3- الاحتجاج 1: 259.
4- مناقب آل أبي طالب 3: 186.

وقد روى المحدثون أن رجلاً تلا بحضرة علي(عليه السلام): {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} فقال علي(عليه السلام): «أهل حروراء منهم»(1).

وفي تفسير العياشي عن إمام بن ربعي قال:

قام ابن الكواء إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: أخبرني عن قول اللّه {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} قال(عليه السلام): «أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم وابتدعوا في دينهم فحبط أعمالهم وما أهل النهر منهم ببعيد»(2).

خسارة المسلمين

ومن مصاديق {الْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا} في يومنا هذا: الكثير من المسلمين، حيث يتقهقرون يوما ً بعد يوم، وهم يزعمون التقدم.

وهناك بعض الناس في الحياة، ينسب تأخره وخسارته في مختلف مجالات الحياة إلى غيره، فيأتي بأسباب وعلل لا صحة لها(3)، وإنما هي مجرد تبريرات واهية، ونتيجة ذلك هو المعبر عنه في الآية الكريمة ب(ضلال السعي) كأنه أضل الطريق، فانتهى به السير إلى خلاف الغرض.

وهذه الظاهرة من أسباب تأخر المسلمين في الحال الحاضر، حيث أصبحوا غير مستعدين للاعتراف بأخطائهم وعيوبهم، ولايريدون أن يُتعبوا أنفسهم بإزالتها.

ص: 483


1- بحار الأنوار 33: 352.
2- تفسير العياشي 2: 352.
3- أي: ليست عللاً ولا أسباباً حقيقية.
الجهل سبب الخسارة

ثم إن أسباب خسارة الأعمال عديدة، من أهمها: الجهل المركب، وهو أسوأ من الجهل البسيط، فالجاهل إذا كان يعلم بجهله فإنه جاهل بسيط، وربما سعى للتعلم والقضاء على الجهل، أما الجاهل الذي لا يعلم بجهله فإنه جاهل مركب، وهو لا يرى نفسه على خطأ حتى يسعى في إصلاحها.

قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(1).

وهذا من مصاديق الجهل المركب.

ثم إن هناك أسباباً أخرى للخسران، منها: فقدان التدريب والتجربة في العمل، وكذلك الجهل بالطرق التي تؤدي إلى النتيجة الصحيحة، فأحياناً نرى الإنسان في طريق الخسران والضرر الكبير، معتقداً أنه في الطريق الصحيح وأنه رابح ومنتفع ولا يرى غير ذلك.

وقد جاءني ذات مرة شخص، وأطلعني على كتاب له قد ألفه، واختار له عنواناً كبيراً نسبه لنفسه، وكان كتابه مليئاً بالأخطاء النحوية والصرفية، بحيث لو ألف الكتاب أي طالب علم عادي، لم يرتكب ما ارتكبه من أخطاء. وحيث إنه قد صرف وقتاً طويلاً لتأليف هذا الكتاب كان يحسبه عملاً في القمة! مع أن الواقع كان على العكس تماماً، فهو في ظنه قد أنتج عملاً جباراً، في حين أن عمله لم يكن يعد عملاً بالمستوى.

هذا نوع من الجهل المركب.

ومما يزيد الطين بلة إذا كان الجاهل المركب لا يقبل بالنصيحة. فبعض

ص: 484


1- سورة الكهف، الآية: 103-104.

الناس إذا أُرشد إلى الطريق الصحيح والموازين الصحيحة يعتبر ذلك إهانة له!، ولا يستعد للقبول، وهذا أيضاً من عوامل تأخر الفرد والمجتمع، حيث إنهم يستبدون برأيهم على أنه الصحيح والواقع، دون الالتفات إلى عيوبه والأخذ بنصائح الآخرين.

مقام الفتوى

يذكر أن بعد وفاة المرحوم السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) أراد البعض التصدي لمقام الفتوى، في حين أنه لم يكن يتسم بذلك العلم والفضل الذين يؤهلانه للاجتهاد والتصدي. فإنه إذا كان يرى نفسه بالمستوى وهو دونها فإنه من الجهل المركب.

إن مَثَل هذا الشخص كمثل من يريد الصعود إلى سطح عالٍ بدون سُلّم!!

نعم بلوغ مقام المرجعية ليس بالأمر المستحيل، لكن هناك موازين ومراحل عليه أن يقطعها الإنسان ضمن حسابات وقياسات صحيحة، مضافاً إلى سائر الشروط المذكورة في الكتب الفقهية، حتى يتمكن من تحقيق الغرض، وهذا من سنن الحياة، حيث بني الكون على (قانون الأسباب والمسببات) الحقيقية لا الخيالية، والجهل المركب لا يغير من الواقع شيئاً بل هو خيال وسراب فقط.

ولنأخذ مثال الإنسان حيث إنه في وجوده ونموه وتكامله، يمر بمراحل موزونة ومحسوبة ودقيقة، ولا يكون ذلك أبداً بالخيال والجهل المركب، ولا بالطفرة وعدم التدرج عادة.

وهكذا كل شيء في هذه الحياة، فإن الطفرة وعدم التدرج قد يكون محالاً، وربما كان خلاف الحكمة، ومن هنا كان النظام الصحيح، والمرحلية الطبيعية، والسعي الحثيث، هو السبيل الناجح من أجل تسنّم المراتب والمقامات العالية... .

ص: 485

فعلى الإنسان أن يحدث في وجوده حالة من التقدم ويوفر مقوماته، وأن يسعى لكي تكون خطاه دائماً نحو الخير والفضيلة وإلى الأمام، كما عليه أن يطّلع على الأسباب والوسائل الضرورية لتقدّمه، وهكذا أن يطلع على أسباب التأخر كالركود وطلب الراحة، ليبتعد عنها.

من علائم التأخر

هناك علائم لتأخر الفرد والأمة، يمكن من خلالها معرفة أنه متأخر، وإن كان الفرد - أو الأمة - يرى أنه متقدم، أي كان على الجهل المركب. ومن تلك العلائم: الكسل والبطالة.

فإذا رأينا الأمة كسولة، أو قد انتشر فيها ظاهرة البطالة، فهذا يعني تأخر الأمة وإن ادعت أنها متقدمة أو زعمت ذلك.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «آفة العمل البطالة»(1).

وقال(عليه السلام): «آفة النُجح الكسل»(2).

وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «لا راحة لمؤمن على الحقيقة إلّا عند لقاء اللّه، وما سوى ذلك ففي أربعة أشياء: صمت تعرف به حال قلبك ونفسك فيما يكون بينك وبين باريك، وخلوة تنجو بها من آفات الزمان ظاهراً وباطناً، وجوع تميت به الشهوات والوسواس والوساوس، وسهر تنوّر به قلبك، وتنقّي به طبعك وتزكي به روحك»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً لأصحابه: «لا تتمنوا المستحيل»،قالوا: ومن يتمنى

ص: 486


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 817.
2- عيون الحكم والمواعظ: 181.
3- بحار الأنوار 69: 69.

المستحيل؟فقال: «أنتم؛ ألستم تمنون الراحة في الدنيا؟». قالوا: بلى، فقال(عليه السلام): «الراحة للمؤمن في الدنيا مستحيلة»(1).

حيث يستفاد من هذا الحديث أن على المؤمن أن يكدّ في العمل في دار الدنيا ويجهد نفسه، ولا يكون كسولاً ولا عاطلاً، ولايبحث عن الراحة الدنيوية بل يكون في طلب الراحة الأخروية.

لماذا تأخر المسلمون؟

إن المسلمين قد خسروا مواقع عديدة في هذا العالم وتأخروا عن ركب الحضارة كثيراً، وذلك بسبب قلة التجربة والممارسة، وترك التعاليم الإسلامية، مضافاً إلى سوء الحكام. ولكن تجد البعض يعلل التأخر بحجج واهية، هذا فيما إذا استعد للاعتراف بالتأخر، أما لو عكسنا الواقع وحسبنا أنفسنا متقدمين، والحال أننا متأخرون، فنحن في قمة الخسارة، وهذا هو الجهل المركب، وينطبق علينا قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا...}(2) انطباقاً تاماً على وضعنا الحالي.

فإذا أردنا أن نتقدم ونحسن صنعاً حسب الموازين الكونية الصحيحة، فعلينا أن نتمسك بالمراحل التدريجية للكمال والتقدم، عبر الندوات المشتركة، والمشورة الدائمة، في أمورنا وأعمالنا؛ لنصل إلى التفاهم الحقيقي والمستمر في نقل التجارب وتكامل الأفكار على طريق صنع المجتمع الصحيح والقويم.

التقدم والقضاء على الجهل

هنالك أمور عديدة يمكن أن تساعدنا على التقدم والرقي إذا استطعنا التمسك

ص: 487


1- أعلام الدين: 278.
2- سورة الكهف، الآية: 103.

بها، في بدايتها القضاء على الجهل وخاصة الجهل المركب، وذلك بالاجتهاد في طلب العلم والعمل به، وكذلك دراسة التاريخ والاستفادة من تجاربها، إلى غيرها من الأمور.

ومن أهم أسباب القضاء على الجهل المركب: الاستشارة.

عن جعفر بن محمد(عليهما السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قيل: يا رسول اللّه، ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي، واتباعهم»(1).

وإذا لاحظنا التاريخ ورأينا الشعوب المتقدمة أو القبائل التي تفوقت على غيرها في مختلف أعمالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية وما أشبه، نرى أن من أسرار تقدمهم عدم الجهل المركب، وأنهم لا يقدمون على أي عمل إلّا بعد استشارة الخبراء والأخذ بأفضل الآراء، وبذلك تقل أخطاؤهم، ويزداد تقدمهم.

فإن الاستشارة تعرّف الإنسان على الخطأ والصواب، وتأخذ بيده إلى الطريق السليم. وتمنعه من الجهل المركب، بل مطلق الجهل، مثال ذلك مثال من يريد أن يرى قفاه، فإنه لا يستطيع، ولكنه إذا جمع مرآتين مرآة أمامه ومرآة خلفه، فعند ذلك يستطيع أن يرى قفاه... وهكذا يستطيع أن يصل الإنسان إلى صحة عمله أو خطأه بالمشورة؛ لأن كل مستشار فهو بمنزلة المرآة يبين لك جانباً من جوانب القضية، ومن هنا كان تعدد الاستشارات مطلوباً لا أن يقتصر على واحدة، وفي ذلك قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «خوافي الآراء تكشفها المشاورة»(2).

وعنه أيضاً(عليه السلام) قال: «ما استنبط الصواب بمثل المشاورة»(3).

ص: 488


1- وسائل الشيعة 12: 39.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 818.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 687.
الإسلام دين السلام

من مقومات القضاء على الجهل: تركيز مبادئ السلم في المجتمع، فإن العنف سبب للجهل، وربما الجهل المركب، وكذلك يكون الجهل من أسباب العنف.

لقد ركز الإسلام تركيزاً كثيراً على السلم والسلام حتى جعله شعاراً للإسلام فإن: (الإسلام دين السلام)، ومن مصاديق التركيز على ذلك، هو فيما إذا التقى المسلم بآخر، حيث يستحب أن يقول له: (السلام عليكم).

قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(1).

وكذلك كانت السيرة النبوية(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة الأئمة الأطهار(عليهم السلام) حيث كانوا يتعاملون مع كل الناس وفق قانون السلم والسلام وبالصورة الحسنة حتى مع أعدائهم، وهذا يعني أننا مطالبون بأن نعمل على جمع الناس وتوحيدهم، تأسياً بالنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله الأئمة الأطهار(عليهم السلام) بدون تفريق أو تحيّز في المعاملة، حتى مع علمنا بمخالفة الآخرين، وما ذلك إلّا لأن العفو واللين والسلم والسلام من شعارات الإسلام. قال تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).

وليس من الصحيح أن نشن الهجوم على الآخرين لنبعدهم عن العمل، بل الطريق الصحيح والسليم والذي أكد عليه الإسلام، هو جمع الكلمة والوحدة والسلام الدائم، طبعاً مع حفظ الموازين الشرعية ومراعاة الأهم والمهم.

الشهيد الثاني(رحمه اللّه) وطريق النجاح

العلم هو الذي يقضى على الجهل المركب، وبقدر ما يجتهد الإنسان في

ص: 489


1- سورة البقرة، الآية: 208.
2- سورة البقرة، الآية: 237.

طلب العلم يبتعد عن الجهل، كما هو واضح.

يذكر أن الشهيد الثاني (رضوان اللّه عليه) المتوفى قبل خمسمائة عام تقريباً، كان قد تباحث مرة مع أحد العلماء في مسائل علمية عديدة، وغلبه في تلك المسائل إلّا في علم التجويد، حيث لم يكن مسلطاً عليه بدقة، فاعتبر ذلك نقصاً، فراح يسأل عن عالم متبحر في علم التجويد فأرشدوه إلى شخص في مصر، وآنذاك سافر الشهيد(رحمه اللّه) إلى مصر ودرس علم التجويد على يد ذلك العالم ثم عاد إلى لبنان وبعد ذلك حرر كتابه (المسالك) المشهور والذي يعد من أمهات الكتب الاستدلالية الفقهية.

والآن وبعد مئات السنين من استشهاده لم يستغن طلبة العلم عن مطالعة علومه وآرائه الموجودة في رسائله ومؤلفاته القيمة، ويعود سبب ذلك إلى ما أجهد وأتعب نفسه للعلم بحيث هاجر مرات عديدة إلى مختلف المراكز العلمية، منها: إلى ميس سنة (925ه) وإلى كرك نوح سنة (933ه)، ثم انتقل إلى وطنه جبع سنة (934ه) وأقام بها مشتغلاً بمطالعة العلم والمذاكرة إلى سنة (937ه) حيث رحل إلى دمشق وبقي بها إلى سنة (938ه)، ثم رحل إلى مصر سنة (942ه) ثم ارتحل من مصر إلى الحجاز سنة (943ه) وبعد قضاء الواجب من الحج والعمرة عاد إلى وطنه الأول ووصله سنة (944ه)، وفي سنة (946ه) سافر إلى العراق لزيارة الأئمة(عليهم السلام) وبعد أن عاد سافر إلى بيت المقدس سنة (948ه)، ثم رجع إلى وطنه وبقي فيه إلى سنة (951ه) حيث سافر إلى جهة الروم في القسطنطينية زمن السلطان سليمان بن عثمان، وقد وصل مدينة القسطنطينية سنة (952ه) وبعد أن أقام بها عدة شهور توجه إلى العراق، وبعد زيارة العتبات المقدسة في كربلاء والنجف والكاظمية وغيرها، عاد إلى بلده منتصف صفر من سنة (953ه) ثم انتقل إلى بعلبك يدرس فيها مدة، كل ذلك

ص: 490

من أجل طلب العلم والمعرفة، والمباحثة مع العلماء، والبحث عن المؤلفات والأحاديث النبوية وسيرة الأئمة الأطهار(عليهم السلام) حتى وصل إلى قمة العلم وأشرف منازل العلماء.

ومن هنا كان جواب سقراط لمن شتمه وأعابه قائلاً: يا فاقد النسب! فأجابه سقراط بجواب حكيم: إن نسبي العائلي يبدأ مني، ونسبك العائلي ينتهي بك.

حيث ذهب إلى أن شرف الانتساب في العلم لا في النسب.

نعم العلم هو ضد الجهل، ومتى ما كان العلم ارتحل الجهل، فإذا أردنا القضاء على الجهل المركب علينا بطلب العلم، دائماً وأبداً، كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اطلب العلم من المهد إلى اللحد»(1).

والحقيقة أن هذه الأمور راجعة إلى التدبير الموزون، فاللّه سبحانه وتعالى قادر على كل شيء وهو الحكيم المتعال.

أما الإنسان فإنه عاجز جاهل، ويحتاج إلى التعلم والممارسة والتدريب والتجربة والصبر والاستعداد؛ لأن إدارة الأعمال ودفع عجلة الأمة الإسلامية إلى الأمام، أمر صعب جداً لا يتحقق بسهولة، بل يحتاج إلى نشر الفكر الإسلامي، وإحياء علومه الحقّة، وإخراج الأفكار الغربية والاستعمارية من أذهاننا وبلادنا، أي غربلتها من كل الشوائب الدخيلة على ثقافة الأمة الإسلامية، وهذا يتم عبر الندوات المشتركة والمشاورات المستمرة، وبعث روح الممارسة والتدريب بين المسلمين، للوصول إلى التطبيق الصحيح، وترك الأعمال الباطلة من العنف وغيرها، والتي يحسبها البعض هي الصحيحة، والقضاء على الجهل البسيط والجهل المركب، والتي تؤدي إلى تأخر المسلمين بهذا الشكل الذي نحن عليه.

ص: 491


1- في نهج الفصاحة: «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»: 218 وهو من المشهورات.
التبشير المسيحي

تقوم القساوسة في الغرب بدعوة الناس إلى الإيمان بالدين المسيحي، والالتزام بالتعاليم التي يُمليها البابا(1) عليهم، وقد خصصت لهم مكاناً يتسع لحوالي مائة ألف شخص، يقوم البابا فيها بإلقاء المحاضرات في المناسبات المختلفة، وأحياناً تقوم إذاعة خاصة بنقل هذا الحديث، حيث يستمع إليه الملايين في العالم حسب بعض الإحصاءات(2)... .

ص: 492


1- هو الحبر الأعظم للكنيسة الكاثوليكية، أسقف روما، وخليفة القديس بطرس الأول، وهو ممثل السيد المسيح في العالم، ويعتبره الكاثوليك معصوماً أي منزهاً عن الخطأ.
2- في وسط الإهمال المتزايد أو القصور والتقصير الكبير من قبل المسلمين في مجال التبليغ والإعلام وجدت المنظمات التنصيرية المدعومة من الكنائس الغربية فرصتها، بل واستغلتها أيما استغلال، إذ أنها وتحت ستار تقديم المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء، تعمل هذه المنظمات وبشكل دؤوب في تنصير المسلمين حتى في البلدان الإسلامية، وعلى الأخص في القارة الأفريقية، وذلك تطبيقاً لمخططات وبرامج تم وضعها بدراسة وعناية كبيرين، كما تم تهيئة الإمكانيات البشرية والمالية اللازمة لهذه الغاية من خلال مؤتمرات كثيرة عقدت لهذا الغرض، يأتي في مقدمتها مؤتمر عقد في ولاية كلورادو الأمريكية عام (1978م) حيث تم وضع خطة شاملة تحت شعار تنصير المسلمين، يتم العمل على هذه الخطة للخمسين عاماً القادم. وعقد فى هولندا مؤتمر آخر نظمته الطائفة البروتستانتية في عام (2000م) واستمر تسعة أيام وحضره عشر آلاف مندوب من أنحاء العالم، وتكلف المؤتمر (45 مليون) دولار تبرع أحد المنصرين المشهورين، وقد حققت منظمات التبشير المسيحية نجاحات كبيرة في بعض البلدان الإسلامية كالباكستان وبنجلاديش والسودان والمغرب والجزائر، وقد وصل عدد الكنائس فى بنجلاديش الى (170) كنيسة خلال ثلاث سنوات، وتضاعف عدد الكنائس فى أفريقيا خلال العقد الأخير حتى وصل إلى أكثر من 24 ألف كنيسة. وإليك بعض النشاط التبشيري حسب ما نشرته (مجلة LAVIDA) في عام 1987م) وهو تقرير سنوي لدائرة تنصير الشعوب في الفاتيكان: بلغ عدد المنصرين الكاثوليك في العالم (471000) منصر. وعدد المدارس التابعة لهم في العالم (58000) مدرسة. وعدد المعاهد التابعة لهم في العالم (26000) معهداً. وإن مجموع الإعانات التي وزعتها الدائرة (120 مليون) دولار لعام (1986م). وأن (422 لغة) أفريقية ترجمت إليها الأناجيل. وأن (104 ألف) قسيس ومنصر يعمل في إفريقيا. وأن (16671) معهداً كنيسياً في إفريقيا أنشأ حتى عام (1990م). وأن الكنائس في أفريقيا تشرف على (500) جامعة وكلية، و(489) مدرسة لاهوتية لتخريج المنصرين، و(2594) مدرسة ثانوية، و(83900) مدرسة ابتدائية، و(11130) روضة أطفال. وهناك (600) مستشفى، و(265) معهد للأيتام، و(130) ملجأ للمرضى، و(115) مدرسة للمكفوفين، و(85 ملجأ مميز للأرامل، و(5112) مستوصف كلها تملكها أو تدار تحت إشراف الكنائس في إفريقيا. وهناك (6 ملايين) مسلم يدرس في المدارس التنصيرية. وتصدر (75) مجلة تنصيرية في إفريقيا. وأن مقدار ما أنفق على النشاط التبشيري في افريقيا بلغ (32 مليار) دولار. وهذه الأرقام نشرت سنة (1410ه) والأرقام الحالية تفوق ذلك بكثير. وذكر موقع إحدى المحطات العربية الأرقام والمعلومات التالية: قارة أفريقيا التي يزيد عدد سكانها على المليار نسمة كان الدين الإسلامي الدين الأساسي فيها، وهناك ثلاثون لغة إفريقية كانت تكتب بالخط العربي، انخفض عدد المسلمين فيها إلى (316 مليون)، وهؤلاء نصفهم من العرب في الشمال الإفريقي، وأخيراً أصبح عدد المسلمين فيها لا يتجاوز (150) مليون نسمة، وبالمقابل ارتفع عدد الكاثوليك من واحد مليون في عام (1902م) إلى (330 مليون) نسمة في عام (2000م). وفي أفريقيا الآن مليون ونصف مليون كنيسة، وأن عدد أعضاء هذه الكنائس (46 مليون) نسمة، وما معدله في كل عام (6 ملايين انسان يتحول إلى النصرانية. في عام واحد جمعت المؤسسات التنصيرية المسيحية (194مليار دولار) وهو ما يعادل ميزانيات جميع الدول العربية. و(كينيا) على سبيل المثال عدد سكانها (ثلاثون مليون نسمة)... ربعهم من المسلمين، في كل (كينيا) يوجد (900 مسجد) مقابل (25 ألف) كنيسة، وهذه المساجد نصفها غير صالح للاستفادة. وقد أعلن اتحاد الكنائس للتبشير الذي عُقد في (كاليفورنيا) سنة (1980م) أنه توجد في مصر (Association) مؤسسة اسمها (Upper Egypt) بمعنى مصر العليا، ولها ستون فرعًا تنصيريًّا في مصر، وفي دولة مثل (موريتانيا) وهي دولة عربية مسلمة، عدد سكانها مليونان ونصف مليون نسمة مسلمة بالكامل بها هيئة (ديلوليس) الأمريكية، ومنظمة (الرويال) العالمية، ومنظمة (كاراتاس)، وجمعية الأمل الموريتانية، ومنظمة انفجار البشر، واتحاد الإنجيليين العرب، وكل هذه جمعيات تنصيرية في موريتانيا، وما من دولة عربية مستثناة من برنامج التنصير. أما في ماليزيا فتوجد خمسمائة مؤسسة تنصيرية. ذكرت مجلة اسمها (International Bulletin of Missionary Researches)، وهذه خاصة بالأبحاث التنصيرية، نشرت الآتي عن عام (1996م): عدد المنظمات التنصيرية (23,300 منظمة)، جمعت في عام (1996م) (193مليون) دولار، عدد المنظمات التي ترسل مُنَصِّرين منها إلى الخارج (4,500 منظمة)، عدد المنصرين الذين يعملون داخل أوطانهم (4,635,500 مُنَصِّر)، ارتفع بعد ذلك إلى (6 مليون إلّا ربع)، عدد كتب الإنجيل التي وزعت خلال عام واحد ملياران إلّا ربع نسخة، عدد المجلات والدوريات التنصيرية (3,100)، عدد أجهزة الكمبيوتر في المؤسسات التنصيرية (20 مليون و696 ألف و100 جهاز)، ارتفعت في عام (1998م) إلى (340 مليون) جهاز كمبيوتر، ظهرت كلمة السيد المسيح(عليه السلام) بهدف تبشيري وليس بهدف ديني على شاشات التليفزيون في عام واحد هو عام (1996م) (1500مرة) بمعدل 4 مرات يوميًّا، أُنفِق على التنصير في عام (1997م) (200 مليار) دولار، تشرف الكنيسة على (104 ألف) معهد ومدرسة، بهذه المعاهد والمدارس (6 مليون) تلميذ مسلم، وتشرف على (500 جامعة)، تُشرف أيضا على (490 مدرسة) لاهوت لتخريج المنصرين، عندها (10.677) مدرسة رياض أطفال، وألف وخمسين صيدلية، لها (3600 محطة) ما بين مرئية ومسموعة تبث (447 مليون) ساعة تنصيرية في كل عام!! وفي نفس الوقت ذكر أن ثريًّا عربيًّا بنى في لندن قصرًا بسبعة مليار دولار. ونشرت صحيفة (لوفيغارو) الفرنسية خبرًا مفاده: أن ثريًّا عربيًّا خسر في ليلة واحدة على موائد القمار (85 مليون فرنك)، ولم يكتفِ بهذا بل قدم مليون فرنك بقشيش للنساء!!

ص: 493

بالإضافة إلى سائر برامج الكنيسة، وما يسعون لأجله من تثقيف الشعوب على ثقافتهم.

ولكننا لا نفعل حتى عشر ذلك في سبيل نشر الثقافة الحقة وهي ثقافة الإسلام.

إن المجتمع الغربي وإن حصل على بعض التقدم في المجال المادي الدنيوي، وقضى على بعض الجهل في ذلك، ولكنهم فقدوا الآخرة ولم يعلموا بها، وخسروا العاقبة، وذلك لمخالفتهم أمر اللّه تعالى، قال عزّ وجلّ: {بَلِ ادَّٰرَكَ

ص: 494

عِلْمُهُمْ فِي الْأخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكّٖ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ}(1).

أي إن علم هؤلاء منحصر في الدنيا، وليس لهم في الآخرة من علم، وعواقب الأمور لمن علم الآخرة وعرفها؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).

وقد أصبح بعض الأمة اليوم مصداقاً للخاسرين في الدنيا والآخرة - والعياذ باللّه - حيث حصر نفسه في الجهل - وربما كان جهله جهلاً مركباً - وأغمض عينيه عن عواقب الأمور وأسباب التطور والتقدم وطرق تحصيله، كما نسي الآخرة وضرورة تحصيلها، وهذا من أسباب تأخر المسلمين.

والخلاصة: إن المسيحيين لعملهم حصلوا على الدنيا (النسبي) دون الآخرة، ونحن المسلمين تركنا العلم والعمل معاً، مع أنه إذا عملنا حصلنا على الدنيا والآخرة. ولكن كسلَنا أفقدنا موازين التقدم، فلم نتبع القرآن والشرع الحنيف ولا العترة الطاهرة(عليهم السلام)، فتأخرنا مع ما لنا من مقومات التقدم.

العلم والعمل

من هنا لا يكفي العلم وحده بل يحتاج إلى العمل أيضاً، ولايكفي القول بمفرده بل لا بد وأن يتبعه الفعل، كما هو واضح. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المحسن من صدقت أقواله أفعاله»(3).

وقال(عليه السلام): «إنكم إلى إعراب الأعمال أحوج منكم إلى إعراب الأقوال»(4).

ص: 495


1- سورة النمل، الآية: 66.
2- سورة آل عمران، الآية: 85.
3- عيون الحكم والمواعظ: 45.
4- عيون الحكم والمواعظ: 174.

وقال(عليه السلام): «زيادة الفعل على القول أحسن فضيلة، ونقص الفعل عن القول أقبح رذيلة»(1).

وقال(عليه السلام): «لسان الحال أصدق من لسان المقال»(2).

وقال(عليه السلام): «يقبح بالرجل أن يقصر عمله عن علمه، ويعجز فعله عن قوله»(3).

ذات مرة قال لي شخص: إنني أستطيع تأليف كتاب ك(العروة الوثقى)(4) في السعة والعمق في أسبوع واحد فقط! هذا قول لاعمل فيه، فإنه قد غفل هذا الشخص عن الشخصية العلمية التي امتاز بها صاحب العروة، وكثرة جده واجتهاده في طلب العلم، فإنه لم يعلم بأن (السيد محمد كاظم اليزدي(رحمه اللّه)) قد ذهب مشياً على الأقدام من يزد إلى النجف الأشرف، حتى تمكن من إنجاز هذا الكتاب، كما سافر إلى خراسان وأصفهان قبل هجرته للنجف ودرس على علمائها، وقد طالع كتاب (الجواهر)(5) وهو في الطريق، وأتم كتابه (العروة الوثقى) بعد اثنتي عشرة سنة، فإنه بعد ما أفنى سنين طويلة من عمره الشريف في

ص: 496


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 391.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 573.
3- عيون الحكم والمواعظ: 555.
4- كتاب العروة الوثقى، تأليف آية اللّه العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي المتوفى سنة (1337ه)، يبرز كتاب (العروة الوثقى) كرسالة عملية للأحكام الشرعية لفقيه عصره ووحيد دهره العلامة اليزدي(رحمه اللّه)، هذه الرسالة احتلت مقام المحورية للأبحاث الاستدلالية في الفقه لكثير من العلماء الأفاضل الذين جاءوا بعده من جهابذة الطائفة ومراجعها وفقهائها، فكتب العشرات من التعليقات والحواشي والأبحاث الفقهية في ذيل مسائل هذه الرسالة الشريفة، ولم يكن ذلك إلّا لما امتازت به من كثرة الفروع ودقة النظر في بيان الأحكام الشرعية.
5- قال الشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة: جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام، للفقيه العلامة الشيخ محمد حسن ابن الشيخ باقر ابن الشيخ عبد الرحيم ابن الآغا محمد الصغير ابن المولى عبد الرحيم الشريف الكبير الذي جاور النجف الأشرف.

طلب العلم والاجتهاد في تحصيله، حينذاك أدرك أسراره وغوامضه، وتعرف على مطالبه، ثم قام بعد ذلك بكتابة (العروة الوثقى).

نعم، إن كتابة كتاب مثل (العروة الوثقى) عمل يحتاج إلى جهد سنين عديدة، لا إلى أسبوع واحد فقط كما كان يدّعي هذا الشخص، ولكن في الحديث الشريف: «عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان»(1).

وقس على ذلك الكثير من أمورنا التي نقولها ولا نعمل بها.

وقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «تعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن ينفعكم اللّه بالعلم حتى تعملوا به، إن العلماء همتهم الرعاية، والسفهاء همتهم الرواية»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تعلموا العلم لتماروا به السفهاء، وتجادلوا به العلماء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم ما عند اللّه، فإنه يدوم ويبقى، وينفد ما سواه، كونوا ينابيع الحكمة، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت(3)، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون في أهل الأرض»(4).

المجالس والتعازي

إن من أهم ما يقضي على الجهل البسيط والمركب، ويوجب نشر الثقافة الدينية هي المجالس الحسينية الشريفة.

ص: 497


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 454.
2- تنبيه الخواطر 2: 213.
3- أحلاس: جمع حَلَس وهو مسحٌ يبسط في البيت وتجلّل به الدابة، ومن المجاز: كن حَلس بيتك: أي الزمه.
4- منية المريد: 135.

فإن من خلال هذه المجالس المباركة يمكن للإنسان أن يحصل على إقامة الروابط مع مختلف أفراد المجتمع وخاصة المثقفين منهم، وإزالة الجهل والشبهات، والتحصين بالمعرفة والوعي وأسباب النجاح... .

إقامة المجالس الأسبوعية وحضورها، وكذلك الشهرية والموسمية، وقراءة التعازي على سيد الشهداء وأهل البيت(عليهم السلام)، فيها بركة كثيرة - مادية ومعنوية - ويستطيع الإنسان من خلالها أن يصل إلى هداية الناس وإرشادهم للفضيلة والتقوى ولخير الدنيا والآخرة، وهذا الأمر بالطبع يحتاج إلى السعي وبذل الجهد، لتكون هذه المجالس ناجحة ومفيدة وعاملة لتقدم المجتمع ونجاحه.

ومن اللازم علينا نحن الطلبة أن نربي مجتمعاتنا على الثقافة والوعي الإسلامي الحقيقي؛ وذلك لأن مجتمعاتنا اليوم أصبحت تعاني من مشاكل عديدة، فهي تعيش في ظل القمع والاستبداد، وتعاني من حالة الاستسلام والخنوع، وتمزق أوصالها الخلافات والصراعات، وينتشر في أجوائها الفساد والانحراف، وتعصف بأفكار أبنائها أمواج التضليل الإعلامي والتشويش الثقافي.

والمجالس الحسينية وما شابهها ينبغي الاستفادة منها بأكبر قدر ممكن لمعالجة هذه المشكلات والأوضاع، فإنها إضافة إلى أثرها المعنوي والاستمداد الغيبي التي تجلبه لنا من اللّه والأئمة(عليهم السلام) هي محل لنشر الثقافة والوعي وارتباط المجتمع بالقيادة الدينية.

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إذا رأيتم روضة من رياض الجنة فارتعوا فيها، قيل: يا رسول اللّه، وما الروضة؟ قال: مجالس المؤمنين»(1).

وقال لقمان(عليه السلام) لابنه: «يا بني، اختر المجالس على عينك، فإن رأيت قوماً

ص: 498


1- السرائر 3: 635.

يذكرون اللّه جلّ وعزّ فاجلس معهم، فإن تكن عالماً نفعك علمك، وإن تكن جاهلاً علّموك، ولعل اللّه أن يظلَّهم برحمته فيعمك معهم، وإذا رأيت قوماً لا يذكرون اللّه فلا تجلس معهم؛ فإن تكن عالماً لم ينفعك علمك، وإن كنت جاهلاً يزيدوك جهلاً، ولعل اللّه أن يظلَّهم بعقوبة فيعمك معهم»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «من جلس مجلساً يحُيى فيه أمورنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(2)

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) لفضيل: «تجلسون وتحدثون؟».

قال: نعم، جُعلت فداك.

قال(عليه السلام): «إن تلك المجالس اُحبها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم اللّه من أحيا أمرنا، يا فضيل من ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(3).

وقال(عليه السلام): «أبلغ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى اللّه العظيم، وأن يعود غنيهم على فقيرهم، وقويهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم؛ فإن في لقاء بعضهم بعضاً حياة لأمرنا» - ثم قال(عليه السلام): - «رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «اجتمعوا وتذاكروا، تحفَّ بكم الملائكة، رحم اللّه من أحيا أمرنا»(5).

ص: 499


1- الكافي 1: 39.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 73.
3- قرب الإسناد: 37.
4- مصادقة الإخوان: 34.
5- مصادقة الإخوان: 38.

المجالس وقضايا الأمة

كما يلزم على المسئولين والإداريين في المجالس الحسينية - مضافاً إلى بيان السيرة وذكر المصائب - أن يتناولوا القضايا التي تعيشها الأمة من سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، وكل ما يمس حياة الفرد المسلم وواقعه الذي يعيشه، لكي يتحقق الغرض من وجودها بشكل أتم، وبذلك ستكون في المجتمع نفوس تحمل الروح الحسينية الأبية وتعاليم الإسلام وتعاليم الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، فهم(عليهم السلام) شعلة من التضحية والفداء والعمل والعلم والتقدم والسعادة والنجاح. فإذا أردنا أن لا نكون من الخاسرين في أعمالنا فلنحيي مجالس أهل البيت(عليهم السلام) بكل صورها.

ومن كل ما تقدّم من شواهد وإيضاحات للآية الكريمة في بداية البحث، نعرف أن غاية هذا الدين العظيم هي النجاح في الأعمال الدنيوية والأخروية، وهذا يتطلب القضاء على الجهل البسيط والمركب، والتحلي بمعرفة الدين بصورة صحيحة، وأخذه من منابعه الأصلية وهي القرآن والعترة الطاهرة(عليها السلام)، وتطبيقه بشكل صحيح... من أجل الوصول إلى حياة طيبة سليمة وواعية، حتى تسود المجتمع العدالة في كل الميادين، فلا يوجد مكان للحرمان أو الظلم السياسي أو المالي، فإن توصلنا إلى هذا الأمر نكون قد نجحنا في نشر أهداف هذا الدين العالمي، وإدارة حياتنا بالأسلوب الأفضل.

ورد عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال - في خطبة له(عليه السلام) - : «... أيها الأمة التي خدعت فانخدعت، وعرفت خديعة من خدعها فأصرت على ما عرفت، واتبعت أهواءها وضربت في عشواء غواتيها، وقد استبان لها الحق فصدت عنه، والطريق الواضح فتنكّبته. أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو اقتبستم العلم من

ص: 500

معدنه،وشربتم الماء بعذوبته، وادخرتم الخير من موضعه، وأخذتم الطريق من واضحه، وسلكتم من الحق نهجه، لنهجت بكم السبل، وبدت لكم الأعلام، وأضاء لكم الإسلام، فأكلتم رغداً، وما عال فيكم عائل، ولا ظُلم منكم مسلم ولا معاهد، ولكن سلكتم سبيل الظلام، فأظلمت عليكم دنياكم برحبها، وسدت عليكم أبواب العلم، فقلتم بأهوائكم، واختلفتم في دينكم، فأفتيتم في دين اللّه بغير علم، واتبعتم الغواة فأغوتكم، وتركتم الأئمة فتركوكم، فأصبحتم تحكمون بأهوائكم، إذا ذكر الأمر سألتم أهل الذكر، فإذا أفتوكم قلتم: هو العلم بعينه، فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه، رويداً عما قليل تحصدون جميع ما زرعتم، وتجدون وخيم ما اجترمتم وما اجتلبتم. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لقد علمتم أني صاحبكم، والذي به اُمرتم، وإني عالمكم، والذي بعلمه نجاتكم، ووصي نبيكم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخيرة ربكم ولسان نوركم، والعالم بما يصلحكم، فعن قليل رويداً ينزل بكم ما وعدتم، وما نزل بالأمم قبلكم...»(1).

نسأل اللّه عزّ وجلّ أن يمن علينا بالعلم والمعرفة وأن يخلصنا من الجهل بأنواعه البسيط والمركب.

«إلهي فاسلك بنا سبل الوصول إليك، وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك، قرّب علينا البعيد، وسهل علينا العسير الشديد، وألحقنا بالعباد الذين هم بالبدار إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإياك في الليل يعبدون، وهم من هيبتك مشفقون، الذين صفيت لهم المشارب، وبلّغتهم الرّغائب، وأنجحت لهم المطالب...»(2).

ص: 501


1- الكافي 8: 31.
2- بحار الأنوار 91: 147.

من هدى القرآن الكريم

موجبات الضلالة

قال تعالى: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}(1).

وقال سبحانه: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَٰئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا}(4).

من عوامل التقدم
أ: الاستفادة من التجارب

قال تعالى: {فَاعْتَبِرُواْ يَٰأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ}(5).

وقال جلّ وعلا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(7).

وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن

ص: 502


1- سورة البقرة، الآية: 108.
2- سورة النساء، الآية: 116.
3- سورة الجاثية، الآية: 23.
4- سورة النساء، الآية: 136.
5- سورة الحشر، الآية: 2.
6- سورة يوسف، الآية: 111.
7- سورة الرعد، الآية: 19.

قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَاللَّهِ مِن وَاقٖ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَلَقَدْ مَكَّنَّٰهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّٰكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَٰرًا وَأَفِْٔدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَٰرُهُمْ وَلَا أَفِْٔدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}(2).

ب: المشاورة

قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(3).

وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(4).

ج: العفو والسلم

قال تعالى: {وَجَزَٰؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ

ص: 503


1- سورة غافر، الآية: 21.
2- سورة الأحقاف، الآية: 26.
3- سورة الشورى، الآية: 38.
4- سورة آل عمران، الآية: 159.
5- سورة الشورى، الآية: 40.
6- سورة النساء، الآية: 149.

الْمُحْسِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًامِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}(2).

وقال جلّ وعلا: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(3).

الإيمان طريق النجاة

قال عزّ وجلّ: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}(4).

وقال سبحانه: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ}(5).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٖ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

موجبات الضلالة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا وإن شرائع الدين واحدة، وسبله قاصدة، من أخذ

ص: 504


1- سورة آل عمران، الآية: 134.
2- سورة البقرة، الآية: 109.
3- سورة الأعراف، الآية: 199.
4- سورة فصلت، الآية: 18.
5- سورة يونس، الآية: 103.
6- سورة الصف، الآية: 10- 11.
7- سورة الزمر، الآية: 61.

بها لحق وغنم، ومن وقف عنها ضل وندم»(1).

وقال(عليه السلام): «ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة وحسنت عنده السيئة وسكر سكر الضلالة»(2).

وقال(عليه السلام): «ضل من اهتدى بغير هدى اللّه»(3).

وقال(عليه السلام):«ضلال النفوس بين دواعي الشهوة والغضب»(4).

وقال(عليه السلام): «صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله»(5).

من عوامل التقدم
أ: الاستفادة من التجارب

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «مَن حفظ التجارب أصابت أفعاله»(6).

وقال(عليه السلام): «مَن أحكم التجارب سلم من المعاطب»(7).

وقال(عليه السلام): «من كثرت تجربته قلّت غرّته»(8).

وقال(عليه السلام): «المجرّب أحكم من الطبيب»(9).

وعنه(عليه السلام): «التجارب لا تنقضي والعاقل منها في زيادة»(10).

ص: 505


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 120 من كلام له(عليه السلام) يذكر فضله ويعظ الناس.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 31.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 426.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 310.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 421.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 666.
7- عيون الحكم والمواعظ: 431.
8- عيون الحكم والمواعظ: 432.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 64.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 83.
ب: المشاورة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المستشير متحصن من السقط»(1).

وقال(عليه السلام): «نعم الاستظهار المشاورة»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لن يهلك امرؤ عن مشورة»(3).

وقال(عليه السلام) في وصية له: «اعلم، أن ضارب علي(عليه السلام) بالسيف وقاتله، لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثم قبلت ذلك منه لأديت إليه الأمانة»(4).

ج: العفو والسلم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة: العفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليكم بالعفو؛ فإن العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً، فتعافوا يعزكم اللّه»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصية لابنه الحسن(عليه السلام): «فإذا استحق أحد منك ذنباً فإن العفو مع العدل أشد من الضرب لمن كان له عقل»(7).

وقال(عليه السلام): «المبادرة إلى العفو من أخلاق الكرام»(8).

ص: 506


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 64.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 717.
3- المحاسن 2: 601.
4- الكافي 5: 133.
5- الكافي 2: 107.
6- الكافي 2: 108.
7- بحار الأنوار 74: 216.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 84.

وقال(عليه السلام): «العفو أعظم الفضيلتين»(1).

طرق النجاة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، ثلاث موبقات وثلاث منجيات، فأما الموبقات: فهوى متبع، وشُحّ مطاع، وإعجاب المرء بنفسه. وأما المنجيات: فالعدل فيالرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وخوف اللّه في السر والعلانية كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رحم اللّه امرأً سمع حكماً فوعى، ودُعي إلى رشاد فدنا، وأخذ بحجزة هادٍ فنجا»(3).

وقال(عليه السلام): «الزموا الحق تلزمكم النجاة»(4).

وقال(عليه السلام): «بالإيمان تكون النجاة»(5).

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «إنّ أنجاكم من عذاب اللّه أشدكم خشية للّه»(6).

ص: 507


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 87.
2- تحف العقول: 8.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 76 من خطبة له(عليه السلام) في الحث على العمل الصالح.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 297.
6- الكافي 8: 68.

التقوى والأخلاق

مقدّمة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الْأَخْلاق»(1).

نتطرّق اليوم لبعض الأمور المهمة، والتي ينبغي على كلّ مسلم أن يتحلّى بها. (كالتقوى والأخلاق وخدمة الناس) والتي يتوصل الإنسان بالعمل بها إلى مرتبة السمو والكمال وتجعله إنساناً حقيقياً. وعند تركها مع غيرها من الواجبات ينحطُّ الإنسان إلى مرتبة الحيوان؛ لأنّ الإنسان بتقواه وأخلاقه وخدمته للناس... وغيرها، يتميز عن الحيوان. وإلّا فهو كالحيوان، بل أضل سبيلاً.

فالإنسان والحيوان كلاهما جسم نام حساس متحرك بالإرادة كما يعبر المناطقة. وكلاهما يشغل حيزاً في الفراغ، كما يعبّر بعض الطبيعيين، ولكن الفرق بينهمنا هو أن الإنسان عاقل يعمل بالأعمال التي دلَّه عليها العقل، أو أرشده إليها الشارع، وعرّفه بحسنها كالتقوى والأخلاق والصدق والأمانة وخدمة الناس وغيرها، ويترك الأعمال القبيحة والمضرة، والتي نهاه عنها العقل والشارع كشرب الخمر ولعب القمار والكذب والغيبة... الخ. فلنصبح إنسانيين بمعنى هذه الكلمة، وهذا يستلزم منّا أن نجتهد ونعمل بجميع ما أمرنا به الشارع، ونتجنب عن جميع ما نهى عنه.

ص: 508


1- بحار الأنوار 16: 210.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ذللوا أنفسكم بترك العادات، وقودوها إلى فعل الطاعات، وحملّوها أعباء المغارم، وحلُّوها بفعل المكارم، وصونوها عن دنس المآثم»(1).

التَّقوى

اشارة

قال سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(2).

التقوى هي وقاية النفس وصيانتها من الرذائل والمعاصي، وهي من الفضائل النفسية التي تسمو بالإنسان إلى مراتب العلو والكمال وإلى مراتب القرب من اللّه تعالى، فالتقوى لا تزيد الإنسان طولاً أو عرضاً أو ما إلى ذلك من الأبعاد الجسمية. بينما الإنسان لا يُدعى إنساناً بلحاظ الجسم وصفاته، بل بلحاظ روحه وأبعاده المعنوية من تقوى وأخلاق قال الشاعر(3):

أقبل على النّفس وإستكمل فضائلها *** فأنت بالنّفس لا بالجسم إنسان

وتشير الآية الكريمة: {...إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ...}(4). إلى أن اختلاف الناس في الفضل منوط بالتقوى، وأنّ الإنسان كريم على اللّه ما دام تقياً، ولا ينفعه نسبه أو حسبه، فعن الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «جلس جماعة من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينتسبون ويفتخرون، وفيهم سلمان(رحمه اللّه)، فقال عمر: ما نسبتك أنت يا سلمان؟ وما أصلك؟ فقال:

أنا سلمان بن عبد اللّه كنت ضالاً فهداني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكنت عائلاً

ص: 509


1- عيون الحكم والمواعظ: 255.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- أبو الفتح البستي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 14: 232.
4- سورة الحجرات، الآية: 13.

فأغناني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهذا حسبي ونسبي يا عمر، ثم خرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فذكر له سلمان ما قال عمر، ما أجابه. فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يا معشر قريش إن حسب المرء دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1). ثم أقبل على سلمان(رحمه اللّه) فقال له: يا سلمان إنّه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلّا بتقوى اللّه، فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه»(2).

وقول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذه الرواية لا يدع مجالاً للشك بأنّ الناس سواسية، ويكون الفاصل والمميّز في ما بينهم - التقوى - فلا مايز في نظر الإسلام على أساس سواد البشرة أو بياضها ولا الغنى أو الفقر ولا الطول أو العرض ولا العروبة أو العجمة و... هكذا، حيث قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ}(3). وجعل اللّه تعالى هذا التمايز في اللون والطول والألسن للتعارف وللدلالة على خلق اللّه تعالى حيث قال تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ}(4).

وفي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال لأحد أصحابه واسمه جابر: «يا جابر أيكتفي من انتحل التشيع(5) أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فواللّه ما شيعتنا إلّا من اتقى اللّه وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والتخشع، والأمانة وكثرة

ص: 510


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 147.
3- سورة النساء، الآية: 1.
4- سورة الروم، الآية: 22.
5- أي: يتخذ التشيع مذهباً.

ذِكر اللّه، والصوم والصلاة، والبرّ بالوالدين، والتعاهد للجيران، من الفقراء وأهلالمسكنة، والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء».

قال جابر: فقلت ياابن رسول اللّه ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال: «يا جابر لا تذهبن بك المذاهب، حسبُ الرَّجُل أنْ يقول: أُحب علياً وأتولاه، ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً، فلو قال: إني أحب رسول اللّه، فرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير من علي(عليه السلام)، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبُّه إياه شيئاً.

فأتقوا اللّه وأعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، أحبُّ العباد إلى اللّه عزّ وجلّ وأكرمهم عليه، أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر واللّه ما يُتقرب إلى اللّه تبارك وتعالى إلّا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على اللّه لأحد من حجة، من كان للّه مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان للّه عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع»(1).

صحيح أنّ حب أهل البيت(عليهم السلام) واجب، ولا يدخل الجنة من يبغضهم، والروايات كثيرة جداً في هذا المجال.

فبحبهم(عليهم السلام) ينال الإنسان الثواب، وهذا ما لا شك فيه ولكنّ ترك العمل بتعاليمهم ووصاياهم يصل بالإنسان إلى عتاب من اللّه تعالى شديد، بل الأكثر من ذلك أن الإنسان الذي يعرف فضل أهل البيت(عليهم السلام) ويعرف منزلتهم ويحبهم لذلك، ولا يعمل بما يأمرون به، بل يعمل على عكس ذلك فجزاؤه عند اللّه تعالى العقاب الشديد.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في إحدى خطبه: «إنّ العالِم العامِل بغير علمه

ص: 511


1- الكافي 2: 74.

كالجاهل الحائِر الذي لا يستفيق مِن جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة لهألزم، وهو عند اللّه ألْوم»(1).

فالعبرة ليس في تعلم العلم، وإنما العبرة وتحصيل الثواب هو بتطبيق العلم الذي تعلمه الشخص، بل يكون ذلك العلم حجة عليه.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «من لم يعمَل بالعِلم كان حجة عليه ووبالاً»(2).

التقوى والقانون

تُنظِّم حياة البشر مجموعة من القوانين والنظم. واختلف الناس في أصل هذه القوانين - أي: مَنْ وضع القانون الأول في الحياة؟- ، فاختلفوا إلى مذاهب وآراء كثيرة جداً، لو أردنا ذكرها لطال بنا المقال، فنتوقف على رأي الإلهيين في ذلك، وهو: أن الواضع الأول للقانون هو اللّه تعالى، أي أنّ اللّه تعالى عندما خلق الإنسان أوجد له كذلك نظاماً لكلِّ شيء، وأنزل له كُتباً، ودساتير بواسطة أنبيائه(عليهم السلام) تنظم له حياته وبما يناسب المستوى الفكري لكل أمّة من الأُمم، إلى أن وصل الحال إلى زمن نبينا الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فأنزل عليه القرآن، وفيه إحاطة تامة بكل احتياجات الإنسان إلى قيام الساعة. قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖ}(3).

والقانون هو الضابط المهم للحياة، وضامن الحريات لجميع البشر، وهو المسؤول عن تأمين النظام والسلام، وبواسطته تتحقق العدالة بصورة عامة، أي إنَّ القانون وضع على أساس العدالة، ويعكس القانون قواعد الأخلاق. وكلامنا هذا هو

ص: 512


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 100 من خطبة له(عليه السلام) في أركان الدين.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 651.
3- سورة الكهف، الآية: 54.

في القانون الإلهي، لأن القانون الوضعي فيه كثير من الهفوات والأخطاء، وأصبح بيدجماعة من المستفيدين الذين يضعون فقرات القانون حسب أهوائهم، وتماشياً مع مصالحهم، أمّا القانون الإلهي فهو بعيد عن الأهواء والمصالح الخاصة، وكما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(1).

ومن فقرات هذا القانون الإلهي التقوى، يعني أن يكون الإنسان مرتبطاً باللّه تعالى في كلّ أعماله، وعن طريق الارتباط باللّه تعالى يحصل الإنسان على الترتيب والتنظيم في دنياه وفي آخرته، فالشخص المرتبط باللّه (التقي) تجده سعيداً في الدنيا والآخرة. ففي كتاب للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «إعلموا عباد اللّه أنَّ المتيقن ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم»(2).

فلنكن من المتقين لكي نفوز في الدنيا والآخرة، إن الدنيا فانية، وأنّ الناس جميعهم سوف يوارون في التراب، وسوف تغلق صحائف أعمالهم، فلا الذين قبلنا خلدوا في الدنيا، ولا نحن سوف نخلد فيها، ولا الذين سوف يأتون بعدنا، فالجميع راحلون كما قال الشاعر(3):

الموتُ بابٌ وكُلّ النّاس وارده *** فَلَيْتَ شِعْري بَعْدَ الباب ما الدّار؟

لذا علينا أن نتذكر دائماً بأننا سوف نرحل من هذه الدنيا عاجلاً أم آجلاً، وهذا هو ما نص عليه القانون الإلهي، بأنّ الحياة فانية، والدار الآخرة هي الباقية. ففي خطبةٍ لإمام المتيقن(عليه السلام) قال فيها يصف الدنيا: «فإنّ الدنيا لم تخلق لكم دار

ص: 513


1- سورة النجم، الآية: 3-4.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 27 من عهد له(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر رضي اللّه عنه حين قلده مصر.
3- ينقل عن الحسن البصري، الأغاني 21: 199.

مقامٍ،بل خلقت لكم مجازاً، لتزوَّدوا منها الأعمال إلى دار القرار»(1).

فلنتزود بالتقوى لأنها أفضل الأعمال.

وسُئل أمير المؤمنين(عليه السلام): أي عمل أفضل؟ قال: «التقوى»(2).

فلنتخلق بأفضل زاد في الدنيا والآخرة، كما وصفه إمام المتقين(عليه السلام) ألّا وهو التقوى.

العبادة والتقوى

قال تعالى: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ فَاعْبُدُوهُ}(3).

تنقسم دوافع الناس في عبادتهم للّه سبحانه إلى أقسام هي:

أولاً الخوف: حيث إنّ بعض الناس يعبدون اللّه تعالى خوفاً من عذابه، فإن الإنسان في طبيعته يتجنب الوقوع في المهالك والأخطار، وبما أنّ اللّه تعالى حذَّر الإنسان ووعده بالعذاب في حالة عصيانه، حيث قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}(4). وكثير من الآيات والروايات في هذا الجانب، فنلاحظ أغلب الناس يعبدون اللّه تعالى خوفاً من عذابه.

ثانياً الطمع: أيضاً يوجد في هذه المعمورة من يعبد اللّه طمعاً في الحصول على الثواب، فكلَّما فكّر الإنسان في ما وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحُسن العاقبة ازداد طمعاً، وبالغ في التقوى والتزم بعمل الخير، وترك عمل الشر، وذلك طمعاً في المغفرة والجنّة.

قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا

ص: 514


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 132 من خطبة له(عليه السلام) يعظ فيها ويزهد في الدنيا.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 394.
3- سورة الأنعام، الآية: 102.
4- سورة آل عمران، الآية: 28.

عَظِيمَا}(1). وكثيراً من الآيات والروايات في الكتاب والسنّة تتضمن ذلك.

ثالثاً الحب: وهناك قسم ثالث من الناس يعتبرون خاصة اللّه في أرضه من أنبياء وأوصياء وصالحين. فهؤلاء هم العلماء باللّه لا يعبدون اللّه خوفاً من عذابه، أو طمعاً في ثوابه، وإنما يعبدونه لأنه حبيبهم، ولأن قلوبهم مغمورة بالمحبة الإلهية، قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(2). فإنّ أصحاب هذا الطريق هم الغالبون، وهو الأبرار، ولهم ثواب عظيم في الآخرة فهم في أعلى عليِّين.

ويأتي في قمة هؤلاء نبينا العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(3).

ويرى أصحاب هذا الطريق - حب اللّه تعالى - أنّ عبادة اللّه تعالى خوفاً من عذابه، أو طمعاً في ثوابه، لا تخلو من الشرك إذ لعلّ هؤلاء لو وجدوا طريقاً موصلاً إلى الجنة، وتخليصهم من عذاب اللّه تعالى؛ لم يعبدوا اللّه تعالى. واستدلالهم على ذلك هو أنّ الشخص الذي يعبد اللّه تعالى خوفاً من عذابه، يبعثه هذا الخوف على ترك المحرمات، أي: الزهد في الدنيا للفوز في الآخرة، وأمّا عبادته تعالى طمعاً في الثواب فتبعث الإنسان على العبادة في الدنيا لنيل الآخرة. والطريقان معاً قد يدعوان إلى الإخلاص للدين لا لخالق الدين.

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(4). إنّ المتتبع لسيرة

ص: 515


1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة البقرة، الآية: 165.
3- بحار الأنوار 41: 14.
4- سورة القلم، الآية: 4.

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سوف يجد وبوضوح ما يتمتع به الرسول من أخلاق فاضلة كريمة، فهو منبع الأخلاق، ويعد بحراً زاخراً من المثل العليا، والقيم الإنسانية، والفضائل الأخلاقية، في كل مناحي الحياة وجوانبها. فهو القائد المعلِّم، وهو الأب الروحي، وهو المرُشد، وهو المُصلح، وهو الأمين، إلى آخر قاموس الفضائل التي يعجز القلم عن الإحاطة بها.

فالأخلاق في حياة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واضحة وجلية في مختلف مناحي الحياة وشاملة لجميع الناس، تجده مع الصديق والمحب الأب والمرشد، وتجده مع العدو المصلح والمنقذ. فالكل يعاملهم معاملة أخلاقية، فهذا وحشي قاتل حمزة(عليه السلام) تلكم القتلة المفجعة والأليمة التي يقف شعر البدن لدى سماعها دون رؤيتها، حتى وصف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يومها بأنه أشد يوم مرّ على قلبه الطاهر(1)، ذلك القلب الملئ بالحب والعطف والإنسانية، والبعيد كلّ البعد عن البغض والكراهية، ذلك القلب العامر بالإيمان الذي لا يهمّه شيء سوى مرضاة اللّه تعالى، ومع هذا كلّه عندما جاء وحشي قاتل حمزة(عليه السلام) من وراء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأعلن توبته، وقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أنّ محمداً رسول اللّه، ماذا عمل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ التفت إليه وقال: من؟ وَحشيّ؟ عفوت عنك. ولكن لا تُرني وجهك، أي ابتعد عنّي(2). أيُّ أخلاقٍ هذه! هذه هي أخلاق رسول الإنسانية، خير خلق اللّه تعالى، فقد كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أجمع الناس لدواعي الترفع والسمو. فقد كان أوسط الناس نسباً، وأنقاهم حسباً، وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم، وما إلى ذلك من الصفات الحسنة. وقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أدنى الناس إلى

ص: 516


1- انظر تفسير القمي 1: 123.
2- انظر المغازي 2: 863.

التواضع، فإنه كان يرّقع الثوب، ويخصف النعل، ويركبالحمار، ويعلف الناضح ويجيب دعوة المملوك، ويجلس على الأرض، ويأكل من الأرض.

وقد أحسن من مدَحَه حيث قال فيه:

فما حملت من ناقة فوق ظهرها *** أبرّ وأوفى ذمّةً من محمد(1)

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) واصفاً أخلاق الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أرَمثله، قبله ولا بعده»(2).

وأجاد من قال:

بلغ العلى بكماله *** كشف الدّجى بجماله

حسنت جميع خصاله *** صلّوا عليه وآله

هذه ذكرها جميعاً، والقلم عن الإحاطة بكتابتها، فليتخلق المسلمون اليوم بأخلاق ذلك الرائد العظيم، ليفوزوا في الدنيا والآخرة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنّ فيه أُسوةً لمن تأسى، وعزاءً لمن تعزى، وأحب العباد إلى اللّه المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره»(3).

الأخْلاقِ الإسلاميّة

إنّ النفس البشريه صفحة بيضاء تنقش عليها الأعمال والأفعال، فإذا كانت هذه الأعمال والأفعال حسنة ازدادت هذه الصفحة بياضاً ونصاعة، وسمت

ص: 517


1- انظر تفسير مجمع البيان 2: 429.
2- بحار الأنوار 16: 231.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 160 من خطبة له(عليه السلام).

بصاحبها إلى مراتب العلو والقرب من اللّه سبحانه ومن الناس، وإذا كانت هذه الأعمال رديئة سيئة، لوّثت هذه الصفحة، وجعلتها سوداء داكنة، وتحطُّ منصاحبها، وتزيد من بعد الشخص عن اللّه تعالى وعن الناس.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنّ النفس لجوهرة ثمينة من صانها رفعها ومن ابتذلها وضعها»(1).

والنفس البشرية واحدة تكويناً كما صرّح بذلك القرآن الكريم: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ}(2).

ولكن هذه النفس لها مراتب ودرجات كما يقول البعض: النفس تحولت بفعل أعمال بعض الناس إلى نفس مطمئنة فاضلة وذلك، لأنّ صاحبها حصنّها وروّضها على ترك الأفعال القبيحة وغير اللائقة بالإنسان. فاستحق على ذلك الفوز الإلهي، كما وعد اللّه تعالى المؤمنين: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(3).

وعند قسم آخر من الناس تحولت النفس إلى نفسٍ كدرة ومنحطة، وذلك لأنّ صاحبها لم يتجنب فعل الرذائل، وغاص بها إلى أعماقه، مما قاده إلى غضب اللّه تعالى وانتقامه وكره الناس له.

قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}(4).

فخلاصة ما نريد قوله هنا هو أنّ الإنسان بيده المسير على كلا الطريقين؛ طريق يؤدي به إلى النفس الفاضلة، وذلك بعمل الأعمال الحسنة، مثل الصدق والأمانة والوفاء والمحبة والتقوى، وغيرها من الفضائل الأخلاقية التي ذكرها اللّه في كتابه الكريم، ووضحها لنا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وآل بيته الأطهار(عليهم السلام)، وذلك بتحلِّيهم

ص: 518


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 227.
2- سورة الأنعام، الآية: 98.
3- سورة الروم، الآية: 47.
4- سورة الأحزاب، الآية: 64.

وعملهم بها، فهم عليهم أفضل الصلاة والسلام منبع الأخلاق الحميدة، وأساسكل فضيلة، فسالك هذا الطريق لا يضل، وسوف يضمن الفوز في كلا الدارين؛ الفوز في الدنيا، وهذا معلوم ولا يحتاج إلى تأمل، لأنّ جميع العقلاء يمدحون صاحب الأخلاق الفاضلة الحميدة، ويذمون صاحب الأخلاق الفاسدة والسيئة. أمّا الفوز في الآخرة فهذا أيضاً معلوم، ويؤكده العقل والنقل.

أمّا باب العقل فلأنّ اللّه تعالى عادل، فلا يضيع أجر من عمل صالحاً، وسوف يجزيه على ذلك الثواب.

وأمّا باب النقل فهذا واضح أيضاً، فإنّ المتفحص للكتاب والسنّة يجد مئات الآيات والأحاديث، التي تحثُّ على عمل الفضائل والاجتناب عن الرذائل، وما يقابلها من الأجر الجزيل.

أما الطريق الآخر فيجعل نفس الإنسان منحطة ملوثة، وذلك لارتكابه الأعمال السيئة؛ مثل الكذب والخيانة والغيبة وغيرها من الأعمال الرذيلة، فالإنسان إذن مُخيّر في المسير بكلا الطريقين؛ طريق الفضيلة، وطريق الرذيلة.

قال اللّه تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(1). والإسلام يختار للإنسان طريق الفضيلة، لما به من محاسن ومنافع خاصة وعامة، ويطرح الإسلام الدلائل والنماذج على ذلك، وقمة النماذج والدلائل للفضائل هو النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وآل بيته الأطهار(عليهم السلام)، ومن سار على طريقهم ومنحاهم.

نماذج أخلاقية

اشارة

الأخلاق على قسمين: أخلاق حسنة، وأخلاق سيئة، ولكن عندما يُطلق لفظ الأخلاق فالمراد منه الأخلاق الحسنة.

ص: 519


1- سورة الإنسان، الآية: 3.

والإسلام يعرض لنا نماذج كثيرة من الأخلاق، استمدت أخلاقها من أخلاقالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار(عليهم السلام)، قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1). نذكر بعضاً منها هنا لكي تكون عبرة وأُسوة لأُولي الألباب. قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(2).

الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) والعمري

روي عن بعض الأصحاب أنّ رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان في المدينة، وهذا الرجل يؤذي الإمام أبا الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) ويسبّه إذا رآه، ويشتم علياً، فقال للإمام(عليه السلام) بعض حاشيته يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي، وزجرهم، وسأل عن العمري، فذُكر أنّه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب إليه فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا تطأ زرعنا، فوطئه(عليه السلام) حتى وصل إليه، ونزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له: «كم غرمت على زرعك هذا؟» قال: مائة دينار. قال: «وكم ترجو أن تصيب؟». قال: لست أعلم الغيب. قال له: «إنما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه؟» قال: أرجو أن يجيء مائتا دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن(عليه السلام) صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقال: «هذا زرعك على حاله، واللّه يرزقك فيه ما ترجو». قال: فقام العمري فقبّل رأسه، وسأله أن يصفح عنه، فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف، قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً فلّما نظر إليه قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته. قال: فوثب أصحابه إليه، فقالوا له: ما قضيتك؟ قد كنت تقول غير هذا؟ قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي

ص: 520


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- سورة الذاريات، الآية: 55.

الحسن(عليه السلام) فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائهالذين سألوه في قتل العمري: أيّما كان خيراً ما أردتم؟ أم ما أردت؟ انني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم، وكفيت به شرَّه»(1).

هذه هي أخلاق أهل بيت النبوة(عليهم السلام) مستمدة من أخلاق حامل الرسالة الإلهية(صلی اللّه عليه وآله وسلم). يعاملون المسيء بالإحسان. فهذا الرجل أساء إلى الإمام ولكن لحسن خلق الإمام لم يعامله بالمثل، بل أحسن إليه واستطاع بهذا العمل تحقيق ثلاثة أهداف: أولها وأهمها: عند الإمام هو رضا اللّه تعالى، وثانيها: إصلاح المسيء وجرّه إلى جادة الحق، والثالث: هو ليكون عمل الإمام هذا أُسوة ومنهجاً لكافة المسلمين. فلنتخلق بأخلاق أهل البيت(عليهم السلام) ففي ذلك فوز بالدنيا والآخرة.

صورةٌ مِن الخُلق المِثالي

نقل أنّ الشيخ جعفر كاشف الغطاء(رحمه اللّه) وزّع مبلغاً من المال على الفقراء قبل أن يبدأ صلاته، ثم شرع في الصلاة، فجاءه سيد من فقراء السادة، كان قد تأخر في الحضور. فلما أنهى الشيخ صلاته الأُولى، قال له السيد: أعطني من مال جدي رسول اللّه (وهو الخمس)! قال له الشيخ: تأخرت عن الحضور، ولم يبق لديّ ما أُسعفك به. فغضب السيد وبصق في وجه الشيخ، فأصابت لحيته. فقام الشيخ من محراب صلاته ورفع طرف ثوبه، ومشى بين صفوف الجالسين في صلاة الجماعة قائلاً: من أحب ذقن الشيخ، فليغن السيد. فملأ المصلّون ثوبه بالدراهم، وقدّم الشيخ ماجمعه من الناس للسيد، ثم وقف ليصلي بهم صلاة العصر.

هذه هي الأخلاق التي ينبغي أن يتمتع بها المسلمون، وإنّ فعل الشيخ هذا لم يحطّ من قدر الشيخ، مع أنّه كان مرجعاً كبيراً، بل زاده احتراماً وتقديراً، وحاز

ص: 521


1- انظر الإرشاد 2: 233.

على رضا اللّه تعالى واحترام الناس، فلو غضب الشيخ وقام وضرب السيد،لحصل شجار، واختل النظام في الجامع، مما يؤدي إلى تأخير الصلاة وكثرة الكلام غير المرغوب فيه، إضافة إلى مشاكل أخرى لكن الشيخ الجليل تصرّف عكس ذلك تماماً، وقام وجمع له المبلغ من المصلين، مما دفع ذلك السيد إلى التفكير في غلطته، والاعتذار من الشيخ، ولم يحصل أي شجار أو زعزعة نظام. وهذه الأخلاق تعلمها الشيخ من أخلاق أئمة الهدى(عليهم السلام).

ففي رواية عن عصام بن المصطلق الشامي أنه قال: دخلت المدينة المنورة، فرأيت الحسين بن علي(عليهما السلام) فأعجبني منظره الجميل، ومسلكه البديع، فغلب عليّ الحسد، وجرّني إلى إظهار ما أُكُّنه من العدواة والبغضاء في صدري لأبيه. فدنوت منه وقلت: أأنت ابن أبي تراب؟ فقال الحسين بن علي(عليهما السلام): «نعم». فبالغت في سبّه وشتمه، وشتم أبيه. فنظر اليّ نظرة عاطف رؤوف.

وقال: «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}(1). ثم قال الإمام الحسين(عليه السلام): «خفّض عليك! أستغفر اللّه لي ولك، فإن طلبت عوناً وإعانة لأعناك، وان طلبت العطاء أعطيناك، وان طلبت النصح نصحناك». قال عصام: فندمت على تجاسري، وأدرك الحسين(عليه السلام) ذلك بكياسته وفراسته. فقال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّٰحِمِينَ}(2). فسألني الحسين بن علي(عليهما السلام): «أمن أهل

ص: 522


1- سورة الأعراف، الآية: 199-202.
2- سورة يوسف، الآية: 92.

الشام؟» قلت: نعم. قال الحسين(عليه السلام): «شنشنة أعرفها من أخزم»(1). ثم قال الحسين(عليه السلام): «حيانا اللّهواياك، فأطلب إلينا ما أنت بحاجة إليه على الرحب والسعة، فأنك تجدنا بأفضل ما ظننت بنا ان شاء اللّه تعالى»، قال عصام: فضاقت عليّ الأرض بما رحبت وودت لو ساخت بي ثمّ سللت منه لواذاً وما على الأرض أحبّ إليّ منه ومن أبيه»(2).

فلو فرضنا أنّ الامام(عليه السلام) غضب من سباب هذا الرجل وعامله معاملة أخرى - وحاشا الإمام أن ينتهج هذا الأسلوب - ولكن نقول لو فرضنا وفرض المحال ليس بمحال، فلو عمل الإمام(عليه السلام) ذلك ألم يكن قد ازداد غضب وحقد هذا الرجل على الإمام وأبيه(عليهما السلام)، وظلّ يسير على طريق الضلالة، ولامتلأ قلبه حقداً أكثر من ذي قبل؟ والإمام واجبه الهداية؛ فعن طريق حسن أخلاقه(عليه السلام) استطاع أن يحوّل هذا الشخص من طريق الضلالة، وهو بغض الإمام أمير المؤمنين، وأهل بيته(عليهم السلام) جميعاً، إلى طريق الهداية وهو محبة الإمام أمير المؤمنين وأهل بيته(عليهم السلام).

اللّهم صَلِّ على محمّد وآله كأفضَل ما صلَّيْتَ على أحدٍ مِن خَلْقِك قبله، وأنت مُصلّ على أحدٍ بَعده، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وَقِنا بِرَحْمَتك عذابَ النّار.

من هدي القرآن الحكيم

التقوى

قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ}(3).

ص: 523


1- مثل يضرب به عند العرب، أراد به الإمام(عليه السلام): أننا تعودنا المسبات والشتائم لأنها سنّة سنها معاوية.
2- انظر سفينة البحار 2: 705.
3- سورة النساء، الآية: 131.

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِوَالْأَرْضِ...}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}(2).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(3).

دوافع العبادة
1- الخوف

قال عزّ اسمه: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}(4).

2- الطمع في تحصيل الثواب

قال جلّ شأنه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ...}(5).

3- حُب اللّه عزّ وجلّ

قال عزّ من قائل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(6).

الأخلاق الإسلامية

قال جلّ ثناؤه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(7).

ص: 524


1- سورة الأعراف، الآية: 96.
2- سورة الحج، الآية: 1.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.
4- سورة الإنسان، الآية: 10.
5- سورة البقرة، الآية: 25.
6- سورة البقرة، الآية: 165.
7- سورة المائدة، الآية: 13.

وقال تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًاعَلِيمًا}(1).

وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}(3).

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال جلّ شأنه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...}(4).

وقال عزّ اسمه: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(5).

وقال جلّ وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(6).

وقال عزّ من قائل: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

التقوى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيّها النّاس... إنّ العربيّة ليست بأب ووالدة، وإنما هو

ص: 525


1- سورة النساء، الآية: 148.
2- سورة هود، الآية: 115.
3- سورة الحجرات، الآية: 12.
4- سورة آل عمران، الآية: 159.
5- سورة الأنبياء، الآية: 107.
6- سورة التوبة، الآية: 128.
7- سورة القلم، الآية: 4.

لسان ناطق، فمن تكلم به فهو عربيٌ، ألا إنكم مِن آدم وآدم من تراب وأكرمكم عند اللّهأتقاكم»(1).

وقال الامام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأوصاكم بالتقوى وجعلها منتهى رِضاه وحاجته من خلقه فأتقوا اللّه الذي أنتم بعينه ونواصيكم بيده وتقلبكم في قبضته»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اتقوا اللّه وصونوا دينكم بالورع»(3).

وكتب الإمام الجواد(عليه السلام) إلى سعد الخير: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، أما بعد فإني أُوصيك بتقوى اللّه فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب، إن اللّه عزّ وجلّ يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عَماه وجهله...»(4).

دوافع العبادة
1- الخوف

قال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «فأشعروا قلوبكم خوف اللّه وتذكروا ما قد وعدكم اللّه في مرجعكم إليه... كما قد خوفكم من شديد العقاب...»(5).

2- الطمع في تحصيل الثواب

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «... وقوم عبدوا اللّه تبارك وتعالى طلب الثواب...»(6).

ص: 526


1- تفسير القمي 2: 322.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 183 من خطبة له(عليه السلام) في قدرة اللّه وفي فضل القرآن وفي الوصيه بالتقوى.
3- الكافي 2: 76.
4- الكافي 8: 52.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 505.
6- الكافي 2: 84.
3- حُب اللّه عزّ وجلّ

في ما جاء في صحيفة إدريس(عليه السلام): «طوبى لقوم عبدوني حُباً واتخذوني إلهاًورباً، سهروا ودأبوا النهار طلباً لوجهي من غير رهبه ولا رغبه ولا لنار ولا لجنة بل للمحبة الصحيحة...»(1).

الأخلاق الإسلاميّة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا بني عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحُسن البشر»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «عليكم بالورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة إلى مَن أئتمنكم عليها برأ كان أو فاجراً...»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): عليكم بمكارم الأخلاق فإن اللّه عزّ وجلّ بعثني بها، وإنّ من مكارم الأخلاق أن يعفوا الرجل عمّن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه وأن يعود من لا يعوده»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اصبروا على المصائب...»(5).

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

عن أنس بن مالك قال: «كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا فقدَ الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده»(6).

ص: 527


1- بحار الأنوار 92: 467.
2- الكافي 2: 103.
3- تحف العقول: 299.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 478.
5- الكافي 2: 92.
6- مكارم الأخلاق: 19.

وعن أبي الحُميساء قال: بايعت النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل أن يبعث فواعدته مكاناً فنسيته يومي والغد فأتيته يوم الثالث فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يافتى لقد شققت علي أنا هاهنا منذ ثلاثةأيام»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما صافح رسول اللّه رجلاً قط فنزعَ يده حتى يكون هو الذي ينزع يده منه»(2).

ص: 528


1- بحار الأنوار 16: 235.
2- الكافي 2: 182.

التواضع طريق النجاح

التواضع رفعة

اشارة

جاء في الخبر عن إمامنا الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه، وهو في بيتٍ له جالس على التراب، وعليه خلقان(1) الثياب. قال: فقال جعفر(عليه السلام): فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما بنا، وتغيّر وجوهنا، قال: الحمد للّه الذي نصر محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأقرّ عينه، ألّا أُبشركم؟ فقلت: بلى أيها الملك، فقال: إنه جاءني الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك، فأخبرني أن اللّه عزّ وجلّ قد نصر نبيّه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأهلك عدوّه وأُسر فلان وفلان وفلان، التقوا بوادٍ يقال له بدر، كثير الأراك، لكأني أنظر إليه حيث كنت أرعى لسيدي هناك، وهو رجل من بني ضمرة، فقال له جعفر: أيها الملك فما لي أراك جالساً على التراب وعليك هذه الخلقان؟ فقال له: يا جعفر إنا نجد في ما أنزل اللّه على عيسى(عليه السلام) أن من حق اللّه على عباده أن يحدثوا له تواضعاً عندما يحدث لهم من نعمةٍ، فلما أحدث اللّه عزّ وجلّ لي نعمة بمحمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أحدثت للّه هذا التواضع، فلما بلغ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لأصحابه: إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة، فتصدقوا يرحمكم اللّه، وإن التواضع يزيد صاحبه

ص: 529


1- ثوب خلق: أي بال يستوي فيه المذكر والمؤنث لأنه في الأصل مصدر الأخلق وهو الأملس والجمع خلقان.

رفعةً، فتواضعوا يرفعكم اللّه، وإن العفو يزيد صاحبه عزّاً، فاعفوا يُعزَّكم اللّه»(1).

ولا ريب في أن التواضع يعكس أثراً بليغاً على الروح، فتشق طريقاً عميقاً من الخير للإنسان، لأن المتواضع هو ذلك الإنسان الذي يسع قلبه الآخرين، ويحتوي المواقف والأشخاص الذين يترفع عنهما الآخرون، فهو يعيش الحرية والاطمئنان والارتياح عندما يجالس الفقراء والضعفاء والمستضعفين، ولعلّه يعيش حالة عدم الارتياح والتوبيخ الروحي عندما يبتعد قليلاً عن تلك الأجواء فالمتواضع يضع ذاتياته جانباً، ويتعامل بروح تسع رغبات الآخرين، إنه يحاول أن يضيّق دائرة (الأنا) والشعور بالذات، لينطلق إلى دوائر ومساحات أوسع، تشمل الآخرين، وكل ما هو بسيط فتراه يختار المواضع الاعتيادية، والملابس المتواضعة، والطعام البسيط، وحتى كلامه ومنطقه تلمس منه روح التواضع، مع قدرته على اختيار الأحسن والأجود والأجمل والأطيب، إلّا أنه يرى الكمال الإنساني في التواضع والعيش البسيط، والقناعة بالقليل، لكي يبقى قلبه كبيراً، يحتضن الناس، وطاهراً يقطر قدسيّة ونقاءً، وتبقى نفسه شريفة وعزيزة، مترفعة عن مادّيات الدنيا وزخارفها الفانية، فيعيش بنفسه الكمال واللذّة الروحية والعقلية، مفضلاً الأخيرة على اللذة المادية. وبذلك يزداد رفعة في الدنيا قبل الآخرة، ويَكْبر مقامه في قلوب الناس الذين احتواهم بفؤاده، بل وحتى أعدائه.

توهّم باطل

عندما نتأمّل في أسباب التكبّر والكِبَر، نلاحظ أنّ أهمها توهّم الكمال، فالمتكبر يتوهم لنفسه كمالاً من الكمالات، ويتصور أنه متحلٍّ بهذه الصفة، وأن الآخرين أدنى منه وأقلّ، فيترفّع عليهم ويتعاظم وينظر إليهم بعين التحقير

ص: 530


1- الكافي 2: 121.

والازدراء، فيبدأ ينظر إلى المؤمنين على أنّ إيمانهم سطحي قشري، وهو صاحب الإيمان الحق، وهكذا ينظر إلى كل الشرائح الاجتماعية، لا سيما البسطاء منهم،بل إنه يحتقر إنسانيتهم، ويتنرفز من وجودهم، ويحاول إلغاء حركتهم ووجودهم، والشطب عليهم في الحياة. وكل ذلك إنما جاء بسبب توهّم الكمالات وتخيّل الفضل على الآخرين. ولذلك فلا غرابة في أن يتكبّر الإنسان على اللّه والرسل والدين، بعد أن كان التكبر نفسه حاجباً غليظاً، يحجب الروح عن الاتصال بربّها ويكون حجر عثرةٍ في طريق الإيمان، وحجاباً من الظلمة يغلّف الإنسان، فيجعله مظلماً لا إشراق فيه، فيسلب التكبر التوفيق من صاحبه، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ}(1). وقال سبحانه: {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}(2). فيكون التكبر الذي تولّد من طريق وهميّ سبباً لمنع الإنسان من الوصول إلى الإيمان.

كما أن من أسباب التكبر قلّة العقل وضيق الأفق الفكري، فالشخص المتصف بذلك ما إن يجد في نفسه خصلةً مميزةً حتى يتصور لها مقاماً، ومركزاً خاصاً، فيتكبّر على الآخرين بهذا الإحساس الوهمي، والضحالة الروحية. ولا يخفى ما لذلك من أضرار اجتماعية وخيمة، من قبيل اضطراب العلاقات بين الأفراد والجماعات، وما يخلّفه ذلك من عواقب ونتائج لا تنسجم مع الطبيعة الاجتماعية.

ومن هنا تظهر بجلاء فائدة وقيمة التواضع الذي أكّد عليه العقل والدين، باعتباره القاعدة الخصبة التي يجتمع الأفراد عليها، فإنّا لا نجد أحداً يكره

ص: 531


1- سورة الأعراف، الآية: 146.
2- سورة النحل، الآية: 22.

المتواضع بسبب تواضعه، وذلك لأن التواضع صفة إنسانية يحبها ويحترمها كل إنسان، مضافاً إلى أن المتواضع إنما يتنازل بتواضعه عن بعض حقوقه، ويرفع كَلَّهوثقله عن كاهل الآخرين، وذلك ما يرغب فيه الناس. وهو بعد هذا وذاك: الدواء الشافي لمرض الكبر، والعلاج الناجح لقلع الجذور والانحرافات الفاسدة التي تولدت من مرض التكبر؛ «ضادوا الكبر بالتواضع»(1)، لأن الإنسان المتواضع لديه روحية وقلب كبيران يحوي بهما الناس، وبقية الصفات التي تصدر من بعضهم. وبذلك يكون قريباً من اللّه ومن الناس، لأنه يتواضع لكل شيء، ولا يتنفَّر من أخيه الإنسان أبداً، ولا شك أنّ هذا الأمر يقرّب المتواضع من اللّه، لأن اللّه يُحبّ هذه الصفات الحسنة. ولذا فقد نسبت بعض الأحاديث التواضع إلى العلم والتكبر إلى الجهل: «التواضع رأس العقل والتكبر رأس الجهل»(2).

وقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «في ما أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى داود(عليه السلام): يا داود كما ان أقرب الناس من اللّه المتواضعون، كذلك أبعد الناس من اللّه المتكبرون»(3).

أعلى الدرجات

لا يخفى أن التواضع درجات، وليس على وتيرة واحدة، لأنه صفة كمال، والكمال ذو مراتب. فهناك من يتواضع في الملبس أو المأكل أو في المجلس... ولكن جوهر التواضع وأعلى مراتبه هو أن يذلّ الإنسان نفسه وكيانه أمام اللّه، فيشعر بذلّ الروح، وفقر الحال، ونقص مرتبة الوجود، فيتذلَّل قلباً للّه عزّ وجلّ.

ص: 532


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 820.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 124.
3- الكافي 2: 123.

ومعنى ذلك أن تعترف الروح بأنها في أشدّ الحاجة لكسب الكمال من اللّه، وأنها في أشدّ الذل والفقر، وبذلك تنهل من فيض اللّه عزّ وجلّ، فتتصف بالطهارةوالخير، فتشرق بذلك ويشع منها كل خير وحبّ للناس. ولذلك جاء في ما: «أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى(عليه السلام): أن يا موسى أتدري لم اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال: يا رب ولم ذاك؟ قال: فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليه: أن يا موسى، إني قلّبت عبادي ظهراً لبطن، فلم أجد فيهم أحداً أذلّ لي نفساً منك. يا موسى إنك إذا صليت وضعت خدَّك على التراب»(1).

نعم، وكلّما اتجه الإنسان نحو التواضع الحقيقي كبر في أعين الناس، وزاد شرفه، وحسن صيته. ولذا قيل: «تمام الشرف التواضع»(2). وأبرز شيئ في هذا المقام هي كنية أمير المؤمنين(عليه السلام) (أبو تراب)، فقد كان كثير العبادة والسجود للّه عزّ وجل، وكان يسجد على التراب الحارّ طاعةً للّه، ويمرِّغ وجهه الشريف بالتراب خضوعاً وتواضعاً له عزّ وجلّ، فأطلق عليه الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كنيته المفضلّة (أبو تراب)(3). وكذا باقي الأئمة الأطهار(عليهم السلام) فلقد كانوا يظهرون للّه عزّ وجلّ تواضعاً منقطع النظير في العبادة، وذل النفس، ومن شدة تواضع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه كان يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل(4).

المحبّة والوئام

اشارة

لقد قلنا من خلال الحديث الذي افتتحنا به المحاضرة: إن ثمرة التواضع هي

ص: 533


1- الكافي 2: 123 في رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام).
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 317.
3- انظر إعلام الورى: 1: 307، ومسند أحمد 4: 263.
4- انظر مكارم الأخلاق: 16.

الرفعة في الدنيا قبل الآخرة، والشرف فيها والفوز في الجنان، والقرب من اللّه في الدنيا وجواره في الختام... على أن هناك ثمرة أخرى لها فضل كبير، وعليها أجرعظيم، لأننا إذا لاحظنا كل تلك الثمرات السابقة وجدناها تعود بالفائدة على نفس المتواضع، من قبيل الرفعة وزيادة الشرف، وحب اللّه له، وفوزه بالمقام الاجتماعي المرموق، فضلاً عن فوزه بما ادّخره اللّه له في الآخرة.

أما الثمرة الأخرى فهي أن التواضع للناس في الكلام والجلوس والتعامل والمأكل والمركب... كل ذلك يخلق حالة من المحبّة والوئام والاطمئنان بينه وبين الناس، لأنهم سوف يشعرون بأن المتواضع لا يعرف في حياته إلّا السلم، ولا يظهر من منطقه وشكله وسلوكه إلّا الخير والحبّ لهم فيحاولون أن يقتدوا به، ويعتبروا منه، وكل واحد يحاول أن يجذبه إلى ساحته كي يستفيد من خيره، وحينئذٍ سيكون العنصر المشترك الذي تلتف حوله الناس دائماً، لا سيما إذا تعلق الأمر بقضاء حوائج المجتمع، فإن المتواضع تراه لا يردّ أحداً لشدة تواضعه، بل ويقوم على خدمتهم جهد إمكانه، ويخفض لهم جناحه، فيزرع حبّه في قلوبهم، ومودّته في أوساطهم، مصداقاً لما قاله أمير المتواضعين(عليه السلام): «بخفض الجناح تنتظم الأمور»(1). ولقوله كذلك: «ثمرة التواضع المحبة»(2). وهكذا يعيش أفراد المجتمع حالة الانفتاح على المتواضعين بغية الاكتساب والتعلّم منهم، والتأسي بهم، باعتبارهم أفراداً وعناصر يميل العقل والقلب إليهم. وكلما كثر الأفراد المتواضعون في المجتمع كانت عاقبته على خير، ولا يصدر منه إلّا الخير لعالم الإنسانية.

ص: 534


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 302.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 327.
مَع العَالِم والمُتعَلِم

والتواضع في مجال تحصيل العلم من أهم الأمور التي ركّز عليها الإسلام،لأنه النافذة الوحيدة للحصول على أكبر قدر ممكن من العلم والآداب والسلوك الحسن، لأن الإسلام لا يرضى بأن يعيش الإنسان حالة العلم بلا تقوى وموعظة وأدب بارع. وطريق ذلك هو التواضع، إذ هو القناة التي من خلالها يكون العالم مؤدَّبا تقياً، وواعظاً روحياً نزيهاً، لأن طالب العلم إذا اتّصف بالتواضع وجسّده في سلوكه، وأوجده في أعماق روحه فسوف يظل ينعت نفسه بالفقر العلمي والأدبي، فيظل ينهل من الأستاذ إلى أن يصل إلى كمال لائق، من حيث العلم والأدب والورع. اما إذا اعتقد الطالب أنه أفضل من الأستاذ، وأخذه العجب بنفسه، ومارس الكبر والأنفة والتعالي على الأستاذ، فهو حينئذٍ قد خلق حاجباً كبيراً، ومانعاً من تحصيل العلم، لأنّه يشعر ويعتقد بأنه أفضل وأحسن وأعلم، فيقوم رويداً رويداً، بترك حلقة الدرس، باعتقاده أنّه أخذ كفايته من العلم، وعندما يمارس الاحتكاك مع الناس، ويصطدم بفقر روحه، وقلّة معلوماته، وسوء سلوكه، حينذاك يشعر ويندم على كل لحظة لم يغتنمها في تحصيل العلم، وفوّتها بشعوره التكبري الخاطيء. وكذا الكلام عن الأستاذ والعالم، فكلّما كان متواضعاً لطلابه في إعطائهم الدرس تفاعلوا معه، والتفّوا حوله، واستفادوا، وتمكن من إيصال علمه وفكره لهم، لأن تواضعه يدعوه لذلك، وبالتالي يكون قد صنع جيلاً من العلماء الذين اقتدوا به أخلاقياً، فصاروا مثل أستاذهم متواضعين وعلماء. أما إذا عاش الأستاذ حالة الكبر والتكبر والاستعلاء، وبدل أن يُسمع طلابه كلمات العلم والأدب، يقوم بتسميعهم كلمات التحقير وعدم الفهم والوضاعة، فإن الخسارة لن ترجع إلّا عليه هو، لسقوطه من أعينهم، وانفضاضهم من حوله، مضافاً إلى أنه هو بنفسه لن يجد

ص: 535

الانسجام والطمأنينة مع جماعة يرى نفسه أعلى وأفضل وأشرف منهم، يحجبه عن الانفتاح عليهم حذره من أن يصلوا إلى مرتبته، ويرتقوا إلى درجته. وبذلكتجده يعيش الفقرين؛ الاجتماعي والروحي معاً.

أعظم الشرف

يروى أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعطى كلاً من أبي سفيان وعينية بن حصن وسهيل بن عمرو مائة من الإبل، فقالوا: يا نبي اللّه، تُعطي هؤلاء وتدع جُعيلاً (وكان من أصحاب الرسول المجاهدين والمساكين) وهو رجل من بني غطفان؟ فقال: «جعيل خير من طلاع الأرض مثل هؤلاء، ولكني أعطي هؤلاء أتألَّفهم، وأكِلُ جعيلاً إلى ما جعله اللّه عنده من التواضع»(1). وقال علي(عليه السلام): «ما تواضع إلّا رفيع»(2). فالذي يترفع عن الماديات وزخارف الدنيا ومباهجها، وموادّها الفانية، يكون متواضعاً حقيقياً، لأنه يطلب الحب الذي لا خدشة فيه، وهو حب اللّه عزّ وجلّ ويطلب النعيم الذي لا يزول، وهو الجنة. فالعاقل يدعوه عقله إلى التواضع، والتواضع يدعو إلى الترفع عن الماديات. ويطلب شرفاً وعزّاً آخر، أما الإنسان الذي يلهث وراء نعيم هذه الدنيا، فهذا من دون أدنى شك يمتاز بضعف في عقله، وضيق في أُفقه الفكري، واتساع مساحة الجهل فيه، ويعيش ظلام الروح، لذلك فهو يتصور أن الشرف والعزّ والرفعة في هذه الدنيا والتكالب على فنائها.

وكفى بالإنسان أن تكون نفسه بصيرة بأمره إذا تأمّل وتفكّر وتدبّر في أمره، فالعقل لديه القابلية على اختيار الطريق المستقيم أو المنحرف، ولكن عندما

ص: 536


1- ربيع الأبرار 2: 140.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 684.

يترك الإنسان عقله ويتحرك بوحي الشهوات والهوى، يقع في المهالك. ولذا قال أحدهم: ما رضيت عن نفسي طرفة عين ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أنيضعوني كاتّضاعي عند نفسي ما أحسنوا ذلك.

{بَلِ الْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}(1).

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، ولا ترفعني في الناس درجةً إلّا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تُحدث لي عزاً ظاهراً إلّا أحدثت لي ذلّةً باطنةً عند نفسي بقدرها»(2)، بحق محمد وآل محمد.

من هدي القرآن الحكيم

الشرف والرفعة بالتقوى

قال تعالى: {يَٰبَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَٰرِي سَوْءَٰتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}(3)

و قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(4)

وقال عزّ وجلّ: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(5)

لا للكبر

قال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِي ءَايَٰتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَٰنٍ أَتَىٰهُمْ إِن فِي

ص: 537


1- سورة القيامة، الآية: 14-15.
2- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
3- سورة الأعراف، الآية: 26.
4- سورة الحجرات، الآية: 13.
5- سورة التغابن، الآية: 16.

صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَٰلِغِيهِ}(1)وقال عزّ اسمه: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}(2).

وقال جلّ شأنه: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}(3).

حقيقة الدنيا

قال عزّ من قائل: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(4).

وقال جلّ ثناؤه: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا}(5).

وقال تعالى: {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

الشَرَف والرِّفعة بالتقوى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أحب العباد إلى اللّه الأتقياء...»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم، عباد اللّه، بتقوى اللّه التي هي الزاد وبها المعاذ...»(8).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «... أحب العباد إلى اللّه عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته...»(9).

ص: 538


1- سورة غافر، الآية: 56.
2- سورة النحل، الآية: 23.
3- سورة النحل، الآية: 29.
4- سورة آل عمران، الآية: 185.
5- سورة لقمان، الآية: 33.
6- سورة الحديد، الآية: 20.
7- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 5.
8- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 114 من خطبة له(عليه السلام) وفيها مواعظ للناس.
9- الكافي 2: 74.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) لعمرو بن سعيد الثقفي: «... أوصيك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد...»(1).

لا للكبر

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنّ في النار قصراً يجعل فيه المتكبرون ويطبق عليهم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إيّاك والكِبرَ، فإنه أعظمُ الذنوب وأَلأَمُ العيوب وهو حِليَةُ إبليس»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في قوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}(4): «أي: بالعظمة»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»(6).

حقيقة الدنيا

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن الدنيا كالحيّة لين مسها قاتل سمها...»(8).

وقال الباقر(عليه السلام): «... ما الدنيا وما عسى أن تكون الدنيا هل هي إلّا طعام

ص: 539


1- الكافي 2: 76.
2- المحجة البيضاء 6: 215.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 166.
4- سورة لقمان، الآية: 18.
5- تفسير القمي 2: 165.
6- الكافي 2: 310.
7- نهج الفصاحة: 163.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 246.

أكلته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن الدنيا منزل قلعة وليست بدار نجعة...»(2).

ص: 540


1- الكافي 2: 133.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 247.

فهرس المحتويات

الأخلاق المثالية

الإنسان الحقيقي... 5

من مصاديق الخلق العظيم... 8

التقوى قوام الأخلاق... 9

الشيعة والأخلاق المثالية... 12

من صفات الشيعة... 16

من آداب الشيعة... 20

الشيعة في يوم القيامة... 27

حب أهل البيت(عليهم السلام) والعمل... 30

التقوى والقانون... 33

العبادة والتقوى... 36

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 41

عفو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 41

تواضع النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 42

الأخلاق الإسلامية... 46

خلاصة الكلام... 47

نماذج أخلاقية... 49

الإمام الحسين(عليه السلام) وتعامله مع الشامي... 50

الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) ورجل من ولد عمر... 51

ص: 541

صور من الخلق المثالي... 53

العلماء الأبرار... 54

من هدي القرآن الحكيم... 58

التقوى قوام الأخلاق... 58

دوافع العبادة... 58

1- الخوف من النار... 58

2- الطمع في تحصيل الثواب... 59

3- حب اللّه عزّ وجلّ... 59

مصاديق للأخلاق المثالية... 60

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 60

من هدي السنّة المطهّرة... 61

التقوى قوام الأخلاق... 61

دوافع العبادة... 61

1- الخوف من النار... 61

2- الطمع في تحصيل الثواب... 62

3- حب اللّه عزّ وجلّ... 62

مصاديق للأخلاق السامية... 62

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 63

الارتباط باللّه وجهاد النفس

بين متاع الدنيا والآخرة... 65

تفسير آخر... 67

اللّه بشّر أهل العقل... 70

تحرير النفس من أسر الهوى... 79

بين الصمت المطلوب والصمت المبغوض... 81

ص: 542

القنوت بدعاء أبي حمزة... 83

القرآن الكريم والقنوت به... 83

موسوعتان عظيمتان... 84

بين اللذتين: المادية والمعنوية... 84

مع المؤلف الكبير: الشيخ البلاغي... 87

من أسباب قوة غاندي... 88

الإنسان والمعرفة... 89

الفكر والتفكر... 90

من عجائب صنع اللّه... 91

العقل والتعقل... 92

من هدى القرآن الحكيم... 94

الطريق إلى معرفة اللّه... 94

الإخلاص للّه تعالى... 94

هكذا عباد اللّه... 95

العدل والاعتدال... 95

الذكرى تفيد المتعقلين... 96

من هدى السنة المطهرة... 96

النفس من طرق معرفة اللّه... 96

الإخلاص للّه سبحانه... 97

التواضع يسّبب الرفعة... 98

العدل: ميزان اللّه... 99

التعقّل والتواصي به... 100

الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش

قانون الاكتفاء والبساطة... 101

ص: 543

العمل طريق الاكتفاء... 101

البساطة في العيش... 102

من سمات النجاح... 103

مقومات الاكتفاء... 104

خير أسوة... 104

وفي البيت العائلي... 107

سيرة الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)... 108

العمل الدءوب... 109

العمل في فترة الاستجمام... 110

المسلمون بين الأمس واليوم... 112

ابن سينا... 117

طعم الحياة... 121

الفرق بين الشخصيتين... 127

الحسينية العامرة... 128

الشكوى دائماًً... 129

استثمار الوقت... 129

من هدي القرآن الحكيم... 130

حقيقة الزهد... 130

الحث على العمل... 130

من هدي السنّة المطهّرة... 131

البساطة في العيش... 131

الزهد... 133

ذم الطمع... 133

العمل... 134

ص: 544

الأكثرية الشيعية في العراق

الشعور بالمسؤولية... 136

من مشاكل العراق... 137

هدف حكام العراق... 138

النصب التاريخي... 138

التعصب الشديد ضد الشيعة في العراق... 139

وحدة الأمة... 139

ضرورة وعي الأكثرية... 141

مرض الطائفية... 142

مداهمات وأشغال شاقة... 143

الأطماع الخارجية... 144

كيفية الخلاص من هذه المشاكل... 144

دور الرأي العام في الضغط على الظالم... 145

يجب أن تكون الحكومة بيد الشيعة... 146

إيجاد الديمقراطية في العراق... 147

من هدي القرآن الحكيم... 147

نتائج الإعراض عن الحق... 147

إيثار الحق والعمل به... 148

التعصب الأعمى... 148

الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامي... 149

من هدي السنّة المطهّرة... 149

إيثار الحق والعمل به... 149

من صفات الشيعة... 150

المؤمنون أخوة... 150

ص: 545

الاهتمام بأمور المسلمين... 151

الموعظة والإرشاد... 151

الأمة الواحدة

الأمة الواحدة... 152

الوحدة بين الادعاء والتطبيق... 153

فقدان الوعي... 154

الضنك في المعيشة... 155

الواقع الإسلامي... 156

نقاط الضعف... 156

ما هي البداية؟... 159

مسؤولية المسلمين... 162

المسلمون اليوم... 163

الاستعمار وراء التجزئة... 164

التخلف خطة استعمارية... 165

التصدي للمخططات الاستعمارية... 166

أ: العقل... 168

ب: العلم... 170

ج: التربية... 171

من هدي القرآن الحكيم... 172

الإسلام يرفض التفرقة... 172

مسؤولية المسلمين... 173

الإسلام يدعو للعلم والتعلم... 174

العمل بسيرة المعصومين(عليهم السلام)... 174

من هدي السنّة المطهّرة... 174

ص: 546

الإسلام يرفض التفرقة... 174

مسؤولية المسلمين... 175

السنة تدعو للعلم والتعلم... 176

العمل بسيرة المعصومين(عليهم السلام)... 177

الإنسان والمحبة الاجتماعية

بين المحبة والمودّة... 178

الناس يحبون الصالحين... 179

قصة الطبيب مع الفقراء... 180

حسن الخلق ضرورة... 181

الفضل ما شهدت به الأعداء... 182

الثبات على الخلق الحسن... 182

القول والعمل... 184

حقوق الناس... 186

المكر والخديعة... 187

من هدي القرآن الحكيم... 188

الذين يحبهم اللّه عزّ وجلّ... 188

هؤلاء لا يحبهم اللّه عزّ وجلّ... 189

من هدي السنّة المطهّرة... 190

موجبات المحبة... 190

أعمال يحبها اللّه عزّ وجلّ... 191

كيف نكسب حبّ اللّه سبحانه؟... 192

أي الناس أحب إلى اللّه سبحانه؟... 193

البعثة النبوية الشريفة والدين الإسلامي

البعثة المباركة... 194

ص: 547

أفضلية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 195

المؤمنون ونصرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 197

سبب شهرة نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 200

أولاً: الإسلام والقرآن الكريم والعترة... 201

روايات حول القرآن... 202

روايات حول العترة(عليهم السلام)... 202

سر النجاح... 203

حقيقة الإسلام... 204

ثانياً: الأحكام العادلة... 207

ثالثاً: الأمة الواحدة... 208

الوصي(عليه السلام) يصف البعثة... 208

الصديقة(عليها السلام) تصف البعثة... 209

من بركات البعثة... 211

التعامل الإنساني مع الكل... 211

أخلاقيات البعثة... 213

التأسي برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 216

العفو عن القاتل... 216

رابعاً: دولة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 218

مفتاح القوة والضعف... 222

سبب رقي الإسلام أيام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 225

التعامل بحسب الظاهر... 229

أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 230

من هدي القرآن الحكيم... 233

ص: 548

بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 233

البعثة النبوية ومكارم الأخلاق... 233

البعثة النبوية والمسؤولية... 234

بعثة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأمة الواحدة... 234

من هدي السنّة المطهّرة... 235

بعثة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 235

بعثة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومكارم الأخلاق... 236

المسؤولية وإقامة الدين... 236

حقيقة الإسلام... 237

التأسي بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 238

البلاد الإسلامية بين الحاجة والاستعمار

الحاجة أساس الفقر... 239

عليك بالسوق... 240

من استغنى أغناه اللّه... 241

كيف تغلغل الاستعمار في بلادنا؟... 241

أعوان الظلمة... 243

مخلفات الاستعمار... 245

الاستعمار الاقتصادي... 246

الحكومات الإسلامية أدوات الاستعمار... 247

قانون الإصلاح الزراعي... 248

كتاب الإصلاح الزراعي... 249

تبعية البلاد الإسلامية للاستعمار... 250

حوار حول الإصلاح الزراعي المزعوم... 251

ص: 549

الاختلاس وعدم الإخلاص... 255

كيف نعالج الوضع؟... 256

من برامج التنمية والاكتفاء الذاتي... 258

من هدي القرآن الحكيم... 259

الخسران في العبودية لغير اللّه تعالى... 259

الابتعاد عن الإسلام وعاقبته... 260

العبادة المطلوبة هي الإخلاص... 261

فضيلة العلم والمعرفة... 261

من هدي السنّة المطهّرة... 262

الإنسان وكرامته في الاستغناء... 262

العبودية فقط للّه عزّ وجلّ... 262

ما هو الإخلاص؟... 264

فضيلة العلم والمعرفة... 265

التصرفات العقلائية واللاعقلائية

وظيفة العقل... 267

العقل في القرآن... 270

العقل في الأحاديث الشريفة... 272

بشارة لأهل العقل... 273

العقل رأس الفضائل... 281

العقل والعقلاء... 285

الملائكة والإنسان... 286

من هم العقلاء؟... 287

قانون المعرفة وطرقها... 290

من آثار عدم التعقل... 291

ص: 550

الحيوانات ورسائلها... 294

كيفية إنماء العقل... 295

العقل وشبيهه... 296

الإنسان وعمل الخير... 297

رضا خان والسلطة... 298

إرادة اللّه فوق كل شيء... 300

طغيان المتوكل... 302

عبرة لذوي العقول... 303

التصرف غير العقلائي في العراق... 304

مجيء الحكومة البعثية... 305

الحكومات غير الشرعية... 307

من هدي القرآن الحكيم... 314

دور العقل... 314

مدح العقلاء بتصرفاتهم العقلائية... 314

ذم التصرفات غير العقلائية... 314

مدح التفكر والاعتبار... 315

ذم عدم التعقل... 316

من هدي السنّة المطهّرة... 316

دور العقل والتعقل... 316

مدح العقلاء بتصرفاتهم العقلائية... 316

ذم التصرفات غير العقلائية... 317

مدح التعقل والتفكر... 320

التكامل والشمولية في الشريعة الإسلامية

شمولية الشريعة الإسلامية... 322

ص: 551

حق الحاكمية في الشريعة الإسلامية... 325

الشريعة الإسلامية وسعادة الإنسان... 327

تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها... 329

الغدير وتمامية الشريعة الإسلامية... 333

الشريعة الإسلامية مكملة وناسخة للشرايع... 338

من آثار التكامل والشمول... 339

الشريعة لا تقبل التبعيض... 341

ما تركه المسلمون... 341

التوعد للمبعّضين... 344

ضمان لتطبيق الشريعة... 344

الشريعة الإسلامية وقانون العقوبات... 346

من شروط قانون العقوبات... 348

حدّ الارتداد... 348

أقسام المرتد... 350

متى تجرى الحدود؟... 351

الحد رحمة شرعية... 352

شروط إقامة الحد وإجرائه... 353

محارب المعصوم(عليه السلام)... 359

مع المرتدين من أصحاب الجمل... 359

مع الخوارج المرتدين... 360

استنتاج... 364

الحد الشرعي وحرية الإنسان... 364

بين الإسلام وسائر الأنظمة... 366

من هدي القرآن الحكيم... 367

ص: 552

شمولية الشريعة الإسلامية ودوامها... 367

تمامية الشريعة الإسلامية وكمالها... 368

حق الحاكمية في الشريعة الإسلامية... 368

الحريات المطلقة في الشريعة الإسلامية... 369

الثواب والعقاب ضمان لتطبيق الشريعة... 369

الشريعة الإسلامية وحدة لا تقبل التجزئة والتبعيض... 370

من هدي السنّة المطهّرة... 370

شمولية الشريعة الإسلامية ودوامها... 370

الحريات التي منحتها الشريعة الإسلامية... 375

الشريعة الإسلامية لا تقبل التجزئة والتبعيض... 375

أهمية الحد والقصاص في الشريعة... 378

التواصي والمواساة طريقا الإصلاح

التواصي وأهميته... 380

التواصي عبر الأحزاب الحرة... 383

تصوير الوقائع التاريخية... 384

معنى الآية الشريفة... 384

سبب النزول... 386

الانقلاب بعد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 388

أقسام الانقلاب... 390

المواساة... 391

المواساة سبيل الإصلاح... 393

المواسي ابن المواسي... 397

كيف كانت مواساة العباس(عليه السلام)... 399

أنصار الحسين(عليه السلام)... 402

ص: 553

ليلة العاشر... 402

يوم عاشوراء... 404

مع الغلام التركي... 405

عمرو بن قرطة الأنصاري... 406

جون مولى أبي ذر(رحمه اللّه)... 406

الصيداوي... 406

حنظلة الشامي... 407

سعيد بن عبد اللّه الحنفي... 407

مواساة النساء... 408

فما بالموت عار... 409

المواساة في المال... 409

الاكتفاء الذاتي والمواساة... 410

ابدأ بنفسك... 412

نموذج للاكتفاء الذاتي... 414

ثورة الهند... 415

الطالب للرزق... 416

من هدى القرآن الكريم... 418

الإسلام يحث على المواساة... 418

الإنفاق المالي... 419

ابدأ بتغيير نفسك... 419

الاكتفاء الذاتي... 420

من هدي السنّة المطهّرة... 420

المواساة... 420

المواساة المالية... 421

ص: 554

ابدأ بتغيير نفسك... 422

الاكتفاء الذاتي... 422

نشر العلوم الإسلامية... 423

الثبات على المبدأ

الصبر... 425

كمال الشخصية... 427

نوح(عليه السلام) وقومه... 427

الاستقامة... 429

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحمل الأذى... 430

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والثبات على المبدأ... 432

الصبر والثبات أقوى... 433

تشكيل الحكومة الإسلامية... 434

مفتاح النجاح... 437

من هدي القرآن الحكيم... 440

جزاء الصابرين... 440

الاستقامة طريق النجاح... 441

الصبر في العمل وتحمل الأذى... 441

الثبات على المبدأ... 442

من هدي السنّة المطهّرة... 442

جزاء الصابرين... 442

الاستقامة طريق النجاح... 443

الصبر في العلم وتحمل الأذى... 444

بالصبر ينال المطلوب... 445

ص: 555

الجدال بالتي هي أحسن

الموعظة الحسنة... 446

التقسيمات الأولية للمناقشة... 448

تبديل حالة الدفاع إلى الهجوم... 450

الجدال الحسن والمذموم... 451

الجدال في الكتاب والسنة... 452

من معاني الجدال... 456

من مصاديق الجدال... 456

جدال المعاند... 456

حوار مع ملحد... 457

المسلمون الأوائل والأسوة الحسنة... 458

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدوة... 459

عبرة لمن يعتبر... 460

مناقشة مع شيوعي... 461

اليهودي وعبقرية أمير المؤمنين(عليه السلام)... 464

هل تعتقد بزواج المتعة؟... 465

مع ملك الإسكندرية... 466

قصة من الهند... 467

نبي اللّه إبراهيم(عليه السلام) ونمرود... 468

مقومات النصر... 469

من هدي القرآن الحكيم... 471

القرآن أسوة في الجدال الأحسن... 471

التسلح بالحكمة والمعرفة... 471

الاستعانة بالعقل... 472

ص: 556

الجدال بالحسنى... 472

الإصلاح هدف الجدال... 472

من هدي السنّة المطهّرة... 473

القرآن أسوة في الحوار... 473

التسلح بالمعرفة... 474

الاستعانة بالعقل... 475

الجدال بالحسنى... 476

الإصلاح هو الهدف... 477

الجهل المركب وطريق الخلاص منه

الأخسرون أعمالاً... 479

من مصاديق {الأخسرين أعمالاً}... 479

الخوارج هم الأخسرون... 480

خسارة المسلمين... 483

الجهل سبب الخسارة... 484

مقام الفتوى... 485

من علائم التأخر... 486

لماذا تأخر المسلمون؟... 487

التقدم والقضاء على الجهل... 487

الإسلام دين السلام... 489

الشهيد الثاني(رحمه اللّه) وطريق النجاح... 489

التبشير المسيحي... 492

العلم والعمل... 495

المجالس والتعازي... 497

المجالس وقضايا الأمة... 500

ص: 557

من هدى القرآن الكريم... 502

موجبات الضلالة... 502

من عوامل التقدم... 502

أ: الاستفادة من التجارب... 502

ب: المشاورة... 503

ج: العفو والسلم... 503

الإيمان طريق النجاة... 504

من هدي السنّة المطهّرة... 504

موجبات الضلالة... 504

من عوامل التقدم... 505

أ: الاستفادة من التجارب... 505

ب: المشاورة... 506

ج: العفو والسلم... 506

طرق النجاة... 507

التقوى والأخلاق

مقدّمة... 508

التَّقوى... 509

التقوى والقانون... 512

العبادة والتقوى... 514

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 515

الأخْلاقِ الإسلاميّة... 517

نماذج أخلاقية... 519

الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) والعمري... 520

صورةٌ مِن الخُلق المِثالي... 521

ص: 558

من هدي القرآن الحكيم... 523

التقوى... 523

دوافع العبادة... 524

1- الخوف... 524

2- الطمع في تحصيل الثواب... 524

3- حُب اللّه عزّ وجلّ... 524

الأخلاق الإسلامية... 524

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 525

من هدي السنّة المطهّرة... 525

التقوى... 525

دوافع العبادة... 526

1- الخوف... 526

2- الطمع في تحصيل الثواب... 526

3- حُب اللّه عزّ وجلّ... 527

الأخلاق الإسلاميّة... 527

من أخلاق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 527

التواضع طريق النجاح

التواضع رفعة... 529

توهّم باطل... 530

أعلى الدرجات... 532

المحبّة والوئام... 533

مَع العَالِم والمُتعَلِم... 535

أعظم الشرف... 536

من هدي القرآن الحكيم... 537

ص: 559

الشرف والرفعة بالتقوى... 537

لا للكبر... 537

حقيقة الدنيا... 538

من هدي السنّة المطهّرة... 538

الشَرَف والرِّفعة بالتقوى... 538

لا للكبر... 539

حقيقة الدنيا... 539

فهرس المحتويات... 541

ص: 560

المجلد 3

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 3/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

-----------------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه الله)

الناشر: دار العلم

المطبعة: إحسان

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

كمية: 500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

-----------------

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الثالث): 9-204541-964-978

-----------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

الحجاب الدرع الواقي

الحجاب في القرآن

وردت في القرآن الكريم آيات عديدة حول الحجاب، منها قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَٰعًا فَسَْٔلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٖ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}(1).

ومنها قوله سبحانه: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ}(2). والخمار: هو الغطاء الذي يوضع على الرأس فيغطي الأذن والصدر والرقبة(3).

ومنها قوله عزّ وجلّ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَٰهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ}(4).

لماذا الحجاب؟

اشارة

ولكن: لماذا الحجاب؟ هكذا يتساءل الكثير من الشبان والشابات... أليس الحجاب تقييداً لحرية المرأة؟ وأساساً ما هي العوامل التي جعلت الإسلام يشرّع الحجاب؟

ص: 5


1- سورة الأحزاب، الآية: 53.
2- سورة النور، الآية: 31.
3- الخمر بضمتين: جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها وينسدل على صدرها، والمراد بالجيوب: الصدور، والمعنى: وليلقين بأطراف مقانعهن على صدورهن ليسترنها بها. وفي (مجمع البحرين) مادة (خمر): أي مقانعهن، جمع خمار وهي المقنعة.
4- سورة الأحزاب، الآية: 33.

والجواب يتلخص في حفظ الإنسان والمجتمع عن الرذيلة والفساد، والحفاظعلى كرامة المرأة وعفتها وشرفها، مضافاً إلى أمور أخرى، نشير إلى بعضها:

أولاً: بقاء المحبة الزوجية

ينوّه (علم النفس) أن المتزوجة المحجبة تستقطب حب الزوج واهتمامه اكثر من غيرها، لماذا؟

ذلك لأن (الإنسان حريص على ما منع) فالمرأة المحجبة - عادة - أقرب إلى قلب الزوج من المرأة المتبرجة... إذ المرأة بلا عباءة التي يراها الرجل من الرأس إلى القدم يومياً عشرات المرات... تفقد إغراءها الخاص، ولا يراها زوجها أنها مختصة به. عكس المرأة المحجبة التي تظل مجهولة، ومثيرة... بالنسبة إلى الزوج، ومصونة في قبال الآخرين.

وهكذا المرأة الريفية المحجبة ببساطتها تكون أقرب إلى قلب زوجها من المرأة العادية غير المحجبة، إن المرأة في الريف تتعاون مع زوجها... تذهب في الصباح إلى الحقل لتزرع... وتطحن وتخبز... وتغسل... وتقوم بسائر المهام الملقاة على عاتقها بالمحبة والعطوفة وهي بحجابها ومن دون أن تختلط بالأجانب... وعندما تعود في الليل إلى الكوخ... إذا بالزوج ينظر إليها كملاك أو حورية، ويبدي حبه تجاهها... لماذا؟ لأنه بقي في هذه المرأة الإغراء والاختصاص.

وقد ورد أنه من المكروهات في الإسلام: ذهاب الزوجين إلى الفراش عاريين(1)... إذ في هذه الحالة قد لا تبقى في جسد الزوجة مناطق إغراء مجهولة

ص: 6


1- راجع موسوعة الفقه 62: 121- 122، كتاب النكاح في مكروهات المقاربة وفيه: ويكره الجماع وهو عريان... وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)قال: «إذا تجامع الرجل والمرأة فلا يتعريان» الحديث. وسائل الشيعة 20: 120.

نهائيا.نعم إن الرجل يشعر بأن الزوجة المحجبة تخصه دون سائر الرجال، عكس المرأة غير المحجبة فإنها لاتختص بزوجها بل يراها الجميع... .

وهذا مما يؤثر في تماسك الأسرة وعدم تلاشيها، ولهذا السبب كان الطلاق قليلاً في المجتمعات الإسلامية، على عكس ما نراه اليوم من كثرته، فكان آباؤنا يتزوجون ويعيشون سنين طويلة دون أن تجري على شفاههم كلمة (الطلاق)... فإنهم كانوا يجدون في زوجاتهم - اللاتي كن يرتدين الحجاب - الإغراء والجاذبية والحنان.

ثانياً: الحفاظ على الحياة الزوجية

عندما تكون المرأة محجبة، تستمر الحياة الزوجية... إذ في هذه الحالة لا يرى الزوج غير زوجته عادة، ولذلك فهو قانع بها، ولا ترى الزوجة غير زوجها ولذلك فهي قانعة به.

لكن: عندما تكون النساء سافرات، وعندما يكون هناك اختلاط، فمن الطبيعي أن يرى الزوج نساءً أجمل من زوجته... وأن ترى الزوجة رجالا أجمل من زوجها... وهذا ما يؤدي كثيراً إلى تردّي العلاقات الزوجية... وفي النهاية: إلى الطلاق!

مثلاً: في أميركا وحدها يوجد 7 ملايين طلب طلاق، كما جاء في بعض الصحف.

وفي الاتحاد السوفيتي يقول تقرير نشرته إحدى الصحف الرسمية(1):

إن حالة واحدة من كل تسع حالات زواج تنتهي بالطلاق في الاتحاد السوفيتي!

لماذا تصل نسبة الطلاق في هذه البلدان هذا الحد؟

ص: 7


1- صحيفة البراقدا. هذه الإحصائية قديمة نوعاً ما، أما الجديدة منها فانه في سنة (2011م) نسبة الطلاق إلى الزواج هي 51% وهكذا الحال في باقي البلدان والدول العربية والإسلامية أيضاً بشكل ملحوظ.

ببساطة: لأن الرجل رأى امرأة أجمل من زوجته في السينما، أو الجامعة، أو الشارع، أو في أي مكان آخر، فعاد إلى البيت ولم يكتف بزوجته... فأثر على سلوكه وسلوكها... فطلق زوجته لكي يتزوج غيرها.

ثالثاً: توقي الانحرافات الجنسية

كم من الانحرافات والاتصالات الجنسية غير المشروعة تحدث في المجتمع في الوقت الحاضر!

ألا يلعب السفور والتبرج دورا أساسياً في ذلك؟

ألا تسيل المرأة المتبرجة لعاب الرجال لكي يركضوا خلفها ويحاولوا الحصول منها على المتع المحرمة؟

وأليس الحجاب هو الأفضل لتوقي هذه الانحرافات؟

وهل من الصحيح أن يرمي الصائغ ذهبه ومجوهراته في الطريق؟ ألا يعني ذلك تعرضها للسرقة من اللصوص؟

وكذلك المرأة المتبرجة كثيراً ما تكون عرضة ل(سراق الأعراض).

ولنلقي هنا نظرة سريعة على واقع المجتمعات الغربية:

يقول أحد القضاة في أميركا(1): إن 45% من فتيات المدارس المختلطة يدنسن أعراضهن قبل خروجهن منها، وترتفع هذه النسبة كثيراً في مراحل التعليم التالية.

كما دلت الإحصاءات التي أجريت على حقائب طالبات المدارس في بريطانيا: أن 80% منهن يحملن معهن الأقراص المانعة من الحمل، وهذا يكشف عن إنهن مهيئات نفسياً لممارسة الدعارة والفجور في أول لحظة، مهيئات للاستجابة لأول طلب، وإنهن يقدمن على حمل هذه الأقراص هروباً من

ص: 8


1- هو القاضي (لندسي).

التبعات الثقيلة(1).

وأخيراً فإن للتبرج والسفور دوراً كبيرا في حوادث الاغتصاب والقتل، وما أشبه ذلك(2).

فقد نشرت بعض الصحف الغربية(3): أن تقارير البوليس الأميركي تشير إلى ارتفاع نسبة جرائم الاغتصاب عاماً بعد عام، ففي واشنطن فقط تقع جريمة اغتصاب كل (15) دقيقة.

والواقع: أن مظاهر الميوعة التي تنتشر في أميركا وغيرها من بلاد الغرب ذات أثر بالغ في ازدياد حالات الاغتصاب... وفي كثير من الأحيان تحدث حالات قتل بسبب امتناع الفتاة من تسليم نفسها أو ما أشبه(4).

ص: 9


1- هذا بالإضافة إلى ما يجري من الفضائح في النوادي الليلية ونوادي العراة، راجع للتفصيل كتاب (تجارة النساء في أوروبا) تأليف كريس دي ستووب.
2- كانتشار بعض الأمراض الخطيرة القاتلة من أمثال الإيدز... فقد نقلت (المجلة) في ملحق عددها 905 أن: 8500 شخص جديد يصابون كل يوم بالإيدز، بينهم ألف طفل تحت سن 15 عاماً، وأكثر من 8 ملايين طفل فقدوا أمهاتهم بسبب الإصابة بالإيدز، وحوالي 8 ملايين شخص أصيبوا منذ بداية انتشار المرض وتوفي 6 ملايين آخرين.
3- صحيفة الغارديان البريطانية.
4- نقلت مجلة (النبأ) الصادرة عن المستقبل للثقافة والإعلام، بيروت في عددها 17-18 رجب وشعبان 1418ه ص37 تحت عنوان (المرأة البريطانية إذا حكت): في استفتاء شمل 500 امرأة بريطانية تبيّن أن نصف البريطانيات اعترفن بعلاقات مع الرجال خارج حياتهن الزوجية، وغالبيتهن كشفن أنهن غير نادمات على ذلك!، الاستفتاء الذي أعلن عنه في حفلة توزيع جوائز (امرأة العالم) في لندن شمل نساء يمارسن السياسة والصحافة والرياضة والتجارة والإدارة والطب والمحاماة والمقاولة والجمعيات الخيرية، وكشف الاستفتاء أن 42% اعترفن بالزنا وأعمارهن بين 51 و64 سنة، و39% مطلقات، و60% لديهن أولاد، الثلثان منهن اعترفن بأنهن لسن أمهات جيدات لأسباب عدة منها: غياب الوقت الكافي للجلوس مع العائلة، والأنانية، والتعب في العمل الذي ينعكس سلباً على البيت، وفقدان الوقت لبحث قضايا مهمة مع الأزواج.

أمثلة من الواقع

اشارة

وهنا لا بد أن نذكر بعض الأمثلة من الواقع عن الحجاب والتبرج... إكمالاً للفائدة وإتماماً للغرض.

نظرة السوء

1- جاء في التفاسير: إن شاباً من الأنصار استقبل في طريقه امرأة حسناء متسامحة في حجابها، مظهرة محاسنها، فاستهوت فؤاده... فاتبعها النظر ومشى خلفها بصورة لاشعورية... فكلما سلكت طريقاً سلكه، حتى دخلت في زقاق وهو خلفها، فاعترضت وجهه زجاجة أو ما شابه، مثبتة في الحائط، فشقت وجهه وهو لا يشعر، فسالت الدماء على صدره، ولم يشعر بما أصابه إلّا بعد أن توارت المرأة في بيتها... فجاء إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وشكا له أمر الفتاة، وحكى القصة، فنزلت قوله تعالى:

{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَائِهِنَّ أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَٰنِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَٰنِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَٰتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُنَّ أَوِ التَّٰبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَٰتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1)(2).

أحبلني ميكائيل!!

2- حدث مرة أن فتاة حملت، فظن أهلها أن سبب ذلك هو تكوّن غازات أو ما

ص: 10


1- سورة النور: 30-31.
2- الكافي 5: 521، تفسير الصافي 3: 429.

أشبه في بطنها، فذهبوا بها إلى الطبيب ليكشف عليها، وبعد الفحص قال الطبيب: إن الفتاة حامل!!

ففوجئ الأهل بذلك، كيف حملت وهي لم تتزوج بعد؟!! وعندما طرحوا عليها هذا السؤال...

أجابت الفتاة: أحبلني ملك اللّه ميكائيل!!

وعندما واجهت استنكار العائلة، قالت في إصرار: هل ذلك أمر عجيب، ألم يحبل جبرائيل مريم ابنة عمران؟؟

وبعد الفحص والبحث تبين أن صاحب دكان في الحي نفسه هو الذي مارس معها الجنس، بعد أن أعجب بجمالها السافر، وبعد أن أغراها، وذلك لعدم حجابها بشكل جيد.

قال الشاعر:

نظرة فابتسامة فسلام *** فكلام فموعد فلقاء

من آثار عدم الحجاب

3- في إحدى البلاد كانت تعيش امرأة وكان لها زوج، ولها منه أربعة أولاد وكانا يعيشان بانسجام كامل، رغم أن الزوج كان يكبر زوجته بسنوات عديدة. وكان على قرب بيتهما كاسب خبيث... وكان يرى جمال هذه المرأة التي كانت شبه سافرة ولم تحفظ حجابها بشكل جيد، فطمع فيها... فأخذ يغريها ويقول لها: أنت فتاة جميلة وصغيرة فكيف ترضين بالعيش مع هذا الرجل الكبير السن؟

وما زال بها كذلك... حتى غّيرت الزوجة سلوكها مع زوجها واضطر الزوج تحت ضغط زوجته المخدوعة أن يطلقها حتى تتزوج من ذلك الشاب الخبيث!... وهكذا هدم السفور بيت الزوجية وفرّق بين الزوجين وضيّع الأطفال.

ص: 11

برصيصا العابد

4- كان عابد في بني إسرائيل اسمه برصيصا، ومن شدة عبادته للّه أصبح مستجاب الدعوة.

وذات يوم جاءه إخوان أربعة كانت لديهم أخت خرساء جميلة، حتى يدعو اللّه لكي يحل عقدة لسانها. بيد أن العابد كان مشغولا بالتعبد داخل الصومعة، فقد ترك الإخوان الأربعة أختهم الخرساء عند الباب لكي يدعو لها العابد.

وفي الصباح فتح العابد الباب ليفاجأ بهذه الفتاة الجميلة الرائعة غير المحجبة، فسحره جمالها، وبيت في نفسه أمراً، بعد طرح عنيف بين شهواته وعقله.

فأخذ الفتاة إلى الداخل وزنى بها، إلّا أنه خاف من الفضيحة، فوسوت له نفسه لكي يقتلها، وفعلاً قتلها ودفنها!

وعندما جاء الإخوان الأربعة لأخذ أختهم لم يجدوها فسألوا عنها فأنكر العابد علمه بها.

فأخذ الإخوان الأربعة بالبحث عن أختهم حتى عثروا في نهاية المطاف على بقعة من الأرض مبعثرة فحفروها وإذا بهم يجدون في داخلها جثة أختهم، وأخذوا العابد إلى البلد فاعترف بجريمته البشعة، وعندما التف حبل المشنقة حول عنقه، تمثل له الشيطان قائلا: إنني أنا الذي أوصلتك إلى هذه الحالة وإنني أستطيع أن أنجيك ولكن بشرط!

فقال العابد في لهفة: ما هو الشرط؟

أجاب الشيطان: أن تسجد لي.

فقال العابد: لا أستطيع السجود وأنا بهذه الحالة.

فقال الشيطان: اسجد لي بعينك.

ص: 12

وفعلاً: أومأ العابد بعينيه كرمز للسجود للشيطان

وإذا بالحبل يلتف حول عنقه وينتقل إلى نار جهنم: زانياً قاتلاً كافراً!(1).

إن في هذه القصص التي ذكرناها - وهي قليل من كثير - دلائل واضحة على العواقب الوخيمة التي يؤدي إليها السفور والتبرج. فهل هناك من يعتبر؟!!

خاتمة

اشارة

وهناك أمور يلزم التذكير بها:

المرأة وطلب العلم

1- إن الإسلام لا يمنع من العلم ولا من تعلم المرأة(2)، ولا يمنع من عمل المرأة أعمالاً تناسب شرفها وعفافها، وإنما الذي يمنع عنه الإسلام هو الاختلاط والسفور وحضور الفتيان والفتيات المحلات المريبة.

الزواج المبكر

2- إن الإسلام يحرض على الزواج المبكر، فالفتاة ذات العشر سنوات الرشيدة يستحب تزويجها، قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من سعادة الرجل أن لا تحيض ابنته في بيته»(3).

كما أن الولد إذا بلغ (وبلوغه غالباً بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة) يستحب زواجه.

ومن المستحب الأكيد: تقليل المهر وتسهيل رسوم الزواج، فقد قال رسول

ص: 13


1- تفسير مجمع البيان 9: 438.
2- بل يؤكد على ذلك ويعتبره فريضة، كما قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» كنز الفوائد 2: 107.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 472.

اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أفضل نساء أمتي... أقلهن مهراً»(1).

وفي الحديث عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «نزل جبرئيل على النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن الأبكار من النساء بمنزلة الثمر على الشجر، فإذا أينع الثمر فلا دواء له إلّا اجتناؤه، وإلّا أفسدته الشمس وغيرته الريح، وإن الأبكار إذا أدركن ما تدرك النساء فلا دواء لهن إلّا البعول، وإلّا لم يؤمن عليهن الفتنة. فصعد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) المنبر فخطب الناس ثم أعلمهم ما أمرهم اللّه به.

فقالوا ممن يا رسول اللّه؟ فقال: من الأكفاء.

فقالوا: ومن الأكفاء؟ فقال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض، ثم لم ينزل حتى زوَّج ضباعة بنت زبير بن عبد المطلب لمقداد بن الأسود، ثم قال: أيها الناس إنما زوجت ابنة عمي المقداد ليتضع النكاح»(2).

المرأة كاملة لا نقص فيها

3- ما يظهر من بعض الفوارق الجزئية بين الرجل والمرأة في الخلقة والإحساسات لا يكون نقصاً في أحدهما.

بل إن مثل المرأة والرجل مثل السيارة الصغيرة المعدة لحمل المسافرين، والسيارة الكبيرة المعدة لحمل الحديد والأحجار - إن صح التعبير - فقد جُعلت كل واحدة منهما لشأن، فلا نقص في أحدهما، وإنما اختلافهما هو لمصلحة.

فإن المرأة خُلقت عاطفية أكثر من الرجل لدورها في تربية الأطفال، والرجل خُلق عقلانياً أكثر، وذلك لاحتياج الاجتماع إلى كلا الأمرين، فجعل التساوي

ص: 14


1- الكافي 5: 324.
2- عيون أخبار الرضا 1: 289.

المطلق بينهما خلاف تركيب خلقهما. فلو ألقي عمل الرجل على المرأة، أو عمل المرأة على الرجل، كان ذلك كما إذا حملت السيارة الصغيرة الحديد والحجارة، أو حملت السيارة الكبيرة الركاب، ففي الأول عطب السيارة، وفي الثاني عطب المسافرين.

مشروع الزواج

4- ينبغي أن يكون في كل بلد (صندوق الزواج) ليعين على تزويج العزاب والعازبات، ومساعدتهم في تكوين عش الزوجية، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(1).

ونرى أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يهتم لتزويج من لم يكن متزوجاً، وكذلك الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وسائر الأئمة الطاهرين(عليهم السلام). فقد روي عن الصادق(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) زوّج المقداد بن الأسود الكندي ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب، وإنما زوجه لتتضع المناكح، وليتأسوا برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وليعلموا أن أكرمهم عند اللّه أتقاهم»(2).

كما أمر(صلی الله عليه وآله وسلم) بتزويج جويبر في قصة مفصلة، حيث ورد عن أبي حمزة الثمالي قال: كنت عند أبي جعفر(عليه السلام) إذ استأذن عليه رجل فأذن له فدخل عليه فسلّم، فرحب به أبو جعفر(عليه السلام) وأدناه وساءله.

فقال الرجل: جعلت فداك إني خطبت إلى مولاك فلان بن أبي رافع ابنته فلانة فردني ورغب عني وازدرأني لدمامتي وحاجتي وغربتي، وقد دخلني من ذلكغضاضة هجمة غض لها قلبي تمنيت عندها الموت.

ص: 15


1- سورة المائدة، الآية: 2.
2- تهذيب الأحكام 7: 395.

فقال أبو جعفر(عليه السلام): «اذهب فأنت رسولي إليه، وقل له: يقول لك محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام): زوّج منجح ابن رباح مولاي ابنتك فلانة ولا ترده».

قال أبو حمزة: فوثب الرجل فرحاً مسرعاً برسالة أبي جعفر(عليه السلام)، فلما أن توارى الرجل قال أبو جعفر(عليه السلام): «إن رجلاً كان من أهل اليمامة يقال له: جويبر أتى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) منتجعاً للإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً عارياً، وكان من قباح السودان، فضمه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لحال غربته وعراه، وكان يجري عليه طعامه صاعاً من تمر بالصاع الأول، وكساه شملتين، وأمره أن يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل، فمكث بذلك ما شاء اللّه حتى كثر الغرباء ممن يدخل في الإسلام من أهل الحاجة بالمدينة وضاق بهم المسجد، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم): أن طهر مسجدك، وأخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل، ومر بسد أبواب من كان له في مسجدك باب إلّا باب علي(عليه السلام) ومسكن فاطمة(عليها السلام)، ولايمرن فيه جنب، ولا يرقد فيه غريب.

قال: فأمر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بسد أبوابهم إلّا باب علي(عليه السلام) وأقر مسكن فاطمة(عليها السلام) على حاله. قال: ثم إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أمر أن يتخذ للمسلمين سقيفة، فعملت لهم وهي الصُفة، ثم أمر الغرباء والمساكين أن يظلوا فيها نهارهم وليلهم، فنزلوها واجتمعوا فيها، فكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يتعاهدهم بالبر والتمر والشعير والزبيب إذا كان عنده، وكان المسلمون يتعاهدونهم ويرقون عليهم لرقة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ويصرفون صدقاتهم إليهم.

فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة منه له ورقّة عليه، فقال: يا جويبر لو تزوجت امرأة فعففت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك.

فقال له جويبر: يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي من يرغب في؟ فو اللّه ما من

ص: 16

حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأية امرأة ترغب في؟

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا جويبر إن اللّه قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرّف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم، وإن آدم(عليه السلام) خلقه اللّه من طين، وإن أحب الناس إلى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلّا لمن كان أتقى للّه منك وأطوع، ثم قال له: انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد، فإنه من أشرف بني بياضة حسباً فيهم، فقل له: إني رسولُ رسولِ اللّه إليك وهو يقول لك: زوّج جويبر ابنتك الذلفاء.

قال: فانطلق جويبر برسالة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده، فاستأذن، فأعلم، فأذن له فدخل وسلّم عليه، ثم قال: يا زياد بن لبيد: إني رسولُ رسولِ اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إليك في حاجة لي فأبوح بها أم أسرها إليك؟

فقال له زياد: بل بح بها فإن ذلك شرف لي وفخر.

فقال له جويبر: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقال له زياد: أرسول اللّه أرسلك إليّ بهذا؟

فقال له: نعم ما كنت لأكذب على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)؟

فقال له زياد: إنا لا نزوج فتياتنا إلّا أكفاءنا من الأنصار، فانصرف يا جويبر حتى ألقى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فاخبره بعذري.

فانصرف جويبر وهو يقول: واللّه ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم).

ص: 17

فسمعت مقالته الذلفاء بنت زياد وهي في خدرها، فأرسلت إلى أبيها: أدخل إلي، فدخل إليها، فقالت له: ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبراً؟

فقال لها: ذكر لي أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أرسله، وقال: يقول لك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): زوج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقالت له: واللّه ما كان جويبر ليكذب على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بحضرته فابعث الآن رسولاً يرد عليك جويبراً.

فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً، فقال له زياد: يا جويبر مرحباً بك، اطمئن حتى أعود إليك، ثم انطلق زياد إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: بأبي أنت وأمي إن جويبراً أتاني برسالتك وقال: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الذلفاء، فلم ألن له في القول، ورأيت لقاءك، ونحن لا نزوج إلّا أكفاءنا من الأنصار.

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا زياد جويبر مؤمن، والمؤمن كفو للمؤمنة، والمسلم كفو للمسلمة، فزوجه يا زياد ولا ترغب عنه. قال: فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته، فقال لها ما سمعه من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

فقالت له: إنك إن عصيت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كفرت، فزوج جويبراً.

فخرج زياد فأخذ بيد جويبر، ثم أخرجه إلى قومه، فزوجه على سنة اللّه وسنة رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وضمن صداقه. قال: فجهزها زياد وهيئوها ثم أرسلوا إلى جويبر فقالوا له: ألك منزل فنسوقها إليك؟

فقال: واللّه مالي من منزل. قال: فهيؤوها وهيؤوا لها منزلاً وهيؤوا فيه فراشاً ومتاعاً وكَسَوْا جويبراً ثوبين، وأدخلت الذلفاء في بيتها وأدخل جويبر عليهامعتماً، فلما رآها نظر إلى بيت ومتاع وريح طيبة قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتى طلع الفجر، فلما سمع النداء خرج وخرجت زوجته

ص: 18

إلى الصلاة فتوضأت وصلت الصبح، فسُئلت: هل مسّكِ؟

فقالت: مازال تالياً للقرآن وراكعاً وساجداً حتى سمع النداء فخرج.

فلما كانت الليلة الثانية فعل مثل ذلك، وأخفوا ذلك من زياد، فلما كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فاُخبر بذلك أبوها، فانطلق إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أمرتني بتزويج جويبر، ولا واللّه ما كان من مناكحنا، ولكن طاعتك أوجبت عليّ تزويجه.

فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): فما الذي أنكرتم منه؟

قال: إنا هيأنا له بيتاً ومتاعاً، وأدخلت ابنتي البيت وأدخل معها معتماً، فما كلمها ولا نظر إليها ولا دنا منها، بل قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتى سمع النداء فخرج، ثم فعل مثل ذلك في الليلة الثانية ومثل ذلك في الثالثة ولم يدن منها ولم يكلمها إلى أن جئتك، وما نراه يريد النساء، فانظر في أمرنا؟ فانصرف زياد وبعث رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى جويبر فقال له: أما تقرب النساء؟

فقال له جويبر: أو ما أنا بفحل؟ بلى يا رسول اللّه إني لشبق نهم إلى النساء.

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): قد خُبرت بخلاف ما وصفت به نفسك، قد ذكر لي أنهم هيؤوا لك بيتاً وفراشاً ومتاعاً وأدخلت عليك فتاة حسناء عطرة، وأتيت معتماً فلم تنظر إليها ولم تكلمها ولم تدن منها، فما دهاك إذن؟

فقال له جويبر: يا رسول اللّه دخلت بيتاً واسعاً، ورأيت فراشاً ومتاعاً وفتاة حسناء عطرة، وذكرت حالي التي كنت عليها، وغربتي وحاجتي وضيعتيوكسوتى مع الغرباء والمساكين، فأحببت إذ أولاني اللّه ذلك أن أشكره على ما أعطاني، وأتقرب إليه بحقيقة الشكر، فنهضت إلى جانب البيت فلم أزل في صلاتي تالياً للقرآن راكعاً وساجداً أشكر اللّه حتى سمعت النداء فخرجت، فلما

ص: 19

أصبحت رأيت أن أصوم ذلك اليوم، ففعلت ذلك ثلاثة أيام ولياليها، ورأيت ذلك في جنب ما أعطاني اللّه يسيراً، ولكني سأرضيها وأرضيهم الليلة إن شاء اللّه.

فأرسل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى زياد فأتاه وأعلمه ما قال جويبر فطابت أنفسهم. قال: وفى لهم جويبر بما قال، ثم إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) خرج في غزوة له ومعه جويبر فاستشهد رحمه اللّه تعالى، فما كان في الأنصار أيِّم أنفق(1) منها بعد جويبر(2)».

وهكذا كان أمير المؤمنين علي(عليه السلام) فقد زوّج من بيت المال الشاب الأعزب الذي استمنى(3).

وفي الحديث عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى أبي(عليه السلام)، فقال له: هل لك من زوجة؟ فقال: لا.

فقال إني ما أحب أن لي الدنيا وما فيها، وإني بت ليلة وليست لي زوجة.

ثم قال(عليه السلام): الركعتان يصليهما رجل متزوج أفضل من رجل أعزب يقوم ليله ويصوم نهاره، ثم أعطاه أبي سبعة دنانير، قال له: تزوج بهذه. ثم قال أبي(عليه السلام): قالرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): اتخذوا الأهل فإنه أرزق لكم»(4).

الزواج ومواصلة الدراسة

5- يلزم إلغاء العادة الغربية القاضية بعدم زواج الطلاب والطالبات إلى حين

ص: 20


1- الأيِّم: الحرة، والذي لا زوج له، وأَنفق: من النَّفَاقْ وهو ضد الكساد، أي كان الناس يرغبون في تزويجها ويبدون الأموال العظيمة لمهرها، وليس من الإنفاق كما توهم.
2- الكافي 5: 339.
3- فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن أمير المؤمنين أتي برجل عبث بذكره فضرب يده حتى احمرت ثم زوجه من بيت المال» الكافي 7: 265.
4- تهذيب الأحكام 7: 239.

التخرج، وكذلك القاضية بعدم زواج الجندي إلى حين إتمامه دورة التدرب... فإن معنى ذلك فتح دور الدعارة وفساد الشباب والفتيات وتعميم العادة السرية الضارة بالصحة وإعطاء الفرصة للبغاء والانحراف الجنسي.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا جاءكم من ترضون خُلُقه ودينه فزوجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، فإن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(2).

ثم إن المتزوج أقدر على الدراسة والخدمة من الأعزب، إذ اشتغال الفكر بقضايا الجنس يمنع الإنسان عن التركيز في الدراسة أو الخدمة... .

قال تعالى: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(3).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ركعتان يصليهما متزوج أفضل من سبعين ركعةيصليهما أعزب»(5).

وعن الصادق(عليه السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «تزوجوا، فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: من أحب أن يتبع سنتي فإن من سنتي التزويج»(6).

ص: 21


1- الكافي 5: 347.
2- النوادر للراوندي: 12.
3- سورة النور، الآية: 32.
4- جامع الأخبار: 101.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 384.
6- الكافي 5: 329.

وعنه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما بني بناء في الإسلام أحب إلى اللّه تعالى من التزويج»(1).

وعنه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من تزوج أحرز نصف دينه فليتق اللّه في النصف الآخر»(2).

وعنه(صلی الله عليه وآله وسلم): «المتزوج النائم أفضل عند اللّه من الصائم القائم العزب»(3).

وفي قبال ذلك قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «رذال موتاكم العزاب»(4).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «أكثر أهل النار العزاب»(5).

المرأة في المجتمع الغربي

المرأة في المجتمع الغربي(6)

المرأة موضوع كثر الكلام حوله وغالب الكتّاب الإسلاميين - الداعين إلى الفضيلة والعفاف - يقارنون بين حال المرأة قبل الإسلام وحال المرأة في ظل الإسلام، وهي مقارنة صحيحة، لكن الكلام لا ينتهي عند هذا الحد، وإننا بحاجة إلى الفرق بين المرأة في المجتمع الإسلامي وبين المرأة في المجتمع الغربي.ولا نريد الإسهاب في هذا الموضوع، وإنما نريد عرض طرف من أحوال المرأة في المجتمعين، لنرى هل تتوفر راحة المرأة جسديا وفكريا، وصحتها وثقافتها، ونظافة سمعتها، وإشباع غرائزها، وطهارة المجتمع الذي تعيش فيه... في ظل الإسلام أم في ظل الكفر؟

تعيش المرأة في ظل الإسلام ولها من الحقوق والواجبات مثل ما للرجل من

ص: 22


1- من لا يحضرة الفقيه 3: 383.
2- الكافي 5: 328- 329.
3- جامع الأخبار: 101.
4- الكافي 5: 329.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 384.
6- نقلنا هذا المبحث عن كتاب (المرأة في ظل الإسلام) للإمام الشيرازي(رحمه الله).

الحقوق والواجبات، فهي شق له في كل شيء... إلّا بعض الأمور التي استثنيت من جهة عدم المقتضي أو وجود المانع، فهي تشارك الرجل في:

الصلاة، والصيام، والخمس، والزكاة، والحج... ولكن حيث إن لها وظائف بيتية، بالإضافة إلى خشونة الجهاد التي لايناسب ضعفها ودقة جهازها ووفرة مشاعرها الرقيقة، لايحملها الإسلام الجهاد على الإطلاق، بل في ضرورة الضرورة فقط، كما هو مشروح في كتب الفقه(1).

كما تشاركه في: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وولاية الصالحين، والبراءة من المجرمين، هذا بالنسبة إلى العبادة.

أما المعاملة بمعناها الوسيع، فلها: التجارة، والرهن، والضمان، والوديعة، والمزارعة، والمساقاة، والمضاربة، والشركة، والصلح، والعارية، والإجارة، والوكالة، والوقف، والهبة، والوصية، كما يجري عليها الحجر والفلس.

ولها النكاح، والطلاق - إذا اشترطت - ، والنذر، والحلف، والعهد، والعتق، والتدبير، والمكاتبة، والإقرار، والجعالة، والصيد، والذباحة، والشفعة، وإحياء الموات، واللقطة، والشهادة، والديات، والقصاص، والإرث... كما أن الطعاموالشراب بالنسبة إليها، كسائر الرجال. وغير ذلك. نعم لها بعض الأحكام الخاصة، في بعض هذه الأبواب لأمور خارجة.

مثلاً: في الإرث لها أقل من حق الرجل، لأن الرجل هو القائم بالنفقة وعليه تبعة المسكن والملبس، وليس الطلاق بيدها لأن حق القيمومة للرجل، وذلك لأن إدارة البيت لا بد وأن توكل إلى واحد، وحزم الرجل أكثر من المرأة، ولذا جعلت إليه، وفي قبال هذا الواجب جعل حق الطلاق لتكافئ الحقوق

ص: 23


1- راجع موسوعة الفقه المجلد 47- 48 كتاب الجهاد للإمام الشيرازي(رحمه الله).

والواجبات. وهكذا... وهكذا...

قد كانت المرأة في ظل الإسلام تعيش آمنة سعيدة مرفهة، لها حقوقها، وعليها واجباتها، حتى جاء الغرب فرآها محرومة من حقوقها!! فدافع بكل ما أوتي من حول وطول لإرجاع الحقوق إليها!! وجنّد لذلك كل عميل وذنب بإمكانياته المنتفخة، فشوقها للذهاب والإياب إلى المراقص والملاهي ودور السينما والمسابح والمدارس المختلطة، كما جعل من حقها التبرج والسفور واتخاذ الأخدان، والحضور في الحفلات الساهرة، وتعاطي اللذة البريئة: النظر والكلام المتكسر والملامسة والأمر الأخير!! واعتبر كل دعوة إلى الحشمة والوقار، والحياء والعفاف والفضيلة والأخلاق... دعوة رجعية تنافي الحرية!

فالمرأة إلى أين وصلت حالتها في ظل النُظُم الغربية، بعدما كان لها كل تجلة واحترام في ظل النظم الإسلامية، لنرى كيف انهارت المرأة وانهارت معها الحياة العائلية، من جراء الدساتير الكافرة التي لا تدين باللّه واليوم الآخر.

وبعد هذا نسأل حماة الغرب: هل المرأة في ظل أنظمتكم أرفه حالاً وأهنأ عيشاً وأكثر سعادة، أم في ظل الإسلام؟

ولقد شهد المنصفون من الأجانب بما للإسلام من فضل على المرأة:

يقول (سيديو): والقرآن - وهو دستور المسلمين - رفع شأن المرأة بدلاً من خفضها، فقد جعل محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) حصة البنت في الميراث تعدل نصف حصة أخيها، مع أن البنات كن لا يرثن في زمن الجاهلية، ومحمد - وإن جعل الرجال قوامين على النساء - بين أن للمرأة حق الرعاية والحماية على زوجها(1).

ويقول (غوستاف لوبون): والإسلام قد رفع حال المرأة الاجتماعي وشأنها

ص: 24


1- انظر: الإسلام بين الإنصاف والجحود.

رفعاً عظيماً، بدلاً من خفضها، خلافاً للمزاعم المكررة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقاً إرثية أحسن مما في أكثر قوانيننا الأوروبية.

ويقول: هنا نستطيع أن نكرر إذن قولنا: إن الإسلام الذي رفع المرأة كثيراً، بعيد من خفضها، ولم يقتصر فضل الإسلام على رفع شأن المرأة، بل نضيف إلى هذا: أنه أول دين فعل مثل ذلك، ويسهل إثبات هذا ببياننا: أن جميع أديان الأمم التي جاءت قبل العرب أساءت إلى المرأة(1).

وهنا مقتطفات من كتاب (الحجاب) للمودودي، للبرهنة على مدى انحطاط المرأة في ظل الكفر وما يسمى بالديمقراطية، ونكتفي هنا بالنقل من دون ذكر المصادر التي نقلها الكتاب عنها... وإليك النصوص:

(وجاء قوم، فمهدوا الأسباب لإكراه النساء، وتقدموا بحرفة البغاء، إلى أن أصبحت تجارة دولية منظمة). (أمر الإجهاض... ليس هناك قطر من الأقطار إلّا وتقترف فيه هذه الشنيعة علناً وعلى نطاق واسع، فهذه إنكلترا يسقط فيها تسعون ألف حمل في كل سنة على أقل تقدير، وتكون في كل مائة من المتزوجات فيها خمس وعشرون - على الأقل - إما يباشرن الإسقاط بأيديهن أو يستعنّ عليهبالمتخصصين، وترتفع هذه النسبة فوق هذا في غير المتزوجات، فقد أنشئت في بعض المدن هناك نواد منظمة للإسقاط... ويكثر في لندن عدد دور التمريض التي تكون معظم المريضات فيها من المسقطات). (وفي فرنسا: نشر قائد لبعض الفرق العسكرية إعلاناً للجنود التابعة له، جاء فيه: قد بلغنا أن عامة الرجالة والخيالة يشتكون من تزاحم رجال البنادق على دور بغاء الجندية... وأن مكتب القيادة لا يزال يسعى لزيادة عدد النساء، حتى يكفين لجميع الجنود، ولكن قبل

ص: 25


1- الإسلام بين الإنصاف والجحود.

أن يتم ذلك نوصي رجال البنادق أن لا يطيلوا مكثهم داخل تلك الدور ويتعجلوا بقضاء شهواتهم ما استطاعوا). (وفي فرنسا: ليس على من كان يريد الاتصال بآنسة من الآنسات إلّا أن يعلم الوكالة - الوكالة البغائية - بعنوان تلك الآنسة، وعلى الوكالة بعد ذلك أن تراود الآنسة على الأمر، ودلت سجلات هذه الوكالة على أنه لم تكن طبقة من طبقات المجتمع الفرنسي إلّا وعامل كثير من أناسها هذه الوكالة وتمتعوا بخدماتها). (لم يعد الآن من الغريب الشاذ وجود العلاقات الجنسية بين الأقارب في النسب: كالأب والبنت، والأخ والأخت، في بعض الأقاليم الفرنسية).

(ولقد كان عدد النساء اللواتي كنّ يحترفن البغاء قبل الحرب العالمية الأولى: نصف مليون). وصرح (مسيو فردينان دريفوس) أحد أعضاء المجلس الفرنسي منذ بضع سنوات: أن حرفة البغاء لم تعد الآن عملاً شخصياً بل قد أصبحت تجارة رئيسية، وحرفة منظمة، بفضل ما تجلب وكالاتها من الأرباح الغزيرة، فلها في هذه الأيام وكلاء يهيئون (المواد الخام) وآخرون يتجولون في البلاد، ولها الآن أسواق منظمة تستورد فيها وتصدر منها الفتيات والصبايا كالأموال التجارية، وأكثر ما يطلب في هذه الأسواق من الأموال هو بنات دون العاشرة.

وربما تبلغ البهيمية في القائمين بها أقصى حدود الظلم والقساوة، فيقال: إن محافظ بلدية في شرقي فرنسا اضطر إلى التدخل في هذا الأمر، لنجدة فتاة كانت قد فرغت في يومها من سبعة وأربعين وارداً، وكان عدد منهم بعدُ بالباب يترقبون!

وجاءت الحرب العالمية الأولى، فابتدعت بدعة (البغاء المتطوع) علاوة على (البغاء التجاري)... فجعلت هؤلاء النساء يتعاطين بصورة منظمة، وأصبح تشجيعهن وإعانتهن فضيلة خلقية، عند أولي الدعارة والفجور، وعنيت الجرائد اليومية الكبرى عناية بالغة باستمالة رجال العمل إليهن... وقد نشرت جريدة

ص: 26

واحدة في عدد واحد (199) إعلاناً عن أمرهن.

يقول بول بيورو: إن جميع الأزواج المتزوجون في مجتمعاتنا قوم خونة متجردون من الوفاء اللازم للعشرة الزوجية. وقد نجم عن هذه الموبقات الأمراض السرية الفتاكة، فقد أعفت الحكومة الفرنسية في السنتين الأوليين من سني الحرب العالمية الأولى خمسة وسبعين ألفا، لكونهم مصابين بمرض الزهري، وابتلي بهذا المرض وحده 242 جنديا في آن واحد في ثكنة متوسطة.

ويقول الدكتور الفرنسي (ليريد): إنه يموت في فرنسا ثلاثون ألف نسمة بالزهري وما يتبعها من الأمراض الكثيرة في كل سنة. ولهذه الأمور رغبت الرجال عن النكاح، فبقت النساء والرجال - على حد سواء - يتعاطون البغاء، وفسد النظام العائلي. فسبعة أو ثمانية في الألف هو معدل الرجال والنساء الذين يتزوجون في فرنسا اليوم. وكثر الطلاق كثرة مدهشة حتى أن محكمة الحقوق بمدينة (سين) فسخت 294 نكاحاً في يوم واحد(1).

إلى كثير وكثير... من أمثال هذه المآسي التي حلت على البشرية من جراء إعطاء المرأة هذه الحرية!!

فهل في ذلك خدمة للمرأة؟ أو للرجل؟ أو للمجتمع؟

كلا! فالمرأة سائبة، لاتجد لقمة الخبز إلّا بالبغاء - كثيراً ما - وهي مع ذلك تتعب وتنصب، وتهان وتزدري، وتهدر لها كل كرامة وحق. والرجل لا يجد القلب الحنون، والشق الرؤوف، كما لايجد الأم رؤم لأولادها. والمجتمع لايجد الفتيان والفتيات الصالحين والصالحات، بل يخيم في طول البلاد وعرضها

ص: 27


1- الحجاب: 70- 95.

الأمراض الفتاكة والأجسام العليلة والأخلاق السيئة.

وهكذا الحال في كل مجتمع أعطى للمرأة (الحرية المزعومة) من غير فرق بين فرنسا وأميركا وروسيا وإنكلترا والسويد وألمانيا... كما تشهد بذلك الوثائق الكثيرة... ولم تنج من هذه المفاسد إلّا البلاد الإسلامية، ولكن على قدر ما رفضت الأنظمة الكافرة، ولم تخنع بالحريات المزعومة... أما البعض الآخر فحاله حال البلاد الكافرة في الفساد الخلقي والأمراض والانهيار.

فهل المرأة في ظل الإسلام أكثر كرامة وأحسن حالاً وأحفظ حقاً وحرية أم في ظل الكفر الذي أخذ اليوم بزمام العالم؟

ولا نجاة للمرأة ولا للمجتمع من هذه الويلات، إلّا بالتمسك بتعاليم الإسلام، واللّه الموفق المستعان.

ملحق: روايات في النظر والاختلاط

من سهام إبليس

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:«النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرةأورثت حسرة طويلة»(1).

من ترك النظر

قال الصادق(عليه السلام):«النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها للّه عزّ وجلّ لا لغيره،أعقبه اللّه إيماناً يجد طعمه»(2).

النظرة بعد النظرة

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها

ص: 28


1- وسائل الشيعة 20: 190.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 18.

لصاحبها فتنة»(1).

النظرة المهلكة

وقال(عليه السلام): «أول نظرة لك، والثانية عليك ولا لك، والثالثة فيها الهلاك»(2).

ثواب غض البصر

قال الصادق(عليه السلام): «من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء أو غمض بصره، لم يرتد إليه بصره حتى يزوَجه اللّه من الحور العين»(3).

وفي خبر آخر: «لم يرتد إليه طرفه حتى يعقبه اللّه إيماناً يجد طعمه»(4).

لماذا الحجاب؟

عن الإمام الرضا(عليه السلام) فيما كتبه إلى محمد بن سنان من جواب مسائله: «وحرم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج وإلى غيرهن من النساء،لما فيه من تهييج الرجال وما يدعو التهييج إليه من الفساد والدخول فيما لا يحل ولا يجمل، وكذلك ما أشبه الشعور إلّا الذي قال اللّه تعالى: {وَالْقَوَٰعِدُ مِنَ النِّسَاءِ الَّٰتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَٰتِ بِزِينَةٖ}(5) أي غير الجلباب، فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهن»(6).

لا تتبع النظرة بالنظرة

عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال له: «يا علي، لك كنز في

ص: 29


1- من لا يحضره الفقيه 4: 18.
2- وسائل الشيعة 20: 193.
3- مكارم الأخلاق: 236.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 474.
5- سورة النور، الآية:60.
6- عيون أخبار الرضا 2: 97.

الجنة وأنت ذو قرنيها، فلا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الأخيرة»(1).

النظرة توجب الفتنة

عن علي(عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: «لكم أول نظرة إلى المرأة، فلا تتبعوها نظرة أخرى، واحذروا الفتنة...»(2).

من ملأ عينيه حراماً

عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال:«من اطلع في بيت جاره، فنظر إلى عورة رجل، أو شعر امرأة أو شي ء من جسدها، كان حقاً على اللّه أن يدخله النار مع المنافقين الذين كانوا يتبعون عورات النساء في الدنيا، ولا يخرج من الدنيا حتى يفضحه اللّه ويبدي للناس عورته في الآخرة، ومن ملأ عينيه من امرأة حراماً، حشاهما اللّه يوم القيامة بمسامير من نار، وحشاهما ناراً حتى يقضي بين الناس، ثم يؤمر بهإلى النار»(3).

وفي حديث المناهي عن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) قال:«ومن ملأ عينيه من حرام ملأ اللّه عينيه يوم القيامة من النار إلّا أن يتوب ويرجع»(4).

من صافح امرأة أجنبية

قال(عليه السلام): «ومن صافح امرأة تحرم عليه فقد باء بسخط من اللّه عزّ وجلّ، ومن التزم امرأة حراماً قرن في سلسلة من نار مع شيطان فيقذفان في النار»(5).

ص: 30


1- وسائل الشيعة 20: 194.
2- الخصال 2: 632.
3- وسائل الشيعة 20: 194.
4- من لا يحضره الفقيه 4: 14.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 14.
لا تكلم الأجنبية

عن الإمام الصادق عن آبائه(عليهم السلام) عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في حديث المناهي قال: «ونهى أن تتكلم المرأة عند غير زوجها وغير ذي محرم منها أكثر من خمس كلمات مما لا بد لها منه»(1).

من فاكه امرأة

عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «ومن صافح امرأة حراماً جاء يوم القيامة مغلولاً ثم يؤمر به إلى النار، ومن فاكه امرأة لا يملكها حبس بكل كلمة كلمها في الدنيا ألف عام»(2).

ما يميت القلب

عن جعفر بن محمد عن أبيه(عليهما السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، وكثرة مناقشة النساء يعني محادثتهن، ومماراةالأحمق تقول ويقول ولا يرجع إلى خير أبداً، ومجالسة الموتى، فقيل له يا رسول اللّه، وما الموتى؟ قال: كل غني مترف»(3).

لا تعودن إليها

عن أبي بصير قال: كنت اُقرئ امرأة، كنت أعلمها القرآن فمازحتها بشيء، فقدمت على أبي جعفر(عليه السلام) فقال لي: «أي شي ء قلت للمرأة؟»، فغطيت وجهي، فقال: «لا تعودن إليها»(4).

ص: 31


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 423.
2- أعلام الدين: 414.
3- الخصال 1: 228.
4- وسائل الشيعة 20: 198.
أخت الزوجة والغريبة

عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل، يحل له أن ينظر إلى شعر أخت امرأته؟ فقال: «لا، إلّا أن تكون من القواعد» قلت له: أخت امرأته والغريبة سواء؟ قال: «نعم»(1).

لا تنظر في أدبار النساء

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:«ما يأمن الذين ينظرون في أدبار النساء أن يبتلوا بذلك في نسائهم»(2).

ارض للناس ما ترضاه لنفسك

عن أبي بصير أنه قال للصادق(عليه السلام): الرجل تمر به المرأة فينظر إلى خلفها؟ قال: «أ يسر أحدكم أن ينظر إلى أهله وذات قرابته؟» قلت: لا، قال: «فارضللناس ما ترضاه لنفسك»(3).

مسامير من نار

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من ملأ عينه حراماً يحشوها اللّه يوم القيامة مسامير من نار، ثم حشاهما ناراً إلى أن تقوم الناس، ثم يؤمر به إلى النار»(4).

لا تطلق ناظرك

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «من أطلق ناظره أتعب خاطره»(5).

ص: 32


1- وسائل الشيعة 20: 199.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 19.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 19.
4- مستدرك الوسائل 14: 268.
5- جامع الأخبار: 93.
دوام الحسرة

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «من تتابعت لحظاته دامت حسراته»(1).

زنا العين

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «لكل عضو من ابن آدم حظ من الزنا: فالعين زناه النظر، واللسان زناه الكلام، والأذنان زناهما السمع، واليدان زناهما البطش، والرجلان زناهما المشي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه»(2).

ثواب الحج والعمرة

عن الإمام الباقر(عليه السلام): «أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أردف أسامة بن زيد في مصعده إلى عرفات، فلما أفاض أردف الفضل بن العباس وكان فتى حسن اللمة، فاستقبل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أعرابي وعنده أخت له أجمل ما يكون من النساء، فجعل الأعرابي يسأل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وجعل الفضل ينظر إلى أخت الأعرابي، وجعل رسولاللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يضع يده على وجه الفضل يستره من النظر، فإذا هو ستره من الجانب نظر من الجانب الآخر، حتى إذا فرغ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) من حاجة الأعرابي التفت إليه وأخذ بمنكبه ثم قال: أما علمت أنها الأيام المعدودات والمعلومات: لا يكف رجل فيهن بصره، ولا يكف لسانه ويده، إلّا كتب اللّه له مثل حج قابل»(3).

أفضل الغنائم

قال الصادق(عليه السلام): «ما اغتنم أحد بمثل ما اغتنم بغض البصر، لأن البصر لا يغض عن محارم اللّه تعالى إلّا وقد سبق إلى قلبه مشاهدة العظمة والجلال»(4).

ص: 33


1- بحار الأنوار 101: 38.
2- بحار الأنوار 101: 38.
3- بحار الأنوار 96: 351.
4- مصباح الشريعة: 9.
غضوا أبصاركم

قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم):«غضوا أبصاركم ترون العجائب»(1).

إياكم والنظر

وقال عيسى بن مريم(عليه السلام) للحواريين: «إياكم والنظر إلى المحذورات فإنها بذر الشهوات ونبات الفسق»(2).

الموت ولا النظر

وقال يحيى بن زكريا(عليه السلام): «الموت أحب إليّ من نظرة بغير واجب»(3).

لو ذهبت عيناك

قال عبد اللّه بن مسعود لرجل نظر إلى امرأة قد عادها في مرضها: لو ذهبت عيناك لكان خيراً لك من عيادة مريضك ولا تتوفر عين نصيبها من نظر إلىمحذور إلّا وقد انعقد عقدة على قلبه من المنية، ولا تنحل إلّا بإحدى الحالتين إما ببكاء الحسرة والندامة بتوبة صادقة، وإما بأخذ نصيبه مما تمنى ونظر إليه، فأخذ الحظ من غير توبة مصيره إلى النار وأما التائب الباكي بالحسرة والندامة عن ذلك فمأواه الجنة ومنقلبه الرضوان»(4).

إنها الفتنة

عن ابن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «كان المسيح(عليه السلام) يقول لأصحابه» إلى أن قال: «وإياكم والنظرة! فإنها تزرع في قلب صاحبها الشهوة،

ص: 34


1- بحار الأنوار 101: 41.
2- بحار الأنوار 101: 42.
3- مصباح الشريعة: 10.
4- مصباح الشريعة: 10.

وكفى بها لصاحبها فتنة»(1).

مصائد الشيطان

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العيون مصائد الشيطان»(2).

من أصاب امرأة نظرة

عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «من أصاب من امرأة نظرة حراماً ملأ اللّه عينه ناراً»(3).

من ترك النظر

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «النظر إلى محاسن النساء سهم من سهام إبليس، فمن تركه أذاقه اللّه طعم عبادة تسره»(4).

لعنهما اللّه

وعن علي(عليه السلام) أنه قال: «لعن اللّه الناظر والمنظور إليه»(5)(6).

رائد الفتن

وقال(عليه السلام): «اللحظ رائد الفتن»(7).

ص: 35


1- الأمالي للشيخ المفيد: 208.
2- غرر الحكم درر الكلم: 52.
3- مستدرك الوسائل 14: 270.
4- مستدرك الوسائل 14: 270.
5- مستدرك الوسائل 14: 271.
6- المعنى واضح أما الناظر فإنه ينظر إلى ما لا يحل له النظر إليه، وأما المنظور إليه فإنه الذي لا يتستر عن أعين الناس كمن لا يستر عورته عمن يحرم عليه النظر إليها و... .
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 56.
ذهاب النظر خير

وقال(عليه السلام): «ذهاب النظر خير من النظر إلى ما يوجب الفتنة»(1).

النظرة والحسرة

وقال(عليه السلام): «كم من نظرة جلبت حسرة»(2).

راحة القلب

وقال(عليه السلام): «من غض طرفه أراح قلبه»(3).

من أطلق طرفه

وقال(عليه السلام): «من أطلق طرفه اجتلب حتفه»(4).

من شروط البيعة

عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه: «كان مما يأخذ على النساء في البيعة أن لا يُحَدِّثنمن الرجال إلّا ذا محرم»(5).

من غض طرفه

وقال(عليه السلام): «من غض طرفه قل أسفه وأمن تلفه»(6).

محادثة النساء

وعن علي(عليه السلام) أنه: «كان نهى عن محادثة النساء»(7).

ص: 36


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 370.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 513.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 663.
4- عيون الحكم والمواعظ: 453.
5- دعائم الإسلام 2: 214.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 663.
7- مستدرك الوسائل 14: 273.
لا تحادث النساء

وعن جعفر بن محمد(عليهما السلام) أنه قال: «محادثة النساء من مصائد الشيطان»(1).

لا تمازح الفتيات

عن علي(عليه السلام) أنه قال: «إن خمسة أشياء تقع بخمسة أشياء، ولا بد لتلك الخمسة من النار» إلى أن قال: «ومن مازح الجواري والغلمان فلا بد له من الزنى، ولا بد للزاني من النار»(2).

أقلل من محادثة النساء

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «وأقلل محادثة النساء يكمل لك الثناء»(3).

لا تمش خلف المرأة

قال داود(عليه السلام) لابنه: «امش خلف الأسد والأسود ولا تمش خلف المرأة»(4).

النظر إلى العورة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «نهى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ... ونهى أن ينظر الرجل إلى عورة أخيه المسلم وقال: من تأمل عورة أخيه المسلم لعنه سبعون ألف ملك ونهى المرأة أن تنظر إلى عورة المرأة... ونهى أن يطلع الرجل في بيت جاره وقال: من نظر إلى عورة أخيه المسلم أو عورة غير أهله متعمداً أدخله اللّه مع المنافقين الذين كانوا يبحثون عن عورات الناس ولم يخرج من الدنيا حتى يفضحه اللّه إلّا أن يتوب»(5).

ص: 37


1- مستدرك الوسائل 14: 273.
2- مستدرك الوسائل 14: 273.
3- مستدرك الوسائل 14: 273.
4- مستدرك الوسائل 14: 275.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 9.
من صافح أجنبية

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «من صافح امرأة تحرم عليه فقد باء بسخط من اللّه عزّ وجلّ ومن التزم امرأة حراماً قرن في سلسلة من نار مع شيطان فيقذفان في النار»(1).

الحجاب أمان من الإيذاء

في تفسير القمي: إن النساء كن يخرجن إلى المسجد ويصلين خلف رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وإذا كان بالليل وخرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة يقعد الشبان لهن في طريقهن فيؤذونهن ويتعرضون لهن فأنزل اللّه: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(2)(3).

عين غضت عن محارم اللّه

عن الإمام الصادق عن أبيه(عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): كل عين باكية يوم القيامة إلّا ثلاث أعين: عين بكت من خشية اللّه، وعين غضت عن محارم اللّه،وعين باتت ساهرة في سبيل اللّه»(4).

خير النساء

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في الحديث الذي قالت فاطمة(عليها السلام): خير للنساء ألا يرين الرجال، ولا يراهن الرجال، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنها مني»(5).

ص: 38


1- من لا يحضره الفقيه 4: 14.
2- سورة الأحزاب، الآية: 59.
3- تفسير القمي 2: 196.
4- الخصال 1: 98.
5- بحار الأنوار 101: 36.
ألستما تبصرانه

عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال: «احتجبا» فقلنا: يا رسول اللّه، أ ليس أعمى لا يبصرنا؟ قال: «أ فعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه»(1).

لا تسلم على الشابات

عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يسلم على النساء، وكان يكره أن يسلم على الشابة منهن، ويقول: أتخوف أن يعجبني صوتها، فيدخل من الإثم عليَّ أكثر مما أطلب من الأجر»(2).

الحجاب حتى من الأعمى

قال علي(عليه السلام): «استأذن أعمى على فاطمة(عليها السلام) فحجبته، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لها: لم حجبته وهو لا يراك؟ فقالت(عليها السلام): إن لم يكن يراني فأنا أراه وهو يشمالريح، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أشهد أنك بضعة مني»(3).

تقبيل المحارم

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا قبّل أحدكم ذات محرم قد حاضت، أخته، أو عمته، أو خالته، فليقبل بين عينيها ورأسها وليكف عن خدها وعن فيها»(4).

اشتد غضب اللّه

قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «اشتد غضب اللّه على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير

ص: 39


1- مكارم الأخلاق: 233.
2- الكافي 2: 648.
3- النوادر للراوندي: 13.
4- النوادر للراوندي: 19.

زوجها»(1).

من قبل غلاماً بشهوة

عن الرضا(عليه السلام): «إذا قبل الرجل غلاماً بشهوة لعنته ملائكة السماء، وملائكة الأرض، وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب، وأعد له جهنم وساءت مصيراً»(2).

لجام من النار

وفي خبر آخر: «من قبل غلاماً بشهوة: ألجمه اللّه بلجام من نار»(3).

لا تحب الزنا

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «كذب من زعم أنه ولد من حلال وهو يحب الزناء، وكذب من زعم أنه يعرف اللّه عزّ وجلّ وهو مجترئ على معاصي اللّه كل يوم وليلة»(4).

عفّوا عن نساء الناس

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «بروا آباءكم يبركم أبناؤكم، وعفّوا عن نساء الناس تعف نساؤكم»(5).

من علائم ولد الزنا

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «علامات ولد الزنا ثلاث: سوء المحضر، والحنين إلى الزنا، وبغضنا أهل البيت»(6).

ص: 40


1- أعلام الدين: 418.
2- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 278.
3- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 278.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 209.
5- الكافي 5: 554.
6- وسائل الشيعة 12: 283.
خراب البيت

عن الإمام الصادق(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أربع لا تدخل بيتاً واحدة منهن إلّا خرب ولم يعمر بالبركة: الخيانة، والسرقة، وشرب الخمر، والزناء»(1).

النار بلا حساب

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «ثلاثة يدخلهم اللّه النار بغير حساب: ... إمام جائر، وتاجر كذوب، وشيخ زان»(2).

أعظم المحرمات

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): لن يعمل ابن آدم عملاً أعظم عند اللّه تبارك وتعالى من: رجل قتل نبياً، أو إماماً، أو هدم الكعبة التي جعلها اللّه عزّ وجلّ قبلة لعباده، أو أفرغ ماءه في امرأة حراماً»(3).

لا تهم بزنا

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ثلاثة في حرز اللّه عزّ وجلّ إلى أن يفرغ اللّه من الحساب: رجل لم يهم بزنا قط، ورجل لم يشب ماله بربا قط، ورجل لم يسع فيهما قط»(4).

ظهور الزلازل

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إذا فشت أربعة ظهرت أربعة: إذا فشا الزنا ظهرت

ص: 41


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 398.
2- الخصال: 80.
3- الخصال 1: 120.
4- الخصال 1: 101.

الزلازل...»(1).

الفقر والمسكنة

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الزنا يورث الفقر»(2).

حبس الرزق

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «الذنوب التي تحبس الرزق: الزناء...»(3).

تبعات الزنا

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «يا معشر المسلمين، إياكم والزنا فإن فيه ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا: فإنه يذهب بالبهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر. وأما التي في الآخرة: فإنه يوجب سخط الرب، وسوء الحساب، والخلود في النار»(4).

ص: 42


1- من لا يحضره الفقيه 1: 524.
2- الخصال 2: 504.
3- الاختصاص: 238.
4- الخصال 1: 320.

الحزب في النظرية الإسلامية

الإسلام والتطور السياسي

قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَٰفِرِينَ}(1).

في التفسير: أن {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ} أي: أيام النصر والهزيمة وأيام القرح {نُدَاوِلُهَا} أي: نصرّفها {بَيْنَ النَّاسِ} فيوم لهؤلاء على أولئك، ويوم لأولئك على هؤلاء، فإذا نصرنا المؤمنين كان ذلك لإيمانهم، وإذا هُزموا كان امتحاناً لهم.

{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي: أن صرف الأيام ليتميز المؤمن الحقيقي من غيره، فإنه ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال»(2) وقال(عليه السلام): «عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان»(3).

ومعنى {لِيَعْلَمَ}: أن معلومه سبحانه يقع في الخارج، لا أنه كان جاهلاً - سبحانه - ثم علم، فإن العلم لما كان أمراً إضافياً بين العالم والمعلوم، يقال: (علم) باعتبارين: إما باعتبار العالم فيما كان جاهلاً ثم علم، وإما باعتبار المعلوم فيما كان المعلوم غير خارجي ثم صار خارجياً {وَ} ل- {يَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}

ص: 43


1- سورة آل عمران، الآية: 140-141.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 217.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 454.

أي: أن مداولة الأيام لفوائد، ومن جملة تلك الفوائد أن يتخذ اللّه سبحانه منكممقتولين يستشهدون في سبيل اللّه، ويبلغون الدرجات الراقية بالشهادة، أو ليكون جماعة شهداء على آخرين بالصبر أو الجزع، بالثبات أو الهزيمة، فإن إيصال جماعة قابلة إلى مرتبة أن يكونوا شهداء نعمة وغرض رفيع، لكن المعنى الأول أقرب {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ} الذين يظلمون أنفسهم بالكفر، أو بالهزيمة.

{وَ} من فوائد تداول الأيام بين الناس أنه {لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي: يخلّصهم من المنافقين فيتبين المؤمن من المنافق، أو يخلصهم من الذنوب، فإن بالأهوال تذاب الذنوب، وبالشدائد تكفّر الخطايا {و} ل- {وَيَمْحَقَ الْكَٰفِرِينَ} يهلكهم، فإن الكفار ينقصون شيئاً فشيئاً حتى يهلكوا جميعاً(1).

وذكروا في تفسير الآية المباركة أيضاً: أن {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} أي: نصرفها مرة لفرقة، ومرة عليها، وإنما يصرف اللّه الأيام بين المسلمين وبين الكفار، بتخفيف المحنة عن المسلمين أحياناً، وتشديدها عليهم أحياناً، لا بنصرة الكفار عليهم؛ لأن اللّه لا ينصر الكفار على المسلمين، لأن النصرة تدل على المحبة، واللّه تعالى لا يحب الكافرين، وإنما جعل اللّه الدنيا متقلبة، لكيلا يطمئن المسلم إليها، ولتقل رغبته فيها، أو حرصه عليها، إذ تفنى لذاتها، ويظعن مقيمها، ويسعى للآخرة التي يدوم نعيمها. وإنما جعل الدولة مرة للمؤمنين، ومرة عليهم، ليدخل الناس في الإيمان على الوجه الذي يجب الدخول فيه كذلك، وهو قيام الحجة، فإنه لو كانت الدولة أبداً للمؤمنين، لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفال(2).

ص: 44


1- تفسير تقريب القرآن 1: 397.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 2: 399.

إن من المعلوم أن أنماط الحياة تختلف من زمن إلى زمن، وبذلك تختلفمتطلباتها واحتياجاتها، فكل مرحلة من المراحل تمتاز بنمط معين من الحياة، وأسلوب خاص من العيش. وباختلاف مراحل المجتمعات وتطورها، يوماً بعد يوم، يختلف أيضاً هيكل الحكومة وشكلها العام.

فنحن يمكننا أن نتعرف على هذا الاختلاف الحكومي في الهيكل والشكل العام من خلال استقرائنا - في الجملة - للحكومات السابقة، منذ القرن الأخير المنصرم، وإلى حكومات اليوم. فنلاحظ بروز ظاهرة الأحزاب بشكل واضح جداً، على شكل كيانات مستقلة، يهتم بها المجتمع، باعتبار أن الأحزاب عبارة عن مؤسسات تربوية وسياسية في آن واحد، وبما أن الإسلام بدوره هو الدين الذي يمتد مع البشرية إلى آخر يوم على هذا الكوكب، فهو يواكب ويستوعب هذه التطورات، بل يضع لها مناهج شرعية خاصة، لكي تصب في مصلحة المسلمين.

ظاهرة الأحزاب

ومن جملة تلك التطورات السياسية: الأحزاب، فقد أصبح اليوم وجود الأحزاب ظاهرة واقعية في كل المجتمعات، إذ لايكاد يخلو حكم أو مجتمع في العالم من الأحزاب السياسية. وقد تكون ظاهرة ضرورية في بعض المجتمعات، والإسلام - بما أنه هو البديل الأفضل عن كافة الأنظمة العالمية اليوم - لا بد أن تكون لديه وجهة نظر، أو طريقة خاصة، في استيعاب الأحزاب، وصهرها ضمن نظامه العالمي.

فالإسلام لا يرفض - بشكل مبدئي - ظاهرة الأحزاب بل هو يهذب مناهجها، ويؤطرها بأطر صحيحة، كي تعمل لصالح النظام العالمي الإسلامي ولصالح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة.

ص: 45

ولعل ظاهرة الأحزاب ليست ظاهرة جديدة في الإسلام؛ بل نحن نرى مثلهذه الظاهرة في زمن الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) وما بعده أيضاً، نعم إنها كانت تختلف في البناء والشكل والهدف؛ ففي التاريخ: إنه كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) يعتمد على جهتين وكتلتين، هما: الأنصار والمهاجرون، نعم إن الأنصار والمهاجرين كانا يعملان من أجل هدف واحد، حيث لا يوجد لدينا في الإسلام تصادم في الأهداف والإرادات، بل كل الأحزاب تعمل على توعية المجتمع، ونشر مفاهيم الدين المبين، وقيادة الأمة نحو مستقبل أفضل.

وبكلمة واحدة نقول: إن الأحزاب تعبير عن التعددية التي دعا إليها الإسلام للتنافس في البناء والتقدم، وعدم حكر الساحة لجهة واحدة أو شخص واحد، المولِّد للاستبداد والدكتاتورية، فالإسلام يؤكد على ثقافة التعددية والحرية قبل كل شيء، ثم يجيز لهم التحزب والتنافس، وقاية من سقوط الأحزاب في بؤرة التنافس الأعمى، مثل تكفير كل منهم الآخر، والعمل على هدم بعضهم البعض، والصراع السلبي على كرسي الحكم، كما نجده اليوم في الظاهرة الحزبية المنتشرة في البلاد الإسلامية.

وإن مما يؤخذ على هذه الأحزاب وخاصة غير الإسلامية منها كالبعثية... والشيوعية(1)، هو خروجها عن الحدود الشرعية فهي تصنع جملة من القوانين الوضعية، كدستور للحكم، يفرض تحكيمها على الشعوب، فكل حزب لديه جملة من التشريعات التي تخالف الإسلام وقوانينه السمحة،و يحكم بها عند تسلطه على رقاب الشعب، بينما لدينا في الإسلام عامل الثبات الدائم، وهو أن اللّه عزّ وجلّ خالق الإنسان وهو العالم بمصالحه فهو المشرّع الوحيد، ولا تشريع

ص: 46


1- مذهب سياسي يهدف إلى القضاء على الرأسمالية والملكية الخاصة.

مقابل تشريع اللّه سبحانه، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُالْكَٰفِرُونَ}(1)، بل إن كل التشريعات الإنسانية تكون ناقصة دوماً، وهذا ما تشهد به التجربة، وأوضح من ذلك هو تصريح القرآن: {أَفَحُكْمَ الْجَٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(2).

فالحقيقة التي صرح بها القرآن الحكيم وبكل تأكيد: أن كل حكم غير حكم اللّه هو حكم جاهلي ناقص لا يوصل الشعوب إلى عزّ وسعادة، ولا إلى استقرار واطمئنان، بل بالعكس يذيقهم الويل والدمار، والشقاء والحرمان، كما جربناه على مدى قرابة قرن من الزمان المعاصر.

الحزب مجال للتنافس الشرعي

اشارة

الحزب هو المؤسسة التربوية السياسية التي تقوم بخدمة الناس، فوظيفته الأولية ومهمته الرئيسية: تقديم الخدمات الإنسانية، والثقافية، والاقتصادية، والعمرانية، لكافة أبناء الشعب، وليس الحزب لمجرد الوصول إلى الحكم والارتقاء إلى المناصب الحكومية، وإن كان لا يتنافى معه لو انتخبهم الشعب للتصدي للحكم وتشكيل الحكومة.

فالحزب إذن مؤسسة سياسية تخدم الناس في طول الحكم وليس في عرضه، والمراد هنا بالتعريف: الأحزاب الإسلامية والوطنية، دون الإلحادية والإرهابية.

ثم إن من مهمات هذه الأحزاب هو: أن تتنافس فيما بينها انطلاقاً من الإيمان باللّه واليوم الآخر، وتنافسها يكون في طاعة اللّه عزّ وجلّ، كما عمل الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) عام الأحزاب عند حفر الخندق، حيث قسّم أصحابه إلى فرقتين

ص: 47


1- سورة المائدة، الآية: 44.
2- سورة المائدة، الآية: 50.

تتنافس فيما بينها لحفر الخندق من أجل نصرة الإسلام. وعندما اختلف المسلمون على سلمان الفارسي(رحمه الله) حيث كان رجلاً قوياً ذا بصيرة ورأي فقال الأنصار: سلمان منا، وقال المهاجرون: سلمان منا، قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «سلمان منا أهل البيت».

فقد روي: إن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون: سلمان منا. وقالت الأنصار: سلمان منا. فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «سلمان منا أهل البيت».

قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى إذا كنا بجب ذي ناب، أخرج اللّه من باطن الخندق صخرة مروة(1) كسرت حديدنا، وشقت علينا. فقلنا: يا سلمان، إرق إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيه بأمره؛ فإنا لا نحب أن نتجاوز خطه.

قال: فرقي سلمان إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول اللّه، خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق، فكسرت حديدنا، وشقت علينا حتى ما يحيك(2) فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نتجاوز خطك.

قال: فهبط رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مع سلمان الخندق والتسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) المعول من يد سلمان، فضربها به ضربة صدعها، وبرق

ص: 48


1- المروة: حجارة صلبة تعرف بالصوان.
2- يقال: ضربه فما أحاك فيه السيف: إذا لم يعمل.

منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبررسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تكبيرة فتح، وكبّر المسلمون، ثم ضربها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تكبيرة فتح، وكبّر المسلمون. ثم ضربها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ثالثة فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه تكبيرة فتح وكبر المسلمون. وأخذ بيد سلمان، ورقي. فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، لقد رأيت منك شيئاً ما رأيته منك قط؟!

فالتفت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى القوم وقال: «رأيتم ما يقول سلمان؟».

فقالوا: نعم.

قال: «ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثالثة، فبرق لي ما رأيتم، أضاءت لي منها قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا».

فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد للّه موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحصر.

فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنّيكم ويعدكم الباطل؛ ويعلمكم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفَرَق(1)، ولا تستطيعون أن تبرزوا؟!

ص: 49


1- الفَرَق: الخوف.

فنزل القرآن: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(1)(2).

وفي يوم عاشوراء

وكما عمل الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عاشوراء عندما ابتدأ جيش ابن زياد بشن الحرب عليه،حيث قام الإمام(عليه السلام) بتوزيع أفراده إلى مجموعتين متنافستين على الابتداء بالتضحية في سبيل اللّه، هم (بنو هاشم) و(الأصحاب) بحيث أعطى راية لكل منهما ثم أعطى راية بني هاشم بيد العباس(عليه السلام)(3).

فالأحزاب الإسلامية لا بد أن يكون هدفها العمل في طاعة اللّه، أما آلية العمل وشكله، فهذا ما يختلف من زمان إلى آخر، ومن عصر إلى عصر.

ثم لا بد أن تمتاز الأحزاب الإسلامية بضمان حرية الرأي، والتعددية السياسية.

بينما نلاحظ كيف عمل الأمويون والعباسيون على اختلاق أحزاب وتيارات غير شرعية داخل الأمة الإسلامية هدفها تهميش الإسلام ومبادئه، كالمرجئة(4)،

ص: 50


1- سورة الأحزاب، الآية: 12.
2- بحار الأنوار 20: 188.
3- انظر: مقتل الحسين(عليه السلام) للخوارزمي 2: 9، ومقتل الحسين(عليه السلام) للسيد المقرم: 234.
4- المرجئة: هم الذين يبالغون في إثبات الوعد، وهم عكس المعتزلة المبالغين في إثبات الوعيد، فهم يرجون المغفرة والثواب لأهل المعاصي، ويرجئون حكم أصحاب الكبائر إلى الآخرة، فلا يحكمون عليهم بكفر ولا فسق ويقولون: إن الإيمان إنما هو التصديق بالقلب واللسان فحسب، وإنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فالإيمان عندهم منفصل عن العمل، ومنهم من زعم أن الإيمان اعتقاد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية والنصرانية، فهو مؤمن كامل الإيمان عند اللّه، وهو ولي اللّه، ومن أهل الجنة. وقيل إنهم سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان.

ثم كان الهدف من إنشاء وتأسيس هكذا أحزاب هو المادة والدنيا والرئاسة والتسلط على رقاب الناس، ومحاولة إبعاد الناس عن الاتصال بأهل البيت(عليهم السلام)، فقد ابتدعت الدولة الأموية وكذلك العباسية أحزاباً دخيلة، وقررت أن تكون بمثابة كيانات، تقابل كيان أهل البيت(عليهم السلام)، وتعارض وجودهم وتواجدهم.

ثم عملت السلطات الأموية والعباسية على الاستبداد بالحكم وانتهاج سياسة الحزب الواحد الحاكم، وهو الحزب الأموي أو العباسي، وضرب كافة المعارضين الذين ينادون بالإصلاح، ويدعون إلى تقوى اللّه عزّ وجلّ، وإن كان رجل الإصلاح هو ابن بنت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، كما حصل لهم ذلك مع كل واحد واحد من الأئمة الأطهار(عليهم السلام) وبالأخص مع سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام).

فإن الأئمة(عليهم السلام) كانوا يريدون للناس حياة طيبة هادئة، خالية من مظاهر الظلم والاستبداد والجور والعنف والإرهاب.

وهذه الحياة لا تتحقق في ظل حكم بني أمية، أو حكم بني العباس المستبدين بالحكم، والمتسلطين بالظلم؛ ولذلك كانوا(عليهم السلام) يحاربون ظلمهم بصورة مباشرة، كما هو الحال في الإمام الحسين(عليه السلام)، أو بصورة غير مباشرة كما هو حال بقية الأئمة(عليهم السلام)، لأنهم كانوا يعلمون أن التسلط الفردي على جهاز الحكم، يلغي كل الفرص التي تدعو أفراد الأمة إلى أن تتنافس فيها نحو الخير والفضيلة.

نعم أن ثمار التعددية والأحزاب السياسية المتثقفة بالثقافة التنظيمية الصحيحة تعود للأمة ذاتها. ومن هنا نرى ضرورة التعددية الحزبية مع رعاية الموازين الشرعية.

من فوائد التعددية الحزبية

اشارة

من الواضح أن للتعددية فوائد عديدة، منها ما يلي:

ص: 51

أولاً: الحيلولة دون إقامة أحزاب سرية، فإن الأحزاب السرية كثيراً ما تشكل خطراً على الأمة؛ ذلك لأن إقامة الأحزاب تحت الأرض وبشكل سري تكون عادة في الدول التي تتسم بالدكتاتورية أو في دول الحزب الواحد، والتي تُكره الناس على الانتماء إلى الحزب الحاكم فقط والقبول به، ولا تسمح لأحد بالانتماء إلى حزب آخر، أو تأسيس حزب غيره.

ففي الدولة التي لا تسمح فيها الحكومة بتعدد الأحزاب، بل تجبر الناس على القبول بالحزب الواحد وهو الحزب الحاكم، فإنه مضافاً إلى أن إجبار الناس على هذا الأمر بحد ذاته لاشرعية له ويمثل صفة طاغوتية لهذه الحكومة، تبدأ بعض المجاميع الشعبية بالتحرك لإنشاء حزب أو تكتل سري لمواجهة الحزب القائم الحاكم المتسلط على رقاب الناس. وبالمقابل تبدأ الحكومات بمنع هذه المجاميع وزجّها في السجون. بالإضافة إلى مصادرة الحريات، وكبت الأنفاس، وسحق كرامة الإنسان، وهذا يوجب الكثير من المآسي والويلات.

أما البلاد التي تتوفر فيها نسبة لا بأس بها من الحرية والتعددية، فكل حزب يطرح برامجه وخططه في العلن، والناس مخيرون في الانضمام إلى أي حزب شاؤوا، وبما يرونه من المصلحة، ولم يحصل - عادة - ما في بلادنا من سحق حقوق الإنسان وكرامته.

إذن، فالتعددية الحزبية توفر جواً مستقراً مريحاً للمجتمع، بخلاف حكومة الحزب الواحد، فإنها تخلق جواً قلقاً مضطرباً يسوده الإرهاب والعنف.

ثانياً: يجب أن نعرف أن السياسة مثل العلوم الأخرى، تحتاج إلى ثقافة وتربية، فكما أن الجامعة والمدرسة يهتم كل منهما بالجانب العملي والعلمي للطالب، فالسياسة كذلك. فمن أراد أن يصل إلى رئاسة الدولة، لا بد له من ممارسة بعض الأدوار السياسية، التي تخدمه غداً، وخير تطبيق لهذا المعنى هو عندما ينضم

ص: 52

الفرد إلى الحزب، فإنه سينمو فكرياً وسياسياً، ويكون قادراً على تسلّم المراكز القيادية، لما مرّ به من تجربة داخل الحزب، حيث سيتعلم ما معنى الشخصية السياسية، وما هي مواصفاتها ومؤهلاتها، كما ويرى نواقصه، وما يحتاج إليه، ويدرك سياسة الدول، واختلاف الآراء، وتعدد الحكومات، وأساليب سياستها، وغيرها من الأمور.

أما إذا كانت سياسة الدولة سياسة الحزب الواحد، فإنها سوف تسير على سياسة واحدة، جامدة غير مرنة، لأنها تمثّل فكرة الحزب الواحد نفسه الذي لا يلبي تطلعات وآمال كل طبقات الشعب - كما هو الحال بالنسبة للعراق - وسوف ينشغل أفراد الأمة بمعارضة هذا الحزب ومقارعته، مما يفوت عليهم الفرصة في اكتساب الثقافة السياسية المطلوبة ونموها التي تؤهلهم لقيادة المجتمع وبناء البلد بالشكل المطلوب.

حرية الرأي والتعددية في ظل الإسلام

قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «من استبد برأيه هلك»(1).

لقد جاء في الأخبار والأحاديث الشريفة: أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان أحياناً يخبر عن شخص بأنه سيخلق فتنة بين المسلمين، أو سيحدث ديناً باطلاً، ثم لا يعمد إلى قتله، ولا يجيز للمسلمين أن يمسوه بأذى.

وهذا يدخل في سياسية العفو العظيمة، وحرية إبداء الرأي، وتحمل المعارضة السياسية. وهو مما أتاح للرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) تأسيس الدولة الإسلامية في وسط عظيم من عواطف الناس واختلاف آرائهم، فلو كان النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يقتل هذا ويقتل ذاك، لسبب أو لآخر، لما تأسست دولة الإسلام، ولا استحكمت أصولها.

ص: 53


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 161.

روى الشيخ المفيد(رحمه الله) في الإرشاد قال: لما قسّم رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) غنائم حنين، أقبل رجل طويل آدم أجنأ(1) بين عينيه أثر السجود، فسلّم ولم يخصّ النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، ثم قال: قد رأيتك وما صنعت في هذه الغنائم.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «وكيف رأيت»؟

قال: لم أرك عدلت!

فغضب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وقال:«ويلك، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون»؟!

فقال المسلمون: ألا نقتله؟

قال:«دعوه، فإنه سيكون له أتباع يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقتلهم اللّه على يد أحب الخلق إليه من بعدي».

فقتله أمير المؤمنين(عليه السلام)، فيمن قتل يوم النهروان من الخوارج(2).

أما سياسة حكومات اليوم فإنها ما إن تسمع بأن فلاناً ينوي أو يفكر بأمور لعلها تعارض سياسة الدولة، حتى تباكره السلطات بالقبض عليه والزج به في مطامير السجون.

الإسلام وسياسة الانفتاح

لقد كانت دولة أمير المؤمنين(عليه السلام) كدولة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، سياسة وانفتاحاً، فقد فسح الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) باب الحرية الإنسانية لأهل المدينة على مصراعيها، فكما كان يعيش في المدينة في زمن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) المسلمون وغيرهم من اليهود والنصارى والمنافقين، مختلطين في دورهم وأسواقهم، يتعاملون

ص: 54


1- الأجنأ: أي: الأحدب، أحدب الظهر.
2- الإرشاد 1: 148.

ويمارسون حرياتهم المتبادلة في ظل الإسلام، كذلك كان المسلمون واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من سائر الملل والنحل يعيشون في ظل الإسلام عيشة سعيدة هانئة في عزّة ورفاه في عصر أمير المؤمنين(عليه السلام)، ولقد كانت سياسته تستوعب الخصوم والأعداء، وتستقطب المناوئين والمعارضين، وتحاول التوصّل معهم سلمياً إلى حلول مرضية.

ومما يُذكر أن (ابن الكوّاء) كان رجلاً منافقاً، خارجياً، مشاكساً لأمير المؤمنين(عليه السلام)، وذلك في قمّة قدرة الإمام(عليه السلام) الشاملة، وفي أوج دولته الواسعة، التي كانت ذلك اليوم أوسع دولة على وجه الأرض، فكان ابن الكوّاء يلقي اعتراضاته على أمير المؤمنين(عليه السلام) في الأوساط العامة، وبصورة شديدة وحاقدة وبكل حرية.

فقد روي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان في صلاة الصبح فاعترضه ابن الكوّاء رافعاً صوته من خلفه بالقرآن: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(1).

فأنصت أمير المؤمنين(عليه السلام) تعظيماً للقرآن، حتى إذا فرغ ابن الكوّاء من الآية عاد الإمام(عليه السلام) إلى قراءته.

فاعترضه ابن الكواء ثانية وأعاد نفس الآية.

فأنصت الإمام(عليه السلام) للقرآن مرة ثانية حتى إذا أتم ابن الكوّاء الآية عاد الإمام لمواصلة صلاتة.

فأعاد ابن الكواء الآية ثالثة.

فأنصت الإمام تعظيماً للقرآن.

ص: 55


1- سورة الزمر، الآية: 65.

فلما أتم ابن الكواء قراءة الآية للمرة الثالثة، قرأ الإمام(عليه السلام) وكأنه يجيب على اعتراضه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}(1).

ثم أتم السورة وركع(2).

فهل هناك انفتاح كهذا الانفتاح؟

وهل هناك حرية كهذه الحرية؟

بحيث تسمح لرجل منافق أن يرد على الرئيس الأعلى للدولة، ويتعرض له بنسبة الشرك وحبط الأعمال! ولمن لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) الذي هو عين الإيمان ولولاه لم يُعرف المؤمنون، ثم ينصت له الإمام(عليه السلام) ويتم صلاته، وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً؟!

عفو عن ذنب

ويروى: أن امرأة ذات مسحة من الجمال مرت على جماعة فرمقها القوم بأبصارهم، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن أبصار هذه الفحول طوامح(3) وإن ذلك سبب هبابها(4)، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنما هي امرأة كامرأته».

فقال رجل من الخوارج: قاتله اللّه كافراً ما أفقهه!

فوثب القوم ليقتلوه، فقال(عليه السلام): «رويداً، إنما هو سب بسب، أو عفو عنذنب»(5).

ص: 56


1- سورة الروم، الآية: 60.
2- انظر: تفسير نور الثقلين 4: 192.
3- طَوَامِح: جمع طامح أو طامحة، وتقول: طمح البصر: إذا ارتفع، وطمح: أبعد في الطلب.
4- هَبَابها: أي هيجان هذه الفحول لملامسة الأنثى.
5- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 420.
مع عائشة

وقالت عائشة يوم الجمل: ملكت فأسجح، فجهزها أحسن الجهاز وبعث معها تسعين امرأة أو سبعين، واستأمنت لعبد اللّه بن الزبير على لسان محمد بن أبي بكر، فآمنه وآمن معه سائر الناس.

وجيء بموسى بن طلحة بن عبيد اللّه فقال له: «قل أستغفر اللّه وأتوب إليه ثلاث مرات» فقال وخلى سبيله، وقال(عليه السلام): «اذهب حيث شئت، وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كُراع(1) فخذه، واتق اللّه فيما تستقبله من أمرك، واجلس في بيتك»(2).

وله(عليه السلام) مواقف مشابهة كثيرة، حتى كان منه أن قال(عليه السلام): «إلى كم أغضي الجفون على القذى، وأسحب ذيل على الأذى، وأقول لعل وعسى»(3).

وهناك مواقف كثيرة من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) تبين الحرية في الإسلام، وعدم إكراه فرد أو جماعة على أمر هم لا يرضون به، فلم يُكره النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) النصارى أو اليهود على الدخول في الإسلام، وكذا الإمام علي(عليه السلام)، فهذه المواقف الكريمة تكشف عن الحرية الإسلامية الواسعة بجلاء، وتبيّن كفاءة الإسلام وقدرته على الحكم فإن: «آلة الرياسة سعة الصدر»(4).

الدولة الإسلامية دولة المؤسسات والتكتلات

لكي تكون الدولة الإسلامية دولة عصرية، آمنة من التزعزع والانهيار، ومن التقهقر والانهزام، ومسرعة في التطور والتقدم، فعلى المجتمع الإسلامي أن

ص: 57


1- الكُراع: اسم لجماعة الخيل خاصة.
2- شرح الأخبار 1: 389.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 114.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 176.

ينقلب إلى مئات الآلاف من المؤسسات بل الملايين منها، والتي من جملتها الأحزاب الإسلامية، وهذه الكتل تعمل لأجل البناء والمنافسة في الخير، وتحقيق أهداف الإسلام.

وقد كان التكتل منذ زمان الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) بين القبائل من ناحية، وبين الأوس والخزرج من ناحية ثانية، وبين المهاجرين والأنصار من جهة ثالثة. وكانت كلها تعمل لصالح الإسلام والمسلمين. وقد كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) قد أقرّها على ذلك حينها. فكان يجعل لكل قبيلة رئيساً ولواءً.

نعم، يجب أن تكون التكتلات والأحزاب للتعارف لا للتناكر.

وحيث إن الزمان الحاضر لا يمكن فيه الاكتفاء بالتكتل القبلي وما أشبه؛ لأن الثقافة والآلة الحديثة ونوعية الحياة لا تنحصر في قبيلة دون قبيلة، بل حسب المهن والثقافات وما أشبه، فكل تكتل أصبح له نقابة خاصة به، كنقابة الأطباء، ونقابة الصحفيين، ونقابة المعلمين، وهكذا وهلمَّ جرّاً.

والحزب المحظور في الإسلام هو الحزب الذي يعمل الحرام أو ينتهي إلى برلمان يكون بيده التشريع في قبال تشريع اللّه عزّ وجلّ.

وفي الحقيقة إن التكتلات والأحزاب والمؤسسات ليست إلّا مدارس للتجربة الحيوية في سبيل صقل المواهب، وظهور الكفاءات، والكشف عن مؤهلات الإنسان.

ثم إن الحريات الإسلامية توفر لكل فرد ولكل كتلة وحزب، كل أسباب حاجتها، وجميع وسائل تقدمها.

ومما يمكن القول به: إن الحزب مؤسسة يستطيع الفرد من خلالها أن يكشفنفسه، ويطوّر إمكانياته؛ وذلك لأن من مهمات الحزب - بالمعنى الصحيح - هو القيام بتربية رجال سياسيين - على سبيل المثال - حيث إنه يتوفر في الأحزاب

ص: 58

عادة أفضل فرصة للإعداد والنمو الذاتي ناهيك عن المجالات الأخرى التي تقوم بها الأحزاب كالتسهيلات الاقتصادية للمواطنين، أو المحافظة على المفاهيم الإسلامية، والدفاع عنها، ورد الشبهات، وإعمار البلدان، وما إلى ذلك.

فالحزب يقوم مقام المبلّغ الإسلامي، فبدل أن يكون المبلّغ شخصاً واحداً، فليكن على شكل مؤسسة، مع عدم الاستغناء على التأكيد من مختلف أنواع المبلّغ وأساليب التبليغ المشروعة.

ولقد كان الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) يرسل ولاته إلى مختلف المناطق، ومعلوم أن ولاة أمير المؤمنين(عليه السلام) كانوا من العلماء والفقهاء والمبلغين، فكان يرسلهم إلى المناطق الإسلامية والأمصار، ويأمرهم بالرفق في الرعية، والنصح لهم ومداراتهم، مع اتباع الحق فيهم. فإذا رغب الناس فيه أبقاه، وإذا زهدوا فيه بعث آخر بدلاً عنه.

وهذا من النماذج الحية في الحرية الإسلامية السياسية والتي يمكن للأحزاب الحرة أن تكون ضماناً لتطبيقها.

نماذج من توصيات أمير المؤمنين(عليه السلام)

فمن كتاب له(عليه السلام) إلى بعض عماله قال فيه:

«أما بعد، فإن دهاقين(1) أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقاراً وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم ولا أن يُقْصوا ويُجْفوا لعهدهم، فالبسلهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والإدناء والإبعاد والإقصاء، إن شاء اللّه»(2). وهذا ما

ص: 59


1- الدَهَاقين: الأكابر، الزعماء أرباب الأملاك بالسواد، واحدهم دِهْقان بكسر الدال.
2- نهج البلاغة، الكتب: الرقم 19 من كتاب له(عليه السلام) إلى بعض عماله.

يسمى بالحزم.

وفي كتاب آخر له(عليه السلام) بعثه إلى زياد ابن أبيه، وهو خليفة عامله عبد اللّه بن عباس على البصرة، وعبد اللّه عامل أمير المؤمنين(عليه السلام) يومئذ عليها وعلى كور الأهواز وفارس وكرمان وغيرها: «وإني أقسم باللّه قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خنت من في ء المسلمين شيئا صغيراً أو كبيراً، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر(1)، والسلام»(2).

ومن كتاب له(عليه السلام) إلى زياد أيضا:

«فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يعطيك اللّه أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين، وتطمع وأنت متمرِّغ(3) في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة أن يوجب لك ثواب المتصدقين، وإنما المرء مجزي بما أسلف وقادم على ما قدم، والسلام»(4).

وكان (صلوات اللّه عليه) يوصي لمن يستعمله على الصدقات بهذه الوصايا:«انطلق على تقوى اللّه وحده لا شريك له، ولا تروِّعن مسلماً ولا تجتازن(5) عليه كارهاً ولا تأخذن منه أكثر من حق اللّه في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم

ص: 60


1- الوَفْر: المال، ثقيل الظهر: أي مسكين لا تقدر على مؤونة عيالك.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 20 من كتاب له(عليه السلام) إلى زياد بن أبيه.
3- المُتَمَرِّغ في النعم: المتقلب في الترف.
4- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 21 من كتاب له(عليه السلام) إلى زياد بن أبيه.
5- الاجتياز: المرور.

بينهم فتسلم عليهم، ولاتُخدج بالتحية لهم(1)، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني إليكم ولي اللّه وخليفته، لآخذ منكم حق اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك(2) منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه، أو توعده، أو تعسفه(3)، أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلّا بإذنه؛ فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلاتدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها ولا تسوأنّ صاحبها فيها، واصدع المال صدعين(4)، ثم خيِّره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيِّره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق اللّه في ماله، فاقبض حق اللّه منه، فإن استقالك فأقله(5)، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً، حتى تأخذ حق اللّه في ماله، ولا تأخذن عَوْداً ولا هرمة ولامكسورة ولا مهلوسة ولا ذات عَوَار(6)، ولا تأمنن عليها إلّا من تثق بدينه، رافقاً بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهمفيقسمه بينهم، ولاتوكل بها إلّا ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً، غير معنف ولا مجحف(7) ولا ملغب(8) ولا متعب، ثم احدر(9) إلينا ما اجتمع عندك نصيره

ص: 61


1- أخدجت السحابة: قل مطرها، والمراد بقوله(عليه السلام): «لا تخدج بالتحية لهم»: لا تبخل بها عليهم.
2- أنعم لك: أي قال لك نعم.
3- تعسفه: أي تأخذه بشدة.
4- صدع المال: قسمه قسمين.
5- إن استقالك فأقله: أي إن ظن في نفسه سوء الاختيار وطلب الاعفاء من هذه القسمة فأعفه منها.
6- العَوْد: المسنة من الإبل، الهَرِمَة: من الإبل أسن من العَوْد، المهلوسة: الضعيفة، العَوَار: العيب.
7- المُجحِف: من يشتد في سَوْقِ الإبل حتى تهزل.
8- الذي يعيي غيره ويتعبه، وهو من اللغوب: الاعياء.
9- حَدَر يَحْدُر: أسرع والمراد سُق إلينا سريعاً.

حيث أمر اللّه به، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه: ألّا يحول بين ناقة وبين فصيلها ولا يمصر(1) لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنها ركوباً، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفه على اللاغب وليستأن بالنقب والظالع(2)، وليوردها ما تمر به من الغُدُر(3) ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطُرُق(4)، وليروحها في الساعات وليمهلها عند النِّطاف(5) والأعشاب، حتى تأتينا بإذن اللّه، بُدَّناً منقيات(6) غير متعبات ولا مجهودات، لنقسمها على كتاب اللّه وسنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك، إن شاء اللّه»(7).

التعددية الغربية من بركات الإسلام

إن أوروبا والدول الغربية بصورة عامة بالرغم من عدم امتلاكها لمنهجالإسلام والعقيدة الصالحة، إلّا أن بعض بركات الإسلام شملها، فأصبح إدارة أمورها السياسية بشكل أو بآخر أفضل من بلادنا الاستبدادية، ولعلها من أفضل السياسات في العالم المعاصر وإن كانت السياسة الإسلامية هي السياسية الصحيحة التي تضمن للإنسان جميع حقوقه.

ففي كل دولة من دول الغرب توجد هناك عدة أحزاب حرة نسبياً، وفي كل

ص: 62


1- مَصَر اللبن: حلب ما في الضرع جميعه.
2- ليرفّه على اللاغب: أي ليرح ما ألغب أي أعياه التعب، ليستأن: أي يرفق من الأناة بمعنى الرفق، النَّقب: ما نقب خفّه: أي تخرّق، ظلع البعير: غمز في مشيته.
3- الغُدُر: جمع غدير: ماغادره السيل من المياه.
4- جَواد الطرق: يريد بها هنا الطرق التي لا مرعى فيها.
5- النِّطاف: جمع نطفة، المياه القليلة، أي يجعل لها مهلة لتشرب وتأكل.
6- البُدَّن: السمينة، المُنْقيات: اسم فاعل من أنقت الإبل إذا سمنت ، وأصله صارت ذات نِقْي أي مخّ.
7- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 25 من وصية له(عليه السلام) كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات.

أربع سنوات تجرى انتخابات حرة بين المرشحين، من الأحزاب ورئيس الدولة الحاكم.

ففي كل أربع سنوات تتبدل نوعاً ما سياسة الدولة، بفعل سياسة الحزب الذي يفوز بالانتخابات، وهذا يشبه ما دعا إليه القرآن الحكيم بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(1).

ولعل سر تقدمهم هو التطبيق النسبي لمعنى هذه الآية عملياً في مجال النظام السياسي الذي أمر به الإسلام.

أما الحزب الواحد، فهو يسير على وتيرة واحدة في الحكم، ويجر الويلات والمصائب على البلاد، لأن الجماعة التي تفكر في أن تغير صورة هذا الحكم لا سبيل لها سوى الانقلاب العسكري، أو القيام بانتفاضة شعبية عارمة، وذلك لأن سياسة الحزب الواحد لاتسمح للآخرين بأن ينتقدوا أسلوب هذا الحزب، أو يستقبلوا دعوات التغيير من الآخرين.

بل إن حكومة الحزب الواحد لا تتحمل أي تجمع شعبي ولو كان محايداً، فهي تصطدم مع أي مجموعة حتى ولو كانت هيئة خيرية، وتقمع كل تجمع سياسيوإن كان مسالماً؛ لأنها تعتقد أن هذا التجمع يسعى لإسقاطها، بينما الأمر عكس ذلك لو سمحت الحكومة للشعب في تكوين أحزاب حرة، وكيانات حرة، ظاهرة لا خفية، والكل يعمل في حل الأزمات، ورفع المستوى الثقافي والتربوي لأفراد الشعب، لكان في صالح الحكومة، وفي طريق تثبيت الحكام وتقوية سلطانهم.

فالعراق مثلاً: بلد امتازت حكوماته بسياسة الحزب الواحد وسياسة القمع والاستبداد، وعليه نرى خلال نصف قرن الأخيرة عدداً من الانقلابات الدموية

ص: 63


1- سورة الشورى، الآية: 38.

وظهور الحكومات المتعددة، إلّا أنها لاتختلف عن سابقتها... .

إلى أن حَكَم حزب البعث الظالم في العراق، وقد ظهرت فيه صفة الحزب الواحد الدكتاتوري بوضوح وجلاء، فاصطدم بكل الأحزاب والتجمعات التي كانت في العراق، بل إنه حارب حتى الهيئات الحسينية والتجمعات الصغيرة، فأبعد الأمة عن نهوضها الحضاري، كما عمل على هدم الوعي السياسي، ومنع انتشار مثل هذه الثقافة العصرية المهمة... فعاشت الأمة تحت سياط هذا الحكم العميل وراح ضحيتها الملايين والملايين من الأبرياء.

وكما أسلفنا في البدء، حيث قلنا: إن مثل هذا الحكم سوف يزج الشباب والمنادين بالحرية إلى السجون والمعتقلات وثم إلى خشبة الإعدام،وهذا ما رأيناه في سجون البعث الرهيبة وأساليب تعذيبهم الوحشية والقاسية لمن يدخل سجونهم، وهي معروفة لدى الجميع، حيث أصبحت واضحة لكل فرد.

وبعد كل هذا، لا بد للمسلمين إذا أرادوا التقدم والتحرر والخروج من مأزق الدكتاتورية الحاكمة على البلدان الإسلامية أن يسعوا في إيجاد أحزاب حرة متنافسة تعمل تحت راية الإسلام العزيز.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامةالدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الحكم ذو الطابع الشرعي

قال اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ

ص: 64


1- الكافي 3: 424.

بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَٰصِلِينَ}(1).

وقال تعالى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَىٰهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَٰسِبِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْأخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ}(5).

الحرية الإسلامية

قال اللّه عزّ وجلّ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(6).

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِيالتَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(7).

ص: 65


1- سورة الأنعام، الآية: 57.
2- سورة الأنعام، الآية: 62.
3- سورة القصص، الآية: 70.
4- سورة القصص، الآية: 88.
5- سورة المائدة، الآية: 44.
6- سورة البقرة، الآية: 256.
7- سورة الأعراف، الآية: 157.

وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(1).

الحسنات لا السيئات

قال اللّه عزّ وجلّ: {وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ السَّئَِّاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ}(2).

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}(3).

وقال سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}(4).

أهل البيت(عليهم السلام) هم القادة الشرعيون

قال اللّه عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(5).

وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(6).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ

ص: 66


1- سورة الغاشية، الآية: 21-22.
2- سورة هود، الآية: 114.
3- سورة الرعد، الآية: 22.
4- سورة الإنسان، الآية: 8-9.
5- سورة النساء، الآية: 59.
6- سورة المائدة، الآية: 3.

رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الحرية في الإسلام

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثيرُ مستَمتَع، أولها: الوفاء، والثانية: التدبير، والثالثة: الحياء، والرابعة: حُسن الخُلُق، والخامسة وهي تجمع هذه الخصال: الحرية»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الناس مسلطون على أموالهم»(5).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(6).

الحكم للّه وحده

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «نعم، إنه لا حكم إلّا للّه»(7).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن الأئمة في كتاب اللّه عزّ وجلّ إمامان قال اللّه تبارك

ص: 67


1- سورة المائدة، الآية: 67.
2- سورة الفتح، الآية: 10.
3- الخصال 1: 284.
4- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
5- نهج الحق وكشف الصدق: 494.
6- من لايحضره الفقيه 1: 317.
7- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 40 من كلام له(عليه السلام) في الخوارج لما سمع قولهم: لا حكم إلّا للّه.

وتعالى: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}(1) لابأمر الناس، يقدِّمون أمر اللّه قبل أمرهم، وحكم اللّه قبل حكمهم»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد»(3).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في وصيته لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: «يا معاذ علّمهم كتاب اللّه وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة، وأنزل الناس منازلهم خيرهم وشرهم، وأنفذ فيهم أمر اللّه، ولاتحاش في أمره ولا ماله أحداً، فإنها ليست بولايتك ولا مالك، وأد إليهم الأمانة في كل قليل وكثير، وعليك بالرفق والعفو في غير ترك للحق؛ يقول الجاهل قد تركت من حق اللّه، واعتذر إلى أهل عملك من كل أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتى يعذروك، وأمت أمر الجاهلية إلّا ما سنه الإسلام...»(4).

الإسلام والعمل الصالح

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في موعظته لابن مسعود: «إذا عملت عملاً فأعمل للّه خالصاً، لأنه لا يقبل من عباده الأعمال إلّا ما كان خالصاً»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال عزّ وجلّ: أنا خير شريك، من أشرك معيغيري في عمل عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته، ومن

ص: 68


1- سورة الأنبياء، الآية: 73.
2- الكافي 1: 216.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر.
4- تحف العقول: 25.
5- مكارم الأخلاق: 453.
6- الكافي 2: 295.

عمل لدينه كفاه اللّه أمر دنياه، ومن أحسن فيما بينه وبين اللّه أحسن اللّه ما بينه وبين الناس»(1).

أهل البيت(عليهم السلام) هم الخلفاء الشرعيون

عن عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): ما منزلة الأئمة؟ قال: «كمنزلة ذي القرنين وكمنزلة يوشع وكمنزلة آصف صاحب سليمان». قال: فبما تحكون؟ قال: «بحكم اللّه وحكم آل دواد وحكم محمد(عليهم السلام) ويتلقانا به روح القدس»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنشدكم اللّه! أتعلمون أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قام خطيباً لم يخطب بعد ذلك، فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي فتمسكوا بهما لئلا تضلوا؛ فإن اللطيف الخبير أخبرني وعهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ولايتنا ولاية اللّه، التي لم يبعث نبياً قط إلّا بها»(4).

ص: 69


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 423.
2- الكافي 1: 398.
3- كمال الدين 1: 279.
4- الكافي 1: 437.

الخبرة ودورها في الحياة

الخبرة علم

اشارة

(الخبرة) في اللغة: بكسر الخاء وضمها، بمعنى العلم بالشيء، تقول: لي به خِبْرٌ أي علم، وقد خَبَرَهُ يَخْبُره خُبْراً وخُبْرَةً وخِبْراً واخْتَبَره وتَخَبَّرهُ؛ ويقال: من أَين خَبَرْتَ هذا الأَمر أي من أين علمته؟ وقولهم: لأَخْبُرَنَّ خُبْرَكَ أي لأَعْلَمَنَّ علمك؛ يقال: صَدَّقَ الخَبَرَ الخُبْر.

والخِبْرَةُ: الاختبارُ؛ وخَبَرْتُ الرجل أَخْبُرُه خُبْرِاً وخُبْرَةً.

والخبير: العالم بالأمر، الذي يخبر عن الشيء بعلمه.

قال تعالى: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(1). في مجمع البحرين: العالم بما كان وما يكون لا يعزب عنه شيء ولا يفوته، فهو لم يزل خبيراً بما يخلق، عالماً بكنه الأشياء، مطلعاً على حقائقها(2).

و(الخبرة) في المصطلح العرفي: العلم الخاص الذي يحصل بالكسب والتجربة.

لا علم لنا

يقول القرآن الكريم: {قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ

ص: 70


1- سورة الأنعام، الآية: 103.
2- مجمع البحرين 3: 281.

الْحَكِيمُ}(1).

وفي تفسير الآية الكريمة: إن اللّه سبحانه أخبر عن الملائكة بالرجوع إليه والتسليم لأمره - في قصة خلق آدم(عليه السلام) - وقال: {قَالُواْ} أي: قالت الملائكة {سُبْحَٰنَكَ} أي: تنزيهاً لك وتعظيماً عن أن يعلم الغيب أحد سواك، وقيل: تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك في حكمك. وقيل: إنهم أرادوا أن يخرجوا الجواب مخرج التعظيم، فقالوا: تنزيهاً لك عن فعل كل قبيح، وإن كنا لا نعلم وجه الحكمة في أفعالك. وقيل: إنه على وجه التعجب لسؤالهم عما لا يعلمونه. وقوله: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} معناه: إنا لانعلم إلّا بتعليمك، وليس هذا فيما علمتنا. ولو أنهم اقتصروا على قولهم: {لَا عِلْمَ لَنَا} لكان كافياً في الجواب، لكن أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك التعظيم له والاعتراف بإنعامه عليهم بالتعليم، وأن جميع ما يعلمونه إنما يعلمونه من جهته، وأن هذا ليس من جملة ذلك، وإنما سألهم سبحانه عما علم أنهم لا يعلمونه، ليقررهم على أنهم لا يملكون إلّا ما علمهم اللّه، وليرفع به درجة آدم(عليه السلام) عندهم، بأنه تعالى علّمه ما لم يعلموه. {إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ} أي: العالم بجميع المعلومات، لأنه من صفات ذاته، وهو مبالغة (العالم). وقيل: إنهم أثبتوا له ما نفوه عن أنفسهم أي: أنت العالم من غير تعليم، ونحن المعلَّمون(2).

وقد فسر المناطقة (العلم): بأنه حالة انكشاف المعلوم على حقيقته، أو انطباع صورة الشيء في الذهن، أو هو نور يُري الإنسان حقائق الأشياء.

كما قسموا العلم على قسمين:

ص: 71


1- سورة البقرة، الآية: 32.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 1: 155.

الأول: العلم الضروري، الذي يكون من البديهيات التي لاتحتاج إلى الكسب والنظر والبرهان والتعليم، بل يكفي التوجه فيها إلى الأمر، مثل (الكُلّ أكبر من الجزء)، و(الواحد نصف الاثنين).

والثاني: العلم النظري أو المكتسب، الذي يحتاج إلى التعلم والسؤال والمذاكرة، كمعرفة أن الأرض ساكنة أو متحركة.

و(الخبرة) - بمعناها العرفي - من هذا القسم الأخير، ولكنها تارة تحصل بالعلم والمدارسة، وتارة بالعمل المباشر الخارجي - أي التجربة - وإن كانت حقيقة الخبرة أنها العلم بالشيء، أو المعرفة ببواطن الأمور، كما فسرها البعض(1).

قال تعالى: {ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ}(2) أي: انحصار فكرهم في الدنيا من دون نفوذ علمهم إلى المعاد والآخرة، فهو إذن علم محدود ضيّق ينتهي ويتوقف عند الدنيا؛ لأن متعلق إرادتهم هي الدنيا نفسها، و(الخبرة) عندما تنطلق من هذا النوع من العلم تكون خبرة محدودة ضيقة جداً مما يجعلها تصاب بالعطب والخلل أثناء السير في الحياة.

وقال سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(3)، أي: إنهم لا يقدّرون الأشياء حق قدرها، فيزعمون أن لا قوة خارقة غيبية تسير الكون، بل يظنون أن كل الأمر كائن فيما يُشاهد من القوى الظاهرة، فظاهراً أي من قواها وأسبابها ومسبباتها وسائر الخصوصيات الظاهرة، وهو نكرة للتحقير، أي: أن ظاهر الدنيا

ص: 72


1- مفردات الراغب: 273.
2- سورة النجم، الآية: 30.
3- سورة الروم، الآية: 7.

حقير بالنسبة إلى ما وراءها من حياة أُخروية، ثم إنهم لا يعلمون من ظواهر الحياة إلّا ظاهراً واحداً، فانحصر علمهم في الدنيا فقط، ومن جهة أخرى انحصر علمهم في اتجاه واحد وصورة واحدة من الحياة الدنيا.

وهنا إبدال فيه نكتة لطيفة جداً، فإن: {يَعْلَمُونَ} بدل من قوله: {لَا يَعْلَمُونَ} حيث قال تعالى قبله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وجعله بحيث يقوم مقامه، ليعلم أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز ظاهراً واحداً من الحياة الدنيا.

وكذلك الحال بالنسبة للتجربة والخبرة، إذا كان انطلاقتها من هذا العلم الذي لا يتعدى الدنيا أبداً، فسوف تكون تجربة فقيرة ومضطربة تحتاج إلى قوة تمسكها وتنير لها الطريق، وعلى هذا الأساس عندما نتصل بأهل الخبرة لكي نحصل منهم على علم الأبدان وغيرها، يلزم أن نتصل بأصحاب الخبرة الواسعة الحقيقية، لا الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، ولا الذين تكون الدنيا منتهى أفكارهم، بل علينا أن نتصل بالرجال المفكرين الذين تتصل أفكارهم بالماضي والحاضر والمستقبل، بشقيه الدنيوي والأخروي.

وحيث كان إبراهيم الخليل(عليه السلام) ذا خبرة عالية، فهو يعلم بعلمه الذي يتجاوز الدنيا ويصل إلى الآخرة، ويطلع على صور العذاب الأخروي، ويعلم أحوال الأمم السابقة التي كفرت، كان ينصح عمه (آزر) بترك عبادة الأوثان ويدعوه إلى عبادة اللّه عزّ وجلّ؛ ولذا كان يقول: {يَٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}(1)، و(ياأبت) هنا بمعنى (يا عم) فإن العم يسمى أباً أيضاً في اللغة العربية(2).

ص: 73


1- سورة مريم، الآية: 43.
2- مجمع البحرين 1: 15.

ومن هنا يلزم أن تؤخذ الخبرة من الذين لديهم معرفة ببواطن الأمور، ويرونها على واقعيتها وحقيقتها، وعلى العكس عندما لا يأخذ الإنسان بقول هؤلاء، فإن عواقبه تكون سيئة، كما هو الحال في عم إبراهيم(عليه السلام)، عندما أعرض عن نصيحة إبراهيم له، فقد شمله العذاب الأليم. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من غَنِيَ عن التجارب عَمِيَ عن العواقب»(1).

الخبرة العملية

مر الكلام عن الخبرة الناتجة من العلم وهي الخبرة العلمية، وهناك خبرة أخرى يحصل عليها الإنسان من جراء الممارسة الميدانية وتسمى بالخبرة العملية،مثلاً في العراق كان المحامون الجدد يحضرون في المحكمة لعدة ساعات لمشاهدة الصورة العملية في محاكمة المتهمين ليكسبوا بذلك خبرة وتجربة عملية، ولكي لا يواجهوا مشكلة في المستقبل عند تصديهم للمحاماة.

من مقومات الخبرة

اشارة

ثم إن للخبرة - العلمية والعملية - مقومات، من أهمها مجالسة أصحاب الخبرة للاكتساب من علمهم وتجاربهم.

وهذا لقمان الحكيم(عليه السلام) يوصي ابنه فيقول: «يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتك؛ فإن اللّه عزّ وجلّ يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء»(2).

فعلى الإنسان أن يلازم ويرافق العالم الخبير المطلع، صاحب التجارب والعلم الوافر؛ لكي يتعلّم منه مباشرة السلوك العملي، لأن المطالعة والمعرفة

ص: 74


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 630.
2- روضة الواعظين 1: 11.

لوحدها لا تكفي ما لم تقترن بالعمل والسلوك، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(1).

الخبرة الزراعية

نقل لي أحد الأصدقاء الذي كان يملك بستاناً في مدينة كربلاء المقدسة، قائلاً: كانت في بستانه مجموعة كبيرة من أشجار الرمان، ولكنها كانت تعاني من مرض غامض، حيث إن الرمان وبمجرد أن ينضج قليلاً كان قشر الرمانة يتشقق - يتفطر - مما يسبب تلف الثمار غالباً، وبما أن صديقنا كان قليل الخبرة في مجال الزراعة، فقد استشار أحد أصحاب البساتين بذلك، وكان رجلاً مُسناً، فقال: يبدو أنك تسقي الأشجار في وقت الظهر؟

فقلت: نعم.

فقال: من الآن اسق البستان أول الصباح!

قال: وفعلاً أخذت أسقي الأشجار في الصباح الباكر، فأعطت الأشجار ثمارها بالشكل الطبيعي، وتخلصنا من تلك المشكلة بسبب الاستعانة بصاحب الخبرة التي كان يمتلكها ذلك المزارع خلال عمله طوال سنين طويلة.

هيمنة اليهود الاقتصادية

ولعل من أهم أسباب سيطرة اليهود - سابقاً - على التجارة في سوق الشورجة ببغداد(2) هو خبرتهم الاقتصادية، مضافاً إلى تعاونهم الاقتصادي فيما بينهم،فكان يُقرض بعضهم البعض الآخر، ويعطيه البضاعة نسيئة، أي: يسلّمه البضاعة

ص: 75


1- سورة الصف، الآية: 2-3.
2- سوق الشورجة في بغداد هو السوق المركزي للتجار وهو الذي يغذي جميع العراق بمختلف البضائع التجارية.

ويؤجّل ثمنها إلى أجَلٍ يتفقون عليه، وكان يساعد البعض بعضاً بطرق أخرى، ولو حدث أن واحداً من التجار اليهود أصابه الإفلاس، فإنهم كانوا يقومون مجتمعين بإعانته وإرجاعه إلى وضعه السابق بل أحسن منه، وكان اليهود في بغداد إذا اجتمعوا يتواصون فيما بينهم بهذه العبارة عادة: (لا تعمل يوم السبت، ولا تنصح مسلماً)، فاليهود يعطلون أعمالهم يوم السبت بشكل تام تقريباً، وهم لا ينصحون المسلمين أبداً.

وكان هناك تاجر مسلم في مدينة بغداد، فقد كلّ ما عنده من أموال وخسر تجارته وأعلن إفلاسه، وكان له علاقة صداقة مع أحد اليهود من الذين يتعامل معهم، فقال مع نفسه: سوف أذهب إلى ذلك اليهودي، لعله ينصحني، ويخرجني من محنتي وإفلاسي، فلما اجتمع إليه ليسأله، قال له اليهودي:

إن الحاخام(1)

قد أوصانا أن لا ننصح مسلماً أبداً، ولا نعمل يوم السبت، لكن للصداقة التي بيني وبينك، أقول لك:

إذا أردت أن تقضي على إفلاسك فعليك أن تذهب غداً وتوصي عشرين من الدلالين ومكاتب العقارات بأن يبحثوا لك عن قصر من أحسن قصور بغداد، وحينما يشيع هذا الخبر بين الناس فإنك ستتمكن من استعادة ثقة الناس بك، ويطمئنون من أنك لا زلت غنياً فلا يضايقك الدائنون بالتعجيل لسداد دينهم،وسيعطيك أصحاب البضاعات ما تحتاج من بضاعة بالنسيئة، وبالفعل أخذ التاجر المسلم بنصيحة اليهودي له، وكانت خطة ناجحة حيث استعاد التاجر ثقة الناس، ورجع وضعه التجاري إلى ما كان عليه.

ص: 76


1- الحاخام: هو رئيس الكهنة عند اليهود، وهو مقدس في كتاب التلمود ويعتبرونه واجب التصديق والطاعة حتى ورد: إذا جاءك الحاخام وقال لك: إن هذه اليد اليمنى هي يدك اليسرى فصدقه!

وهذه كانت من الخبرة الاقتصادية، نعم قد تكون بعض الخبرات شيطانية ومذمومة لا ينبغي للإنسان أن يستخدمها.

الخبرة في الروايات

اشارة

ورد التأكيد في الروايات الشريفة على ضرورة التحلي بالخبرة الصحيحة الشرعية، الخالية عن الغدر والخيانة والكذب والافتراء.

ففي بحار الأنوار باب مواعظ أبي جعفر محمد بن علي الجواد(عليهما السلام) قال: «من هجر المداراة قارنه المكروه، ومن لم يعرف الموارد أعيته المصادر، ومن انقاد إلى الطمأنينة قبل الخبرة فقد عرض نفسه للهلكة وللعاقبة المتعبة»(1).

وجاء في وصية لأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «والطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم»(2).

وفي مواعظ الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام) قال لبعض ولده: «يا بني لا تواخ أحداً حتى تعرف موارده ومصادره، فإذا استنبطت الخبرة ورضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة والمواساة في العسرة»(3).

وفي احتجاج فاطمة الزهراء(عليها السلام) على القوم في قصة فدك والخلافة، قالت(عليها السلام):«إيهاً بني قَيْلة(4)، أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدى ومجمع، تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجُنة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا

ص: 77


1- بحار الأنوار 75: 364.
2- تحف العقول: 90.
3- تحف العقول: 233.
4- بنو قَيْلة: الأوس والخزرج، وقَيْلة اسم أم لهم قديمة وهي قَيْلة بنت كاهل.

تغيثون...»(1).

وفي غرر الحكم: قال(عليه السلام): «عند الخبرة تنكشف عقول الرجال»(2).

وقال(عليه السلام): «لا تثق بالصديق قبل الخبرة»(3).

من أين نبدأ؟

إن عالم الخبرة والتجربة عالم فسيح وواسع، ولكن كيف يلزم أن نستفيد منه، ومن أين نبدأ في الحياة؟

فهل نبدأ من الصفر؟

أم نبدأ من حيث انتهى الآخرون؟

بطبيعة الحال عندما نبدأ من الصفر سوف نستغرق الكثير من العمر والوقت، ولعل الفرصة لا تسمح لنا بإكمال مشاريعنا، والوصول إلى أهدافنا. إذن، كان حرياً بنا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، أي نستفيد من خبرات الآخرين وتجاربهم، وليس من الضروري أن يحصل كل واحد منا على الخبرة بنفسه، بل يمكنه الاستفادة من عقول الآخرين، فتكون نهاية الآخرين بداية لعملنا وخوضنا في هذه الحياة، ولكن بشرط أن يكون ما انتهى إليه الآخرون قائماً على أُسسمنتظمة وصحيحة تعطي نتائج مثمرة، فيلزم مراعاة هذا الشرط أولاً.

قال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام): «أعقل الناس من أطاع العقلاء»(4).

وقال(عليه السلام): «إنما البصير من سمع فَفَكَر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر»(5).

ص: 78


1- الاحتجاج 1: 103.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 100.
3- عيون الحكم والمواعظ: 522.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 186.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 274.

ثم أبرز مصداق في هذا المجال - أي مجال الخبرة الصحيحة للتأسي بهم - هو رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت الطاهرون(عليهم السلام) حيث جعلهم اللّه تعالى أسوة لنا، فيلزم علينا أن نتعلم من علومهم وخبراتهم، فإن تعدد أدوارهم واختلاف أزمانهم، لم يؤثر على وحدة الهدف، بل كان كل إمام يكمّل خطوات الإمام الذي سبقه، ويشيد أركاناً وأسساً إسلامية ناصعة، ثم يأتي الإمام الذي يليه ليكمل الدور، وهكذا كان عمل أئمتنا الأطهار(عليهم السلام)، بل هكذا كانت مسيرة الرسل والأنبياء(عليهم السلام) والأديان السماوية مع البشرية، فكل نبي كان يكمل ما قام به النبي الذي قبله، إلى أن تكامل الدين في آخر صورة وطُرح للعالمين على يد خاتم النبيين محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، ونحن من الضروري أن نعمل طبق هذا الأسلوب وهذا المنهاج الصحيح.

فلو أنشأنا مثلاً مؤسسة أو هيئة أو جمعية... فلا بد أن ندرس وندقّق في عمل المؤسسات والهيئات والجمعيات التي سبقتنا، ونكمل ما توقف عنده الماضون، ونضع خطوات جديدة على الطريق، ليأتي الجيل اللاحق ويكمل ما توقفنا عنده، لا أن نهدم البناء لنقيم مكانه بناءً آخر، فإن ذلك سوف لا يخدمنا، بل يؤخرنا، إلّا إذا كان البناء السابق قائماً على أسس غير صحيحة.

وهذا الكلام يجري في جميع مجالات الحياة، في الأمور الاقتصادية والاجتماعية وفي مختلف خطط التنمية. فنحن نجد أن تجارب السابقينوخبراتهم أوصلتهم إلى اختراع الآلة الميكانيكية مثلاً، وكانت هي المعتمدة شطراً من الزمان، ثم جاء الذين من بعدهم واستفادوا من هذا الاختراع وطوّروه فقادهم ذلك إلى اختراع الآلة البخارية، وهكذا إلى أن وصلنا إلى عصر النفط ومشتقاته، ثم إلى عصر الكهرباء والمغناطيس، وهكذا الأمر بالنسبة لجوانب الحياة الأخرى.

وكذلك في عالم الاقتصاد، حيث تُعدّ بعض الدول برنامجاً اقتصادياً لمدة

ص: 79

خمس سنوات أو عشر أو أكثر، وعندما تنتهي تقوم بوضع خطة أخرى تكميلية... وهكذا.

لذا يلزم علينا أن لا نلغي أعمال الذين سبقونا إن كانت صحيحة، بل علينا أن نفكر كيف نستفيد منها؟ وكيف نطورها ونجددها؟ وهذا من مصاديق الاستفادة من خبرة الآخرين وتجاربهم.

الانتكاسات عبرة

ثم إن الانتكاسات والسلبيات في الحياة يمكن أن تكون درساً للاستفادة منها في عدم تكرارها وتكون تجربة لسد الثغرات السابقة.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «العاقل من وعظته التجارب»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «في التجارب علم مستأنف»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يلسع العاقل من جحر مرتين»(3).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) - في حديث - قال: «واليقين علىأربع شعب: تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، ومعرفة العبرة، وسنة الأولين، فمن أبصر الفطنة عرف الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة عرف السنة، ومن عرف السنة، فكأنما كان مع الأولين واهتدى إلى التي هي أقوم، ونظر إلى من نجا بما نجا، ومن هلك بما هلك، وإنما أهلك اللّه من أهلك بمعصيته، وأنجى من أنجى بطاعته»(4).

لا بد أن يعرف الجميع أن الانتكاسة في أي طريق ليست نهاية له، وليست

ص: 80


1- من لا يحضره الفقيه 4: 388.
2- الكافي 8: 22.
3- الإختصاص: 245.
4- الكافي 2: 50.

مدعاة للتنازل، ولا الابتعاد الكلي أو الانسحاب التام عن العمل وإلغاء الأهداف، ونثر الأتعاب والجهود مع الريح؛ بل إن الانتكاسة هي عبارة عن عثرة وسط الطريق، يمكن عبورها وتجاوزها بصمود الإرادة وقوتها؛ مضافاً إلى التوكل على اللّه وطلب العون منه، لذا لا بد لنا أن نأخذ من مجموع الانتكاسات التي نمر بها، أو التي مر ويمر بها الآخرون، دروساً في عملنا وسيرنا نحو تحقيق الأهداف... .

والذين يتصورون أن الانتكاسة بمثابة الأغلال والقيود المعيقة عن العمل والتواصل، أولئك أخطاوا في فهمها، ولم يعوا معناها، بل إن هناك بعض الانتكاسات تعكس من ورائها فوائد للعامل، لكي يكشف أخطاءه ونقاط ضعفه، ويميزها ويشخّصها، ثم يسعى نحو وضع العلاج المناسب لها وتصحيحها.

تأتي الانتكاسة عادة من قلة الخبرة، وبسبب أخطاء في العمل، أو أخطاء في التطبيق أو النظرية، وما لم يتشخص الخطأ، فإن الأمور سوف تجري حتى تصل إلى الانتكاسة، فإذن علينا أن ندخل الميدان العملي، ونأخذ بالأسباب الصحيحةالتي تعطينا النتائج الصحيحة، ونحاول أن نتعامل مع الخطأ والسلبيات بروح عالية، وأمل كبير، وجدية متواصلة، وعزم ثابت، حتى نصل إلى المراد.

دروس من ثورة العشرين

انتصرت ثورة العشرين(1) في العراق، ولكن عقيب الانتصار لقلة الخبرة عند

ص: 81


1- هي ثورة عارمة ضد الاستعمار الإنكليزي في العراق عام (1338ه-1920م)، حيث أصدر قائد الثورة الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) فتواه الشهيرة ضد التواجد الإنكليزي في العراق، مما أدى إلى اشتعال الثورة على الإنجليز من شمال العراق إلى جنوبه، وكان نص الفتوى: (مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الإنكليز عن قبول مطالبهم).

البعض ولعدم طاعة القائد العام فلتت أزمّة الأمور من بين أيدي الإسلاميين، وتدخلت القوى الكبرى الاستعمارية، وجاءت بحكومة شكلها عراقي، ولكن حقيقتها ليست كذلك، فجرّت الويلات والمآسي على الشعب العراقي إلى يومها هذا، إن تلك الانتكاسة يلزم أن تكون عبرة لنا، لنصحح الأخطاء التي وقعنا فيها في ذلك الوقت، حتى لا تتكرر ثانية.

إذ بعد انتصار ثورة العشرين التي هزّت عرش الإنجليز في العراق، توفي قائد الثورة المرجع الديني الأعلى الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) واستطاع الإنجليز أن يلتفوا على العراق مرة أخرى وبصيغة جديدة؛ إذ نصبوا فيصل ملكاً على العراق، وقد انطلت المؤامرة على بعض الثائرين نتيجة قلة الوعي وعدم الخبرة، نعم وقف البعض الآخر وهم الواعون ضد هذه المؤامرة من أمثال:

السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله) والشيخ محمد حسين النائيني(رحمه الله) وغيرهم من العلماء فلم يقبلوا بهذه المؤامرة الاستعمارية، حيث عارضوا ترشيح (فيصل) وأي مرشح آخر في ظل الانتداب، وشددوا على تشكيل الحكومة الإسلاميةالمستقلة عن الأجنبي استقلالاً تاماً وأكدوا على ضرورة أن يكون الحكم بيد الأكثرية الشيعية... .

وظهر واضحاً هذا المواقف المخالف للدولة عندما كان (فيصل) يزور المناطق الشيعية، فلم يكن علماء الدين في استقباله، وكان الاستقبال الشعبي ضعيفاً جداً خصوصاً في كربلاء والنجف المقدستين، وبعد فترة أخذ الحكم الطائفي بمحاربة الشيعة وحوزاتها وعلمائها، فأمر فيصل (صالح حمام)(1) بنفي مراجع التقليد ورجال الدين من النجف الأشرف وكربلاء المقدسة إلى إيران،

ص: 82


1- كان مدير شرطة كربلاء المقدسة.

وفي اليوم المحدد لرحيلهم ذهب الناس لوداعهم من منطقة المخيم في كربلاء المقدسة إلى باب بغداد (وهي نهاية كربلاء على طريق بغداد) وكانت حالة الحزن والبكاء والتضرع بادية عليهم وهم يودعون العلماء، ويقولون: لهم لا تنسونا من الدعاء عند مرقد الإمام الرضا(عليه السلام)!!

هذا كل ما قام به الناس تجاه هذا العدوان السافر، ولم يقوموا بأي تحرك سياسي أو ضغط اجتماعي أو ما أشبه.

نعم، هكذا كانت ردة فعل الناس بسيطة تجاه هذا الحدث المؤلم، فالناس أخذوا ينصرون العلماء بالدموع والحزن فقط من دون أن يتخذوا موقفاً عملياً في هذا السبيل، وكان بإمكانهم تغيير مسار الحدث في حينه لو أنهم تصرفوا بوعي وأدركوا خطورة تصرف الحكومة تجاه مراجعهم وعلمائهم، وما لذلك من أثر في المستقبل وكونه خطوة أولى ستتبعها خطوات أخر أشد خطورة وأكثر تأثيراً، وللأسف الشديد لم يبد أحد من الناس اعتراضه المؤثر واستنكاره الشديد على الحكومة لاتخاذها هذا الإجراء الظالم ضد العلماء والمراجع؛ لذا فإن الحكومةواصلت تنفيذ القرار وأبعدتهم إلى إيران.

بعد مدة نقل عن (صالح حمام) قوله - وهو المسؤول عن تنفيذ عملية إبعاد العلماء إلى إيران - : كان لدينا أمر من الجهات العليا في الدولة بأنه إذا اعترض الناس ولو جزئياً، وصدرت ردود فعل منهم بهذا الاتجاه واحتجاجاً على تسفير العلماء، أو تكلموا ضد قرار الدولة وطالبوا برفع هذا الحكم عنهم، فإنه سيتعين علينا إلغاء القرار وترك العلماء يعودون إلى ما كانوا عليه، ولكن الناس لم يبدوا أي اعتراض على ذلك؛ لذا طبقنا ما أمرنا به!! وكان كل ذلك لقلة وعي الناس وعدم خبرتهم بالقضايا السياسية.

وهكذا تتبين أيضا خطورة الدور المهم للسان والقلم في تعميق الوعي وتعبئة

ص: 83

الرأي العام لتحقيق الأهداف اللازمة. فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه ليس وراء ذلك شيء من الإيمان»(1).

عالم اليوم والخبراء

كثيراً ما تحتاج الدول إلى خبراء في مجال معين، لاسيما دول العالم الثالث، أو ما يطلق عليها (الدول النامية)، حيث تستعين في تطوير نفسها، أو تنظيم إداراتها، أو بعض وزاراتها، ببعض الخبراء الدوليين، فتقدم طلبها إلى مجلس المعونة الفنية، ويتضمن الطلب نوع المهمة، وطبيعة العمل في الإقليم، والفترة اللازمة للقيام بها، ويتم إيفاد الخبير بعد موافقة لجنة المعونة الفنية.

والخبير هو الشخص الذي يتميز بمستوى عالٍ من الخبرة في مجال محدد من مجالات المعرفة حيث يكلّف عادة بإعداد دراسة، أو تقديم مشورة لبعضالحكومات.

وواحدة من أبرز مشاكل بلادنا الإسلامية هي هذه، أي عدم وجود خبراء محليين في مستوى عال من الخبرة، فهي فقيرة في هذا الجانب؛ ولذلك فهي تستعين بالخبراء الأجانب، وجرت عادة الاستعمار أن يجنّد هؤلاء الخبراء للعمل معه ولغير الغاية المنشودة منهم، فيجعل من بعض هؤلاء الخبراء جواسيس، يتجسسون على البلاد التي يعملون فيها، ويرفعون المعلومات الخطيرة عن ذلك البلد.

وهناك طريقة أخرى من تبادل الخبرات في عالمنا الحاضر، وهو المسمى (بالخدمات الودية)، حيث تبعث دولة إلى أخرى بخبير، أو مجموعة من الخبراء

ص: 84


1- عوالي اللئالي 1: 431.

تساعدها بلا مقابل، أي أن الدولة التي تبعث الخبراء لا تأخذ من الدولة الأخرى أجرة على ما يقومون به من خدمات، بل تكتفي بأخذ قروض طويلة الأجل بلا فائدة، أو لقاء خبراء آخرين من ذلك البلد.

وهناك لون آخر، وهو البعثات التي تقوم بها الدول النامية مثلاً، إلى الدول الأوروبية، من أجل تحصيل الخبرة والمعرفة.

وبما أن بلادنا الإسلامية قليلة الخبراء، فتراها متأخرة دائماً في تلك المجالات الحيوية. وهذا من أهم أسباب تأخر المسلمين.

الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) والخبرات

لقد عمل الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) على الاستفادة من خبرات الآخرين، حينما أمر أسرى قريش في معركة بدر أن يعلّم كل واحد منهم عشرة أشخاص منالمسلمين القراءة والكتابة(1)

وجعله فدية لهم.

أو عندما طرح سلمان الفارسي (رضوان اللّه عليه) على النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فكرة حفر الخندق في واقعة الأحزاب، فهذه الفكرة والخبرة الحربية كانت عبارة عن تجربة عاشها سلمان(رحمه الله) في الزمن الماضي في بلاد الفرس، فأقرها الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وطبّقها حيث أمر بحفر الخندق.

ومن هنا تأتي أهمية الاستفادة من خبرات الآخرين، وتحث النصوص الواردة عن الأئمة(عليهم السلام) على الاستفادة من تجارب الغير، من أجل تطوير النفس، أو الجماعة، أو البلاد، لعلمهم بفائدة الخبرات والتجارب، ودورها العام في الحياة،

ص: 85


1- بعثت قريش في فداء الأسارى وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف، ... ومن لم يكن معه فداء، وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة ليعلمهم الكتابة. السيرة الحلبية 2: 451.

فقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «العقل حفظ التجارب»(1).

وقال(عليه السلام): «ثمرة التجربة حُسن الاختيار»(2).

وقال(عليه السلام): «من حفظ التجارب أصابت أفعاله»(3).

وقال(عليه السلام): «حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء ويضم إلى علمه علوم الحكماء»(4).

موسى والخضر(عليهما السلام)

قال اللّه تبارك وتعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ءَاتَيْنَٰهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَٰهُمِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}(5).

في البحار: إن موسى(عليه السلام) سأل ربه: «أيّ عبادك أحبّ إليك؟».

فقال: «الذي يذكرني ولا ينساني».

قال: «فأي عبادك أقضى؟».

قال: «الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى».

قال: «فأي عبادك أعلم؟».

قال: «الذي يبتغي علم الناس إلى علمه؛ عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى، أو ترده عن ردى».

قال: «إن كان في عبادك أعلم مني فادللني عليه؟».

ص: 86


1- عيون الحكم والمواعظ: 50.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 444.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 444.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 55.
5- سورة الكهف، الآية: 65- 68.

قال: «أعلم منك الخضر».

قال: «أين أطلبه؟».

قال: «على الساحل عند الصخرة»(1).

وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) أنه قال: «إن الخضر(عليه السلام) كان نبياً مرسلاً بعثه اللّه تبارك وتعالى إلى قومه، فدعاهم إلى توحيده والإقرار بأنبيائه ورسله وكتبه، وكانت آيته أنه كان لا يجلس على خشبة يابسة ولا أرض بيضاء إلّا أزهرت خضراً، وإنما سمي خضراً لذلك، وكان اسمه باليا بن ملكان بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح(عليه السلام)، وإن موسى(عليه السلام) لما كلمه اللّه تكليماً، وأنزل عليه التوراة وكتب له في الألواح من كل شيء موعظة، وتفصيلاً لكل شيء، وجعل آيتهفي يده وعصاه، وفي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وغرق اللّه عزّ وجلّ فرعون وجنوده، وعملت البشرية فيه، حتى قال في نفسه: ما أرى أن اللّه عزّ وجلّ خلق خلقاً أعلم مني؟

فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى جبرئيل: يا جبرئيل، أدرك عبدي موسى قبل أن يهلك، وقل له: إن عند ملتقى البحرين رجلاً عابداً فاتبعه وتعلم منه.

فهبط جبرئيل على موسى(عليه السلام) بما أمره به ربه عزّ وجلّ؛ فعلم موسى أن ذلك لما حدثت به نفسه، فمضى هو وفتاه يوشع بن نون(عليه السلام) حتى انتهيا إلى ملتقى البحرين، فوجدا هناك الخضر(عليه السلام) يعبد اللّه عزّ وجلّ كما قال عزّ وجلّ في كتابه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ءَاتَيْنَٰهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؟}(2).

ص: 87


1- بحار الأنوار 13: 281.
2- سورة الكهف، الآية: 65- 66.

قال له الخضر: إنك لن تستطيع معي صبراً؛ لأني وكلت بعلم لا تطيقه، ووكلت أنت بعلم لا أطيقه.

قال موسى له: بل أستطيع معك صبراً.

فقال له الخضر: إن القياس لا مجال له في علم اللّه وأمره، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً؟

قال موسى: ستجدني إن شاء اللّه صابراً ولا أعصي لك أمراً.

فلما استثنى المشي قبله، قال: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً؟

فقال موسى(عليه السلام): لك ذلك علي فانطلقا...»(1).

ومن هنا بدأت قصة اتباع موسى(عليه السلام) للخضر(عليه السلام)، من أجل تحصيل العلم والخبرة، وزيادة الإطلاع على حقائق الأمور وبواطنها.

قال الشيخ الصدوق(رحمه الله): إن موسى(عليه السلام) مع كمال عقله وفضله ومحله من اللّه تعالى ذكره، لم يستدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر(عليه السلام)، حتى اشتبه عليه وجه الأمر فيه، وسخط من جميع ما كان يشاهده، حتى أُخبر بتأويله فرضي(2).

أقول: ولعل ذلك كان من موسى(عليه السلام) تعليماً لنا، فهي بمثابة قصة مجسدة لتكون عبرة للآخرين، كما وقع أمثالها لعديد من الأنبياء(عليهم السلام) حيث كانوا يظهرون شيئا لكي يكون أسوة للناس، فكان اتباع موسى للخضر(عليهما السلام) من أجل بيان أهمية الازدياد في العلم، والتعمق في المعرفة، ورؤية الأشياء والأمور على واقعها الذي

ص: 88


1- علل الشرائع 1: 59.
2- بحار الأنوار 13: 289.

كان الخضر(عليه السلام) يراه.

قال تعالى مخاطباً نبيه الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(1).

فإذا كان تحصيل الخبرة والعلم من أدب الأنبياء والرسل(عليهم السلام) لاسيما أولو العزم منهم، فنحن الناس العاديين أولى بذلك، لأننا عبارة عن هيكل من النواقص والثغرات؛ ولذلك يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «جالس العلماء تزدد علماً»(2).

وفي قصة نبي اللّه موسى مع الخضر(عليهما السلام) هناك عدة نقاط للتعلم، منها:

1- إن الإنسان، مهما وصل إليه من علم ومعرفة وخبرة واطلاع، لا يزال فقيراًإلى العلم وتحصيل الخبرة، لكي تزداد عنده المعرفة.

2- ضرورة تواضع الإنسان لمن هو أعلم منه - ولو في مجال دون مجال - وأوسع معرفة وخبرة، وأن لا يستنكف من تحصيل العلم والمعرفة والخبرة، قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المجرب أحكم من الطبيب»(3).

3- أدب السؤال في التعلم وأخذ المعرفة: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ}(4).

4- الصبر والتأني وعدم العجلة في طريق العلم وكسب الخبرات ورؤية النتائج: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}(5).

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفقنا والأمة الإسلامية جمعاء للمزيد من

ص: 89


1- سورة طه، الآية: 114.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 336.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 64.
4- سورة الكهف، الآية: 66.
5- سورة الكهف، الآية: 69.

اكتساب الخبرة في الحياة، فإنها من أسس التقدم، إنه قريب مجيب.

اللّهم صل على محمد وآل محمد، «اللّهم نوّر بكتابك بصري، واشرح به صدري، وأطلق به لساني، واستعمل به بدني، وقوّني به على ذلك، وأعنّي عليه، إنه لا يعين عليه إلّا أنت، لا إله إلّا أنت»(1) بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

مقومات الخبرة
1- العلم

قال تعالى: {وَنُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {بَلْ هُوَ ءَايَٰتُ بَيِّنَٰتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(5).

2- الوعي والبصيرة

قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}(6).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}(7).

ص: 90


1- عدة الداعي: 298.
2- سورة التوبة، الآية: 11.
3- سورة طه، الآية: 114.
4- سورة العنكبوت، الآية: 49.
5- سورة المجادلة، الآية: 11.
6- سورة الأنعام، الآية: 104.
7- سورة يوسف، الآية: 108.

وقال سبحانه: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(1).

3- الاعتبار من عواقب الماضين

قال عزّ وجلّ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(2).

وقال تعالى: {وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(3).

وقال سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِنقَبْلِهِمْ}(4).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}(5).

4- التفكر

قال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}(7).

وقال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِم}(8).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ}(9).

ص: 91


1- سورة الحاقة، الآية: 12.
2- سورة آل عمران، الآية: 137.
3- سورة الأعراف، الآية: 86.
4- سورة يوسف، الآية: 109.
5- سورة النمل، الآية: 69.
6- سورة البقرة، الآية: 219.
7- سورة الأنعام، الآية: 50.
8- سورة الروم، الآية: 8.
9- سورة سبأ، الآية: 46.

من هدي السنّة المطهّرة

مقومات الخبرة
1- العلم

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في وصية له لأبي ذر(رحمه الله): «وطالب العلم أحبه اللّه وأحبه الملائكة وأحبه النبيون، ولا يحب العلم إلّا السعيد، وطوبى لطالب العلم يوم القيامة...»(1).

وقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليُحيي به الإسلام كانبينه وبين الأنبياء(عليهم السلام) درجة واحدة في الجنة»(2).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج...»(3).

وقال الإمام الهادي(عليه السلام): «فلم يرض (اللّه تعالى) للعالم المؤمن إلّا أن يرفع على المؤمن غير العالم»(4).

2- الوعي

قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلّا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رحم اللّه امرأً تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر...»(6).

ص: 92


1- جامع الأخبار: 38.
2- منية المريد: 100.
3- الكافي 1: 35.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري(عليه السلام): 352.
5- الكافي 1: 33.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 103 من خطبة له(عليه السلام) في التزهيد في الدنيا وصفة العلماء... .

وقال(عليه السلام): «اليقظة نور، الغفلة غرور»(1).

وقال(عليه السلام): «اليقظة استبصار»(2).

3- الاعتبار من عواقب الماضين

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «اعتبروا فقد خلت المَثُلات(3) فيمن كان قبلكم»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته ووقائعه ومثلاته واتعظوا بمثاوي خدودهم ومصارع جنوبهم...»(5)

)(6).

وقال(عليه السلام): «إن للباقين بالماضين معتبراً»(7).

وقال(عليه السلام): «خُلّف لكم عِبَرٌ من آثار الماضين قبلكم لتعتبروا بها»(8).

4- التفكر

قال الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم): «ولا عبادة مثلُ التفكر»(9).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «نبّه بالتفكر قلبك»(10).

ص: 93


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 21.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 60.
3- المثلات: الدواهي والعقوبات.
4- كنز الفوائد 2: 31.
5- مثاوي: جمع مثوى، بمعنى المنزل، ومنازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت، مصارع الجُنُوب: مطارحها على التراب.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى بالقاصعة.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 222.
8- عيون الحكم والمواعظ: 241.
9- من لا يحضره الفقيه 4: 372.
10- الكافي 2: 54.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أفضل العبادة إدمان التفكر في اللّه وفي قدرته»(1).

وسُئل عيسى(عليه السلام) من أفضل الناس؟ قال: «من كان منطقه ذكراً، وصمته فكراً، ونظره عبرة»(2).

ص: 94


1- الكافي 2: 55.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 250.

الرأي العام ودوره في المجتمع

الرأي والعزيمة

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «على قدر الرأي تكون العزيمة»(1).

وقال(عليه السلام): «الرأي كثير والحزم قليل»(2).

إن من المواضيع المهمة والتي ورد مضمونها في روايات أهل البيت(عليهم السلام) هو موضوع الرأي ودوره في الحياة، ومن مصاديق الرأي بل من أهمها الرأي العام.

ونحن - في هذا البحث - سنتطرق إليه بايجاز، لما رأينا من تجاهل له، بل وتناسيه ونكران دوره عند البعض في مختلف المجالات التي تعيشها الأمة الإسلامية... .

ثم إن عدم الاهتمام بالرأي العام وسائر مقومات التقدم والرقي كان مما أدى إلى وقوع الأمة بين مخالب الاستعمار إعلامياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وغيرها، وقد لعب الإعلام المضاد دوراً هاماً في سبيل إخفاء حقيقة الرأي العام الإسلامي وصوته، وذلك لسلب الحرية الإنسانية وإخفاء الحقائق والمبادئ البنّاءة.

لذا ولكي نمارس حريتنا الإنسانية المشروعة لا بد أن نكرس جهودنا، وبهمة

ص: 95


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 451.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 29.

عالية من أجل تحصيل مقومات التقدم والرقي، ومنها الاستفادة من الرأي العام في صالح نشر الفضيلة والتقوى.

وعلينا الالتفات إلى أهمية الرأي العام وكيفية تحشيده لصالح الإسلام والمسلمين، فنستعيد حقوقنا المسلوبة، ونعيد إلى أمة المسلمين المكانة الطبيعية العالية والراقية التي كانت تمتاز بها في عصر تطبيق المبادئ الإسلامية.

حقيقة الرأي العام

لقد اختلف العلماء في تعريف (الرأي العام)، فهناك في تحديد مفهومه أقوال(1).

ومهما كان الاختلاف في تبيين حقيقته فإن مفهومه واضح لدى الجميع ولا يحتاج مثل ذلك إلى التعريف بالحد التام، بل يكفي فيه الحد الناقص، وربما يكتفى في تحديده بالرسم التام أو الناقص أيضاً، فإن التوضيح قد يكون بشرح الاسم، وهذا مما يكتفى به عادةً في المحاورات العرفية.

وعلى هذا يمكن أن نعرّف الرأي العام: بأنه موقف جماعة من الناس تجاه مشكلة معينة كالفقر أو الظلم أو الاستبداد، أو حادث معين كالكوارث الطبيعية أو البشرية من حروب وغيرها، إمّا سلباً أو إيجاباً. أو ما أشبه ذلك... .

مقومات الرأي العام

ثم إن للرأي العام مقومات، منها:

1- الجماعة: وهم الأفراد بميولهم، وتقاليدهم، وعاداتهم، ونُظُمهم السياسية والاجتماعية.

ص: 96


1- قالوا: إنه اصطلاح للتعبير عن رأي الجماعة بالنسبة لموضوع من الموضوعات الهامة التي تتصل بحياتهم، وقال آخرون: إنه ليس اصطلاحاً، بل هو ثمرة للتفاعل بين العوامل المختلفة التي كان من نتيجتها ظهور قوة في الرأي سميت بالرأي العام، وقال آخرون: هو النتيجة التي وصل إليها الناس بعد مناقشاتهم وقراءاتهم عن موضوع أو حدث مؤثر في مصالحهم الخاصة أو العامة.

2- المشكلة: وهي الموضوع الذي يؤثر في الرأي العام قبولاً ورفضاً. وبعبارة أخرى ما يترتب عليه الرأي العام.

3- المناقشة: بمعنى وجود النقاش والحوار والتفاعل بين الجماعة حول الموضوع المؤثر.

ومن العلماء من أضاف عاملَي: الزمن والخبرة. وبذا يتضح لنا أن حقيقة الرأي العام متقومة بالجماعة التي تتحاور وتتفاعل مع موضوع يؤثر فيها قبولاً أو رفضاً. ومن الطبيعي أن تعطي - عادة - مثل هذه المحاورات نتائج إيجابية للمجتمع.

أهمية الرأي العام

إن صوت الحق وانتشار العدل والفضيلة لا يمكن إيصاله إلى الناس بواسطة المدافع أو الأسلحة الذرية الفتاكة أو أساليب العنف، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1)، وقال عزّ وجلّ: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2).

بل يمكن إيصال الحق عبر الطرق السلمية المشروعة، من الأقلام والمنابر، ومختلف طرق الحوار الهادف، وعبر الاستفادة من أساليب الإعلام الموجه الحديثة، كالصحف والإذاعات والقنوات الفضائية والإنترنت، وغيرها... .

- أما الاستفادة من القوة فتكون في محلها وبشروطها المذكورة في باب الجهاد وما أشبه - .

ومن هنا جاءت أهمية بلورة الرأي العام عن طريق هذه الأساليب المذكورة؛

ص: 97


1- سورة البقرة، الآية: 256.
2- سورة النحل، الآية: 125.

وقد اهتمت الدوائر العالمية - غير المسلمين طبعاً - بوسائل الإعلام المختلفة لتوجيه الأفكار والعقول نحو خططها ومصالحها الخاصة، لكي تحقق مطامعها في الدول التي لم تصل إلى مستوى عالٍ من الكفاءة في إدارة الإعلام والاستفادة من الرأي العام لصالحها.

وهكذا قامت الدول الاستعمارية بإيجاد وكالات أنباء عالمية توجهها إلى كافة دول العالم، فتقوم هذه بتوجيه الرأي العام العالمي بما يخدم ويضمن المصالح الاستعمارية في العالم من خلال ما تذيعه على العالم من أخبار وتعليقات وتحليلات في كافة الشؤون الحياتية، فضلاً عن الصحف والمجلات وغيرها، فإنها عوامل مؤثرة جداً في إيجاد الرأي العام وتوجيهه.

هذا بالإضافة إلى الاستفادة من مختلف عوامل التأثير في سلوك الفرد والجماعة من الدين والثقافة والتعليم والأسرة والأحداث الهامة وغيرها.

كيف نهيئ الرأي العام الإسلامي؟

لا بد لأمتنا من الحصانة الفكرية والإعلامية في هذا الخضم المتلاطم من التحوير والغزو الفكري والإعلام المزيف والصحافة المنحرفة... ولا بد للرأي العام الإسلامي من توجيه وإرشاد عبر العلماء والمثقفين، وتعريفها المطالبة بحقوقها المشروعة، وقضاياها العادلة في الحرية والاستقلال وعدم التبعية، وهذا يتم بوسائل أهمها:

1- إيجاد الجماعات السلمية المضادة للتحريف والتحوير الفكري، لكي تصنع الرأي العام الإيجابي، وترد الدعوات الزائفة، وتفضح الدعايات الاستعمارية الكاذبة، ضمن قاعدة (النهي عن المنكر) وما أشبه.

2- تثقيف المجتمع بالثقافة الصحيحة حتى يعرفوا الحق من الباطل

ص: 98

والحقيقة من الزيف، وتنوير الأجيال الصاعدة بحقائق الإسلام ومصالح الأمة الحقيقية، وإعطائهم التحليل الصحيح للأمور ضمن قاعدة (الأمر بالمعروف)، وقاعدة «المؤمن كيّس فطن حذر»(1) كما ورد في الحديث الشريف، وقاعدة «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(2).

3- تقوية وسائل الإعلام وإعطائها الحرية الكافية لممارسة مهامها ضمن أطر مشروعة تصب في خدمة المصلحة العامة.

4- تقوية وسائل التربية والتعليم، ابتداءً بالطفل حين دخوله المدرسة، وتوجيهه وفق الآداب الإسلامية النبيلة، وتعليمه مبادئ الإسلام الحنيف وسيرة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام).

5- الاستفادة من الأحداث الهامة والمؤثرة في توجيه الرأي العام العالمي والمحلي نحو مصالح الأمة الإسلامية، وتوضيح مواقفهم السلبية.

شواهد من الرأي العام وتأثيره

اشارة

بعد هذه المقدمة الوجيزة عن الرأي العام وبيان تعريفه وسبل إيجاده بشكل رصين بين أبناء الأمة، نشير إلى بعض الشواهد التي تمثل دور الرأي العام، وكيفية إيجاده بين المسلمين من قبل النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المطهرين(عليهم السلام).

الرأي العام وفرض البدع

ورد أن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ترك القوم على ما ارتأوه من صلاة التراويح، وذلك لوجود الرأي العام فيها، على الرغم من أنه(عليه السلام) قد نهاهم عنها وذكّرهم بعذاب جهنم وبين لهم الرشد من الغي، ولكن لما رأى إصرارهم عليها تركهم

ص: 99


1- جامع الأخبار: 85.
2- الكافي 1: 27.

وشأنهم رعاية للأهم والمهم، مضافاً إلى ما أداه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن هنا يعرف مدى أهمية الرأي العام في اصلاح المجتمع أو إفساده، فإن من البدع التي وضعها الثاني في الإسلام هي: (صلاة التراويح)، فقد كان النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) يصلي في ليالي شهر رمضان الصلوات المستحبة المختلفة إلى الفجر فرادى، حيث لا تصحّ الجماعة في النوافل.

روي عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد(عليهما السلام) أنه قال: «صوم شهر رمضان فريضة، والقيام في جماعة في ليلته بدعة، وما صلاها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في لياليه بجماعة، ولو كان خيراً ما تركه وقد صلى في بعض ليالي شهر رمضان وحده، فقام قوم خلفه، فلما أحس بهم دخل بيته، فعل ذلك ثلاث ليال، فلما أصبح بعد ثلاث صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، لا تصلوا النافلة ليلاً في شهر رمضان ولا غيره في جماعة، فإنها بدعة، ولا تصلوا ضحًى فإنها بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار، ثم نزل وهو يقول: «قليل في سُنة خير من كثير في بدعة»(1).

وكان المسلمون كذلك يفعلون في حياته(صلی الله عليه وآله وسلم) وحتى بعد وفاته(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى فترة من حكومة عمر.

حتى روي أن في ليلة من ليالي شهر رمضان دخل عمر المسجد فرأى الناس يصلون فرادى كل في جانب، أحدهم راكع والآخر ساجد، وثالث قائم وهكذا... فقال: لنصل هذه الصلوات المستحبة جماعة! فأطاعوه، فصارت الصلاة المستحبة - التي لا تصح إلّا فرادى - تصلى جماعة بأمر من عمر بن

ص: 100


1- بحار الأنوار 94: 381.

الخطاب(1).

بعد ذلك أراد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في فترة حكومته التي استمرت (خمس سنوات) أن يقضي على هذه البدعة، فنهى عن الإتيان بصلاة التراويح، إلّا أن بعض الناس تظاهروا ضد هذا القرار من الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وأخذوا ينادون بشعار: وا سنّة عُمَراه، وفي رواية: وا رمضاناه... .

فلما رأى الإمام(عليه السلام) ذلك منهم تركهم وشأنهم وقال لابنه الحسن: «اذهب واقرأ لهم هذه الآية الشريفة: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(2)(3).

وعن أبي جعفر وأبي عبد اللّه(عليهما السلام) قالا: «لما كان أمير المؤمنين(عليه السلام) بالكوفة أتاه الناس فقالوا له: اجعل لنا إماماً يؤمنا في رمضان؟ فقال لهم: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلما أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا رمضان، وا رمضاناه، فأتى الحارثالأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين، ضج الناس وكرهوا قولك؟ قال: فقال عند

ص: 101


1- روى البخاري بإسناده عن عبد الرحمن بن عبدالقاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر: نعم البدعة هذه... صحيح البخاري 2: 252. وذكر اليعقوبي في حوادث سنة أربع عشرة: وفي هذه السنة سنّ عمر بن الخطاب قيام شهر رمضان، وكتب بذلك إلى البلدان، وأمر أبيّ بن كعب وتميماً الداري أن يصليا بالناس. فقيل له في ذلك: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لم يفعله، وإن أبا بكر لم يفعله؟ فقال: إن تكن بدعة فما أحسنها من بدعة. تاريخ اليعقوبي 2: 140.
2- سورة النساء، الآية: 115.
3- انظر: وسائل الشيعة 8: 46.

ذلك: دعوهم وما يريدون، ليصل بهم من شاءوا، ثم قال: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}»(1)(2).

وعن سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين(عليه السلام) فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم صلى على النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال: «ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان: اتباع الهوى، وطول الأمل» إلى أن قال: «قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) متعمدين لخلافه، فاتقين لعهده، مغيرين لسنته، ولو حملت الناس على تركها لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي» إلى أن قال: «واللّه لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غيّرت سنة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً، ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري»(3).

وعن عمار عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سألته عن الصلاة في رمضان في المساجد؟ قال: «لما قدم أمير المؤمنين(عليه السلام) الكوفة أمر الحسن بن علي(عليهما السلام) أن ينادي في الناس: لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعةً(4)، فنادى في الناس الحسن بن علي(عليهما السلام) بما أمره به أمير المؤمنين(عليه السلام) فلما سمع الناس مقالة الحسن بن علي(عليهما السلام) صاحوا: وا عمراه، وا عمراه، فلما رجع الحسن(عليه السلام) إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) قال له: ما هذا الصوت؟ فقال: يا أمير المؤمنين(عليه السلام) الناس

ص: 102


1- سورة النساء، الآية: 115.
2- وسائل الشيعة 8: 47.
3- وسائل الشيعة 8: 46.
4- أي في النوافل والصلوات المندوبة.

يصيحون:

وا عمراه وا عمراه!!

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): قل لهم صلوا»(1).

إذاً، فإن احتجاج بعض الناس ومخالفتهم للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كان في زمن تصدي الإمام(عليه السلام) للحكم حيث كان خليفة المسلمين والحاكم الأعلى لهم في حكومته الظاهرية ولكن الإمام(عليه السلام) مع ذلك ترك الناس وما يصرون عليه، وذلك لأهمية الرأي العام، فلم يتخذ موقفاً في القضاء على صلاة التراويح ورفعها من بين المسلمين، رغم عدم شرعيتها، إلّا بالموقف اللفظي حيث اكتفى فقط بتذكيرهم بعذاب اللّه يوم القيامة الذي ينتظر كل من يخالف الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) ويعاديهم ويتخذ سبيلاً غير سبيل المؤمنين كما في الآية المتقدمة.

هذا هو تأثير الرأي العام

يقولون: إن قدرة الرأي العام وتأثيره في المعنويات أكبر بكثير من قدرة تأثير أكبر السيول في الماديات، وهي تفعل ما لا تفعله أشد الأعاصير والزلازل؛ وذلك لأن باستطاعة الرأي العام أن يجعل أكبر الحكومات سعةً وأشدها قوةً تركع أمامه مستسلمة راضخة!

انكسار قدرة يزيد

في عالم اليوم - حيث التقدم الصناعي والتكنولوجي - يعتبر الجيش الروسيمن أكبر الجيوش العالمية، حيث يتألف من أربعة ملايين جندي(2)، بينما قبل

ص: 103


1- تهذيب الأحكام 3: 70.
2- هذه الإحصائية تختص بأيام الإتحاد السوفيتي.

ألف وأربعمائة عام في زمن حكومة يزيد بن معاوية كان جيش يزيد - على بعض التواريخ - يتألف من مليون جندي، ونقل أنه كان ليزيد في البلاد سبعة آلاف وعشر منابر باسمه لصلاة الجمعة.

فيزيد - ومع هذه القدرة الهائلة - لم يستطع أن يصمد في مسجد الشام أمام الرأي العام عندما أصرّوا عليه أن يسمح للإمام السجاد(عليه السلام) في صعود المنبر، بالرغم من أنه كان يعلم بأن الإمام إذا صعد المنبر لا ينزل إلّا بفضيحته وفضيحة آل أبي سفيان، لكنه رضخ، فصعد الإمام زين العابدين(عليه السلام) المنبر وفضح بني أمية وجورهم وفسادهم في البلاد، وخاصة ما ارتكبوه في جريمة قتل الإمام الحسين(عليه السلام) وأولاده وأنصاره(عليهم السلام) في صحراء كربلاء التي سعى يزيد كثيراً للتغطية عليها.

روي أن يزيد أمر بمنبر وخطيب ليذم علياً أمير المؤمنين(عليه السلام) وولده الإمام الحسين(عليه السلام)، فصعد الخطيب المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه! ثم أكثر الوقيعة في علي والحسين(عليهما السلام) وأطنب في مدح معاوية ويزيد، فذكرهما بكل جميل، قال: فصاح به علي بن الحسين(عليهما السلام): «ويلك أيها الخاطب، اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوأ مقعدك من النار» ثم قال علي بن الحسين(عليهما السلام): «يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلم بكلمات للّه فيهن رضاً ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب» قال: فأبى يزيد عليه ذلك، فقال الناس: يا أمير...، ائذن له فليصعد المنبر فلعلنا نسمع منه شيئاً؟ ... فقال: إنه إن صعد لم ينزل إلّابفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان، فقيل له: يا أمير وما قدر ما يحسن هذا؟ فقال: إنه من أهل بيت قد زُقّوا العلم زَقّاً. قال: فلم يزالوا به حتى أذن له، فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم خطب خطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها

ص: 104

القلوب، ثم قال: «أيها الناس، اُعطينا ستاً وفُضّلنا بسبع، اُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفُضّلنا بأن منّا النبي المختار محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) ومنّا الصديق ومنّا الطيار ومنّا أسد اللّه وأسد رسوله ومنّا سبطا هذه الأمة. من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي، أيها الناس، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجّ ولبّى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من {دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ}(1) أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلّا اللّه، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) سيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين وبايع البيعتين وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر باللّه طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّاءين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين رسول رب العالمين،أنا ابن المؤيد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حُرَم المسلمين، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأول من أجاب واستجاب للّه ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم من مرامي

ص: 105


1- سورة النجم، الآية: 8-9.

اللّه على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين اللّه، وولي أمر اللّه، وبستان حكمة اللّه، وعيبة علمه، سمح سخيّ بهيّ، بهلول زكيّ، أبطحي رضيّ، مقدام همام، صابر صوّام، مهذب قوام، قاطع الأصلاب، ومفرق الأحزاب، أربطهم عناناً وأثبتهم جناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدهم شكيمة، أسد باسل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة وقربت الأعنة طحن الرحى، ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز، وكبش العراق، مكي مدني، خيفي عَقَبي، بدري أحُدي، شجري مهاجري، من العرب سيدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين الحسن والحسين، ذاك جدي علي بن أبي طالب»، ثم قال: «أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء»، فلم يزل يقول: أنا أنا، حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن يكون فتنة، فأمر المؤذّن فقطع عليه الكلام، فلما قال المؤذن: اللّه أكبر، اللّه أكبر، قال علي(عليه السلام): «لا شي ء أكبر من اللّه» فلما قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، قال علي بن الحسين(عليهما السلام): «شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي» فلما قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول اللّه، التفت(عليه السلام) من فوق المنبر إلى يزيد فقال: «محمد هذا، جدي أم جدك يا يزيد، فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي فلم قتلتَ عترته؟!» قال: وفرغ المؤذن من الأذان والإقامة وتقدم يزيد فصلى صلاة الظهر.

قال: وروي: أنه كان في مجلس يزيد هذا حبر من أحبار اليهود، فقال: من هذاالغلام يا أمير؟ قال: هو علي بن الحسين، قال: فمن الحسين؟ قال: ابن علي بن أبي طالب، قال: فمن أمه؟ قال: أمه فاطمة بنت محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال الحبر: يا سبحان اللّه، فهذا ابن بنت نبيكم قتلتموه في هذه السرعة!! بئسما خلفتموه في ذريته، واللّه لو ترك فينا موسى بن عمران(عليه السلام) سبطاً من صلبه، لظننا أنا كنا نعبده

ص: 106

من دون ربنا، وأنتم إنما فارقكم نبيكم بالأمس فوثبتم على ابنه فقتلتموه، سوءة لكم من أمة؟! قال: فأمر به يزيد فوجئ في حلقه ثلاثاً، فقام الحبر وهو يقول: إن شئتم فاضربوني، وإن شئتم فاقتلوني، أو فذروني، فإني أجد في التوراة أن من قتل ذرية نبي لا يزال ملعوناً أبداً ما بقي، فإذا مات يصليه اللّه نار جهنم.(1)

احترام الرأي العام

كان أسلوب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) احترام الرأي العام، حتى ورد أنه(عليه السلام) كان إذا بعث والياً قال له: «وإنما عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الأمة، فليكن صغوك(2)

لهم وميلك معهم»(3).

وقال(عليه السلام): «فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها»(5).

وقال(عليه السلام): «صواب الرأي بالدول، يقبل بإقبالها ويذهب بذهابها»(6).وقال(عليه السلام): «على قدر الرأي تكون العزيمة»(7).

كل ذلك لما في الرأي والرأي العام من أثر في تقوية الوالي أو إضعافه.

لا بد أن نتسلح بالمعنويات أولاً

إن من الأمور المهمة التي يلزم أن نتبعها في سبيل إحقاق الحق وإبطال

ص: 107


1- بحار الأنوار 45: 137.
2- الصِغْو - بالكسر والفتح - : الميل.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر... .
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 216 من خطبة له(عليه السلام) خطبها بصفين.
5- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 161.
6- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 339.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 451.

الباطل، الاستفادة من الرأي العام، وتأليب الرأي العام في سبيل القضاء على كل طاغوت وحاكم ظالم - بالأخص مثل صدام - فإذا أردنا إسقاط صدام، وتحرير العتبات المقدسة والحوزات العلمية في مدينتي النجف وكربلاء المقدستين وباقي المدن المقدسة في العراق المسلم - التي يزيد عمرها على الألف عام - من قبضته لا بد لنا من إيجاد سيل من الإعلام الموجه وإيجاد الرأي العام العالمي لهذه الغاية الشريفة؛ لتؤثر في آراء عموم الشعوب الإسلامية وغيرها، مما يسبب تفاعل الشارع الإسلامي في العراق خاصة وبلدان العالم عامة، فنسوق الرأي العام بالاتجاه المضاد لصدام من أجل إسقاطه، وإنقاذ العراق وحوزاتنا العلمية ومدننا المقدسة من ظلمه وجوره.

إن تلك الحوزات العظيمة صمدت في القرون العشرة الأخيرة أمام هجمات عديدة ومتنوعة تعرضت لها، حيث كانت تمر عليها أسوء الظروف والأوضاع ولكنها - بحمد اللّه - صمدت واستقامت بكل عزم وصمود وخرجت من هذه الأزمات منتصرة.

وكانت من أخطر هذه الهجمات هجوم المغول على العراق، فإنهم لم يمرّوا على مدينة أو قرية إلّا وتركوها أطلالاً وقاعاً صفصفاً. وفي ذلك الزمان كانت الحوزات العلمية في النجف وكربلاء والحلة معرضة لهجوم الجيش المغولي المتوحش، ولكن بفضل ذكاء ثلاثة من العلماء الأعاظم(1) وإيمانهم الراسخ،

ص: 108


1- والعلماء الثلاثة هم: الشيخ سديد الدين يوسف بن المطهر الحلي (والد العلامة الحلي)، والسيد مجد الدين بن طاووس، والفقيه شمس الدين محمد بن أبي العز. أما سديد الدين يوسف بن المطهر الحلي، فقد وصفه ابن داود: (بأنه كان فقيها محققا مدرّساً عظيم الشأن). ووصفه الشهيد في إجازته لابن الخازن: (بالإمام السيد الحجة). ووصفه الشهيد: (بالإمام الأعظم الحجة أفضل المجتهدين السعيد الفقيه)، ووصفه المحقق الكركي: (بالشيخ الأجل الفقيه السعيد شيخ الإسلام). ويكفيه فخرا وعزّاً وشرفاً كونه أعلم أهل زمانه بعلم الكلام وعلم أصول الفقه كما اعترف به المحقق الحلي(رحمه الله)، قال ولده أبو منصور: (إن الشيخ الأعظم خواجة نصير الدين الطوسي لما جاء إلى العراق حضر الحلة فاجتمع عنده فقهاء الحلة فأشار إلى الفقيه نجم الدين جعفر بن سعيد وقال: من أعلم هؤلاء الجماعة؟ فقال له: كلهم فاضلون علماء إن كان واحد منهم مبرزاً في فن كان الآخر مبرزاً في فن آخر. فقال: من أعلمهم بالأصوليين؟ فأشار إلى والدي سديد الدين يوسف بن المطهر، وإلى الفقيه مفيد الدين محمد بن جهيم فقال: هذان أعلم الجماعة بعلم الكلام وأصول الفقه. وبفضل هذا الشيخ المعظم وتدبيره نجا أهل الكوفة والحلة والمشهدين الشريفين من القتل والنهب والسبي، وذلك حين غزا التتار العراق وعملوا ما عملوا. والعالم الآخر هو مجد الدين محمد بن الحسن بن موسى بن جعفر ابن طاووس، قال عنه ابن عنبة: السيد الجليل خرج إلى السلطان هولاكو خان وصنف له كتاب البشارة وسلم الحلة والنيل والمشهدين الشريفين من القتل والنهب، ورد إليه حكم النقابة بالبلاد الفراتية فحكم في ذلك قليلاً ثم مات دارجاً. وذكره السيد عبد الرزاق كمونة ووصفه بالسيد الجليل العالم الفاضل الزاهد ولي نقابة الطالبية بالبلاد الفراتية توفي سنة (656ه). أما ابن أبي العز: فهو الشيخ الفقيه الفاضل العالم المعروف بابن أبي العز، الذي ذهب مع والد العلامة الحي الشيخ سديد الدين بن المطهر لطلب الأمان لأهلها، وذهب خواجة نصير الدين إلى هولاكو بقرب بغداد حين غلب هولاكو واستولى عليها وقتل المستعصم العباسي. انظر: رياض العلماء: ج6 ص9.

تمكنت الحوزة من الحفاظ على كيانها كما حافظت على تلك المدن وأهاليها وحيل دون وقوعها تحت نير الجيش المغولي، وقد طلب هؤلاء العلماءالثلاثة(رحمه الله) مقابلة زعيم المغول، وكان لقاء هؤلاء العلماء الأبطال بالرئيس المغولي يعتبر في ذلك الزمان مخاطرة كبيرة قد يدفع الإنسان حياته ثمناً لها، ولكن مع ذلك تم اللقاء، فطلبوا منه أماناً للحوزات العلمية والمدن المقدسة وأهاليها، وبعد كلام طويل، وافق القائد المغولي على إعطاء الأمان للحوزات العلمية والعلماء، وعلى أثر ذلك لم يتعرض الجيش المغولي لأية مدينة من هذه

ص: 109

المدن الثلاث التي كانت تحتضن الحوزات العلمية آنذاك وبقيت سالمة من الفتك المغولي وهجماته الشرسة.

قصة والد العلامة مع هولاكو

قال العلامة الحلي: لما وصل السلطان هولاكو إلى بغداد وقبل أن يفتحها هرب أكثر أهل الحلة إلى البطائح إلّا القليل فكان من جملة القليل والدي(رحمه الله) والسيد مجد الدين بن طاووس، والفقيه ابن أبي العز، فأجمع رأيهم على مكاتبة السلطان بأنهم مطيعون داخلون تحت الإيلية، وأنفذوا به شخصاً أعجمياً، فأنفذ السلطان إليهم فرماناً مع شخصين أحدهما يقال له تكلم والآخر يقال له علاء الدين، وقال لهما: إن كانت قلوبهم كما وردت به كتبهم فيحضرون إلينا فجاء الأميران فخافوا لعدم معرفتهم بما ينتهي الحال إليه. فقال والدي(رحمه الله): إن جئت وحدي كفى. فقالا: نعم فأصعد معهما، فلما حضر بين يديه وكان ذلك قبل فتح بغداد وقبل قتل الخليفة قال له: كيف أقدمتم على مكاتبتي والحضور عندي قبل أن تعلموا ما ينتهي إليه أمري وأمر صاحبكم وكيف تأمنون إن صالحني ورحلت عنه؟ فقال له والدي: إنما أقدمنا على ذلك، لأنا روينا عن إمامنا علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال في بعض خطبه:

«الزوراء وما أدراك ما الزوراء، أرض ذات أثل، يشتد فيها البنيان ويكثر فيها السكان، ويكون فيها قهازم وخزان، يتخذها ولد العباس موطناً ولزخرفهم مسكناً،تكون لهم دار لهو ولعب، يكون بها الجور الجائر والخوف المخيف، والأئمة الفجرة والقراء الفسقة والوزراء الخونة، يخدمهم أبناء فارس والروم لا يأتمرون بمعروف إذا عرفوه، ولا يتناهون عن منكر إذا أنكروه، يكتفي الرجال منهم بالرجال والنساء بالنساء، فعند ذلك الغم الغميم والبكاء الطويل والويل والعويل لأهل الزوراء من سطوات الترك وما هم الترك؟ قوم صغار الحدق وجوههم

ص: 110

كالمجان المطرقة، لباسهم الحديد، جرد مرد، يقدمهم ملك يأتي من حيث بدا ملكهم، جهوري الصوت، قوي الصولة عالي الهمة، لا يمر بمدينة إلّا فتحها، ولا ترفع له راية إلّا نكسها، الويل الويل لمن ناواه، فلا يزال كذلك حتى يظفر».

فلما وصف لنا ذلك ووجدنا الصفات فيكم رجوناك فقصدناك، فطيب قلوبهم، وكتب لهم فرماناً باسم والدي(رحمه الله) يطيب فيه قلوب أهل الحلة وأعمالها(1)، وكان هذا سبب سلامة أهل الحلة والكوفة والمشهدين الشريفين من القتل.

استمرار المؤامرة

كان بعض البلاد شيعية المذهب حكومة وشعباً، ولكن سيطر عليها بعض المتعصبين من المخالفين لمذهب أهل البيت(عليهم السلام) حيث أخذوا يقتلون الناس الأبرياء حتى فر الشيعة منها، واختفى الباقي، واتقى في مذهبه ومعتقداته، كما حدث ذلك في مصر وسورية وبعض البلاد المحيطة بهما، حيث حكمها الشيعة حدود قرنين من الزمان، ولكن بعد مواقف صلاح الدين الأيوبي في قتل الشيعة الأبرياء، وذلك في سلسلة من الحوادث التأريخية والإرهابية أصبحت هذه البلاد سنية، ولكن بقيت آثار التشيع فيها، بل أخذ اليوم تزداد الشيعة يوماً بعد يوم بعدأن تعرف الناس على أحقية مذهب أهل البيت(عليهم السلام).

وللأسف الشديد تحاول بعض البلاد الاستعمارية اليوم تطبيق نفس هذه السياسة الغاشمة، وهي الكبت على الشيعة في العراق أيضاً وهدر حقوقهم المشروعة في الحكم، حيث تبذل محاولات جدية لجعل الحكومة بعد حكومة البعث في العراق حكومة سنية بكل معنى الكلمة، ليسهل عليهم تنفيذ

ص: 111


1- كشف اليقين: 80.

مخططاتهم الاستعمارية ضد الاسلام والمسلمين، والتي قد يعترض سبيلها وجود حكومة تسير على نهج أهل البيت(عليهم السلام). وأحد الأدلة القوية على هذه القضية هو طلب مصر من العراق أن يجعل من الحوزة العلمية في النجف الأشرف فرعاً لجامعة الأزهر، فيسمح لخمسة آلاف رجل دين من أبناء العامة بالهجرة إلى النجف الأشرف ليستلموا أعمال ومهام الحوزة فرع الأزهر - كما يزعمون - ليتسنى لهم عن هذا الطريق النفوذ إلى عمق العراق والتبليغ ضد الشيعة فيه.

لذا من اللازم على كل شيعي مسلم موال لأهل البيت(عليهم السلام) غيور أن ينظر إلى هذه المخططات الخطيرة بجد وحزم وعمق ويبذل ما في وسعه للوقوف أمامها، بالعمل والجد والمثابرة وتحريك الرأي العام ضدّها؛ إذ أن الاستعمار وحتى بعض المتعصبين من المخالفين يقفون أمام التطور الشيعي، ويسعون لضربهم عن طريق إحاكة المؤامرات ضدهم وضد المسلمين عموماً، كل ذلك في سبيل نشر سيادة المستعمرين ومبادئهم وعقائدهم الباطلة.

ولعل الأحداث التي مرت بالعراق تفسر لنا أسباب المحنة والمأساة التي حلت به وبشعبه المسلم، اذ نستطيع أن نقول: أن المستقرئ لهذه الأحداث يجد أن وراء أكثر الأزمات والمشاكل التي عصفت بالعراق كان التعصب المذهبيوالطائفية المتشددة من قبل بعض المخالفين ضد الشيعة، وهل أصاب أبناء العامة في العراق من الأضرار والآلام التي صبها البعثيون على الناس معشار ما أصاب أتباع أهل البيت(عليهم السلام)؟ قال تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(1).

ص: 112


1- سورة البروج، الآية: 8.

إذاً، لا بد من العمل والمطالبة بحقوق الشيعة المهدورة منذ فترة طويلة وبأيد استعمارية أو طائفية متعصبة... كما لا بد من التحرك على صعيد تنبيه الرأي العام وإثارته حول هذه القضية حتى نتمكن من الدفاع عن أنفسنا واسترجاع حقوقنا.

نهج الأعداء

إن أعداء الإسلام يتحركون بنشاط ويقظة، ولهم أساليب عديدة في التفرقة، فمن أساليبهم أنهم نشروا فكرة (القومية) بين الأمة الاسلامية الواحدة التي أسسها الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) لتبديد أوصالها وتمزيقها، وجعلها دولاً متناحرة وشعوباً متنافرة، فجاءوا إلى البلاد العربية بالقومية العربية(1)، والى إيران بالقومية الفارسية(2)، وفي تركيا بالقومية التركية(3) وهكذا في الهند وأفغانستان وإندونيسيا وغيرها.

كما عملوا على تقديس الأديان القديمة، أمثال دين المجوسية والفرعونيةوالآثورية والبابلية وما أشبه... وهكذا جاءوا بالشيوعية(4)

والوجودية(5)

والبعثية

ص: 113


1- كان رائدها ميشيل عفلق وجمال عبد الناصر وغيرهما.
2- وكان رائدها شاه ايران المقبور رضا بهلوي.
3- وكان رائدها مصطفى كمال أتاتورك.
4- الشيوعية: مذهب سياسي يهدف إلى القضاء على الرأسمالية والملكية الخاصة.
5- الوجودية: فلسفة تقول بأن الوجود الإنساني يجب أن يكون محور التفكير الفلسفي كله، وتذهب إلى أن الوجود يسبق الماهية أو الجوهر، والوجود هنا هو ما نحققه بإرادتنا، أما الجوهر فهو الطبيعة الإنسانية، بمعنى أن الإنسان ليس شيئاً قبل أن ينجز بنفسه شيئاً ما، وبمعنى أنه ليس ثمة جوهر يفرض على المرء قدراً معيناً، ومن هنا شددت الوجودية على المرء ومسؤوليته عن أعماله في عالم خلو من الهدف، بل في عالم معاد للإنسان، يعتبر (كيركيفارد) مؤسس الوجودية، ويعتبر (هايديجر) و(باسيرز) و(سارتر) أبرز ممثليها.

ونحوها، كاتجاهات سياسية، لقلع جذور الإسلام وتفتيت الأمة الواحدة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى افتعلوا الانقلابات العسكرية ليركزوا عملاءهم ويحكموهم على رؤوس المسلمين، وليفعلوا ما يشاؤون بالإسلام والمسلمين. وأدخلوا المنظمات السرية الخاصة لإفساد الشباب المسلم عن طريق زرع العادات الغربية ونشر الثقافات المنحطة والأفكار الهدّامة ضد الإسلام، وخاصة ضد أتباع المذهب الشيعي.

كيف نوظّف الرأي العام لإنقاذ العراق؟

يلزم توظيف الرأي العام لإنقاذ العراق والأخذ بحقوق الأكثرية الشيعية فيه. إننا إذا استطعنا أن نكسب الرأي العام بواسطة طبع الكتب ونشرها وإصدار المجلات والصحف(1) وتوجيهها في سبيل نشر الدين وكشف مؤامرات الأعداء فسوف نحصل على فائدتين:

الأولى: الدفاع عن أنفسنا مقابل ما يحاك ضدنا من المؤامرات والتعتيم والتشويه والتزوير الذي يتعرض له شيعة أهل البيت(عليهم السلام) وخاصة في العراق.الثانية: كسب الأنصار والمدافعين مما يؤدي إلى التغلب على الأعداء والأخذ بالحقوق المهدورة.

وبمجموع ما ذكر من طبع ونشر وإصدار وغيرها سيتكرس الوعي والثقافة في أبنائنا أولاً، ثم يمكن كسب الآخرين للتضامن معنا ثانياً؛ قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عمل بالحق غنم»(2).

ولا يخفى أثر الوعي والتثقيف في حياة الشعوب، فهو شيء واضح وملموس،

ص: 114


1- وكذلك بواسطة الفضائيات والإنترنت وغير ذلك من وسائل الإعلام المعروفة.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 574.

فإذا رأينا الشيعة قد اكتسبوا الرأي العام نعرف أن هذا حصيلة توجههم نحو الوعي والثقافة والتثقيف، وهذا ينعكس على أوضاعهم وحياتهم الشخصية أيضاً، حيث يتحول الجميع إلى كتلة من النشاط والتسلح بالثقافة الإسلامية، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الأمة الإسلامية بكاملها فبالوعي والتثقيف يمكن التحول من الانحطاط والاستغلال والعبودية إلى العزة والتقدم والاستقلال، كما أرادها اللّه للأمة حيث قال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(1).

لمحة تاريخية

عندما نتطلع إلى التاريخ نرى أن: قبل بزوغ فجر الإسلام كانت عقليات الغاب وثقافة (الأنا) هي الحاكمة، وأعمالهم تتلخص في النهب والحرب والسرقة وشرب الخمر وتعاطي البغاء والتخلف الديني والفكري والاقتصادي و... .

فحال الناس قبل الإسلام كان كما يصفه أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه بعث محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) نذيراً للعالمين وأميناً على التنزيل وأنتم معشر العرب على شر دينوفي شر دار، منيخون بين حجارة خُشْن وحَيَّات صُم(2)، تشربون الكدر وتأكلون الجشب وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة»(3).

وقالت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(عليها السلام) وهي تخاطب المسلمين وتذكرهم الجاهلية: «وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ونهزة الطامع

ص: 115


1- سورة آل عمران، الآية: 110.
2- وَصَف(عليه السلام) الحيّات بالصُّم لأنها أخبثها إذ لا تنزجر بالأصوات كأنها لا تسمع.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 26 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يصف العرب قبل البعثة ثم يصف حاله قبل البيعة له.

وقبسة العجلان وموطئ الأقدام تشربون الطرق وتقتاتون القدّ أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم اللّه تبارك وتعالى بمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) بعد اللتيا والتي»(1).

وقالت(عليها السلام) أيضاً: «ابتعثه اللّه إتماماً لأمره وعزيمةً على إمضاء حكمه وإنفاذاً لمقادير رحمته، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً للّه مع عرفانها، فأنار اللّه بأبي محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ظُلَمَها، وكشف عن القلوب بُهَمَها»(2).

أما بعد ظهور الإسلام وعلى أثر تحول الحياة الجاهلية إلى ثقافة ربانية رحمانية تسودها المحبة ونكران الذات وبثقافة: «فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك»(3). كما قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام): «يا علي، ما كرهتهلنفسك فاكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك، تكن عادلاً في حكمك، مقسطاً في عدلك، محباً في أهل السماء، مودوداً في صدور أهل الأرض»(4). وكما جاء في وصية أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه الحسن(عليه السلام) حيث قال له: «فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك وأكره له ما تكره لها»(5).

نعم، حدث انقلاب واسع وعميق في ضمير الشعب وحياته، فلا خمر ولا

ص: 116


1- الاحتجاج 1: 100.
2- الاحتجاج 1: 99.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
4- تحف العقول: 14.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.

فجور ولا مشاحنات ولا حروب تطحن الأخوة بعجلاتها، بل حروب دفاعية عن القيم والمبادئي أو لإنقاذ من بقي تحت الظلم من المستضعفين، وبذلك تمكن هؤلاء أن يشكلوا أكمل حضارة في التأريخ، لأنهم خرجوا من طوق الشهوات والعبودية والجهل، فصاروا أحراراً يعملون للعقيدة والمبدأ والإنسانية، وكل هذا بفضل الثقافة؛ لذا أصبح المسلمون أساس الحضارة في جميع أنحاء العالم، وهذا ما يلزم أن يعرفه الجميع ليستطيع أن يوجه الرأي العام إليه، ولكي لا يحاربوا الإسلام، بل حتى يدافعوا عنه أحياناً.

الإيثار

لقد رسّخ الإسلام صفة الإيثار في صفوف المسلمين، وظهر ذلك جلياً في أحداث وقصص كثيرة. روي أنه: جاء رجل إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلّا الماء، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من لهذا الرجل الليلة؟» فقال علي بن أبي طالب(عليه السلام): «أنا له يا رسول اللّه»، وأتى فاطمة(عليها السلام)، فقال: ما عندك يا ابنة رسول اللّه؟ فقالت: «ما عندناإلّا قوت الصبية، لكنا نؤثر ضيفنا»، فقال علي(عليه السلام): «يا ابنة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) نوّمي الصبية وأطفئي المصباح» فلما أصبح علي(عليه السلام) غدا على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فلم يبرح حتى أنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1)(2).

في إحدى الغزوات

وفي إحدى الغزوات صُرع نفر من أصحاب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وكانت الحياة

ص: 117


1- سورة الحشر، الآية: 9.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 185.

باقية في أبدان بعض منهم، فأتي إلى واحد من المصروعين بما يشربه، كي لا يفارق هذه الدنيا عطشاناً، فأبى أن يشرب وقال: ناولوا الماء لهذا المصروع بجنبي، فلعله أشد عطشاً مني!

فأتوا بالماء إلى الثاني فأبى أن يشرب وقال: اسقوه لهذا المصروع بجنبي، فقال: لا أشرب وبقية المصروعين عطاشى، وأشار إليهم أن يعطوا الماء لمصروع آخر يعاني سكرات الموت، قائلاً: لعل عطشي يكون أقل من عطشه!

جاؤا بالماء إلى الثالث، فقال: إن فيّ رمق من الحياة؛ فقدموا لذلك الصريع بجنبي، فلعله أكثر عطشاً مني.

فذهب بالماء إلى الرابع... وإلى الخامس... وإلى السادس... وإلى السابع... وكلهم يمتنعون عن شرب الماء قبل أخيهم المصروع بجنبهم خوفاً من أن يكون أظمأ منهم ويحولون بالماء للآخر.

فلما وصل الماء إلى الصريع السابع حوّله إلى ذلك الصريع الأول، فجاؤوا بالماء إلى الأول فلقوه ميتاً، ثم أتوا به إلى الثاني فإذا هو ميت، وهكذا إلى الثالثوالرابع إلى السابع، فما وجدوا واحداً منهم حياً! وفارقت روحهم الدنيا عطشاً من دون أن يذوقوا الماء إيثاراً وإشفاقاً على إخوانهم المسلمين!!

هكذا كان المسلمون الأوائل حتى استطاعوا أن يتربعوا على الحكم العالمي في مدة قليلة وقليلة جداً، وهم قلة أيضاً، وذلك ببركة التوجيهات الإسلامية والتعاليم الربانية التي طبقوها على حياتهم العملية، فلماذا أصبحنا مستعمَرين ضعفاء أذلاء، رغم كثرة عددنا؟ إنه ليس إلّا من ترك التعاليم الإسلامية كلها من الإيثار وغيره، مضافاً إلى تفشي العداء والبغضاء بين المسلمين بعضهم مع البعض الآخر.

ولِمَ هذا الشحناء والتقاذف؟ لأن فلاناً أصبح أكثر شهرة مني، وفلاناً لم يمض

ص: 118

على رأيي، وفلاناً لم يتجه نحوي، وهكذا.

في غزوة تبوك

روى حذيفة بن عدي: أنه في غزوة تبوك هلك بعض العسكر من غلبة العطش، وإني أخذت ماءً فطلبت ابن عمي فوجدته لم يبق له من العطش إلّا نفس، فعرضت عليه الماء. فقال: أبلغه إلى هشام واسقه. فدنوت منه وعرضت عليه الماء فأحاله إلى آخر وقال: أسقه. فلما دنوت من الثالث وجدته قد فارق روحه عطشاً، فرجعت إلى هشام لأسقيه فرأيته قد مات عطشاً، فرجعت على ابن عمي فوجدته مضى من الدنيا عطشاً.

نموذج من الإيثار

ويحكى أنّ رجلاً يضرب به المثل في الجود والكرم والإيثار وهو كعب الأيادي خرج مع قافلة تريد إحدى المدن البعيدة عن بلدهم، وكان ذلك في حر الصيف فضلوا الطريق، فلقيهم في أثناء الطريق رجل من بني النمر بن قاسط فصحبهم، فشحّ ماؤهم فكانوا يقتسمون الماء بينهم بحصص معينة، وذلك أنيطرح حصاة، ثم يصب فيه من الماء بقدر ما يغمر الحصاة، فيشرب كل واحد منهم قدر ما يشرب الآخر.

ولما نزلوا للشرب ودار القدح بينهم حتى انتهى إلى كعب، رأى أن الذي صحبهم أثناء الطريق قد أخذ يُحد النظر إليه، فآثره على نفسه وقال للساقي: إسقِ أخاك النمري، فشرب نصيب كعب من الماء ذلك اليوم! ثم نزلوا من الغد منزلهم الآخر، فاقتسموا ماءهم كما فعلوا بالمرات الأولى، فنظر إليه النمري كنظرة أمس، وقال كعب كقوله بالأمس: إسقِ أخاك النمري، ثم ارتحل القوم، وأما كعب فقد وقع إلى الأرض من شدة العطش والضعف، فالتفت إليه أقرانه وقالوا: يا كعب ارتحل، فلم يكن له قوة للنهوض، وكانوا قد قربوا من الماء فقالوا له: رد يا كعب،

ص: 119

إنك وارد، فعجز عن الجواب.

ولما أيسوا منه خيَّموا عليه بثوب يمنعه من السبع أن يأكله وتركوه مكانه وذهبوا إلى الماء وشربوا وارتووا ثم أخذوا الماء إلى كعب فلما وصلوا إليه وجدوه ميتاً(1).

أثر الإسلام

روي أنه كان هناك شاب من إحدى القبائل القاطنة في أطراف المدينة المنورة، مات أبوه وكان رئيس القبيلة، وتولى الرئاسة من بعد أبيه عمه، الذي كانت له بنت جميلة وثروة عريضة وزعامة على القبيلة.

وهذا الشاب كان مرشحاً لأن يكون زوجاً للفتاة وفي حالة وفاة عمه يرث الزعامة والمال والمكانة الاجتماعية المميزة.

كان يذهب هذا الفتى إلى المدينة المنورة كل شهر لأجل شراء ما تحتاجه القبيلة، وذات مرة وأثناء جولته في المدينة رأى رجلاً يخطب على مجموعة منالناس في ساحة تحيط بها أربعة جدران واطئة. وقف يستمع فجذبته الخطبة، فسأل رجلاً: من الخطيب ومن المستمعون؟ أجابه الرجل: الخطيب هو محمد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) والجالسون هم المسلمون، وهذه المحوطة مسجد بناه المسلمون.

رجع الشاب إلى قبيلته وفي الشهر القادم، عاد إلى المدينة للاكتيال، وذهب إلى المسجد للاستماع وتكرر حضوره لعدة مرات، وكان يحس بأنه ينجذب أكثر فأكثر نحو هذا الرسول الجديد.

وفي أحد الأيام خاطب عمّه قائلاً: يا عم، لماذا نشتري كل شهر مرة فلنشتر كل أسبوع مرة حتى تكون البضائع والمواد التي نشتريها جديدة!! فقبل العم.

ص: 120


1- انظر: خزانة الأدب 8: 402.

وهكذا أصبح باستطاعة الشاب أن يستمع إلى الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) كل أسبوع مرة واحدة، وبعد مدة أسلم الشاب وجاء إلى عمه قائلاً: يا عم! قد أسلمت.

قال العم: أصبوت إلى دين محمد؟!

قال: إن دين محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) هو الإسلام لا انحراف فيه.

قال العم: يا بني لو أصررت على إسلامك فلن أزوجك ابنتي.

فأجابه الشاب: هذا هيّن، لا رغبة لي في النساء.

قال له العم: وسوف أمنعك من دخول بيتي.

أجابه الشاب: إن ذلك سهل فأرض اللّه واسعة.

قال له العم: سأحرمك من الثروة.

أجابه: إن الثروة مال فانٍ وزائل.

فقال: ستحرم عن رئاسة القبيلة.

أجابه: إنني لا أريد الزعامة.

فقال العم: يجب عليك أن تنفصل عن قبيلتنا. أجابه: سوف أخرج.

قال العم: وعليك أن تنزع كل ملابسك وتعطيها لي.

أجابه: لا بأس.

فنزع عمه القاسي كل ملابسه وتركه عارياً، لما رأته أمه عارياً حنّت عليه وأعطته فراشاً، شقّه نصفين وجعله إزاراً ومئزراً لبسهما ثم اتجه نحو المدينة ووصلها ليلاً - وليس معه أي شيء - واتجه نحو المسجد ونام الليل فيه، وعندما جاء رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ليصلي صلاة الصبح رأى شاباً نائماً، فسأله: من أنت؟

فذكر له الشاب اسمه الجاهلي(1)، فقال له الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): إن اسمك عبد

ص: 121


1- وكان اسمه الجاهلي عبد العزى.

اللّه ذو البجادين(1)، وبدأ الشاب يأتمر بأوامر الإسلام فكان من الصالحين وكان يشارك في الغزوات دفاعاً عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) حتى استشهد في إحدى المعارك(2).

الثقافة سبب التغيير

ما الذي غيّر شخصية عبد اللّه (ذي البجادين) وأحدث انقلاباً في ضميره؟

إن الذي تغير في هذا الشاب هو ثقافته، وكان سبب تغيير ثقافته هو حديث الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) للمسلمين في المسجد، ففي ذلك الوقت كانت المساجد والخطباء أكبر وسيلة لكسب الرأي العام والتأثير عليه، أما في وقتنا الحاضر فتوجد وسائل حديثة أخرى بالإضافة إلى المسجد والمنبر، وهي طباعة الكتب والصحف والمجلات ونشرها، والقنوات الفضائية والإنترنت وأمثالها.

فالتغيير الثقافي يسبب تغيير المناهج العملية والمناهج السياسية والاجتماعيةلدى الناس، وهذه هي آثار الثقافة.

وإحدى الخطوات المهمة في طريق التغيير وكسب الرأي العام هي طبع ألف مليون كتاب توعوي في مختلف النواحي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وزراعياً ومعاملياً وتربوياً، وفي مجال الحريات والشورى إلى غير ذلك من الأمور التي تهم المسلمين وترتبط بمصيرهم ومستقبلهم، وتوزيعها في سائر بلاد المسلمين لتثقف أبناءنا أولاً(3).

ص: 122


1- البِجاد: كساء مخطط من أكسية الأعراب، وقيل: إذا غزل الصوف بسرة ونسج بالصيصة، فهو بجاد والجمع بُجُد، لسان العرب 3: 77، مادة (بجد).
2- نقل المرحوم المجلسي في بحار الأنوار 21: 250، أنه توفي على أثر الحمّى في تبوك.
3- للتفصيل انظر: (الكتاب من لوازم الحياة)، و(الكتاب دعامة الحياة)، و(دور الكتابة في الحياة)، و(ثلاثة مليارات من الكتب)، وغيرها من مؤلفات الإمام الشيرازي(رحمه الله) التي يحث ويؤكد فيها على كتابة وطبع ونشر المعارف والعلوم الاسلامية، ونشر الثقافة الإسلامية الحقيقية.

وإن الخطوة المهمة الأخرى في مجالات التغيير أن يعرف المسلم العربي أنه أخ للمسلم الهندي والفارسي والتركي وينصره ويدعمه و...، كما جعل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وأبا ذر العربي، أخوة لا يمتاز أحدهم على الآخر إلّا بالتقوى، فاللغة واللون والقوميات والجغرافيات ليست هي المقاييس السليمة، وليست سبباً لأفضلية هذا على ذاك. فإذا استطعنا صنع ذلك كله نستطيع أن نصنع من المسلمين صفاً واحداً متراصاً يسعى نحو خلاص جميع المسلمين. وحينئذ نقول: إننا خطونا خطوة مؤثرة في كسب الرأي العام الداخلي، والوقوف أمام المؤامرات الاستعمارية والدفاع عن النفس، ثم نعمل للتأثير على الرأي العام العالمي حتى نتمكن من الوصول إلى الأهداف السامية في العراق، وغير العراق من سائر البلاد الإسلامية.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تُعزّ بها الإسلامَ وأهلَه، وتُذلّ بها النفاقَ وأهلَه، وتجعلنا فيها من الدُعاة إلى طاعتك، والقادةِ إلى سبيلك، وترزقنا بهاكرامةَ الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

مجانبة الاستبداد بالرأي

قال تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُواْ وَتَرَىٰهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ

ص: 123


1- الكافي 3: 424.
2- سورة الأعراف، الآية: 198- 199.

وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٖ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَٰمِلُونَ}(3).

ترك المداهنة في الدين

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَلَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(4).

وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٖ مَّهِينٍ * هَمَّازٖ مَّشَّاءِ بِنَمِيمٖ * مَّنَّاعٖ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلِّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٖ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ}(5).

وقال تبارك وتعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُ

ص: 124


1- سورة البقرة، الآية: 204-207.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة فصلت، الآية: 5.
4- سورة المائدة، الآية: 54.
5- سورة القلم، الآية: 7- 15.

فُرُطًا}(1).

التوعية الدينية

قال عزّ وجلّ: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3).

وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

عدم الاستبداد والتفرد بالرأي

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا رأي لمن انفرد برأيه»(5).وقال(عليه السلام): «من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها»(6).

وقال(عليه السلام): «خاطر بنفسه من استغنى برأيه»(7).

وقال(عليه السلام): «ومن استغنى بعقله زل»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل»(9).

ص: 125


1- سورة الكهف، الآية: 28.
2- سورة النحل، الآية: 125.
3- سورة الزمر، الآية: 9.
4- سورة المجادلة، الآية: 11.
5- كنز الفوائد 1: 367.
6- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 161.
7- الأمالي للشيخ الصدوق: 447.
8- الكافي 8: 19.
9- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 112.
البيان والقدرة على الدفاع عن الحق

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألّا يكون في حديثك فضل عن عملك(1) وأن تتقي اللّه في حديث غيرك»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «الروح عماد الدين، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم»(3).

وعن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إن الناس يعيبون عليّ بالكلام، وأنا أكلم الناس.

فقال(عليه السلام): «أما مثلك من يقع ثم يطير فنعم، وأما من يقع ثم لا يطير فلا»(4).وقال الإمام الجواد(عليه السلام): «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن اللّه عزّ وجلّ فقد عبد اللّه، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»(5).

ترك المداهنة في الدين

من وصية رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى أبي ذر(رحمه الله) قال: «... وأوصاني أن لا أخاف في اللّه لومة لائم»(6).

وفيما كتب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لمحمد بن أبي بكر: «أوصيك بسبع هن

ص: 126


1- أي لا تقول أزيد مما تفعل.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 458.
3- الاختصاص: 245.
4- رجال الكشي: 319.
5- الكافي 6: 434.
6- الخصال 2: 345.

من جوامع الإسلام: تخشى اللّه عزّ وجلّ ولا تخش الناس في اللّه - إلى أن قال: - ولا تخف في اللّه لومة لائم»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أحدَّ سنان الغضب للّه، قوي على قتل أشداء الباطل»(2).

وعنه(عليه السلام): «لا يأخذنكم في اللّه لومة لائم يكفكم اللّه من أرادكم وبغى عليكم...»(3).

العلم أصل كل خير

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «العلم رأس الخير كله، والجهل رأس الشر كله»(4).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم أصل كل خير»(5).

وقال(عليه السلام): «الجهل أصل كل شر»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العلم أصل كل حال سني، ومنتهى كل منزلة رفيعة»(7).

الرأي والعزيمة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «على قدر الرأي تكون العزيمة»(8).

ص: 127


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 30.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 174.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 523.
4- بحار الأنوار 74: 175.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 48.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 48.
7- مصباح الشريعة: 13.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 451.

وقال(عليه السلام): «شاور قبل أن تعزم، وفكّر قبل أن تقدم»(1).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام): «لا يعرف الرأي إلّا عند الغضب»(2).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «من أحجم عن الرأي وعييت به الحيل كان الرفق مفتاحه»(3).

فضيلة الجماعة وكسب الآراء

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «سُئل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عن جماعة أمته؟ فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): جماعة أمتي أهل الحق وإن قلّوا»(4).

وقال(عليه السلام): «صدقة يحبها اللّه، إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهمإذا تباعدوا»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشركة في الرأي تؤدي إلى الصواب»(6).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إنما جعلت الجماعة لئلا يكون الإخلاص والتوحيد والإسلام والعبادة للّه إلّا ظاهراً مكشوفاً مشهوراً، لأن في إظهاره حجة على أهل الشرق والغرب للّه وحده»(7).

الجماعة خير ورحمة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير

ص: 128


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 413.
2- العدد القوية: 37.
3- أعلام الدين: 298.
4- معاني الأخبار: 154.
5- الكافي 2: 209.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 107.
7- وسائل الشيعة 2: 287.

من ثلاثة، فعليكم بالجماعة»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «الاجتماع رحمة والفرقة عذاب»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع اللّه ربقة الإسلام عن عنقه»(3).

وقال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «... والزموا السواد الأعظم، فإن يد اللّه مع الجماعة، وإياكم والفرقة...»(4).

ص: 129


1- نهج الفصاحة: 165.
2- إرشاد القلوب 2: 335.
3- عوالي اللئالي 1: 281.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 127 من كلام له(عليه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين.

الرأي العام وسبل توجيهه

الرأي العام في التاريخ

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «إضْربوا بَعْض الرأي ببعضٍ يتولَّد منه الصّواب»(1).

المتفحِّص لتاريخ الشعوب، يجد بأنّ للرأي العام تأثيراً كبيراً في مدى استقلالها وحريتها، حيث إنّ أغلب شعوب العالم مرّت بظروف قاسية، وامتحانات واختبارات كثيرة، فبعضها اجتاز هذه الاختبارات، وتخطى الصعوبات بنجاح باهر، والبعض الآخر كانت نسبة نجاحه أقلّ، وبعضها فشل فشلاً ذريعاً. وإذا راجعنا الأُمور وتحرينا الأسباب، فسوف نجد للرأي العام تأثيراً بالغاً في مثل هذه النتائج، بل هو الذي يحدد هذا التأثير أحياناً كثيرة.

فالشعب الذي يريد أن يعيش بحريّة وأمان واستقرار، يلزمه أن يوحّد آراءه، ويحدد برنامج عمله بصورة جيدة، فإذا استطاع توحيد الرأي العام، ونشر الوعي بين الأفراد، فعند ذلك يصبح الرأي العام كالسيل الجارف، الذي لا يقف أمامه شيء من أشكال القوة والظلم، بل يكتسح كثيراً من الصعوبات التي تقف أمامه بفعل التجارب.

والتاريخ يذكر لنا من هذه النماذج الشيء الكثير، فالشعب الجزائري عندما

ص: 130


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 158.

أراد الحرية حشّد الرأي العام، وقام قادة الحركات بتوعية واسعة داخل المجتمع، ووضعوا خطة منظمة للعمل، وعند ذلك قاموا بالثورة، فلم تستطع فرنسا بقوتها في ذلك الوقت أن تقف أمام الشعب، واختارت الانسحاب بعد تكبُّدها خسائر فادحة.

وغاندي أيضاً استطاع أن يوحد الرأي العام في الهند، ووقف بوجه أكبر امبراطورية في عهده، إلى أن نال الشعب الهندي استقلاله وحريته من بريطانيا العظمى، التي كانت تحكم الهند ثلاثمائة سنة.

ومن التجارب الأُخرى ثورة العشرين التي قام بها الشعب العراقي بقيادة الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه الله)، بوجه الإنكليز، والتي كانت سبباً في اخراجهم من العراق، وهنالك شواهد كثيرة على تأثير الرأي العام في تحرير وحرية الشعوب، فلولا تكاتف الشعب الجزائري، وتحشيد الرأي العام في البلاد، لما تمكّن الشعب الجزائري من التغلب على الفرنسيين، وكذلك الهند والعراق وغيرها من البلدان، التي طردت الاستعمار، فالتكاتف وتوجيه الرأي العام بالشكل المطلوب سبب لها بلوغ مسعاها.وفي هذا قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «الشركة في الرأي تؤدي إلى الصواب»(1)، وفي الطرف المقابل تجد أنّ الشعوب التي ظلَّت ترزح تحت الاستعمار، أو تسلّط حكام ظالمين عليها، أغلب هذه الحالات حصلت غالباً نتيجة لعدم تكاتف الرأي العام وتفرقته، بحيث أتاح الفرصة للاستعمار وعملائه للسيطرة على مصير هذه الشعوب. فلو تكاتفت هذه الشعوب واتحدت لما سيطر عليهم الاستعمار، وما تسلط نظام البعث الصدامي في العراق، ولما وُجدت اسرائيل في قلب الأُمة الإسلامية، ولما تسلط الحكام

ص: 131


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 107.

المستبدين على مقدرات المسلمين هنا وهناك.

فعلينا والحال هذه أن نستفيد من عبر وتجارب الشعوب على مرّ التاريخ، وفيما نعيشها في الوقت الحاضر، ونعمل على توجيه الرأي العام في منطقتنا الإسلامية وتوحيده، بنشر الوعي بين الجماهير، ونستعد لمقاومة الاستبداد والظلم ورموزهما وطردها من بلادنا، فعند ذلك لا تستطيع أيّةُ قوة الوقوف بوجهنا، وسوف نحطم جميع القيود التي فرضها علينا الاستعمار نتيجة تفرقتنا وتشتتنا لنكون مصداق الحديث الوارد عن الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إن المؤمنين في إيثارهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى تداعى سائره بالسهر»(1). وهذا هو مفتاح الفلاح والنصر.

قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...}(2).

فهذه الآية الكريمة تحثّ الناس على الاتحاد وعدم التفرقة، لأنّ في ذلك سرّ قوتهم ومنعتهم، وتنهاهم عن التنازع والاختلاف فيما بينهم، لأنّ في التنازع والاختلاف يحصل الضعف، وعند ذلك يطمع الأعداء في غزوهم والانقضاض عليهم، {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} في بعض التفاسير: تذهب قوتكم وصولتكم، وفي تفسير البعض الآخر تذهب دولتكم. والريح هنا كناية عن نفاذ الأمر(3).

وخلاصة تفسير هذه الآية الشريفة هو الحثّ على التعاون وعدم التنازع.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في احدى خطبه: «إنّ الشيطان يُسَنِّي(4) لكم طُرقه، ويريد أن يَحُلَّ دينكم عقدة عقدة، ويُعطيكم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة

ص: 132


1- أعلام الدين: 440.
2- سورة الأنفال، الآية: 46.
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 476.
4- يُسَنّي: يسهل.

الفتنة. فاصدفوا عن نزعاته(1) ونفثاته»(2).

وقال (صلوات اللّه وسلامه عليه): «أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرءوا القرآن فأحكموه وهيجوا إلى الجهاد، فَولهوا وَلَهَ اللقاح(3) إلى أولادها...»(4).

وقال(عليه السلام): «فلقد كنا مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وإن القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات، فما نزداد على كل مصيبة وشدةٍ إلّا إيماناً ومضياً على الحق، وتسليماً للأمر، وصبراً على مضض الجراح، ولكنا أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام، على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج، والشبهة والتأويل»(5).

الرأي العام وأقسامه

اشارة

للرأي العام معاني عديدة أقربها:

هو موقف جماعة من الناس تجاه قضية معينة، سلباً أو إيجاباً، كانتخاب رئيس دولة، أو مجلس استشاري، أو تجاه مشكلة ما؛ كالفقر أو الاستبداد، أو حادثة ما كالكوارث الطبيعية، أو البشرية كالحروب وغيرها.

والرأي العام على قسمين:

1- رأيٌ عام هادف وسليم إيجابي.

2- رأي عام فوضوي سلبيوكلا القسمين نتاج جملة من الأسباب والمسببات، نشير إلى بعضها هنا

ص: 133


1- فاصدفوا: فأعرضوا، نزعاته: وساوسه.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 121، ومن خطبة له(عليه السلام) بعد ليلة الهرير... .
3- اللِّقاح: جمع لقوح وهي الناقة، وولهها إلى أولادها: فزعها إليها إذا فارقتها.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 121، ومن خطبة له(عليه السلام) بعد ليلة الهرير... .
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 122، ومن كلام له(عليه السلام) قاله للخوارج... .

باختصار.

الرأي العام الهادف

هذا الرأي هو نتاج عاملين مهمين: الوعي والتنظيم، متى ما وجدا في المجتمع كان الرأي العام في هذا المجتمع هادفاً وسليماً، فالمجتمعات الواعية المنظمة إذا أُريد رأيها في مسألة ما كانتخاب مجلس شورى، أو حتى انتخاب مدير مؤسسة مثلاً، فإن هذا الرأي يكون غالباً موفّقاً ومطابقاً لما ينبغي.

ولكن السؤال الذي يطرح هنا هو:

كيف يمكن أن نحصل على رأي هادف وسليم؟

لايجاد رأي عام هادف وسليم، لا بد من توفر جملة من العوامل منها: إرشاد وتوجيه الناس إلى كافة الأمور التي يعيشونها، أو التي تُحيط بهم، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وذلك عبر العلماء والمثقفين، الذين لهم اطّلاع في هذه الأمور، فكلُّ مجتمع عبارةٌ عن خليط من الطبقات والأفكار والمعتقدات، ومهمة العالم والمثقف صياغة المجتمع صياغة جيدة، بحيث يحاول أن يرفع من مستوى الطبقات المتردية فكرياً واقتصادياً وما إلى ذلك، وفي نفس الوقت يحافظ أو يرفع من مستوى الطبقات العالية والمتوسطة، ولا يتم ذلك إلّا بعمل جملة من الأُمور من باب المقدمة لهذا العمل، منها:

أولاً: دراسة المجتمع دراسة موضوعية، ودراسة الأفكار التي يعتنقها المجتمع، ودراسة الحالة العامة للمجتمع - اقتصادية، سياسية، اجتماعية - ودراسة التيارات الفكرية المعاصرة وما إلى ذلك.

ثانياً: تشجيع وتحفيز كلّ العوامل الإيجابية في المجتمع، وتقويم وتصحيح السلبيات فيه.

ثالثاً: إعداد خطة متكاملة لهذه المهمة، متكونة من الكوادر الكفوءة،

ص: 134

والوسائل المتطورة، وتكون الكلمة الحجر الأساسي في نجاح هذه المهمة، فالكلمة الهادفة سواءُ كانت نابعة من قلم كاتب، أو فم خطيب، أو من جهاز مرئي أو مسموع، أو عن أي طريق كان، تُعدّ مصدراً هاماً لإزالة العديد من عوامل التخلف في المجتمع، وغرس عوامل التطور والازدهار محلها ومتى ما توصلنا إلى ذلك، فيمكن حينئذ أن نحصل على رأي عام هادف وسليم.

الإعلام والرأي العام

الإعلام في اللغة: هو الإخبار، أمّا اصطلاحاً فله عدة تعاريف منها:

أنّه أسلوب منظم، يستخدم للتأثير على جهة ما، في سبيل زرع أو دعم أو إزالة فكرة أو عمل ما.

أو أنّه الأُسلوب الذي يُحرّك مشاعر التفكير، ومكامن الإحساس للإنسان، ويهزّ الشعور العاطفي والنفسي، بقوة تتناسب مع قوة التأثير، وعظمة الدعوة. ومما لا شكّ فيه أنّ للإعلام دوراً فعّالاً في صناعة الرأي العام، خصوصاً في عالمنا اليوم، حيث يحتل أهمية بالغة، ويعدّ أحد المرتكزات الأساسية في صناعة القرار والتحكم في آراء الناس وكسب عواطفهم؛ لذا نجد أغلب الدول المتطورة، وكذلك المؤسسات والمكاتب الكبيرة قد أولته أهمية كبيرة وخصصت له ميزانية ضخمة، فأهمية الإعلام في التأثير على الرأي العام هي التي جعلت هذه الدول والمؤسسات تهتم به.

وغرض الإعلام بصورة رئيسية إمّا زرع فكرة ما في عقول الناس، أو إزالة فكرة ما من عقولهم، أو دعم وتعزيز فكرة ما موجودة أصلاً في المجتمع.

والإعلام تارة يكون هادفاً، وتارة يكون مغرضاً. فالهادف منه غالباً ما يصنع رأياً عاماً واعياً، لا يقبل الخضوع للظلم، ولا تنطلي عليه المكائد والمؤامرات،ويجعل الطريق أمام الفرد والمجتمع واضحاً وجلياً، مما يسهل عليه اختيار ما

ص: 135

ينبغي اختياره واجتناب ما ينبغي اجتنابه.

أمّا الإعلام المغرض فغالباً ما يصنع رأياً عاماً متفككاً ومهزوزاً، نتيجة للأفكار المشوشة وغير الصحيحة التي ينقلها، فإذا تأثر المجتمع بها، وتطبع عليها، فإنه بلا شك سوف يعمّه الجهل والتخلف، وهذا هو هدف الإعلام المغرض بصورة رئيسية - صناعة مجتمع متخلف جاهل - حتى يسهل له الاختراق وتسميم الأفكار.

ونتيجةً للتخلف والجهل الفكري الذي يَعُمُّ طبقة كبيرة من المجتمعات في عالم اليوم، وكذلك لاتساع نطاق الإعلام المغرض من قبل بعض المؤسسات العالمية، أصبح بمجرد سماع كلمة (إعلام) يتبادر إلى ذهن الكثيرين الجانب السلبي للإعلام ولكن في الحقيقة، كما أنّ الإعلام يعد أداة بيد الدول الاستكبارية والظلمة والمتسلطين في سبيل مصالحهم لتضليل الناس وخداعهم، فإنه كذلك يمكن أن يوظف في سبيل خدمة الناس وتوجيههم.

الإعلام الهادف

تتدخل في صناعة الإعلام الهادف والسليم عدة عوامل، منها على سبيل الأهمية لا الحصر:

1- الفكرة السليمة.

2- الأسلوب الأمثل.

3- الوسيلة الجيدة.

ومتى ما تحققت هذه العوامل الثلاث، وكانت في المستوى المطلوب، استطاع الإعلام أن يكوّن رأياً عامّاً واعياً، ونشير هنا إلى هذه العوامل بإيجاز:

أولاً: الفكرة السليمة: كلّ عمل سليم يقوم به الإنسان يجب أن يكون وراءهفكرةٌ سليمة، حتى يكون ناجحاً ومثمراً، فالإعلام إذا أُريد أن يكون في المستوى

ص: 136

المطلوب، فيجب أن يعبّر عن فكرة سليمة ويكون هدفه نبيلاً.

ثانياً: الأُسلوب الأمثل: قال تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...}(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنّا معاشر الأنبياء أمُرنا أن نكلِّم الناس على قدر عقولهم»(2).

فهذه الآية الشريفة، وقول الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، حدّدت لنا الأُسس الصحيحة في كيفية التعامل مع الناس، فكما أنّ للفكرة أهمية في نجاح مهمة الإعلام، فكذلك الأُسلوب الجيد، فيجب على مَن يتولى مهمة الإعلام أن تكون له دراية كافية في كيفية مخاطبة الناس وإقناعهم.

وإنّ هناك الكثير ممّن يحمل أفكاراً جيدة وسليمة، ولكن أُسلوبهم في التعامل مع الآخرين لا ينسجم مع الناس، فغالباً يكون مصيرهم الفشل، وهذا من أهم الأخطار التي غزت عالمنا الإسلامي اليوم، فبعض القائمين على مؤسسات الإعلام في عالمنا الإسلامي يحملون أفكاراً جيدة، ولكن لا يملكون الأُسلوب المناسب في التعامل، مما يقودهم إلى الفشل في مهمتهم.

ثالثاً: الوسيلة الجيدة: مرت الوسائل التي تستخدم كآلة لنشر الاعلام بمراحل مختلفة من عصر إلى آخر، ففي العصور الماضية، وإلى وقت قريب، كان يقع على الإنسان منفرداً مهمة الإعلام، أمّا في عصرنا هذا، عصر التطور الصناعيونتيجة للطفرة العلمية التي حققها العالم، فإنّ الأجهزة الإلكترونية الحديثة والأقمار الصناعية، وكذلك النشرات الإعلامية والصحف، ساهم كلّ ذلك في

ص: 137


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- الكافي 1: 23.

رفع مستوى الإعلام وتطوره، وقد جاء في بعض الإحصائيات(1) یعن الصحف والصحافة بالأرقام: أنّ عدد الصحف في العالم سنة (1966م) بلغ (30) ألف صحيفة، وفي سنة (1968م) بلغت (50) ألف صحيفة، منها 8 آلاف يومية، تطبع (250) مليون نسخة.

هذا في الستينات أمّا اليوم فالتطور الإعلامي تضاعف أضعافاً كثيرة، وخصوصاً في العالم المتطور، والذي يهمّنا هنا من هذا الكلام وهذه الإحصائيات، هو جواب هذا التساؤل:

أين يقع إعلامنا الإسلامي من هذا التطور الإعلامي الكبير؟

ولا شك أنّ إعلامنا الإسلامي تطور عما كان عليه سابقاً، وهذا شيء طبيعي نتيجة للتطور العلمي، ولكن لم يصل بعد إلى المستوى المطلوب، رغم أننا نحمل فكراً وعقيدة سليمة، وعلّمنا القرآن والسنّة باتباع الأسلوب الأمثل، ولكن رغم هذا وذاك لم نصل إلى المستوى المطلوب، نتيجة لتعثر بعض القائمين على الإعلام، وتخبطهم وتأثرهم بالأفكار الغربية، وتخليهم عن التعاليم الإسلامية، مما قاد إلى تأخر إعلامنا عن الإعلام العالمي، وبالتالي تأثر الرأي العام في بلادنا بالأفكار التضليلية، التي تبثّها وسائل الإعلام المعادية.

الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) والرأي العام

عن بكر بن كرب قال: كنا عند أبي عبد اللّه(عليه السلام)، فسمعناه يقول: «أما واللّه،عندنا ما لا نحتاج إلى الناس، وإنّ الناس ليحتاجون إلينا...»(2).

ومن الواضح أنّ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وآل بيته الأطهار عليهم أفضل الصلاة

ص: 138


1- إحصائية اليونسكو لعام 1966 عن مجلة النبراس: ص45 العدد الأول.
2- بصائر الدرجات 1: 142.

والسلام، لا يحتاجون إلى أقوال الناس وآرائهم، لأنهم معصومون مسددون بالغيب، ولكن جميع الأعمال والأقوال التي اعتمدوا بها على الرأي العام هي من باب التعليم والتسديد للناس. وما دام النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) والمعصومون(عليهم السلام) أنفسهم يولون أهمية للرأي العام، ولا يتجاوزونه في كثير من الأعمال، فمن الأولى أن يأخذ الإنسان العادي بالرأي العام ويعتمد عليه، ففي غزوة تبوك مثلاً، وعند رجوع الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) من الغزوة، كَمَن له نفر من المنافقين في العقبة ليفتكوا به(صلی الله عليه وآله وسلم)، فأخبره اللّه تعالى، عن طريق جبرئيل، بما يكنّه المنافقون له، فقبض عليهم ولم يقتلهم(1). وجاء في بعض كتب الأخبار في سبب نزول قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}(2)، قيل: نزلت في اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا للرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) في العقبة لما رجع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبرئيل(عليه السلام) رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بما قدروا، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحاهم، فلما نزل قال: «يا حذيفة من عرفت من القوم؟» قال: لم أعرف منهم أحداً، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فإنه فلان وفلان، حتى عدهم كلهم».فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «أكره أن تقول العرب لما ظفر محمد بأصحابه أقبل يقتلهم...»(3).

انظر إلى قول رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أكره أن تقول العرب...» فهنا رغم استحقاق

ص: 139


1- انظر: الصراط المستقيم 3: 44.
2- سورة التوبة، الآية: 64.
3- عمدة عيون صحاح الأخبار: 340.

هؤلاء المنافقين للقتل، فإنه(صلی الله عليه وآله وسلم) لم يقتلهم، وذلك لعدة أسباب من ضمنها عدم إثارة الرأي العام ضد المسلمين، فعندما يقدم الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) على قتل هؤلاء، فربما يتبادر إلى أذهان بعض الناس بأنّ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عندما ظفر واستقرّ له الأمر أعمل السيف بأصحابه، وهذا ما لا يرتضيه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

فالرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) بعظمته وقدرته لا يعاقب هؤلاء، لأنّه قدّم الأهم وهو وحدة الصف الإسلامي على المهم، وهو معاقبة هؤلاء المنافقين المعاندين.

أخذ البيعة لأمير المؤمنين(عليه السلام)

كانت الأوامر التي تنزل على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) على قسمين بعضٌ منها فوري، والبعض الآخر غير فوري فمثلاً: كان أخذ البيعة لأمير المؤمنين(عليه السلام) بالشكل الذي تم في غدير خم أمراً يحتاج إلى تهيئة مقدمات؛ إذ كان على الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يُمهِّد له على مدى (23) سنة؛ لأن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان قد خاف على الدين من ظهور الفتنة، وانشقاق الناس؛ لذا نرى أنّ رسول اللّه لم يتعجل بذلك وإن كان قد أعلن ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) منذ بدايات الدعوة الإسلامية، حتى ذلك اليوم الحساس والمصيري، حيث نزل جبرئيل على رسول اللّه، وقال له: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1).

وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) - قبل ذلك - كلما ذهب إلى مكان اصطحب معه عدداً من أصحابه ليرافقوه، ولكنه بعد هذه الآية الشريفة {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، قال لأصحابه: لا حاجة لي بعد الآن إلى حماية، وما تأخر الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) عن أخذ البيعة العامة للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، إلّا لكي يحشد آراء الناس ويهيأ نفوسهم

ص: 140


1- سورة المائدة، الآية: 67.

لهذا الأمر العظيم ويضمن للإمام(عليه السلام) الرأي العام.

فمهّد لذلك طيلة (23) سنة.

الرأسمالية والرأي العام

أمّا المذاهب والاتجاهات التي تجعل المادة هي الشعار الرئيسي لها، فإنها تحقق الربح والمكاسب للأقلية؛ لأنّ المستفيدين فيها هم أصحاب رؤوس الأموال ومن الأقلية، أما الغالبية من الشعب فهم رعايا وأتباع، ولا تراعى حقوقهم، والتي من ضمنها الحرية في الرأي والاتجاه.

ومنها الرأسمالية التي تعتمد اعتماد كلياً على المادة، وتجعلها هي المحرك الرئيسي لجميع قضاياها، فمن الواضح أنّ حقوق الأكثرية فيها مغتصبة ومهدورة، وربّ سائل يسأل ويقول:

إذن لماذا نلاحظ في البلدان الرأسمالية مثل أمريكا ومعظم الدول الغربية توجد فيها حرية الانتخاب وإبداء الرأي، وحرية المأكل والملبس وما إلى ذلك؟

فالجواب عليه: إنّ أصحاب القرار في هذه البلدان هم أصحاب رؤوس المال، وهم المسيطرون على إدارة الانتخابات في بلدانهم، وغالباً ما تكون هذه الانتخابات مزيفة، حيث أنّ للمال تأثيراً بالغاً في الحصول على المناصب والحقائب الإدارية، وأنّ أصحاب المال يجمعون حول أنفسهم جماعات كثيرة، ويسّخرون وسائل الإعلام، ويشترون أصحاب الضمائر الرخيصة؛ وبذلك يكونالحكم بيد من يريده رأسُ المال، لا بيد من يريده الشعب.

فالمجتمع الرأسمالي مقسّم إلى طبقتين طبقة غنية، وهي التي تملك كلّ شيء من سلطة واقتصاد وإدارة وما إلى ذلك، وهي أقليّة، وطبقة أُخرى مسحوقة وفقيرة، لا تملك كثيراً من مستلزمات الحياة، وليس لها رأي، وهي الأغلبية.

وقد ركزت الطبقة الغنية على موضوع الانتخابات وصبغتها بصبغة ديمقراطية

ص: 141

ظاهرياً، وصادرت على أثرها حقوق الأغلبية، وانتشر الفقر والمرض في هذه البلدان، مقابل الغنى والسعادة والسيادة التي انحصرت في نفر قليل من الشعب، فأوجدت هذه السياسة المغلوطة في كثير من البلدان الرأسمالية، تطرّفاً مزرياً من الجهتين: رجل يستحوذ على الملايين، وقد يصل مجمل أرباحه إلى المليون دولار في اليوم، وفي المقابل يوجد من يتقاضى راتباً شهرياً قدره (150) سنتاً، وكذلك يوجد في بلد الانتخابات المزيفة، بلد ناطحات السحاب والحاسوب ومركبات الفضاء، من يموت جوعاً، ومنهم من ينتحر من الفقر.

إذن الرأي العام في الدول الرأسمالية هو مجرد غطاء يستغله أصحاب الأموال لمصلحتهم عن طريق الخداع أو شراء الذمم، ولا تمثيل حقيقياً لهم في إدارة الشعب، والمراقب لمهزلة الانتخابات في معظم البلدان الرأسمالية، يجد بوضوح أنّ جميع الذين يفوزون في هذه الانتخابات هم من أصحاب المال، أو من المرتبطين بهم، وهذا أوضح دليل على زيف هذه الانتخابات.

ومن الواضح جداً أنّ أغلب أصحاب المال في هذه البلدان، همُّهم الرئيسي هو كيفية جمع المال، وذلك بأي طريق كان، ولا يهتمون بما يريده الشعب، فمبدئهم المال أولاً وآخراً.

والرأسماليون، يؤمنون بالملكية الفردية، أي أنّ الفرد له الحرية في أي عمل يعمله لكسب المال، ما عدا بعض المحذورات القليلة جداً، فله الحقّ أن يعملفي صناعة الخمور والملاهي وغيرها، ويعدونها من الأعمال الجيدة، فبائع الخمور وبائع الفواكه عندهم سواء.

وخلاصة ما نريد ذكره هنا: أنّ الرأسمالية رغم وجود نظام الانتخاب فيها، وما شابه ذلك، ولكن أغلب هذه الأشياء هي مظاهر خارجية فقط، خالية من الواقعية.

ص: 142

الاشتراكية والرأي العام

أمّا بعض الاشتراكيين فيزعم أنّ الاقتصاد أساس كلّ شيء في الحياة، فإنّ الدين والسياسة، والعلاقات الاجتماعية والصناعية، وجميع جوانب الحياة الأُخرى، تخضع للاقتصاد وتنقاد له، فهو البنية التحتية لكلّ شيء في الحياة، وعلى حدّ زعمهم فإنّ الإنسان مرّ بمراحل أربع:

المرحلة الأُولى: وهي مرحلة التكوين، يسمونها مرحلة الشيوعية الأُولى، أي أنّ الإنسان في نشأته الأُولى - حيث لا إنتاج، ولا أدوات إنتاج، ولا أبسط أنواع التقدم - كان يعيش في العراء، ويقتات على ثمار الغابات الطبيعية وأوراقها، فلا توجد في ذلك الوقت حكومة أو نظام أو سياسة أو رأي عام، أو غيرها من المصطلحات الموجودة عندنا اليوم، فهذه المرحلة يسمونها مرحلة الشيوعية الأُولى، فالشيوعية - حسب ادّعائهم - عدم تقييد الفرد بنظام أو حكومة أو قانون مهما كان شكله.

المرحلة الثانية: مرّ الإنسان (في نظرهم) بمرحلة ثانية يسمونها مرحلة السيد والعبد، أي إنّ الإنسان عندما اخترع بعض آلات الصيد، وطبعاً هذا الاختراع خاص بمجموعة من الناس لاجميعهم، فسيطرت هذه المجموعة على بقية الناس بحيث أصبحوا عبيداً لها مقابل إشباع بطونهم بواسطة آلات الصيد.

المرحلة الثالثة: ثم انتقل الإنسان إلى مرحلة أخرى، مرحلة الإقطاعيين، فعندما اكتشف الإنسان بعض وسائل الزراعة، وتعلَّم كيف يزرع، وسكن قربالمياه، واستحوذ هؤلاء المكتشفون لهذه الوسائل على أُمور الناس الباقية، وقُسّم الناس على أثر ذلك إلى طبقتين، الأُولى: طبقة الاقطاعيين، وهم المالكون لهذه الوسائل، والثانية: طبقة المزارعين وهم الطبقة المستغلَّة، وحصّن المالكون أنفسهم بكل الوسائل، لكي تبقى السلطة بأيديهم.

وفي هذه الفترة ظهرت الملكية الفردية، وعلى حدّ زعم بعض الاشتراكيين في

ص: 143

هذه المرحلة، وبحيلة من المالكين ادعوا بأنهم أبناء اللّه، وخلقوا هم الآلهة، وهم يسيرون على خطى الآلهة، وأوجدوا الدين حتى يحافظوا على نمط الحياة في تلك الفترة.

المرحلة الرابعة: ثم مرّ الإنسان في الطور أو المرحلة الرابعة، وهي مرحلة الصناعة، حيث اكتشف الإنسان في هذه المرحلة المكائن الصناعية والآلات، وسخرّها لخدمته، وفي هذه المرحلة تنازل بعض الملّاكين عن بعض مقاطعاتهم، مقابل كسب المال الوفير، حيث رأوا أن رأس المال لا ينمو إلّا بإشراك أكبر عدد ممكن من الشعب، وهكذا وجدت على حدّ زعمهم مرحلة الاشتراكية في هذه الفترة.

وكل هذا التفصيل والتحليل هو غير صحيح، وقد انتهجه بعض المغرضين، والذين حاولوا من هذا كله خداع الرأي العام في بلدانهم، وفي البلدان المحيطة بهم، لكي يجذبوها إلى مبنى الشيوعية، ويصوروها بأنها هي المنقذة للشعوب، وفيها يأخذ الإنسان كامل حريته، وأخذ ماركس ولينيين وكاسترو وماو وغيرهم يُطَبِّلون لذلك.

ولكن جميع هذه التحليلات التي ذكروها غير صحيحة، وغير واردة، وذلك لأكثر من دليل:

أولاً: عدم استنادهم في ذكر هذه التحليلات إلى أدلة واقعية سوى التخيلات والأوهام.

ثانياً: فشلها في تحقيق متطلبات الشعوب، وانتشار الفقر والمجاعة في أغلب الدول الإشتراكية.

وغيرها من الأدلة، والذي يريد أن يتوسع أكثر من ذلك يراجع كتابنا تحت عنوان (ماركس ينهزم)، وكتاب (الفقه: الاقتصاد). وفيهما نثبت بأنّ الاقتصاد ليس

ص: 144

هو المحرك الأساس لكل شيء في الحياة... .

وبهذه العقلية سيطرت الشيوعية على أغلب دولها، وعلى الدول التي تعتمد عليها، مستغلة أفراد الشعب، ومصادرة حقوقهم، تحت غطاء حمايتهم، وسوف تواجه الشيوعية عما قريب إن شاء اللّه تعالى فترة عصيبة، تؤدي بها إلى الاضمحلال والزوال، لأنّ الباطل مهما طال أمده، مصيره الزوال(1).

وإنّ الذين يضلون عن سبيل اللّه ويتبعون أهواءهم فإن اللّه تعالى يعذبهم عذاباً شديداً.

قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ...}(2).

العراق وتأثير الرأي العام

بعد أن بيّنا بعض الشواهد عن أهمية الرأي العام في إدارة الشعوب، فمستقبل العراق مرهون أيضاً بيد أبناءه ووحدة صفوفه وقوة رأيه، فإذا استطاع القائمون بحركات المعارضة للنظام العراقي، توحيد صفوف الشعب في الخارج والداخل، ونشر الوعي بين صفوف المجتمع عند ذلك يملكون قوة ضاربة لا تغلبها قوة أخرى، سوى قوة اللّه تعالى، ويستطيعون أن يكتسحوا نظام البعث ومن يسانده اكتساحاً بإذن اللّه تعالى.

فلو حشّد كلُّ واحد منهم مائة أو خمسين شخصاً، وهذا بدوره يحشد مائة، وهكذا لتمكنوا من إتمام المهمة بصورة جيدة.

وما تسلَّطت حكومة البعث على رقاب الشعب العراقي، وأمثالها من الحكومات المستبدة في منطقتنا الإسلامية، إلّا نتيجة عدم تكاتف وتوجيه الرأي العام، وتوحيده بوجه هذه الحكومات الظالمة، فلو كان الرأي العام موحَّداً

ص: 145


1- أُلقيت المحاضرة قبل سقوط الشيوعيّة.
2- سورة ص، الآية: 26.

وموجهاً في مصلحة الأمة، لم تأت هذه الحكومات وتتسلط على مصير شعوبنا.

فعلينا والحال هذه أن نعبئ شعوبنا الإسلامية تعبئة صحيحة، مبنية على أساس الدين الإسلامي، وعلينا أن نقرن القول مع الفعل، ويكون عملنا خالصاً لوجه اللّه تعالى، فقد قال أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام): «أفضل العمل ما أريد به وجه اللّه»(1).

صحيح أنّ عدوّنا يمتلك من الوسائل المدمرة الشيء الكثير، ولكن لو سكتنا عنه وانطوينا على أنفسنا، ولم نعمل على إزاحة الظلم، فسوف نُهزم وينتصر عدونا ويترسخ الظلم أكثر فأكثر، وأنّ الثواب يأتي على قدر العمل ومشقته، كما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثواب العمل على قدر المشقة فيه»(2).

وقال(عليه السلام):«خير الأمور ما أدى إلى الخلاص»(3).

وقال(عليه السلام): «خير عملك ما أصلحت به يومك وشره ما استفسدت به قومك»(4).

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوجهنا لما فيه الخير والصلاح.

«يا مَن تحلّ به عُقد المكاره، ويا مَن يُفثأ به حدُّ الشدائد، ويا مَن يلتمس منهالمخرج إلى روح الفرج، ذلّت لقدرتك الصعاب، وتسببت بلطفك الأسباب، وجرى بقدرتك القضاء، ومضت على إرادتك الأشياء وهي بمشيَّتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة، أنت المدعوّ للمهمات، وأنت المفزع في الملمّات، لايندفع منها إلّا ما دفعت، ولا ينكشف منها إلّا ما كشفت...»(5).

ص: 146


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 191.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 333.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 355.
4- عيون الحكم والمواعظ: 238.
5- المصباح للكفعمي: 233.

من هدي القرآن الحكيم

في وحدة الصف الإسلامي وتعاضده

قال عزّ وجلّ: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ وَفَضْلٖ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا}(2).

وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(3).

وقال عزّ من قائل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(4).

الدعوة الأمثل والأنجح أسلوباً ومنهجاً

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(5).

وقال سبحانه: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}(6).وقال تبارك تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(7).

ص: 147


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة النساء، الآية: 175.
3- سورة التوبة، الآية: 71.
4- سورة الحجرات، الآية: 10.
5- سورة الأنفال، الآية: 24.
6- سورة يوسف، الآية: 108.
7- سورة النحل، الآية: 125.

وقال عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(1).

العمل بالمشورة وتجنب الاستبداد بالرأي

قال سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(3).

زيف وبطلان المذاهب المادية

وقال سبحانه: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَٰسَٰمِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}(4).

وقال عزّ وجلّ: {مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}(5).

الوعي والاعتبار من صفات المؤمنين

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

في التآخي الإسلامي

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): ستّ خصال من كنّ فيه كان بين

ص: 148


1- سورة فصلت، الآية: 33.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة الشورى، الآية: 38.
4- سورة طه، الآية: 95-96.
5- سورة الزخرف، الآية: 20.
6- سورة يوسف، الآية: 111.
7- سورة الحاقة، الآية: 12.

يدي اللّه عزّ وجلّ وعن يمين اللّه عزّ وجلّ»، قال ابن أبي يعفور: وما هي جعلت فداك؟ قال: «يحب المرء المسلم لأخيه ما يحب لأعز أهله، ويكره المرء المسلم لأخيه ما يكره لأعزّ أهله، ويناصحه الولاية» فبكى ابن أبي يعفور وقال: كيف يناصحه الولاية؟ قال(عليه السلام):«يا ابن أبي يعفور، إذا كان بتلك المنزلة بثه همه، يهم لهمه، فرح لفرحه إن هو فرح، وحزن لحزنه إن هو حزن فان كان عنده ما يفرج عنه فرج عنه وإلّا دعا اللّه له»(1).

وقال الإمام محمد بن علي الباقر(عليهما السلام): «... إن اللّه خلق المؤمن من طينة الجنان وأجرى فيهم من ريح روحه؛ فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، فإذا أصاب تلك الأرواح في بلد من البلدان شيء حزنت عليه الأرواح لأنها منه»(2).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «المسلم أخو المسلم هو عينه ومرآته ودليله، لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذّبه ولا يغتابه»(3).

أبرز صفات الداعية

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في وصيته لأبي ذر الغفاري(رحمه الله): «يا أبا ذر: مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر»(4).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية»(5).

ص: 149


1- المؤمن: 41.
2- المحاسن: 133.
3- الكافي 2: 166.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 534.
5- الكافي 2: 78.

الإصابة في الاستشارة

قال الرسول المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم):«ما من رجل يشاور أحداً إلّا هُدي إلى الرشد»(1).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الاستشارة عين الهداية»(2).

وعن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): «في التوراة أربعة أسطر: من لا يستشر يندم، والفقر الموت الأكبر، وكما تدين تدان، ومن ملك استأثر»(3).

وعن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): «لن يهلك امرء عن مشورة»(4).

في الوعي والاعتبار واليقظة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم):«لا خير في العيش إلّا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع»(5).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رحم اللّه امرءاً تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر...»(6).

وقال علي بن أبي طالب(عليه السلام): «اليقظة نور، الغفلة غرور»(7).

وقال(عليه السلام) أيضاً:«من تبصر في الفطنة ثبتت له الحكمة، من ثبتت له الحكمة عرف العبرة»(8).

ص: 150


1- تفسير مجمع البيان 9: 57.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 55.
3- المحاسن 2: 601.
4- المحاسن 2: 601.
5- الكافي 1: 33.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 103، ومن خطبة له(عليه السلام) في التزهيد في الدنيا.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 21.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 642.

الزواج وتشكيل الأسرة في الإسلام

قانون الزوجيّة في كلِّ مظاهر الحياة

قال اللّه تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً}(1).

ذكر في تفسير هذه الآية: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ} يعني من جنس أنفسكم {أَزْوَٰجًا} فليست النساء من جنس آخر، وهذان فضلان، الأول: جعل الأزواج، والثاني: كونهن من نفس الجنس؛ لأن الإنسان لجنسه آلف ولنوعه أميل، قال الشاعر: كل جنس لجنسه يألف.

{وَجَعَلَ لَكُم} أيها البشر {مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ} تأنسون بهم، ويكونون عوناً لكم، وسبباً لامتدادكم في الحياة {وَحَفَدَةً} جمع حفيد، وهم أبناء البنات وأبناء البنين، أو الخدم ومن يشبهه، أو الأعم منهما؛ لأن معنى الحافد: المسرع إلى الخدمة، فإن كان المراد الأول كان عطفاً على البنين، وإن كان غيره كان عطفاً في المعنى، أي جعل لكم حفدة(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لو رأيت فرداً من مصراعين فيه كلّوب(3) أكنت

ص: 151


1- سورة النحل، الآية: 72.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 240.
3- الكلوب: خشية في رأسها عقافة منها أو من حديد.

تتوهم أنه جعل كذلك بلا معنى؟ بل كنت تعلم ضرورة أنه مصنوع يلقي فرداآخر، فيبرزه ليكون في اجتماعهما ضرب من المصلحة، وهكذا تجد الذَّكَر من الحيوان كأنه فرد من زوج مهيأ من فرد انثى، فيلتقيان لما فيه من دوام النسل وبقائه، فتباً وخيبة وتعساً لمنتحلي الفلسفة، كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة، حتى أنكروا التدبير والعمد فيها»(1).

وقد اهتم في عالمنا اليوم المختصون - في كل العلوم - أهمية فائقة لظاهرة الزوجية في المخلوقات، ففي علم الطب - مثلاً - يبحث الأطباء عن الزوجية في نواح متعددة، كالاختلافات، والاتفاقات، وتجانس الدم، أو عدم تجانسه، وغيرها.

وفي علم الفلك كذلك، يتحدث الفلكيون ويطرحون هذا السؤال: هل أن النجوم مرتبطة بنظام الزوجية؟ أي: هل هناك تناسب بين كل اثنين منهما؟ فيصح أن نقول: إن فيهما حالة الزوجية أم لا؟

وفي علم الاجتماع كذلك، فإن المختصين أيضاً حينما يبحثون عن الأسرة، فإنهم يتحدثون عن الزوجين باعتبار أن الأسرة النواة الأولى لتكوين المجتمع، فيبحثون عن مشاكل الأسرة، وأسباب تقدّمها، أو انهيارها، وتأثير كل من الرجل والمرأة على الأسرة والمجتمع، وغير ذلك من الأمور.

وعلماء الحيوان أيضاً، يبحثون بصورة مفصّلة عن ذَكَر الحيوان وأنثاه، وأدوار كل منهما، وكيفية التزاوج بينهما، وأسلوب المعيشة، وطريقة الإنجاب، ونوع المأكولات، وغيرها مما يختص بعالم الحيوان. وكذلك عندما نلقي نظرة إلى عالم النبات: نرى ظاهرة الزوجية واضحة جداً بكل ألوانها، ففي النخيل نرى هذه

ص: 152


1- توحيد المفضل: 68.

الظاهرة بوضوح، قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ}(1) فإن عملية التلقيح تدلّ على وجود أنثى النبات التي تنتظر اللقاح ليخرج الثمر.

بل حتى في علم الفيزياء، نرى مسألة الموجب والسالب.

كما أن ظاهرة الزوجية قد توجد في عوالم أخرى؟ لعل العلم لم يتوصل إليها بعد.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فهذا الذي نشاهده من الأشياء بعضها إلى بعض مفتقر؛ لأنه لا قوام للبعض إلّا بما يتصل به، كما ترى أنّ البناء محتاجٌ بعض أجزائه إلى بعض، وإلّا لم يتسق ولم يستحكم، وكذلك سائر ما ترون»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها، وذلك قوله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}»(3)(4).

وقال(عليه السلام): «أحال الأشياء لأوقاتها، ولاءم بين مختلفاتها، وغرّز غرائزها، وألزمها أشباحها»(5).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ولم يخلق شيئاً فرداً قائماً بنفسه دون غيره؛ للذي أراد من الدلالة على نفسه وإثبات وجوده، واللّه تبارك وتعالى فرد واحد لا ثاني معه يقيمه ولا يعضده ولا يمسكه، والخلق يمسك بعضه بعضا بإذن اللّه ومشيته...»(6).

ص: 153


1- سورة الحجر، الآية: 22.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 537.
3- سورة الذاريات، الآية: 49.
4- الكافي 1: 139.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق العالم والملائكة... .
6- التوحيد للشيخ الصدوق: 439.

الزوجية أمر ضروري

إذن يستظهر من هذا وغيره: أن ظاهرة الزوجية أمر ضروري في الحياة، بل إن استمرار الحياة قائم بقانون الزوجية. فمثلاً: نحن نرى عدم اتفاق قطب السالب مع السالب، أو السلك الحار مع الحار، بل لا بد من وجود حار وبارد، لكي تصل الكهرباء مثلاً. وكذلك لا يمكن للأشجار أن يخرج ثمرها بدون لقاح الذكر، وكذلك لا تحصل عملية التوالد في الإنسان والحيوان وبعض المخلوقات الأخرى بدون عملية التزاوج.

فنكتشف من هذا وغيره إن ظاهرة الزوجية سنّة كونية لا بد منها، ولا يستطيع أحد أن يقف بوجه السنن الكونية، لأنها في النتيجة سوف تقهره وتهزمه، هذا قانون ثابت وراسخ لا يتغير.

وعند ما سار قوم لوط(عليه السلام) عكس هذا القانون وخالفوا السنن الكونية خسروا الدينا والآخرة، قال تبارك وتعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٖ مِّنَ الْعَٰلَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّٰدِقِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَٰهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُواْ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَٰلِمِينَ}(1).

حين اكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فإن سلوكهم المنحرف هذا، والسائر بخلاف القانون الطبيعي، اصطدم في النهاية بقانون السنن الكونية، والذي لا يتغير.

فعن الامام الرضا(عليه السلام) قال: «أروي عن العالم(عليه السلام) أنه قال: لو كان ينبغي لأحد

ص: 154


1- سورة العنكبوت، الآية: 28- 31.

أن يرجم مرتين لرجم اللوطي، وعليه مثل حد الزاني من الرجم والحد، محصناً أو غير محصن. وإذا وجد رجلان عراة في ثوب واحد وهما متهمان، فعلى كل واحد منهما مائة جلدة، وكذلك امرأتان في ثوب واحد، ورجل وامرأة في ثوب واحد. وفي اللواطة الكبرى ضربة بالسيف أو هدمة أو طرح الجدار وهي الإيقاب، وفي الصغرى مائة جلدة. وروي: أن اللواطة هي التفخذ، وأن على فاعله القتل، والإيقاب الكفر باللّه، وليس العمل على هذا وإنما العمل على الأولى في اللواط، واتق الزنا واللواط،؛ وهو أشد من الزنا،؛ والزنا أشد منه، وهما يورثان صاحبهما اثنين وسبعين داء في الدنيا وفي الآخرة...»(1).

فكانت النتيجة التي حكاها القرآن الكريم هي المصير الطبيعي لهؤلاء: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ}(2).

النفس الواحدة

قال اللّه تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}(3). وقد اعتقد البعض أن حواء(عليها السلام) خلقت من ضلع آدم(عليه السلام)، كما ترويه بعض الأخبار الضعيفة فاعتمدوها.

قال القمي في تفسيره: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ} يعني آدم(عليه السلام) {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حواء برأها اللّه من أسفل أضلاعه(4).

وروي في حديث أنه: «فلما نام آدم(عليه السلام) خلق اللّه من ضلع جنبه الأيسر مما

ص: 155


1- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 277.
2- سورة هود، الآية: 82.
3- سورة النساء، الآية: 1.
4- تفسير القمي 1: 130.

يلي الشراسيف، وهو ضلعٌ أعوج، فخلق منه حواء، وإنما سميت بذلك لأنها خلقت من حي، وذلك قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}(1) وكانت حواء على خلق آدم وعلى حسنه وجماله...»(2).

ولكن هذا الرأي خلاف ما ورد في سائر الروايات المعتبرة وخلاف ما ذهب إليه معظم العلماء، فالصحيح هو أن اللّه عزّ وجلّ خلق حواء(عليها السلام) من فاضل الطين الذي خلق منه آدم(عليه السلام).

إذن فقوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ} أي بإطاعة أوامره ونواهيه {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ} هي نفس آدم أبي البشر(عليه السلام) {وَخَلَقَ مِنْهَا} أي من تلك النفس، إما بالخلق من فضلة طينته، أو المراد من جنس تلك النفس {زَوْجَهَا} وهي حواء(عليها السلام)، فإن هذا الإله الخالق القادر حقيق بالتقوى، ولا يخفى أن ذلك لا ينافي خلق زوجتين جديدتين لهابيل وقابيل حتى نشأ منهما أبناء عمّ - كما عن الأئمة(عليهم السلام) - إذ الكلام في ابتداء الخلقة -(3).

وقال الشيخ الطوسي(رحمه الله) في تفسيره:

قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حواء، روي أنها خلقت من أضلاع آدم(عليه السلام)، ذهب إليه أكثر المفسرون، وقال أبو جعفر(عليه السلام): «خلقها اللّه من فضل الطينة التي خلق منها آدم» ولفظ النفس مؤنث بالصيغة، ومعناه التذكير ههنا، ولوقيل نفس واحد لجاز(4).

ص: 156


1- سورة النساء، الآية: 1.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 347.
3- تفسير تقريب القرآن 1: 440.
4- التبيان في تفسير القرآن 3: 99.

ولو ثبت أنه تعالى خلقها من ضلع آدم(عليه السلام) فعلاً، فلا يرد أي إشكال عقلي على ذلك، لكن الصحيح ما ورد في حديث الإمام الباقر(عليه السلام).

ثم خلق اللّه عزّ وجلّ منهما سائر الناس بقانون الزوجية: {إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}(1). ولم يقل تعالى: خلقناكم من ذكر فقط، بل من ذكر وأنثى.

وقد أبدع اللّه عزّ وجلّ في خلق الإنسان الذي كانت بدايته بخلق آدم وحواء، حتى انتهت الصورة بهذا التجمع البشري الكبير، الذي سيبقى إلى ما شاء اللّه تعالى، وهذا من أبرز مصاديق قانون الزوجية.

نظرية أصل الإنسان

اشارة

لقد حاول البعض أن يثير الشبهات على أصل الإنسانية ومبدئها الأول، فقال: إن أصل الإنسان حيوان من فصيلة القرود، ثم بمرور الزمن تطور ومرّ بمراحل متعددة، إلى أن صار بهذه الهيئة التي هو عليها الآن!(2).

وفي الواقع، إن هذا الكلام مجرد ترهات وافتراضات وتكهّنات لم يثبت بدليل.

بل الأدلة على عكس ذلك، ومنها ما أثبتته الحفريات والآثار في أصالة النوع الإنساني، وعدم مروره بهذه المراحل التي يدعيها دارون وأتباعه أمثال فرويد؛ وذلك لأنهم عثروا على هياكل عظمية للإنسان القديم تشبه في تركيبها وهيئتهاتركيب وهيئة الإنسان الحالي.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن القرآن الكريم يصرّح في أكثر من مورد أن

ص: 157


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- إشارة إلى النظرية الداروينية.

اللّه عزّ وجلّ قد خلق الإنسان من تراب بدون مرور بأي مرحلة من مراحل الحيوانية، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٖ}(1). وبما أن عيسى(عليه السلام) خلق على صورة الإنسان الكامل، فإن آدم(عليه السلام) أيضاً كان على نفس هذه الصورة الإنسانية. وإلّا لما صحّ التمثيل.

وهناك آيات كثيرة تشير إلى مسألة خلق الإنسان. منها قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ}(2).

وقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٖ كَالْفَخَّارِ}(3). فإنه لم يقل: خلق الإنسان من سلالة القردة.

إذن الإنسان في بداية خلقه كان إنساناً متكاملاً، ولم يكن قرداً ثم مرّ بمراحل حتى وصل إلى مرحلته النهائية - الإنسانية - والإسلام صريح في ذلك.

أمّا من يدعي أن أصل الإنسان قرد، فإنه يسند قوله الى بعض الاحتمالات فقط كأوجه الشبه بين الإنسان والقرد، وكذلك بما أن القرود من الحيوانات القديمة التي يتجاوز عمرها آلاف السنين فإنه يربط ذلك بمسألة خلق الإنسان. وكل ذلك خال من الدليل الصحيح، بل يرد عليه بأدلة ثابتة، كما أشرنا في الآيات القرآنية.

فالصحيح في خلق الإنسان: أن اللّه تعالى خلق الإنسان إنساناً على هيئته الحالية، ولم يكن قبل ذلك على شكل القرود أو سائر الحيوانات.

القرآن والمسوخ

نعم، إن اللّه تعالى مسخ بعض الناس الكفرة قردةً وخنازير وغيرها، فجعلهم

ص: 158


1- سورة آل عمران، الآية: 59.
2- سورة التين، الآية: 4.
3- سورة الرحمن، الآية: 14.

على هذه الهيئات بعد أن كانوا بصورة الإنسان، وذلك لعصيانهم وطغيانهم على اللّه، فقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْاْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ} لما اصطادوا السموك فيه {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ}(1).

وفي قصتهم ورد عن الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «كان هؤلاء قوماً يسكنون على شاطئ بحر، نهاهم اللّه وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السبت. فتوصلوا إلى حيلة ليحلوا بها لأنفسهم ما حرم اللّه، فخدوا أخاديد وعملوا طرقاً تؤدي إلى حياض، يتهيأ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق، ولا يتهيأ لها الخروج إذا همت بالرجوع منها إلى اللجج. فجاءت الحيتان يوم السبت جارية على أمان اللّه لها فدخلت الأخاديد وحصلت في الحياض والغدران. فلما كانت عشية اليوم همت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن صائدها، فرامت الرجوع فلم تقدر، وأبقيت ليلتها في مكان يتهيأ أخذها يوم الأحد بلا اصطياد لاسترسالها فيه، وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها. فكانوا يأخذونها يوم الأحد، ويقولون ما اصطدنا يوم السبت، إنما اصطدنا في الأحد، وكذب أعداء اللّه بل كانوا آخذين لها بأخاديدهم التي عملوها يوم السبت حتى كثر من ذلك مالهم وثراؤهم، وتنعموا بالنساء وغيرهن لاتساع أيديهم به. وكانوا في المدينة نيفاً وثمانين ألفاً، فعل هذا منهم سبعون ألفاً، وأنكر عليهم الباقون، كما قص اللّه تعالى: {وَسَْٔلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}(2) الآية. وذلك أن طائفةمنهم وعظوهم وزجروهم، ومن عذاب اللّه خوفوهم، ومن انتقامه وشديد بأسه حذروهم، فأجابوهم عن وعظهم {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} بذنوبهم هلاك

ص: 159


1- سورة البقرة، الآية: 65.
2- سورة الأعراف، الآية: 163.

الاصطلام {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}. فأجابوا القائلين لهم هذا: {هَٰذَا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ}(1) هذا القول منا لهم معذرة إلى ربكم؛ إذ كلفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربنا مخالفتنا لهم، وكراهتنا لفعلهم. قالوا: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ونعظهم أيضاً لعلهم تنجع فيهم المواعظ، فيتقوا هذه الموبقة، ويحذروا عقوبتها. قال اللّه عزّ وجلّ: {فَلَمَّا عَتَوْاْ} حادوا وأعرضوا وتكبروا عن قبولهم الزجر {عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ}(2) مبعدين عن الخير، مقصين.

قال: فلما نظر العشرة الآلاف والنيف، أن السبعين ألفاً لا يقبلون مواعظهم، ولا يحفلون بتخويفهم إياهم وتحذيرهم لهم، اعتزلوهم إلى قرية أخرى قريبة من قريتهم، وقالوا: نكره أن ينزل بهم عذاب اللّه ونحن في خلالهم. فأمسوا ليلة، فمسخهم اللّه تعالى كلهم قردة خاسئين، وبقي باب المدينة مغلقاً لا يخرج منه أحد ولا يدخله أحد. وتسامع بذلك أهل القرى فقصدوهم، وتسنموا حيطان البلد، فاطلعوا عليهم فإذا هم كلهم رجالهم ونساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم وقراباتهم وخلطاءهم، يقول المطلع لبعضهم: أنت فلان؟ أنت فلانة؟ فتدمع عينه، ويومئ برأسه بلا، أو نعم.

فما زالوا كذلك ثلاثة أيام، ثم بعث اللّه عزّ وجلّ عليهم مطراً وريحاً فجرفهمإلى البحر، وما بقي مسخ بعد ثلاثة أيام، وإنما الذين ترون من هذه المصورات بصورها فإنما هي أشباهها، لا هي بأعيانها ولا من نسلها»(3).

ص: 160


1- سورة الأعراف، الآية: 164.
2- سورة الأعراف، الآية: 166.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 267.

وهذا واضح في أنهم في الأصل كانوا إنساناً، ثم مسخ اللّه منهم على شكل القردة أو غيرها من الحيوانات، لا أن أصل الإنسان كان قرداً(1).

نظريات وانحرافات

وكذلك طرح فرويد في نظرياته آراءً شاذة وأفكاراً منحرفة، حيث ادعى أن أهم شيء في الحياة وفيه قوام الإنسانية هو الغريزة الجنسية، فيعزو كل حركة وفعل من الإنسان إلى غريزة الجنس، فيقول: إن الطفل عندما يلتقم الثدي يدفعه إلى ذلك غريزة الجنس، ويقول: إن الحب الناشئ بين جميع الأفراد أساسه الغريزة الجنسية، وغير ذلك من الادعاءات الفارغة.

بينما جاء ماركس بنظرية أخرى، مفادها: أن أساس كل شيء هو الاقتصاد ووسائل الإنتاج. فكلما تطورت وسائل الإنتاج وتقدم الاقتصاد تقدمت البشرية، فيُلغي أو يَنسى كل القيم الروحية والمعنوية، ويربط تقدم البشرية بالمادة فقط.

ولكن الإسلام يطرح النظرية الكونية الشاملة لكل مناحي الحياة، والتي تصون كرامة الإنسان، وتحفظ عزّته وشرفه، مضافاً إلى تقدمه العلمي، فلا ينسى تأثير غريزة الجنس وأهميتها، بل يحدّد لها أطرها المشروعة، وكذلك لا ينسى أو يهمل تأثير وأهمية المال على حياة الإنسان، بل يوازن بين هذا وذاك وغيرهما. فالجنس المطلق الذي تدعيه أوروبا، وبعض الدول الأخرى، اليوم قد أهلك سابقاً قوم لوط، وغيرهم من الأقوام، الذين اعتمدوا الجنس في كل مظاهرالحياة، وسوف تجري السنن الإلهية لتهلك أتباعهم يوماً ما بالإصابة بمختلف الأمراض الفتاكة وغيرها.

وأما المادة والاتجاه المادي البعيد عن المناحي المعنوية والروحية للحياة

ص: 161


1- للتفصيل راجع كتاب (الإنسان والقرد)، وكتاب (بين الإسلام ودارون) للإمام الشيرازي(رحمه الله).

الذي يدعيه ويتبناه ماركس وأتباعه فمرفوض في الإسلام؛ لأن ذلك يقلّل من قيمة الإنسان وكرامته، وهو: أكرم المخلوقات، وكرامته مبنية على حسن عقله وتقواه، لا على ماله وما شابه ذلك. فالمال وسيلة تخدم الإنسان، وليس غاية أو هدفاً من أجله خلق الإنسان.

لذا حيث قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ}(1).

وفي حديث آخر قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ليس شيء خيراً من ألف مثله إلّا الإنسان»(2).

ومن كرامة اللّه تبارك وتعالى أن رزقه عظيم النعم وسخر له ما شاء، فقال عزّ من قائل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَٰتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَٰرَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(3).

الأسرة في الإسلام

قال تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُممَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «تناكحوا تناسلوا تكثروا؛ فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط»(5).

ص: 162


1- سورة الإسراء، الآية: 70.
2- نهج الفصاحة: 661.
3- سورة إبراهيم، الآية: 32-34.
4- سورة الروم، الآية: 21.
5- جامع الأخبار: 101.

إن من المعلوم أن الإسلام أعطى لكل من الرجل والمرأة وزنه الاجتماعي الخاص به، والذي بموجبه يؤثر في المجتمع الإنساني ويتقدم نحو الكمال. ووضع ضوابط وحدوداً لكل منهما تحفظ لهما تلك المكانة الاجتماعية، فأمر المرأة بالحجاب والستر، والحفاظ على نفسها، وعدم ابراز محاسنها إلّا لزوجها لما فيه كرامتها وزيادة محبتها وعدم ابتذالها، والابتعاد عن مخالطة الرجال وغيرها من الأمور.

وأمر الرجال بغضّ البصر وعدم الاعتداء على حقوق المرأة، وحرمة اغتصابها وخداعها وإهانتها وتحقيرها، فبموجب الضوابط الإسلامية تحتفظ المرأة بكيانها وكرامتها، وتفترق عن إناث الدواب. وكذلك الرجل، فبموجب الضوابط الإسلامية هو يفترق عن الكواسر والوحوش.

ثم دعا الإسلام بشكل مكثف إلى الاقتران بين الرجل والمرأة عبر الزواج الشرعي السهل والبسيط في المتطلبات والتقاليد المتعارفة للزواج، وثم إنشاء الأسرة المتجانسة المتحابة المتراحمة، تسودها علاقات المودة والرحمة، تجسد علاقاتها بكل معنى الإنسانية الجميلة، لتسير قافلة البشر نحو إنشاء مجتمع إنساني صالح.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «دخل علينا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وفاطمة جالسة عندالقدر وأنا أنقي العدس، قال: يا أبا الحسن.

قلت: لبيك يا رسول اللّه.

قال: اسمع مني، وما أقول إلّا من أمر ربي، ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلّا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، وأعطاه اللّه تعالى من الثواب مثل ما أعطاه اللّه الصابرين، وداود النبي ويعقوب وعيسى(عليهم السلام)، يا علي، من كان في خدمة العيال في البيت ولم يأنف كتب اللّه

ص: 163

تعالى اسمه في ديوان الشهداء، وكتب اللّه له بكل يوم وليلة ثواب ألف شهيد، وكتب له بكل قدم ثواب حجة وعمرة، وأعطاه اللّه تعالى بكل عرق في جسده مدينة في الجنة. يا علي، ساعة في خدمة العيال خير من عبادة ألف سنة وألف حج وألف عمرة، وخير من عتق ألف رقبة وألف غزوة وألف عيادة مريض وألف جمعة وألف جنازة وألف جائع يشبعهم وألف عار يكسوهم وألف فرس يوجهها في سبيل اللّه، وخير له من ألف دينار يتصدق على المساكين، وخير له من أن يقرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومن ألف أسير أسر فأعتقها، وخير له من ألف بدنة يعطي للمساكين، ولا يخرج من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة. يا علي، من لم يأنف من خدمة العيال دخل الجنة بغير حساب. يا علي، خدمة العيال كفارة للكبائر ويطفئ غضب الرب ومهور حور العين ويزيد في الحسنات والدرجات. يا علي، لا يخدم العيال إلّا صديق أو شهيد أو رجل يريد اللّه به خير الدنيا والآخرة»(1).

حرية المرأة في الزواجفأكّد الإسلام على حرية اختيار المرأة للزوج، وكما أعطاها الحق في أن تعطي رأيها به، وموافقتها عليه، فلا يحق لأحد أن يجبرها في الزواج وفي اختيار الزوج، بعد أن وضع علامات المرأة الصالحة، وعلامات الرجل الصالح، فأوجد نوعاً من المساواة بين الطرفين، وألزم حقوقا على الجانبين، لكيلا يشعر أحدهما بالغبن أو الضعف أو الاستعباد.

اشارة

وقال الضحاك بن مزاحم: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) يقول، وذكر حديث تزويج فاطمة(عليها السلام) وأنه طلبها من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم). فقال: «يا

ص: 164


1- جامع الأخبار: 102.

علي، إنه قد ذكرها قبلك رجال، فذكرت ذلك لها، فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك، فدخل عليها فأخبرها، وقال: إن علياً قد ذكر من أمرك شيئاً، فما ترين؟ فسكتت ولم تول وجهها، ولم ير فيه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كراهة، فقام وهو يقول: اللّه أكبر، سكوتها إقرارها»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في رجل يريد أن يزوج أخته؟

قال: «يؤامرها، فإن سكتت فهو إقرارها، وإن أبت لم يزوجها، فإن قالت: زوجني فلاناً، فليزوجها ممن ترضى، واليتيمة في حجر الرجل لا يزوجها إلّا برضاها»(2).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «تزوج المرأة من شاءت إذا كانت مالكةً لأمرها، فإن شاءت جعلت ولياً»(3).وفي حديث آخر قال(عليه السلام): «تستأمر البكر وغيرها، ولا تنكح إلّا بأمرها»(4).

وقال أبو الحسن(عليه السلام) في المرأة البكر: «إذنها صماتها، والثيب أمرها إليها»(5).

المرأة في الإسلام والأمم السابقة

لقد أكرم الإسلام المرأة أيما اكرام، وتمثل ذلك عبر أوامر وتعليمات وتوجيهات تحدد وتبين مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي، وتبين أن كرامتها مضمونة في كل مراحل حياتها، وذلك عبر آيات شريفة وأحاديث كريمة مستفيضة، وسيرة عطرة من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام).

ص: 165


1- وسائل الشيعة 20: 275.
2- الكافي 5: 393.
3- الكافي 5: 292.
4- تهذيب الأحكام 7: 380.
5- الكافي 5: 394.

فقد أمر بإكرامها وهي وليدة، حيث حرم أشد التحريم (وأدها)(1) كما كان متعارفاً في الجاهلية، وذم عدم الفرح بولادتها، بل أوصى بأكرامها وهي طفلة، وأكرامها واحترام رأيها عند الزواج، وإكرامها واحترامها ومودتها وهي زوجة، وإكرامها أشد الإكرام وهي أم، بل إكرامها أشد الإكرام في جميع مراحل حياتها، رافضاً لكل الضيم والحيف وعدم الإحترام الذي كان في حقها في الجاهلية وفي الأمم السابقة واللاحقة. وهذه باقة عطرة من الآيات الشريفة والأحاديث الكريمة التي توصي بالمرأة:

قال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(2).

قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَٰرَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَايَحْكُمُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(4).

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): نعم الولد البنات؛ ملطفات مجهّزات مونسات مباركات مفلّيات»(5).

وعن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إن اللّه تبارك وتعالى على الإناث أرأف منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه

ص: 166


1- وأَدَها: دفنها في التراب وهي حية.
2- سورة الروم، الآية: 21.
3- سورة النحل، الآية: 58- 59.
4- سورة التكوير، الآية: 8 -9.
5- الكافي 6: 5.

وبينها حرمة إلّا فرحه اللّه تعالى يوم القيامة»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «البنات حسنات والبنون نعمة، فإنما يثاب على الحسنات ويسأل عن النعمة»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنة».

فقيل: يا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، واثنتين؟

فقال: «واثنتين».

فقيل: يا رسول اللّه، وواحدة؟

فقال: «وواحدة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لابنه محمد بن الحنفية: «يا بني، إذا قويتفاقو على طاعة اللّه، وإذا ضعفت فاضعف عن معصية اللّه عزّ وجلّ، وإن استطعت أن لا تُمَلِّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فافعل؛ فإنه أدوم لجمالها وأرخى لبالها وأحسن لحالها؛ فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فدارها على كل حال، وأحسن الصحبة لها، ليصفو عيشك»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور؛ فإن من فرح ابنة فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل مؤمنة في سبيل اللّه، ومن أقر بعين ابن فكأنما بكى من خشية اللّه عزّ وجلّ، ومن بكى من خشية اللّه عزّ وجلّ أدخله اللّه في

ص: 167


1- الكافي 6: 6.
2- الكافي 6: 6.
3- الكافي 6: 6.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 556.

جنات النعيم»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من عال ابنتين أو أختين أو عمتين أو خالتين حجبتاه من النار»(2).

وعن أبي الحسن موسى(عليه السلام) قال: «إذا وعدتم الصبيان ففوا لهم، فإنهم يرون أنكم أنتم الذين ترزقونهم، إن اللّه عزّ وجلّ ليس يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان»(3).

وعن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «إن أحبكم إلى اللّه عزّ وجلّ أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند اللّه عملاً أعظمكم فيما عند اللّه رغبة، وإن أنجاكم من عذاب اللّه أشدكم خشية للّه، وإن أقربكم من اللّه أوسعكم خُلقاً وإن أرضاكم عند اللّهأسبغكم على عياله، وإن أكرمكم على اللّه أتقاكم للّه»(4).

نعم، هكذا هي الأسرة والمرأة في الإسلام، وهكذا أوصانا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام).

المرأة في المجتمعات غير الإسلامية

أما حال المرأة في المجتمعات غير الإسلامية فقد كان بأسوأ حال، قبل الإسلام وبعده.

فقد كانت المرأة في الأزمنة السابقة، حالها كحالة الحيوان في التعامل معها، حيث كانت تباع بأي ثمن لمن يريد، وكانت تؤجر للخدمة والفراش والاستيلاد، وللأعمال الأخرى.

ص: 168


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 577.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 482.
3- الكافي 6: 50.
4- الكافي 8: 64.

وبعبارة أخرى: فكانت المرأة عند بعض الأمم السابقة ليس لها أي استقلال حقيقي في الوجود، لا رأي لها، ولا كرامة ولا حرمة، فكانت تابعة رغماً عنها للرجل، يفعل بها ما يشاء، وبل كانوا يقتلونها، ويأكلون من لحمها في أيام المجاعة.

وفي أيام الجاهلية قبل الإسلام: كانت العرب لا ترى وزناً للمرأة، ولا سيّما إذا رزق أحدهم بنتاً، فإنه يسرع إلى وأدها تحت التراب، هروباً من العار الذي كانوا يرونه فيها.

وقد وصف أمير المؤمنين(عليه السلام) في إحدى خطبه حال العرب قبل الإسلام فقال: «... فالأحوال مضطربةٌ، والأيدي مختلفةٌ، والكثرة متفرّقةٌ، في بلاء أزلٍ، وأطباق جهلٍ، من بناتٍ موءودةٍ، وأصنامٍ معبودةٍ، وأرحامٍ مقطوعةٍ، وغاراتٍمشنونةٍ»(1).

كان قوم من العرب يئدون البنات، قيل: إنهم بنو تميم خاصة، وإنه استفاض منهم في جيرانهم، وقيل: بل كان ذلك في تميم وقيس وأسد وهذيل وبكر بن وائل، ... وقال قوم: بل وأدوا البنات أنفة، وزعموا أن تميماً منعت النعمان الإتاوة سنة من السنين، فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر، وجلّ من معه من بكر بن وائل، فاستاق النعم وسبى الذراري، ... فوفدت بنو تميم إلى النعمان واستعطفوه، فرق عليهم وأعاد عليهم السبي، وقال: كل امرأة اختارت أباها ردت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلهن اخترن آباءهن إلّا ابنة قيس بن عاصم فإنها اختارت من سباها وهو عمرو بن المشمرخ اليشكري، فنذر قيس بن عاصم المنقري التميمي ألا يولد له بنت إلّا وأدها، والوأد أن يخنقها في التراب ويثقل

ص: 169


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

وجهها به حتى تموت، ثم اقتدى به كثير من بني تميم، قال سبحانه: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(1) أي: على طريق التبكيت والتوبيخ لمن فعل ذلك أو أجازه، ... روى الزبير في (الموفقيات) أن أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري: ما حملك على أن وأدت؟

قال: مخافة أن يخلف عليهن مثلك(2).

وقال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة، وقعدت على رأسها، فإن ولد بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاماًحبسته(3).

وكان الرجل من ربيعة أو مضر يشترط على امرأته، أن تستحيي جارية وتئد أخرى، فإذا كانت الجارية التي توأد، غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: أنت علي كظهر أمي إن رجعت إليك ولم تئديها، فتتخذ لها في الأرض خَدّاً، وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها ثم يتداولنها حتى إذا أبصرته راجعاً دسَّتْها في حفرتها ثم سَوَّت عليها التراب. وقيل: كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه فعاتبهم اللّه على ذلك، وتوعدهم بقوله: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(4).

أما في الصين فقد كانت المرأة ممنوعة من الإرث. والمرأة في الهند إذا توفي زوجها فلا يحق لها الزواج مرة أخرى، فإما أن تحرق مع جسد زوجها، أو تعيش في ذلّة طيلة حياتها، وكانت هذه العادة جارية حتى جاء غاندي وحاربها بقوة.

ص: 170


1- سورة التكوير، الآية: 8-9.
2- شرح نهج البلاغة 13: 174.
3- بحار الأنوار 7: 93.
4- سورة التكوير، الآية: 8-9.

وفي اليونان لم يختلف الأمر كثيراً، وكان لا يحق للرجل أن يتزوج أكثر من واحدة، فإن تزوج امرأة أخرى كانت الثانية غير رسمية، فله أن يفعل بها ما يشاء، إما يبيعها، أو يجعلها خادمة، أو ما شاكل ذلك.

ولكن لما جاء الإسلام، فأعطى للمرأة كرامتها وحقّها الإنساني في الحياة، وألغى كل مظاهر الظلم التي من شأنها أن تلغي دور المرأة، وتسحق عفتها وشرفها، بل جعل كرامتها متساوية مع كرامة الرجل، ولا فرق إلّا بالتقوى، كما قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّأَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1). فالميزان هو التقوى لا غير، بل إن الإسلام أعطى وزناً خاصاً للمرأة، باعتبارها تتحمل مسؤولية كبيرة في الحياة وهي مسؤولية الأمومة، فتكون الوعاء الحافظ للإنسان، وعليها يعتمد النوع البشري في بقائه، ولذلك كانت هناك مساواة في النظرة الإلهية لكل من الرجل والمرأة، وكان مقياس النظرة الإلهية هو العمل الصالح، قال تعالى: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ}(2).

وقال تعالى أيضاً: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ}(3).

ومن جانب آخر، أكد الإسلام على ضرورة الحياة الزوجية ومسألة الزواج، فكان الزواج هو الرابطة الشرعية المقدسة بين الرجل والمرأة، وهو سبب تكوّن الأسرة الصالحة، وهو من أهم أسباب حفظ احترام المرأة وكرامتها وعفتها،

ص: 171


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- سورة آل عمران، الآية: 195.
3- سورة النساء، الآية: 32.

ولذلك نرى الدعوات والتشجيع الملح في الإسلام على الزواج، وهو العلة الأولى لاستمرار النوع البشري بشكل مشروع سليم.

ولعظمة الزواج وأثره الاجتماعي والروحي نرى أن الإسلام قد شجع الناس على ذلك؛ قال اللّه تبارك وتعالى: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَبَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما بني في الإسلام بناء أحب إلى اللّه عزّ وجلّ وأعز من التزويج»(3).

وقال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني»(4).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «من أحب أن يلقى اللّه طاهراً مطهراً فليلقه بزوجة»(5).

وللزواج فوائد عظيمة منها: ما مر ذكره، وهو استمرار النوع البشري، واكتساب ذرية صالحة، ومنها: الحفاظ على عفة المرأة والرجل فإنه قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق اللّه في النصف الباقي»(6).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «لو لم يكن في المناكحة والمصاهرة آية محكمة ولا

ص: 172


1- سورة النور، الآية: 32.
2- سورة الروم، الآية: 21
3- بحار الأنوار 100: 222.
4- جامع الأخبار: 101.
5- روضة الواعظين 2: 373.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 518.

سنة متبعة ولا أثر مستفيض، لكان فيما جعل اللّه من بر القريب وتقريب البعيد... ما يرغب في دونه العاقل اللبيب ويسارع إليه الموفق المصيب»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من شاب تزوج في حداثة سنه إلّا عج شيطانه: يا ويله، يا ويله! عصم مني ثلثي دينه، فليتق اللّه العبد في الثلث الباقي»(2).

وكذلك من فوائد الزواج: أنه أحد أبواب الرزق والعيش الرغيد، وثقل الميزان في الآخرة.

فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «زوجوا أياماكم؛ فإن اللّه يحسن لهم في أخلاقهم، ويوسع لهم في أرزاقهم، ويزيدهم في مروّاتهم»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء باللّه الظن»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من ترك التزويج مخافة الفقر فقد أساء الظن باللّه عزّ وجلّ؛ إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}»(5)(6).

وسأل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) رجلا من أصحابه فقال: «يا فلان، هل تزوجت؟».

قال: لا؛ وليس عندي ما أتزوج به.

قال: «أليس معك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(7)؟».

ص: 173


1- الكافي 5: 373.
2- النوادر للراوندي: 12.
3- النوادر للراوندي: 36.
4- الكافي 5: 330.
5- سورة النور، الآية: 32.
6- من لا يحضره الفقيه 3: 385.
7- سورة التوحيد، الآية: 1.

قال: بلى.

قال: «ربع القرآن»، قال: «أليس معك: {قُلْ يَٰأَيُّهَا الْكَٰفِرُونَ}(1)؟».

قال: بلى.

قال: «ربع القرآن»، قال: أليس معك {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ}(2)؟».قال: بلى.

قال: «ربع القرآن».

ثم قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «تزوج، تزوج، تزوج!»(3).

كيف نحافظ على الأسرة؟

إن لكل عمل مقدمات يعتمد عليها، فإذا كانت المقدمات صحيحة وسليمة، كانت النتائج سليمة أيضاً ومثمرة، كالأساس الذي نضعه لقاعدة البناء، فكلما كان متيناً كان البناء الفوقي ثابتاً ورصيناً. وكذلك الأسرة، فهي بمثابة البناء الفوقي، وإن لها مقدمات إذا صلحت صلحت بها الأسرة. ونحن كلما كان اختيارنا للمقدمات السليمة والمتينة والعقلائيةً كانت الأسرة صالحة ونظيفة ومؤمنة، وبعيدة عن أجواء الفساد والتخلف.

وأول هذه المقدمات التي تقع قبل الزواج هي: مسألة اختيار المرأة، بصفات ومميزات وضعها الإسلام لهذه الغاية. وكذلك المرأة لا بد وأن تختار شريكها عبر مواصفات إسلامية ضمن الأطر الشرعية الصحيحة.

وهذه الأمور هي من أهم المقدمات التي تكون قبل الزواج.

ص: 174


1- سورة الكافرون، الآية: 1.
2- سورة الزلزلة، الآية: 1.
3- تفسير نور الثقلين 5: 647.

فأهم مواصفات المرأة هي: أن تكون عفيفة، مؤمنة، طيبة الأصل، ولوداً.

أما مواصفات الرجل، فأهمها: الإيمان والسيرة الحسنة، وأن يكون كفؤاً للمرأة، وقادراً على إعالتها وحمايتها.

فإذا استطاع كل منهما أن يحرز الصفات الجيدة في الطرف الآخر، فهذا أول علامات النجاح في الحياة الزوجية، وبناء الأسرة الصالحة.وهذه باقة عطرة من الأحاديث الشريفة التي تبين مواصفات المرأة والرجل الذي يلزم اختيارهما للزواج، فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة؛ تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله»(1).

وجاء رجل إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: إن لي زوجة إذا دخلت تلقتني، وإذا خرجت شيعتني، وإذا رأتني مهموماً، قالت: ما يهمك إن كنت تهتم لرزقك، فقد تكفل لك به غيرك، وإن كنت تهتم بأمر آخرتك فزادك اللّه هماً.

فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن للّه عمالاً، وهذه من عماله، لها نصف أجر الشهيد»(2).

قال جابر الأنصاري: كنّا جلوساً مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فذكرنا النساء وفضل بعضهن على بعضٍ، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ألا أخبركم؟».

فقلنا: بلى، يا رسول اللّه فأخبرنا؟

فقال: «إن من خير نسائكم: الولود الودود الستيرة، العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها، المتبرجة مع زوجها الحَصان عن غيره، التي تسمع قوله وتطيع أمره،

ص: 175


1- الكافي 5: 327.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 389.

وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها، ولم تبذل له تبذل الرجل».

ثم قال: «ألا أخبركم بشر نسائكم؟».

قالوا: بلى.

قال: «إن من شر نسائكم: الذليلة في أهلها العزيزة مع بعلها، العقيم الحقودالتي لا تتورع من قبيحٍ، المتبرجة إذا غاب عنها بعلها، الحَصان معه إذا حضر، التي لا تسمع قوله ولا تطيع أمره، وإذا خلا بها بعلها تمنعت منه تمنع الصعبة عند ركوبها، ولا تقبل له عذراً ولا تغفر له ذنباً».

ثم قال: «أفلا أخبركم بخير رجالكم؟».

فقلنا: بلى.

قال: «إن من خير رجالكم: التقي النقي، السمح الكفين، السليم الطرفين، البر بوالديه، ولا يلجئ عياله إلى غيره».

ثم قال: «أفلا أخبركم بشر رجالكم؟».

فقلنا: بلى.

قال: «إن من شر رجالكم: البهات الفاحش، الآكل وحده، المانع رفده، الضارب أهله وعبده، البخيل الملجئ عياله إلى غيره، العاق بوالديه»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): تزوجوا الأبكار؛ فإنهن أطيب شي ء أفواهاً، ... وأدر شي ءٍ أخلافاً، وأفتح شي ء أرحاماً، أما علمتم أني أباهي بكم الأمم يوم القيامة، حتى بالسقط، يظل محبنطئاً(2) على باب الجنة، فيقول اللّه عزّ وجلّ: ادخل الجنة، فيقول: لا أدخل لا حتى يدخل أبواي قبلي،

ص: 176


1- تهذيب الأحكام 7: 400.
2- المحبنطئ: هو المتغضب الممتلئ غيظاً، المستبطئ للشيء.

فيقول اللّه تعالى لملك من الملائكة: ائتني بأبويه، فيأمر بهما إلى الجنة، فيقول: هذا بفضل رحمتي لك»(1).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «أتى رجل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يستأمره في النكاح، فقالرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): نعم، انكح، وعليك بذوات الدين تربت يداك، وقال: إنما مثل المرأة الصالحة مثل الغراب الأعصم، الذي لا يكاد يقدر عليه، قال: وما الغراب الأعصم؟ قال: الأبيض إحدى رجليه»(2).

وعن إبراهيم الكرخي قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إن صاحبتي هلكت، وكانت لي موافقة، وقد هممت أن أتزوج؟

قال: فقال لي: انظر أين تضع نفسك، ومن تشركه في مالك، وتطلعه على دينك وسرك، فإن كنت فاعلاً فبكراً تنسب إلى الخير، وإلى حسن الخلق.

واعلم أنهن كما قال:

ألا أن النساء خلقن شتى *** فمنهن الغنيمة والغرام

ومنهن الهلال إذا تجلى *** لصاحبه ومنهن الظلام

فمن يظفر بصالحهن يسعد *** ومن يعثر فليس له انتقام

وهن ثلاث: فامرأة ولود ودود، تعين زوجها على دهره لدنياه وآخرته، ولا تعين الدهر عليه، وامرأة عقيمة لا ذات جمال ولا خُلق ولا تعين زوجها على خير، وامرأة صخابة ولّاجة همازة تستقل الكثير ولا تقبل اليسير»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): إياكم وتزويج الحمقاء؛

ص: 177


1- الكافي 5: 334.
2- تهذيب الأحكام 7: 401.
3- الكافي 5: 323.

فإن صحبتها بلاء وولدها ضياع»(1).

ومما أوصى لقمان ابنه فقال: «يا بني، النساء أربع: ثنتان صالحتان، وثنتانملعونتان، فأما إحدى الصالحتين، فهي: الشريفة في قومها الذليلة في نفسها، التي إن أعطيت شكرت وإن ابتليت صبرت، القليل في يديها كثير، الصالحة في بيتها، والثانية: الولود الودود تعود بخير على زوجها، هي كالأم الرحيم تعطف على كبيرهم وترحم صغيرهم، وتحب ولد زوجها وإن كانوا من غيرها، جامعة الشمل، مرضية البعل، مصلحة في النفس والأهل والمال والولد، فهي كالذهب الأحمر، طوبى لمن رزقها. إن شهد زوجها أعانته، وإن غاب عنها حفظته. وأما إحدى الملعونتين فهي: العظيمة في نفسها الذليلة في قومها، التي إن أعطيت سخطت، وإن منعت عتبت وغضبت، فزوجها منها في بلاء، وجيرانها منها في عناء، فهي كالأسد، إن جاورته أكلك، وإن هربت منه قتلك، والملعونة الثانية فهي: عند زوجها، وميلها في جيرانها، فهي سريعة السخطة، سريعة الدمعة، إن شهد زوجها لم تنفعه وإن غاب عنها فضحته، فهي بمنزلة الأرض النشاشة، إن أسقيت إفاضت الماء وغرقت، وإن تركتها عطشت، وإن رزقت منها ولداً لم تنتفع به. يا بني، لاتتزوج بأمة فيباع ولدك بين يديك وهو فعلك بنفسك، يا بني، لو كانت النساء تذاق كما تذاق الخمر ما تزوج رجل امرأة سوء أبداً...»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «دخل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) منزله، فإذا عائشة مقبلة على فاطمة(عليها السلام) تصايحها وهي تقول: واللّه، يا بنت خديجة ما ترين إلّا أن لأمك علينا فضلاً، وأي فضل كان لها علينا؟ ما هي إلّا كبعضنا. فسمع مقالتها لفاطمة،

ص: 178


1- الكافي 5: 353.
2- الاختصاص: 339.

فلما رأت فاطمة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بكت فقال لها: ما يبكيك يا بنت محمد؟ قالت: ذكرت أمي فتنقصتها فبكيت، فغضب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال: مه يا حميراء فإناللّه تبارك وتعالى، بارك في الولود الودود ، وإن خديجة رحمها اللّه ولدت مني طاهراً وهو عبد اللّه وهو المطهر، وولدت مني القاسم وفاطمة ورقية وأم كلثوم وزينب، وأنت ممن أعقم اللّه رحمه فلم تلدي شيئا»(1).

أما مواصفات الرجل فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته يخطب إليكم فزوجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(2).

وعن الإمام الرضا(عليه السلام): «إن خطب إليك رجل رضيت دينه وخلقه فزوجه، ولا يمنعك فقره وفاقته، قال اللّه تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ}(3) وقوله: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}»(4)(5).

وجاء رجل إلى الإمام الحسن(عليه السلام) يستشيره في تزويج ابنته؟

فقال: «زوجها من رجل تقي، فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها»(6).

مرحلة ما بعد الزواج

أما بعد الزواج ومرحلة الإنجاب والحصول على الأولاد، فالمسؤولية على الزوجين أكبر، حيث يلزم على الأبوين أن يقوما بوخطوات لتربية الأطفال تربية

ص: 179


1- الخصال 2: 405.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 519.
3- سورة النساء، الآية: 130.
4- سورة النور، الآية: 32.
5- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 237.
6- مكارم الأخلاق: 204.

سليمة من جهة، وخطوات فيما بينهما من جهة أخرى.

أما فيما بينهما من أمور، فمثل طاعة المرأة للزوج، وأخذ إذنه في الخروج منالبيت، وأمور أخرى، كاحترامه وخدمته ما أمكن، والعناية به، والمحافظة على أمواله وأطفاله وممتلكاته، وتمكينه منها.

أما الأمور التي يلزم أن يقوم بها الزوج تجاه زوجته، فهي: المحافظة عليها، وحمايتها، وتلبية احتياجاتها واحترامها، والتفاهم معها وتهيئة الملبس والمسكن لها.

وتبقى الخطوات التي يلزم أن يقومان بها معاً، وهي تربية الأولاد على النهج الإسلامي القويم، وتدبير المنزل، وخلق الأجواء الإيمانية فيه، وإبراز الحب والود والحنان للأطفال، وأن تسود المنزل ظاهرة الأبوة السمحة والأمومة العاطفية، وتغذية الأولاد بالأفكار والمفاهيم الإسلامية الرفيعة، لكي تكون بمثابة الأساس والمنطلق القويم لهم في الغد، والابتعاد عن الأجواء الفاسدة والعلاقات المضطربة بين الأبوين وإبعاد الأطفال عنها. وإبداء الاحترام للجيران وتعليم الأطفال ذلك، وغير ذلك من البرامج الإسلامية التي وضعها الإسلام للمحافظة على الأسرة بصورة عامة، والحياة الزوجية بصورة خاصة، وقد ورد بيانه مفصلاً في الأحاديث الشريفة.

الإيمان وتأثيره على الأسرة

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى تكون فيه خصال ثلاث: التفقه في الدين، وحسن التقدير في المعيشة، والصبر على الرزايا»(1).

عندما يملأ الإيمان باللّه تعالى كل جوارح الإنسان وجوانحه، وعندما

ص: 180


1- المحاسن 1: 5.

يستضيء بنور المعرفة والتوكل على اللّه؛ عندها يرى الإنسان الأشياء على حقائقها، ولكن عندما يبتعد الإنسان عن اللّه تعالى، ويخبو الإيمان في قلبه؛عندها يرى الأوهام حقائق، وتبرز عنده الأزمات النفسية، وتضعف همته، ويخشى من أي شيء، ويتصور أن للأشياء استقلالاً ذاتياً في الوجود، حيث تنعدم عنده فكرة أن لا مؤثر في الوجود إلّا اللّه تعالى، ويتصور أن المخلوقات المختلفة تؤثر بدون إذن اللّه وإرادته وعلمه بها.

ومن هنا تبرز في حياة الإنسان أزمات نفسية وأفكار منحرفة، ناتجة من ضعف الإيمان، فتؤثر على العلاقات الاجتماعية وتهدم حياة الأسرة، أو على الأقل تعدم الثقة بين الزوجين؛ لأن الإنسان في هذه الحالة لا يؤمن بوجود رقيب يراقب كل حركاته وسكناته، فيتصرف طبق رغباته وأهوائه فتنعدم القيم الإنسانية، ويصبح تفكيره وتصرفه مادياً بحتاً. أما إذا بنيت العلاقة الزوجية على أساس الإيمان والتقوى، فإن ذلك يكون دافعاً قوياً للاستقرار، وتكوين عائلة متكاملة له.

الزواج المبارك

عندما نقرأ حياة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ومولاتنا فاطمة الزهراء(عليها السلام)؛ وعلى الأخص بعد الزواج المبارك نجدهما في قمة الفضيلة والنجاح، فكان زواجهما زواجاً ناجحاً، ومثالاً حياً يقتدى به على مرّ السنين.

ولو تساءلنا لماذا كيف كان زواجهما(عليهما السلام) هكذا وسيرتهما مثالية بهذا الشكل، رغم الصعوبات المادية والظروف الصعبة المحيطة بهما؟ ولو دققنا في الجواب، لوجدنا أن السبب الحقيقي لذلك هو: أنهما(عليهما السلام) وضعا رضا اللّه عزّ وجلّ في كل تحرك لهما، حيث إن الإيمان والعلاقة الخاصة لهما باللّه تعالى، فرضت عليهما القناعة، والزهد، والبساطة، والابتعاد عن كل مظهر زائف وغير لائق، في مسألة الزواج، فلم يكن همّهما المال أو الملبس، أو إقامة وليمة الزواج بشكل مترف

ص: 181

ومبهرج وبتكلف. فلم تفكر الصديقة الزهراء(عليها السلام) فيما يمتلك الإمام علي(عليه السلام) من أموال ونقود؟وقد روي: أن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لرجل من بني سعد: «ألا أحدثك عني وعن فاطمة الزهراء، إنها كانت عندي فاستقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها فأصابها من ذلك ضر شديدٌ، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتِه خادماً يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل.

فأتت النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فوجدت عنده حداثاً فاستحيت فانصرفت.

فعلم(صلی الله عليه وآله وسلم) أنها قد جاءت لحاجة، فغدا علينا ونحن في لحافنا، فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا.

ثم قال: السلام عليكم، فسكتنا.

ثم قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك فيسلم ثلاثاً فإن أذن له وإلّا انصرف.

فقلنا: وعليك السلام يا رسول اللّه، ادخل.

فدخل(صلی الله عليه وآله وسلم) وجلس عند رؤوسنا، ثم قال: يا فاطمة، ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟

فخشيت إن لم نجبه أن يقوم، فأخرجت رأسي، فقلت: أنا واللّه أخبرك يا رسول اللّه، إنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل.

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): أفلا أعلمكما ما هو خيرٌ لكما من الخادم، إذا أخذتما منامكما

ص: 182

فكبرا أربعاً وثلاثين تكبيرةً، وسبحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحةً، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدةً.فأخرجت فاطمة(عليها السلام) رأسها وقالت: رضيت عن اللّه وعن رسوله، رضيت عن اللّه وعن رسوله»(1).

ولكن - وللأسف - دأبت بعض العوائل في يومنا هذا على خلاف ما ذكرناه من القناعة والمحبة، فظهرت في الأسرة مشاكل وأزمات وبرزت هذه المشاكل على سطح الحياة، لتعبر بصورة أو بأخرى عن رداءة العلاقات الروحية فيما بين الزوجين، وضعف الإيمان، أو انعدام الإيمان، ثم عدم التوكل على اللّه تعالى، وعدم جعل رضا اللّه تعالى هو المنطلق والأساس في حياتهما، بل أقحموا بعض الأمور التافهة في حياتهما، وجعلوها هي الأساس والمنطلق، ولو على حساب الدين والعقيدة. ومن جملة هذه المقاييس. أو بالأحرى الموانع والعراقيل للسعادة الزوجية، عدة أمور:

أولاً: الطبقية، أي المستوى والمكانة الاجتماعية، فإن بعض العوائل جعلت الطبقية المادية مقياساً للزواج، وأخذوا يسألون مثلاً: هل الزواج من فلان أو فلانة يتلائم مع طبقتنا أم لا؟ وفي نظرهم: أن الملاءمة تعتمد على أساس المادة، أو صلة القرابة، بينما جاء في الحديث الشريف: «كلكم لآدم، وآدم من تراب»(2).

فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن اللّه عزّ وجلّ لم يترك شيئاً مما يحتاج إليه إلّا علمه نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم) فكان من تعليمه إياه أنه صعد المنبر ذات يومٍ فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن جبرئيل أتاني عن اللطيف الخبير فقال: إن الأبكار

ص: 183


1- من لايحضره الفقيه 1: 320.
2- جامع الأخبار: 183.

بمنزلة الثمر على الشجر، إذا أدرك ثمره فلم يجتنى أفسدته الشمس ونثرتهالرياح، وكذلك الأبكار إذا أدركن ما يدرك النساء فليس لهن دواءٌ إلّا البعولة، وإلّا لم يؤمن عليهن الفساد لأنهن بشرٌ.

قال: فقام إليه رجلٌ، فقال: يا رسول اللّه فمن نزوج؟

فقال: الأكفاء.

فقال: يا رسول اللّه، ومن الْأكفاء؟

فقال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعضٍ، المؤمنون بعضهم أكفاء بعضٍ»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الكفؤ أن يكون عفيفاً وعنده يسار»(2).

وعن الحسين بن بشارٍ قال: كتبت إلى أبي جعفرٍ(عليه السلام) في رجلٍ خطب إلي؟

فكتب: «من خطب إليكم فرضيتم دينه وأمانته كائناً من كان فزوجوه، وإلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(3).

وذكر في قصة: أن رجلاً وامرأة أرادا الزواج، وهما من عشيرتين مختلفتين، وكان التصور عند أهل كل منهما أن عشيرته أرفع من مستوى العشيرة الأخرى، وقد كان المانع الأول والمعارض أشد الممانعين والمعارضين الذي وقف أمام هذا الزواج: امرأة كبيرة في السن من إحدى العشيرتين، وبعد فترة توفيت هذه المرأة، فرآها أحد الأشخاص في عالم الرؤيا بعد سنوات، فقالت له: لقد كنت في كل هذه السنين تحت العذاب الأليم، فسألها: وما هو ذنبك الذي اقترفتيه؟

فأجابت: لأنني منعت تزويج فلان من فلانة، وما رفع عني العذاب حتى تزوجت.

ص: 184


1- الكافي 5: 337.
2- الكافي 5: 347.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 393.

نعم، إنها حقائق تنعكس في العالم الآخر، فيجب أن لا تغيب عنا مثل هذهالعبر.

ثانياً: الدخل الشهري، أوالرصيد المالي، وإنه كم يملك في المصارف أوالبنوك، فقد أصبحت معرفة هذا الأمر من أهم المقدمات في الزواج، وعليه تكون الموافقة أو عدمها؛ بحيث نسوا أو تناسوا المقاييس الحقيقية: من إيمان وكفاءة، وأقحموا المال فجعلوه المقياس الأهم، الذي تبنى على أساسه الرابطة الزوجية، وكذلك يقيّم على أساسه كل من الرجل والمرأة. ولكن علينا أن ننظر في تعاليم أهل البيت(عليهم السلام) في الزواج ونرى ماذا يقولون.

فورد عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إذا تزوج الرجل المرأة لمالها أو جمالها لم يرزق ذلك، فإن تزوجها لدينها رزقه اللّه عزّ وجلّ جمالها ومالها»(1).

ثالثاً: الجاه أو المنصب، ولقد أصبح كل من الزوج والزوجة عندما يقدمان على الزواج، يسألان عن المنصب الذي يشغله الآخر، بحيث شاعت بعض العبارات الشعبية حول ذلك. مثلاً: في العراق شاعت عند بعض العوائل كانت عبارة: (لو ملازم لو مو لازم)(2)، أي: إن الذي يقدم على الزواج يجب أن يكون برتبة ضابط في الجيش أو الشرطة فما فوق، أو لاحاجة لنا بهذا الزواج وهذا الخاطب.

فغيروا بذلك المقاييس الحقيقية للزواج، وهي التقوى والإيمان والأخلاق الطيبة... فاستبدلوها بالمال والمنصب والدخل الشهري، وما إلى ذلك، مما يلائم أهواءهم ومصالحهم المادية، حتى وإن كان ذلك الرجل عاملاً للظالمين!

ص: 185


1- من لا يحضره الفقيه 3: 392.
2- أي أن يكون الزوج ضابطاً في الجيش، و(الملازم) رتبة عسكرية في الجيش العراقي، وقد اشتهر هذا المثل إبان الحرب العراقية الإيرانية.

قال أبو حمزة الثمالي: كنت عند أبي جعفر(عليه السلام) إذ استأذن عليه رجل فأذن له، فدخل عليه فسلم فرحب به أبو جعفر(عليه السلام) وأدناه وساءله، فقال الرجل: جعلت فداك، إني خطبت إلى مولاك فلان بن أبي رافع ابنته فلانة، فردني ورغب عني وازدرأني؛ لدمامتي وحاجتي وغربتي، وقد دخلني من ذلك غضاضة هجمة غض لها قلبي، تمنيت عندها الموت؟

فقال أبو جعفر(عليه السلام): «اذهب فأنت رسولي إليه، وقل له: يقول لك محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام): زوج منجح بن رباح مولاي ابنتك فلانة، ولا ترده».

قال أبو حمزة: فوثب الرجل فرحاً مسرعاً برسالة أبي جعفر(عليه السلام)، فلما أن توارى الرجل قال أبو جعفر(عليه السلام): «إن رجلاً كان من أهل اليمامة يقال له: جويبر، أتى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) منتجعاً للإسلام، فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً عارياً، وكان من قباح السودان، فضمه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لحال غربته وعراه، وكان يجري عليه طعامه صاعاً من تمر بالصاع الأول، وكساه شملتين، وأمره أن يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل، فمكث بذلك ما شاء اللّه حتى كثر الغرباء ممن يدخل في الإسلام من أهل الحاجة بالمدينة، وضاق بهم المسجد، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم): أن طهر مسجدك، وأخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل، ومر بسد أبواب من كان له في مسجدك باب إلّا باب علي(عليه السلام) ومسكن فاطمة(عليها السلام)، ولا يمرن فيه جنب، ولا يرقد فيه غريب.

قال: فأمر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بسد أبوابهم إلّا باب علي(عليه السلام) وأقر مسكن فاطمة(عليها السلام) على حاله.

قال: ثم إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أمر أن يتخذ للمسلمين سقيفة فعملت لهم وهي الصفة، ثم أمر الغرباء والمساكين أن يظلوا فيها نهارهم وليلهم، فنزلوها واجتمعوا

ص: 186

فيها، فكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يتعاهدهم بالبر والتمر والشعير والزبيب إذا كان عنده، وكان المسلمون يتعاهدونهم ويرقون عليهم لرقة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، ويصرفون صدقاتهم إليهم. فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة منه له ورقة عليه، فقال له: يا جويبر، لو تزوجت امرأةً فعففت بها فرجك، وأعانتك على دنياك وآخرتك؟

فقال له جويبر: يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمي، من يرغب في! فو اللّه ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال؛ فأية امرأة ترغب في؟

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا جويبر، إن اللّه قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم، وإن آدم خلقه اللّه من طين، وإن أحب الناس إلى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلّا لمن كان أتقى للّه منك وأطوع، ثم قال له: انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد، فإنه من أشرف بني بياضة حسباً فيهم، فقل له: إني رسول رسول اللّه إليك، وهو يقول: لك زوج جويبراً ابنتك الذلفاء.

قال: فانطلق جويبر برسالة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى زياد بن لبيد وهو في منزله، وجماعة من قومه عنده، فاستأذن فأعلم فأذن له، فدخل وسلم عليه ثم قال: يا زياد بن لبيد، إني رسول رسول اللّه إليك في حاجة لي، فأبوح بها أم أسرها إليك؟

فقال له زياد: بل بح بها؛ فإن ذلك شرف لي وفخر.

فقال له جويبر: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقال له زياد: أرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أرسلك إلي بهذا؟!

ص: 187

فقال له: نعم؛ ما كنت لأكذب على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

فقال له زياد: إنا لا نزوج فتياتنا إلّا أكفاءنا من الأنصار، فانصرف يا جويبر حتى ألقى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فأخبره بعذري.

فانصرف جويبر وهو يقول: واللّه، ما بهذا نزل القرآن، ولا بهذا ظهرت نبوة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم).

فسمعت مقالته الذلفاء بنت زياد، وهي في خدرها، فأرسلت إلى أبيها: أدخل إلي، فدخل إليها فقالت له: ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبراً؟

فقال لها: ذكر لي أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أرسله وقال: يقول لك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): زوج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقالت له: واللّه، ما كان جويبر ليكذب على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بحضرته، فابعث الآن رسولاً يرد عليك جويبراً، فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً، فقال له زياد: يا جويبر، مرحباً بك، اطمئن حتى أعود إليك، ثم انطلق زياد إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال له: بأبي أنت وأمي، إن جويبراً أتاني برسالتك. وقال: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الذلفاء، فلم ألن له بالقول، ورأيت لقاءك ونحن لا نتزوج إلّا أكفاءنا من الأنصار؟

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا زياد، جويبر مؤمن، والمؤمن كفو للمؤمنة، والمسلم كفو للمسلمة، فزوجه يا زياد ولا ترغب عنه.

قال: فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته، فقال لها ما سمعه من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

فقالت له: إنك إن عصيت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كفرت، فزوج جويبراً.

فخرج زياد فأخذ بيد جويبر، ثم أخرجه إلى قومه، فزوجه على سنة اللّه وسنةرسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وضمن صداقه.

ص: 188

قال: فجهزها زياد وهيئوها، ثم أرسلوا إلى جويبر، فقالوا له: ألك منزل فنسوقها إليك؟

فقال: واللّه، ما لي من منزل!

قال: فهيئوها وهيئوا لها منزلاً، وهيئوا فيه فراشاً ومتاعاً، وكَسَوا جويبراً ثوبين، وأدخلت الذلفاء في بيتها، وأدخل جويبر عليها معتماً، فلما رآها نظر إلى بيت ومتاع وريح طيبة، قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتى طلع الفجر، فلما سمع النداء خرج وخرجت زوجته إلى الصلاة، فتوضأت وصلت الصبح، فسئلت: هل مسك؟

فقالت: ما زال تالياً للقرآن وراكعاً وساجداً حتى سمع النداء فخرج.

فلما كانت الليلة الثانية فعل مثل ذلك، وأخفوا ذلك من زياد.

فلما كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فأخبر بذلك أبوها، فانطلق إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، أمرتني بتزويج جويبر، ولا واللّه ما كان من مناكحنا، ولكن طاعتك أوجبت علي تزويجه؟

فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): فما الذي أنكرتم منه؟

قال: إنا هيأنا له بيتاً ومتاعاً، وأدخلت ابنتي البيت، وأدخل معها معتماً فما كلمها ولا نظر إليها ولا دنا منها، بل قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتى سمع النداء فخرج، ثم فعل مثل ذلك في الليلة الثانية، ومثل ذلك في الثالثة، ولم يدن منها ولم يكلمها إلى أن جئتك، وما نراه يريد النساء، فانظر في أمرنا؟

فانصرف زياد وبعث رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى جويبر، فقال له: أما تقرب النساء؟

فقال له جويبر: أوما أنا بفحل! بلى يا رسول اللّه، إني لشبق نهم إلى النساء.

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): قد خبرت بخلاف ما وصفت به نفسك، قد ذكر لي

ص: 189

أنهم هيئوا لك بيتاً وفراشاً ومتاعاً، وأدخلت عليك فتاة حسناء عطرة وأتيت معتماً، فلم تنظر إليها، ولم تكلمها، ولم تدن منها، فما دهاك إذن؟

فقال له جويبر: يا رسول اللّه، دخلت بيتاً واسعاً ورأيت فراشاً ومتاعاً وفتاةً حسناء عطرةً، وذكرت حالي التي كنت عليها، وغربتي وحاجتي ووضيعتي وكسوتي مع الغرباء والمساكين، فأحببت إذ أولاني اللّه ذلك، أن أشكره على ما أعطاني وأتقرب إليه بحقيقة الشكر، فنهضت إلى جانب البيت فلم أزل في صلاتي تالياً للقرآن راكعاً وساجداً أشكر اللّه، حتى سمعت النداء فخرجت، فلما أصبحت رأيت أن أصوم ذلك اليوم، ففعلت ذلك ثلاثة أيام ولياليها، ورأيت ذلك في جنب ما أعطاني اللّه يسيراً، ولكني سأرضيها وأرضيهم الليلة، إن شاء اللّه.

فأرسل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى زياد، فأتاه فأعلمه ما قال جويبر، فطابت أنفسهم.

قال: ووفى لها جويبر بما قال.

ثم إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) خرج في غزوة له ومعه جويبر فاستشهد(رحمه الله) فما كان في الأنصار أيم أنفق منها بعد جويبر»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) زوج المقداد بن أسود ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، ثم قال: إنما زوجها المقداد لتتضع المناكح، وليتأسوا برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ولتعلموا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2) وكان الزبير أخا عبد اللّه وأبي طالب لأبيهما وأمهما»(3).

وذكر أنه كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه بأخبار ما يحدث فيها، وإن علي بن الحسين(عليهما السلام) أعتق جاريةً ثم تزوجها، فكتب العين إلى عبد

ص: 190


1- الكافي 5: 339.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- الكافي 5: 344.

الملك، فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين(عليهما السلام): أما بعد، فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنه كان في أكفائك من قريش من تمجد به في الصهر وتستنجبه في الولد، فلا لنفسك نظرت ولا على ولدك أبقيت، والسلام!

فكتب إليه علي بن الحسين(عليهما السلام): «أما بعد، فقد بلغني كتابك تعنّفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنه كان في نساء قريش من أتمجد به في الصهر وأستنجبه في الولد، وأنه ليس فوق رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مرتقاً في مجد ولا مستزاد في كرم، وإنما كانت ملك يميني خرجت متى أراد اللّه عزّ وجلّ مني، بأمر ألتمس به ثوابه، ثم ارتجعتها على سنة، ومن كان زكياً في دين اللّه فليس يخل به شي ء من أمره، وقد رفع اللّه بالإسلام الخسيسة وتمم به النقيصة وأذهب اللؤم، فلا لؤم على امرئ مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية، والسلام».

فلما قرأ الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين، لشد ما فخر عليك علي بن الحسين(عليهما السلام)! فقال: يا بني لا تقل ذلك؛ فإنه ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر وتغرف من بحر، إن علي بن الحسين(عليهما السلام) يا بني يرتفع من حيث يتضع الناس»(1).

وفي رواية أخرى عن الامام الصادق(عليه السلام) لما ردّ الإمام السجاد(عليه السلام) على كتاب عبد الملك بن مروان قال لمن عنده: خبِّروني عن رجل إذا أتى ما يضع الناس لم يزده إلّا شرفاً؟ قالوا: ذاك أمير المؤمنين، قال: لا واللّه ما هوذاك؛ قالوا: ما نعرف إلّا أمير المؤمنين! قال: فلا واللّه، ما هو بأمير المؤمنين، ولكنه علي بن الحسين(عليهما السلام)(2).

ص: 191


1- الكافي 5: 344.
2- الكافي 5: 346.
العودة إلى مقاييس القرآن

قال تبارك تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).

تقدم الكلام عن بعض الموانع التي وضعها بعض الناس والتي أثرت هي وغيرها بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الزواج في المجتمع، فصار الرجل متأخراً في الزواج، أو عازباً عنه، ويوماً بعد يوم يتقدم به العمر دون أن يخرج من هذا المأزق الوضعي، وكذلك الحال بالنسبة للنساء، فكثرت النساء غير المتزوجات، بسبب هذه المقاييس الظالمة، التي ما أنزل اللّه بها من سلطان.

فأدت هذه الكثرة من الرجال والنساء غير المتزوجين، إلى ظهور ألوان مختلفة من الفساد والانحراف الأخلاقي، والتمرد على الدين وأحكامه، فظهرت مظاهر الزنا واللواط والمساحقة والعلاقات المشبوهة، التي تضر بسمعة الطرفين. وأخذت بعض الدول تعاني من كثرة هذه الأخطار والمآسي، من جراء الانحلال الأخلاقي، وانعدام القيم، فكثرت وارتفعت نسبة الإجهاض والاغتصاب والاعتداء على الأعراض. لا سيما وأن الكنيسة تقوم ببث فكرة العزوبة بين الناس، كما هي في الرهبان والراهبات، والتي يختفي خلفها أشد أنواع الفساد، ولعل ذلك أعظم وأفظع من الفساد الظاهري، بينما القرآن الكريم يعري اتجاههم هذا بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَٰهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَٰنِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّرِعَايَتِهَا}(2).

قيل: الرهبانية التي أبتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع.

وقال قوم: الرهبانية التي ابتدعوها لحاقهم بالبراري والجبال.

ص: 192


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- سورة الحديد، الآية: 27.

وقيل: الرهبانية الانقطاع عن الناس للانفراد بالعبادة(1).

أما رهبانية الإسلام فهي كما الوارد عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الاطهار(عليهم السلام) من أحاديث وتوجيهات، حيث روي: إنه توفي ابن لعثمان بن مظعون فاشتد حزنه عليه حتى اتخذ من داره مسجداً يتعبد فيه، فبلغ ذلك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: «يا عثمان، إن اللّه تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل اللّه، يا عثمان بن مظعون للجنة ثمانية أبواب وللنار سبعة أبواب، أفما يسرك أن لا تأتي باباً منها إلّا وجدت ابنك إلى جنبك، آخذاً بحجزتك يشفعك إلى ربك؟».

قال: بلى.

فقال المسلمون: ولنا يا رسول اللّه في فَرَطِنا ما لعثمان؟

قال: «نعم، لمن صبر منكم واحتسب»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ليس في أمتي رهبانية ولا سياحة، ولا زمٌّ، يعني: سكوت»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى أعطى محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) شرائعنوح - إلى أن قال - والفطرة الحنيفية السمحة، لا رهبانية ولا سياحة»(4).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه نهى عن الترهُّب، وقال: «لا رهبانية في الإسلام، تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم»(5).

ص: 193


1- انظر: التبيان في تفسير القرآن 9: 537.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 66.
3- الخصال 1: 137.
4- الكافي 2: 17.
5- دعائم الإسلام 2: 193.

وعن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً أنه قال: «المتزوج النائم أفضل عند اللّه من الصائم القائم العزب»(1).

وعن عكّاف بن وداعة الهلالي قال: أتيت إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال لي: «يا عكّاف، أ لك زوجة؟».

قلت: لا.

قال: «ألك جارية؟».

قلت: لا.

قال: «وأنت صحيح موسر؟!».

قلت: نعم، والحمد للّه.

قال: «فإنك إذاً من إخوان الشياطين، إما أن تكون من رهبان النصارى، وإما أن تصنع كما يصنع المسلمون، وإن من سنتنا النكاح، شراركم عزابكم، وأراذل موتاكم عزابكم - إلى أن قال - ويحك يا عكّاف، تزوج تزوج؛ فإنك من الخاطئين». قلت: يا رسول اللّه، زوجني قبل أن أقوم. فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «زوجتك كريمة بنت كلثوم الحميري»(2).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «أربعة يلعنهم اللّه من فوق عرشه ويُؤَمِّنُونالملائكة: رجل يتحفظ نفسه ولا يتزوج ولا جارية له كيلا يكون له ولد...»(3).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «شراركم عزابكم، والعزاب إخوان الشياطين»(4).

ص: 194


1- جامع الأخبار: 101.
2- مستدرك الوسائل 2: 155.
3- مستدرك الوسائل 14: 156.
4- جامع الأخبار: 102.

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «خيار أمتي المتأهلون وشرار أمتي العزاب»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «خير أمتي أولها المتزوجون وآخرها العزاب»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لعن اللّه وأَمَّنت الملائكة على رجل تأنث وامرأة تذكرت، ورجل مُتَحَصِّر ولا حَصور بعد يحيى»(3).

إذن، الواجب على المسلمين الرجوع إلى تعاليم القرآن وجعلها مقياساً حقيقياً ومنطلقاً أساسياً في الحياة، وكذلك الرجوع إلى السنة المطهرة، والأدب الإسلامي الرفيع، والأخلاق والتقاليد الإسلامية، فيلزم علينا أن نجعل كل ذلك هو الأساس في تعاملنا مع أنفسنا ومع الآخرين، وعندها سوف نحصل على مجتمع متكامل وأسرة فاضلة تسودها المحبة والإخلاص بإذن اللّه تعالى، أما اذا تشبثنا بالعادات الوضعية الدخيلة، وتمسكنا بظاهرة التقليد التي راجت كثيراً في بلداننا الإسلامية، تحاول أن تقلد نظام الأسرة في المجتمعات الغربية، فإن نتيجة ذلك هو: التفكك الأسري، والانحلال الأخلاقي.

فالحصانة والاستقرار الأسري الحقيقي يبتني على العودة إلى مقاييس القرآن والتمسك بها.

اللّهم صل على محمد وآل محمد «اللّهم تفضل على مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة»(4)

بحق محمد وآله الطاهرين.

ص: 195


1- جامع الأخبار: 102.
2- مستدرك الوسائل 14: 156.
3- مستدرك الوسائل 14: 156.
4- المصباح للكفعمي: 281.

من هدي القرآن الحكيم

الحث على الزواج

قال اللّه تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(1).

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَٰجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بَِٔايَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَابٌ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً}(3).

اختيار الزوجة الصالحة

قال جلّ وعلا: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(4).

وقال تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَٰجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَٰتٖ مُّؤْمِنَٰتٖقَٰنِتَٰتٖ تَٰئِبَٰتٍ عَٰبِدَٰتٖ سَٰئِحَٰتٖ ثَيِّبَٰتٖ وَأَبْكَارًا}(5).

وقال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَٰتِ الْمُؤْمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ الْمُؤْمِنَٰتِ}(6).

ص: 196


1- سورة الروم، الآية: 21.
2- سورة الرعد، الآية: 38.
3- سورة النساء، الآية: 3.
4- سورة النور، الآية: 32.
5- سورة التحريم، الآية: 5.
6- سورة النساء، الآية: 25.
التعامل الأخلاقي عامل انسجام

قال عزّ وجلّ: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(2).

آثار الإيمان

قال سبحانه: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مََٔابٖ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَٰتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ وَالْقَٰنِتِينَ وَالْقَٰنِتَٰتِ وَالصَّٰدِقِينَ وَالصَّٰدِقَٰتِ وَالصَّٰبِرِينَ وَالصَّٰبِرَٰتِ وَالْخَٰشِعِينَ وَالْخَٰشِعَٰتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَٰتِ وَالصَّٰئِمِينَ وَالصَّٰئِمَٰتِ وَالْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَٰفِظَٰتِ وَالذَّٰكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(4).

وقال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَٰهُم مِّنْعَمَلِهِم مِّن شَيْءٖ كُلُّ امْرِيِٕ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَٰهُم بِفَٰكِهَةٖ وَلَحْمٖ مِّمَّا يَشْتَهُونَ}(5).

وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ أُوْلَٰئِكَ

ص: 197


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- سورة البقرة، الآية: 83.
3- سورة الرعد، الآية: 28-29.
4- سورة الأحزاب، الآية: 35.
5- سورة الطور، الآية: 21-22.
6- سورة التوبة، الآية: 71.

سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الحث على الزواج

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أشيدوا بالنكاح وأعلنوه بينكم»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «تزوجوا فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كثيراً ما كان يقول: من كان يحب أن يتبع سنتي فليتزوج، فإن من سنتي التزويج، واطلبوا الولد فإني أكاثر بكم الأمم غداً، وتوقوا على أولادكم لبن البغي من النساء والمجنونة؛ فإن اللبن يعدي»(4).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن امرأة سألت أبا جعفر(عليه السلام) فقالت: أصلحك اللّه، إني متبتلة، قال لها: وما التبتل عندك؟! قالت: لا أريد التزويج أبداً. قال: ولم؟! قالت: ألتمس في ذلك الفضل، فقال: انصرفي، فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة(عليها السلام) أحق به منك، إنه ليس أحد يسبقها إلى الفضل»(5).

الزوجة الصالحة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً»(6).

ص: 198


1- سورة النساء، الآية: 152.
2- سورة المائدة، الآية: 9.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 519.
4- الخصال 2: 615.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 370.
6- الكافي 5: 324.

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن من القسم المصلح للمرء المسلم أن تكون له امرأة إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإن أمرها أطاعته»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «... انكح، وعليك بذات الدين تربت يداك»(2)(3).

حسن الخلق عامل انسجام الأسرة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «حسن الخلق يثبت المودة»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حسن الخلق يورث المحبة ويؤكد المودة»(5).

وقال أبي عبد اللّه(عليه السلام): «أيما أهل بيت أعطوا حظهم من الرفق فقد وسع اللّه عليهم في الرزق، والرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال...»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثلاث يوجبن المحبة: حسن الخلق، وحسن الرفق،والتواضع»(7).

آثار الإيمان

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «تخللوا فإنه من النظافة والنظافة من الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنة»(8).

ص: 199


1- الكافي 5: 327.
2- ترب الرجل: إذا افتقر أي لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى، وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر به، كما يقولون قاتله اللّه، وقيل: معناها للّه درّك.
3- الكافي 5: 332.
4- تحف العقول: 45.
5- غرر الحكم ودرر الحكم: 347.
6- الكافي 2: 119.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 332.
8- طب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): 21.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «بالإيمان يرتقى إلى ذروة السعادة ونهاية الحُبُور»(1)(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «للمؤمن على اللّه عزّ وجلّ عشرون خصلة، يفي له بها على اللّه تبارك وتعالى: أن لا يفتّنه ولا يضله، وله على اللّه أن لا يعريه ولا يجوعه، وله على اللّه أن لا يشمت به عدوه، وله على اللّه أن لا يخذله ويعزله، وله على اللّه أن لا يهتك ستره... وله على اللّه أن يحشره يوم القيامة ونوره يسعى يبن يديه...»(3).

ص: 200


1- الحُبُور: السرور.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 304.
3- الخصال 2: 516.

السبيل إلى الوحدة الإسلامية

أمة واحدة ورب غفور

قال اللّه تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

الوحدة الإسلامية والأمة الواحدة من أهم الأسس التي أكد عليها القرآن الكريم والنبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكان المسلمون بفضل هذا القانون - مضافاً إلى تطبيق سائر القوانين الإلهية - قد وصلوا إلى ما وصلوا من قمم المجد والعزة والتطور والتقدم في مختلف مجالات الحياة.

وفي يومنا هذا تفرق المسلمون بعضهم عن بعض، فأصبحوا عدة أمم، فضعفوا وتأخروا، وسيطرت عليهم الدول الاستعمارية ونهبت ثرواتهم بل وحتى عقولهم(2).

مقومات الأمة الواحدة

اشارة

وإذا أراد المسلمون يوماً أن يرجعوا إلى الأمة الواحدة، ويستيقظوا من نومهم وسباتهم وينقذوا أنفسهم من سيطرة القوى العظمى، وتعود إليهم سيادتهم وكرامتهم وحريتهم، يتوجب عليهم الأخذ بهذه الأمور الأربعة:

1- المال.

ص: 201


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- إشارة إلى هجرة العقول إلى الغرب.

2- الإعلام.

3- التنظيم.

4- نبذ الخلاف واحترام الرأي الآخر.

أولاً: الأموال والثروة
اشارة

لأجل الوصول إلى الهدف لا بد من تسخير الأموال وبذلها، لأن أكثر النشاطات التي يقوم بها الإنسان، أو تؤديها الحركات والتنظيمات وكذلك الدول، في كافة أنحاء العالم، بحاجة إلى وجود المال وبذلها لكي تصل إلى أهدافها بالسرعة المطلوبة.

قال اللّه تعالى: {وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَىٰكُمْ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبْتُمْ}(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل المال ما قبضت به الحقوق»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لو أن الناس أخذوا ما أمرهم اللّه عزّ وجلّ به فأنفقوه فيما نهاهم اللّه عنه ما قبله منهم، ولو أخذوا ما نهاهم اللّه عنه فأنفقوه فيما أمرهم اللّه به ما قبله منهم، حتى يأخذوه من حق وينفقوه في حق»(4).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام): «أنه سُئل عن الدنانير والدراهم وما على الناس فيها؟ فقال(عليه السلام): هي خواتيم اللّه في أرضه، جعلها اللّه مصحّة لخلقه، وبها تستقيم شؤونهم ومطالبهم»(5).

ص: 202


1- سورة النور، الآية: 33.
2- سورة البقرة، الآية: 267.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 208.
4- الكافي 4: 32.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 520.

فالمال له دور كبير في حياة الإنسان وكذلك حياة الأمم، فهو من جهة يؤمّنكافة الاحتياجات كاللباس والغذاء والمسكن والزوجة والعلم والفضيلة والقوة والصحة وما شابه ذلك، ومن جهة أخرى وسيلة لعمارة الأرض التي هي أيضاً مقدمة لانماء الإنسان.

وفي كل هذه الاتجاهات المختلفة التي ذكرناها من حياة الإنسان والتي لها علاقة كبير في إيصال الأمة المتمثلة بأفرادها إلى الهدف، لا بد من استخدام صحيح ومتوازن لحركة المال وانتقاله وتنميته، لأنه ركن مهم في بناء المجتمع وتقدمه، وهذا التوازن لا يحصل إلّا بالنظرة الصحيحة إلى المال لكونه أداة ووسيلة لتحقيق الرفاه المادي وتلبية شؤون الإنسان وحاجاته الملحة الماسة حتى يكون على استعداد لتطوير وتكميل نفسه روحياً ومعنوياً.

ومن هنا أكد الإسلام على المال وما يرتبط باقتصاد الفرد والمجتمع بشكل كبير، وسنّ أفضل القوانين الاقتصادية على ما فصلناه في بعض كتبنا(1).

المال ليس هدفاً

إن المال ليس هدفاً لذاته وبذاته، وانما هو وسيلة لتحقيق التكامل الدنيوي والأخروي، وضمان للتكافل الاجتماعي ومقوّم للتطور في مختلف ميادين الحياة، وهذا الأمر يتحقق عن طريق تحصيل المال أولاً من الطرق المشروعة، ثم الإنفاق والبذل في طرق الخير ومعونة الفقراء والمعوزين ودعم المشاريع الإسلامية والإنسانية، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم في آيات عديدة:

قال تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(2).

ص: 203


1- راجع كتاب (أنفقوا لكي تتقدموا) و(الاقتصاد الإسلامي المقارن) و(الفقه: الاقتصاد) و(الاقتصاد عصب الحياة) و(لمحة عن النبك الإسلامي) وغيرها للإمام الشيرازي(رحمه الله).
2- سورة البقرة، الآية: 195.

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَٰعَةٌ وَالْكَٰفِرُونَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(1).

إنفاق الأعداء

وفي هذا العصر الذي أخذ أعداء الإسلام بالإنفاق السخي في نشر أباطيلهم وإفساد العالم عبر مختلف الوسائل المتطورة... تظهر أهمية الإنفاق وبذل الأموال اللازمة من أجل توطيد ودعم المؤسسات الإعلامية والثقافية التي أخذت على عاتقها ترويج ونشر التعاليم الربانية والمفاهيم الإسلامية الأصيلة.

الإنفاق والتوعية

ومما ذكرنا تظهر العلاقة بين الإنفاق وبين التوعية الإسلامية، والبذل المالي والتثقيف ونشر الثقافة الإسلامية التي لها الأثر الكبير في تهيئة الأجواء بين الأمم لبلوغ الوحدة الأسلامية والرجوع إلى الأمة الواحدة التي شرعها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ونص عليها القرآن الكريم.

دور المال

وقد كان للمال الدور المهم في سبيل ترسيخ أسس الإسلام منذ عهد الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) ولقد أورده في الحديث الشريف حيث قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة(عليها السلام)»(2).

وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يفك من مال خديجة(عليها السلام) الغارم والعاني ويحمل الكل، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين يعني رحلة الشتاء والصيف

ص: 204


1- سورة البقرة، الآية: 254.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 468.

كانت طائفة من العير لخديجة، وكانت أكثر قريش مالاً، وكان(صلی الله عليه وآله وسلم) ينفق منه ما شاء في حياتها ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها.

وكانت خديجة(عليها السلام) يُضرب بكثرة مالها الأمثال، وقد جعلت جميع أموالها لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ينفقها كيفما شاء.

وفي التفسير في قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ}(1) أي بمال خديجة(عليها السلام)(2).

ثم إن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) لما هاجر إلى المدينة فتحت عليه الفتوح والغنائم. وكان(صلی الله عليه وآله وسلم) يكرم الوفود ويعطيهم من الأموال، مما كان مؤثراً في نشر الإسلام آنذاك.

ثانياً: الإعلام
اشارة

حركة الإنسان في عالم اليوم متوقفة على الإعلام والدعاية سواء كان الإعلام عن طريق الكتب أو المجلات أو الجرائد أو غير ذلك من طرق الإعلام الأخرى.

ولأهمية هذا الأمر نرى الاستعمار يبذل المليارات من الدولارات لأجل تفوقه الإعلامي والثقافي والعمل على ترسيخ وبث أفكاره الضالة بين مجتمعاتنا المسلمة، يبتغي بذلك إرساء أعمدة بلاده وهمينته كدولة عظمى على العالم لنهب ثرواتنا بعد تمزيقنا إلى أمم متناحرة ومتخاصمة.

فاذا نشر المسلمون الصوت والنداء الإلهي الذي يبعث الروح والخير والفضيلة في نفوس العالم، فإن أكثر الناس في كل بقعة من الأرض سوف يلتفتون نحو هذا المذهب الإلهي.

ص: 205


1- سورة الضحى، الآية: 8.
2- علل الشرائع 1: 130.

ولا بد أن نعلم أن أكثر الناس خصوصاً الذي يعيشون في أقاصي الأرض هم محرومون من نور الإسلام والقرآن، فإنه لم يصلهم من ذلك النور شيء، وإذا سمعوا عن الإسلام سمعوا العنف والإرهاب وما أشبه مما يكون الإسلام بريئاً عنه تماماً.

فعلينا بالاستفادة من الإعلام العالمي لنشر الإسلام والقرآن وسنة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) مما ينسجم تماماً مع الفطرة الإنسانية ويدعو إلى الخير والفضيلة، ويضمن السعادة في الدارين.

فمن الطبيعي عندما يقف الإعلام الإسلامي أمام الإعلام المسيحي المزيف نرى أن الناس يتوجهون ويأخذون بالدين الإسلامي الصحيح.

ولكن مع الأسف نرى اليوم وسائل الاعلام والتبليغ بيد أناس يحاربون الإسلام والمسلمين فنراهم يدخلون في أذهان الناس الكذب والافتراء على الإسلام فيعرفونه لهم بأنه دين رجعي ومتأخر، وأنه إرهاب وعنف... .

ويفترون الكذب على الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) لتشويه صورته الطاهرة في أنظار الناس، أو يسعون لتشويه صورة كتاب اللّه تعالى والسنة المطهرة... .

وهناك من يقوم باختراع كلام من نفسه يشبه القرآن الحكيم في بعض الجهات أو يضع ما يشبه الأحاديث الشريفة ليظن الجاهل أنه قرآن أو سنة، وهناك من يفتي بغير علم وينسبه إلى اللّه عزّ وجلّ.

قال تعالى في ذم المشركين: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(1).

ص: 206


1- سورة البقرة، الآية: 79.

وهناك من يفر عن المسؤولية ويقول: (حشر مع الناس عيد)!

أو يقول: (لا يوضع أحد في قبر آخر).

وهناك من يكذب ويكذب ويكذب في مختلف وسائل الإعلام ليصدقه الناس. من هنا يقول أحد زعماء الإلحاد: (اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس).

ومن هنا يتحتم على المسلمين وخاصة أتباع أهل البيت(عليهم السلام) الاستفادة من وسائل الأعلام المواكبة لكل عصر ومصر في نشر الثقافة الإسلامية الصحيحة، ورفع ما يبثه الأعداء من الإشكالات والتهم.

تهمة الإرهاب

من أكبر التهم التي لفقت على الإسلام، تهمة العنف والإرهاب.

علماً بأن الإسلام أرأف دين عرفه البشر، فإنه لما سيطر على أعدائه وتمكن منهم عفا عنهم، وضمن لهم مختلف الحريات، وخير دليل على ذلك تعايش الأقليات الدينية في مختلف البلاد الإسلامية منذ الصدر الأول من الإسلام وإلى يومنا هذا.

ولكن الأعداء وعبر مختلف وسائل الإعلام يقولون: إن الإسلام لايسعى إلى البناء الحضاري بقدر ما يسعى إلى العنف والإرهاب

واستشهدوا على هذا الرأي بمساوئ الحكام الأمويين والعباسيين والعثمانيين ومن أشبه، مع أن هؤلاء بعيدون كل البعد عن القرآن والرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) والعترة الطاهرة(عليهم السلام)، ولا يصح أن يحمّل الدين الإسلامي بما ارتكبه هؤلاء الظلمة، كما لا يُحمل الدين المسيحي بما ارتكبه هتلر وغيره من طغاة النصارى.

إن القرآن الكريم وسيرة النبي العظيم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) هو المعيار لمعرفة الإسلام، ولذلك ترى أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يقتصر في الحروب

ص: 207

على أقل ما يمكن من القتلى، ولا يبدأ أحداً بالحرب، بل كانت كل حروبه دفاعية، كما فصلناه في بعض كتبنا(1).

أما بعض الفتوحات التي قام بها من سمّوا أنفسهم بالخلفاء، فهي أيضا لا تمت للإسلام بصلة.

فالإسلام لم يعتمد يوماً على العنف والارهاب في نشر رسالته، بل كان يلتزم دائماً وحتى في ميادين الحرب بالمناقبية الإسلامية مستظلة بأخلاق الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) الذي يحميها ويؤيدها... .

وهكذا كان المسلمون يتعاملون بالأخلاق الطيبة مع المشركين والكفار، حتى في البلاد المفتوحة، على رغم انحراف حكام المسلمين.

ومن ثم كانت تبدأ المسيرة الحضارية في هذا البلد المفتوح أو ذاك.

ولكن المستعمرين وأعداء الإسلام استمروا في نشر هذه التهمة، تهمة العنف والإرهاب ضد الدين الإسلامي وقادته، ودأبت الأجهزة الإعلامية التابعة لهم منذ سنوات على شن حملات دعائية ضد المسلمين بأنهم إرهابيون ولا سبيل لهم في العمل إلّا العنف!

مع أن الإسلام دين السلم والسلام، ولا يؤمن بالعنف ولايستخدمه لعلاج الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، إلّا في أقصى حالات الضرورة من صور الدفاع حيث لم يوجد طريق آخر وذلك بشرط إجازة شورى الفقهاء بأكثرية الآراء، وليس ذلك إلّا للحكم الاضطراري وفي حالات استثنائية نادرة.

أما الحالة العامة والأصل الأولي فهو السلم ونبذ العنف دائماً وأبداً، ومع كل

ص: 208


1- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) للإمام الشيرازي(رحمه الله).

أحد، وفي جميع الموارد.

ثالثاً: التنظيم
اشارة

ضرورة التنظيم من الواضحات، فإنه لا يمكن التقدم والرقي إلّا بعمل منظّم.

كما أن التبليغ المركز لنشر الإسلام يحتاج إلى التنظيم والتخطيط، قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكما... بتقوى اللّه ونظم أمركم»(1).

إن من أهم الأعمال التي علينا أن نهتم بها في الوقت الحاضر هو تشكيل المؤسسات والجمعيات والتكتلات الإسلامية المنظّمة، وذلك لأن التنظيم يفيد التركيز والدقة في العمل، ويمنع من تبعثر القدرات والطاقات.

فإذا كان تعداد الجيش مليون مقاتل وكانوا يمتلكون حالة التنظيم في شؤونهم العسكرية، فإنهم يصبحون قادرين على مواجهة أكبر قوة عاتية لم تتمتع بالتنظيم.

أما لو كانت الأمور منفرطة وبعيدة عن التنظيم، لوجدنا أنفسنا تائهين، لا نستطيع أن نتقدم إلى الأمام خطوة واحدة ناجحة حتى لو امتلكنا العُدة والعدد، فإن المبعثرين يفتقدون شرطاً أساسياً من شروط التقدم ألا وهو التنظيم، فلا يعقل أن يتحقق تطور وتقدم في مسيرة جماعة أو أمة وهي فاقدة للتنظيم بأن كانت تعيش في حالة التبعثر والتفكك.

من هنا نعلم ضرورة ما أكد عليه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته حيث قال: «ونظم أمركم» وهذا الكلام بعمومه حيث أضيف الأمر إلى (كم) يفيد دعوة الناس إلى التنظيم الشامل للأمور الفردية والاجتماعية.

ص: 209


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47، ومن وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).

علماً بأن التنظيم في المجتمع لا يكون إلّا بتنظيم الفرد أولاً، لأن المجتمع المنظم يتكون طبيعياً من تجمع الأفراد المنظّمين، فلا بدّ للإنسان - أولاً قبل كل شيء - أن يضع برنامجاً منظماً لبرامجه اليومية وفي مختلف المجالات، ومنها المجال الاقتصادي، فالإنسان الذي ينفق أمواله في أول الشهر أكثر مما ينبغي له صرفه، من دون أن يلاحظ دخله، يجد هذا الشخص بعد عدة أيام كيسه الخالي من الأموال. وحينذاك يبقى جائعاً لا يمتلك قوتاً لبطنه ولعياله.

هكذا الأمر في مسألة الدرس والتدريس وسائر الأمور الأخرى، فانها لا تصل إلى مرحلة الكمال إلّا عن طريق التنظيم والتنسيق والبرمجة فكيف بالأعمال الاجتماعية والسياسية ونحوها؟

من هنا يلزم الاهتمام بالتنظيم الصحيح.

دور التنظيم في تحقق الانتصار

التنظيم سنة كونية، وضرورية حيوية ملحة بالنسبة إلى الأمة الإسلامية، فقد خلق اللّه سبحانه وتعالى الكون كله منظماً، وقال عزّ وجلّ في ذلك: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ}(1).

فجعل الباري تعالى للإنسان نظاماً يسير عليه في منامه وأكله وشرابه وتكاثره وغيره، كما نظم تعامله مع نفسه ومع غيره ومع ربه، ولم يخلقه عبثاً دون أن يجعل له قانوناً ونظاماً.

وهكذا الإنسان خاضع لتنظيم في خلقته وتكوينه وسيرته وسلوكه... وكذلك الأشجار والحيوانات والرمال والنجوم وسائر الأشياء الأخرى.

وأيضاً التنظيم ضرورة حيوية وقوة، وقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم

ص: 210


1- سورة الحجر، الآية: 19.

مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ}(1).

أما إذا لم ننظم أنفسنا في تنظيم صحيح واسع كبير، فسيعترينا الضعف ويتغلب علينا الأعداء.

وواقعنا المعاصر خير دليل على ذلك، فإن المسلمين يبلغ عددهم - حالياً - ألفاً وستمائة مليون مسلم(2)،

ولكن بلادهم واقعة تحت السيطرة الاستعمارية، فقطعة من بلادهم بيد الشيوعية العالمية، وقطعة أخرى بيد الرأسمالية العالمية، وقطعة ثالثة بيد الصهيونية، والعديد من بلادنا الإسلامية خاضعة لألوان مختلفة من الاستعمار المعلن أو المبطن، وابتليت بحكام عملاء... .

وإننا بدون التنظيم لن نستطيع من مواجهة التحديات المعاصرة ولن نتمكن من الوقوف أمام الشرق والغرب وعملائهما.

علماً بأن أهم مواجهة للاستعمار وعملائه هو المواجهة الثقافية.

هذا وقد قلت من قبل لبعض مسلمي لبنان: إنكم ستواجهون مصيراً سيئاً إن لم تنظموا أنفسكم، قالوا: ومن أين علمت هذا؟

قلت: من منطق التأريخ أو منطق الأحداث.

قالوا: وكيف؟

قلت: إنكم محاطون بتنظيم صليبي في داخل لبنان، وبتنظيم صهيوني في إسرائيل، فأنتم بين تنظيمين معاديين ومع ذلك فإنكم مبعثرون، ومن الطبيعي أن ينتصر من له تنظيم على من لا تنظيم له، ولا يكفي أن يقول أحد: إنني مع الحقولا يعمل شيئاً، لأن الحق يأمرك بالتنظيم.

ص: 211


1- سورة الأنفال، الآية: 60.
2- لقد بلغ نفوس المسلمين اليوم: مليارين. احصاءات عام 2008م
التنظيم في معركة بدر

وإن لنا لعبرة في حياة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) حيث إنه كان يخضع كل شؤونه للتنظيم الدقيق، فمثلاً في غزوة (بدر) كان المسلمون زهاء ثلاثمائة والكفار زهاء ألف، وكان الكفار مدججين بالسلاح أما المسلمون فكانوا شبه عزل، في قبال ذلك لم يكتف الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) بامتلاك المسلمين للإيمان القلبي بل أضاف إلى ذلك التنظيم الخارجي، فقد ذكر المؤرخون: أن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) جعل كل مائة من أصحابه في دائرة واحدة بعضهم إلى بعض ووجوهم إلى الخارج، وعندما بدأ المشركون بهجوم على المسلمين لم يستطيعوا من الإحاطة بهم، وتبعثروا حول هذا الحلقات الكبيرة، وبهذا التنظيم مضافاً إلى الإيمان والنصرة الإلهية، استطاع المسلمون أن ينتصروا على الكفار الذين لم يكن لهم مثل هذا التنظيم.

ثم إن التنظيم أمر لا بد منه أولاً وآخراً، فنحن بحاجة إلى تنظيم عملنا وأنفسنا والتنسيق فيما بيننا في مرحلة الإعداد، كما نحتاج إلى التنظيم بعد الوصول إلى الهدف أيضا.

وإننا في هذه المرحلة الحساسة إذا لم نعمل باتقان وتنظيم فسوف نؤخر مرحلة الانتصار والنهضة الثقافية الإسلامية لربما إلى سنين طويلة، فعلى المسلم أن يتسلح بالفكر والثقافة والتنظيم وخصوصاً الوعي السياسي للأمور المرتبطة بحياة المسلمين.

رابعاً: نبذ الخلاف واحترام الرأي الآخر
اشارة

يقول القرآن الكريم في هذا المجال: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْوَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(1).

ص: 212


1- سورة الأنفال، الآية: 46.

ذكر العلامة الطبرسي في تفسير الآية:

أي لا تنازعوا في لقاء العدو ولا تختلفوا فيما بينكم فتجبنوا عن عدوكم وتضعفوا عن قتالهم {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} معناه تذهب صولتكم وقوتكم.(1) أي إنكم لا تجدون ولا تحصدون نتيجة نزاعكم سوى التشتت والخسران، وبعدها تذهب كرامتكم وسيادتكم ودولتكم.

أما إذا لم تتنازع الأمة الإسلامية بل توحدت كلمة أبنائها، بما فيها من الحركات والتجمعات وغيرها، فإن النتيجة ستكون أفضل وأحسن بكثير قطعاً، وبذلك تتقرب الأمة إلى طريق النصر والسعادة، وسيكون المصير أحمد عاقبة.

فإذا ما كان الهدف هو الوصول إلى (حكومة إسلامية واحدة) فاتحدت كلمتهم وعملوا بما أمره اللّه عزّ وجلّ، وتخلوا عن التنازع، فإنهم سيصلون إلى النتيجة المطلوبة بإذن اللّه تعالى وستظهر وتتحقق أمنيتهم على أرض الوجود.

يقول القرآن الكريم: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(2) قالوا: إن معنى ذلك هو وجوب الاعتصام والتمسك بعهد اللّه لأنه سبب النجاة كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر ونحوها، وقيل: {حَبْلِ اللَّهِ} هو دين الإسلام، و{لَا تَفَرَّقُواْ} أي لاتفرقوا عن دين اللّه وعن القرآن الذي أمر فيه بلزوم اتباع الحق والائتلاف علىطاعة اللّه ورسوله وأهل بيته(عليهم السلام).

وفي الروايات أن حبل اللّه عزّ وجلّ هم أهل البيت(عليهم السلام)، فيأمرنا اللّه بالتمسك

ص: 213


1- تفسير مجمع البيان 4: 476.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.

بالعترة الطاهرة(عليهم السلام).

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن هذا القرآن هو حبل اللّه، وهو النور المبين، والشفاء النافع»(1).

وقال النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «وصيي علي بن أبي طالب(عليه السلام) ألا هو حبل اللّه فاعتصموا به ولا تفرقوا عنه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنا حبل اللّه المتين»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «نحن حبل اللّه الذي قال {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(4)(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «آل محمد... هم حبل اللّه الذي أمر بالاعتصام به قال اللّه: واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا»(6).

كلام حول الانتفاضة الشعبانية

إن الانتفاضة الشعبانية المباركة ضد الظلم والطغيان، كان دليلاً على إيمان الشعب العراقي وتضحيتهم في سبيل اللّه عزّ وجلّ وعدم رضوخهم للظلم والاستبداد.

وكان من الأسباب الرئيسية لعدم وصول المؤمنين المجاهدين إلى هدفهم في إسقاط صدام وإيجاد الحكومة الإسلامية الصالحة هناك، هو عدم تواجد قيادة

ص: 214


1- جامع الأخبار: 40.
2- بحار الأنوار 22: 486.
3- معاني الأخبار: 17.
4- سورة آل عمران، الآية: 103.
5- تفسير فرات الكوفي: 91.
6- تفسير العياشي 1: 102.

موحدة مديرة ومدبّرة لهذه النهضة والانتفاضة الجماهيرية، تكون على تماس واتصال مباشر مع المجاهدين، وإن كان المجاهدون قد وصلوا إلى ثوابهم الأخروي فجزاهم اللّه خيراً، بل وحققوا أيضاً بعض الأهداف الكبيرة التي كانوا يتطلعون إليها والتي منها:

1- إسقاط شخصية صدام وهيبته في كل العالم.

2- كما بينوا للعالم بأن الطاغية (صدام) ليس إلّا ديكتاتوراً متجبراً لا يعرف للإنسان والقيم الإنسانية أي معنى.

3- اطلاق سراح الآلاف من السجناء الأبرياء.

ومع هذه الإنجازات الكبيرة، لكن ظلت مسألة انتصار الانتفاضة وتحقيق الهدف الأكبر من الاطاحة بحكومة البعث تحتاج إلى القيادة الكفوءة، مضافاً إلى ضرورة توفر سائر شروط الانتصار... .

ولو توفر هذا العامل الأساسي والمهم لتمكن المجاهدون الناهضون من الانتصار الأكبر والوصول إلى الهدف بجهود أقل وبعدد أقل من الشهداء أيضاً... .

وتبقى المسألة المهمة في تعجيل النصر هي وحدة الكلمة، فحينما تصل الفصائل الإسلامية والحركات والأحزاب والتكتلات وما أشبه إلى مرحلة الوحدة الحقيقية بين أبناء الأمة الواحدة تكون قاب قوسين أو أدنى من مرحلة الحسم والنصر المؤكد على أعداء الإسلام الذين أذاقوا شعبنا الأمرين.

دور المرجعية في قيادة الأمة

كانت تضحيات الجماهير في هذه الانتفاضة كبيرة جداً، وقد واجهوا الصعاب الكبرى بعدها بحيث نرى الطاغوت أخذ ينتقم منهم أشد الانتقام بقام بقتل مئاتالآلاف من الأبرياء... .

ثم أخذ يضيق على من بقي من الشعب المسكين، فصار الشعب يدفع الكثير

ص: 215

للحصول على لقمة عيش ورغيف خبز... .

إن قيادة العلماء والمراجع تجعل الأمة أقرب للكلمة الواحدة، وتوجب النصر على الأعداء.

فلو تمتعت الجماهير بقيادة جامعة للشرائط تقودها في ثورتها العظيمة لما أعطت مثل هذه التضحيات الكثيرة في الأموال والأرواح.

بينما نجد في الزمن الذي كانت القيادة والزعامة بيد العلماء كان النصر يرفرف على رؤوسهم، فهذا الشعب العراقي عند ما اتبع المراجع والفقهاء وعلى رأسهم المرجع الأعلى الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) في ثورة العشرين استطاع الانتصار وطرد المحتلين.

نعم قدم الشعب العراقي (200) ألف شهيد وقتل (80) ألف جندي إنكليزي... ولكن وصل إلى الاستقلال وانتصر.

وهكذا نرى حالة الهند، قبل قيادة وزعامة غاندي، وبعد قيادته حيث تم الانتصار.

أما قبل ذلك فقد استطاعت إنكلترا أن تستعمرهم مدة ثلاثة قرون وأن تلعب بمقدراتهم وبثرواتهم كيفما ارتأت وأرادت، وباستعمارهم هذا أذاقت الشعب الهندي ألوان الفقر والحرمان والجوع، بحيث إن عدداً كبيراً من الناس كانوا يولدون في الشوارع والأزقة ويقضون فيها كل أعمارهم من دون أن يكون لهم حتى غرفة واحدة يسكنون فيها، ثم بعد ذلك كانوا يودعون الحياة على أرصفة الشوارع أيضاً.

فاذا ما أخذنا بنظر الاعتبار هذه العوامل الأربعة فسنكون قريبين من الوصولإلى الهدف وهو (الأمة الواحدة الإسلامية) ولو أن ذلك يتطلب منا العمل والتضحية ما يقارب من عشرين إلى ثلاثين سنة من الجهاد والحركة العلمية

ص: 216

والثقافية والإعلامية المركزة... .

يقول الشاعر ما معناه(1):

لايمكن الوصول إلى الكنز من دون السعي وبذل الجهد والتعب

فإن الذي يستحق الأجرة هو العامل الذي تحمل أعباء العمل

وهذا ما يقوله لنا الباري عزّ وجلّ في كتابه الكريم {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(2).

و{وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا} يعني جاهدوا الكفار بأنفسهم وجاهدوا نفوسهم بمنعها عن المحارم وإلزامها الطاعة لوجه اللّه {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} أي نرشدهم السبيل الموصل إلى الثواب.

إعادة السيادة والكرامة

مما تقدم تبين أن إعادة السيادة والكرامة للأمة الإسلامية، والوصول إلى الأمة الإسلامية الواحدة، مرهون بتطبيق سبل عديدة لا يمكن تجاوزها، وقد ذكرنا من تلك السبل والعوامل أربعة وهي:

(المال والثروة) فيلزم تكوين جملة من الصناديق والبنوك والمؤسسات المالية لجمع واستثمار الأموال للاستفادة منها في مشروع الوصول إلى الأمة الإسلامية الواحدة.ومنها: (الدعاية والاعلام) وهذا العامل يتوقف على نشاط الأفراد والهيئات والمنظمات والمؤسسات الإعلامية والحقوقية وغيرها لتثقيف الأمة والعمل

ص: 217


1- أصل الشعر بالفارسية هكذا: نابرده رنج گنج ميسر نمى شود *** مزد آن گرفت جان برادر كه كار كرد
2- سورة العنكبوت، الآية: 69.

للوصول إلى حكومة إسلامية واحدة.

ومنها: (التنظيمات) وجمع الشباب المخلص والملتزم بالإسلام عقيدة وسلوكاً، وتركيز النشاط لمواجهة مخططات الأعداء.

وأخيراً: (وحدة الكلمة وعدم التنازع).

«اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

توازن الأموال وأثرها في المجتمع

قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَٰلَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(4).

البلاغ المبين

قال جلّ وعلا: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(5).

ص: 218


1- الكافي 3: 424.
2- سورة البقرة، الآية: 261.
3- سورة النساء، الآية: 5.
4- سورة الاسراء، الآية: 29.
5- سورة النور، الآية: 54.

وقال تعالى: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(1).

وقال سبحانه: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلَا بَلِيغًا}(2).

زرع روح الأخوة

قال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ}(4).

وقال تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(5).

قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

أثر الأموال في المجتمعدخل سدير الصيرفي على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فسلم وجلس فقال(عليه السلام) له: «يا

ص: 219


1- سورة المائدة، الآية: 92.
2- سورة النساء، الآية: 63.
3- سورة الحجرات، الآية: 10.
4- سورة آل عمران، الآية: 105.
5- سورة الأنعام، الآية: 153.
6- سورة الشورى، الآية: 13.

سدير ما كثر مال رجل قط إلّا عظمت الحجة للّه عليه، فإن قدرتم أن تدفعوها عن أنفسكم فافعلوا» فقال له: يا ابن رسول اللّه بماذا؟ قال(عليه السلام): «بقضاء حوائج إخوانكم من أموالكم»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن من بقاء المسلمين وبقاء الإسلام أن تصير الأموال عند من يعرف فيها الحق ويصنع فيها المعروف، فإن من فناء الإسلام وفناء المسلمين أن تصير الأموال في أيدي من لا يعرف فيها الحق ولا يصنع فيها المعروف»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل المال ما قضيت به الحقوق»(3).

الفقهاء خلفاء الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «رحم اللّه خلفائي»، فقيل: يا رسول اللّه ومن خلفاؤك؟ قال: «الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد اللّه»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وما أخذ اللّه على العلماء ألّا يقارّوا(5) على كِظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم»(6).

وقال(عليه السلام): «العلماء حكّام على الناس»(7).

ص: 220


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 302.
2- الكافي 4: 25.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 208.
4- منية المريد: 101.
5- ألّا يقاروا: ألّا يوافقوا، الكِظّة: ما يعتري الآكل من الثقل واكرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد: استئثار الظالم بالحقوق، السّغَب: شدة الجوع، والمراد: هضم حقوقه.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3، ومن خطبة له(عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 36.

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء باللّه»(1).

النظم في العمل

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: أقيموا صفوفكم فاني أنظر إليكم من خلفي لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن اللّه بين قلوبكم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في صفة القرآن: «ألا إن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم»(3).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة اللّه، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الاخوان والثقات الذين يعرفونكم عيوبكم ويخصلون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الأمور المنتظمة يفسدها الخلاف»(5).

الأخوة الإسلامية

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه، كان اللّه في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج اللّه بها عنه كربةمن كروب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً يستره اللّه يوم القيامة»(6).

ص: 221


1- تحف العقول: 238.
2- بصائر الدرجات 1: 420.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 158، ومن خطبة له(عليه السلام) ينبّه فيها... على فضل القرآن.
4- تحف العقول: 409.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 63.
6- تفسير مجمع البيان 9: 222.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما حفظت الأخوة بمثل المواساة»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «يحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل، والتعاون على التعاطف، والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم اللّه عزّ وجلّ: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(2) مراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم، على ما مضى عليه معشر الأنصار، على عهد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)»(3).

ص: 222


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 690.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- الكافي 2: 175.

السعي نحو مجتمع إسلامي

الأمم وما تكتسبه

اشارة

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ}(1).

كل أمة رهينة بأعمالها، ولا تُؤخذ أمة بأمة أخرى، نعم على كل أمة أن تعتبر من سائر الأمم وتستفيد من تجاربها.

وهذه الآية الكريمة تبين لأمة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قاعدة مهمة في الحياة، وهي أن الأمم مرهونة بأعمالها في تقدمها أو تأخرها، فالمهم عمل كل أمة بنفسها، ولا يمكن - عادة - لأمة أن تتطور بأعمال الأمم الأخرى أو تتأخر بها، لأن الأمم السابقة قد ذهبت وفنت... .

{تِلْكَ} أي: إبراهيم(عليه السلام) وأولاده {أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أي: ذهبت ومضت {لَهَا مَا كَسَبَتْ} فإن أعمالها ترتبط بها لا بكم {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} فإن أعمالكم ترتبط بكم لا بهم(2).

وهكذا تكون كل أمة مسؤولة عن نفسها، إليها يرجع ما عملته وما كسبته من برّ وخير، وعليها يعود ما اقترفته وما جنته من ظلم وشر.

ص: 223


1- سورة البقرة، الآية: 134.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 1: 182.

ومن المعلوم: أن الأمة تتشكل من الأفراد، وإذا أردنا الحصول على مجتمعإسلامي صالح وأمة مؤمنة متقدمة، فعلينا بإصلاح الفرد أولاً، فإن الأمم تُقاس بشخصياتها العلمية وكذلك السياسية، وهكذا الاقتصادية والاجتماعية منهم، مضافاً إلى سائر الأفراد، كل بحسبه، فإنهم الذين يعكسون قيمة الأمة بما يعلمونه ويعملونه ويكسبونه، أو ما يجنونه ويقترفونه، ويصبغون بتلك الصبغة ظاهرة الأمة، فتتميز الأمة بذلك العنوان.

وعليه: فإذا كان أفراد أمة يعيشون عيشة هادفة، ويسعون في بناء مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، تقدم أولئك الأفراد وتقدمت الأمة بهم، وهذا هو ما يدعو إليه الإسلام ويحثّ عليه، فالإسلام يريد للفرد وللأمة وللمجتمع أن يكون مسلماً صالحاً بتمام معنى الكلمة:

مسلماً للّه تعالى، مسلماً لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، مسلماً لأهل بيت الرسول(عليهم السلام)، مسلماً مع نفسه وأسرته، ومجتمعه وأمته، مسلماً في عمله ونشاطه، وأمله وطموحه، ومسلماً في جميع أموره وأحواله، ومسلماً في سيرته وحياته بجميع تفاصيلها. وقد نبغ في هذا المجال أفراد كثيرون فتقدموا وتقدم مجتمعهم وتقدمت أمتهم.

من هو المسلم؟

إذا عرفنا أن قوام المجتمع الإسلامي هو الفرد المسلم، علينا أن نعرف خصوصيات المسلم، وكيف يكون الإنسان مسلماً حقيقياً صالحاً، فيصلح المجتمع بصلاحه؟

إن المسلم معروف وموصوف في الآيات الكريمة وكلمات النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام)... .

فهو: كما قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «المسلم من سلم المسلمون من لسانه

ص: 224

ويده»(1).

وهو: «أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه».(2)

و: «المسلم مرآة لأخيه»(3).

وهو: «... لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه»(4).

والإسلام الذي يتصف به المسلم هو كما قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «... الإسلام عريان، ولباسه التقوى، وشعاره الهدى، ودثاره الحياء، وملاكه الورع، وكماله الدين، وثمرته العمل الصالح، ولكل شيء أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(5).

أما المسلمون كجماعة ومجتمع، فصفاتهم وسماتهم كما قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم):

«... إخوة تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»(6).

وهم: «مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى...»(7).

وكما قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ينبغي للمسلمين أن ينصح بعضهم بعضاً، ويرحم بعضهم

ص: 225


1- المحاسن 1: 285.
2- كشف الريبة: 79.
3- من لايحضره الفقيه 4: 378.
4- الكافي 2: 166.
5- تحف العقول: 52.
6- الخصال 1: 150.
7- الاختصاص: 341.

بعضاً، فإنما هم كمثل العضو من الجسد إذا اشتكى تداعى الجسد بالسهر»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2).

وكما وصف الإسلام والمسلمين أمير المؤمنين(عليه السلام) وبين شروطهما حيث قال: «أفضل المسلمين إسلاماً من كان همّه لأخراه، واعتدل خوفه ورجاه»(3).

وقال(عليه السلام): «أحسن الناس ذماماً أحسنهم إسلاماً»(4).

وقال(عليه السلام): «قواعد الإسلام سبعة: فأولها العقل وعليه بُني الصبر، والثاني: صون العرض وصدق اللّهجة، والثالثة: تلاوة القرآن على جهته، والرابعة: الحب في اللّه والبغض في اللّه، والخامسة: حق آل محمد(عليهم السلام) ومعرفة ولايتهم، والسادسة: حق الإخوان والمحاماة عليهم، والسابعة: مجاورة الناس بالحسنى...»(5).

وقال(عليه السلام): «جانبوا الخيانة، فإنها مجانبة الإسلام»(6).

وقال(عليه السلام): «من أعان على مسلم فقد برئ من الإسلام»(7).

إلى غيرها مما ورد في صفة المسلم والمسلمين، سلباً وإيجاباً، وجوداً وعدماً.

وهكذا يمكن للفرد المسلم أن يكون صالحاً، ويتم بذلك السعي نحو مجتمع

ص: 226


1- أعلام الدين: 275.
2- الكافي 2: 164.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 210.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 195.
5- تحف العقول: 196.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 337.
7- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 456.

إسلامي راق.

نماذج من القادة الصالحين
اشارة

نبغت في الأمة الإسلامية شخصيات كبيرة وبرزت قادة صالحون تركوا من الآثار الطيبة التي ظلت تفتخر بها الأجيال بعد مئات السنين، وقد سعوا نحو مجتمع صالح إسلامي، بعد ما تربوا في كنف الإسلام وفي ظل تعاليمه الراقية، في مدرسة النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الكرام(عليهم السلام).

وهؤلاء رجال أبطال وشخصيات فذة، بذلوا أعمارهم، وصرفوا طاقاتهم، من أجل بناء مجتمع إسلامي متقدم، وأمة أسلامية صالحة مزدهرة، وسيبقى ذكرهم على مرّ الدهور والأعصار، ومن جملة أولئك الرجال:

الشيخ الكليني(رحمه الله)

الشيخ محمد بن يعقوب المعروف بالشيخ الكليني(رحمه الله) صاحب كتاب (أصول الكافي وفروعه)، وقد صرف على هذا الكتاب القيم الذي هو حصيلة عمره وأصبح يُعرف به، عشرين سنة. ويحتوي الكتاب على مجموعة كبيرة من الروايات الشريفة في أصول الدين وفروعه، مروية عن الأئمة المعصومين(عليهم السلام). وقد كتبه الكليني(رحمه الله) بعد أن جاب المدن والقرى وتقلب في أرجاء العالم الإسلامي، والتقى برواة الحديث وأخذ منهم، كما التقى أيضاً بالنواب الخاصين للإمام الحجة المنتظر عجل اللّه تعالی فرجه الشريف. فكان الكتاب الذي ضم بين دفتيه الكثير من العلوم والمعارف الإسلامية المروية عن أهل البيت(عليهم السلام).

الشيخ الصدوق(رحمه الله)

ومن جملة أولئك الرجال الصالحين، الذين صلحوا وأصلحوا المجتمع: الشيخ محمد بن علي بن بايويه القمي(رحمه الله)، المعروف بالشيخ الصدوق، صاحبالكتب الكثيرة، وفي طليعتها: كتاب (من لايحضره الفقيه) فكان حصيلة عمره

ص: 227

أكثر من ثلاثمائة كتاب قدمها خدمة للمجتمع الإسلامي وإصلاحه، وساهمت تلك الكتب القيمة في تقدم الأمة الأسلامية وازدهارها مادياً ومعنوياً، وقد ورد في المأثور ما يشير إلى ذلك حيث روي عن الأئمة(عليهم السلام): «لولا القميون لضاع الدين»(1).

وقد ذكر العلماء لهذا الشيخ الجليل كرامات عديدة، من جملة كراماته: أنه ظهر في مرقده الشريف الواقع في رباع مدينة الري ثلمة وانشقاق من طغيان المطر، فلما فتشوها وتتبعوها بقصد إصلاح ذلك الموضع بلغوا إلى سردابة فيها مدفنه الشريف، فلما دخلوها وجدوا جثته الشريفة هناك مسجاة عارية غير بادية العورة، جسيمة وسيمة، على أظفارها أثر الخضاب، وفي أطرافها أشباه الفتائل من أخياط كفنه البالية على وجه التراب، فشاع هذا الخبر في مدينة طهران إلى أن وصل إلى سمع السلطان فتح علي القاجاري(2)، فحضر السلطان هناك بنفسه، وأرسل جماعة من أعيان البلدة وعلمائهم إلى داخل تلك السردابة فأخبروه بأجمعهم بهذه الكرامة، إلى أن انتهى الأمر عنده من كثرة من دخل وأخبر إلى مرحلة عين اليقين، فأمر بسد تلك الثلمة وتجديد عمارة تلك البقعة وتزيين الروضة بأحسن التزيين.

ونقل عن أحد المؤمنين أنه قال: خرجت في بعض الأيام السابقة قاصداً زيارة مرقد الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي(رحمه الله). فلما حضرت عند مرقده الشريف رأيت عملة مشتغلين بحفر الأرض لتأسيس أساس البناء الجديدعليه لاندراس البناء القديم، فبينما كنت أترحم له وأنظر إليهم؛ إذ ظهر جسده

ص: 228


1- بحار الأنوار 57: 217.
2- هو فتح علي شاه بن حسين قلي خان القاجار، تولى الملك رسمياً سنة (1212ه) بعد مقتل محمد خان.

الطيب الطاهر في فجوة من قبره مكشوفاً وجهه إلى صدره، فنظرنا إليه فوجدناه متلئلئاً رطباً طرياً، في لحيته الشريفة أثر الخضاب كأنما دُفن من حين، فعجبنا كل العجب، وأقبل الحاضرون بالسلام والصلاة عليه، وأمر المتصدي لإقامة البناء وهو أحد العلماء والسادات بسد القبر وتأسيس أساس البناء، فتفرقنا معتقدين بعظم شأن الصدوق وجلالة مقامه ومنزلته عند اللّه تعالى.

الشيخ الطوسي(رحمه الله)

ومن جملة أولئك الرجال العظماء: الشيخ محمد بن الحسن الطوسي(رحمه الله) المعروف بشيخ الطائفة، صاحب كتابي: (تهذيب الأحكام) الشهير باسم (التهذيب) و(الاستبصار فيما اختلف من الأخبار) الشهير ب(الاستبصار) وغيرهما من الكتب الكثيرة والمفيدة، حيث كانت تلك الكتب وفي مقدمتها: (التهذيب) و(الاستبصار)، حصيلة عمره الذي صرفه من أجل تقدم المجتمع الأسلامي وإصلاحه، وازدهار الأمة الأسلامية، وكانت بالفعل كذلك.

الشيخ الأنصاري (رحمه الله)

ومن جملة أولئك الرجال: الشيخ مرتضى(رحمه الله) المعروف بالشيخ الأنصاري، صاحب كتابي: (المكاسب) في الفقه، و(فرائد الأصول) المشهور ب(الرسائل)، وهذان الكتابان من أهم آثاره الشريفة التي خدم بهما الجامعات العلمية والكليات الفقهية والأصولية في العالم الإسلامي، وهما حصيلة عمره الذي استنفده في سبيل اللّه تعالى لإنارة المجتمع الأسلامي، وتقدّم الأمة الأسلامية، ولذلك صار يعرف بهما. وعلى الرغم من المكانة السامية التي وصل إليها في المرجعية العامة، إلّا أنه عاش مواسياً الفقراء، حريصاً على مساعدة المعوزين والمساكين من كل ما يصلهمن الحقوق الشرعية، وكان(رحمه الله) قمة في التقوى والأخلاق والفضائل والكمالات، لا يحب الظهور والمباهاة، باذلاً وسعه في تحصيل الكمالات الروحية. فكان من أبرز

ص: 229

صفاته الزهد والورع والتواضع إلى أقصى حد.

وقد نُقل عن الشيخ الأنصاري(رحمه الله) أنه كان يقول: ثلاثة أشياء ينبغي للإنسان وخاصّة رجال الدين الاهتمام بها؛ وذلك بأن يأخذ أولها ولو كان في ابتداء الأمر غير جامع للشرائط، وأن يترك ثانيها ولو كان جامعاً للشرائط، وأن يأخذ بثالثها إذا كان جامعاً للشرائط ويتركه إذا كان فاقداً للشرائط.

أمّا الأوّل: فهو العلم، فإنّه ينبغي للإنسان أن يطلب العلم ويتعلّمه ولو لم يكن في أول الأمر قصده اللّه تعالى والتقرّب إليه؛ وذلك لأنّ العلم بالأخرة يجرّه إلى اللّه تعالى.

وأمّا الثاني: فهو القضاء بين الناس، فإنّ القاضي مشكل أمره وإن كان عدلاً فقيهاً، لأنّه كثيراً ما يُجر الإنسان إلى الحكم بخلاف الحقّ من دون علمه واختياره.

وأمّا الثالث: فهو إمامة صلاة الجماعة، فإن كان عادلاً أقدم عليها، وإلّا تركها.

وبهذا الكلام المتين قد أشار الشيخ الأنصاري(رحمه الله) إلى خطورة منصب القضاء، ولزوم أن يحتاط القاضي في الحكم أشدّ الإحتياط.

حصيلة عمر العظماء

لقد كان - كما ذكرنا - حصيلة عمر الشيخ الكليني(رحمه الله): كتاب (الكافي) بأصوله وفروعه، وكان حصيلة عمر الشيخ الصدوق(رحمه الله): كتاب (من لا يحضره الفقيه) وسائر مؤلفاته القيمة، وكان حصيلة عمر الشيخ الطوسي(رحمه الله): كتابي (التهذيب) و(الاستبصار) وغيرهما من المؤلفات، وكان حصيلة عمر الشيخ الأنصاري(رحمه الله): كتابي (المكاسب) و(فرائد الأصول) المعروف بالرسائل وغيرهما من المصنفاتالمفيدة، هذا مضافاً إلى دورهم في إصلاح المجتمع الإسلامي وتطويره.

وهكذا كان حصيلة عمر أصحاب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) المؤمنين وأصحاب أمير

ص: 230

المؤمنين(عليه السلام)، من أمثال: سلمان، وأبي ذر، وعمار، والمقداد (رضوان اللّه عليهم) فقاموا بترسيخ سيرة الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وسيرة أمير المؤمنين علي(عليه السلام) التي كانت امتداداً لسيرة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) في المجتمع الإسلامي والأمة الأسلامية، مقابل حصيلة عمر الآخرين في الجانب المقابل من المنافقين وغاصبي حق الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وخلافته وحق السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) وحق ابنيها: الحسن والحسين(عليهما السلام) من: تهميش سيرة الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وسيرة أهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) وإعادة سيرة الجاهليين من: ظلم وجور وخوف وقتل، وعنف وإرهاب، في المجتمع الإسلامي، والأمة الأسلامية، كما نرى آثار تلك الجاهلية قد امتدت إلى بعض المجتمعات الإسلامية حتى يومنا هذا.

فالقادة الصالحون يسعون دائماً لإصلاح المجتمع.

وعلى العكس أعداؤهم، فإنهم يسعون لإفساد المجتمع كما أفسد بنو أمية وبنو العباس... .

ما هو المطلوب منا؟

إن المطلوب منا - فرداً فرداً - أن نسعى في سبيل إصلاح المجتمع، بجميع ما بوسعنا، وبكل ما في جهدنا، على أن نجعل من مجموع عمرنا حصيلة نافعة وثمرة يانعة نخدم عبرها مجتمعنا الإسلامي وأمتنا الإسلامية، وستبقى هذه الثمرة إن قصدنا القربة للّه عزّ وجلّ، وسيكون الإنسان بذلك مصداقاً للقول المعروف: «عاش سعيداً ومات حميداً»(1).

ص: 231


1- جاء في باب أحوال سفراء الإمام الحجة(عليه السلام)، عن عبد اللّه بن جعفر قال: خرج التوقيع إلى الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري في التعزية بأبيه رضي اللّه عنهما في فصل من الكتاب: «{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ} تسليماً لأمره ورضاءً بقضائه، عاش أبوك سعيداً ومات حميداً، فرحمه اللّه وألحقه بأوليائه ومواليه(عليهم السلام)». كمال الدين وتمام النعمة 2: 510.

ويلزم على الإنسان الذي يريد السعي نحو مجتمع صالح، أن لايقتصر همّه على تأمين احتياجاته الفردية والمادية: من تحسين حياته الشخصية وتوفير الراحة لها فقط، بل يجعل جهده وهمّه ينصب في رفع مستواه العلمي والمعنوي والثقافي والأخلاقي، الداعي إلى خدمة المجتمع الإسلامي، والهادف نفع الأمة الإسلامية، وطبعاً كل بحسب مجاله العملي، وظروفه الخاصة به، فالحوزوي والجامعي يقدّم خدمات علمية وثقافية، والتاجر والكاسب ومن أشبه يقدّم خدمات اقتصادية واجتماعية، مثل: تأسيس مؤسسات وهيئات ولجان خيرية تقوم بخدمة المجتمع الإسلامي، ونفع الأمة الإسلامية، من توفير الخير والرفاه لهم، والتقدم والإزدهار. فإن هذا العصر الذي نعيش فيه الآن هو عصر السرعة والتقدم، وعصر النموّ والازدهار المادي، وهو يمضي نحو الأمام بسرعة الضوء وكالبرق الخاطف، وفرصة العمر في هذا العصر فرصة قيّمة وثمينة، لا بدّ من اغتنامها واستغلالها، واستثمارها بالكيفية المطلوبة، والاستفادة منها بالشكل الصحيح، وذلك قبل فوات الأوان.

فعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «إن الفرص تمر مرّ السحاب فانتهزوها إذا أمكنت في أبواب الخير وإلّا عادت ندماً»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «ماضي يومك فائت، وآتيه متَّهم، ووقتك مغتنم، فبادر فيهفرصة الإمكان، وإياك أن تثق بالزمان»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «الفرصة سريعة الفوت وبطيئة العود»(3).

ص: 232


1- غرر الحكم ودررالكلم: 238.
2- غرر الحكم ودررالكلم: 710.
3- غرر الحكم ودررالكلم: 113.

وقال(عليه السلام) أيضاً وهو يوصي ابنه الإمام الحسن(عليه السلام): «اعلم يا بني، أن من كانت مطيته الليل والنهار فإنه يُسار به وإن كان واقفاً»(1).

وفي هذا إشارة إلى أن الدنيا هي دائماً في حالة السير والحركة، سيراً حثيثاً، وبسرعة فائقة كسرعة الضوء والبرق.

وعليه: فإذا تماهل الإنسان في اغتنام فرصة العمر وتكاسل عن العمل وخدمة المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية في مدة الحياة، فسوف لن يشعر إلّا وقد انقضى عمره، وانتهى أمده، وأتاه الناعي ينعى إليه نفسه، ويأذنه بالارتحال إلى دار الآخرة، التي هي دار الجزاء والحساب، وليست دار الأمل والعمل، وهناك سوف يأسف الإنسان على فواتِ فرصة العمر الثمينة، وانتهاء أمدها الثمين، كما نبهنا على ذلك القرآن الكريم بقوله سبحانه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}(2)، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنذَرْنَٰكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَٰبَا}(3).

فإن اللّه سبحانه وتعالى، حذّر الإنسان وأنذره يوماً يرى فيه جزاء ما قدّمه من عمل، فإن كان قد قدم الطاعة للّه تعالى، والخدمة للمجتمع الإسلامي والإمةالإسلامية، فالجنة والغفران، وإن كان قد قصّر ولم يؤدّ طاعة ولا خدمة، بل قدّم عصياناً وضرراً للآخرين فالعذاب والنار - والعياذ باللّه - ، وحينئذ يأسف الإنسان في ذلك اليوم، على ما فوّت على نفسه من فرصة العمر في الدنيا، ويندم ندماً شديداً على ذلك، ويتمنى أن لو كان تراباً حتى لا يُعاد ولا يحاسب ليتخلص من

ص: 233


1- نهج البلاغة، الرسائل الرقم: 31 من وصية له للإمام الحسن(عليهما السلام).
2- سورة ق، الآية: 19.
3- سورة النبأ، الآية: 40.

عذاب ذلك اليوم ومن النار، ولكن لا يفيده الأسف والندم، كما لا يثمر في حقه التمنّي والترجّي، ويكون مصداقاً من مصاديق الآية الكريمة: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(1).

العوالم التي نمر بها

اشارة

كل واحد من بني الإنسان منذ بدء وجوده، وإلى أن يضع قدميه في المحشر يوم البعث والنشور، يمرّ بعوالم عديدة طولية، منها ما يلي:

1- عالم الذر.

2- عالم الأرحام.

3- عالم الدنيا.

4- عالم البرزخ.

5- عالم الآخرة.

وربما تكون هناك عوالم أخرى.

1- عالم الذر

أولاً: عالم الذر، ولعله يسمى: عالم الأصلاب أيضاً، وقد يكون هو أول العوالم الذي يمرّ الإنسان به، وهو فيه على صورة الذر، ويكون مستقراً في صلبأبي البشر آدم(عليه السلام) وذلك كما قال اللّه تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ}(2)، وجاء في تفسير هذه الآية الكريمة قولان:

ص: 234


1- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
2- سورة الأعراف، الآية: 172.

الأول: ما روي أنه أخرج اللّه من ظهر آدم(عليه السلام) ذريته كالذّرّ يوم القيامة فخرجوا مثل الذر، فعرّفهم نفسه وأراهم صنعه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه فثبتت المعرفة ونسوا الموقف.

الثاني: إن الآية جارية مجرى الكلام العرفي البلاغي على طريقة التمثيل.

ومن المعلوم أن القول الأول لا مانع فيه إطلاقاً، فإن اللّه قادر على كل شيء {وَ} اذكر يا رسول اللّه {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ} أي أخرج من بني آدم {مِن ظُهُورِهِمْ} بدل من (من بني آدم) أي: أخرج من أصلاب الرجال {ذُرِّيَّتَهُمْ} أولادهم وذراريهم {وَ} بعدما أخرجهم وأكملهم {أَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} أي: جعلهم شهداء على أنفسهم، فإن من اعترف بشيء كان شهيداً على نفسه، قائلاً لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} على نحو الاستفهام التقريري، وقد كان ذلك بلسان الأنبياء(عليهم السلام)، كما في كثير من الآيات، مثل: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ} (1)، والمراد: القول لهم على لسان موسى(عليه السلام) {قَالُواْ بَلَىٰ} أنت ربنا. وهذا اعتراف بالفطرة، فإن الفطرة أذعنت بذلك، كما قال الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم): «كل مولود يولد على الفطرة إلّا أن أبويه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه». ومن قبيل ذلك {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}(2)، و: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}(3)، و: {إِنَّمَاقَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(4)، وأشباه ذلك مما هو كثير في القرآن، وهو نوع من البلاغة، كقول الشاعر:

ص: 235


1- سورة الإسراء، الآية: 104.
2- سورة الأحزاب، الآية: 72.
3- سورة فصلت، الآية: 11.
4- سورة النحل، الآية: 40.

أيا جبلي نعمان باللّه خليا...

وقوله: أيا شجر الخابور ما لك مورقاً

وقوله(عليه السلام):

«قال الحبيب وكيف لي بجوابكم *** وأنا رهين جنادل وتراب»

فإن الغالب أن يصوغ البليغ الكلام في قالب جذاب لبيان المراد.

{شَهِدْنَا} فالغرض من الآية: أن الفطرة تشهد على توحيد اللّه سبحانه بما أودع فيها من درك الحقيقة وفهم الواقع. وإنما أودعنا في الفطرة هذه الشهادة ل{أَن} لا {تَقُولُواْ} أيها البشر {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} حين يُعاتب المشرك على شركه، والجاحد على جحوده: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا} الأمر وهو التوحيد {غَٰفِلِينَ} فقد أودعنا فيكم ما يزيل غفلتكم.

لا يقال: فعل هذا يلزم صحة العقاب حتى بالنسبة إلى من لم تبلغه الدعوة؟

لأنه يقال: هو كذلك، إلّا أن اللّه سبحانه بلطفه لا يعذب حتى يُتمّ الحجة الظاهرة، كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(1)، وهذا التفسير للآية الكريمة، إنما هو القول الثاني الذي يأخذ بالظاهر مع غض النظر عن أخبار (عالم الذر) والذي يتصور أنه لا مانع من الجمع بين الأمرين، ودلالة الآيةعليهما، فإنه لم يدل دليل على امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل الذي يظهر في بعض الروايات أن بعض الآيات القرآنية تدل على أكثر من معنيين سواء كان المعنيان من باب المصداق أو لا، كما أن في الآيات السابقة {إِنَّا عَرَضْنَا...} يمكن الأمران، وكان الظاهر اللفظي البلاغي يؤكد كون الألفاظ

ص: 236


1- سورة الإسراء، الآية: 15.

مسوقة للمعنى العرفي، لا الخارجي، واللّه أعلم...(1).

هذا وقد جاء في روايات كثيرة ما معناه: إن اللّه تعالى خلق الإنسان قبل أن يأتي إلى هذه الدنيا في صورة الذر، وفي عالَم يسمى ب(عالم الذر)، وفي ذلك العالم قد بيّن اللّه تعالى للإنسان طريق الحق وطريق الضلال، وأودع في فطرته التوحيد والمعرفة، وأخذ منه الميثاق على أن يعبد اللّه ولا يشرك به شيئاً، وضمن اللّه تعالى له رزقه.

روي عن الامام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه عزّ وجلّ لما أخرج ذرية آدم(عليه السلام) من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له، وبالنبوة لكل نبي، فكان أول من أخذ له عليهم الميثاق بنبوته محمد بن عبد اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال اللّه عزّ وجلّ لآدم: انظر ماذا ترى؟ قال: فنظر آدم(عليه السلام) إلى ذريته وهم ذر، قد ملئوا السماء. قال آدم(عليه السلام): يا رب، ما أكثر ذريتي، ولأمر ما خلقتهم، فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم؟ قال اللّه عزّ وجلّ: يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ويؤمنون برسلي ويتبعونهم.

قال آدم(عليه السلام): يا رب، فما لي أرى بعض الذر أعظم من بعض، وبعضهم له نور كثير، وبعضهم له نور قليل، وبعضهم ليس له نور؟!

فقال اللّه عزّ وجلّ: كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم. قال آدم(عليه السلام): يارب، فتأذن لي في الكلام، فأتكلم؟ قال اللّه عزّ وجلّ: تكلّم، فإن روحك من روحي(2)، وطبيعتك من خلاف كينونتي. قال آدم: يا رب، فلو كنت خلقتهم على مثال واحد وقدر واحد وطبيعة واحدة وجبلّة واحدة وألوان واحدة وأعمار واحدة وأرزاق سواء، لم يبغ بعضهم على بعض، ولم يكن بينهم تحاسد، ولا تباغض،

ص: 237


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 2: 267.
2- أي من روح خلقتُه.

ولا اختلاف في شي ء من الأشياء؟!

قال اللّه عزّ وجلّ: يا آدم، بروحي نطقت، وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به، وأنا الخالق العالم بعلمي، خالفت بين خلقهم وبمشيئتي يمضي فيهم أمري، وإلى تدبيري وتقديري صائرون، لا تبديل لخلقي، إنما خلقت الجن والإنس ليعبدون، وخلقت الجنة لمن أطاعني وعبدني منهم واتبع رسلي ولا أبالي، وخلقت النار لمن كفر بي وعصاني ولم يتبع رسلي ولا أبالي، وخلقتك وخلقت ذريتك من غير فاقة بي إليك وإليهم، وإنما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أيكم أحسن عملاً في دار الدنيا في حياتكم وقبل مماتكم؛ فلذلك خلقت الدنيا والآخرة، والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنة والنار، وكذلك أردت في تقديري وتدبيري وبعلمي النافذ فيهم، خالفت بين صورهم وأجسامهم وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم، فجعلت منهم الشقي والسعيد والبصير والأعمى والقصير والطويل والجميل والدميم والعالم والجاهل والغني والفقير والمطيع والعاصي والصحيح والسقيم ومن به الزَّمانة(1) ومن لا عاهة به؛ فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته، وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه ويصبر على بلائي فأثيبه جزيلعطائي، وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني، وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني، وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته، فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السراء والضراء، وفيما أعافيهم وفيما أبتليهم وفيما أعطيهم وفيما أمنعهم، وأنا اللّه الملك القادر، ولي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت، ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت، وأقدم من ذلك ما أخرت

ص: 238


1- الزَّمانة: العاهة.

وأؤخر من ذلك ما قدمت، وأنا اللّه الفعال لما أريد لا اُسأل عما أفعل، وأنا أسأل خلقي عما هم فاعلون».(1)

ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

«كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه».(2)

2- عالم الأرحام
اشارة

ثانياً: عالم الأرحام، وهو العالم الثاني الذي ينتقل الإنسان إليه ويبدأ بالنطفة، ثم العلق

ة، ثم المضغة، وهكذا حتى يكمل الجنين وتنتهي فترة الحمل، فينتهي عالم الرحم، ويتهيأ للخروج والانتقال إلى العالم الثالث وهو عالم الدنيا، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى}(4).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ * ثُمَّ جَعَلْنَٰهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٖمَّكِينٖ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا الْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(5).

تأثير العوالم وتأثرها

وفي هذا العالم الثاني، وكذلك العالم الأول يتأثر الإنسان كثيراً بصفات الوالدين وأخلاقهما من باب المقتضي لا العلة التامة، ومن هنا لا يرفع ذلك

ص: 239


1- الكافي 2: 8.
2- بحار الأنوار 58: 187.
3- سورة آل عمران، الآية: 6.
4- سورة الحج، الآية: 5.
5- سورة المؤمنون، الآية: 12- 14.

اختيار الإنسان وحريته.

لذلك يوصي الإسلام الوالدين وخاصة الأم وخلال فترة الحمل برعاية الأحكام الشرعية، والمسائل الأخلاقية، والابتعاد عن كل ما هو خلاف الشرع وخلاف الأخلاق، بل وعن جميع ما يؤدي إلى الاضطراب والقلق، حتى ينشأ الجنين في فترة الحمل سالماً من حيث الروح والجسد، وينتقل إلى عالم الدنيا بجسم سالم وروح سالمة.

وفي الحديث الشريف ما يشير إلى ذلك، قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «السعيد من سعد في بطن أمه»(1)، لذا فبقدر ما يكون الوالدان متقيدين بالأخلاق والآداب الأسلامية، ومراعيين للأحكام والمسائل الشرعية، يكون الجنين في نسبة كبرى من العافية والهداية، وقدر أكبر من السلامة والسعادة، وكذلك يكون بعد انتهاء فترة الحمل وانتقاله إنساناً سوياً إلى الدنيا.

وقد ورد في زيارة الامام الحسين(عليه السلام) في الزيارة المعروفة بزيارة وارث: «... أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهّرة، لم تُنجسكالجاهلية بأنجاسها، ولم تُلبسك من مدلهمات ثيابها...»(2).

يعني: إن الامام الحسين(عليه السلام) كبقية أهل البيت(عليهم السلام) وهم المعصومون الأربعة عشر، لم يزل نورهم ينتقل من صلب أبيهم آدم(عليه السلام) عبر الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، أي: المطهرة من دنس الشرك، ومن رذائل الصفات وسوء الأخلاق، فلم تجد في آبائهم وآمهاتهم إلّا المؤمنين الموحدين، والطاهرين المطهّرين.

ص: 240


1- الزهد: 14.
2- مصباح المتهجد 2: 721.

ولا يخفى ما لهذه العوالم من التأثير على الإنسان في صلاحه وإصلاحه للمجتمع.

وصايا وآداب عن الأئمة(عليهم السلام)

روي في كتاب: مكارم الأخلاق عن أبي سعيد الخدري قال: أوصى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: «يا علي إذا أدخلت العروس بيتك فاخلع خفها حين تجلس واغسل رجليها وصب الماء من باب دارك إلى أقصى دارك، فإنك إذا فعلت ذلك أخرج اللّه من دارك سبعين ألف لون من الفقر، وأدخل فيها سبعين ألف لون من الغنى، وسبعين لوناً من البركة، وأنزل عليك سبعين رحمة ترفرف على رأس عروسك حتى تنال بركتها كل زاوية في بيتك، وتأمن العروس من الجنون والجذام والبرص أن يصيبها ما دامت في تلك الدار، وامنع العروس في أسبوعها من الألبان والخل والكزبرة والتفاح الحامض من هذه الأربعة الأشياء» فقال علي(عليه السلام): «يا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ولأي شي ء أمنعها هذه الأشياء الأربعة؟».

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «لأن الرحم تعقم وتبرد من هذه الأربعة الأشياء عن الولد، والحصير في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد». فقال علي(عليه السلام): «يا رسول اللّه، ما بال الخل تمنع منه؟». قال: «إذا حاضت على الخل لم تطهرطهراً أبداً بتمام، والكزبرة تثير الحيض في بطنها وتشد عليها الولادة، والتفاح الحامض يقطع حيضها، فيصير داء عليها» ثم قال: «يا علي لا تجامع امرأتك في أول الشهر ووسطه وآخره؛ فإن الجنون والجذام والخبل يسرع إليها وإلى ولدها. يا علي لا تجامع امرأتك بعد الظهر؛ فإنه إن قضي بينكما ولد في ذلك الوقت يكون أحول، والشيطان يفرح بالحول في الإنسان. يا علي لا تتكلم عند الجماع فإنه إن قضي

ص: 241

بينكما ولد لا يؤمن أن يكون أخرس، ولا ينظرن أحد في فرج امرأته، وليغض بصره عند الجماع؛ فإن النظر إلى الفرج يورث العمى - يعني في الولد - يا علي لا تجامع امرأتك بشهوة امرأة غيرك؛ فإني أخشى إن قضي بينكما ولد أن يكون مخنثاً مؤنثاً مخبلاً. يا علي من كان جُنُبا في الفراش مع امرأته فلا يقرأ القرآن، فإني أخشى عليهما أن تنزل نار من السماء فتحرقهما. يا علي لا تجامع امرأتك إلّا ومعك خرقة ومع أهلك خرقة، ولا تمسحا بخرقة واحدة فتقع الشهوة على الشهوة، فإن ذلك يعقب العداوة بينكما، ثم يؤديكما إلى الفرقة والطلاق.

يا علي لا تجامع امرأتك من قيام فإن ذلك من فعل الحمير، وإن قضي بينكما ولد كان بوّالا في الفراش، كالحمير البوالة تبول في كل مكان. يا علي لا تجامع امرأتك في ليلة الفطر فإنه إن قضي بينكما ولد لم يكن ذلك الولد إلّا كثير الشر.

يا علي لا تجامع امرأتك في ليلة الأضحى؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون ذا ستة أصابع أو أربعة. يا علي لا تجامع امرأتك تحت شجرة مثمرة؛ فإنه إن قضيبينكما ولد يكون جلاداً أو قتالاً أو عريفاً(1). يا علي لا تجامع امرأتك في وجه الشمس وشعاعها إلّا أن يرخى ستر فيستركما؛ فإنه إن قضي بينكما ولد لا يزال في بؤس وفقر حتى يموت. يا علي لا تجامع امرأتك بين الأذان والإقامة؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون حريصاً على إهراق الدماء. يا علي إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلّا وأنت على وضوء؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون أعمى القلب بخيل اليد. يا علي لا تجامع أهلك في ليلة النصف من شعبان، فإنه إن قضي بينكما ولد يكون مشوهاً ذا شامة في شعره ووجهه.

يا علي لا تجامع أهلك في آخر الشهر إذا بقي منه يومان؛ فإنه إن قضي بينكما

ص: 242


1- العَريف: الكاهن.

ولد يكون عشاراً أو عوناً للظالم، ويكون هلاك فئام من الناس على يديه. يا علي لا تجامع أهلك على سقوف البنيان؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون منافقاً مرائياً مبتدعاً. يا علي إذا خرجت في سفر فلا تجامع أهلك تلك الليلة، فإنه إن قضي بينكما ولد ينفق ماله في غير حق، وقرأ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَٰنَ الشَّيَٰطِينِ}(1). يا علي لا تجامع أهلك إذا خرجت إلى سفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن، فإنه إن قضي بينكما ولد يكون عوناً لكل ظالم. يا علي وعليك بالجماع ليلة الإثنين؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون حافظاً لكتاب اللّه راضياً بما قسم اللّه عزّ وجلّ له. يا علي إن جامعت أهلك في ليلة الثلاثاء فقضي بينكما ولد فإنه يرزق الشهادة بعد شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، ولا يعذبه اللّه مع المشركين، ويكون طيب النكهة من الفم، رحيم القلب، سخي اليد، طاهر اللسان من الغيبة والكذب والبهتان. يا علي وإن جامعت أهلك ليلة الخميس فقضي بينكما ولد يكون حاكماً من الحكام، أو عالماً من العلماء. يا علي وإن جامعتها يوم الخميس عند زوال الشمس عن كبد السماء فقضي بينكما ولد فإن الشيطان لا يقربه حتى يشيب، ويكون فهماً، ويرزقه اللّه عزّ وجلّ السلامة في الدين والدنيا. يا علي وإن جامعتها ليلة الجمعة وكان بينكما ولد فإنه يكون خطيباً قوالاً مفوهاً، وإن جامعتها يوم الجمعة بعد العصر فقضي بينكما ولد، فإنه يكون معروفاً مشهوراً عالماً. وإن جامعتها في ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة، فإنه يرتجى أن يكون لك ولد من الأبدال، إن شاء اللّه تعالى. يا علي لا تجامع أهلك في أول ساعة من الليل؛ فإنه إن قضي بينكما ولد لا يؤمن أن يكون ساحراً مؤثراً للدنيا على الآخرة. يا علي، احفظ وصيتي هذه كما حفظتها عن أخي

ص: 243


1- سورة الإسراء، الآية: 27.

جبريل(عليه السلام)»(1).

ولا يخفى أن هذه الروايات تكون سبباً لصلاح الفرد حتى في خلقته، لكي يمكنه أن يكون صالحاً مصلحاً للمجتمع في كبره.

وروي عن الأئمة(عليهم السلام): «إذا قرب الزفاف يستحب أن تأمرها أن تصلي ركعتين استحباباً، وتكون على وضوء إذا ادخلت عليك، وتصلي أنت أيضاً مثل ذلك، وتحمد اللّه، وتصلّي على النبي وآله. وتقول: الّلهمّ ارزقني إلفها وودّها ورضاها، وأرضني بها، واجمع بيننا بأحسن اجتماع وأيسر ائتلاف، فإنّك تحب الحلال وتكره الحرام، وتقول إذا أردت المباشرة: اللّهمّ ارزقني ولداً واجعله تقيّاً ذكيّاً، ليس في خلقه زيادةٌ ولا نقصانٌ، واجعل عاقبته إلى خيرٍ، وتسمي اللّه عزّ وجلّ عند الجماع».(2)

وروي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إذا أردت الولد فقل عند الجماع: اللّهمّ ارزقني ولداً، واجعله تقيّاً، ليس في خلقه زيادةٌ ولا نقصانٌ، واجعل عاقبته إلى خيرٍ»(3).

وقال الامام الصادق(عليه السلام): «إذا كان بامرأة أحدكم حبل فأتى عليها أربعة أشهر، فليستقبل بها القبلة وليقرأ آية الكرسي، وليضرب على جنبها، وليقل: اللّهم إني قد سمّيتُهُ محمداً. فإنه يجعله غلاماً، فإن وفى بالاسم بارك اللّه له فيه، وإن رجع عن الاسم كان للّه فيه الخيار، إن شاء أخذه، وإن شاء تركه».(4)

وعن الحسن بن الجهم قال: سمعت الامام الرضا(عليه السلام): «قال أبو

ص: 244


1- مكارم الأخلاق: 209.
2- مكارم الأخلاق: 208.
3- الكافي 6: 10.
4- الكافي 6: 11.

جعفر - الامام الباقر(عليه السلام) - : إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً، ثم تصير علقةً أربعين يوماً، ثم تصير مضغةً أربعين يوماً، فإذا كمل أربعة أشهر بعث اللّه ملكين خلّاقين فيقولان: يا رب، ما تخلق ذكراً أو أنثى؟ فيؤمران، فيقولان: يا رب، شقياً أو سعيداً؟ فيؤمران، فيقولان: يا رب، ما أجله؟ وما رزقه؟ وكل شي ء من حاله، وعدّد من ذلك أشياء، ويكتبان الميثاق بين عينيه، فإذا أكمل اللّه له الأجل بعث اللّه ملكاً فزجر زجرةً فيخرج، وقد نسي الميثاق».

فقال الحسن بن الجهم: فقلت له: أ فيجوز أن يدعو اللّه فيحوِّل الأنثى ذكراً والذكر أنثى؟!

فقال: «إن اللّه يفعل ما يشاء»(1).

وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَاوَذُرِّيَّٰتِنَا}(2)، قال: نزلت هذه الآية واللّه خاصة في أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: كان أكثر دعائه يقول: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا}، يعني: فاطمة(عليها السلام) {وَذُرِّيَّٰتِنَا} الحسن والحسين(عليهما السلام) {قُرَّةَ أَعْيُنٖ} قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه، ما سألت ربي ولداً نضير الوجه، ولا ولداً حسن القامة؛ ولكن سألت ربي وُلداً مطيعين للّه، خائفين وجلين منه، حتى إذا نظرت إليه، وهو مطيع للّه، قرت به عيني» قال: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قال: «نقتدي بمن قبلنا من المتقين، فيقتدي المتقون بنا من بعدنا». وقال اللّه: {أُوْلَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ}(3) يعني: علي بن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة(عليهم السلام). {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَٰمًا * خَٰلِدِينَ فِيهَا

ص: 245


1- الكافي 6: 13.
2- سورة الفرقان، الآية: 74.
3- سورة الفرقان، الآية: 75.

حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}(1)(2).

وعن الحسين بن سعيد قال: كنت أنا وابن غيلان المدائني، دخلنا على أبي الحسن الرضا(عليه السلام) فقال له ابن غيلان: أصلحك اللّه، بلغني أنه من كان له حمل فنوى أن يسميه: محمداً وُلد له غلام؟ فقال(عليه السلام): «من كان له حمل فنوى أن يسميه علياً وُلد له غلام»، ثم قال: «علي محمد، ومحمد علي، شيئاً واحداً». قال: أصلحك اللّه، إني خلفت امرأتي وبها حبل، فادع اللّه أن يجعله غلاماً؟ فأطرق إلى الأرض طويلاً. ثم رفع رأسه فقال له: «سمّه علياً؛ فإنه أطول لعمره»، فدخلنا مكة فوافانا كتاب من المدائن أنه: قد وُلد له غلام(3).

3- عالم الدنيا
اشارة

ثالثاً: عالم الدنيا، وهي من العوالم الطولية التي ينتقل الإنسان إليها، فيبدأ فيها بمرحلة الطفولة، ثم الصباوة، ثم التمييز والبلوغ، ثم الشباب والكهولة، ثم الشيب والشيخوخة، ثم الإشراف على الموت والارتحال من الدنيا إلى العالم الرابع، حيث الانتقال إلى عالم البرزخ، وذلك كما قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٖ شَئًْا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجِ بَهِيجٖ}(4).

ص: 246


1- سورة الفرقان، الآية: 75-76.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 380.
3- الكافي 6: 11.
4- سورة الحج،الآية: 5.

وكما قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَئًْا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَٰرَ وَالْأَفِْٔدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(1).

الدنيا مزرعة الآخرة

إن عالم الدنيا بالنسبة إلى العالمَين قبله عالم وسيع جداً، وله تأثير كبير على مستقبل الإنسان وتقرير مصيره في العالمَين بعده، حيث إن هذا العالم (عالم الدنيا) هو عالم السعي والعمل، بخلاف العالمين بعده، إذ أنهما عالما الحساب والجزاء، وهذا العالم هو عالم المرور والعبور، وعالم الزوال والفناء، بخلاف العالمين بعده، حيث إنهما عالما الاستقرار والنزول، وعالما البقاء والخلود... .

وقد وصفت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة عالم الدنيا بأنه بمثابة جسر وقنطرة يعبر الإنسان عليها للوصول إلى عالمي البرزخ والآخرة، ووصفته أيضاً بأنه مزرعة، وأنّ أعمال الإنسان في عالم الدنيا من خير وشر بمثابة بذر يبثه في أرضالمزرعة ويحصد ثمره وحاصله في البرزخ والآخرة، فإن كان زرع خيراً حصد خيراً وسعادة، وإن كان زرع شراً حصد شراً وندامة.

الترابط بين العوالم

هذا ولا يخفى أن هناك نوعَ ترابط بين عالم الدنيا وعالمي البرزخ والآخرة بعده، كما كان بين عالم الدنيا وعالمي الذر والأرحام قبله، فكما أن لعالم الذر وعالم الأرحام - من حيث السعادة والشقاء - تأثيراً(2) على الإنسان في عالم الدنيا

ص: 247


1- سورة النحل، الآية: 78.
2- هذا التأثير من حيث المقتضي لا العلة التامة، بحيث لا ينافي اختيار الإنسان في اتخاذ الخير أو الشر، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} سورة الإنسان، الآية: 3. وقال عزّ وجلّ: {وَهَدَيْنَٰهُ النَّجْدَيْنِ} سورة البلد، الآية: 10.

من حيث سعادته وشقائه، فكذلك لعالم الدنيا من حيث السعادة والشقاء تأثير على الإنسان في عالم البرزخ وعالم الآخرة من حيث سعادته وشقائه أيضاً، وإلى هذا المعنى يشير قول اللّه سبحانه: {وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْأخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا}(1).

وقوله تعالى: {رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْأخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(2).

وقوله عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ}(3).

وقوله جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَاحَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْأخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(4).

العاقل وتعامله مع الدنيا

لذلك ينبغي للإنسان العاقل أن يغتنم عالم الدنيا بالسعي والعمل؛ من أجل سعادته في الدنيا سعادة مستلزمة لسعادة الآخرة أيضاً، علماً بإن سعادة الدنيا المستلزمة لسعادة الآخرة لا تتحقق إلّا بالسعي والعمل في إطار الشرع الإسلامي؛ وتعاليم الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام)، الداعية إلى جعل الهدف من الدنيا الوصول إلى الآخرة، وأن يكون كل شيء وعمل وقول من أجل الآخرة، وأن لاينسى الإنسان الآخرة ويغتر بالدنيا، وأن لا يكون ممن يبيع

ص: 248


1- سورة الإسراء، الآية: 72.
2- سورة البقرة، الآية: 201.
3- سورة طه، الآية: 124- 126.
4- سورة النحل، الآية: 41.

الآخرة من أجل الدنيا، وأن لا يكون من مصاديق قول اللّه تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا بِالْأخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}(1). ولا يكون من: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَٰلَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}(2).

وأن يهتدي بما قاله الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لأختار العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني»(3).

وذلك لأن الدنيا وإن كانت من ذهب، فإنها حيث تزول وتفنى لا خير فيها، والآخرة وإن كانت من خزف - فرضاً - فإنها حيث تبقى وتخلد فالخير فيها، فكيف وحال الدنيا والآخرة بالعكس، أي: إن واقع الدنيا أقل من الخزف، وواقع الآخرة أكبر من الذهب.

الجمع بين الدنيا والآخرة

ثم إنه باستطاعة الإنسان أن يجمع بين الدنيا والآخرة فيفوز بسعادة الدارين؛ وذلك باتباع القرآن الحكيم والعمل بسيرة الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام)، فإن اتباع القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) ينتج خير الدنيا وسعادة الآخرة ويثمر الصلاح والفلاح في الدنيا، والنجاة والفوز في الآخرة؛ وذلك واضح، لأن القرآن الحكيم هو نور للدنيا والآخرة، وأن أهل البيت(عليهم السلام) هم مصابيح الهدى في الدنيا والآخرة، أليس القرآن الحكيم يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَىٰكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(4).

ص: 249


1- سورة البقرة، الآية: 86.
2- سورة البقرة، الآيه: 16.
3- الوافي 1: 100.
4- سورة القصص، الآية: 77.

ويقول الحق تبارك اسمه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوٰةُ فَانتَشِرُواْ فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَٰتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(2).

أليس أهل البيت(عليهم السلام) يقولون: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «نعم العون الدنيا على الآخرة»(4).

وقال(عليه السلام): «ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(5).

وعن محمد بن عذافر عن أبيه قال: دفع إليّ أبو عبد اللّه(عليه السلام) سبعمائة دينار وقال: «يا عذافر اصرفها في شي ء مّا» وقال: «ما أفعل هذا على شَرَهٍ(6) مني؛ ولكني أحببت أن يراني اللّه تبارك وتعالى متعرضاً لفوائده». قال عذافر: فربحت

ص: 250


1- سورة الجمعة، الآية: 9-10.
2- سورة الأعراف، الآية: 31-33.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 156.
4- الكافي 5: 72.
5- من لا يحضره الفقية 3: 156.
6- الشَّرَه: غلبة الحرص.

فيها مائة دينار، فقلت له في الطواف: جعلت فداك، قد رزق اللّه عزّ وجلّ فيها مائة دينار، قال: «أثبتها في رأس مالي».(1)

وقال رجل لأبي عبد اللّه(عليه السلام): واللّه إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها. فقال(عليه السلام): «تحب أن تصنع بها ما ذا؟». قال: أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر!! فقال(عليه السلام): «ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة».(2)

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أيضاً قال: «إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن علي بن الحسين(عليهما السلام) يدع خلفاً أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي(عليهما السلام) فأردت أن أعظه فوعظني!! فقال له أصحابه: بأي شي ء وعظك؟! قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيني أبو جعفر محمد بن علي(عليهما السلام) وكان رجلاً بادناً ثقيلاً، وهو متكئ على غلامين أسودين، أو موليين،فقلت في نفسي: سبحان اللّه! شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا؟! أما لأعظنَّه، فدنوت منه فسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام بنَهْرٍ(3)، وهو يتصاب عرقاً، فقلت: أصلحك اللّه، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا!! أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟! فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعة اللّه عزّ وجلّ، أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي اللّه!! فقلت:

ص: 251


1- من لا يحضره الفقيه 3: 158.
2- الكافي 5: 72.
3- في نسخة ببهر، والبَهْر: تتابع النفس من التعب.

صدقت يرحمك اللّه، أردت أن أعظك فوعظتني».(1)

وعليه: فإنه يمكن الجمع بين الدنيا والآخرة، وهو ما يختاره الإنسان العاقل في مدة حياته وجميع أيام عمره في عالم الدنيا، وطريق الجمع بينهما هو التثقف بثقافة القرآن الحكيم التي يجسدها في الخارج عملاً ويحققها على أرض الواقع فعلاً، ثقافة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام) العالية، فالإنسان في عالم الدنيا وضمن رحلته الطويلة بين العوالم يستطيع أن يثبت كيفية رشده، ومقدار تعاليه ورقيه في كل مجال من مجالات هذه الحياة القصيرة والزائلة الدنيوية؛ لذا قيل في علم النفس والإجتماع: إنه بالامكان معرفة ثقافة أي مجتمع من خلال أفعاله وسلوكياته، لأن الثقافة ينشأ عنها العمل والسلوك المجسّد لتلك الثقافة خارجاً، والمحقق لها على أرض الواقع.

والاستفادة الصحيحة من الدنيا تكون من مقومات المجتمع الصالح، وينبغي لمن أراد السعي نحو مجتمع صالح أن يعمل لدنياه وآخرته حسب الموازينالشرعية.

نماذج ثقافية

نقل بعض الأصدقاء عن أحد الأشخاص المتجوّلين في بلدان العالم أنه زار إحدى المدن في بلد من البلدان وقال: إن أغلب شوارع تلك المدينة هي من الشوارع الكبيرة والعريضة، وهي شوارع ذات اتجاهين: أحدهما للذهاب والآخر للإياب، ويفصل بينهما فاصل، يتراوح عرضه بين المتر، والمتر ونصف المتر، وقد زُرع على هذا الفاصل عدة أنواع من الزهور الجميلة ذات الألوان الزاهية والأشكال المختلفة والجذابة، وقد رأيت في أحد هذه الشوارع أن الفاصل يحتوي على

ص: 252


1- الكافي 5: 73.

ثلاثمائة نوع من الزهور المختلفة الألوان، المتعددة الأشكال، ذات العطور الفواحة، ثم أضاف قائلاً: ولشدة حبي للاستطلاع والمعرفة، قررت أن أتعرف على المسؤولين عن تصميم هكذا شوارع وفكرة زرع هذه الأزهار والورود الجميلة، فسألت عنهم فقيل لي: إن المشرفين على شتل هذه الزهور وزرعها هم مهندسون أخصائيون في علم الأزهار، ومن خريجي جامعات هذه المدينة نفسها!

فعرفت من ذلك: أن ثقافة هذه المدينة عالية جداً، بحيث إنهم يعتنون بتزيين شوارع مدينتهم إلى هذه الدرجة من الإعتناء، ويوظفون لذلك أفراد متخصصين ومهندسين فنيّين من الدرجة العالية, وذوي الشهادات الراقية، وهذا من الجمال الذي دعى إليه الإسلام وحث عليه. فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبصر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) رجلاً شعثاً شعر رأسه،وسخة ثيابه، سيئة حاله!! فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): من الدين المتعة وإظهار النعمة»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): ليتزين أحدكم لأخيه المسلم كما يتزين للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة»(3).

ونقل لي صديق آخر زار بعض البلدان الغربية، وقال: لقد كان البلد الذي زرته على سعته الكبيرة وكثرة نفوسه، وازدحام وسائل النقل فيه، نظيفاً إلى أبعد الحدود، وجميلاً بمنتهى الجمال، حيث لم يكن في شوارعها ولا على أرصفتها،

ص: 253


1- الكافي 6: 438.
2- الكافي 6: 439.
3- الكافي 6: 439.

ولا في أزقتها شيء من القمامة، حتى القليل من الأوساخ أو النفايات، مما جعل البلد نظيفاً وجميلاً، - الى أن قال: - وإن أحد المدخنين الغرباء على البلد أخرج آخر سيجارة موجودة في العلبة، ثم قذف بالعلبة الفارغة في جانب من الشارع، وعندما وصل إلى مفترق طرق من نفس الشارع، وإذا بشرطي المرور يطلب من الرجل المدخن والغريب التوقف ودفع غرامة ثقيلة عن تلويثه الطريق العام؛ وذلك بقذفه علبة السيجاير الفارغة فيه، وكلما اعتذر المدخّن بأنه غريب ولا يعرف نظام هذا البلد، لم يقبل الشرطي عذره قائلاً: أدفع الغرامة كي يبقى في ذهنك أنه لا يجوز لأحد تلويث الشارع العام بشيء من القمامة ونحوها!!

هذه بعض النماذج من ثقافات العصر الحاضر، والذي يأمر به الاسلام ويؤكدّ عليه، ولكن - ومع الأسف الشديد - نرى كثيراً من مسلمي هذه الأمة ذات المليار ونصف المليار مسلم(1) تلخصت حياتهم بالكسل والتقاعس عن السعي والعمل،والميل إلى الدعة والراحة، إلى درجة لم تقتصر على الابتعاد عن الثقافة الإسلامية التقدمية الراقية، وترك السعي وراء الوصول إلى الإكتفاء الذاتي في الصناعات المهمة، بل وأصبحنا نستورد فيها حتى بيض الدجاج ولحمه من الدول الغربية.

نعم، طموحاتنا كبيرة وآمالنا كثيرة، ولكننا لا نسعى إليها، وإنما شغلنا أنفسنا بالنزاعات القومية والعرقية ومجالس الغيبة، وإنتقاد الآخرين، وقذف التهم إليهم والافتراء عليهم، فبدل أن نصبح أمة السعي والعمل، والجد والمثابرة، أصبحنا أمة الكسل والملل والقول فقط، وبذلك ضيعنا دنيانا وآخرتنا.

ومن المعلوم أن من مقومات المجتمع الصالح هو السعي والعمل لا القول والأمل.

ص: 254


1- وحسب الإحصاءات الأخيرة أصبح نفوس المسلمين أكثر من ملياري نسمة.
عبر وعظات

يقال: إن نادر شاه(1) عند ما كان حاكماً على إيران، أراد أن يحتل الهند ويضمها إلى حكومته، وبعد المشورة في طريقة فتح الهند وكيفيتها قيل له: إنه يمكن شن الهجوم على الهند من طريقين: أحدهما عبر الطريق البري، وهذا يستغرق مدة طويلة للوصول إلى الهند، وثانيهما: الطريق البحري، وهذا يستغرق مدة أقصر بكثير من الطريق البري، ولكن بشرط أن تهب الرياح المؤثرة على حركة السفن الشراعية على وفق ما نشتهيه من الاتجاه نحو الهند. فقال نادر شاه: إنني غير مستعد أن أجعل مصير أمة وعاقبة دولة موكولاً بيد الرياح!! فاختار الطريق البري تاركاً الطريق البحري وراءه.

وهذه القصة تدل فيما تدل عليه: على واقع حال المسلمين اليوم! وذلك لأننا وأثر تكاسلنا وتقاعسنا وتركنا ثفافة القرآن الحكيم وثقافة الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم)وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام)، صرنا السبب لأن تقع إدارة بلادنا وأمتنا إلى مختلف الرياح من الشرق والغرب، وإلى الأعداء والمناوئين، يقتلوننا ويأسروننا، ويسلبوننا أرضنا وخيراتنا، وأموالنا وثرواتنا، وديننا ودنيانا، فلقد أصبحنا بسبب هجرنا تعاليم الإسلام وثقافة القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) مصداقاً واضحاً للحديث القدسي الشريف القائل: «إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني».(2)

مثال جميل

نقل العلامة الشيخ جعفر الرشتي(رحمه الله)(3) هذه القصة فقال: تناول اثنان شيئاً من المخدرات حتى فقدا وعيهما وصارا يهذيان، ثم خرجا يتمشيان في الأزقة على

ص: 255


1- نادر قلي بك الأفشاري.
2- الكافي 2: 276.
3- الشيخ جعفر الرشتي، عميد المدرسة الهندية العلمية المعروفة في كربلاء المقدسة.

غير هدى من طريقهما، فرأى أحدهما حفرة صغيرة ممتلئة بالماء الراكد، فتصورها - بسبب تناوله لهذا السم المسمى المخدرات - بحراً كبيراً، فقال لصاحبه متعجباً: ما أكبر هذا البحر وأوسعه؟! ثم خلعا ملابسهما ليعبرا هذا البحر الموهوم، فقفزا وبجهد كبير قفزة واسعة، فسقطا بشدة على الأرض وتشدّخ رأسهما وتهشّمت عظامهما!!

وفي زماننا الحاضر أصبح حال بعض المسلمين كذلك، حيث إنهم تركوا أسباب الرقي والتقدم، فتأخروا وتقهقروا، وإذا فكروا في التقدم تصوروه بحراً كبيراً متلاطم الأمواج لا يمكن الخوض فيه؛ ولذلك بقوا دائماً متأخرين، وأبداً منحطين، يعيشون فقراء معدمين، مع أنهم يملكون أثرى بقاع الأرض، وهم أذلاء صاغرين مع أن لديهم ما يجعلهم أعزة سادة، وكبراء وقادة.

ونرى - في عصرنا الحاضر - بعض أهل الكتاب من المسيحيين وغيرهم يقروّن للمسلمين فضلهم ويعترفون بأنهم آباء الحضارة وروّاد العلم، وأن لهم حق الحياة الراقية على جميع الأمم المتقدمة والمترقية، بينما المسلمون أنفسهم تراهم قد لجئوا إلى النوم والكسل وتجاهلوا ماضيهم المشرق، واشتغلوا بتضعيف أنفسهم وتشتيت أمرهم من خلال المهاترات والمخاصمات الجانبية، كما في أغلب البلاد الإسلامية، وراح يتهم بعضهم بعضاً بأبشع التهم التي يعجز اللسان من ذكرها، والبيان عن وصفها، وذلك بدلاً من استغلالهم الفرص المتاحة لهم واغتنامهم العمر والفرص التي وهبها اللّه إياهم.

هذا هو حال أغلب المسلمين اليوم، وهو على عكس حال الشرق والغرب، حيث إن غير المسلمين أخذوا تعاليم الاسلام وثقافة القرآن، وقاموا بتنظيم أوقاتهم وتنسيق أعمالهم من أجل التقدم والإزدهار، وتجنيد طاقاتهم وتحشيد قدراتهم في سبيل الاختراع والاكتشاف، والتقدم الزراعي والصناعي، وتحقيق

ص: 256

الاكتفاء الذاتي في كل جانب من جوانب الحياة.

نعم، إن المسلمين اليوم أضاعوا أوقاتهم في الفراغ والكسل في مجالس الافتراء والغيبة، وفي النزاعات الجانبية، والمخاصمات الهامشية، وفي السب والشتم بعضهم لبعض. هذا وقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو يعظ أصحابه ومحبيه: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين»(1). وقال الامام الصادق(عليه السلام) وهو يوصي محبّيه ومواليه: «كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً»(2).

4- عالم البرزخ
اشارة

رابعاً: عالم البرزخ، وهو رابع العوالم الطولية، الذي ينتقل الإنسان إليه، ويبدأبالموت ومفارقة الروح للجسد، ويستمر إلى ما لا يعلمه إلّا اللّه تعالى حتى ينفخ في الصور وتقوم الساعة والقيامة، فينتقل الإنسان من عالم البرزخ إلى عالم الآخرة، وذلك كما قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتُ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ

ص: 257


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 206 من كلام له(عليه السلام) وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون... .
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 400.
3- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
4- سورة البقرة، الآية: 154.

خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(1).

وقال تبارك اسمه: {قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ}(2).

وكما قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «عذاب القبر من النميمة والغيبة والكذب».(3)

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام):

«أشد ساعات ابن آدم ثلاث ساعات: الساعة التي يعاين فيها ملك الموت، والساعة التي يقوم فيها من قبره، والساعة التي يقف فيها بين يدي اللّه تباركوتعالى، فإما إلى الجنة، وإما إلى النار - ثم قال - إن نجوت يا ابن آدم عند الموت فأنت أنت، وإلّا هلكت، وإن نجوت يا ابن آدم حين توضع في قبرك فأنت أنت، وإلّا هلكت، وإن نجوت حين يحمل الناس على الصراط، فأنت أنت، وإلّا هلكت، وإن نجوت حين: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(4) فأنت أنت وإلّا هلكت، - ثم تلا: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(5) قال - هو القبر، وإن لهم فيه لمَعِيشَةً ضَنكاً واللّه، إن القبر لروضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار»، ثم أقبل على رجل من جلسائه فقال له: «لقد علم ساكن السماء ساكن الجنة من ساكن النار، فأي الرجلين أنت، وأي الدارين دارك؟»(6).

ص: 258


1- سورة آل عمران، الآية: 169-170.
2- سورة غافر: 11.
3- بحار الأنوار 72: 259.
4- سورة المطففين، الآية: 6.
5- سورة المؤمنون، الآية: 100.
6- الخصال 1: 119.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا وضع الميت في قبره مُثّل له شخص. فقال له: يا هذا كنا ثلاثةً: كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلفوك وانصرفوا عنك، وكنتُ عملَك فبقيتُ معك، أما إني كنت أهون الثلاثة عليك»(1).

وفي حديث آخر عنه(عليه السلام) قال: «يسأل الميت في قبره عن خمس: عن صلاته، وزكاته، وحجه، وصيامه، وولايته إيانا أهل البيت، فتقول الولاية من جانب القبر للأربع: ما دخل فيكن من نقص فعلي تمامه»(2).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) أيضاً: «واللّه ما نخاف عليكم إلّا البرزخ»(3).

وعن الإمام الكاظم(عليه السلام) قال: «يقال للمؤمن في قبره: من ربك؟ - قال - فيقول:اللّه. فيقال له: ما دينك؟ فيقول: الإسلام. فيقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد(صلی الله عليه وآله وسلم). فيقال: من إمامك؟ فيقول: فلان. فيقال: كيف علمت بذلك؟ فيقول: أمر هداني اللّه له وثبتني عليه. فيقال له: نم نومةً لا حلم فيها، نومة العروس، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيدخل عليه من روحها وريحانها، فيقول: يا رب، عجل قيام الساعة، لعلي أرجع إلى أهلي ومالي. ويقال للكافر: من ربك؟ فيقول: اللّه. فيقال: من نبيك؟ فيقول: محمد(صلی الله عليه وآله وسلم). فيقال: ما دينك؟ فيقول: الإسلام. فيقال: من أين علمت ذلك؟ فيقول: سمعت الناس يقولون فقلته!! فيضربانه بمرزبة لو اجتمع عليها الثقلان الإنس والجن لم يطيقوها. - قال - فيذوب كما يذوب الرصاص، ثم يعيدان فيه الروح، فيوضع قلبه بين لوحين من نار، فيقول: يا رب، أخِّر قيام الساعة»(4).

ص: 259


1- الكافي 3: 240.
2- الكافي 3: 241.
3- تفسير القمي 1: 20.
4- الكافي 3: 238.
البرزخ وأول مراحله

يبدأ عالم البرزخ بالموت، حيث ينتقل الإنسان على إثره إلى القبر، وفي القبر تكون المُسائلة، ويكون الحساب والجزاء البرزخي، ففي الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من مات فقد قامت قيامته»(1)، أي البرزخية، وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران»(2).

نعم، ما هي إلّا أيام نقضيها في هذه الدنيا الدنيئة والزائلة، حتى نعيش الحياة البرزخية الواسعة والطويلة بالنسبة إلى عالم الدنيا، وذلك إمّا في روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران - والعياذ باللّه - لذا يجب علينا الاهتمامبإصلاح أنفسنا وإصلاح المجتمع والسعي نحو تحقق المجتمع الإسلامي السعيد، وذلك بالوعي واليقظة، وترك حالة الركود والكسل، والتحلي بالنشاط والسعي والعمل وبكل جدّ واخلاص، من أجل أن نطوي عالم الدنيا بسلامة وسعادة، مشحوناً بالخير والبركة في ظل مجتمع اسلامي إنساني، وأمة اسلامية متقدمة ومزدهرة، مستتبعاً سلامة عالم البرزخ والآخرة وسعادتهما، ولا يكون ذلك إلّا بالسعي لتحقيق ثقافة القرآن الحكيم وثقافة أهل البيت(عليهم السلام) التي هي عصارة الأهداف السماوية التي جاء من أجلها الأنبياء والرسل (عليهم الصلاة والسلام) وبلّغ لها جميع الأوصياء والأولياء.

مخاوف عالم البرزخ

إن عالم البرزخ، كما سبق: هو عالم الحساب والجزاء البرزخي، وليس عالم السعي والعمل كما كان في عالم الدنيا؛ لذلك ينقطع الإنسان بالموت والانتقال إلى عالم البرزخ من السعي والعمل، إلّا القليل مما يصله من الخيرات

ص: 260


1- بحارالأنوار 58: 7.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 265.

والمبرات، والتي إن كان قد فعلها في حياته لكانت أكثر ثواباً وبركة عليه.

فلا تبقى للإنسان في برزخه إلّا ما اكتسبه في دنياه ونتائج عمله، فإن كان قد عمل خيراً رأى خيراً، وإن كان قد عمل شراً رأى شراً، كما في الحديث الشريف: «إن خيراً فخير وإن شراً فشر»([1]).

ومن هنا ينبغي أن يخاف من القبر ومن البرزخ، ومن مصير الإنسان المجهول آنذاك... .

يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «واللّه، ما أخاف عليكم إلّا البرزخ، فأما إذا صار الأمر الينا فنحن أولى بكم»(1)(2).

هل في عالم البرزخ تكامل؟

ثم إن عالم البرزخ مضافاً إلى كونه عالم حساب وجزاء برزخي، وعالم انقطاع عن السعي والعمل الدنيوي، لكنه بحسب بعض الروايات الشريفة، فيه بعض التكامل البرزخي والصعود إلى الدرجات الإنسانية العالية المجردة عن مهاوي السقوط الدنيوي ودركات الهبوط الحيواني، ففي الحديث الشريف ما يدل على أن الأطفال والقصّر الذين يرحلون عن عالم الدنيا وينتقلون إلى عالم البرزخ وهم بعدُ لم يكملوا إنسانياً، ولم يبلغوا سنّ التكليف شرعياً، يتكاملون هناك، فإن أطفال الشيعة وقصّرهم يتربّون على يد بعض الأولياء كالخليل إبراهيم(عليه السلام) حتى يكبروا ويبلغوا سن الرشد ويكملوا، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى كفل إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين، يغذوانهم بشجرة في الجنة، لها أخلاف كأخلاف(3) البقر، في قصر من درة، فإذا كان يوم القيامة ألبسوا وطيبوا

ص: 261


1- الكافي 2: 294.
2- تفسير القمي 2: 94.
3- الخِلْف: حلمة ضرع الناقة، جمعه أخلاف.

وأهدوا إلى آبائهم، فهم ملوك في الجنة مع آبائهم، وهو قول اللّه عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}»(1)(2).

وقال الامام الصادق(عليه السلام) أيضاً: «إذا مات طفل من أطفال المؤمنين، نادى مناد في ملكوت السماوات والأرض: ألا إن فلان بن فلان قد مات، فإن كان مات والداه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين، دفع إليه يغذوه، وإلّا دفع إلى فاطمة(عليها السلام) تغذوه، حتى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته، فتدفعه إليه»(3).أما حال من يموت من أطفال المشركين والكفار، فقد روي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إذا كان يوم القيامة احتج على اللّه سبعة: على الطفل، والذي مات بين النبيين، والشيخ الكبير الذي أدرك النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو لا يعقل، والأبله، والمجنون الذي لا يعقل، والأصم، والأبكم، كل واحد منهم يحتج على اللّه عزّ وجلّ، قال: فيبعث اللّه عزّ وجلّ إليهم رسولاً فيؤجج لهم ناراً فيقول: إن ربكم يأمركم أن تثبوا فيها، فمن وثب فيها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن عصى سيق إلى النار»(4).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «تؤجج لهم نار، فيقال لهم: ادخلوها، فإن دخلوها كانت عليهم برداً وسلاماً، وإن أبوا قال اللّه عزّ وجلّ لهم: هو ذا أنا قد أمرتكم فعصيتوني، فيأمر اللّه عزّ وجلّ بهم إلى النار»(5).

وورد في الأحاديث الشريفة - أيضاً - ما يدل على أن بعض الأعمال في عالم

ص: 262


1- سورة الطور، الآية: 21.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 490.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 490.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 492.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 492.

الدنيا تبقى آثارها وبركاتها مستمرة في عالم البرزخ ويكمل الإنسان بها في البرزخ، كالمشاريع الخيرية، والأولاد الصالحين، والعلوم التي تنفع الناس، فإنها تكون ذخيرة له في عالم البرزخ ويجدها أمامه ويتكامل بها، فإنه رغم انقطاعه عن عالم الدنيا وعن السعي والعمل، يصله أثر ذلك الأمر، وينتفع به، ويكون سبباً لتكامله ورقي درجاته في عالم البرزخ. وذلك كما روي: «أن من مات بلا خلف فكأن لم يكن في الناس، ومن مات وله خلف فكأن لم يمت»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «اذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقةجارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(2).

وروي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): مرّ عيسى ابن مريم(عليه السلام) بقبر يُعذّب صاحبه، ثم مرّ به من قابل فإذا هو لا يُعذّب!! فقال: يا رب، مررت بهذا القبر عام أول فكان يُعذّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذّب؟! فأوحى اللّه إليه: أنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه. ثم قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): ميراث اللّه(3) عزّ وجلّ من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده...»(4).

وعن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال: «سُنّة سنّها يعمل بها بعد موته، فيكون له مثل أجر من يعمل بها، من غير أن ينتقص من أجورهم شي ء، والصدقة الجارية تجري من بعده، والولد الصالح يدعو لوالديه بعد موتهما، ويحجّ ويتصدق عنهما، ويعتق ويصوم ويصلي

ص: 263


1- من لايحضره الفقيه 3: 481.
2- منية المريد: 103.
3- ميراث اللّه: أي ما يبقى بعد موت المؤمن فإنه لعبادته له تعالى كأنه ورثه من المؤمن.
4- الكافي 6: 3.

عنهما» فقلت: أشركهما في حجي؟ قال: «نعم»(1).

وعنه(عليه السلام) قال: «ستة تلحق المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر له، ومصحف يخلفه، وغرس يغرسه، وقليب يحفره، وصدقة يجريها، وسُنّة يؤخذ بها من بعده»(2).

ولا يخفى أن هذه الأمور من مقومات المجتمع الإسلامي الصالح.

5- عالم الآخرة
اشارة

خامساً: عالم الآخرة، وهو خامس العوالم الطولية ونهاية مطاف الإنسانومنتهى رحلته الطويلة، وآخر ما ينتقل الإنسان إليه ليبدأ بالحياة الأبدية بإذن اللّه تعالى، إما منعمّاً أو معذّباً، حيث يبدأ بنفخ الصور الثاني والبعث من القبور، والحشر ليوم النشور، والعرض على اللّه، للحساب الأكبر، والجزاء الأوفى: من الخلود في النعيم والجنة، أو العذاب والنار والعياذ باللّه، قال اللّه تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(3).

وقال تبارك اسمه: {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَمَن وَعَدْنَٰهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَٰهُ مَتَٰعَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}(5).

ص: 264


1- الكافي 7: 57.
2- الكافي 7: 57.
3- سورة آل عمران، الآية: 185.
4- سورة النساء، الآية: 87.
5- سورة القصص، الآية: 61- 62.

وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَالسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتُ بِيَمِينِهِ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}(1).

وروي عن الامام السجاد(عليه السلام) في وصف يوم القيامة وكيفيته في معنى قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّنُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}(2) عندما سُئل(عليه السلام) عن النفختين كم بينهما؟

قال(عليه السلام): «ما شاء اللّه»، فقيل له: فأخبرني يا ابن رسول اللّه، كيف ينفخ فيه؟

فقال: «أما النفخة الأولى، فإن اللّه يأمر إسرافيل فيهبط إلى الأرض ومعه الصور، وللصور رأس واحد وطرفان، وبين طرف كل رأس منهما ما بين السماء والأرض.

قال: فإذا رأت الملائكة إسرافيل وقد هبط إلى الدنيا ومعه الصور، قالوا: قد أذن اللّه في موت أهل الأرض، وفي موت أهل السماء، قال: فيهبط إسرافيل بحظيرة بيت المقدس ويستقبل الكعبة، فإذا رأوه أهل الأرض، قالوا: قد أذن اللّه في موت أهل الأرض، قال: فينفخ فيه نفخة، فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي أهل الأرض، فلا يبقى في الأرض ذو روح إلّا صعق ومات، ويخرج الصوت من الطرف الذي يلي أهل السماوات، فلا يبقى في السماوات ذو روح إلّا صعق ومات، إلّا إسرافيل فيمكثون في ذلك ما شاء اللّه، قال: فيقول اللّه لإسرافيل: يا إسرافيل مُت، فيموت إسرافيل، فيمكثون في ذلك ما شاء اللّه، ثم يأمر اللّه

ص: 265


1- سورة الزمر، الآية: 67- 68.
2- سورة الزمر، الآية: 68.

السماوات فتمور ويأمر الجبال فتسير، وهو قوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا}(1) يعني تبسط وتبدل الأرض غير الأرض، يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال ولا نبات، كما دحاها أول مرة، ويعيد عرشه على الماء كما كان أول مرة، مستقلاً بعظمته وقدرته، قال: فعند ذلك ينادي الجبار جلّ جلاله بصوت من قبله جهوري يسمع أقطار السماوات والأرضين:{لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}(2) فلا يجيبه مجيب، فعند ذلك يقول الجبار مجيباً لنفسه: {لِلَّهِ الْوَٰحِدِ الْقَهَّارِ}(3) وأنا قهرت الخلائق كلهم وأمتهم، إني أنا اللّه لا إله إلّا أنا، وحدي لا شريك لي ولا وزير لي، وأنا خلقت خلقي بيدي، وأنا أمتهم بمشيتي، وأنا أحييهم بقدرتي، قال: فينفخ الجبار نفخة في الصور، فيخرج الصوت من أحد الطرفين الذي يلي السماوات، فلا يبقى في السماوات أحد إلّا حيي، وقام كما كان، ويعود حملة العرش، وتحضر الجنة والنار، وتحشر الخلائق للحساب»، قال - الراوي - : فرأيت علي بن الحسين(عليهما السلام) يبكي عند ذلك بكاءً شديداً(4).

من خصائص يوم القيامة

هناك خصوصيات عجيبة وكثيرة ليوم القيامة، وهو اليوم الذي يحشر اللّه تعالى فيه الأولين والآخرين للحساب الأكبر، والجزاء الأوفى، وهذه الخصوصيات تميّزه ميزة غريبة عن سائر الأيام، وتجعله يوماً وحيداً في عجائبه، وفريداً في غرائبه:

ص: 266


1- سورة الطور، الآية: 9- 10.
2- سورة غافر، الآية: 16.
3- سورة غافر، الآية: 16.
4- تفسير القمي 2: 252.

إنه يوم خاصّ متميّز، خاص في طوله زمناً؛ إذ يمتد طول يوم القيامة بمقدار خمسين ألف عام، فيه خمسون موقفاً وعقبةً للتحقيق والاستجواب، مدة كل موقف ألف عام... .

إنه يوم متميز في أهواله؛ إذ فيه تتكوّر الشمس، وتلتقي الشمس القمر، وتنكدر النجوم، وتندك الأرض والجبال دكة واحدة، وتُزلزل الأرض زلزالاً شديداً، وكماقال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}(1).

وقوله تبارك اسمه: {سَأَلَ سَائِلُ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ * لِّلْكَٰفِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَٰئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٖ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٖ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسَْٔلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذِ بِبَنِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُْٔوِيهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ * تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ * وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ}(2).

إلى غير ذلك من الآيات والروايات التي تبين أهوال يوم القيامة.

يوم القيامة ومنجياتها

إن يوم القيامة يوم رهيب، ويوم صعب عسير، لأنه يوم الحساب الأكبر، والجزاء الأوفى، يوم لا يقبل فيه فداء ولا عذر، وهو الذي عبرّ عنه القرآن الكريم

ص: 267


1- سورة الحج، الآية: 1-2.
2- سورة المعارج، الآية: 1- 18.

بقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِيٕٖ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٖ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(1).

وهو يوم تُعرض فيه الأعمال، وتكشف فيه الأسرار والأستار.

وهو: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(2) أي نقيّ منالشرك، خالص من الرياء، مؤمن باللّه وبرسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وبأهل بيته(عليهم السلام)، آخذ بما أتى به النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وبلّغ له أهل بيته المعصومون(عليهم السلام)... .

فإن الفائز يوم القيامة هو من قال عزّ وجلّ: {لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ}(3) أي إلى ولاية أهل البيت(عليهم السلام). ومن صبر وصابر ورابط في محبة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام). ومن أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات، وتخلّق بالأخلاق الحسنة والآداب الإسلامية. ومن كان براً تقياً، سمحاً سخياً، قد سلُم الناس من يده ولسانه، وأمنوه على أعراضهم وأموالهم. ومن كان قد سعى لآخرته، وعمل في الدنيا من أجل عاقبته، وجاهد نفسه، وخالف هواه، وحارب شيطانه، ولم يغتر بدنياه. فإن من كان تقياً نقياً، خالصاً مخلصاً في الدنيا، اجتاز عرصات القيامة إلى الجنة من دون حساب، وخرج من قبره ونور إيمانه يسعى بين يديه لينير له ظلام القيامة وظلماتها، فيصل إلى الجنة بسلام وأمان، كما قال اللّه تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِم بُشْرَىٰكُمُ الْيَوْمَ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(4).

ص: 268


1- سورة عبس، الآية: 34-37.
2- سورة الشعراء، الآية: 88-89.
3- سورة طه، الآية: 82.
4- سورة الحديد، الآية: 12.

وكما قال سبحانه عن غير المؤمنين: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالْمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُورًا}(1) أي: ارجعوا إلى الدنيا لتأتوا بالنور منها معكم، كناية عن أنه يستحيل حصول النور في الآخرة إلّا لمن كان قد أتى به من الدنيا، وحيث لا رجعة فلا نور.

وروي عن جابر عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سألته عن قول اللّه: {يَوْمَ تَرَىالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِم}(2) قال(عليه السلام): «رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) هو نور المؤمنين يسعى بين أيديهم يوم القيامة، إذا أذن اللّه له أن يأتي منزله في جنات عدن، والمؤمنون يتبعونه وهو(صلی الله عليه وآله وسلم) يسعى بين أيديهم حتى يدخل جنة عدن وهم يتبعون حتى يدخلون معه، وأما قوله: {وَبِأَيْمَٰنِهِم} فأنتم تأخذون بحجزة آل محمد(عليهم السلام)، ويأخذ آل محمد(عليهم السلام) بحجزة الحسن والحسين(عليهما السلام)، ويأخذ أمير المؤمنين(عليه السلام) بحجزة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، حتى يدخلون مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في جنة عدن، فذلك قوله: {بُشْرَىٰكُمُ الْيَوْمَ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}»(3)(4).

وعن علي بن عقبة عن أبيه قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا عقبة، لا يقبل اللّه من العباد يوم القيامة إلّا هذا الأمر الذي أنتم عليه، وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقرّ به عينه إلّا أن تبلغ نفسه إلى هذه» ثم أهوى بيده إلى الوريد ثم اتكأ، وكان معي المعلّى، فغمزني أن أسأله، فقلت: يا ابن رسول اللّه، فإذا بلغت نفسه هذه أي شي ء يرى؟

ص: 269


1- سورة الحديد، الآية: 13.
2- سورة الحديد، الآية: 12.
3- سورة الحديد، الآية: 12.
4- تفسير فرات الكوفي: 467.

فقلت له بضع عشرة مرة: أي شي ء؟ فقال(عليه السلام) في كلها: «يرى» ولا يزيد عليها، ثم جلس في آخرها، فقال: «يا عقبة» فقلت: لبيك وسعديك. فقال: «أبيت إلّا أن تعلم؟!». فقلت: نعم، يا ابن رسول اللّه، إنما ديني مع دينك، فإذا ذهب ديني كان ذلك، كيف لي بك يا ابن رسول اللّه، كل ساعة. وبكيت، فرقّ لي، فقال: «يراهما واللّه».

فقلت: بأبي وأمي من هما؟! قال: «ذلك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام)، يا عقبة لن تموت نفس مؤمنة أبداً حتى تراهما». قلت: فإذا نظر إليهما المؤمن، أيرجع إلى الدنيا؟ فقال: «لا، يمضي أمامه، إذا نظر إليهما مضى أمامه» فقلت له: يقولان شيئاً؟ قال: «نعم يدخلان جميعاً على المؤمن، فيجلس رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عند رأسه وعلي(عليه السلام) عند رجليه فيكبّ عليه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فيقول: يا ولي اللّه، أبشر أنا رسول اللّه، إني خير لك مما تركت من الدنيا، ثم ينهض رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فيقوم علي(عليه السلام) حتى يكبّ عليه فيقول: يا ولي اللّه، أبشر أنا علي بن أبي طالب الذي كنت تحبه أما لأنفعنك، ثم قال: إن هذا في كتاب اللّه عزّ وجلّ». قلت: أين جعلني اللّه فداك هذا من كتاب اللّه؟

قال: «في يونس قول اللّه عزّ وجلّ هاهنا: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَفِي الْأخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}»(1)(2).

المصير والمأوى: الجنة أو النار

ثم إنه بعد انتهاء الحساب وانقضاء يوم القيامة، وانتهاء الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 270


1- سورة يونس، الآية: 63- 64.
2- الكافي 3: 128.

وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام) من تقسيم أهل المحشر بإذن اللّه تعالى وسَوق أهل النار إلى النار، وهداية أهل الجنة إلى الجنة، تغلق أبواب النار على أهلها، وأبواب الجنة على أهلها، ويؤتى - كما في الخبر - بالموت على صورة كبش ويُذبح، ثم يُعلن بعد ذلك: بأنه لا موت لأحد، فأهل الجنة خالدون في الجنة، وأهل النار - والعياذ باللّه - مخلدون في النار... .

وعندما يصل هذا الخبر إلى كل من أهل الجنة وأهل النار، يفرح أهل الجنة فرحاً كبيراً، بحيث لو كان هناك موت لماتوا فرحاً، ويحزن أهل النار حزناً شديداً بحيث لو كان هناك موت لماتوا جزعاً وفزعاً.

روي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال: «إذا أدخل اللّه أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، جي ء بالموت في صورة كبش حتى يوقف بين الجنة والنار - قال - ثم ينادي مناد يسمع أهل الدارين جميعاً: يا أهل الجنة، يا أهل النار، فإذا سمعوا الصوت أقبلوا، قال: فيقال لهم: أتدرون ما هذا؟ هذا هو الموت الذي كنتم تخافون منه في الدنيا. قال: فيقولون أهل الجنة: اللّهم، لا تدخل الموت علينا، قال: ويقول أهل النار: اللّهم أدخل الموت علينا. قال: ثم يذبح كما تذبح الشاة، قال: ثم ينادي مناد: لا موت أبداً، أيقنوا بالخلود. قال: فيفرح أهل الجنة فرحاً لو كان أحد يومئذ يموت من فرح لماتوا، قال: ثم قرأ هذه الآية - {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَٰمِلُونَ}(1) قال: ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد يموت من شهيق لماتوا، وهو قول اللّه عزّ وجلّ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}»(2)(3)

ص: 271


1- سورة الصافات، الآية: 58-61.
2- سورة مريم، الآية: 39.
3- الزهد: 100.

يقول الباري عزّ وجلّ: {وَنَضَعُ الْمَوَٰزِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَئًْا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٖ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ}(1).

ويقول جلّ جلاله: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَاإِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(2).

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «ما خلق اللّه خلقاً إلّا جعل له في الجنة منزلاً وفي النار منزلاً، فإذا أسكن أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة، أشرفوا، فيشرفون على النار، ويرفع لهم منازلهم في النار، ثم يقال لهم: هذه منازلكم التي لو عصيتم ربكم دخلتموها، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة ذلك اليوم فرحاً بما صرف عنهم من العذاب، ثم ينادون: يا معاشر أهل النار، ارفعوا رءوسكم فانظروا إلى منازلكم في الجنة، فيرفعون رءوسهم فينظرون إلى منازلهم وما فيها من النعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربكم دخلتموها. قال: فلو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار ذلك اليوم حزناً أهل النار، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء، وهؤلاء منازل هؤلاء، وذلك قول اللّه تعالى: {أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْوَٰرِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}»(3)(4).

نعم، الدنيا دار غرور، فهنيئاً لمن لم يغتر بها، ويسعى فيها للمجتمع الإسلامي الصالح، ويسعى فيها لآخرته، ويستغل فرصة العمر للعمل من أجل توفير النور لقبره وقيامته، وإعداد الدعة والراحة لبرزخه حتى يفوز يوم القيامة

ص: 272


1- سورة الأنبياء، الآية: 47.
2- سورة آل عمران، الآية: 185.
3- سورة المؤمنون، الآية: 10- 11.
4- ثواب الأعمال: 258.

بالخلد في الجنة ونعيمها.

إنه يلزم على المسلمين جميعاً تهيئة الأمور والأسباب من أجل إعادة المجتمع الإسلامي الصالح الذي يفوز الفرد فيه بسعادة الدارين، وبرضا الباريعزّ وجلّ ورضا الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الميامين(عليهم السلام)، وذلك عبر استغلال الفرص، والإخلاص في العمل، والصفاء في النية، والتركيز على القواعد والأركان الأساسية في المجتمع لهدايته، وترك الأمور الهامشية التي تحاول أن تبعّد الإنسان عن هذا الطريق.

وإن شاء اللّه تعالى، يتوجه المسلمون إلى أنفسهم ويوفرون في ذواتهم ومجتمعاتهم الاستعداد اللازم للمسير في طريق التقدم والازدهار في هذه الحياة وتطبيق الأوامر الإلهية السمحاء، للفوز بالحياة الطيبة في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة، كما يلزم السعي في إقامة حكومة واحدة عالمية لكل المسلمين في العالم.

وأخيراً نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يطهر قلوبنا وينقي أرواحنا، ويملأها حباً له، وخشية منه، وتصديقاً به، وعملاً بكتابه وسنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم) وسيرة أهل بيت رسوله(عليهم السلام) وأوليائه الصالحين.

«اللّهم املأ قلبي حبّاً لك، وخشية منك، وتصديقاً وايماناً بك، وفرقاً منك، وشوقاً اليك، يا ذا الجلال والإكرام. اللّهم حبّب إليّ لقائك، واجعل في لقائك خير الرحمة والبركة، وألحقني بالصالحين، ولاتؤخرني مع الأشرار، وألحقني بصالح من مضى، واجعلني مع صالح من بقي، وخُذ بي سبيل الصالحين، وأعني على نفسي بما تعين به الصالحين على أنفسهم، ولاتردني في سوء استنقذتني منه يارب العالمين»(1).

ص: 273


1- الكافي 2: 586.

من هدي القرآن الحكيم

عالم الذر والأصلاب

قال اللّه تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰأَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(2).

وقال سبحانه: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٖ دَافِقٖ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}(3).

وقال تعالى: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَٰنِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَئًْا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٖ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعَا بَصِيرًا}(4).

عالم الأرحام

قال اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}(5).

وقال سبحانه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن

ص: 274


1- سورة الأعراف، الآية: 172- 173.
2- سورة البقرة، الآية: 124.
3- سورة الطارق، الآية: 5-8.
4- سورة الإنسان، الآية: 1-2.
5- سورة آل عمران، الآية: 6.
6- سورة الرعد، الآية: 8.

تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٖ شَئًْا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَاالْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجِ بَهِيجٖ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ * ثُمَّ جَعَلْنَٰهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا الْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(3).

عالم الدنيا

قال اللّه تعالى: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(4).

وقال سبحانه: {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَٰلِ وَالْأَوْلَٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمًا وَفِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَٰمُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا

ص: 275


1- سورة الحج، الآية: 5.
2- سورة لقمان، الآية: 34.
3- المؤمنون، الآية: 12-14.
4- سورة الأنعام، الآية: 32.
5- سورة الحديد، الآية: 20.

أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَا أَتَىٰهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1).

قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِالدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(2).

وقال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَفِي الْأخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}(3).

وقال جلّ اسمه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(4).

خاتمة عالم الدنيا

قال تبارك وتعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(5).

وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(6).

وقال تبارك اسمه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(7).

ص: 276


1- سورة يونس، الآية: 24- 25.
2- سورة الأعراف، الآية: 152.
3- سورة إبراهيم، الآية: 27.
4- سورة البقرة، الآية: 29.
5- سورة الزمر، الآية: 30.
6- سورة آل عمران، الآية: 185.
7- سورة الجمعة، الآية: 8.
عالم البرزخ

قول اللّه تعالى: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(1).

وقوله عزّ وجلّ: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتُ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّاتَشْعُرُونَ}(2)

وقوله سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(3).

عالم الآخرة

قال اللّه سبحانه: {وَإِنَّ الدَّارَ الْأخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(4).

وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا * وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَلْأخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَمَنْ أَرَادَ الْأخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

عالم الذر والأصلاب

قال الإمام الباقر عن أبيه عن جدّه(عليهم السلام): «أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال لعلي(عليه السلام):

ص: 277


1- سورة المؤمنون، الآية: 100.
2- سورة البقرة، الآية: 154.
3- سورة آل عمران، الآية: 169.
4- سورة العنكبوت، الآية: 64.
5- سورة الأعلى، الآية: 16-17.
6- سورة الضحى، الآية: 4.
7- سورة الإسراء، الآية: 19.

أنت الذي احتج اللّه بك في ابتدائه الخلق حيث أقامهم أشباحاً، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: ومحمد رسولي؟ قالوا: بلى. قال: وعلي بن أبي طالب وصيي؟ فأبى الخلق جميعاً إلّا استكباراً، وَعَتَوا من ولايتك إلّا نفر قليل،وهم أقل القليل، وهم أصحاب اليمين»(1).

وعن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {مُّخَلَّقَةٖ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٖ}(2)؟ فقال: «المخلَّقة، هم الذر الذين خلقهم اللّه في صلب آدم(عليه السلام) أخذ عليهم الميثاق، ثم أجراهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وهم الذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق، وأما قوله: {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٖ} فهم كل نسمة لم يخلقهم اللّه في صلب آدم(عليه السلام) حين خلق الذر، وأخذ عليهم الميثاق، وهم النطف من العزل والسقط قبل أن ينفخ فيه الروح والحياة والبقاء»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان، وخلق نور الأنوار الذي نورت منه الأنوار، وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار، وهو النور الذي خلق منه محمداً وعلياً(عليهما السلام)، فلم يزالا نورين أولين إذ لا شي ء كوّن قبلهما، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد اللّه وأبي طالبٍ(عليهما السلام)»(4).

وقال الإمام الصادق عن أبيه عن جده عن أبيه(عليهم السلام): «سُئل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أين كنت وآدم في الجنة؟ قال: كنت في صلبه، وهبط بي إلى الأرض في صلبه، وركبت

ص: 278


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 232.
2- سورة الحج، الآية: 5.
3- الكافي 6: 12.
4- الكافي 1: 442.

السفينة في صلب نوح، وقذف بي في النار في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق لي أبوان على سفاح قط، ولم يزل اللّه عزّ وجلّ ينقلني في الأصلاب الطيبة إلى الأرحامالطاهرة، هادياً مهدياً، حتى أخذ اللّه بالنبوة عهدي وبالإسلام ميثاقي، وبين كل شي ء من صفتي، وأثبت في التوراة والإنجيل ذكري ورقاني إلى سمائه، وشق لي إسماً من أسمائه الحسنى، أمتي الحمادون، فذو العرش محمود وأنا محمد»(1).

وعن الحسين بن نعيمٍ الصحاف قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن قول اللّه: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ}(2)؟ فقال: «عرف اللّه عزّ وجلّ إيمانهم بموالاتنا وكفرهم بها يوم أخذ عليهم الميثاق وهم ذر في صلب آدم»، وسألته عن قوله عزّ وجلّ: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(3)؟ فقال: «أما واللّه، ما هلك من كان قبلكم وما هلك من هلك حتى يقوم قائمنا(عليه السلام) إلّا في ترك ولايتنا وجحود حقنا، وما خرج رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) من الدنيا حتى ألزم رقاب هذه الأمة حقنا، واللّه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ»(4).

عالم الأرحام

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ إذا أراد أن يخلق النطفة التي مما أخذ عليها الميثاق في صلب آدم، أو ما يبدو له فيه، ويجعلها في الرحم، حرّك الرجل للجماع، وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري، فتفتح الرحم بابها فتصل النطفة إلى الرحم، فتردد فيه أربعين يوماً، ثم تصير علقةً أربعين يوماً، ثم تصير مضغةً أربعين يوماً، ثم تصير لحماً تجري فيه

ص: 279


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 624.
2- سورة التغابن، الآية: 2.
3- سورة التغابن، الآية: 12.
4- الكافي 1: 426.

عروق مشتبكة، ثم يبعث اللّه ملكين خلّاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء اللّه، فيقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة، فيصلان إلى الرحم، وفيها الروح القديمةالمنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء، ويشقان له السمع والبصر وجميع الجوارح وجميع ما في البطن، بإذن اللّه، ثم يوحي اللّه إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري، واشترطا لي البداء فيما تكتبان، فيقولان: يا رب، ما نكتب؟ فيوحي اللّه إليهما: أن ارفعا رءوسكما إلى رأس أمه، فيرفعان رءوسهما، فإذا اللوح يقرع جبهة أمه، فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه، شقياً أو سعيداً وجميع شأنه - قال - فيملي أحدهما على صاحبه، فيكتبان جميع ما في اللوح، ويشترطان البداء فيما يكتبان، ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه، ثم يقيمانه قائماً في بطن أمه - قال - فربما عَتا فانقلب، ولا يكون ذلك إلّا في كل عات أو مارد، وإذا بلغ أوان خروج الولد تاماً، أو غير تام، أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى الرحم: أن افتحي بابك حتى يخرج خلقي إلى أرضي، وينفذ فيه أمري، فقد بلغ أوان خروجه. - قال - فيفتح الرحم باب الولد فيبعث اللّه إليه ملكاً يقال له: زاجر فيزجره زجرةً، فيفزع منها الولد، فينقلب فيصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن؛ ليسهل اللّه على المرأة وعلى الولد الخروج - قال - فإذا احتبس زجره الملك زجرةً أخرى، فيفزع منها، فيسقط الولد إلى الأرض باكياً فزعاً من الزجرة»(1).

وعن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن الخلق؟ قال(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى، لما خلق الخلق من طين، أفاض بها كإفاضة القِداح، فأخرج المسلم فجعله سعيداً، وجعل الكافر شقياً، فإذا وقعت النطفة تلقتها الملائكة فصوروها،

ص: 280


1- الكافي 6: 13.

ثم قالوا: يا رب، أذكراً أو أنثى؟ فيقول الرب جلّ جلاله أي ذلك شاء، فيقولان:تبارك اللّه أحسن الخالقين، ثم توضع في بطنها، فتردد تسعة أيام في كل عرق ومَفْصل، ومنها للرحم ثلاثة أقفال: قفل في أعلاها مما يلي أعلى الصرة من الجانب الأيمن، والقفل الآخر وسطها، والقفل الآخر أسفل من الرحم، فيوضع بعد تسعة أيام في القفل الأعلى، فيمكث فيه ثلاثة أشهر، فعند ذلك يصيب المرأة خبث النفس والتهوع، ثم ينزل إلى القفل الأوسط، فيمكث فيه ثلاثة أشهر وصرة الصبي فيها مجمع العروق، وعروق المرأة كلها منها يدخل طعامه وشرابه من تلك العروق، ثم ينزل إلى القفل الأسفل، فيمكث فيه ثلاثة أشهر، فذلك تسعة أشهر، ثم تطلق المرأة، فكلما طلقت انقطع عرق من صرة الصبي، فأصابها ذلك الوجع، ويده على صرته، حتى يقع إلى الأرض ويده مبسوطة، فيكون رزقه حينئذ من فيه»(1).

فرصة العمر

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «... واللّه، ما يساوي ما مضى من دنياكم هذه بأهداب(2) بردي هذا، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء، وكل إلى بقاء وشيك وزوال قريب، فبادروا العمل وانتم في مهل الأنفاس وجدة الاحلاس(3) قبل أن تأخذوا بالكظم(4) فلا ينفع الندم»(5).

وقال الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام): «الفرصة تمر مرّ السحاب فانتهزوا فرص

ص: 281


1- الكافي 6: 15.
2- الأهداب: جمع هُدْب، وهو خمل الثوب وطرته.
3- جِدّة الثوب: كونه جديداً، والأحلاس جمع حلس: ما يوضع على ظهر الدابة تحت السرج.
4- الكَظَم: مخرج النفس.
5- أعلام الدين: 341.

الخير»(1).

وقال الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام): «يا ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ ممّا في يديك لما بين يديك، فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع - وكان يتلو بعد هذه الموعظة: - {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ}»(2)(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «بادر بانتهاز البُغْية(4) عند إمكان الفرصة، ولا إمكان كالأيّام الخالية مع صحة الأبدان...»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... من انتظر بمعاجلة الفرصة مؤاجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصته؛ لأن من شأن الأيام السلب، وسبيل الزمن الفوت»(6).

حب الدنيا والاغترار بها

فيما أوصى اللّه تعالى إلى موسى(عليه السلام): «إعلم إن كل فتنةٍ بذرها حبّ الدنيا»(7).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «حب الدنيا أصل كل معصية وأوّل كل ذنب»(8).

وفي حديث المعراج: «... لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض، وصام

ص: 282


1- نهج البلاغة، قصار الحكم الرقم: 21.
2- سورة البقرة، الآية: 197.
3- نزهة الناظر وتنبية الخاطر: 79.
4- البُغية: مصدر بغى الشيء أي طلبه، وانتهاز البُغية: اغتنامها والنهوض إليها مبادراً.
5- تحف العقول: 286.
6- بحار الأنوار 75: 268.
7- قصص الأنبياء(عليهم السلام): 163.
8- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 122.

صيام أهل السماء والأرض، وطوى من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاري، ثمّ أرى في قلبه من حب الدنيا ذرّة أو سمعتها، أو رئاستها، أو حُليتها، أو زينتها، لا يجاورني في داري ولأنزعنّ من قلبه محبّتي...»(1).

وقال الإمام زين العابدين(عليهما السلام): «... ما من عمل بعد معرفة اللّه عزّ وجلّ، ومعرفة رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) أفضل من بغض الدنيا... فتشعَّب من ذلك حب النساء، وحب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلوّ والثروة، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهنّ في حب الدنيا، فقال الأنبياء(عليهم السلام) والعلماء بعد معرفة ذلك: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والدنيا دنياءان دنيا بلاغ ودنيا ملعونة»(2).

عالم البرزخ

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً، سلطت الأرض عليهم فيه فأكلت من لحومهم وشربت من دمائهم فأصبحوا في فجوات قبورهم جماداً لا ينمون وضماراً(3) لايوجدون»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما من موضع قبرٍ إلّا وهو ينطق كل يومٍ ثلاث مراتٍ: أنا بيت التراب، أنا بيت البلاء، أنا بيت الدود. - قال - فإذا دخله عبد مؤمن قال: مرحباً وأهلاً، أما واللّه لقد كنت أحبك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني، فسترى ذلك. - قال - فيفسح له مد البصر، ويفتح له باب يرى مقعده من الجنة، - قال - ويخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئاً قط

ص: 283


1- إرشاد القلوب 1: 206.
2- الكافي 2: 317.
3- الضِمار: المال لا يُرجى رجوعه.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 221 من كلام له(عليه السلام) قاله بعد تلاوته: {أَلْهَىٰكُمُ التَّكَاثُرُ}. سورة التكاثر، الآية: 1.

أحسن منه، فيقول: يا عبد اللّه ما رأيت شيئاً قط أحسن منك!! فيقول: أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه، وعملك الصالح الذي كنت تعمله. - قال - ثم تؤخذ روحه، فتوضع في الجنة حيث رأى منزله، ثم يقال له: نَم قرير العين، فلا يزال نفحة من الجنة تصيب جسده، يجد لذتها وطيبها حتى يبعث. قال: وإذا دخل الكافر قال: لا مرحباً بك ولا أهلاً. أما واللّه لقد كنت أبغضك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني، سترى ذلك. قال: فتضم عليه فتجعله رميماً، ويعاد كما كان، ويفتح له باب إلى النار، فيرى مقعده من النار. ثم قال: ثم إنه يخرج منه رجل أقبح من رأى قط، قال: فيقول: يا عبد اللّه، من أنت!! ما رأيت شيئاً أقبح منك؟ قال: فيقول: أنا عملك السيء الذي كنت تعمله ورأيك الخبيث. قال: ثم تؤخذ روحه فتوضع حيث رأى مقعده من النار، ثم لم تزل نفخة من النار تصيب جسده، فيجد ألمها وحرّها في جسده إلى يوم يبعث، ويسلّط اللّه على روحه تسعةً وتسعين تِنّيناً تنهشه، ليس فيها تِنّين ينفخ على ظهر الأرض فتنبت شيئاً»(1).

وعن عمرو بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إني سمعتك وأنت تقول: «كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم».

قال: «صدقتك كلهم واللّه في الجنة».

قال: قلت: جعلت فداك، إن الذنوب كثيرة كبار؟!

فقال: «أما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع(صلی الله عليه وآله وسلم) أو وصي النبي(عليه السلام) ولكني واللّه أتخوف عليكم في البرزخ».

قلت: وما البرزخ؟

ص: 284


1- الكافي 3: 241.

قال: «القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة»(1).

ما ينفع للدنيا والبرزخ والآخرة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في أبلغ الوصايا لجميع الدنيا والآخرة: «من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدنيا، الساكن مساكن الموتى، والظاعن عنها غداً، إلى المولود المؤمل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام، ورهينة الأيام، ورمية المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، وأسير الموت وحليف الهموم، وقرين الأحزان، ونُصب الآفات، وصريع الشهوات، وخليفة الأموات.

أما بعد، فإن فيما تبينتُ من إدبار الدنيا عني، وجموح الدهر عليَّ، وإقبال الآخرة إليّ، ما يزعني(2) عن ذكر من سواي، والاهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي، فصدفني رأيي وصرفني عن هواي وصرَّح لي محض أمري، فأفضى بي إلى جدٍّ لايكون فيه لعب، وصدق لا يشوبه كذب، ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي. فكتبت إليك كتابي مستظهراً به إن أنا بقيت لك أو فنيت، فإني أوصيك بتقوى اللّه، أي بني، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين اللّه إن أنت أخذت به. أحْيِ قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّه باليقين، ونوره بالحكمة، وذللِّه بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصِّره فجائع الدنيا،وحذره صولة الدهر، وفُحْش تقلب الليالي والأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين،

ص: 285


1- الكافي 2: 242.
2- يزعني: يكفّني ويصدّني.

وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسِر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا، وعما انتقلوا، وأين حلوا ونزلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة، وحلوا ديار الغربة، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم، فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تكلَّف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته؛ فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال، وأمُر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك، وبايِن من فعله بجهدك، وجاهد في اللّه حق جهاده ولا تأخذك في اللّه لومة لائم، وخض الغمرات للحق حيث كان، وتفقه في الدين، وعوّد نفسك التصبر على المكروه، ونعم الخلق التصبر في الحق، وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز، وأخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان، وأكثر الاستخارة، وتفهَّم وصيتي، ولا تذهبن عنك صفحاً؛ فإن خير القول ما نفع. واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع، ولاينتفع بعلم لا يحق تعلمه.

أي بني، إني لما رأيتني قد بلغت سناً ورأيتني أزداد وهناً، بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً منها قبل أن يَعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا، فتكون كالصَّعب النفور، وإنما قلب الحَدَث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بُغيته وتجربته، فتكون قد كفيت مئونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه.

أي بني، إني وإن لم أكن عُمّرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما

ص: 286

انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله(1)، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نية سليمة، ونفس صافية. وأن أبتدئك بتعليم كتاب اللّه عزّ وجلّ وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره، ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم، مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة، ورجوت أن يوفقك اللّه فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إليك وصيتي هذه.

واعلم يا بني، أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى اللّه، والاقتصار على ما فرضه اللّه عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات وعلق الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع، وتم رأيكفاجتمع، وكان همك في ذلك هماً واحداً، فانظر فيما فسرت لك، وإن لم يجتمع لك ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك، فاعلم أنك إنما تخبط

ص: 287


1- نخيله: المختار المصفّى.

العشواء، وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل.

فتفهَّم يا بني وصيتي، واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة، وأن الخالق هو المميت، وأن المفني هو المعيد، وأن المبتلي هو المعافي، وأن الدنيا لم تكن لتستقر إلّا على ما جعلها اللّه عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد، أو ما شاء مما لا تعلم. فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك، فإنك أول ما خلقت به جاهلاً، ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك، فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسواك، وليكن له تعبدك، وإليه رغبتك، ومنه شفقتك.

واعلم يا بني، أن أحداً لم ينبئ عن اللّه سبحانه كما أنبأ عنه الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) فارضَ به رائداً، وإلى النجاة قائداً، فإني لم آلك نصيحة، وإنك لن تبلغ في النظر لنفسك وإن اجتهدت مبلغ نظري لك.

واعلم يا بني، أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه، لا يضادّه في ملكه أحد، ولا يزول أبداً ولم يزل، أولٌ قبل الأشياء بلا أولية، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية، عظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله، في صغر خطره وقلة مقدرته وكثرة عجزه وعظيم حاجته إلى ربه، في طلب طاعته والخشية من عقوبته والشفقة من سخطه؛ فإنه لم يأمرك إلّا بحسن، ولم ينهك إلّا عن قبيح.

يا بني، إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها، وأنبأتك عن الآخرة وما أعدّ لأهلها فيها، وضربت لك فيهما الأمثال؛ لتعتبر بها وتحذو عليها، إنما مثل من خبر الدنيا كمثل قوم سفر، نبا بهم منزل جديب، فأموا منزلاً خصيباً

ص: 288

وجَناباً مريعاً(1)، فاحتملوا وعثاء الطريق، وفراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم؛ ليأتوا سعة دارهم، ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشيء من ذلك ألماً، ولا يرون نفقةً فيه مغرماً، ولا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم وأدناهم من محلتهم، ومثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خَصيب، فنبا بهم إلى منزل جَديب، فليس شيء أكره إليهم، ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه.

يا بني، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلم كما لا تحب أن تُظلم، وأحسن كما تحب أن يحُسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك. ولا تقل ما لا تعلم، وإن قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يُقال لك. واعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب، فاسع في كدحك، ولا تكن خازناً لغيرك، وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك. واعلم أن أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة، ومشقة شديدة، وأنه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد، وقدر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك؛ فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة، فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه،وحمّله إياه، وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه، فلعلّك تطلبه فلا تجده، واغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك.

واعلم أن أمامك عقبةً كئوداً(2)، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل،

ص: 289


1- الجَديب: المقحط لا خير فيه، الجَناب: الناحية، المَريع: كثير العُشب.
2- كؤوداً: صعبة المرتقى.

والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع، وأن مهبطك بها لا محالة، إما على جنة أو على نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطئ المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتب، ولا إلى الدنيا منصرف.

واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء، وتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيرك بالإنابة، ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدد عليك في قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسْك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنةً، وحسب سيئتك واحدةً وحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب، وباب الاستعتاب، فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، وربما أخرت عنك الإجابة؛ ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربما سألت الشيء فلاتؤتاه، وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرُبّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له.

واعلم يا بني، أنك إنما خُلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنك في قلعة ودار بلغة وطريق إلى الآخرة، وأنك طريد الموت الذي لا

ص: 290

ينجو منه هاربه، ولا يفوته طالبه، ولا بد أنه مدركه، فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة، فيحول بينك وبين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك.

يا بني، أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتةً فيبهرك.

وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها، وتكالبهم عليها، فقد نبأك اللّه عنها، ونعت هي لك عن نفسها، وتكشفت لك عن مساويها، فإنما أهلها كلاب عاوية، وسباع ضارية، يهرّ بعضها على بعض، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها، نِعَم معقلة، وأخرى مهملة، قد أضلت عقولها، وركبت مجهولها، سروح عاهة(1) بواد وعث، ليس لها راع يقيمها، ولا مسيم(2) يسيمها، سلكت بهم الدنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها، وغرقوا في نعمتها، واتخذوها رباً، فلعبت بهم ولعبوا بها، ونسوا ما وراءها. رويداً يسفر الظلام كأن قد وردت الأظعان، يوشك من أسرع أن يلحق.واعلم يا بني، أن من كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يُسار به وإن كان واقفاً، ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً(3).

واعلم يقيناً أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وأنك في سبيل من كان قبلك، فخفّض في الطلب، وأجمل في المكتسب، فإنه رُبّ طلب قد جر إلى حرب، وليس كل طالب بمرزوق، ولا كل مجمل بمحروم، وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب؛ فإنك لن

ص: 291


1- السُروح: جمع سَرْح، وهو المال السارح السائم من إبل ونحوها. العاهة: الآفة، فالمراد بقوله: «سروح عاهة»: أنهم يسرحون لرعي الآفات.
2- مُسيم: مِن أسام الدابة يسيمها، سرحها إلى المرعى.
3- الوادع: الساكن المستريح.

تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً، وما خير ُخيرٍ لا ينال إلّا بشر، ويسرٍ لا ينال إلّا بعسر.

وإياك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل الهلكة، وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين اللّه ذو نعمة فافعل؛ فإنك مدرك قسمك وآخذ سهمك، وإن اليسير من اللّه سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه، وإن كان كل منه. وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك، وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء(1).

وحفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يدي غيرك، ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس، والحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور، والمرء أحفظ لسرّه، وربّ ساع فيما يضره، من أكثر أهجر، ومن تفكر أبصر، قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم، بئس الطعام الحرام، وظلم الضعيف أفحش الظلم، إذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً، ربما كان الدواء داءً والداء دواءً، وربما نصح غير الناصح وغش المستنصح.

وإياك والاتكال على المُنى؛ فإنها بضائع النوكى(2)، والعقل حفظ التجارب،وخير ما جربت ما وعظك، بادر الفرصة قبل أن تكون غصةً، ليس كل طالب يصيب، ولا كل غائب يئوب، ومن الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد، ولكل أمر عاقبة، سوف يأتيك ما قدّر لك، التاجر مخاطر، ورب يسير أنمى من كثير، لا خير في معين مَهين ولا في صديق ظنين، ساهل الدهر ما ذلّ لك قعوده، ولا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه، وإياك أن تجمح بك مطية اللجاج. احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند

ص: 292


1- بشد وكائها: أي رباطها.
2- النَّوْكى: جمع أنوك وهو كالأحمق وزناً ومعنى.

جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على العذر، حتى كأنك له عبد، وكأنه ذو نعمة عليك، وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله. لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحةً، وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعةً أحلى منها عاقبةً، ولا ألذ مغبةً. ولِن لمن غالظك؛ فإنه يوشك أن يلين لك، وخذ على عدوك بالفضل؛ فإنه أحلى الظفرين، وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيةً يرجع إليها، إن بدا له ذلك يوماً ما. ومن ظن بك خيراً فصدّق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه؛ فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك، ولا ترغبن فيمن زهد عنك، ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك؛ فإنه يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرّك أن تسوءه.

واعلم يا بني، أن الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك، فإن أنت لم تأته أتاك، ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى، إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، وإن كنت جازعاً على ما تفلّت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك، استدل على ما لم يكن بما قد كان؛ فإن الأمور أشباه. ولا تكوننممن لاتنفعه العظة إلّا إذا بالغت في إيلامه؛ فإن العاقل يتعظ بالآداب، والبهائم لا تتعظ إلّا بالضرب. اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين، من ترك القصد جار، والصاحب مناسب، والصديق من صدق غيبه، والهوى شريك العمى. وربّ بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من بعيد، والغريب من لم يكن له حبيب، من تعدى الحق ضاق مذهبه، ومن اقتصر على قدره كان أبقى له، وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين اللّه سبحانه، ومن لم يبالك فهو

ص: 293

عدوك، قد يكون اليأس إدراكاً إذا كان الطمع هلاكاً، ليس كل عورة تظهر، ولا كل فرصة تصاب، وربما أخطأ البصير قصده، وأصاب الأعمى رشده، أخّر الشر، فإنك إذا شئت تعجلته، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل، من أمن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه، ليس كل من رمى أصاب، إذا تغير السلطان تغير الزمان، سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار، إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكاً، وإن حكيت ذلك عن غيرك... استودع اللّه دينك ودنياك، واسأله خير القضاء لك في العاجلة والآجلة، والدنيا والآخرة، والسلام»(1).

زراعة الدنيا للآخرة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «التعاون على إقامة الحق أمانة وديانة»(2).

وقال(عليه السلام): «ثابروا على صلاح المؤمنين والمتقين»(3).

وقال(عليه السلام): «خير الناس من نفع الناس»(4).

وقال(عليه السلام): «إذا رأيت مظلوماً فأعنه على الظالم»(5).

وقال(عليه السلام): «فعل المعروف وإغاثة الملهوف وإقراء الضيوف آلةُ السيادة»(6).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «كما تعين تُعان»(7).

ص: 294


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
2- غررالحكم ودررالكلم: 71.
3- غررالحكم ودررالكلم: 334.
4- غررالحكم ودررالكلم: 357.
5- غررالحكم ودررالكلم: 286
6- غررالحكم ودررالكلم: 484
7- غررالحكم ودررالكلم: 535.

الشعور بالمسؤولية

تحمل المسؤولية

قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(1).

جاء في معنى الآية الشريفة: إن الإيمان أمانة في عنق الإنسان، يجب عليه أن يرد هذه الأمانة سالمة، من دون أن يشوبها خيانة الكفر والعصيان، ولقد كانت هذه الأمانة ثقيلة، بحيث إن أضخم المخلوقات لا تتحمل أن تقبلها، أما الإنسان الضعيف فقد قبلها، لكنه يخون بها لظلمه وجهله، فقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} أي: أمانة الإيمان {عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} ليقبلنها بأن توضع عندهن أمانة الإيمان فيتحفظن عليها {فَأَبَيْنَ} هذه الأشياء وامتنعن {أَن يَحْمِلْنَهَا} أي: يحملن الأمانة ويقبلنها {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} أي: خفن إن قبلن الأمانة أن يخن فيها {وَحَمَلَهَا الْإِنسَٰنُ} قبلها لما عُرضت عليه، لكنه هل يؤدي الأمانة كما قبل؟ كلا {إِنَّهُ} أي: أن الإنسان {كَانَ ظَلُومًا} كثير الظلم{جَهُولًا} كثير الجهل، فتارة يخون فيها لجهله، وأخرى يخون فيها لعصيانه.

وهذه الآية كناية عن صعوبة التحفظ على الإيمان، فقد اعتاد البلغاء أن يشبِّهوا الأشياء المعنوية بالأمور الحسية، للتقريب إلى الذهن.

ص: 295


1- سورة الأحزاب، الآية: 72.

قالت الصديقة فاطمة الزهراء(عليها السلام):قل للمغيب تحت أطباق الثرى

إن كنت تسمع صرختي وندائيا *** صبت عليَّ مصائب لو أنها

صبت على الأيام صرن لياليا(1)

وقال الشاعر:

ولو أن بي من شديد رزية *** على جبل قد ساخ في الأرض ذاهباً

ومن المحتمل أن يكون الكلام على الحقيقة - لا المجاز - بأن عُرضت الأمانة على هذه الأشياء، هل يقبلنها؟ فأبين.

قال الفيض الكاشاني(رحمه الله) في (الصافي): المراد بالأمانة التكليف، وبعرضها عليهن النظر إلى استعدادهن، وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد، وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها، وكونه ظلوماً جهولاً لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية، وهو وصف للجنس باعتبار الأغلب(2).

وعلى هذا المعنى، فما ورد في الأحاديث من كونها ولاية أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أو نحوها، فالمراد بيان بعض المصاديق بل أهمها(3).

وعلى رأي بعض المفسرين أن هذه الآية تعني: تحمل المسؤولية إلى جانب مواجهة المشقة وتحمل الصعاب...(4).

ولو كان مسلمو زماننا ملتزمين بتحمل المسؤولية بصدق، لما عاشت الأمة الذلة والتأخر، لكن الكثير من مسلمي اليوم اكتفوا بترديد الشعارات فقط

ص: 296


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 242.
2- تفسير الصافي 4: 206.
3- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 364.
4- انظر: التبيان في تفسير القرآن 8: 367. وتفسير مجمع البيان 8: 186.

والوقوف على المنصات، وتركوا الموقف العملي والتحمل للمسؤولية.

من مشاكل الأمة

اشارة

من أهم المشاكل التي ابتلي بها المسلمون في العصر الحاضر، هو عدم الشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم.

إن كلمة التوحيد المباركة: «لا إله إلا اللّه» ليست أمراً صعباً من حيث اللفظ، إلّا أن الشيء الصعب فيها هو تحمل المسؤولية في إعطاء هذه الكلمة حقها.

ولم يكن امتناع بعض المشركين عن أداء الشهادتين في زمن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلّا للفرار من تحمل المسؤولية التي سوف يحملونها لو نطقوا بالشهادتين.

فإذا وجد الإحساس بالمسؤولية في الفرد أو الجماعة، مع العمل والصبر والاستقامة في أي مجال يهدف إليه، فهذه كفيلة بإيصال الإنسان إلى هدفه الذي يسعى من أجله.

معاناة سيد الرسل(صلی الله عليه وآله وسلم)

كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) النموذج الأول في تحمل المسؤولية وأدائها بأفضل ما يمكن.

وقد لقي(صلی الله عليه وآله وسلم) في ذلك أعظم المصاعب والمصائب من قومه وأعدائه حتى قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(1)، هذا على الرغم من تحليه(صلی الله عليه وآله وسلم) بأحسن الأخلاق وأعظم مراتب الصبر والمداراة، واتصافه بالعلم واتصاله بالوحي، فتحمل(صلی الله عليه وآله وسلم) مختلف المصاعب والمصائب التي مر بها في حياته الشريفة شعوراً بالمسؤولية، كما تحملت عترته الطاهرة(عليهم السلام) من بعده أشد الظلم والجور من قبل الطغاة والظلمة وذلك من أجل أداء المسؤولية.

ص: 297


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 247.

فهو(صلی الله عليه وآله وسلم) كما كان أسوة لنا في الصلاة والصيام والحج وسائر العبادات،كذلك هو أسوة لنا في تحمل المسؤولية وإنقاذ الأمة وهداية الناس إلى طريق الخير والفضيلة؛ لذا يجب على كل واحد منا أن يقتدي به(صلی الله عليه وآله وسلم) حتى يتمكن من التقدم ومن نيل سعادة الدنيا والآخرة.

لقد قالوا عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون و... لكنه لم يتخل عن مسؤوليته.

قال تبارك وتعالى: {وَعَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٌ كَذَّابٌ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}(2).

وقال تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُواْ أَضْغَٰثُ أَحْلَٰمِ بَلِ افْتَرَىٰهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بَِٔايَةٖ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}(3).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يمشي بمكة وأخوه علي(عليه السلام) يمشي معه، وعمه أبو لهب خلفه يرمي عقبه بالأحجار وقد أدماه، ينادي: معاشر قريش، هذا ساحر كذاب فاقذفوه واهجروه واجتنبوه. وحرش عليه أوباش قريش، فتبعوهما يرمونهما بالأحجار فما منها حجر أصابه إلّا أصاب عليا(عليه السلام)...»(4).

هكذا كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) يشعران بالمسؤولية

ص: 298


1- سورة ص، الآية: 4.
2- سورة الذاريات، الآية: 52.
3- سورة الأنبياء، الآية: 4-5.
4- بحار الأنوار 17: 260.

ويتحملانها ويؤديانها بأحسن ما يمكن.ثم إن قريشاً أرسلت عمه أبا طالب(عليه السلام) إليه ليقول لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عنهم:

اترك هذا الأمر!

فاغرورقت عينا الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) بالدموع، وقال بكل صبر وصمود وإحساس كبير بالمسؤولية في هداية الناس ونشر الإيمان:

«يا عم، واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه أو أهلك فيه ما تركته»(1).

ثم استعبر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فبكى ثم قام.

عند ذلك ناداه أبو طالب(عليه السلام) فقال: أقبل يا بن أخي.

فأقبل عليه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال: إذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت فواللّه لا أسلمك لشيء أبداً.

ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب(عليه السلام) قد أبى خذلان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وتسليمه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالفك دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل برجل.

قال: واللّه لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا واللّه ما لا يكون أبداً.

فقال المطعم بن عدي بن نوفل: واللّه يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك

ص: 299


1- انظر: الغدير 7: 359- 362.

وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً.

فقال أبو طالب للمطعم: واللّه ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ، فاصنع ما بدا لك... .

وقال أبو طالب عند ذلك - يعرض بالمطعم بن عدي ويعم من خذله من عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم - :

ألا قل لعمرو والوليد ومطعم *** ألا ليت حظي من حياطتكم بكر

من الخور حبحاب كثيرة رغاؤه *** يرش على الساقين من بوله قطر

تخلف خلف الورد ليس بلاحق *** إذا ما علا الفيفاء قيل له: وبر

أرى أخوينا من أبينا وأمنا *** إذا سئلا قالا: إلى غيرنا الأمر

بلى لهما أمر ولكن تجرجما *** كما جرجمت من رأس ذي علق صخر

أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلاً *** هما نبذانا مثل ما ينبذ الجمر

هما أغمرا للقوم في أخويهما *** فقد أصبحا منهم أكفهما صفر

هما أشركا في المجد من لا أباً له *** من الناس إلّا أن يرس له ذكر

ص: 300

وتيم مخزوم وزهرة منهم *** وكانوا لنا مولى إذا بني النصر

فو اللّه لا تنفك منا عداوة *** ولا منهم ما كان من نسلنا شفر

فقد سفهت أحلامهم وعقولهم *** وكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر

قال ابن هشام: تركنا منها بيتين أقذع فيهما.

قال الأميني(رحمه الله): حذف ابن هشام منها ثلاثة أبيات لا تخفى على أي أحد غايته الوحيدة فيه، وإن الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. ألا وهي:

وما ذاك إلّا سؤدد خصنا به *** إله العباد واصطفانا له الفخر

رجال تمالوا حاسدين وبغضة *** لأهل العلى فبينهم أبداً وتر

وليد أبوه كان عبداً لجدنا *** إلى علجة زرقاء جال بها السحر

يريد به الوليد بن المغيرة وكان من المستهزئين بالنبي الأعظم ومن الذين مشوا إلى أبي طالب(عليه السلام) في أمر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وقد نزل فيه قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}(1)، وكان يسمى: الوحيد في قومه.

ثم قام أبو طالب حين رأى قريش يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، وأجابوه ما دعاهم إليه إلّا ما كان من أبي لهب عدو اللّه الملعون. فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره في جهدهم معه وحدبهم عليه،

ص: 301


1- سورة المدثر، الآية: 11.

جعل يمدحهم ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فيهم ومكانه منهم، ليشد لهم رأيهم وليحدبوا معه على أمره، فقال:

إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر *** فعبد مناف سرها وصميمها

فإن حصلت أشراف عبد منافها *** ففي هاشم أشرافها وقديمها

إن فخرت يوماً فإن محمداً *** هو المصطفى من سرها وكريمها

تدعت قريش غثها وسمينها *** علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

وكنا قديماً لا تقر ظلامة *** إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها

ونحمي حماها كل يوم كريهة *** ونضرب عن أحجارها من يرومها

بنا انتعش العود الذواء وإنما *** بأكنافنا تندى وتنمى أرومها(1)

غفلة المسلمين اليوم

من أكبر المشاكل هي مشكلة الغفلة، والأمة الإسلامية اليوم قد غفلت عن مسؤوليتها ولم تشعر بذلك.

قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٖ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}(2).

فقد أخبر سبحانه أن في خلق السماوات والأرض آيات ودلالات كثيرة، تدل على أن لها صانعاً واحداً، ومدبراً قادراً، وعالماً حكيماً، وما أكثر الآيات والدلائل التي هي خير عبرة للإنسان في هذه الدنيا، إلّا أن هناك من يمر عليها دون اكتراث واهتمام، ويمر عليها سريعاً بلا تأمل واعتبار، فلا يتفكر فيها، ولايتدبرها، ولايعيرها الأهمية، حتى تدله على خالقها ومبدعها، وتجعله إنسانا صالحاً.

ص: 302


1- انظر: الغدير 7: 359- 362.
2- سورة يوسف، الآية: 105.

وفي هذا هروب من واجب التأمل، وركون إلى اللامبالاة، التي تسبب الغفلة، وهو ما لا يصح للمسلم ولا الأمة الإسلامية، وخاصة أن الأعداء يتربصون بالأمة الدوائر.

ولو قارنا حالنا هذا بحال اليهود - بغض النظر عن ركوبهم مسير الباطل وانحرافهم عن جادة الحق والصواب - لوجدنا أنهم تحملوا المسؤولية في باطلهم، كما تحملوا في ذلك المشاق والصعاب، حتى أنهم الآن يديرون جانباً كبيراً من سياسة بعض الدول وسيطروا على بعض مراكز القرار في الدول الغربية وبالأخص أمريكا، على عكس المسلمين الذين يكثرون من إطلاق صيحات الأخوة الإسلامية ولا يعملون بها، فترى الأمة الإسلامية أصبحت عدة أمم مختلفة، كل ينازع الآخر ولا يعترف به، ولكن اليهود جعلوا من أنفسهم أمة واحدة، ففي الكيان الصهيوني جمعوا اليهود من كل الجنسيات من دون تفريق بينها، وهكذا في تعاملهم بالنسبة إلى أنفسهم حيث لا ترى فيما بينهم الغش في أسواقهم، بينما نرى أسواق المسلمين يكثر فيها الغش والخداع، والتطفيف قائماً على قدم وساق.

ولهذا أصبح هؤلاء المنحرفون متقدمين على خير الأمم وهي الأمة الإسلامية، فسبقونا في كثير من مجالات الحياة لأخذهم بأسباب ذلك. ومن الثابت أن الدنيا خاضعة لقوانين ومعادلات وأسباب ومسببات، فكل من يعمل أكثر يجني أكثر، كافراً كان أم مسلماً، فاللّه سبحانه يعطي القدرة لكل من أخذ بالأسباب وسار على الطريق التكويني والسنة الكونية، سواء كان من الكفار أم المسلمين، والقرآن يصرح بهذا حيث يقول تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْعَطَاءِ رَبِّكَ}(1)، فكل من يسعى في الدنيا عبر الأسباب فإنه يصل إلى مقصده

ص: 303


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

وهدفه عادة. وكل من يجد ويجتهد ويعمل في دار الدنيا فإنه يحصل على الربح والمكافأة، مؤمناً كان أم كافراً، كما جاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «اطلبوا الرزق فإنه مضمون لطالبه»(1)، فإن «لطالبه» مطلق يشمل الكافر والمؤمن.

العلماء وتحمل المسؤولية

يذكر أنه كان أحد الأشخاص في زمن المرجع آية اللّه العظمى السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله) قد بعث برسالة إلى السيد يستفتي بها عن مسألة ما، وفي اليوم التالي وبعد صلاة الصبح جاء إلى دار السيد الأصفهاني(رحمه الله) لأخذ جواب رسالته، وبعد أن دخل إلى غرفة السيد شاهده جالساً وسط عدد هائل من الرسائل، وقد انشغل السيد الأصفهاني(رحمه الله) بكتابة الأجوبة والردود والإيضاحات عليها. فتقدم ذلك الرجل من السيد قائلاً: مولانا، أنا لا أستطيع الانتظار كثيراً وقد جئتك لأخذ جواب مسألتي؟

فقال له السيد: انظر إلى هذا الطبق ففيه عشائي؛ فإنني لحد الآن لم أجد وقتاً لتناوله، وقد سهرت الليل كله للإجابة على هذه المجموعة الكبيرة من الرسائل، أما رسالتك فلم يأت دورها بعد!!

نعم، إن الشخص الذي يدرك معنى المسؤولية، هكذا يستثمر أوقاته، وهكذا يواظب على إنجاز أعماله؛ لذا فإن تحرك الشيعة في زمن السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله) وصل إلى القمة، وكان علماء الدين يؤدون رسالاتهم التبليغيةعلى أفضل وجه؛ لأن مرجعهم كان يحس بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه في توجيه الناس وهدايتهم ويقوم بالمسؤولية كما ينبغي، وكان يشجع الآخرين

ص: 304


1- الإرشاد 1: 303.

ويحثهم على تحمل المسؤولية، فأصبحت الحوزات المرتبطة به والجماهير التي تقلده يحسون بنفس الشعور ويؤدون واجبهم ومسؤوليتهم.

صاحب التفاسير الثلاثة

ومن الشواهد في هذا المضمار أيضاً: المرحوم الملا صالح(رحمه الله)(1) والذي كتب ثلاثة تفاسير (التفسير الكبير(2)، والتفسير الوسيط(3)، والتفسير الصغير(4)) وتفسيره الكبير يبلغ مائة مجلد لو طبع كطبعة (بحار الأنوار) الحديثة، وقد حاول بعض الأصدقاء وبذل الجهود من أجل طبعه فلم يوفق لذلك.

يذكر في أحوال الملا صالح(رحمه الله): أنه كان في درجة شديدة من الفقر بحيث لا يتمكن من شراء دفاتر للكتابة؛ لذلك فهو كان يحرر بعض كتاباته على أوراق الأشجار، ولكن إحساسه العالي بالمسؤولية وهمته الرفيعة دفعاه لمواصلة الكتابة متحدياً الفقر والظروف الصعبة وضعف الإمكانات التي كان يعاني منها، وبقي على تلك العزيمة الراسخة حتى تمكن من كتابة تلك التفاسير الثلاثة، وغيرها من الكتب.

الجنة للصابرين

وهكذا كان علماؤنا الأعلام في طول التاريخ، وكذلك كان المسلمون في صدر الإسلام، حيث حملوا المسؤولية على عاتقهم في سبيل نشر الدين،

ص: 305


1- الشيخ صالح بن محمد البرغاني القزويني الحائري، عالم فاضل مفسر، له عدة تفاسير، منها: (بحر العرفان ومعدن الإيمان في تفسير القرآن)، وله (مفتاح الجنان في تفسير القرآن) في تسع مجلدات، وله كتاب غنيمة المعاد في شرح الرشاد و... .
2- الموسوم ب(بحر العرفان في تفسير القرآن).
3- الموسوم ب(مفتاح الجنان في حل رموز القرآن).
4- الموسوم ب(مصباح الجنان في تفسير القرآن).

وصبروا وصابروا وتحملوا الصعاب في سبيل اللّه، حتى جاء في الخبر أن أصحاب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لم يكونوا يحصلون على ما يأكلون من الطعام، فكانوا يقتاتون ورق الأشجار حتى تقرحت أفواههم.

عن عبد اللّه بن مسعود، قال: دخلت أنا وخمسة رهط من أصحابنا يوماً على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وقد أصابتنا مجاعة شديدة، ولم يكن رزقنا منذ أربعة أشهر إلّا الماء واللبن وورق الشجر!، فقلنا: يا رسول اللّه، إلى متى نحن على هذه المجاعة الشديدة؟

فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا تزالون فيها ما عشتم، فأحدثوا للّه شكراً؛ فإني قرأت كتاب اللّه الذي أنزل عليَّ وعلى من كان قبلي، فما وجدت من يدخلون الجنة إلّا الصابرون.

يا ابن مسعود، قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٖ}(1)،{أُوْلَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ}(2)،{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}(3).

يا ابن مسعود، قول اللّه تعالى: {وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيرًا}(4)،{أُوْلَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ}(5) يقول اللّه تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَوَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ}(6)،{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٖ

ص: 306


1- سورة الزمر، الآية: 10.
2- سورة الفرقان، الآية: 75.
3- سورة المؤمنون، الآية: 111.
4- سورة الإنسان، الآية: 12.
5- سورة القصص، الآية: 54.
6- سورة البقرة، الآية: 214.

مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ الْأَمْوَٰلِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَٰتِ وَبَشِّرِ الصَّٰبِرِينَ}»(1).

قلنا: يا رسول اللّه، فمن الصابرون؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «الذين يصبرون على طاعة اللّه واجتنبوا معصيته، الذين كسبوا طيباً، وأنفقوا قصداً، وقدموا فضلاً، فأفلحوا وأصلحوا.

يا ابن مسعود، عليهم الخشوع والوقار والسكينة، والتفكر واللين والعدل، والتعليم والاعتبار والتدبير، والتقوى والإحسان والتحرّج، والحب في اللّه والبغض في اللّه، وأداء الأمانة والعدل في الحكمة، وإقامة الشهادة ومعاونة أهل الحق على المسيء، والعفو عمن ظلم.

يا ابن مسعود، إذا ابتلوا صبروا، وإذا أعطوا شكروا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذ عاهدوا وفوا، وإذا أساءوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(2)،{وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرَامًا}(3)،{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَٰمًا}(4)، ويقولون للناس حسناً. يا ابن مسعود، والذي بعثني بالحق، إن هؤلاء هم الفائزون...»(5).

الإخلاص والتبليغ

من العلماء المجاهدين الذين أدوا ما عليهم من المسؤولية هو السيد عبدالحسين شرف الدين(رحمه الله) صاحب كتاب (المراجعات)، فإنه وبسبب تحركه الإسلامي في لبنان تعرض إلى محاولة اغتيال، كما أحرقوا داره ومكتبه، فاضطر

ص: 307


1- سورة البقرة، الآية: 155.
2- سورة الفرقان، الآية: 63.
3- سورة الفرقان، الآية: 72.
4- سورة الفرقان، الآية: 64.
5- مكارم الأخلاق: 446.

إلى الهجرة إلى مصر، ورغم المصاعب التي واجهته في عمله لكن الشعور العالي بالمسؤولية دفعه لمواصلة عمله الرسالي التبليغي، فبعد أن تعرف على شيخ الجامع الأزهر بمصر آنذاك وهو (الشيخ سليم البشري) شرع معه بالبحث والمناظرة، حتى استطاع من هناك أن يكتب كتابه المعروف (المراجعات) وقد اهتدى بسبب هذا الكتاب المبارك الكثير الكثير من الناس إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام).

ومن هذا العمل الجليل المثمر يتبين لنا مدى تأثير الشعور بالمسؤولية المقرونة بالإخلاص والتفاني في سبيل اللّه الذي كان يتمتع به المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي(رحمه الله) لنصرة المذهب الحق مذهب أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة(عليهم السلام).

نعم، هكذا يلزم أن يكون القائمون على الحركة الإسلامية، أناساً صامدين مخلصين في تحملهم للمسؤولية، ولا يكونوا ضعفاء أو مهزومين؛ وذلك لأن الطريق ليس مفروشاً بالورود والأزهار وإنما بالأشواك والعقبات، والطريق الصعب لا يوفق السائرون فيه إلى النصر إلّا إذا تحلوا بالصبر، وحملوا المسؤولية بثبات واستقامة؛ وهذه هي سيرة الأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) كما ورد في جملة من الآيات الكريمة والروايات الشريفة.

حادثة في بغداد

كان لنا صديق في كربلاء المقدسة يعمل مديراً لإحدى المدارس، وقد ابتلي بألم في قدمه، وبسبب ذلك قصد بغداد لغرض المعالجة، حيث كان الأطباء الحاذقون غالباً ما يتمركزون في بغداد، وعندما عاد من سفره ذهبنا لزيارته وعيادتهللاطمئنان على صحته، فإن زيارة المريض من المستحبات التي أكد عليها الدين الإسلامي، يقول الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من عاد مريضاً شيعه

ص: 308

سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يرجع إلى منزله».(1)

وقال(عليه السلام): «من عاد مريضاً من المسلمين وكّل اللّه به أبداً سبعين ألفاً من الملائكة يغشون رحله ويسبحون فيه ويقدسون ويهللون ويكبرون إلى يوم القيامة، نصف صلاتهم لعائد المريض»(2).

وخلال زيارتنا له قص لنا كيفية معالجته، فقال: عندما وصلت إلى بغداد كان الوقت متأخراً، وكانت الدوائر قد عطلت أعمالها وهكذا المستشفى التي قصدتها، فبسبب ما كنت أعاني من شدة الألم ذهبت إلى مستشفى أخرى غير التي كنت أقصدها إلّا أنها كانت مغلقة أيضاً، فقال لي أحد الأشخاص: إن في المنطقة الفلانية مستشفى يديرها المسيحيون، وهم يستقبلون المرضى في كل الأوقات!، ولشدة معاناتي من الألم وجدت نفسي مضطراً للذهاب إلى مستشفى المسيحيين، وبعد وصولي استقبلني أحد الأطباء وقام بإجراء الفحوصات اللازمة وأعطاني علاجاً أولياً لتسكين الألم. وقال لي: عليك أن تأتي غداً في الساعة السابعة صباحاً.

عندئذٍ سألته: ما هو السبب في عدم تعطيلهم بخلاف بقية المستشفيات؟!

قال: السبب هو استعدادنا لاستقبال ومعالجة المرضى في أي وقت؛ إذ ربما يأتي مريض يحتاج إلى المعالجة الفورية، فلا يجد من يعالجه بسبب تعطيلالمستشفيات الأخرى؛ فلذا رأينا أن تبقى مستشفانا مفتوحة حتى في أوقات عطلة سائر المستشفيات.

ثم قال - أي المريض - : وفي صباح اليوم التالي ذهبت للمراجعة، فوجدت

ص: 309


1- الكافي 3: 120.
2- الكافي 3: 120.

مدير المستشفى قد جمع موظفيه والأطباء من حوله وهو يتلو عليهم مقاطع من كتابهم المقدس(1)، وهم يستمعون إليه بكل تواضع وانتباه، وبعد ذلك قال لهم: إنكم تعملون لرضا اللّه، وإن ما تأخذونه من راتب شهري فهو لا يقابل ما تقومون به من خدمات كثيرة تجاه إخوانكم المرضى، وإن أجركم على اللّه وحده، وإن عطاء اللّه كما تعرفون لا حدود له، ثم حثهم على التواضع وخدمة المرضى أكثر فأكثر، ثم تفرقوا بعد ذلك لأعمالهم.

لاحظوا كيف يعملون، وكيف نعمل نحن؟

فمع الأسف غالبية المسلمين الذين نراهم، لا يلتزمون بمبادئهم وقرآنهم وتراثهم العظيم من الأحاديث الشريفة التي تحثهم على العمل ولزوم الدقة والإخلاص فيه، وعلى الرغم من صحة كتبهم وبطلان كتب الآخرين، لكن الآخرين تقدموا علينا بسبب الشعور العالي بالمسؤولية لديهم والتواصل فيالعمل والإتقان فيه.

فالغرب ومن أشبه سبق المسلمين في ذلك، ونراهم في كل يوم يتقدمون أكثر فأكثر، بينما نرى المسلمين في كل يوم في تراجع إلى الوراء، حتى أصبحوا مسيَّرين من قبل المستعمرين، فيخضعون لهذا وذاك من عملاء الغرب والاستعمار، وأكبر

ص: 310


1- كتاب العهدين المنسوبين إلى الإلهام والوحي الإلهي عند المسيح، فالعهد القديم وهو عبارة عن تسعة وثلاثين سفراً، خمسة منها منسوبة لنبي اللّه موسى(عليه السلام) وتسمى التوراة، والأسفار الباقية منسوبة إلى الوحي من بعد موسى من الأنبياء إلى ما قبل زمان عيسى المسيح(عليه السلام) بنحو ثلاثمائة وسبع وتسعين سنة، وقد يسمى جميع العهد القديم بالتوراة، أما العهد الجديد، فهو عبارة عما كتب بعد عيسى(عليه السلام)، وهو عند البروتستانت سبعة وعشرون كتاباً. ولكل واحد من كتب العهدين فصول معدودة يسمونها الإصحاحات، وتشمل على فقرات معدودة بالرقم الهندي. للمزيد انظر: الهدى إلى دين المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم) للشيخ محمد جواد البلاغي(رحمه الله).

شاهد على ذلك هو الظروف المأساوية والأوضاع البائسة التي تعيشها الشعوب الإسلامية في عصرنا الحاضر في مختلف بلادنا وخاصة في العراق.

نموذج من الدقة في العمل

كان الحاج محققي(رحمه الله) من خطباء المنبر الحسيني البارعين، وله باع كبير في هذا المجال. وكان ينتقل من إيران إلى كربلاء المقدسة والنجف الأشرف، حيث يرتقي المنبر ويقوم بالخطابة ويتصدى للإرشاد، وكان خطيباً ماهراً، وخطاباته تمتاز بأسلوب مميز وحلاوة خاصة، كما أنه كان يعرض مواضيع محبّبة تؤثر بشكل عميق في مشاعر الناس وأحاسيسهم.

وفي إحدى السنين وفي شهر رمضان المبارك طلب منه المرجع آية اللّه العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله) البقاء في النجف الأشرف؛ لكي يرتقي المنبر في مجلس طلبة العلوم الدينية، فوافق الحاج محققي(رحمه الله) على ذلك، وبدأ محاضراته بقصة النبي يوسف(عليه السلام)، ففي اليوم الأول صعد المنبر وأورد حديثاً مفصلاً عن نبي اللّه يوسف(عليه السلام) وهكذا في اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس... والعاشر... والعشرين... حتى وصل إلى ليلة الثلاثين وهو يتكلم عن النبي يوسف(عليه السلام) وفي كل يوم يتحدث بشيء جديد لم يتحدث عنه في الأيام السابقة، وفي ليلة ختام المجلس، لم ينته حديثه عن النبي يوسف(عليه السلام)، فقال(رحمه الله): إنني في هذه السنة ذكرت لكم القصة حتى وصلنا إلى وقوع يوسف(عليه السلام) في البئر،وسوف أعود في محاضرات مقبلة إن شاء اللّه لأتناول لكم موضوع خروج نبينا يوسف(عليه السلام) من البئر، وما جرى عليه من أحداث بعد الخروج، وسنواصل القصة بإذن اللّه تعالى في المستقبل!!

إن الحديث ثلاثين يوماً وبمعدل يومي من ساعة إلى ساعة ونصف، في مجلس أكثر حضوره من الفضلاء وطلاب العلوم الدينية، كم يتطلب من الجهد

ص: 311

والتحضير والاستعداد وتحمّل التعب حتى يأتي الخطيب يومياً لهم بالجديد والمفيد، ورغم أن الموضوع الرئيسي واحد وهو قصة يوسف(عليه السلام)؟

لا بد أن وراء هذا العمل المجهد دافعاً أسمى وهو الإحساس بالمسؤولية التي ألقيت على عاتقه، وكانت تلك المحاضرات لها ثمار ونتائج سامية في نفوس الطلاب لمدة مديدة.

مع السيد القمي(رحمه الله)

قبل خمسين عاماً قام البهلوي الأول(1) بإبعاد المرجع الكبير آية اللّه العظمى السيد حسين القمي(رحمه الله) خارج إيران، فقدم السيد(رحمه الله) إلى كربلاء المقدسة، وعند وصوله(رحمه الله) إلى كربلاء استأجر بيتاً وشرع في مهامه الدينية والاجتماعية. وفي أحد الأيام جاءه أحد تجار إيران فرأى أن السيد(رحمه الله) في دار أجار، فقدم له مبلغاً كبيراً لشراء الدار، وقال: إنها ليست من الحقوق الشرعية، بل هدية له حتى يشتري بها داراً. لكن السيد(رحمه الله) رفض تلك الهدية، وقال: ما زال هناك طلبة لا يملكون بيوتاً وهم يستأجرون البيوت للسكن فلا اشتري داراً، فإني أولى بمواساتهم؛ ولكن إذا ترضى بأن أستلم المبلغ لكي أقسمه بين الطلبة فلا بأس. ولكن التاجر لم يقبل باقتراح السيد(رحمه الله) وعاد إلى إيران ومعه المبلغ.

هذا نوع من وعي المسؤولية وتحملها.

ومن الواضح أن تحمل المسؤولية من قبل علمائنا الأعلام لم يكن لأجل أن يمدحهم الناس، أو يصفقوا لهم أو يكرموهم مباشرة أو فيما بعد، وإنما تحملهم المسؤولية كان من أجل اللّه وحده، وذلك لأنهم تعلموا من مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) حيث قال الإمام الحسين(عليه السلام) يوم عاشوراء: «هون عليَّ ما نزل بي أنه

ص: 312


1- رضا بهلوي (1878- 1944م) شاه إيران.

بعين اللّه»(1).

فيلزم أن يكون الإنسان متحملاً للمسؤولية لأجل اللّه عزّ وجلّ وثوابه وتحصيل رضاه، لا لأجل أن ينال الدنيا الآن أو في المستقبل. ومن المعلوم أن الأشخاص المخلصين الصابرين هم الذين يتمكنون من النهوض بالحركة الإسلامية أما غيرهم فلا.

في سجن نوري السعيد

اعتقلت حكومة نوري السعيد(2)

رجلاً مسلماً مجاهداً، وأصدرت عليه الحكم بالسجن المؤبد (مدى الحياة)؛ لا لشيء إلّا لأنه كان يدعو إلى إقامة الأحكام الإسلامية في العراق، وقد نقل أحد الأشخاص - وكانت له علاقات كثيرة مع رجال الحكومة في ذلك الوقت - فقال: إن هذا الرجل السجين كان صديقاً لي، فوسّطني والده لكي أذهب إلى بغداد عند نوري السعيد، حتى أسعى في إطلاق سراح ولده.

فذهبت إلى بغداد. وبعد مشقة شديدة وعناء طويل وصلت إلى نوري السعيدرئيس الوزراء ذلك اليوم، فقلت له: إن هذا الولد شاب وقد غرر به، كما أن له أباً شيخاً عالماً تقياً، واُماً طاعنة في السن، وهذا ولدهم الوحيد، وله زوجة شابة وهو أب لطفل صغير؛ فلو أمرت بإطلاق سراحه؟

وكان الشاب مسجوناً في سجن (نقرة السلمان)(3) الذي يبعد مسافة كبيرة عن مدينة (السماوة) عبر صحراء طويلة، ويعتبر من أشد السجون قساوة وشدة.

ص: 313


1- اللّهوف: 117.
2- نوري سعيد صالح السعيد (1888م-1958م) رئيس الوزراء العراقي.
3- سجن نقرة السلمان معتقل يقع في عمق الصحراء على الحدود العراقية السعودية.

فقال لي نوري السعيد: اذهب إليه في السجن وقل له: أن يكتب كتاباً بخط يده يتبرأ مما عمل سابقاً، ويعتذر من الحكومة، فعند ذلك أنا مستعد أن آمر بإطلاق سراحه.

يقول الرجل: فرحت كثيراً واتجهت نحو السجن، وكان الحر شديداً، ولم يكن في السجن أية وسيلة تخفف من شدة الحر المعروف عن العراق وخاصة في المناطق الصحراوية؛ ولما أدخلت السجن لغرض مقابلة ذلك الشاب، وجيء به رأيته وقد تغيرت ملامحه من أثر المعاناة الشديدة والظروف السيئة في السجن، وقد لفحته الشمس بحرارتها ومال لونه إلى السواد والسمرة الشديدة، وأخذ الضعف منه مأخذه. فاستقبلني ورحّب بي، وبعد السلام والاطمئنان عليه، نقلت له إليه أشواق أبويه، وزوجته، وذكّرته بطفله الصغير، وقلت له: ارحم طفلك، وانظر إلى المستقبل الذي ينتظرك، وأخبرته بمطالب نوري السعيد، وأنه طلب منه ما يعني الندم والرجوع عما كان يريده من إقامة الأحكام الإسلامية، ثم قلت له: إنك إذا تبرأت من أعمالك خطياً واعتذرت من نوري السعيد فهو مستعد لكي يطلق سراحك.

قال هذا الرجل الوسيط: فتبسم الشاب وقال: يا فلان، اذهب إلى نوريالسعيد وقل له: لو أنك أبقيتني في هذا السجن، أو أسوأ منه إلى أن أموت، أو قطعتني قطعة قطعة، فإني لا أتنازل عن مبدئي وفكرتي وهي المطالبة بالحكم الإسلامي، فإن مستقبلي الجنة، وأما أبي وأمي وزوجتي وولدي فاللّه خليفتي عليهم، وهم ليسوا بأفضل من السيدة زينب(عليها السلام) وعائلة الإمام الحسين(عليه السلام) فإن أهل البيت(عليهم السلام) هم أسوة للناس جميعاً في تحمل الظلم والصبر في سبيل اللّه تعالى، وقل لنوري السعيد: إن عليه أن يعتذر هو عما جنى على الإسلام والمسلمين.

ص: 314

هذا مصداق لتحمل المسؤولية وثقافتها والشعور بها.

وعي المسؤولية وتحمل الصعاب

إن الإنسان الذي يريد أن يصل إلى مرضاة اللّه سبحانه وتعالى عليه أن يشعر بمسؤوليته، ويتحمل المعاناة في سبيل ذلك ليل نهار، ويقدم للمسلمين ما استطاع بإخلاص وصفاء نية حتى يرفع اللّه شأنه ويعز المسلمين به.

وهذا التحمل للمسؤولية نجده بشكل واضح في حياة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين علي(عليه السلام) والصديقة الطاهرة فاطمة(عليها السلام) والإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) وفي الأئمة الأطهار(عليهم السلام)، والصحابة النجباء والمسلمين الأوائل الأتقياء، وفي العلماء المجاهدين، وفي الأخيار الطيبين، وهو الذي سبب توسع الإسلام وانتشاره إلى هذا الحد الذي نشاهده اليوم.

ولو وعيت الأمة بوعي المسؤولية، واتخذت الحركة الإسلامية العالمية العامة هذا التحمل للمسؤولية شعاراً وعملاً لها لأمكن الوصول إلى الهدف المنشود وهو إقامة حكومة ألف مليون مسلم(1)

بإذن اللّه تعالى.«اللّهمّ إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النّفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدّنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

العقيدة والعمل الصالح

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا

ص: 315


1- بلغت نفوس المسلمين حسب بعض الإحصاءات الأخيرة ملياري مسلم.
2- الكافي 3: 424.

الْأَنْهَٰرُ}(1).

وقال سبحانه: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَٰتُ الْعُلَىٰ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أَمْوَٰلُكُمْ وَلَا أَوْلَٰدُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا}(3).

الابتعاد عن الغفلة

قال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْغَٰفِلُونَ}(4).

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَاوَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ * أُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(5).

الشعور بالمسؤولية

قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(6).

وقال سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ

ص: 316


1- سورة البروج، الآية: 11.
2- سورة طه، الآية: 75.
3- سورة سبأ، الآية: 37.
4- سورة الأعراف، الآية: 179.
5- سورة يونس، الآية: 7-8.
6- سورة التوبة، الآية: 128.

أَسَفًا}(1).

إخلاص العمل للّه تعالى

قال عزّ وجلّ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).

وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}(3).

وقال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

الشعور بالمسؤولية

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لو وُضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أقتل دونه...»(5).

وعن زاذان قال: إن قنبراً قدم إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) جامات من ذهب وفضة في الرحبة، وقال: إنك لا تترك شيئاً إلّا قسمته، فخبأت لك هذا. فسلّ(عليه السلام) سيفه وقال: «ويحك، لقد أحببت أن تُدخل بيتي ناراً»، ثم استعرضها بسيفه فضربها حتى انتثرت من بين إناء مقطوع بضعة وثلاثين وقال: «عليَّ بالعرفاء»(6) فجاؤوا فقال: «هذا بالحصص»(7).

ص: 317


1- سورة الكهف، الآية: 6.
2- سورة الفاتحة، الآية: 5.
3- سورة الزمر، الآية: 11- 12.
4- سورة ص، الآية: 82-83.
5- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 58.
6- العُرَفاء: جمع عريف وهو القيم بأمور القبيلة، أو الجماعة من الناس يلي أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم. لسان العرب 9: 238 مادة: عرف.
7- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 108.

وعن سالم الجحدري قال: شهدت علي بن أبي طالب(عليه السلام) أتى بمال عند المساء، فقال: «اقتسموا هذا المال!».

فقالوا: قد أمسينا يا أمير المؤمنين، فأخره إلى غد؟

فقال لهم: «تقبلون لي أن أعيش إلى غدٍ؟».

قالوا: ماذا بأيدينا؟

فقال: «لا تؤخروه حتى تقسموه»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود النّاصر، وما أخذ اللّه على العلماء ألاّ يقارّوا(2) على كظّة ظالمٍ، ولا سغب مظلومٍ(3)؛ لألقيت حبلها على غاربها(4)، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطةِعنزٍ...»(5).

إياكم والغفلة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «احذروا الغفلة؛ فإنها من فساد الحس»(6).

وكان مما يدعو به الإمام السجاد(عليه السلام) في يوم عرفة: «ونبهني من رقدة الغافلين، وسنة المسرفين، ونعسة المخذولين»(7).

ص: 318


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 95.
2- ألّا يُقارّوا: ألّا يوافقوا مقرّين.
3- الكِظَّة: ما يعتري الآكل من الثقل واكرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق، السَّغَب: شدة الجوع، والمراد منه هضم حقوقه.
4- الغارب: الكاهل.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3 ومن خطبة له(عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 160.
7- الصحيفة السجادية: الدعاء رقم 47 وكان من دعائه(عليه السلام) في يوم عرفة.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إياكم والغفلة! فإنه من غفل فإنما يغفل عن نفسه، وإياكم والتهاون بأمر اللّه عزّ وجلّ؛ فإنه من تهاون بأمر اللّه أهانه اللّه يوم القيامة»(1).

إخلاص العمل للّه تعالى

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو يعظ ابن مسعود: «إذا عملت عملاً فاعمله للّه خالصاً؛ لأنه لا يقبل من عباده الأعمال إلا ما كان له خالصاً...»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال اللّه عزّ وجلّ: أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عملٍ عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ»(4).ومما ناجى الإمام السجاد(عليه السلام) به ربه: «اللّهم صل على محمد وآل محمد، واجعلنا ممن جاسوا خلال ديار الظالمين، واستوحشوا من مؤانسة الجاهلين، وسموا إلى العلو بنور الإخلاص، وركبوا في سفينة النجاة، وأقلعوا بريح اليقين، وأرسوا بشط بحار الرضا، يا أرحم الراحمين»(5).

الشعور بالمسؤولية وليد الإيمان

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «المؤمن كيّس فطن حذر»(6).

ص: 319


1- ثواب الأعمال: 203.
2- مكارم الأخلاق: 453.
3- مستدرك الوسائل 2: 295.
4- الكافي 2: 16.
5- بحار الأنوار 91: 126.
6- جامع الأخبار: 85.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن له قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في فقه، ونشاط في هدى، وبر في استقامة، وعلم في حلم، وكيس في رفق، وسخاء في حق، وقصد في غنى...»(1).

وقال(عليه السلام): «إن المؤمن أشد من زبر الحديد؛ إن الحديد إذا دخل النار لان، وإن المؤمن لو قتل ونُشر ثم قتل ونُشر لم يتغير قلبه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المؤمن يعاف اللّهو ويألف الجد»(3).

وقال أيضاً(عليه السلام): «إن المؤمن لا يمسي ولا يصبح إلا ونفسه ظنون عنده، فلا يزال زارياً عليها ومستزيداً لها»(4).

ص: 320


1- الكافي 2: 231.
2- المحاسن: 251.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 80.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 227.

الشيعة والحكم في العراق

الحضارة الإنسانية

قال اللّه تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكُمْ خَلَٰئِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(1). خلق اللّه الإنسان من التراب، وقد أودع سبحانه فيه كمالات تؤهله لكي يبني حضارة إنسانية تحتضن جميع أفراد البشر، كما أنه سبحانه وتعالى علّمه طرق الخير بما فيها بناء نفسه، وبناء مجتمع يقود أفراده نحو اللّه تعالى، لتنشر العدالة في ربوعه، ويعيش ذلك الإنسان كما أراد اللّه تعالى. إلّا أن الإنسان وبما تنطوي عليه نفسه من طموح وهوى لاحدود لهما، أخذ يسير بعكس ما اُريد له، فأخذ يتفنن في الظلم وفي سحق كرامة الآخرين، منطلقاً من مقدمات خاطئة لاتقربه إلى اللّه، بل تبعده عنه وتوسع الهوّة بينه وبين اللّه عزّ وجلّ.

من هنا أخذ التاريخ يسجل لنا ظهور طغاة وجبابرة وظالمين على مسرح الحياة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى - وطبقاً للموازين الكونية - كان في قبالهم من يؤمن باللّه عزّ وجلّ ويسعى لحفظ البشرية وحماية كيانها الهام، والدفاع عن المظلومين. فبرزت إلى الواقع الخارجي صورتان، صورة الباطل والظلم، وصورة الحق والعدل.

ص: 321


1- (1) سورة يونس، الآية: 14.

وبحثنا هنا، يدور حول بقعة من بقاع الأرض التي اختارها اللّه محطة للعديد من أنبيائه ورسله(عليهم السلام)، وهي أرض العراق المباركة. وليس بحثنا استقراءً تاريخياً، وإنما نحن بصدد تسليط الأضواء على مسألة الحكم في هذه الدولة، أي عن الراعي والرعية، عن القيادة والأمة، عن شكلها ودافعها. وبما أن أغلبية الشعب العراقي هم من الشيعة فرأينا أن نتكلم عن الشيعة والتشيع(1).

الشيعة في اللغة

اشارة

يراد بلفظ (الشيعة) حسب اللغة: الفرقة التي تتبع شخصاً، أو كل قوم يجتمعون على أمر ويكوّنون كتلة واحدة ويداً قوية، وشيعة الرجل: أصحابه وأتباعه، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، فلفظ (الشيعة) بحسب معناها اللغوي غير مخصوص بفرقة دون أخرى، بل تشمل كل فرقة أجمعت على شيء(2). غير أن هذه اللفظة خرجت عن هذا العموم، وغلبت على كل من تمسك بالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأهل بيت رسول اللّه(عليهم السلام) معتقداً إمامتهم وخلافتهم الحقيقية لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)(3)؛ فصارت اسماً خاصاً يطلق عليهم دون سواهم، وقد سماهم بذلك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كما في الروايات - على ما سيأتي - .

ص: 322


1- (1) حسب إحصائية أجراها السيد محمد الصدر إبان رئاسته لمجلس الوزراء في العراق عام (1948م/1367ه) كان نسبة الشيعة في العراق 80%، ولكن الإحصاءات الأخيرة تدل على أنهم 85%، على ما سيأتي في الكتاب.
2- الشيعة: قوم يتشيعون، أي: يهوون أهواء قوم ويتابعونهم، وأصنافهم: شِيَعْ، انظر: كتاب العين: 2: 191 مادة (شيع)، ولسان العرب 8: 189.
3- وذلك بالنصوص القرآنية الشريفة والأحاديث النبوية والأدلة العقلية، انظر: الكافي 1: 168. كتاب الحجة. و(المراجعات) و(الشيعة والتشيع) و...
أصل الشيعة

يزعم البعض بأن أصل التشيع نبع من بلاد فارس(1)، وهذا القول يخالف الواقع، كما أن التاريخ يفنده(2)؛ إذ لا دليل يدل على قولهم، بل ورد عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في الحديث المروي عند الفريقين: «يا علي أنت وشيعتك الفائزون»(3).

فكان أتباع الإمام علي(عليه السلام) يعرفون بهذا الاسم منذ أيام رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، والرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) هو أول من أطلق عليهم هذا الاسم(4). ولكن البعض من المتعصبين أو ما أشبه، زعم بأن التشيع نشأ من موالاة بعض الفرس للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في حروبه(عليه السلام) زمن خلافته(5).

وكان مما يساعد هذه الأقوال تلك الأوضاع السياسية الظالمة وأولئك الملوك والحكام غير الشرعيين من أمثال بني أمية وبني العباس ومن سار على طريقهم،ممن سعوا لإبعاد الناس عن أهل البيت(عليهم السلام) أصحاب الحق الشرعي في الخلافة

ص: 323


1- (1) قال بذلك بعض المتعصبين وبعض مستشرقي المسيحيين، أمثال المستشرق بروكلمان في كتابه (تاريخ الشعوب)، والمستشرق دوزي عن تاريخ المذاهب الإسلامية.
2- (2) راجع في ذلك (الملل والنحل) للشهرستاني، و(فرق الشيعة) للنوبختي، و(حياة محمد) وفيه يقول محمد بن عبد اللّه عنان: من الخطأ أن يقال إن الشيعة إنما ظهروا لأول مرة عند انشقاق الخوراج، بل كان بدء الشيعة وظهورهم في عصر الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) حين اُمر بإنذار عشيرته بآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} سورة الشعراء، الآية: 214.
3- قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مشيراً إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام): «والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة». تاريخ مدينة دمشق 42: 371؛ شواهد التنزيل 2: 467؛ الدر المنثور 6: 379؛ فرائد السمطين 1: 156؛ فتح القدير 5: 477. أما ما ورد في مصادر الشيعة فكثير، انظر: الإرشاد 1: 41؛ وكشف الغمة 1: 53.
4- للتفصيل راجع كتاب (الشيعة والتشيع) للإمام الشيرازي(رحمه الله).
5- انظر: النوبختي في كتابه (فرق الشيعة) وابن النديم في كتابه (الفهرست).

وأمور الدين والدنيا. وهناك أدلة كثيرة وروايات عديدة وردت عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) تصرح بلفظ الشيعة، مما يدل على كون لفظ (الشيعة) من الألفاظ القديمة التي استعملها النبي الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) فيمن يتبع أمير المؤمنين(عليه السلام) وآله الطاهرين(عليهم السلام) مذعنين أنهم الخلفاء الحقيقيين له(صلی الله عليه وآله وسلم). فعن ابن عباس قال: سألت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَالسَّٰبِقُونَ السَّٰبِقُونَ * أُوْلَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّٰتِ النَّعِيمِ}(1)؟ فقال: «قال لي جبرئيل(عليه السلام): ذاك علي وشيعته هم السابقون إلى الجنة، المقربون إلى اللّه بكرامته لهم»(2).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «قال سلمان الفارسي(رحمه الله): كنت ذات يوم جالساً عند رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إذ أقبل علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال(صلی الله عليه وآله وسلم) له: ألا أبشرك يا علي؟ قال: بلى يا رسول اللّه، قال(صلی الله عليه وآله وسلم): هذا حبيبي جبرئيل يخبرني عن اللّه جلّ جلاله أنه قد أعطى محبيك وشيعتك سبع خصال...»(3) الحديث.

إذن تسمية أنصار وأتباع الإمام أمير المؤمنين وأهل بيته(عليهم السلام) بالشيعة وردت عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قبل تصدي الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) للخلافة(4). والنصوص كثيرة ومتواترة في ذلك، وقد نقلها أبناء العامة أيضاً(5). وهذه الروايات تبطل

ص: 324


1- سورة الواقعة، الآية: 10-12.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 298.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 336.
4- أي الخلافة الظاهرية بعد مقتل عثمان بن عفان.
5- منها ما ذكره في المعجم الأوسط 4: 187: عن علي(عليه السلام) «أن خليلي(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: يا علي، إنك ستقدم على اللّه وشيعتك راضين مرضيين، ويقدم عليه عدوك غضاب مقمحين»، ثم جمع علي يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح.

جميع الادعاءات القائلة بخلاف ذلك.

فمهما حاول بعض مزوري الحقائق إرجاع الشيعة إلى فئة أو جهة أخرى فالحقيقة تبقى كما هي، فهي الفرقة المحقة السائرة على درب الإسلام ونور القرآن والتعاليم المحمدية السمحاء، لا يستطيع إخفاء وستر هذه الحقيقة الواضحة زمرة من المغرضين وأصحاب الدنيا. كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(1).

إن المتفحص لأقوال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) الباحث عن الحقيقة يجد أن التشيع هو الإسلام الكامل الذي أمر به اللّه عزّ وجلّ، حيث أكمل سبحانه وتعالى دينه بولاية الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) حين أنزل الآية المباركة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(2) وذلك في حجة الوداع عند غدير خم بعد ما نصب الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه، علي بن أبي طالب(عليه السلام) خليفة من بعده(3).

نعم ولد التشيع في اليوم الأول لهتاف الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في شعاب مكة وجبالها بكلمة: «لا إله إلّا اللّه»، فإن هذه الكلمة تعني الإسلام الكامل وهومشروط بالولاية لأمير المؤمنين(عليه السلام) والنصوص كثيرة في هذا الباب(4).

فالشيعة

ص: 325


1- سورة التوبة، الآية: 32.
2- سورة المائدة، الآية: 3.
3- راجع حديث الولاية، حيث قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه فهذا علي مولاه...». في كتب المسلمين كافة من العامة والخاصة حيث بلغ حد التواتر، للتفصيل انظر: كتاب (المراجعات) للعاملي، و(الغدير) للأميني.
4- انظر: في ذلك المعضلات المدوَّنة في هذا المجال ك- (الغدير) و(إحقاق الحق) و... .

نشأت في زمن الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأطلق الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) هذا الإسم على أتباع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في حياته(صلی الله عليه وآله وسلم) الشريفة.

انتشار التشيع في العراق

إن انتشار التشيع في العراق يعود إلى ما قبل عودة الخلافة الظاهرية(1) للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بسنوات عديدة، كان منها زمن عمر بن الخطاب، حيث انتشر التشيع بصورة واضحة في هذه الفترة، وذلك عندما رجعت جيوش المسلمين إلى بلدانها، وسكن الكثير من هذه الجيوش في الكوفة والبصرة، وقد أتاح ذلك الفرصة لهم في التعرف على أمير المؤمنين(عليه السلام) ومعرفة حقه وفضله عند اللّه عزّ وجلّ وعند نبيه الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم)، فهناك أخذوا في إرساء قواعد التشيع في العراق.

ولكن كان الأمر الأهم والأمر الأساسي في انتشار التشيع هو ما حدث في زمن خلافة الإمام(عليه السلام) عند إرجاع حقه المغصوب وتوليه(عليه السلام) أمور المسلمين حين اتخذ الكوفة عاصمة له، وهذا ساعد كثيراً على انتشار التشيع في الكوفة، وفي العراق من بعد.

مر التشيع بعد استشهاد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بفترات مختلفة من حيث الصعوبة والسهولة، فتارة كانت عصيبة جداً على جميع المنتمين إلى هذا المذهب - مذهب مشايعة أهل البيت(عليهم السلام) - ، وتارة كانت هذه الحدة خفيفة، حيث كان بعض الحكام لا يظهرون عداءً شديداً لأهل البيت(عليهم السلام) - بسبب ضعفهم أو وعيالجماهير - وكان أحسن فترات التشيع هو عند استلام بعض الشيعة مقاليد الأمور في العراق حيث الحريات الواسعة لهم ورفع الضغوط عنهم.

ص: 326


1- فإن الإمام علي(عليه السلام) هو الخليفة الحقيقي والواقعي وكذلك الأئمة من ولده(عليهم السلام) وإن استلم الحكم ظاهراً هذا وذاك من أعدائهم.

فنستطيع أن نقسّم الفترات التي مرت على الشيعة في العراق إلى ثلاث فترات:

أولاً: الفترة الصعبة، وهي التي كان الأمويون والعباسيون حكامها.

ثانياً: الفترة شبه السهلة، حيث كانت معاملة الحكّام ليناً مع الشيعة لا طيباً منهم، أو محبة للشيعة، بل للضعف الذي اعترى الحكام، وإلّا فكانوا يعاملون بنفس المعاملة القاسية التي عاملهم بها من سبقهم من الحكام. ويتمثل في هذه الفترة ثلاثة أدوار:

1- وقت انتقال الحكم من الأمويين إلى العبّاسيين حيث أتيحت الفرصة للإمام الصادق(عليه السلام) في العمل الإسلامي وتأسيس الجامعة العلمية ونشر معارف أهل البيت(عليهم السلام)(1).

2- فترة المأمون حيث نصب الإمام(عليه السلام) ولياً للعهد.

3- فترة (المنتصر لدين اللّه). ولكن بما أنها كانت فترات قصيرة لم نتعرض لها إلّا في طي البحث عن الفترتين.

ثالثاً: الفترة السهلة الكاملة، حيث لم توجد ضغوطات على أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، وفيها كانت مقاليد الحكم بيد الشيعة. وسنتطرق إن شاء اللّه بإيجاز إلى تلك الفترات.

بين الأمويين والعباسيين

لقد مرّ التشيع بعد شهادة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بفترة عسيرة جداً، وذلك أيام حكم معاوية بن أبي سفيان، حيث وصل الحال فيها إلى

ص: 327


1- (1) أي فترة اضمحلال الحكم الأموي وبدايات نشوء الحكم العباسي الذي كان يرفع لواء الرضا من آل محمد(عليهم السلام).

محاولات اجتثاث التشيع، وذلك بقتل جميع من ينتسب إلى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أو يواليه أو يتبع طريقته. وبما أن حكم معاوية كان يتركز في الشام، فقد أرسل إلى العراق - وخصوصاً الكوفة لأنها كانت مركز التشيع في ذلك الوقت - بعض الحكام الظلمة مثل زياد بين أبيه والمغيرة بن شعبة، وأمثالهما، فساسوا أهل العراق بالظلم، وقتلوا عدداً كبيراً من الشيعة في العراق(1).

وكاد معاوية أن يقضي على الشيعة في العراق، لولا منهج أهل البيت(عليهم السلام) حيث أوحوا إلى شيعتهم باستخدام أسلوب التقية في العمل. وفي هذه الفترة أصبح الشيعي محل اضطهاد من قبل أغلب حكام بني أمية، ولكن هذه الحالة لم تدم، ففي آخر عهد بني أمية ضعف سلطانهم، وأخذ الشيعة يعملون بصورة أوسع، ورفع عنهم الضغط بعض الشيء.

وعند مجيء حكام بني العباس إلى السلطة سمحوا للشيعة في البداية بالعمل بمذهبهم ونشر علومهم؛ وذلك لأن بني العباس لم يصلوا إلى الحكم إلّا بشعار أخذ الثأر من بني أمية للإمام الحسين(عليه السلام) وآل علي(عليهم السلام).

نهاية الحكم الأموي

إن فترة نهاية حكم بني أمية وبداية مجيء حكم بني العباس تمكن الشيعة فيها من العمل بنطاق واسع من أجل نشر التشيع وقاموا بإنشاء المدارس العلميةفي العراق والحجاز وغيرهما لتدريس العلوم الدينية بجميع أنواعها، من فقه، وأصول، وعلم كلام، وتفسير، وحديث وغيرها وذلك على منهج أهل البيت(عليهم السلام)، وقد ضمّت حلقاتها آلاف الطلبة. وكل هذا كان مقارناً لزمن الإمام الباقر والإمام

ص: 328


1- مثل ميثم التمار وحجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي والحضرميين مسلم بن زيمر وعبد اللّه بن نجي (رضوان اللّه عليهم)، وكثير غيرهم من أصحاب الإمام علي(عليه السلام).

الصادق(عليهما السلام). ولكن ذلك لم يدم طويلاً؛ إذ أحس بنو العباس بخطر العلويين على عروشهم الظالمة، لأنهم كانوا يريدون الحكم من أجل الدنيا بينما أراد العلويون - وعلى رأسهم الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) - إقامة حكم اللّه في الأرض، ولم يكن يتماشى هذا مع رغبتهم الدنيوية والمادية، فعندها حارب بنو العباس العلويين وأشياعهم، وجميع من ينتمي إليهم، بشتى الوسائل والطرق، حتى فاق ظلمهم ظلم بني أمية حتى قال أحد الشعراء(1):

تاللّه ما فعلت أمية فيهم *** معشار ما فعلت بنو العباس

إلى أن خفّت حدّة الظلم والمطاردة للشيعة في عهد المأمون نسبياً، حيث فرض منصب ولاية العهد على الإمام الرضا(عليه السلام)، وذلك بمؤامرة من المأمون نفسه في قصة مفصلة في محلها(2)، ولكن لم تستمر هذه الفترة طويلاً، إذ عندما استشهد الإمام الرضا(عليه السلام) عاد الظلم والمجاهرة بالعداء لكل من ينتمي إلى آل محمد(عليهم السلام) وشيعتهم، وتجسد الظلم في زمن المتوكل العباسي بأبشع وأفظع صورة(3)، واستمرت الحالة على هذا المنوال حتى أخذ الحكام يقتلون الشيعيويبيحون دمه وماله وجميع ممتلكاته. وأهون فترة مرّ بها الشيعة في حكم بني العباس هي فترة تولي (المنتصر لدين اللّه) الحكم، واستفاد الشيعة من هذه الحرية التي كانت في زمنه فأخذوا في نشر التشيع، ولكن هذا الوضع لم يدم طويلاً، فعند وفاته عاد الظلم والقتل بحق أتباع مذهب آل البيت(عليهم السلام). وهكذا

ص: 329


1- انظر: ميمية أبي فراس الهمداني.
2- انظر: الأمالي للشيخ الصدوق: 69، وفيه: يقول الإمام الرضا(عليه السلام) - حين امتنع عن قبول الولاية من المأمون - : «... تريد بذلك أن يقول الناس: إن علي بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة...».
3- انظر: الشيعة والحاكمون، لمحمد جواد مغنية.

كانت الأحوال تتقلب من حال إلى حال.

انتقال مركز التشيع من الكوفة إلى بغداد

قلنا بأن التشيع انتشر في العراق منذ صدر الإسلام، وكان مركزه الكوفة، ولكن عندما تسلم الحكم، المنصور الدوانيقي وهو الحاكم العباسي الثاني، نقل مركز الخلافة من الكوفة إلى الهاشمية(1)،

ومن ثم إلى بغداد. وقد صاحب هذا الانتقال انتقال الكثير من الشيعة إلى بغداد. وكان بعضهم يعمل في حكومة المنصور متخفياً بحيث لايعلمون أنه شيعي، ويبدأ بالعمل الخفي الجاد لنشر التشيع(2)، وقد شجعهم على ذلك وجود الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في بغداد في ذلك الحين؛ ولذا أخذ التشيع ينتشر في بغداد انتشاراً واسعاً، وخصوصاً في منطقة الكرخ، رغم الشدة والمضايقات التي استخدمها المنصور مع الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، وجميع أتباع أهل البيت(عليهم السلام).

فترة ولاية الحكام الشيعة
ولاية البويهيين

بزغ نجم آل بويه في فارس(3) في القرن الرابع الهجري، حيث استولت الدولة

ص: 330


1- وهي مدينة اختطها أبو العباس السفاح قرب الكوفة وشرع في عمارتها. انظر: معجم البلدان 1: 457، مادة (بغداد).
2- أمثال: أبو سلمة الخلال الكوفي وزيراً عند السفاح أول ملوك بني العباس، ومحمد بن الأشعث الخزاعي الذي وزير المنصور، وأبو عبد اللّه يعقوب بن داود وعلي بن يقطين الذي استوزره الرشيد، وجعفر بن الأشعث الذي استوزره المأمون وغيرهم... .
3- تأسست الدولة البويهية على يد علي بن بويه الملقب بعماد الدولة في شيراز في بلاد إيران عام (321ه) ثم امتد حكمها إلى كل إيران والعراق وجزء من تركيا وغيرها من بلاد بني العباس، وكان آخر ملوك البويهيين أبا نصر الملقب بالملك الرحيم وبه انتهى حكم الدولة البويهية الشيعية سنة (474ه)، والذي امتد 153 سنة.

البويهية بعد ذلك على مقاليد الحكم في بغداد. وبما أن الدولة كانت دولة شيعية فقد أسست المدارس الدينية ونشرت علوم أهل البيت(عليهم السلام)، وتم فيها تدريس أغلب العلوم الدينية، فدأب علماء الشيعة في ذلك الوقت على نشر العلوم في جميع بقاع العالم، وخصوصاً المناطق المجاورة لبغداد، مثل الحلة والنجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وغيرها من المناطق العراقية. وقد برز الكثير من علماء الشيعة إبان ذلك العصر، مثل: الشيخ المفيد، والشريفين: الرضي والمرتضى والشيخ الطوسي(رحمهم اللّه).

وكانت حلقات الدرس تنتقل فيما بينهم. وبعد أيام البويهيين حدثت فتنة كبيرة بين السنة والشيعة في بغداد وانتقل على أثرها شيخ الطائفة الطوسي(رحمه الله) بحوزته العلمية من بغداد إلى النجف الأشرف عام 448ه، إذ لم تعد بغداد ترضى بمقام المرجعية الدينية فيها، وكما لم تعد صالحة أيضاً لاحتضان الحوزة العلمية بين ظهرانيها، فأضحت النجف الأشرف بعدها عاصمة ومركزاً لعلوم أهل البيت(عليهم السلام)، ومقاماً ومستقراً لكبار علماء الشيعة ومراجعهم العظام (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين).

المغول والتشيع

وهكذا انقلبت الأحوال من حال إلى حال، حتى مجيء هولاكو وغزوه بغداد، وإحداثه الدمار الشديد فيها، إلّا أن مذهب أهل البيت(عليهم السلام) بقي ثابتاً صامداً رغمتلك الهزاهز والابتلاءات العظيمة، بل كان سبباً لإسلام المغول ومنعهم من الاستمرار في التدمير، فحينما استتب الأمر لهولاكو وفرض سيطرته على بغداد تنفس أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) الصعداء، نتيجة لدخول بعض حكام المغول الإسلام ببركة جهود العلماء الكبار أمثال:

الخواجة نصير الطوسي، والعلامة، وابنه (رحمهم اللّه) وغيرهم - وإعلان

ص: 331

إتباعهم لمذهب أهل البيت(عليهم السلام)، ومن هؤلاء الحكام (نيقولاوس بن أرغون) وسمي بمحمد خدابنده، وكذلك ابنه أبو سعيد بهادرخان، وبعضهم أسلم، ولكن لم يصرح بالتشيع، مثل غازان المسمى محمود، وهو أخو محمد خدابنده، وبين من لم يطل عهده ليعلم حاله مثل تكوادر بن هولاكو المسمى بأحمد.

الدولة الجلائرية والتشيع
اشارة

جلائر هي سلالة مغولية أنشأها (حسن بزرك) على أنقاض الإيلخانية، حكمت العراق من (740 إلى 813ه) عاصمتها بغداد أشهر سلاطينها أويس وابنه أحمد، حكمت هذه الدولة العراق بعد رحيل المغول، وهي دولة شيعية بحتة، ولها بصمات واضحة في نشر التشيع، وكان زعيم هذه الدولة (حسن الجلائري) وهو من أمراء المغول وإن لم يكن مغولي الأصل، وقد استمر في حكم العراق فترة من الزمن، وجاء بعده ولده وحكم العراق، وتعاقبت على حكم العراق مجموعة من أفراد هذه العائلة، وفي عام 767ه بنى أحد أولاد حسن الجلائري الحرم الحسيني القائم اليوم.

الدولة الصفوية والتشيع

لقد سجل التاريخ لهذه الدولة خدمات جليلة في انتشار مذهب التشيع في العراق وإيران وجميع المناطق المجاورة، وهي دولة علوية شيعية حكمت العراق في عام (910ه)، وأول من استولى على حكم العراق من الصفويين هو (الشاهإسماعيل الأول)، وقد دارت بينه وبين العثمانيين معارك ضارية؛ وذلك لطمع العثمانيين في السيطرة على العراق، فانتصر العثمانيون على الدولة الصفوية عام (941ه) أيام (الشاه طهماسب الأول) ثم عاد الصفويون وحكموا العراق ثانية في عام (1032ه)، وكان ذلك على يد (الشاه عباس الأول)، ثم عاد العراق تحت السيطرة العثمانية في عام (1045ه) وحكم مرادخان الرابع العراق بعد الصلح

ص: 332

الذي تم بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية، وشرط الصفويون على الدولة العثمانية بموجب هذا الصلح أن تحكم الدولة العثمانية العراق دون التعرض للشيعة والعتبات المقدسة. ولكن بعدما استقر الحكم للدولة العثمانية نكثوا عهدهم، فحاربت التشيع في جميع أرجاء العراق، وذلك بتحريض من بعض الحاقدين على مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، خاصة وأن العثمانيين كانوا يتبعون سياسة طائفية شديدة التعصب لأهل السنة والجماعة.

الدولة العثمانية والضغط على الشيعة

بعدما سيطرت الدولة العثمانية على مقاليد الحكم، تغير حال الشيعة في العراق عما كانوا عليه في زمن الدولة الصفوية، فلقد عاد الظلم والاضطهاد، وأصبح كل من ينتمي إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ويعرف بأنه من شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام) معرضاً للقتل والتشريد، وبجميع أصناف التعذيب الأخرى. وكان المذهب الرسمي في الدولة العثمانية هو المذهب الحنفي، ولم يكتفوا في جعله فوق المذاهب بأسرها، بل عمدوا إلى ضرب المذاهب الأخرى، وخصوصاً المذهب الشيعي.

وسعوا إلى نشر المذهب الحنفي بأسلوب الترغيب والترهيب في جميع أرجاء العراق، حيث كانوا ينشرونه بصورة سرية في المناطق الجنوبية من العراق وفي العتبات المقدسة، والتي كان كل سكانها من الشيعة إلّا ما ندر، كما قاموا بنشرمذهبهم وبصورة علنية في شمال العراق، وبعض المناطق التي يكثر فيها السنة. ونتيجة لمقاومة الشيعة الشديدة، وقوة نفوذهم وتأثيرهم اُجبر بعض الأمراء الأتراك على مسالمة الشيعة، فقد أجروا بعض التعديلات والتعميرات في العتبات المقدسة، وزارها بعض ولاتهم. والجدير بالذكر هنا أن بعض المؤرخين قال: إن الشيعة لاقوا من العرب - من متعصبي السنة الذين كانوا تحت حكم

ص: 333

الدولة العثمانية - الحاقدين على التشيع،وعلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام)،أكثر مما لاقوه من الحكام الأتراك أنفسهم، وقد أثبت التاريخ حينما رحل الترك عن العراق فإن الأوضاع المأساوية ظلت على ما هي عليه إن لم نقل أنها تفاقمت.

الموصل والتشيع

توالت على إدارة الموصل إمارتان شيعيتان، إحداهما إمارة آل حمدان(1)، وكان أميرهم أبا الهيجاء عبد اللّه بن حمدان، والد سيف الدولة وناصر الدولة، واستمر أمراء هذه الإمارة في إدارة الموصل إلى فترة طويلة، حتى انقضت هذه الإمارة وقتل آخر أمرائها (عدة الدولة غضنفر) في عام (369ه). تلت هذه الحكومة حكومة شيعية ثانية، هي إمارة آل المسيب، التي استولت على الموصل حرباً فأقرهم بها (بهاء الدولة البويهي)، وقد كانوا من أمراء نصيبين، واستمرت إمارتهم إلى القرن الخامس الهجري، إلى أن جاء صلاح الدين الأيوبي الذي حارب التشيع أينما وجده، واستمر على نهجه هذا من بعده سلالته حيث ضربوا هذه الإمارة، وشنوا عليها الغارات الكثيرة، ومن ثم أعقبهم بالعداء الشديد للشيعةوالتشيع السلطان العثماني سليم الثاني الذي أذاق الشيعة في عهده أنواع البلايا والمصائب. وسار على نهجه السلطان مراد الرابع، فقضوا على هذه الإمارة، وظل كثير من أهل الموصل على مذهبهم، ولكن على تكتم شديد خوفاً من مطاردة وقتل السلطان لهم، واليوم يعرف كثير من الموصليين آباراً في الموصل ملئت من قتلى الشيعة. وآخرين أردم عليهم البناء. ومن الثابت في محله أن أي فكرة أو

ص: 334


1- الحمدانيون: أسرة عربية، تولت الموصل والجزيرة في زمن العباسيين ثم استقلوا فبسطوا سيادتهم على شمال سورية (317-394ه) أسسها حمدان بن حمدون شيخ قبيلة تغلب في ماردين (892م) وسع حدود الإمارة ابنه عبد اللّه وحفيده سيف الدولة أمير حلب، انقرضت هذه الإمارة بموت سعيد الدولة بن سعد الدولة بن سيف الدولة.

عقيدة عندما ترتدي حلة الوجود، وتظهر على سطح المجتمع، عادة يبرز لها تياران: تيار مساند وتيار مضاد، ومن عوامل تقدم أو تقهقر هذه الفكرة أو العقيدة وجود هذين التيارين. فتارة تلاحظ أن مبدأ ينتشر انتشار واسعاً في أوساط الناس، ومن العوامل المؤثرة في ذلك قوة التيار المساند له، مع إضافة عوامل أخرى. وتارة يفشل المبدأ، ومن العوامل المؤثرة في ذلك قوة التيار المضاد، مع إضافة عوامل أخرى(1).

ولم يخرج التشيع عن هذه القاعدة منذ نشأته الأولى في زمن الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) - كما ذكرنا سابقاً - حيث كان التيار المساند والمساعد هو الحاكم وذلك في زمن حكم أمير المؤمنين(عليه السلام)، وفي عصر الحكومات الشيعية التي حكمت في بعض مراحل التاريخ الإسلامي - والتي ذكرنا بعضها - وهذا الأمر ساعد على انتشار التشيع وكثرة أنصاره وقوة سلطانهم، مما أدى إلى انتشار العمل الإسلامي الشيعي ونشر علوم أهل البيت(عليهم السلام) ومدرستهم، وذلك لما كان الشيعة يتمتعون بشيء من الحرية.

كما ظهر التيار المخالف حيثما تسلمت زمام الحكم حكومات مناهضة ومعادية لمذهب آل البيت(عليهم السلام)، ففي هذه الحالة كان التشيع ينحسر، ويُقتَّل الكثير من أنصاره وأتباعه، ويحدّ من انتشاره؛ وذلك لقوة التيار المضاد. كذلك ظهر هذان التياران على الشيعة في العراق على وجه الخصوص، فحينما كانت تتسلم الحكم حكومات شيعية، أو حكومات لا تحمل العداء لهذا المذهب الحق، كان التشيع يتقدم وينتشر في العراق، ويمتد سلطانه ويترسخ، خاصة وأن

ص: 335


1- وقد ذكر علماء الاجتماع أن المؤثرات في الإنسان عشرة منها: الأجواء الاجتماعية، والأجواء الطبيعية راجع (الفقه الاجتماع) للإمام الشيرازي(رحمه الله).

التشيع يحمل من الأحكام والآراء المنطقية القوية الموافقة للفطرة، ما يفحم الخصوم بحيث يعجزون عن مواجهته. أما إذا كان العكس، كما إذا كان الحكم قد تسلّمه المعادون لأهل البيت(عليهم السلام) ومن شايعهم فينحسر الانتشار، وفي بعض الأحيان يتوقف. فخلاصة الكلام هو أن التشيع في الأقاليم العراقية قد تراوح معدل انتشاره من حين إلى آخر وكانت الأرجحية في أكثر العصور للأكثرية المتمثلة بمذهب أهل البيت(عليهم السلام).

الشيعة في عراق اليوم
اشارة

لقد كان العراق يعرف بأنه بلد شيعي، وكذلك اليوم، فهو بلد شيعي تسكنه الأكثرية الشيعية. وإليك التقسيم الآتي على حسب كثرة الشيعة في المحافظات - كما يطلق عليها اليوم - وهو كما يلي:

أولاً: مناطق العتبات المقدسة: النجف الأشرف، كربلاء المقدسة، الكاظمية، سامراء. إن الأغلبية السكانية لهذه المناطق هم من الشيعة، وخاصة في كربلاء والنجف والكاظمية فإنه إذا وجد فيها البعض من المذاهب الأخرى فهو نادر أو قليل جداً.

ثانياً: المناطق الجنوبية: البصرة، العمارة، الناصرية. فهذه المناطق كسابقاتهامن مناطق العتبات المقدسة نسبة الشيعة فيها حوالي 99.9%.

ثالثاً: بغداد، والتي تعتبر عاصمة الدولة العراقية في الوقت الحاضر، والأغلبية فيها للمذهب الشيعي، وتشكل الشيعة فيها حوالي 75% تقريباً. وفي بعض المناطق من العاصمة تشكل الشيعة 99.9% من سكانها مثل: مدينة الكاظمية والثورة والكرخ والبياع وغيرها... .

رابعاً: بعض المحافظات الوسطى، مثل: الكوت والحلة والديوانية يمثل

ص: 336

الشيعة فيها 99% من نسبة السكان تقريباً، والبعض الآخر مثل السماوة، يشكل الشيعة 90% أما محافظة ديالى فنسبة الشيعة فيها 85%، أما الرمادي وتكريت فالأغلبية فيها سنية، ويوجد الشيعة أيضاً في هاتين المحافظتين بأعداد واضحة.

خامساً: المحافظات الشمالية، أربيل والسليمانية ودهوك، والأغلبية فيها للمذهب السني، وأيضاً يوجد الشيعة فيها بأعداد كبيرة(1). أما في كركوك والموصل فالشيعة فيها حوالي 40% تقريباً.

وهذه الأرقام والنسب التي ذكرتها هي للدلالة وكلها أرقام تقريبية.

أما النسبة الكلية لشيعة العراق فهي: 85% من سكان العراق هم من أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، أما المذاهب السنية الأربعة فحوالي 12% وبقية الطوائف والأديان الأخرى فحوالي 3%. ولكن ورغم هذه النسبة، وما يمثله الشيعة من أكثرية في سكان العراق، إلّا أنهم خارج المناصب العليا في الدولة، وأصبحت المناصب والحقائب الوزارية وزمام القوة هي بيد الأقلية، رغم أن جميع القوانين والأنظمة وحتى الوضعية منها تعطي الحق لمن يمثل الأكثرية في إدارة شؤونالبلاد، مع مراعاة حقوق الأقلية وعدم ظلمهم.

نظرة إلى واقع العراق المعاصر

إن العراق عاش تجربتين قاسيتين بعد نيله الاستقلال والتجربتان هما:

أولاً: الحكم الملكي، الذي بدأ بالملك فيصل الأول، الذي عملت بريطانيا على رسم صورة حكمه وتنصيبه، لإخماد نار الثورة العراقية الكبرى عام (1920م) التي قادها المرجع الديني الأعلى الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) وكانت تجربة فيصل فاشلة للغاية، والتاريخ يشهد بذلك.

ص: 337


1- فمثلاً الأكراد الفيلية كلهم شيعة وهم زهاء ثلاثة ملايين.

ثانياً: الحكم العسكري والجمهوري المتمثل بعبد الكريم قاسم الذي أطاح بالحكم الملكي الذي كان نوري السعيد أحد أكبر رموزه... .

وعبد السلام عارف، ثم من بعده عبد الرحمن عارف، إلى حكم أحمد حسن البكر المشؤوم، ثم حكم صدام وهو الأشأم من بينهم. والمتتبع أحوال هؤلاء الحكام والمسؤولين والأوضاع التي كانت في عهودهم، يدرك جيداً مدى فشل هذه الحكومات. ولم يكن هذا الفشل إلّا تخطيطاً من جهة الاستعمار فلم يكن باللاشعور بل كان مدروساً ومخططاً له لتأخير المسلمين والسيطرة على ثروات العراق. وكان تخلي بعض الناس عن مسؤولياتهم في الماضي، وتخلي بعض آخر عن حقوقه، وإهمال الجانب السياسي مضافاً إلى عوامل أخرى اجتمعت جميعها؛ لتأتي بصدام على رأس حكومة العراق، ولو تكررت هذه الأمور مجدداً، فلعلها ستأتي بشخص هو أسوأ من صدام، لا قدر اللّه ذلك.

لا شك أن نظام العراق سيتبدل عاجلاً أو آجلاً - كما هي سنة الحياة - كما لا شبهة أن العراق سيدخل مرحلة جديدة من الحكم، ولكن الكلام في أن الغربيين يعملون جاهدين على أن تبقى حكومة العراق بيد غير الشيعة، لتبقى مشاكل العراق وتستمر أزماته السياسية.

إن الشيعة في العراق يمثلون الأكثرية من الشعب؛ فحسب بعض الإحصاءات التي أشرنا إليها من قبل، إنهم يشكّلون 85% من نفوس الشعب العراقي، وحسب قانون الشرع والعقل، بل وحتى ما يسمى بالقوانين الديمقراطية، فإن حق الحكم يعطى للأكثرية، مع حفظ حق الأقلية أيضاً، إلّا أن هذه المعادلة لم توجد في العراق، ولا تريدها بعد الدول الغربية، لمصالح وأغراض خاصة، لذا ينبغي لنا أن نلتفت إلى هذه القضية، ونعي الخطط المرسومة من قبل الغرب لندفعها، ونعمل جاهدين لإيجاد حكومة الأكثرية.

ص: 338

من يتخذ القرار؟

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم...»(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إنما المؤمنون إخوة بنو أب وأم وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون»(2).

هناك قسم من أفراد المجتمع لا يشغل تفكيرهم: من الذي سيأتي بعد صدام؟، فهم يفضلون الوقوف على التل دوماً، وينتظرون حتى تأتيهم النتائج جاهزة، والغرب يستغل الفرصة في مثل هذا الوضع - الذي يتخلى فيه جزء من الأمة عن واجبه - ليعمل على إزالة صدام مثلاً، ويأتي بشخص آخر عن طريق الانقلاب العسكري وما أشبه - وهذا أمر سيئ للغاية - . هنا نتساءل: لماذا لا نُقدّر مستقبلنا بأنفسنا؟ وهذا السؤال موجه لكل فرد من أفراد الأمة، حيث إنهم كلهم يشتركون في صنع المستقبل.

الحكومة المستقبلية

إن الواجب على كل فرد من أبناء الشعب العراقي أن يساهم - بما أوتي من قوة - في تشكيل حكومة العراق المستقبلية، عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة، التي تجري على مستوى كل الشعب، واختيار آراء الأكثرية مع مراعاة النسب، فليس من الحق والإنصاف أن يحكم أكثرية العراق - وهم الشيعة - أشخاص من الأقلية. كما ليس صحيحاً أن تقع الحكومة بيد فريق معين من الأشخاص بلا انتخابات أو تصويت أو شورى. وهذا الكلام لا يعبر عن الطائفية، بل إن هؤلاء الأقلية هم أخوة لنا، ولكن لا ينبغي لهذه الأخوة أن تضيع حق الشيعة الأكثرية في العراق، بل الأجدر بهذه الأخوة أن تصلح ما قطعته من جسور وروابط

ص: 339


1- (1) الكافي 2: 164.
2- (2) الكافي 2: 165.

اجتماعية وإسلامية بين الأخوة المسلمين، وأن يكونوا مع إخوتهم الشيعة يداً واحدة لقطع أيادي المستعمرين الطامعين بخيرات العراق وبلاد المسلمين. ولو اعترض أحد على كون الحكومة المستقبلية في العراق شيعية، فالاعتراض الذي هو عند الشيعة أقوى، وهو: لماذا تحكم الأقلية الأكثرية وتتسلط عليهم، ولماذا يدّعون الوحدة ويحرمون الأكثرية من حقوقهم؟! إن هذا الأمر ليس مقبولاً، لا في قوانين عالم اليوم، ولا في قوانين الشرع الإسلامي، بل يرفضه حتى القانون الغربي، وذلك بأن تأتي أقلية تشكل 12% من مجموع السكان، وتتحكم بأمور ال-85% الباقية، تحت حجج وذرائع واهية، ولا يكون لهم حول ولا قوة.

واليوم نرى، أن الحكام البعثيين في العراق كيف يتعاملون مع الأكثرية الشيعية معاملة الغدر والتنكيل والمكر والخديعة. وفي المقابل هناك من الشيعة أناس صعد البعثيون على أكتافهم بحجة أنهم أخوة للشيعة في الدين، ولم يجن الشيعة من وراء ذلك غير المعاملة السيئة والسب والشتم والكتابة ضدهم، فبمجرد أن يصل أولئك إلى الحكم لا يكون حظ الشيعة إلّا السجن والظلم والاضطهاد بلاسبب يذكر.

مع الأمل وبعيدا عن اليأس

قال تعالى: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(1). نعم، يجب أن نشرع بالعمل الجاد، بروح ملؤها الأمل مبتعدين عن اليأس ومتوكلين على اللّه عزّ وجلّ. هذا أولاً.

وثانياً: أن ينتشر العلماء والمبلغون في كل مناطق العراق، ليعملوا على هداية الشعب وتعريفهم بالإسلام والتشيع، وبالأخص الشباب، لأنهم يمثلون الطاقة

ص: 340


1- (1) سورة يوسف، الآية: 87.

النشطة، وبذلك نقطع الطريق على الأفكار المنحرفة مثل الشيوعية والقومية والبعثية. إذن علنيا - إذا أردنا أن لا تتكرر المحنة التي وقع فيها عراق اليوم - أن نعرّف المجتمع والأمة المفاهيم الدينية الصحيحة، وأن ننشر أهداف الإسلام الصحيح والحقيقي بين صفوفها؛ لكي يعمل الجميع من أجل تحقيق هذه الأهداف في سبيل نشر حكومة الحق المتمثلة بالإسلام.

وثالثاً: تنظيم وتربية الشباب وبث روح الوعي الإسلامي فيهم وتعبئتهم بالأفكار الإسلامية وتسليحهم بها، عندها لا يبقى هناك مجال لدخول الأفكار الشيوعية ولا القومية ولا البعثية إلى صفوفهم(1) لأنهم إنما أخذوا هذه الأفكار للفراغ الذهني الذي كان عندهم، فإذا امتلأ هذا الفراغ بالمفاهيم الصحيحة لميكن هناك وجه للخوف آنذاك من أن يضفي الدين والثقافة الإسلامية طابعها العام على شكل الحكومة، وكذلك على الأمة الإسلامية التي تعيش تحت ظل الدولة الإسلامية.

صورة الحكومة الإسلامية

أما حول شكل الحكومات الإسلامية في العراق فنوجزها باختصار كالآتي:

أولاً: إن الدين العام للأمة هو الإسلام.

ثانياً: أكثرية أفراد الحكومة من الشيعة تباعاً للنسبة، مع رعاية قانون الكفاءة واللياقة بالمنصب.

ص: 341


1- (1) وكشاهد على ذلك: فإن إنكلترا وبغض النظر عن موقعها الجغرافي تعتبر قلب القارة الأوربية لمكانتها السياسية والتاريخية التي تقتضي الاحتكاك الكثير والمباشر مع البلدان الأخرى، ليس فيها أكثر من (16000) شيوعي، مع ما هناك من حرية نسبية، والسبب هو أنها تؤكد على إرسال شبابها فرداً فرداً إلى الكنيسة، وتربطهم بها، وتقوي أساس التدين عندهم، ليس حباً في الدين، وإنما جعل الفكرة الدينية عند الأفراد يكون حاجزاً عن دخول الأفكار الإلحادية الأخرى مثل الشيوعية.

ثالثاً: إعطاء الأقليات الأخرى كامل حقوقهم، وعدم تجاهلهم بحسب نسبتهم، مع مراعاة الكفاءة وغيرها من الشروط اللازمة لذلك. وبهذا سوف تسود في الأمة الأفكار الإسلامية التي جاء بها الإسلام، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور...، والنور الذي تعيش وسطه الأمة سوف يتمثل في اقترابها من اللّه عزّ وجلّ، وتقدمها العلمي الذي يخدمها كثيراً في مسارها التاريخي.

من هدي القرآن الحكيم

الشيعة

قال تعالى: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَٰهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٖ سَلِيمٍ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٖ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَٰثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}(2).وقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(3).

الحكومة العادلة

قال جلّ وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ}(4).

ص: 342


1- سور الصافات، الآية: 83-84.
2- سورة القصص، الآية: 15.
3- سورة المائدة، الآية: 55.
4- سورة النساء، الآية: 105.

وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَئًْا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(3).

من واجبات المسلم
1- رفض الحكومات الجائرة

قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّٰغُوتَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَٰنِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا}(5).

وقال تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَٰتِ أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(6).

ص: 343


1- سورة المائدة، الآية: 49.
2- سورة النساء، الآية: 58.
3- سورة المائدة، الآية: 42.
4- سورة النحل، الآية: 36.
5- سورة النساء، الآية: 76.
6- سورة البقرة، الآية: 256-257.
2- تحمل المسؤولية والاهتمام بها

وقال جلّ وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ}(2).

وقال سبحانه: {احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَٰجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ}(3).

وقال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسُْٔولًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {فَلَنَسَْٔلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}(5).

نشر الفكر الإسلامي

قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(6).

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(7).

وقال عزّ وجلّ: {رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(8).

ص: 344


1- سورة التوبة، الآية: 128.
2- سورة طه، الآية: 1-2.
3- سورة الصافات، الآية: 22-25.
4- سورة الإسراء، الآية: 34.
5- سورة الأعراف، الآية: 6.
6- سورة إبراهيم، الآية: 5.
7- سورة سبأ، الآية: 28.
8- سورة الطلاق، الآية: 11.

وقال جلّ وعلا: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَٰتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَٰبِ أُوْلَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّٰعِنُونَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

من هم الشيعة

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «... ما شيعتنا إلّا من اتقى اللّه وأطاعه، وما كانوا يعرفون... إلّا بالتواضع والتخشع وأداء الأمانة وكثرة ذكر اللّه...»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «شيعتنا هم العارفون باللّه والعاملون بأمر اللّه»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن شيعتنا من شيعنا وتبعنا في أعمالنا»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما شيعتنا أصحاب الأربعة الأعين: عينان في الرأس، وعينان في القلب، ألا والخلائق كلهم كذلك، ألا إن اللّه عزّ وجلّ فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم»(6).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «شيعتنا الرّحماء بينهم، الذين إذا خلوا ذكروا اللّه، إنّ ذكرنا من ذكر اللّه، إنّا إذا ذكرنا ذكر اللّه، وإذا ذكر عدوّنا ذكر الشّيطان»(7).

ص: 345


1- سورة المائدة، الآية: 15-16.
2- سورة البقرة، الآية: 159.
3- الكافي 2: 74.
4- بحار الأنوار 75: 29.
5- تفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 307.
6- الكافي 8: 215.
7- الكافي 2: 186.

وقال(عليه السلام): «تزاوروا فإنّ في زيارتكم إحياءً لقلوبكم وذكراً لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطّف بعضكم على بعضٍ، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيمٌ»(1).

وقال(عليه السلام): «شيعتنا أهل الهدى وأهل التّقى وأهل الخير وأهل الإيمان وأهل الفتح والظّفر»(2).

وقال(عليه السلام): «إيّاك والسّفلة، فإنّما شيعة علي(عليه السلام) من عفّ بطنه وفرجه، واشتدّ جهاده، وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر»(3).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «يا معشر شيعتنا، اسمعوا وافهموا» إلى أن قال: «واجتمعوا على أموركم ولا تدخلوا غشّاً ولا خيانةً على أحدٍ» إلى أن قال: «ولا عملكم لغير ربّكم ولا إيمانكم وقصدكم لغير نبيّكم»(4).

ضرورة العمل

قال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «العمل العمل ثم النهاية النهاية، والاستقامة الاستقامة ثم الصبر الصبر، والورع الورع، إن لكم نهاية فانتهوا إلىنهايتكم»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع»(6).

ص: 346


1- الكافي 2: 186.
2- الكافي 2: 233.
3- الكافي 2: 233.
4- مستدرك الوسائل 1: 114.
5- نهج البلاغة، الخطبة الرقم: 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهي عن البدعة.
6- الكافي 2: 75.

وقال أبو جعفر(عليه السلام) لخيثمة: «أبلغ شيعتنا أنه لا ينال ما عند اللّه إلّا بالعمل»(1).

وعن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن الإيمان؟ فقال: «شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه»، قال: قلت: أليس هذا عمل؟، قال: «بلى» قلت: فالعمل من الإيمان؟ قال: «لا يثبت له الإيمان إلّا بالعمل والعمل منه»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «العلم مقرونٌ إلى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلّا ارتحل»(3).

وقال(عليه السلام): «إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصّفا»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فمنهم المنكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه والتارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه، فذلك الذي ضيَّع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة،ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء»(5).

المسؤولية وتعظيمها

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي، ما

ص: 347


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 370.
2- الكافي 2: 38.
3- الكافي 1: 44.
4- الكافي 1: 44.
5- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 374.

تركت هذا القول حتى أُنفذه أو أُقتل دونه»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه لو أعطيت الأقاليم السبع بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جُلب(2)

شعيرة ما فعلته»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في الدعاء بعد صلاة يوم الغدير: «يا صادق الوعد يا من لا يخلف الميعاد يا من هو كل يوم في شأن، إن أنعمت علينا بموالاة أوليائك المسؤول عنها عبادُك فإنك قلت وقولك الحق: {ثُمَّ لَتُسَْٔلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}»(4)(5).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «يا معاشر قراء القرآن اتقوا اللّه عزّ وجلّ فيما حملكم من كتابه فإني مسؤول وإنكم مسؤولون، إني مسؤول عن تبليغ الرسالة وأما أنتم فتسألون عما حُمِّلتم من كتاب اللّه وسنتي»(6).

خير الملوك

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «خير الملوك من أمات الجور وأحيى العدل»(7).

واجب الملوك

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ذد عن شرائع الدين وحط ثغور المسلمين وأحرز دينك وأمانتك بإنصافك من نفسك والعمل بالعدل في رعيتك»(8).

ص: 348


1- مناقب آل أبي طالب(عليه السلام) 1: 58.
2- جُلب الشعيرة: قشرتها، وأصل الجلب غطاء الرحل فتجوّز في إطلاقه على غطاء الحبة.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 224 من كلام له(عليه السلام) يتبرأ من الظلم.
4- سورة التكاثر، الآية: 8.
5- تهذيب الأحكام 3: 146.
6- الكافي 2: 606.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 357.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 371.
من هو الحاكم؟

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن السلطان لأمين اللّه في الأرض ومقيم العدل في البلاد والعباد ووزعته في الأرض»(1).

المال ليس للحكام

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن هذا المال ليس لي ولك وإنما هو للمسلمين وجَلْب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم شركتهم فيه، وإلّا فجنا أيديهم لا يكون لغير أفواههم»(2).

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(3).

ص: 349


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 242.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 253.
3- الكافي 3: 424.

الصلح مع اليهود استسلام لا سلام

من هم اليهود؟ ومن هي إسرائيل؟

اشارة

قال اللّه تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ}(1).

من الخطأ أن نتصور أن اليهود اليوم هم أنفسهم قوم موسى(عليه السلام)، ومن الخطأ أيضاً أن نتصور أن بني إسرائيل اليوم هم الذين ذكرهم اللّه تعالى في كتابه العزيز وفضلهم على العالمين - أي عالمي زمانهم - ، في قوله تعالى: {يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَٰلَمِينَ}(2).

أو هم أولئك الذين اختار اللّه تعالى منهم كثيراً من الأنبياء(عليهم السلام) أمثال موسى، وهارون، ويوسف، وإلياس، ويونس بن متى(عليهم السلام)، والذين جعل منهم الملوك كما قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا}(3).

أو أنهم المقصودين في الآية الكريمة حينما كانوا أبراراً وآتاهم اللّه ما لم يؤت أحداً في زمانهم، كما قال اللّه تعالى: {وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ}(4).

ولكن يهود اليوم وإسرائيل اليوم هم من سلالة أولئك العصاة الذي تكبروا في

ص: 350


1- سورة المائدة، الآية: 82.
2- سورة البقرة، الآية: 47.
3- سورة المائدة، الآية: 20.
4- سورة المائدة، الآية: 20.

الأرض فجعلهم اللّه عزّ وجلّ قردة وخنازير فقال سبحانه: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَوَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّٰغُوتَ}(1).

إذن يهود اليوم... يختلفون عن يهود الأمس الذين كانوا من أتباع موسى(عليه السلام)، وإسرائيل اليوم غير إسرائيل الأمس.

الأصل الجديد ليهود اليوم

ويعرف ذلك من هذه القطعة التاريخية التي تقول: ... ما بين القرنين السابع والعاشر الهجري، سيطر شعب مغولي هو شعب الخزر على الطرف الشرقي من أوروبا ما بين (الفولغا والقفقاس) وكان يواجه الدولة الإسلامية في الشرق والجنوب الشرقي والدولة المسيحية المحيطة به، وهو اختيار يحير بعض المؤرخين، كما انه لم يكن صدفة، (كما ذكروا)(2)، ويفسره البعض بأنه حرص شعب (الخزر) على الاحتفاظ بشخصيته الخاصة بين القوتين العالميتين حينذاك أي القوة الإسلامية والقوة المسيحية.

وفي القرن الثاني عشر - الثالث عشر انهارت دولة الخزر، وفروا في اتجاه الغرب إلى القرم وأوكرانيا وهنغاريا وبولندا وليتوانيا، يحملون معهم ديانتهم اليهودية التي عرفها العصر الحديث، وبذلك فان يهود العالم اليوم في غالبيتهم الساحقة ينحدرون من هذا الشعب المغولي خاصة، وإن اليهود الأصليين الذين ينتمون إلى القبائل الإسرائيلية (الإثنتي عشرة) في التاريخ القديم قد ضاعت آثارهم...»(3).

ص: 351


1- سور المائدة، الآية: 60.
2- انظر: المؤرخ المجري د. انطال بارثا.
3- من كتاب: القبيلة الثالثة عشر ل- أرثور كوستلر.

هذه الحقيقة التاريخية تثبت أن اليهود اليوم لا علاقة لهم تاريخياً ولا غيرهامن قريب أو بعيد بيهود الأمس، وإسرائيل اليوم لا علاقة لها ببني إسرائيل الأمس.

كما أنه لا علاقة لهم بفلسطين إطلاقاً.

مزاعم اليهود

الحقيقة التاريخية السالفة الذكر أطلق اليهود عليها اسم (الشتات) وجعلوها عنواناً لمظلوميتهم كما يدعون، حيث تزعم الصهيونية الآن أن القوى الظالمة أي الإسلامية والمسيحية فرضت عليهم الشتات، وحالت عبر التاريخ بينهم وبين عودتهم إلى (أرض الميعاد) لكن التاريخ ينسف هذه المزاعم وهذه الأسطورة... فالمعروف أنهم رحلوا طلباً للعيش قبل أن يطاردهم أحد، بل هاجروا قبل السبي البابلي، وبعد قيام مملكة إسرائيل التي ظهرت على أثر انقسام فلسطين إلى مملكتين مملكة يهوذا في القدس ومملكة إسرائيل في السامرة بعد وفاة نبي اللّه سليمان(عليه السلام) عام (935ق.م) وفي القرن السادس قبل الميلاد زال كل أثر فعلي لليهود في فلسطين إلّا من اندمج منهم بسكان البلاد الأصليين.

ثم اتسع (تشتت) اليهود في مراكز الاقتصاد والتجارة مثل: الإسكندرية وقرطاجة قبل تدمير الهيكل سنة (70م)... .

الطابع التجاري لديانة اليهود

اليهود أينما تجمّعوا فذلك يعني أنهم تجمّعوا حول نواة تجارية مالية، ولا يهمهم شيء حول ما إذا كانت تجارتهم هذه دنيئة أم لا، المهم عندهم جمع المال من التجارة والتحكم بالعصب الاقتصادي والسياسي للمنطقة، فلو جاء عشرة رجال من اليهود الفقراء إلى منطقة، لوجدناهم يتحكمون بالسوق في بضع سنوات وذلك عبر خطة عالمية تدعمهم، بغض النظر عن الوسائل التي يتبعونها

ص: 352

في ذلك.

فمثلاً في أوروبا كان الربا مقدماً على التجارة والأعمال لكسب الربح السريع. وقد استغله اليهود وكذلك الدعارة ويعود عملهم بالربا إلى أن الكنيسة الكاثوليكية حرمت الربا على النصارى. فبقي فراغ شغله اليهود، فأخذوا يتعاملون به بجشع.

اليهود في البلاد العربية

بدأ بعض اليهود بالنزوح إلى البلاد العربية من القرن السادس قبل الميلاد النفي البابلي، ثم جاء بعضهم بعد سقوط القدس القرن الأول الميلادي فنزحوا شرقاً نحو العراق وجنوباً نحو الجزيرة العربية وبالاتجاه الجنوبي الغربي نحو مصر، وتسربت أعداد منهم وامتزجت بأهل البلاد الأصليين واختلطت بهم اختلاطاً مباشراً في جوانب حياتهم وظروفها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كما شاركوهم في - اللغة والتقاليد وأسلوب التفكير - .

وقد ضاعت وحدتهم العنصرية رغم تقوقعهم ورغم تعصبهم العنصري لديانتهم، كما فقدوا لغتهم المشتركة (العبرية) فتكلموا بلغات مختلفة حسب الموقع الذي يعيشون فيه، وهذا يبين أنهم هجين من عدة قوميات ومن عدة لغات.

أما تواجدهم في فلسطين فسوف نتطرق إليه ضمن مراحل تاريخية متتالية.

فلسطين في التاريخ

ذكر بعض المؤرخين: أنه عرفت فلسطين بأرض (كنعان) قديماً (حوالي 2500ق.م)، وفي عام (2100ق.م) تعرضت لغزو القبائل الكريتية التي سكنت شواطئها بين يافا وغزة، فسميت تلك المناطق باسم (فلسطين) ثم صار هذا الاسم لكل المنطقة فيما بعد وبحكم موقعها تعرضت لحروب طاحنة وغزوات

ص: 353

وهجرات متوالية لكن كان معظم الغزاة عابرين إلّا من استقر فقد اندمج معالسكان وصار منهم.

خرجت قبائل العبرانيين من مصر متجهة إلى الشرق بقيادة النبي موسى(عليه السلام) في عام (1290ق.م) وتوقفت في صحراء (التيه) 40 عاماً.

وفي عام (1000ق.م) أخضع النبي داود(عليه السلام) (الكنعانيين اليبوسيين) في منطقة القدس وجعل أورشليم (القدس) عاصمة لهم.

وبعد وفاة ابنه النبي سليمان(عليه السلام) عام (635ق.م) انقسمت المملكة إلى مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل.

وفي القرن السادس ق.م تعرضت فلسطين لغزوات الآشوريين والكلدانيين وتبعثر اليهود على أثرها وفي عام (529ق.م) غزا الفرس فلسطين وألحقوها بدولتهم.

وفي عهدهم عادت قبيلة (يهوذا) مع بقايا الأسر البابلية إلى القدس، وأعادت الهيكل من جديد.

وفي عام (332 ق.م) غزا الإسكندر فلسطين.

وفي عام (90 ق.م) قدم العرب إلى الأنباط والحقوا فلسطين بعاصمتهم.

إلى أن احتلها الرومان في أوائل القرن الميلادي وظلت تتبع روماً أولاً وبيزنطة بعدها، إلى أن جاء الإسلام وحررها من أيديهم.

الفتح الإسلامي

نظراً لأهمية فلسطين دينياً عند جميع الأديان - ففيها أولى القبلتين عند المسلمين وكونها (أرض الميعاد) لدى اليهود وحيث سمّت أرضها التوراة (أرض السمن والعسل)، ولكونها وسط الحضارات والإمبراطوريات القديمة وكونها معبراً بين القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا وملتقى لها - كل ذلك جعل

ص: 354

أرضها مسرحاً تتجابه عليه مختلف القوى العالمية قديماً وحديثاً وتنجذب إليهاأمواج الهجرات المتتالية والمتصاعدة باستمرار من مختلف الديانات والقوميات، وبانتصار الإسلام في جزيرة العرب... انطلقت القوة الإسلامية الجديدة إلى جميع الاتجاهات لتحمل رسالة الإسلام والحضارة الإسلامية. وتوجهت قوات المسلمين شمالاً إلى فلسطين لتقضي على الجيوش الرومانية في معركتين حاسمتين معركة أجنادين بالقرب من القدس فدخلت القدس سنة (638م).

ثم معركة اليرموك التي أنهت الوجود الروماني في فلسطين وتم استيلاء المسلمين على كل فلسطين، وصارت جزءاً لا يتجزأ من البلاد الإسلامية بسقوط (قيصارية) سنة (460م) لينتهي فصل الختام للإمبراطورية الرومانية في أرض الإسلام، ليبدأ بعدها فصل جديد بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية (الصليبية).

المملكة الصليبية

في القرن الحادي عشر الميلادي تحركت الجيوش الأوروبية (الصليبية) بعوامل الطموح ودوافع الطمع والحماس الديني نحو المشرق تحت شعار (تحرير الأراضي المقدسة) وكان هدفهم القضاء على المسلمين، وبالفعل فقد اغرقوا القدس بعد احتلالها في بحر من الدماء وقتلوا من فيها من المسلمين وحتى المسيحيين واليهود الشرقيين وأقاموا مملكة باسم (مملكة القدس) وبعد ثمانين سنة من سقوط القدس بأيديهم استطاع المسلمون مرة أخرى استردادها من أيديهم (1187م) بعد أن ألحقوا بهم هزيمة نكراء.

ونتيجة لانتصارات المسلمين، انحسر نفوذ الصليبيين إلى المنطقة الساحلية من فلسطين وأصبحت (عكا) هي عاصمتهم الجديدة.

وبعد ذلك نشبت معارك طويلة ومريرة طوال السنتين استطاع بعدها (مماليك

ص: 355

مصر) من المسلمين تحرير (عكا) وطرد الصليبيين وإزالة آخر أثر لهم من الأراضي الإسلامية سنة (1291م).

الحكم الإسلامي في فلسطين

بعودة الحكم الإسلامي إلى فلسطين سمح لليهود بالهجرة إليها والإقامة فيها بعد أن منعتهم من ذلك الحكومات الصليبية وقضت على وجودهم في فلسطين قضاءً تاماً.

وهذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها اليهود للاضطهاد من قبل الأوربيين (الصليبيين) فقد طردوا من أوروبا الغربية وخلت من اليهود تقريباً، وقد أطلق على اضطهاد اليهود الجديد هذا، اسم جديد متأثر بنظرية الأجناس وتفوق العرق (اللاسامية) وقد عاشت الطوائف اليهودية في أوروبا في القرون الوسطى في نظام خاص(1) وهو النظام الذي يحصر تواجد اليهود فيه في أماكن معينة. وحين انتصر الإفرنج على المسلمين في الأندلس أشاعوا محاكم التفتيش، وكان على اليهود كما كان على المسلمين أن يختاروا بين البقاء والتكثلك أو الفرار والتشرد، ولو قارنا ذلك بوضعهم في ظل المسلمين لوجدنا الفرق شاسعاً جداً.

فقد تميزت معاملة المسلمين لليهود بالتسامح في حين كانت أوروبا تغلق عليهم كل شيء،وقد تمكن الأقلية اليهودية من المساهمة بحرية في الحضارة الإنسانية في ظل الحكم الإسلامي. وتُذكر الأندلس دائماً كمثل على المركز الممتاز الذي تمتع به اليهود في العالم الإسلامي.

التدفق الجديد لليهود

في زمن الدولة العثمانية ومنذ بداية القرن السابع تدفق اليهود القادمين من

ص: 356


1- يسمى (الغتيوات).

أوربا (الشرقية)(1) ويعرفون باسم خاص(2) يميزهم عن بقية اليهود في العالم على فلسطين، وزادت الهجرة مع ضعف الدولة العثمانية وازدياد نفوذ الدول الكبرى وتصاعد الاضطهاد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

ومع نمو الحركة الصهيونية توجهت هذه الهجرة إلى (فلسطين) واستمرت بالازدياد المطرد إلى يومنا هذا.

الحركة الصهيونية

بدأت هذه الحركة منذ القرن السابع عشر تقريباً إلّا أن الاجتماع الأول (للحركة الصهيونية في العالم) كان في عام (1897م) في مدينة بازل في سويسرا بزعامة (مؤسس الصهيونية)(3)، ويمكن تلخيص ما جاء في المؤتمر بما يلي:

(إن هدف الصهيونية هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بضمن القانون العام) وحدد عدة خطوات لتحقيق هذا الهدف يمكن حصرها فيما يلي:

1- تشجيع استيطان العمال الزراعيين والصناعيين اليهود في فلسطين.

2- تنظم اليهود والربط بينهم من خلال مؤسسات تتفق مع القوانين الدولية والمحلية لكل بلد.

3- تقوية الشعور والوعي القومي لدى اليهود وتعزيزهما.

4- اتخاذ خطوات تمهيدية للحصول على موافقة الدول حيث يكون ضرورياً لتحقيق هدف الصهيونية.

المراوغة من أساليب اليهود

وتمكن اليهود بوسائلهم وأساليبهم اللاإنسانية والملتوية التي استخدموها

ص: 357


1- بولندا، ليتوانيا، روسيا.
2- اشكنازيم.
3- ثيودور هرتزل، كاتب مجري يهودي أسس الحركة الصهيونية.

لتحقيق مآربهم في بناء دولتهم (اللاشرعية).

ومن أساليبهم المراوغة التي اتبعها أحد زعماؤهم(1) هو انتزاع وعد (بلفور)(2) من الحكومة البريطانية عام (1917م) الذي أعطى اليهود ما لا يملكون، وتجاوزت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارات كان أهمها قرار التقسيم الذي يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية ووضع القدس تحت الإدارة الدولية.

ومما يذكر أن زعيمهم هذا قام بألفي مقابلة للوصول إلى تصريح (بلفور) وزير خارجية بريطانية، وقد كيّف نقاشه بحذف شديد مع كل سياسي يقابله وبحسب الحالة الخاصة لذلك السياسي.

اليهود بؤرة الفساد والكساد

وكما ذكرنا فلليهود طرق كثيرة وأساليب خاصة وملتوية لتحقيق غاياتهم في امتصاص دماء الآخرين من غير اليهود، أما مع بعضهم فيحرّمون هذه الأشياء. فمثلاً يجب التعامل بالربا مع غير اليهودي ويحرّم مع اليهودي، ولما لأساليبهم الخاصة من أثر في جمع المال والثراء السريع فإنهم يحاولون بشتى السبل تحطيم اقتصاد البلاد التي يعيشون فيها بيد، بعد الإمساك بزمام الاقتصاد بيد أخرى. وحينما كنا في العراق شاهدنا اليهود قبل عام (1948م) عندما كانوا في سوق الشورجة ببغداد وقد احتكروا جميع المواد الاستهلاكية والغذائية في أيديهم وخلقوا كثيراً من الأزمات الاقتصادية، وتلاعبوا بالأسعار مما سبّب شحّة

ص: 358


1- حاييم وايزمن.
2- آرثر جيمس، سياسي إنكليزي وزير الخارجية (1917م)، أصدر وعد بلفور بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين.

من جانب وكساد من جانب آخر، وبالتالي جمعوا كل تلك الأموال وحطّموا اقتصاد العراق ثم نقلوا كل أرصدتهم معهم إلى إسرائيل.

ويذكر أن في طهران أيضاً زمن الشاه كان سوق طهران الكبير بيد جماعة من اليهود، ولما كان هؤلاء يتحكّمون بالسوق على أهوائهم، والشاه قد منحهم الحرية الكاملة، لذلك فانهم أخذوا يتحكمون بكل شيء في السوق من عرض وطلب وتسعير واحتكار وتلاعب إلى غير ذلك من الأساليب الخبيثة والملتوية.

واليهود بالاضافة إلى ذلك فانهم يقتلون الأخلاق الحسنة في المجتمع، وان أول أعمالهم التي يقومون بها هي نشر الخمور والزنا والبغاء فقد أسسوا في طهران (14000) محل لبيع الخمور وذلك على علم من الشاه.

هذا هو المعروف والمتعارف عليه من اليهود، فإنهم لم ينشروا الخمور والزنا والفحشاء إلّا من أجل افساد المجتمع؛ حيث إن اليهودي لا يستطيع أن يعيش ويتسلط على غيره إلّا بعد أن يفسد ما حوله؛ لكي يخلق جواً ينسجم ويتواءم مع رغباته ويسهل له الحصول على مبتغاه.

فهم بؤرة الفساد في كل الدنيا ونجد أنهم من وراء مراكز الدعارة وربما يجعلون مقرّات للزنا والدعارة تحت اسم آخر مثل (مراكز الخدمات الإنسانية) ويتسترون تحت هذه الأسماء لتحقيق أغراضهم، وهكذا كان الحال في العراق وإيران ومصر وغيرها من البلدان الإسلامية.

اليهود وإثارة الفتن

من أعمال اليهود المعروفة - بالإضافة لما سبق - إثارة الفتن والخلافات والنزاعات وتشجيع التطاحن بين أبناء المسلمين والنتيجة طبعاً ستكون لصالح اليهود، فقد استخدموا أساليب كثيرة في الدسّ بين طيّات الكتب والطعن بالمعتقدات، وإثارة النعرات الطائفية والعرقية بين المسلمين بأساليب جديدة

ص: 359

أدت إلى تدمير البلاد وضياع الكثير من الثروات ونهباً عن طريق تأسيس عصابات ذيلية ترتبط بهم مطليّة بصبغة الأحزاب السياسية العلمانية.

ولو بحثنا وراء جذور الحزب الشيوعي والحزب البعثي في العراق لوجدنا أن المؤسسين هم من اليهود، وذلك عن طريق التنسيق مع بعض السفارات الغربية. ومن هذا ترى أن قادة حزب البعث في العراق لم يقوموا بأي عمل ضد اليهود، مع أنهم قاتلوا واعتدوا على اقرب الدول لهم وبكل شراسة.

لعبتهم مع الملوك

قبل (3500) عام كان حاكم إيران (كورش بادشاه)، وقد سمى الشاه المقبور ابنه (كورش) تيمناً بذلك الاسم كي يعيد ذكرى ذلك الحاكم الظالم على الرغم من أن إيران بلد إسلامي.

ويذكر المترجمون لحياة كورش الملك: أن زوجته ولدت عشرة أطفال وكانت جميلة وثرية ومن عائلة معروفة، كما كان له رئيس وزراء حكيم مفكر، وقد أدار شؤون البلاد بجدارة وسعى لتعمير البلاد.

إلّا أنه وبعد بضع سنوات حصل اليهود على فرصة لدخول بلاط الملك وأقاموا معه علاقة وطيدة، وبعد ذلك استدرجوه باسم النصيحة وطلب الخير له وطلبوا منه أن يتقبل شابة حسناء من اليهود (لخدمة القصر الملكي)(1).

وبعد مدة وقعت رغبة (كورش) على تلك الفتاة وتزوجها... وبعد خطة محكمة وضعوها، قامت هذه الشابة بافساد العائلة، وتشكيك الزوج بزوجته ورئيس وزرائه، وجن جنون الزوج الملك، فأمسك بسيفه، وقطع رؤوس كل أفرادعائلته، ورئيس وزرائه، ولم يعرف هذا الزوج البائس عن الخطة المحكمة التي

ص: 360


1- ومما يذكر أن منزل بهلوي أيضاً كان يحوي على رجال يهود لخدمة وإدارة شؤون المنزل.

وضعها هؤلاء اليهود ونفذتها هذه الفتاة اللعوب وهكذا نجح اليهود بتطبيق الخطة على كورش مثلما نجحوا بتطبيقها على غيره من الملوك والأمراء في أماكن كثيرة من العالم.

إسرائيل صنيعة الاستعمار

ثياب الاستعمار كثيرة فكلّما بلي ثوب لبس غيره، وبعد الحرب العالمية الثانية ظهر للدول الاستعمارية أن لعبتهم هذه سوف لن تستمر، وباتت لعبة قديمة ورأوا أن الإسلام لو تحرك بحرية بين هذه البلدان المستعمرة فانه سيشكل قوة ضاربة خطيرة تعصف بهم وبمصلحتهم في هذه المنطقة الحيوية من العالم وفي مناطق أخرى كثيرة، لذلك فان إسرائيل (وهي اللعبة الجديدة والثوب الجديد) للاستعمار ستكون كفيلة بتحديد حرية تحرك الدول الإسلامية في هذه المنطقة لذا فيجب أن (تصنع) في هذا المكان الحساس، وولدت بعد محاولات بذلتها الصهيونية العالمية واليهودية مستفيدة من كل الظروف العالمية، ولكن ذلك صادف رغبة ملحة وهوى من نفوس الدول الاستعمارية تحقيقاً لمصالحهم.

إذن إسرائيل صنيعتهم والخادم المنقذ لمصالحهم. وبالفعل فقد حققت لهم إسرائيل كل مصالحهم وخرج الاستعمار من الباب ليدخل من الشباك كما يقولون.

إسرائيل وعروض السلام!!

إسرائيل وهي عصابة العنف والإرهاب لا تترك مناسبة إلّا وتطرح فيها عروضها للسلام!! وسلامها الذي تنشده هو أن يقوم على أساس الظلم والغصب وذلك بالاحتفاظ بالأراضي المغصوبة ورفض عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم. ومن دون أن تبدي تنازلاً لأصحابها الشرعيين فهي غير مستعدة لأن تقدم أيةتنازلات.

ص: 361

وكثيراً ما تظاهروا بهذه العروض الكاذبة، فقد تظاهر زعماؤهم بالسلام قبل العدوان الثلاثي على مصر عام (1956م)، وتظاهروا بذلك أيضاً قبل حرب (1967م) فكأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين عروضهم هذه وبين توقيت اعتداءاتهم.

وإسرائيل ترفض أن تبحث موضوع احتلال القدس وتصر على احتلالها، وقد رفضت أغلب المعاهدات(1) والقرارات(2)

التي تخوض في هذا الموضوع سراً فيما تظهر الالتزام بالتنفيذ علناً.

العرض الخياني

مما تقدم نعرف أن (إسرائيل) و(اليهود) عصابات إرهابية ولا علاقة لها (بعالم الأمس) كما علم أن الصهيونية والاستعمار وجهان لعملة واحدة، وعلمنا أيضاً غاية الصهيونية ولدت في قلب الأمة الإسلامية وليس في نيتها الرحيل، وحقدها على الإسلام (حقد مقدس)! كما يسمّيه اليهود.

إذن هل هناك وجه للمصالحة معها... وكيف ستمد يد المصالحة لها؟!! فهل يجوز لك أن تصالح غاصب بيتك وتسميه صديقاً!!

وماذا نسمي زيارة السادات(3) لإسرائيل هل هي صلح أم سلام أم استسلام، أم (تطبيع علاقات)، كما يحلو للسادات أن يسمّيها بذلك... أم أنها الخيانة؟!!

زيارة وتجارة

هناك من بارك ومن صفق لهذه الزيارة المخزية وتسلّم الأجور مقدماً فيداخل مصر وخارجها. وتاجر بدينه وشرف كلمته وصوته من أجل حفنة دراهم!!

ص: 362


1- منها معاهدة سايكس بيكو.
2- قرار الأمم المتحدة عام (1967م).
3- أنور السادات الرئيس المصري.

وهناك من وقف وقفة المتفرج بانتظار ما تفرزه هذه الزيارة سلباً وإيجاباً.

أي ان هناك من يتمنى النجاح للزيارة وهو صامت، وهناك من يتمنى فشلها أيضاً، كما أن هناك من رفض الزيارة رفضاً فيه نوع من الصمود والتحدي، وآخر رفضها رفضاً مطلقاً (أي مطلق الرفض).

وبمثل هذه المواقف أيضاً خرجت قمة بغداد حيث إن الزعماء العرب جميعاً (اتفقوا على أن لا يتفقوا) على عكس قادة اليهود الذي (اتفقوا على أن يتفقوا) وسنوضح ذلك متعرضين إلى مواقف كلا الطرفين.

مواقف الأنظمة العربية

يمكن تلخيصها بالمجاميع الثلاث التالية التي برزت في قمة بغداد.

الأولى: دول القبول: الدول التي قبلت الزيارة وهناك قبول مشروط وقبول غير مشروط.

الثانية: دول الصمت: هناك من صمت متمنياً نجاح الزيارة وهناك من صمت متمنياً الفشل لها.

الثالثة: دول الرفض: الدول التي رفضت الزيارة وفضّلت الصمود والتحدي وهو رفض رباعي وهناك رفض منفرد له رأي آخر، وأخرجوا مصر من قمة بغداد وقاطعوها وأخرجوها ليلتحقوا بها فيما بعد!

مواقف العدو الصهيوني

وهنا نجد أن الرأي العام للعدو والنظام طرفان لعصا واحدة ذلك لأن (الكنيست) يضم عدة مجاميع لها برامجها وسياساتها الخاصة بها مثل.

1- مجموعة المعراج(1).

ص: 363


1- وتضم (الماباي / المابام / راني).

2- مجموعة الليكود(1).

3- الأحزاب الدينية والشيوعية والتكتلات الصغيرة الأخرى، فالرأي العام تمثله هذه المجاميع، وهذه المجاميع تمثل الكنيست والكنيست يمثل النظام، إذن الرأي العام يمثل النظام.

والمجاميع المذكورة جميعها متفقة على رأي واحد يتلخص في ثلاث نقاط:

1- رفض الانسحاب إلى خطوط (1967م).

2- رفض قيام دولة فلسطينية على أي بقعة من التراب الفلسطيني.

3- رفض التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية تحت أي ظرف.

فإذا كان هذا موقف العدو فعلى أي أساس تتم المصالحة؟!! أليس ذلك خيانة واستسلاماً واعترافاً بإسرائيل دون تنازلها عن أي شيء، والجدير بالذكر أن الزعيم الصهيوني (بيغن) صرح عند قدوم السادات وقال: إننا لم نطلب من أحد الاعتراف بوجودنا... إننا نريد اعترافاً مشتركاً للطرفين في السيادة والأمن.

فهل هناك ذل واستسلام أكثر من هذا؟!!

وتمسكنوا ليتمكنوا

وهكذا سعى مفكرو اليهود بشتى الطرق وبأخبث الوسائل لأن يستعيدوا قوتهم ومجدهم وتراثهم حسبما يدّعون وعملوا من دون كلل حتى حصلوا على كل ما يبتغون، وتمكنوا من بناء دويلتهم الصهيونية في قلب المنطقة الإسلامية، بالإرهاب والقوة وسفك الدماء، وحققوا ما كانوا يصبون إليه بالأمس بهمة شرسة،وبدعم مالي واسع وتخطيط دقيق... وإعلام مكثف حول مظلومية اليهود الكاذبة ومسكنتهم إلى أن تمكنوا جيداً وأصبح زمام المبادرة بأيديهم، وبات الكثير ممن

ص: 364


1- وتضم (الأحرار / حيروت المركز).

يدعي الثورية أو القومية من الأنظمة العربية يتقرب إليهم سراً وعلانية.

وهذا الإعلام المكثّف إزاء مسكنتهم هذه، له دور كبير في بناء دويلتهم الغاصبة.

ففي سنة واحدة تطبع إسرائيل وتوزع (15) مليون كتاب، ولديها ما يقارب الألف صحيفة خارج فلسطين. وهذا يعني أن صحفها ومجلاتها تفوق عدد صحف ومجلات الدول العربية قاطبة بما فيهما لبنان ومصر المشهورتان بالطباعة والنشر.

أنظر! من أين لهم هذا؟ ومن الذي يوحي لهم بذلك وهم الكفار بينما يتراجع بعض المسلمين؟

والجواب هو قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ}(1) لضرب الإسلام والمسلمين، بينما يتراجع بعض المسلمين لأنهم ابتعدوا عن نهج الإسلام وسنة رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام) وانشغلوا بالتنازع فيما بينهم ولذلك فشلوا وقد قال تعالى: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(2).

مهازل بسبب البعد عن الإسلام

قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(3).

فلو أن بعض المسلمين أخلصوا النية للّه تعالى وجاهدوا في سبيله لما أضلّواالسبيل وما انتصرت عليهم دويلة صغيرة لا تتجاوز نفوسها الثلاثة ملايين بل (2.229.000) نسمة فقط في حين أن المسلمين العرب وحدهم يزيدون على

ص: 365


1- سورة الأنعام، الآية: 121.
2- سورة الأنفال، الآية: 46.
3- سورة العنكبوت، الآية: 69.

المائة مليون(1)!!

أليست هذه هي المهزلة بعينها؟ وإلّا فما معنى ذلك؟

ويجب هنا أن نقول للشعب المسلم: إن النصر من عند اللّه فانه لا يكتب ذلك إلّا للذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه، ويطبقون كافة القوانين الإلهية من الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة والحريات و... فقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الصَّٰدِقُونَ}(2).

إذن البعد عن الإسلام هو سبب هذه المهازل، وإلّا فما معنى حرب (1948م) ثم النكسة عام (1967م) في الخامس من حزيران؟

وما معنى مباركة قرار مجلس الأمن القديم (242) عام (1968م) من قبل (12) دولة عربية؟ ثم تأتي مجزرة أيلول الأسود عام (1970م) في الأردن، حيث سفكت دماء الفلسطينيين على يد أحد الملوك العرب(3) ... وبعدها تأتي حرب (1973م) خوفاً على التيجان وحفاظاً على ماء الوجه (لكن الولادة أجهضت) ثم استخدم النفط كسلاح للمعركة ويفشل. ثم يتحول سلاح الرفض إلى شبه تأييد ثم تأييد ثم حوار غير مباشر ثم مباشر ثم زيارات سرية للقدس ثم علنية تطوّع لها السادات بحجة تطبيع العلاقات والحوار المباشر، وقد سبقه أقرانه إلى الخنوعوالذل والاستسلام من أمثال بعض الحكام ومن سار في ركبهم في الخفاء، وهكذا يستمر الحال نحو كثير من المهازل.

ص: 366


1- الإحصاءات الأخيرة تقول ان عدد العرب بلغ ثلاثمائة مليون، أما اليهود في إسرائيل فلا يتجاوزن خمسة ملايين.
2- سورة الحجرات، الآية: 15.
3- الملك حسين بن طلال ملك الأردن.

وتكون النتيجة الذلة والخسران. يقول تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1).

الإسلام هو العلاج

المهازل السابقة سوف لن يوقفها إلّا الإسلام والعمل به، وعند ذلك ستسقط كل الشعارات المزيفة، ذكر أحد القادة الفلسطينيين: إن علاجنا ليس بالقومية ولا بالشيوعية ولا بالبعثية. وهذا هو الكلام الصحيح فان الحل هو الإسلام ولا توجد في الإسلام قومية، لا فارسية ولا عربية ولا أفغانية ولا هندية ولا تركية، وان القوميات في الإسلام محكوم عليها بالزوال؛ بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2).

ونحن المسلمون لسنا مرتبطين بالقومية ولا بالشيوعية، بل ارتباطنا هو بالإسلام وبقوانين التشريع الإلهي وكفى.

ولو تركنا الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة وتمسكنا بالقومية فهذا يعني أننا فقدنا قوانين الإسلام وما يوجب عزّتنا وقدرتنا، وأن ذلك يعني أيضاً أننا ضيعنا الأمة الإسلامية وكل ثقافتها. إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في أيام حكومته المباركة عمل على تقوية وحدة الأمة الإسلامية وإزالة القوميات كلها، وان بلال الحبشي وهو من سود أفريقيا، جعله النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) مؤذناً له مع أن بلال لم يكن يتقن تلفظ العربية، وقد ذكر التاريخ أن بلالاً لم يكن قادراً على تلفظ الشين وكان يلفظ السين محلها ويقول: أسهد أن محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) رسول اللّه. حتى أن بعض المسلمين اعترض على ذلك، إلّا أن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «إن سين بلال عند اللّه شين»(3)

ص: 367


1- سورة طه، الآية: 124.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- عدة الداعي: 27.

وذلك لكي يثبت أن لا قومية في الإسلام واحتفظ بلال بعمله هذا مؤذناً حتى آخر عمره.

إن إحدى شعارات القوميين هي:

سلامٌ على كفرٍ يوّحد بيننا *** وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ

إن المسلمين إذا ارتبطوا بالشرق أو الغرب وبالقومية والشيوعية فإنهم لا يفقدون الآخرة فقط بل يفقدون الدنيا كذلك. أما لو تمسكنا بالإسلام فلن يحدث أن يأتي العرب وهم أكثر من (100 مليون) ليصالحوا بل يستسلموا لإسرائيل التي تعدادها (2.229.000) نسمة(1).

نعم، لو تمسكنا بالإسلام لما كان يحدث أن يذهب العرب وهم الأكثر عدداً وعدة... ليتصالحوا مع إسرائيل...

ولو تمسكنا بالإسلام... لاستطعنا مواجهة كل القوى الكافرة. ليس إسرائيل فقط. وإنما الشرق والغرب معاً؛ لأن الإسلام بما يمتلكه من قوة إيمانية ومعنوية عالية... يستطيع حسم الكثير من الخلافات، ووضع حد للمشاكل والصعوبات التي تعاني منها الأمة، كما أن الإسلام هو القوة القاهرة التي تتكفل الوقوف بوجه كل المستكبرين والطغاة...

وما إسرائيل إلّا (نصل) للأنظمة الطاغوتية، وكل قوى التجبر العالمي موجّه إلى صدر الإسلام والمسلمين، وسننتصر بعون اللّه، وستنجلي هذه الغمة في الغد القريب إن شاء اللّه إذا اهتم المسلمون وتضامنوا وعملوا جادين في سبيل ذلك.

وعلينا بالدعاء أيضاً مبتهلين ومتضرعين إلى الباري عزّ وجلّ طالبين منه

ص: 368


1- سبق قبل صفحات الإحصاءات الجديدة.

المدد لنصرنا على كل هذه الدوائر التي أحاطت بالإسلام.

«اللّهم إنا نشكو إليك فقد نبينا صلواتك عليه وآله وغيبة ولينا وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصل على محمد وآله، وأعنا على ذلك بفتح منك تعجله، وبضرّ تكشفه، ونصر تعزه، وسلطان حق تظهره، ورحمة منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها، برحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

من هدي القرآن الحكيم

النهي عن موالاة ومودة الكافرين

قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}(2).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَٰفِرِينَ}(4).

وقال سبحانه: {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}(5).

وقال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(6).

ص: 369


1- إقبال الأعمال 1: 60.
2- سورة المائدة، الآية: 51.
3- سورة الممتحنة، الآية: 1.
4- سورة القصص، الآية: 86.
5- سورة آل عمران، الآية: 28.
6- سورة الفتح، الآية: 29.
اليهود والفساد

قال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ ... كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(1).

وقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ فِي الْكِتَٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}(2).

وقال سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٖ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٖ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ}(4).

ذم المكر والسعي في الفتنة

قال تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ}(5).

وقال سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَكَرُواْ مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَعَٰقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}(7).

ص: 370


1- سورة المائدة، الآية: 64.
2- سورة الإسراء، الآية: 4.
3- سورة المائدة، الآية: 82.
4- سورة البقرة، الآية: 96.
5- سورة غافر، الآية: 25.
6- سورة الأنفال، الآية: 30.
7- سورة النمل، الآية: 50-51.

من هدي السنّة المطهّرة

النهي عن موالاة أعداء اللّه

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إني بريء من كل مسلم نزل مع مشرك في دار الحرب»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أتى ذمياً وتواضع له ليصيب من دنياه شيئاً ذهب ثلثا دينه»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «من والى أعداء اللّه فقد عادى أولياء اللّه، ومن عادى أولياء اللّه فقد عادى اللّه تبارك وتعالى، وحق على اللّه عزّ وجلّ أن يدخله في نار جهنم»(3).

الاستسلام والغدر والخيانة

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يجيئ كل غادر بإمام يوم القيامة مائلاً شدقه حتى يدخل النار»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «جانبوا الخيانة فإنها مجانبة الإسلام»(5).

وقال(عليه السلام): «ألا وان الغدر والفجور والخيانة في النار»(6).

وقال(عليه السلام): «رأس النفاق الخيانة»(7).

ص: 371


1- الكافي 5: 43.
2- كنز الفوائد 1: 280.
3- صفات الشيعة: 7.
4- الكافي 2: 338.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 337.
6- الكافي 2: 338.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 376.
معرفة العدو ومعاملته

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ألا وان اعقل الناس، عبدٌ عرف ربه فأطاعه، وعرف عدوّه فعصاه»(1).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لا تغترن بمجاملة العدو فإنه كالماء وإن أطيل إسخانه بالنار لم يمنع من إطفائها»(2).

العودة إلى حكم الإسلام

عن الإمام الحسين(عليه السلام) قال: «لو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات اللّه، كانت أمور اللّه عليكم ترد وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم وأسلمتم أمور اللّه في أيديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم»(3).

ص: 372


1- أعلام الدين: 337.
2- عيون الحكم والمواعظ: 519.
3- بحار الأنوار 97: 80.

الطريق إلى الغيب

الخوف والرجاء والحب

اشارة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... فإن تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم»(1).

وفي كلام آخر له(عليه السلام) انه قال: «صفتان لا يقبل اللّه سبحانه الأعمال إلّا بهما: التقى والإخلاص»(2).

وهناك كثير من الآيات القرآنية التي تكشف لنا عن هذا المعنى وتحثّنا عليه، ومن هنا يتبين أن سبب قبول الأعمال عند اللّه هو التقوى، حيث يقول عزّ من قائل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(3) فعندما يصل الإنسان إلى هذه المرحلة والدرجة الرفيعة فإنه سوف ينظر بنور اللّه ، وقد جاء عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «إتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه عزّ وجلّ»(4).

فلنخض في هذا البحر العميق، وفي تلك الأمواج المتلاطمة، ولو شيئاً يسيراً

ص: 373


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 198 من خطبة له(عليه السلام) ينبه على إحاطة علم اللّه بالجزئيات ثم يحث على التقوى ويبين فضل الإسلام.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 423
3- سورة المائدة، الآية: 27.
4- الكافي 1: 218.

من باب التذكير، وبذلك أمرنا ربنا بقوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

التقرب إلى اللّه

إن بعض الناس في هذه الدنيا يتقربون إلى اللّه سبحانه وتعالى باحدى طرقٍ ثلاث: وهي إما الخوف - خوفاً من النار - ، أو الرجاء - طمعاً في الجنة - ، أو الحب - حب اللّه - ، وهذه طرق ثلاث للتقرب إلى اللّه سبحانه، وبعضهم قال: هي قسمة عقلية لا استقرائية، كما في لغة أهل المنطق. ولعل في هذه الطرق الثلاث إشارة إلى أن ترك الدنيا وعدم الانخداع بمغرياتها من أهم الممهدات لنيل القربة عند اللّه سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {وَفِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(2) فعلى المؤمن أن يتنبه إلى حقيقة الدنيا وهي أنها متاع الغرور لمن اغتر بها ولم يعمل لآخرته.

قال سعيد بن جبير: متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، ومن اشتغل بطلبها فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منه، وقيل معناه: والعمل للحياة الدنيا متاع الغرور، وإنه كهذه الأشياء التي مثل بها في الزوال والفناء(3).

فالدنيا إذاً زائلة، ومتاع قليل، وتعقبها دار البقاء وهي الآخرة، فيها ينال الإنسان غاية أعماله وآماله. فعلى المؤمن أن يجعل الدنيا ممراً إلى الآخرة، متزوداً منها بالتقوى والإيمان. وفي وصية لقمان الحكيم لابنه قال: «... يا بني، إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّه ، وحشوها الإيمان،

ص: 374


1- سورة الذاريات، الآية: 55.
2- سورة الحديد، الآية: 20.
3- تفسير مجمع البيان 9: 396.

وشراعها التوكل، وقيمها العقل، ودليلها العلم، وسكانها الصَّبر...»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله»(2).

اختيار الإنسان

إن طباع الناس ومواقفهم مختلفة في قبال هذه الطرق الثلاث - الخوف والرجاء والحب - ، فبعضهم - وهو الغالب من الناس - يغلب على أنفسهم الخوف، حيث إنهم كلّما فكّروا في ما أوعد اللّه الظالمين، والذين يرتكبون المعاصي والذنوب من أنواع العذاب الذي أعدّ لهم زادهم ذلك في أنفسهم خوفاً وارتعاداً، وبذلك لجؤوا إلى عبادته تعالى خوفاً من عذابه.

أما الفئة الثانية من الناس فيغلب على أنفسهم الرجاء، حيث إنهم كلّما فكروا في ما وعد اللّه للذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة، زاد رجاؤهم وبالغوا في التقوى والتزموا بالأعمال الصالحة طمعاً في المغفرة والجنة.

والطائفة الثالثة - حيث هذا الكلام المختصر يدور حولهم - وهم الذين لا يعبدون اللّه خوفاً من عقابه، ولا طمعاً في جنته، وإنما يعبدونه عزّ وجلّ لأنه أهل للعبادة، وهم الذي محضوا الإيمان محضاً، والذين هم ينظرون بنور اللّه ، وهم القليل النادر من الخلق؛ ذلك لأنهم عرفوا اللّه حق معرفته بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فهم يعبدون اللّه ولا يريدون في شيء من أعمالهم - فعلاً أو تركاً - إلّا وجهه، ولا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوّفهم، ولا إلى ثواب يرجيهم، وإن خافوا

ص: 375


1- الكافي 1: 16.
2- الكافي 2: 136.

عذابه ورجوا رحمته، والى هذا يشير مولى المتقين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) حيث يقول: «إلهي، ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «لا يمحض رجل الإيمان باللّه حتى يكون اللّه أحب إليه من نفسه وأبيه وأمه وولده وأهله وماله من الناس كلهم»(2).

المرتبة الرفيعة

فعندما يصل الإنسان إلى هذه الدرجة الرفيعة من التقوى تنجذب نفسه إلى ساحة العزة والعظمة، ويغشى قلبه من المحبة الالهية ما ينسيه نفسه وكل شيء، وتمحى عن باطنه كل الأهواء والميول النفسانية التي تتعلق بالإنسان في هذه الدنيا، دون أن يشعر، ويبدل فؤاده قلباً سليماً ليس فيه إلّا اللّه عزّ اسمه، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(3)؛ ولذلك يرى أهل هذا الطريق أن الطريقين الآخرين - طريق العبادة خوفاً وطريق العبادة طمعاً - لا يمثلان العبادة الخالصة المتكاملة؛ فإن الذي يعبد اللّه تعالى خوفاً من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه. كما أن من يعبده طمعاً في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة، ولعل بعضهم لو تمكّن من الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده تبارك وتعالى لم يعبده. وإنما كان أهل الحب - وهو الطريق الثالث - أولياء اللّه لتنزّههم عن الأهواء النفسانية والميول المادية.

إذن فلا يتم الإخلاص في العبادة إلّا عن طريق الحب للّه وفي اللّه وباللّه،

ص: 376


1- بحار الأنوار 41: 14.
2- فلاح السائل: 101.
3- سورة البقرة، الآية: 165.

وهذا من أوثق عرى الإيمان(1).

وفي رواية عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى اللّه، فهو ممن كمل إيمانه»(2).

ويروى أن النبي عيسى(عليه السلام) مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم، فقال لهم: «ما الذي بلغ بكم ما أرى»؟ فقالوا: الخوف من النار، فقال: «حق على اللّه أن يؤمن الخائف»، ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً، فقال: «ما الذي بلغ بكم ما أرى؟» قالوا: الشوق إلى الجنة، فقال: «حق على اللّه أن يعطيكم ما ترجون»، ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً، كأن على وجوههم المرايا من النور، فقال: «ما الذي بلغ بكم ما أرى؟» فقالوا: نحب اللّه عزّ وجلّ، فقال: «أنتم المقرّبون أنتم المقربون»(3). وفي بعض الروايات أنه(عليه السلام) قال للطائفتين الأوليين: مخلوقاً خفتم، ومخلوقاً رجوتم، وقال للطائفة الثالثة: أنتم أولياء اللّه حقاً، معكم أمرت أن أقيم.

كيف يورث هذا الحب الإخلاص؟

ورب سائل يسأل: كيف يورث هذا الحب الإخلاص؟

في مقام الجواب عن هذا السؤال نقول:

عبادته تعالى خوفاً من العذاب تبعث الإنسان على الابتعاد عن المعاصي وملذات الدنيا للنجاة في الآخرة، وعبادته تعالى طمعاً في الثواب تبعث الإنسانإلى العمل الصالح لنيل نعمة الآخرة والجنة، والطريقان بكل جوانبهما لا

ص: 377


1- كما قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أوثق عرى الإيمان أن تحب في اللّه، وتبغض في اللّه وتعطي في اللّه وتمنع في اللّه» الكافي 2: 125.
2- الكافي 2: 124.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 224.

يحققان الإخلاص للّه بما هو ومن حيث هو، وإن احتمل إنهما يدعوان الإخلاص للدين لا لربّ الدين.

وأما محبة اللّه سبحانه وتعالى فإنها تطهّر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا وزينتها، وهذا يكشف عنه أمير المؤمنين (صلوات اللّه وسلامه عليه) في إحدى خطبه، المعروفة بالشقشقية، حيث يقول فيها(عليه السلام):

«فما راعني إلّا والنّاس كعرف الضّبع(1)، إليّ ينثالون(2)، عليّ من كلّ جانبٍ، حتّى لقد وطئ الحسنان وشقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم(3).

فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفةٌ، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا اللّه سبحانه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(4) بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها، أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، لو لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود النّاصر، وما أخذ اللّه على العلماء ألا يقارّوا على كظّة ظالمٍ(5)، ولا سغب(6) مظلومٍ، لألقيت حبلها على غاربها(7)، ولسقيت آخرهابكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنزٍ»(8)(9).

ص: 378


1- عُرف: ما كثر على عنقها من الشعر، وهو ثخين، يضرب به المثل في اكثرة والإزدحام.
2- ينثالون: يتتابعون مزدحمين.
3- شُقّ عطفاه: خدش جانباه من الاصطكاك، رَبيضة الغنم: الطائفة الرابضة من الغنم.
4- سورة القصص، الآية: 83.
5- ألّا يُقارّوا: ألّا يوافقوا مقرّين، الكِظة: ما يعتري الآكل من الثقل واكرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق.
6- السَّغَب: شدة الجوع، والمراد منه هضم حقوقه.
7- الغارب: الكاهل.
8- أي ضرطة عنز. لسان العرب ج7 ص353 مادة (عفط).
9- نهج البلاغة، خطبة: 3 من خطبة له(عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.

وهذا الإنسان يحب من الأعمال ما يحبه اللّه، ويبغض منها ما يبغضه اللّه، ويرضى برضا اللّه ويغضب بغضب اللّه، وهو النور الذي يضيء له طريق العمل، وهؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى، إذ لا يحول بينهم وبين ربهم شيء، مما يقع عليه الحس أو يتعلق به الوهم، أو تهواه النفس أو يهمز به الشيطان، فإن كل ما يتراءى لهم ليس إلّا آية كاشفة عن الحق المتعال لا يحول بينه وبينهم حجاب، فيفيض عليهم ربهم (علم اليقين)، ويكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذه الأعين في هذا العالم المادّي بعدما يرفع الستر في ما بينهم وبينه، كما يشير قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَٰبَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَٰبٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}(1).

وإجمالاً: إن مثل هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على اللّه، المفوضون إليه أمورهم، الراضون بقضائه، المسلِّمون لأمره، إذ لا يرون منه إلّا خيراً ولا يشاهدون إلّا جميلاً، فهم مخلصون للّه في أخلاقهم كما كانوا مخلصين في أعمالهم، هذا معنى إخلاص العبد دينه للّه تعالى.

النظر بنور اللّه

اشارة

وبعد أن يتوصل العبد إلى التقوى الحقيقية التي تقربه من اللّه تعالى، فإن هذا المؤمن ينظر بنور اللّه، وهذا ما يسمى بالتوسّم أو التفرس، وهو الانتقال من رؤية الأشياء الظاهر إلى الباطن وكشفها على حقيقة حالها، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَلَأيَٰتٖ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}(2)، وكما أشرنا سابقاً لحديث رسول اللّه الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه عزّ وجلّ»(3). وفراسة المؤمن أو التفرس: هو

ص: 379


1- سورة المطففين، الآية: 18-21.
2- سورة الحجر، الآية: 75.
3- الكافي 1: 218.

التثبت والنظر وإعمال الحدس الصائب في الأمور(1)؛

لذا فإن المؤمن يتدبر ويتفكر في الدلائل والبراهين من الكتاب والسنة والأدلة العقلية، ويختار من العقائد والأعمال ما هو أحسنها وأوفقها للأدلة، وفي بعض الكتب: «اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور اللّه» يقال بمعنيين، أحدهما: ما دلّ ظاهر هذا الحديث عليه، وهو ما يوقعه اللّه تعالى في قلوب أوليائه، فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس. والثاني: نوع يُتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق وللرياضيات الروحية، فتعرف به أحوال الناس... ورجل فارس بالأمر: أي عالم به بصير(2).

نعم، المؤمن ينظر بنور اللّه، والتفرس من خواص المؤمن الذي قذف اللّه تعالى في قلبه أنواراً فأدرك بها المعاني، ولا يكون ذلك إلّا لمن غضّ بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمّر باطنه بصفاء السريرة ومراقبة اللّه تعالى باتباع الكتاب والسنة، ولم يدخل معدته الحرام، وخرس لسانه من الكذب والغيبة ولغو القول.

والروايات التي وردت عن أئمتنا الأطهار(عليهم السلام) كثيرة في هذا المجال، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إذا قام قائم آل محمد(عليه السلام) حكم بين الناس بحكم داود لا يحتاج إلى بينة، يلهمه اللّه تعالى فيحكم بعلمه، ويخبر كل قوم بما استنبطوه،ويعرف وليّه من عدوّه بالتوسم، قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٖ مُّقِيمٍ}»(3)(4).

ص: 380


1- انظر: لسان العرب 6: 160 مادة: فرس.
2- انظر: النهاية في غريب الحديث 3: 428 مادة: فرس.
3- سورة الحجر، الآية: 75-76.
4- الإرشاد 2: 386.

وفي رواية أخرى عن محمد بن حرب الهلالي أمير المدينة يقول: سألت جعفر بن محمد(عليهما السلام) فقلت له: يا بن رسول اللّه، في نفسي مسألة أريد أن أسألك عنها، فقال: «إن شئت أخبرتك بمسألتك قبل أن تسألني، وإن شئت فاسأل».

قال: قلت له: يا بن رسول اللّه، وبأي شيء تعرف ما في نفسي قبل سؤالي عنه؟

فقال: «بالتوسم والتفرس، أما سمعت قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} وقول رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه»(1).

وكل ذلك لامتلاكهم ذلك الصفاء الخالص الذي لا يخالطه شيء، ولأنهم محضوا الإيمان محضاً وسلكوا الطريق الثالث الذي أشرنا إليه سابقاً - حب اللّه عزّ وجلّ - .

ولننقل لكم بعض الشواهد والمصاديق على ذلك:

قصة خطيب

ذكر أحد الخطباء حادثة وقعت له، حيث ذكر أنه كان يذهب للقراءة في مكان ناء وفي مجلس خاص، وكان من المقرر أن يستمر المجلس لمدة أربعين يوماً، ولم يكن أحد يعرف بهذا الأمر إطلاقاً، حتى زوجته وأولاده، وكان موضوع المجلس مكرّساً ضد أحد الأشخاص والنيل منه، وفي اليوم السابع بينما كانالمجلس منعقداً بعد صلاة الصبح - وكانوا قد قرروا قطع تيار الهاتف يومياً من بداية المجلس حتى نهايته، كي لا يسبب ذلك انزعاجاً للخطيب أو المستمعين - ، وبينما كان الخطيب مستمراً في حديثه رن جرس الهاتف! فتأثر الخطيب كثيراً لنسيان قطع الهاتف، وبعد أن رفعوا سماعة الهاتف كان المتكلم هو أحد أبناء

ص: 381


1- معاني الأخبار: 350.

المراجع، وقد كلفه والده بأن يقول لهذا الخطيب أن يكف عن هذا الحديث، ويترك إقامة تلك المجالس!!

فمن أخبر المرجع بأن الخطيب يريد التحدث حول فلان؟ ومن أخبره بمكان المجلس أين؟ ومن أخبره بالخطيب؟ ... ألم يكن ذلك سوى صفاء باطنه وفراسته.

إن صفاء الباطن يعد أمراً واقعياً في هذه الدنيا، وقد ابتعد عنه كثير من المسلمين، واندفعوا بقوة نحو الحاجات المادية في هذا العالم المادي، في حين إن على الإنسان أن يكون على مستوى من المعنويات، وأن لا يأخذ أي شيء بنظر الاعتبار سوى رضا اللّه تعالى، وليس معنى هذا أن لا نأكل الطعام أو ننزوي عن الحياة، بل المعنى: أن تكون لنا رابطة قوية باللّه وأن تكون لنا معنويات عالية حتى نحصل على صفاء الباطن وصفوا السريرة.

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ يقول: إني لست كل كلام الحكيم أتقبل، إنما أتقبل هواه وهمه، فإن كان هواه وهمه في رضاي جعلت همه تقديساً وتسبيحاً»(1).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «ما أخلص العبد الإيمان باللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً - أوقال: ما أجمل عبد ذكر اللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً - إلّا زهده اللّه عزّ وجلّ في الدنيا وبصره داءها ودواءها فأثبت الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، ثم تلا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(2) فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلاً، أو مفترياً على اللّه عزّ وجلّ وعلى

ص: 382


1- الكافي 8: 166.
2- سورة الأعراف، الآية: 152.

رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وعلى أهل بيته(عليهم السلام) إلّا ذليلاً»(1).

صفاء القلب عند السيد محمد تقي الطباطبائي(رحمه الله)

السيد محمد تقي الطباطبائي هو أحد العلماء الأتقياء ممن عاصرناه، وكان(رحمه الله) يقيم الصلاة جماعة في صحن الإمام الحسين(عليه السلام) وذات مرة كان حاضراً في مدرسة (حسن خان) في كربلاء في ليلة من ليالي شهر رمضان، وكان يقرأ في كل ليلة مائة مرة (سورة الدخان)، حيث ذكر في الروايات أن من قرأها في كل ليلة من ليالي شهر رمضان مائة مرة مع سورة الإخلاص فإنه يرى الغرائب والعجائب(2).

وفي إحدى الليالي وبينما كان السيد منشغلاً بالإحياء والذكر انتبه إلى سقف الغرفة التي كان يجلس فيها، فإذا به يرتفع عن موقعه وأساسه، وإذا بالملائكة تنزل من السماء إلى الأرض.وقد روي عنهم(عليهم السلام) أن هكذا أفراد عاشوا في الدنيا بأرواح معلقة بالملأ الأعلى(3)، فإنه لو لا صفاء الباطن الذي تحلّى به السيد(رحمه الله) ومحضه للإيمان لم تنكشف له تلك المغيبات التي رآها بنور اللّه عزّ وجلّ،وهذه الكرامات قد خص اللّه بها أولياءه.

قصة الشيخ دُخني!

ذكر أحد المؤمنين الثقاة بأنه كان يوماً في مسجد الكوفة، وحينما أراد الوضوء نزل إلى سرداب المسجد - المعروف عند الناس ب(سفينة نوح(عليه السلام)) - فشاهد هناك شخصاً ذا هيبة كان يتوضأ، يقول ذلك الشخص: فقلت له: اسمح لي أن

ص: 383


1- الكافي 2: 16.
2- انظر: وسائل الشيعة: ج10 ص363 ب34، وتأويل الآيات: ص555، وثواب الأعمال: ص114 ثواب من قرأ سورة الدخان.
3- انظر: الكافي: ج1 ص335 باب نادر في حالة الغيبة ح3، والخصال: ج1 ص186 باب الثلاثة ح257.

أتوضأ لكي أتمكن من الالتحاق بصلاة الجماعة بإمامة الشيخ عبد اللّه، وكان الشيخ عبد اللّه يقيم الصلاة جماعة في مسجد الكوفة كل يوم، فقال لي: أتعني الصلاة بإمامة الشيخ دُخني؟ فقلت له: لا بإمامة الشيخ عبد اللّه، وبعدها توضأت والتحقت بالصلاة، ثم - بعد أن أتم الجميع صلاتهم - ذهبت إلى الشيخ عبد اللّه، وسألته عما إذا كان لقبه الدخني أم لا؟

فأجابني: لا، وقال: من أخبرك بذلك؟ فحدثته عمّا جرى، فقال: عجيب! إنني الآن حينما كنت في الصلاة كنت أفكر في الدُّخْن(1) وشدة نعومته، ولربما كان الذي تحدث معك هو ولي العصر (أرواحنا فداه) أو هو من أولياء اللّه الصالحين! وقد تأثر الشيخ عبد اللّه كثيراً بسبب ذلك.

لذا علينا أن نجدَّ لنتمكن من تقوية صفاء قلوبنا، وكذلك نلقّن هذا الصفاء للناس؛ وذلك لأن كثيراً من الناس هم اليوم قد ابتعدوا عن المعنويات واتجهوا صوب الماديات فنسيهم اللّه سبحانه وصاروا هدفاً لهجوم المستعمرين قال تعالى: {نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}(2).

قوة الروح عند الميرزا علي آغا الزاهد

نقل أحد طلبة العلوم الدينية فقال: كنا في مسجد الكوفة وأردنا أن نذهب من هناك إلى النجف، وفي مسجد الكوفة رأيت الميرزا (علي آغا) وهو من الزهّاد المعروفين، وما أن سلمت عليه حتى أخذ بيدي إلى زاوية من زوايا المسجد وبدأ بنصيحتي، وفي هذه الأثناء رأيت أفعى زحفت نحونا، فقلت للميرزا علي آغا بفزع وخوف: حية حية، فأشار الميرزا إليها بيده وأمرها بالوقوف فوقفت، فبقيت

ص: 384


1- الدُّخْن: حَبٌّ معروف، حبُّ الجَاوَرْس، أو حبّ أصغر منه أملس جدّاً، انظر: تاج العروس 18: 190، مادة (دخن).
2- سورة التوبة، الآية: 67.

متعجباً لما رأيت من أمر الميرزا، وبعد أن افترقنا ذهبت إلى تلك الحية وكنت خائفاً حذراً فوجدت أنها قد يبست في مكانها وأصبحت دون روح!

فهل هذا يعزى إلى شيء آخر غير قوة الروح وصفاء الباطن عند الشيخ الميرزا علي آغا(رحمه الله)؟

قصة أخرى

ذكر أحد طلاب الشيخ الميرزا علي آغا يقول: في أحد الأيام طلبت من الشيخ الميرزا أن يعلمني طريقة أحصل بها على صفاء القلب؛ وبذلك أستطيع الحصول على شرف زيارة الإمام صاحب الزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، فأجابني الميرزا قائلاً: أنت غير مؤهّل للقاء صاحب الزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشريف ولكن لإصرارك الشديد فإنك تستطيع أن تذهب أربعين مرة في كل ليلة أربعاء إلى مسجد السهلة وتؤدي كذا أعمال - كناية عن أوراد وأذكار معينة - فذهبت، وعملت بما علمني حتى إذا صارت ليلة الأربعاء الأخيرة، سمعت صوتاً مهيباً من خلفي: يا فلان تهيأ للقاء الإمام صاحب الزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، وتكرر النداء ثلاث مرات، ولكني من شدة الهيبة والرهبة أغمي علي من الليل ولم أفق حتى بزوغ الشمس من اليوم الثاني، ولم أحصل على أية نتيجة، وعند عودتي أخبرت الأستاذ الميرزا بما حصل، فقال لي: ألم أقل لك أنك لا تملك الأهلية للقاء الإمام عجل اللّه تعالی فرجه الشريف!

فهل هذا الإخبار قبل أربعين أسبوعاً يدل على شيء غير علوّ روح الميرزا(رحمه الله)، وما وصل إليه من المكاشفة والإخبار عن الغيب!؟

مكاشفة في عالم البرزخ

حدثني اثنان من الزهاد - وهما يعيشان الآن في مدينة قم المقدسة - أن أحدهما بقي في مسجد السهلة سنة كاملة، والآخر بقي هناك سبع سنوات، كما

ص: 385

يقول أحد هذين الزاهدين: عندما جئت إلى إيران، رأيت بعيني كلما مررت على مدينة (شاه عبد العظيم) - حيث قبر بهلوي هناك - ألسنة النار تخرج من شعلة كبيرة كأنها التنور، كما رأيت البهلوي - رضا خان(1) - وآخر معه بين لحظة وأخرى يحاولان الخروج من التنور حتى إذا أوشكا الخروج منها أرجعا ثانية قسراً إلى التنور... .

ولم تكن تلك رؤيا في عالم المنام بل هي حقيقة من عالم اليقظة، إذ أن المؤمن ينظر بنور اللّه، وقد سألته عن الشخص الثاني الذي كان مع بهلوي؟ فقال: لا أعرف اسمه إلّا أنه كان أقصر قامة من بهلوي وعلى رقبته صليب!

شهر رمضان فرصة لتقوية الروح

اشارة

والآن أيها الأخوة، هذا شهر رمضان، وهو وقت مناسب لتقوية الروح الإنسانية حتى تحصل على صفائها، وهو أفضل فرصة تستثمر لترويض الإنسان نفسه؛ لأجل أن يرى صغر وحقارة الدنيا في عينه، ويكون دائم الانتباه، ويلاحظ فقط رضا اللّه تعالى؛ لأن الدنيا أشبه بالجسر الذي يتوجب على الإنسان الاستفادة منها أثناء عبوره، فالدنيا ليست دار بقاء بل هي وسيلة لحياة الإنسان الباقية والأبدية، وكما قال النبي عيسى(عليه السلام) للحواريين: «إنما الدنيا قنطرةفاعبروها ولا تعمروها»(2).

وسئل النبي نوح(عليه السلام) - الذي عاش ما يقارب (2500) عام - عن الدنيا فقال(عليه السلام): «كأني دخلت من باب وخرجت من أخرى»(3).

ص: 386


1- رضا بهلوي شاه إيران.
2- الخصال 1: 65.
3- انظر: تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: 1: 131، وفيه: إن جبرئيل(عليه السلام) قال لنوح(عليه السلام): «يا أطول الأنبياء عمراً، كيف وجدت الدنيا؟ قال(عليه السلام): كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر».

ومن الأشياء التي يجب أن يُذكّر بها الناس: الروايات والآيات التي تخص العقاب والثواب(1)، وهي كثيرة جداً في هذا المجال، لما لها من فعل مؤثر ومشوق، ولها القدرة على أن تقوم بدور كبير في تعادل وتوازن المجتمع الإسلامي.

الميرزا صادق التبريزي تنبّأ بوفاته!

طلب تلامذة الشيخ (الميرزا صادق التبريزي) من أستاذهم يوماً أن يرافقهم في سفرة إلى همدان، لزيارة قبر الشيخ (محمد البهاري)، فقال لهم أستاذهم (التبريزي): إذهبوا أنتم للزيارة، أما أنا فسوف أزوره ليلة الجمعة، وما أن حان وقت ليلة الجمعة حتى ارتحل الميرزا صادق التبريزي من دار الدنيا إلى الآخرة، ولمّا سمع طلابه خبر وفاته عرفوا معنى كلامه وأنه كان موعد لقاء روحه بروح الشيخ البهاري رحمة اللّه عليهما.

لذا، فلو صلح الباطن - الذي هو في مقدمة كل الأمور - لجعل اللّه لجميع المشاكل الدنيوية والأخروية فرجاً ومخرجاً.

من هم المتقون؟

إن صفاء الباطن والوصول إلى التقوى الحقيقية التي أرادها اللّه سبحانه وتعالى، هي من الرياضات النفسية التي لا تحصل إلّا بالعناء والجهد الكبيرين، وأظهر مصداق لتلك الحقيقة هو ما ذكره أمير المؤمنين(عليه السلام) عندما سأله أحد أصحابه وهو همام. فقد روي أنّ صاحباً لأمير المؤمنين(عليه السلام) يقال له همّامٌ، كان رجلاً عابداً، فقال له: يا أمير المؤمنين، صف لي المُتّقين حتّى كأنّي أنظر إليهم؟ فتثاقل(عليه السلام) عن جوابه، ثُمّ قال:«يا همّام اتّق اللّه وأحسن، ف{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ

ص: 387


1- للإفادة أكثر مطالعة كتاب ثواب الأعمال وعقاب الأعمال للشيخ الصدوق(رحمه الله) وما أشبه.

وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}»(1). فلم يقنع همّامٌ بهذا القول حتى عزم عليه، فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النّبيّ(صلی الله عليه وآله وسلم) ثُمّ قال(عليه السلام):

«... فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصّواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التّواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم، نزّلت أنفسهم منهم في البلاء كالّتي نزّلت في الرّخاء، ولولا الأجل الّذي كتب اللّه عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عينٍ؛ شوقاً إلى الثّواب وخوفاً من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنّار كمن قد رآها، فهم فيها معذّبون، قلوبهم محزونةٌ، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفةٌ، وحاجاتهم خفيفةٌ، وأنفسهم عفيفةٌ، صبروا أيّاماً قصيرةً أعقبتهم راحةً طويلةً، تجارةٌ مربحةٌ، يسّرها لهم ربّهم، أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها، وأسَرَتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا اللّيل، فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً؛ يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآيةٍ فيها تشويقٌ ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم. وإذا مرّوا بآيةٍ فيهاتخويفٌ، أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى اللّه تعالى في فكاك رقابهم. وأمّا النّهار، فحلماء علماء أبرارٌ أتقياء، قد براهم الخوف بري القِداح(2)، ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرضٍ، ويقول لقد خولطوا، ولقد خالطهم أمرٌ عظيمٌ، لا يرضون من

ص: 388


1- سورة النحل، الآية: 128.
2- القِداح: وهو السهم قبل أن يراش، وبراه: نحقه، أي رقق الخوف أجسامهم كما ترقق السهام بالنَحْت.

أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير؛ فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكّي أحدٌ منهم خاف ممّا يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم بي منّي بنفسي، اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ممّا يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون. فمن علامة أحدهم أنّك ترى له قوّةً في دينٍ، وحزماً في لينٍ، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علمٍ، وعلماً في حلمٍ، وقصداً في غنًى، وخشوعاً في عبادة، وتجمّلاً في فاقةٍ، وصبراً في شدّةٍ، وطلباً في حلالٍ، ونشاطاً في هدًى، وتحرّجاً عن طمعٍ. يعمل الأعمال الصّالحة وهو على وجلٍ، يمسي وهمّه الشّكر، ويصبح وهمّه الذّكر، يبيت حذراً ويصبح فرحاً، حذراً لما حذّر من الغفلة، وفرحاً بما أصاب من الفضل والرّحمة. إن استصعبت عليه نفسه في ما تكره، لم يعطها سؤلها في ما تحبّ، قرّة عينه في ما لايزول، وزهادته في ما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريباً أمله، قليلا زلله، خاشعاً قلبه، قانعةً نفسه، منزوراً أكله، سهلاً أمره، حريزاً دينه، ميّتةً شهوته، مكظوماً غيظه. الخير منه مأمولٌ، والشّرّ منه مأمونٌ. إن كان في الغافلين كتب في الذّاكرين، وإن كان في الذّاكرين لم يكتب من الغافلين. يعفو عمّن ظلمه،ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، بعيداً فحشه، ليّناً قوله، غائباً منكره، حاضراً معروفه، مقبلاً خيره، مدبراً شرّه، في الزّلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرّخاء شكورٌ لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم في من يحبّ. يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكّر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضارّ بالجار، ولا يشمت بالمصائب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحقّ. إن صمت لم يغمّه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغي عليه صبر، حتّى يكون اللّه هو الّذي ينتقم له. نفسه منه في عناءٍ، والنّاس منه في راحةٍ، أتعب

ص: 389

نفسه لآخرته، وأراح النّاس من نفسه، بعده عمّن تباعد عنه زهدٌ ونزاهةٌ، ودنوّه ممّن دنا منه لينٌ ورحمةٌ، ليس تباعده بكبرٍ وعظمة، ولا دنوّه بمكرٍ وخديعةٍ»(1).

وهذه الكمالات، بدورها هي التي توصلنا إلى ذلك الصفاء - صفاء الباطن - ، والتي من خلالها يمكن أن يهتدي الإنسان بنور اللّه سبحانه وتعالى.

«إلهي أنت الغني بذاتك أن يصل إليك النفع منك، فكيف لا تكون غنياً عني، إلهي إنّ القضاء والقدر يمنيني [يميتني]، وإن الهوى بوثائق الشهوة أسرني، فكن أنت النصير لي، حتى تنصرني وتبصِّرَني، واغنني بفضلك حتى أستغني بك عن طلبي [طلبتي]، أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحّدوك [ووجدوك]، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك، حتى لم يحبوا سواك، ولم يلجأوا إلى غيرك...»(2).

من هدي القرآن الحكيم

ما يورث التقوى

وقال سبحانه: {يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}(5).

ص: 390


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 193، ومن خطبة له(عليه السلام) يصف فيها المتقين.
2- الإقبال: 349.
3- سورة الأنبياء، الآية: 20.
4- سورة الأنعام، الآية: 153.
5- سورة البقرة، الآية: 3.

وقال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}(1).

العبادة التصديقية

وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّٰغُوتَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ فَاعْبُدُوهُ}(5).

أحباب اللّه

وقال عزّ وجلّ: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(7).وقال سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}(8).

نور التقوى

قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}(9).

ص: 391


1- سورة الفرقان، الآية: 58.
2- سورة الفاتحة، الآية: 5.
3- سورة النحل، الآية: 36.
4- سورة يونس، الآية: 61.
5- سورة الأنعام، الآية: 102.
6- سورة آل عمران، الآية: 76.
7- سورة البقرة، الآية: 195.
8- سورة آل عمران، الآية: 146.
9- سورة الحديد، الآية: 28.

وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِم}(1).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}(2).

وقال سبحانه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا}(3).

ثمار التقوى

قال سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}(4).

وقال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَئَِّاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(6).

وقال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَٰذِهِالدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْأخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

سمات المتقين

من وصايا النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر(رحمه الله): «يا أبا ذر، لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه ومن

ص: 392


1- سورة الحديد، الآية: 12.
2- سورة الأنفال، الآية: 29.
3- سورة الأنعام، الآية: 122.
4- سورة الطلاق، الآية: 4.
5- سورة الطلاق، الآية: 5.
6- سورة الطلاق، الآية: 2-3.
7- سورة النحل، الآية: 30.

أين مشربه، ومن أين ملبسه أمن حل أم من حرام؟»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «التقوى ثمرة الدين وأمارة اليقين»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها: صدق الحديث وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وقلة الفخر والبخل، وصلة الأرحام، ورحمة الضعفاء، وقلة المؤاتاة للنساء(3)، وبذل المعروف، وحسن الخلق، وسعة الحلم، واتباع العلم في ما يقرب إلى اللّه عزّ وجلّ...»(4).

العبادة التصديقية

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «... يا أبا ذر، أعبد اللّه كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، وأعلم، أن أول عبادته المعرفة به، بأنه الأول قبل كل شيء فلا شيء قبله، والفرد فلا ثاني معه... ثم الإيمان بي، والإقرار بأن اللّه أرسلني إلى كافة الناسبشيراً ونذيراً {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(5)، ثم حب أهل بيتي الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(6).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها، وأحبها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرغ لها، فهولا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم على يسرٍ»(7).

ص: 393


1- مكارم الأخلاق: 468.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 91.
3- المواتاة: حسن المطاوعة والموافقة.
4- الخصال 2: 483.
5- سورة الأحزاب، الآية: 46.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 526.
7- الكافي 2: 83.

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «من عمل بما افترض اللّه عليه فهو من أعبد الناس»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن العباد ثلاثة: قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حباً له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة»(2).

اكتساب الحب الإلهي

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أحب عباد اللّه إلى اللّه جلّ جلاله أنفعهم لعباده، وأقومهم بحقه الذين يحبب إليهم المعروف وفعاله»(3).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «الخلق عيال اللّه، فأحب الخلق إلى اللّه من نفع عيال اللّه، وأدخل على أهل بيتٍ سروراً»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أحب العباد إلى اللّه عزّ وجلّ: رجل صدوق فيحديثه، محافظ على صلاته وما افترض اللّه عليه، مع أداء الأمانة»(5).

ص: 394


1- الكافي 2: 84.
2- الكافي 2: 84.
3- بحار الأنوار 74: 152.
4- الكافي 2: 164.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 295.

الطموح في حياة الإنسان

الطموح لغة

اشارة

قال في كتاب العين: الطمح لغة بمعنى الارتفاع، فطَمَّح الفرس رأسه أي رفعه، وكذلك طمح يديه.

وقال الشاعر:

طمحت رؤوسكم لتبلغ عزّنا *** إن الذليل بأن يضام جدير(1)

وفي اللغة أيضاً: رجل طماح: أي بعيد النظر.

وطمح ببصره إلى الشيء: ارتفع.

وطمح الفرس يطمح طِماحاً وطُموحاً: رفع يديه، يقال للفرس إذا رفع يديه: قد طمّح تطميحاً.

وكل مرتفع مفرط في تكبر: طامح وذلك لارتفاعه.

والطمّاح: الكبر والفخر لارتفاع صاحبه.

وبحر طموح الموج: مرتفعه.

وبئر طموح الماء: مرتفعة الجُمة(2).

وفي مجمع البحرين(3): أطمح فلان بصره: رفعه. وكل مرتفع طامح، ومنه:

ص: 395


1- كتاب العين 3: 176 مادة: طمح.
2- انظر: لسان العرب 3: 534 مادة: طمح.
3- انظر: مجمع البحرين 2: 393 مادة (طمح).

«الحمد للّه ذي الأفق الطامح»(1)، ومنه: «طمحت عيناه إلى السماء»(2):

أي ارتفعتا، وفي الحديث: «إياك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك»(3)،

أي ترفعه إلى من هو أعلى منك في الغنى، وفي الدعاء: «طموح الآمال قد خابت إلّا لديك»(4) والمعنى الآمال الطامحة، أي المرتفعة قد خابت إلّا آمالنا العظيمة عندك.

من هنا تبين أن الطموح هو الارتفاع، وهو مطلوب للإنسان المسلم، فإن «الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه»(5) كما ورد في الحديث الشريف.

آية الطموح إلى المعالي

قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْأخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}(6)، إن هذه الآية الكريمة تعلّم الإنسان كيف يكون في الحياة ذا طموح كبيرة؛ وذلك بأن يكون طموحاً إلى الآخرة الباقية، وإلى نعيمها الدائم، ودرجاتها العالية وهو في الدنيا، وأن لا يكون ممن يقتصر همّه على الدنيا الزائلة الفانية، وعلى عمرها القصير، ونعيمها المشوب بالكدر.

ومن المعلوم أن المراد ليس ترك الدنيا مطلقاً، بل قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْأخِرَةَ} يعني: في ضمن إرادته للدنيا، لكن الدنيا ليست هي الهدف، وكما قال سبحانه في آية أخرى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْأخِرَةِ حَسَنَةً

ص: 396


1- الكافي 5: 369.
2- انظر: بحار الأنوار 15: 411.
3- وسائل الشيعة 21: 530.
4- مصباح المتهجد 1: 156.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 334.
6- سورة الإسراء، الآية: 19.

وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(1) أي: يعمل للآخرة كما يعمل للدنيا، ولم يأت بما ينافي الآخرة، وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(2) بعد أن يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَىٰكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأخِرَةَ}(3).

إذن الآية الكريمة تدل على ضرورة الاهتمام بالآخرة، وأن يطمح الإنسان دائماً نحو الأفضل، قال سبحانه: {وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا}(4) أي: للآخرة، واللام هنا للاختصاص، أي: بأن يعمل العمل خاصاً بالآخرة فهدفه الأخير في أعماله كلها الآخرة، وأن يسعى السعي المناسب لها، واللائق بشأنها، ذلك بأن يعمل الأعمال الصالحة - وهي أعم من أداء الواجبات وترك المحرّمات - خالصاً للّه تعالى ومن أجل الآخرة فقط.

وقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي: مؤمن باللّه سبحانه وتعالى، والإيمان يكون ملازماً للاعتقاد بالتوحيد وصفات الباري عزّ وجلّ كالعدل وغيره، والإذعان بالنبوة والإمامة والمعاد، فإن من لا يعترف بإحدى الأصول المذكورة لا يعده اللّه سبحانه وتعالى مؤمناً، وكذلك العمل الصالح، فإنه بدون الإيمان لا يفيد، وقد تظافرت الآيات على تعيين كون المستفيد هو المؤمن، ومنها قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْأخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}(5).

وقوله تعالى: {فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} أي: عند اللّه تعالى، وشكر اللّه

ص: 397


1- سورة البقرة، الآية: 201.
2- سورة القصص، الآية: 77.
3- سورة القصص، الآية: 77.
4- سورة الإسراء، الآية: 19.
5- سورة البقرة، الآية: 3-4.

سبحانه لهم هو إعطاؤهم جزاءهم، وإكرامهم على عملهم، والتفضل عليهم بالثواب والنعم، وهو في معنى قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَىٰهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}(1)(2).

لذا فإن السعي إن كان للآخرة سعد الإنسان في الدنيا أيضاً، وفاز بالجنة والرضوان في الآخرة.

أما إذا سعي للدنيا فقط ونسي الآخرة، فإنه سيحرم منهما معاً، فإن الدنيا لا تكون سعيدة إلّا بالإيمان، كما ثبت في محله.

الإنسان والطاقات المودعة فيه

إن الطاقات التي أودعها اللّه تعالى في الإنسان، ليستعين بها في حياته كثيرة منها طاقات أربع:

1- الطاقة الذهنية.

2- الطاقة البدنية.

3- الطاقة الزمانية.

4- الطاقة المالية.

ويرتبط بكل طاقة من هذه الطاقات الأربع، سلسلة من الأمور الكونية!

فالطاقة الذهنية: تدير الحركات الفكرية والجوانحية للإنسان، فإنها - مثلاً - يرتبط بها محور العلم والصفات النفسية، وذلك من غير فرق بين أنواع العلوم وأقسام الصفات النفسية، فالنحو والمنطق، وعلوم القرآن الحكيم وما يرتبط بالسنة الشريفة، والحساب والهندسة، والكيمياء والفيزياء، وعلم الفلك وغيرها

ص: 398


1- سورة النجم، الآية: 39-41.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 297.

من أنواع العلوم، وكذلك العدالة والأمانة، والشجاعة والشهامة، والكرم والسخاء، والإباء والغيرة، وغيرها من أقسام الصفات النفسية، كلها تتجمع عند الطاقة الذهنية.

والطاقة البدنية: تدير الحركات الحسيّة والجوارحية للإنسان، من لامسة وذائقة، وشامة وسامعة، وباصرة وغيرها، فالحركة والسكون، والتجارة والزراعة، وتعبيد الطرق وبناء المساكن، وتأسيس الشركات وإحداث المصانع، وحفر المناجم وإخراج المعادن؛ كلّها تنبثق عن الطاقة البدنية.

والطاقة الزمانية: تمد الطاقتين الأوليتين بالوجود، فكل علم وصفة نفسية، وكل حركة وسكون مادي، فإنه يتدرّج في مراقي الكمال حتى يصل إلى ذروته المنشودة، ولولا هذه الطاقة لم يتم للكون عماد.

والطاقة المالية: تنظم مختلف نشاطات الحياة، فلولاها لم توزع العلوم توزيعاً منظماً، ولم تقسم الحاجات تقسيماً متوازناً.

وهناك طاقات أخر مودعة في الإنسان لها شأنها ومكانتها وتأثيراتها في حياته الخاصة والعامة.

الطاقات الإنسانية في ظل الإسلام

وهذه الطاقات الإنسانية الأربع وغيرها تتمتع في ظل الإسلام - على أثر الحرية الإسلامية - بازدهار ونمو لم يشهدها التاريخ من قبل، ولا يجدها الإنسان في دنيا اليوم، لا في البلاد الأجنبية التي لا تدين بالإسلام، ولا في البلاد الإسلامية التي ترزح تحت نير الاستعمار وهي بعيدة كل البعد عن التعاليم الإسلامية السمحة السهلة.

فعلى الإنسان أن يستغل هذه الطاقات الإنسانية، الاستغلال اللازم والمناسب لها؛ فلا يركن للنوم والكسل، بل يسعى بطموح وأمل نحو الأفضل، فعن الإمام

ص: 399

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال - في ذم النوم والكسل - : «من دام كسله خاب أمله»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «للكسلان ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إني لأبغض الرجل أو أبغض للرجل يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إياك والكسل والضجر، فإن أبي بذلك كان يوصيني، وبذلك كان يوصيه أبوه، وكذلك في صلاة الليل، إنك إذا كسلت لم تؤد إلى اللّه حقه، وإن ضجرت لم تؤد إلى أحدً حقاً...»(4).

فعلى الإنسان الذي يطمح إلى حياة فضلى في الدنيا، وفوز بالجنة والغفران في الآخرة، أن يجد ويسعى، ويجنّد كل طاقاته: الذهنية، والبدنية، والزمانية، والمالية، بصورة معتدلة ومتوازنة، في خدمة الهدف المنشود، ويستعين بها على تحقيق كماله، وتوفير سعادته في الدنيا والآخرة.

أهل البيت(عليهم السلام) والطاقات الإنسانية

إن أفضل مدرسة تربوية تعلمنا طريقة الاعتدال في مزاولة الطاقات الأربع وغيرها من الطاقات، وتدربنّا على كيفية التوازن في الحياة هي: مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)؛ إذ أن من خصائص المعصومين(عليهم السلام) التي خصّهم اللّه تعالى بها هي:كونهم أسوة الناس في كل خير وفضيلة، واعتدال وكمال، كما قال سبحانه: {لَّقَدْ

ص: 400


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 586.
2- تحف العقول: 10.
3- الكافي 5: 85.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 182.

كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(1) وهم(عليهم السلام) قد أخذوا على عاتقهم تقوية معنويات الناس، وتهذيب النفوس، وتعليمهم الاعتدال في الحياة اليومية؛ وقد بينوا للناس كثيراً من الأحاديث والروايات الشريفة التي تنير لهم الدرب في مختلف أنحاء الحياة المادية والمعنوية، مضافاً إلى سيرتهم الطيبة الكريمة، المفعمة بالمنطقية والتعقل، والاتزّان والاعتدال.

ولعل هذا هو المعنى الذي يفهم من زيارة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) الواردة عن الإمام السجاد(عليه السلام) والتي من جملتها: «السلام على يعسوب الإيمان، وميزان الأعمال»(2)،

إشارة إلى أن قول الإمام(عليه السلام) وعمله وتقريره هو مقياس الصواب في كل جوانب الحياة، وميزان الاعتدال في جميع الأمور، فإذا اقتدى الناس بأخلاق أهل البيت(عليهم السلام) وطّبقوا سيرتهم، وانتهجوا مواقفهم في الحياة، سعدوا في الدنيا، وفازوا في الآخرة.

وما نراه اليوم من التخلف والتأخر عند المسلمين وغيرهم كله بسبب الابتعاد عن منهج القرآن الكريم، وسيرة النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطيبين الطاهرين(عليهم السلام).

أهل البيت(عليهم السلام) قدوة وأسوة

عن محمد بن مسلم قال الإمام الباقر(عليه السلام): «كل من دان اللّه عزّ وجلّ بعبادة، يجهد فيها نفسه ولا إمام له من اللّه، فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير، واللّهشانئ لأعماله، ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها، فهجمت ذاهبةً

ص: 401


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- مستدرك الوسائل 10: 222.

وجائيةً يومها، فلما جنّها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها، فحنت إليها واغترت بها، فباتت معها في مربضها، فلما أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها، فهجمت متحيرةً تطلب راعيها وقطيعها، فبصرت بغنم مع راعيها، فحنت إليها واغترت بها، فصاح بها الراعي: ألحقي براعيك وقطيعك؛ فأنت تائهة متحيرة عن راعيك وقطيعك، فهجمت ذعرةً متحيرةً تائهةً، لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها، أو يردها، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها. وكذلك واللّه يا محمد، من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من اللّه عزّ وجلّ، ظاهر عادل، أصبح ضالاً تائهاً، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق. واعلم يا محمد، أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين اللّه، قد ضلوا وأضلّوا، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شي ء، ذلك هو الضلال البعيد»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شي ء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرحٍ علماً، وجعل لكل علمٍ باباً ناطقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ونحن»(2).

هذا ولكن الظالمين من الحكام وأتباعهم، كأصحاب السقيفة وبني أمية وبني العباس، سعوا في إطفاء هذا النور الرباني، فمنعوا الناس من الأخذ بعلوم أهل البيت(عليهم السلام)، ومنعوا التاريخ من تدوين كل ما صدر عنهم من كلمات وسيرة نورانية... .

وهذا ظلم كبير في حق جميع الأجيال، وظلم بشع على البشيرة بأجمعها.

ص: 402


1- الكافي 1: 183.
2- الكافي 1: 183.

وإن كان في ما وصلنا من أقوال المعصومين(عليهم السلام) وأفعالهم من علوم ومعارف وأخلاق وآداب وأحكام ما يغني البشر في مختلف أنحاء حياته الدنيوية والأخروية.

وعلى أي حال، فإن من يقرأ ما ورد في التاريخ من سيرة الأئمة(عليهم السلام) ويراجع ما ثبت في الكتب المختصة من أخلاقهم وآدابهم مع ذويهم ومحبيهم، وكذلك مع مناوئيهم وأعدائهم، فإن ذلك سيكون بالنسبة له منبعاً زلالاً، ومقياساً عادلاً يهديه إلى الخير، وإلى الطريق المستقيم في الدنيا والآخرة.

التوازن في كل شيء

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ}(1) أي: ذات توازن ومع اتزان، فالنبات - كما نراه - ليس فيه أي اعتباط في مقدار حجمه وشكله ولونه وسائر مزاياه، بل كل ذلك بالوزن والتقدير. وليس المراد بالوزن: معناه الخارجي، بل تشبيه بالموزون الذي ليس فيه زيادة ونقصان، يقال: فلان شخص موزون، أي: دقيق الصفات متساوي الجهات، لا زيادة في حركاته وسكناته ولا نقصان(2). والإنبات في هذه الآية الكريمة بالمعنى الأعم، فيشمل الإنسان أيضاً؛ لأن النبات هو الخارج بالنمو حالاً بعد حال، كما هو واضح في آية أخرى تقول: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا}(3).

فالإنسان أيضاً كسائر المخلوقات خلق بميزان وفي جميع مراحل الخلق.

وهذا التوازن الكامل الشامل مما يمتاز به الباري عزّ وجلّ، أما غيره فلا، فإننا

ص: 403


1- سورة الحجر، الآية: 19.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 162.
3- سورة نوح، الآية: 17.

إذا لاحظنا المهندس وهو يخطط لبناء بيت جميل أو مشروع كبير مثلاً، فإنه ترى مشروعه قبل وضع اللبنات الأخيرة مفتقداً لكثير من مواطن الجمال والكمال، أما في خلق اللّه فإنه كما قال تبارك وتعالى: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ}(1) لأن جميع المخلوقات قد دبرت على أكمل وجه وفي جميع مراحلها، وفي غاية الدقة والكمال(2). فإنه عزّ وجلّ يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٖ}(3) أي: إنه تعالى خلق كل شيء مقدّراً بمقدار توجبه الحكمة، ولم يخلقه جزافاً ولا ناقصاً، سواء في المخلوقات الصغيرة كالنملة - مثلاً - أو في المخلوقات الكبيرة كالفيل - مثلاً - هذا بالنسبة إلى الحيوانات، وكذلك في سائر المخلوقات من الكواكب والمجرات وما أشبه، فكل ما يحتاج إليه المخلوق فقد حباه اللّه تعالى به ووهبه له؛ لأن اللّه تعالى ليس بخيلاً، بل هو فياض مطلق، قد أعطى كل شيء قدره، وبحسب قابليته الذاتية: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(4).

وهناك أدلة علمية كثيرة تدل على أن مخلوقات اللّه تعالى قد خلقت بميزان دقيق.

الكون والحياة متوازنان

نعم، إن اللّه سبحانه وتعالى أجرى الأمور في هذه الدنيا على أساس من الدقة والحكمة، والتحديد والتنظيم، حتى نرى أن النملة الواحدة على صغر حجمهاووهن شأنها على ما يبدو للبعض، خُلقت في غاية الدقة والكمال، وهنا تتجلى عظمة الخالق في مخلوقاته، فقد جعلها سواءً في حكمته ورحمته، فالفيل الضخم

ص: 404


1- سورة الملك، الآية: 3.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 10: 69، والتبيان في تفسير القرآن 10: 59.
3- سورة القمر، الآية: 49.
4- سورة المؤمنون، الآية: 14.

الجسم يوازي النملة الدقيقة الجسم من حيث الكمال والنظام؛ ولذا تقول الآية المباركة: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ}(1).

ومعناه: {مَّا تَرَىٰ} أيها الرائي {فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ} واختلاف، من جهة أن الجميع مخلوقة بدقة وإتقان وكمال لائق به {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} أي ردّه إلى الكون، بعد أن كان سابقاً إليه، وكأنه كان ناظراً بلا التفات إلى هذه الجهة، فقيل له: ردّ بصرك بقصد التفحص والبحث {هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ}؟ أي شقوق وفتوق، كالبناء الذي ينفطر لخلل فيه، فهل في الكون خلل يدل على الوهن والضعف، أم كل شيء وضع في محله اللائق به حسب الحكمة والصلاح؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي: كرة بعد كرة، والمراد مكرراً، إذ لعل البصر اشتبه في المرة الأولى، فلم يرَ فتقاً - فإن الإنسان إذا كرر النظر إلى شيء أدرك خلله - فانظر إلى الكون مرة أخرى فاحصاً عن الخلل، لكنك لا تجده.

فإن تكرار النظر مرتين يفيد التأكد والإمعان؛ لأن من نظر إلى شيء كرة بعد أخرى بان له ما خفي عليه، وظهر له ما بطن بوضوح وجلاء.

بل {يَنقَلِبْ} يرجع {إِلَيْكَ} أيها الإنسان {الْبَصَرُ} الذي سرحته في الكون {خَاسِئًا} قد خسء وطرد وعجز عما طلبه من الفتق {وَهُوَ حَسِيرٌ} قد حسر، أي: كلّ وعيّ ولم يجد خللاً ووهناً، وما يوجد من الأمراض وما أشبه إنما هو للامتحان والعبرة ولأسباب أخر مذكورة في مظانها، لا لنقص في الخلق(2).

التوازن هي السمة العامة للأشياء

من هنا يظهر للباحثين أن التوازن سمة عامة لجميع مخلوقات اللّه تبارك

ص: 405


1- سورة الملك، الآية: 3.
2- انظر: تقريب القرآن 5: 466.

وتعالى، صغيرها وكبيرها، فإنها خلقت بالدقة والعناية الكاملتين من قبل الباري عزّ وجلّ، وأفعاله كلها وإن كانت متفاوتة في الصور والهيئات في خلق الأشياء، إلّا أنها سواء في المصلحة والحكمة.

فاذا أخذنا الزرافة مثلاً، وتأملنا القرنين القصيرين فوق رأسها، وجدنا أن فيهما - على عكس ما يتوهمه البعض - حكمة بالغة، فقد أكد الباحثون في علم الحيوان توصلهم إلى بعض الحكمة الكامنة في ذلك، قالوا: إن جسم الزرافة عظيم وكبير، تعلوه رقبة ممتدة وطويلة، ولهذا فهي تحتاج إلى مضخة قوية تستطيع ضخ كميات من الدم وإيصالها إلى قمة رأسها المرتفع، ونتيجة لذلك تتولّد في جسم الزرافة كمية كبيرة من الحرارة ناشئة من حركة الدم القوية، وهو الأمر الذي يستدعي إيجاد منافذ تهوية وتخفيف درجة الحرارة، ولهذا السبب نجد أن اللّه سبحانه وتعالى قد خلق هذين القرنين، وجعلهما أجوفين، ووضعهما على رأس الزرافة، حتى تتم عملية ضخ الدم من قبل القلب بسلامة ولا تسبب الحرارة الناشئة من تلك العملية ضرراً.

وهذه الحكمة الإلهية الدقيقة سارية في جميع المخلوقات تكويناً، بل حتى في التشريعات، كما قال سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}(1).

فإن كل الأمور والأشياء التشريعية والتكوينية تكون خاضعة للمصلحة والحكمة، وتابعة لقانون الأسباب والمسببات، إذ قد جعل اللّه لكل شيء طريقاًوسبباً {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَٰبِهَا}(2)، ولكل أمر علة وسبباً، كما قال سبحانه: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَءَاتَيْنَٰهُ مِن كُلِّ شَيْءٖ سَبَبًا}(3).

ص: 406


1- سورة الرعد، الآية: 8.
2- سورة البقرة، الآية: 189.
3- سورة الكهف، الآية: 84.

ثم إن الآية الكريمة تشير أيضا إلى حرية الإنسان في أفعاله، وعدم الجبر فيها، فالكفر وإتيان المعاصي لا يكونان من جبر اللّه تعالى للبشر، بل من فعل الإنسان الذي جعله اللّه سبحانه مخلوقاً مختاراً حراً ذا إرادة، له أن يختار الإيمان والطاعة، وله أن يختار الكفر والعصية.

الطموح والأمل مقدمتا التوازن

إن الأمة الفاقدة للطموح والأمل - بمعناه الصحيح - المستتبع للصمود والعمل، واللذين هما مقدمتا التوازن والتعادل، سوف تواجه أياماً صعبة فاقدة للتوازن والتعادل مهما كانت طاقات تلك الأمة كبيرة، وإمكاناتها كثيرة، ففي العراق - مثلاً - رغم كون الأغلبية فيه هم من شيعة أهل البيت(عليهم السلام) وهذا ما يثبته حتى الإحصاءات الرسمية، وقد صرح مدير عام دائرة الأحوال المدنية، وإحصاء النفوس أيام رئاسة عبد السلام عارف أن (85%) من السكان هم الشيعة، ولكننا نرى شيعة أهل البيت(عليهم السلام) في العراق رغم كونهم أكثرية لكنهم مستضعفين مضطهدين مظلومين ومقهورين، مهضومة حقوقهم، ومغصوبة مناصبهم، قد صادرت الأقلية - وخلافاً لكل الأعراف والقوانين الدولية - حقوقهم المشروعة لهم، واستبدّت بمناصبهم الخاصة بهم، وأخذت بزمام الحكم الذي هو لغيرهم، وراحت تتحكم بهم وبرقابهم، وأجرت عليهم الظلم والويل مما ليس له نظير، وما ذلك إلّا بسبب افتقاد الأكثرية ثقافة الطموح والأمل، المستتبع للصمودوالعمل.

ومن المعلوم: أن الذي لا يصمد أمام المشكلات، ولا يعمل من أجل التقدم، فإنه لا يستطيع أن يحقق طموحه وآماله، ولا أن ينال ما يتمناه ويتوقعه، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

ص: 407

الشيعة إذا فقدوا الطموح والأمل

نعم، إن أكثر الإمكانات والثروات، وأغلب منابع القدرة والطاقة في العراق هي ملك الأكثرية، وهم الشيعة، وأما القوميون والاشتراكيون والشيوعيون والبعثيون(1) فهم الأقلية، وهم المنبوذون عند الجميع، وقد رفضهم الشعب، ولم يقبل بهم أحد إلّا القليل النادر جداً، فإنهم قد جاءوا عبر الانقلاب العسكري البغيض، وأخذوا بزمام الأمور قهراً وقسراً، وسيطروا على الحكم بقوة الحديد والنار، وتحكّموا برقاب الأكثرية، حكماً استبدادياً دكتاتورياً، ليس فيه من الرحمة شيء، ولا من العدل أثر ولا علامة، قد فرضوا سيطرتهم عليهم، وبسطوا هيمنتهم فيهم، فهدروا كراماتهم، وصادروا حقوقهم، وكمّموا أفواههم، وملئوا بهم السجون، وعمّروا منهم المقابر، كل ذلك نتيجة عدم ثقافة الطموح والأمل المستعقب للصمود والعمل، العمل المبتني على العلم والمعرفة، وعلى الوعيواليقظة، وذلك ما أشار إليه النبي الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) بقوله: «العلم رأس الخير كله، والجهل رأس الشر كله»(2).

وعليه: فإنه لا يوجد أمام شيعة العراق، بل أمام كل المسلمين، طريق سوى طريق الطموح والأمل، المستتبع للصمود والعمل، والمبتني على العلم واليقظة،

ص: 408


1- القومية: حركة سياسية فكرية متعصبة، تدعو إلى إقامة دولة موحدة للعرب، على أساس رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ، في مقابل رابطة الدين التي تجمع بين المسلمين كافة. * وأما الاشتراكية: فهي نظام اقتصادي، مقابل نظام الرأسمالية الاقتصادي. * وأما الشيوعية: فهي مذهب سياسي يهدف إلى القضاء على الرأسمالية والملكية الخاصة. وهي من أشد المذاهب الاشتراكية تطرفاً. * وأما البعثية: فهي مذهب سياسي يجمع بين مساوئ القومية ومساوئ الشيوعية، فهو الحزب الذي يحمل السوأتين.
2- بحار الأنوار 74: 175.

حتى ينالوا الخير كله، ويبتعدوا عن الشر كله، وذلك كما جاء في ما ذكر من قول الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، وهو بالضبط ما تمتع به المسلمون الأوائل، وعملوا به في الصدر الأول، فنالوا بذلك الرقي والتقدم، والنموّ والازدهار.

أجل، إن أغلب المسلمين اليوم فقدوا طموحهم وأملهم، وتقاعسوا على أثر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقعدوا عن نشر الإسلام العظيم، ونشر معارف القرآن الحكيم، ونشر ثقافة الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وتعاليم أهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، وبدلاً عن ذلك صار أكبر طموحهم وأملهم هو نيل الراحة والرفاه، وقضاء الوطر بالمتع الدنيوية الدنية، ومباهجها الفانية، مثل: الحصول على بيت مناسب، وغذاء جيد، ومركب مريح، وزوجة جميلة، وإلى آخره.

ورغم أن هذا النوع من الطموح والأمل مباح ومشروع في الإسلام، وإن الإسلام لا يمنع أحداً من التمتع الحلال بالنعم الإلهية التي خلقت له في هذه الحياة، ولكن ليس هذا هو كل شيء حتى ينحصر الطموح والأمل فيه، بل لا بد للإنسان أن يرتفع معنوياً أولاً، ثم يرتقي مادياً ثانياً.

الطموح إلى الآخرة

قال تبارك وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَىٰكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأخِرَةَ}(1). أي: كن وأنت تعيشفي الدنيا طموحاً إلى الآخرة، وذلك بأن تطلب في ما أعطاك اللّه في الدنيا من مال وجاه وقدرة وما أشبه لكسب الدار الآخرة بأن تنفقه في سبيل اللّه، وتضعه في مرضاة اللّه، وقوله تعالى: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(2). أي لا تترك الطلب المشروع للرزق الحلال، وطلب الزوجة الصالحة، وطلب الأولاد الصالحين،

ص: 409


1- سورة القصص، الآية: 77.
2- سورة القصص، الآية: 77.

وطلب المسكن الواسع، والمركب الفاره، وما إلى ذلك، مما احلّه اللّه تعالى للإنسان، فإن اللّه سبحانه لا يحب للإنسان الرهبنة في الدنيا، وترك طلب المعاش الحلال، والركون إلى العزلة والخمول.

يقول الإمام الباقر(عليه السلام): «إني أجدني أمقت الرجل متعذر المكاسب، فيستلقي على قفاه، ويقول: اللّهم ارزقني، ويدع أن ينتشر في الأرض، ويلتمس من فضل اللّه، والذرة(1)

تخرج من جحرها تلتمس رزقها»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أيعجز أحدكم أن يكون مثل النملة؛ فإن النملة تجرّ إلى جحرها»(3).

وعليه، فكما ينبغي للإنسان أن يعمل جاهداً على أن يوفر لنفسه ولأسرته ولمجتمعه، عيشة هانئة ووديعة في الدنيا، فكذلك ينبغي له أن يعمل جاهداً على أن يحقق لنفسه ولأسرته ولمجتمعه آخرة منعمة وكريمة، ولا يتحقق ذلك إلّا في ظل تعاليم أهل البيت(عليهم السلام) واتبّاع سيرتهم الطيبة، ومنهجهم السليم والمستقيم.

الحج: تدريب على الطموح

اشارة

قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًاوَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ}(4).

الحج: بمعنى القصد، سمي به العمل الخاص والمناسك المعينة، وهو: قصد مكة في أشهر الحج، وإتيان المناسك طموحاً إلى الآخرة، وهو الذي شرّعه أولاً أبونا آدم(عليه السلام) بتعليم من جبرائيل الأمين، ثم جدّده خليل اللّه النبي إبراهيم(عليه السلام) ثم

ص: 410


1- الذرة، أو الذر هو صغار النمل.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 158.
3- الكافي 5: 79.
4- سورة الحج، الآية: 27.

أكدّه حبيب اللّه النبي الخاتم وسيد المرسلين محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه تعالى، وإبلاغ من أمين الوحي جبرائيل(عليه السلام). والحكمة في ذلك الوفادة إلى اللّه عزّ وجلّ، والطموح إلى آخرة منعّمة وكريمة، والخروج من كل ما أساء الإنسان واقترف، والتوبة منه، والندم عليه، والعزم على عدم العود إليه، والتمرين على الإنفاق في سبيل اللّه، وتحمّل المشاقّ لمرضاة اللّه، وكفّ النفس عما يُسخط اللّه؛ وذلك لما في الحج من استخراج الأموال، وتعب الأبدان، والعزوف عن الشهوات واللذات، والتقرب بالعبادة إلى اللّه عزّ وجلّ، والخضوع والخشوع، والذل والاستكانة للّه تبارك وتعالى، والشخوص إلى البيت العتيق في الحر والبرد، والأمن والخوف، وترويض للنفس على التخلي من مذموم الصفات، والتحلي بطيب الخصال، وبترك الجفوة والقسوة، والغفلة والترهّل، والالتزام بالرفق واللين، والنشاط واليقظة، والرهبة من اللّه تعالى، والانقطاع إليه، وهو تمرير لمعائش الكثير من الخلائق، والكثير من جماعة الناس من أهل المشارق والمغارب، وعمّال البر والبحر، وروّاد الفضاء والجو، من يحج ومن لا يحج، من تاجر وجالب، وبائع ومشتر، وكاسب ومحترف وغير ذلك، ونفع لأهل الأكناف والأطراف، ولأهل البلاد والديار الممكن لهم الاجتماع فيها، وذلك كما قال اللّهسبحانه وتعالى: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٖ مَّعْلُومَٰتٍ}(1).

الطموح ومنافع الحج

إن من منافع الحج هو: ما يتعلّمه الإنسان كيف يكون طموحاً في دنياه، وكيف يكون طموحاً في آخرته، وذلك لآن منافع الحج ليست مقتصرة على الآخرة، بل تعم الدنيا أيضاً.

ص: 411


1- سورة الحج، الآية: 28.

وعليه: فإن منافع الحج نوعان:

النوع الأول: منافع دنيوية، وهي المنافع المادية، والتي تسبّب أن تتقدم بها حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، وأن يصفو بها العيش وينقى، وأن تقضى بها الكثير من الحوائج، وتكمل بها الكبير من النواقص، وذلك في مختلف المجالات ومتنوع الأبعاد: من اقتصاد وسياسة، وحقوق وولاية، وآداب وسنن، وأحكام وعبادات، وغير ذلك من شتى المحاورات البناءة، والتعاضدات الاجتماعية المفيدة وغيرها.

وفي الحج اجتماع الأقوام والأمم، من مختلف مناطق الأرض وأصقاعها، على ما هم عليه من اختلاف الألسن والألوان، والأنساب والأعراق، والسنن والآداب، ثم تعارفوا بينهم واجتمعوا على كلمة واحدة، هي كلمة الحق، وهو: الإيمان باللّه الواحد الأحد، الفرد الصمد، العادل الذي لا يظلم أحداً، ولا ينقص حق أحد، والإيمان برسوله الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وبأهل بيت نبيه المعصومين(عليهم السلام)، وبالأخذ منهم، والسير على هداهم، والتمسك بحبل ولائهم، والتوجّه معه جميعاً إلى الكعبة البيت الحرام، واستعان قوم بآخرين في حل مشاكلهم، وأعانوهم بما في مقدرتهم، وتم التواصل بين المجتمعات من أجل الرقي والتقدم، ثم امتزجتالمجتمعات فكونت مجتمعاً وسيعاً، له من العدد والعدة ما لا تقوم له الجبال الرواسي، ولا تقوى عليه أي قوة جبّارة وعاتية في الأرض.

ومن المعلوم أنه لا وسيلة لحل مشكلات الحياة كالتعاضد، ولا سبيل إلى التعاضد كالتفاهم، ولا تفاهم كالذي هو موجود في ظل القرآن الحكيم وتعاليم الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام).

النوع الثاني: منافع أخروية، وهي المنافع المعنوية، والتي تسبّب التقرب إلى اللّه سبحانه بما يمثل عبودية الإنسان للّه تعالى، عبودية خالصة في الظاهر

ص: 412

والباطن، وبالقول والفعل، وبما تتضمنه مناسك الحج من أنواع العبادات والطاعات، والقربات والتوجهات إلى اللّه واليوم الآخر، وبما يستلزم أداء المناسك من ترك الدنيا والغض عن مشاغل العيش، والتوجه للآخرة، وتحمل مشاق العبادة من الطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات والمزدلفة، والمبيت في صحراء منى والعبادة في مسجد الخيف، وغير ذلك.

مخاوف الاستعمار من شعيرة الحج

لقد علم الاستعمار بأسرار الحج وما يبعثه من طموح في نفوس المسلمين، فأخذ يخطط لتحطيم هذه الشعيرة المقدسة وتفريغها - على الأقل - من الطموح والأمل الذي فيها، لخوفه من تلاقي المسلمين واجتماعهم من جميع أنحاء العالم، على مختلف قومياتهم وأصنافهم وأشكالهم وأنواعهم، وتشكيلهم هناك وحدة واحدة، مؤلفة قلوبهم وكلمتهم، بعيدين عن حكّامهم ورؤسائهم، تجد نفوسهم الصفاء، وقلوبهم الحنان، خالية من الغيظ والكراهية، وقد اجتمعوا على حب اللّه وعلى الطموح إلى رضا اللّه بجنّة الآخرة.

وعلى أي حال، فإن الاستعمار علم بالفوائد الجمّة التي يقدمها الحجللمجتمع الإسلامي، لذلك خطط هو، وأوعز إلى الحكومات العميلة أو السائرة في ركابه، أن تبذل كل جهدها ومجهودها في سبيل تضعيف أهمية الحج في نفوس المسلمين، وتغيير مناهجه، وجعل معطياته معكوسة سلباً على المسلمين.

القضاء على طموح المسلمين
اشارة

أوعز الاستعمار - ولأجل تحجيم طموح المسلمين وتحديد مخاوفه من تقدمهم ورقيهم - إلى بعض الحكام المسيّرين في البلاد الإسلامية للإعلان عن تحديد عدد الحاج، وتخفيضه إلى أقل عدد ممكن، وعلى أثره تم الإعلان في

ص: 413

أحد السنين: عن أن عدد الحاج الذين سوف يسمح لهم بالحج لهذه السنة يجب أن لا يتجاوز المليون حاج؛ وذلك بعد تقديم حجج واهية، وأعذار موهونة ومشبوهة(1).

هذا وقد ورد في التاريخ، وفي يوم كانت الإمكانات المادية والخدمات الاجتماعية، على بساطتها، بل وانعدامها، حيث كانت تعدّ صفراً في قبال الإمكانات المادية والخدمات الاجتماعية الموجودة في هذا اليوم، وبالضبط في زمن الإمام السجاد علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام) أنه بلغ عدد المسلمين الذين قصدوا حج بيت اللّه الحرام ووقفوا بعرفات والمشعر الحرام: أربعة ملايين وخمسمائة ألف حاج!!

نعم، فقد روي عن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) قال: «قال علي بن الحسين(عليهما السلام) وهو واقف بعرفات، للزهري: كم تقدر ها هنا من الناس؟قال: أقدّر أربعة آلاف ألف وخمسمائة ألف(2) كلهم حجاج، قصدوا اللّه بأموالهم، ويدعونه بضجيج أصواتهم.

فقال(عليه السلام) له: ... من حج ووالى موالينا، وهجر معادينا، ووطَّن نفسه على طاعتنا، ثم حضر هذا الموقف مسلّماً إلى الحجر الأسود ما قلده اللّه من أماناتنا، ووفياً بما ألزمه من عهودنا، فذلك هو الحاج، والباقون هم من قد رأيتهم. يا زهري، حدثني أبي عن جدي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ليس الحاج المنافقين المعادين لمحمد وعلي ومحبيهما، الموالون لشانئيهما، وإنما الحاج المؤمنون،

ص: 414


1- وهو الحال في كل عام حيث تم تحديد عدد الحجاج نسبة إلى عدد سكان كل بلد ووفق ضوابط وعراقيل عديدة، مضافاً إلى سوء الخدمات والمصاريف العالية التي يواجهها المسلم في الحج بحجة التنظيم والإدارة... .
2- أي أربعة ملايين وخمسمائة ألف إنسان!!

المخلصون الموالون لمحمد وعلي ومحبيهما، المعادون لشانئهما، إن هؤلاء المؤمنين الموالين لنا المعادين لأعدائنا، لتسطع أنوارهم في عرصات القيامة على قدر موالاتهم لنا، فمنهم من يسطع نوره مسيرة ألف سنة، ومنهم من يسطع نوره مسيرة ثلاثمائة ألف سنة، وهو جميع مسافة تلك العرصات، ومنهم من يسطع نوره إلى مسافات بين ذلك، يزيد بعضها على بعض على قدر مراتبهم في موالاتنا، ومعاداة أعدائنا، يعرفهم أهل العرصات من المسلمين والكافرين بأنهم الموالون المتولون والمتبرءون، يقال لكل واحد منهم: يا ولي اللّه، انظر في هذه العرصات إلى كل من أسدى إليك في الدنيا معروفاً، أو نفّس عنك كرباً، أو أغاثك إذ كنت ملهوفاً، أو كف عنك عدواً، أو أحسن إليك في معاملته، فأنت شفيعه، فإن كان من المؤمنين المحقين زيد بشفاعته في نعم اللّه عليه، وإن كان من المقصرين كفي تقصيره بشفاعته، وإن كان من الكافرين خفف من عذابه بقدر إحسانه إليه. وكأني بشيعتنا هؤلاء يطيرون في تلك العرصات كالبزاة والصقور، فينقضّون على من أحسن في الدنيا إليهم انقضاض البزاة والصقورعلى اللحوم تتلقفها وتحفظها، فكذلك يلتقطون من شدائد العرصات من كان أحسن إليهم في الدنيا، فيرفعونهم إلى جنات النعيم»(1).

استنتاج

وعليه، فإنه إذا كان عدد الحاج قد بلغ هذا المقدار الضخم، مع أنه عدد يندر بلوغه في تلك الأزمنة، وخاصة مع ملاحظة أوضاع ذلك الزمان من البساطة في الامكانيات، والسذاجة في العيش، وصعوبة التنقل وغير ذلك، فإنه يعدّ هذا العدد هائلاً جداً؛ ولكن الذي يؤكدّ وصول هذا العدد الكبير إلى ما وصل إليه

ص: 415


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 606.

هو: عدم وجود الموانع التي تفرضها الحكومات المسيّرة هذا اليوم في تلك الأيام والأزمنة. أما اليوم وبسبب وجود الموانع الحدودية المصطنعة، والاجراءات الوضعية المعقدة، والقوانين المفتعلة المقيدة والمفروضة على الأمة، فقد تقلّص عدد الحاج وتناقص إلى الأدنى أضعافاً مضاعفة، ويظهر هذا التناقص كبيراً مع ملاحظة تصاعد عدد المسلمين اليوم(1)، وسهولة تحصيل وسائط السفر والنقل في هذا الزمان، ووفرة الامكانيات المادية والمعمارية الحديثة، فالذي حدث في زمن الإمام زين العابدين(عليهما السلام) هو سمة من سمات الحرية الإسلامية، وعلامة من علامات وحدة الأمّة، فكل شخص يرى أنه يمتلك الاستطاعة للحج يقصد بيت اللّه الحرام والكعبة المشرفة، ويؤدي مناسك الحج بحرية كاملة، ولا يجد أمامه أي عائق، أو قوة تمنعه من ذلك.

فلماذا نرى اليوم ومع كثرة الإمكانات، وزيادة النفوس، وسهولة السفر والنقل، لا يسمح إلّا لعدد قد يتجاوز المليون حاج - بقليل - لزيارة بيت اللّه الحرام وأداءفريضة الحج، ما الذي تغيّر؟!

ولماذا تضاءل العدد في حين ازدادت نفوس المسلمين، وأصبحت وسائل الحياة من مواصلات وغيرها تحت قدرة الإنسان وسيطرته الكاملة؟!

فما هذا الذي أعلنه بعض حكام البلاد الإسلامية المسيّرين: من تحجيم عدد الحجاج وتقليصه إلى ما لا يتجاوز المليون حاج، إلّا استجابة إلى ما دعى إليه (غلادستون)(2) من المنع عن تجمع المسلمين في موسم الحج، أو تعاطفاً مع بدعة وضع الحدود بين شعوب الأمة الإسلامية الواحدة، وتجاوباً مع البدع

ص: 416


1- ذكر أن الإحصاءات الأخيرة لنفوس المسلمين بلغت ملياري مسلم.
2- غلادستون، أحد رؤساء وزراء بريطانيا السابقين، له كلمة مشهورة، وهي: ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين، فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان.

الأخرى من جوازات السفر وتأشيرات الدخول وغير ذلك من القيود والموانع، التي تصد عن الحج، وتمنع الحاج من زيارة بيت اللّه الحرام.

أليست هذه البدع والالتزام بها تصب في صالح المستعمرين وأعداء المسلمين، والتي بها استطاعوا أن يبعدوا المسلمين بعضهم عن بعض، وينشروا بينهم العداوات والمباغضات، والأحقاد والضغائن ليصلوا إلى أهدافهم بكل سهولة طبقاً لقاعدتهم المعروفة: فرّق تسد؟(1)

تخطيط شيطاني لتحطيم طموح المسلمين

وإن من أبرز المخططين لتحطيم طموح المسلمين الذين استطاعوا عبر تخطيطهم الشيطاني من توجيه ضربة مهلكة تقضي على طموح الأمة الإسلامية وتبدد آمالها وتؤدي إلى أنهزامها نفسياً، وتمزيقها وتشتيتها جسدياً، وذلك قبل ما يقارب من (80 سنة) هو الجاسوس البريطاني المعروف باسم: (لورانسالعرب)(2)، الذي استطاع بتخطيطه الشيطاني الخبيث أن يمرر سائر المخططات الغربية الهادفة لهدم طموح المسلمين وتبديد آمالهم، فإنّ دسائسه ومكائده أدت إلى القضاء على طموح الأمة الإسلامية، ثم سرت إلى تمزّيق وحدة المسلمين، وإلى تشتت أراضيهم، وتفريق بلادهم، وأخيراً إلى الضعف الشديد والنقاهة المزمنة، ثم الاحتضار والموت، كما هو واضح اليوم.

إنّ الإطلاع على مؤامرات الأعداء، ومخططاتم الشيطانية الخبيثة، ومطالعة حياة أمثال هؤلاء المندسّين في المسلمين، والوقوف على نواياهم الإستعمارية

ص: 417


1- للتفصيل ينظر مؤلفات الإمام الشيرازي(رحمه الله) في موضوع الحج، مثل: (ليحج خمسون مليوناً كل عام) و(الحج بين الأمس واليوم والغد) و(لكي يستوعب الحج عشرة ملايين) وغيرها.
2- توماس ادوارد لورانس ولد عام (1888م) في مدينة ثرمادوك، اشتهر باسم (لورانس العرب) بعد نشره لمذكراته عن حرب الصحراء.

السوداء، للحذر منهم، والنجاة من مخططاتهم ضروري جداً؛ فإنهم استطاعوا عبر شيطنتهم ومكرهم أن يفسدوا في الأرض، وأن يعملوا على خلاف عمل الأنبياء(عليهم السلام) وتعاليمهم الخيرة، وأن يصلوا إلى أهدافهم الشريرة.

فكيف وصل هؤلاء المكرة إلى أهدافهم الشريرة؟

وما هي الظروف والعوامل التي ساعدتهم على ذلك؟

وهل إذا كان المسلمون كالجسد الواحد وكما أمرهم اللّه به: من كونهم أمة واحدة، وبلدة واحدة، وإخوة في اللّه، كان يصل مثل هؤلاء الطامعين إلى مبتغاهم؟

وهل كانت تلك القوى الاستعمارية ومنفذوا مخططاتها الشيطانية، قادرين على التحكمّ بمصير المسلمين، والتلاعب بمقدراتهم وزجّهم في خلافات ومشاكل في ما بينهم؟!

نعم، إن الأسباب الرئيسية لكل ذلك يعود إلى فقد المسلمين طموحهموقعودهم عن تحقيق الأهداف التي نادى بها القرآن الحكيم، وجاء بها النبي الكريم وأهل بيته الطهار(عليهم السلام)، والذي في تطبيقها عزّة المسلمين وسعاداتهم، وسؤددهم وسيادتهم.

طموح المسلمين قبل ثلاثة عقود

قبل ثمانٍ وعشرين سنة(1) تشرّفت مع سماحة الوالد المرحوم(2) إلى حج بيت اللّه الحرام، فكان الوالد(رحمه الله) يصلي الجماعة في مكة المكرمة في جانب من المسجد الحرام، وفي منى وعرفات، وكان الكثيرون من مختلف البلدان يشتركون

ص: 418


1- من تاريخ القاء المحاضرة.
2- هو المرجع الديني آية اللّه العظمى الميرزا مهدي بن الميرزا حبيب اللّه بن السيد آقا بزرك بن السيد ميرزا محمود بن السيد إسماعيل الحسيني الشيرازي.

في صلاة الجماعة بإمامته(رحمه الله)، وبعد الصلاة كنت أدخل مع بعض المصلين في مناقشات جادّة حول إعادة الطموح وبناء الثقة في نفوس المسلمين، وفي حوارات متعددة حول مختلف الأمور التي تهم المسلمين؛ من قبيل تفرقهم وتشتّت بلدانهم، وضرورة اتحاد بلدانهم، ومواجهة الإعلام المضاد لهم، ومن قبيل ضرورة إعادة الطموح وبناء الثقة بأنفسهم، وإحياء الشعائر الإسلامية بمختلف أنواعها وبجميع أشكالها، وغير ذلك.

نعم، إن مما يجدر البحث فيه اليوم في موسم الحج، في مكة المكرمة والمدينة المنورة - من خلال عقد المؤتمرات العالمية يشترك فيها أصحاب الحل والعقد من جميع الأقطار الذين جاءوا إلى الحج - هو البحث عن ضرورة إلغاء القوانين التي تفصل وتفرق بين بلاد المسلمين بدواعي واهية، وتعريفهم أن الهدف من تلك القوانين الهدامة والتي تتلخص في حجب المسلمين بعضهم عن بعض، ومنعهم من تداول مشاكلهم السياسية والاقتصادية والاجتماعيةوغيرها، في ما بينهم، علماً بأن هذه القوانين لم تكن موجودة سابقاً، وإنما ابتدعت جديداً ولاحقاً، وكان المسلمون يختلطون بكل حرية، ويطلع بعضهم على شؤون إخوانهم من البلاد الأخرى، ولم يكن هناك حواجز وموانع بينهم، مثل أن يكون مكان خاص لفئة خاصة، أو فندق معين لجهة معينة من المسلمين التابعين لهذا البلد دون سواهم.

ومما يلزم البحث فيه أيام الحج هو: كيفية إلغاء الحدود المصطنعة بين البلاد الإسلامية، تطبيقاً لقول اللّه تعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(1) وعن طريق إرجاع الأخوة الإسلامية إلى المسلمين، تحقيقاً لقول اللّه سبحانه: {إِنَّمَا

ص: 419


1- سورة المؤمنون، الآية: 52.

الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1). والبحث عن كيفية إعادة الحريات الإسلامية إلى المجتمع الإسلامي، تطبيقاً لقول اللّه عزّ وجلّ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(2) وعن طريقة إعادة الطموح والأمل في المجتمع الإسلامي الإنساني، وغيرها من التعاليم الحيوية في الإسلام، والتي سلبت من المسلمين بسبب مخططات الاستعمار الخبيثة، فعرقلت حركة المسلمين وسببت تخلفهم.

الطموح من أهداف الحج

ولا يخفى أن هناك الكثير من الروايات الشريفة، مضافاً إلى الكثير من الآيات الكريمة، تؤكد أن أحد أهداف الحج هو الطموح إلى الآخرة، مضافاً إلى إصلاح الدنيا، وذلك بذكر اللّه أولاً، ثم التأسي برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ثانياً، فإن من الطبيعي أنه حينما يشاهد الناس آثار الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) ويرون مشاهده الشريفة، فإنهميتذكرون جهاد الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وبلاغه، ويعيشون أيام اللّه وأنعامه، ويشاهدون بزوغ أنوار الرسالة الخاتمة وضياءها، ويتذكرون أتعاب الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وتضحياته؛ من أجل تثبيت أسسها وأركانها.

أما التبادل الثقافي والفكري، والتعرف على مشاكل المسلمين ومتاعبهم، وإيجاد الحلول المناسبة لها والخروج منها، فهي من ضروريات الاهتمام بأمور المسلمين وأوليات أهداف الحج.

الحديث الشريف وزماننا العصيب
اشارة

وعليه، فزماننا اليوم هو ذلك الزمان العصيب الذي يفقد أهله فيه الطموح والأمل، كما أخبر عنه أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ووصفوه، فهذا الإمام أمير

ص: 420


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سورة الأعراف، الآية: 157.

المؤمنين(عليه السلام) قال: «فيا عجباً وما لي لا أعجب، من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفِّون عن عيب، يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات، المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المهمات على آرائهم، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ في ما يرى بعرىً ثقات، وأسباب محكمات»(1).

أي: إنهم على أثر فقدهم الطموح والأمل بالإصلاح، أصبحوا لا يسمحون للعالِم بالتكلم بالهداية ونشر علمه بهدف الإصلاح، وفي المقابل يأتي الجاهل ويرى نفسه صاحب الحق في التكلم وإبداء الرأي، ويرى أن له الحق بالتغيير في الساحة الإسلامية كيفما يشاء، وهذا ما نراه اليوم في أكثر البلدان الإسلامية.

وبهذا المعنى وردت الأحاديث الشريفة عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وعنالأئمة المعصومين(عليهم السلام) تصف حال ما نحن فيه من الزمان، وقد نسب البعض هذا الزمان إلى زمان العباسيين والأمويين، بينما نرى أنه أكثر انطباقاً على زماننا هذا من ذلك الزمان؛ فمثلاً، نجد أغلب المسلمين في البلدان الإسلامية مبتلين بهذا الأمر، إذ أن الفقيه والعالم وصاحب الرأي والفتوى، قد كمموا فاه، وتركوه لا يتمكن من إبداء رأيه، وإظهار الأمور الفقهية والأحكام الإلهية، بينما نرى الجهّال مكرمين ومحترمين يقولون ما يريدون، ويفعلون ما يشاؤون.

أهداف الحج في الحديث الشريف

نعم، إن من أهداف الحج هو إيجاد الطموح وبناء الأمل والثقة في نفوس المؤمنين، والعمل وفقها لإصلاح الدنيا وعمران الآخرة، وما يستتبعها من سيادة

ص: 421


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 88، من خطبة له(عليه السلام) وفيها بيان للأسباب التي تهلك الناس.

وسعادة، ففي الحديث الشريف عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) فقلت له: ما العلة التي من أجلها كلف اللّه العباد الحج، والطواف بالبيت؟

فقال(عليه السلام): «إن اللّه تعالى خلق الخلق لا لعلة إلّا أنه شاء ففعل(1)، فخلقهم إلى وقت مؤجل وأمرهم ونهاهم ما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من المشرق والمغرب ليتعارفوا، وليتربح كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كل قوم إنما يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقط الجلب والأرباح، وعميت الأخبار، ولم يقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج»(2).

ولعل من أهم ما ورد في الحديث الشريف هو قوله(عليه السلام): «وعميت الأخبار» فإنّ الحج نافذة واسعة، تعطي فرصة عظيمة للمسلمين في تبادل الأخبار؛ لأن السلطات الجائرة قد اعتادت على منع الأخبار المهمة التي تخصّ المسلمين عن شعبها المسلم، فتحاول التكتم عليها، فالحج يفتح هذه الفرصة أمام المسلمين؛ ولذلك يقول الإمام(عليه السلام) لو لا الحج ل«عميت الأخبار»، أي: لأصبح هناك مانع من انتشار الأخبار بين المسلمين.

فهذه هي بعض الأمور المستفادة من الحج إضافة إلى الأبعاد المعنوية والروحية من مثل العبادة والغفران.

عن الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا(عليه السلام) - في حديث طويل - قال:

«إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى اللّه عزّ وجلّ، وطلب الزيادة، والخروج

ص: 422


1- أي: لا لنفع يرجع إليه تعالى؛ فإنه هو الغني في ذاته على الإطلاق، وإنما خلق الخلق ليرحمهم، كما قال سبحانه: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ} سورة هود، الآية: 119.
2- علل الشرائع 2: 405.

من كل ما اقترف العبد، تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال، وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذات، شاخصاً في الحر والبرد، ثابتاً على ذلك دائماً مع الخضوع والاستكانة والتذلل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البر والبحر، ممن يحج وممن لم يحج، من بين تاجر وجالب، وبائع ومشتر، وكاسب ومسكين، ومُكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه، ونقل أخبار الأئمة(عليهم السلام) إلى كل صقع وناحية، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1) و{لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَلَهُمْ}»(2)(3).

كل شيء من أجل الطموح والأمل

أجل، حيث إن الطموح والأمل هو مقدمة الصلاح والإصلاح في المجتمع الإسلامي، لذلك أمر الإسلام بكل ما يقوي في النفوس الطموح ويزيد في القلوب الأمل، ومن ذلك إجابة دعوة المؤمن، فإنه ينبغي لكل مؤمن أن يجيب دعوة أخيه إلى الضيافة، من غير أن يفرّق بين الغني والفقير، ولا بين بعد المسافة وقربها - في ما إذا أمكن احتمالها عادة - وذلك تقوية لأواصر المحبة بين المؤمنين، وزيادة في طموحهم وأملهم بالصلاح والإصلاح.

فعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): أوصي الشاهد من أمتي

ص: 423


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة الحج، الآية: 28.
3- وسائل الشيعة 11: 12.

والغائب، أن يجيب دعوة المسلم ولو على خمسة أميال، فإن ذلك من الدين»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «من دخل على أخيه وهو صائم، فأفطر عنده ولم يعلمه بصومه في منّ عليه، كتب اللّه له صوم سنة»(2).

نعم، هذه هي بعض آداب الضيافة في الإسلام، تقوية لطموح المسلمين وبعثاً لروح الأمل فيهم.

وعليه، فليس من الصحيح أن يقول أحد - وكأنه يؤكد على أنانيته بعدم إجابة دعوة اللّه من المؤمنين - : الحمد للّه الذي لم أذهب إلى الآن في ضيافة أحد! فإن هذا العمل مخالف لسنة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ولسيرة الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)؟كيف لا والرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «لو دعيت إلى ذراع شاة لأجبت»(3).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن من أعجز العجز رجلاً دعاه أخوه إلى طعامه فتركه من غير علة»(4).

إذن، فلو تسامحنا في مثل هذه الآداب الرفيعة لكانت النتيجة ذهاب الأخلاق الإسلامية الكريمة بسبب هذه الأفكار التي يمتلكها البعض ويفتخر بأنه لا يحترم الناس ولا يستجيب لدعواتهم.

معلم الطموح الكبير والأمل الصادق

لقد جاء في التاريخ أن النبي الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) لما قام في معركة الأحزاب بحفر الخندق، في أثناء حفر الخندق اصطدم المسلمون بصخرة كبيرة ولم يتمكنوا من تفتيتها رغم كل ما بذلوه من جهد.

ص: 424


1- الكافي 6: 274.
2- الكافي 4: 150.
3- المحاسن 2: 411.
4- وسائل الشيعة 24: 271.

فإن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) لما خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا. فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «سلمان منا أهل البيت». قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة ونعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى إذا كنا بجب ذي ناب، أخرج اللّه من بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا، وشقت علينا. فقلنا: يا سلمان، إرق إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيه بأمره؛ فإنا لا نحب أن نجاوز خطه.

قال: فرقي سلمان إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يارسول اللّه، خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق، فكسرت حديدنا، وشقت علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك؟ قال: فهبط رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مع سلمان الخندق والتسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) المعول من يد سلمان، فضربها به ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم! فكبر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تكبيرة فتح، وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) الثانية، فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تكبيرة فتح، وكبر المسلمون. ثم ضربها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) الثالثة فكسرها، فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه تكبيرة فتح وكبر المسلمون. وأخذ بيد سلمان، ورقي. فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، لقد رأيت شيئا ما رأيت منك قط؟!

فالتفت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى القوم وقال: «رأيتم ما يقول سلمان؟».

ص: 425

فقالوا: نعم، يا رسول اللّه.

قال: «ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثالثة، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرئيل أن أمتي طاهرة عليها، فأبشروا». فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد للّه موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحصر.

فقال المنافقون: ألّا تعجبون، يمنيكم ويعدكم الباطل؛ ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق، ولا تستطيعون أن تبرزوا؟!

فنزل القرآن:

{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(1)(2).

لذا استبشر المسلمون المؤمنون برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وتقوى الطموح في نفوسهم بالفتح، وإزداد الأمل بالنصر في قوبهم، بسبب فعل الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) هذا وكلامه المليء بالطموح والمشحون بالأمل، وعلى أثره استطاعوا أن ينتصروا على المشركين في كل الحروب، وأن يسجلوا الفتح المبين لصالح الإسلام والمسلمين، كل ذلك كان بفضل الطموح الكبير، والأمل الصادق الذي كان

ص: 426


1- سورة الأحزاب، الآية: 12.
2- تفسير مجمع البيان 2: 269.

يتحلى به الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) ويبعث به في نفوس المسلمين.

ولكن الأمر اليوم أصبح على عكس ما كان حال المسلمين الأوائل، فلا نجد في المسلمين الطموح إلى الإصلاح، ولا الأمل بالكرامة والسعادة، وعلى أثره تركوا العمل في سبيل تحقيق العزة للإسلام والكرامة للمسلمين، ومن ثم استعادة سيادتهم ومجدهم؛ لهذا السبب وصلت أحوالنا إلى ما وصلت إليه، وتبدلت أوضاعنا إلى هذه الحالة المتأخرة والمفجعة.

الطموح والتضخيم الإعلامي

هناك بعض الجهات التي تستخدم التضخيم الإعلامي مع قلة عددهموبطلان مبدئهم كالشيوعيين في العراق، فإنهم على رغم قلتهم كانوا يدعون الكثير، وكانوا ينشطون في تبليغهم وإعلامهم، وخاصة في مجال توزيع البيانات ونشر الكتب التي تحمل أفكارهم الإلحادية وعقائدهم الهدامة وذلك في كافة أنحاء العراق.

أما الشيعة في العراق وهم يشكلون (85%) من نسبة سكان العراق، فلم يكن لهم نشاط سياسي يذكر، مع ما بث فيهم الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) من طموح كبير وأمل صادق بالصلاح والإصلاح، لهذا نجد انتشار المبادئ الباطلة في بعض المناطق ملوحظاً، بينما المؤمنون على عكس ذلك.

فهذا الأمر يفرض علينا التساؤل عن السبب، وأنه لماذا أصبح المسلمون على هذه الحالة المزرية؟!

قد يجيب البعض قائلاً: إن سبب انتشار الأفكار الإلحادية في بعض مناطق العراق هو دعم الجهات الملحدة وبذلهم المبالغ الطائلة والتي كانت تأتي من الخارج.

ص: 427

ولكننا نقول: إن وراء المؤمنين الرساليين ملياراً وخمسمائة مليون مسلم، وهم أصحاب منابع طبيعية عظيمة، مادية ومعنوية، فالمسألة ليست مسألة مدد من الخارج، بل إنها قضية طموح وأمل، وسعي وعمل، لقد انتهز الشيوعيون فرصة تخلّف المؤمنين وقعودهم، وفترة غفلتهم وخمولهم، فهبّوا مستغلين طاقاتهم والامكانات التي وضعها اللّه سبحانه وتعالى بين يدي جميع خلقه، فانتفضوا بها، وسعوا لها، بينما لم يستثمرها المؤمنون في صالح نشر المبادئ الحقة، ولم يبذلوا جهداً في سبيل إعادة مجد الإسلام الذي فيه مجدهم ومجد الجميع.

الطموح ومقومات النهضة الإصلاحية
اشارة

ثم إنه ينبغي للمؤمنين الطموحين من أجل القيام والنهوض للصلاح والإصلاح، أن يوفروا في أنفسهم مجموعة أمور مهمة، هي كما يلي:

1- الوعي

الأول من مقومات الإصلاح: إيجاد الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، واليقظة الفردية والجماعية، بين الأمة بكاملها، وذلك بقدر الكفاية، فإن الإنسان الواعي اليقظ لا يقبل الخضوع ولا تنطلي عليه المكائد. قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلّا لرجلين: عالم مُطاع، أو مستمع واعٍ»(1).

وقال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «ألا وإن أسمع الأسماع من وعى التذكير وقَبِلَه»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من تبصر في الفطنة ثبتت له الحكمة وعرف العبرة».(3)

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): أربع يلزمن

ص: 428


1- الكافي 1: 33.
2- عيون الحكم والمواعظ: 107.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 448.

كل ذي حجى وعقل من أمتي، قيل: يا رسول اللّه، ما هن؟ قال: استماع العلم، وحفظه، ونشره عند أهله، والعمل به»(1).

2- التنظيم

الثاني من مقومات الإصلاح: التنظيم الدقيق، فهو من أهم وسائل القوة، فقد روي أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «سوّوا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولا تخالفوا بينها فتختلفوا، ويتخللكم الشيطان تخلل أولاد الحَذَف»(2).وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكما... بتقوى اللّه ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدكما(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام...»(3).

وقال(عليه السلام): «الأمور المنتظمة يفسدها الخلاف»(4).

وقال(عليه السلام): «... وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك...»(5).

وقال(عليه السلام) لولده الإمام الحسين(عليه السلام): «ومن تورط في الأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرض للنوائب، التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم»(6).

3- الاكتفاء الذاتي

الثالث من مقومات الإصلاح: العمل من أجل الاكتفاء الذاتي في كل

ص: 429


1- بحار الأنوار 1: 168.
2- بحار الأنوار 85: 111. والحذف ضربٌ من الغنم الصغار السود، واحدها حذفة، فشبه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تخلل الشيطان الصفوف إذا وجد فيها خللاً بتخلل أولاد تلك الغنم ما بين كبارها.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 63.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) للأشتر.
6- بحار الأنوار 74: 238.

المجالات، اقتصاداً، وسياسةً، وزراعةً، وصناعةً، وغير ذلك. فقد روي أن رجلاً جاء إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: ما طعمت طعاماً منذ يومين؟

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «عليك بالسوق». فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول اللّه، أتيت السوق أمس، فلم أصب شيئاً، فبت بغير عشاء؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «فعليك بالسوق». فأتى بعد ذلك أيضاً فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «عليك بالسوق» فانطلق إليها، فإذا عير قد جاءت وعليها متاع، فباعوه بفضل دينار، فأخذه الرجل وجاء إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وقال: ما أصبت شيئاً؟ قال: «هل أصبت من عير آل فلان شيئا؟». قال: لا. قال: «بلى، ضرب لك فيها بسهم وخرجتمنها بدينار». قال: نعم.

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «فما حملك على أن تكذب؟». قال: أشهد أنك صادق، ودعاني إلى ذلك إرادة أن أعلم، أتعلم ما يعمل الناس، وأن أزداد خيراً إلى خير.

فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «صدقت، من استغنى أغناه اللّه، ومن فتح على نفسه باب مسألة فتح اللّه عليه سبعين باباً من الفقر، لا يسد أدناها شي ء». فما رئي سائل بعد ذلك اليوم، ثم قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن الصدقة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي»(1)(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن بشرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «من طلب الرزق في الدنيا استعفافاً عن الناس،

ص: 430


1- المرّة: القوة والشدة، السوي: الصحيح الأعضاء.
2- الخرائج والجرائح 1: 89.
3- الكافي 2: 149.

وتوسيعاً على أهله، وتعطفاً على جاره، لقي اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة، ووجهه مثل القمر ليلة البدر»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اشتدت حال رجل من أصحاب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت له امرأته: لو أتيت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فسألته، فجاء إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فلما رآه النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه!! فقال الرجل: ما يعني غيري، فرجع إلى امرأته فأعلمها، فقالت: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بشرٌ فأعلمه فأتاه، فلما رآه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه!! حتىفعل الرجل ذلك ثلاثاً، ثم ذهب الرجل فاستعار معولاً، ثم أتى الجبل فصعده، فقطع حطباً، ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق، فرجع به فأكله، ثم ذهب من الغد، فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى معولاً، ثم جمع حتى اشترى بكرين وغلاماً، ثم أثرى حتى أيسر، فجاء إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فأعلمه كيف جاء يسأله، وكيف سمع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قلت لك: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه»(2).

4- الطموح والأمل الصادق

الرابع من مقومات الإصلاح: الطموح الكبير، والأمل الصادق بالصلاح والإصلاح، فإن الطموح والأمل يحلان المحل الأول من مقومات الإصلاح؛ ولذلك ينبغي لنا قبل هذه الأمور الثلاثة، أن نطمح إلى تغيير هذا الواقع المأساوي الذي نعيشه، فلولا الطموح والأمل في التغيير لن يمكننا أن نفعل شيئاً، كما ينبغي لنا أن نستعيد طموحنا وأملنا، ونواصل نشاطناً وعملنا مرة أخرى،

ص: 431


1- الكافي 5: 78.
2- الكافي 2: 139.

ونتوكل على اللّه عزّ وجلّ، ونجعل الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين من أهل بيته(عليهم السلام) قدوة وأسوة لنا، حتى نستطيع إنقاذ المسلمين، بل جميع الناس في كل العالم. فقد كان الطموح والأمل، المستتبع للسعي والعمل، هو أحد أهم الأسباب الرئيسية التي سببت علو شأن المسلمين الأوائل.

«اللّهم اجمع بيننا وبين محمد صلواتك عليه وآله في برد العيش، وتروِّح الروح، وقرار النعمة، وشهوة الأنفس، ومنى الشهوات، ونعم اللذات، ورجاء الفضيلة، وشهود الطمأنينة، وسؤدد الكرامة، وقرة العين، ونضرة النعيم، وبهجةلاتشبه بهجات الدنيا...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الطموح والأمل

جاء في القرآن الحكيم في مجال الطموح والأمل ما يبعث عليهما تمهيداً للارتقاء والازدهار:

قال اللّه تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَلَلْأخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}(2).

وقال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٖ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(4).

ص: 432


1- تهذيب الأحكام 3: 83.
2- سورة الإسراء، الآية: 21.
3- سورة البقرة، الآية: 253.
4- سورة العنكبوت، الآية: 69.
التوازن في كل شيء

وفي مجال التوازن في الأشياء، والاتزان في الكون والحياة، ما يفيد التعلم والتوازن في الأمور:

قال اللّه جلّ وعلا: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَٰعِبِينَ * مَا خَلَقْنَٰهُمَاإِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(2).

وقال سبحانه تبارك اسمه: {خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٖ مُّسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّٰرُ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعْلُومٖ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَٰكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَٰزِنِينَ}(4).

وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ}(5).

وقال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٖ}(6).

الحج: تدريبٌ على الطموح

وفي مجال الحج وتدريبه على الطموح والأمل:

ص: 433


1- سورة الحجر، الآية: 19.
2- سورة الدخان، الآية: 38-39.
3- سورة الزمر، الآية: 5.
4- سورة الحجر، الآية: 21- 22.
5- سورة الملك، الآية: 3.
6- سورة القمر، الآية: 49.

قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَٰئِدَ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(1).

وقال سبحانه: {فِيهِ ءَايَٰتُ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأْتِينَ مِنكُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ}(3).

الطموح ومقومات الإصلاح

وفي مجال مقومات الإصلاح من نشر العلم ومحاربة الجهل ما فيه دروس وعظات:

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(6).

ص: 434


1- سورة المائدة، الآية: 97.
2- سورة آل عمران، الآية: 97.
3- سورة الحج، الآية: 27.
4- سورة الجمعة، الآية: 2.
5- سورة الأنفال، الآية: 24.
6- سورة التوبة، الآية: 128.

وقال جلّ وعلا: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

الطموح والأمل

جاء في الروايات الشريفة ما يبعث على الطموح والأمل، وأنهما مقدمتا الارتقاء والازدهار:

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أحب نيل درجات العلى فليغلب الهوى»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «العاقل يطلب الكمال، الجاهل يطلب المال»(3).

وقال(عليه السلام): «أيها الناس، اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألّا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال؛ إن المال مقسوم مضمون لكم، قد قسمه عادل بينكم، وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد أمرتم بطلبه من أهله، فاطلبوه»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «الكمال كل الكمال: التفقه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة»(5).

ص: 435


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- مستدرك الوسائل 12: 115.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 54.
4- الكافي 1: 30.
5- الكافي 1: 32.
تنافي الطموح مع الكسل

وفي مجال تنافي الكسل والضجر مع الطموح والأمل ما فيه عبرة لمن اعتبر:

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «وإياك وخصلتين: الضجر والكسل، فإنك إن ضجرت لم تصبر على حق، وإن كسلت لم تؤد حقاً»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المؤمن يرغب في ما يبقى، ويزهد في ما يفنى، يمزج الحلم بالعلم، والعلم بالعمل، بعيدٌ كسله، دائم نشاطه، قريب أمله، حيٌّ قلبه»(2).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام) في دعاء (مكارم الأخلاق): «ولا تبتليني بالكسل عن عبادتك، ولا العمى عن سبيلك، ولا بالتعرض لخلاف محبتك»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ثلاث يحجزن المرء عن طلب المعالي: قصر الهمّة، وقلة الحيلة، وضعف الرأي»(4).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ولا تبتلنا في أمره بالسأمة والكسل والفترة والفشل، واجعلنا ممن تنتصر به لدينك وتعز به نصر وليك، ولا تستبدل بنا غيرنا...»(5).

الحج: تدريب على الطموح

وفي مجال الحج ما يدرب على الطموح والأمل:

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... وفرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه(6) ولوه الحمام، وجعله

ص: 436


1- مكارم الأخلاق: 433.
2- بحار الأنوار 75: 26.
3- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
4- تحف العقول: 318.
5- جمال الأسبوع: 517.
6- يألهون إليه: يلوذون به ويعكفون عليه.

سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته»(1).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «حجّوا واعتمروا، تصح أجسامكم، وتتسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتكفوا مئونة الناس ومئونة عيالاتكم»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «... والحج تسكين القلوب»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما من بقعة أحب إلى اللّه من المسعى؛ لأنه يذلفيها كل جبار»

وسُئل(عليه السلام): لم جعل السعي؟ فقال(عليه السلام): «مذلة للجبارين»(4).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن علّة الحج الوفادة إلى اللّه تعالى، وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف، وليكون تائباً مما مضى مستأنفاً لما يستقبل، وما فيه من استخراج الأموال، وتعب الأبدان، وحظرها عن الشهوات واللّذات، والتقرب في العبادة إلى اللّه عزّ وجلّ والخضوع...»(5).

التوازن في كل شيء

وفي مجال التوازن في الكون والحياة، وفي الأشياء كلها ما يعلم التوازن في الأمور:

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... فإن اللّه سبحانه لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم سُدى، ولم يدعكم في جهالة ولا عمى، قد سمّى آثاركم(6)، وعلم أعمالكم

ص: 437


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم وفيها ذكر الحج.
2- وسائل الشيعة 11: 15.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 296.
4- الكافي 4: 434.
5- علل الشرائع 2: 404.
6- سمّى آثاركم: بين لكم أعمالكم وحدّدها.

وكتب آجالكم...»(1).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «... والحمد للّه الذي اختار لنا محاسن الخلق، وأجرى علينا طيبات الرزق، وجعل لنا الفضيلة بالملكة على جميع الخلق، فكل خليقته منقادة لنا بقدرته، وصائرة إلى طاعتنا بعزته. والحمد للّه الذي أغلق عنا باب الحاجة إلّا إليه، فكيف نطيق حمده، أم متى نؤدي شكره، لا، متى. والحمد للّه الذي ركّب فينا آلات البسط، وجعل لنا أدوات القبض، ومتّعنا بأرواح الحياة،وأثبت فينا جوارح الأعمال، وغذانا بطيبات الرزق، وأغنانا بفضله، وأقنانا بمنّه»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... يا مفضل! أول العِبَر والأدلة على البارئ جلّ قدسه، تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه، ونظمها على ما هي عليه، فإنك إذا تأملت العالم بفكرك وميزته بعقلك، وجدته كالبيت المبنيّ المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده؛ فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكل شيء فيها لشأنه معد، والإنسان كالمملك ذلك البيت، والمخوّل جميع ما فيه، وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه، ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة، ونظام وملائمة، وأن الخالق له واحد، وهو الذي ألفه ونظمه بعضاً إلى بعضٍ، جلّ قدسه وتعالى جده وكرم وجهه...»(3).

ص: 438


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 86 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يبين صفات الحق جلّ جلاله، ثم عظة الناس بالتقوى والمشورة.
2- الصحيفة السجادية(عليه السلام) إذا ابتدأ بالدعاء بدأ بالتحميد للّه عزّ وجلّ والثناء عليه.
3- بحار الأنوار 3: 61.

العِبرة سبيل النجاة

كيف نعتبر؟

اشارة

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فتفكروا أيها الناس وتبصّروا واعتبروا واتعظوا وتزوّدوا للآخرة تسعدوا»(2).

لا بد للمرء إذا أراد التقدم والخير لنفسه وللآخرين، أن يتأمل ويحقق في أربعة أمور مهمة، وعندها يعرف ماذا ينبغي له أن يصنع؟ وماذا يترك؟ وكيف يستفيد من التجارب الماضية؟

وهذه الأمور الأربعة هي:

متابعة التاريخ

أولاً: التاريخ، فاللازم متابعة التاريخ بالتحليل والتدقيق الصحيحين، حتى يعرف الأسباب والمسببات، والخلفيات والدوافع وما أشبه؛ وعندها سوف تنكشف علل سقوط الأشخاص والدول في التاريخ، وعلل سمو ونجاح البعض الآخر، وتنكشف عوامل الضعف والقوة عند الأمم والأفراد.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من فهم مواعظ الزمان لم يسكن إلى حسن الظن

ص: 439


1- سورة يوسف، الآية: 111.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 485.

بالأيام»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من اعتبر بتصاريف الزمان حذر غيره»(2).

التجارب الشخصية

ثانياً: التجارب الذاتية؛ إذ الإنسان في حياته العملية يمر بمجموعة من التجارب والأعمال، وهذه التجارب سوف تعطي لصاحبها الوعي والبصيرة في المستقبل. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من حفظ التجارب أصابت أفعاله»(3).

فمثلاً الشخص الذي يحترم الناس ويبادلهم الحب والود، سوف يرى نتائج مرضية من قبل الناس، فإنهم سوف يبادلونه الاحترام والتبجيل، وهذه حالة بسيطة يلزم أن يتصف بها المؤمن وهي ذات مدلول كبير تعطي للإنسان انفتاحاً على المستقبل، وعلماً بحوادث الأمور، فلا يقع في المطبات التي وقع بها هو أو الآخرون سابقاً، وهذا ما أشار إليه الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في قوله: «لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين»(4).

فالإنسان العاقل هو الذي يستفيد من أخطائه ونقاط الضعف التي مرت بحياته، لكي لا يقع بها ثانية ولا يصاب بمثلها في المستقبل.

وكذلك قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أحب إخواني إليّ مَن أهدى إليّ عيوبي»(5).

حيث يبين الإمام(عليه السلام) في هذا الحديث قانوناً كلياً للتطور، فإن من يبين

ص: 440


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 649.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 597.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 666.
4- مشكاة الأنوار: 319.
5- الكافي 2: 639.

للإنسان معايبه يشخص له الأسباب الخفية والدواعي الباطنية التي كانت تسبب له التأخر والاضطراب في الحركة، ليصحح الإنسان حركته في حياته اليومية ذات المَساس بالمجتمع والدين.

فمن هنا كان للتجارب الذاتية أثر فعال في تصحيح أفكار وسلوك الإنسان. فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «كفى عظة لذوي الألباب ما جربوا»(1).

الأحداث المعاصرة

ثالثاً: دراسة الأحداث المعاصرة والتأمل في كيفية جريانها، بأن ينظر الإنسان إليها، ويرى ما هي مقدمات نشوء الحدث؟ وكيفية السيطرة عليه واحتوائه واستثماره؟ ومقارنته مع العبر والحوادث السابقة، والاستفادة من الماضي في معرفة الحدث المعاصر، ووضع الاحتمالات المتوقعة، ووضع الحلول والبرامج لهذه الاحتمالات والنتائج.

فعلى الإنسان أن لا يقف مكتوف اليدين أمام الحوادث المحيطة به، بل عليه أن يلاحظ الحوادث السابقة المشابهة لهذا الحدث ويستفيد منها، ويقوم بدفع الشر الذي فيه؛ إذ أن الجهل بالحوادث، والجهل بمقدماتها، سوف يعرض الإنسان إلى أضرار خطيرة، ربما أدت إلى هلاكه؛ ولذلك صار دفع الضرر واجباً عقلياً في الجملة. فعلى كل إنسان أن يدفع الضرر الكثير أو الخطر الجسيم عن نفسه، فإذا لم يدفعه يعد ذلك قبيحاً في عرف العقلاء.

أما كيف يمكن دفع الأضرار والحوادث التي ترهبه وتضره؟ فذلك لا يمكن - عادة - إلّا إذا عرفها، أما إذا كان جاهلاً بالأمر، فإنه لا يعرف الضرر من غيره، فكيف يمكن له أن يدفعه؟!

ص: 441


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 521.

ولذلك صارت المعرفة واجبة، إذ بها يتم معرفة الأضرار والمخاوف ودفعهما... ومن هنا كانت دراسة مجريات الأحداث أمراً مهماً لنجاة الإنسان.

دراسة المستقبل

رابعاً: دراسة المستقبل طبق المحتمل العقلائي؛ وذلك بأن يلاحظ الأثر المترتب على النتائج. فمثلاً: إذا كان أحد الأشخاص يسرق أموال الآخرين فالمحتمل العقلائي له الوقوع بيد السلطة القضائية، ومن ثم السجن.

أما إذا كان إنسان ينفع الآخرين، يجيد الخطابة والتعليم للناس، فإن المحتمل العقلائي له أنه يكون في موقع احترام وتقدير الآخرين.

فكل شيء إذا فكر الإنسان فيه واعتبر منه، فإنه يستطيع أن يختار أفضل الطرق المؤدية إلى الحياة السعيدة، ويشخص الطرق الملتوية والسيئة، ويسلك أفضل الطرق.

فغالباً هناك أربع أو خمس حالات أو طرق يتمكن بها الإنسان أن يتوصل من خلالها إلى غايته:

أحدها: طريق سيئ جداً، والآخر بين السيئ والحسن، وأحياناً سيئ، وأحياناً فاضل، وبعض الأوقات هناك طرق أفضل، وهذا المطلب العقلي موجود في الأحكام الشرعية، إذ أن الحكم الشرعي التكليفي ينقسم إلى: واجب، وحرام، ومستحب، ومكروه، ومباح، فالعمل بالواجبات هو من أفضل الطرق للتقرب إلى اللّه. والطريق الفاضل، وهو العمل بالمستحبات، كما أن المباح أمر متوسط بين الفعل وعدم الفعل، كشرب الماء والقيام والجلوس، وما أشبه، أما الطرق السيئة، والتي لا توصل الإنسان إلى شيء، فهو العمل بالحرام، وهذا العمل سيئ جداً، وأقل سوءً منه العمل بالمكروه.

والتاريخ هو أحد الأمور المهمة التي يستطيع الإنسان أن يأخذ العبرة منه،

ص: 442

ويبني حياته على أساس ذلك، فعادة الأشخاص الناجحون في الحياة، والذين يؤدون الأعمال الصالحة للمجتمع هم الذين قد اعتبروا بِعبَر التاريخ، واستفادوا من تجارب السابقين، وكذلك استفادوا من الأحداث الجارية، التي تمر عليهم، وهكذا ينظرون إلى المستقبل حسب المحتمل العقلائي الصحيح، ويضعون النتائج ويرسمون الخطوط العريضة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(1)

بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم، فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم، فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة والتحاض عليها والتواصي بها. واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم، وأوهن منتهم(2)، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي. وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، أ لم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً، وأجهد العباد بلاءً، وأضيق أهل الدنيا حالاً، اتخذتهم الفراعنة عبيداً، فساموهم سوء العذاب وجرعوهم المرار، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة، لا يجدون حيلة في امتناع، ولا سبيلاً إلى دفاع، حتى إذا رأى اللّه سبحانه جد الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكانالخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً وأئمةً أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم

ص: 443


1- المُثُلات: العقوبات.
2- المُنّة: القوة.

تذهب الآمال إليه بهم. فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة. ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين. فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، وقد خلع اللّه عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم، فيكم عبراً للمعتبرين»(1).

شاهد من التاريخ

يحكى أن تاجراً في زمن أحد الخلفاء كان مشهوراً بين الناس بالسمعة الطيبة والأمانة، فكان موضع اعتماد الناس حيث كانوا يضعون أموالهم بيده ليتاجر لهم بها، أو ليضارب بها(2)، وهذا يعني أنهم أعطوه كامل الثقة، ولكنه وسوسه الشيطان، فانحرف عن الحق، وتجاوز على أموال الناس، ويوماً بعد يوم عرف الناس ذلك الأمر منه وبرزت شخصيته على حقيقتها فتركه الناس جميعاً، ولم يستأمنه أحد، فكسدت تجارته، وضاق عليه الرزق، فبقي جليس الدار بسبب ابتعاده عن الصدق والأمانة، وكان لهذا التاجر ولدٌ شاب، كان قد اطلع على أحوال أبيه، وحاول أن يعتبر ويتعّظ منه، فصمم الشاب على الابتعاد عن الخيانة كلياً، لكي لا يصاب بما أصيب به أبوه، فأخذ أولاً يعمل بكل ما بوسعه ليدخل وينفذ إلى قلوب الناس، فعمل بالطاعات، وأبتعد عن المعاصي، والتزم السلوك

ص: 444


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.
2- المضاربة شكل من أشكال التجارة. روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال فِي الْمُتَضَارِبَيْنِ: «وهما الرجلان يدفع أحدهما مالاً من ماله إلى الآخر يتجر به، على أنه ما كان فيه من فضل كان بينهما على ما تراضيا عليه واتفقا...» دعائم الإسلام 2: 86.

الحسن، وكان لهذا الشاب جار، وكان هذا الجار قائداً في الجيش الإسلامي، فصادف أن استدعاه الحاكم في إحدى تحركاته العسكرية، فقام هذا القائد وذهب إلى جاره الشاب وأودع عنده عشرة آلاف دينار، وأوصاه بأن يحافظ على هذا المبلغ كأمانة، وقال له: إذا قتلت في الحرب، فأعطه لأولادي وزوجتي، ولك عُشر المبلغ. وشاء القدر أن يموت هذا القائد العسكري، فقام الشاب بتسليم المبلغ إلى عائلته، ففرحوا كثيراً بعد أن أصابهم الفقر، ولما سمع الحاكم بهذا الأمر استدعاه عنده، حيث أعجب بأخلاقه وأمانته وسلوكه الإسلامي، وجعله أميناً على بيت مال المسلمين.

نلاحظ من خلال هذه القصة البسيطة، كيف أن الإنسان يستفيد وينتفع بالاعتبار من الأعمال والأحداث السابقة، وكيف ينجح إذا تجنب نقاط الضعف التي مر بها السابقون، فيتجاوزها ولا يقع فيها مرة أخرى، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن ذهاب الذاهبين، لَعبرة للقوم المتخلفين»(1).

الاعتبار سبب التقدم

لاشك في أن الاعتبار مما مضى وممن مضى سبب هام لتقدم الإنسان في مختلف الميادين، ومنها الجانب المادي، من حيث العمل والسلوك، فإن الإنسان إذا درس تجارب السابقين، ولاحظ خطواتهم وسلوكهم وحركتهم، يمكنه أن يأخذ الجوانب الإيجابية في حياتهم ويطبّقها في حياته، ويتجنب الأخطاء التي وقعوا بها، كما هو الحال في قيام دولة مكان أخرى، فيأتي القائد الجديد ويدرس الممارسات غير الإيجابية التي أدت بذلك الرئيس إلى السقوط وانتهاءحكمه فيتجنبها، بل يعمل على العكس منها، فهنا سوف يدوم هذا الرئيس

ص: 445


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 222.

الجديد بحكم القوانين الطبيعية أكثر من الأول؛ لأنه اتخذ الطريق الأفضل، وأخذ المقدمات الصحيحة، فالنتيجة تكون أسلم، وعمرها أطول.

التقدم الروحي المعنوي

وهناك تقدم آخر مهم جداً ينبغي الالتفات إليه، ألّا وهو التقدم الروحي والمعنوي، الذي يشمل تنمية الكمالات النفسية والأخلاق الفاضلة، فالإنسان أيضاً يستطيع أن يعتبر بالماضين في هذا الجانب، سواء كانوا أولياء اللّه، أم أعداءً له عزّ وجلّ، فإنه يأخذ الجوانب المشرقة والأسباب التي جعلت من أولئك أولياء مقربين، وكذلك يتجنب الأسباب التي جعلت من الآخرين أعداءً للّه عزّ وجلّ، يعتبر بخاتمتهم السيئة، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «اتعظوا بالعبر، واعتبروا بالغير، وانتفعوا بالنذر»(1).

فإن من لم يعتبر ولم ينتفع بالغير ليس بعاقل؛ لأن العقل هو الذي يدعو الإنسان للاعتبار والاتعاظ والتأسي؛ فإن في ذلك مصالح كبيرة تزيد الإنسان كمالاً وتقدماً في طريقه إلى اللّه عزّ وجلّ، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من قوي عقله أكثر الاعتبار»(2).

قصة المشي إلى بيت اللّه

ومما يحكى في مجال الاستفادة من تجارب وعمل السابقين، لاسيما الأوصياء والأنبياء(عليهم السلام)، أن أحد الأشخاص وأسمه: عزيز اللّه، قد تشرّف بزيارة ومجاورة أمير المؤمنين(عليه السلام) في النجف الأشرف.

يقول الشخص المذكور: عندما ذهبت إلى النجف الأشرف شرعت في طلبالعلم وتهذيب النفس، فكنت أراقب نفسي وتصرفاتها بشكل دقيق جداً، كما

ص: 446


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 153.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 608.

كنت أهتم كثيراً بمسألة أداء الواجبات ومجانبة المعاصي، وعلاوة على ذلك كنت أرى من اللازم عليّ أن أترك بعض المباحات أيضاً، حسب المقدور والاستطاعة، ولقد قررت مع نفسي أن أواظب على أداء المستحبات وترك المكروهات، وفي عيد الفطر ذهبت إلى كربلاء المقدسة لأداء الزيارة المخصوصة، وعندها حللت ضيفاً عند أحد أصدقائي في مدرسة الصدر الأعظم(1)، فكنت أقضي جميع وقتي في حرم الإمام الحسين(عليه السلام) إلّا في وقت تناول الطعام أو أخذ قسط من الراحة، فكنت أرجع إلى المدرسة، وفي تلك الأيام خطرت على بالي فكرة الحج إلى بيت اللّه الحرام ماشياً، كما كان يفعل أئمتنا(عليهم السلام)، وذات مرة لدى عودتي إلى المدرسة وجدت مجموعة من أصدقائي جالسين يتحدثون في مسألة الرجوع إلى النجف الأشرف، فسألوني: متى ترجع؟

فقلت لهم: إني نويت زيارة بيت اللّه الحرام، وسوف أذهب في هذا العام ماشياً، بإذن اللّه تعالى، وطلبت التوفيق من اللّه عزّ وجلّ تحت قبة الإمام الحسين(عليه السلام) وعندي أمل كبير بأن اللّه سوف يستجيب لي.

فلما سمع أصدقائي ما قلت لهم استهزءوا بي، وقالوا: الظاهر أن كثرة العبادة والرياضة الروحية قد أثّرت فيك، فكيف تستطيع المشي في هذه الصحراء الحارة والمخيفة، دون أن تمتلك القابلية لذلك، ودون أن تمتلك المال والبضاعة الكافية، ولا سيما أن الطريق محفوف بالمخاطر؟!

فلما تجاوز كلامهم واستهزاؤهم حدّه، ضاق صدري منهم كثيراً، وخرجت من الغرفة مكسور القلب، وقد أصابني اليأس، فتوجهت إلى حرم الإمام الحسين(عليه السلام)

ص: 447


1- مدرسة الصدر الأعظم النوري، قام بإنشائها المرجع الديني المرحوم الشيخ عبد الحسين الطهراني، وتم بناؤها من ثلث الإرث المتبقي للميرزا تقي خان (الصدر الأعظم)، وكانت من المعاهد العلمية الدينية الرئيسية في كربلاء المقدسة... .

باكياً فزرته زيارة مختصرة، ثم ذهبت إلى محل الرأس الشريف الذي كنت كثيراً ما أصلي وأدعو فيه، فجلست هناك وأخذت أبكي وأدعو اللّه عزّ وجلّ، وفجأة جاءني رجل عربي المظهر وناداني باسمي، وأخذ يسألني بالفارسية: هل تحب أن تتشرف بزيارة بيت اللّه الحرام ماشياً؟ فقلت له: بلى، فقال لي: إذن هيّئ مقداراً من الخبز اليابس بحيث يكفيك لمدة أسبوع كامل، واستصحب معك ملابس الإحرام، وإبريق ماء، وسوف آتيك في اليوم كذا، وفي ساعة كذا؛ لكي نتوجه إلى زيارة بيت اللّه الحرام من هذا المكان المقدس.

فرأيت نفسي مذعنة له ومنجذبة نحوه، فقلت له: سمعاً وطاعة، فخرجت من الحرم الشريف وهيأت كل اللوازم التي ذكرها، فلما حان موعد السفر، حملت أمتعتي وذهبت إلى المكان المعين من الحرم الشريف، فوجدته على الموعد، فخرجنا من الصحن الشريف، ومشينا ساعة إلى أن وصلنا إلى واحة فيها ماء كثير، فقال لي: انتظر في هذا المكان لكي تستريح فيه ريثما آتيك، وبعدها غاب عن نظري، فبقيت في ذلك المكان أنتظره مدة من الوقت إلى أن عاد، فقال: قُم لِنَمشِ، فمشينا عدة ساعات، إلى أن وصلنا واحة أخرى، فخط خطاً على الأرض، وقال: هذا اتجاه القبلة، نم هذه الليلة في هذا المكان، وسوف آتيك صباحاً، وعلّمني عدة أذكار وأدعية، واستمر الأمر هكذا إلى سبعة أيام، دون أن أحس بتعب وأذى، ودون أن أصادف أي خطر في الطريق، فلما صار صباح اليوم السابع وصلنا إلى واحة، فقال لي: اغتسل من هذا الماء وألبس ثياب الإحرام، وكما تراني أُكبر كبّر أنت أيضاً، وهكذا تابعته في جميع الأمور الأخرى، إلى أن وصلنا إلى جبل، فقال لي: أصعد هذا الجبل فسوف ترى مدينة فادخل فيها، وبعدها ذهبوغاب عني، فصعدت الجبل وحدي، ونزلت من الطرف الثاني وإذا أنا ببيت اللّه الحرام أمامي! في تلك الأثناء التفتّ إلى نفسي فعرفت أني كنت محظوظاً كثيراً

ص: 448

لكني كأنما كنت في غفلة أو نوم، إذ لماذا لم أتعرف على ذلك الشخص الكبير، ولكن عرفت بأن ذلك الشخص كان قد تصرف في نفسي شيئاً ما بحيث لم ألتفت حينها إليه، ولم ألتفت إلى سفرتنا كيف لم تستغرق أكثر من أسبوع، بحيث لم نمش يومياً إلّا ساعات قلائل، وعندها تيقّنت بأنه بقية اللّه الأعظم الحجة بن الحسن العسكري عجل اللّه تعالی فرجه الشريف.

نعم، فإن ما يجدر ذكره هنا هو حاجة الإنسان البالغة إلى التوفيق والعناية الإلهية وإن ألطاف المعصومين(عليهم السلام) إنما تشمل من يسير على خطاهم ويعتبر من أفعالهم نظرياً وعملياً... وحتى مسألة الاعتبار تحتاج إلى توفيق إلهي عظيم، ف- (عزيز اللّه) وبسبب تمسكه وانقطاعه للأئمة(عليهم السلام) وفّق لكي تنقدح في ذهنه مسألة التأسي والاعتبار بفعل الأئمة(عليهم السلام)، مع تباعد الأزمنة بينه وبينهم(عليهم السلام)، فمن خلال هذه القصة نلاحظ كم تقدم (عزيز اللّه) معنوياً، وكم اقترب من مولانا صاحب الأمر عجل اللّه تعالی فرجه الشريف وكل هذا كان بفضل أخذ العبرة من الماضين، والسير على خطاهم الإيجابية، ومن هنا يتضح أن العبرة سبب هام جداً في سبيل تقدم الإنسان وتكامله.

العِبرَةُ سبيلُ النجاة

عندما يتابع الإنسان سلسلة الأحداث، ويتدبر الحوادث التاريخية، ويدقّق في تفاصيلها، عندها سوف يميز نقاط الضعف من نقاط القوة، فيحاول الاستفادة من دراسته هذه، لأنه في كلا الأمرين سوف يكون غنياً من الناحية التاريخية التجريبية. فالذي يطّلع على تجارب السابقين، ويسعى من خلالها لئلا يقع بما وقعوا فيه من أخطاء، ويستفيد من نقاط القوة فيأتي بها، فإن ذلك سيكون مدعاةلنجاته، وعدم سقوطه في المهالك، وهذا هو بالضبط ما فعله العظماء والناجحون في مختلف ميادين الحياة؛ فإنهم استشرفوا الأحداث والمواقف،

ص: 449

فعرفوا الحق فاتبعوه، وشخصوا الباطل فاجتبوه، ولم توقفهم بعد ذلك لومة لائم، ولا إرجاف ظالم.

فمثلاً، حبيب بن مظاهر رأى الأحداث والمواقف التي تعكس سيرة علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وتذكر أيام خلافته العطرة، وسلوكه العادل في الناس... .

ثم رأى ما قام به معاوية بن أبي سفيان من الغدر والخيانة مما تصب عليه اللعنات هو وقبيله من الذين لعبوا بأموال ودماء الأمة، فاختار حبيب بن مظاهر طريق علي(عليه السلام)؛ لأنه التجربة الناصعة التي تدلّل على النجاة والنجاح دائماً، فكان مع الحسين(عليه السلام) في كربلاء، وظل ملازماً له حتى آخر لحظة من حياته، وبذل نفسه في سبيل نصرته.

بينما حرملة بن كاهل الأسدي الذي كان من نفس عشيرة حبيب بن مظاهر، اختار السلوك الملتوي والطرق المهلكة، فإنه لم يستفد من تجارب الآخرين، بل تأسى بمعاوية وأمثاله، واختار طريق ابنه يزيد (عليه لعن اللاعنين إلى يوم الدين) المجسّد الحقيقي لخطى أبيه وأجداده، المعادي للإسلام.

فحرملة لم يستفد شيئاً من تجارب السابقين، بل مرت عليه بدون أن يتنبه لها، على العكس مما دعت إليه الآية الكريمة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(1)، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى فإن حرملة باختياره طريق الضلال دل على انحطاط مستواه الفكري والعقلي؛ لأن الآية تقول: إن أصحاب العقول هم الذين يعتبرون منقصص الأولين، ومفهومها العرفي: إن الذي لا يعتبر لا عقل له.

حقاً وبالتأكيد فإن من اختار طريق يزيد بن معاوية لم يكن له عقل؛ إذ إنه لو

ص: 450


1- سورة يوسف، الآية: 111.

تأمل وفكّر قليلاً بالعواقب والنتائج لما وصل الأمر به إلى شقاء الدنيا والآخرة بالمشاركة في قتل ريحانة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، بل لارتفع كما ارتفع حبيب بن مظاهر، لذلك كان العبرة نجاة للإنسان: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ}(1).

وفي آية أخرى يقول تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ}(2).

وهنا نكتة لطيفة تتعلق بالمقام، فإن الذي يخشى اللّه فهو دائم الاعتبار بتجارب السلف، أما الذي لا خشية لديه ولا خوف من اللّه تعالى، فهو بعيد عن الاعتبار والاتعاظ.

فالخشية من اللّه تفتح آفاقاً رحبة لفؤاد الإنسان وعقله، فتجعله منفتحاً على التاريخ الماضي ومن سلف، ليتدبر بأعمالهم ويتأمل في قصصهم، ويسعى للاستفادة من ذلك كله، فلا غرابة في حرملة بن كاهل، الذي لم يعتبر من التاريخ شيئاً، لأنه كان بعيداً عن اللّه، وعن خوفه وخشيته.

كلمة أخيرة

لقد مرت الشعوب المسلمة بعد الاضطهاد الاستعماري بحقبة طويلة جداً من الديكتاتورية، وبرموز عديدة من الظلمة المستبدين العملاء، الذين أخذوا يسوسون الناس بسياسات لا تنسجم مع طبيعة الإنسان المسلم.

وهذه السياسات القمعية والتي تركن إلى الظلم والاستبداد آخرها الفشل، ولكن أين من يتعظ ويعتبر؟

كم هناك من تجارب فاشلة قام بها الطغاة، والتي ما زال بعضها مستمراً إلى يومنا هذا، ولكن الشعوب المسلمة شيئاً فشيئاً أخذت تفيق من سباتها العميق،

ص: 451


1- سورة آل عمران، الآية: 13.
2- سورة النازعات، الآية: 26.

وتنادي باسم الإسلام والعودة إليه، وإلى أحكام القرآن، بعد أن فشلت:البعثية، والشيوعية، والرأسمالية، وأحزابها.

إذاً، إرادة المسلمين الجديدة هي نتيجة الاعتبار من الأنظمة السابقة، وملاحظة الفشل الذريع الذي مرت به هذه الأحزاب أو الحركات المشبوهة النشأة والنوايا والسيرة؛ لذلك نادت بالبديل الأصلح، وهو الإسلام.

ونداؤها هذا جاء بعد الاعتبار وإلقاء نظرة إلى الخلف، وهي ملاحظة الإسلام في زمن الرسول الأكرم وأمير المؤمنين (عليهما أفضل الصلاة والسلام)، ولقد شاهدت البشرية صوراً رائعة يعجز عنها البيان، بل تعجز البشرية أن تلد مثل تلك اللحظات الروحية، التي صنعها الإسلام بفضل قيادة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) ووصيه(عليه السلام).

إذاً، فمناداة المسلمين بالعودة إلى الدين إنما هي تعبير آخر عن وعيهم للتجارب، واعتبارهم بالمواقف والأحداث.

«اللّهم صل على محمد وآله، ونبّهني لذكرك في أوقات الغفلة، واستعملني بطاعتك في أيام المهلة، وأنهج لي إلى محبتك سبيلاً سهلة، أكمل لي بها خير الدنيا والآخرة»(1)، بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

اشارة

من عناصر التقدم:

1- العودة إلى القرآن

قال تعالى: {ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(2).

ص: 452


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة البقرة، الآية: 2.

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1).

وقال سبحانه: {ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(3).

2- العبرة

قال عزّ وجلّ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ}(4).

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(5).

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ أَفَلَمْيَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْأخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ

ص: 453


1- سورة المائدة، الآية: 15-16.
2- سورة الأنعام، الآية: 154- 155.
3- سورة النحل، الآية: 89.
4- سورة آل عمران، الآية: 13.
5- سورة يوسف، الآية: 111.

اتَّقَوْاْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَٰفِرِينَ أَمْثَٰلُهَا}(2).

وقال تبارك وتعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(4)

3- الوعي

قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ}(5).

وقال سبحانه: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَٰنَ اللَّهِ وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(7).

4- التعقل

قال عزّ وجلّ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي

ص: 454


1- سورة يوسف، الآية: 109.
2- سورة محمد، الآية: 10.
3- سورة الروم، الآية: 9.
4- سورة آل عمران، الآية: 137.
5- سورة الأنعام، الآية: 104.
6- سورة يوسف، الآية: 108.
7- سورة الحاقة، الآية: 12.

تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَمَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٖ وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(1).

وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(2).

وقال سبحانه: {لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٖ لَّرَأَيْتَهُ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَٰمُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَا أَتَىٰهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

اشارة

من عناصر التقدم:

1- العودة إلى القرآن

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أتتكم الفتن كقطع الليل المظلم». قالوا: يا رسول اللّه، فبم النجاة؟ قال: «عليكم بالقرآن، فإنه من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه قاده إلى النار، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل، من قال به صدق، ومن

ص: 455


1- سورة البقرة، الآية: 164.
2- سورة النحل، الآية: 12.
3- سورة الحشر، الآية: 21.
4- سورة يونس، الآية: 24.

حكم به عدل، ومن أخذ به أجر، ومن عمل به وفق»(1).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان؛ زيادة في هدى، أو نقصان من عمى. واعلموا، أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم(2)، فإن فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر، والنفاق، والغي، والضلال...»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لا يرفع الأمر والخلافة إلى آل أبي بكر أبداً، ولا إلى آل عمر، ولا إلى آل بني أمية، ولا في ولد طلحة والزبير أبداً؛ وذلك أنهم بتروا القرآن، وأبطلوا السنن، وعطلوا الأحكام، وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأحزان، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم، فهذه صفة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) للقرآن، وما عدل أحد عن القرآن إلّا إلى النار»(4).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام): «قيل لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إن أمتك ستفتتن، فسئل ما المخرج من ذلك؟ فقال: كتاب اللّه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، من ابتغى العلم في غيره أضله اللّه، ومن ولي هذا الأمر من جبار فعمل بغيره قصمه اللّه، وهو الذكر الحكيم والنور المبين

ص: 456


1- إرشاد القلوب 1: 8.
2- اللأواء: الشدة.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن ونهى عن البدعة.
4- بحار الأنوار 89: 26.

والصراط المستقيم، فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهوالفصل ليس بالهزل، وهو الذي سمعته الجن فلم تناهى أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فََٔامَنَّا بِهِ}(1) ولا يخلق على طول الرد، ولا ينقضي عبره ولا تفنى عجائبه»(2).

2- العبرة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن ربي أمرني أن يكون نطقي ذكراً وصمتي فكراً، ونظري عبرة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فاز من كانت شيمته الاعتبار، وسجيته الاستظهار»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): المعتبر في الدنيا، عيشه فيها كعيش النائم، يراها ولا يمسها، وهو يزيل عن قلبه ونفسه باستقباحه معاملات المغرورين بها ما يورثه الحساب والعقاب، ويتبدل بها ما يقربه من رضا اللّه وعفوه، ويغسل بماء زوالها مواضع دعوتها إليه، وتزيين نفسها إليه، فالعبرة يورث صاحبها ثلاثة أشياء: العلم بما يعمل، والعمل بما يعلم، وعلم ما لم يعلم، والعبرة أصلها أول يخشى آخره، وآخر يحقق الزهد في أوله، ولا يصح الاعتبار إلّا لأهل الصفا والبصيرة، قال اللّه عزّ وجلّ: {فَاعْتَبِرُواْ يَٰأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ}(5) وقال جلّ اسمه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(6) فمن فتح

ص: 457


1- سورة الجن، الآية: 1-2.
2- تفسير العياشي 1: 6.
3- مشكاة الأنوار: 57.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 484.
5- سورة الحشر، الآية: 2.
6- سورة الحج، الآية: 46.

اللّه عين قلبه، وبصيرة عينه بالاعتبار فقد أعطاه منزلة رفيعة وزلفة عظيمة»(1).

3- الوعي والتفكر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا قدمت الفكر في جميع أفعالك حسنت عواقبك في كل أمر»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): إن التفكر يدعو إلى البر والعمل به»(3).

وقال(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: نبه بالتفكر قلبك، وجاف عن الليل جنبك، واتق اللّه ربك»(4).

وقال(عليه السلام): «اعتبروا بما مضى من الدنيا، هل بقي على أحد، أو هل فيها باق من الشريف والوضيع والغني والفقير والولي والعدو، فكذلك ما لم يأت منها بما مضى أشبه من الماء بالماء - إلى قال(عليه السلام) - وقال نوح(عليه السلام): وجدت الدنيا كبيت له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر، هذا حال صفي اللّه، كيف حال من اطمأن فيها، وركن إليها، وأضاع عمره في عمارتها، ومزق دينه في طلبها؟! والفكرة مرآة الحسنات، وكفارة السيئات، وضياء القلوب، وفسحة الخلق، وإصابة في صلاح المعاد، واطلاع على العواقب واستزادة في العلم، وهي خصلة لا يعبد اللّه بمثلها قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ولا ينال منزلة التفكر إلّا من خصه اللّه بنور المعرفة والتوحيد»(5).

ص: 458


1- بحار الأنوار 68: 326.
2- عيون الحكم والمواعظ: 136.
3- الكافي 2: 55.
4- الكافي 2: 54.
5- بحار الأنوار 68: 325.
4- التعقل

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «قلبُ ليس فيه شيء من الحكمة كبيت خراب، فتعلّموا وعلّموا وتفقهوا، ولا تموتوا جهالاً؛ فإن اللّه لا يعذر على الجهل»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «للإنسان فضيلتان: عقل ومنطق، فبالعقل يستفيد وبالمنطق يفيد»(2).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) لهشام بن الحكم: «... يا هشام، إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبه ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة، فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق»(4).

ص: 459


1- نهج السعادة 7: 343.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 546.
3- الكافي 1: 18.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 38.

العراق... ماضيه ومستقبله

لا تكن عبد غيرك

اشارة

في ذكرى ولادة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) (1) والتي تصادف الثالث عشر من شهر رجب المرجب نتبرك بذكر كلمة للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) من وصيته لابنه الإمام الحسن(عليه السلام) يقول فيها:

«... ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حرّاً...»(2).

سياسة الغرب

إن من أهم العوامل التي ساعدت الغربيين في السيطرة على العراق المسلم هي إزالة الركائز الأساسية للحرية، وذلك عن طريق استخدام كل وسيلة ممكنة للسيطرة على بلادنا؛ كي نتحول إلى أمة لا وزن لها، تدور في فلكهم بلا إرادة واختيار. ومما ساعده على ذلك غفلة بعض المسلمين وجهلهم.

وحيث لم يكن الغرب قادراً على أن يفعل بنا ما يريده فجأة استخدم الطريقة التدريجية في ما يريد فاستطاع بذكاء أن يجردنا من أسلحتنا واحدة بعد أخرى.

ففي البداية سلب من بعض المسلمين سلاح الفكر والعقيدة، ثم سلبهم سلاح الاقتصاد حيث جعلهم محتاجين إليه، وجعل أزمَّة الأمور الاقتصادية

ص: 460


1- ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ: 9/رجب/ 1411ه في قم المقدسة.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 31 من وصيته(عليه السلام) لابنه الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام).

بيده، ثم سيطر سياسياً، واغتصب منا حتى قطعة الأرض التي نسكن عليها،واحتل المواقع الاستراتيجية كي يسهل عليه ضربنا متى أراد ومتى ما طالبنا بالحرية والاستقلال.

واجبنا تجاه المشاكل

والسؤال الذي يطرح الآن: ما هو واجبنا اتجاه هذه المشاكل التي ابتلي بها المسلمون في العراق؟

من أجل أن نتوصل إلى معرفة الواجبات الملقاة على عاتقنا، لا بد لنا من معرفة مصادر القوة في العراق والتي تعتبر الركائز الأساسية للحرية والاستقلال في كل البلاد الإسلامية.

القوى التي أزالها الغربيون
القوة الأولى: المرجعية الدينية

لقد كانت المرجعية الدينية الجهة صاحبة النفوذ في العراق، وكانت تعتبر الركيزة الرئيسية التي يستند عليها المجتمع العراقي - آنذاك - ، وإني أتذكر جيداً حينما توفي السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله) كان هناك خمسة وعشرون مرجعاً للمسلمين في النجف الأشرف وكلهم كانت لديهم رسائل عملية، وكذلك كان الأمر في كربلاء المقدسة وقد كان منهم المرحوم الوالد(رحمه الله)(1) وغيره.

وكان أغلب أبناء الشيعة في العالم الإسلامي من باكستان والهند وأفغانستان حتى لبنان ودول الخليج وأفريقيا وغيرها من البلدان الإسلامية يرتبطون بأولئك المراجع العظام، ولقد كانت المشاكل المستعصية - مهما كانت حجمها - تحل بيد العلماء وذلك لما يتمتعون من العلم والذكاء والقدرة والنفوذ بين الناس ولذا

ص: 461


1- هو السيد الميرزا مهدي الحسيني الشيرازي(رحمه الله).

كانت للعالم مكانة خاصة في القلوب ويتمتع باحترام كبير من قبل الناس؛ بسببخدمته للناس(1)، وتحركه بينهم فهو كان يشاركهم في كل عمل من الصلاة وإجراء صيغة النكاح ويحضر مناسباتهم في الأفراح والأحزان، فضلاً عن انهم كانوا ينظمون أسس الحياة المجتمعية والعملية في العبادات والمعاملات فقد كان - العلماء الفقهاء - الذخيرة الحية للمؤمنين وكان الناس على علم بأن في طاعة العلماء نيل الحسنات وإزالة السيئات.

فقد جاء عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم إلّا ناداه ربه عزّ وجلّ جلست إلى حبيبي، وعزّتي وجلالي لأسكننك الجنة معه ولا أبالي»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة»(3) فلذا كان العالم يستمد قوته من الشعب وبالتالي كانت الأمة تحصل على الحرية والأمان.

أثر المرجعية في الحرية
اشارة

ومن الشواهد على قوة المرجعية وتأثيرها في الحرية والاستقلال ثورة (التنباك) التي حدثت في إيران.

المجدد الكبير(رحمه الله)

وكان المرجع الأعلى للشيعة المجدد الكبير السيد محمد حسن الشيرازي(رحمه الله) والذي حارب الإمبراطورية العظمى آنذاك بريطانيا عندما أرادوا

ص: 462


1- وفي الرواية الشريفة عن سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام) قال: «اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم اللّه عليكم فلا تملوا النعم فتتحول إلى غيركم» أعلام الدين: 298 وهذا هو الميرزا الكبير الميرزا القمي(رحمه الله) الذي يعتبر من الطبقة المجددة لعلم الأصول يقول: لو علمت أني بعد قليل سأموت لجلست على باب بيتي أقضي حوائج الناس.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 37.
3- الكافي 1: 39.

الدخول إلى إيران باسم تجارة التبغ فأصدر فتواه المعروفة (بتحريم استعمالالدخانيات)(1)

فسبب ذلك اخراجهم من البلاد في قصة مشهورة.

الآخوند الخراساني

وأيضاً هناك شاهد آخر هو الشيخ محمد كاظم الخراساني الآخوند - صاحب الكفاية، والكتب الأخرى التي هي مدار البحث والدرس في الحوزات العلمية من زمانه إلى هذا اليوم - حيث استطاع الآخوند أن يحارب الاستبداد في إيران وأراد إرساء حكم (المشروطة المشروعة) حتى تمكن من طرد الملوكية الجائرة(2).

الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله)

وأيضاً هناك الشيخ محمد تقي الشيرازي الذي أعلن وجوب مطاردة الاستعمار في العراق وشكل أول حكومة إسلامية في العصر الحديث، حارب الإنكليز بالرغم من قوتهم العظيمة آنذاك حتى تمكن من طردهم من العراق وانتزع استقلال العراق منهم بالقسر.

القوة الثانية: الأحزاب الوطنية
اشارة

كان في العراق في ذلك الزمان قوة الأحزاب الوطنية الحرة، حيث كان في العراق أربعة وأربعون حزباً تتمتع بالحرية الشبه تامة، تعمل لإنقاذ البلد من ويلاته ومشكلاته والنهوض به إلى البناء والتقدم، وكانت هذه الأحزاب قد فرضت نفسها على الساحة وأصبحت تتحكم حتى بقرارات الدولة؛ لأن الساحة تمنح الجميع لإبراز قواه وقدراته والاستفادة منها بالشكل الأفضل.

ص: 463


1- والعبارة هذه هي: بسم اللّه الرحمن الرحيم استعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان، ومن استعمله كان كمن حارب الإمام عجل اللّه تعالی فرجه الشريف.
2- ولا يخفى أن الاستعمار دس السم إلى الآخوند(رحمه الله) ولم يمهله الأجل فلبى دعوة ربه الكريم فرحمه اللّه تعالى.

كما أن الدولة - في المقابل - كانت تحسب لهذه الأحزاب حساباً خاصاً،وهكذا كان الأمر في تلك الفئة أو الحزب الذي كان يمسك بزمام الأمور لأنه كان يحذر كل الحذر من باقي الأحزاب التي تعمل على الساحة، فلم يكن يقدم أبداً على أي إجراء يمس كرامة ووجود الشعب بشكل مباشر.

إقالة متصرف

عندما كنت في كربلاء المقدسة وقبل أربعين سنة، دفع أحد الأشخاص إلى متصرف(1) كربلاء في ذلك الوقت كيساً من السكر من أجل إكمال معاملته بشكل سريع - رشوة - ، فعلم بذلك الحزب المنافس لحزب السلطة، وكان وقتها لكل حزب جريدة يومية تصدر آنذاك، فكتبت الجريدة مقالاً فضحت فيه هذا المتصرف على عمله، ووصل الخبر إلى الحكومة، فأرسل وزير الداخلية وراء المتصرف وأحاله إلى التحقيق، وأقيل هذا المتصرف من منصبه بمدة لم تتجاوز الأسبوع من نشر الخبر. مثل هذه الواقعة وأمثالها كانت تنمي قوة الشعب وتبعث الأمان في النفوس وتقوي ركائز الحرية وتعطي للإنسان وجوده وكرامته، لأن المنافسة الحزبية الإيجابية في سبيل البناء تضمن للجميع حرياتهم وحقوقهم.

ومن فوائد وجود الأحزاب الحرة هو حصول حالة من النضج الاجتماعي لدى الناس، وتمييز الغث عن الصحيح، لما كانت الأحزاب صريحة في قضاياها وقضايا الأحزاب الأخرى.

القوة الثالثة: العشائر

العشائر، كان في العراق ما يقارب الألف عشيرة بفروعها، ومن الواضح أن الغالبية العظمى كانت من أبناء العشائر وهم ينتمون إلى هذه العشيرة أو تلك

ص: 464


1- أي: محافظ كربلاء.

سواء أكانت عشيرة صغيرة أم كبيرة.

وكانت هذه هي القوة الثالثة التي أدت إلى الاستقرار في العراق وأرست دعائم الحرية والتي كانت تتنافس في ما بينها في الزراعة والعمارة والتجارة وتقليد المراجع واتباع علماء الدين.

وقد أخذ السيد أبو الحسن(رحمه الله) لما انحصر التقليد به تقريباً في أواخر عصره زمام العشائر كلها بسبب وكلائه ومساعديه من رجال الدين، أمثال: آل الجواهري، وآل بحر العلوم، وآل الشيخ الراضي، وآل الجزائري وغيرهم، وبذلك كانت الحكومة تهابه وتخشاه لما يستند إليه من القدرة العشائرية المتزايدة، وكانوا سند العلماء وسند الحوزات وسند العتبات المقدسة وسند المؤمنين وسند الزوار وسند الاقتصاد، فقد حصل بذلك تكافؤ بين قوة الدولة وقوة الأمة.

وبذلك نستطيع أن نقول إن مراكز القوة في العراق كانت متعددة ولم تكن تجتمع بيد واحدة، الأمر الذي يسبب الاستبداد والفوضى وانعدام الأمن وتزايد الإرهاب والفقر وغير ذلك من مساوئ الاستبداد، حيث كانت عبارة عن:

1- قوة المراجع والحوزات العلمية وهي تمثل سلطة روحية ودينية على الشعب والدولة.

2- قوة الأحزاب السياسية وكانت تمثل قوة الإعلام والجماهير.

3- قوة العشائر وكانت تمثل قوة الشعب العسكرية لأنها كانت مسلحة.

4- قوة الدولة وهي تمثل قوة القانون.

ومن الواضح إن الدولة التي تشهد تعدد القوى والقدرات بشكل واقعي وصحيح ترفل في أفضل أوضاع سياسية واجتماعية حرة.

دسائس الغرب
اشارة

لقد فكر الغربيون كثيراً في إزالة نفوذ هذه القوى الثلاث أو الأربع المهمة.

ص: 465

وذلك لأنهم أدركوا إن حفظ التوازن والتماسك لدى الشعب العراقي مرهونبوجود هذه القوى، كما أدركوا جيداً إنهم لو أرادوا إبعاد الإسلام والتشيع من الساحة السياسية عليهم أن يبدءوا بتضعيف هذه القوى وبالتالي سيصلون إلى نهب ثروات العراق الهائلة.

بداية المؤامرة

بعد أن خطط الاستعمار بدراسة لأوضاع العراق، أوكل التنفيذ لرموزه وأحدث ما يسمى بانقلاب عبد الكريم قاسم(1)،

وكانت بداية هذه المؤامرة على النحو التالي:

لقد أشار الاستعمار إلى حاكم العراق بإصدار قرار يلغي فيه قانون (وقف الذرية)(2)،الذي كان معمولاً به سابقاً في العراق ضمن قوانين البلاد، وبعد إلغاء هذا القانون قام علماء الشيعة في العراق بمعارضته وطالبوا الحكومة بسحب قرار الإلغاء هذا، كما إن العلماء أعلنوا أنهم لا يقفون إلى جانب الدولة في كل قراراتها، لا يستقبلون أي ممثل عن الدولة لو أراد مقابلتهم يوماً ووفقاً لأوامر الاستعمار كانت الدولة وبدلاً من أن تستمع وتطيع أمر المرجعية عمدت إلى توجيه التهم لعلماء الإسلام من أجل تشويه سمعتهم بين الناس، فمثلاً قامت الحكومة بإشاعة خبر كاذب مفاده أن أحد المعممين وجد في أحد البساتين وهو يرتكب جريمة الاعتداء على فتاة.

وإني أتذكر جيداً إن هذا الخبر كيف أذيع من الراديو وبمختلف الفنون الإعلامية المستعملة لتشويه سمعة العلماء وإهانة الحوزات العلمية، في حين لم

ص: 466


1- وقع الانقلاب العسكري لعبد الكريم قاسم عام (1958م) والذي أطاح بالملكية.
2- من القوانين والأحكام الموجودة في الإسلام (كما ذكر الفقهاء): أ: وقف خيري: كبناء المدارس والمستوصفات والبساتين وغيرها. ب: وقف الذرية: وهو أن يوقف الوالد مثلاً ملكاً عيناً أو منفعة وما أشبه لكل الذرية التي بعده جيلاً بعد جيل.

يحظ هذا الخبر بأدنى مرتبة من الصحة.

وعلى أثر ذلك قامت الحوزات العلمية المباركة من أساتذة وطلاب وخطباء إلى جانب الشعب بتظاهرات واعتصامات اعتراضاً على إجراءات الدولة المعادية.

التخطيط لهدم الأحزاب

أما قرار الدولة تجاه القوة الثانية (الأحزاب) فقد خططت لإنهاء عمل الأحزاب والتخلص من خطرها؛ لأن الدولة كانت تتصور إن المحرك لتلك الاعتصامات هي الأحزاب، وبعد أن بلغت التظاهرات أوجهاً قام الغربيون بإعطاء الضوء الأخضر إلى عبد الكريم قاسم الذي قام بدوره بانقلاب 14 تموز وعندئذٍ وصلت قوة الإسلاميين وكذلك الأحزاب الوطنية إلى أدنى مستوى لها.

العشائر وسقوطها

ظلت القوة الوحيدة من تلك القوى التي لم تتعرض بعد إلى ضربة مباشرة هي قوة العشائر، ومعلوم ان العشائر العراقية الشريفة كانت على قدر كبير من الأهمية وذلك لسببين:

الأول: لأن قطاع الزراعة الذي يشكل قسماً كبيراً من اقتصاد العراق كان بيد هذه الشريحة من الشعب.

الثاني: إن أفراد العشائر كانوا يمتلكون السلاح مما جعل الحكومة تبتعد عن الاصطدام بهم إلى حين.

وبعد مدة قصيرة استطاعت الحكومة أن تحكم قبضتها على الزراعة من خلال قانون الإصلاح الزراعي(1) المزعوم، وكذلك أجبرت العشائر على خلع السلاح

ص: 467


1- للتفصيل راجع الكتب الاقتصادية لسماحة الإمام الشيرازي(رحمه الله)، والإصلاح الزراعي لآية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله).

بخدع وأباطيل ملتوية، وبهذا العمل تمكنت الدولة أن تضعف دور هذه القوىالمهمة في سياسة العراق، العلماء والعشائر والأحزاب السياسية وتستبد بالأمور.

كيف سقطت العشائر؟

عندما جاء عبد الكريم قاسم وبأمرٍ من أسياده المستعمرين البريطانيين فرّق العشائر وجعل التضارب بين الرؤساء والمرؤوسين وقام بسحب السلاح منهم، فقد جمع من سلاح العشائر في مدة قليلة مليون قطعة في قصةٍ معروفةٍ مما سبب سقوط السلاح من يد الأمة وسقوط قوة العشائر من يد المراجع والعلماء، وبذلك اختلف ميزان القوى وصارت القوة كلها بيد الدولة تفعل ما تشاء بأمر الأسياد البريطانيين، وهكذا استمرت المؤامرة بمجيء حزب البعث إلى الحكم وبمساعدة بريطانيا وإسرائيل وأمريكا مجتمعين.

مستقبل العراق
اشارة

تشير الظواهر(1) إلى أن أوضاع العراق السياسية مقبلة على تغيرات سياسية جديدة وإن حزب البعث لا يبقى طويلاً على السلطة.

وإذا أراد شيعة العالم وعلمائهم الأعلام وبالخصوص شيعة وعلماء العراق (أيدهم اللّه تعالى) أن يساهموا في إعادة التوازن الذي اختل منذ الخمس والثلاثين سنة الماضية إلى العراق، فعليهم أن يقدموا على عملين أساسيين:

أ: إعادة القوى السياسية التي كانت تعمل على الساحة العراقية قبل (35سنة)، وهي المرجعية والتعددية الحزبية والعشائر.

ب: أن تكون الحكومة المستقبلية لحكومة العراق حكومة شيعية (100%) وذلك نظراً للأكثرية أما الآخرون فلهم حقوقهم المشروعة فان (85%) من

ص: 468


1- بل هذه هي سنة الحياة التي جرى الكون عليها وبهذه الحقيقة تشير الآيات المباركة والروايات.

مجموع الشعب العراقي هم من الشيعة الإثنى عشرية، أما البقية الباقية منالشعب فهم من أهل السنة وغيرهم، أي أن هناك (12%) من السنة، و(3%) من الأديان الأخرى، وإن هذه الإحصاءات هي رسمية وقد صرح بها مدير عام دائرة الأحوال المدنية والنفوس أيام رئاسة عبد السلام عارف(1).

فالحق القانوني والعقلي والشرعي يفرض أن تكون الحكومة القادمة في العراق شيعية مع منح باقي الطوائف والأقليات حقوقهم في الحكم والنظام السياسي بحسب نسبتهم من الشعب.

ولا يخفى أن هناك ثلاثة ملايين من الشيعة أخرجوا من العراق ظلماً وزوراً فالواجب إعادتهم إلى ديارهم.

طلاب العلوم الدينية

إن من المهمات الأولية للمشتغلين بعلوم الدين (حفظهم اللّه تعالى) هو الاهتمام بتقوية ارتباطهم باللّه سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن الناس يقتدون بالعلماء ويعتقدون بنزاهتهم وإخلاصهم وتقواهم ولذلك يتخذونهم قدوة لهم.

وثم من بعدها الدخول بين الناس والسعي لتربيتهم ولتهذيبهم وتوعيتهم وإرشادهم نحو مبادئ الإسلام.

إن من عوامل استقرار العراق وانتصاره ضد الاستعمار البريطاني في ثورة العشرين هو اتباع الناس للمرجعية والعلماء آنذاك وبقيادة الإمام الشيرازي(رحمه الله)(2) إذ كان(رحمه الله) معروفاً بين الناس والعلماء بصفات عديدة منها: العلم، والحلم والزهد والتقوى والورع وأخلاقه الاجتماعية من المداراة وحسن

ص: 469


1- رئيس الجمهورية عام (1963- 1966م).
2- الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين.

الخلق وما أشبه وتدبيره للأمور.

فان هذه العوامل هي التي سببت حبّ الناس له حباً منقطع النظير واتخاذه قدوة لهم، فاستطاع الإمام(رحمه الله) بذلك أن يطرد الاستعمار البريطاني من العراق، نعم، من الواجب على طلاب العلوم الدينية أن يكونوا بين الناس بهذه الأخلاق لبناء المستقبل القائم على أساس الحرية والسلام.

الناس وعلماء الدين

حدث مرة في إحدى المدن العراقية أن أودعت السلطة واحداً من رجال الدين السجن وطلبوا من الناس أن يتبرءوا منه إلّا أن الناس رفضوا ذلك، وكلما أصرت الحكومة على الشعب لكي يعلن البراءة منه لم تتمكن، وأخيراً سألت الحكومة بعض الناس عن سبب هذه العلاقة بين الناس وبين العلماء، فقال لهم الناس: نحن في كل لحظة من حياتنا اليومية نتذكر هذا العالم ونتذكر فضله علينا، ولذلك فإننا لا نتخلى عنه ما دمنا أحياءً.

وهنا ما هو واجب علماء الدين مقابل هذا الشعور النبيل؟

إن واجبهم هو أن يطّلعوا على مشاكل الناس ويتحسسوا همومهم ويفكّروا في إيجاد الحلول لها وقضاء حوائجهم، لأن العلماء كما عبّر عنهم رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا طمست أوشك أن تضل الهداة»(1).

والاقتداء بالعلماء نابع من إقتدائهم بمسيرة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام)(2) في مشاركة الناس همومهم وقضاء حوائجهم. فعن أبي الطفيل قال: رأيت

ص: 470


1- بحار الأنوار 2: 25.
2- وفي الرواية عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «ان العلماء ورثة الأنبياء...»، الكافي 1: 32.

علياً(عليه السلام) يدعو اليتامى فيطعمهم العسل، حتى قال بعض أصحابه: لوددت إنيكنت يتيماً(1).

وعن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) عندكم بالكوفة يغتدي في كل يوم من القصر فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرة على عاتقه وكان لها طرفان وكان تسمى السببية.

قال: فيقف على أهل كل سوق فينادي فيهم: يا معشر التجار، قدموا الاستخارة وتبركوا بالسهولة واقتربوا من المبتاعين وتزينوا بالحلم وتناهوا عن اليمين وجانبوا الكذب وتجافوا عن الظلم وانصفوا المظلومين ولا تقربوا الربا وأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، قال: فيطوف في جميع الأسواق، أسواق الكوفة ثم يرجع فقعد للناس.

قال: وكان إذا نظروا إليه قد أقبل إليهم وقال: يا معشر الناس، أمسكوا أيديهم وأصغوا إليه بآذانهم ورمقوه بأعينهم حتى يفرغ(عليه السلام) من كلامه، فإذا فرغ، قالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلّا ناداه اللّه تبارك وتعالى: عليّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة»(3).

قيمة التفكر
اشارة

جاء في الروايات الشريفة عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ولا ينال منزلة التفكر إلّا من قد خصه اللّه بنور المعرفة والتوحيد»(4)

ص: 471


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 75.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 197.
3- الكافي 2: 194.
4- بحار الأنوار 68: 326.

أو: «سبعين سنة»(1).

وربما يقال: إن سبعين سنة هي الأقرب للصحة، لما ورد في القرآن الحكيم حينما خاطب الباري عزّ وجلّ رسوله الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) قائلاً: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}(2)، والمقارنة هنا بين الحديث والآية ليس من حيث الوضع والمعنى، وإنما هي مقارنة عددية لا غير. ولكن يمكن الجمع بين الروايتين بأن للتفكير درجات على حسب نوعيته وعمقه... ومن هنا كان التفاوت في قيمته أيضاً.

كان حرملة بن كاهل الأسدي (عليه اللعنة)، وحبيب بن مظاهر الأسدي (رضوان اللّه تعالى عليه) من قبيلة واحدة هي قبيلة بني أسد، والإثنان قد شاركا في معركة الطف يوم عاشوراء، إلّا أن أحدهم وهو حبيب بن مظاهر (رضوان اللّه تعالى عليه) كان مع جيش الإمام الحسين(عليه السلام)، في حين كان حرملة إلى جانب معسكر عمر بن سعد (عليهم اللعنة)، والسؤال هنا هو كيف اتخذ كل من هذين الشخصين موقفه الخاص من قضية واحدة؟ - علماً بأنهم من قبيلة واحدة ومن مدينة واحدة هي الكوفة - .

الجواب: إن نظرتهم قبال تلك القضية كانت مختلفة، بسبب وعيهم وتفكرهم، حيث إن أحدهم فكّر في أمر الدنيا والآخرة وعواقب الأمور فعرف الحق واتبعه فساقه إلى الجنة، وإن الآخر تفكر بأمر الدنيا وملذاتها ونسي اللّه تعالى والآخرة، فعرف الباطل وساقه فكره إلى النار، فيتبين لنا من هذا الأمر قيمة التفكر الصحيح وإتباع الحق أينما كان، قال اللّه تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ

ص: 472


1- عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «ساعة من العالم متكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العباد سبعين عاماً...»، انظر: الصراط المستقيم 3: 53.
2- سورة التوبة، الآية: 80.

الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَٰطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(1).

وعن أحد الصحابة قال: سألت أبو عبد اللّه(عليه السلام) عما يروي الناس: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكر؟

قال(عليه السلام): «يمر بالخربة أو بالدار فيقول أين ساكنوك أين بانوك مالك لا تتكلمين»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ان التفكر يدعو إلى البرّ والعمل به»(3).

الميرزا صادق التبريزي

الميرزا صادق التبريزي(رحمه الله)(4)

كان الميرزا صادق التبريزي(رحمه الله) أحد علماء تبريز، وكان دائماً يواجه رضا خان ويدافع عن المظلومين وحلّ مشاكل الناس بسبب نضجه الفكري وبالتالي أبعده رضا خان إلى مدينة قم.

وبعد أن وصل إلى قم سكن في بيت متواضع جداً، وبقي فيه حتى رحل من دار الدنيا، ومما يذكر عن حياته(رحمه الله)، إن رضا خان أراد يوماً أن يأتي إلى قم لزيارته فأمر وزيره (تيمور تاش) - وكان جلاداً معروفاً آنذاك - أن يخبر الميرزا صادق التبريزي(رحمه الله) برغبة رضا خان هذه، وعندما جاء (تيمور تاش) وأخبر الميرزا التبريزي بذلك رفض ولم يقبل، وكيف يقبل وقد كان يقاوم رضا خان ويقارعه زمن طويل، وكلّما حاول (تيمور تاش) أن يقنع الميرزا صادق التبريزيبقبول الزيارة لم يجد منه أية استجابة، أخيراً قال له: إنك تتخذ لنفسك خصماً

ص: 473


1- سورة سبأ، الآية: 6.
2- الكافي 2: 54.
3- الكافي 2: 55.
4- هو السيد صادق بن السيد محمد بن السيد عبد اللّه الطباطبائي التبريزي، عالم فاضل له آثار منها (مجالس الموحدين).

يخافه كل الناس وقد يقتلك لو أصررت على رأيك!!

لكن صلابة الميرزا التبريزي(رحمه الله) لم تتبدل ولم يخضع للإرهاب، فقال: إني لن أقبل حضور رضا خان عندي مهما كلف الأمر وإني لا أكترث لما سيفعله رضا خان مطلقاً.

نعم، إن موقف الميرزا لم يتبدل حتى بالتهديد. لأنه كان يعلم بأن ولاية الحاكم الظالم حرام فهو توصل إلى ذلك الموقف الثابت من خلال فكره وإخلاصه لأمته وارتباطه بالملك الأعلى تبارك وتعالى، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «وأما وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته... والعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام ومحرّم معذب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير؛ لأن كل شيء من جهة المعونة معصية كبيرة من الكبائر وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دوس الحق كله، وإحياء الباطل كله، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب وقتل الأنبياء والمؤمنين وهدم المساجد وتبديل سنة اللّه وشرائعه...»(1).

القاضي الذي يخاف اللّه

لقد كان (وصيف) و(بغا الصغير)(2) شخصين من تركمنستان، وقد قاما بإدارة الدولة إلى جانب الخليفة العباسي (المتوكل)، الذي كان منشغلاً دائماً بوسائل اللّهو المختلفة وقد قال الشاعر:

خليفة في قفص بين وصيف وبغا *** يقول ما قالا له كما يقول الببغا

كان لبغا بستان كبير والى جانبه بيت لطفل يتيم، وكان هذا البيت يمنع من

ص: 474


1- تحف العقول: 332.
2- قائد تركي قاد حملة حربية على ثوار آذربيجان في عهد المتوكل، تآمر على المتوكل واغتاله، أصبح الآمر الناهي مع زميله (وصيف) في عهد المنتصر والمستعين، وقتله الخليفة المعتز.

إخراج أحد أضلاع البستان بشكل هندسي، فقال (بغا) لخادمه يوماً أن يذهب ويقول للقاضي أن يشتري له هذا البيت من ذلك الطفل اليتيم مهما كان الثمن، فراح الخادم إلى القاضي وأبلغه أمر بغا، ولما كان القاضي من الذين يخافون اللّه كان جوابه: إني لا أرى صلاحاً في بيع بيت هذا الطفل اليتيم، فقال الخادم للقاضي: ويلك يا قاضي إنه (بغا). فقال القاضي: هذا صحيح إلّا إنني أخاف من اللّه لا من (بغا).

فرجع الخادم ونقل ما دار بالتفصيل لبغا، فارتعش بغا من هذا الكلام وردد هذه الكلمات على لسانه: إنه اللّه، إنه اللّه، عدة مرات ورجع برأيه عن شراء البيت.

نعم، إن هذا القاضي كان عالماً باللّه تعالى ويخافه دون غيره فكان موقفه على قدر علمه، وقد قال تعالى في كتابه الحكيم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من عرف اللّه خاف اللّه ومن خاف اللّه سخت نفسه عن الدنيا»(2).

ومخافة اللّه لم تكن عند (بغا) لأنه ربط مصيره بالعباسيين الذي غرقوا في ملذاتهم وقتلوا الأئمة الأطهار(عليهم السلام) فظلموا الناس وجاروا عليهم ولم يخافوا اللّه تعالى في ذلك.

عاقبة الذين لا يخافون اللّه

خرج الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام) إلى مكة حاجاً حتى انتهى إلى واد بين مكة والمدينة فإذا هو برجل يقطع الطريق، قال: فقال لعلي(عليه السلام): انزل. قال(عليه السلام): «تريدماذا؟» قال: أريد أن أقتلك وآخذ ما معك. قال: «فأنا أقاسمك ما معي وأحلك»

ص: 475


1- سورة فاطر، الآية: 28.
2- الكافي 2: 68.

قال: فقال اللص: لا. فقال(عليه السلام): «دع معي ما أتبلغ به» فأبى عليه، قال(عليه السلام): «فأين ربك؟» قال: نائم، قال: فإذا أسدان مقبلان بين يديه فأخذ هذا برأسه وهذا برجليه، قال: فقال: «زعمت أن ربك عنك نائم»(1).

في أيام عبد الكريم قاسم ذهب صديق لي إلى أحد الوزراء يراجعه في قضية، وفي الأثناء نهاه عن عمل حرام قد ارتكبه - أي الوزير - حيث قال له صديقنا: اتق اللّه، فكان جواب الوزير: إن اللّه ذهب ب(إجازة)، وعندما عاد هذا الصديق ونقل لي ما دار بينه وبين الوزير وذكر لي جواب الوزير، أنشدت قصيدة عنوانها (في بلادي) وقد ضمنتها ذلك الموقف في بيت أو بيتين:

في بلادي في بلادي حيث أحزاب مجازة *** يصرخ القائل اللّه تعالى في إجازة

ثم كانت نهاية هذا الوزير بعد مدة الإعدام على يد السلطة وبنهاية فجيعة، وهذه عاقبة من لا يخاف اللّه، نعم فإن اللّه بالمرصاد فانه تعالى ليس بنائم وليس في إجازة كما توهمه.

وقد أشار إلى ذلك الإمام الصادق(عليه السلام) بقوله لإسحاق بن عمار: «يا إسحاق، خف اللّه كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى إنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم إنه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك»(2).

تهيئة الأسباب
اشارة

وبعد كل ما قدمناه من لمحات لتاريخ العراق المسلم ومصادرة حريته من

ص: 476


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 673.
2- الكافي 2: 68.

قبل الغرب وأعوانه، وبيّنا شيئاً من مسؤولية العلماء والناس أمام هذه المحنة مستقبلاً، فلا بد لنا من تعيين وظيفتنا في الوقت الحاضر ونحن خارج العراق حيث اللازم بذل الجهد في مسألتين مهمتين وهما:

1- التوعية

المسألة الأولى: التركيز على التبليغ والتوعية لإيصال كلمة الحق لكافة شرائح المجتمع وعلى نطاق واسع، والتفكير في كل شيء وهذا من واجبات كل العاملين في حقل علوم الدين؛ من أجل تهيئة الأسباب بشكل متكامل ورصين وإرساء دعائم الحرية التي سلبت وإظهارها للناس، وتوضيح الأهداف لئلا نقع ثانية في حبائل المكيدة التي نسجت من قبل.

2- الدعاء

المسألة الثانية: إن اللّه وراء كل أمور الدنيا لأنه بيده كل شيء، لذا فإنه تعالى يقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}(1).

وأحد الأمور التي كلفنا بها اللّه تبارك وتعالى هو الدعاء حيث قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(2).

وقال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}(3).

ولكن يجب أن يكون دعاؤنا حقيقياً يحضره القلب وتتوحّد فيه النفوس، لأناللّه تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(4).

ص: 477


1- سورة ق، الآية: 16.
2- سورة البقرة، الآية: 186.
3- سورة البقرة، الآية: 152.
4- سورة الرعد، الآية: 11.

فقد جاء عن سليمان بن عبد اللّه قال: كنت عند أبي الحسن موسى(عليه السلام) قاعداً فأتي بامرأة قد صار وجهها قفاها فوضع يده اليمنى في جبينها ويده اليسرى من خلف ذلك ثم عصر وجهها عن اليمين ثم قال: «{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}» فرجع وجهها فقال(عليه السلام): «احذري أن تفعلين كما فعلت».

قالوا: يا بن رسول اللّه وما فعلت؟ فقال: «ذلك مستور إلّا أن تتكلم به».

فسألوها فقالت: كانت لي ضرة فقمت أصلي فظننت أن زوجي معها فالتفت إليها فرأيتها قاعدة وليس هو معها، فرجع وجهها على ما كان(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه لم يعط ليأخذ، ولو أنعم على قوم ما أنعم وبقوا ما بقي الليل والنهار ما سلبهم تلك النعم وهم له شاكرون، إلّا أن يتحولوا من شكر إلى كفر ومن طاعة إلى معصية وذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}»(2)(3).

والإنسان لو أراد أن يطلب حاجته فعليه أن يقف بين يدي اللّه بسلامة قلب وبقلب حاضر، ويقف بساحة رحمة اللّه راجياً طالباً حاجته، لا أن يكتفي بلقلقة اللسان وإظهار بعض الكلمات من دون أن يدرك عمقها ومغزاها، كما أن على الإنسان إذا اراد قضاء حاجته لا ينسى التوسل بالأئمة الأطهار لأنهم(عليهم السلام) الوسيلة إلى اللّه تعالى، واللّه تعالى يقول: {وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}(4).

فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الأئمة من ولد الحسين(عليه السلام) من أطاعهم فقد أطاع اللّه ومن عصاهم فقد عصى اللّه عزّ وجلّ هم العروة الوثقى وهم الوسيلة إلى

ص: 478


1- تفسير العياشي 2: 205.
2- سورة الرعد، الآية: 11.
3- إرشاد القلوب 1: 31.
4- سورة المائدة، الآية: 35.

اللّه عزّ وجلّ»(1).

وبالعمل وفق هاتين المسألتين بشرطها وشروطها وبنية خالصة للّه تعالى لا شائبة فيها يأتي الفرج وهو قريب إن شاء اللّه، وسيكون انتصارنا بتحرير العراق من طغاته بداية الانتشار الإسلامي، وإرساء حكومة المليار ونصف المليار مسلم(2) إن شاء اللّه تعالى، وسيكون إحياءنا لهذه الذكرى العظيمة وهي ولادة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) إن شاء اللّه في السنوات القادمة تحت قبة سيدنا ومولانا الإمام الحسين(عليه السلام) كما كان متبعاً في مثل هذه الذكرى قبل عدة سنوات(3).

«اللّهم إني أسألك بحق محمد نبيك ونجيبك وصفوتك وأمينك ورسولك إلى خلقك وبحق أمير المؤمنين ويعسوب الدين وقائد الغر المحجلين الوصي الوفي والصدّيق الأكبر والفاروق الأعظم بين الحق والباطل والشاهد لك والدال عليك والصادع بأمرك والمجاهد في سبيلك، لم تأخذه فيك لومة لائم أن تصلي على محمد وآل محمد»(4).

من هدي القرآن الحكيم

اشارة

من يقودنا إلى النجاة؟

1- التوكل على اللّه

قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ}(5).

ص: 479


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 58.
2- الإحصاءات الأخيرة تذكر أن عدد المسلمين بلغ المليارين مسلم.
3- حيث كان يحتفل بهذه المناسبة المباركة في كربلاء المقدسة وتتزين المدينة بأبهى حلة ويقام فيها مهرجان كبير تحضره شخصيات دينية وعلمية ورجال الدولة.
4- إقبال الأعمال 1: 493.
5- سورة الطلاق، الآية: 3.

وقال عزّ وجلّ: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا}(1).

وقال سبحانه: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ وَفَضْلٖ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا}(3).

3- العلماء

قال تعالى: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {أُوْلَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(5).

وقال سبحانه: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَا بِالْقِسْطِ}(7).

4- لزوم التقوى

قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِوَالْأَرْضِ}(8).

ص: 480


1- سورة النساء، الآية: 45.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة النساء، الآية: 175.
4- سورة الأنبياء، الآية: 73.
5- سورة البقرة، الآية: 5.
6- سورة التوبة، الآية: 122.
7- سورة آل عمران، الآية: 18.
8- سورة الأعراف، الآية: 96.

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَئَِّاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}(1).

وقال سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}(4).

5- التفكير في كل شيء

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا}(5).

قال عزّ وجلّ: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(6).

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَٰبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(7).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}(8).

ص: 481


1- سورة الطلاق، الآية: 5.
2- سورة الطلاق، الآية: 2- 3.
3- سورة الأعراف، الآية: 128.
4- سورة الطلاق، الآية: 4.
5- سورة آل عمران، الآية: 190-191.
6- سورة الجاثية، الآية: 13.
7- سورة النحل، الآية: 10-11.
8- سورة الأنعام، الآية: 50.
6- الدعاء

قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(2).

وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}(4).

7- التحرر من العبودية لغير اللّه

قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّا هَدَيْنَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(6).

وقال سبحانه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

اشارة

من يقودنا إلى النجاة؟

1- التوكل على اللّه

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في وصية لأبي ذر(رحمه الله): «يا أبا ذر، إن سرك أن تكون أقوى

ص: 482


1- سورة الفرقان، الآية: 77.
2- سورة غافر، الآية: 60.
3- سورة البقرة، الآية: 186.
4- سورة الأعراف، الآية: 56.
5- سورة يونس، الآية: 99.
6- سورة الإنسان، الآية: 3.
7- سورة الكهف، الآية: 29.

الناس فتوكل على اللّه...»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من توكل على اللّه ذلت له الصعاب وتسهّلت عليه الأسباب وتبوأ الخفض والكرامة»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «من توكل على اللّه لا يغلب ومن اعتصم باللّه لا يهزم»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من توكل على اللّه أضاءت له الشبهات وكفي المؤونات وأمن التبعات»(4).

2- طاعة العلماء

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، فاذا طمست أوشك أن تضل الهداة»(5).

وقال أبي عبد اللّه(عليه السلام): «إن العلماء ورثة الأنبياء»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اعملوا ان صحبة العالم واتباعه دين يدان اللّه به وطاعته مكسبة للحسنات، ممحات للسيئات، وذخيرة للمؤمنين، ورفعة فيهم في حياتهم وجميل بعد مماتهم»(7).

3- لزوم التقوى

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أوصيك بتقوى اللّه فانه رأس أمرك كله»(8).

ص: 483


1- مكارم الأخلاق: 468.
2- عيون الحكم والمواعظ: 426.
3- جامع الأخبار: 118.
4- عيون الحكم والمواعظ: 463.
5- منية المريد: 104.
6- الكافي 1: 32.
7- الكافي 1: 188.
8- الأمالي للشيخ الطوسي: 541.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من اتقى اللّه سبحانه جعل له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، فان التقوى أفضل كنز وأحرز حرز وأعز عزّ، فيه نجاة كل هارب، ودرك كل طالب، وظفر كل غالب»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم، عباد اللّه، بتقوى اللّه وطاعته، فإنها النجاة غداً، والمنجاة أبداً»(3).

4- التفكر في كل شيء

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فكر ساعة خير من عبادة سنة»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن التفكر يدعو إلى البر والعمل به»(5).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «لكل شيء دليل ودليل العاقل التفكر»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا لَوَّحْتَ الفكر في جميع أفعالك حسنت عواقبك في كل أمر»(7).

5- الدعاء

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات

ص: 484


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 642.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 88.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 161، من خطبة له(عليه السلام) في صفة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) وأتباع دينه.
4- عوالي اللئالي 2: 57.
5- الكافي 2: 55.
6- تحف العقول: 386.
7- مستدرك الوسائل 11: 308.

والأرض»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الدعاء مفتاح الرحمة ومصباح الظلمة»(2).

وقال(عليه السلام): «الدعاء مفاتيح النجاح، ومقاليد الفلاح وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «عليكم بسلاح الأنبياء»، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: «الدعاء»(4).

6- التحرير من العبودية لغير اللّه

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس ان آدم لم يلد عبداً ولا أمة وإن الناس كلهم أحرار»(5).

وقال(عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ان صاحب الدِين فكر فَعَلَتْه السكينة، ... ورفض الشهوات، فصار حراً...»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحر حر وإن مسه الضر، العبد عبد وإن ساعدهالقَدَر»(8).

ص: 485


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 37.
2- الدعوات للراوندي: 284.
3- الكافي 2: 468.
4- الكافي 2: 468.
5- الكافي 8: 69.
6- نهج البلاغة، الرسائل الرقم: 31، وصيته(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام).
7- الأمالي للشيخ المفيد: 52.
8- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 71.

العقل رقي الإنسان

العقل ورعاية الحقوق

اشارة

قال الإمام السجاد(عليه السلام) في رسالته المعروفة برسالة الحقوق: «اعلم رحمك اللّه، أن للّه عليك حقوقاً محيطةً بك، في كل حركة تحركتها، أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلّبتها، وآلة تصرفت بها، بعضها أكبر من بعض، وأكبر حقوق اللّه عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق، ومنه تفرع، ثم أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك...»(1).

إن اللّه عزّ وجلّ ميّز الإنسان عن سائر الخلق بعقله، وجعل العقل سبباً لرقيه.

ومما يدل العقل عليه، ضرورة رعاية الحقوق.

فإن لكل إنسان يعيش في أي مجتمع حقوقاً على الآخرين، كما أن لهم حقوقاً عليه أيضاً، فمن حيث كونه أباً - مثلاً - فله حق على أبنائه، ومن حيث كونه إبناً - مثلاً - فعليه رعاية حق والديه، وهكذا بقية الأنساب والأسباب وما أشبه، مما يدل على أن الحقوق في الإسلام متقابلة، ولأجل أن يكون الإنسان باراً وفياً أميناً لا عاقاً ولا خائناً ولا جاحداً، عليه أن يعرف ما له وما عليه من الحقوق، يلزم عليه أن يقوم بمراعاتها وأدائها.

ص: 486


1- تحف العقول: 255.

وقد ذكر الامام السجاد(عليه السلام) هذه الحقوق واحداً واحداً، بحيث يتضح منها ما للإنسان وما عليه من الحقوق المتقابلة، حتى يعمّ تقابل الحقوق بين العبد وربه أيضاً، كما جاء في تعبيره(عليه السلام):

«... فجعل لبصرك عليك حقاً، ولسمعك عليك حقاً، وللسانك عليك حقاً، ولِيَدك عليك حقاً، ولرِجلك عليك حقاً، ولبطنك عليك حقاً، ولفرجك عليك حقاً، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال، ثم جعل عزّ وجلّ لأفعالك عليك حقوقاً، فجعل لصلاتك عليك حقاً، ولصومك عليك حقاً، ولصدقتك عليك حقاً، ولهديك عليك حقاً، ولأفعالك عليك حقاً، ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك، وأوجبها عليك حقوق أئمتك، ثم حقوق رعيتك، ثم حقوق رحمك، فهذه حقوق يتشعب منها حقوق، فحقوق أئمتك ثلاثة: أوجبها عليك حق سائسك(1) بالسلطان، ثم سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك، وكل سائس إمام، وحقوق رعيتك ثلاثة: أوجبها عليك حق رعيتك بالسلطان، ثم حق رعيتك بالعلم، فإن الجاهل رعية العالم، وحق رعيتك بالملك من الأزواج وما ملكت من الأيمان، وحقوق رحمك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة، فأوجبها عليك حق أمك، ثم حق أبيك، ثم حق ولدك، ثم حق أخيك، ثم الأقرب فالأقرب، والأول فالأول، ثم حق مولاك المنعم عليك، ثم حق مولاك الجارية نعمتُك عليه، ثم حق ذي المعروف لديك، ثم حق مؤذنك بالصلاة، ثم حق إمامك في صلاتك، ثم حق جليسك، ثم حق جارك، ثم حق صاحبك، ثم حق شريكك، ثم حق مالك، ثم حق غريمك الذي تطالبه، ثم حق غريمك الذي يطالبك، ثم حق خليطك، ثم حق خصمك المدعي عليك، ثم

ص: 487


1- السائس: القائم بأمرٍ والمدبر له.

حق خصمك الذي تدعي عليه، ثم حق مستشيرك، ثم حق المشير عليك، ثم حق مستنصحك، ثم حق الناصح لك، ثم حق من هو أكبر منك، ثم حق من هو أصغر منك، ثم حق سائلك، ثم حق من سألته، ثم حق من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل، أو مسرة بذلك بقول أو فعل عن تعمد منه أو غير تعمد منه، ثم حق أهل ملتك عامةً، ثم حق أهل الذمة، ثم الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال وتصرف الأسباب، فطوبى لمن أعانه اللّه على قضاء ما أوجب عليه من حقوقه، ووفقه وسدده.

فأما حق اللّه الأكبر: فإنك تعبده لا تشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحب منها.

وأما حق نفسك عليك: فأن تستوفيها في طاعة اللّه، فتؤدي إلى لسانك حقه، وإلى سمعك حقه، وإلى بصرك حقه، وإلى يدك حقها، وإلى رجلك حقها، وإلى بطنك حقه، وإلى فرجك حقه، وتستعين باللّه على ذلك.

وأما حق اللسان: فإكرامه عن الخنا، وتعويده على الخير، وحمله على الأدب، وإجمامه إلّا لموضع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا، وإعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة، التي لا يؤمن ضررها مع قلة عائدتها، ويعد شاهد العقل والدليل عليه وتزين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه، ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم»(1).

نعم، هذه هي الشريعة الإسلامية التي تريد كمال الإنسان وسعادته، وأن يستفيد من عقله لكي يرقى ويتقدم، فهي تحثه على رعاية الآداب الاجتماعيةواكتساب الفضائل الأخلاقية من جانب، وتنبهه إلى رعاية حقوقه الشخصية،

ص: 488


1- تحف العقول: 255.

وتذكره بأن لبدنه عليه حقاً من جانب آخر.

وهذا يعني أن الإنسان موجود ذو بعدين: روح وجسم، عقل وشهوة، فهو مزيج من الروحانيات والجسمانيات، ومن المعنويات والماديات، فالمعنويات تسمو بالروح وتعرج بالإنسان نحو نيل المحاسن والمكارم، وأداء الحقوق والواجبات، وكسب الاخلاق والآداب، من الحلم والعفو، ولين الجانب وحسن العشرة، وغيرها. بينما الماديات لا تسمو بالجسم لو أفرط فيها، وتهبط بالإنسان إلى مستوى إشباع الغرائز من الأكل والشرب والنوم والجماع وغيرها. فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، وإن القلوب تموت كالزرع إذا كثر عليه الماء»(1).

في الإفراط والتفريط تضييع الحقوق

إن الماديات والشهوات من طبيعتها أن تجر الإنسان عادة إلى التسافل، وتدعوه إلى التخلي عن الفضائل، وتهبط به إلى ترك الحقوق والواجبات، إلّا إذا تعامل معها بنحو من الاعتدال والتوازن.

فإذا لم يراع في تناول الماديات العقل، ولم يلاحظ الاقتصاد والتوسط، والاتزان والتعادل، فإنها تكون مهلكة للإنسان؛ فربما تجره إلى اقتراف المعاصي والذنوب، وهتك الحقوق والفرائض، نتيجة سعيه غير المشروع في تناول بعض الأمور المادية، واتباع بعض الأهواء النفسانية، وما أكثر هذا الصنف من الناس؛ فإن من أبرز مواطن الضعف عند الإنسان عدم اعتداله في الأمور المادية، والأهواء النفسانية، الأمر الذي يوقعه إما في الإفراط أو التفريط.

فالإنسان غير المتوازن في طريقة تمتعه بالطيبات والاستفادة من الماديات لا

ص: 489


1- روضة الواعظين 2: 457.

شك أنه سيقع فريسة الشهوة إذا ما تغلبت عليه، فيكون مضيعاً للحقوق تاركاً للواجبات، شرهاً في الأكل والشرب والنوم والسكن والجماع والملبس، ونحو ذلك. والإنسان غير المتوازن في غضبه وطريقة استخدامه للقوة الغضبية، لا شك في أنه يضيّع الحقوق والواجبات التي عليه للآخرين، لأنه قد يغلب عليه غضبه فيظلم نفسه وأهله ومجتمعه.

هذا وقد تواترت الروايات الشريفة التي توجه المسلم الواعي إلى الاتزان في كل تفاصيل حياته، فإن الاتزان ثمرة العقل وهو سبب الرقي في حياة الإنسان.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) سأل سبحانه ربه ليلة المعراج؟ فقال: يا رب أي الأعمال أفضل»؟

- إلى أن قال - : قال: «يا أحمد، وعزّتي وجلالي، ما من عبد ضمن لي بأربع خصال إلّا أدخلته الجنة: يطوي لسانه فلا يفتحه إلّا بما يعنيه، ويحفظ قلبه من الوسواس، ويحفظ علمي ونظري إليه، ويكون قرة عينيه الجوع. يا أحمد، لو ذقت حلاوة الجوع والصمت والخلوة وما ورثوا منها.

قال: يا رب، ما ميراث الجوع؟

قال: الحكمة، وحفظ القلب، والتقرب إليّ، والحزن الدائم، وخفة المئونة بين الناس، وقول الحق، ولا يبالي عاش بيسر أو بعسر. يا أحمد، هل تدري بأي وقت يتقرب العبد إلى اللّه؟

قال: لا يا رب.

قال: إذا كان جائعاً أو ساجداً... يا أحمد، إن العبد إذا جاع بطنه وحفظ لسانهعلّمته الحكمة، وإن كان كافراً تكون حكمته حجةً عليه ووبالاً...»(1).

ص: 490


1- ارشاد القلوب 1: 199.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قلة الأكل محمود في كل حال وعند كل قوم، لأن فيه المصلحة للباطن والظاهر والمحمود من الأكل أربعة: ضرورة، وعُدة، وفتوح، وقوت، فالأكل بالضرورة للأصفياء، والعُدّة لقوام الأتقياء، والفتوح للمتوكلين، والقوت للمؤمنين، وليس شيء أضر لقلب المؤمن من كثرة الأكل؛ وهي مورثَةٌ شيئين: قسوة القلب، وهيجان الشهوة، والجوع إدام للمؤمن وغذاء الروح، وطعام للقلب وصحة للبدن»(1).

وقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما ملأ ابن آدم وعاء أشر من بطنه»، وقال داود(عليه السلام): «ترك اللقمة مع الضرورة إليها أحبّ إليّ من قيام عشرين ليلة»(2).

وقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «المؤمن يأكل في معاء واحد، والمنافق في سبعة أمعاء»(3).

«وقال الإمام الصادق(عليه السلام) قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): ويل للناس من القبقبين. فقيل: وما هما يا رسول اللّه؟ قال: الحلق والفرج»(4).

وقال عيسى ابن مريم(عليه السلام): «ما مرض قلب بأشد من القسوة، وما اعتلَّت نفس بأصعب من نقص الجوع، وهما زمامان للطرد والخذلان»(5).

هذا من جانب الإفراط، أما من جانب التفريط، فإن الإنسان قد يهمل نفسه وأسرته، ويقصر في مأكله وملبسه، ويعتكف في المغارات والكهوف، ويتركمسكنه ومجتمعه، وما شابه، فإنه مضافاً إلى انتهاكه للحقوق وتركه للواجبات التي عليه، يحرِّم على نفسه الكثير من الطيبات التي خلقها اللّه سبحانه وتعالى

ص: 491


1- بحار الأنوار 63: 337.
2- بحار الأنوار 63: 337.
3- مستدرك الوسائل 16: 211.
4- بحار الأنوار 63: 337.
5- بحار الأنوار 63: 337.

من أجله، وأحلّها له، وبذلك فإنه يقع في التفريط وهو خلاف العقل الذي من شروط رقي الإنسان.

فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول اللّه، إن عثمان يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مغضباً يحمل نعليه، حتى جاء إلى عثمان فوجده يصلي، فانصرف عثمان حين رأى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا عثمان، لم يرسلني اللّه تعالى بالرهبانية(1)، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة، أصوم وأصلي وألمس أهلي، فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح»(2).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) دخل بيت أم سلمة فشمّ ريحاً طيبةً، فقال: أتتكم الحولاء؟ فقالت: هو ذا هي تشكو زوجها، فخرجت عليه الحولاء، فقالت: بأبي أنت وأمي، إن زوجي عني معرض؟! فقال: زيديه يا حولاء، قالت: ماأترك شيئاً طيباً مما أتطيب له به، وهو عني معرض!! فقال: أما لو يدري ما له بإقباله عليك، قالت: وما له بإقباله علي؟ فقال: أما إنه إذا أقبل اكتنفه ملكان فكان كالشاهر سيفه في سبيل اللّه، فإذا هو جامع تحات عنه الذنوب كما يتحات ورق

ص: 492


1- روي عن ابن مسعود قال: كنت رديف رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) على حمار فقال: يا ابن أم عبد، هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟» فقلت: اللّه ورسوله أعلم. فقال: «ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى(عليه السلام) يعملون بمعاصي اللّه، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم، فهُزم أهل الإيمان ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلّا القليل، فقالوا: إن ظهرنا هؤلاء أفنونا، ولم يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث اللّه النبي الذي وعدنا به عيسى(عليه السلام) يعنون محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر»، ثم تلا هذه الآية: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} سورة الحديد، الآية: 27، ثم قال: «يا ابن أم عبد، أ تدري ما رهبانية أمتي؟» قلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: «الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة». بحار الأنوار 14: 277.
2- الكافي 5: 494.

الشجر، فإذا هو اغتسل انسلخ من الذنوب»(1).

وعنه(عليه السلام) أيضاً أنه قال: «إن ثلاث نسوة أتين رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت إحداهن: إن زوجي لا يأكل اللحم؟! وقالت الأخرى: إن زوجي لا يشم الطيب؟! وقالت الأخرى: إن زوجي لا يقرب النساء؟! فخرج رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم، ولا يشمّون الطيب، ولا يأتون النساء؟! أما إني آكل اللحم، وأشم الطيب، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن اللّه تبارك وتعالى أعطى محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى(عليهم السلام): التوحيد، والإخلاص، وخلع الأنداد، والفطرة، والحنيفية السمحة، لا رهبانية ولا سياحة، أحل فيها الطيبات وحرم فيها الخبيثات، ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فعرف فضله بذلك...»(3).

تضييع الحقوق من جهات عديدة

اشارة

لا شك في أن كلاً من الإفراط والتفريط، خلاف العقل وخلاف رقي الإنسان ويؤدي إلى تضيع الحقوق وترك الواجبات، ويسبب الاختلال في نظام الحياة والغاية التي من أجلها خلق الإنسان؛ ويضرّ بالإنسان والمجتمع الإنساني منجوانب عديدة، وهي كالتالي:

1- لكل من الإفراط والتفريط التأثير السيء على صحة الإنسان وسلامته، روحاً وجسماً، وأخلاقاً وآداباً، وفكراً وعقلاً، وسيرةً وسلوكاً، وكل ذلك تضييع

ص: 493


1- الكافي 5: 496.
2- الكافي 5: 496.
3- المحاسن 1: 287.

للحقوق البدنية الواجبة على الإنسان(1).

2- في كل من الإفراط والتفريط ظلم النفس والبغي عليها، بوضعها في غير ما خلقت من أجله، وإحلالها في المحل غير المناسب لها، وفي ذلك تضييع للحقوق الفردية.

3- يؤدي كل من الإفراط والتفريط إلى التفكيك الاجتماعي، واختلال نظام المجتمع، فإن الإنسان فطر على الاجتماع، وهو كائن اجتماعي بالطبع، فإذا انسحب عن المجتمع، وانزوى عنه، وانطوى على نفسه، فإنه يخلّ بالمجتمع وبالنظام الاجتماعي بقدره ونسبته، فتفسد بقدر ذلك علاقات المجتمع وتتفكك عراه، وفي هذا تضييع لحقوق المجتمع وهتك للشؤون الاجتماعية.

وإلى غير ذلك من الأضرار التي يسببها الإفراط والتفريط، وهو كله خلاف العقل ورقي الإنسان.

اللّه تعالى وحق خالقيته
اشارة

إن نعمة الوجود وخلق الإنسان، هي أول نعمة ينعم بها اللّه تعالى على الإنسان، وبذلك يصبح للّه الخالق سبحانه حقوقاً على الإنسان، ويجب علىالإنسان أداء تلك الحقوق العظيمة الواجبة عليه، كما ويلزم عليه تذكرها وتذكرّ المراحل التي مرّ بها؛ ليعرف قدرها فيؤدّي بعض حقها، لأن الإنسان لا يستطيع مهما جدّ واجتهد في أداء حقوق اللّه تعالى العظيمة عليه.

ص: 494


1- لأن اللّه جلّ وعلا جعل في كل أمر مصلحة، وفي كل نهي مفسدة تعود إلى الإنسان نفسه، فقد تكون المصلحة ملزمة فيكون واجباً، وكذلك بالنسبة إلى المفسدة، لكن قد تكون المصلحة غير ملزمة، فيكون الأمر مستحباً، هذا في التشريعات، وكذلك جعل اللّه في التكوينات مصالح لنفس الإنسان، فالنوم والأكل والشرب والجماع، كلها أمور جعل لها الشارع المقدس طريقاً صحيحاً في الدنيا، فمن سلك غير هذا الطريق خسر الدنيا؛ لأنه لم يسر على النهج الصحيح الذي به بني الكون.

نعم، إن الإنسان عندما يخلقه اللّه تعالى من نطفة أمشاج، ويستقر في رحم أمه، يمر بمراحل عديدة تستحق الذكر والشكر، واحدة منها: مرحلة الخلق والتكوين، كما في الآية الكريمة: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}(1).

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ} من الولد والبنت، الجميل والقبيح، السعيد والشقي، إلى غيرها من الأوصاف {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} تنقص {وَمَا تَزْدَادُ} من صغر جثة الجنين وكبرها، كأن الرحم غاضت ولذا صغر الولد، أو ازدادت ولذا كبر {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} لا يتجاوزه صغراً ولا كبراً.

قوله: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} أي: ما تنقصه الأرحام، فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض.

أمور تستدعي الذكر والشكر

وفي هذه الآية الكريمة أمور ثلاثة قد تكون إشارة إلى ثلاثة من أعمال الرحم في أيام الحمل:

1- {مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ}: ربما إشارة إلى الجنين الذي تقيه الأم وتحفظه في رحمها.

2- {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ}: ربما إشارة إلى دم الحيض الذي ينصب في الرحم فيصرفه الرحم في غذاء الجنين.3- {وَمَا تَزْدَادُ}: ربما إشارة إلى الدم الذي يدفعه الرحم إلى الخارج بعد الولادة، كدم النفاس، أو الدم والحمرة التي تراها الأم في أيام الحمل أحياناً.

وفي تفسير العياشي عن أحدهما(عليهما السلام) في قول اللّه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ

ص: 495


1- سورة الرعد، الآية، الآية: 8.

وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قال: «الغيض: كل حمل دون تسعة أشهر، {وَمَا تَزْدَادُ} كل شي ء يزداد على تسعة أشهر، وكلما رأت الدم في حملها من الحيض يزداد بعدد الأيام التي رأت في حملها من الدم»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) في قول اللّه: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ} قال: «الذكر والأنثى»، {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} قال: «ما كان دون التسعة فهو غيض»، {وَمَا تَزْدَادُ} قال: «ما رأت الدم في حال حملها ازداد به على التسعة الأشهر، إن كانت رأت الدم خمسة أيام، أو أقل أو أكثر، زاد ذلك على التسعة الأشهر»(2).

وقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} فإن كل ما يرتبط بالإنسان: من الحمل والوضع والرزق والأجل وغير ذلك، فهو عنده سبحانه وتعالى بمقدار، أي بقدر مقدور، وحدّ محدود، لا يجاوزه ولا يقصر عنه، وذلك على ما توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة.

هذا بالنسبة إلى المراحل الثلاث قبل الولادة، وأما بعد الولادة فإن الأمر أيضاً كذلك، حيث يمر الإنسان بمراحل عديدة قد تتشابه مراحل قبل الولادة من حيث التغذية والتربية والنمو، وهكذا حتى يصل إلى مرحلة الوعي والإدراك والرشد.

الناس وأداء الحقوق
اشارة

إن الناس يختلفون في أدائهم الحقوق الواجبة عليهم بحسب مستواهم العقليوالفكري والديني وغير ذلك، وينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: وهو البعض الذي يتجاهل النعم التي أنعمها اللّه عليه، ولا يلتفت إليها أبداً، وإنما همّه في الحياة بطنه وفرجه، وقضاء وطره منهما فقط،

ص: 496


1- تفسير العياشي 2: 204.
2- تفسير العياشي 2: 205.

وتلبية حاجاتهما فحسب.

القسم الثاني: وهو البعض الآخر الذي يتناسى نعم اللّه عليه ويتغافل عنها، وإنما همه في الحياة تحقيق أوهامه وهواجسه: من حبّ الجاه والمقام، والوصول إلى المناصب والكرسي والتسلط على الناس، وغير ذلك.

القسم الثالث والأخير: وهو البعض الآخر الذي يتذكر - دائماً - نعم اللّه عليه ويحاول أداء شكرها وحقها، فيسلك السلوك العقلائي متبعاً في ذلك نداء العقل السليم، والفطرة السالمة، والفكر الناضج الذي منحه اللّه سبحانه وتعالى إياه(1)، وهذا القسم هو الذي يستفيد من عقله في سبيل رقيه.

وسيأتي بإذن اللّه تعالى البحث عن هذه الأقسام الثلاثة:

1- المتجاهل للحقوق
اشارة

أما القسم الأول وهو الذي يتجاهل نِعَم اللّه عليه ولا يتذكرها، ولا يلتفت إليها أبداً، وإنما همّه في الدنيا بطنه وفرجه، وقضاء وطرهما فحسب، وتلبية حاجاتهما فقط، وهم كثيرون، حيث يعيشون في ارتباط وثيق بالبدن ولوازمه والجسم وحاجاته، في التفكير الدائم بالطعام والشراب واللباس والرياش ووسائل الراحة من مسكن واسع، ومركب فاره، وزوجات متعددة وما أشبهها، فهؤلاء لا يقيمون وزناً لأية قيمة أخرى من قيم الحياة، سوى الطعام والشراب والمنكح والملبس.

وهؤلاء يمثلون الطائفة المتأخرة، والجماعة المنحطة من كل أمة، فالأمة إذاوجدت فيها مثل هذه الجماعة والطائفة، وصارت هي الظاهرة العامة فيها، كانت أمة فاشلة ومتأخرة، ولم يكن لها نصيب من الرقي والتقدم؛ وذلك بسبب بعد أفرادها عن التعقل والإنسانية وما تستلزمها من ذكر النعم وأداء حق المنعم.

ص: 497


1- ذكر علماء الأخلاق أن صفات الإنسان على ثلاثة أقسام: شهوانية، ووهمية، وعقلائية.

انظر إلى قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَٰنِ أَعْرَضَ وَنََٔا بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ ئَُوسًا}(1).

فعلى الرغم من أن اللّه تعالى هو الذي أنعم على الإنسان بالوجود، ومنحه هذا الكيان بأسره، بما في ذلك البدن نفسه، لكنه تجاهل كل ذلك وظل عاكفاً على الشهوات بحيث لا يفارقها، ومشتغلاً بالأهواء بحيث لايتخلى عنها، متناسياً ربه، متغافلاً عن نعمه وآلائه عليه، متشاغلاً عن شكره وأداء حقه إليه، وتراه أحياناً شديد اليأس من الخير حيث إنه قد تعلق بأسبابه التي يتوهم أنها أسباب دون أن يرى لربه في ذلك صنعاً وأثراً، ولم يصل إلى غايته ولم يُدرك أمله. وقد وصف الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) - كما في الشعر المنسوب إليه - هذه الفئة لابنه الإمام الحسن(عليه السلام) بقوله:

أ بُنَيَّ إن من الرجال بهيمة *** في صورة الرجل السميع المبصر(2)

عاقبة الإنسان المنكر للحقوق

يستفاد من الروايات الشريفة أن بعض الناس العاصين يوم القيامة يحشرون بصورهم الواقعية، فمن كان في الدنيا منكراً لنعم اللّه، وجاحداً لحقوقه تعالى عليه، مشتغلاً بالمعاصي والسيئات، فإنه يُحشر في يوم القيامة على هيئةالحيوانات، من القردة والخنازير وما أشبه ذلك!!

من هنا يلزم على الإنسان أن يسأل من اللّه عزّ وجلّ الستر خاصة في يوم القيامة. كما ورد في الأدعية الشريفة: «ولا تكشف عنا ستراً سترته على رؤوس

ص: 498


1- سورة الإسراء، الآية: 83.
2- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 182.

الأشهاد يوم تبلو أخبار عبادك»(1).

وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَٰنُ مِنَ الْمَسِّ}(2) بأن آكلي الربا - الذين تجاهلوا أمر اللّه بحرمة الربا وعصوا اللّه في ذلك ولم يؤدوا إليه حقه - يحشرون يوم القيامة وهم يركضون كالمجانين، فيعرفهم بذلك أهل المحشر، بل أكثر من ذلك(3)، فإن كل عمل مخالف للشرع فإنه لا يقبل به العقل، فمرتكب الحرام يأتي يوم القيامة وقد تجسد ذلك العمل مع صاحبه بصورة من أبشع الصور، يوحشه ويُفزعه، فيفزع المذنبون ذلك اليوم بسبب انحرافهم في الدنيا، وابتعادهم عن مقتضى الأصول العقلائية، والفطرة الإنسانية الصحيحة، كالرحمة والعدل، ومساعدة الفقراء والإحسان، والحب والمسامحة، وغيرها من الصفات الحميدة.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة مثّل له أهله ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: واللّه إني كنت عليك لحريصاً شحيحاً فما عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك، ثم يلتفت إلى ولده فيقول: واللّه إني كنت لكم لمحباً وإني كنت عليكم لمحامياً، فماذا عندكم؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك ونواريك فيها، ثم يلتفت إلى عمله فيقول: واللّه إني كنت فيك لزاهداً وإنك كنت علي لثقيلاً، فماذا عندك؟ فيقول:أنا قرينك في قبرك ويوم حشرك حتى أعرض أنا وأنت على ربك، فإن كان للّه ولياً أتاه أطيب الناس ريحاً وأحسنهم منظراً وأزينهم رياشاً، فيقول: أبشر بروح من اللّه وريحان وجنة نعيم، وقد قدمت خير مقدم، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا

ص: 499


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) بخواتم الخير.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
3- انظر: التبيان في تفسير القرآن 2: 360.

عملك الصالح ارتحل من الدنيا إلى الجنة، وإنه ليعرف غاسله ويناشد حامله أن يعجله، فإذا أدخل قبره أتاه ملكان، وهما فتانا القبر، يجران أشعارهما ويبحثان الأرض بأنيابهما وأصواتهما كالرعد العاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فيقول: اللّه ربي، ومحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) نبيي، والإسلام ديني، فيقولان: ثبتك اللّه في ما تحب وترضى، وهو قول اللّه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(1) فيفسحان له في قبره مد بصره ويفتحان له باباً إلى الجنة ويقولان له: نم قرير العين، نوم الشاب الناعم وهو قوله: {أَصْحَٰبُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}(2)، وإذا كان لربه عدواً، فإنه يأتيه أقبح خلق اللّه رياشاً وأنتنه ريحاً، فيقول له: من أنت فيقول له: أنا عملك أبشر بنزل من حميم وتصلية جحيم، وإنه ليعرف غاسله ويناشد حامله، أن يحبسه، فإذا أدخل قبره أتياه ممتحنا القبر، فألقيا عنه أكفانه، ثم قالا له: من ربك، ومن نبيك، وما دينك؟ فيقول: لا أدري. فيقولان له: ما دريت ولا هديت، فيضربانه بمرزبة ضربة ما خلق اللّه دابة إلّا وتذعر لها ما خلا الثقلين، ثم يفتحان له باباً إلى النار ثم يقولان له: نم بشرّ حال، فهو من الضيق مثل ما فيه القنا من الزُّج(3)، حتى أن دماغه يخرج مما بين ظفره ولحمه، ويسلط اللّه عليه حيات الأرض وعقاربهاوهوامها، فتنهشه حتى يبعثه اللّه من قبره، وإنه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشر»(4).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): لما أسري بي إلى السماء

ص: 500


1- سورة إبراهيم، الآية: 27.
2- سورة الفرقان، الآية: 24.
3- الزُّج: حديدة في أسفل الرمح.
4- تفسير القمي 1: 369.

رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس»(1).

هذا حال من انحرف في الدنيا وجحد نعم اللّه ولم يؤد حقه تعالى وخالف عقله ولم يرتق إلى المقامات العالية المعنوية. وهو عكس حال من يقوم بالأعمال الحسنة ويؤدي حق اللّه تعالى ويطيعه في الدنيا، ويطيع عقله ويرقى، حيث يحشر ومعه ذلك العمل الحسن في صورة جميلة جداً، يقوم بايناس وحشته وإذهاب روعه وإزالة خوفه يوم القيامة، فعن أحدهما(عليهما السلام) - أي الإمام الباقر أو الصادق(عليهما السلام) - قال:

«إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستة صور، فيهن صورة هي أحسنهن وجهاً وأبهاهن هيئة وأطيبهن ريحاً وأنظفهن صورة - قال - فيقف صورة عن يمينه وأخرى عن يساره وأخرى بين يديه وأخرى خلفه وأخرى عند رجليه، ويقف التي هي أحسنهن فوق رأسه، فإن أُتي عن يمينه منعته التي عن يمينه، ثم كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست - قال - فتقول أحسنهن صورة: من أنتم جزاكم اللّه عني خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام، وتقول التي خلفه: أنا الحج والعمرة، وتقول التيعند رجليه: أنا بر من وصلت من إخوانك، ثم يقلن: من أنت، فأنت أحسننا وجهاً وأطيبنا ريحاً وأبهانا هيئةً؟ فتقول: أنا الولاية لآل محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)»(2).

ولقد جاء في الحديث الشريف بأن القرآن الحكيم يأتي يوم القيامة في أجمل

ص: 501


1- تفسير القمي 1: 93.
2- المحاسن 1: 288.

صورة، لم ير أهل المحشر أجمل منه، فيشفع للعاملين به في ذلك اليوم الرهيب.

فعن الامام الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تعلّموا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شابّ جميلٍ شاحب اللّون، فيقول له القرآن: أنا الّذي كنت أسهرت ليلك وأظمأت هواجرك وأجففت ريقك وأسلت دمعتك، أؤول معك حيثما ألت، وكلّ تاجرٍ من وراء تجارته، وأنا اليوم لك من وراء تجارة كلّ تاجرٍ، وسيأتيك كرامةٌ من اللّه عزّ وجلّ فأبشر، فيؤتى بتاجٍ فيوضع على رأسه ويعطى الأمان بيمينه والخلد في الجنان بيساره ويكسى حلّتين، ثمّ يقال له: اقرأ وارقه، فكلّما قرأ آيةً صعد درجة، ويكسى أبواه حلّتين، إن كانا مؤمنين، ثمّ يقال لهما: هذا لما علّمتماه القرآن»(1).

وقال(عليه السلام): «إنّ الدواوين يوم القيامة ثلاثة: ديوان فيه النّعم، وديوان فيه الحسنات، وديوانٌ فيه السيّئات، فيقابل بين ديوان النّعم وديوان الحسنات، فتستغرق النّعم عامّة الحسنات، ويبقى ديوان السيّئات، فيدعى بابن آدم المؤمن للحساب، فيتقدّم القرآن أمامه في أحسن صورةٍ فيقول: يا ربّ، أنا القرآن، وهذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه بتلاوتي ويطيل ليله بترتيلي وتفيض عيناه إذا تهجّد، فأرضه كما أرضاني. - قال: - فيقول العزيز الجبّار: عبدي، أبسط يمينكفيملؤها من رضوان اللّه العزيز الجبّار، ويملأ شماله من رحمة اللّه، ثمّ يقال: هذه الجنّة مباحةٌ لك، فاقرأ واصعد، فإذا قرأ آيةً صعد درجةً»(2).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «إذا جمع اللّه عزّ وجلّ الأوّلين والآخرين، إذا هم بشخصٍ قد أقبل لم ير قطّ أحسن صورةً منه، فإذا نظر إليه المؤمنون وهو القرآن،

ص: 502


1- الكافي 2: 603.
2- الكافي 2: 602.

قالوا: هذا منّا هذا أحسن شيءٍ رأينا، فإذا انتهى إليهم جازهم، ثمّ ينظر إليه الشّهداء حتّى إذ انتهى إلى آخرهم جازهم، فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم كلّهم حتّى إذا انتهى إلى المرسلين فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم حتّى ينتهي إلى الملائكة فيقولون: هذا القرآن فيجوزهم، ثمّ ينتهي حتّى يقف عن يمين العرش، فيقول الجبّار: وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني، لأكرمنّ اليوم من أكرمك، ولأهيننّ من أهانك».(1)

جحدة الحقوق في القرآن الحكيم

ينقل لنا القرآن الحكيم صوراً متعدّدة عن بعض الذين أهملوا عقولهم ولم يقوموا بأداء الحقوق التي عليهم تجاه اللّه تعالى أو تجاه عباد اللّه، وعلى سبيل المثال نذكر ما نقله لنا عن آكلي أموال اليتامى ظلماً، وعن حالهم يوم القيامة من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(2).

والظاهر أن المراد من الأكل هنا في الآية الكريمة هو: عموم التصرف العدواني وغير المشروع في أموال اليتامى، لا خصوص الأكل المتعارف(3)، وإنما ذكرت الآية الكريمة الأكل، لأنه يشكل أبرز منافع المال وأظهره، فالأكلكناية عن عموم التصرف، ومختلف وجوه الانتفاع.

وعليه: فلا يحسب من يأكل مال اليتيم أنه ربح مادياً؛ إذ هذه جهة ظاهرية، لكن الجهة الواقعية والتي هي الأهم: هو ما يقترفه من الأضرار المعنوية، فإنها أكبر وأكثر، والقرآن يشير إلى أن من أكل أموال اليتامى ظلماً، فكأنه قد ملأ جوفه من النار، وإن كان لا يحسها بظاهرها المادي وصورتها الدنيوية، ولكنها في

ص: 503


1- الكافي 2: 602.
2- سورة النساء، الآية: 10.
3- للتفصيل انظر: موسوعة الفقه، كتاب البيع، للإمام الشيرازي(رحمه الله).

حقيقتها المعنوية وصورتها الأخروية نار تظهر يوم القيامة وتتجسم، وذلك حسب قاعدة تجسم الأعمال يوم القيامة.

ومما يستفاد من هذه الآية الكريمة هو:

إن كلام الإنسان وعمله وفكره ومعتقده في هذه الدنيا، له ظاهر نراه ونحس به، وله واقع وباطن لا نراه ولا نحس به إلّا بالانتقال إلى الآخرة.

ومن المعلوم: أن الإنسان المذنب وإن كان يؤاخذ على ارتكاب ذلك الظاهر المنهي عنه، الذي كشف الشارع الحكيم بعض واقعه، إلّا أنه يصيبه عذاب حقيقة ذلك الشيء وواقعه، وذلك كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(1) وكما جاء في المثل المعروف: «وكل إناء بالذي فيه ينضح»(2)، أو «إنك لا تجنيمن الشوك العنب»(3).

ص: 504


1- سورة المدثر، الآية: 38.
2- جاء في الوافي بالوفيات للصفدي: قال ابن خلكان: قال الشيخ نصر اللّه بن مجلي رأيت في المنام علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقلت له: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ثم يتم على ولدك الحسين(عليه السلام) يوم الطف ما تم؟! فقال لي: أما سمعت أبيات ابن صيفي في هذا؟ فقلت: لا. فقال: اسمعها منه، ثم استيقظت فبادرت إلى دار حيص بيص فخرج إلي فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء وحلف باللّه إن كانت خرجت من فمي أو خطي إلى أحد، وإن كنت نظمتها إلّا في ليلتي هذه ثم إنه أنشدني من الطويل: ملكنا فكان العفو منا سجية *** ولما ملكتم سال بالدم أبطح وحللتم قتل الأسارى وطالما *** غدونا على الأسرى نمن ونصفح وحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضح والحيص بيص هو أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي التميمي الملقب شهاب الدين المعروف بحيص بيص، الشاعر المشهور، توفي سنة (594ه) وكان يزعم أنه من ولد أكثم بن صيفي حكيم العرب، انظر: الوافي بالوفيات 15: 104.
3- ورد في كتب العامة حديث نسب إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «كما لا يجتني من الشوك العنب كذلك لا ينزل الفجار منازل الأبرار»، تاريخ مدينة دمشق 67: 260.

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في حديث المعراج:

«... فإذا أنا بأقوام يقذف بالنار في أفواههم، فتخرج من أدبارهم فقلت: من هؤلاء؟

قال - جبرائيل - : هؤلاء {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(1) ثم مضيت فإذا أنا بأقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنه! فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: فهم {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَٰنُ مِنَ الْمَسِّ}(2) وإنهم لبسبيل آل عمران يعرضون على النار...»(3).

إذن: فإن فكر الإنسان وعقيدته وقوله وعمله، مثله كمثل البذرة في النمو والعطاء، فمن أي جنس كانت البذرة فإنها تعطي بعد غرسها في الأرض ثماراً من نفس جنسها وفصيلتها، فبذرة البرتقال تعطي البرتقال، وبذرة الحنظل تعطي الحنظل، وهذا الكلام يجري في المعنويات، إن حسناً فحسن، وإن سيئاً فسيء.

كما تُدين تُدان

لقد خلق اللّه سبحانه وتعالى الكون والحياة طبق موازين حكيمة وثابتة لا تتغير، وإليه أشار بقوله جلّ وعلا: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}(4) وقوله عزّ وجلّ: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}(5)، وقوله

ص: 505


1- سورة النساء، الآية: 10.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
3- بحار الأنوار 6: 240.
4- سورة الأحزاب، الآية: 62.
5- سورة فاطر، الآية: 43.

تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}(1) فحاصل ضرب الإثنين في الإثنين دائماً أربعة، ولكل فعل ردّ فعل مساو له في القوة ومعاكس له في الاتجاه، ويقع معه على خط واحد.

وكذلك الإنسان، فاذا كان ينوي بعمله أن يهين شخصاً ما، أو يستهزئ به ويسخر منه، أو يعيّره بعيب أو نقص بدني أو أخلاقي، فليعلم بأنه يأتي عليه يوم يبتلي فيه بنفس ما عيّر به غيره، ويقع مورداً للسخرية والاستهزاء والإهانة. كل ذلك على أثر النظام التكويني الذي جعله اللّه سبحانه وتعالى حاكماً في هذا الكون وفي هذه الحياة، والتأريخ مشحون بهذه القضايا ونظائرها.

يقول أحد الأشخاص: عند ما كنت في - المنطقة الفلانية - لم أكن أعامل إمام المسجد في تلك المنطقة، معاملة حسنة تليق بإمام مسجد، حيث لم أكن أقدم له الاحترام اللائق به، والعجيب أأني وبعد فترة من الزمان انتقلت إلى منطقة أخرى، وكان إمام مسجدها يعاملني بنفس المعاملة التي كنت أعامل بها ذلك الإمام من عدم الاحترام، فعرفت من ذلك أن الدنيا تدور من حيث العمل والجزاء، على قانون المكافاة، ذلك على وفق القاعدة المعروفة التي قالها أميرالمؤمنين(عليه السلام): «كما تُدين تُدان» فكان ما أصابني هنا جزاءً لتصرفي هناك.

فعن الأصبغ بن نباتة قال: إن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لأصحابه: «اعلموا يقيناً، أن اللّه تعالى لم يجعل للعبد وإن عظمت حيلته، واشتد طلبه، وقويت مكايده أكثر مما سمى له في الذكر الحكيم، فالعارف بهذا العاقل له أعظم الناس راحة في منفعته، والتارك له أعظم الناس شغلاً في مضرته، والحمد للّه رب العالمين. ورب منعم عليه مستدرج، ورب مبتلى عند الناس مصنوع له، فأبق أيها المستمع

ص: 506


1- سورة الفتح، الآية: 23.

من سعيك، وقصر من عجلتك، واذكر قبرك ومعادك، فإن إلى اللّه مصيرك، وكما تدين تدان»(1).

وقال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(2).

وقال تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوٰةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَٰرُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٖ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَٰلُهُمْ كَسَرَابِ بِقِيعَةٖ يَحْسَبُهُ الظَّمَْٔانُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَئًْا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحْرٖ لُّجِّيّٖ يَغْشَىٰهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَٰتُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَىٰهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}(3).

وقال تبارك وتعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكُمْ خَلَٰئِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَتَعْمَلُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}(5).

وعن الامام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «القرين الناصح هو العمل

ص: 507


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 163.
2- سورة الزلزلة، الآية: 7- 8. ورؤية الثواب والعقاب لا تختص بالآخرة فقط بل قد يرى الإنسان جزاء عمله في الحياة الدنيا أيضاً.
3- سورة النور، الآية: 37-40.
4- سورة يونس، الآية: 14.
5- سورة النساء، الآية: 124.

الصالح»(1).

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «الشرف عند اللّه بحسن الأعمال لا بحسن الأقوال»(2).

2- المتغافل عن الحقوق
اشارة

أما القسم الثاني: فهو الشخص الذي يتناسى ما أنعم اللّه عليه، ويتغافل عن أداء شكره والقيام بحقه، وإنما همّه في الحياة تحقيق أوهامه وهواجسه من حب الجاه والمقام، والوصول إلى المناصب والكراسي، والتسلط على الناس ونحو ذلك، وهذا القسم من الناس هم كالقسم الأول من حيث النتيجة، فهم قد تركوا عقولهم ولم يستفيدوا منها، فهم متأخرون ومتخلفون؛ لأن أنفسهم قد فرغت من العلم والحقيقة، وأذعنت للدنيا وما فيها، واتبعت الوهم والخيال وتغافلت عن أداء ما عليها من الحقوق تجاه اللّه وتجاه عباد اللّه، فهو في عداد الحمقى. وقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أعجب بنفسه هلك، ومن أعجب برأيه هلك، وإن عيسى ابن مريم(عليه السلام) قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن اللّه، وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن اللّه، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن اللّه، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه، فقيل: يا روح اللّه وما الأحمق؟ قال: المعجب برأيه ونفسه الذي يرى الفضل كله له لا عليه، ويوجب الحق كله لنفسه، ولا يوجب عليها حقاً، فذاك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته»(3).

وكم لمثل هؤلاء من شواهد ونماذج في التاريخ، فبنو أمية - كما يؤكده التأريخ - كانوا من عشاق الوهم والخيال، ومن هواة الجاه والمقام، وكانوا يحملون الحقد ضد الدين وضد النبي والآل الأطهار(عليهم السلام)، فقاتلوا النبي الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) ومن بعده

ص: 508


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 125.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 105.
3- الاختصاص: 221.

الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ثم الإمام الحسن(عليه السلام) ثم الإمام الحسين(عليه السلام) كي يسلبوهم ما خصّهم اللّه تعالى به من منصب ومقام، ويستبدوا دونهم بالكرسي والحكم، وكان هذا هو الداعي من تجييش أبي سفيان الجيوش ضد الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم)، وتأجيج معاوية نار الحرب ضد أمير المؤمنين(عليه السلام) والإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) ودس السم إليه، وتهييج يزيد بن معاوية الفتنة العمياء، والإبادة الجماعية ضد الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام).

نعم، إن اتّباع الوهم والخيال وحبّ الجاه والمقام، لا يؤثر على الدين فقط، بل على الدنيا أيضاً؛ إذ هو كما يؤثر على العقل وعلى طريقة التفكير يؤثر على الالتزام والسلوك؛ لذلك يلزم على الإنسان أن يجتنب عنه، لأنه مخالف لإنسانية الإنسان، وما رزقه اللّه من لبّ وعقل، وقدرة على التفكير السليم والاستنتاج الصحيح.

روايات في العقل

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن أفضل الناس عند اللّه من أحيا عقله، وأمات شهوته، وأتعب نفسه لصلاح آخرته»(1).وعنه(عليه السلام) أيضاً: «أصل العقل الفكر وثمرته السلامة»(2).

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «العقل والشهوة ضدان، ومؤيد العقل العلم، ومزين الشهوة الهوى، والنفس متنازعة بينهما، فأيهما قهر كانت في جانبه»(3).

ومن كتاب له(عليه السلام) إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، يحذره أن يكون من الغافلين فكتب إليه: «أما بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلاً من

ص: 509


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 236.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 198.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 119.

فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان(1)، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه. ألّا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضي ء بنور علمه، ألّا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألّا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد، فواللّه ما كنزتُ من دنياكم تبراً، ولا ادخرتُ من غنائمها وفراً، ولا أعددتُ لبالي ثوبي طمراً، ولا حزتُ من أرضها شبراً، ولا أخذتُ منه إلّا كقوت أتان دبرة(2)، ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة(3)، بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونِعمَ الحَكَم اللّه، وما أصنع بفدك وغير فدك، والنفس مظانها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر والمدر وسد فُرَجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسي أروّضها بالتقوى؛ لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً

ص: 510


1- الجِفان: القصعة.
2- أتان دَبرة: هي التي عقر ظهرها فقل أكلها.
3- العفصة: كعطسة: نتوء، أي دبس يكون على شجرة البلوط، ويطلق أيضا على نفس شجرة البلوط، والتاء فيه للوحدة، والجنس: العفص كفلس. ويقال: مقر - من باب عَلِمَ - مقرا الشيء: صار مراً أو حامضاً، فهو مقر كفرح، والمصدر كالفرح.

وحولي بطون غرثى(1) وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحن إلى القد

أ أقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات - إلى أن يقول(عليه السلام): - فواللّه، لا أذل لك - للدنيا - فتستذليني، ولا أسلس لك فتقوديني، وأيم اللّه يميناً أستثني فيها بمشيئة اللّه، لأروضن نفسي رياضةً تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغةً دموعها، أ تمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة(2) من عشبها فتربض، ويأكل عليٌ من زاده فيهجع، قرت إذاً عينه، إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسائمة المرعية. طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتىإذا غلب الكرى(3) عليها افترشت أرضها وتوسدت كفها في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم {أُوْلَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(4) فاتق اللّه يا ابن حنيف، ولتكفف أقراصك ليكون من النار خلاصك...»(5).

ص: 511


1- غرثى: جائعة.
2- الربيضة: الغنم مع رعاتها إذا كانت في مرابضها.
3- الكرى: النعاس.
4- سورة المجادلة، الآية: 22.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 45 من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة.
3- المؤدّي للحقوق
اشارة

وأما القسم الثالث: فهو الشخص الذي يتذكر نعم اللّه تعالى عليه ويحاول شكرها وأداء حقها، فيسلك السلوك العقلائي متبعاً في ذلك نداء العقل السليم، والفطرة السالمة، والفكر الناضج الذي منحه اللّه سبحانه إياه، وهذا القسم من الناس يتمثلون بالأفراد الذين هم دائماً في عمل دائب، وتقدم مستمر، لأنهم يستفيدون من نور العقل والفطنة، ويستخدمون مواهبهم وطاقاتهم من أجل ذلك.

نعم، إن الإنسان العاقل تراه دائماً يحكّم عقله، ويمارس النشاط، ويزاول العمل الجاد، ليؤدي ما عليه من حق تجاه اللّه وتجاه عباد اللّه، وليحصل على مراتب أعلى من العلم والعمل، ويحرز مقامات أكبر من الرقي والتقدم، لنفسه ومجتمعه.

وقد جاء في وصايا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لابن مسعود: «... إذا عملت عملاً فاعمل بعلم وعقل، وإياك وأن تعمل عملاً بغير تدبير وعلم؛ فانه جلّ جلاله يقول: {وَلَاتَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثًا}»(1)(2).

وهذا القسم من الناس لا يعرفون الكسل والملل، ولا النصب والتعب؛ لذلك تراهم يتربعون على القمة دائماً، لأنهم وجدوا مفتاح النجاح والفلاح والرقي والتقدم، ألّا وهو العمل الجاد المسبوق بالتعقل والتدبّر، والعلم والمعرفة.

ولهذا القسم من الناس الذين جعلوا العقل هادياً ومرشداً لهم، واتبعوا ما يدعوهم إليه من أداء حقوق اللّه وحقوق عباد اللّه نماذج كثيرة، وفي مقدمتهم وعلى رأسهم النبي الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين من أهل بيته(عليهم السلام) ثم الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) ثم تلامذتهم من العلماء العاملين الصالحين.

ص: 512


1- سورة النحل، الآية: 92.
2- مكارم الأخلاق: 458.
صفات القسم الثالث

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «قام رجل يقال له: هَمّام، وكان عابداً ناسكاً مجتهداً إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو يخطب، فقال: يا أمير المؤمنين، صِف لنا صفة المؤمن، كأننا ننظر إليه؟ فقال: يا همام، المؤمن هو: الكيّس الفَطِن، بُشره في وجهه، وحُزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً، زاجر عن كل فانٍ، حاضٌّ على كل حسن، لا حقود ولا حسود، ولا وثّاب(1) ولا سبّاب ولا عيّاب ولا مُغتاب، يكره الرفعة، ويشنأ السُمعة، طويل الغمّ، بعيد الهَمّ، كثير الصمت، وقور ذكور، صبور شكور، مغموم بفكره، مسرور بفقره، سهل الخليقة، ليّن العريكة، رصين الوفاء، قليل الأذى، لا متأفّك ولا متهتك، إن ضحك لم يَخرَق، وإن غضب لم يَنزَق، ضحكه تبسّم، واستفهامه تعلّم، ومراجعته تفهّم، كثير علمه،عظيم حلمه، كثير الرحمة، لا يبخل ولا يعجل، ولا يَضجَر ولا يَبطَر، ولا يحيف في حكمه، ولا يجورُ في علمه، نفسه أصلب من الصَّلْد، ومكادحته أحلى من الشَّهْد، لا جَشِع ولا هَلِع، ولا عَنِف ولا صَلِف، ولا متكلّف ولا متعمق، جميل المنازعة، كريم المراجعة، عدل إن غضب، رفيق إن طلب، لا يتهور ولا يتهتك ولا يتجبّر، خالص الود، وثيق العهد، وفيّ العقد، شفيق وصول، حليم خَمول، قليل الفُضول، راض عن اللّه عزّ وجلّ، مخالف لهواه، لا يغلظ على من دونه، ولا يخوض في ما لا يعنيه، ناصر للدين، مُحامٍ عن المؤمنين، كهف للمسلمين، لا يخرق الثناء سَمعَه، ولا يَنكِي الطمَع قلبه، ولا يصرف اللعب حُكمَه، ولا يطلع الجاهل علمه، قوّال عمّال، عالم حازم، لا بفحاش ولا بطيّاش، وصول في غير عُنف، بذول في غير سرف، لا بِخَتّال ولا بِغَدّار، ولا يقتفي أثراً ولا يحيف بشراً،

ص: 513


1- أي: لا يثب في وجوه الناس بالمنازعة والمعارضة.

رفيق بالخَلْق، ساعٍ في الأرض، عون للضعيف غوث للملهوف، لا يهتك ستراً ولا يكشف سراً، كثير البلوى قليل الشكوى، إن رأى خيراً ذكره، وإن عاين شراً ستره، يستر العيب ويحفظ الغيب ويقيل العثرة ويغفر الزلة، لا يطلع على نصح فيذره، ولا يدع جِنحَ حيف فيصلحه، أمين رصين تقي نقي زكي رضي، يقبل العذر ويجمل الذكر ويحسن بالناس الظن، ويتهم على العيب نفسه، يحب في اللّه بفقه وعلم، ويقطع في اللّه بحزم وعزم، لا يخرق به فَرَح ولا يطيش به مَرَح، مذكّر للعالم معلّم للجاهل، لا يتوقع له بائقة ولا يخاف له غائلة، كل سعي أخلص عنده من سعيه، وكل نفس أصلح عنده من نفسه، عالم بعيبه شاغل بغمّه، لا يثق بغير ربه، غريب وحيد جريد حزين، يحب في اللّه ويجاهد في اللّه ليتبع رضاه، ولا ينتقم لنفسه بنفسه ولا يوالي في سخط ربه، مُجالس لأهل الفقر، مُصادق لأهل الصدق، مؤازر لأهل الحق، عون للقريب، أب لليتيم، بعلللأرملة، حفي بأهل المسكنة، مرجو لكل كريهة، مأمول لكل شدة، هشّاش بشّاش لا بعبّاس ولا بجسّاس، صليب كظّام بسام، دقيق النظر، عظيم الحذر، لا يجهل وإن جُهل عليه يحلم، لا يبخل وإن بخل عليه صبر، عَقَلَ فاستحيا، وقَنَع فاستغنى، حياؤه يعلو شهوته، ووُدّه يعلو حسده، وعفوه يعلو حقده، لا ينطق بغير صواب ولا يلبس إلّا الاقتصاد، مشيه التواضع، خاضع لربه بطاعته، راض عنه في كل حالاته، نيته خالصة، أعماله ليس فيها غش ولا خديعة، نظره عبرة سكوته فكرة وكلامه حكمة، مناصحاً متباذلاً متواخياً، ناصح في السر والعلانية، لا يهجر أخاه ولا يغتابه ولا يمكر به، ولا يأسف على ما فاته ولا يحزن على ما أصابه، ولا يرجو ما لا يجوز له الرجاء ولا يفشل في الشدة ولا يبطر في الرخاء، يمزج الحلم بالعلم والعقل بالصبر، تراه بعيداً كسله، دائماً نشاطه، قريباً أمله، قليلاً زلَلُه،

ص: 514

متوقعاً لأجله، خاشعاً قلبه، ذاكراً ربَّه، قانعةً نفسه، منفياً جهله، سهلاً أمره، حزيناً لذنبه، ميتةً شهوته، كظوماً غيظه، صافياً خُلُقُه، آمناً منه جاره، ضعيفاً كبره، قانعاً بالذي قدر له متيناً صبره محكماً أمره كثيراً ذكره، يخالط الناس ليعلم، ويصمت ليسلم، ويسأل ليفهم، ويتجر ليغنم، لا ينصت للخبر ليفجر به، ولا يتكلم ليتجبر به على من سواه، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته فأراح الناس من نفسه، إن بغي عليه صَبَر حتى يكون اللّه الذي ينتصر له، بُعده ممن تباعد منه بغض ونزاهة، ودنوّه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده تكبراً ولا عظمةً، ولا دنوه خديعةً ولا خلابةً، بل يقتدي بمن كان قبله من أهل الخير، فهو إمام لمن بعده من أهل البر.

قال: فصاح هَمّام صيحةً، ثم وقع مغشياً عليه.

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): أما واللّه لقد كنت أخافها عليه. وقال: هكذا تصنعالموعظة البالغة بأهلها. فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن لكل أجلاً لا يعدوه، وسبباً لا يجاوزه، فمهلاً لا تُعِد، فإنما نَفَث على لسانك شيطان»(1).

وخطب الناس الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) فقال: «أيها الناس، أنا أخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد، كان خارجاً من سلطان فرجه فلا يستخف له عقله ولا رأيه، كان خارجاً من سلطان الجهالة فلا يمد يده إلّا على ثقة لمنفعة، كان لا يتشهى ولا يتسخط ولا يتبرم، كان أكثر دهره صماتاً، فإذا قال بذ القائلين(2)، كان لا يدخل في مراء ولا

ص: 515


1- الكافي 2: 226.
2- بذّ القائلين: أي سبقهم وغلبهم.

يشارك في دعوًى ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضياً، وكان لا يغفل عن إخوانه ولا يخص نفسه بشيء دونهم، كان ضعيفاً مستضعفاً فإذا جاء الجد كان ليثاً عادياً، كان لا يلوم أحداً في ما يقع العذر في مثله حتى يرى اعتذاراً، كان يفعل ما يقول ويفعل ما لا يقول، كان إذا ابتزه أمران لا يدري أيهما أفضل نظر إلى أقربهما إلى الهوى فخالفه، كان لا يشكو وجعاً إلّا عند من يرجو عنده البرء، ولا يستشير إلّا من يرجو عنده النصيحة، كان لا يتبرم ولا يتسخط ولا يتشكى ولا يتشهى ولا ينتقم، ولا يغفل عن العدو، فعليكم بمثل هذه الأخلاق الكريمة إن أطقتموها، فإن لم تطيقوها كلها فأَخذ القليل خير من ترك الكثير، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه»(1).

نماذج من القسم الثالث

إن العلماء الربانيين هم تلامذة الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) حيث يسعون إلى أن يتبعوهم في كل شيء، وخاصة في مجال أداء حقوق اللّه وحقوق الناس، وفي مجال العلم والعمل، والاستفادة الأكمل من العقل، وقد ذكروا في أحوال المرحوم شريف العلماء(رحمه الله)(2)، أن سراج غرفته في المدرسة لم يطفأ في الليل أبداً، ولمدة سبع سنوات متوالية؛ لأنه كان مشغولاً من الليل حتى الصباح بالمطالعة والمراجعة والتدقيق والتحقيق، ولم يكن ليذوق طعم الراحة والنوم، وبعد تلك السنوات السبع، مرت عليه سبع سنوات أخرى لم يشعل في غرفته سراجاً أبداً، حيث إنه كان مشغولاً بالتفكر والتأمل، في ما استوعبه من الدروس والعلوم.

ص: 516


1- الكافي 2: 237.
2- المولى محمد شريف بن حسن علي المازندراني الحائري، شيخ الفقهاء العظام، ومن تلامذته الشيخ مرتضى الأنصاري(رحمه الله).

وذكروا أيضاً في أحوال الحاج السيد أسد اللّه(رحمه الله) وهو أخ الميرزا الشيرازي الكبير(رحمه الله)، بأنه مضافاً إلى كونه من العلماء العاملين كان من الحكماء الماهرين، والأطباء الحاذقين في العراق، وكان قد حفظ كتاب القانون لابن سينا على دقته الكبيرة وصعوبته البالغة، وقد صار على إثر ذلك متقناً لدقائق الطب، وجزئيات الحكمة، وكانت وصفاته الطبية دقيقة وناجحة كثيراً.

وذكروا أيضاً بأنه كان هناك في العراق أحد العلماء الأعلام وكان قد حفظ عن ظهر القلب كتاب وسائل الشيعة مع أسناده، وهذا الأمر وإن كان سهلاً في اللفظ والمقال، إلّا أنه صعب جداً في مقام الواقع والعمل؛ وذلك لأن حفظه يحتاج إلى وقت طويل، وفترة كبيرة من العمر يصرفها في الجدّ والمثابرة.

كما ذكروا في أحوال محمد بن زكريا الرازي الطبيب الشهير: بأنه كان حاذقاًفي الحكمة إلى درجة عجيبة وماهراً في الطب مهارة غريبة، بحيث إنه كان يجلس في مكان ويجلس الحكماء الماهرون والأطباء الحاذقون حوله على هيئة دوائر ثلاث، ويكون هو في مركزها، فكان المريض إذا راجع للعلاج يأتي إلى الحلقة الأولى، فإذا لم يستطع أطباء الحلقة الأولى تشخيص مرضه ودوائه، ومن ثم معالجته ومداواته، انتقل إلى الحلقة الثانية، وهكذا إلى الحلقة الثالثة، ثم إلى كبير الأطباء: محمد بن زكريا الرازي، فكان يقوم هو بنفسه معاينته والفحص عليه، وتشخيص مرضه ودائه، ثم يصف الوصفة لمداواته ومعالجته، وكان من يصل إليه لتشخيص المرض والداء قليلون جداً؛ لأن تلامذته الأطباء المستقرين في الحلقات الثلاث قبله، كانوا يمتازون بحذاقة عالية ومهارة كبيرة جداً في الطب، ولا عجب في ذلك بعد أن تعب كل منهم تعباً كثيراً على نفسه، حتى نال هذه المرتبة العالية، والدرجة الرفيعة من المهارة والحذاقة.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لقد أخطأ العاقل اللاهي الرشد، وأصابه ذو

ص: 517

الاجتهاد والجد»(1).

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «أفضل الأعمال ما أكرهت النفوس عليها»(2).

القسم الثالث ونماذج أخرى

ذهبت ذات مرة لزيارة العلامة صاحب كتاب: (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) المعروف بالشيخ آقا بزرك الطهراني(رحمه الله)، وبعدما استقر بنا المجلس وتبادلنا أطراف الحديث من تفقّد حاله والسؤال عن صحته، سألته: هل حدث لك وأن تشرفت برؤية وزيارة الإمام صاحب العصر والزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشريف أم لا؟ حيث كان الشيخكثير الذهاب إلى مسجد السهلة.

فأجاب(رحمه الله) قائلاً: مرضت مرضاً شديداً عندما كنت شاباً، فراجعت الأطباء في العراق ولكن لم أستعد عافيتي ولم تتحسن صحتي، فبقيت متحيّراً وعزمت على السفر إلى إيران ومراجعة الأطباء هناك.

فلما وصلت إلى طهران نزلت في إحدى المدارس العلمية هناك، وكان الوقت صيفاً والهواء حاراً، مصادفاً لفترة تعطيل الدراسة، لذلك كانت المدرسة خالية من الطلاب؛ إذ أنهم كانوا قد ذهبوا - كعادتهم في موسم الصيف - إلى أطراف البلاد وأكنافها للتبليغ وهداية الناس، وكانت غرف المدرسة كلها مقفلة، فجلست بجانب إحدى الغرف المقابلة لباب المدرسة طلباً للراحة، وفي هذه الأثناء رأيت سيداً جليلاً، عليه هيبة ووقار، دخل المدرسة وأخذ يسير إلى جانب الغرف من اليمين، حتى إذا وصل إليّ سلم عليّ، فأجبت سلامه، فقال لي: كيف حالك يا شيخ محسن؟ قلت: الحمد للّه رب العالمين، فقال لي: هل تحسنت

ص: 518


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 550.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 197.

صحتك؟ قلت: كلا، فإني أشعر بعدُ بوعكة صحية، وقد جئت إلى إيران لأجل المعالجة، فقال: أتريد أن تتحسن صحتك؟

قلت: نعم، فأدخل يده في جيبه وأعطاني مقداراً من (سكر النبات)، فأخذت منه قطعة صغيرة ووضعتها في فمي، فقال: إن شاء اللّه، ستتحسن صحتك، وبعد قليل ودّعني ومشى إلى جانب الغرف حتى بلغ باب المدرسة من جهة اليسار وخرج.

ثم إنه وبمجرد أن ذابت قطعة سكر النبات في فمي وسرت حلاوتها في بدني، بدأت أشعر بالصحة وأحس بالعافية وكأن الدم يجري في عروقي والقوة تتسرب إلى جسمي وبدني وجوارحي وأعضائي، بعدما كاد الضعف والإنهاك يشلانهاعن الحركة، فقمت متجهاً نحو المرآة التي كانت معلقة في مدخل المدرسة، ونظرت إلى صورتي فيها، فرأيت حمرة الدم تعود إلى وجهي، ولم أر شيئاً من تلك الصفرة وذلك الشحوب الذي كان يشتد عليّ يوماً بعد يوم ويغطي ملامح وجهي، والذي كان دليلاً عن انحلال القوى البدنية واضمحلالها عندي، وفي تلك اللحظة انقدح في ذهني لعل هذا السيد صاحب الجمال والجلال والهيبة والوقار كان هو صاحب الأمر والزمان(عليه السلام) فعدوت مسرعاً إلى خارج المدرسة، وأخذت أبحث عنه وأنظر إليه يميناً وشمالاً، علّني أجده أو أعرف جهة ذهابه، فلم أوفق لذلك، ثم سألت عنه بعض من صادفتهم هناك، فلم يكن جوابهم إلّا أن قالوا بأنهم لم يروا شخصاً بهذه المواصفات التي ذكرتها لهم!! ثم إني احتفظت بالباقي من ذلك (سكر النبات) الذي أعطانيه الإمام(عليه السلام)، ولم أعط أحداً منه شيئاً قليلاً إلّا وإنه كان يشفى في الحال.

نعم، إن هذه الخصوصية وأمثالها إنما يحصل عليها البعض الذي يتبع عقله ويقوم بأداء ما يفرض عليه عقله من حق اللّه وحق الناس إليهم، وذلك بوفاء

ص: 519

وإخلاص، مسبوق بالعلم والمعرفة خال من المنّ والأذى، وبعيد عن الوهم والخيال، لذلك نال هذه الدرجة العالية من التوفيق.

قدوة القسم الثالث وأسوتهم

إن الإنسان وبجبلّته التي خلقه اللّه تعالى عليها يبحث دائماً عن أسوة يتأسى به، وقدوة يقتدي بسيرته، كي يستطيع المشي بأمان في درب الحياة المظلم والطويل، والبحث عن الأسوة له دوافع نفسية فطر اللّه الإنسان عليها، وذلك لتستمر رحلة الإنسان في الحياة نحو التقدم والازدهار، ولتتوارث الأجيال بعضها من بعض عوامل التقدم، ووسائل الازدهار: من اتّباع العقل والرقي، واحترامالحقوق وأدائها، واجتناب العقوق ووبالها، ومن التسلح بالعلم والمعرفة، والتحلّي بالأخلاق والآداب، والتجمل بالعمل والمثابرة.

ولم يهمل اللّه تعالى الإنسان في جانب القدوة والأسوة، وإنما جعل له من إذا اقتدى به سعد في دنياه وفاز في آخرته، وإذا تأسى به نال التقدم والرقي في الدنيا، وفاز بالجنة والرضوان في الآخرة، ثم عرّف ذلك القدوة لجميع الناس بقوله سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(1).

ثم كان الأسوة والقدوة امتداداً للرسول الكريم أهل بيته(عليهم السلام) وفي مقدمة أهل البيت هو الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ما زال وسيبقى القدوة الحسنة والأسوة الصالحة، لأداء حق اللّه وحق الناس، وحق الحكم، وحق الرعية، والعدل والإحسان، والرفق والرحمة، والأخلاق والآداب، كيف لا يكون كذلك، وهو القائل في مجال المنصب والمقام كما في نهج البلاغة:

ص: 520


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.

«... فما راعني إلّا والناس كعُرْف الضَّبُع إلي(1)، ينثالون(2) عليَّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشُق عطفاي(3)، مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفةٌ، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا اللّه سبحانه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(4) بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنهمحليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء ألّا يُقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها(5)، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز...»(6).

وعن عبد اللّه بن عباس قال: دخلت على أمير المؤمنين(عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: «ما قيمة هذا النعل؟» فقلت: لا قيمة لها! فقال(عليه السلام): «واللّه لهي أحب إليّ من إمرتكم، إلّا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً»(7).

آية الاحسان وأداء الحقوق

وقد جاء في تفسير الآية الكريمة: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}(8) أن معناه: إن أحسنتم في أقوالكم وأفعالكم، فنفع إحسانكم عائد عليكم،

ص: 521


1- عُرْف الضّبُع: ما كثر على عنقها من الشعر وهو ثخين يضرب به المثل في اكثرة والازدحام.
2- ينثالون: يتتابعون مزدحمين.
3- شُق عطفاه: خدش جانباه من الاصطكاك.
4- سورة القصص، الآية: 83.
5- ألّا يُقارّوا: ألّا يوافقوا مقرّين، الكِظّة: ما يعتري الأكل من الثقل واكرب عند امتلاء البطن بالطعام والمراد استئثار الظالم بالحقوق، السَّغَب: شدة الجوع والمراد منه هضم حقوقه، الغارب: الكاهل.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3 من خطبة له(عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
7- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 33 من خطبة له(عليه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة.
8- سورة الإسراء، الآية: 7.

وثوابه واصل إليكم، وتنصرون على أعدائكم في الدنيا، وتثابون في العقبى {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} معناه: وإن أسأتم فقد أسأتم إلى أنفسكم أيضاً، لأن مضرة الإساءة عائدة إليها، وإنما قال: {فَلَهَا} على وجه التقابل؛ لأنه في مقابلة قوله: {لِأَنفُسِكُمْ} كما يقال: (أحسن إلى نفسه)، ليقابل (أساء إلى نفسه)، فلذلك وضع اللام موضع إلى. وقيل: إن قوله {فَلَهَا} بمعنى: فعليها، كقوله تعالى: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ}(1) أي: عليهم اللعنة. وقيل: معناه فلها الجزاء والعقاب، وهذا الخطاب لبني إسرائيل، ليكون الكلام جارياً على النسق والنظام. ويجوز أن يكون خطاباً لأمةنبينا(صلی الله عليه وآله وسلم)، فيكون اعتراضاً بين القصة وهو مطابق للبلاغة أيضاً، كما يفعل الخطيب والواعظ، يحكي شيئاً ثم يعظ، ثم يعود إلى الحكاية. فكأنه لما بينّ - اللّه سبحانه - أن بني إسرائيل لما علوا وبغوا في الأرض، سلط عليهم قوماً، ثم لما تابوا قبل توبتهم، وأظفرهم على عدوهم، خاطب أمتنا بأن من أحسن عاد نفع إحسانه إليه، ومن أساء عاد ضرره إليه ترغيباً وترهيباً(2).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنك إن أحسنت فنفسك تكرم وإليها تحسن»(3).

وقال(عليه السلام): «إنك إن أسأت فنفسك تمتهن وإياها تغبن»(4).

استنتاج

إذن، فمن اللازم على الإنسان هو أن يتبع عقله ويعمل بما يقتضيه ليرقى في دنياه وآخراه، كما يلزم عليه أنه يؤدي حق اللّه وحق الناس، ويفعل الخير للآخرين، فإنما يجنّب نفسه من عقوق اللّه والناس ويفعل الخير لنفسه، وذلك

ص: 522


1- سورة الرعد، الآية: 25.
2- تفسير مجمع البيان 6: 222.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 267.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 267.

لرجوع النفع إليه، وعَود الأجر عليه. بينما الإنسان الجاحد لحق اللّه وحق الناس، التابع للشهوات والأوهام فإنه إنما يسيء بذلك لنفسه، ويعرّضها للعقوق، حيث يوقعها في المهالك ويبعدها عن الكمالات. قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «صنائع المعروف تدر النعماء وتدفع البلاء»(1).

وهكذا يظهر لنا مصير الإنسان في أقسامه الثلاثة، فمن عمل بعقله سعد في الدنيا ونجا في الآخرة، وكان من الفائزين الآمنين، ومن عمل على خلاف العقل ومن أجل تحقيق وهمه وخياله واتباع شهواته، وصرف عمره مهتماً ببطنه وفرجه،شقي في الدنيا وهلك في الآخرة، وكان من الخائفين الخاسرين.

«اللّهم صل على محمد وآله، واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غداً عنه، واستفرغ أيامي في ما خلقتني له، وأغنني وأوسع عليّ في رزقك، ولا تفتني بالنظر، وأعزني ولا تبتليني بالكبر، وعبّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب، وأجر للناس على يديّ الخير، ولا تمحقه بالمنّ، وهب لي معالي الأخلاق وأعصمني من الفخر»(2).

من هدي القرآن الحكيم

نعمة خلق الإنسان وحق الخالق

قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٖ مِّنْ حَمَإٖ مَّسْنُونٖ}(3).

وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}(4).

ص: 523


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 420.
2- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
3- سورة الحجر، الآية: 26.
4- سورة الفرقان، الآية: 54.

وقال جلّ وعلا: {خَلَقَ الْإِنسَٰنَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٖ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعَا بَصِيرًا}(2).

وقال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ}(4).

معرفة اللّه وشكره عبر معرفة النفس والآفاق

قال جلّ وعلا: {سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِي الْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(5).

وقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ ءَايَٰتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا}(7).

العقول تهدي إلى شكر النعم وأداء الحقوق

قال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(8).

وقال جلّ وعلا: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(9).

ص: 524


1- سورة الرحمن، الآية: 3- 4.
2- سورة الإنسان، الآية: 2.
3- سورة التين، الآية: 4.
4- سورة العلق، الآية: 2.
5- سورة فصلت، الآية: 53.
6- سورة الذاريات، الآية: 20-21.
7- سورة الشمس، الآية: 7- 8.
8- سورة يوسف، الآية: 2.
9- سورة المائدة، الآية: 100.

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال سبحانه عزّ وجلّ: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

إتقان العمل وصلاحه

قال جلّ وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَعَمَلًا}(4).

وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(5).

قال اللّه تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ}(6).

وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(7)

قال جلّ وعلا: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}(8).

وقال تبارك وتعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٖ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٖ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَٰنًا نَّصِيرًا}(9).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا

ص: 525


1- سورة الرعد، الآية: 19.
2- سورة إبراهيم، الآية: 52.
3- سورة الكهف، الآية: 7.
4- سورة الكهف، الآية: 30.
5- سورة الملك، الآية: 2.
6- سورة المؤمنون، الآية: 1-2.
7- سورة الشمس، الآية: 9-10.
8- سورة الصافات، الآية: 126- 128.
9- سورة الإسراء، الآية: 80.

لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}(1).

وقال سبحانه: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

معرفة اللّه عبر معرفة النفس

روي: أنه دخل على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) رجل اسمه مجاشع فقال: يا رسول اللّه، كيف الطريق إلى معرفة الحق؟ فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «معرفة النفس».فقال: يا رسول اللّه، كيف الطريق إلى موافقة الحق؟ قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «مخالفة النفس».

قال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى رضاء الحق؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «سخط النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى وصل الحق؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «هجر النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى طاعة الحق؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «عصيان النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى ذكر الحق؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «نسيان النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى قرب الحق؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «التباعد عن النفس».

فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى أنس الحق؟

ص: 526


1- سورة الزمر، الآية: 2-3.
2- سورة الصافات، الآية: 73-74.

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «الوحشة من النفس».

فقال: يا رسول اللّه، كيف الطريق إلى ذلك؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «الاستعانة بالحق على النفس»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل المعرفة معرفة الإنسان نفسه»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «من عرف قدر نفسه لم يُهِنْها بالفانيات»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «لا غنى كغنى النفس، ولا قوة كغلبة الهوى، ولا نوركنور اليقين، ولا يقين كاستصغارك الدنيا، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك»(4).

العقل وشكر النعم وأداء الحقوق

قال الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم): «سيد الأعمال في الدارين: العقل، ولكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته لربه»(5).

وقال أبوعبد اللّه(عليه السلام): «دعامة الإنسان: العقل، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالماً حافظاً ذاكراً فطناً فهماً، فعلم بذلك كيف، ولِمَ، وحيث، وعرف من نصحه ومن غشّه، فإذا عرف ذلك عرف مجراه وموصوله ومفصوله، وأخلص الوحدانية للّه والإقرار بالطاعة، فإذا فعل ذلك كان مستدركاً لما فات، ووارداً على ما هو آت، يعرف ما هو فيه، ولأي شيء هو هاهنا، ومن أين يأتيه، والى ما هو صائرٌ، وذلك كله من تأييد العقل»(6).

ص: 527


1- عوالي اللئالي 1: 246.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 189.
3- عيون الحكم والمواعظ: 460.
4- تحف العقول: 286.
5- بحار الأنوار 1: 96.
6- الكافي 1: 25.

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة»(1).

وقال(عليه السلام): «حجة اللّه على العباد: النبي، والحجة في ما بين العباد وبين اللّه العقل»(2).

العقل وأداء الحقوق واجتناب العقوق

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الخلق كلهم عيال اللّه، فأحبهم إلى اللّه عزّ وجلّأنفعهم لعياله»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ينبئ عن قيمة كل امرئ علمه وعقله»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لما أسري برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) حضرت الصلاة فأذن جبرئيل وأقام جبرائيل له، فقال: يا محمد تقدم، فقال للصلاة رسول اللّه: تقدم يا جبرائيل، فقال له: إنا لا نتقدم الآدميين منذ أمرنا بالسجود لآدم(عليه السلام)»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال اللّه عزّ وجلّ: الخلق عيالي، فأحبهم إلي ألطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) لأحد أصحابه: «اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى اللّه عزّ وجلّ والورع في دينكم والاجتهاد لله، وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 528


1- الكافي 1: 11.
2- الكافي 1: 25.
3- وسائل الشيعة 16: 345.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 810.
5- تفسير العياشي 2: 277.
6- الكافي 2: 199.

كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرني ذلك ويدخل علي منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفرٍ، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل: هذا أدب جعفرٍ، فو اللّه لحدثني أبي(عليه السلام): إن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي(عليه السلام) فيكون زينها، آداهم للأمانة وأقضاهم للحقوق وأصدقهمللحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلانٍ، إنه لآدانا للأمانة وأصدقنا للحديث»(1).

اتقان العمل وأداء الحقوق

قال الرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم): «... إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «... اللّه يحب عبداً إذا عمل عملاً أحكمه»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «قدموا خيراً تغنموا وأخلصوا أعمالكم تسعدوا»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «تصفية العمل أشد من العمل»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) أيضاً: «صفتان لا يقبل اللّه سبحانه الأعمال إلّا بهما، التقى والإخلاص»(6).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «وأعنّي على صالح النية، ومرضيّ القول،

ص: 529


1- الكافي 2: 636.
2- الكافي 3: 263.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 385.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 501.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 316.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 423.

ومستحسن العمل»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(2) قال(عليه السلام): «ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية اللّه، والنية الصادقة والحسنة» ثم قال: «الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد منالعمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحدٌ إلّا اللّه عزّ وجلّ، والنية أفضل من العمل، ألّا وإن النية هي العمل...»(3).

ص: 530


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في يوم عرفة.
2- سورة الملك، الآية: 2.
3- الكافي 2: 16.

ضرورة التعاون

مدنيّة الإنسان

قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ}(1).

الإنسان بطبيعته يميل نحو الارتباط بالآخرين والاحتكاك بهم، لأنه لا يستغني في كل مراحله عن المجتمع في الأخذ والعطاء منهم وإليهم. فالإنسان موجود لا تستمر حياته منتظمة ومتقدمة بدون الآخرين، وذلك على العكس من بعض الحيوانات التي تستطيع العيش بدون الاعتماد والاحتكاك مع الغير.

وهذا الإحساس الاجتماعي نابع من الفطرة المودعة في الإنسان، وليس هذا فحسب، بل إنه كلما ابتعد عن الآخرين فإنه يتحول إلى مخلوق وحشي بعيد عن طبع الإنسانية. وإن التعاون الإجتماعي من أبرز علامات المدنيّة والتفاعل الاجتماعي والاختلاط بين بني البشر... بل إن التعاون من المقوّمات الحقيقية للمجتمعات والتجمعات السكانية، لا سيّما التعاون على البر، كما أشارت الآية الكريمة إلى ذلك، لأنه خير، وإشاعة الخير سبب واقعي لحياة الإنسان وتقدمه ورقيّه.

وعكس ذلك ما لو انعدم التعاون في المجتمع، فإنه حينئذ سوف يكون بؤرة النزاعات والصدامات التي تؤخرّه، وتشل أهدافه أو تموّهها لتصبح بعيدة المنال.

ص: 531


1- سورة المائدة، الآية: 2.

ومن أجل ذلك نرى تحريض القرآن والسنة على التعاون، فعن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «خير الناس من نفع الناس»(1).

فالتعاون الاجتماعي أمر ملائم لطبع الإنسان، ويمكن وصفه بأنه جيش صامد أمام الأعداء، وعكسه الجيش المفكك الذي لا يصمد أمام أي هجمة، لعدم التعاون... فالتعاون بناء وبقاء، وعكسه هدم وفناء.

مصاديق التعاون

اشارة

جميع مصاديق التعاون تجتمع في صورتين هما:

التعاون الإيجابي

الأولى: التعاون على الخير، وهو يشمل جميع الصور الإنسانية الرفيعة المستوى، التي تصب في خدمة الإنسان وأهدافه النبيلة، من الإعانة، وقضاء الحوائج، والإقالة، والتسليف، والإنفاق، والتبرع بالمال والجهد والخدمة، وإصلاح ذات البين، والعناية بأمور الناس... .

وهناك معنىً آخر للتعاون، وهو من هذا القسم أيضاً، وهو نبذ الخلافات والتنسيق مع كل الأطراف، فهو أيضاً نوع من التعاون على إشاعة الخير والوحدة. وله ثمار عظيمة جداً، لا سيما أن أغلب هذه الثمار والفوائد تعود على الجماعة ومما يذكر في هذا المجال أن أحد علماء أصفهان، ويلقب (بآية اللّه الفشاركي)، كان ضد السلطة، وكان يجاهر بمعارضته وانتقاداته للنظام، فانزعج منه حاكم أصفهان، وكتب إلى ناصر الدين شاه قائلاً: في أصفهان رجل يأمر الناس بالابتعاد عن السلطة، وبعدم إعطاء الضرائب ونحو ذلك... .

فكلّف الشاه جماعة بأن يبعدوا آية اللّه الفشاركي إلى طهران. وفي ذلك اليوم

ص: 532


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 357.

كانت وسائل النقل منحصرة في الدواب. فركب هذا العالم دابته بصحبة جلاوزة الشاه، وتوجه إلى طهران. وطال سفرهم أيّاماً، وصل الخبر إلى علماء طهران، وكان فيها مرجعان يقتسمان تقليد طهران، وكان بينهما بعض الاختلاف في النظر. وذات ليلة كان أحد العالمين نائماً في فراشه، وإذا بالباب يطرق، فأسرع الخادم وفتح الباب، فرأى العالم الآخر على الباب، فتعجب الخادم، وأسرع إلى سيده (العالم الثاني)، صاحب الدار، وأخبره بالأمر، فأسرع العالم بدوره إلى باب الدار، واستقبل زميله فدخلا البيت، وجلسا، ولما استقر بهما المجلس، قال العالم الأول: إن طهران بيني وبينك، وهذا الرجل (يقصد الشاه) إذا تمكن أن يهين آية اللّه الفشاركي فإن الدور يأتي غداً لنا. والإسلام يدعونا إلى وحدة الصف. فالشرع والعقل متطابقان على أن نتحد ونتعاون، حتى نرفع الغائلة. قال العالم صاحب الدار: نعم هذا صحيح ولكن كيف؟ قال العالم الزائر: إن نصف طهران يقلدونك، والنصف الآخر يقلدونني، فلنرسل غداً من يصيح في الناس في الشوارع والأسواق والأزقة: أنه بأمر العالِمَين فلان وفلان (أنا وأنت): يجب على الناس إغلاق المحلات، والنفير إلى خارج طهران، لاستقبال (آية اللّه الفشاركي)، فإذا اتخذنا هذا الإجراء لم يستطع الشاه إهانة الفشاركي. فاتفق العالمان على الخطة، وتعاونا، وفعلاً فقد خرج الناس إلى خارج طهران لاستقبال الفشاركي. أما الشاه فحينما سمع بهذه القصة صعد إلى سطح القصر ومعه وزيره، وكان يسمى بالصدر الأعظم، فنظروا وإذا بالناس يخرجون في مجموعات كبيرة، والأسواق معطلة. فتوجه الشاه إلى الصدر الأعظم، وقال له: ما هو الخلاص؟ إن هؤلاء يتمكنون أن يرجعوا إلى قصري، وينزلونني عن عرشي، ويسقطوا حكمي. أرأيت كيف تعاون العالمان في طهران ضدي؟ قال الصدر الأعظم: العلاج أن تخرج أنت وجميعالوزراء لاستقبال العالم وتسأله عن سبب مجيئه إلى طهران، وتجاهل القضية،

ص: 533

وادعه إلى أحد قصورك وبذلك تخفف الوطأة، وتكون قد ربحت المعركة. فاقتنع الشاه بهذا الكلام، وفعلاً ذهب لاستقبال الفشاركي، وعند ما التقاه سأله عن سبب مجيئه إلى طهران؟ قال الفشاركي: أنت طلبتني.

قال الشاه: كلا، أنا ما طلبتك، فمن بلّغك هذا الخبر المكذوب؟!

قال: حاكمك في أصفهان.

قال: إنه أخطأ، والآن تفضل عندي في داري.

قال: لا إن لي مكاناً أذهب إليه، ثم أرجع إلى بلدي أصفهان.

وهكذا يكون التعاون سبباً للقوة، لأن القوى الفردية سوف تتحد وتُنبذكل الخلافات ووجهات النظر، التي تحول دون الوحدة والتعاون، من أجل الخير. ولقد أكدت السنة الشريفة على المعاونة لفعل الخير؛ فعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «رحم اللّه والداً أعان ولده على بره. رحم اللّه جاراً أعان جاره على بره. رحم اللّه رفيقاً أعان رفيقه على بره. رحم اللّه خليطاً أعان خليطه على بره. رحم اللّه رجلاً أعان سلطانه على بره»(1).

التَّعاون السلبي

هو المصداق الثاني من مصاديق التعاون، ولكن الأول كان في سبيل إشاعة الخير، وهو إيجابي، بينما هذا القسم من النوع السلبي، وهو التعاون من أجل الشر وفعله، والقبيح وفعله، والتاريخ مليء بهذا الأمر... ولكن أقبحها صورة هو عندما يتعاون الأفراد أو الأمة جمعاء على قتل نبيّها أو وصيّه، كما كان الأمر في مجتمع الكوفة عند ما اجتمعوا وتعاونوا على محاربة الإمام الحسين(عليه السلام)، فكانت شرّ عصابةفي تاريخ البشرية ارتكبت أعظم معصية، وهي قتل ابن بنت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم). ولا

ص: 534


1- ثواب الأعمال: 186.

يخفى أن قتله كان شر قتل، فقد رموه بالحجارة والنبال والسهام، وضربوه بالسيوف والرماح، وأحرقوا خيام عياله، ثم حزّوا رأسه المقدس، ورفعوه على الرماح. وكذلك الحال عند ما تعاون اليهود مع قريش في محاربة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في معركة الأحزاب. فإن هذا النوع من التعاون على نقيض من النوع الأول، وهو التعاون على فعل الخير والبر. فهذا النوع الثاني هو الذي يصطلح عليه ب- (الظلم). ولذلك قال الإمام الحسين(عليه السلام): «اني لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً»(1).

لقد سمّاهم بالظالمين. وكذلك الأمر عند ما تعاون الأول مع الثاني على غضب الخلافة من أمير المؤمنين(عليه السلام)، فهذا أيضاً تعاون سلبي لا إيجابي، لأنه لم يخدم الإسلام والمسلمين، بل كان فاتحة الفرقة والانشقاق.

ومن غرائب الأمور التي يستقبحها العقل هو أن الخليفة الأول لما رأى الناس معرضة عنه، ساخطة على فعله هذا، قال: (أقيلوني فلست بخيركم)(2).

أي: أنا لست أفضلكم. ومن جهة أخرى تراه يعمل على تنصيب الخليفة من بعده، فإذا كان لا يصلح للخلافة بنفسه فكيف يعهد بها إلى غيره؟!

معنيان للتعاون

إن للتعاون في الكتاب الكريم، والسنة المطهرة معنيين: فتارة يذكر ويشمل التعاون المعنوي، وأخرى يشمل التعاون المادي.

أما بالنسبة للأول، التعاون المعنوي: فهو كثير، وله صور متنوعة، كإقامة الشعائر الدينية، التي هي عبارة عن حالة روحية معنوية، وقد جاءت النصوصالمقدسة في التشجيع على هذا النوع من التعاون؛ قال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ

ص: 535


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 68.
2- شرح المقاصد في علم الكلام 2: 287.

اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(1). مثل إقامة المآتم على إمامنا الحسين(عليه السلام)، وقد وردت أخبار تؤكد على ذلك، أمثال زيارة الحسين، والتباكي عليه، وقول الشعر فيه، والحضور في مجالس عزائه، وغيرها من أنواع إقامة الشعائر وإحيائها. فعن مولانا الصادق(عليه السلام) قال: «ما من أحد قال في الحسين(عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى إلّا أوجب اللّه له الجنة وغفر له»(2). وفي دعاء الإمام الصادق(عليه السلام): «... اغفر لي، ولإخواني، وزوار قبر أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)، الذين أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم، رغبة في برّنا، ورجاءً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك صلواتك على وآله... ، فكافهم عنّا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنهار، واخلف على أهاليهم...»(3). فإذا سمع المحب دعاء الإمام هذا، فكيف لا يرغب في زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)؟

ولا يخفى أن قوافل زوار الحسين(عليه السلام) لم تكن وليدة اليوم، بل كانت منذ مئات السنين، حيث كانوا يتعاونون للوصول إلى قبره، ويعين أحدهم الآخر على ذلك. ومن صور التعاون المعنوي أيضاً عيادة المريض، وكذلك الدعاء للإخوان في ظهر الغيب، وتبادل الكلمات الطيبه مع الناس، ورُبّ كلمة تجلو الهمّ والكرب عن إنسان أفضل من المال والأمور الأخرى، وصلاة الجماعة هي كذلك تعبير آخر عن التعاون المعنوي الذي يزيد أواصر الأفراد، ويقوي العلاقات الاجتماعية. وكذلك هناك صور أخرى معبرة عن التعاون المعنوي، وهي إلقاء النصيحة والموعظة للناس. فإن الموعظة إعانة مؤثرة، لاتقلّ عن النفقةوالمساعدات المادية، إن لم نقل أنها أهم منها؛ يقول أمير المؤمنين(عليه السلام)، في هذه

ص: 536


1- سورة الحج، الآية: 32.
2- وسائل الشيعة 14: 594.
3- الكافي 4: 582.

الصدد: «المواعظ حياة القلوب»(1).

ولا يخفى أن هذا أهم شيء بالنسبة للإنسان، وهو أن يظل قلبه حيّاً، ينبض بالإيمان وحب اللّه فمن آثار الموعظة: «بالمواعظ تنجلي الغفلة»(2).

وهناك قول آخر يدل بوضوح على أن المواعظ إحسان وبر، ولا شك أن البر من باب التعاون كما مر ذكره؛ فيقول(عليه السلام): «من وعظك أحسن إليك»(3).

التعاون في صدر الإسلام

ومن العوامل التي ساعدت على ازدهار الإسلام في صدره الأول هو: أن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، قد أرسى قواعد مجتمعه على أساس التعاون، وكان أول ذلك هو المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، وحصلت تلك الألفة، وذلك التقارب والانسجام، فحينما جاء المهاجرون إلى المدينة، ولم يكن عندهم بيت ولا ملابس ولا طعام، قاسمهم الأنصار بما عندهم، وشاركوهم في عملهم، كشركاء شرعيين، إلى درجة أن المؤرخين ذكروا أن سعد بن ربيع وعبد الرحمن بن عوف - وكان سعد من الأنصار بينما كان عبد الرحمن من المهاجرين - قد تشاركا في كل شيء، إلى درجة أن سعداً قال لعبد الرحمن: إن عندي زوجتين، فاختر لك واحدة منهما، حتى اطلّقها وتتزوجها أنت بعد انقضاء عدّتها(4).

مشكلات الزواج... لماذا؟

واضح أن الناس في زمان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لم يكونوا يعا نون من أي مشكلةفي مسألة الزواج. فإن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) سهل ذلك بتوصياته وسلوكه مع الناس. وذلك

ص: 537


1- عيون الحكم والمواعظ: 17.
2- عيون الحكم والمواعظ: 187.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 586.
4- انظر المعجم الأوسط 1: 59.

بتبسيط شرائط المهر وجهاز الزواج. ثم إن هناك قاعدتين كان الناس يراعونهما عند الزواج؛ الأولى: شرعية، والثانية: اجتماعية. ويلاحظ بينهما وجه الافتراق، ذلك أن الإسلام بل كل دين الهي، وكل قانون عقلائي يأخذ بنظر الاعتبار مدى قبول الناس لذلك القانون، إلّا أنه لا يغفل عن الأسس الأخلاقية؛ مثل الإحسان والفضيلة. بل يأخذ الأمرين بعين الاعتبار، دون إهمال طرف على حساب الطرف الآخر، ولا يمكن أن يقر الدين القانون الذي يتفق عليه الناس فقط، فيبدلونه كلما أرادوا، تبعاً لعسرهم ويسرهم. ولذا حدد الإسلام تصرفات الناس الضرورية بين حلال وحرام بينما جعل التصرفات غير الضرورية بين مستحب ومكروه. وعلى أية حال فإن الذي كان معروفاً في المجتمع الإسلامي آنذاك هو: أن الزواج كان أمراً سهلاً ميسوراً. لأن المرأة والرجل يحتاج كل منهما للآخر، فلماذا يجعل كل منهما شروطاً تقف حائلاً دون الزواج.

وأن الإسلام استطاع أن يبني مجتمعاً رفيعاً قائماً على أساس التعاون، سواء في الحرب أو في السلم، فحينما كان الأعداء يبدأون بالهجوم على المسلمين، كان المسلمون كافة يبادرون ويتأهبون للدفاع عن بيضة الإسلام، وإذا وجدوا فقيراً من المسلمين، فإنهم كانوا يتعاونون من أجل انتشاله من أزمته.

إذن، لم تكن هناك مشكلة بطالة، ولا مشكلة زواج، ولقد رأيت الإسلام في أدواره الأخيرة، وإن كان قد نُحي عن مسرح الحياة بنسبة (50%) ففي العراق، وقبل (50) عام، كان هناك بقايا من آثار الإسلام. وبعد الحرب العالمية الثانية انهدم المجتمع الإسلامي، وإني أتذكر جيداً أن في كربلاء لم يكن هناك من يعاني من مشكلة الزواج، سوى شخصين حيث كانا يعانيان من مرض يمنعهما من الزواج. ولقد كنت آنذاك قريباً من الناس، بسبب وجود مرجعية الوالد(رحمه الله).

وفي كربلاء التي كان تعداد سكانها 100 ألف نسمة، كان عدد غير

ص: 538

المتزوجين لا يتجاوز العشرة، لأن المجتمع آنذاك كان متعاوناً، وبسيطاً في معيشته، ويحمل القدر الكافي من الإيمان.

إن معاناة المجتمع، سواء كانت متمثلة في مشكلة الزواج، أو مشكلة البطالة، أو مشكلة الفقر، كلها عقبات في طريق تقدم المجتمع. وواضح ان أحد الأسباب المهمة في نشوء هذه العقبات هو انعدام روح التعاون الخلّاق في ما بين الناس. لأن التعاون الذي كان جارياً بين الناس، هو الذي أدى إلى قضاء حوائج أفراد المجتمع، وبالتالي فإن التعاون كان يشكل إحدى الدعائم التي يرسو عليها رقيّ البلاد. كما أن نفوذ الإسلام إلى قلوب الشعوب ما كان بقوة السيف، بل إن الناس عرفوا الدين شيئاً جميلاً، فأجروه في حياتهم.

إن أحد الكتاب المسيحيين ألّف كتاباً، أسماه: (الدعوة إلى الإسلام)(1).

ومما ذكر فيه هو قوله: أن أحد أسباب انتشار الإسلام بين البلدان، هو أن هذا الدين كان ديناً جميلاً يجذب العقول والقلوب، وأن المسلمين كانوا يعتقدون أنهم مدعوّون لنشر الإسلام في مختلف البقاع بدافع من هذا الدين. كما أنهم ما كانوا يعانون من صعوبة في الحياة تلهيهم عن ذلك.

صورٌ قبيحة

هناك صورة من صور التعاون، ولكنها قبيحة للغاية، وقد جرّت علينا الويلات والمآسي، وهي تعاون الطواغيت والمتآمرين من الحكام وغيرهم مع الاستعمار ضد شعوبنا المسلمة. ولا يخفى أن عملهم هذا يسمى تآمراً على سرقة أموال المسلمين، ونهب ثروات البلاد. وليس هذا فحسب، بل إن بعض العملاء عملواوتعاونوا مع الاستعمار على الاستيطان في بلاد المسلمين، كما هو الحال في

ص: 539


1- كتاب: (الدعوة إلى الإسلام) للمستشرق البريطاني: سير توماس أرنولد (1864م-1930م).

فلسطين، وصاروا هم أصحاب البلاد، والمسلمون غرباء في أوطانهم.

أما معاملة المستعمرين مع أبناء شعوبنا المظلومة فحدّث عنه ولا حرج، فقد عملوا على استضعافهم، ومصادرة حرياتهم، وإعلان الأحكام العرفية بحقهم... وطالت مشانقهم كل الأصوات الحرة التي تنادي بالاستقلال، ومحاربة المحتل الغاصب. ومن يلاحظ سلوك الاستعمار هذا، وسلوك الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، ومن بعده أمير المؤمنين(عليه السلام)، يلاحظ البون الشاسع بين السلوكين، فالرسول الأعظم كان يعامل النصارى واليهود كمعاملة المسلمين، ولا يفرق بينهم؛ والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كان قد أوصى الأشتر عند ما بعثه والياً على الناس في مصر جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) بقوله: «... فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق»(1).

وقد قال القرآن الكريم {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًا}(2)، {وَإِخْوَٰنُ لُوطٖ}(3)، أي: إن الكفار هم إخوان الأنبياء من حيث الإنسانية.

كما نسب إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله:

الناس من جهة التمثال أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء

فإن يكن لهم في أصلهم نسب *** يفاخرون به؛ فالطين والماء(4)

إذن، كان الكفار الذين يعيشون بين المسلمين يتمتعون بالراحة والحرية، وإن ذلك هو مظهر من مظاهر التعاون والرأفة الإسلامية، فلم يكن هناك تمايز علىأساس اللون واللغة والموقع الجغرافي، بل كان الجميع متحابين منسجمين.

ص: 540


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولّاه على مصر.
2- سورة الأعراف، الآية: 73.
3- سورة ق، الآية: 13.
4- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 24.

وكذلك بين الفقراء والأغنياء كانت هناك محبة وشفقة، على عكس ما عليه الناس اليوم.

والواقع، حينما لا يكون هناك حق فمن المعلوم أن الباطل سيحل محله.

ولو عادت اليوم موازين الإسلام إلى الحياة، وعادت الأخوة والتعاون والحرية والأمة الواحدة؛ فإن جميع المشاكل تكون قابلة للحل، وسيحصل الناس على رفاه منقطع النظير.

إذن، علينا أن نكثّف نشاطاتنا من أجل إعادة التعاون إلى ساحة الحياة، وهذا ما يجب أن يتكفل به أولئك الذين يريدون حلّ مشاكل الحياة، والقضاء على أزماتها، وإن ذلك يتطلب برنامجاً خاصاً، بالإضافة إلى إعادة الأخوة والمحبة وبناء الأمة الإسلامية الواحدة، لكي تعم السعادة كل الحياة.

وقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «المؤمن منفعة إن ماشيته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن شاركته نفعك، وكل شيء من أمره منفعة»(1).

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

إصلاح ذات البين

قال تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(3).

ص: 541


1- نهج الفصاحة: 781.
2- الكافي 3: 424.
3- سورة الأنفال، الآية: 1.
الإيثار

قال سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(1).

الإقراض

قال عزّ وجلّ: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}(2).

الإطعام

قال جلّ وعلا: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}(3).

لا للفرقة ولا للاختلاف

قال عزّ اسمه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ...}(4).

وقال جلّ شأنه: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(5).

وقال عزّ من قائل: {وَلَا تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا}(6).

وقال سبحانه: {... أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ...}(7).

ص: 542


1- سورة الحشر، الآية: 9.
2- سورة الحديد، الآية: 11.
3- سورة الإنسان، الآية: 8.
4- سورة آل عمران، الآية: 103.
5- سورة آل عمران، الآية: 105.
6- سورة الروم، الآية: 31 - 32.
7- سورة الشورى، الآية: 13.

من هدي السنّة المطهّرة

صور من التعاون
إصلاح ذات البين

قال الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) لأبي أيوب الأنصاري: «يا أبا أيوب ألّا اُخبرك وأدلَك على صدقة يحبها اللّه ورسوله: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتباعدوا»(1).

الإيثار

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الإيثار أحسن الإحسان، وأعلى مراتب الإيمان»(2).

الإقراض

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من أقرض مؤمناً قرضاً ينتظر به ميسوره كان ماله في زكاة، وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤديه إليه»(3).

الإطعام

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): من أطعم ثلاثة نفر من المسلمين أطعمه اللّه من ثلاث جنان في ملكوت السماوات الفردوس وجنة عدن وطوبى»(4).

لا للفرقة ولا للاختلاف

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الجماعة رحمة، والفرقة عذاب»(5).

ص: 543


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 6.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 90.
3- ثواب الأعمال: 138.
4- الكافي 2: 200.
5- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 27.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزموا الجماعة، واجتنبوا الفُرقة»(1).

وقال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «من سرّه أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة»(2).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنة، وفراق الجماعة»(3).

ص: 544


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
2- نهج الفصاحة: 736.
3- المحاسن 1: 94.

فهرس المحتويات

الحجاب الدرع الواقي

الحجاب في القرآن... 5

لماذا الحجاب؟... 5

أولاً: بقاء المحبة الزوجية... 6

ثانياً: الحفاظ على الحياة الزوجية... 7

ثالثاً: توقي الانحرافات الجنسية... 8

أمثلة من الواقع... 10

نظرة السوء... 10

أحبلني ميكائيل!!... 10

من آثار عدم الحجاب... 11

برصيصا العابد... 12

خاتمة... 13

المرأة وطلب العلم... 13

الزواج المبكر... 13

المرأة كاملة لا نقص فيها... 14

مشروع الزواج... 15

الزواج ومواصلة الدراسة... 20

المرأة في المجتمع الغربي... 22

ملحق: روايات في النظر والاختلاط... 28

من سهام إبليس... 28

ص: 545

من ترك النظر... 28

النظرة بعد النظرة... 28

النظرة المهلكة... 29

ثواب غض البصر... 29

لماذا الحجاب؟... 29

لا تتبع النظرة بالنظرة... 29

النظرة توجب الفتنة... 30

من ملأ عينيه حراماً... 30

من صافح امرأة أجنبية... 30

لا تكلم الأجنبية... 31

من فاكه امرأة... 31

ما يميت القلب... 31

لا تعودن إليها... 31

أخت الزوجة والغريبة... 32

لا تنظر في أدبار النساء... 32

ارض للناس ما ترضاه لنفسك... 32

مسامير من نار... 32

لا تطلق ناظرك... 32

دوام الحسرة... 33

زنا العين... 33

ثواب الحج والعمرة... 33

أفضل الغنائم... 33

غضوا أبصاركم... 34

إياكم والنظر... 34

الموت ولا النظر... 34

ص: 546

لو ذهبت عيناك... 34

إنها الفتنة... 34

مصائد الشيطان... 35

من أصاب امرأة نظرة... 35

من ترك النظر... 35

لعنهما اللّه... 35

رائد الفتن... 35

ذهاب النظر خير... 36

النظرة والحسرة... 36

راحة القلب... 36

من أطلق طرفه... 36

من شروط البيعة... 36

من غض طرفه... 36

محادثة النساء... 36

لا تحادث النساء... 37

لا تمازح الفتيات... 37

أقلل من محادثة النساء... 37

لا تمش خلف المرأة... 37

النظر إلى العورة... 37

من صافح أجنبية... 38

الحجاب أمان من الإيذاء... 38

عين غضت عن محارم اللّه... 38

خير النساء... 38

ألستما تبصرانه... 39

لا تسلم على الشابات... 39

ص: 547

الحجاب حتى من الأعمى... 39

تقبيل المحارم... 39

اشتد غضب اللّه... 39

من قبل غلاماً بشهوة... 40

لجام من النار... 40

لا تحب الزنا... 40

عفّوا عن نساء الناس... 40

من علائم ولد الزنا... 40

خراب البيت... 41

النار بلا حساب... 41

أعظم المحرمات... 41

لا تهم بزنا... 41

ظهور الزلازل... 41

الفقر والمسكنة... 42

حبس الرزق... 42

تبعات الزنا... 42

الحزب في النظرية الإسلامية

الإسلام والتطور السياسي... 43

ظاهرة الأحزاب... 45

الحزب مجال للتنافس الشرعي... 47

وفي يوم عاشوراء... 50

من فوائد التعددية الحزبية... 51

حرية الرأي والتعددية في ظل الإسلام... 53

الإسلام وسياسة الانفتاح... 54

عفو عن ذنب... 56

ص: 548

مع عائشة... 57

الدولة الإسلامية دولة المؤسسات والتكتلات... 57

نماذج من توصيات أمير المؤمنين(عليه السلام)... 59

التعددية الغربية من بركات الإسلام... 62

من هدي القرآن الحكيم... 64

الحكم ذو الطابع الشرعي... 64

الحرية الإسلامية... 65

الحسنات لا السيئات... 66

أهل البيت(عليهم السلام) هم القادة الشرعيون... 66

من هدي السنّة المطهّرة... 67

الحرية في الإسلام... 67

الحكم للّه وحده... 67

الإسلام والعمل الصالح... 68

أهل البيت(عليهم السلام) هم الخلفاء الشرعيون... 69

الخبرة ودورها في الحياة

الخبرة علم... 70

لا علم لنا... 70

الخبرة العملية... 74

من مقومات الخبرة... 74

الخبرة الزراعية... 75

هيمنة اليهود الاقتصادية... 75

الخبرة في الروايات... 77

من أين نبدأ؟... 78

الانتكاسات عبرة... 80

ص: 549

دروس من ثورة العشرين... 81

عالم اليوم والخبراء... 84

الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) والخبرات... 85

موسى والخضر(عليهما السلام)... 86

من هدي القرآن الحكيم... 90

مقومات الخبرة... 90

1- العلم... 90

2- الوعي والبصيرة... 90

3- الاعتبار من عواقب الماضين... 91

4- التفكر... 91

من هدي السنّة المطهّرة... 92

مقومات الخبرة... 92

1- العلم... 92

2- الوعي... 92

3- الاعتبار من عواقب الماضين... 93

4- التفكر... 93

الرأي العام ودوره في المجتمع

الرأي والعزيمة... 95

حقيقة الرأي العام... 96

مقومات الرأي العام... 96

أهمية الرأي العام... 97

كيف نهيئ الرأي العام الإسلامي؟... 98

شواهد من الرأي العام وتأثيره... 99

الرأي العام وفرض البدع... 99

ص: 550

هذا هو تأثير الرأي العام... 103

انكسار قدرة يزيد... 103

احترام الرأي العام... 107

لا بد أن نتسلح بالمعنويات أولاً... 107

قصة والد العلامة مع هولاكو... 110

استمرار المؤامرة... 111

نهج الأعداء... 113

كيف نوظّف الرأي العام لإنقاذ العراق؟... 114

لمحة تاريخية... 115

الإيثار... 117

في إحدى الغزوات... 117

في غزوة تبوك... 119

نموذج من الإيثار... 119

أثر الإسلام... 120

الثقافة سبب التغيير... 122

من هدي القرآن الحكيم... 123

مجانبة الاستبداد بالرأي... 123

ترك المداهنة في الدين... 124

التوعية الدينية... 125

من هدي السنّة المطهّرة... 125

عدم الاستبداد والتفرد بالرأي... 125

البيان والقدرة على الدفاع عن الحق... 126

ترك المداهنة في الدين... 126

العلم أصل كل خير... 127

الرأي والعزيمة... 127

ص: 551

فضيلة الجماعة وكسب الآراء... 128

الجماعة خير ورحمة... 128

الرأي العام وسبل توجيهه

الرأي العام في التاريخ... 130

الرأي العام وأقسامه... 133

الرأي العام الهادف... 134

الإعلام والرأي العام... 135

الإعلام الهادف... 136

الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) والرأي العام... 138

أخذ البيعة لأمير المؤمنين(عليه السلام)... 140

الرأسمالية والرأي العام... 141

الاشتراكية والرأي العام... 143

العراق وتأثير الرأي العام... 145

من هدي القرآن الحكيم... 147

في وحدة الصف الإسلامي وتعاضده... 147

الدعوة الأمثل والأنجح أسلوباً ومنهجاً... 147

العمل بالمشورة وتجنب الاستبداد بالرأي... 148

زيف وبطلان المذاهب المادية... 148

الوعي والاعتبار من صفات المؤمنين... 148

من هدي السنّة المطهّرة... 148

في التآخي الإسلامي... 148

أبرز صفات الداعية... 149

الإصابة في الاستشارة... 150

في الوعي والاعتبار واليقظة... 150

ص: 552

الزواج وتشكيل الأسرة في الإسلام

قانون الزوجيّة في كلِّ مظاهر الحياة... 151

الزوجية أمر ضروري... 154

النفس الواحدة... 155

نظرية أصل الإنسان... 157

القرآن والمسوخ... 158

نظريات وانحرافات... 161

الأسرة في الإسلام... 162

حرية المرأة في الزواج... 164

المرأة في الإسلام والأمم السابقة... 165

المرأة في المجتمعات غير الإسلامية... 168

كيف نحافظ على الأسرة؟... 174

مرحلة ما بعد الزواج... 179

الإيمان وتأثيره على الأسرة... 180

الزواج المبارك... 181

العودة إلى مقاييس القرآن... 192

من هدي القرآن الحكيم... 196

الحث على الزواج... 196

اختيار الزوجة الصالحة... 196

التعامل الأخلاقي عامل انسجام... 197

آثار الإيمان... 197

من هدي السنّة المطهّرة... 198

الحث على الزواج... 198

الزوجة الصالحة... 198

حسن الخلق عامل انسجام الأسرة... 199

ص: 553

آثار الإيمان... 199

السبيل إلى الوحدة الإسلامية

أمة واحدة ورب غفور... 201

مقومات الأمة الواحدة... 201

أولاً: الأموال والثروة... 202

المال ليس هدفاً... 203

إنفاق الأعداء... 204

الإنفاق والتوعية... 204

دور المال... 204

ثانياً: الإعلام... 205

تهمة الإرهاب... 207

ثالثاً: التنظيم... 209

دور التنظيم في تحقق الانتصار... 210

التنظيم في معركة بدر... 212

رابعاً: نبذ الخلاف واحترام الرأي الآخر... 212

كلام حول الانتفاضة الشعبانية... 214

دور المرجعية في قيادة الأمة... 215

إعادة السيادة والكرامة... 217

من هدي القرآن الحكيم... 218

توازن الأموال وأثرها في المجتمع... 218

البلاغ المبين... 218

زرع روح الأخوة... 219

من هدي السنّة المطهّرة... 219

أثر الأموال في المجتمع... 219

الفقهاء خلفاء الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)... 220

ص: 554

النظم في العمل... 221

الأخوة الإسلامية... 221

السعي نحو مجتمع إسلامي

الأمم وما تكتسبه... 223

من هو المسلم؟... 224

نماذج من القادة الصالحين... 227

الشيخ الكليني(رحمه الله)... 227

الشيخ الصدوق(رحمه الله)... 227

الشيخ الطوسي(رحمه الله)... 229

الشيخ الأنصاري (رحمه الله)... 229

حصيلة عمر العظماء... 230

ما هو المطلوب منا؟... 231

العوالم التي نمر بها... 234

1- عالم الذر... 234

2- عالم الأرحام... 239

تأثير العوالم وتأثرها... 239

وصايا وآداب عن الأئمة(عليهم السلام)... 241

3- عالم الدنيا... 246

الدنيا مزرعة الآخرة... 247

الترابط بين العوالم... 247

العاقل وتعامله مع الدنيا... 248

الجمع بين الدنيا والآخرة... 249

نماذج ثقافية... 252

عبر وعظات... 255

ص: 555

مثال جميل... 255

4- عالم البرزخ... 257

البرزخ وأول مراحله... 260

مخاوف عالم البرزخ... 260

هل في عالم البرزخ تكامل؟... 261

5- عالم الآخرة... 264

من خصائص يوم القيامة... 266

يوم القيامة ومنجياتها... 267

المصير والمأوى: الجنة أو النار... 270

من هدي القرآن الحكيم... 274

عالم الذر والأصلاب... 274

عالم الأرحام... 274

عالم الدنيا... 275

خاتمة عالم الدنيا... 276

عالم البرزخ... 277

عالم الآخرة... 277

من هدي السنّة المطهّرة... 277

عالم الذر والأصلاب... 277

عالم الأرحام... 279

فرصة العمر... 281

حب الدنيا والاغترار بها... 282

عالم البرزخ... 283

ما ينفع للدنيا والبرزخ والآخرة... 285

زراعة الدنيا للآخرة... 294

ص: 556

الشعور بالمسؤولية

تحمل المسؤولية... 295

من مشاكل الأمة... 297

معاناة سيد الرسل(صلی الله عليه وآله وسلم)... 297

غفلة المسلمين اليوم... 302

العلماء وتحمل المسؤولية... 304

صاحب التفاسير الثلاثة... 305

الجنة للصابرين... 305

الإخلاص والتبليغ... 307

حادثة في بغداد... 308

نموذج من الدقة في العمل... 311

مع السيد القمي(رحمه الله)... 312

في سجن نوري السعيد... 313

وعي المسؤولية وتحمل الصعاب... 315

من هدي القرآن الحكيم... 315

العقيدة والعمل الصالح... 315

الابتعاد عن الغفلة... 316

الشعور بالمسؤولية... 316

إخلاص العمل للّه تعالى... 317

من هدي السنّة المطهّرة... 317

الشعور بالمسؤولية... 317

إياكم والغفلة... 318

إخلاص العمل للّه تعالى... 319

الشعور بالمسؤولية وليد الإيمان... 319

ص: 557

الشيعة والحكم في العراق

الحضارة الإنسانية... 321

الشيعة في اللغة... 322

أصل الشيعة... 323

انتشار التشيع في العراق... 326

بين الأمويين والعباسيين... 327

نهاية الحكم الأموي... 328

انتقال مركز التشيع من الكوفة إلى بغداد... 330

فترة ولاية الحكام الشيعة... 330

ولاية البويهيين... 330

المغول والتشيع... 331

الدولة الجلائرية والتشيع... 332

الدولة الصفوية والتشيع... 332

الدولة العثمانية والضغط على الشيعة... 333

الموصل والتشيع... 334

الشيعة في عراق اليوم... 336

نظرة إلى واقع العراق المعاصر... 337

من يتخذ القرار؟... 339

الحكومة المستقبلية... 339

مع الأمل وبعيدا عن اليأس... 340

صورة الحكومة الإسلامية... 341

من هدي القرآن الحكيم... 342

الشيعة... 342

الحكومة العادلة... 342

من واجبات المسلم... 343

ص: 558

1- رفض الحكومات الجائرة... 343

2- تحمل المسؤولية والاهتمام بها... 344

نشر الفكر الإسلامي... 344

من هدي السنّة المطهّرة... 345

من هم الشيعة... 345

ضرورة العمل... 346

المسؤولية وتعظيمها... 347

خير الملوك... 348

واجب الملوك... 348

من هو الحاكم؟... 349

المال ليس للحكام... 349

الصلح مع اليهود استسلام لا سلام

من هم اليهود؟ ومن هي إسرائيل؟... 350

الأصل الجديد ليهود اليوم... 351

مزاعم اليهود... 352

الطابع التجاري لديانة اليهود... 352

اليهود في البلاد العربية... 353

فلسطين في التاريخ... 353

الفتح الإسلامي... 354

المملكة الصليبية... 355

الحكم الإسلامي في فلسطين... 356

التدفق الجديد لليهود... 356

الحركة الصهيونية... 357

المراوغة من أساليب اليهود... 357

اليهود بؤرة الفساد والكساد... 358

ص: 559

اليهود وإثارة الفتن... 359

لعبتهم مع الملوك... 360

إسرائيل صنيعة الاستعمار... 361

إسرائيل وعروض السلام!!... 361

العرض الخياني... 362

زيارة وتجارة... 362

مواقف الأنظمة العربية... 363

مواقف العدو الصهيوني... 363

وتمسكنوا ليتمكنوا... 364

مهازل بسبب البعد عن الإسلام... 365

الإسلام هو العلاج... 367

من هدي القرآن الحكيم... 369

النهي عن موالاة ومودة الكافرين... 369

اليهود والفساد... 370

ذم المكر والسعي في الفتنة... 370

من هدي السنّة المطهّرة... 371

النهي عن موالاة أعداء اللّه... 371

الاستسلام والغدر والخيانة... 371

معرفة العدو ومعاملته... 372

العودة إلى حكم الإسلام... 372

الطريق إلى الغيب

الخوف والرجاء والحب... 373

التقرب إلى اللّه... 374

اختيار الإنسان... 375

المرتبة الرفيعة... 376

ص: 560

كيف يورث هذا الحب الإخلاص؟... 377

النظر بنور اللّه... 379

قصة خطيب... 381

صفاء القلب عند السيد محمد تقي الطباطبائي(رحمه الله)... 383

قصة الشيخ دُخني!... 383

قوة الروح عند الميرزا علي آغا الزاهد... 384

قصة أخرى... 385

مكاشفة في عالم البرزخ... 385

شهر رمضان فرصة لتقوية الروح... 386

الميرزا صادق التبريزي تنبّأ بوفاته!... 387

من هم المتقون؟... 387

من هدي القرآن الحكيم... 390

ما يورث التقوى... 390

العبادة التصديقية... 391

أحباب اللّه... 391

نور التقوى... 391

ثمار التقوى... 392

من هدي السنّة المطهّرة... 392

سمات المتقين... 392

العبادة التصديقية... 393

اكتساب الحب الإلهي... 394

الطموح في حياة الإنسان

الطموح لغة... 395

آية الطموح إلى المعالي... 396

الإنسان والطاقات المودعة فيه... 398

ص: 561

الطاقات الإنسانية في ظل الإسلام... 399

أهل البيت(عليهم السلام) والطاقات الإنسانية... 400

أهل البيت(عليهم السلام) قدوة وأسوة... 401

التوازن في كل شيء... 403

الكون والحياة متوازنان... 404

التوازن هي السمة العامة للأشياء... 405

الطموح والأمل مقدمتا التوازن... 407

الشيعة إذا فقدوا الطموح والأمل... 408

الطموح إلى الآخرة... 409

الحج: تدريب على الطموح... 410

الطموح ومنافع الحج... 411

مخاوف الاستعمار من شعيرة الحج... 413

القضاء على طموح المسلمين... 413

استنتاج... 415

تخطيط شيطاني لتحطيم طموح المسلمين... 417

طموح المسلمين قبل ثلاثة عقود... 418

الطموح من أهداف الحج... 420

الحديث الشريف وزماننا العصيب... 420

أهداف الحج في الحديث الشريف... 421

كل شيء من أجل الطموح والأمل... 423

معلم الطموح الكبير والأمل الصادق... 424

الطموح والتضخيم الإعلامي... 427

الطموح ومقومات النهضة الإصلاحية... 428

1- الوعي... 428

2- التنظيم... 429

ص: 562

3- الاكتفاء الذاتي... 429

4- الطموح والأمل الصادق... 431

من هدي القرآن الحكيم... 432

الطموح والأمل... 432

التوازن في كل شيء... 433

الحج: تدريبٌ على الطموح... 433

الطموح ومقومات الإصلاح... 434

من هدي السنّة المطهّرة... 435

الطموح والأمل... 435

تنافي الطموح مع الكسل... 436

الحج: تدريب على الطموح... 436

التوازن في كل شيء... 437

العِبرة سبيل النجاة

كيف نعتبر؟... 439

متابعة التاريخ... 439

التجارب الشخصية... 440

الأحداث المعاصرة... 441

دراسة المستقبل... 442

شاهد من التاريخ... 444

الاعتبار سبب التقدم... 445

التقدم الروحي المعنوي... 446

قصة المشي إلى بيت اللّه... 446

العِبرَةُ سبيلُ النجاة... 449

كلمة أخيرة... 451

من هدي القرآن الحكيم... 452

ص: 563

1- العودة إلى القرآن... 452

2- العبرة... 453

3- الوعي... 454

4- التعقل... 454

من هدي السنّة المطهّرة... 455

1- العودة إلى القرآن... 455

2- العبرة... 457

3- الوعي والتفكر... 458

4- التعقل... 459

العراق... ماضيه ومستقبله

لا تكن عبد غيرك... 460

سياسة الغرب... 460

واجبنا تجاه المشاكل... 461

القوى التي أزالها الغربيون... 461

القوة الأولى: المرجعية الدينية... 461

أثر المرجعية في الحرية... 462

المجدد الكبير(رحمه الله)... 462

الآخوند الخراساني... 463

الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله)... 463

القوة الثانية: الأحزاب الوطنية... 463

إقالة متصرف... 464

القوة الثالثة: العشائر... 464

دسائس الغرب... 465

بداية المؤامرة... 466

ص: 564

التخطيط لهدم الأحزاب... 467

العشائر وسقوطها... 467

كيف سقطت العشائر؟... 468

مستقبل العراق... 468

طلاب العلوم الدينية... 469

الناس وعلماء الدين... 470

وهنا ما هو واجب علماء الدين مقابل هذا الشعور النبيل؟... 470

قيمة التفكر... 471

الميرزا صادق التبريزي(رحمه الله)... 473

القاضي الذي يخاف اللّه... 474

عاقبة الذين لا يخافون اللّه... 475

تهيئة الأسباب... 476

1- التوعية... 477

2- الدعاء... 477

من هدي القرآن الحكيم... 479

1- التوكل على اللّه... 479

3- العلماء... 480

4- لزوم التقوى... 480

5- التفكير في كل شيء... 481

6- الدعاء... 482

7- التحرر من العبودية لغير اللّه... 482

من هدي السنّة المطهّرة... 482

1- التوكل على اللّه... 482

2- طاعة العلماء... 483

3- لزوم التقوى... 483

ص: 565

4- التفكر في كل شيء... 484

5- الدعاء... 484

6- التحرير من العبودية لغير اللّه... 485

العقل رقي الإنسان

العقل ورعاية الحقوق... 486

في الإفراط والتفريط تضييع الحقوق... 489

تضييع الحقوق من جهات عديدة... 493

اللّه تعالى وحق خالقيته... 494

أمور تستدعي الذكر والشكر... 495

الناس وأداء الحقوق... 496

1- المتجاهل للحقوق... 497

عاقبة الإنسان المنكر للحقوق... 498

جحدة الحقوق في القرآن الحكيم... 503

كما تُدين تُدان... 505

2- المتغافل عن الحقوق... 508

روايات في العقل... 509

3- المؤدّي للحقوق... 512

صفات القسم الثالث... 513

نماذج من القسم الثالث... 516

القسم الثالث ونماذج أخرى... 518

قدوة القسم الثالث وأسوتهم... 520

آية الاحسان وأداء الحقوق... 521

استنتاج... 522

من هدي القرآن الحكيم... 523

نعمة خلق الإنسان وحق الخالق... 523

ص: 566

معرفة اللّه وشكره عبر معرفة النفس والآفاق... 524

العقول تهدي إلى شكر النعم وأداء الحقوق... 524

إتقان العمل وصلاحه... 525

من هدي السنّة المطهّرة... 526

معرفة اللّه عبر معرفة النفس... 526

العقل وشكر النعم وأداء الحقوق... 527

العقل وأداء الحقوق واجتناب العقوق... 528

اتقان العمل وأداء الحقوق... 529

ضرورة التعاون

مدنيّة الإنسان... 531

مصاديق التعاون... 532

التعاون الإيجابي... 532

التَّعاون السلبي... 534

معنيان للتعاون... 535

التعاون في صدر الإسلام... 537

مشكلات الزواج... لماذا؟... 537

صورٌ قبيحة... 539

من هدي القرآن الحكيم... 541

إصلاح ذات البين... 541

الإيثار... 542

الإقراض... 542

الإطعام... 542

لا للفرقة ولا للاختلاف... 542

من هدي السنّة المطهّرة... 543

صور من التعاون... 543

ص: 567

إصلاح ذات البين... 543

الإيثار... 543

الإقراض... 543

الإطعام... 543

لا للفرقة ولا للاختلاف... 543

فهرس المحتويات... 545

ص: 568

المجلد 4

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 4/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

---------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)

الناشر: دار العلم

المطبعة: إحسان

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

كمية: 500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

---------

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الثالث): 9-204541-964-978

---------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

العمل الصالح طريق التغيير

اشارة

العمل الصالح طريق التغيير(1)

الإخلاص في العمل

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءَايَٰتٖ مُّبَيِّنَٰتٖ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}(2).

عندما يفتح المجتمع صدره واسعاً للموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة... لتنمو فيه بذور الإخلاص وتتكاثر؛ فسوف يجد نفسه - تلقائياً - وقد خطا خطواته الأولى نحو السعادة والتطوّر.

والمخلصون - وحدهم - هم الذي يستشعرون المتعة واللذة حين يستمعون للمواعظ، وتراهم ينصتون إليها خاشعين، ولا يعدلون بها أي شيء آخر، فان العمل الخالص وإن قلّ إلّا أنه ينمو ويثمر.

ستة آلاف كلمة

وإننا نجد هذا المعنى بكل وضوح في أمير المؤمنين(عليه السلام)، حين يخيّره الرسول العظيم(صلی الله عليه وآله وسلم) - كما جاء في (المواعظ العددية)(3)

- فيقول له: «يا علي! تريد ستمائة ألف، أو ستمائة ألف دينار، أو ستمائة ألف كلمة؟ قال: يا رسول اللّه ستمائة ألف كلمة. فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): اجمع ستمائة ألف كلمة في ست كلمات، يا علي

ص: 5


1- ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ: 14/ذي الحجة/1406ه.
2- سورة النور، الآية: 34.
3- المواعظ العددية: 187.

إذا رأيت الناس يشتغلون بالفضائل فاشتغل أنت بإتمام الفرائض، وإذا رأيت الناس يشتغلون بعمل الدنيا فاشتغل أنت بعمل الآخرة، وإذا رأيت الناس يشتغلون بعيوب الناس فاشتغل أنت بعيوب نفسك، وإذا رأيت الناس يشتغلون بتزيين الدنيا فاشتغل أنت بتزيين الآخرة، وإذا رأيت الناس يشتغلون بكثرة العمل فاشتغل أنت بصفوة العمل، وإذا رأيت الناس يتوسلون بالخلق فتوسل أنت بالخالق».

إن هذه الرواية تهتم بالإخلاص والصفاء في العمل أكثر مما تهتم بالنتائج، لأن فائدة العمل تستمد من الإخلاص والصفاء فيه، فلا عمل يصعد إلى اللّه تعالى إلّا بنية خالصة، مهما كانت المنافع التي تنشأ عنه.

ولذا قد يكون العمل الضئيل المخلص أرفع وأسمى من عمل جبار وكبير لأن الميزان في العمل ليس الكثرة أو الكبر بل الإخلاص هو المعيار الأساسي في العمل عند اللّه الحكيم، وبهذا يفتح الإسلام الطريق أمام أي فرد - مهما كانت إمكاناته وقدراته - على النفع الاجتماعي، والعمل المخلص النافع، للارتقاء إلى أسمى درجة في سلم النفس الإنسانية ومراحل كمالها، فقد قال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا}(1).

إذاً هذا هو تكريم الإسلام لقيمة الإخلاص والصفاء في العمل، وإن الرواية التي يرويها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ما هي إلّا خلاصة لإحدى آيات القرآن المجيد القائلة: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(2)، إذ تشير إلى أن الميزان الذي على أساسه يكون تكريم وتقييم الإنسان هو العمل الصالح فالمقياس الواقعي للتمييز

ص: 6


1- سورة مريم، الآية: 96.
2- سورة هود، الآية: 7.

هوالعمل الصالح ومن خلاله نستطيع تقييم الإنسان الصالح، ومن خلال العمل السيئ يمكن تشخيص الفرد غير الصالح {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}(1) {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(2).

العمل الصالح

وفي هذه الآيات وآيات أخرى من القرآن الكريم نلحظ تأكيداً واضحاً على أن العمل الصالح المخلص هو الذي يرفع الإنسان، كما في قوله تعالى: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَٰتُ الْعُلَىٰ}(3).

والآن لنعد إلى أنفسنا حتى نعرف قدرنا. إذ «ولا معرفة كمعرفتك بنفسك»(4)

كما عن الإمام الباقر(عليه السلام)، وقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل المعرفة، معرفة الإنسان نفسه»(5)، وقال(عليه السلام): «من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، وخبط في الضلال والجهالات»(6).

بين العمل الصالح والعمل الطالح

والسؤال الذي يُطرح هو: هل توجد لدينا القدرة على تمييز العمل الصالح عن العمل الطالح أم لا؟

في الحديث الوارد عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «لا يُقبل عمل إلّا بمعرفة ولا معرفة إلّا بعمل، ومن عرف دلته معرفته على العمل ومن لم يعرف فلا عمل

ص: 7


1- سورة الأنفال، الآية: 37.
2- سورة الكهف، الآية: 7.
3- سورة طه، الآية: 75.
4- تحف العقول: 286.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 189.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 656.

له»(1).

وكذلك عن الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يقبل اللّه عملاً إلّا بمعرفة، ولا معرفة إلّا بعمل، فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له ألّا إن الإيمان بعضه من بعض»(2).

وهذا السؤال بدوره ينشئ سؤالاً آخر وهو: بعد تمييز العمل الصالح عن طريق هذه القواعد التي وضعها أئمة أهل البيت(عليهم السلام) يحق لنا التساؤل: هل أننا نعمل به أم لا؟ القرآن الكريم يؤكد {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً}(3).

وقال سبحانه: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}(4).

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}(5).

وكذلك قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشرف عند اللّه سبحانه بحسن الأعمال لا بحسن الأقوال»(6).

وكذلك قال(عليه السلام): «العمل شعار المؤمن»(7).

وقال الإمام الهادي(عليه السلام): «الناس في الدنيا بالأموال وفي الآخرة بالأعمال»(8).

وجاء رجل إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: ما ينفي عني حجة الجهل؟ قال(صلی الله عليه وآله وسلم):

ص: 8


1- تحف العقول: 294.
2- الكافي 1: 44.
3- سورة النحل، الآية: 97.
4- سورة القصص، الآية: 67.
5- سورة فاطر، الآية: 7.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 105.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 32.
8- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 139.

«العلم»، قال: فما ينفي عني حجة العلم؟ قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «العمل»(1).

وكذلك قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العمل العمل، ثم النهاية النهاية، والاستقامة الاستقامة، ثم الصبر الصبر، والورع الورع، ان لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم وإن لكم علماً فاهتدوا بعلمكم، وإن للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته...»(2).

في مقام الجواب عن السؤال نقول:

إن الناس - غالباً - وبسبب وجود حسن الظن عندهم يدّعون كلا العملين(3)، إلّا أن هذا الظن عند بعض الناس يكون جهلاً مركباً لا أكثر، ومما يؤكد ذلك هو تأخر المسلمين في القرن الأخير هذا، بحيث اُصبح حال بعض المسلمين أسوأ دنيوياً حتى من أولئك الذين يعبدون البقر والأصنام، فمثلاً في الهند هناك عشرات الملايين من عبّاد البقر والبوذيين وعبدة النار وغيرهم، ونراهم يتمتعون بكامل حرياتهم بالرغم من انحرافهم ويحظون بأهمية على المستوى العالمي، في حين أن بعض المسلمين على العكس من ذلك بحيث لا يتمتعون بالحريات الهامشية فضلاً عن الحريات الأساسية لكل إنسان، كحرية السفر أو حرية التعبير عن الرأي او التجارة وغيرها من الحريات.

من أسباب تخلف المسلمين

من أهم الأسباب التي أوصلت المسلمين إلى هذه الحالة - إضافة إلى ما قلناه -هو ابتعادهم عن الدين ودخول العقائد المنحرفة الاستعمارية إلى أغلب البلدان

ص: 9


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 64.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176 يعظ ويبين(عليه السلام) فضل القرآن وينهى عن البدعة ويحث على العمل.
3- أ: القدرة على تمييز العمل الصالح من الطالح. ب: العمل بالصالح من الأعمال.

الإسلامية، وانتشار التحلل الخلقي في وسط الشباب المسلم، إلى غير ذلك من الأسباب التي قد تكون علتها الأساسية الاستبداد والدكتاتورية السياسية التي رسِمها الاستعمار لنا كنموذج للحكم والحكومة.

وبعد كل هذه الويلات التي تجري على المسلمين والمصائب يمكن أن يقال بأن حال المسلمين البعيدين عن الدين هو أسوأ من حال الهندوس (عبّاد البقر)؟

ولأجل العودة إلى روح التقدم والخروج من هذه الحالة المتخلفة علينا الرجوع إلى تعاليم الدين التي هي ثورة فكرية تقود الإنسان إلى الكمال والرقي في جميع ميادين الحياة المختلفة، فالمنقذ الوحيد الذي يغير سوء حالنا إلى أحسن حال هو الدين الإسلامي والالتزام الكامل بقوانينه ومبانيه.

وقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1)، وهذه الآية تبين لنا الإيمان التام بالرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) والطاعة الكاملة في ما يأمر به وينهى عنه، سواء أكان ما يأمر به أو ينهى عنه حكماً من الأحكام الشرعية، أو كان صادراً عنه لكونه الوليّ الذي له حق التصرف في أمور الأمة والالتزام بتعاليمه، فإنا إذا وضعناها نصب أعيننا (في حال كوننا نعيش الصراعات في قبال النظم والأحكام الفاسدة) نكون قد وضعنا منهجاً تربوياً صحيحاً يساهم في تكوين الأجواء الإسلامية الواعية والصالحة لتربية الفرد والأسرة والمجتمع المسلم، وبذلك نكون قد ساهمنا في وضع اللبنات الأولى لمسار إسلامي متصاعد. وهذه الخطوط العامة التي وضعها القرآن الكريم لا من أجل تكوين الإنسان المتدينفقط، وإنما على أساس تكوين أجواء صالحة يحكمها الإسلام

ص: 10


1- سورة الحديد، الآية: 28.

بمفاهيمه المتحركة والمتجذرة في النفس الإنسانية. وبذلك نضمن مستقبلاً زاهراً، كما ساهمت دعوة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في بداية الدعوة الإسلامية في بناء شخصيات عظيمة كأبي ذر، وعمار، والمقداد، وسلمان(عليهم السلام) وغيرهم، وهذه المهمة مهمة حضارية ستظل أمانة في أعناق أبناء الأمة الإسلامية في جميع طبقاتهم.

العقائد المنحرفة

وفي نفس الوقت من الواجب عليهم أن يتبصروا في أمر دينهم؛ وذلك من أجل أن لا يغفلوا عن دخول العقائد المنحرفة في دينهم عن طريق المنافقين فقد قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُنَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَٰبِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(1).

القرآن الكريم يكشف لنا عن ملامح وصور وتحركات المنافقين وأصحاب العقائد الفاسدة فإنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا النفاق والكفر، يريدون أن يفسدوا على المسلمين إسلامهم ويعملوا على إغراء الآخرين بالسير على طريقهم. وهذا الأسلوب الذي يستخدمونه الآن هو نفس الأسلوب الذي استخدمه المنافقون في زمن النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، عندما كان(صلی الله عليه وآله وسلم) يدعو المسلمين إلى الخروج إلى معركة أحد، فقد حاولوا الإيحاء باهتمامهم بالجهاد في سبيل اللّه لغرض تثبيط المؤمنين وهم يبثون مكائدهم وشرورهم في كل موقفٍ من المواقف التي تتحرك فيها المعركة، فاذا حصلت لهم القناعة، فإنهم يذهبون إلى المعركة في الصفوف الأولى، وإن لم يقتنعوا فإنهم يرفضون الاشتراك في القتال، وبهذه الصورة واجهوا

ص: 11


1- سورة آل عمران، الآية: 78.

دعوة الخروج للقتال فقد قالوا بأنهم يعتقدون بأن الموقف ليس موقف قتال، أرادوا من هذا الموقف الإيحاء للمسلمين باتخاذ نفس الموقف، ولكن اللّه يحدثنا عن هذه الصورة ليكشف زيف الواقع الذي يعيشونه: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَٰنِ يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}(1)، فإن {هُمْ} أي هؤلاء المنافقين {لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَٰنِ} فكلما عمل المنافق بالخلاف كان أقرب إلى الكفر، وكلما عمل بالوفاق كان أقرب إلى الإيمان {يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فأفواههم تنطق بالإيمان وقلوبهم تضمر الكفر والعصيان(2).

فليست القضية الانحراف العملي بل هي الانحراف العقائدي والفكري الذي هو الأساس في كل الانحرافات المتعلقة بالسلوك.

الثوب الجديد

اليوم ظهر المنافقون بثوب جديد، وأفكار هدامة، بطراز يختلف عن الطراز القديم، أمثال الفرق المصطنعة على أيادي الاستعمار(3) والتي تعتبر ضلالات لأفكار منحرفة وشيطانية في نفس الوقت، ولها تأثير سلبي خطير على مسيرة الإسلام، فالتصدي لها يعد واجباً شرعياً إسلامياً، لأنهم شوّهوا حقائق هذا الدين الحنيف؛ بسبب انحرافهم الفكري والعقيدي عن جادة الحق والصواب المتمثلة بالكتاب والسنة النبوية الشريفة لأنهما وديعتان عظيمتان وأمانتان كبيرتان، وقد عرَّفهما الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) بقوله: «وإني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي، كتاب اللّه حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي وإن

ص: 12


1- سورة آل عمران، الآية: 167.
2- تفسير تقريب القرآن 1: 416.
3- أمثال الوهابية والبابية المذهبين اللذين أسسهما الاستعمار، للتفصيل راجع: مذكرات مستر همفر، ومذكرات كينياز دالكوركي.

اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا بماذا تخلفوني فيهما»(1).

ولكن - ويا للأسف - حدثت حوادث، وطرأت حواجز عرقلت مسيرة الأمة الإسلامية وحرفتها عن طريقها المستقيم التي تسير به، وخصوصاً في عصرنا الحاضر هذا.

الانحراف الفكري وأثره في الإسلام

قبل أكثر من خمسين عاماً تسلطت عائلة آل سعود - الذين لم يكن يزيد عددهم على خمسة آلاف نفر - على بيت اللّه الحرام، ولم يكن وصولهم إلى دفة الحكم إلّا بمساندة الاستعمار البريطاني، حيث سلموهم زمام الأمور في دولة تعد ذات أهمية كبيرة بالنسبة للعالم الإسلامي؛ لأن فيها مهبط الوحي وفيها بيت اللّه الحرام ومسجد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وقبره، وكذلك قبور بعض الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، ولكن استطاعت بريطانيا وأعداء الإسلام أن يمرروا من خلال حكام هذه العائلة الضربات تلو الضربات لجذور الدين الإسلامي، ويتخذوا من أرض الإسلام الأولى وقاعدته ومنطلقه، قاعدة لضربه. علماً بأن هذه الضربات كانت مباشرة، وقد أثمرت ثمارها بعد تنفيذها - مع الأسف - فتمكنوا من منع المسلمين من الحج بحرية وتمكنوا من تخريب قبور أئمة البقيع(عليهم السلام) مرتين، ومنعوا الناس من زيارتهم واتهموهم بالكفر والشرك والإلحاد، ولا يزالون يحوكون المؤامرات تلو المؤامرات ضد المسلمين إلى يومنا هذا.

لكن هل وقف المسلمون متحدين لمواجهة هذا اللون من الانحراف الضال، والعمل غير اللائق والمعادي للإسلام، مع أن المسلمين يمتلكون القدرة

ص: 13


1- كمال الدين 1: 235.

والمهارة لردع ذلك، ولكن - للأسف الشديد - بعض المسلمين لا يشعرون بالمسؤولية تجاه هذه الأعمال المنحرفة ووضع حد لها لحد الآن.

إن أعداءنا بثوا ولا يزالون يبثون الأفكار الفاسدة في العالم الإسلامي من خلال الكتب الكثيرة، والصحف والمجلات والأقمار الصناعية والإذاعات المرئية والمسموعة إذ ملأوها بالأفكار الهدامة، والسب والشتم لأئمة الإسلام وقادته، الذين قام الدين على أكتافهم، وهم أهل البيت(عليهم السلام).

نقل الأموات

إن عداوتهم لنا جدية ومتأصلة في هذا المجال، لأننا أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، وقد قلت ذات مرة لأحد الأخوة أن يكتب جواباً على الكتابات المنحرفة والمنكرة، إلّا أنه أجابني قائلاً: أنا ليس عندي سعة بال لنقل الأموات، وكان يعني نقل الكلمات الميتة في كتب الأعداء، ولكن كان علينا أن لا ننسى قول نبينا الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، ليس وراء ذلك شيء من الإيمان - وفي رواية أن ذلك أضعف الإيمان - »(1).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجهدك، وجاهد في اللّه حقّ جهاده ولا تأخذك في اللّه لومة لائمٍ، وخض الغمرات للحقّ حيث كان»(2).

وكلام النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) حجة علينا يوم القيامة ويجب علينا رفع هذه الشبهات والضلالات الموجودة فينا نحن المسلمين، والتي تدور في أذهان

ص: 14


1- عوالي اللئالي 1: 431.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه.

البعض بأن الرد على مزاعم المنحرفين أنه (نقل أموات) ما هي إلّا مغالطة وفرار عن العمل، وهل التأليف والرد على كتب الأعداء وتفنيد مزاعمهم وبلسان العصر يعد نقل أموات؟! إن هذا لا يعد نقل أموات بل واجب شرعي فرضته الشريعة المقدسة، وغداً نحن مسؤولون عنه؛ ألم يقل الحق تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ}(1) فان عدم الشعور بالمسؤولية تجاه هداية المجتمع، وبالخصوص الشباب منهم، والذود عن حريم المذهب أمام الأعداء سيعود علينا بالأخطار الجسام، فلا يجب أن يكون موقفنا تجاه المخاطر كقول الشاعر:

ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت(2)

فإن السير بلا هدف ولا مسؤولية ولا اهتمام يعتبر مسيراً عشوائياً وتخبطاً لا يسمن ولا يغني من جوع، فلا بد للمسلمين من اتباع أساليب جديدة عصرية تستمد قواعدها من القرآن الكريم وسنة النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) لنشر تعاليم دينهم والدفاع عنه؛ لأن اللّه سبحانه أنزلها من أجل هداية الناس يحاسبنا حينما نقصر في الدعوة إليه وتوضيح طريق العبودية الحقّة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(3).

متطلبات العصر

وكذلك يجب علينا أن نتعامل مع متطلبات العصر بحسب التقدم والتطور، لأننا لا يمكن أن نساوي بين أنوار الشمع التي كان يستخدمها الناس في القديم

ص: 15


1- سورة الصافات، الآية: 24.
2- المصرع من شعر إيليا أبو ماضي (1890م - 1957م) أحد رواد الشك والحيرة في عصرنا، شعره هو: جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيت *** ولقد أبصرت قُدّامي طريقاً فمشيت وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت *** كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!
3- سورة الذاريات، الآية: 56.

مع أنوار مصابيح الكهرباء في عصر التقدم والتطور هذا! ولا يمكن أن يستوي السفر بالطائرة مع السفر على ظهور الحيوانات؛ فإن ذلك غير معقول ونرى هذا المعنى في قوله جلّ وعلا: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَٰتُ وَلَا النُّورُ}(1).

والذي لا يدرك ذلك يكون قد شارك في صب المصائب على المسلمين.

كيف نخطو إلى الأمام

والآن وبعد أن عرفنا كل هذا نطرح سؤالاً مهماً، وهو كيف يمكننا أن نخطو إلى الأمام؟

إن الغرب والشرق هم الذين يقومون بقتل أبناء الإسلام كل حين، وما يزال البعض من أولئك الأعداء الغربيين والشرقيين يتحكمون في بلادنا الإسلامية، وينهبون ثرواتها وخيراتها ويزرعون الأفكار المنحرفة في قلب بلداننا، لنأخذ في ذلك مثال الحج الذي قال اللّه تعالى عنه: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ}(2) فقد اتخذه الأعداء مركزاً للنفاق والتفرقة وتشتيت المسلمين، فهناك في مكة يوجه الأعداء الكلمات الجارحة للمسلمين المؤمنين فيقولون للمسلم: كافر وللمؤمن منافق، ولمحب آل الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) مشرك وملحد؛ لذا يجب بث روح التوعية الإسلامية بين الناس وإطلاعهم حول كل ما يدور على الساحة العالمية. وبكل ما يتعلق بشؤون الحياة العلمية والاجتماعية، وعلى كل ما يحتاجه المسلمون من مقومات وذلك لاستعادة عزتهم وشرفهم وكرامتهم، وعلى المختصين أن يسعوا أكثر فأكثر في طريق إيجاد الحلول الصائبة لمشاكل المسلمين، وذلك بالاعتماد على

ص: 16


1- سورة فاطر، الآية: 19-20.
2- سورة الحج، الآية: 28.

الروح الإيمانية الصادقة وعلى العقيدة السمحاء، وبذلك فإن الإنسانية تأخذ طريقها الصحيح والسليم إذا تفاعلت مع تلك الروح.

قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1).

من جرائم المستكبرين

لقد خطط الاستعمار طويلاً لإيجاد طرق وأساليب مختلفة يمزق بها العالم الإسلامي إلى دويلات، ويخلق لأهلها المشاكل والاختلافات، فتركمنستان هي بلدة كبيرة يقع بين الصين والاتحاد السوفييتي(2)، وكانت جزءاً من البلاد الإسلامية، إلّا أن الروس اقتطعوها من البلاد الإسلامية، وضموها إلى بلادهم، بعد أن قتلوا فيها أكثر من ثلاثمائة ألف مسلم، وكذلك مدينة بخارى(3) إحدى المدن العامرة التي كان فيها قبل الغزو حوالي (300) مدرسة للعلوم الإسلامية غير أنها هدمت بأيدي الغزاة السوفييت.

وقد ذكر في كتاب للسيد باب خاني أنه في المائتي سنة الماضية، كان التعداد السكاني لإيران يقدر بمائة مليون نسمة، لكن وبسبب غفلة بعض الحاكمين آنذاك قسمت إيران إلى أجزاء، ومنذ ذلك الحين والى الآن أصبح تعداد سكان إيران ما يقارب (50) مليون نسمة.

وخلاصة القول: إن المسلمين إذا لم يدخلوا ساحة المعركة بسلاح الإخلاص والإيمان والعلم ويعملوا وفق مخطط ومنهج مدروس فسوف لن يتمكنوا من النجاة من المخططات الاستعمارية التي لم ينفذها أعدائهم بعد.

ص: 17


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- ألقيت هذه المحاضرة قبل انهيار الاتحاد السوفييتي.
3- وتقع في الجنوب الغربي لروسيا، ضمن جمهورية (اوزبكستان) وهي شهيرة بمساجدها ومدارسها.
طريق التغيير

ولعل أهم برنامج عملي يمكن أن يأخذ بأيدينا إلى الخلاص لو التزمنا به ومشينا في طريقه هو عبارة عن ما يلي:

أولاً: تأسيس التنظيمات الإسلامية الجماهيرية الاستشارية الحرة، وذلك لأن: «من استبدّ برأيه هلك ومن شاور الرّجال شاركها في عقولها»(1)، والإسلام يحبذ الاستشارة في كل شيء حتى في الأمور الصغيرة فكيف بالأمور المرتبطة بعالم الإسلام والمسلمين.

ثانياً: توحيد الحركات الإسلامية العاملة؛ إذ من الضروري أن تنصهر كل الحركات العاملة في حركة واحدة موحدة، مادام الهدف هو تطبيق الإسلام ونشر أحكامه في أرجاء المعمورة؛ قال اللّه تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(2)، ومن الواضح أن الاختلاف في الحركات الإسلامية يوجب تقسيم الطاقات إلى عدة جوانب ولا يمكن إنقاذ المسلمين بدون طاقة كبيرة فعالة وعاملة.

ثالثاً: نشر الوعي في البلاد الأجنبية، وذلك يتم عبر تثقيف المسلمين المتواجدين في البلاد الأجنبية بالثقافة الإسلامية وتعليمهم كيفية التبليغ للإسلام، وإيصال صوت الإسلام إلى الكفار والمعادين للإسلام، وذلك عبر جميع الوسائل المتاحة والمتوفرة لدى المسلمين من إذاعات وصحف ومجلات وغيرها.

رابعاً: الإيثار في العمل التنظيمي، لأنه يسبب ثقة الجماهير بالشخص والحركة، فالإيثار في كل شيء إذا راعته الحركة انتصرت. يقول الإمام علي(عليه السلام):

ص: 18


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 161.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.

«بالإيثار على نفسك تملك الرقاب»(1).

وقال(عليه السلام): «من شيم الأبرار حمل النفوس على الإيثار»(2).

وكذلك قال(عليه السلام): «الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان»(3).

خامساً: انتخاب حاكم أعلى للمسلمين، أو مجلس للحكومة، مكوّن من الأمة ومخلصيهم حسب أكثرية الآراء؛ فإن «ما تشاور قوم إلّا هدوا إلى رشدهم»(4)، وكذلك يجب ان يتصف بحسن الولاية يقول رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من ولي شيئاً من أمور أمتي فحسنت سريرته لهم رزقه اللّه تعالى الهيبة في قلوبهم، ومن بسط كفه لهم بالمعروف، رزق المحبة منهم، ومن كف يده عن أموالهم وقى اللّه عزّ وجلّ ماله، ومن أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحباً، ومن كثر عفوه مد في عمره، ومن عمّ عدله نصر على عدوه...»(5).

وكذلك يجب أن يتصف بالقدرة على الولاية والتحلي بالأخلاق الإنسانية الرفيعة يقول اللّه تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}(6).

مجلس الشورى

من الواضح أن هذه الخطط والبرامج تخضع إلى مجلس شورى الفقهاء المراجع، الذين هم امتداد لخط النبي وأهل البيت(عليهم السلام)، كما فصلنا ذلك في بعض الكتب(7).

ص: 19


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 302.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 677.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 90.
4- تحف العقول: 233.
5- كنز الفوائد 1: 135.
6- سورة الأنفال، الآية: 34.
7- انظر: كتاب (الشورى في الإسلام) للإمام الشيرازي(رحمه الله).

وبعد التدرع بهذا الدرع - الإيمان والإخلاص والانتماء أخيراً إلى مجلس شورى الفقهاء - الذي يناسب هذه المعركة تتم المواجهة للدفاع عن الدين الحنيف ويمكن لهم الخوض ضد الأعداء نزالاً ومواجهة في كل الميادين وخاصة في المجالات الفكرية والثقافية، وإن لم يفعلوا ذلك فسيكون غدهم أسوأ من حاضرهم والعياذ باللّه.

إلى العاملين

أريد أن أذكر هنا {فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(1) ان الدرع الأول الواقي والحصن المنيع لهذه المواجهة، هو التمسك بمبادئ الدين الإسلامي وعترة المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم)؛ ذلك لأن للدين دوراً هاماً في تصحيح أفكار الإنسان عن طريق جذور الدين المتصلة بالفطرة الإنسانية، وبالربط بين الفطرة والدين وبالعمل على تقوية هذه الرابطة سوف يحصل الإنسان على الاستقامة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(2).

وهذه الآية تبين لنا علاقة الدين بالإنسان وتأثير الدين في حركة الإنسان، فإن دعوة الإنسان إلى هذه الفطرة تجعله جبلاً راسخاً صلباً.

وأما الحصن الثاني الذي يكون موازياً للأول فهو ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) فقد جاء عن الإمام الرضا(عليه السلام): «عن موسى بن جعفر عن جعفر بن محمد عن محمد بن علي عن علي بن الحسين عن الحسين بن علي عن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) عن جبرائيل عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم قال: يقول اللّه تبارك وتعالى: ولاية علي بن أبي طالب حصني فمن دخل حصني أمن

ص: 20


1- سورة الذاريات، الآية: 55.
2- سورة الروم، الآية: 30.

ناري»(1).

وهذا الحصن المنيع فيه دعائم قوية وصلبة متمثلة بأهل بيت العصمة والطهارة(عليهم السلام) وفيهم النجاة والنصر كما أكد ذلك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من دخل فيها نجا ومن تخلف عنها غرق»(2).

وخلاصة الأمر أن الدين الإسلامي هو الحصن المنيع في خضم هذه المتقلبات والفتن التي تجري في العالم وخصوصاً في العالم الإسلامي، وكذلك هو الأساس الذي كثيراً ما ركز عليه القرآن: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(3).

عن الإمام الباقر(عليه السلام) في شرح هذه الآية المباركة يقول: «فإن اتباعكم إياه - أي أمير المؤمنين(عليه السلام) - وولايته أجمع لأمركم وأبقى للعدل فيكم»(4).

إن أهل الذكر الذين ورثوا العلم القرآني نجد علمهم نوراً وكلامهم هداية؛ لأن حديثهم حديث رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) والرسول لا ينطق عن الهوى، وقد قال المفسرون أن قوله تعالى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي ولاية أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فهذه الولاية إذن تحيي النفوس وتبني الفرد، والأسرة، والمجتمع، وتوضح طريق الحق والعدل في العلم والعمل والتقوى والعبادة والسلوك وحفظ الكرامة.

«اللّهم أحيني حياة محمد وذريته وأمتني مماتهم وتوفني على ملتهم واحشرني في زمرتهم ولا تفرق بيني وبينهم طرفة عين أبداً في الدنيا والآخرة»(5).

ص: 21


1- معاني الأخبار: 371.
2- الاحتجاج 1: 273.
3- سورة الأنفال، الآية: 24.
4- تفسير القمي 1: 271.
5- مصباح المتهجد 2: 780.

من هدي القرآن الحكيم

المؤمن بعمله

قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَٰتِبُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}(2).

وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}(3).

وقال جلّ وعلا: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}(4).

وقال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَالْمَلَٰئِكَةِ وَالْكِتَٰبِ وَالنَّبِيِّۧنَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَى الزَّكَوٰةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَٰهَدُواْ وَالصَّٰبِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(5).

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال عزّ وجلّ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ

ص: 22


1- سورة الأنبياء، الآية: 94.
2- سورة النساء، الآية: 124.
3- سورة طه، الآية: 112.
4- سورة الروم، الآية: 44.
5- سورة البقرة، الآية: 177.

عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِوَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(2).

وقال جلّ وعلا: {يَٰبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(3).

وقال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ الْأُمُورِ}(4).

الشورى والاستشارة

قال عزّ وجلّ: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(5).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}(6).

سوء العاقبة

قال جلّ وعلا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(7).

ص: 23


1- سورة آل عمران، الآية: 104.
2- سورة التوبة، الآية: 71.
3- سورة لقمان، الآية: 17.
4- سورة الحج، الآية: 41.
5- سورة آل عمران، الآية: 159.
6- سورة الشورى، الآية: 38.
7- سورة المائدة، الآية: 45.

وقال تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَمِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الظَّٰلِمِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَٰلِمُونَ}(3).

الانحراف عن الصراط السوي

قال جلّ وعلا: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}(4).

وقال تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَٰئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا}(6).

وقال سبحانه: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا}(7)

وقال جلّ وعلا: {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٖ}(8).

الحكومات الجائرة وآثارها

قال تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}(9).

ص: 24


1- سورة الأنعام، الآية: 135.
2- سورة يونس، الآية: 39.
3- سورة القصص، الآية: 59.
4- سورة البقرة، الآية: 108.
5- سورة النساء، الآية: 116.
6- سورة النساء، الآية: 136.
7- سورة الأحزاب، الآية: 36.
8- سورة الجاثية، الآية: 23.
9- سورة النمل، الآية: 34.

وقال عزّ وجلّ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَٰدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلَٰدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ}.(1)

وقال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةًمِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الاستشارة عين الهداية

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من اللّه، فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف فإنّ في ذلك العطب»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا مال أعود من العقل... ولا مظاهرة أوثق من المشاورة»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال لقمان لابنه: إذا سافرت مع قوم، فأكثر استشارتك إياهم في أمرك وأمورهم... وإذا استشهدوك على الحق، فاشهد لهم. واجهد رأيك لهم إذا استشاروك ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر، ولا تجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد، وتنام وتأكل وتصلي، وأنت مستعمل فكرك وحكمتك في مشورته، فإن من لم يمحّض النصيحة لمن استشاره سلبه اللّه تبارك وتعالى رأيه ونزع عنه الأمانة»(5).

ص: 25


1- سورة الفجر، الآية: 6-12.
2- سورة القصص، الآية: 4.
3- المحاسن 2: 602.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 113.
5- الكافي 8: 348.
العمل رفيق المؤمن

قال النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «... فإنكم اليوم في دار عمل ولا حساب، وأنتم غداً في دار حساب ولا عمل»(1).وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العمل رفيق الموقن»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «... إنه ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، ولا ينال أحد ولاية اللّه إلّا بالطاعة. ولقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لبني عبد المطلب: ايتوني بأعمالكم لا بأحسابكم وأنسابكم، قال اللّه تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٖ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَٰلِدُونَ}»(3)(4).

الموعظة حياة القلوب

من وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن(عليه السلام) إنه قال: «أحي قلبك بالموعظة»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قيل لأمير المؤمنين(عليه السلام): عظنا وأوجز، فقال: الدنيا حلالها حساب، وحرامها عقاب، وأنّى لكم بالرَّوح ولما تأسّوا بسنة نبيكم، تطلبون ما يطغيكم(6)، ولا ترضون ما يكفيكم»(7).

وورد في حديث مناجاة موسى(عليه السلام) مع اللّه تبارك وتعالى: «... وخذ موعظتك

ص: 26


1- الخصال 1: 51.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 54.
3- سورة المؤمنون، الآية: 101-103.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 235.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصيته(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام) كتبها إليه.
6- يُطغيكم من طغى يطغي.
7- الكافي 2: 459.

من الدهر وأهله، فإن الدهر طويله قصير وقصيره طويل وكل شيء فانٍ، فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لكي يكون أطمع لك في الآخرة لا محالة»(1).

من مواعظ أبي الحسن الهادي(عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه جعل الدنيا دار بلوى،والآخرة دار عقبى، وجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً»(2).

من فضائل علي(عليه السلام)

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن أخي ووزيري وخليفتي في أهلي وخير من أترك بعدي، يقضي ديني، وينجز بوعدي علي بن أبي طالب»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما نزلت عليه - على النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) - آية في ليل ولا نهار ولا سماء ولا أرض، ولا دنيا وآخرة ولا جنة ولا نار ولا سهل ولا جبل ولا ضياء ولا ظلمة إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بيدي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصّها وعامّها وأين نزلت وفيم نزلت إلى يوم القيامة»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فان عندي علم الأولين والآخرين أما واللّه لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم... ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني فوالذي فلق الحبة وبرئ النسمة لو سألتموني عن آية آية لأخبرتكم بوقت نزولها وفي من نزلت...»(5).

ص: 27


1- الكافي 8: 46.
2- تحف العقول: 483.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 61.
4- تحف العقول: 196.
5- الإرشاد 1: 35.

من أقوال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في الضلالة وأنها الخسران المبين:

قال(عليه السلام) وقد مر بقتلى الخوارج يوم النهروان: «بؤساً لكم، لقد ضركم من غركم»، فقيل له: من غرهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: «الشيطان المضل، والأنفسالأمّارة بالسوء غرتهم بالأماني وفسحت لهم بالمعاصي ووعدتهم الإظهار فاقتحمت بهم النار»(1).

وقال(عليه السلام): «انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم... لا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان: رجل وكله اللّه إلى نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته...»(3).

وقال(عليه السلام): «الضلالة على وجوه: فمنه محمود، ومنه مذموم، ومنه ما ليس بمحمود ولا مذموم، ومنه ضلال النسيان: فامّا الضلال المحمود وهو المنسوب إلى اللّه تعالى كقوله: {يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ}(4) هو ضلالهم عن طريق الجنة بفعلهم.

والمذموم هو قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}(5) و{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ}(6) ومثل ذلك كثير، وأما الضلال المنسوب إلى الأصنام فقوله في قصة

ص: 28


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 323.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 97 من خطبة له(عليه السلام) في أصحابه وأصحاب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 17في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة.
4- سورة المدثر، الآية: 31.
5- سورة طه، الآية: 85.
6- سورة طه، الآية: 79.

إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ}(1) والأصنام لا يضللن أحداً على الحقيقة، إنما ضل الناس بها وكفروا حين عبدوهامن دون اللّه عزّ وجلّ.

وأما الضلال الذي هو النسيان فهو قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَىٰهُمَا الْأُخْرَىٰ}(2) وقد ذكر اللّه تعالى الضلال في مواضع من كتابه فمنهم ما نسبه إلى نبيه على ظاهر اللفظ كقوله سبحانه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ}(3) معناه: وجدناك في قوم لا يعرفون نبوتك فهديناهم بك»(4).

مفاسد المستكبرين

قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «شر خلق اللّه خمسة: إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه، وفرعون ذو الأوتاد، ورجل من بني إسرائيل ردهم عن دينهم، ورجل من هذه الأمة يبايَع على كفر عند باب لُد»(5).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) عندما سأل عن قول اللّه عزّ وجلّ {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ}(6) لأي شيء سمي ذا الأوتاد؟ قال: «لأنه كان إذا عذب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه ومد يده ورجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض، وربما بسطه على خشب منبسط، فوتد رجليه ويديه بأربعة أوتاد، ثم تركه على حاله حتى

ص: 29


1- سورة إبراهيم، الآية 35-36.
2- سورة البقرة، الآية: 282.
3- سورة الضحى، الآية: 7.
4- بحار الأنوار 5: 208.
5- الخصال 1: 319، واللد: بالضم والتشديد، قرية قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين، والرجل المقصود هو معاوية بن أبي سفيان.
6- سورة الفجر، الآية: 10.

يموت فسماه اللّه عزّ وجلّ فرعون ذا الأوتاد لذلك»(1).

وقال(عليه السلام): «فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته الرئيس منهم، وأتباع الوالي فمندونه ولاة الولاة... حرام... وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دوسَ الحق كله، وإحياء الباطل كله، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب، وقتل الأنبياء، والمؤمنين، وهدم المساجد، وتبديل سنة اللّه وشرايعه، فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم، إلّا بجهة الضرورة، نظير الضرورة إلى الدم والميتة»(2).

ص: 30


1- علل الشرائع 1: 70.
2- تحف العقول: 332.

الغرب والحصار الاقتصادي على المسلمين

شمولية الإمداد الإلهي

اشارة

قال اللّه تعالى في محكم كتابه العزيز: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى في هذه الآية الشريفة يقول: إننا نساعد جميع البشر، المؤمن منهم والكافر، وعطاء اللّه تعالى يصل إلى الجميع. حيث إنه سبحانه وتعالى لا يمنع لطفه عن شخص في الدنيا، فهو كما يعطي المؤمن يعطي الكافر، لكن الفرق في السعادة، فالكافر لا يهنأ بالسعادة، كما أن الآخرة خاصة بالمؤمن.

{كُلًّا} من المؤمن والكافر {نُّمِدُّ} أي: نعطيهم من الدنيا {هَٰؤُلَاءِ} الذين يريدون الآخرة {وَهَٰؤُلَاءِ} الذين يريدون العاجلة {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} يا رسول اللّه، أي: من نعمته وفضله {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} أي: ممنوعاً، فإنه يشمل البرّ والفاجر.

والعلماء المفسرون يذكرون في هذه الآية بأنها تثبت الاختيار وعدم الجبر؛ وذلك لأنه لو كان اللّه تعالى لا يمد الإنسان إلّا بالحسنات لما تسنى للناس أن يُمتحنوا، لأن الناس يمتحنون في الخير والشر، بأن يعطيهم اللّه تعالى الحياة

ص: 31


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

والقدرة والإمكان، فيتبين منهم الصالح ومنهم الطالح.

وقد يتسائل المرء: من أين تأتي قوة الإنسان التي يختار بها طريقه ويسعى بها فيه؟

الحقيقة إن قوة الاختيار وقوة السعي هي من عند اللّه، فحتى العصاة يستمدون قوتهم في الاختيار من اللّه، فليس عطاء اللّه ممنوعاً عن أحد، وهذا منتهى الحرية الممنوحة للبشر.

ولكن لماذا ذكرت كلمة {كُلًّا} قبل {نُّمِدُّ} ولم تذكر بعدها، فقال عزّ وجلّ: {كُلًّا نُّمِدُّ} ولم يقل: (نمد كلاً هؤلاء وهؤلاء)؟

والجواب: يحتمل أن تكون إحدى جهات التقديم هي التأكيد على عموم الإمداد الإلهي، وشموليته لجميع المؤمنين والكافرين، كما في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}(1) حيث إن الأصل فيها (نعبد إياك) أي: (نعبدك)، ولكن لأن اللّه أهم من كل شيء في الوجود، فلذلك قدم {إِيَّاكَ} على {نَعْبُدُ}. هذا فضلاً عن أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والاختصاص، فتكون العبادة محصورة باللّه تعالى ومختصة به.

ورجوعاً للآية فإن الباري تعالى أعطى القدرة لجميع البشر بلا استثناء، للأشرار وللأخيار، لمعاوية ولأمير المؤمنين(عليه السلام)، وكذا ليزيد (لعنه اللّه) وللإمام الحسين(عليه السلام)، وكذا لهارون العباسي وللإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)؛ وذلك من أجل أن يتبين من هو هارون العباسي ومن يتبعه، ومن هو الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) وشيعته، وهكذا.

إذن، العطاء الإلهي مطلق غير محدود بشخص؛ وذلك لسنة كونية تمهد للجميع فرصة انتخاب الخير والفضيلة، ولمكان إطلاق العطاء ونفي الحظر

ص: 32


1- سورة الفاتحة، الآية: 5.

والحبس عن أحد، قال تعالى في الآية: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1). أما ما يوجد من التحديد والتقدير والمنع، واختلاف الناس في ما بينهم في الرزق والصحة والعلم وغير ذلك من موارد العطاء، فإنه من ناحية الناس أنفسهم وخصوص استعدادهم لقبول العطاء الإلهي، وليس من جهة المعطي الكريم. فالإشكال في القابل وليس في الفاعل على ما هو مذكور في علم الكلام.

كان هذا مدخلاً للحديث عن الاقتصاد في البلاد الإسلامية، ودور الشرق والغرب في التأثير عليه والعمل على تحطيم البنية الاقتصادية لدى المسلمين.

من هو المتقدم الفائز

قد عرف بهذه المقدمة أن سنة اللّه في الكون هي إمداد الجميع، فمن يعمل هو الذي يتقدم على من لا يعمل، وهذا قانون يجري في جميع مجالات الحياة والتي منها المسألة الاقتصادية. فبما أن الغرب أخذ يعمل ويعمل في المجال الاقتصادي انتصر وتقدم على المسلمين الذين كسلوا في هذا المجال، وقد ورد في الحديث الشريف: «من لا معاش له لا معاد له»، وهذا لا ينافي ما ورد في ذم الدنيا ومتاعها الفاني على ما هو مذكور في الكتب المفصلة.

حيث روي عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لما قبض رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أتاهم آت فوقف بباب البيت، فسلم عليهم، ثم قال: السلام عليكم يا آل محمد: {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(2)، في اللّه عزّ وجلّ خلف من كل هالك، وعزاء من كل مصيبة، ودرك لما فات. فباللّه فثقوا، وعليه فتوكلوا، وبنصره لكم عند المصيبة

ص: 33


1- سورة الإسراء، الآية: 20.
2- سورة آل عمران، الآية: 185.

فارضوا؛ فإنما المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، ولم يروا أحداً. فقال بعض من في البيت: هذا ملك من السماء بعثه اللّه عزّ وجلّ إليكم ليعزيكم، وقال بعضهم: هذا الخضر(عليه السلام) جاءكم يعزيكم بنبيكم(صلی الله عليه وآله وسلم)»(1).

فإن قوله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ} معناه: وما لذات الدنيا وشهواتها، وما فيها من زينة إلّا متعة تستبطن الغرور والخداع بشيء، فإنه لا حقيقة له عند الاختبار والامتحان؛ لأنكم تلتذون بما يمتعكم من دنياكم، ثم هو عائد عليكم بالفضائح والمصائب فلا تركنوا إليه ولا تسكنوا إليه، فإنما الدنيا غرور وإنما أنتم منها في غرور. فمن الجدير بالإنسان أن يحصل بحياته ورئاسته وماله تلك الدار الباقية، لا أن يغتر بالدنيا ويعصي اللّه سبحانه حتى يدخل النار.

فإن الانسان قد يضيِّع الحقيقة ويتصور بأن الأمر انتهى، وقد وصل إلى هدفه ومبتغاه، كأن يتصور مثلاً: بأنه عندما ينتصر على عدوه أن المشكلات قد حلّت فيمضي في سبيله، ولا يدور في ذهنه بأنه من الممكن أن يكرّ عليه عدوه مرة أخرى ويقضي عليه وهو في غفلة! ولكن هذا غرور وغفلة لا تجر إلّا إلى السقوط والفشل.

إذن مثل هذه الروايات تدل على عدم الركون إلى الدنيا على حساب الآخرة، بأن يضيع الإنسان آخرته لأجل دنيا فانية، وهي لاتنافي ضرورة الاهتمام بالمسألة الاقتصادية لكي تكون الأمة قوية عزيزة، تقرر مصيرها بأنفسها، ولا تكون ألعوبة بيد المستعمرين.

غفلة المسلمين

وللأسف فإن المسلمين اليوم قد وقعوا في مشكلة الغفلة، التي هي أحد

ص: 34


1- الكافي 3: 222.

أسباب سيطرة دول الاستعمار القديم والحديث على بلدان العالم الثالث واقتصادها، من حيث نهب ثرواتهم وتحطيم بنيتهم الاقتصادية.

فالباكستان - مثلاً - هي إحدى دول العالم الثالث التي سقطت بسبب إنهيار اقتصادها، فعندما أرادت باكستان أن تنتزع استقلالها من الغرب قام الغرب بالقضاء على هذا الاستقلال عن طريق هدم اقتصادها، ففي عام (1948م) حصلت باكستان على استقلالها الظاهري(1)، ولكن منذ ذلك الحين ولحد الآن وقعت فيها عدة انقلابات عسكرية، راح ضحية تلك الانقلابات الآلاف من الناس، وهذا بسبب التدخل والنفوذ الغربي.

تحطيم البنية الاقتصادية

يتم تحطيم البنية الاقتصادية لأي مجتمع عبر طرق عديدة منها:

1- بواسطة إغراق السوق بسيل من البضائع الأجنبية، فيتسبب عن ذلك ارتفاع نسبة العرض وهبوط نسبة الطلب، والنتيجة تكون انخفاض قيمة البضائع والسلع المحلية، وسقوط اعتبارها في الأسواق.

2- بواسطة إخلاء السوق من البضائع، إلى درجة ارتفاع الطلب ارتفاعاً فاحشاً، وازدياد نسبة الأموال في أيدي الناس مما يعني انخفاض قوتها الشرائية، كل ذلك مضافاً إلى هبوط نسبة العرض، فتكون النتيجة أن تفقد الأموال قيمتها وقدرتها الشرائية، وهو ما يسمونه اليوم ب(الركود الاقتصادي).

وهذا أسلوب معروف في علم الاقتصاد تقوم به الدول الغربية - غالباً - وتطبقه

ص: 35


1- لأن دول العالم الثالث ترزح تحت نير سيطرة الاستعمار المبطن بعد أن فضح الاستعمار السافر والاحتلال المباشر، فإن ظاهر الأوضاع الخارجية للدول الاستقلال، ولكن الواقع هو أن أكثر الحكومات والدول في العالم الثالث تدور إما في الفلك الغربي أو الشرقي، ولا تتحرك أو تخطو خطوة واحدة إلّا بمعونتهم وموافقتهم، طبق الكلمة المعروفة: إن الاستعمار عندما خرج من الباب دخل من الشباك.

في أي مكان تريد السيطرة عليه، واحتلاله اقتصادياً وسياسياً. وقد يكون ذلك تحت سِتار: الإصلاح الاقتصادي وأمثاله. وذلك لأن الاقتصاد عصب الحياة، فإذا انهار الاقتصاد في بلد ما سيكون هناك مبرر كاف لتدخل الدول القوية في شؤون الدول الضعيفة والتحكم بها، بحجة الإصلاح الاقتصادي ودعم البلاد. هذه هي الحالة العامة التي نجدها في أغلب بلدان العالم الثالث.

الإنجليز ودورهم في تدمير الاقتصاد العراقي

حكى والدي(رحمه الله) عن أوضاع الاقتصاد العراقي إبان الاحتلال الإنجليزي فقال:

عندما دخل الإنجليز في العراق إبان ثورة العشرين، كانت عائلتي تتشكل من عشرة أفراد، وكنت أتقاضى شهرياً ليرة واحدة من آية اللّه العظمى الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله)، وكانت الليرة في ذلك الزمان تساوي ثلاث عشرة روبية، وعندما دخل الإنجليز في العراق أعطوا لكل فرد في الجيش عشر روبيات لكل يوم(1)!

وقد ألزموا الجنود أن ينفقوها إلى المساء، فكان أفراد الجيش عندما يدخلون السوق يشترون - مثلاً - الدجاجة التي سعرها عُشر الروبية بروبية كاملة! وذلك لتوفر الأموال عندهم ولزوم صرفها إلى المساء.

وواضح أن هدف المحتل الإنجليزي - من هذه العملية - كان هو التلاعب بالاقتصاد العراقي وتقليل نسبة العرض ورفع نسبة الطلب أو العكس، فجعلوا الليرة التي كانت تكفي عائلة ذات عشرة أفراد لشهر كامل، تصرف من قبل فرد من أفراد الجيش في يوم واحد؛ ليصاب الناس بالفقر الفاحش؛ إذ ليس كل الناس كان يحصل على ما يحصل عليه جنود الاحتلال من رواتب.

ص: 36


1- الليرة عملة تركية كانت متداولة في العراق زمن الدولة العثمانية. (الروبية) عملة هندية أُدخلت الى العراق بعد احتلال القوات الإنجليزية للعراق.

ومن جهة أخرى أرادوا إجهاض قاعدة الاكتفاء والاعتدال الذاتي التي يقرها الاقتصاد الإسلامي، حيث جاء في رواية عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المؤمن سيرته القصد وسنته الرشد»(1)، والقصد هو التوسط بين الإفراط والتقتير، ومن مصاديق ذلك التدبير في المعيشة، واستغلال الثروات الموجودة في ربوع البلاد الإسلامية، وتنميتها والعمل على تكثيرها.

وفي رواية أخرى عن سليمان بن معلى بن خنيس عن أبيه قال: سأل أبو عبد اللّه(عليه السلام) عن رجل وأنا عنده؟

فقيل له: أصابته الحاجة.

قال(عليه السلام): «فما يصنع اليوم؟».

قيل: في البيت يعبد ربه.

قال(عليه السلام): «فمن أين قوته؟».

قيل: من عند بعض إخوانه.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «واللّه للَّذي يقوته أشدُّ عبادة منه»(2).

وذات يوم رأى أحد الأصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له، والعرق يتصاب عن ظهره، فقال: جعلت فداك، أعطني أكفك؟

فقال الإمام(عليه السلام): «إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة»(3).

ص: 37


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 80.
2- الكافي 5: 78.
3- الكافي 5: 76.
الاكتفاء الذاتي ضرورة

ومن هنا يعلم ضرورة تطبيق ما يوجب الاكتفاء الذاتي في البلدان الإسلامية؛ فلأجل تقوية الاقتصاد الإسلامي وتعديله: يلزم على المسلمين أن يتفقوا على أن لا يستوردوا أية بضاعة أجنبية، سواء من الغذاء أو الملابس أو غيرها من الكماليات وغيرها؛ لأن المسلمين ماداموا يستوردون البضائع وغيرها من الغرب، ولا يأكلون مما يزرعون، ولا يلبسون مما يخيطون وينسجون، فانكسارهم اقتصادياً حتمي لا محالة. أما إذا اعتمدوا على أنفسهم وهيئوا ما يحتاجون إليه من المواد الأولية من داخل بلادهم، واستغنوا عن الغرب ومنتجاته، وقنعوا بمنتجاتهم الوطنية كما فعلت الهند إبان نهضتها وثورتها ضد الإنجليز المحتلين، فإنهم سيكونون أسياد أنفسهم وسيقوى عصب اقتصادهم، ولن يحتاجوا حينئذٍ إلى الغرب والشرق أبداً.

فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «استغن عن من شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، وأفضل على ما شئت تكن أميره»(1).

تجربة الهند مع الاحتلال البريطاني

قام غاندي بتطبيق الاكتفاء الذاتي على بلاده حتى حقق استقلال الهند عن الإنجليز اقتصادياً وسياسياً، وذلك عبر أساليب عديدة، أهمها أمران:

أحدهما: أنه منع صنع الخمر وشربه والتعامل به، وكان يقول: إننا بحاجة إلى العقل حتى نقف ضد الإنجليز والغرب، والخمر مزيل للعقل.

وعندما أعلن ذلك المنع قام أتباعه بحملة على أشجار العنب فأبادوا مليون شجرة عنب كانت تستغل لأجل تحضير الخمر، وذلك لأن القضاء على تناول

ص: 38


1- أعلام الدين: 159.

الخمر لا بد له من القضاء على جذوره وهي أشجار العنب.

ثانيهما: مقاطعة البضائع الإنجليزية، ومن أهمها الامتناع عن لبس الملابس الإنجليزية واستعمالها؛ ليُفهم الإنجليز بأنه لم يعد لهم في الهند مكان، وتحسباً من عرقلة ذلك القرار قرر أنه كل من لم يلتزم بهذا القرار - واستعمل الملابس الإنجليزية مثلاً - لا يحق له الاشتراك في المؤتمر الوطني الهندي.

لقد كان في قصة الهند وابتلائهم بالمحتلين البريطانيين، وكيفية تخلصهم من سلطتهم الجائرة واحتلالهم المشين، عبرة لمن اعتبر؛ فإن البريطانيين كانوا قد احتلوا بلاد الهند مدة ثلاثمائة سنة، ولم يتركوا الهنود يتقدمون في شيء من أبعاد الحياة، لكن الهنود لما استقلوا وذلك منذ خمسين سنة، نفضوا عن أنفسهم غبار الاحتلال والتبعية، وعملوا بجد واجتهاد حتى تقدموا في إنتاج كل شيء، من الذرة إلى غيرها من الصناعات، وزرعوا كل شيء يحتاجون إليه من الذرة إلى غيرها من المزروعات، وبلغوا في كل ذلك درجة الاكتفاء الذاتي، على الرغم من أن نفوس الهند تقرب من مليار نسمة، ومع أنه قد صادر المستعمرون البريطانيون في هذه القرون الثلاثة التي كانوا يحتلون فيها بلادهم، كل خيرات وموارد وثروات البلاد، حتى افتقروا أشد الفقر، لكنهم لما اهتموا وعملوا تمكنوا من التقدم وذلك بهذا الشكل من التقدم الهائل.

السعي إلى الاكتفاء الذاتي

لذا يلزم على بلادنا الإسلامية أن تطبق برامج عديدة للاكتفاء الذاتي في جميع احتياجاتها اليومية - نعم الضرورات تقدر بقدرها حسب تشخيص الخبراء - فتوفر لنفسها جميع احتياجاتها الغذائية بدءً من البيض والدجاج واللحم والزيوت، وهكذا بالنسبة إلى الصناعات، وما إلى ذلك من المواد الأولية، من نفس أرضها وثروتها الحيوانية والزراعية، إلى استخراج المعادن الوفيرة المدفونة

ص: 39

بأرضنا التي أنعم اللّه بها علينا، بحيث تبلغ درجة الاكتفاء الذاتي وتزيد كثيراً.

نعم، إذا التفت المسلمون الى أهمية الاكتفاء الذاتي من خلال برمجة دقيقة بإشراف الأخصائيين، وكذلك استغلال أوقات الفراغ أو الطاقات المعطلة في عملية البناء والتنمية، كان ذلك - قطعاً - يعود بالفائدة والرفاه على المجتمع الإسلامي ككل.

فعلى سبيل المثال: إذا امتلكت كل عائلة ماكنة خياطة، وحقل صغير للدواجن تربي فيه الطيور والدجاج والأغنام والماعز، وحوض لتربية الأسماك، وزرعت حديقة البيت - وإن كانت صغيرة - بالخضروات وأشجار الفاكهة وما أشبه. فإن مثل هذه الأعمال مضافاً إلى واردها وانتاجها قادرة على معالجة الكثير من المشكلات الاقتصادية وغيرها؛ فهي تحل مشكلة الفراغ، وأيضاً بعض مشكلة الغلاء، وأيضاً المشاكل النفسية التي تعاني منها الأسر بسبب الضائقة المالية.

علماً أن التعاون هو السبيل لحل معظم المشاكل الإجتماعية، ولا يقتصر هذا البرنامج على الفرد والأسرة فقط بل يسري إلى المنظمة والهيئة وإلى المستويات الكبيرة الأخرى من تشكلات المجتمع. فإذا كان بمقدور الفرد الواحد أن يحقق قسطاً من الاكتفاء الذاتي فكيف بالمنظمة المشتملة على الآف الأفراد، وقد ورد في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «كلوا جميعاً ولا تفرقوا؛ فإن البركة مع الجماعة»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يد اللّه مع الجماعة»(2).

وهذا أمر تكويني قبل أن يكون غيبياً.

ص: 40


1- بحار الانوار 63: 349.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 127 من كلام له(عليه السلام) يبين فيه بعض أحكام الدين.

وإذا كان بمقدور المنظمة إنجاز أكبر الأعمال الممكنة في نطاق الاكتفاء الذاتي فإن بمقدور السلطات عمل ما هو أكبر من ذلك؛ لأنها تمتلك من الإمكانات التي تتيح لها إنجاز أعمال أكبر من الآخرين، بشرط أن تكون حكومة قائمة على مبدأ الشورى المستندة إلى الأحزاب الحرة ذات المؤسسات الدستورية وبشكل تعددي بعيد عن أساليب الظلم والاستبداد.

وبغير ذلك فإن عدونا سيستفيد من نقطة ضعفنا هذه، وينفذ ويتسلل إلى داخل بلادنا الإسلامية تحت عناوين متعددة، مثل الإصلاح الاقتصادي وما أشبه؛ ليحطمنا ويهزمنا من الداخل.

لا لليأس

من أهم ما يلزم على الأمة في التخلص من الهيمنة الاقتصادية الغربية إبعاد حالة اليأس والإحباط وضعف الأمل عن نفوس الأمة، فهي جميعها تعتبر من أهم عوائق التقدم والرقي، قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(1).

وقد ذكر في تفسير الآية الكريمة: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ} أي: لا تقنطوا من رحمته، ولعل الإتيان بلفظ الرَّوْح، لأجل أن المهموم المكظوم المحتبس النفس، يحتاج الى رَوْح ونسيم ليُرَوِّح عنه، ويخفف وطأ الأنفاس المحترقة الموجبة لخنقه واحتباس نفسه، و: {إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ} ورحمته {إِلَّا الْقَوْمُالْكَٰفِرُونَ} باللّه وبفضله، أما المؤمن فإنه يرجو من اللّه الفرج من الشدة، والخلاص من الكربة(2).

ص: 41


1- سورة يوسف، الآية: 87.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 34.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «كل قانط آيس»(1).

وقال(عليه السلام): «قتل القنوط صاحبه»(2).

وقال(عليه السلام): «للخائب الآيس مضض الهلاك»(3).

إن الشدة التي فيها انقطاع الأسباب وانسداد طرق النجاة؛ تشكل اختناقاً للإنسان، ويقابلها الخروج إلى فسحة الفرج والظفر، فالرَّوْح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدة، بإذن اللّه ومشيئته، وعلى من يؤمن باللّه أن يعتقد بأن اللّه يفعل ما يشاء؛ ولذا قال اللّه تعالى حاكياً على لسان يعقوب(عليه السلام): {إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(4).

وقال حاكياً على لسان إبراهيم(عليه السلام): {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}(5).

وقد عد اليأس من رَوْح اللّه من الكبائر الموبقة؛ كما يعتبر اليأس والتشاؤم من أهم عوالم التأخر.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الكبائر أربع: الإشراك باللّه، والقنوط من رحمة اللّه،والأمن من مكر اللّه»(6).

وعن صفوان الجمال قال: شهدت أبا عبد اللّه(عليه السلام) واستقبل القبلة قبل التكبير وقال: «اللّهم، لا تؤيسني من روحك، ولا تقنطني من رحمتك، ولا تؤمني

ص: 42


1- عيون الحكم والمواعظ: 375.
2- عيون الحكم والمواعظ: 370.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 267.
4- سورة يوسف، الآية: 87.
5- سورة الحجر، الآية: 56.
6- النوادر للراوندي: 16.

مكرك؛ فإنه لا يأمن مكر اللّه إلّا القوم الخاسرون». قلت: جعلت فداك، ما سمعت بهذا من أحد قبلك؟! فقال(عليه السلام): «إن من أكبر الكبائر عند اللّه اليأس من روح اللّه، والقنوط من رحمة اللّه، والأمن من مكر اللّه»(1).

إذن، ما دام المسلمون متشائمين ويائسين، وقانطين من رحمة اللّه، لا يمكنهم تجاوز مشاكلهم والتقدم ببلادهم نحو الأمام، وبالتالي هم عاجزون عن مواجهة الاستعمار وعملائهم الطغاة أمثال صدام ولا يتمكنون من مواجهة الحصار الاقتصادي الذي فرضه الغرب على المسلمين في العديد من البلاد الإسلامية كالعراق وليبيا، والسودان، وأفغانستان، وغيرها.

لذا يلزم أن لا يوجد في قاموس حياتنا مفردات التشاؤم واليأس وما أشبه، وذلك انطلاقاً من أوامر وتوجيهات القرآن الكريم والسنة المطهرة كما في الأحاديث الشريفة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الفقيه كل الفقيه من لم يقنِّط الناس من رحمة اللّه، ولم يؤيسهم من روح اللّه، ولم يؤمنهم من مكر اللّه»(2).

قصة واقعية

عندما كنا في إحدى البلاد الإسلامية(3)،رغب أحد الأصدقاء في شراء شاتين، فطلب ذلك من أحد باعة الشياه. فقال: وأي نوع تريدون، شاة محلية أم أجنبية؟!

قال: وهل هناك فرق بينهما؟

ص: 43


1- الكافي 2: 544.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 90.
3- وهي دولة الكويت، حيث أقام الإمام الشيرازي(رحمه الله) فيها ثمان سنين، بعد خروجه القسري من العراق عام (1391ه)، ثم هاجر بعدها إلى مدينة قم المقدسة عام (1399ه).

قال: نعم، الفرق واضح وكبير جداً.

قال: كيف ذلك؟!

قال: سترون. وذهب وأحضر شاتين مستوردة من دولة هولندا، كأنهما - وبدون مبالغة - عجلان سمينان، وأحضر شاتين محليتين كان وزنهما لا يتجاوز نصف وزن الشاة الأجنبية، وبعد الاستفسار عن الثمن تبين أن قيمة الشاة المستوردة السمينة لا يزيد على ثلث قيمة الشاة المحلية الضعيفة!! يعني: إن الشاة الأجنبية الواحدة تعادل شاتين محليتين أو أكثر من ناحية الوزن، في حين أن قيمتها لا تتعدى الثلث إن لم تكن أقل من ذلك... ولماذا؟!

لأن الزراعة وتربية المواشي في البلاد الإسلامية دون مستوى الزراعة وتربية المواشي في الدول الأخرى بدرجات كبيرة، مع أن المفروض أن يكون العكس، وأن تكون البلاد الإسلامية هي المتطورة والمتقدمة كما كانت عليه سابقاً. وذلك لاشتمالها على مختلف الثروات في أراضيها ومياهها ومعادنها وغير ذلك، وهذا واضح وجلي عند أبسط مقارنة بين الثروات والنعم التي أنعم اللّه بها على بلاد المسلمين من: المياه والأنهار، والتربة الخصبة الغنية، وكثرة الأيادي العاملة، وبين غيرها من البلاد, ولكننا نجد الفرق شاسعاً في الإنتاج ونوعيته.

وهو الحال نفسه بالنسبة إلى الثروات الحيوانية والمائية، وما أشبه ذلك من موارد الطاقة، وكل ذلك حدث نتيجة التقصير والتقاعس من قبل المسلمين، وبتخطيط من قبل دول الكفر والاستعمار، وقبول من دولنا، وتطبيق من قبل حكامنا العملاء. إذ لا يخفى أن إحدى المخططات التي اتخذها الغرب من أجل القضاء على اقتصاد المسلمين، هو سلب الحرية الاقتصادية التي أمر بها الإسلام، أي: حرية الكسب والتجارة والزراعة وحيازة المباحات وما أشبه، فأصبحت البلاد الإسلامية تعمل بقوانين غربية وشرقية لا إسلامية، الأمر الذي

ص: 44

كان له أشد الأثر في تجميد السيولة المالية لدى المسلمين التي كانت ترد إلى بلاد الإسلام بشكل رئيسي من خلال الحريات الاقتصادية - سابقاً - وشعار الباب المفتوح وفق حدود الإسلام وشروطه السمحة اليسيرة.

العلاج الإسلامي الاقتصادي

إن العلاج الناجع لحل المشكلة الاقتصادية يكمن في العمل ضمن إطار القوانين الإسلامية في باب الاقتصاد، ففي نظر الإسلام الناس أحرار في أن يتاجروا ويعملوا أي عمل، ويقوموا بأي كسب - باستثناء ما حرمه اللّه سبحانه وتعالى - وفي أي زمان ومكان شاؤوا، ولا يحق لأي شخص، أو دولة، أن تضيق أو تمنع من ذلك أو تشترطه بأخذ موافقة أو إجازة أو دفع ضريبة أو ما أشبه.

إن منطق الإسلام يتجلى أكثر من خلال أحكامه العامة السمحة، وقواعده الفقهية السهلة التي لا تقبل التبديل أو التحول، وإحدى تلك القواعد الفقهية المسلم بها، والتي ذكر بعض العلماء أنها من ضروريات الدين الإسلامي ولوازمه هي: (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)(1).

وهذه القاعدة تضمن حريةالإنسان الاقتصادية وتقدمه في مختلف جوانب الحياة كما أنها تعبر عن مجمل (حقوق الإنسان) في الإسلام.

ولقد سعى الاستعمار جاهداً من أجل إبعاد المسلمين عن هذا المنطق الواضح الصريح، بعد أن أدرك أن في إبعادهم السبيل الأقصر لتقويض دعائم بلادهم، ومحاصرة قواهم المالية... فقام في سبيل ذلك بوضع قوانين وشرائط وقيود للكسب والتجارة، حتى لا يجد المسلمون حرية في معاشهم وكسبهم فيسلبوا بذلك فرصة التقدم والازدهار.

ص: 45


1- وتسمّى بقاعدة السلطنة والتسلط.

فإذا كان العجب يبطل بعد معرفة السبب كما يقولون؛ فإن: (الدواء لا يتعين إلّا بتشخيص الداء)، فعلينا أن نتعرف على الداء في مجتمعاتنا، ثم تشخيص الدواء على المنطق الإسلامي، فإن قوانين الإسلام الاقتصادية هي الدواء، كما يلزم علينا أن نتشبع بروح الإسلام ومبادئه أولاً، حتى يتسنى لنا مقاومة خطط الأعداء والمستعمرين، والاستغناء عن سيطرتهم الاقتصادية على بلادنا، وهو الداء المشخّص لنتحرر من أسر التبعية والحصار.

كذلك كان موقف الإسلام، وكذلك كان موقف من يؤمنون به، ويلتزمون بسننه وأحكامه؛ لذا لا بد لنا من الابتعاد كل البعد عن الإسراف بكل معانيه فكرياً كان أم مادياً، وإذا كان إهدار الموارد وتضييع الثروات يعد ترفاً وإسرافاً؛ فإن من الإسراف الفكري إهمال الفكر وتعطيل العقول، واليأس من الوصول إلى الحلول.

وعلينا أن نفعل نفس ما فعله المجدد الشيرازي (رضوان اللّه عليه)، حيث حرر إيران من الهيمنة الاقتصادية الإنجليزية بكلمة واحدة مختصرة، عندما أفتى بتحريم استعمال التنباك مطلقاً، ورغم أن كلمته وفتواه المشهورة كانت مختصرة، إلّا أن محتواها كان عظيم الخطر في معناه وأثره. وفتواه هي:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم: استعمال الدخانيات اليوم في إيران في حكممحاربة الإمام صاحب الزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشريف».

نعم، قاد المجدد ثورة التنباك ضد الإنجليز وحكومة ناصر الدين شاه القاجاري، بعد أن قادت بريطانيا جيوشاً جرارة على إيران، وذلك في ربيع الثاني سنة (1309ه)، وكان قوامها (400 ألف مقاتل)، وكان هدفهم السيطرة على اقتصاد إيران عبر أساليب عديدة، أهمها الحصول على امتيازات التبغ زراعة وشراءً وتصديراً مقابل (250) ألف ليرة إنجليزية، تقدمها لندن لناصر الدين شاه القاجاري أحد ملوك ايران في العصر القاجاري. فأحبط المجدد الشيرازي(رحمه الله)

ص: 46

المؤامرة بعد أن أصدر فتواه الشهيرة، فاضطرت جيوش الإنجليز إلى حزم حقائبها، ثم الخروج من إيران تجر أذيال الخيبة والإنكسار.

كما أن المجدد الشيرازي(رحمه الله) قام بدور آخر في إنقاذ المجتمع الإسلامي وذلك بإيقاف الظلم الطائفي الذي قام به الحاكم المستبد (عبد الرحمن خان) في أفغانستان، الذي قام بقتل الشيعة وجعل من رؤوسهم منائر في كل مكان، فأوقف الفتنة الطائفية التي كان يريدها أعداء الإسلام، فكما قارع الاستعمار البريطاني في ثورته السلمية في قصة التبغ والتي أيقظت العالم الإسلامي وأعطته الوعي السياسي في تاريخه الحديث، كان ينبه المسلمين ويحفظهم من الأخطار التي يسببها النفوذ الأجنبي في بلادهم.

وهكذا يلزم أن يكون دور العلماء في إرشاد الناس نحو الخير والفضيلة في مختلف المجالات الاقتصادية وغيرها.

اقتصاد الدول المتقدمة

في إحدى الدول المتقدمة اقتصادياً وهي اليابان وعلى أثر النظام الاقتصادي الناجح الذي اتبعوه، باعتمادهم على أنفسهم وتخلصهم من النفوذ الغربي،استطاعوا أن يستفيدوا حتى من قشور الباقلاء التي نعدها من الأوساخ وفضلات الطعام، فصنعوا منها ألواح الخشب المضغوط التي تستعمل في صنع الدواليب والصناديق والأدوات المنزلية الخشبية، وسائر الاستخدامات الاخرى.

وإنني أتذكر قبل الحرب العالمية كيف كانت الصناعة اليابانية معروفة بعدم الإتقان، ولم يكن يرغب فيها الناس. أما بعد أن جعلوا في بلادهم التعددية الحزبية، وانتهجوا منهج الإتقان في أمورهم، واتخذوا سياسة اقتصادية ناجحة، وصلوا إلى ما وصلوا إليه من القوة الاقتصادية المنافسة لأقوى الدول، حتى اشتهرت الجودة في مختلف صناعتهم، وأصبح الإقبال عليها والمشترون لها

ص: 47

أكثر حتى مما يصنعه الغرب. وهذا كله بسبب الإتقان في الأمور.

كما إنني أتذكر ذات مرة أن أعداد الفئران تكاثرت بشكل مخيف في الكويت، ومهما استعمل الناس من أنواع السموم والمبيدات لم ينفع، فقلت لأحد الخبراء المسلمين وقد التقيت به في تلك الفترة: ما هو الطريق لحل هذه المشكلة؟

فقال: سآتي لكم بشيء جئت به من الصين، فذهب وعاد ومعه وسيلة عجيبة، ولكن فكرتها سهلة، وكانت عبارة عن مصباح كهربائي خاص، باستطاعته - للخاصية الموجودة فيه - أن يجذب الفئران نحوه كجذب المغناطيس للمعادن، ثم يقضي عليها!

الجد والاجتهاد في العمل

من أهم مقومات الاقتصاد الناجح هو الجد والاجتهاد في العمل، وعليه سار المسلمون فتقدموا، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1).

وفي خبر الشيخ الشامي، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا شيخ، من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كان في الدنيا همته كثرت حسرته عند فراقها، ومن كان غده شراً من يومه فمحروم، ومن لم ينل ما يرى من آخرته إذا سلمت له دنياه فهو هالك، ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى، ومن كان في نقص فالموت خير له»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله، فحسن منقلبه؛ إذ رضي عنه ربه. وويل لمن طال عمره، وساء عمله، فساء منقلبه؛ إذ سخط عليه

ص: 48


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 435.

ربه عزّ وجلّ»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «اطلبوا المعروف والفضل من رحماء أمتي، تعيشوا في أكنافهم، فالخلق كلهم عيال اللّه، وإن أحبهم إليه أنفعهم لخلقه، وأحسنهم صنيعاً إلى عياله، وإن الخير كثير وقليل فاعله»(2).

وعن جعفر بن محمد(عليهما السلام) عن آبائه(عليهم السلام) عن علي(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «بادر بأربع قبل أربع: بشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل مماتك»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما من يوم يمر على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فقل فيَّ خيراً، واعمل فيَّ خيراً، أشهدلك به يوم القيامة؛ فإنك لن تراني بعده أبداً»(4).

وعن علي الهادي(عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إياكم والإيكال بالمنى! فإنها من بضائع العجزة»(5).

قصة من التاريخ

ولننظر أخيراً إلى هذه القصة، ونتعلم من صاحبها درس التدبير والجد والعمل، ولنتعرف على بعض الأساليب الاقتصادية الناجحة عنده:

يذكر أن شخصاً يدعى (أبو البركات)، كان من التجار الكبار المشهورين بتجارة الجياد، بعد أن كان قد رباها ودربها بشكل تكون مفيدة للحرب ضد

ص: 49


1- من لا يحضره الفقيه 4: 396.
2- أعلام الدين: 276.
3- الخصال 1: 239.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 108.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 580.

الكفار؛ لذلك كان من ينوي الذهاب إلى الحرب يأتي إليه ويشتري منه ما شاء من الجياد.

يقول أبو البركات: ذات يوم جاءني شخص وقال: أريد أن آتي إلى محل جيادك لأشتري عدة أفراس للمجاهدين، قلت له: لا مانع من ذلك، وتوجهنا بالمسير نحو الإصطبل، وفي الطريق لفت نظري عمل كان يقوم به هذا الشخص، حيث كان كثيراً ما يهوي إلى الأرض ويأخذ شيئاً منها ويضعه في كيس كان معه، حتى وصلنا الإصطبل، فاشترى مني عدة جياد أصيلة قوية وسريعة وبأثمان غالية، فسألته قائلاً: إني رأيت منك في الطريق شيئاً عجيباً، فما هذا العمل الذي كنت تعمله؟

قال: هذا عملي وكسبي اليومي! حيث إني أطوف الشوارع والأزقة، فأينما عثرت على قشر رمان، أو خشبة، أو قطعة حديد، أو ما أشبه ذلك أجمعها، ثمأجعل الحديد في جانب، والخشب في جانب، وهكذا، وبعد ذلك أبيعها، فالحديد للحداد، وقشور الرمان للدباغ، والخشب للخباز أو لمن يستعمله، وقد جمعت من هذا العمل هذا المال الذي اشتريت به منك هذه الجياد لإعانة المجاهدين في سبيل اللّه والإسلام.

وهذه القصة تدل على أن العمل يثمر وإن كان في نظر البعض تافهاً.

لذا يلزم العمل والجد والاجتهاد حتى يرجع الاقتصاد الإسلامي إلى بلادنا، وتكون دفة الاقتصاد بيد المسلمين لا بيد أعدائهم، فقد ورد في وصايا الإمام الحسن(عليه السلام): «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»(1).

ص: 50


1- بحار الأنوار 44: 139.

كما يجب العمل لاستعادة ثروات الأمة المصادرة، حتى يعود للمسلمين عزهم وغناهم، كما كانوا عليه في العصور الأولى للإسلام. وإلّا فإن «من لا معاش له لا معاد له» على ما ورد في الحديث.

«اللّهم صل على محمد وآل محمد، وأسألك الربح من التجارة التي لا تبور، والغنيمة من الأعمال الخالصة الفاضلة في الدنيا والآخرة، والذكر الكثير لك والعفاف والسلامة من الذنوب والخطايا، اللّهم ارزقنا أعمالاً زاكية متقبلة، ترضى بها عنا، وتسهل لنا سكرة الموت، وشدة هول يوم القيامة، اللّهم إنا نسألك خاصة الخير وعامته لخاصنا وعامنا، والزيادة من فضلك في كل يوم وليلة، والنجاة من عذابك، والفوز برحمتك»(1).

من هدي القرآن الحكيم

لزوم العمل

قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوٰةُ فَانتَشِرُواْ فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٖ فَصَّلْنَٰهُ تَفْصِيلًا}(3).

الأنبياء(عليهم السلام) والعمل

قال عزّ وجلّ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ

ص: 51


1- مصباح المتهجد 2: 443.
2- سورة الجمعة، الآية: 10.
3- سورة الإسراء، الآية: 12.

بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مََٔارِبُ أُخْرَىٰ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَعَلَّمْنَٰهُ صَنْعَةَ لَبُوسٖ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَٰكِرُونَ}(2).

التقدير في المعيشة

قال سبحانه: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(4).

أسلوب الكفار والمستعمرين

قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِالْأخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَٰنُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا}(5).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ}(7).

ص: 52


1- سورة طه، الآية: 17- 18.
2- سورة الأنبياء، الآية: 80.
3- سورة الإسراء، الآية: 29.
4- سورة الفرقان، الآية: 67.
5- سورة النساء، الآية: 38-39.
6- سورة الأنفال، الآية: 36.
7- سورة البقرة، الآية: 264.
من مقومات العزة

قال تعالى: {وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّٰتٖ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَٰرًا}(1).

وقال سبحانه: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

لزوم العمل

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم بالخشية من اللّه في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والاكتساب في الفقر والغنى، وأن تصلوا من قطعكم، وتعفوا عمن ظلمكم، وتعطفوا على من حرمكم، وليكن نظركم عبراً،وصمتكم فكراً، وقولكم ذكراً، وإياكم والبخل، وعليكم بالسخاء، فإنه لا يدخل الجنة بخيل، ولا يدخل النار سخي»(4).

وقال رجل لأبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): إني لا أحسن أن أعمل عملاً بيدي ولا أحسن أن أتجر، وأنا محارف(5) محتاج؟

فقال: «اعمل فاحمل على رأسك، واستغن عن الناس؛ فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قد حمل حجراً على عاتقه فوضعه في حائط من حيطانه، وإن الحجر لفي مكانه

ص: 53


1- سورة نوح، الآية: 12.
2- سورة هود، الآية: 52.
3- جامع الأخبار: 139.
4- بحار الأنوار 1: 141.
5- المحارَف: المحروم الذي إذا طلب لا يرزق.

ولا يدرى كم عمقه إلّا أنه ثمَّ»(1).

الأنبياء(عليهم السلام) والعمل

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه حين أهبط آدم(عليه السلام) إلى الأرض أمره أن يحرث بيده، فيأكل من كده بعد الجنة ونعيمها...»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يضرب بالمر(3)

ويستخرج الأرضين، وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يمص النوى بفيه ويغرسه فيطلع من ساعته، وإن أمير المؤمنين(عليه السلام) أعتق ألف مملوك من ماله وكد يده»(4).

وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إني لأعمل في بعض ضياعي حتى أعرق وإن لي من يكفيني، ليعلم اللّه عزّ وجلّ أني أطلب الرزقالحلال»(5).

التقدير في المعيشة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حسن البشر بالناس نصف العقل، والتقدير نصف المعيشة، والمرأة الصالحة أحد الكاسبين»(6).

وعن داود بن سرحان قال: رأيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يكيل تمراً بيده، فقلت: جعلت فداك، لو أمرت بعض ولدك، أو بعض مواليك فيكفيك؟

فقال: «ياداود، إنه لا يصلح المرء المسلم إلّا ثلاثة: التفقه في الدين، والصبر

ص: 54


1- الكافي 5: 76، ومعنى الرواية: أي كونه ثمة إلى الآن.
2- تفسير العياشي 1: 40.
3- المَر: المسحاة.
4- الكافي 5: 74.
5- الكافي 5: 77.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 614.

على النائبة، وحسن التقدير في المعيشة»(1).

وقال(عليه السلام): «عليك بإصلاح المال؛ فإن فيه منبهةً للكريم واستغناءً عن اللئيم»(2).

وعن معتب قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام) - وقد تزيَّد السعر بالمدينة - «كم عندنا من طعام؟».

قال: قلت: عندنا ما يكفيك أشهراً كثيرةً.

قال(عليه السلام): «أخرجه وبعه».

قال: قلت له: وليس بالمدينة طعام؟

قال(عليه السلام): «بعه».

فلما بعته، قال(عليه السلام): «اشتر مع الناس يوماً بيوم - وقال - يامعتب اجعل قوتعيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطة؛ فإن اللّه يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها، ولكني أحبت أن يراني اللّه قد أحسنت تقدير المعيشة»(3).

آثار المال في المجتمع الإسلامي

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنما أتخوف على أمتي من بعدي ثلاث خصال: أن يتأولوا القرآن على غير تأويله، أو يتّبعوا زلة العالم، أو يظهر فيهم المال حتى يطغوا ويبطروا، وسأنبئكم المخرج من ذلك: أما القرآن فاعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وأما العالم فانتظروا فيئته ولا تتبعوا زلته، وأما المال فإن المخرج منه شكر النعمة وأداء حقه»(4).

ص: 55


1- الكافي 5: 87.
2- الكافي 5: 88.
3- الكافي 5: 166.
4- الخصال 1: 164.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المال للفتن سبب وللحوادث سلب»(1).

من مقومات العزة

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أتت الموالي أمير المؤمنين(عليه السلام) فقالوا: نشكوا إليك هؤلاء العرب، إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية، وزوّج سلمان وبلالاً وصهيباً، وأبوا علينا هؤلاء، وقالوا: لا نفعل.

فذهب إليهم أمير المؤمنين(عليه السلام) فكلمهم فيهم، فصاح الأعاريب: أبينا ذلك يا أبا الحسن، أبينا ذلك!

فخرج وهو مغضب يجر رداءه، وهو يقول: يا معشر الموالي، إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى، يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم، ولا يعطونكم مثل ما يأخذون، فاتجروا بارك اللّه لكم؛ فإني سمعت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول:الرزق عشرة أجزاء، تسعة في التجارة وواحدة في غيرها»(2).

وعن المعلى بن خنيس قال: رآني أبو عبد اللّه(عليه السلام) وقد تأخرت عن السوق، فقال لي: «اغد إلى عزك»(3).

ص: 56


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 77.
2- الكافي 5: 318.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 192.

الفهم السياسي

السياسة وقانون الأسباب والمسببات

اشارة

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرحٍ علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً...»(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى قد جعل الدنيا خاضعة لقانون الأسباب والمسببات، فكل شيء في الحياة خاضع لعلل ومعاليل وقوانين وأنظمة خاصة، فلا يمكن أن يصل الإنسان إلى الهدف دون أن يوفّر الأسباب الموصلة إليه.

فعندما يريد شخص أن يصبح عالماً يلزم عليه - أولاً - أن يوفّر المقدمات التي توصله إلى ذلك، مثل الاستعداد للتعلم، واغتنام فرص التعليم الجيدة، والبحث عن المعلّم الجيد والكفوء، والمال الكافي لشراء ما يحتاج إليه من لوازم الدراسة والحياة العلمية، إذ بدون توفر هذه المقدمات لا يمكن - عادة - أن يصبح ذلك الشخص عالماً.

وكل مقدمة من هذه المقدمات تختلف من حيث الأهمية عن غيرها؛ فإذا لم يمتلك ذلك الشخص استعداداً للتعلم، بأن كان بليداً أو مجنوناً - مثلاً - لا يمكنه الوصول إلى النتيجة المرجوة. أما إذا امتلك استعداداً جيداً للتعلم وامتلك عقلاً

ص: 57


1- الكافي 1: 183.

سليماً في تقبل المعلومات، ولكنه لم يمتلك المال الكافي لتوفير ما يحتاجه من المستلزمات، فالنتيجة تكون مختلفة، فالبعض تمكن من الحصول على العلم لجدّه واجتهاده وتحمله الصعاب، كما نرى مصاديق عديدة من علمائنا الأعلام ممن كان يفتقد المال ولكنه وصل إلى درجة ومكانة علمية مرموقة.

فقد روي عن أحد العلماء الماضين (رحمهم اللّه) أنه سافر لطلب العلم ولم يكن لديه مال؛ وكان في غاية الفقر والفاقة - والفقر شيمة العلماء غالباً - وبدأ دراسته الدينية بجدّ واجتهاد، وكان يطالع ويقرأ حتى في الساعات المتأخرة من الليل، إلى أن ينتهي زيت السراج الذي يقرأ على ضوئه، وبما أنه لم يكن يستطيع أن يوفر ثمن زيت السراج، رغم قلة سعره، لكنه لم يعذر نفسه في ترك المطالعة وطلب العلم؟ كلا، فإنه كان حريصاً على تحصيل العلم، فكان يضطر إلى الدخول في بيوت مراحيض المدرسة، ليطالع على سراجها، وكانت تأبى عزته ونفسه أن يدع غيره يشعر بما هو فيه من الفقر، فيوهم الداخلين بالتنحنح أنه جالس لقضاء الحاجة.

وتتجلى في هذه الحادثة عزة نفسه وقوة إرادته، وصبره في طلب العلم بدرجة غير اعتيادية.

وهذه قصة واحدة من جده واجتهاده، وما خفي من أحواله فأكثر، فقد ظل هذا العالم صابراً مثابراً، حتى وصل إلى ما وصل إليه من المكانة السامية، فكان عالماً علماً... .

نعم كان ذلك الرجل هو العالم الجليل الشيخ محمد مهدي النراقي(رحمه الله)(1)

ص: 58


1- هو الشيخ محمد مهدي بن أبي ذر النراقي (1128-1209ه) أحد أعلام المجتهدين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر من الهجرة، ومن أصحاب التأليفات القيمة.

صاحب كتاب (جامع السعادات)، وغيره من الكتب القيمة.

وهذه القصة تدل على أن الدنيا وما يحصل الإنسان فيها من الدرجات لا تكون إلّا خاضعة لقانون الأسباب والمسببات، نعم بعض الأسباب تكون سهلة وبعضها صعبة، وعادةً ينبغي سلوك الأسباب الصعبة في الوصول إلى المراتب العالية وتحصيل الكمالات.

واليوم إذا أراد المسلمون الوصول إلى هدفهم المنشود وإقامة حكومة الإسلام الموحدة التي تجمع جميع المسلمين في دولة واحدة قوية، لا بد لهم من تهيئة المقدمات والأسباب لذلك، ومن هذه المقدمات والأسباب: الفهم السياسي.

الفهم السياسي

الفهم، بصورة عامة هو: الإدراك والعلم والمعرفة. وواسطة هذه المعرفة والعلم هي العقل، أي إن الإنسان بواسطة عقله يفهم الأشياء، ومن هذا الباب نجد أن بعض الناس الذين يملكون عقلاً سليماً لهم نبوغ في مختلف مجالات الحياة؛ وذلك لرجاحة عقلهم،وحسن تعاملهم مع القضايا والأحداث،التي تدور حولهم، بينما نجد البعض الآخر لا يمتلك هذه الخاصية، التي هي (الفهم) أو المعرفة والفطنة، إما لخلل عقلي، وهذا خارج عن إرادة الإنسان وإمكانه عادةً، أو لتقصير منه، وذلك لعدم تحصيله للعلوم والمعارف ومعرفته بالأوضاع التي توصله إلى الفهم والإدراك.

إذاً، بإمكان الإنسان أن يصبح فاهماً، وبإمكانه أن يكون كثير العلم والإدراك، وذلك بجده واجتهاده، وأيضاً بيده أن يصبح أبلهاً أو بليداً أو شخصاً عادياً لا يهتم ولا يعي لما يجري حوله من القضايا والأحداث، وهذا يعتبر نقصاً للإنسان؛ لأنالعلم كمال وتركه نقص.

ثم إن الفهم بصورة عامة يتعدد إلى عدة أنواع بتعدد مجالات الحياة

ص: 59

المختلفة، ومدار بحثنا حول مجال (الفهم السياسي) اللازم أن يتمتع به الفرد المسلم. ولتوضيح المطلب نحتاج إلى بيان بعض الأمور وشرح بعض المفردات.

مفهوم السياسة

السياسة هي: فن إدارة البلاد والعباد، وقد جاء في وصف الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) في زيارة الجامعة: «ساسة العباد»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «نحن ساسة البلاد»(2).

وفي الأحاديث: «الإمام عارف بالسياسة».

وفي بعضها: «عالم بالسياسة»(3).

وفيها: «ثم فوض إليه - النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) - أمر الدين والأمة ليسوس عباده»(4).

وفي الخبر: «كان بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم».

وقال(عليه السلام): «فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعفة والعلم بالسياسة»(5).

وفي اللغة(6):

السياسة:القيام على الشيء بما يصلحه.

وساس الأمر سياسة: قام به.

وسست الرعية سياسة: أمرتها ونهيتها.

وساس زيد سياسة: أمر وقام بأمره.

ص: 60


1- تهذيب الأحكام 6: 96.
2- بحار الأنوار 25: 23.
3- انظر: الكافي 1: 201، الأمالي للشيخ الصدوق: 679.
4- الكافي 1: 266.
5- تحف العقول: 137.
6- انظر: لسان العرب والنهاية في غريب الحديث مادة (سوس).

إذن السياسة ليست من العلوم الحديثة، بل لعلها وجدت بوجود الإنسان في هذه المعمورة، وبواسطتها ينظم الإنسان حياته.

وكل إنسان يحتاج إلى السياسة، وفي جميع المجالات، سياسة مع نفسه،سياسة في تعامله وتعايشه مع عائلته، سياسة مع صديقه، سياسة مع عدوه، وسياسة مع جميع أفراد المجتمع.

ومن هذا الباب، فإن أغلب الناس سياسيون، ولكن بدرجات متفاوتة، أعلاهم مرتبة الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام).

وبهذا المعنى العام فإن جميع الأديان السماوية حثت على السياسة وخصوصاً ديننا الإسلامي، فهو يعتبر السياسة من صميم الإسلام، وقد حاول الأعداء أن يفصلوا الدين عن السياسة؛ وذلك لكي يكسبوا المناصب الدنيوية ويبعدوا المؤمنين عن مسيرة الحياة، فأشاعوا أقاويل متعددة، وجندوا الأقلام المرتزقة المنحرفة وصرفوا الأموال الطائلة، في محاولة منهم لفصل الدين عن السياسة، وصوروا للناس بأن رجال الدين لا يصلحون للسياسة، فهم يصلحون للعبادة فقط، حتى قال بعضهم: إن العالم الديني الكامل هو الذي يعمل بالعبادة والإرشاد، ولا يتدخل في شؤون السياسة(1).

ص: 61


1- فصل الدين عن الدولة أو السياسة، مفهوم سياسي واجتماعي حديث نشأ إبان عصر النهضة الأوربية، وهو ما ينادي به دعاة (العلمانية) وقد عارضوا تسلط الكنيسة على الدولة وهيمنتها على المجتمع، ورأوا أن من شأن الدين أن يعتني بتنظيم العلاقة بين البشر وربهم فقط، ونادوا بفصل الدين عن الدولة، وبهذه تكون العلمانية قد فصلت بين الممارسات الدينية التي اعتبرتها ممارسة شخصية، والممارسة السياسية التي نظرت إليها كممارسة اجتماعية. وكان ذلك رد فعل على ما قامت به الكنيسة ورجالاتها من الظلم والجور على الناس وخاصة في القرون الوسطى، ولكن الإسلام وتعاليمه السماوية يختلف تماماً عن ذلك، فإنه دين الرحمة والسعادة للدنيا والآخرة، وفيه البرنامج الكامل لمختلف شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية وغيرها. يقول الإمام الشيرازي(رحمه الله) في موسوعة (الفقه) كتاب السياسة: إن السياسة هي من صميم الإسلام؛ لأن الإسلام هو الدين المستوعب لأحكام ما يفعله الإنسان سواء كان من فعل الجوارح الظاهرة أم من فعل الجوانح، فكل أفعال الإنسان مشمولة للأحكام الخمسة، حتى أن تفكيره السيء منهي عنه بالتحريم أو الكراهة، وتفكيره الحسن مأمور به بالوجوب أو الاستحباب. ثم أورد(رحمه الله) جملة من الروايات الخاصة بالسياسة كقول الإمام الرضا(عليه السلام): «عالم بالسياسة». وأيضا ما ورد في زيارة الجامعة في أوصاف الأئمة(عليهم السلام): «وساسة العباد وأركان البلاد». وما ورد في كتاب أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر حين ولاه مصر واعمالها: «فاصطف لولاية أعمالك أهل العلم والسياسة». وقوله(عليه السلام): «فول جنودك انصحهم في نفسك للّه ولرسوله ولإمامك.. وأجمعهم علما وسياسة». - إلى أن قال(رحمه الله) - ومما تقدم يظهر: أن السياسة من صميم الإسلام، وأن كل محاولة لفصل الدين عن السياسة هي من قبيل محاولة فصل العبادة عن الإسلام، وقد كان دأب الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) والعلماء أخذ زمام السياسة بأيديهم ما قدروا، فإن لم يتمكنوا من ذلك وجهوا الناس إلى وجوب ذلك مهما قدروا... حتى جاء دور المستعمر فأدخل في الميدان عنصرا جديداً هو عنصر انفصال الدين عن السياسة، ثم أشاع بواسطة عملائه أن العالم الديني الخيّر هو الذي يشتغل بالعبادة والإرشاد, ولا يتدخل في شؤون السياسة، وذلك لأنهم رأوا أن العلماء هم السد المحكم أمام استعمارهم للبلاد وتسلطهم على رقاب العباد. للمزيد انظر: موسوعة الفقه، كتاب السياسة 105: 42 وما بعدها.

ولكن تعاليم الإسلام تخالف هذه النظرية، وتحث المسلمين، وخصوصاً العلماء منهم على ممارسة السياسة بالمعنى الصحيح وضمن الأطر الشرعية، وأن يجعلوها جزءاً من وقتهم ليديروا شؤون الناس إدارة صحيحة وشرعية، تبعد كيد الأعداء والطامعين عن التحكم في مصير البلاد والعباد.

وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «الجود رئاسة، الملك سياسة»(1).وقوله(عليه السلام): «فضيلة الرئاسة حسن السياسة»(2).

وقوله(عليه السلام): «ولّ أمر جنودك أفضلهم في نفسك حلماً، وأجمعهم للعلم

ص: 62


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 18.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 483.

وحسن السياسة»(1).

وقال(عليه السلام): «الاحتمال زين السياسة»(2).

وقال(عليه السلام): «حسن السياسة قوام الرعية»(3).

وقال(عليه السلام): «حسن السياسة يستديم الرئاسة»(4).

وقال(عليه السلام): «حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة»(5).

وقال(عليه السلام): «من سما إلى الرئاسة صبر على مضض السياسة»(6).

وقال(عليه السلام): «من قصر عن السياسة صغر عن الرئاسة»(7).

وقال(عليه السلام): «ملاك السياسة العدل»(8).

وقال(عليه السلام): «لا رئاسة كالعدل في السياسة»(9).

وقال(عليه السلام): «نعم السياسة الرفق»(10).

وقال(عليه السلام): «جمال السياسة العدل في الإمرة والعفو مع المقدرة»(11).

وقال(عليه السلام): «رأس السياسة استعمال الرفق»(12).

ص: 63


1- دعائم الإسلام 1: 358.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 46.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 344.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 344.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 344.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 621.
7- عيون الحكم والمواعظ: 450.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 702.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 792.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 718.
11- غرر الحكم ودرر الكلم: 341.
12- غرر الحكم ودرر الكلم: 378.

وقال(عليه السلام): «بئس السياسة الجور»(1).

وقال(عليه السلام): «آفة الزعماء ضعف السياسة»(2).

وقد سبق أن السياسة لا تنحصر بأمور الملك والرئاسة فحسب؛ بل تتدخل في جميع مجالات الحياة، حتى بالنسبة لذات الإنسان نفسه، فهو محتاج إلى السياسة في إدارة شؤون حياته، كما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من ساس نفسه أدرك السياسة»(3).

ومن هنا قلنا: بأن السياسة - في معناها الواسع - : (إدارة البلاد والعباد)(4).

وهذه الإدارة يلزم أن تكون مدروسة دراسة جيدة، وبطريقة علمية وبإشراف وتوجيه علماء الدين الأعلام مع استشارة الأخصائيين الدنيويين؛ لأن في ذلك حفاظاً على أمور المسلمين في الدنيا والآخرة، فلا يصلح لإدارة شؤون العباد والبلاد علم بدون دين، لأن في ذلك خسراناً للآخرة، ولا يصلح كذلك الدين بدون العلم؛ لأن في ذلك مضيعة للدنيا، والإسلام لا يقر ذلك، وإنما الإسلام دين الدنيا والآخرة، ويريد أن يقترن الدين مع العلم في إدارة شؤون الناس وقضاياهم.

روي عن الإمام أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لا يقبل اللّه عزّ وجلّ عملاً إلّا بمعرفة، ولا معرفة إلّا بعمل، فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له، ألّا إن الإيمان بعضه من بعض»(5).

ص: 64


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 310.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 279.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 591.
4- انظر: موسوعة الفقه (كتاب السياسة) 105: 39.
5- الكافي 1: 44.
التوعية والتثقيف
اشارة

من أهم مقومات الفهم السياسي هو: التثقيف والتوعية، وهي إحدى الأسس الرئيسية لنهضة الأمة الإسلامية، وترسيخ مبادئها وتطبيقها على أرض الواقع بشكل تام وصحيح.

يقول اللّه سبحانه: {إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً}(1) حيث يصف الباري تعالى النبي إبراهيم(عليه السلام) بالأمة؛ وذلك لرشده ووعيه وثقافته الدينية والدنيوية العالية، كما قال عزّ وجلّ في سورة أخرى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَٰهِيمَ رُشْدَهُ}(2)، والرشد بمعنى امتلاكه للحجة التي توصله إلى المعرفة.

وإذا أردنا المعرفة والحصول على الفهم السياسي، فعلينا بالجهاد الفكري والجهاد العلمي ضد الجهل، وبكل الوسائل المتاحة المشروعة، بالقلم واللسان، وبمختلف الوسائل العصرية؛ لتصل تعاليم الإسلام وأهدافه الإنسانية إلى كل قرية قرية، قريبة أو بعيدة، وكل بيت بيت، صغير وكبير، وكل فرد فرد، فتبدأ الأمة بالنهضة من جديد بامتلاكها الحجة من جرّاء رشدها وفهمها السياسي.

وبالتالي لا تهجم عليها اللوابس من جراء التخلف، ففي حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال فيه: «لا يصلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجب من يفهم، ويظفر من يحلم، والعلم جُنة، والصدق عز، والجهل ذل،والفهم مجد، والجود نجح، وحسن الخلق مجلبة للمودة، والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس...»(3).

ولا بأس هنا بالإشارة إلى قصتين فيهما دلالة على أهمية الوعي والفهم

ص: 65


1- سورة النحل، الآية: 120.
2- سورة الأنبياء، الآية: 51.
3- تحف العقول: 356.

السياسي للإنسان المسلم لما يدور حوله من أمور:

الاستهلال والفهم السياسي

كان من عادة المؤمنين في العراق - كما في سائر دول الإسلام - الاستهلال، وذلك لثبوت وإثبات أول شهر رمضان المبارك، وكذلك عيد الفطر السعيد، فإن كثيراً من الناس كان يلزم نفسه بالمستحبات، مضافاً إلى التزامهم بالواجبات وتركهم للمحرمات.

كما كانوا يقومون بالاستهلال للأول من شهر ذي الحجة لتعيين عيد الأضحى، فكانوا يخرجون إلى خارج المدينة، ويستهلون فرادى وجماعات... .

وهكذا كانت كربلاء المقدسة، وكان لنا في بقية مدن العراق أيضاً أصدقاء كثيرون يستهلون ثم يخبروننا بالنتيجة.

وذات مرة ونحن في كربلاء المقدسة، جلسنا ننتظر استقصاء أخبار رؤية هلال العيد، والناس أيضاً قد حضروا مجلسنا بجمع غفير لمعرفة الخبر والعمل بالوظيفة الشرعية، وعند ذلك رجع البعض من الذين قد خرجوا للاستهلال وقالوا: إنهم لم يروا الهلال... .

وفجأة رأينا مجموعة أخرى يزعمون أنهم من المستهلين أخذوا يشيعون بأنهم قد رأوا الهلال فعلاً.

فأصبح الناس في حيرة، فهناك أخبار تقول برؤية الهلال، لكن لم يستطع أحدمعرفة الرائي الحقيقي والشاهد عليه، وأخذ بعض الناس يضغطون علينا كي نفتي بثبوت الهلال، ويقولون: إن الشياع تحقق في هذه المسألة، غير أننا لم نكن قد حصلنا على مستند صحيح كي نفتي على ضوئه بثبوت الهلال، فأخذنا بالبحث لمعرفة المصدر لهذه الإشاعة التي حصل لها رواج بين الناس، وبعد التحقيق ومتابعة الموضوع، اتضح لنا أن حكام بغداد أرادوا أن يكون العيد في اليوم التالي

ص: 66

فأوعزوا إلى محافظ كربلاء بوضع خطة لإيهام الناس بتحقق رؤية الهلال، فأخذ عملاء السلطة وجلاوزتها يدّعون بالباطل رؤية الهلال، ويشيعون ذلك بين الناس... .

وأرادت الدولة بذلك أن تستغفل الناس لإعلان العيد في الصباح، أو أنها على الأقل تحصل على نتيجة أخرى، وهي زعزعة الثقة بالعلماء من قبل أبناء الشعب، وخلق حالة من البلبلة في المدينة، وبالنتيجة فهي خطوة مربحة لسياسة الدولة على أي صورة وقعت؛ نعم حتى مثل رؤية الهلال وثبوته ربما يكون الإنسان بحاجة إلى الفهم السياسي، لكي لا يلتبس الأمر عليه ولا يفتي بغير الحق.

العلماء والفهم السياسي

وهذا أمر يدعو أهل العلم لأن تكون لديهم معرفة تامة بالسياسة، كما في معرفتهم بالأحكام الشرعية؛ وذلك لعدم انفصال الدين عن السياسة، الأمر الذي روج له المستعمرون وأشاعوه، وقد أرادوا بذلك رفع السدّ المحكم من أمامهم المتمثل بالعلماء، بعد أن ذاقوا منهم وبال الهزيمة مراراً من العلماء من أمثال: السيد المجاهد(1)، والميرزا المجدد الشيرازي، والآخوند الخراساني، والميرزامحمد تقي الشيرازي، وغيرهم، وذلك في حركات متعاقبة، وفي أماكن مختلفة ذكرناها في محلها.

فأولئك العلماء المجاهدون كان رائدهم قول الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه»(2).

ص: 67


1- السيد محمد بن علي المجاهد الطباطبائي الكربلائي، نجل صاحب كتاب (الرياض) وسبط الوحيد البهبهاني، ولد في كربلاء سنة (1180ه) وتوفى في قزوين عائداً من جهاد الروس سنة (1242ه) ونقل جثمانه إلى كربلاء المقدسة ودفن بين الحرمين الشريفين.
2- الكافي 1: 54.

وفي حديث آخر عن الصادقين(عليهما السلام): «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، فإن لم يفعل سلب نور الإيمان»(1).

نعم السياسة تعتبر من واقع الإسلام؛ باعتباره الدين الذي يريد من الأحكام الشرعية والعبادات أن تظهر على مختلف جوانب حياة المسلم وأفعاله وأفكاره، وأنه دين للدنيا والآخرة، فإن كل فعل من الأفعال قد جاء حكمه وبيانه في الكتاب والسنة، وقد أثبتنا عدم انفصال السياسة عن الدين من النصوص الشرعية (الكتاب والسنة) في بعض كتبنا(2).

من هنا يلزم على طلبة العلوم الدينية - كما يلزم على غيرهم - التحلي بالفهم السياسي، وإننا إذا رجعنا إلى الكتاب والسنة وعرفنا ما فيهما من أحكام ولوازم حياتية، فسنعرف السياسة بشكل واضح، فلا تنطلي علينا ألاعيب المستعمرين والحكام الظلمة، وإلى جانب ذلك نحتاج أيضاً إلى قراءة مختلف الكتب السياسية، ومعرفة محتواها، ومتابعة الأحداث التي تجري من حولنا في بلادنا وفي جميع أنحاء العالم، من منشئها إلى هدفها، وبذلك يحصل الفهم السياسي.ولكننا - وللأسف - فصلنا السياسة عن الدين، كما أراده المستعمرون، مما جر على بلادنا ويلات عديدة ونكبات حقيقية.

احتلال أفغانستان

كيف تبدلت بلاد أفغانستان التي تعدادها (21 مليون) نسمة(3)، إلى دولة يحكمها الشيوعيون؟ الذين أخذوا بزمام الأمور على الرغم من قلة عددهم الذي

ص: 68


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 113.
2- انظر: موسوعة (الفقه) كتاب السياسة 105: 39، و(السبيل إلى إنهاض المسلمين)، و(الفقه: طريق النجاة)، و(الحكم في الإسلام) و(الفقه: الدولة الإسلامية) وغيرها.
3- قدّر عدد سكان أفغانستان وفي آخر إحصائية لعام (2017م) قدّر بأكثر من (35 مليون) نسمة.

لا يتجاوز (3000) فرد شيوعي، بحيث خلف مجيء النظام الشيوعي حوالي سبعة ملايين مشرد، ومليوني إنسان ما بين قتيل وجريح في أفغانستان.

نعم قد خطط لمجيء الشيوعيين إلى أفغانستان كل من بريطانيا والاتحاد السوفيتي، حيث قامت بريطانيا بإعداد (محمد طرقي)(1) في الهند فجعلوه مديراً لإدارة إحدى الشركات هناك، وبهذا المنصب حصل على نفوذ كبير، ولأنه كان يؤمن بالشيوعية أخذ يقوم بتنظيم العمال حتى وجد (طرقي) فرصة مناسبة لعودته إلى أفغانستان، وقام بانقلاب عسكري استولى بواسطته على الحكم في أفغانستان، فبدأ بتبديل القوانين الإسلامية التي كانت تطبق في البلاد، بقوانين علمانية إلحادية، فتبدلت الأوضاع في هذا البلد إلى اضطرابات وأزمات. وكان هذا طبعاً من آثار عدم الوعي والمعرفة بالأمور السياسية.

وما نقلناه من أحداث أفغانستان، تبين علاقة السياسة بالتاريخ ودراسة الشخصيات التي تدير دفة الحكم، ويظهر مدى احتياج الأمة إلى الفهم السياسي بالإضافة إلى معرفة الدين والتاريخ، فإنه كما يحتاج السياسي إلى معرفة الاقتصاد والحقوق والاجتماع وعلم النفس كذلك غيره بحاجة إلى المعرفةالسياسية، وقد قالوا إن هذه العوامل الستة تكمل الإنسان من جهة الوعي السياسي.

وفي عهد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر عندما ولاه على مصر قال: «... فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعلم والسياسة، وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام...»(2).

ص: 69


1- نور محمد تَرَكي من أبرز زعماء الحزب الشيوعي الأفغاني، أصبح رئيساً للجمهورية وللوزراء.
2- تحف العقول: 137.
شهادة زور

ومن القصص التي تبين لزوم التحلي بالفهم السياسي حتى للعلماء، هي قصة ترتبط برؤية الهلال أيضاً والظروف التي لابستها، فقد أعلن أحد وكلاء المراجع آنذاك في أحد أقضية العراق(1) عن ثبوت رؤية الهلال - في حين لم يكن هناك دليل على ذلك، كما تبين لنا بعد ذلك - وقد حدثت في المدينة انشقاقات بين الناس، فبعض الناس اعتبر ذلك اليوم عيداً فقاموا بفتح المطاعم والمقاهي وأظهروا الإفطار، في حين اعتبر البعض الآخر أن ذلك اليوم ليس عيداً، وامتنعوا عن فتح تلك المحلات.

وكنا قد شككنا في صحة ما تردد حول رؤية الهلال؛ لذا قررنا السفر إلى المدينة نفسها أثناء النهار، فرأينا ما كان قد حدث في تلك المدينة من أوضاع مضطربة، وبعد ما تحدثنا مع ذلك الوكيل، وسألناه عن الدليل الذي بموجبه اطمأن إلى رؤية الهلال، قال: إن الحكم قد صدر مني، إلّا أنه كان (هواء في شبك) أي: أن هناك من استغفله فأعلن العيد. وبعد التحقيق عن منشأ الموضوع، تبين أن الدولة واعتماداً على خطة مسبقة ولغرض زعزعة ثقة الناس بالعلماء،قامت بتجنيد عدد من أفرادها ممّن يتظاهرون بالصلاح، ليشهدوا زوراً برؤية الهلال، وأن ذلك الشخص الذي صدق قولهم كان غير مطلع على مجريات الأمور السياسية، وكان يتعامل مع الأمور ببساطة، فلم يرجع في ذلك الأمر إلى من وكّله من المراجع آنذاك، فوقع في هذه المصيبة.

مواجهة الأعداء والفهم السياسي

إن تاريخنا وخصوصاً نحن الشيعة، مليء بمحاولات من قبل الأعداء ضدنا،

ص: 70


1- الحادثة وقعت في قضاء المسيب الذي يبعد 30 كم عن مدينة كربلاء المقدسة.

وهو الذي يتطلب الوعي والفهم السياسي لنا، ويفرضه علينا، والذي يجعله من ضمن الفرائض على المسلمين.

وقد بينت حياة الأئمة الأطهار(عليهم السلام) ومعاصرتهم للظالمين من حكام بني أمية والعباسيين، واتخاذهم(عليهم السلام) المواقف الصحيحة، دروساً لنا في غاية الأهمية، وخاصة في حق الشخص الذي يتمتع بسلطة دينية أو دنيوية، ولقد غرس أئمتنا المعصومين(عليهم السلام) المعرفة والوعي والفهم السياسي في نفوس أصحابهم، لكي لا تهجم عليهم اللوابس والأفكار المنحرفة من قبل الحكام آنذاك ولا يضلونهم، فكانوا واعين لها تمام الوعي.

ثم إن الحصول على الفهم السياسي لا يحتاج إلى جهد كثير، ولكن المسلمين - على الأخص رجال الدين - تركوا العمل بها واعتبروا السياسة من شؤون الدولة المتسلطة وليست من شؤون الدين، وهذا من أهم أسباب عدم وجود الفهم السياسي بالمقدار الكافي في أوساط المسلمين، حيث تصور البعض أن السياسة هي شأن الطغاة حفاظاً على الحياة الدنيا، متناسين أنهم مسؤولون في الآخرة عن الناس الذين يعتبرون رجال الدين والعلماء أسوة وقدوةلهم؛ قال تعالى في محكم كتابه: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِ بِإِمَٰمِهِمْ}(1). وعن الإمام الرضا(عليه السلام) بإسناده عن آبائه(عليهم السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في قول اللّه عزّ وجلّ: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِ بِإِمَٰمِهِمْ} قال: «يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم»(2).

اذن يلزم على جميع المسلمين وخاصة الحوزات العلمية والعلماء التحلي

ص: 71


1- سورة الإسراء، الآية: 71.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 33.

بالفهم السياسي وذلك للحفاظ على الأمة من الضياع ومن مخططات الأعداء.

التفرقة مخطط الأعداء

كان في مدينة النجف الأشرف رجل من العلماء الزهّاد اسمه (الشيخ علي القمي)، وكان هناك رجل آخر يحمل نفس الاسم أي (علي القمي) وكان يسمى أيضاً (علي الأردهالي)، إلّا أن هذا الأخير كان مختل العقل، وفي إحدى ليالي الجمع من شهر رمضان المبارك، وكانت تصادف ليلة القدر أيضاً؛ قام (علي القمي) المختل العقل بتخطى صفوف المصلين بين صلاة المغرب والعشاء، وذلك في الصلاة التي كان يؤمها السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله)، راح إلى ابن السيد الأصفهاني (السيد حسن) وطلب منه مبلغاً من المال، وكان ابن السيد الأصفهاني رجلاً طيباً يحظى بتقدير واحترام الناس، وكان أيضاً معتمداً عند والده(رحمه الله)، فأعطاه مبلغاً لكنه كان أقل مما طلبه، غير أن (علي القمي أو الأردهالي) حينما عد النقود ووجدها ناقصة عن الذي طلبه، قال للسيد: هل هذا هو المقدار الذي طلبته أنا؟ إنني أحتاج أكثر من هذا المقدار!

فقال له السيد حسن: صحيح أن هذا المبلغ هو أقل مما أردت، إلّا أنّي الآنلم يكن معي مبلغ غير هذا الذي أخذته، ويمكنك أن تأتي في وقت آخر لتأخذ الباقي... .

إلّا أن ذلك المجنون (علي الأردهالي) سرعان ما أخرج سكيناً من جيبه وضرب السيد في رقبته مما تسبب في وفاته على الفور، فراع هذا الحادث قلوب الناس وتأثروا كثيراً.

وفي المقابل أعداء الدين الذين خططوا لهذا العمل استفادوا من هذه الحادثة، وأرادوا بث الفرقة بين الناس، فبثوا إشاعة مفادها أن الشخص الذي قام بضرب ابن السيد الأصفهاني(رحمه الله) هو رجل أفغاني، فراح السذج من الناس وأينما

ص: 72

وجدوا شخصاً أفغانياً انهالوا عليه بالضرب، وهذه الأعمال - كما لا يخفى - تؤدي إلى تمزيق روابط الأخوة والوحدة الإسلامية.

وكثير مثل هذا الحدث ما يجري في بلادنا بسبب مخططات الأعداء، وكلها يعود إلى عدم الوعي والفهم السياسي في أوساط الأمة، وعدم المعرفة الكاملة بالدين؛ إذ لا فرق بين عربي وأعجمي إلّا بالتقوى، وقد قال اللّه تعالى من قبل ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «المؤمنون اخوة، إذا ضُرب رجل منهم عِرْقٌ سهر الآخرون؛ لأن أرواحهم واحدة»(2). فلايوجد فرق بين العراقي والأفغاني، بل هناك روابط أخوية دينية واجتماعية بينهم.

من مقومات الفهم السياسي

إن الفهم السياسي بحاجة إلى مقومات عديدة، فالسياسي مثلما يحتاج إلىمعرفة الدين يحتاج إلى معرفة الاجتماع، وقد أشرنا إلى لزوم معرفة الإنسان بالدين والاجتماع والتاريخ والاقتصاد، ليكون واعياً في كل جوانب الحياة، فإذا كان واعياً بمبدأ الأخوة والأمة الواحدة فسوف لا تهجم عليه مثل هذه الإشاعة المستندة على أساس باطل، بأن هناك فرقاً بين الأفغاني والعراقي، فكلاهما مسلم، والمسلم أخو المسلم، وأينما يحل في بلاد المسلمين فهو بلده دون تفرقة أو تمييز.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ليس بلد بأحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك»(3).

ص: 73


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- أعلام الدين: 440.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 442.
التحقيق والتدبر

إن من مقومات الفهم السياسي والوعي هو التدبر في ما نقرأه ونطالعه، على الأخص القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، ومنها الأحاديث والرسائل والحِكَم الواردة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو سيد البلغاء والمتكلمين في كتاب (نهج البلاغة)، وخاصة تلك الخطب السياسية كالخطبة الشقشقية، وعهد الإمام(عليه السلام) إلى مالك الأشتر لمّا ولاه مصر، وكتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، ورسائله إلى معاوية، وغيرها.

قال الإمام(عليه السلام) في نهج البلاغة: «ولا أخذت منه إلّا كقوت أتان دَبِرَة»(1) وهو من كتابه(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف حيث بلغه أنه دُعي إلى وليمة قوم من أهل البصرة، فأسرع إليها.

وقد فسر ابن أبي الحديد المعتزلي العبارة المتقدمة بما يلي: هي التي عقرظهرها فقل أكلها(2)، وتبعه بعض الشراح أيضاً.

لكن بعض المحققين يرى غير ذلك، اعتماداً على بعض المصادر التي نقلت الكلمة (فوت) بالفاء لا بالقاف، وبذلك تكون العبارة «إلّا كفوة أتان دبرة» وقال: إن معنى (كفوة) جمع كفة: الخبز، و(الأتان) بمعنى حافة البئر(3)، وهي ما يوضع حول فوهة البئر من الحصى الناعم، الذي يعطي لذلك المكان قوة ومتانة ويمنعه من الانهدام، وإن مكاناً هكذا يكون محلاً خصباً لزراعة المحاصيل التي تكون

ص: 74


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 45، من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 207.
3- جاء في لسان العرب: وأَتانُ الضَّحلِ صخرةٌ تكون على فَمِ الرَّكِيِّ، فيركبُها الطُّحْلُبُ حتى تَمْلاسَّ فتكون أَشَدَّ ملاسةً من غيرها، وقيل: هي الصخرةُ بعضُها غامِرٌ وبعضُها ظاهِرٌ. والأَتانُ: مقامُ المُسْتَقي على فَمِ البئر، وهو صخرةٌ. لسان العرب 13: 6، مادة (أتن).

جذورها عشبية ولا تحتاج إلى الغور في الأرض كالحنطة والشعير وأمثالهما... و(دبِرَة) بمعنى الحديقة النضرة، التي توضع خلف الدار. وخلاصة معنى كلام الإمام(عليه السلام) تكون هكذا - بناءً على هذا النقل - : أنه(عليه السلام) أراد أن يعلن للعالم أنه لم يأخذ من بيت المال حتى ذلك السهم الذي يستحقه، وأنه كان يعمل بيده ويهيئ لقمة العيش لنفسه، فأراد في «كفوة أتان دبره» أنه كان يهيئ قوته من ذلك الزرع الذي يزرعه في مساحة كانت له خلف بيته.

نعم إن التدبر في معاني الكلمات وبذل قصارى الجهد في كشف المراد قد يوصل الإنسان إلى بعض الحقائق في كلمات الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام). وكذلك سائر كلمات المعصومين(عليهم السلام)، فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن حديثنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلّا صدور منيرة أو قلوب سليمة أو أخلاق حسنة، إن اللّه أخذ من شيعتنا الميثاق كما أخذ على بني آدم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}(1) فمن وفى لناوفى اللّه له بالجنة، ومن أبغضنا ولم يؤد إلينا حقنا ففي النار خالداً مخلداً»(2).

فالتحقيق والتدبر والتأني يلزمنا في كل موقف، وخصوصاً المواقف والتحولات السياسية في البلدان والحكومات، والتي تؤثر بشكل وآخر على البلدان الإسلامية؛ ولذا نجد أن غياب التدبر السياسي، وغياب الوعي والفهم السياسي، جعل العراق يعيش الويلات والتفرقة والمصادمات والتهجير والقتل على يد (300 نفر) من الصليبيين، في مؤامرة قادها البعثيون، - وبضمنهم صدام - وأخذوا بزمام السلطة في العراق.

وقد صار العراق بسبب هذه الحكومات مرتعاً لتفشي الرشوة والمحسوبية

ص: 75


1- سورة الأعراف، الآية: 172.
2- الكافي 1: 401.

والاستبداد في الحكم، ونهب حقوق الأكثرية وإفشاء التمايز والطائفية بين الشعب، بإخراج أعداد كبيرة من بلدهم وتشريد آخرين(1) وكان منهم الكثير من علماء الدين، وملاحقتهم واعتقالهم وإعدامهم بدون جرم ولا قانون، ونهب ثروات الشعب، وإغلاق المعاهد والمدارس العلمية والدينية، وهناك الملايين من أبناء الشعب العراقي مشردون ومطاردون، والبعض منهم في داخل وطنه مشرد ومهدد بالاعتقال، فضلاً عن الذين يرزحون في سجون البعث، ومن أعدمهم النظام، وكل ذلك من آثار قلة الوعي والفهم السياسي والقصور في النظرة المستقبلية في الأمور السياسية، وغيرها من الأسباب... .

وهذا نفسه حصل لأفغانستان سابقاً... وغيرها من الدول الإسلامية.

فإن من أهم أسباب الاستبداد والظلم قلة الوعي والفهم السياسي على تفصيل مذكور في محله.

إيجاد الوعي العام

فعلى المسلمين إذا أرادوا النهوض والتخلص من هذه الأنظمة القمعية والاستبدادية، إيجاد الوعي العام والفهم التام بكل الجوانب السياسية والإدارية والاقتصادية والدينية، تحت ظل قوانين الكتاب والسنة المطهرة المروية عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، ليكون مستقبل الإسلام والمسلمين مزدهراً ومتقدماً. ولا مجال آنذاك لهذه الأنظمة الطاغية، والهجمات المنحرفة من قبل الأعداء، وبذلك يعيش الإنسان في بلده معززا مكرماً، وما ذلك على اللّه بعزيز.

ص: 76


1- إشارة إلى جريمة التهجير أو ما عرف بالتسفير من عام (1968م) وبدفعات متعددة. للمزيد انظر: (التهجير جناية العصر)، و(القوميات في خمسين سنة)، و(كيف ولماذا أخرجنا من العراق)، للإمام الشيرازي(رحمه الله).

«اللّهم صل على محمد وآله، ومتعني بالاقتصاد، واجعلنا من أهل السداد، ومن أدلة الرشاد، ومن صالحي العباد، وارزقني فوز المعاد، وسلامة المرصاد، اللّهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها، وابق لنفسي من نفسي ما يصلحها، فإن نفسي هالكة أو تعصمها»(1).

من هدي القرآن الحكيم

لكل شيء سبب

قال تبارك وتعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَءَاتَيْنَٰهُ مِن كُلِّ شَيْءٖ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا}(2).

وقال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْأَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٖ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا * كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا *حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا}(4).

معارف ضرورية

معرفة اللّه سبحانه وتعالى:

قال جلّ وعلا: {هَٰذَا بَلَٰغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

ص: 77


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة الكهف، الآية: 84-85.
3- سورة الكهف، الآية: 88-89.
4- سورة الكهف، الآية: 90-93.
5- سورة إبراهيم، الآية: 52.
معرفة الدين

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1).

معرفة الناس

قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(2).

ضرورة نشر المعرفة

قال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّىٰمِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ}(3).وقال سبحانه: {هَٰذَا بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(5).

دور العلماء في مواجهة الانحراف

قال سبحانه وتعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَٰمَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بَِٔايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(7).

ص: 78


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- سورة إبراهيم، الآية: 5.
4- سورة الجاثية، الآية: 20.
5- سورة الطلاق، الآية: 10-11.
6- سورة الأنبياء، الآية: 57.
7- سورة طه، الآية: 42-44.

وقال جلّ اسمه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَٰهِۧمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَىٰهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحْيِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

لكل شيء سبب

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا فشا أربعة ظهرت أربعة: إذا فشا الزنا ظهرت الزلزلة، وإذا فشا الجور في الحكم احتبس القطر، وإذا خفرت الذمة أُديل(3)لأهل الشرك من أهل الإسلام، وإذا منعت الزكاة ظهرت الحاجة»(4).

وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) جالساً في أصحابه إذ مرت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم، فقال(عليه السلام): «إن أبصار هذه الفحول طوامح(5) وإن ذلك سبب هَبَابها(6)، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله؛ فإنما هي امرأة كامرأة...»(7).

وقال الإمام موسى الكاظم(عليه السلام): «كلما أحدث الناس من الذنوب ما لم يكونوا

ص: 79


1- سورة الممتحنة، الآية: 4.
2- سورة البقرة، الآية: 258.
3- أُخفرت الذمة وخُفرت الذمة: أي نقض العهد بين المشركين والمسلمين، يقال: أخفرتُ الرجلَ وخفرتُ الرجلَ: إذا نقضت عهده وغدرت به، الإدالة: الغلبة.
4- الكافي 2: 448.
5- طوامح: - جمع طامحة أو طامح - وتقول: طمح البصر إذا ارتفع وطمح: أبعد في الطلب.
6- هَبَابها: أي هيجان هذه الفحول لملامسة الأنثى.
7- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 420.

يعملون أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعدون»(1).

العلم والمعرفة

1- اكتساب العلم:

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألّا إن اللّه يحب بغاة العلم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة... وسلاح على الأعداء»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أغدُ عالماً أو متعلماً وإياك أن تكون لاهياً متلذذاً»(4).

2- معرفة اللّه عزّ وجلّ:جاء رجل إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: ما رأس العلم؟

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «معرفة اللّه حق معرفته»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): ­«إن معرفة اللّه عزّ وجلّ... نور من كل ظلمة وقوة من كل ضعف»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عرف اللّه سبحانه لم يشق أبداً»(7).

3- فهم الدين وإدراكه:

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «لو أُتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه

ص: 80


1- تحف العقول: 410.
2- الكافي 1: 30.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 615.
4- المحاسن 1: 227.
5- جامع الأخبار: 5.
6- الكافي 8: 247.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 650.

لأدبته»(1).

وقال(عليه السلام): «ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام».(2)

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «تفقهوا في دين اللّه، فإن الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادة والسبب إلى المنازل الرفيعة...»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس! لا خير في دين لا تفقه فيه...»(4).

دور العلماء في مواجهة الانحراف

قال الإمام الجواد(عليه السلام): «... والعلماء في أنفسهم خانة، إن كتموا النصيحة، إن رأوا تائهاً ضالاً لا يهدونه، أو ميتاً لا يحيونه، فبئس ما يصنعون؛ لأن اللّه تباركوتعالى، أخذ عليهم الميثاق في الكتاب أن يأمروا بالمعروف وبما أُمروا به، وأن ينهوا عما نهوا عنه...»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... وما أخذ اللّه على العلماء ألّا يقاروا على كِظّة ظالم، ولا سَغَب(6) مظلوم...»(7).

وقال الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام): «اعتبروا أيها الناس! بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار، إذ يقول: {لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ الرَّبَّٰنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ

ص: 81


1- المحاسن 1: 228.
2- المحاسن 1: 229.
3- تحف العقول: 410.
4- المحاسن 1: 5.
5- الكافي 8: 54.
6- ألّا يُقاروا: ألّا يوافقوا مقرّين، الكِظّة: ما يعتري الآكل من الثقل والكرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق، السَّغَب: شدة الجوع، والمراد منه هظم حقوقه.
7- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3 من خطبة له(عليه السلام) تعرف بالشقشقية.

الْإِثْمَ...}(1)... وإنما عاب اللّه ذلك عليهم، لأنّهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك...»(2).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام) في كتابه للزهري: «أخذ على العلماء في كتابه إذ قال: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}(3) وأعلم أن أدنى ما كتمت وأخف ما احتملت أن آنست وحشة الظالم...»(4).

السياسة من صميم الإسلام

قال الإمام علي النقي(عليه السلام) في الزيارة الجامعة: «... أهل بيت النبوة... خزان العلم... وقادة الأمم... وساسة العباد...»(5).

وعن سماعة عن أبي الحسن موسى(عليه السلام) قال: قلت له: أكل شيء في كتاب اللّه وسنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم)؟ أو تقولون فيه؟

قال: «بل كل شيء في كتاب اللّه وسنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم)»(6).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلّا أنزله في كتابه وبينه لرسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى على ذلك الحد حداً»(7).

ص: 82


1- سورة المائدة، الآية: 63
2- تحف العقول: 237.
3- سورة آل عمران، الآية: 187.
4- تحف العقول: 275.
5- من لا يحضره الفقيه 2: 610.
6- الكافي 1: 62.
7- الكافي 1: 59.

الفئات الاجتماعية بين الحق والباطل

الحق والباطل

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ليس من باطل يقوم بإزاء حق إلّا غلب الحقُ الباطلَ، وذلك قول اللّه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}»(2).

وجاء في تفسير الآية الكريمة(3): إنا نلقي الحق على الباطل فيهلكه، والمراد به: إن حجج اللّه تعالى الدالة على الحق تبطل شبهات الباطل.

يقال: دَمَغَ الرجل إذا شجّ شجّة تبلغ أمّ الدماغ، فلا يحيا صاحبها بعدها.

وفي مجمع البحرين: فيدمغه أي يكسره، وأصله أن يصيب الدماغ بالضرب، والدامغ: المهلك، من دمغه دمغاً أي شجه بحيث يبلغ الدماغ فيهلكه(4).

وفي مجمع البيان: بل نورد الأدلة القاهرة على الباطل، وقيل: نرمي بالحجة على الشبهة، وقيل: بالإيمان على الكفر {فَيَدْمَغُهُ} أي يعلوه ويبطله، وقيل: يهلكه. {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي: هالك مضمحل(5).

ص: 83


1- سورة الأنبياء، الآية: 18.
2- المحاسن 1: 226.
3- التبيان في تفسير القرآن 7: 237.
4- مجمع البحرين 5: 8 مادة (دمغ).
5- تفسير مجمع البيان 7: 77.
فئات المجتمع

من المعلوم أنه في أي مجتمع من المجتمعات توجد فئات مختلفة، فهناك طبقة مستكبرة، وهناك طبقة مستضعفة، وثالثة: روحانية، وهي المتمثلة بالأنبياء والرسل(عليهم السلام) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) ورجال الدين وطلبة العلم الأتقياء الورعين، وطبقات أخرى وتقسيمات أُخَر.

فالطبقة المستكبرة عادةً تقوم بعملين:

أحدهما: سلب حقوق الآخرين وكبت حرياتهم.

وثانيهما: استثمار واستغلال طاقاتهم لصالحها بغير حق؛ وذلك لأجل إشباع شهواتهم وغرائزهم البهيمية، والعيش في رفاه وترف، حتى لو أدى ذلك إلى موت الآخرين من الجوع والمرض.

أما الطبقة الأخرى، وهي الطبقة الروحانية التي تتكون من الأنبياء(عليهم السلام) والعلماء الأتقياء الذين يسعون لإيجاد ونشر العدل والعدالة في المجتمع، وهؤلاء دائماً ضد الطبقة الأولى المستكبرة أو الظالمة، فالطبقة الروحانية تبذل الجهود الكبيرة، لأجل دفع المستكبرين عن استكبارهم وطغيانهم والدفاع عن المظلومين.

وأما الطبقة الثالثة: وهي الطبقة المحرومة والمستضعفة، والمغلوب على أمرها، والمسلوب حقها في الحياة الكريمة، فهي تنشد استرجاع حقوقها، وردع الظالمين والمستكبرين والمفسدين عنها، إلّا أنها في كثير من الأحيان تصاب بالخيبة لضعفها وعدم وجود من ينصرها ويدافع عنها بالقدر المطلوب، أو لوجود موانع في البين.

وهذه الطبقات الثلاث عادةً موجودة في مختلف المجتمعات.

فالطبقة المستضعفة غالباً ما تكون على إرتباط وثيق بالطبقة الروحانية التي تنادي بحقوقها وتناضل ضد استضعافها، وأحياناً يكون في بعض المجتمعات

ص: 84

إندماج كلي بين الطبقة الثانية والثالثة، فيتكون المجتمع من طبقتين فقط هما:الظلمة الطغاة، والمستضعفون. ولكن بشكل عام يمكن تقسيم الفئات الاجتماعية إلى ثلاثة أقسام، بل وأكثر بحسب الاعتبارات المختلفة.

وهنا لا بد من القول بخطأ ما ادّعاه ماركس(1) من أن المجتمع لا بد أن يكون طبقة واحدة، وليست هناك إلّا طبقتان: طبقة غنية وأخرى مستضعفة، فلا بد أن يُقضى نهائياً على الطبقة الغنية، وأن لا يبقى في المجتمع إلّا طبقة واحدة. فهو لا يعترف بوجود فئة ثالثة التي مهمتها تغذية الجانب الروحي للإنسان، وهذه الطبقة (رجال الدين الروحانيين) التي كانت موجودة تمارس دورها الفعال منذ أن خلق اللّه البشر على هذه الأرض، أي: منذ زمن نبي اللّه آدم(عليه السلام) وإلى يومنا هذا وحتى قيام الساعة. وقد ورد أن اللّه عزّ وجلّ بدأ بالخليفة قبل الخليقة(2).

والأنبياء المعصومون والائمة الطاهرون(عليهم السلام) والعلماء الصالحون كانوا دائماً من هذه الطبقة؛ فكانوا يسعون في استرداد الحق لأهله والدفاع عن المظلومين والمستضعفين والأخذ بأيدي جميع الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة، ومن هنا كان الظالمون يحاربونهم بكل حقد.

إن الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) ضحوا بأنفسهم في سبيل اللّه وإنقاذ المستضعفين، وقد أمرهم اللّه بذلك، وهذا واجب شرعي حتى إذا كان الإنسان بنفسه في مأمن من ظلم الظلمة ولم تسلب أمواله وحقوقه، فإنه مأمور بالدفاع عن الآخرين والمظلومين والمستضعفين.

قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

ص: 85


1- كارل ماركس: (1818- 1883م) فيلسوف اشتراكي ألماني.
2- انظر: كمال الدين 1: 4.

وَالْوِلْدَٰنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّاوَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}(1).

صراع الحق والباطل

وهكذا هناك صراع دائم بين الطواغيت والمؤمنين، بين جبهة الباطل وجبهة الحق، إنه صراع فئوي قديم، بين فئتين اجتماعيتين:

الأولى: تريد تفعيل الباطل بكل ألوانه وأشكاله، وتحارب الحق والعدل والمفاهيم السماوية.

والثانية: ترفض كل مظاهر الباطل، وتتمرد على كل أهداف الطغاة، مضحية بأغلى الدماء وأشرف النفوس وأطهر الأرواح وأثمن الرجال؛ من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، فهو صراع تاريخي لم تخلُ منه بقعة في عالم الإنسان على هذه البسيطة.

وقد أشار المولى عزّ وجلّ في كتابه الكريم إلى نتيجة الصراع الدائر بين هذه الطبقات، وخاطب أولئك الذين يزعمون بأن للباطل دولة مستمرة، وأن الحق سيُغلب، فقال عزّ من قائل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}(2)؛ ذلك لأن للحق صفعات قوية ضد الباطل، وأن الحق غير قابل للإنكسار والاندثار.

وقد قالوا: إن القذف هو رمي الشي من جانب إلى آخر(3). والدمغ في اللغة:

ص: 86


1- سورة النساء، الآية: 75.
2- سورة الأنبياء، الآية: 18.
3- قذف: قذف بالشيء يقذف قذفاً فانقذف: رمى، والتقاذف: الترامي. والقذف بالحجارة: الرمي بها. يقال: هم بين حاذفٍ وقاذفٍ وحاذٍ وقاذٍ على الترخيم، فالحاذف بالحصى، والقاذف بالحجارة. انظر: لسان العرب 9: 276 مادة (قذف).

هو ضرب دماغ الشخص الآخر، ورأسه بالحجارة أو باليد(1).

وربنا سبحانه يصوّر غلبة الحق وانتصاره على الباطل بهذه الصورة الجميلة والمتحركة التي تجعل القارئ يتصور الحق كأن له يداً قوية يضرب بها على رأس الباطل فيزيله من الوجود.

كيف يتكون الباطل؟

اشارة

قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا أيها الناس، إنما هو اللّه والشيطان، والحق والباطل، والهدى والضلالة، والرشد والغيّ، والعاجلة والآجلة والعاقبة، والحسنات والسيئات، فما كان من حسناتٍ فللّه، وما كان من سيئات فللشيطان لعنه اللّه»(2).

وهنا قد يتبادر إلى الذهن سؤال مهم:

كيف يتكون الباطل؟ ولماذا وجد الباطل في هذه الدنيا؟

وفي الجواب على ذلك نقول:

إن الإنسان بطبعه المختار - حيث خلقه اللّه عزّ وجلّ مختاراً - يحمل ميولاً مختلفة، ورغبات عارمة، وأماني لا حدود لها، بل وأطماعاً ربما تصل حد الخيال. لذا نرى بعض الناس لا يشبع ولايقنع ولا يكتفي أبداً، وهذه الميول والرغبات والشهوات إذا انفلتت من سيطرة العقل انطلقت في عالم الباطل، وكلما سخف عقل الإنسان سخفت أفعاله وأعماله وأقواله؛ لأن العقل عقال من الجهل، ومانع من الخطأ، وعاصم من النتائج السيئة، فإذا عطّل الإنسان عقله أو

ص: 87


1- الدمغ: كسر الصاقورة عن الدماغ، ودمغه: أصاب دماغه، ودمغه دمغاً: شجه حتى بلغت الشجة الدماغ، واسمها الدامغة، وفي حديث الإمام علي(عليه السلام): «دامغ جيشات الأباطيل» أي: مهلكها انظر: لسان العرب 8: 424 مادة (دمغ).
2- الكافي 2: 16.

أهمله أو أعطاه إجازة، فإن ذلك يعني بداية الباطل، وشروع حياة غير منتظمة، وسلوك لا متزن، وتصرفات غير واعية، وانطلاق للهوى بكل تفاصيله، فيخضع العقل للشهوات، لتبدأ الحياة الحيوانية جولتها، لأن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو العقل، فإذا انعدم الأخير أو انعدم تأثيره على سلوك الإنسان تحوّل إلى حيوان، فيبدأ يتحرك لإشباع شهواته وأهوائه، دونما حد أو حساب، وهذا هو الباطل.

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «لما خلق اللّه العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك، ولا أكملتك إلّا في من أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أعاقب وإياك أثيب»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقل غطاء ستير، والفضل جمال ظاهر، فاستر خلل خلقك بفضلك، وقاتل هواك بعقلك، تسلم لك المودة وتظهر لك المحبة»(2).

وقال(عليه السلام): «لا عقل مع هوى»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «حرام على كل عقل مغلول بالشهوة أن ينتفع بالحكمة»(4).

وكذلك يتحرك الهوى بصورة لا تعرف التوقف فيسعى إلى امتلاك كل شيء حتى ولو لم يكن مشروعاً، وأكل كل ما يشتهي، ولبس كل ما يتمنى، ولا شك أن الطرق إلى تحقيق كل ذلك متعسرة غالباً، فيبدأ بطيّ المراحل عبر الباطل؛ فمثلاً: بدل أن يتزوّج الرجل وينعم بزوجة صالحة، رغم أنه قد يتكلف بعض التكاليف

ص: 88


1- الكافي 1: 10.
2- الكافي 1: 20.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 770.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 350.

المادية كتقديم المهر والنفقة وما أشبه، تراه يجنح عن الطريق السوي عبر أقصر الطرق وأسهلها - كما يتصور - فيسقط في وحل الزنا والفاحشة.

وبدل أن يعمل لتكون عنده أموال محللة، يقضي بها احتياجاته ومستلزماته المعيشية، كأن يشتري الطعام والملابس، نراه يقوم بسرقة الأموال لأنه يزعم بأنها أيسر عليه.

وهكذا باقي الانحرافات التي تدل على انحراف الشخص عن نور العقل والشرع، حتى يصل إلى قمة الباطل فيشرك باللّه العظيم ويخالف الأنبياء والأئمة المعصومين(عليهم السلام) ويقتل الأبرياء ويسحق الكرامات من أجل إشباع رغباته الشيطانية.

قمة الباطل

أما الطغاة الذين جلسوا على عروش الحكم ظلماً واستبداداً، فهؤلاء أسوأ حالاً؛ وهم في قمة الباطل، إنهم يذبحون الناس من أجل لذائذ بسيطة، ويريقون دماء المئات والآلاف من أجل شهوات قصيرة وأفكار ضالة.

قال تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}(1).

وهكذا تبدأ صورة الباطل تتحرك وتتفشى... .

الظلم عنوان الباطل

إن من أبرز مظاهر الباطل هو الظلم والتعسف والتعدي على حقوق الناس وأعراضهم. فيكون جلّ أهداف المبطلين هو الإفساد في كل شيء من أجل توفير كل ما يشتهونه.

ص: 89


1- سورة البقرة، الآية: 49.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «غرض المبطل الفساد»(1).

ولا يخفى أن الباطل يتشكل بألوان وأشكال مختلفة، ولعلها لكي تجذب المغفلين، ولذلك عندما يبدأ صراع الطبقة المستكبرة مع الطبقتين المحرومة والمؤمنة الروحانية، فإن قسماً كبيراً ممن يؤيدون صراع المستكبرين يتشكلون من المغفلين والهمج الرعاع.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن قلوب الجهال تستفزها الأطماع، وترتهنها المنى، وتستعلقها الخدائع»(2)(3).

الحق هو المنتصر

ولكن دائماً وأبداً تكون الحقائق هي صاحبة الانتصار والخلود والعمر المديد، لأنها تحفر لنفسها بيتاً في كل فؤاد واعٍ، وتجذّر نفسها بعمق، ولذلك تكون قوية منتصرة.

إن الحق ينحت في قلوب الفئات المؤمنة والمحرومة موضعاً يسكن فيه ويخلد، فينطلق مع الروح إذا ما ماتوا، ويبقى خالداً رغم جولات الباطل، لأن الباطل بكل أراجيفه إنما هو قشر وسطح لا يلبث أن يطير مع الريح، وينمحي في أول ضربة عليه من الحق. قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(4). وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ}(5). وقال تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ}(6). وقال سبحانه: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَٰطِلَ

ص: 90


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 474.
2- الاستفزاز أي: الاستخفاف، وترتهنها من الرهينة، وتستعلقها من عقل الشيء إذا ربطه.
3- الكافي 1: 23.
4- سورة الإسراء، الآية: 81.
5- سورة سبأ، الآية: 48.
6- سورة سبأ، الآية: 49.

وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(1).

وفي البحار عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لما ولد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ألقيت الأصنام في الكعبة على وجوهها، فلما أمسى سمع صيحة من السماء: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}»(2)(3).

وعن ابن مسعود قال: دخل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ} {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}»(4).

وقد ورد أنه دخل عبد المطلب(عليه السلام) بيت اللّه الحرام مع حفيده النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، فلما وضع رجله في البيت سمع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «بسم اللّه وباللّه» وإذا البيت يقول: السلام عليك يا محمد ورحمة اللّه وبركاته، وإذا بهاتف يهتف ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}»(5).

وفي قصة ولادة الإمام المهدي(عليه السلام) قال الإمام العسكري(عليه السلام) لعمته حكيمة(عليها السلام): «هاتي ابني إليّ» تقول: «فكشفت عن سيدي فإذا هو ساجد متلقياً الأرض بمساجده وعلى ذراعه الأيمن مكتوب: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(6) الحديث»(7).

ص: 91


1- سورة الشورى، الآية: 24.
2- سورة الإسراء، الآية: 81.
3- بحار الأنوار 15: 274.
4- بحار الأنوار 21: 106.
5- بحار الأنوار 15: 291.
6- سورة الإسراء، الآية: 81.
7- الغيبة للشيخ الطوسي: 239.
جولة ودولة

دخل شيخ كبير على الإمام الصادق(عليه السلام) فقال: يا أبا عبد اللّه، أشكو إليك ولدي وعقوقهم، وإخواني وجفاهم لي عند كبر سني!

فقال أبو عبد اللّه: «يا هذا إن للحق دولة، وللباطل دولة، وكل واحد منهما في دولة صاحبه ذليل، وإن أدنى ما يصيب المؤمن في دولة الباطل العقوق من ولده والجفاء من إخوانه، وما من مؤمن يصيبه شيء من الرفاهية في دولة الباطل إلّا ابتلي قبل موته إما في بدنه وإما في ولده وإما في ماله، حتى يخلصه اللّه مما اكتسب في دولة الباطل، ويوفر له حظه في دولة الحق، فاصبر وأبشر»(1).

قال الحق تعالى: {كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَٰطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}(2).

وقيل: للباطل جولة وللحق دولة(3).

ولا شك أن أهل الحق هم الأنبياء والأئمة الطاهرون(عليهم السلام) والعلماء الصالحون والشرفاء وبغاة الحرية، بينما أهل الباطل هم الذي تخلوا عن إنسانيتهم، وتحركوا بالحيوانية التي تكمن في داخلهم. يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «حق وباطل ولكل أهل»(4).

وقال تبارك وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي: ننصر الفئة المحقة على المستكبرين المبطلين {عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} حتى كأن ذلك يتم بسرعة المباغتة والمفاجأة.

ص: 92


1- الكافي 2: 447.
2- سورة الرعد، الآية: 17.
3- شرح نهج البلاغة 9: 73.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 351.

ثم يقول سبحانه في نفس الآية: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}(1) فالويل للكثير من الناس ممن لا يفهمون بأن الباطل زاهق، وأنه ليس إلّا كالطبل الفارغ، الذي وإن علا صوته وكبر حجمه، إلّا أنه إذا ثقب ينتهي مفعوله، فعلى الإنسان المؤمن أن لايخشى أراجيف المبطلين وأبواقهم، لأن سياسة المبطلين زائلة لامحالة، وما على المؤمن إلّا أن يقف بوجه مكائدهم الشيطانية.

الباطل والتعبئة ضد الإسلام

كما يلزم أن نعرف أن هناك الكثير من قوى الباطل في العالم وهي متعددة، قد حشدت قواها وطاقاتها ضد الإسلام والمسلمين، واستضعاف الشعوب وسلب حقوقهم، بأفكارهم الضالة، وأبواقهم الدعائية الماكرة، ووسائل إرهابهم وإرعابهم الجهنمية، وعبر عملائهم في بلادنا من الحكومات الاستعمارية.

نعم، تلك هي الحقيقة التي لا يجوز إغفالها، بل لايمكن تجاوزها والقفز عليها، فالعالم مليء بالتكتلات والقوى المنحرفة، وقد اتفقت على رفع حرابها في صدور ونحور المسلمين... فالإعلام لهم وهم المسيطرون عليه، فيظهرون أنفسهم من خلاله على أنهم مدافعون عن حقوق البشر، وهم يقتلون الآلاف من المسلمين المستضعفين في مختلف بقاع العالم، ثم يبررون ذلك بالضرورة ومقتضى الأمن. لكن إلقاء القبض على جواسيس الغرب والقتلة والسفاكين والإرهابيين جريمة عظمى بحق العالم والإنسانية!، لايمكن السكوت عليها وتستوجب إنزال أشد أنواع العقوبات على المسلمين، إنها جولة المستكبرين وأتباعهم.

الإسلام العزيز يقول: إذا كان للباطل جولة فإن للحق دولة، ويقول تبارك

ص: 93


1- سورة الأنبياء، الآية: 18.

وتعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَٰلِبُونَ}(1)، ولكن - لاشك - في أن ذلك إنما يتم بعد صراع مرير، ودماء زكية، ومواجهات حادة، وجهاد ثقافي وعلمي وسياسي واقتصادي وفي مختلف المجالات، دفاعاً عن الحق والحقيقة، وانتصاراً للمظلومين المضطهدين، حتى ينتصر المسلمون تحت راية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشريف، لتكون دولة الحق الإلهية، ونهاية جولة الباطل إلى الأبد، وما ذلك على اللّه بعزيز، وإنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً.

فئة المستضعفين

قلنا: إن المجتمع ينقسم - في بدو النظر - إلى ثلاث فئات، وإن فئة المستضعفين قد تتحد أحياناً مع فئة الروحانيين، لتشكل المواجهة ضد الطغيان، وقلنا أيضاً: إن المجتمع سوف يظهر على شكل فئتين فقط: فئة الحق، وفئة الباطل. ولكن هناك قسماً من المستضعفين لايحبهم اللّه؛ لأنهم يهربون من المواجهة والتصدي للطغاة تحت حجج وتبريرات عديدة.

يقول عزّ من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(2).

فإن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ} أي: تقبض الملائكة أرواحهم؛ فإن لملك الموت أعواناً كما ورد في السنة، ودلت عليه هذه الآية {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} أي: في حال كونهم ظالمين لأنفسهم؛ لأنهم بقوا في دار الهوان، حيث يسومهم الكفار العذاب، ويمنعونهم من الإيمان باللّه والرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، وقد كان

ص: 94


1- سورة الصافات، الآية: 173.
2- سورة النساء، الآية: 97.

بإمكان هؤلاء أن يهاجروا إلى دار الإيمان ويؤمنوا. ولعل الآية أعم منهم ومن المؤمنين الذي بقوا في دار الكفر ولا يتمكنون من إظهار واجبات الإسلام، والعمل بما أوجبه اللّه سبحانه {قَالُواْ} أي: قالت الملائكة لهم عند قبض أرواحهم {فِيمَ كُنتُمْ} أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ وهو إستفهام تقديري توبيخي {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} يستضعفنا أهل الشرك في بلادنا فلا يتركوننا لأن نؤمن، أو لا يتركوننا نعمل بالإسلام، {قَالُواْ} أي: قالت الملائكة لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} حتى تخرجوا من سلطة الكفار وتتمكنوا من العمل بالإسلام وبشرائعه {فَأُوْلَٰئِكَ} الذين سبق وصفهم {مَأْوَىٰهُمْ} مرجعهم ومحلهم {جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أي: أنها مصير سيء لعذابها وأهوالها(1).

نعم، يقول اللّه عزّ وجلّ عن هؤلاء المستضعفين إنهم ظالمي أنفسهم، واللّه لايحب الظلم بكل ألوانه، فأولئك الذين يقومون بتبرير تقاعسهم وسكوتهم بأنهم ضعفاء لا يقدرون على شيء - وهذا خلاف الواقع - فإننا نرى من خلال هذه الآية أن اللّه لا يقبل منهم العذر، لماذا؟

لأن الإنسان بإمكانه أن يغير الواقع الموجود من الظلم والطغيان، وذلك لوجود الإرادة عند كل فرد من البشر، واللّه يريد من الإنسان المؤمن أن يكون قوي الإرادة راسخ الإيمان، صلباً في خندق التحدي.

ولا يرضى للمؤمن أن يذل نفسه ويرضخ للظلم والجور.

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، ألم تسمع لقول اللّه عزّ وجلّ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ

ص: 95


1- تفسير تقريب القرآن 1: 529.

وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(1) فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً يعزه اللّه بالإيمان والإسلام»(2).

ثم إن هؤلاء الذين ادعوا أنهم مستضعفون، إذا لم يلتحقوا بفئة الإيمان والحق لمواجهة الطغاة، ولم يهاجروا من دولة الظلم، فإنهم وبلا شك سوف ينصهرون في دولة الباطل، بل ربما أصبحوا أداوات بيد الطغاة، ومنفذين لمشاريعهم الاستبدادية، لضعفهم وخوفهم من بطشه، فيفضّلون طاعة الظالمين ومسايرتهم على مواجهتهم والاعتراض عليهم، وبذلك ستكون هذه الفئة من المجتمع، قاعدة عريضةً تتحرك مع الطغاة وتكثّر للطاغية سواده وقواعده، ولو فرضنا أنها لم تساعده ولم تتحرك معه، إلّا أن سكوتها على أعمال الظالمين نوع تشجيع، فكأنها أيدت الظالمين والظلم بسكوتهم؛ تقول الآية: {فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(3)، حيث اعتبرهم اللّه عزّ وجلّ من أهل النار، وإن كانوا مؤمنين مؤدين للتكاليف، ولكن السكوت عن الظلم من أكبر القبائح والذنوب.

ولقد ذكر التأريخ كثيراً من مصاديق هذه الفئة المستضعفة!، فالذين كتبوا الرسائل لسيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) ودعوه للثورة على الظلم والاستبداد، وقفوا في معسكر بني أمية في كربلاء، ليقتلوه ويمنعوه الماء، هو وأطفاله وأصحابه الكرام، مع أنهم كانوا يصلون ويصومون، ويعرفون حق المعرفة أنه(عليه السلام) أمامهم وأنه ابن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

روى حذيم بن شريك الأسدي قال: لما أتى علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام) بالنسوة من كربلاء وكان مريضاً، وإذا نساء أهل الكوفة ينتدبن

ص: 96


1- سورة المنافقون، الآية: 8.
2- الكافي 5: 63.
3- سورة النساء، الآية: 97.

مشققات الجيوب، والرجال معهن يبكون، فقال زين العابدين(عليه السلام) بصوت ضئيل وقد نهكته العلة: «إن هؤلاء يبكون علينا فمن قتلنا غيرهم؟!».

فأومت زينب بنت علي بن أبي طالب(عليها السلام) إلى الناس بالسكوت، قال حذيم الأسدي: لم أر واللّه خفرة(1) قط أنطق منها، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي(عليه السلام) وقد أشارت إلى الناس بأن أنصتوا، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثم قالت بعد حمد اللّه تعالى والصلاة على رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم):

«أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر والخذل، ألّا فلا رقأت(2) العبرة ولا هدأت الزفرة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، هل فيكم إلّا الصلف والعجب والشنف(3) والكذب وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة، ألّا بئس ما قدمت لكم أنفسكم، أن سخط اللّه عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون أخي؟!

أجل واللّه، فابكوا، فإنكم أحرى بالبكاء، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فقد أبليتم بعارها، ومنيتم بشنارها(4)، ولن ترحضوها أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم، ومقر سلمكم، وآسي كلمكم، ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقاتلتكم، ومدرة حججكم، ومنار محجتكم. ألّا ساء ما قدمت لكم أنفسكم، وساء ما تزرون ليومبعثكم، فتعسا تعساً، ونكساً نكساً، لقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت

ص: 97


1- الخفر: شدة الحياء، وامرأة خفرة: حيية متخفرة. كتاب العين: ج4 ص253 مادة (خفر).
2- الختل: الخداع، رقأت: جفّت.
3- الصلف: الذي يمتدح بما ليس عنده، الشنف: البغض بغير حق، الغمز: الطعن والعيب، الدمنة: المزبلة.
4- الشنار: العار.

الصفقة، وبؤتم بغضب من اللّه، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.

أتدرون ويلكم؛ أي كبد لمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) فرثتم؟ وأي عهد نكثتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي حرمة له هتكتم؟ وأي دم له سفكتم؟

لقد جئتم شيئا إدّاً، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض، وتخر الجبال هداً. لقد جئتم بها شوهاء صلعاء عنقاء سوداء فقماء خرقاء(1)، كطلاع الأرض، أو مل ء السماء، أفعجبتم أن تمطر السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، فلا يستخفنكم المهل، فإنه عزّ وجلّ لايحفزه البدار، ولا يخشى عليه فوت النار...»(2).

وهذه هي طبيعة فئة المستضعفين المتخاذلين.

فانظر إلى قبح عملهم وعظمة فعلهم، لا لشيء إلّا لأنهم جبناء، فقدوا إرادتهم، واستسهلوا الخضوع للظالمين، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، ورضوا أن يكونوا من أهل النار، باختيارهم السيئ وتفكيرهم الضحل، لأن لهم قلوباً لا يفقهون بها، وإيماناً متزلزلاً لا ينتفعون من آثاره: {فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(3).

حتى تنتصر فئة الحق

الحق قد لا يجد ناصراً، وربما كانت الفئة المحقة هي الأقلية، فالقرآن الكريمكثيراً ما يطرح مسألة: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(4).

ص: 98


1- الشوهاء: القبيحة، والفقماء: إذا كانت ثناياها العليا إلى الخارج فلا تقع على السفلى، والخرقاء: الحمقاء.
2- الاحتجاج 2: 303.
3- سورة النساء، الآية: 97.
4- سورة سبأ، الآية: 13.

أو {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْأخِرِينَ}(1).

أو: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَٰرِهُونَ}(2).

إلى غير ذلك من الآيات التي توحي بأن فئة الحق قليلة، والباطل فئاته كثيرة، إلّا أن هذه الكثرة وتلك القلة لا تعني شيئاً بقدر ما تحمل الفئة الحقة من معان إيمانية روحية سامية، فعندما يتمسك المؤمنون باللّه، ويتوكلون عليه، ويجسدون العقيدة في أرض الواقع، نجدهم ينتصرون على كثرة الباطل، وليس هذا فحسب، بل ويزهقونه أيضاً؛ لأن دمغة الحق قوية جداً.

والتاريخ ملئ بالشواهد على ذلك:

فهذه معركة بدر... وأحد... والخندق... وحنين...

وكذلك على الصعيد الفردي، حيث ينتصر المؤمن على شيطانه، ويغلب هواه، ويعمل خالصاً لوجه اللّه تعالى.

كانتصار الإمام علي(عليه السلام) على عمرو بن عبد ودّ العامري حيث قام بقتله خالصاً لوجه اللّه عزّ وجلّ بعد أن تركه ومشى خطوات ليسكن غضبه. وأمثال ذلك كثير في قصص الأنبياء والأئمة والصالحين(عليهم السلام)... .

شروط الانتصار
اشارة

ولكي تحقق الفئة المؤمنة الانتصار دائماً وأبداً، وتكسب الميدان كله، وتمحقالباطل وتزهقه وتمحوه، لا بدّ من توفر عدة شروط في الفئة المحقة وأفرادها، نذكر شيئاً منها على سبيل المثال لا الحصر:

ص: 99


1- سورة الواقعة، الآية: 13-14.
2- سورة المؤمنون، الآية: 70.
1- الوعي السياسي

روى المفضل عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «يا مفضل، لا يفلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجب من يفهم، ويظفر من يحلم، والعلم جُنّة، والصدق عزّ، والجهل ذُلّ، والفهم مجد، والجود نجح، وحسن الخلق مجلبة للمودة، والعالم بزمانه لاتهجم عليه اللوابس، والحزم مساءة الظن... ومن هجم على أمرٍ بغير علمٍ جدع أنف نفسه، ومن لم يعلم لم يفهم، ومن لم يفهم لم يسلم، ومن لم يسلم لم يُكرم، ومن لم يُكرم يُهضم، ومن يُهضم كان ألوم، ومن كان كذلك كان أحرى أن يندم»(1).

لذا فإن من أهم الأمور التي يجب أن يتحلى بها الفرد المؤمن؛ الوعي السياسي. وذلك لأن مصيره سيكون تحت اللون السياسي الذي يحكم البلاد، بل وأمور معاشه خاضعة لسياسة الدولة؛ لأن الفرد يؤثر ويتأثر بسياسة بلده.

أما أنه يؤثر، فإنه إذا كان صاحب إرادة صلبة لا يخشى أي أحد، يعلن جهاراً: أن هذا باطل، وهذا فساد، وهذا ظلم، بل ويحشّد الآخرين حوله للجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويخوض الصعاب لمواجهة الباطل، وبهذا الشكل فهو يؤثر في سياسة البلد، لاسيّما إذا كان المعترض حزباً أو كتلة أو جمعية.

وأما أنه يتأثر بسياسة الدولة، فإن الأخيرة تفرض أحكاماً وضعية خاصة، تحكمالفرد والمجتمع ككل، فيتأثر منها، وربما تسيئ إلى معاشه أيضاً.

فيلزم أن يتحلى المؤمن بالدراية والوعي بما يتعلق بالسياسة الإقليمية والدولية، وما يدور حوله، وما يجري بين يديه وخلفه، ويطلع على ألوان

ص: 100


1- الكافي 1: 26.

السياسة الحاكمة في العالم، ونقاط الضعف ومراكز القوة فيها، فيقرأ الاشتراكية والرأسمالية ومساوءهما، فإنه بدون الإطلاع والمعرفة لا يمكنه أن يكتشف السلبيات ونقاط الضعف في سياسة الدولة ومخططات الحكّام، وبالتالي تمرّ عليه ألوان من الخدع والأكاذيب عبر أشكال من الاستبداد المقنّع والمقنّن. وحينذاك سوف لا يعترض أبداً، لأنه لايدري ماذا يحصل وماذا حصل؟

أما إذا تحلى بالمعرفة والوعي السياسي، فإنه يدرك تحركات الدولة ومخططات الحكومات وما تريده الأحزاب والحركات، وما أشبه، ويقرأ ما وراء السطور، فيحصّن نفسه ومجتمعه من مكرها ومخططاتها الشيطانية.

2- الإرادة الصلبة

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصالٍ: وقوراً عند الهزاهز، صبوراً عند البلاء، شكوراً عند الرخاء، قانعاً بما رزقه اللّه، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعبٍ، والناس منه في راحةٍ»(1).

من أهم ما يلزم أن يتصف به المؤمن والفئة المحقة هي الإرادة الصلبة، فإنها من أهم صفات النجاح، وهي شرط لكي لا ينثني الإنسان أمام الأزمات والشدائد التي تعصف به وبالمجتمع الاسلامي.

فالإرادة تعني قوة الإيمان، والثقة باللّه، وقوة النفس، والصبر والصلابة فيمواجهة الضعوط والمشاكل... وبالإرادة يرسم الإنسان مصيره ويخط لون حياته، وبها يختار اختياراته الصحيحة الصائبة، وبالإرادة تتحرك الأمم وتطالب بالتحرر من وطأة المستعمرين.

ص: 101


1- الكافي 2: 47.

ولذلك عندما جاء الاستعمار والطواغيت، حاولوا دائماً أن يذوّبوا إرادة الإنسان، ويقهروها بالإرهاب والظلم، حتى إذا ما انتهت واضمحلت الإرادة صار الإنسان كالحيوان، بل ربما أشد حمقاً وغباءً، وأشد ظلماً وتعسفاً كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(1).

نعم، إذا انعدمت الإرادة وصودرت، ساء الاختيار لدى الإنسان، وعليه تسوء كل أفعاله وأقواله وأعماله، فيخضع للظالمين، ويأتي بكل ما يملونه عليه؛ لأنه فقد جوهر التصدي والمواجهة بفقد إرادته، فهو لا يقدر أن يصمم، ولا يقدر أن يتخذ لنفسه قراراً، بل ينتظر دائماً من الآخرين أن يقرروا له ويحرّكوه فيتحرك كالدُمية، وهكذا يسيطر الشيطان عليه.

فمن أجل أن يبقى المؤمن حراً قوياً صلباً في طريق الحق، عليه أن يقوي من إرادته الإيمانية، ولا يتنازل عنها، مهما كانت الضغوط والمشاكل والعقبات.

وطريق تقوية الإرادة هو الإنقطاع إلى اللّه عزّ وجلّ، والنظر إليه سبحانه بعين الواثق المطمئن، والمواصلة في العبادة والطاعة، والاستغراق في حب اللّه تبارك وتعالى، ودعائه والتوكل عليه، وتوكيل كافة الأمور إليه عزّ وجلّ، فهو تعالى صاحب التأثير المطلق في الوجود.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «مثل المؤمن القوي كالنخلة، ومثل المؤمن الضعيفكخامَة(2) الزرع»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المؤمن بُشره في وجهه، وحُزنه في قلبه، أوسع

ص: 102


1- سورة الفرقان، الآية: 44.
2- الخامَة: الغظة الليلنة من الزرع.
3- جامع الأخبار: 183.

شي ء صدراً، وأذلّ شي ء نفساً، يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويلٌ غمّه، بعيدٌ همّه، كثيرٌ صمته، مشغولٌ وقته، شكورٌ صبور، مغمورٌ بفكرته، ضنينٌ بخَلَّته، سهل الخليقة، لين العريكة، نفسه أصلب من الصلد(1)، وهو أذل من العبد»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن له قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في فقه، ونشاط في هُدى، وبرّ في استقامة، وعلم في حلم، وكيس في رفق، وسخاء في حق، وقصد في غنى، وتجمل في فاقة، وعفو في قدرة، وطاعة للّه في نصيحة، وانتهاء في شهوة، وورع في رغبة، وحرص في جهاد، وصلاة في شغل، وصبر في شدة، وفي الهزاهز وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور... لا يُرى في حكمه نقص، ولا في رأيه وهن، ولا في دينه ضياع، يرشد من استشاره ويساعد من ساعده، ويكيع عن الخنا والجهل»(3).

3- نشر القيم والفضائل

على الفئة المؤمنة الروحانية المتمثلة بالعلماء الصالحين بأصنافهم كافة، علماء اجتماع، علماء نفس، علماء دين... أن ينشروا المفاهيم الإنسانية، والقيم والفضائل، التي تهذب الشعوب، وتفعّل فيها الأخلاقيات والملاكات الخيرة،وأن يتعاونوا على البر والتقوى والعمل الصالح، ويظهروا الإحترام للفرد والمجتمع ليتحسس الإنسان بإنسانيته، فإن الطواغيت طالما استهزؤوا واستخفوا بالجماهير.

كما أن على هذه الفئة أن تغذي الأفراد بالأفكار الصحيحة التي تزيد من

ص: 103


1- ضنين: بخيل؛ الخَلّة: الحاجة؛ الخليقة: الطبيعة؛ العريكة: النفس؛ الصلد: الحجر الصلب.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 333.
3- الكافي 2: 231.

وعيهم الأخلاقي والثقافي والعقائدي، وتثقفهم بالدين ومسائله، وتظهر لهم العقيدة الإسلامية بأجلى صورها الواضحة، وتجذرها في قلوبهم، لينطلقوا في أجواء العلم والمعرفة.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «جاء رجل إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، ما العلم؟ قال: الإنصات. قال: ثم مه؟ قال: الاستماع. قال: ثم مه؟ قال: الحفظ. قال: ثم مه؟ قال: العمل به، قال: ثم مه يا رسول اللّه؟ قال: نشره»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «زكاة العلم نشره... زكاة العلم بذله لمستحقه، وإجهاد النفس في العمل به»(2).

وقال(عليه السلام): «الكاتم للعلم غير واثق بالإصابة فيه»(3).

وقال(عليه السلام): «جمال العلم نشره، وثمرته العمل به، وصيانته وضعه في أهله»(4).

وقال(عليه السلام): «شكر العالم على علمه عمله به وبذله لمستحقه»(5).

وبما سبق وبمراعات سائر شروط الانتصار، يمكن لفئة الحق أن تنتصر على فئة الباطل، وأن تغلق المنافذ التي يمر عبرها الطاغوت ويمرر ألاعيبه منخلالها، من منافذ الجهل والابتعاد عن الدين، لأن الجهل عامل قوي لاستعمار الشعوب، والابتعاد عن الدين وعن اللّه عامل أقوى لكي تبقى الشعوب تحت ذل المستكبرين. فإن الإيمان باللّه يدعو الإنسان إلى التحرر من كل عبودية، سوى العبودية للّه عزّ وجلّ، ويوجب الانقضاض على الظالمين، لأن اللّه لا يحب

ص: 104


1- الكافي 1: 48.
2- مستدرك الوسائل 7: 46.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 83.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 338.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 407.

الظلم بعد أن كتب على نفسه الرحمة.

يقول الإمام زين العابدين(عليه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق:

«اللّهم صل على محمد وآله، ولا أُظلمنّ وأنت مطيق للدفع عني، ولا أُظلمنّ وأنت القادر على القبض مني، ولا أَضلّنّ وقد أمكنتك هدايتي، ولا أفتقرنّ ومِن عندك وسعي، ولا أطغينّ ومِن عندك وجدي، اللّهم إلى مغفرتك وفدتُ، وإلى عفوك قصدتُ، وإلى تجاوزك اشتقتُ»(1) بحق محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

التمسك بالدين شرط الانتصار

قال تعالى: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(2).

وقال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}(5).

الصمود والاستقامة في العمل

قال اللّه تعالى: {أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ}(6).

ص: 105


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة يوسف، الآية: 40.
3- سورة الروم، الآية: 30.
4- سورة آل عمران، الآية: 85.
5- سورة الشورى، الآية: 13.
6- سورة فصلت، الآية: 6.

وقال سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَأَلَّوِ اسْتَقَٰمُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّاءً غَدَقًا}(3).

الوعي والبصيرة

قال اللّه تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ}(4).

وقال سبحانه: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}(5).

وقال عزّ وجلّ: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(6).

عاقبة الظلم والظالمين

قال جلّ وعلا: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّٰلِمِينَ}(7).وقال اللّه تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}(8).

وقال سبحانه: {مَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ حَمِيمٖ وَلَا شَفِيعٖ يُطَاعُ}(9).

ص: 106


1- سورة هود، الآية: 112.
2- سورة الأحقاف، الآية: 13.
3- سورة الجن، الآية: 16.
4- سورة الأنعام، الآية: 104.
5- سورة يوسف، الآية: 108.
6- سورة الحاقة، الآية: 12.
7- سورة الأعراف، الآية: 44.
8- سورة الفرقان، الآية: 37.
9- سورة غافر، الآية: 18.

وقال عزّ وجلّ: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(1).

وقال جلّ وعلا: {أَلَا إِنَّ الظَّٰلِمِينَ فِي عَذَابٖ مُّقِيمٖ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

التمسك بالدين شرط الانتصار

قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «ملاك الدين الورع، ورأسه الطاعة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الدين أقوى عماد»(4).

وقال(عليه السلام): «الدين يَعصِم»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «وحُبنا أهل البيت نظام الدين»(6).

الصمود والاستقامة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العمل العمل، ثم النهاية النهاية، والاستقامة الاستقامة...»(7).

وقال(عليه السلام): «من طلب السلامة لزم الإستقامة»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن له قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في فقه، ونشاط في هدى، وبرّ في استقامة...»(9).

ص: 107


1- سورة غافر، الآية: 52.
2- سورة الشورى، الآية: 45.
3- مكارم الأخلاق: 468.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 35.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 17.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 296.
7- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهي عن البدعة.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 593.
9- الكافي 2: 231.
الوعي والبصيرة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلّا لرجلين: عالم مطاع، أو مستمع واعٍ»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية»(2).

وقال(عليه السلام):«من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «دعامة الإنسان العقل، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالماً حافظاً ذاكراً فطناً فهماً، فعلم بذلك كيف ولم وحيث، وعرف مَن نصحه ومَن غشّه، فإذا عرف ذلك عرف مجراه وموصوله ومفصوله، وأخلص الوحدانية للّه والإقرار بالطاعة، فإذا فعل ذلك كان مستدركاً لما فات، ووارداً على ما هو آتٍ، يعرف ما هو فيه، ولأي شي ءٍ هو هاهنا، ومن أين يأتيه، وإلى ما هو صائر، وذلك كله من تأييد العقل»(4).

عاقبة الظلم والظالمين

قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «وإياكم والظلم، فإن الظلم عند اللّه هو الظلمات يوم القيامة»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الظلم في الدنيا بوار وفي الآخرة دمار»(6).

ص: 108


1- الكافي 1: 33.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 239 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها آل محمد(صلی الله عليه وآله وسلم).
3- الكافي 8: 23.
4- الكافي 1: 25.
5- الخصال 1: 176.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 90.

وقال(عليه السلام): «ظالم الناس يوم القيامة منكوب بظلمه معذّب محروب»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما أحد يظلم بمظلمة إلّا أخذه اللّه بها في نفسه وماله...»(2).

ص: 109


1- عيون الحكم والمواعظ: 324.
2- الكافي 2: 332.

القرآن منهج وسلوك

الدستور الكامل للبشر

اشارة

قال سبحانه وتعالى: {هَٰذَا بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(1).

فإن {هَٰذَا} القرآن الذي أنزل إليك {بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ} جمع بصيرة، فكما أن البصيرة في الإنسان كاشفة له طريق الفلاح، كذلك القرآن كاشف طريق السعادة، أي: بينات تبصرهم أمورهم، {وَهُدًى} أي: هداية إلى الطريق {وَرَحْمَةٌ} أي: فضل وترحم، يرحمهم اللّه به إذ يريهم السعادة الأبدية {لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ} به ويعلمون أنه الحق، وإنما خصهم لأنهم المنتفعون، أما غيرهم فهم في ضلال ونقمة(2).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنّ اللّه سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنّه حبل اللّه المتين وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب وينابيع العلم، وما للقلب جلاءٌ غيره»(3).

فقد أنزل اللّه سبحانه وتعالى كتابه العزيز على رسوله الأمين(صلی الله عليه وآله وسلم) دستوراً دائماً لبني البشر، ملبياً فيه جميع طلباتهم على مرّ العصور والأزمنة إلى يوم

ص: 110


1- سورة الجاثية، الآية: 20.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 5: 108.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.

القيامة، إنه لم يدّخر صغيرة ولا كبيرة من شأنها أن تصلح بال البشر، إلّا أحصاها لهم، وبيّنها بمختلف الحالات والسبل، لكي يتبين الرشد من الغي، وتتم الحجة للّه على الناس أجمعين، وذلك بعد أن رسم لكل من المخلوقات طريق سلوكه وما يحتاج إليه في مختلف مجالات الحياة.

ثم إن الأسلوب الذي جاء به القرآن من بسيط في المنهج، وسلس في البيان، ومطابق للفطرة الإنسانية، إلّا أنه بالنسبة إلى الأطر التي بناها قاطع وصارم، فمبانيه صارمة ومرنة في آن واحد. فمن حيث وضوح المضمون نجد أنّ إلى جانب وضوح كلّ قاعدة نوعاً من التحصين الذي يقف في مواجهة الفوضى والأهواء، ولكنّها تترك لكل فرد حرياته المشروعة، وتكيّفه في نطاقه على مثله الأعلى، وبهذه الطريقة كان قد بلغ القرآن درجة الكمال العليا، التي لا يمكن لغيره أن يصلها، كيف لا؟ وهو الطريق الأقوم الذي رسمه اللّه سبحانه وتعالى للبشر.

قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}(1).

فإن الذي يهدي إليه القرآن أقوم وأكمل مما يهدي إليه غيره من الكتب.

قال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(2)

فمجرى السنّة الإلهية قد تمثل في القرآن من حيث هداية الإنسان إلى سبيل الحق.

ص: 111


1- سورة الإسراء، الآية: 9.
2- سورة الأنعام، الآية: 161.

قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1).

فإن معنى: {يَهْدِي بِهِ} أي: بكل واحد من النور والكتاب، كما قال سبحانه: {فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}(2) أي كل واحد منهما {اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ} أي: من اتبع رضوان اللّه - أي رضاه - بقبول القرآن ونبوة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) {سُبُلَ السَّلَٰمِ} أي: طُرُق السلامة في كل شيء، السلامة في الدين، والسلامة في الدنيا، والسلامة في الآخرة للفرد وللمجتمع،{وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ} فإن الحياة ظلمات لا يدري الإنسان كيف يسير في دروبها، وبالقرآن والنبي يهتدي إلى الحق ويُنير طريقه {بِإِذْنِهِ} بإذن اللّه ولطفه {وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ} يوصلهم إلى سعادة الدنيا والآخرة(3).

القرآن سبب للهداية

ورد عن علي بن عقبة عن أبيه قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «اجعلوا أمركم للّه ولا تجعلوه للناس؛ فإنه ما كان للّه فهو للّه وما كان للناس فلا يصعد إلى اللّه، ولا تخاصموا الناس لدينكم؛ فإن المخاصمة ممرضةٌ للقلب، إن اللّه تعالى قال لنبيه(صلی الله عليه وآله وسلم): {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}(4) وقال: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(5) ذروا الناس، فإن الناس أخذوا عنالناس، وإنكم أخذتم عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إني سمعت أبي(عليه السلام) يقول:

ص: 112


1- سورة المائدة، الآية: 16.
2- سورة البقرة، الآية: 259.
3- تفسير تقريب القرآن 1: 621.
4- سورة القصص، الآية: 56.
5- سورة يونس، الآية: 99.

إن اللّه عزّ وجلّ إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الأمر كان أسرع إليه من الطير إلى وكره»(1).

نعم، ما من شك في أن الهداية من اللّه سبحانه، وإنما الهداة: القرآن الحكيم والرسول الكريم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت الطاهرون(عليهم السلام)، وسيلة وظرف للفيض الإلهي ولتبليغ أوامر اللّه عزّ وجلّ كما قال جلّ وعلا: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(2).

وفي تفسير هذه الآية المباركة نقول: بيّن اللّه تبارك وتعالى أن الكفار الذين لا يؤمنون ليس على الرسول حسابهم، حتى يجهد نفسه لكي يهديهم، بل إنما عليه البلاغ ف{إِنَّكَ} يا رسول اللّه {لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي لا تتمكن من هداية من تحب أن يهتدي من الناس، فإن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يحب هداية عمه أبي لهب وغيره من أشراف قريش، بل الناس أجمعين، ولكنه لم يكن يتمكن من ذلك، والمراد بالهداية العمل الذي يجبرهم على الإسلام، لا مجرد إراءة الطريق، {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} بأن يلطف به الألطاف الخفية حيث يراه مستعداً للإيمان مهيئاً نفسه للإذعان، فإرائة الطريق من اللّه والرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) عامة لكل أحد. أما الألطاف الخفية فالرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) لا يقدر عليها واللّه قادر عليها، لكنه إنما يلطف بها على من أعد نفسه وأخذ يأتي في الطريق. ولعل ممن تنطبق هذه الآية الكريمة عليه هو (سيد قطب) صاحب كتاب (في ظلال القرآن) الذي لم يهتدبنور الإيمان؛ إذ ملأ قلبه بالحقد والغل للرسول وآله وذويه(عليهم السلام)، فتراه في عرض تفسيره وطوله ينتقص من الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وعمه(عليه السلام) وسائر ذوي قرابته في

ص: 113


1- الكافي 1: 166.
2- سورة القصص، الآية: 56.

لفائف من الكلام المزيف بالتقليد الأعمى عن الأمويين أعداء اللّه والرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) والشجرة الملعونة في القرآن، فقد أخذ يطبق هذه الآية الكريمة على أبي طالب(عليه السلام)، مع أنه قد ورد من طرق العامة والخاصة أن أبا طالب من أول المؤمنين بالرسول، ولو كان أبو طالب أباً لأحد كبرائهم لأهالوه بمقام الملائكة المكرمين، لكن ذنبه الوحيد أنه أبو علي أمير المؤمنين(عليه السلام) (1). وماذا يقال في من يطبق آية {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ}(2) على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، ليبرئ ساحة عثمان الذي وردت فيه الآية، وهكذا وهلم جرا، وقد صدق اللّه سبحانه حيث يقول: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وهل من محمل لعمل من يخوض دقائق الأمور، فيعرف الشعرة في الليل المظلم، ثم لا يرى الشمس الضاحية في وسط السماء، إلّا العناد، وإنه استحق عليه كلمة العذاب؟ وقد كنت أريد أن أنزه هذا السفر عن مثل هذه الأمور لكن غلو (قطب) جرني إلى ذلك فإنه أتى بكل ما لفقته الأموية النكراء، ولكن في لفائف حريرية، وقفازات براقة، فيظن الغير أنه بريء عن العصبية الجاهلية {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٖ يَنقَلِبُونَ}(3) و{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(4) أي: القابلين للهداية، أو الذين اهتدوا فيجازيهم حسب علمه(5).

إذن، هناك أسباب ظاهرية لهذه الهداية ومن هذه الأسباب القرآن الكريم، فقد فرض اللّه (جلت عظمته) على الناس العلم والعمل بما في القرآن الكريم، فلا

ص: 114


1- للتفصيل انظر: (إيمان أبي طالب) شمس الدين أبي علي بن فخار بن معد الموسوي المتوفى (630ه).
2- سورة عبس، الآية: 1.
3- سورة الشعراء، الآية: 227.
4- سورة الأنعام، الآية: 117.
5- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 164.

عذر لهم في تركه بعد أن وفر لهم من يعينهم على ذلك وهم الرّسول وأهل بيته(عليهم السلام) التراجمة والمفسرون له. فقد قال سبحانه وتعالى: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(1).

وقال تبارك تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(2).

وقد فرض اللّه على العباد طاعتهم ولم يفرض طاعة غير من اصطفاه وطهره، فمن خالف اللّه تعالى ورسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) وأسند أمره إلى غير المصطفين خسر دنياه وآخرته.

قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}(3).

فإن قوله تعالى: {يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ} أي: أسفاً وندماً لما سبق منه من الظلم، والعض هو الأخذ بالأسنان، وكأن المتندم إنما يفعل ذلك لإرادة إيلام جسمه انتقاماً لما صدر منه مما ألقاه في هذا الندم، والعض على اليدين في الندم الشديد {يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} أي: ليتني اتبعت محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) واتخذت معه في سبيل الهداية حتى لا أبتلي بهذا اليوم العصيب(4).

أهل البيت(عليهم السلام) والقرآن

في الحديث الشريف وفي تفسير الآية التي مرت {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ

ص: 115


1- سورة النحل، الآية: 43.
2- سورة فاطر، الآية: 32.
3- سورة الفرقان، الآية: 27.
4- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 9.

الذِّكْرِ} ورد عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): «إن من عندنا يزعمون أن قول اللّه عزّ وجلّ: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(1) أنهم اليهود والنصارى، قال: إذاً يدعونكم إلى دينهم - قال: - قال بيده إلى صدره: نحن أهل الذكر ونحن المسئولون»(2).

وعن عبد اللّه بن عجلان عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

قال(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): الذكر أنا والأئمة أهل الذكر».

وقوله عزّ وجلّ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسَْٔلُونَ}(3).

قال أبو جعفر(عليه السلام): «نحن قومه ونحن المسئولون»(4).

أما وصي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين(عليه السلام) ففي الروايات أنه المخصوص في الآية السابقة بكلمة (السبيل) حيث قال تعالى: {يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}(5)، حيث قال (صلوات اللّه وسلامه عليه) في خطبة له(عليه السلام): «فأنا الذّكر الّذي عنه ضلّ، والسّبيل الّذي عنه مال، والإيمان الّذي به كفر، والقرآن الّذي إيّاه هجر، والدّين الّذي به كذّب، والصّراط الّذي عنه نكب»(6).

وعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: وفد على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أهل اليمن،فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «جاءكم أهل اليمن يبسون بسيسا»(7) فلما دخلوا على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «قوم رقيقة قلوبهم، راسخ إيمانهم، ومنهم المنصور يخرج في

ص: 116


1- سورة النحل، الآية: 43.
2- الكافي 1: 211.
3- سورة الزخرف، الآية: 44.
4- الكافي 1: 211.
5- تفسير القمي 2: 112.
6- الكافي 8: 28.
7- بسست الناقة وأبسستها إذا سقتها وزجرتها وقلت لها: بِس بِس - بكسر الباء - ، انظر: لسان العرب 6: 27 مادة (بسس). وفي بحار الأنوار 36: 114، «يبشون بشيشاً» من البشاشة أي طلاقة الوجه.

سبعين ألفا ينصر خلفي وخلف وصيي، حمائل سيوفهم المسك».

فقالوا: يارسول اللّه، ومن وصيك؟

فقال: «هو الذي أمركم اللّه بالاعتصام به، فقال جلّ وعزّ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}»(1).

فقالوا: يا رسول اللّه، بين لنا ما هذا الحبل؟

فقال: «هو قول اللّه: {إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ}(2) فالحبل من اللّه كتابه والحبل من الناس وصيي».

فقالوا: يا رسول اللّه، من وصيك؟

فقال: «هو الذي أنزل اللّه فيه: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}»(3).

فقالوا: يا رسول اللّه، وما جنب اللّه هذا؟

فقال:«هو الذي يقول اللّه فيه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}(4) هو وصيي والسبيل إلي من بعدي».

فقالوا: يا رسول اللّه، بالذي بعثك بالحق نبيا أرناه فقد اشتقنا إليه؟

فقال: «هو الذي جعله اللّه آية للمؤمنين المتوسمين، فإن نظرتم إليه نظر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عرفتم أنه وصيي، كما عرفتم أني نبيكم، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه، فمن أهوت إليه قلوبكم فإنه هو؛ لأن اللّه عزّ

ص: 117


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- سورة آل عمران، الآية: 112
3- سورة الزمر، الآية: 56.
4- سورة الفرقان، الآية: 27

وجلّ يقول في كتابه: {فَاجْعَلْ أَفِْٔدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}(1) أي: إليه وإلى ذريته(عليهم السلام)» ثم قال: فقام أبو عامر الأشعري في الأشعريين، وأبو غرة الخولاني في الخولانيين، وظبيان وعثمان بن قيس في بني قيس، وعرنة الدوسي في الدوسيين، ولاحق بن علاقة، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه وأخذوا بيد الأنزع الأصلع البطين، وقالوا: إلى هذا أهوت أفئدتنا يا رسول اللّه.

فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «أنتم نجبة اللّه حين عرفتم وصي رسول اللّه قبل أن تعرفوه، فبم عرفتم أنه هو؟»

فرفعوا أصواتهم يبكون ويقولون: يا رسول اللّه، نظرنا إلى القوم فلم تحن لهم قلوبنا، ولما رأيناه رجفت قلوبنا ثم اطمأنت نفوسنا وانجاشت أكبادنا وهملت أعيننا وانثلجت صدورنا، حتى كأنه لنا أب ونحن له بنون.

فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(2) أنتم منهم بالمنزلة التي سبقت لكم بها الحسنى، وأنتم عن النار مبعدون».

قال - جابر - : فبقي هؤلاء القوم المسمَّون حتى شهدوا مع أمير المؤمنين(عليه السلام) الجمل وصفين فقتلوا بصفين رحمهم اللّه، وكان النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بشرهم بالجنةوأخبرهم أنهم يستشهدون مع علي بن أبي طالب(عليه السلام) (3).

كيف لا؟! وهو باب مدينة العلم المتمثلة بالرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقد قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(4) فاللازم التمسك بالقرآن والعترة معاً، كما صرح بذلك رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل

ص: 118


1- سورة إبراهيم، الآية: 37
2- سورة آل عمران، الآية: 7.
3- الغيبة للنعماني: 39.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 345.

بيتي إن تمسكتم بهم لن تضلوا...»(1).

القرآن في الروايات

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يضل، والمحدّث الذي لا يكذب»(2).

وقال(عليه السلام): «اتبعوا النور الذي لا يطفأ، والوجه الذي لا يبلى، واستسلموا وسملوا لأمره، فإنكم لن تضلوا مع التسليم»(3).

وقال(عليه السلام): «من اتخذ قول اللّه دليلاً هدي إلى التي هي أقوم»(4)

إشارة إلى الآية الشريفة: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(5) ومن اهتدى للتي هي أقوم عاش سعيداً ومات حميداً، فهو سعيد في الدارين.

ومن هنا ورد في الأدعية المأثورة: «اللّهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ونفسي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لكسميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وشفاء صدري، وذهاب غمي، وجلاء حزني، يا أرحم الراحمين»؛ فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما أصاب أحداً هم أو غم... - الدعاء - إلّا أذهب اللّه غمه ونفّس كربه وقضى حوائجه»(6).

ص: 119


1- كفاية الأثر: 163.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176 من خطبة له(عليه السلام) فيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 155.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 111.
5- سورة الإسراء، الآية: 9.
6- إرشاد القلوب 1: 81.

التدبر في القرآن

اشارة

قال تبارك وتعالى: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): ألّا أخبركم بالفقيه حق الفقيه: من لم يقنط الناس من رحمة اللّه، ولم يؤمنهم من عذاب اللّه، ولم يرخص لهم في معاصي اللّه، ولم يترك القرآن رغبة عنه في غيره، ألّا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألّا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألّا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر»(4).

نعم، بعد كل ذلك التأكيد والتحريض على التدبر حري بنا أن نبذل ما بوسعنا للتدَّبر في القرآن، لا مجرد القراءة فقط، وللأسف فإن البعض في زماننا هذا، يقرأ القرآن أو يستمع إلى تلاوته، لكن كقالب بلا روح، وكحروف بلا معان، وكلمات بلا مفهوم، وبالنتيجة فإنهم لا يفهمون من القرآن شيئاً، مع أن الفهم هو المقدمة الطبيعية للعمل، خلاف ما كان يحصل لدى المسلمين القدماء الذين كانوا لا يقرأون آية إلّا وتفكروا فيها حتى يفهموها الفهم الكامل؛ وذلك لأنهم كانوا

ص: 120


1- سورة ص، الآية: 29.
2- سورة النساء، الآية: 82.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 318.
4- الكافي 1: 36.

يمتازون بميزات عديدة عن المسلمين في عالمنا اليوم، وممكن أن تكون هذه الميزات هي بعض أسباب الانفصال الذي يحصل بين بعض المسلمين وبين القرآن.

ومن ضمن هذه الأسباب: عدم وضوح الرؤية، فإن البعض قد ارتكزت في ذهنه فكرة:أن القرآن بعيد عن الإدراك البشري، وذلك من حيث أنه كلام اللّه العليم الخلاق اللامتناهي، وكلام مثله سبحانه يجلّ عن أن يدركه مخلوق ضعيف وجاهل مثل الإنسان.

ولعل هذا التصور ناتج من: عدم الاستعداد الفكري؛ إذ عدم الاستعداد للتدبر في القرآن له دور مؤثر في فصل فهم روح القرآن عند البعض، فإن من يودّ أن تأتيه اللقمة سائغة من دون أن يجهد نفسه بعض الشيء في تحصيلها لا يصل إلى ما يريد، وكذلك فإن ابتعاد الجيل المسلم المعاصر عن اللغة العربية الأصلية، كان له دور كبير في عدم فهم الآيات القرآنية.

وبما أن الفهم أساس العلم فالمسلمون حيث لم يفهموا القرآن ابتعدوا عنه كثيراً.

فهذه جملة أسباب يمكن الوقوف عندها ومعالجتها بالشكل الصحيح، كييعود المبتعدون عن القرآن إلى رشدهم، ولكي ترتفع الشبهات التي تجول في أذهانهم.

علماً بأن اللّه عزّ وجلّ قد جعل للقرآن من يفسر آياته ويبينها وهم رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام).

القرآن للجميع

قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ وَلَئِن جِئْتَهُم

ص: 121

بَِٔايَةٖ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) مبيناً حقيقة القرآن: «نور لمن استضاء به، وشاهد لمن خاصم به، وفلج لمن حاج به، وعلم لمن وعى، وحكم لمن قضى»(2).

ولا يخفى أن القرآن الكريم هو رسالة اللّه للإنسان في الأرض، ومن الطبيعي أن تكون الرسالة متناسبة مع فهم المرسل إليه، وفي حدود مدركاته؛ ولذا نرى أنّ معظم خطاباته جاءت موجهة لعامة الناس، من قبيل قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ} و: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} ومن الضروري أن يكون هؤلاء المخاطبون قادرين على فهم هذه الخطابات أو بعضها إن لم نقل أجمعها - ولو بالرجوع إلى من عيّنهم اللّه لتفسيرها، فهذا لا يعني عدم لزوم الرجوع إلى أهل الذكر في تفسير الآيات، بل المقصود أن القرآن نزل للجميع وليس لفئة خاصة محددة من البشر، وبإمكان الجميع أن يتدبروا في القرآن ويدركوا مفاهيمه بحسب تفاوت قدراتهم العلمية، نعم هناك آيات متشابهات، أو مؤولات، يكون الإنسان بحاجة إلى مراجعة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام) في معرفة المقصود منها.

من خصائص القرآن

إن من الميزات والخصائص التي يختص بها القرآن الكريم، أنه جديد دائماً، جديد في كلماته ومعانيه، وإيحاءاته وآياته، فحين يتلو الإنسان آيات القرآن بتأمل وإنصات، يشعر بأنه خطاب جديد: يُنذر ويحذّر، ويوجّه ويُبشّر، وفي الآيات والروايات إشارات على تجدد القرآن وحداثته، وأنه لم يفقد يوماً تجدده، ولن يُعدم حداثته أبداً، قال اللّه تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِيَ

ص: 122


1- سورة الروم، الآية: 58.
2- عيون الحكم والمواعظ: 498.

تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {تِلْكَ ءَايَٰتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثِ بَعْدَ اللَّهِ وَءَايَٰتِهِ يُؤْمِنُونَ}(2).

وقال(عليه السلام): «إن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلّا به»(3).

مع الفضيل بن عياض

ذكر في أحوال الفضيل بن عياض(4) أنه كان في بداية حياته من الأشرار، وكان مجرد ذكر اسمه كافياً لإثارة الرعب في القلوب، فقد كان يقطع الطريق على القوافل، ويسلب المسافرين كل ما يملكون من نقود وأمتعة، وفي أحد الأيام وقعت عينه على فتاة وأخذت بمجامع قلبه، فصمم في نفسه أمراً سيّئاً، وفي نفس تلك الليلة جاء يتسلق جدار ذلك البيت الذي تسكنه الفتاة، وهو ينوي الاعتداء عليها واغتصابها، وفي هذه الأثناء تناهى إلى مسامعه صوت والد البنت الذيكان قد قام في الليل للتهجد والعبادة يعلو صوته بتلاوة هذه الآية الكريمة: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}(5).

فأخذ الفضيل بن عياض يتأمل في هذه الآية بضع ثوان، فهزته من الأعماق وأخذ يردد في نفسه ويتمتم: يارب بلى قد آن، ثم نزل من أعلى الجدار متذكراً تائباً، وذهب باتجاه المسجد فاعتكف فيه وصار من الأخيار إلى آخر حياته. فهذا

ص: 123


1- سورة الزمر، الآية: 23.
2- سورة الجاثية، الآية: 6.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 18 من كلام له(عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا وفيه يذم أهل الرأي.
4- هو أبو علي الفضل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي (105-187ه) الزاهد المشهور.
5- سورة الحديد، الآية: 16.

الإنسان قد تدبر بآية واحدة من آيات القرآن، فكيف بالذي يتدبر في القرآن أجمع(1).

بعض آثار التلاوة

لقد كان أولياء اللّه المعصومون(عليهم السلام) يتلون القرآن بوعي وتدبر، حتى كان يظهر ذلك عليهم بوضوح، فقد كانت جلودهم تقشعر وقلوبهم ترتجف حينما يقرؤون آية، بل ربما كانوا يصعقون لعظمة وقع الآية في نفوسهم، فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «واللّه لقد تجلى اللّه لخلقه في كلامه، ولكن لا يبصرون»(2).

وقال أيضاً(عليه السلام) وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشياً عليه، فلما سري عنه قيل له في ذلك؟

فقال: «مازلت أردد الآية على قلبي وعلى سمعي حتى سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته»(3).

وروي عنه(عليه السلام) أيضا أنه كان يتلو القرآن في صلاته فغشي عليه، فلما أفاقسئل: ما الذي أوجب ما انتهت حالك إليه؟

فقال - ما معناه - : «ما زلت أكرر آيات القرآن حتى بلغت إلى حال كأنني سمعت مشافهة ممن أنزلها على المكاشفة والعيان»(4).

وهذا ما يفيضه القرآن على المتدبر بآياته من خشوع وخشية من اللّه سبحانه وتعالى.

ص: 124


1- انظر: سفينة البحار 7: 103.
2- عوالي اللئالي 4: 116.
3- تفسير الصافي 1: 73.
4- فلاح السائل: 107.
القرآن والخوف من اللّه
اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1).

فإن معناه: ليس يخاف اللّه حق خوفه ولا يحذر معاصيه خوفاً من عقابه إلّا العلماء، الذين يعرفون حقيقة ذلك، فأما الجهال ومن لا يعرف اللّه فلا يخافونه مثل ذلك، وكذلك ينظر العلماء في حجج اللّه وبيناته ويفكرون في ما يفضي بهم إلى معرفته(2).

لذا فإن الاعتبار بالآيات القرآنية إنما يؤثر أثره، ويورث حقيقة الإيمان باللّه، وواقع الخشية من اللّه وبكل معنى الكلمة، في العلماء الذين يعرفون اللّه سبحانه وتعالى معرفة تامة، تطمئن بها قلوبهم، وتزول عبرها حيرة الشك والقلق عن نفوسهم، فيتجسد لديهم الخوف الحقيقي وهو الخوف المطلوب - الخوف من اللّه - فهو خالق الكون والإنسان، وهو القوة المسيطرة، فهو المصوّر المنشئ الخالق البارئ، الذي يمدنا بالوجود والحياة، والخيرات والنعم، ولو تركنا لحالنا أو وكلنا إلى أنفسنا لحظة واحدة، أو طرفة عين، لأصبح وجودنا عدماً محضاً.

سئل أبو عبد اللّه(عليه السلام): ما كان في وصية لقمان؟

قال(عليه السلام): «كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف اللّه عزّ وجلّ خيفةً لو جئته ببر الثقلين لعذبك، وارج اللّه رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك» ثم قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «كان أبي يقول: ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا»(3).

ص: 125


1- سورة فاطر، الآية: 28.
2- التبيان في تفسير القرآن 8: 427.
3- الكافي 2: 67.
طبيعة الخوف

إن الخوف الذي هو من طبيعة الإنسان وفطرته - في الجملة - ليس نقصاً أو عيباً، فلو نظر الإنسان إلى حيوان مفترس لانتابه شيء من الشعور بالخوف، الخوف من أن ينقضَّ عليه ويؤدي به إلى الموت، وهذا شعور طبيعي لدى الإنسان، والقرآن لا ينكره ولا يعتبره نقصاً أو عيباً، وإنما النقص والعيب في الخوف مما لا يُخاف منه، وفي الإفراط أو التفريط في الشعور بالخوف من غير اللّه سبحانه، فإن الخوف من اللّه سبحانه لا إفراط فيه وهو ممدوح، وإنما الخوف المذموم هو الذي يحصل من الأشياء التي لا تستحق أن يخافها الإنسان، وفي الحالة التي يقف فيها الخوف عقبة في طريق تقدم الإنسان وحريته وكرامته، فإنها هي الحالة المرفوضة بالأساس وهي التي تسمى بالجبن، لا تلك الحالة الطبيعية، التي يمرَّ بها حتى الأنبياء والأولياء، من ذوي النفوس المختارة الزَّكية، الطاهرة النقية، الذين أشار اللّه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز إلى بعض منهم.

نموذجان قرآنيان للخوف الممدوح
النموذج الأول

لقد أشار اللّه تعالى إلى النبي موسى(عليه السلام) ذلك الرسول الذي أعده اللّه تعالى لمواجهة الطاغية المتجبر: فرعون، وزوّده بالآيات والمعجزات، ولكنه رغم ذلك كله يقول سبحانه: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ}(1).

وذلك حينما ألقى السحرة الحبال والعصيّ، فتحولت إلى حيّات كادت تلتهم جموع المتفرجين، ولكنه تدارك الموقف بعد أن أسعفته السماء بتوجيهها وعنايتها، فكسر هذا الهاجس لديه وتحدى السحرة بكل ثبات، وقد جاء في

ص: 126


1- سورة طه، الآية: 67.

بعض التفاسير قوله تعالى: {أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ} أي: وجد في نفسه ما يجده الخائف، ويقال:أوجس القلب فزعاً،أي: أضمر، والسبب في ذلك أنه خاف أن يلتبس على الناس أمرهم فيتوهموا أنهم فعلوا مثل ما فعله، ويظنوا المساواة فيشكوا ولا يتبعونه، وقيل: إنه خوف الطباع إذا رأى الإنسان أمراً فظيعاً فإنه يحذره ويخافه في أول وهلة، وقيل: إنه خاف أن يتفرق الناس قبل إلقائه العصا، وقبل أن يعلموا ببطلان السحرة فيبقوا في شبهة، وقيل: إنه خاف لأنه لم يدر أن العصا إذا انقلبت حية هل تظهر المزية؛ لأنه لم يعلم أنها تتلقفها وكان ذلك موضع خوف، لأنها لو انقلبت حية ولم تتلقف ما يأفكون ربما ادعوا المساواة لا سيما والأهواء معهم والدولة لهم، فلما تلقفت زالت الشبهة(1).

فإن قيل: فمن أي شي ء خاف موسى(عليه السلام) حتى حكى اللّه تعالى عنه من الخيفة في قوله تعالى - الآية - أو ليس خوفه يقتضي شكه في صحة ما أتى به؟

الجواب: لم يخف من الوجه الذي تضمنه السؤال، وإنما رأى من قوة التلبيس والتخييل ما أشفق عنده من وقوع الشبهة على من لم يمعن النظر، فأمنه اللّهتعالى من ذلك وبين له أن حجته ستتضح للقوم بقوله تعالى: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ}(2)(3).

إذن، خوف موسى(عليه السلام) كان لأجل هداية الناس وفي سبيل اللّه تعالى وليس خوفاً لمصلحة شخصية.

النموذج الثاني

وهكذا في قصة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مع ما قد أمده اللّه تعالى بالعزيمة وعدم

ص: 127


1- انظر: تفسير مجمع البيان 7: 39.
2- سورة طه، الآية: 68.
3- انظر: تنزيه الأنبياء: 71.

الخوف، فإنه(صلی الله عليه وآله وسلم) عندما علم من قبل اللّه سبحانه أن ربيبه: زيد بن حارثة الذي رباه ورعاه سيطلّق زوجته: زينب بنت جحش، وأن اللّه سيزوجه إياها، كان(صلی الله عليه وآله وسلم) يؤكد على زيد لكي لا يطلقها خوفاً من الاتهامات والشائعات، التي يمكن أن تحاك من قبل المنافقين ضدّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، لكن الوحي نزل على الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وقال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَٰكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَٰجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}(1).

ولقد ورد في تفسير الآية المباركة: أنه لما تزوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش، ثم أراد اللّه سبحانه أن يزيل العقبة التي كانت بعد أمام المسلمين في أمر التزوج من نساء أدعيائهم، فقد كانوا يرون أن ذلك من قبيل نكاح الأب زوجة ابنه؛ ولذا لما طلق زيد زينباً - ولعله كان لما نقل أنها كانت حادة المزاج، فلم يتلائم الزوجان - نكحها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تتميماً للتشريع الذي سبق في أولالسورة {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}(2) ومن غريب الأمر: أن جماعة من الناس اختلقوا حول هذه القصة روايات تنافي أصول الإسلام والعقيدة، حتى أن علي بن إبراهيم القمي(3) على جلالته لم يسلم من الوقوع ضحية ذلك الاختلاف، كما لم يسلم من الوقوع ضحية قول المعاندين في آية: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}(4)، فسبحان من لم يخلق الإنسان معصوماً إلّا الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)

ص: 128


1- سورة الأحزاب، الآية: 37.
2- سورة الأحزاب، الآية: 4.
3- علي بن ابراهيم بن هاشم القمي صاحب التفسير المعروف باسمه.
4- سورة القصص، الآية: 56.

ومن إليهم، {وَ} اذكر يا رسول اللّه {إِذْ تَقُولُ} لزيد بن حارثة الذي دعوته ابناً لك قبل نزول آية: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بالإسلام والإيمان، ومصاحبة الرسول {وَأَنْعَمْتَ} أنت {عَلَيْهِ} بالكفاية والتربية والتحرير والتعليم، وتزويجه بزينب {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} ولا تطلقها، فقد وقعت بينهما المشاجرة، فأراد زيد طلاقها - وقد تقدم أنها كانت ذات حدة في أخلاقها، كما ذكروا - والإتيان بلفظ {عَلَيْكَ} لما في الإمساك من الثقل، حتى كأنه حمل على الإنسان {وَاتَّقِ اللَّهَ} يا زيد في مفارقتها ومضارتها، ومعاشرتها، فلا تعاشرها إلّا حسناً جميلاً {وَ} قد كان اللّه سبحانه أخبر الرسول أنه سيطلق زينباً، وان الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) يتزوجها لتحطيم قاعدة (البنوة) الجاهلية، ولما كان الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) يعلم ما يحدثه هذا العمل من الضجة، في ذلك المجتمع الجديد العهد بالإسلام، خشى إظهاره؛ ولذا قال سبحانه له(صلی الله عليه وآله وسلم) و{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} يا رسول اللّه، إرادتك زواجها بأمر اللّه بعد طلاقها {مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} أي الشيء الذي اللّه يظهره بعد ذلك {وَتَخْشَى النَّاسَ}.

وقد قال بعض: كيف يخشى النبي الناس؟

فلنقل: هل كان النبي يخشى من العقرب أن تلدغه، أو السبع أن يفترسه؟ فإن قالوا: نعم، قلنا: ما الفرق حتى جوزتم تلك الخشية، ولم تجوزوا هذه الخشية، من كلام الناس وطعنهم؟ وإن قالوا: لا، قلنا: فأي دليل على أنه ينافي مقام العصمة الخشية من الضار والمؤذي، فإن ما ثبت هو أن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) معصوم، لا أنه مسلوب عنه صفات البشرية من خشية واضطراب، وجوع وعطش، وفي قصة موسى(عليه السلام): {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا}(1) و: {فَخَرَجَ مِنْهَا

ص: 129


1- سورة طه، الآية: 45.

خَائِفًا}(1)، وأما قوله: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ} فهو من باب الجناس المليح، نحو قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٖ}(2) وقول الرضا(عليه السلام): «إن كنت باكياً لشيء، فابك للحسين(عليه السلام)»(3) فإن الإنسان إذا هاج به وصف نفسي، قيل له: وجّه هذا الوصف إلى جهة أصلح، فمن هاجت به العاطفة نحو جارة، قلنا له: اعطف على ولدك، أو نقول: إن ولدك أحق بالعطف، ولا نريد بذلك أن العاطفة نحو الجار غير حسنة، وإنما نريد توجيهه نحو ما هو الأصلح بحاله {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا} أي: من زوجته زينب {وَطَرًا} أي: حاجة، بأن تم حاجته فيها، وطلقها، حيث لم يتلائما {زَوَّجْنَٰكَهَا} أي: أمرنا بتزويج زينب {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَٰجِ أَدْعِيَائِهِمْ} أي: لتكون أنت أول من ينقض هذه العادة الجاهلية عملاً؛ حتى لا يتحرج المؤمنون بعدك من أخذ زوجة المتبنى لهم {إِذَا قَضَوْاْ} أولئك الأدعياء {مِنْهُنَّ} أي: من زوجاتهم {وَطَرًا}أي: حاجة، بأن طلقوهن، فإن الطلاق لا يكون إلّا بعد عدم الرغبة، والحاجة في الزوجة {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} أي: أن الشيء الذي يريده اللّه لا بد وأن يُفعل ويُؤتى في الخارج، فتزوجها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وضمها إلى نسائه(4).

إذن، هذه الحالة من الخوف الممدوح هي حالة طبيعية لدى كل إنسان، ويظهر منه أن عظمة الرجال الأشداء ليست في أنهم لا يخافون، وإنما لأنهم يكسرون حاجز الخوف ولا يتركونه يسيطر عليهم في تقييد أفعالهم، فالخوف الذي يحدّد الإنسان ويجبّنه هو الخوف المذموم ولا بد من تجاوزه والتخلي عنه

ص: 130


1- سورة القصص، الآية: 21.
2- سورة الروم، الآية: 55.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 130.
4- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 337.

بشتى الوسائل، أما الخوف الممدوح والمطلوب بقاؤه فهو: الخوف من اللّه سبحانه وتعالى؛ إذ أية قوة تستحق أن يخشاها الإنسان في هذا الوجود، لا تساوي أي شيء أمام قوة اللّه تبارك وتعالى.

تخويف القرآن من العذاب

قال اللّه تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لِّكُلِّ عَبْدٖ مُّنِيبٖ}(1).

فإنه ليس بإمكاننا أن نقدّر مدى احتياجنا إلى رحمة اللّه تبارك وتعالى، فإن وجودنا كله مرتبط بمشيئته عزّ وجلّ، فإذا اقتضت مشيئته أن نكون عدماً محضاً فلا مانع يمنع من ذلك.

قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بَِٔاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرًا}(2).ومن المعلوم: أن هذه الأرض التي نحن عليها، نتغذى منها ونستمد مما بثّ اللّه تعالى فيها من مختلف النعم، تغمر مياه المحيطات والبحار أكثر من ثلاثة أرباعها، فمالذي يمنع هذه البحار والمحيطات أن تزحف بطوفانها على الربع المسكون فتغرقه وتجعله كأن لم يكن لو لا إرادة اللّه؟

قال سبحانه وتعالى: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ}(3).

نعم، هذا نزرٌ يسير من مظاهر احتياجنا إلى رحمة اللّه في الحياة الدنيا، فكيف بنا إذا غادرنا هذه الحياة وانتقلنا إلى الحياة الآخرة؟!

ص: 131


1- سورة سبأ، الآية: 9.
2- سورة النساء، الآية: 132-133.
3- سورة يس، الآية: 43.
القرآن ومستدعيات الخوف الحقيقي

إن الارتباط بمشيئة اللّه ورحمته في الحياة الأخرى، سوف يكون أشد وأقوى بكثير مما عليه في الحياة الدنيا، فهناك حيث الوحشة والوحدة والحساب والعقاب، حتى إن الإنسان يفرّ من عائلته وذويه، وأقربائه وأصدقائه، ويكون همه النجاة بنفسه.

قال سبحانه وتعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِيٕٖ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٖ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٖ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}(1).

إذن، هناك ما يستدعي الخوف الحقيقي؛ إذ كل ما كان يحذره الإنسان في الحياة الدنيا ويخافه لا يكون أمام أخطار الآخرة وصعوباتها إلّا كلا شيء، فلتكن لدينا وقفة تأمَّل نستحث بها أفكارنا، ونسأل: لماذا يتولد لدينا الخوف ويسيطر على تصرفاتنا بسبب قوى زائفة؟ ومن أجل قدرات زائلة؟ لا تملك أيّ اعتبار أمامتلك القوة الحقيقية والقدرة الذاتية، ألّا وهي قوة اللّه سبحانه وتعالى وقدرته الأزلية؟

فإن اللّه سبحانه وتعالى يذكّر بهذه الحقيقية في كتابه العزيز بقوله عزّ وجلّ: {ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(2).

وقال سبحانه وتعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(3).

فعلى الإنسان أن يدرك هذه الحقيقة، ويعلم أن جميع أعماله سوف تعرض

ص: 132


1- سورة عبس، الآية: 33-42.
2- سورة آل عمران، الآية: 175.
3- سورة التوبة، الآية: 13.

عليه يوم القيامة، وأن هذه الدنيا وصعوباتها هي محطة للابتلاء والاختبار لمقدار قوة إرادة الإنسان وكيفية سلوكه، يقول اللّه سبحانه وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(1).

ثمرة الخوف من اللّه تعالى

فالخوف من اللّه ومن عذاب الآخرة، الذي يحصل عليه الإنسان من خلال التدبر في آيات القرآن، يدفع بالإنسان إلى العمل الصالح، الذي يرضي اللّه ورسوله، ويسعد المؤمن في هذه الدنيا ويوم القيامة، ويجنبه العذاب والشقاء في الدارين.

إذن، فالخوف من اللّه منهج سديد وسلوك قويم، يزرع في صاحبه العفة والتقوى ويدعوه إلى الالتزام بحدود اللّه، وترك المعاصي والذنوب، والابتعاد عن الظلم والاعتداء على الآخرين.

فهذا هابيل ابن آدم(عليهما السلام) لم يقتل أخاه قابيل لأنّ الخشية من اللّه ملأت قلبه،على العكس من قابيل الذي بادر إلى قتله، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 27 لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ}(2).

وهكذا يكون الإنسان عضواً نافعاً في المجتمع إن خاف اللّه تبارك وتعالى خوفاً صادقاً، فإن الخوف من اللّه عزّ وجلّ هو من الأسباب التي تدعو الإنسان إلى احترام بني نوعه، وإلى تحمل جزء من المسؤولية تجاه نفسه والمجتمع.

ص: 133


1- سورة الملك، الآية: 2.
2- سورة المائدة، الآية: 27-28.
الدنيا والآخرة في القرآن

ثم إن الذي يفصل بين حياته اليوم، وبين حياته غداً، لا يستطيع أن يؤمن بتأثير عمله وسلوكه الفعلي في حياته المستقبلية.

كما إن الذي يفصل بين نفسه، وبين الطبيعة والمجتمع، لا يستطيع أن يفهم التأثير المتبادل بينهما، فكما أن الطبيعة والمجتمع لهما تأثير عليه، فكذلك أعماله لها تأثير على الطبيعة والمجتمع، والتدبر في القرآن يورث وجداناً واعياً يعي هذا التأثير والترابط، والوجدان الواعي يدعو إلى الإيمان، الذي هو أعلى درجات الكمال والوعي، فالإيمان باللّه يقف في أعلى درجات الكمال الإنساني؛ لأنه يولّد لدى الإنسان شعوراً خاصاً بقدرة اللّه سبحانه وتعالى، وإحساساً كبيراً بتحقق اليوم الآخر - اليوم الذي تعرض فيه الأعمال ويكون به الحساب والجزاء، ثم الثواب أو العقاب - وبذلك يسعى الإنسان لاكتساب الفضائل واجتناب الرذائل؛ لأنه لا يرى أحداث الحياة من خلال محيطه ومجتمعه - أو المجتمع البشري - وحده، بل يراها من خلال الكون وحركته المنتظمة الهادفة، كما أنه لا يرى مسيرة حياته إلى حين الموت فقط، وإنما يراها متعدية إلى ما بعد الموتوالمراحل العليا للحياة الآخرة، السائرة في اتجاه الكمال المطلق، يعني إلى اللّه سبحانه وتعالى.

فمن هنا تكون مسؤولية المؤمن باللّه واليوم الآخر أكبر وأوسع من غيره؛ لأنها تتجاوز حدود الحياة الدنيا لتصل إلى الحياة الآخرة، وهذا الاعتقاد الصحيح يحمله على أن يضحي بالمصالح الآنية الزائفة كسباً للمصالح الأخروية الكبرى الآتية، وحيث إنه يرى سعادته من سعادة المجتمع وشقاءه من شقائه فيسعى جادّاً في سبيل تحقيق الأهداف العليا المتمثلة برعاية مصالح الآخرين، على أن يضحي بشهواته الرخيصة ومصالحه الآنية ولا يكون كل ذلك إلّا بالتعمق والتدبر

ص: 134

في القرآن الحكيم والعمل بجميع أوامره، والانتهاء عن كل نواهيه.

القرآن يدعو إلى الأفضل

كان هناك تلميذان يسيران في طريقهما إلى المدرسة صباحاً، فشاهدا رجلاً كان قد تسلّق نخلة له ليجني الرطب، فقال أحدهما - وكان بعيداً عن تعاليم القرآن - : لنسخر من هذا الفلاح!

فقال الآخر: وكيف؟

قال: تعال معي لنخفي حذاءه وننتظره حتى ينزل، وعندما لا يجد حذاءه فسيذهب ويفتش عنه هنا وهناك فنسخر منه!

اشمأز التلميذ الآخر - الذي كان متأدباً بآداب القرآن وتعاليمه - لسماعه هذا الاقتراح وقال: لدي عمل أفضل من هذا.

فقال له الأول: وما هو؟

قال: أن نضع النقود التي أخذناها من أبوينا هذا الصباح في داخل حذاء هذا المزارع، وحين ينزل ويجدها في حذائه فإنه سيفرح كثيراً. وعندها نفرح نحن لفرحه. أليس هذا العمل أفضل من الأول؟اقتنع التلميذ الأول بكلام زميله وأختار العمل الثاني وذلك لإدراكهما المصلحة الكبرى التي تحصل من وراء هذا العمل، وهي: مصلحة تعود ليس إليهما فقط، وإنما للرجل المزارع كذلك.

فهذه النتيجة طبيعية تحصل لأناس يعيشون في مجتمع متأدب بآداب القرآن، ويعتقدون بأن الأعمال تعرض يوم القيامة على أصحابها فيجازون بها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وهذا الاعتقاد القرآني حقيقة ناصعة، تدفع الإنسان إلى ترك الأعمال الشريرة وفعل الأعمال الخيرة.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من رجلٍ علّم ولده القرآن إلّا توّج اللّه أبويه يوم

ص: 135

القيامة تاج الملك وكُسِيَا حلّتين لم ير الناس مثلهما»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنّ هذا القرآن مأدبة اللّه فتعلّموا مأدبته ما استطعتم، إنّ هذا القرآن حبل اللّه، وهو النور البيّن والشفاء النافع، عصمة لمن تمسّك به ونجاة لمن تبعه»(2).

ثمار التدبر في القرآن

كان أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) إذا أخذ مصحف القرآن قبل أن يقرأ القرآن وقبل أن ينشره يقول حين يأخذه بيمينه: «بسم اللّه، اللّهم إني أشهد أن هذا كتابك المنزل من عندك على رسولك محمد بن عبد اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وكتابك الناطق على لسان رسولك، وفيه حكمك وشرائع دينك، أنزلته على نبيك، وجعلته عهداً منك إلى خلقك وحبلاً متصلاً في ما بينك وبين عبادك، اللّهم إني نشرت عهدك وكتابك، اللّهم فاجعل نظري فيه عبادة، وقراءتي تفكراً، وفكري اعتباراً، واجعلنيممن اتعظ ببيان مواعظك فيه، واجتنب معاصيك، ولا تطبع عند قراءتي كتابك على قلبي ولا على سمعي، ولا تجعل على بصري غشاوة، ولا تجعل قراءتي قراءة لا تدبر فيها، بل اجعلني أتدبر آياته وأحكامه، آخذاً بشرائع دينك ولا تجعل نظري فيه غفلة ولا قراءتي هذرمة(3)، إنك أنت الرؤوف الرحيم»(4).

نعم، إن التعاليم الحقة التي جاء بها القرآن الكريم، إنما تحصل بالتدّبر في آياته والغوص في معانيه، علماً بأن الاعتبار بها حقّ الاعتبار، والاستفادة منها حق الاستفادة، تبدي آثارها وتعطي ثمارها لا على الفرد نفسه، بل على عموم

ص: 136


1- وسائل الشيعة 6: 168.
2- وسائل الشيعة 6: 168.
3- هذرمة: الإسراع في الكلام.
4- إقبال الأعمال 1: 110.

المجتمع ككل.

فالقرآن إذن هو منهج وسلوك، وهو يؤدي بالفرد الإنساني إلى أن يكون عضواً نافعاً في المجتمع، بعد أن ترتكز في ذهنه حالة الخوف من اللّه التي تؤدي إلى أن تكون كل أعماله محسوبة ومدروسة، سواء في وحدته وانفراده، أم في مجتمعه وذويه.

فعن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبداللّه(عليه السلام): «يا إسحاق! خف اللّه كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك»(1).

فالإنسان عندما يكون لديه تفكير كهذا، يجعل اللّه أمامه في كل صغيرة وكبيرة، ومن البديهي أن تكون أعماله حينئذ صالحة ونواياه خيرة، فتصب في خدمة الآخرين ومصلحة المجتمع مادام ارتباطه بالمجتمع، والتلميذ الذي نمتفي قلبه نيَّة الخير - كما أشرنا إليه آنفاً - لا بد وأن يكون قد استقاها من مجتمعه الخيّر ومن أبويه الصالحين.

إذن، فليكن لنا القرآن دليلاً ونوراً نستنير به في هذه الدنيا الزائلة، للفوز بالأخرى الأبدية والباقية. قال الإمام الحسن(عليه السلام): «ما بقي في الدنيا بقية غير هذا القرآن فأتخذوه إماماً يدلكم على هداكم، وإن أحق الناس بالقرآن من عمل به وإن لم يحفظه، وأبعدهم منه من لم يعمل وإن كان يقرؤه»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنّ هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد وإن جلاءها قراءة القرآن»(3).

ص: 137


1- الكافي 2: 68.
2- إرشاد القلوب 1: 79.
3- إرشاد القلوب 1: 78.

وقال ابن عباس: قارئ القرآن التابع له، لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة(1).

وفي الختام نسأل اللّه تعالى وندعوه بالمأثور من دعاء الإمام زين العابدين(عليه السلام) مردّدين: «اللّهم... واجعل القرآن وسيلة لنا إلى أشرف منازل الكرامة، وسُلّماً نعرج فيه إلى محل السلامة، وسبباً نجزى به النجاة في عرصة القيامة، وذريعة نقدم بها على نعيم دار المقامة، اللّهم صل على محمد وآله واحطط بالقرآن عنا ثقل الأوزار، وهب لنا حسن شمائل الأبرار...»(2).

من هدي القرآن الحكيم

القرآن دستور الحياة

قال اللّه تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِوَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(3).

وقال سبحانه: {وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(5).

وقال جلّ وعلا: {هَٰذَا بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(6).

ص: 138


1- إرشاد القلوب 1: 78.
2- الصحيفة السجادية: من دعاء ختم القرآن.
3- سورة المائدة، الآية: 15-16.
4- سورة الأنعام، الآية: 155.
5- سورة النحل، الآية: 44.
6- سورة الجاثية، الآية: 20.

وقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(1).

القرآن كتاب هدى ورحمة

قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰلِلْمُسْلِمِينَ}(5).

التدبر في القرآن

قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(6).

وقال سبحانه: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}(8).

ص: 139


1- سورة الزمر، الآية: 27.
2- سورة الإسراء، الآية: 82.
3- سورة البقرة، الآية: 1-2.
4- سورة الأعراف، الآية: 52.
5- سورة النحل، الآية: 89.
6- سورة محمد، الآية: 24.
7- سورة ص، الآية: 29.
8- سورة المؤمنون، الآية: 68.

وقال جلّ وعلا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}(1).

الخوف الحقيقي في القرآن

قال سبحانه: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ}(5).

وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

القرآن دستور الحياة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «القرآن على خمسة أوجه: حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال، وما آمن بالقرآن من استحل محارمه. وشر الناس

ص: 140


1- سورة النساء، الآية: 82.
2- سورة السجدة، الآية: 16.
3- سورة آل عمران، الآية: 175.
4- سورة آل عمران، الآية: 191.
5- سورة المائدة، الآية: 28.
6- سورة الأنعام، الآية: 15.

من يقرأ القرآن ولا يرعوي شيء به»(1).

وقالت السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) في خطبتها المعروفة في أمر فدك: «لله فيكم عهد قدّمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم: كتاب اللّه بيّنة بصائرها، وآي منكشفة سرائره، وبرهان متجلية ظواهره، مديم للبريّة استماعه، وقائد إلى الرضوان أتباعه، ومؤدٍ إلى النجاة أشياعه، فيه تبيان حجج اللّه المنيرة، ومحارمه المحرمّة، وفضائله المدوّنة، وجمله الكافية، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، وبيناته الجلية...»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من اتخذ قول اللّه دليلاً هدي إلى التي هي أقوم»(3).

القرآن إمام ورحمة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «عليكم بالقرآن فاتخذوه إماماً فإنه كلام رب العالمينالذي منه بدأ وإليه يعود»(4).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «نعم الشفيع القرآن لصاحبه يوم القيامة»(5).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأحداث، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا، إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم»(6).

ص: 141


1- إرشاد القلوب 1: 78.
2- علل الشرائع 1: 248.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 111.
4- كشف الغمة 2: 164.
5- نهج الفصاحة: 787.
6- الكافي 2: 600.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أونقصان من عمى»(1).

التدبر في القرآن

قال الإمام الكاظم موسى بن جعفر(عليهما السلام) عن آبائه(عليهم السلام): «سئل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عن قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا}(2) قال بيّنه تبياناً، ولا تنثره نثر الرمل، ولا تهذّه هذّ(3) الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكون هم أحدكم آخر السورة»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا لا خير في قراءة ليست فيها تدبر، ألّا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه»(5).

القرآن والخوف الحقيقي من اللّه

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من خاف اللّه أخاف اللّه منه كل شيء، ومن لم يخف اللّه أخافه اللّه من كل شيء»(6).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من عبد مؤمن تخرج من عينيه دمعة وإن كانت مثل رأس الذباب من خشية اللّه تعالى ثم تصيب شيئاً من حرّ وجهه، إلّا حرّمه اللّه تعالى على النار»(7).

ص: 142


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176، ومن خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.
2- سورة المزمل، الآية: 4.
3- الهذ: الإسراع في القطع وفي القراءة.
4- بحار الأنوار 89: 215.
5- معاني الأخبار: 226.
6- جامع الأخبار: 97.
7- المحجة البيضاء 7: 279.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن المؤمن لا يصبح إلّا خائفاً وإن كان محسناً، ولا يمسي إلّا خائفاً وإن كان محسناً، لأنه بين أمرين: بين وقت قد مضى لا يدري ما اللّه صانع به، وبين أجل قد اقترب لا يدري ما يصيبه من الهلكات»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}(2) قال: «من علم أن اللّه يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى»(3).

وقال لقمان(عليه السلام) لابنه: «يا بني خف اللّه خوفاً لو أتيته بعمل الثقلين خفت أن يعذبك، وارجُهُ رجاء لو أتيته بذنوب الثقلين رجوت أن يغفر لك»(4).

ص: 143


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 208.
2- سورة الرحمن، الآية: 46.
3- الكافي 2: 70.
4- إرشاد القلوب 1: 105.

القرآن يتحدى

المقدمة

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّۧنَ عَلَىٰ بَعْضٖ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}(1).

وفي تفسير الآية المباركة:

{وَرَبُّكَ} يا رسول اللّه {أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} فكل تحت علمه الشامل، ملائكة كانوا، أم بشراً أم جناً، وبمقتضى علمه الشامل بالبواطن، فضّل بعض النبيين على بعض، ومنه يعرف وجه تفضيل النبيين على سائر الناس؛ وإنما جيء بهذا الأمر هنا لأن سوق الآيات حول العقيدة مبدئها ورسالتها ومعادها {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّۧنَ عَلَىٰ بَعْضٖ} حيث إن نفسياتهم كانت مختلفة، بعضها أرقى من بعض {وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ} النبي(عليه السلام) {زَبُورًا} كما أتيناك القرآن، فلا مجال للكفار أن يقولوا: إن الأنبياء جاءوا بخوارق كونية، فما معنى مجيئك، بهذا الكتاب، وهلّا كان كعصى موسى(عليه السلام)، أو إبراء الأكمه والأبرص كعيسى(عليه السلام)؟(2).

فكان من أنبياء اللّه سبحانه وتعالى داود(عليه السلام) وهو من أنبياء بني إسرائيل،

ص: 144


1- سورة الإسراء، الآية: 55.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 320.

ومنهم أيضاً ابنه سليمان بن داود(عليهما السلام)، وهما(عليهما السلام) من عظام أنبياء اللّه تعالى رغم أنهما ليسا من أولي العزم؛ إذ أن أولي العزم من الأنبياء هم خمسة فقط: نبي الإسلام محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، وموسى، وعيسى، وإبراهيم، ونوح(عليهم السلام) أما سائر الأنبياء الذين يبلغ عددهم (124000) بين نبي ورسول - على القول المشهور - فليسوا بأولي العزم، حيث روي عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قوله: «إن للّه تعالى مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي، أنا سيدهم وأفضلهم وأكرمهم على اللّه عزّ وجلّ، ولكل نبي وصي أوصى إليه بأمر اللّه تعالى ذكره، وإن وصيي علي بن أبي طالب لسيدهم وأفضلهم وأكرمهم على اللّه عزّ وجلّ»(1).

وروي عن ابن عباس أنه قال: أول المرسلين آدم(عليه السلام) وآخرهم محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) وكانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، الرسل منهم ثلاثمائة وخمسة، ومنهم خمسة أولوا العزم صلوات اللّه عليهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد(عليهم السلام)، وخمسة من العرب: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد(عليهم السلام)، وخمسة عبرانيون: آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم(عليهم السلام)، وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، والكتب التي أنزلت على الأنبياء(عليهم السلام) مائة كتاب وأربعة كتب، منها على آدم خمسون صحيفة، وعلى إدريس ثلاثون، وعلى إبراهيم عشرون، وعلى موسى التوراة، وعلى داود الزبور، وعلى عيسى الإنجيل، وعلى محمد الفرقان(عليهم السلام)»(2).

وروي أيضاً: كان خمسة من الأنبياء سريانيون: آدم وشيث وإدريس ونوحوإبراهيم(عليهم السلام) وكان لسان آدم(عليه السلام) العربية وهو لسان أهل الجنة، فلما أن عصى ربه

ص: 145


1- من لا يحضره الفقيه 4: 180.
2- الاختصاص: 264.

أبدله بالجنة ونعيمها الأرض والحرث، وبلسان العربية السريانية، وقال: كان خمسة عبرانيون: إسحاق ويعقوب وموسى وداود وعيسى(عليهم السلام)، ومن العرب: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد(عليهم السلام)، وخمسة بعثوا في زمن واحد: إبراهيم وإسحاق وإسماعيل ويعقوب ولوط(عليهم السلام)، بعث اللّه إبراهيم وإسحاق(عليهما السلام) إلى الأرض المقدسة، وبعث يعقوب(عليه السلام) إلى أرض مصر، وإسماعيل(عليه السلام) إلى أرض جرهم، وكانت جرهم حول الكعبة سكنت بعد العماليق؛ وسموا عماليق لأن أباهم كان عملاق بن لود بن سام بن نوح صلى اللّه عليهم، وبعث لوط إلى أربع مدائن: سدوم وعامور وصنعا وداروما، وثلاثة من الأنبياء ملوك: يوسف وداود وسليمان(عليهم السلام)، وملك الدنيا مؤمنان وكافران فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان(عليهما السلام)، وأما الكافران: فنمرود بن كوش بن كنعان، وبخت نصر(1).

ومما يشير إلى عدد الأنبياء ما روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «من أحب أن يصافحه مائة ألف نبي وعشرون ألف نبي فليزر قبر الحسين بن علي(عليهما السلام) في النصف من شعبان؛ فإن أرواح النبيين(عليهم السلام) تستأذن اللّه في زيارته فيؤذن لهم»(2).

وعلى قول آخر فإن عدد الأنبياء(عليهم السلام) (320000) نبي ورسول. فقد روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال أبوذر: يا رسول اللّه، كم بعث اللّه من نبي؟

فقال: ثلاثمائة ألف نبي وعشرون ألف نبي.

قال: يا رسول اللّه، فكم المرسلون؟

فقال: ثلاثمائة وبضعة عشر.

قال: يا رسول اللّه، فكم أنزل اللّه تعالى من كتاب؟

ص: 146


1- الاختصاص: 264.
2- تهذيب الأحكام 6: 48.

فقال: مائة وأربعة وعشرون كتاباً، أنزل على إدريس(عليه السلام) خمسين صحيفة وهو أخنوخ، وهو أول من خط بالقلم، وأنزل على نوح(عليه السلام) عشر صحائف، وأنزل على إبراهيم(عليه السلام) عشراً، وأنزل التوراة على موسى(عليه السلام)، والزبور على داود(عليه السلام)، والإنجيل على عيسى(عليه السلام)، والقرآن على محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)»(1).

وعلى قول آخر: إن عددهم(عليهم السلام) (144000) نبي، كما روي عن صفوان بن مهران الجمال، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال لي: «يا صفوان، هل تدري كم بعث اللّه من نبي؟». قال: قلت: ما أدري. قال: «بعث اللّه مائة ألف نبي وأربعة وأربعين ألف نبي، ومثلهم أوصياء، بصدق الحديث وأداء الأمانة والزهد في الدنيا، وما بعث اللّه نبياً خيراً من محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ولا وصياً خيراً من وصيه(عليه السلام)»(2).

إذن، كما أن بعض الأنبياء والرسل(عليهم السلام) مفضّل على بعض كما قال سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٖ}(3) حيث فيهم أفضلهم وهم أولوا العزم، وهم أصحاب الشرائع والعزائم، كما ورد في الروايات الشريفة، فقد ورد عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «سادة النبيين والمرسلين خمسة وهم أُولو العزم من الرسل وعليهم دارت الرحى، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى اللّه عليه وآله وعلى جميع الأنبياء»(4).

أما ما وجه تسمية هؤلاء الأنبياء الخمسة بأولي العزم، فذلك مما بينتهالروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، فقد ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «إنما سمي أولو العزم أولي العزم لأنهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع، وذلك

ص: 147


1- الاختصاص: 264.
2- الاختصاص: 263.
3- سورة البقرة، الآية: 253.
4- الكافي 1: 175.

أن كل نبي كان بعد نوح(عليه السلام) كان على شريعته ومنهاجه، وتابعاً لكتابه إلى زمان إبراهيم الخليل(عليه السلام)، وكل نبي كان في أيام إبراهيم وبعده كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه، وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى(عليه السلام)، وكل نبي كان في زمن موسى(عليه السلام) وبعده كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى أيام عيسى(عليه السلام)، وكل نبي كان في أيام عيسى(عليه السلام) وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، فهؤلاء الخمسة هم أولوالعزم، وهم أفضل الأنبياء والرسل(عليه السلام) وشريعة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده إلى يوم القيامة، فمن ادعى بعد نبينا أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه»(1).

أنبياء اللّه وكتب السماء

ثم إن الأنبياء(عليهم السلام) على قسمين:

1- قسم منهم من أنزل اللّه سبحانه عليه كتباً تشريعية تحتوي على أحكام اللّه وحدوده، مثل:

آدم وإبراهيم وإدريس(عليهم السلام)، كما روي في تفسير الآية المباركة: {صُحُفِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ}(2)، وفي هذه الآية دلالة على أن إبراهيم(عليه السلام) كان قد أنزل عليه الكتاب، خلافاً لمن يزعم أنه لم ينزل عليه كتاب. وواحدة الصحف: صحيفة.

وروي عن أبي ذر أنه قال: قلت: يا رسول اللّه! كم الأنبياء؟

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً».

قلت: يا رسول اللّه! كم المرسلون منهم؟

ص: 148


1- علل الشرائع 1: 122.
2- سورة الأعلى، الآية: 19.

قال:«ثلاثمائة وثلاثة عشر، وبقيتهم أنبياء».

قلت: كان آدم(عليه السلام) نبياً؟

قال: «نعم، كلمه اللّه، وخلقه بيده. يا أبا ذر! أربعة من الأنبياء عرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك».

قلت: يا رسول اللّه! كم أنزل اللّه من كتاب؟

قال: «مائة وأربعة كتب، أنزل اللّه منها على آدم(عليه السلام) عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أول من خط بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان».

وفي الحديث أنه كان في صحف إبراهيم(عليه السلام): ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه، عارفاً بزمانه، مقبلاً على شأنه. وقيل: إن كتب اللّه كلها أنزلت في شهر رمضان(1).

وتوراة موسى(عليه السلام) وإنجيل عيسى(عليه السلام).

وكتاب المجوس الذي يسمى (جاماسب) كما ورد في بعض الروايات حيث روي عن الإمام الباقر(عليه السلام): «والمجوس تؤخذ منهم الجزية؛ لأن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، وكان لهم نبي اسمه: دامسب فقتلوه، وكتاب يقال له:جاماسب، كان يقع في اثني عشر ألف جلد ثورٍ فحرقوه»(2).

وفي نص آخر عنه(عليهم السلام) قال: «المجوس تؤخذ منهم الجزية؛ لأن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، وكان لهم نبي اسمه: داماست فقتلوه، وكتاب

ص: 149


1- تفسير مجمع البيان 10: 332.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 53.

يقال له: جاماست كان يقع في اثني عشر ألف جلد ثور فحرقوه»(1).

ولعل هذا الاسم (جاماست) كان على حسب اللغة العربية، و(أوستا) كان على لغة غير العرب(2).

2- وقسم آخر منهم من لم يكن له كتاب وإنما كانت نبوته امتداداً لنبوة سابقة، كالأنبياء الذي جاءوا من بعد النبي عيسى(عليه السلام) حيث كانوا يعملون بما أتى به عيسى(عليه السلام) ويأخذون بتعاليمه.

ثم استمر الحال على ذلك إلى أن بعث اللّه تعالى خاتم الأنبياء محمد بن عبد اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) حيث به وبكتابه اختتمت الأديان والكتب، وتعين القرآن هو الكتاب الإلهي، والقانون السماوي، والدستور الشرعي للحياة، الذي يحتوي على كل شيء. حيث قال تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(3).

ومن بعده جاء الأئمة الأطهار(عليهم السلام) يواصلون طريقة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بنفس الكتاب ونفس التشريع، ونفس الأخلاق ونفس السيرة. فقد روي عن أبي جعفر عن أبيه(عليهما السلام) قال: «ما بعث اللّه نبياً إلّا أعطاه من العلم بعضه ما خلا النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فإنهأعطاه من العلم كله فقال: {تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ}(4) وقال: {وَكَتَبْنَا لَهُ} لموسى {فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٖ}(5) و: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَٰبِ}(6) ولم يخبر أن

ص: 150


1- وسائل الشيعة 15: 127.
2- اختلف في اسم نبي المجوس واسم كتابهم، للمزيد انظر: جواهر الكلام 21: 227.
3- سورة النحل، الآية: 89.
4- سورة النحل، الآية: 89.
5- سورة الأعراف، الآية: 145.
6- سورة النمل، الآية: 40.

عنده علم الكتاب والمن لا يقع من اللّه على الجميع، وقال لمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم): {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(1) فهذا الكل ونحن المصطفون، وقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): رب زدني علماً، فهي الزيادة التي عندنا من العلم الذي لم يكن عند أحد من الأوصياء والأنبياء ولا ذرية الأنبياء غيرنا، فهذا العلم علمنا البلايا والمنايا وفصل الخطاب»(2).

القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية

اشارة

لا يخفى أن أهم كتب السماء من بين كتب الأنبياء(عليهم السلام) هو القرآن الكريم، ثم إن بين القرآن وسائر الكتب فرقاً رئيسياً وهو: أن كتبهم جاءت لزمن محدود، وعصر مؤقت؛ لأنها كانت في مجال إعداد، وفي ظرف تمهيد لمجيء الدين السماوي الكامل، حتى جاء الإسلام ومعه القرآن الحكيم وهو الدين الأبدي، والقانون الدائم للحياة، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(3).

نعم، إن القرآن الحكيم هو الكتاب التام الكامل، والمعجزة السماوية الخالدة، إنه هدى لكل الخلق، وإرشاد لجميع الناس في كل زمان ومكان، وهوالقانون الإلهي الثابت، والدستور السماوي الدائم في الأرض إلى يوم القيامة؛ ولذا لم يشر القرآن الكريم إلى حفظ الكتب السماوية السابقة من يد التحريف والتزييف، ولا إلى بقائها بعيدة عن التبديل والتغيير، بل بالعكس فقد صرّح القرآن الكريم بأن تلك الكتب قد حرّفت وبدّلت، فإن الزبور والتوراة والإنجيل

ص: 151


1- سورة فاطر، الآية: 32.
2- تفسير فرات الكوفي: 145.
3- سورة آل عمران، الآية: 85.

جميعاً محرّفة، كما يشير إلى ذلك قوله عزّ وجلّ: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ}(1). يعني: {الْكَلِمَ} جمع كلمة و{عَن مَّوَاضِعِهِ} أي: وتحريفهم الكلم على قسمين: قسم بمحو بعض التوراة واثبات غيره مكانه، وقسم بتأويله على غير المعنى المقصود منه(2).

وقوله سبحانه وتعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٖ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(3). والمراد بقوله تعالى: {نُنسِهَا} أي: نترك الكتاب حتى يضمحل ويذهب، ويبيد ويُنسى عند البشر. وإنما يقع النسخ والإنساء في ما يؤتى بالمثل؛ لأن المثل أصلح من المنسوخ والمنسي؛ فمثلاً: إذا سقطت ورقة مالية عن الاعتبار فيأتي الحاكم بورقة أخرى مثلها في القيمة، كما أنه قد يأخذ درهماً من زيد ليعطيه بدله ديناراً و: {أَلَمْ تَعْلَمْ} أيها اليهودي المنكر للنسخ {أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} فإن اليهود كانوا يلقون الشبهة بأنه كيف يمكن نسخ كتابهم بالقرآن، وأنه إن كان كتابهم صالحاً فلماذا ينسخ، وإن لم يكن صالحاً فلماذا أنزله اللّه تعالى؟!

وقد كان الجواب: إن عدم النسخ إما لعدم مثل أو أصلح، وإما لعدم قدرة اللّهتعالى على النسخ، وكِلا الأمرين مفقودان؛ فالمثل والأصلح موجودان واللّه على كل شيء قدير(4).

إذن: فالصيغة الأخيرة الكاملة لتوجيهات السماء إلى الأرض، والدستور

ص: 152


1- سورة المائدة، الآية: 13.
2- انظر: تفسير تقريب القرآن 1: 618. وللتفصيل في إثبات تحريف التوراة والإنجيل انظر: كتاب (الهدى إلى دين المصطفى) و(الرحلة المدرسية) و(التوحيد والتثليث) للشيخ محمد جواد البلاغي(رحمه الله).
3- سورة البقرة، الآية: 106.
4- انظر: تفسير تقريب القرآن 1: 165.

الكامل والشامل لكل مجالات الحياة وتطورات الزمن، هو: القرآن الكريم، وقد تعلقت إرادة اللّه جلّ شأنه بحفظه وبقائه بعيداً عن التحريف والتبديل، حيث قال جلّ وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَٰفِظُونَ}(1).

فقد سمي القرآن ذكراً لأنه يذكّر الإنسان بالعقيدة والنظام مما فطر في جبلة الإنسان لكنه ذهل عنه {وَإِنَّا لَهُ لَحَٰفِظُونَ} من التغيير والتحريف والزيادة والنقصان، والذي اعتقده وفاقاً لغير واحد من علمائنا الأخيار أن هذا القرآن الذي هو بأيدينا اليوم بين الدفتين هو عين ما انزل بلا أيّ تغيير أو تبديل، وأن السور والآيات إنما رتبت كما أمر الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، وإن كان النزول مختلفاً، والرسول لم يفعل هذا الترتيب إلّا بأمر اللّه سبحانه، كما قال سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(2) وهكذا كان اعتقاد والدي(رحمه الله)، كما ذكره في نشرة (أجوبة المسائل الدينية) الكربلائية، وذكرت طرفاً من الكلام في أوائل نشرة (الأخلاق والآداب) الكربلائية، في تفسيري لسورة الحمد وبعض سورة البقرة(3).

وصية الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) بالقرآن والعترة

أوصى رسول الإسلام(صلی الله عليه وآله وسلم) بالقرآن الكريم وأمر بالتمسك به والعمل عليهكقانون دائم يتبعه الناس كافة إلى يوم القيامة، كما أوصى بأهل بيته المعصومين(عليهم السلام) وأمر بالاعتصام بحبلهم، والطاعة لهم، كمفسّرين مطّلعين على ما جاء به القرآن الحكيم من أحكام وتعاليم، فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، وهو كتاب اللّه

ص: 153


1- سورة الحجر، الآية: 9.
2- سورة النجم، الآية: 3-4.
3- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 156.

حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني في عترتي»(1).

وبذلك يكون قانون الإسلام هو الحاكم إلى يوم القيامة، فحلال محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق(صلی الله عليه وآله وسلم) إنه قال: «إن اللّه بعث محمداً نبيا فلا نبي بعده، أنزل عليه الكتاب فختم به الكتب فلا كتاب بعده، أحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم»، ثم أومأ بيده إلى صدره وقال: «نحن نعلمه»(2).

وروي عن الإمام أبي محمد العسكري(عليه السلام) أنه قال:

«كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا: سحر مبين تقوله، فقال اللّه: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ}(3) أي: يا محمد، هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطعة التي منها: ألف لام ميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثم بيّن أنهم لا يقدرون عليه بقوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْكَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا}(4) ثم قال اللّه: {الم}، هو القرآن الذي افتتح بألم هو {ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ} الذي أخبرت به موسى فمن بعده من الأنبياء، فأخبروا بني إسرائيل: أن سأنزله عليك يا محمد كتاباً عزيزاً {لَّا يَأْتِيهِ الْبَٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا

ص: 154


1- الطرائف 1: 115.
2- كشف الغمة 2: 197.
3- سورة البقرة، الآية: 1-2.
4- سورة الإسراء، الآية: 88.

مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٖ}(1)،{لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ}(2) لا شك فيه؛ لظهوره عندهم كما أخبرهم به أنبياؤهم: أن محمداً ينزل عليه كتاب لا يمحوه الباطل يقرؤه هو وأمته على سائر أحوالهم {هُدًى} بيان من الضلالة {لِّلْمُتَّقِينَ} الذين يتقون الموبقات، ويتقون تسليط السفه على أنفسهم، حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضا ربهم.

قال: وقال الصادق(عليه السلام): ثم الألف حرف من حروف قول اللّه، دل بالألف على قولك: اللّه، ودل باللام على قولك: الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين، ودل بالميم على أنه المجيد المحمود في كل أفعاله، وجعل هذا القول حجة على اليهود؛ وذلك أن اللّه لما بعث موسى بن عمران ثم من بعده من الأنبياء إلى بني إسرائيل، لم يكن فيهم أحد إلّا أخذوا عليهم العهود والمواثيق ليؤمنن بمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) العربي الأمي المبعوث بمكة، الذي يهاجر إلى المدينة يأتي بكتاب من الحروف المقطعة افتتاح بعض سوره، يحفظه أمته فيقرءونه قياماً وقعوداً ومشاة وعلى كل الأحوال، يسهل اللّه عزّ وجلّ حفظه عليهم، ويقرنون بمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) أخاه ووصيه علي بن أبي طالب(عليه السلام) الآخذ عنه علومه التي علمها والمتقلد عنه الأمانة التي قدرها، ومذلل كل من عاند محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) بسيفه الباتر،ويفحم كل من جادله وخاصمه بدليله القاهر، يقاتل عباد اللّه على تنزيل كتاب اللّه حتى يقودهم إلى قبوله طائعين وكارهين.

ثم إذا صار محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى رضوان اللّه عزّ وجلّ وارتد كثير ممن كان أعطاه ظاهر الإيمان، وحرفوا تأويلاته وغيروا معانيه ووضعوها على خلاف وجوهها،

ص: 155


1- سورة فصلت، الآية: 42.
2- سورة البقرة، الآية: 2.

قاتلهم بعد على تأويله حتى يكون إبليس الغاوي لهم هو الخاسر الذليل المطرود المغلول.

قال: فلما بعث اللّه محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) وأظهره بمكة، ثم سيره منها إلى المدينة وأظهره بها، ثم أنزل إليه الكتاب وجعل افتتاح سورته الكبرى بألم يعني: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ} وهو ذلك الكتاب الذي أخبرت أنبيائي السالفين أني سأنزله عليك يا محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) {لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ} فقد ظهر كما أخبرهم به أنبياؤهم: أن محمداً ينزل عليه كتاب مبارك لا يمحوه الباطل، يقرؤه هو وأمته على سائر أحوالهم، ثم اليهود يحرفونه عن جهته، ويتأولونه على غير وجهه، ويتعاطون التوصل إلى علم ما قد طواه اللّه عنهم من حال آجال هذه الأمة، وكم مدة ملكهم، فجاء إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) منهم جماعة، فولى رسول اللّه علياً(عليه السلام) مخاطبتهم، فقال قائلهم: إن كان ما يقول محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) حقاً لقد علمنا كم قدر ملك أمته، هو إحدى وسبعون سنة، الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون؟

فقال علي(عليه السلام): فما تصنعون ب{المص}(1)، وقد أنزل عليه؟ قالوا: هذه إحدى وستون ومائة سنة.

قال: فما ذا تصنعون ب{الر}(2) وقد أنزلت عليه؟ فقالوا: هذه أكثر؛ هذهمائتان وإحدى وثلاثون سنة.

فقال علي(عليه السلام): فما تصنعون بما أنزل عليه {المر}(3)؟ قالوا: هذه مائتان وإحدى وسبعون سنة.

ص: 156


1- سورة الأعراف، الآية: 1.
2- سورة يونس، الآية: 1.
3- سورة الرعد، الآية: 1.

فقال علي(عليه السلام): فواحدة من هذه له، أو جميعها له؟ فاختلط كلامهم فبعضهم قال له: واحدة منها، وبعضهم قال: بل يجمع له كلها، وذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة، ثم يرجع الملك إلينا، يعني إلى اليهود.

فقال علي(عليه السلام): أ كتاب من كتب اللّه نطق بهذا، أم آراؤكم دلتكم عليه؟! فقال بعضهم: كتاب اللّه نطق به، وقال آخرون منهم: بل آراؤنا دلت عليه، فقال علي(عليه السلام): فأتوا بالكتاب من عند اللّه ينطق بما تقولون؟ فعجزوا عن إيراد ذلك وقال للآخرين: فدلونا على صواب هذا الرأي؟ فقالوا: صواب رأينا دليله: أن هذا حساب الجمل.

فقال علي(عليه السلام): كيف دل على ما تقولون وليس في هذه الحروف إلّا ما اقترحتم بلا بيان، أرأيتم إن قيل لكم: إن هذه الحروف ليست دالة على هذه المدة لملك أمة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ولكنها دلالة على أن كل واحد منكم قد لعن بعدد هذا الحساب، أو أن عدد ذلك لكل واحد منكم ومنا بعدد هذا الحساب دراهم أو دنانير، أو أن لعلي على كل واحد منكم دين عدد ما له مثل عدد هذا الحساب؟

قالوا: يا أبا الحسن، ليس شيء مما ذكرته منصوصاً عليه في {الم} و{المص} و{الر} و{المر}؟

فقال علي(عليه السلام): ولا شيء مما ذكرتموه منصوص عليه في {الم} و{المص} و{الر} و{المر}؟ فإن بطل قولنا لما قلنا بطل قولك لما قلت؟فقال خطيبهم ومنطيقهم: لا تفرح يا علي؛ بأن عجزنا عن إقامة حجة في ما تقولهن على دعوانا فأي حجة لك في دعواك، إلّا أن تجعل عجزنا حجتك، فإذاً ما لنا حجة في ما نقول ولا لكم حجة في ما تقولون؟

قال علي(عليه السلام): لا سواء، إن لنا حجة هي المعجزة الباهرة، ثم نادى جمال اليهود: يا أيتها الجمال، اشهدي لمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ولوصيه، فتبادر الجمال: صدقت

ص: 157

صدقت، يا وصي محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكذب هؤلاء اليهود.

فقال علي(عليه السلام): هؤلاء جنس من الشهود، يا ثياب اليهود التي عليهم، اشهدي لمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ولوصيه، فنطقت ثيابهم كلها: صدقت صدقت يا علي، نشهد: أن محمداً رسول اللّه حقاً، وأنك يا علي وصيه حقاً، لم يثبت محمداً قدماً في مكرمة إلّا وطئت على موضع قدمه بمثل مكرمته؛ فأنتما شقيقان من إشراق أنوار اللّه، فميزتما اثنين، وأنتما في الفضائل شريكان إلّا أنه لا نبي بعد محمد(صلی الله عليه وآله وسلم).

فعند ذلك خرست اليهود، وآمن بعض النظارة منهم برسول اللّه، فغلب الشقاء على اليهود وسائر النظارة الآخرين؛ فذلك ما قال اللّه: {لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ} أنه كما قال محمد ووصي محمد عن قول محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) عن قول رب العالمين، ثم قال: {هُدًى} بيان وشفاء {لِّلْمُتَّقِينَ} من شيعة محمد وعلي، أنهم اتقوا أنواع الكفر فتركوها، واتقوا الذنوب الموبقات فرفضوها، واتقوا إظهار أسرار اللّه وأسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) فكتموها، واتقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقين لها وفيهم نشروها»(1).

نعم إن القرآن الكريم والعترة الطاهرة هما الثقلان اللذان تركهما وخلفهما رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في أمته، وقد تحدى اللّه عزّ وجلّ بهما الناس أجمعين، فلايمكن لأحد أن يأتي بمثل القرآن، ولا بمثل أهل البيت(عليهم السلام).

إعجاز القرآن
اشارة

قال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَٰلَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا

ص: 158


1- معاني الأخبار: 24.

لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الظَّٰلِمِينَ}(1).

كان القرآن الكريم منذ بداية نزوله كتاباً معجزاً، يتحدى كل البشر إلى يوم الحشر بالإتيان ولو بسورة من مثله، وظل كذلك إلى يومنا هذا، ولسوف يبقى كذلك إلى يوم القيامة، فهو المعجزة الخالدة، وليس كسائر المعجزات الآنية التي تظهر بين الحين والآخر، ثم تختفي، ولا مثل المخترعات التي تأتي لفترة ثم يأتي شيء آخر أفضل منه.

مثلاً: عندما اخترع الأمريكيون جهاز الحاسوب، كان في أول الأمر شيئاً مدهشاً، لكن بعد مدة قليلة اخترع اليابانيون حاسوباً أحسن من حاسوب الأمريكيين، وهكذا العالم الآن يتسابق في هذا المجال لتقديم الأفضل، وكلما جاء شيء جديد تميز عن سابقه بمواصفات ومميزات متطورة ومتقدمة جعلت السابق متأخراً عن اللاحق، فالقنبلة الذرية عندما اخترعها العالم الألماني كانت شيئاً عجيباً في وقتها، وبعد ذلك صنعوا القنبلة الهيدروجينية وهي أخطر من الذرية، وبعد ذلك صنعوا شيئاً أعظم وهو القنبلة النيترونية.

وهكذا في عالم النظريات العلمية: من طبية واقتصادية وغيرهما من سائرالعلوم الأخرى، فإنها تتطور كل يوم ويأتي العلماء بالشيء الجديد والنظرية الفضلى.

إذن: فكل اختراع جديد ينسخ ما كان قديماً من الاختراعات، وكذلك النظرية الجديدة تنسف النظرية القديمة، إلّا القرآن، فإنه غض جديد، لن يبلى ولن يفنى إلى يوم القيامة، ولن يستطيع أحد أن يأتي بمثله فكيف الإتيان بأفضل منه؟

ص: 159


1- سورة يونس، الآية: 37-39.

نعم، إن القرآن الكريم قد بقي جديداً طرياً، لا يبلى ولا يفنى مهما تطاولت العصور، وتمادت الأزمان، لأنه المعجزة الإلهية الخالدة، ولن يستطع جميع الخلق من الأولين والآخرين، من الإنس والجن مهما بلغوا من العلم والذكاء، والفطنة والكياسة، وإن كان بعضهم لبعض ظهيراً، أن يتحدّوا القرآن الكريم ويأتوا بمثله، ولا أن يحطوا من عظمته وإعجازه بتحريفه وتشويهه. قال عزّ من قائل: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}(1).

القرآن يتحدى الجميع

إن القرآن الكريم معجزة في كل جوانبه وأبعاده، كيف لا وهو المعجزة الإلهية الخالدة، وإعجازه ظاهر بيّن لا يحتاج إلى دليل وبرهان، إذ أن إعجازه واضح في كل لفظة من ألفاظه، وفي كل معنى من معانيه، وفي كل جانب من جوانبه. إنه روعة في بيانه وبلاغته، وروعة في أحكامه وقوانينه، وروعة في منهاجه وأسلوبه، وروعة في كل شيء ومعجزة خالدة فيه.

نعم، إن من أعجاز القرآن انبهار كل من يتلوه أو يستمع إليه وهو يملك بعضالإلمام باللغة العربية، وذلك في كل زمان ومكان، وبأي مستوى كان، فمعجزة القرآن معجزة متجددة أبدية، باقية وخالدة، بهرت جميع أهل الفصاحة والبلاغة، وكل العلماء والفصحاء،وحيرت أفكارهم،وأربكت عقولهم، وأدهشت ألبابهم وقلوبهم.

أجل، لقد تحدى القرآن الناس في أول نزوله، وبقي هذا التحدي كما هو إلى

ص: 160


1- سورة الإسراء، الآية: 88-89.

يومنا هذا، فلم يتمكن أحد من مقابلته، وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على خلود المعجزة القرآنية؛ إذ أنها لم تبهر العرب في أول نزول القرآن فحسب، بل بهرت الناس في كل عصر ومصر، وبقوا منبهرين غير قادرين على شيء من المقابلة وهم يسمعون آية التحدي.

آية التحدي

قال تبارك وتعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}(1).

إن القرآن ليس كلاماً عادياً، يتمكن كل أحد من الإتيان بمثله فقوله تعالى: {قُل} أي: يا رسول اللّه لهؤلاء {لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ} متعاونين بعضهم مع بعض {عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ} في جميع خصوصياتها البلاغية والمنهجية والعلمية، وسائر وجوه الإعجاز المقررة في كتب الكلام، {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} لأنه خارج عن طوقهم وقدرتهم {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا} أي معيناً، وظهراً يساعد بعضهم بعضاً، وقد مضى على القرآن ألف وأربعمائة عام، ولم يأت من يأتي بمثل القرآن، نعم جاء مسيلمة بالمضحكات، كقوله: (والنساءذات الفروج) وجاء الباب بالمبكيات كقوله: (إنا جعلناك خوصاناً خويصاً للخاوصين) أما من كان من أبلغ الناس وكان من المشركين، ففكر وقدر، ثم قال: إن هذا إلّا سحر يؤثر.

وكما أنه لم يأت بعصى موسى(عليه السلام) وإحياء عيسى(عليه السلام)، وغرق نوح(عليه السلام) أحد كذلك لم يأت بقرآن محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) أحد، و: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ مِن

ص: 161


1- سورة الإسراء، الآية: 88-89.

كُلِّ مَثَلٖ} بيّنا للناس، وجئنا بالأمثلة المختلفة في ألبسة شتى، كالإتيان بقصة موسى في سبعين لباساً، وهكذا، وهذا معنى التصريف، فإنه أن يقلب الشيء الواحد في صور شتى {فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} أي: جحوداً للحق مع إتمام الحجة عليهم.

إن اللّه أعطى القرآن إلى البشر معجزة للرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) ومنهاجاً للحياة السعيدة، وكلمة باقية يستنير بها الأقوام، ويهتدون سبيلاً، لكن الكفار الذين أبوا إلّا الجحود والتوغل في العناد، أغمضوا النظر عنه، واخذوا يتطلبون خوارق مادية لا تنفعهم في الحياة ولا تبقى مع الأجيال، وإنما طلبوها لمجرد العناد بعد وضوح الحجة(1).

نعم، لقد مرّ على هذا التحدي ألف وأربعمائة سنة، بل أكثر، وما زال قائماً باقياً يهدر في الآفاق، وينقر في الأسماع، وجميع الخلق يصغي لهذا التحدي ويخضع له مستسلماً منقاداً، خاشعاً عاجزاً، لا يجد بداً من الإذعان به، والاستسلام له.

هذا ولا يخفى أن أكثر الناس إدراكاً وفهماً لإعجاز القرآن الكريم هم العلماء والبلغاء، والأدباء والمفكرون، فإذا قارنوا بينه وبين كلام المخلوقين قالوا: أينالثرى من الثريا؟!

نعم، إن العرب المعاصرين للقرآن الحكيم على ما كانوا عليه من البلاغة والفصاحة، رأوا أنفسهم عاجزين أمام القرآن العظيم منذ أول لحظة ظهر فيها القرآن،وأيقنوا أنهم لا يتمكنون من الإتيان بمثله أبداً، وليس فقط بمثل القرآن وإنما حتى الإتيان بمثل سورة واحدة من القرآن الحكيم؛ ولذا يقول اللّه سبحانه

ص: 162


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 342.

وتعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ}(1)، ويقول عزّ وجلّ في آية أخرى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّثْلِهِ}(2)، والمعروف أن في القرآن سوراً كبيرة وسوراً قصيرة، والقصيرة منها ربما تكون سطراً واحداً، مثل سورة الإخلاص، وسورة الكوثر، كما في قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَعْطَيْنَٰكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(3)، ولم يستطع أي أحد أن يأتي بمثل هذه السورة الصغيرة.

النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) ينذر قومه

إن رسول الإسلام محمد بن عبد اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان أشرف قريش حسباً ونسباً، إنه كان من قبيلة بني هاشم التي عُرف رجالها بأنهم: سادة البطحاء، لكنه مع ذلك السؤدد والكرامة لم يكن من الأثرياء والأغنياء، ولا من أصحاب الأموال والأقطاعات، وكان طبيعة ذلك المجتمع القبلي، الذي كان يعيش فيه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مجتمعاً قاسياً غليظاً لا يؤمن إلّا بالقيم المادية، ولا يعطي وزناً إلّاللمال والثروة، في وسط هذا المجتمع القاسي والجافي، الغليظ والشديد أعلن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) عن معجزته الخالدة: القرآن الكريم، ودعاهم إلى الإيمان به، ولكن قريش حينما وجدت نفسها عاجزة عن معرفة سر القرآن وعظمته، وقد تحداها القرآن بالشيء المألوف لديها، والشائع عندها، وهو البلاغة والفصاحة، قابلته بالعداوة، وجابهته بكيل التهم، وحاولت بكل الوسائل إطفاء نوره، ومحو آثاره، عناداً ولجاجاً.

ص: 163


1- سورة البقرة، الآية: 23.
2- سورة يونس، الآية: 38.
3- سورة الكوثر، الآية: 1-3.

وإنما كان ذلك منهم عناداً ولجاجاً؛ لأنهم لما سمعوا بالقرآن أدركوا حقيقته الإعجازية، واستيقنوا عظمة بيانه، وإعجاز بلاغته، واستسلموا أمام تحدياته وأذعنوا بعجزهم عن مقابلته، ومع ذلك لم يؤمنوا به.

أقسام الحكومات في عصر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)
اشارة

ولبيان الموقف الذي اتخذه الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) مع قريش وحكومتها آنذاك، لا بد من الكلام بإيجاز عن أقسام الحكومات.

1- الحكومة الدكتاتورية: وهي التي تبتني على استبداد الشخص الحاكم، فإن فرداً واحداً يحكم إما بالتسلط، أو بالانقلاب العسكري، أو بالوراثة، أو غيرها من الأمور الاستبدادية، التي يتبعها الديكتاتور للوصول إلى الحكم، وهو يستعمل القانون كخادم لأغراضه دون أن يكون خادماً لتحقيق الغايات الرفيعة، وحماية الشعب.

2- الحكومة الأرستقراطية: وتبتني على حكم الأشراف، فإذا فرضنا بلداً فيه قبائل عديدة، ولكل قبيلة رئيس، فهؤلاء الرؤساء يجلسون في البلد في مكان خاص، ويحكمون البلاد بينهم، فلا يوجد مجلس ولا رئيس جمهورية ولا أمير يحكم، وإنما الذي يحكم هم رؤساء القبائل أو العشائر.

إلى غيرها من أقسام الحكومات(1).

النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) والوليد بن المغيرة

كانت حكومة مكة حكومة (أرستقراطية)، فقد كان فيها أربعون عشيرة بين كبيرة وصغيرة، وكان لكل واحدة منها زعيم، وهؤلاء الزعماء يجتمعون في مكان

ص: 164


1- راجع للتفصيل (الفقه، السياسة): 276 في أنواع الحكومات.

خاص يسمى (دار الندوة)(1) وكان من الزعماء رجل يدعى الوليد بن المغيرة(2)،وكان - بالإضافة إلى منصبه - يمتلك عشيرة كبيرة، وأولاداً كثيرين، وأموالاً جمة، وفي نفس الوقت كان من أبلغ العرب، وله شعر في غاية الجودة والمتانة، فقيل له: إن رجلاً يدعي أنه نبي مبعوث من قبل اللّه، فسأل: ممن هو؟

فأجابوا: من قريش.

فسأل: من هو؟

قالوا: محمد بن عبد اللّه.

ص: 165


1- وهي دار بناها قصي بن كلاب بن مرة في مكة إلى جانب الكعبة المشرفة، عندما جدد بناء البيت في القرن الثاني قبل الهجرة، وكانت تجتمع فيها قريش للمشاورة والحكومة والقضاء، فلا تزوج امرأة ولا يعقد لواء ولا يعذر غلام ولا تدرع جارية إلّا فيها، وقد سميت (ندوة) لأنهم كانوا يندون فيها للخير والشر، وهذا اللفظ مأخوذ من لفظ (الندي والنادي والمنتدى) وهو مجلس القوم الذي يندون حوله، أي: يذهبون قريباً منه ثم يرجعون. وقيل هي دار الدعوة يدعون للطعام والتدبير وغيرهما، وهذه الدار تعتبر من المسجد الحرام، وانتقلت هذه الدار بعد وفاة قصي بن كلاب إلى ابنه الأكبر عبد الدار، ثم لم تزل في أيدي بنيه حتى صارت إلى حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي فباعها من معاوية بمائة ألف درهم، فلامه معاوية على ذلك وقال: بعت مكرمة آبائك وشرفهم، فقال: ذهبت المكارم إلّا التقوى، واللّه لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر وقد بعتها بمائة ألف درهم وأشهدكم أن ثمنها في سبيل اللّه تعالى فأينا المغبون؟ وفي هذه الدار أقر مشركو مكة مقاطعة بني هاشم، وفيها أيضاً تآمر المشركون على قتل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم). انظر: معجم البلدان 2: 423 و 5: 179-186 و... .
2- هو الوليد بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم، أبو عبد شمس من قضاة العرب في الجاهلية، ومن زعماء قريش ومن زنادقتها، أدرك الإسلام وهو شيخ هرم، فعاداه وقاوم دعوته، وقد ذكر أنه هو الذي جمع قريش وقال: إن الناس يأتونكم أيام الحج فيسألونكم عن محمد، فتختلف أقوالكم فيه، فيقول هذا: كاهن، ويقول هذا: شاعر، ويقول هذا: مجنون، وليس واحد مما يقولون، ولكن أصلح ما قيل فيه (ساحر) لأنه يفرق بين المرء وأخيه والزوج وزوجته. هلك الوليد بن المغيرة بعد الهجرة بثلاثة أشهر، ودفن بالحجون وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً مجرباً من دهاة العرب يتحاكمون إليه في الأمور وينشدونه الأشعار، فما أختاره من الشعر كان مختاراً، وهو أحد المستهزئين الخمس الذين كفى اللّه شرهم. انظر: الأعلام 8: 122 والكنى والألقاب 1: 40.

ثم التقى الوليد برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وقال متسائلاً: هل تدعي أنك نبي؟

قال الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم): نعم.

قال الوليد: لو كان اللّه بعث رسولاً لبعثني أنا؛ لأني أمتلك أموالاً وأولاداً وشخصية كبيرة.

فلم يجبه الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) شيئاً وتركه، فاجتمع أشراف قريش في دار الندوة، وقالوا: ماذا تقول يا وليد في حلّ هذه المشكلة؟

قال الوليد: ما هو دليل محمد على النبوة؟

قالوا: دليله القرآن.

قال: ما هو القرآن؟

قالوا: كلمات يأتي بها ويقرأها ويقول: كلكم لا تتمكنون من الإتيان بمثل هذه الكلمات.

فطلب الوليد أن يأتوا له ببعض آياته، وجاء بعض ممن سمع القرآن وتلاه على الوليد، وعندما سمع الكلمات أنبهر الوليد وجذبته حلاوة القرآن؛ لأن مثل الوليد، وهو البليغ الفصيح، أعرف بالبلاغة والفصاحة، وأقدر على تشخيص إعجاز القرآن من غيره؛ لذلك قال: أعيدوا عليّ هذا الكلام ثانية، فإني لم أسمع كلاماً كهذا في حياتي، فأعادوا عليه الكلام، فذهب يفكّر فيه لمدة ثم قال لهم:ماذا تقولون يا معشر قريش وأشرافها فيه؟

قالوا: نقول: كاهن.

قال: لا واللّه، ما هو بكاهن؛ لأن الكاهن يتكلم بكلام خفي لا يسمع، ولا هو سجع الكاهن.

قالوا: فنقول: مجنون.

قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ومحمد ليس له حركات

ص: 166

المجنون، ولا يسير في الطرقات كالمجنون، ولا تخالجه الوسوسة، وغيرها من علامات الجنون.

قالوا: فنقول: شاعر.

قال: وما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.

قالوا: فنقول: ساحر.

قال: ما هو بساحر. لقد رأينا السحّارة وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.

قالوا: فما تقول يا وليد؟

قال: واللّه إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، فشبّه كلامه بالنخلة التي ثبت أصلها وقوي وطاب فرعها إذا جنى، ولكن أشراف قريش طلبوا من الوليد أن يقول شيئاً في رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وفي قرآنه، حتى يوصلوه إلى الناس ويبعدوهم به عن النبي وعن قرآنه.

فقال الوليد: إن أقرب القول فيه أن تقولوا أنه ساحر، فأنزل اللّه تعالى في الوليد بن المغيرة هذه الآيات: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِأيَٰتِنَا عَنِيدًا *سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}(1).

القرآن يتوعّد المفترين

نقل العلامة الطبرسي(رحمه الله) في تفسيره (مجمع البيان) سبب نزول هذه الآيات

ص: 167


1- سورة المدثر، الآية: 11-26.

من سورة المدثّر:

أنهم حينما قالوا للوليد: نقول إنه ساحر، قال: وما الساحر؟ قالوا: بشر يحببون بين المتباغضين، ويبغضون بين المتحابين، قال: فهو ساحر، فخرجوا فكان لا يلقى أحد منهم النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إلّا قال: يا ساحر، يا ساحر، واشتد عليه ذلك فأنزل اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}(1). وبعد أن بيّن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) لأصحابه الآيات وقال: «إنها نزلت في الوليد بن المغيرة» جاء إلى الوليد جماعة؛ وقالوا له: إن محمداً يقول: نزلت آيات فيك، فطلب الوليد سماعها، ولم يذهب بنفسه إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) لأنه استثقل الأمر عليه، وأراد المحافظة على شخصيته بين أشراف قريش، فجاءوا بالآيات وقرؤوها عليه، وهنا ذكر المؤرخون: إنه لما سمع الوليد الآيات أخذته رعدة شديدة وقام يرتجف ارتجافاً شديداً - كأنه مصاب بنوبة من القشعريرة - وأغمي عليه من وقع الآيات المندوة به، ولم يمر عليه أكثر من ثلاثة أيام حتى هلك، وانتقل من هذه الدار حاملاً معه أعماله السيئة، وإضلاله الناس عن الحق، وقد وعده اللّه أن يلقيه في أسفل دركات جهنم، وهي النار المسماة ب- :«سقر». وهذه الحالة إنما أصابت الوليد بعد سماعه الآيات المذكورة، لأنه بليغ وعالم بالشعر واللغة فمن الطبيعي أنه عرف أنها من كلام اللّه عزّ وجلّ، ولكنه لايتحمل كلاماً كهذا... فلم يؤمن(2).

ص: 168


1- انظر: تفسير مجمع البيان 10: 178، وشجرة طوبى 2: 230.
2- انظر: تفسير القمي 2: 393، وقد ورد في كتاب الاحتجاج سبب آخر لهلاك الوليد بن المغيرة، حيث روي أن يهودياً قال لأمير المؤمنين(عليه السلام) - في حديث - : فإن هذا موسى بن عمران قد أرسله اللّه إلى فرعون وأراه الآية الكبرى؟ فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لقد كان كذلك، ومحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) أرسل إلى فراعنة شتى مثل: أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة، وشيبة وأبي البختري والنضر بن الحرث وأبي بن خلف ومنبه ونبيه ابني الحجاج وإلى الخمسة المستهزئين الوليد بن المغيرة المخزومي والعاص بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن أبي الطلالة، فأراهم الآيات في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق». قال له اليهودي: لقد انتقم اللّه عزّ وجلّ لموسى من فرعون؟ قال له علي(عليه السلام): «لقد كان كذلك، ولقد انتقم اللّه جلّ اسمه لمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) من الفراعنة؛ فأما المستهزؤون فقال اللّه: {إِنَّا كَفَيْنَٰكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ} سورة الحجر، الآية: 95. فقتل اللّه خمستهم كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد: فأما الوليد بن المغيرة فمر بنبل لرجل من خزاعة قد راشه ووضعه في الطريق فأصابه شظية منه فانقطع أكحله حتى أدماه فمات، وهو يقول: قتلني رب محمد، وأما العاص بن وائل السهمي، فإنه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده تحته حجر فسقط فتقطع قطعة قطعة فمات وهو يقول: قتلني رب محمد، وأما الأسود بن عبد يغوث، فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة فاستظل بشجرة فأتاه جبرئيل فأخذ رأسه فنطح به الشجرة، فقال لغلامه: امنع هذا عني، فقال: ما أرى أحداً يصنع شيئاً إلّا نفسك، فقتله، وهو يقول: قتلني رب محمد، وأما الأسود بن الحرث فإن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) دعا عليه أن يعمي اللّه بصره وأن يثكله ولده، فلما كان في ذلك اليوم خرج حتى صار إلى موضع أتاه جبرئيل بورقة خضراء فضرب بها وجهه، فعمي، فبقي حتى أثكله اللّه ولده، وأما الحرث بن أبي الطلالة فإنه خرج من بيته في السموم فتحول حبشياً، فرجع إلى أهله فقال: أنا الحرث فغضبوا عليه فقتلوه، وهو يقول: قتلني رب محمد، وروي: أن الأسود بن الحرث أكل حوتاً مالحاً فأصابه غلبة العطش، فلم يزل يشرب الماء حتى انشق بطنه فمات وهو يقول: قتلني رب محمد، كل ذلك في ساعة واحدة؛ وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالوا له: يا محمد ننتظر بك إلى الظهر، فإن رجعت عن قولك وإلّا قتلناك، فدخل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) منزله فأغلق عليه بابه مغتماً لقولهم، فأتاه جبرئيل عن اللّه من ساعته، فقال: يا محمد، السلام يقرأ عليك السلام وهو يقول لك: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} سورة الحجر، الآية: 94، يعني أظهر أمرك لأهل مكة وادعهم إلى الإيمان، قال: يا جبرئيل، كيف أصنع بالمستهزئين، وما أوعدوني؟ قال له: {إِنَّا كَفَيْنَٰكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ} سورة الحجر، الآية: 95 قال: يا جبرئيل كانوا الساعة بين يدي؟ قال: كفيتهم، وأظهر أمره عند ذلك، وأما بقية الفراعنة قتلوا يوم بدر بالسيف، فهزم اللّه الجميع وولوا الدبر» انظر: الاحتجاج 1: 216.

وهكذا تحدّى القرآن الحكيم، كل شخصية كبيرة أو صغيرة، وكل بليغ وفصيح، منذ ذلك الزمان إلى يومنا هذا، مضافاً إلى أن القرآن الحكيم يحتوي على أشرف العلوم وكثير من المغيبات وما يحتاجه الإنسان لسعادته في الدنيا والآخرة فهو معجزة في ألفاظه ومعانيه، ومن ذلك اليوم وحتى يومنا هذا وما بعده لم يستطع ولن يستطيع الملحدون أو غيرهم أن يتحدّوا القرآن فيأتوا بمثله ولا

ص: 169

بعشر سور منه، بل ولا بسورة واحدة منه ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

مُفترو القرن العشرين

لقد تعصبت الجاهلية الأولى لعقيدة الآباء والأسلاف وافتروا على القرآن عناداً ولجاجاً فلم يؤمنوا به، ومضت الأعوام والقرون حتى جاءت الجاهلية الثانية، فتعصب أبناؤها كأسلافهم الأقدمين، وافتروا على القرآن عناداً وإلحاداً، وزادوا على الجاهلية الأولى، إن الأولى اكتفت بالكلام، وهؤلاء كتبوا في ذلك الكتب، وصنفوا المصنفات وأرادوا بث الشبهات حول القرآن الكريم والدين الإسلامي والرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم).

وإني أدعو جميع المنصفين، وأهل التحقيق والتدقيق إلى مراجعة تلك الكتب التي لم تدخر شتيمة إلّا ونثرتها على الإسلام والمسلمين، ولا فرية إلّا وألصقتها بالقرآن الكريم والنبي العظيم(صلی الله عليه وآله وسلم)، ومن جملة تلك الكتب، ما صدر في بلد إلحادي، وكان القائمون عليه ملحدون، وبطبيعة الحال الملحد ينكر أوضح الواضحات وهو: وجود الخالق لهذا الكون، والصانع لهذا العالم، مع إنه يستحيل أن يوجد شيء من الخلق بلا موجد ولا صانع، فكيف بهذا الكون الفسيح، والعالم الرحيب الدقيق؟ ومن ينكر الخالق لا رادع له من أن ينكر القرآن ويفتري عليه، فهو لا يؤمن بحقيقة ويرى كل شيء وهماً وخيالاً؛ ولكن القرآن الحكيم بقي معجزة يعجز الجميع عن الإتيان بمثله أو جزئه.

نعم، إن بعض الملحدين صعدوا إلى القمر وصنعوا المركبة الفضائية والطائرات وأشياء أخرى، ولكنهم في المعنويات متأخرون جداً، بل هم يكفرون بها ويحاربونها ويحاربون كل من يدعو إليها؛ ولذا حينما وجدوا أنفسهم عاجزين عن الوقوف بوجه القرآن، قالوا بتخرصات هوجاء، وأقوال باهتة خالية من الدليل والموضوعية، وبعيدة كل البعد عن المنطق والفكر الصحيح، وهذا

ص: 170

يعتبر اعتداء على مشاعر المسلمين، وانتهاك لمقدساتهم، وهذا عمل لا يمت إلى الإنسانية وإلى احترام حقوق الإنسان بصلة، لا من قريب ولا من بعيد، بل هو عمل الجاهلين الحاقدين.

الإلحاد المنّظم وحرب المقدسات

إن الملاحدة المنكرين لوجود اللّه تعالى، والمنكرين للقرآن بالتبع، كانوا موجودين في العالم دائماً وعلى مر التاريخ، ولكنهم كانوا مبعثرين، وليس لهم نظم في الصفوف، وتبليغ ودعايات للأفكار، كما نرى عليه اليوم الإلحاد الشيوعي في الاتحاد السوفيتي(1)، وما أشبه، حتى إنهم نظموا جماعات باسم الإلحاد وإنكار الخالق، وأنشئوا المراكز وفتحوا المدارس من أجل إدخال الناس في الإلحاد؛ ولذا ندعو الشباب إلى المطالعة والمعرفة، والوعي واليقظة، ليبصروا الحقائق، ويطلعوا على مكائد الملحدين، ويقفوا على كيفية ترويجهم للإلحاد، كي يأمنوا مكرهم ولا يقعوا في شباكهم، بل ويحبطوا مخططهم الإلحادي، وينقذوا الناس من فخاخهم. إن الملحدين في هذا العصر وفي وقت لا يتعدى الثلاث سنوات استطاعوا أن يزيدوا في دوائر إلحادهم ومؤسساتهمالإلحادية، وفي نشر أفكارهم المنحرفة والباطلة، وطبعوا ما يزيد على (217 كتاباً) في إنكار اللّه، وتكذيب جميع الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، والافتراء على كتب السماء وخاصة القرآن الحكيم، وهذا خطر يهدد العقل والعقلاء، والإنسان والإنسانية، فيلزم صدّه وإيقافه عند حدّه، وكشفه وفضحه(2).

ص: 171


1- أي: روسيا الفعلية فإنها كانت في زمان تأليف الكتاب تحت سيطرة الملحدين وكانت تدعى بالاتحاد السوفيتي، ومنها تسربت الأفكار الإلحادية إلى البلاد الإسلامية ومنها العراق.
2- وللإمام الشيرازي(رحمه الله) مؤلفات قيمة في هذا المجال، منها: (كيف عرفت اللّه) مطبوع عدة مرات، و: (هل تحب معرفة اللّه؟) مطبوع عدة مرات، وكثير غيرها من مؤلفاته في العقائد.
بداية التنظيم الإلحادي

اجتمع ثلاثة أشخاص من الملحدين في مكة أيام الحج لرد القرآن، وهم كما ورد في كتاب (الاحتجاج): عبد اللّه بن المقفع، وأبو شاكر الديصاني، وابن أبي العوجاء، فتوغلوا بين الحجيج لبث أفكارهم المسمومة في ما بينهم. وفكروا في أن يبطلوا الحج من خلال إبطال القرآن؛ لأنه أساس الإسلام والأحكام، والرسالة والرسول، ومكة والحج، وكل ما يمت إلى الإسلام بصلة، وكان هؤلاء الملاحدة الثلاثة فصحاء وبلغاء، ومن الذين درسوا العلوم، فقرروا أن يجتمعوا في السنة القادمة، وكل واحد منهم يأتي بمثل للقرآن كل بمقدار الثلث - أي: كل واحد منهم عشرة أجزاء - ثم يعرضون قرآنهم الجديد الذي يتحدى قرآن النبي محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) على زعماء المسلمين في مكة، ويقولون بأنهم قد تحدّوا القرآن وجاءوا بمثله.

ولكن حينما جاء موسم الحج من العام القادم، واجتمع بعضهم ببعض لم يأتوا حتى بآية واحدة مثل آيات القرآن، فقال أحدهم: إني لما طالعت القرآن بدقة علمت أنه لا أتمكن أن آتي بمثله؛ وذلك لأني وجدت في القرآن آية من المستحيل أن يأتيالبشر بمثلها، وهي التي تقول: {فَلَمَّا اسْتَئَْسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا}(1).

وهذه الآية الكريمة جاءت ضمن قصة يوسف(عليه السلام) وذلك عندما أراد إخوته أن يستبدلوا بنيامين الذي تم حجزه عنده بأحدهم، ولكنه رفض اقتراحهم ولم يستسلم لطلبهم؛ فلذا تقول الآية (فلما استيئسوا) من أن يأخذوا معهم أخاهم بنيامين (خلصوا نجياً)، وقال بعض المفسرين: إن الآية في غاية الفصاحة، وقمة البلاغة فلما يئس أخوة يوسف من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوه من أخذ

ص: 172


1- سورة يوسف، الآية: 80.

أحدهم مكانه وتخلية سبيل بنيامين ليذهب معهم {خَلَصُواْ نَجِيًّا} أي: انفردوا عن الناس من غير أن يكون معهم من ليس منهم، ليتناجوا في ما بينهم عما ينبغي لهم أن يهيّؤوه من أعذار عند ذهابهم إلى أبيهم وحدهم من غير أخيهم، وليتخذوا القرار الأخير في أنهم يرجعون أم يقيمون.

والخلاصة: انهم اعتزلوا عن الناس متناجين، وهذا اللفظ هو من جملة ألفاظ القرآن التي هي في غاية الفصاحة، ومنتهى البلاغة، إنه يحتوي على الإيجاز في اللفظ مع كثرة المعنى(1).

ولذا لم يستطع ذلك العالم الملحد، البليغ الفصيح أن يتحدى آية واحدة من القرآن فكيف بثلثه، بل أصبح الأمر لديه محالاً، لأنه أيقن بأنه معجزة، وقطع بأنه لا يتمكن من أن يأتي بمثل القرآن مع وجود مثل هذه الآية فيه.

أما الشخص الثاني فقال: إنني وعلى مرور الآنات في السنة كلما ضغطت على فكري، وأمعنت النظر في أمري، لم أتمكن من أن آتي بشيء مثل القرآن؛ لأني وجدت في القرآن ما لا أتمكن من الإتيان بمثله، فقد مرررت بما ورد فيقصة نوح من قوله تعالى: {وَقِيلَ يَٰأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَٰسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ}(2).

وهذه الآية المباركة جاءت ضمن قصة نوح(عليه السلام) وفي قضية طوفانه، وهي أيضاً من الآيات المعجزة في البلاغة والفصاحة، والتي جمعت معان كثيرة في ألفاظ وجيزة.

أما الشخص الثالث فقال: أنا مثلكما أيضاً، فأني لم أتمكن من الإتيان به،

ص: 173


1- انظر: تفسير مجمع البيان 5: 440.
2- سورة هود، الآية: 44.

لأني وجدت في القرآن آية في شأن أم موسى أعجزتني عن التحدّي، وهي قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}(1).

وهذه الآية المباركة تبين قصة موسى(عليه السلام) وكيفية ولادته وإرضاعه، وإلقائه في اليم ثم إرجاعه إلى أمه، ثم إرساله نبياً إلى فرعون، وهي أيضاً من الآيات التي جمعت في كلمات وجيزة وبليغة معان كثيرة وكبيرة.

وفي تلك الأثناء، وفي حين كان هؤلاء الملاحدة الثلاثة جالسين يتحدثون مر عليهم الإمام الصادق(عليه السلام) فتلا عليهم قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا}(2)(3).

وبتلاوته(عليه السلام) هذه الآية الكريمة عليهم، كشف عن تواطئهم على التحدي الذي قرّروه سراً بينهم، وأخبرهم أيضاً عن عجزهم على الإتيان ولو بسورة من مثله.

واجبنا تجاه القرآن الحكيم

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من قرأ القرآن حتى يستظهره ويحفظه أدخله اللّه الجنة وشفعه في عشرة من أَهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم...»(5).

ص: 174


1- سورة القصص، الآية: 7.
2- سورة الإسراء، الآية: 88.
3- انظر: الاحتجاج 2: 377، والصراط المستقيم 1: 42.
4- وسائل الشيعة 6: 169.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه.

إن القرآن الحكيم كتاب سماوي أنزله اللّه تعالى لهداية البشر، فيتوجب على جميع المسلمين المكلفين أن يقرءوه، ويتدبروا آياته، ويتعلموا أحكامه، ويطبقوه في حياتهم، حتى يستعيدوا مجدهم وعزهم، ويستنزلوا الرحمة الإلهية عليهم، ولكن الذي يؤسف له حقاً، أن نرى القرآن مهجوراً في أوساطنا، ولا سيما بين الشباب، إلى درجة أن بعضهم لا يتمكن حتى من قراءة القرآن، فضلاً عن التدبر فيه، ومطالعة تفاسيره، والالتزام بحدوده.

ومن المؤسف أيضاً أن نرى البعض قد اقتصر على مجرد التبرك بالقرآن، فتراهم يقتنونه بخط جميل، وزخارف ملونة، ثم يضعونه على أحد رفوف المنزل وكفى!

ونرى البعض أنه يكلف نفسه فقط لتعلم قراءة سورة الفاتحة وسورة الإخلاص بالصورة الصحيحة، لتكون قراءته في الصلاة صحيحة، أما أكثر من ذلك فلا يهتم.

وعليه: فاللازم إقامة المحافل العديدة لتعليم القرآن الحكيم، وإدارة مجالس تجويد القرآن الكريم، وذلك في البيوت والمساجد والحسينيات، وحتى في المدارس والجامعات، لنربي جيلنا تربية إسلامية، ونغذيه بالثقافة القرآنية، فقد كانأول ما يتعلمه آباؤنا في السابق هو القرآن الكريم، ونحن كذلك شملنا هذا التعليم؛ إذ كنا نذهب إلى الكتاتيب، فكان المدرّس يعلّمنا من أول يوم قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} ثم يعلّمنا حروف التهجئة: (ألف، باء، تاء، ثاء...). وبعده يعلّمنا سورة الحمد وسورة الإخلاص، ثم جزء عمّ، ثم جزء تبارك، ثم والذاريات، ثم ننتقل من ذلك الصف إلى الصف الآخر، وعندما ينتهي أحدنا من ختم القرآن كان يفتخر به أهله وذووه، ويقيمون له احتفالاً (زفّة) احتفاءً به وتكريماً له، ويدعون الناس إلى ذلك الاحتفال، وهذه كانت سنة إسلامية متبعة في البلاد الإسلامية تحفز الفرد المسلم على التعلم والحفظ مع التطبيق.

ص: 175

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله اللّه عزّ وجلّ مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة، يقول: يا رب، إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي فبلغ به أكرم عطاياك، - قال: - فيكسوه اللّه العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة، ويوضع على رأسه تاج الكرامة، ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب، قد كنت أرغب له في ما هو أفضل من هذا، فيعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره، ثم يدخل الجنة، فيقال له: اقرأ واصعد درجة، ثم يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول: نعم» قال: «ومن قرأه كثيرا وتعاهده بمشقة من شدة حفظه، أعطاه اللّه عزّ وجلّ أجر هذا مرتين»(1).

تعلّم القرآن وتعليمه

لقد وردت روايات عديدة تحث على تعلم القرآن وتعليمه، وحفظه وتطبيقه،فقد روي عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أفضل العبادة قراءة القرآن»(2).

وروي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «تعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص»(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «الحافظ للقرآن، العامل به، مع السفرة الكرام البررة»(4).

أما اليوم فلا نرى إلّا عكس ذلك، فالطفل يدخل المدرسة الابتدائية، ويبقى

ص: 176


1- الكافي 2: 603.
2- وسائل الشيعة 6: 168.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 110 من خطبة له(عليه السلام) في أركان الدين.
4- الكافي 2: 603.

يتدرّج في مراحل الدراسة إلى أن يتخرج من الجامعة، وهو مع ذلك لم يدرس القرآن كمنهج دراسي، والبعض الآخر لم يقرأ القرآن حتى في داخل داره، ولا في محل عمله، والبعض الآخر لا يحسن قراءته، بل لم يعرف حتى قراءته، وهذا كله في صالح من تخطيط أعداء الإسلام لإبعاد المسلمين عن القرآن، وعن وعي أفكاره، والتدبر في أحكامه. ويدل على ذلك ما نشر في كتبهم من قول أحدهم في مقال له: (إنا رأينا أن الذين قادوا الحملة ضدنا نحن المستعمرين كانوا المتدينين بقيادة علمائهم، ففكرنا في أن نفصل بين الشعب وعلمائه، ووجدنا أن أفضل وسيلة لذلك تأسيس مدارس خالية من القرآن والدين). وبذلك استطاعوا إبعاد الشباب المسلم عن القرآن والدين(1).

نعم، هناك البعض المؤمن من شبابنا يجيدون قراءة القرآن ويلتزمون بتعاليمه، لكنهم لم يتعلموا قراءته ولم يلتزموا بتعاليمه عن طريق المدارس، وإنما عن طريق الوالدين أو أقاربهم المتدينين أو هيئات القرآن الحكيم في المساجد والمدارس، فجزاهم اللّه خيراً.

القرآن مصدر التقدّم والتطور

قيل لأبي الحسن الأول(عليه السلام): جعلت فداك، أخبرني عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) ورث النبيين كلهم؟

قال: «نعم».

قلت: من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه؟

ص: 177


1- راجع حول ذلك كتاب: (مذكرات المس بيل) والتي كانت في العراق قبل ثورة العشرين، و(مذكرات كينياز دالكوركي) و(بروتوكولات حكماء صهيون) للوقوف على خطر اليهود ومخططاتهم في العالم، وكتاب: (التبشير والاستعمار)، وكل هذه الكتب تحتوي على خطط الغربيين والشرقيين واليهود والصليبيين وعملائهم في البلاد الإسلامية.

قال: «ما بعث اللّه نبياً إلّا ومحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) أعلم منه».

قلت: إن عيسى بن مريم كان يحيي الموتى بإذن اللّه؟

قال: «صدقت، وسليمان بن داود كان يفهم منطق الطير، وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقدر على هذه المنازل». فقال: «إن سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده وشك في أمره، {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}(1) حين فقده، فغضب عليه، فقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَاْذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَٰنٖ مُّبِينٖ}(2)؛ وإنما غضب لأنه كان يدله على الماء، فهذا وهو طائر قد أعطي ما لم يعط سليمان، وقد كانت الريح والنمل والإنس والجن والشياطين والمردة له طائعين، ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء وكان الطير يعرفه، وإن اللّه يقول في كتابه:{وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ}(3) وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه: ما تسير به الجبال، وتقطع به البلدان، وتحيا به الموتى، ونحن نعرف الماء تحت الهواء، وإن في كتاب اللّه لآيات ما يراد بها أمرٌ إلّا أن يأذن اللّه به مع ما قد يأذن اللّه مما كتبه الماضون، جعله اللّه لنا في أم الكتاب، إن اللّه يقول: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٖ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ}(4) ثم قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(5) فنحن الذين اصطفانا اللّه عزّ وجلّ وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شيء»(6).

ص: 178


1- سورة النمل، الآية: 20.
2- سورة النمل، الآية: 21.
3- سورة الرعد، الآية: 31.
4- سورة النمل، الآية: 75.
5- سورة فاطر، الآية: 32.
6- الكافي 1: 226.

إذن القرآن الكريم هو المصدر الأساسي للتقدم والتطور والسعادة في الدنيا والآخرة. وإذا أردنا أن نعرف شيئاً عن مكائد أعداء الإسلام ومخططاتهم الشيطانية تجاه المسلمين، نرى كيف أنهم يحاربون القرآن ويسعون لإبعاد الأمة عنه، ننقل هذا الكلام عن أحد رؤوسهم؛ ليكون شبابنا على معرفة بأهمية القرآن الكريم، وضرورة التدبر فيه والعمل به، لنهوض أمتنا الإسلامية؛ إذ في القرآن يكمن سر قوتنا وتقدمنا، فقد قال هذا الشخص في أحد مجالسهم التآمرية والقرآن بيده: (إذا أردتم أن تترسخ أقدامكم في البلاد الإسلامية فعليكم أن تأخذوا هذا الكتاب من يد المسلمين؛ لأن هذا الكتاب مبعث الاقتصاد، مبعث السيادة، مبعث العزم، مبعث الاجتماع، مبعث العائلة، مبعث التربية، مبعث تمام فكر المسلمين).

نعم، أدرك أعداء الإسلام أن القرآن الحكيم هو مصدر عزنا وكرامتنا، ورمز تقدمنا وتطورنا، فخطّطوا وبكل دقة مهارة للحيلولة بيننا وبينه، ولذا يتوجب على أبناء الأمة الإسلامية، الرجوع إلى القرآن الكريم، والجدّ في تعلّمه وتطبيق أحكامه، وإدخاله ضمن مناهج التعليم لكل المراحل الدراسية، وإقامة محافل القرآن في المساجد والحسينيات، والدور والبيوت، وإعطاء الأهمية القصوى لقراءة القرآن وتجويده وحفظه وإتقانه، وتعلمه وتدبره، ومعرفة أحكامه وتطبيقه؛ لأن القرآن كتاب حياة وتقدم وعزة وسيادة في الدنيا والآخرة، وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «اللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(1).

«اللّهم انفعنا بالقرآن العظيم، وأهدنا بالآيات والذكر الحكيم... اللّهم اجعلنا ممن يعتقد تصديقه، ويقصد طريقه، ويرعى حقوقه، ويتبع مفترض أوامره،

ص: 179


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه لعنه اللّه ابن ملجم.

ويرتدع منهي زواجره، ويستضيء بنور بصائره، ويقتني بأجر ذخائره، برحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

من هدي القرآن الحكيم

بعثة الأنبياء وبعض أهدافها

قال اللّه تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(2).

وقال سبحانه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(3).وقال عزّ وجلّ: {رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(4).

القرآن يتحدى الجن والأنس

قال جلّ وعلا: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٖ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٖ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}(5).

وقال اللّه تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا}(6).

ص: 180


1- بحار الأنوار 89: 369.
2- سورة الحديد، الآية: 25.
3- سورة هود، الآية: 88.
4- سورة الطلاق، الآية: 11.
5- سورة هود، الآية: 13-14.
6- سورة الإسراء، الآية: 88.

وقال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٖ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(2).

قال جلّ وعلا: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(3).

صيانة القرآن من التحريف

قال اللّه تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَٰفِظُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٌ * لَّا يَأْتِيهِ الْبَٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٖ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}(7).

ص: 181


1- سورة الطور، الآية: 33-34.
2- سورة يونس، الآية: 38.
3- سورة البقرة، الآية: 23.
4- سورة الحجر، الآية: 9.
5- سورة فصلت، الآية: 41-42.
6- سورة النساء، الآية: 82.
7- سورة الأعراف، الآية: 52-53.
التدبر في القرآن

قال اللّه تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1).

وقال سبحانه: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

الشمولية والتكامل في القرآن

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذيلايغش، والهادي الذي لايضل، والمحدث الذي لايكذب»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ}(5) يعني: القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه؟ قال: «لا يأتيه الباطل من قبل التوراة، ولا من قبل الإنجيل والزبور، وأما من خلفه لا يأتيه من بعده كتاب يبطله»(6).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام) لما سأله رجل وقال: ما بال القرآن لايزداد عند النشر والدراسة إلّا غضاضة(7)؟ فقال(عليه السلام): «لأن اللّه لم ينزله لزمان دون زمان، ولا

ص: 182


1- سورة المائدة، الآية: 15- 16.
2- سورة ص، الآية: 29.
3- سورة محمد، الآية: 24.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176، ومن خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.
5- سورة فصلت، الآية: 41.
6- تفسير القمي 2: 266.
7- شيء غضّ: أي طري.

لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام) عند ذكر القرآن الكريم فعظّم الحجة فيه والآية والمعجزة في نظمه: «هو حبل اللّه المتين - إلى أن قال: - لا يخلق على الأزمنة، ولا يغث على الألسنة؛ لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، وحجة على كل إنسان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد»(2).

القرآن يتحدى الأجيال

قال العالم موسى بن جعفر(عليهما السلام) في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَامِن ثَمَرَةٖ رِّزْقًا قَالُواْ هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(3): «فلما ضرب اللّه الأمثال للكافرين المجاهرين الدافعين لنبوة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) والناصبين المنافقين لرسول اللّه، الدافعين ما قاله محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) في أخيه علي(عليه السلام) والدافعين أن يكون ما قاله عن اللّه عزّ وجلّ وهي آيات محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ومعجزاته مضافة إلى آياته التي بينها لعلي(عليه السلام) بمكة والمدينة، ولم يزدادوا إلّا عتواً وطغياناً، قال اللّه تعالى لمردة أهل مكة وعتاة أهل المدينة: {إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا} حتى تجحدوا أن يكون محمد رسول اللّه، وأن يكون هذا المنزل عليه كلامي، مع إظهاري عليه بمكة الباهرات من الآيات،

ص: 183


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 87.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 130.
3- سورة البقرة، الآية: 23- 25.

كالغمامة التي كانت تظله بها في أسفاره، والجمادات التي كانت تسلم عليه من الجبال والصخور والأحجار والأشجار، وكدفاعه قاصديه بالقتل عنه وقتله إياهم، وكالشجرتين المتباعدتين اللتين تلاصقتا فقعد خلفهما لحاجته، ثم تراجعتا إلى أمكنتهما كما كانتا، وكدعائه الشجرة فجاءته مجيبة خاضعة ذليلة، ثم أمره لها بالرجوع فرجعت سامعة مطيعة {فَأْتُواْ} يا قريش واليهود، ويامعشر النواصب المنتحلين الإسلام الذين هم منه برآء، ويا معشر العرب الفصحاء البلغاء ذوي الألسن {بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ} من مثل محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) من مثل رجل منكم لا يقرأ ولا يكتب، ولم يدرس كتاباً، ولا اختلف إلى عالم، ولا تعلم من أحد، وأنتم تعرفونه في أسفاره وحضره، بقي كذلك أربعين سنة، ثم أوتي جوامع العلم حتى علم علم الأولين والآخرين، فإن كنتم في ريب من هذه الآيات فأتوا بسورة من مثل هذا الرجل مثل هذا الكلام ليتبين أنه كاذب كما تزعمون؛ لأن كل ما كان من عند غير اللّه فسيوجد له نظير في سائر خلق اللّه، وإن كنتم معاشر قراء الكتب من اليهود والنصارى في شك مما جاءكم به محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) من شرائعه،ومن نصبه أخاه سيد الوصيين وصياً، بعد أن أظهر لكم معجزاته، منها: أن كلمته الذراع المسمومة، وناطقه ذئب، وحنَّ إليه العود وهو على المنبر،ودفع اللّه عنه السم الذي دسته اليهود في طعامهم، وقلب عليهم البلاء وأهلكهم به، وكثر القليل من الطعام {فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ} من مثل هذا القرآن، من التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، والكتب المائة والأربعة عشر، فإنكم لا تجدون في سائر كتب اللّه سورة كسورة من هذا القرآن، وكيف يكون كلام محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) المنقول أفضل من سائر كلام اللّه وكتبه، يا معشر اليهود والنصارى، ثم قال لجماعتهم: {وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ} ادعوا أصنامكم التي تعبدونها أيها المشركون، وادعوا شياطينكم يا أيها اليهود والنصارى، وادعوا

ص: 184

قرناءكم الملحدين يا منافقي المسلمين من النصاب لآل محمد الطيبين(عليهم السلام)، وسائر أعوانكم على إرادتكم {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} بأن محمداً يقول هذا من تلقاء نفسه لم ينزله اللّه عليه، وأن ما ذكره من فضل علي على جميع أمته، وقلده سياسته ليس بأمر أحكم الحاكمين، ثم قال عزّ وجلّ: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي: لم تأتوا أيها المقرءون بحجة رب العالمين {وَلَن تَفْعَلُواْ} أي: ولا يكون هذا منكم أبداً {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} توقد فتكون عذاباً على أهلها {أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ} المكذبين بكلامه ونبيه الناصبين العداوة لوليه ووصيه، قال: فاعلموا بعجزكم عن ذلك أنه من قبل اللّه تعالى، ولو كان من قبل المخلوقين لقدرتم على معارضتي فلما عجزوا بعد التقريع والتحدي، قال اللّه عزّ وجلّ: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا}»(1)(2).

القرآن مصون من التحريف

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً! وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد، أفأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه، أم أنزل اللّه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى، أم أنزل اللّه سبحانه ديناً تاماً فقصر الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) عن تبليغه وأدائه، واللّه سبحانه يقول: {مَّا

ص: 185


1- سورة الإسراء، الآية: 88.
2- بحار الأنوار 89: 28.

فَرَّطْنَا فِي الْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ}(1) وفيه تبيان كل شيء، وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً، وأنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}(2) وأن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلّا به»(3).

وقال(عليه السلام): «هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الشبه والآراء»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن القرآن واحد نزل من عند واحد، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة»(5).

التدبر في القرآن

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر»(6).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن، أو يكون في تعليمه»(8).

ثواب قراءة القرآن

قال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إن هذا القرآن مأدبة

ص: 186


1- سورة الأنعام، الآية: 38.
2- سورة النساء، الآية: 82.
3- الاحتجاج 1: 261.
4- عيون الحكم والمواعظ: 513.
5- الكافي 2: 630.
6- الكافي 1: 36.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 318.
8- الكافي 2: 607.

اللّه تعالى فتعلموا من مأدبة اللّه عزّ وجلّ ما استطعتم، فإنه النور المبين، والشفاء النافع فتعلموه، فإن اللّه تعالى يشرفكم بتعلمه، تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإن أخذهما بركة، وتركهما حسرة، ولا يستطيعهما البطلة، يعني: السحرة، وإنهما ليجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو عقابتان أو فرقان من طير صواف، يحاجان عن صاحبهما، ويحاجهما رب العالمين رب العزة، يقولان: يا رب الأرباب، إن عبدك هذا قرأنا، وأظمأنا نهاره، وأسهرنا ليله، وأنصبنا بدنه» إلى أن قال(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): وإن والدي القارئ ليتوّجان بتاج الكرامة، يضيء نوره من مسيرة عشرة آلاف سنة، ويكسيان حلة لا يقوم لأقل سلك منها مائة ألف ضعف ما في الدنيا، بما يشتمل عليه من خيراتها، ثم يعطى هذا القارئ الملك بيمينه في كتاب، والخلد بشماله في كتاب، يقرأ من كتابه بيمينه: قد جعلت من أفاضل ملوك الجنان، ومن رفقاء محمد سيد الأنبياء وعلي خير الأوصياء، والأئمة منبعدهما سادة الأتقياء، ويقرأ من كتابه بشماله: قد أمنت الزوال والانتقال عن هذا الملك، وأعذت من الموت والأسقام وكفيت الأمراض والأعلال، وجنبت حسد الحاسدين، وكيد الكائدين. ثم يقال له: اقرأ وأرق، ومنزلك عند آخر آية تقرؤها، فإذا نظر والداه إلى حليتيهما وتاجيهما قالا: ربنا أنّى لنا هذا الشرف ولم تبلغه أعمالنا؟ (فقال لهما كرام ملائكة اللّه عن اللّه عزّ وجلّ: هذا لكما لتعليمكما) ولدكما القرآن، قوله عزّ وجلّ: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}»(1)(2).

ص: 187


1- سورة البقرة، الآية: 1-2.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 60.

اللاعنف منهج وسلوك

اشارة

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»(1).

العنف لغة

اشارة

العنف: أي الخرْق بالأمر وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق. عَنُفَ به وعليه، يَعْنُفُ عُنْفاً وعنافة وأعْنَفَه وعَنَّفَه تعْنيفاً، وهو عنيفٌ، إذا لم يكن رفيقاً في أمره. واعْتنف الأمر: أخذه بعنف.

وهو الشدة والمشقّة، وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشر مثله.

والعنيف: الذي لا يحسن الركوب وليس له رفق بركوب الخيل، وقيل: الذي لا عهد له بركوب الخيل، والجمع عُنُفٌ؛ قال:

لم يركبوا الخيل إلّا بعدما هرموا *** فهم ثقالٌ على أكتافها عنف

وأعنف الشي ء: أخذه بشدَّة. واعتنف الشي ء: كرهه، واعْتنف الأرض: كرهها واسْتوخمها. واعْتنفته الأرض نفسها: نبتْ عليها.

وقال أبو عبيد: اعْتنفْتُ الشي ء كرهْتُه ووجدت له علي مشقة وعنْفاً. واعْتنفْت الأمر اعْتنافاً: جهلته.

قال: واعتفْت الأمر اعْتنافاً، أي: أتيته ولم يكن لي به علم.

ص: 188


1- الكافي 2: 119.

قال الباهلي: أكلت طعاماً فاعْتنَفَتهُ، أي: أنكرتهُ، قال الأزهري: وذلك إذا لم يوافقه.

ويقال: طريق مُعْتنفٌ أي غير قاصدٍ. وقد اعْتنف اعْتنافاً إذا جار ولم يقْصِد، وأصله من اعتنفت الشي ء إذا أخذته أو أتيته غير حاذق به ولا عالم، والتعنيف: التعيير واللوم(1).

العنف والنفس الإنسانية

كثيراً ما نسمع بمصطلح (العنف) وتصادفنا في حياتنا اليومية نماذج كثيرة من هذا القبيل، فنلاحظ أحياناً أناساً تثور ثائرتهم لأتفه الأسباب، ويقدمون على أعمال خطيرة في حالة غضبهم يندمون عليها أشد الندم في ما بعد، وهذه الحالة حيرت عقول أغلب المحللين الاجتماعيين وعلماء النفس.

فالنفس الإنسانية فيها قوى خيرة تجر الإنسان إلى عمل الخير والصلاح، وفيها أيضاً قوى عدوانية شريرة تحاول جر الإنسان إلى الأعمال الشريرة، والعنف من المصاديق الظاهرية لتغلب القوى الشريرة في الإنسان على القوى الخيرة، وهو من المشاكل المهمة التي صادفت الإنسان في سالف الزمان وإلى يومنا هذا؛ فكثير من الحروب المدمرة وجرائم القتل الفردية والجماعية، وانتشار الحقد والعداوة بين الناس، كان بسبب العنف، أو كان العنف السبب الرئيسي فيها، فإن الحرب العالمية الأولى - على سبيل المثال - كانت لأسباب عديدة ولكن السبب المباشر - على ما قالوا - كان اغتيال ولي العهد النمساوي في سراييفو بيد أحد الوطنيين الصرب؛ وذلك بسبب النزعة القومية للصرب. فعزمت النمسا على ضرب النزعة القومية في البلقان والقضاء عليها بإعلان الحرب على صربيا، وما

ص: 189


1- انظر: لسان العرب 9: 257، مادة (عنف) ومجمع البحرين 5: 104، مادة (عنف).

لبثت أن تداخلت التحالفات واشتعلت الحروب في جميع أنحاء أوروبا وامتدت إلى تركيا والشرق. وفاقت هذه الحرب كل ما سبقها من الحروب هولاً وتدميراً، فقد اشترك فيها نحو (65 مليون) مجند وكان القتلى نحو (9 ملايين) من العسكريين ويقدر عدد الضحايا المدنيين بعشرة ملايين، هذا عدا المشوهين والجرحى.

ومن ثمة كانت هذه الحرب أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية التي اشترك فيها نحو (92 مليون) مجند.

وقد اختلف في عدد القتلى الذي قدر بحوالي (49 مليون) قتيل(1).

هذا في التاريخ الحديث، أما في التاريخ القديم فمن الأمثلة على ذلك هو ما يسمى بحرب داحس والغبراء التي جرت بين قبيلتي عبس وذبيان لخلاف وقع على سباق بين فرسين عرفت الحرب باسميهما (داحس والغبراء) واستمرت هذه الحرب أربعين سنة(2).

والحرب الأخرى حرب البسوس التي استمرت أربعين عاماً من سنة (494 - 534م) بين بكر وتغلب، والبسوس بنت منقذ التميمية، زارت أختها أم جساس ابن مرة، ومع البسوس جار لها من جرم يقال له: سعد بن شمس ومعه ناقة له، فرماها كليب وائل لما رآها في مرعى قد حماه، فأقبلت الناقة إلى صاحبها وهي ترغو وضرعها يشخب لبناً ودماً، فلما رأى ما بها انطلق إلى البسوس فأخبرها بالقصة، فقالت: واذلاه واغربتاه، وأنشأت تقول أبياتاً تسميها العرب أبيات الفناءوهي:

ص: 190


1- انظر: المنجد في الأعلام: الحرب العالمية الأولى (28/7/1914- 11/11/1918م) حرف (الحاء).
2- المنجد في الأعلام: داحس والغبراء، حرف (الدال).

لعمري لو أصبحت في دار منقذ *** لما ضيم يعد وهو جار لأبياتي

ولكنني أصبحت في دار غربة *** متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي

فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل *** فإنك في قوم عن الجار أمواتي

ودونك أذوادي فخذها وآتني *** بها حلة لا يغدرون ببنياتي

فسمعها ابن أختها جساس فقال لها: أيتها الحرة اهدئي فواللّه لأقتلن بلقحة جارك كليباً، ثم ركب فخرج إلى كليب فطعنه طعنة أثقلته فمات منها، ووقعت الحرب بين بكر وتغلب، فدامت أربعين سنة وجرت خطوب وصار (شؤم البسوس) مثلاً ونسبت الحرب إليها وهي من أشهر حروب العرب(1).

العدوانية وعلاجها

لقد حاول أغلب المحللين الاجتماعيين وعلماء النفس وضع القواعد السلوكية والقوانين الاجتماعية لتنظيم أعمال الإنسان وإيجاد الضوابط المحكمة للسيطرة على عدوانية النفس الإنسانية، أو على الأقل تحجيم آثارها، ولكنهم فشلوا في علاج هذه الحالة العلاج الشافي والفعّال، وذلك لعدة أسباب منها:

أولاً: إن محاولاتهم العلاجية كانت جزئية، ونظرتهم للنفس الإنسانية كانت ضيقة؛ ولهذا كانت أغلب محاولاتهم موضعية ووقتية؛ فقد ركزوا على جانبواحد من جوانب النفس الإنسانية وحاولوا ربط هذه الحالة به، فبعضهم نسب

ص: 191


1- الغدير 4: 122.

ذلك إلى الجن والشياطين وما إلى ذلك، أي: ربط حالة العدوانية التي تظهر على النفس الإنسانية بهذه الموضوعات.

ثانياً: البعض الآخر رد ذلك إلى نفس الإنسان، وقال: إن الإنسان مجبور على إظهار عدوانيته، لأن نفسه فيها جانب شرير وجانب خير، إلى غير ذلك من التفسيرات غير الصحيحة.

وكل هذه الآراء والتبريرات غير صحيحة ولا تعالج عدوانية الإنسان، بل في بعض الأحيان تزيد هذه الآراء من العدوانية؛ لأنه سوف يجد مبرراً لأفعاله العدوانية إما بنسبتها إلى قوى خارجية كالجن والشياطين، أو نسبتها إلى نفسه ولكن من جانب الاضطرار والإجبار.

العلاج الإسلامي

أما الإسلام فقد وضع البدائل، ودل الإنسان على العلاج الشافي لهذا المرض العضال، فأوجد له تعاليم وسنّ له القوانين التي إذا اتبعها بصورة موزونة وسليمة فإنه بلا شك سوف يتغلب على هذه المشكلة وتهدأ نفسه ويرتاح ضميره أي يصبح هادئاً مطمئناً.

فمثلاً: ينصح لعلاج الغضب بالتفكر بالآيات والروايات الشريفة التي وردت في ذم الغضب ومدح كظم الغيظ والعفو والحلم، وبالتفكر في توقعه عفو اللّه عن ذنوبه وكف غضبه عنه.

ومما روي حول الغضب ما جاء عن أبي جعفر(عليه السلام) وقد ذكر الغضب عنده فقال(عليه السلام): «إن الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتى يدخل النار، فأيما رجل غضب على قوم وهو قائم فليجلس من فوره ذلك؛ فإنه سيذهب عنه رجزالشيطان، وأيما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسه، فإن الرحم إذا

ص: 192

مست سكنت»(1).

وقال بعضهم: (علاج الغضب أن تقول بلسانك: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم وهكذا أمر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يقال عند الغيظ)(2).

العمل والتقدم

ومن أسباب العنف الجهل، أما الإسلام فقد أكد على العلم في آيات وروايات عديدة، كما أكد على العمل المقترن بالعلم واللاعنف أيضاً.

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «طلب المراتب والدرجات بغير عمل جهل»(3).

وقال(عليه السلام): «العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه، وإلّا ارتحل عنه»(4).

إنّ من الواضح والجلي أن سر تقدم الإنسان كفرد، وتقدم المجتمعات والشعوب بصورة عامة وازدهارها مرتبط بالعمل الجاد المتواصل الذي يقوم به الأفراد أو المجتمعات، ولم يحصل أن أمة من الأمم امتلكت ناصية العلم والتقدم والرقي مع تكاسل أفرادها وفتور هممهم وعدم التفاتهم إلى مسؤوليتهم، وعندما ينتاب أبناء الأمة الفتور والكسل والتقاعس عن العمل يكون مصير أمتهم الجمود والتأخر والتخلف عن مسيرة الأمم المتقدمة، فقد قال أميرالمؤمنين(عليه السلام): «من رقى درجات الهمم عظمته الأمم»(5).

ص: 193


1- الكافي 2: 302.
2- انظر: بحار الأنوار 70: 272 ضمن الحديث 22.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 435.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 366.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 621.

وقال(عليه السلام): «ما رفع إمرأ كهمته ولا وضعه كشهوته»(1).

وقال(عليه السلام): «ينبغي أن يكون التفاخر بعلي الهمم والوفاء بالذمم والمبالغة في الكرم، لا ببوالي الرمم ورذائل الشيم»(2).

وقال (صلوات اللّه وسلامه عليه): «كن بعيد الهمم إذا طلبت، كريم الظفر إذا غلبت»(3).

إذن، العمل صفة ملازمة للتقدم والرقي، قال تعالى في كتابه الكريم: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ}(4). فقد ذكر سبحانه أنه تبارك وتعالى لا يمنع لطفه عن أحد، فهو كما يعطي المؤمن يعطي الفاسق، لكن الفرق في السعادة هنا، فإن الفاسق لا يهنأ بالسعادة، كما أن الآخرة خاصة بالمؤمن فإن {كُلًّا} من المؤمن والكافر {نُّمِدُّ} أي: نعطيهم من الدنيا {هَٰؤُلَاءِ} الذين يريدون الآخرة {وَهَٰؤُلَاءِ} الذين يريدون العاجلة {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} يا رسول اللّه، أي: نعمته وفضله {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} أي: ممنوعاً فإنه يشمل البر والفاجر(5).

فليست الملازمة محصورة بأمة من الأمم أو مذهب دون آخر، بل بقدر ما تعطي تأخذ، وبقدر ما تكرس الأمم حياتها للعمل فإنها تتقدم، ولا شك في صحة هذا الأمر ومصاديقه أشهر من أن تحصر بأمثلة.

تقدم الغرب

إن الملاحظ للتقدم التقني والحضاري والعمراني لدول الشرق والغرب من

ص: 194


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 701.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 798.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 530.
4- سورة الإسراء، الآية: 20.
5- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 298.

غير المسلمين، يجد أن التقدم الذي أحرزته هذه الدول في بعض جوانب الحياة المادية - تقنياً وما أشبه - كان نتيجة طبيعية؛ لأنها سلكت بعض سبل التقدم وعملت بجد وتواصل، وسبقتنا في هذه الميادين. نحن لدينا القرآن الحكيم، لدينا سيرة النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وآل بيته(عليهم السلام) ولكن تخاذل البعض منا وفتورهم جعلنا نعيش في الهامش فلم نستطع أن نساير ركب التقدم.

إن اللّه سبحانه وتعالى جعل الدنيا دنيا الأسباب والمسببات؛ إذ لكل معلول علة، ولكل نتيجة سبب وطريق، فمن سلك الطريق وكان طريقه صحيحاً وصل إلى النتيجة المطلوبة، والعكس بالعكس. ومن الواضح أن طريق التقدم والتكامل في هذه الحياة هو العمل الجاد، فمن التزم به تقدم حتى لو كان كافراً، ومن تخلى عنه تأخر حتى لو كان مؤمناً، يعني ليس هناك تقدم بدون عمل سليم وجدِّي فقد قال سبحانه وتعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

نحن مسلمون، ويقيناً أننا على الحق في المبدأ والعقيدة، وطريقنا طريق الحق، والمبادئ الإسلامية السمحاء هي التي تضمن السعادة والرفاه للإنسان، ومن كان طريق الحق مسلكه فإن الفلاح والنصر حليفه، فقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عمل بالحق أفلح»(2)، وقال(عليه السلام): «العاقل يعتمد على عمله،الجاهل يعتمد على أمله»(3)، وما هذه النتائج السيئة التي حصلنا عليها إلّا نتيجة طبيعية لقلة عملنا وفتور همتنا، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن ماضي يومك

ص: 195


1- سورة الإسراء، الآية: 20.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 155.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 151.

منتقل، وباقيه متهم، فاغتنم وقتك بالعمل»(1).

وقال(عليه السلام): «بادروا أعمالكم وسابقوا آجالكم فإنكم مدينون بما أسلفتم ومجازون بما قدمتم ومطالبون بما خلفتم»(2)، فنحن لم نعمل بالقدر الذي يفترض علينا أن نعمله ولذلك سبقتنا الأمم العاملة في كثير من جوانب الحياة.

العمل شعار المؤمن

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «العمل شعار المؤمن»(3).

وفي كلام آخر له(عليه السلام): «العمل رفيق الموقن»(4).

نعم، لكي يلحق المسلمون بركب الأمم المتقدمة لا بد لهم من العمل المتواصل الدؤوب وبقدر العمل ستكون النتائج، حيث يقول تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}(5) فإن قوله سبحانه يعني: ليس له من الجزاء إلّا جزاء ما عمل دون غيره، فإنه لو لم يعمل شيئاً ما استحق شيئاً لا ثواباً ولا عقاباً(6).

وفي الآية التي تليها قال الحق تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ}(7) فإنه يراهبنفسه - أي جزاء العمل - في دار الدنيا جزاءً بالمدح أو بغير ذلك، فإن الدنيا قبل الآخرة دار المكافآت، ولا يجتني الجاني من الشوك العنب - كما في المثل -(8).

فالنتيجة في الدنيا هي الثمرة التي تجنيها الشعوب العاملة من رفعة وتقدم

ص: 196


1- عيون الحكم والمواعظ: 150.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 152.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 151.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 151.
5- سورة النجم، الآية: 39.
6- انظر: التبيان في تفسير القرآن 9: 435.
7- سورة النجم، الآية: 40.
8- تفسير تقريب القرآن 5: 273.

وعزّ وسيادة، في الوقت الذي تبتلي فيه الشعوب الخاملة بالفقر والتأخر والشعور بالإحباط والتقصير.

يقول أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «من قصر في العمل ابتلي بالهم...»(1).

أما في الآخرة فالعمل ميزان الأعمال حيث يقول تعالى: {... أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}(2).

وطبيعي أن الذي نقصده بالعمل هو العمل الصالح المثمر، الذي فيه خير الدنيا والآخرة الذي أمرنا به اللّه تعالى؛ إذ قال عزّ وجلّ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(3).

فأعمالنا تقع تحت رقابته تعالى، كما أنها تعرض على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) فهل من اللائق أن يكون عمل الإنسان يميل إلى العنف بمحضر الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام)؟

فقد قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ما لكم تسوؤن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)؟». فقال رجل: جعلت فداك وكيف نسوؤه؟

فقال: «أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية اللّه ساءهذلك، فلا تسوؤا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وسرُّوه»(4).

وعن بريد العجلي قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): {اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}؟ فقال: «ما من مؤمن يموت ولا كافر فيوضع في قبره حتى

ص: 197


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 127.
2- سورة آل عمران، الآية: 195.
3- سورة التوبة، الآية: 105.
4- الكافي 1: 219.

يعرض عمله على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وعلى علي(عليه السلام) فهلمَّ جَرّا إلى آخر من فرض اللّه طاعته على العباد»(1).

العمل المصحوب باللاعنف

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان في ما أوصى به رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) علياً(عليه السلام): ... يا علي ثلاث من لم تكن فيه لم يقم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي اللّه عزّ وجلّ، وخُلُق يداري به الناس، وحلم يرد به جهل الجاهل»(2).

إنّ الإنسان الذي يتولى عملاً من الأعمال أو مسؤولية من المسؤوليات، غالباً ما يواجه ببعض العقبات والصعوبات والمعوقات التي تعترض سير عمله، وقد تكون هذه العقبات مادية أو معنوية. وتختلف ردود أفعال الناس تجاه هذه العقبات من شخص لآخر تبعاً لدرجة الوعي والإيمان الذي يمتلكه الفرد، وتبعاً لتكامل شخصية العامل - من ناحية الخبرة والنضوج والهمة - فقد قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «قدر الرجل على قدر همته، وصدقه على قدر مروءته، وشجاعته على قدر أنفته، وعفته على قدر غيرته»(3).

فقد ينهزم شخص أمام أبسط العقبات؛ لأنه لا يعتقد بإمكانية تجاوزها، وقد يصمد آخر أمام أعتى وأشد الصعوبات.إذن، فالذي يترتب علينا هو أن نهيئ أنفسنا ونعدها إعداداً يمكننا من مجابهة الصعوبات التي تعترض طريق عملنا؛ لنواصل العمل بكل جد ومثابرة.

أما كيف يمكن تجاوز الصعوبات حتى يستمر العمل ويعطي نتائجه؟

فإن أهم ما يتطلبه العمل الصحيح الذي يعطي ثماره ويرضاه اللّه سبحانه

ص: 198


1- بصائر الدرجات 1: 428.
2- الخصال 1: 124.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 49.

وتعالى، هو أن يكون مصحوباً باللاعنف وممتزجاً بالتقوى والورع والأخلاق، روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «دخل يهودي على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وعائشة عنده، فقال: السام عليكم، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): عليكم، ثم دخل آخر، فقال مثل ذلك، فرد عليه كما رد على صاحبه، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك، فرد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كما رد على صاحبيه، فغضبت عائشة فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة، يا معشر اليهود، يا إخوة القردة والخنازير!

فقال لها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا عائشة، إن الفحش لو كان ممثلاً لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شي ء قط إلّا زانه، ولم يرفع عنه قط إلّا شانه...»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما وضع الرفق على شيء إلّا زانه، ولا وضع الخُرق(2) على شي ء إلّا شانه، فمن أعطي الرفق أعطي خير الدنيا والآخرة، ومن حُرِمه فقد حرم خير الدنيا والآخرة»(3).

لذا يجب أن يخلو عملنا من العنف، ويمتاز بالتفاهم والخُلُق الرفيع واحترام الرأي الآخر، ومتى ما اقترنت هذه الصفات مع عمل أي فرد أو جماعة أو أمة فإنها سترتقي به سلم التقدم والسيادة، فعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: «إن يهودياً يقال له: حويحر كان له على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) دنانير فتقاضى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)فقال له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك، فقال: إني لا أفارقك يا محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) حتى تعطيني، فقال: إذاً أجلس معك، فجلس(صلی الله عليه وآله وسلم) معه، فصلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يتهددونه ويتوعدونه، ففطن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: ما الذي

ص: 199


1- الكافي 2: 648.
2- الخُرق: الجهل والحمق.
3- النوادر للراوندي: 4.

تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يهودي يحبسك؟! فقال: نهى تبارك وتعالى أن أظلم معاهداً ولا غيره.

فلما ترحل النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل اللّه. أما واللّه ما فعلتُ بك الذي فعلت إلّا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت في التوراة محمد بن عبد اللّه، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، وليس بفظ ولا غليظ ولا سحاف(1) في الأسواق، ولا مرس بالفحش، ولا قول الخطأ. أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنك رسول اللّه، وهذا مالي فاحكم فيه بما أراك اللّه تعالى. وكان اليهودي كثير المال»(2).

الغضب من مصاديق العنف

الغضب لغة: نقيض الرضا، وهو من مصاديق العنف(3).

وقد ورد النهي عنه في الروايات الشريفة قال النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «أركان الكفر أربعة: الرغبة والرهبة والسّخط والغضب»(4).وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ خلق الجنة قبل أن يخلق النار - إلى أن قال: - وخلق الرحمة قبل الغضب، وخلق الخير قبل الشر...»(5).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال الحواريون لعيسى ابن مريم(عليه السلام): يا معلم الخير، أعلمنا أي الأشياء أشد؟

ص: 200


1- في مستدرك الوسائل: ولا سخّاب: أي صيّاح.
2- الجعفريات: 182.
3- وقد غضب عليه غضباً ومغضبةً، وأغضبته أنا فتغضَّبَ، وغضب له: غضب على غيره من أجله ورجلٌ غضبٌ، وغَضُوبٌ، وغُضُبٌّ، بغير هاء، وغُضُبَّة وغَضُبَّة - بفتح الغين وضمها وتشديد الباء - وغضبان: يغضبُ سريعاً، وقيل شديد الغضب، والأنثى غَضْبى وغضوب، لسان العرب 1: 648، مادة (غضب).
4- الكافي 2: 289.
5- الكافي 8: 145.

فقال: أشد الأشياء غضب اللّه عزّ وجلّ.

قالوا: فبم يُتّقى غضب اللّه؟

قال: بأن لا تغضبوا.

قالوا: وما بدء الغضب؟

قال: الكبر والتجبر ومحقرة الناس»(1).

نعم، إذا لم يتمالك الإنسان غضبه وتركه يسيطر عليه فعند ذلك تكون أفعاله قريبة إلى الخطأ بنسبة كبيرة، وربما يتحول إلى وحش كاسر يهدم حياته ويضر بحياة الآخرين، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «الغضب ممحقة لقلب الحكيم - وقال - من لم يملك غضبه لم يملك عقله»(2).

والشواهد الخارجية كثيرة على ذلك، فتلاحظ الإنسان الغضوب يقدم على أعمال غير عقلائية، مثلاً يكسر زجاج البيت أو التحف النادرة فيحطم كل ما يصادفه في حالة غضبه، ولكن عندما يهدأ يندم على كل عمل قام به في حالة غضبه، وهو دليل على أن تصرفاته لا تكون عن تعقل وإدراك، وإنما تصرف قريب من تصرفات الإنسان المريض (المجنون)، وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحدة ضرب من الجنون؛ لأن صاحبها يندم، فإن لم يندمفجنونه مستحكم»(3).

وقد وصف الغضب بأنه مهما اشتدت نار الغضب وقوي اضطرامها أعمى صاحبه وأصمه عن كل موعظة، فالموعظة لا تؤثر عليه بل تزيده غيظاً؛ لأن نور العقل ينمحي بدخان الغضب الذي ينبعث من غليان دم القلب إلى الدماغ،

ص: 201


1- الخصال 1: 6.
2- الكافي 2: 305.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 255.

فصار دماغه ككهف أضرمت فيه نار فاسودَّ جوانبه وامتلأ بالدخان، وكان فيه سراج ضعيف فانطفأ وانمحى نوره، فلا يثبت فيه قدم ولا يسمع فيه كلام ولا ترى فيه صورة ولا يقدر على إطفائه لا من داخل ولا من خارج، ... فيحرق جميع ما يقبل الاحتراق، فكذلك يفعل الغضب بالقلب والدماغ، وربما يقوى نار الغضب فتفنى الرطوبة التي بها حياة القلب فيموت صاحبه غيظاً... ، ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغيّر اللون وشدة الرعدة في الأطراف، وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام، واضطراب الحركة والكلام حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمرّ الأحداق، فلو رأى الغضبان في حال غضبه قبح صورته لسكن غضبه؛ حياءً من قبح صورته واستحالة خلقته، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره؛ لأن القبح منه انتشر إلى الظاهر... ، فأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش وقبح الكلام، الذي يستحيي منه ذوو العقول ويستحي منه قائله عند فتور الغضب(1)، لذا قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عندما رأى قوماً يدحرجون حجراً: «أشدكم من ملك نفسه عند الغضب، وأحملكم من عفا بعد المقدرة»(2).

نصائح الأطباء

إن أغلب الأطباء وعلماء الاجتماع ينصحون الإنسان أن لا يقدم في حالة غضبه على تناول الطعام أو الشراب أو أي عمل ذي أهمية؛ لأن نتائج هذه الأعمال سوف تكون سلبية، فقد ذكرت الأبحاث الحديثة حول موضوع الغضب: إن الغضب كصورة من صور الانفعال النفسي يؤثر على قلب الشخص الذي يغضب تأثير العدو أو الجري على القلب، وانفعال الغضب يزيد من عدد مرات

ص: 202


1- انظر: سفينة البحار 6: 651.
2- تحف العقول: 45.

انقباضه في الدقيقة الواحدة فيضاعف بذلك كمية الدماء التي يدفعها القلب، أو التي تخرج منه إلى الأوعية الدموية مع كل واحدة من هذه الانقباضات أو النبضات، وهذا بالتالي يجهد القلب؛ لأنه يقسره على زيادة عمله عن معدلات العمل الذي يفترض أن يؤديه بصفة عادية أو ظروف معينة.

وقد لوحظ أن الإنسان الذي اعتاد على الغضب يصاب بارتفاع ضغط الدم ويزيد عن معدله الطبيعي، كما أن شرايينه تتصلب جدرانها وتفقد مرونتها وقدرتها على الاتساع لكي تستطيع أن تمرر تلك الكمية من الدماء الزائدة التي يضخها القلب المنفعل؛ لهذا يرتفع الضغط عند الغضب.

كما ذكر أن الغضب المكبوت له مساوئ لا تقل عن الغضب الصريح، فقد تصل الحالة إلى الإصابة بمرض السرطان، كما الغضب الصريح قد يؤدي إلى الإصابة بأزمات قلبية قاتلة.

فمادامت نتائج الغضب سلبية إلى هذا الحد وأكثر من ذلك، فلندع الغضب ونكون هادئين في جميع تصرفاتنا مع أنفسنا ومع الآخرين حتى نحصل على نتائج إيجابية مرضية للّه عزّ وجلّ ورسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) ولأنفسنا.

منهج اللاعنف

في سيرة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)إنَّ المتتبع لسيرة النبي المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار(عليهم السلام) يلاحظ بكل وضوح أن منهجهم بعيد كل البعد عن العنف والعصبية، ففي كل الجوانب تجدهم(عليهم السلام) ميّالين إلى السلم والتفاهم، فلم يدوّن لنا التاريخ نموذجاً واحداً على عمل عنيف قاموا به، بل على العكس فإن جميع أعمالهم كانت مفعمة بالحب والخير والصلاح والإصلاح. فالرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) رغم الآلام

ص: 203

والخطوب التي حفّت بحياته، نجده باسم الثغر، يعامل صديقه وعدوه بصدر رحب ملؤه الحب والحنان، وبهذا الأسلوب استطاع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يستميل قلوب الناس إليه وإلى دعوته حتى أعدائه، وبهذه الطريقة اكتسح الظلام الذي كان يعم المعمورة، فحرّر الفكر من الأوهام الجاهلية، وكشف الواقع المشرق للحياة، بأسلوبه الهادي الرقيق ولم يستخدم العنف في دعوته، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(1).

وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(2)، قوله تعالى: {وَإِنَّكَ} أي يا رسول اللّه {لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} إذ تحتمل المشاق والمتاعب في التبليغ بكل رحابة صدر، وقد أوذي(صلی الله عليه وآله وسلم) حتى قال: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(3)(4)، فهو(صلی الله عليه وآله وسلم) القائل: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(5).

وكذلك روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قوله لبحر السقَّاء: «يا بحر، حسن الخُلق يسر» - ثم قال - «ألا أخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة؟»

قلت: بلى.

قال: «بينا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ذات يوم جالس في المسجد، إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم، فأخذت بطرف ثوبه، فقام لها النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فلم تقل شيئاً، ولم يقل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) شيئاً، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) في الرابعة وهي خلفه فأخذت هُدبةً(6) من ثوبه ثم رجعت، فقال لها

ص: 204


1- سورة الأنبياء، الآية: 107.
2- سورة القلم، الآية: 4.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 247.
4- انظر: تفسير تقريب القرآن 5: 479.
5- بحار الأنوار 16: 210.
6- هدبة الثوب: ما على أطرافه.

الناس: فعل اللّه بك وفعل، حبست رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ثلاث مرات لا تقولين له شيئاً، ولا هو يقول لك شيئاً، ما كانت حاجتك إليه؟

قالت: إن لنا مريضاً فأرسلني أهلي لآخذ من هدبة من ثوبه ليستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني، وأكره أن أستأمره في أخذها فأخذتها»(1).

والنماذج على سيرة النبي المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال أكثر من أن تحصى، فمعاملته(صلی الله عليه وآله وسلم) مع الأعرابي الذي جرّ بُرده وأثّر ذلك في رقبته الشريفة مشهورة ومتواترة، فقد روى أنس بن مالك قال: إنّ النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أدركه أعرابي فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال له: يا محمد، مر لي من مال اللّه الذي عندك!

فالتفت إليه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فضحك وأمر له بعطاء(2).

فهو(صلی الله عليه وآله وسلم) الذي قيل فيه: كان رسول اللّه حيياً لا يسأل شيئا إلّا أعطاه،فهو(صلی الله عليه وآله وسلم): أشد حياءً من العذراء في خدرها(3).

وكذلك معاملة اللين والرفق التي استخدمها(صلی الله عليه وآله وسلم) مع قومه الذين شردوه وكذبوه، فهذا أبو سفيان وزوجته هند وهما من أعداء الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) وغيرهما من أمثال وحشي الذي غدر بعم النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) حمزة(عليه السلام) وقتله ومثَّل بجسده الشريف ماذا كان ردّ النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) عليهم؟

ولم يعاقبه النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) على تجاسره هذا.

ص: 205


1- الكافي 2: 102.
2- مكارم الأخلاق: 17.
3- مكارم الأخلاق: 17.

وروي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لما كان فتح مكة قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): عند من المفتاح؟

قالوا: عند أم شيبة، فدعا شيبة فقال: اذهب إلى أمّك فقل لها ترسل بالمفتاح.

فقالت: قل له: قتلت مقاتلنا وتريد أن تأخذ منا مكرمتنا؟

- إلى أن قال - فوضعته في يد الغلام فأخذه ودعا - لأحد المسلمين - فقال له: هذا تأويل رؤياي من قبل.

ثم قام(صلی الله عليه وآله وسلم) ففتحه، وستره فمن يومئذ يستر، ثم دعا الغلام فبسط رداءه فجعل فيه المفتاح وقال: «رده إلى أمّك».

قال: ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم فأتى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثم قال:

«لا إله إلّا اللّه، أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده»، ثم قال: «ما تظنون وما أنتم قائلون؟»

فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً ونظن خيراً، أخ كريم وابن عم.قال: «فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّٰحِمِينَ}(1) ألّا إن كل دم ومال ومأثرة كان في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي، إلّا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما. ألّا إنّ مكة محرمة بتحريم اللّه لم تحل لأحد كان قبلي ولم تحل لي إلّا ساعة من نهار، فهي محرمة إلى أن تقوم الساعة لا يختلى خلاها ولا يقطع شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلّا لمنشد، ثم قال: ألّا لبئس جيران النبي كنتم، لقد كذبتم وطردتم وأخرجتم وفللتم ثم ما رضيتم حتى جئتموني في

ص: 206


1- سورة يوسف، الآية: 92.

بلادي تقاتلوني، فاذهبوا فأنتم الطلقاء».

فخرج القوم كأنما أنشروا من القبور ودخلوا في الإسلام.

قال: ودخل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مكة بغير إحرام وعليهم السلاح، ودخل البيت لم يدخله في حج ولا عمرة ودخل وقت الظهر، فأمر بلالاً فصعد على الكعبة وأذّن، فقال عكرمة: واللّه إن كنت لأكره أن أسمع صوت ابن رياح ينهق على الكعبة، وقال خالد بن أسيد: الحمد للّه الذي أكرم أبا عتاب من هذا اليوم أن يرى ابن رياح قائماً على الكعبة. قال سهيل: هي كعبة اللّه وهو يرى ولو شاء لغير - قال - وكان أقصدهم. وقال أبو سفيان: أما أنا فلا أقول شيئاً واللّه لو نطقت لظننت أن هذه الجدر تخبر به محمداً.

وبعث(صلی الله عليه وآله وسلم) إليهم فأخبرهم بما قالوا، فقال عتاب: قد واللّه قلنا يا رسول اللّه ذلك فنستغفر اللّه ونتوب إليه، فأسلم وحسن إسلامه وولاّه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مكة»(1).

نعم، مع كل هذه الأعمال التي عملها هؤلاء، عفى عنهم الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) عندما ظفر بهم في فتح مكة.

فهذه النماذج من الأعمال التي قام بها رسول الإنسانية(صلی الله عليه وآله وسلم) تجاه أعدائه هي دروس وعبر، أراد(صلی الله عليه وآله وسلم) منها تعليم الناس المنهج الحق وسلوك طريق اللاعنف.

منهج أهل البيت(عليهم السلام)

إن منهج اللاعنف والرفق هو المنهج والسلوك الذي سار عليه آل البيت(عليهم السلام)، فكل إمام من أئمة الهدى له سفر خالد في مجال اللين والهداية.

فالإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول في كتابه لمالك الأشتر عندما ولّاه مصر:

ص: 207


1- بحار الأنوار 21: 132.

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به عبد اللّه عليٌ أمير المؤمنين مالكَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاّه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها.

أمره بتقوى اللّه وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لايسعد أحد إلّا باتباعها ولا يشقى إلّا مع جحودها وإضاعتها».

ثم قال(عليه السلام): «ثم اعلم يا مالك، أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشحّ بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبت أو كرهت، وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزللوتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك واللّه فوق من ولاك وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم».

ثم قال(عليه السلام): «ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع؛ فإن ذلك إدغال(1) في القلب ومنهكة للدين وتقرب من الغير، وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك

ص: 208


1- الإدغال: إدخال الفساد.

أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك اللّه فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك(1)، ويفي ء إليك بما عزب عنك من عقلك.

إياك ومساماة اللّه في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن اللّه يذل كل جبار ويهين كل مختال، أنصف اللّه وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده، ومن خاصمه اللّه أدحض حجته، وكان للّه حرباً حتى ينزع أو يتوب، وليس شي ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن اللّه سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد، وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية».

ثم قال(عليه السلام): «وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق مَن سترها، فلا تكشفن عمّا غاب عنكمنها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، واللّه يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر اللّه منك ما تحب ستره من رعيتك، أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يضح لك».

ثم قال(عليه السلام): «والصق بأهل الورع والصدق، ثم رُضهم على ألّا يطروك، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة، ولا يكونن المحسن والمسي ء عندك بمنزلة سواء؛ فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه.

ص: 209


1- يطامن الشيء: يخفض منه، الطِّماح: النشوز والجماح، الغَرْب: الحدة.

واعلم أنه ليس شي ء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المئونات عليهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده».

ثم قال(عليه السلام): «واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلّا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود اللّه، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى اللّه له سهمه ووضع على حده، فريضةً في كتابه، أو سنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم) عهداً منه عندنا محفوظاً.

فالجنود بإذن اللّه حصون الرعية، وزين الولاة، وعزّ الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلّا بهم، ثم لا قوام للجنود إلّا بما يخرج اللّه لهم من الخراج، الذييقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه في ما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلّا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب، لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جميعاً إلّا بالتجار وذوي الصناعات، في ما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي اللّه لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه اللّه من ذلك إلّا بالاهتمام والاستعانة باللّه وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه في ما خف عليه أو ثقل.

ص: 210

فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف.

ثم الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة. ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة؛ فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شي ء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك. ولا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه. وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك.

وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلّا بسلامة صدورهم ولا تصح نصيحتهم إلّا بحيطتهم على ولاة الأمور، وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم؛ فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء اللّه».

ثم قال(عليه السلام): «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحّكه(1) الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفي ء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون

ص: 211


1- تمحّكه الخصوم: تجعله ماحقاً لجوجاً.

أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخَذَهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك؛ ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا.

ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة؛ فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إشراقاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً».

ثم قال(عليه السلام): «وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلّا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة(1) أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خَفَّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شي ء خففت به المئونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن

ص: 212


1- انقطاع شِرب: أيُّ ماء تسقى في بلاد تسقى بالأنهار، انقطاع بالة: أي ما يبلّ الأرض من ندى ومطر في ما تسقى بالمطر، إحالة أرض: أي تحويلها البذور إلى فساد بالتعفّن.

ثنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عوّلت فيه عليهم من بعد احتملوه طيّبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر».

ثم قال(عليه السلام): «ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلّابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترءون عليها، فإنهم سِلْم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك».

ثم قال(عليه السلام): «ثم اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزَمنى(1)، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ للّه ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه، ولا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحْكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى اللّه يوم تلقاه؛ فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى

ص: 213


1- الزَمنى: جمع زمين وهو المصاب بالزَمانة أي العاهة، يريد أرباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب.

الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى اللّه في تأدية حقه إليه، وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل، وقد يخففه اللّه على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود اللّه لهم. واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه للّه الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك؛ حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع. ثم احتمل الخرق منهم والعي ونح عنهم الضيق والأنَف، يبسط اللّه عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً وامنع في إجمال وإعذار».

ثم قال(عليه السلام): «وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً، فإنفي الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيماً.

وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك؛ فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين، إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه، أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا

ص: 214

مئونة فيه عليك من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة».

ثم قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودة.

وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن في ذلك رياضةً منك لنفسك، ورفقاً برعيتك وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق. ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضًا؛ فإن في الصلح دعةً لجنودك، وراحةً من همومك وأمناً لبلادك».

ثم قال(عليه السلام): «وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة، أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليسمن فرائض اللّه شي ء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون في ما بينهم دون المسلمين، لما استوبلوا(1) من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك ولا تخيسن(2) بعهدك، ولا تختلن عدوك؛ فإنه لا يجترئ على اللّه إلّا جاهل شقي، وقد جعل اللّه عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه».

ثم قال(عليه السلام): «إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شي ء أدعى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، واللّه سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد في ما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا

ص: 215


1- لما استوبلوا من عواقب الغدر: أي وجدوها وبيلة مهلكة.
2- خاس بعهده: خانه ونقضه.

تقوين سلطانك بسفك دم حرام؛ فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند اللّه ولا عندي في قتل العمد؛ لأن فيه قود البدن. وإن ابتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك، أو سيفك، أو يدك، بالعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم، وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء؛ فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد في ما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند اللّه والناس، قال اللّه تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَنتَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ}»(1).

ثم قال(عليه السلام): «وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة والتغابي عمّا تُعنى به، مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم، املك حمية أنفك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك، واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك، فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.

والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا(صلی الله عليه وآله وسلم)، أو فريضة في كتاب اللّه، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك؛ لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك

ص: 216


1- سورة الصف، الآية: 3.

إلى هواها، وأنا أسأل اللّه بسعة رحمته وعظيم قدرته، على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إليه راجعون، والسلام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً كثيراً، والسلام»(1).

نعم، بهذا الشكل والنموذج كانت جميع توجيهاته وتصرفاته (صلوات اللّهوسلامه عليه) مع الناس مبنية على منهج النصح الهادئ البعيد عن التجريح والعنف، فالخوارج الذين شهروا سيوفهم بوجه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وأصحابه وأقاموا عليه حرباً ضروساً، راح ضحيتها الآلاف من المؤمنين، ومع ذلك رأينا أن التاريخ حفظ لنا: أنه لم يقطع عطاء الخوارج من بيت المال. فهل هناك حرية وأخلاق ولين ورحمة كهذه على مر التاريخ(2).

وإنّ من أظهر مصاديق اللاعنف في الحوار والتعامل مع المخالف في الرأي هو ما يتبين ويظهر جلياً في سيرة أئمة أهل البيت(عليهم السلام) مع معارضيهم والمخالفين لهم بالرأي بل حتى مع أشد المحاربين، حتى أن المخالف لايقوم عن مجلسهم إلّا معترفاً بفضلهم وعلمهم مقراً بأن اللّه جعلهم مستودع علمه وحكمته، فيقوم القائم منهم وهو يردد: اللّه أعلم حيث يضع رسالته.

ص: 217


1- نهج البلاغة، الكتاب الرقم: 53 كتبه(عليه السلام) للأشتر النخعي لما ولّاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر، وهو أطول عهدٍ كتبه وأجمعه للمحاسن، وقد أخذنا منه مقتطفات تفيد المطلب.
2- انظر: مستدرك الوسائل 11: 65. ولمعرفة المزيد من سياسة اللاعنف للنبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (صلوات اللّه وسلامه عليه) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) راجع كتاب (السياسة من واقع الإسلام) لسماحة المرجع الدين آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله).
هل تعرف الصلاة؟

روي عن أبي حازم قال: قال رجل لزين العابدين(عليه السلام): تعرف الصلاة؟ فحملت عليه، فقال(عليه السلام): «مهلاً يا أبا حازم، فإن العلماء هم الحلماء الرحماء» ثم واجه السائل فقال: «نعم أعرفها» فسأله عن أفعالها وتروكها وفرائضها ونوافلها حتى بلغ قوله: ما افتتاحها؟

قال: «التكبير».

قال: ما برهانها؟

قال: «القراءة».قال: ما خشوعها؟

قال: «النظر إلى موضع السجود».

قال: ما تحريمها؟

قال: «التكبير».

قال: ما تحليلها؟

قال: «التسليم».

قال: ما جوهرها؟

قال: «التسبيح».

قال: ما شعارها؟

قال: «التعقيب».

قال: ما تمامها؟

قال: «الصلاة على محمد وآل محمد».

قال: ما سبب قبولها؟

قال: «ولايتنا والبراءة من أعدائنا».

ص: 218

فقال: ما تركت لأحد حجةً ثم نهض يقول: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته وتوارى(1).

أي شيء تعبد؟

وعن عبد اللّه بن سنان عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر محمد بن علي الباقر(عليهما السلام) فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر، أي شي ء تعبد؟

قال: «اللّه تعالى».قال: رأيته؟

قال: «بل لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ورأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس ولا يدرك بالحواس ولا يشبَّه بالناس، موصوف بالآيات معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك اللّه لا إله إلّا هو» قال: فخرج الرجل وهو يقول: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته(2).

الموعظة المهذبة

وروي: أن طاوسٌ اليماني دخل على جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) وكان(عليه السلام) يعلم أنه يقول بالقدر، فقال له: «يا طاوس، من أقبل للعذر من اللّه ممن اعتذر وهو صادق في اعتذاره؟».

فقال: لا أحد أقبل للعذر منه.

فقال له: «من أصدق ممن قال: لا أقدر وهو لا يقدر؟».

فقال طاوس: لا أحد أصدق منه.

فقال له الصادق(عليه السلام): «يا طاوس، فما بال من هو أقبل للعذر لا يقبل عذر من

ص: 219


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 130.
2- الكافي 1: 97.

قال لا أقدر وهو لا يقدر؟!».

فقام طاوس وهو يقول: ليس بيني وبين الحق عداوة، واللّه أعلم حيث يجعل رسالاته فقد قبلت نصيحتك(1).

إنني أصلحت أمره

وروي: أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى(عليه السلام) ويسبّه إذا رآه ويشتم علياً(عليه السلام)، فقال له بعض جلساته يوماً: دعنا نقتلهذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم، وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن(عليه السلام) بالحمار حتى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه، وقال له: «كم غرمت في زرعك هذا؟».

قال: مائة دينار.

قال: «وكم ترجو أن تصيب فيه؟».

قال: لست أعلم الغيب.

قال: «إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه؟».

قال: أرجو فيه مائتي دينار.

قال: فأخرج له أبو الحسن(عليه السلام) صرة فيها ثلاثمائة دينار وقال: «هذا زرعك على حاله واللّه يرزقك فيه ما ترجو».

قال: فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن(عليه السلام) وانصرف، قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً فلما نظر

ص: 220


1- أعلام الدين: 317.

إليه قال: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته، قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قضيتك قد كنت تقول غير هذا؟!

قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن(عليه السلام) فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: «أيما كان خيراً، ما أردتم أو ما أردت؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شره»(1).

أنت احب خلق اللّه إلي

وروى المبرد وابن عائشة أن شامياً رآه - أي الإمام الحسن الزكي(عليه السلام) - راكباً، فجعل يلعنه والحسن لا يرد، فلما فرغ أقبل الحسن(عليه السلام) عليه، فسلّم عليه وضحك، وقال: «أيها الشيخ، أظنك غريباّ ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حمّلناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك؛ لأن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كبيراً».

فلما سمع الرجل كلامه بكى ثم قال: أشهد أنك خليفة اللّه في أرضه، اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق اللّه إلي والآن أنت أحب خلق اللّه إلي، وحول رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم(2).

طِب نفساً

وقال الواقدي: كان هشام بن إسماعيل يؤذي علي بن الحسين(عليهما السلام) في إمارته،

ص: 221


1- الارشاد 2: 233.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 19.

فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس، فقال: ما أخاف إلّا من علي بن الحسين(عليهما السلام)،وقد وقف عند دار مروان، وكان علي(عليه السلام) قد تقدم إلى خاصته: «ألا يعرض له أحد منكم بكلمة» فلما مر ناداه هشام: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته.

وزاد ابن فياض في الرواية في كتابه: أن زين العابدين(عليه السلام) أنفذ إليه وقال: «انظر إلى ما أعجزك من مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك، فطب نفساً منّا ومن كل من يطيعنا».فنادى هشام: اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته(1).

وشتم بعضهم زين العابدين(عليه السلام) فقصده غلمانه فقال: «دعوه فإن ما خفي منا أكثر مما قالوا» ثم قال له: «ألك حاجة يا رجل؟».

فخجل الرجل فأعطاه ثوبه وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل صارخاً يقول: أشهد أنك ابن رسول اللّه(2).

أشهد أنك من أولاد الرسل

وكان علي بن الحسين(عليهما السلام) خارجاً من المسجد فلقيه رجل فسبّه، فثارت إليه العبيد والموالي، فقال علي بن الحسين(عليهما السلام): «مهلاً عن الرجل» ثم أقبل(عليه السلام) عليه فقال: «ما ستر عنك من أمرنا أكثر أ لك حاجة نعينك عليها».

فاستحيا الرجل ورجع إلى نفسه، فألقى عليه خميصة(3) كانت عليه وأمر له بألف درهم، قال: فكان الرجل يقول بعد ذلك: أشهد أنك من أولاد الرسل(4).

ص: 222


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 163.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 157.
3- الخميصة: ثوب خز أو صوف مربّع معلّم.
4- كشف الغمة 2: 101.
وعنك أغضي

واستطال رجل على علي بن الحسين(عليهما السلام) فتغافل عنه، فقال له الرجل: إياك أعني، فقال له علي بن الحسين(عليهما السلام): «وعنك أغضي»(1).

ولا يستخفنك الذين لا يوقنون

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن علياً(عليه السلام) كان في صلاة الصبح فقرأ ابن الكواء وهو خلفه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَوَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).

فأنصت علي(عليه السلام) تعظيماً للقرآن حتى فرغ من الآية، ثم عاد في قراءته.

ثم أعاد ابن الكواء الآية فأنصت علي(عليه السلام) أيضاً، ثم قرأ فأعاد ابن الكواء فأنصت علي(عليه السلام) ثم قال(عليه السلام): {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}(3) ثم أتم السورة ثم ركع»(4).

اللاعنف عند العلماء

أنشد شاعر قصيدة هجا فيها المرجع الكبير السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله) من المراجع، وينقل عن الشاعر نفسه أنه قال: في أحد أيام الصيف وكان الوقت ظهراً شديد الحر، وبينما كنت جالساً في منزلي سمعت الباب يطرق وعندما ذهبت وفتحت الباب وإذا بذلك المرجع يقف خلف الباب، فاستغربت كثيراً!

وبعد أن سلم علي قال: أتقبلني أن أكون ضيفك، فقلت له بتعتعة لسان:

ص: 223


1- كشف الغمة 2: 101.
2- سورة الزمر، الآية: 65.
3- سورة الروم، الآية: 60.
4- تهذيب الأحكام 3: 35.

تفضل.

فدخل، فتحرجت وتألمت كثيراً، وقلت في نفسي: لربما أن السيد سمع تلك القصيدة.

وبعد أن تفقد أحوالي، قال لي: ألّا تقرأ لي تلك الأبيات التي أنشدتها، فامتنعت إلّا أنني بعد إلحاح السيد وإصراره قرأت القصيدة، ولكني كنت في حالة يرثى لها من الخجل الشديد وبعد إتمام القصيدة - وطبقاً لما تعارف عليهالناس هناك في العراق حيث كانوا يكرمون الشعراء وأهل الأدب - أخرج السيد ظرفاً من جيبه وناولني إياه قائلاً: خذ هذه الهدية. ثم انصرف، عندئذ عرفت مكارم أخلاقه التي تعلمها من أهل بيت النبوة(عليهم السلام) وأنه المتخرج من تلك المدرسة الإلهية، فقررت أن لا أعود لمثلها أبداً.

هذا التصرف الذي أبداه هذا العالم الجليل تجاه الشاعر الذي هجاه، لهو نابع عن إيمان صادق ووعي صحيح واتباع لأوامر اللّه سبحانه وتعالى، واقتداء بسيرة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة(عليهم السلام) وتطبيقاً لما قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1) وعلى ضوء ذلك جنى ثماره في الدنيا حيث ضمن بأن هذا الشاعر لا يهجوه بعد ذلك وكسب وده واحترامه، وكذلك احترام الناس، فضلاً عن نيل ثواب ذلك العمل في الآخرة.

قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(2).

ص: 224


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- سورة آل عمران، الآية: 133-134.
الاختلاف السلبي والإيجابي

قال تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(2).

إنّ الاختلاف ليس حالة سلبية دائماً، وإنما قد تكون حالة ايجابية محفّزة نحو اختيار السبيل الأمثل والاستفادة من وجهات النظر المختلفة. فالاختلاف حالةطبيعية في حياة الإنسان وخصوصاً في الرأي وهذه سنة اللّه تعالى في الكون، ولكن نتيجة لقلة الوعي وضيق الصدر يصبح هذا الاختلاف سبباً للتصارع والتصادم بين الناس فيصبح الإنسان نتيجة لذلك عنيفاً في تصرفاته وسلوكه الخارجي بل حتى مع نفسه، ويبني أغلب أموره وعلاقاته على أساس العنف والخشونة وعدم إبداء المرونة في تقبل الرأي المخالف لرأيه، وهذا هو الاختلاف السلبي.

إذن الاختلاف على قسمين: منه سلبي، إذا كان يؤدي إلى صراع وتقاتل، وإيجابي إذا أدى إلى التنافس الشريف المبني على أساس القواعد السلمية، فمن اللازم علينا أن يكون خلافنا من القسم الثاني - إيجابياً - وأن نتمتع ببعد نظر وصدر واسع، يتسع لاستقبال الآراء المغايرة لوجهات نظرنا، وأن نستثمر هذا الاختلاف لنخرج بالرأي الصائب ونرتقي إلى هذه الحالة الإيجابية في توظيف الخلاف لخدمة قضايانا الإسلامية فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب»(3).

وقال(عليه السلام): «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ»(4).

ص: 225


1- سورة الروم، الآية: 22.
2- سورة المطففين، الآية: 26.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 158.
4- الكافي 8: 22.

أما حالة العنف والخشونة - الناتجة من الاختلاف السلبي - من دون مبرر سوى اختلاف وجهات النظر، فتعني التوقف في بداية المشوار والاصطدام مع الآخرين نتيجة لقلة الوعي وضيق الأفق، وخير شاهد على ذلك: أننا نرى في البلدان التي يحكمها حزب واحد أن هذا الحزب يمسك بزمام الأمور بالقوة والعنف ويفرض وجهة نظره على كافة الأصعدة ويخضع الآخرين لأسلوب تفكيره، فتكون نسبة الخطأ في اتخاذ مواقفه عالية جداً لأنه ينظر للحياة من زاويةضيقة؛ لذلك نرى ضرورة الاهتمام بآراء ووجهات نظر الآخرين واحترامها، حتى نتمكن من التفاهم حول القضايا المختلف عليها. وعلى العكس من ذلك فإن إهمال وتجاهل آراء الآخرين عند الاختلاف حول القضايا هي التي تؤدي إلى نشوب التباغض ومن ثم خسران العمل.

سئل أحد رؤساء الدول الغربية(1):

من هو الشخص الذي يستطيع أن يصبح رئيساً للجمهورية من بعدك؟

فقال: ذلك الشخص الذي يتمتع - كحد أدنى - بتحمل اختلاف الرأي.

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «من جهل وجوه الآراء أعيته الحيل»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رأس السياسة استعمال الرفق»(3).

أسباب الاختلاف

الاختلاف - وخصوصاً في الرأي - ينشأ بسبب أمور منها:

1- الاختلاف في الاجتهاد، مثلاً: إن المرحوم الوالد(رحمه الله) كان رأيه الفقهي أن

ص: 226


1- هو الرئيس الفرنسي شارل ديغول (1890-1970م) قائد فرنسي ورجل دولة.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 584.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 378.

الكر يساوي 36 شبراً مكعباً من الماء، وكذلك المرحوم السيد عبد الهادي الشيرازي(رحمه الله)، في الوقت الذي كان المرحوم الحاج حسين القمي(رحمه الله) يرى أن الكر هو ما وصل إلى 43 شبراً مكعباً تقريباً وهناك من الفقهاء من يقول بكون الكر 27 شبراً، والحال أن هؤلاء الفقهاء درسوا معاً، وربما كان أحدهم ملازماً للآخر، وربما عاشوا في مكان واحد أيضاً، ولكن مع ذلك كانت اجتهاداتهم مختلفة وهذا أمر طبيعي يرتبط بقدرة الاستنباط الشرعي.

2- الاختلاف في المصالح، هناك اختلاف يحدث أحياناً نتيجة لمصالح الحياة المتباينة. فمثلاً، عندما كنا في كربلاء المقدسة كنا دائماً نستيقظ من النوم مبكراً ونبدأ بممارسة نشاطاتنا اليومية من درس وبحث وتدريس قد يطول إلى منتصف الليل، وعند عودتنا إلى المنزل نكون متعبين جداً فيصادف في هذا الوقت المتأخر من منتصف الليل أن يطرق الباب أناس يطلبون منا أن نقدم لهم بعض الخدمات لرفع الاختلاف الذي حصل في ما بينهم أو لقضاء بعض حوائجهم وتخفيف معاناتهم، وكان ذلك يحول دون راحتنا وراحة عائلتنا، فهنا ينشب التعارض بين المصلحتين وهذا طبيعي، وقد اعتاد الناس عليه بمراجعة أمثالنا لقضاء حوائجهم. أو كمثال آخر في الزمان السابق حيث كان الأطباء يداوون مرضاهم في بيوتهم - كما كان هو المعتاد في ذلك الزمان - وقد يتضايق الطبيب وعائلته حينما يأتي المريض ليلاً يتأوه من الألم ويبكي فيؤدي ذلك إلى انزعاجهم وسلب راحتهم فيحصل تعارض بين المصالح، مصلحة الطبيب التي هي راحته وراحة عائلته، ومصلحة المريض الذي يريد التداوي ودفع الآلام، وهذه الاختلافات هي من مصالح الحياة الشخصية وهي اختلافات طبيعية.

3- اختلاف العالِم والجاهل، غالباً ما نرى الاختلاف قائماً بين العالم

ص: 227

والجاهل في كثير من جوانب الحياة حتى المتعلقات الشخصية سواء كان في ما يتعلق بوجهات النظر أو في ما يتعلق بالمأكل والملبس... فنتيجة العلم أن تكون الآراء متعقلة وموزونة وكذلك كل ما يتعلق به من أمور، ولذا يتصرف الإنسان العالم وفق القوانين والموازين السليمة عادة، على العكس من الجاهل الذي تكون تصرفاته غير مدروسة عادة، فالعالم تبرز رؤيته وتحليله للحياة بأسلوبيختلف عن الرؤية والتحليل الذي يتبعه الجاهل تماماً، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الجاهل يستوحش مما يأنس به الحكيم»(1).

وقال(عليه السلام): «الجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن من قبل عالماً»(2).

والعالِم مكلف شرعاً أن يرشد الجاهلين ويعلمهم، لا أن يصطدم معهم ويغيضهم، ومما ورد في مسؤولية العالم تجاه الجاهل عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلموا»(3).

وقال(عليه السلام): «على العالم أن يتعلم ما لم يعلم، ويعلم الناس ما قد علم»(4).

وهذه الأقسام الثلاثة التي ذكرناها في الاختلاف لا تحتاج أبداً إلى العنف والخشونة وتعالي الأصوات، بل إن هذا سوف يزيد الأمور تعقيداً وصعوبة، وكل اختلاف مرهون بسببه ومراجعة مقدماته بكل لين وفهم المقابل.

اللاعنف والمناظرة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ضبط النفس عند الرغب والرهب من أفضل

ص: 228


1- عيون الحكم والمواعظ: 53.
2- عيون الحكم والمواعظ: 53.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 478.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 43.

الأدب»(1).

وقال(عليه السلام): «طلب التعاون على إقامة الحق ديانة وأمانة»(2).

من الأمور التي اعتاد عليها بعض الناس في هذه الأيام عند المناظرة هو علوالصوت وافتعال الضوضاء لإرباك وتخويف الخصم، فتلاحظ عندما يناظر شخص شخصاً آخر يرفع صوته ويفتعل حركات مصطنعة لإخافة الطرف المقابل، وهذا الأسلوب غير صحيح؛ فالغلبة على الخصم لاتأتي برفع الصوت والجدال غير المجدي، وإنما تأتي بالمناظرة الهادئة المبنية على الأسس السليمة، وبالجدال الحسن عندما يكون ذلك بحاجة إلى البحث والحوار قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(3). وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اللجوج لا رأي له»(4).

وفي كلام آخر له(عليه السلام) يقول: «الإصرار شر الآراء»(5).

وقال(عليه السلام): «غير منتفع بالحكمة عقل مغلول بالغضب والشهوة»(6).

فإذا أردنا أن نصل مع الآخرين إلى الحل الصحيح والاجتماع على رأي صائب فنحصل على النتيجة المطلوبة، يلزم علينا أن نسلك طريقاً بعيداً عن العنف ونتبع أسلوب التفاهم بالحكمة والموعظة الحسنة والهدوء في معاملتنا مع الآخرين.

حينئذٍ نصل موفقين إن شاء اللّه تعالى إلى الغاية والهدف.

ص: 229


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 427.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 437.
3- سورة النحل، الآية: 125.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 50.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 47.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 472.

ثمار اللاعنف

اشارة

قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).إنّ ثمرة الأعمال تتحدد حسب نوعية الأعمال التي يقوم بها الإنسان، فثمرة الخير خير، وثمرة الشر شر، وتعود نتائج هذه الثمرة بالدرجة الأولى على الإنسان نفسه، فاذا عمل عملاً صالحاً فإن نتائجه سوف تظهر لنفسه، سواء في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما، وكذلك العمل غير الصالح، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}(2).

وأسلوب الرفق واللين (اللاعنف) له نتائج وثمارٌ عملية إيجابية كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:

الأول: رضا اللّه تعالى

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «توخ رضا اللّه وتوق سخطه وزعزع قلبك بخوفه»(3).

يلزم أن يكون هدفنا في جميع أعمالنا هو رضا اللّه سبحانه وتعالى، فالإنسان في هذا الدنيا محاط بكثير من الأمور التي تحاول أن تجرفه إلى الهاوية، فعليه الحذر والحيطة واتباع الأسلوب الهادئ في جميع أموره.

سُئل أحد المراجع كيف أنت؟

قال: كيف بإنسان وضع قدميه في هذه الدنيا من غير اختيار، وهو يودع الدنيا من غير اختيار، وهو بين هذه وتلك جاهل ضعيف حيران.

ص: 230


1- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
2- سورة الجاثية، الآية: 15.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 318.

لذا ينبغي على الإنسان أن يكون يقظاً ويتجنب اللاعنف وسوء الخلق، وتكون جميع أعماله خالصة للّه تعالى طالباً مرضاته تعالى في الغاية والوسيلة على حد سواء، والقرآن الكريم وأحاديث المعصومين(عليهم السلام) هي بحر زاخر بالمعاني والإشارات الظريفة التي لو تمسك بها الإنسان، لوصل إلى سعادته المنشودة،فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «تحر رضى اللّه وتجنب سخطه فإنه لا يدلك بنقمته، ولا غناء بك عن مغفرته، ولا ملجأ لك منه إلّا إليه»(1).

وفي كثير من الموارد حث القرآن الكريم والسنة النبوية على انتهاج الأسلوب اللين والرفق؛ لأن في ذلك مرضاة اللّه تعالى، ومن يرضى اللّه عنه يجعل له مخرجاً في جميع أموره، فقال تبارك وتعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ}(2).

فالثمرة الأولى والأساسية في اتباع أسلوب اللاعنف في الحياة هو رضا اللّه تعالى.

الثاني: الطمأنينة بين الناس

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الرفق يؤدي إلى السلم»(3).

وقال(عليه السلام): «ما استجلبت المحبة بمثل السخاء والرفق وحسن الخلق»(4).

وقال(عليه السلام): «من ترفق في الأمور أدرك أربه منها»(5).

من الثمار الإيجابية لأسلوب اللاعنف في الحياة هو انتشار الأمان والطمأنينة

ص: 231


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 322.
2- سورة الطلاق، الآية: 2-3.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 51.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 689.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 623.

بين الناس، وإذا استثنينا المعارك في زمن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لأنها كانت دفاعية بتمامها بعد نفاذ كل الطرق السلمية، فكثير من الحروب والصراعات الدولية والقبلية وحتى الشخصية التي قامت في الزمن الماضي وفي زماننا هذا، لو بحثنا عن الأسباب التي أدت إليها لوجدنا بأنغالبيتها قامت بسبب التعصب وعدم التعقل (أي العنف والتهور)، ونحن هنا لا نريد ذكر احصائية عن الخسائر والويلات والخسائر البشرية والاقتصادية التي جرتها تلك الحروب والصراعات على البشرية، وإنما نريد أن نذكر بأن هذه الحروب والصراعات كان من الممكن تحاشيها لو أتبع أسلوب التفاهم والحوار بدلاً من أسلوب العنف، ولأصبحت هذه الخسائر البشرية والاقتصادية أداة بناء في المجتمعات، فعلينا إذن أن نعتبر من تلك الدروس والعبر التي سطّرها ويسطّرها لنا التاريخ في الماضي وفي وقتنا هذا.

الثالث: محبوبية الإنسان

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس»(1).

من الثمار الإيجابية التي يجنيها الإنسان من (سياسة اللاعنف) في حياته هي محبوبية ذلك الإنسان في المجتمع والتفاف الناس حوله، فسياسة اللين والرفق التي كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) يتبعها في تعامله مع الناس كان لها الأثر البليغ في دخول الناس في دعوته والالتفاف حوله، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ}(2).

وهكذا جميع الأئمة الأطهار(عليهم السلام) الذين جرت الأخلاق السامية في نفوسهم

ص: 232


1- الكافي 2: 120.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.

مجرى الدم في العروق، فهذا الإمام السجاد(عليه السلام) يلتقي به شيخ من أهل الشام، والإمام(عليه السلام) بحالة يرثى لها من الأسر والمعاناة، رجلاه مقيدتان بالحديد على ظهر الناقة، يُسار به إلى يزيد بن معاوية، ومع هذا كله يقف الشيخ ويأخذ بزمام ناقة الإمام(عليه السلام) ويوجه له خطاباً عنيفاً ينم عن جهله بحقيقه الأمر، فيقول: الحمدللّه الذي قتلكم وفضحكم، وأكذب أحدوثتكم، وأراح العباد والبلاد منكم! ... فيقابل الإمام(عليه السلام) هذه الخشونة والغلظة بطيب الكلام ولين الأخلاق فيقول(عليه السلام): «يا شيخ هل قرأت القرآن؟».

فقال الشيخ: نعم ما أنت والقرآن؟

فقال(عليه السلام): «يا شيخ، هل قرأت: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}»(1)؟

فقال الشيخ: نعم، وما أنت وهذه الآية؟

وذكر له الإمام(عليه السلام) بعض آيات القربى ثم قال: «يا شيخ، واللّه نحن القربى!»(2)

فلما استيقن الشيخ وعلم أن هذا هو ابن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو مظلوم ثارت ثائرته ضد حكومة بني أمية الطاغية الباغية.

فهذه ثمرة اللاعنف، حول العدو إلى محب، فالإمام السجاد(عليه السلام) لم تثر ثائرته بوجه هذا الشيخ، بل كلّمه بلين ورفق حتى استطاع توصيل الحقيقة إليه.

نعم، إن المسلمين بأمس الحاجة إلى أن يعتبروا اللاعنف منهجاً وسلوكاً في جميع أعمالهم... .

«اللّهم صل على محمد وآله، وحلني بحلية الصالحين، وألبسني زينة

ص: 233


1- سورة الشورى، الآية: 23.
2- انظر: اللّهوف: 176.

المتقين في بسط العدل، وكظم الغيظ، وإطفاء النائرة، وضم أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين، وإفشاء العارفة، وستر العائبة، ولين العريكة وخفض الجناح، وحسن السيرة، وسكون الريح، وطيب المخالقة، والسبق إلى الفضيلة، وإيثار التفضل،وترك التعيير، والإفضال على غير المستحق»(1).

من هدي القرآن الحكيم

اللاعنف سلوك حسن

قال تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(2).

وقال سبحانه: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}(4).

بالعمل تنال الدرجات العلى

قال جلّ وعلا: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(5).

وقال سبحانه: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(6).

وقال تعالى: {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(7).

وقال سبحانه: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا}(8).

ص: 234


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة البقرة، الآية: 83.
3- سورة العنكبوت، الآية: 46.
4- سورة الأنفال، الآية: 61.
5- سورة الأحقاف، الآية: 19.
6- سورة الأنعام، الآية: 132.
7- سورة الطلاق، الآية: 11.
8- سورة الكهف، الآية: 110.
ثمار العمل

قال عزّ وجلّ: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).وقال جلّ وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}(2).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(3).

وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}(4).

الاختلاف

قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَٰحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

اللّه رفيق يحب الرفق

قال أبو جعفر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما

ص: 235


1- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
2- سورة النور، الآية: 55.
3- سورة البقرة، الآية: 82.
4- سورة ص، الآية: 28.
5- سورة هود، الآية: 118.
6- سورة يونس، الآية: 19.

لا يعطي على العنف»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى رفيقٌ يحب الرفق، فمن رفقه بعباده تسليله أضغانهم ومضادتهم(2) لهواهم وقلوبهم، ومن رفقه بهم أنه يدعهمعلى الأمر يريد إزالتهم عنه رفقاً بهم؛ لكيلا يلقي عليهم عرى الإيمان ومثاقلته جملة واحدة فيضعفوا، فإذا أراد ذلك نسخ الأمر بالآخر فصار منسوخاً»(3).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إن هذا الدين متينٌ فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرهوا عبادة اللّه إلى عباد اللّه؛ فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى»(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا علي، إن هذا الدين متينٌ فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت - يعني المفرط - لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً، واحذر حذر من يتخوف أن يموت غداً»(5).

الغضب أول العنف

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عامل بالعنف ندم»(6).

وقال(عليه السلام): «لا تَغْضَبوا ولا تَعْضَبوا(7) أفشوا السلام وأطيبوا الكلام»(8).

ص: 236


1- الكافي 2: 119.
2- التسليل: انتزاع الشيء وإخراجه برفق، والأضغان: الأحقاد التي في القلوب والعداوة والبغضاء، والمضادة: منع الخصم عن الأمر برفق.
3- الكافي 2: 118.
4- الكافي 2: 86.
5- الكافي 2: 87.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 577.
7- لا تعضبوا: أي لا تقطعوا.
8- الكافي 2: 645.

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «مكتوب في التوراة في ما ناجى اللّه عزّ وجلّ به موسى(عليه السلام): يا موسى أمسك غضبك عمن ملَّكتُك عليه أكفَّ عنك غضبي»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رجل للنبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يا رسول اللّه علمني،قال(صلی الله عليه وآله وسلم): اذهب ولا تغضب، فقال الرجل: قد اكتفيت بذاك، فمضى إلى أهله، فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح، فلما رأى ذلك لبس سلاحه ثم قام معهم، ثم ذكر قول رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): لا تغضب، فرمى السلاح ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدو قومه، فقال: يا هؤلاء، ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعلي في مالي أنا أوفيكموه، فقال القوم: فما كان فهو لكم، نحن أولى بذلك منكم، قال: فاصطلح القوم وذهب الغضب»(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إن في التوراة مكتوباً: يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب أذكرك عند غضبي، فلا أمحقك في من أمحق، وإذا ظلمت بمظلمةٍ فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك»(3).

وقال رجل لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): أوصني.

فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا تغضب».

ثم أعاد عليه. فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا تغضب» ثم قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»(4).

أخذت باليسير

وعن حنان بن سدير قال: كنت أنا وأبي وأبو حمزة الثمالي وعبد الرحيم

ص: 237


1- الكافي 2: 303.
2- الكافي 2: 304.
3- الكافي 2: 304.
4- تحف العقول: 47.

القصير وزياد الأحلام حُجاجاً، فدخلنا على أبي جعفر(عليه السلام) فرأى زياداً وقد تسلخ جلده، فقال له: «من أين أحرمت؟».

قال: من الكوفة.قال: «ولم أحرمت من الكوفة؟».

فقال: بلغني عن بعضكم أنه قال: ما بعد من الإحرام فهو أعظم للأجر.

فقال: «ما بلَّغك هذا إلّا كذاب».

ثم قال لأبي حمزة الثمالي: «من أين أحرمت؟».

فقال: من الربذة.

فقال له: «ولم لأنك سمعت أن قبر أبي ذر بها فأحببت أن لا تجوزه».

ثم قال لأبي وعبد الرحيم: «من أين أحرمتما؟».

فقالا: من العقيق.

فقال: «أصبتما الرخصة واتبعتما السنة، ولا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلّا أخذت باليسير؛ وذلك لأن اللّه يسير يحب اليسير ويعطي على اليسير ما لا يعطي على العنف»(1).

ثمار اللاعنف

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما اصطحب اثنان إلّا كان أعظمهما أجراً وأحبّهما إلى اللّه عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما وضع الرفق على شيء إلّا زانه، ولا وضع الخرق على شي ء إلّا شانه، فمن أعطي الرفق أعطي خير الدنيا والآخرة، ومن حرمه فقد حرم خير

ص: 238


1- الاستبصار 2: 162.
2- الكافي 2: 120.

الدنيا والآخرة»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من رفق بمصاحبه وافقه، ومن أعنف به أخرجهوفارقه»(2).

وقال(عليه السلام): «موافقة الأصحاب تديم الاصطحاب، والرفق في المطالب يسهل الأسباب»(3).

وقال(عليه السلام): «اجملوا في الخطاب تسمعوا جميل الجواب»(4).

وقال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «من قسم له الرفق قسم له الإيمان»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما استجلبت المحبة بمثل السخاء والرفق وحسن الخلق»(6).

نوعية العمل المقبول عند اللّه

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من عمل أحب إلى اللّه تعالى وإلى رسوله من الإيمان باللّه والرفق بعباده، وما من عمل أبغض إلى اللّه تعالى من الإشراك باللّه تعالى والعنف على عباده»(7).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام) في الدعاء: «وأعني على صالح النية ومرضي القول ومستحسن العمل»(8).

ص: 239


1- النوادر للراوندي: 4.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 468.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 712.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 158.
5- الكافي 2: 118.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 689.
7- النوادر للراوندي: 153.
8- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في يوم عرفة.

وفي وصية رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر أنه قال: «يا أبا ذر: كن بالعمل بالتقوى أشد اهتماماً منك بالعمل، فإنه لا يقل عمل بالتقوى وكيف يقلُّ عمليتقبل...»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا خير في عمل إلّا مع اليقين والورع»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من شيء أحب إلى اللّه عزّ وجلّ من عمل يداوم عليه وإن قلّ»(3).

اللاعنف في المعيشة

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «أيما أهل بيت أعطوا حظهم من الرفق فقد وسع اللّه عليهم في الرزق، والرفق في تقدير المعيشة خيرٌ من السعة في المال، والرفق لا يعجز عنه شيء، والتبذير لا يبقى معه شيء، إن اللّه عزّ وجلّ رفيق يحب الرفق»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن في الرفق الزيادة والبركة، ومن يحرم الرفق يحرم الخير»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما زوي الرفق عن أهل بيت إلّا زوي عنهم الخير»(6).

اللاعنف في التبليغ

عن هشام بن أحمر عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: قال لي وجرى بيني وبين رجل

ص: 240


1- مكارم الأخلاق: 468.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 793.
3- الكافي 2: 82.
4- الكافي 2: 119.
5- الكافي 2: 119.
6- الكافي 2: 119.

من القوم كلامٌ فقال لي: «أرفق بهم، فإنّ كفرَ أحدهم في غضبه، ولا خير في منكان كفره في غضبه»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن عيسى(عليه السلام) لما أراد وداع أصحابه جمعهم وأمرهم بضعفاء الخلق ونهاهم عن الجبابرة، فوجه اثنين إلى أنطاكية فدخلا في يوم عيد لهم، فوجداهم قد كشفوا عن الأصنام وهم يعبدونها، فعجّلا عليهم بالتعنيف، فشُدا بالحديد وطرحا في السجن، فلما علم شمعون بذلك أتى أنطاكية حتى دخل عليهما في السجن وقال: ألم أنهكما عن الجبابرة؟

ثم خرج من عندهما وجلس مع الناس مع الضعفاء، فأقبل فطرح كلامه الشيء بعد الشيء، فأقبل الضعيف يدفع كلامه إلى من هو أقوى منه وأخفوا كلامه خفاءً شديداً، فلم يزل يتراقى الكلام حتى انتهى إلى الملك، فقال: منذ متى هذا الرجل في مملكتي؟

فقالوا: منذ شهرين.

فقال: علي به، فأتوه فلما نظر إليه وقعت عليه محبته، فقال: لا أجلس إلّا وهو معي.

فرأى في منامه شيئاً أفزعه، فسأل شمعون عنه، فأجاب بجواب حسن فرح به، ثم ألقي عليه في المنام ما أهاله فأولها له بما ازداد به سروراً، فلم يزل يحادثه حتى استولى عليه، ثم قال: إن في حبسك رجلين عابا عليك.

قال: نعم.

قال: فعلي بهما.

فلما أتي بهما قال: ما إلهكما الذي تعبدان؟

ص: 241


1- الكافي 2: 119.

قالا: اللّه.

قال: يسمعكما إذا سألتماه، ويجيبكما إذا دعوتماه.

قالا: نعم.

قال شمعون: فأنا أريد أن أستبرئ ذلك منكما.

قالا: قل.

قال: هل يشفي لكما الأبرص.

قالا: نعم.

قال: فأتي بأبرص فقال: سلاه أن يشفي هذا.

قال: فمسحاه فبرأ.

قال: وأنا أفعل مثل ما فعلتما.

قال: فأتي بآخر فمسحه شمعون فبرأ.

قال: بقيت خصلة إن أجبتماني إليها آمنت بإلهكما.

قالا: وما هي؟

قال: ميت تحييانه.

قالا: نعم.

فأقبل على الملك وقال: ميت يعنيك أمره؟

قال: نعم ابني.

قال: اذهب بنا إلى قبره فإنهما قد أمكناك من أنفسهما.

فتوجهوا إلى قبره فبسطا أيديهما، فبسط شمعون يديه فما كان بأسرع من أن صدع القبر وقام الفتى فأقبل على أبيه، فقال أبوه: ما حالك؟

قال: كنت ميتاً ففزعت فزعة فإذا ثلاثة قيام بين يدي اللّه باسطوا أيديهم يدعون اللّه أن يحييني وهما هذان وهذا.

ص: 242

فقال شمعون: أنا لإلهكما من المؤمنين.

فقال الملك: أنا بالذي آمنت به يا شمعون من المؤمنين.

وقال وزراء الملك: ونحن بالذي آمن به سيدنا من المؤمنين.

فلم يزل الضعيف يتبع القوي فلم يبق بأنطاكية أحد إلّا آمن به»(1).

اللاعنف السياسي

كانت سياسة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وكذلك أمير المؤمنين(عليه السلام) على اللين والسلم واللاعنف، أما الذين تقمصوا الخلافة فلم يسيروا على سيرة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، فعن ابن عباس قال: بعث أبو بكرٍ عمرَ بنَ الخطاب إلى علي(عليه السلام) حين قعد عن بيعته. وقال: ائتني به بأعنف العنف!(2).

وورد في قصة أبي ذر(رحمه الله) أنه: كتب عثمان إلى معاوية أن احمل أباذر على ناب صعبة وقتب، ثم ابعث معه من يخشن به خشناً عنيفاً حتى يقدم به عليّ، قال - الراوي - : فحمله معاوية على ناقة صعبة عليها قتب ما على القتب إلّا مسح، ثم بعث معه من يسيره سيراً عنيفاً.

قال: وخرجت معه فما لبث الشيخ إلّا قليلاً حتى سقط ما يلي القتب من لحم فخذيه وقرح، فكنت إذا كان الليل أخذت ملائي فألقيتهما تحته، فإذا كان السحر نزعتهما مخافة أن يروني فيمنعوني من ذلك(3).

لا للعنف

عن أبي جعفر(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) أن علياً(عليه السلام) كان يقول: «لا قطع على أحد تخوف من ضرب ولا قيد ولا سجن ولا تعنيف إلّا أن يعترف، فإن اعترف قطع،

ص: 243


1- قصص الأنبياء(عليهم السلام) للراوندي: 274.
2- بحار الأنوار 28: 388.
3- تقريب المعارف: 266.

وإن لم يعترف سقط عنه لمكان التخويف»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(2): «عفواً من غير عقوبة ولا تعنيف ولا عتب»(3).

اللاعنف دائماً

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام) لبريد بن معاوية: «بعث أمير المؤمنين(عليه السلام) مصدّقاً من الكوفة إلى باديتها، فقال له: يا عبد اللّه انطلق وعليك بتقوى اللّه وحده لا شريك له، ولا تؤثرن دنياك على آخرتك، وكن حافظاً لما ائتمنتك عليه، راعياً لحق اللّه فيه، حتى تأتي نادي بني فلان. فإذا قدمت فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بسكينة ووقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، ثم قل لهم:

يا عباد اللّه، أرسلني إليكم ولي اللّه لآخذ منكم حق اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حق فتؤدون إلى وليه؟

فإن قال لك قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم منهم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلّا خيراً، فإذا أتيت ماله فلا تدخله إلّا بإذنه فإن أكثره له، فقل: يا عبد اللّه أتأذن لي في دخول مالك، فإن أذن لك فلا تدخله دخول متسلّط عليه فيه ولا عنف به، فاصدع المال صدعين ثم خيّره أي الصدعين شاء، فأيهما اختار فلا تعرض له، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيّره فأيهما اختار فلا تعرض له، ولا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق اللّه تبارك وتعالى من ماله، فإذا بقي ذلك فاقبض حق اللّه منه، وإن استقالك فأقله، ثم اخلطها واصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق اللّه في ماله، فإذا قبضته فلا توكل به إلّا ناصحاً شفيقاً

ص: 244


1- تهذيب الأحكام 10: 128.
2- سورة الحجر، الآية: 85.
3- بحار الأنوار 75: 357.

أميناً حفيظاً غير معنف لشي ء منها، ثم احدر كل ما اجتمع عندك من كل ناد إلينا نصيّره حيث أمر اللّه عزّ وجلّ، فإذا انحدر بها رسولك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها ولا يفرق بينهما، ولا يمصرن(1) لبنها فيضر ذلك بفصيلها، ولا يجهد بها ركوباً، وليعدل بينهن في ذلك، وليوردهن كل ماء يمر به، ولا يعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطريق في الساعة التي فيها تريح وتغبق، وليرفق بهن جهده حتى يأتينا بإذن اللّه صحاحاً سماناً، غير متعبات ولا مجهدات، فيقسمن بإذن اللّه على كتاب اللّه وسنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم) على أولياء اللّه، فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك، ينظر اللّه إليها وإليك وإلى جهدك ونصيحتك لمن بعثك وبعثت في حاجته، فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: ما ينظر اللّه إلى ولي له يجهد نفسه بالطاعة والنصيحة له ولإمامه إلّا كان معنا في الرفيق الأعلى».

قال: ثم بكى أبو عبد اللّه(عليه السلام) ثم قال: «يا بريد، لا واللّه ما بقيت للّه حرمة إلّا انتهكت، ولا عمل بكتاب اللّه ولا سنة نبيه في هذا العالم، ولا أقيم في هذا الخلق حد منذ قَبض اللّه أمير المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه ولا عمل بشيء من الحق إلى يوم الناس هذا - ثم قال: - أما واللّه لا تذهب الأيام والليالي حتى يحيي اللّه الموتى ويميت الأحياء ويرد الحق إلى أهله ويقيم دينه الذي ارتضاه لنفسه ونبيه فأبشروا ثم أبشروا ثم أبشروا فواللّه ما الحق إلّا في أيديكم»(2).

اللاعنف من صفات المؤمن

وصف أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) المؤمن بهذه الصفات فقال:

ص: 245


1- مَصَر الرجل الشاة: إذا حلبها بأطراف الأصابع الثلاث.
2- الكافي 3: 536.

«يا همام، المؤمن هو الكيس الفطن، بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذل شيء نفساً، زاجر عن كل فان، حاض على كل حسن، لا حقود ولا حسود، ولا وثَّاب ولا سبَّاب، ولا عياب ولا مغتاب، يكره الرِّفعة، ويشنأ السمعة(1)، طويل الغم، بعيد الهم، كثير الصمت، وقور ذكور، صبور شكور، مغموم بفكره، مسرور بفقره، سهل الخليقة، لين العريكة، رصين الوفاء، قليل الأذى، لا متأفك ولا متهتك، إن ضحك لم يخرق، وإن غضب لم ينزق(2)، ضحكه تبسم، واستفهامه تعلم، ومراجعته تفهم، كثير علمه، عظيم حلمه، كثير الرحمة، لا يبخل ولا يعجل، ولا يضجر ولا يبطر، ولا يحيف في حكمه، ولا يجور في علمه، نفسه أصلب من الصلد(3)، ومكادحته أحلى من الشهد، لا جشع ولا هلع، ولا عنف ولا صلف، ولا متكلف ولا متعمق، جميل المنازعة، كريم المراجعة، عدل إن غضب، رفيق إن طلب، لا يتهور ولا يتهتك ولا يتجبر...»(4).

اللاعنف مع الحيوان

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه رفيق يحب الرفق ويعين عليه فإذا ركبتم الدواب العجف فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض مجدبة فانجوا عنها، وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها»(5).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا تضربوا وجوه الدواب وكل شيء فيه الروح؛ فإنه يسبّح بحمد

ص: 246


1- يشنأ السمعة: أي يبغض الرياء.
2- نزق: خف عند الغضب.
3- أصلب من الصلد: أي من الحجر الصلب.
4- الكافي 2: 226.
5- الكافي 2: 120.

اللّه»(1).

وعن إبراهيم بن علي عن أبيه قال: حججت مع علي بن الحسين(عليهما السلام) فالتاثت(2) عليه الناقة في سيرها، فأشار إليها بالقضيب ثم قال: «آه لو لا القصاص» وردّ يده عنها(3).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «إذا سرت في أرض خصبة فارفق بالسير، وإذا سرت في أرض مجدبة فعجل بالسير»(4).

أهمية العمل

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «... والعمل كنز، والدنيا معدن...»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «... وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم يرشدك والعمل يبلغ بك الغاية»(7).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «يا هشام إن كل الناس يبصر النجوم ولكن لا يهتدي بها إلّا من عرف مجاريها ومنازلها، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلّا من عمل بها»(8).

ص: 247


1- المحاسن 2: 633.
2- التاثت عليه الناقة: أي أبطأت في سيرها.
3- الإرشاد 2: 144.
4- من لا يحضر الفقيه 2: 290.
5- أعلام الدين: 341.
6- الكافي 2: 75.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 115.
8- تحف العقول: 392.

المرأة المسلمة والوصايا الأخيرة

1- التقوى والخوف من اللّه

اشارة

الموضوع الأول هو التقوى.

كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) على عظمته يخاف اللّه عزّ وجلّ دائماً، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يغمى عليه من شدة الخوف من اللّه سبحانه وتعالى.

فهل رأيتم شخصاً يغمى عليه من الخوف.

الأنبياء(عليهم السلام)، الأئمة الأطهار(عليهم السلام) وأولياء اللّه الصالحون، كانوا يخافون اللّه أشد الخوف ومن شدة الخوف كان يغمى عليهم.

في السنة الثالثة من البعثة اُسري بالنبي(صلی الله عليه وآله وسلم) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومن ثم عرج به إلى السماوات العلى، يقول اللّه تعالى في القرآن الكريم: {سُبْحَٰنَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَٰرَكْنَا حَوْلَهُ}(1)، والمسجد الأقصى هو بيت المقدس الذي احتلته اليهود بالقهر والطغيان، ففي ليلة المعراج ذهب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى هناك ثم عرج إلى السماوات، فشاهد الجنة والنار بكل تفاصيلها وبكافة خصائصها وجزئياتها، كما ورد في الروايات.

فلما عاد النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى الأرض من رحلة المعراج، عاش عشرون عاماً بعد

ص: 248


1- سورة الإسراء، الآية: 1.

رجوعه، وقد ذكر المؤرخون أنه لم ير ضاحكاً بعد ذلك أبداً. نعم كان النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يبتسم، ولكن لا يضحك لشدة خوفه من اللّه عزّ وجلّ ولما رآه من نار جهنم وعذابها.

وللمثال نذكر إنه لو فقد شخص عزيزاً له - لا سمح اللّه ولا قدر - عندما يسمع هذا المصاب بشيء مفرح قد ترتسم البسمة على شفتيه، من دون أن تكون صادرة من قلبه وأعماقه، هكذا كان نبي الإسلام(صلی الله عليه وآله وسلم) بعد قصة الإسراء والمعراج.

يقول اللّه تعالى في القرآن المجيد: {لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَٰتِنَا}(1). فلما عاين(صلی الله عليه وآله وسلم) جهنم لم يضحك بالرغم من أن اللّه تعالى بشره بأنه مبعد عنها كل البعد، ولكنّ رؤية عذاب اللّه والأفراد المعذبين في جهنم تذهب بالضحكة من شفاه الإنسان.

مثلاً إذا كان الإنسان في بيته ويسمع صوت تعذيب شخص من البيت المجاور، فيتأثر ويتألم بالرغم من أنه لم يعذب شخصياً، ولكنّ روحه تتألم.

نعم، جهنم صعبة جداً وغير قابلة التحمل أصلاً. لذا يلزم على الإنسان أن يخشى اللّه ويتقيه.

معنى التقوى

التقوى تعني أن الإنسان يخشى اللّه ويخافه دائماً، وأن تكون أعضائه وجوارحه كلها خاشعة ومطيعة للّه تعالى، هذه هي التقوى.

أما الأشخاص الذين يسمعون الأغاني فإنهم لا يخافون اللّه.

وأولئك الذين يُقدمون على الحرام ويرتكبون المعاصي لا يخافون اللّه.

والشخص الذي يكذب لا يخاف اللّه.

والمرأة السافرة أو التي لا تعتني بحجابها لا تخاف اللّه.

ص: 249


1- سورة الإسراء، الآية: 1.

إن على الإنسان أن يتذكر التقوى دائماً وأن لا ينسى ذكر اللّه أبداً.

فإن التقوى باعثة للسمو والرفعة في الدنيا والآخرة.

التقوى لا ترتبط بالآخرة فقط، بل خيرها يشمل الدنيا أيضاً. فإن الإنسان لا يستأجر شخصاً خائناً، والسارق لا يقبله صاحب أي محل ولا يتعامل معه، أما الشخص المتقي فإنه معزز ومكرم في الدنيا من قبل الجميع، وهكذا في الآخرة فإن {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا}(1).

لذا يلزم رعاية التقوى في جميع الأحوال، ويجب على الإنسان أن يجعل رجله وعينه وأذنه وكافة أعضائه وجوارحه منقادة لأمر اللّه، وأن يرى نفسه وأعماله تحت نظر اللّه دائماً وأن لا يغفل عن اللّه أبداً.

الشاب الذي أسلم تواً

جاء في التاريخ(2):

إن شاباً من الأعراب جاء إلى نبي الإسلام(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكان من أطراف المدينة، قال: ما الإسلام؟

فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): الإسلام أن تشهد الشهادتين: «لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه»، الشهادة التي يتشهد بها كافة المسلمين.

أسلم ذلك الشاب، وسأل: ثمّ ماذا؟

فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): عليك أن تتعلم القرآن.

ثمّ التفت(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى أحد المسلمين في المسجد وقال: علمه القرآن، فعلمه هذه السورة:

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا *

ص: 250


1- سورة القصص، الآية: 80.
2- انظر: بحار الأنوار 89: 107.

وَقَالَ الْإِنسَٰنُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا * يَوْمَئِذٖ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْاْ أَعْمَٰلَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).

فلما تعلم الشاب هذه السورة القصيرة قام ليرجع إلى قريته، فقال له معلم القرآن: إن القرآن كتاب مفصل وفيه سور كثيرة، وقد علمتك سورة واحدة فقط.

فقال الشاب: لهذه السورة معان كبيرة وقد تعلمت منها الكثير، ويكفيني منها قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}.

ماذا تعني الذرة؟

إذا نفذ شعاع الشمس من خلال ثقب صغير في غرفة مظلمة، فإن الإنسان سوف يشاهد فيها الكثير من الذرات الصغيرة جداً التي تسبح في الفضاء، فكل واحدة منها تسمى ذرة.

إن اللّه تعالى يبين في هذه الآية الشريفة، أن المعيار في ثواب الأعمال وعقابها هو وزن هذه الذرة، يعني: إذا عمل الإنسان بمقدار وزن ذرة خيراً، فسيشاهد نتيجة عمله الخير، وإذا عمل بنفس المقدار شراً، فسيشاهد نتيجة عمله الشر أيضاً، نعم أيّ عمل يعمله الإنسان من خير وشر فسيرى نتيجة عمله في الدنيا قبل الآخرة.

وكيف كان، فإن التقوى هو أن يراقب الإنسان دائماً، يده، عينه، أذنه وكافة أعضائه وجوارحه ويسيطر عليها، لأن اللّه مطلع على كل الأشياء ويرى أعماله ويحاسبه عليها، فإذا تكلم الإنسان قليلاً أو كثيراً، أفحش لا سمح اللّه في كلامه، أو أكل مال الناس، أو استمع الأغاني، أو نظر إلى الحرام، فكل هذه تحصى عليه

ص: 251


1- سورة الزلزلة، الآية: 1- 8.

وتكتب في سجل عمل الإنسان وسيؤاخذ عليها.

إن من صفات اللّه تعالى السميع والبصير، يعني: يسمع كل صوت ويرى كل شيء، ومن صفاته أيضاً {إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(1)، يعني: كل ما يخطر بقلب الإنسان فإن اللّه به عليم وعليه يترتب الجزاء.

إن في يوم القيامة يؤتى بشخص وقد كتب في صحيفة أعماله: ثواب بناء (مسجد جوهر شاد)(2)، فيقول: يا رب إن الملائكة قد اشتبهت فأنا لم أبن مسجد جوهر شاد.

فيقول اللّه تعالى: لم تشتبه الملائكة، بل إنك قد مررت في أحد الأيام من أمام باب مسجد جوهر شاد، فقلت في نفسك: لو كان عندي مال لبنيت به مثل هذا المسجد، فكتبنا لك ثوابه.

أو إن أحد الأشخاص ولا سمح اللّه يمر من أمام نادي من نوادي الحرام فيقول لو بنيت مثل هذا، فتكتب هذه الفكرة في سجل أعماله(3)، أو يسمع بمظلوم قد ظلمه ظالم، فلم ينتصر له ويسكت عنه ويرضى بظلمه، فيكتب له الوزر.

ولقد أشار اللّه تعالى إلى هذا المعنى في القرآن الكريم.

لذا يجب مراقبة النفس دائماً والمراقبة والخوف من اللّه هو التقوى، فالتقوى يعني: أن يراقب الإنسان نفسه دائماً.

من كرامات الحمّال التبريزي

في إحدى أزقة مدينة تبريز أشرف طفل على الوقوع من فوق السطح، وقد

ص: 252


1- سورة الأنفال، الآية: 43.
2- مسجد كوهر شاد: مسجد معروف بجوار مرقد الإمام الرضا(عليه السلام) في مدينة مشهد المقدسة.
3- فإن نية السيئة تسجل ويعاتب عليها الإنسان في يوم القيامة، ولكن لا يعاقبه اللّه عليها، أما نية الخير فتسجل ويثاب الإنسان عليها.

وقف مجموعة من الناس خائفين لا يعلمون ماذا يفعلون، وفي هذه الأثناء مر حمّال بسيط يحمل حملاً فوق رأسه، فلما وقع نظره على الطفل وكان يهوي من السطح إلى الأرض أشار بيده المرتعشة إلى الطفل، وفجأة تعلق الطفل بين السماء والأرض، فمد الرجل يده إلى الطفل وأخذه بلطف وجعله على الأرض.

وهنا التف الناس حوله وجعلوا يسألونه، فقال أحدهم: هل أنت الإمام المهدي(عليه السلام)؟

وقال آخر: هل أنت الخضر(عليه السلام)؟

وقال ثالث: هل أنت ولي من أولياء اللّه؟

في كل ذلك يجيب الحمّال قائلاً: كلا، لم أكن الإمام المهدي ولا الخضر ولا ولياً من أولياء اللّه، بل أنا عبد من عباد اللّه، وقد سمعت كلام اللّه أكثر من سبعين سنة، والآن قد سمع اللّه كلامي.

يقال إن قبر هذا الرجل المؤمن موجود الآن في مدينة تبريز وله ضريح، ويذهب الناس لزيارته ويتوسلون إلى اللّه عند قبره فيستجاب دعاؤهم.

نعم، من يسمع كلام اللّه، يسمع اللّه كلامه.

الإنسان عادة مبتلى في هذه الدنيا. يحزن، يفتقر، يمرض طفله، تحصل له مشكلة، إن البشر عموماً هكذا، فإذا ما أطاع اللّه فإن اللّه يستجيب له دعاءه، هذه سنة إلهية وقد أشار اللّه تعالى إليها في القرآن بقوله: {أَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}(1).

نعم، كل هذه الأمور تشكل التقوى.

إن الأنبياء(عليهم السلام) جميعاً أوصوا بالتقوى، وكذلك الأئمة(عليهم السلام) أكدوا على التقوى،

ص: 253


1- سورة البقرة، الآية: 40.

وقد أمرت كافة الكتب السماوية بالتقوى أيضاً.

التقوى: تعني أن يعلم الإنسان بأن اللّه حاضر عنده وناظر إليه دائماً.

الأعمى الذي ارتد بصيراً

يقال: إن رجلاً أعمى كان يقف إلى جانب قبر الإمام الرضا(عليه السلام) في الحرم الشريف ويسترحم الناس. وفي أحد الأيام ارتفعت الأصوات في الحرم بشدة حتى ملأت كل مكان. وفي هذه الأثناء اقترب شخص من الأعمى وقال له: يا عم منذ متى وأنت أعمى؟

قال الأعمى وهو لا يعرف الرجل الذي يكلّمه: أربعون عاماً.

قال له: كم عاماً لك وأنت تسترحم الناس في حرم الإمام الرضا(عليه السلام)؟

قال: عشرون عاماً.

قال: وأين كنت في العشرين عاماً الأخرى؟

قال: في مدينتي.

قال: عشرون عاماً في صحن الإمام الرضا(عليه السلام)؟

قال: نعم.

قال: فلماذا لم تطلب من الإمام الرضا(عليه السلام) في هذه المدة الطويلة شفاء عينيك؟

ثمّ قال له بشدة: هل تعرفني؟

قال الأعمى: كلا.

قال له: أنا نادر شاه(1).

وكان نادر شاه حاكماً مستبداً ولا يبالي بإراقة الدماء، فارتعدت فرائص الرجل

ص: 254


1- نادر شاه الأفشار (1688- 1747): حاكمٌ إيراني.

الأعمى حين طرق سمعه اسم الملك نادر شاه.

ثمّ قال نادر شاه لمرافقيه: امسكوا به، حتى أكمل الزيارة وأعود، فإذا ما بقي هذا الرجل أعمى فاضربوا عنقه.

فخاف ذلك الشخص الأعمى كثيراً، ولشدة خوفه سقط على الأرض مرتعشاً، وانقطع بكله إلى اللّه، وتوجه بقلبه إلى الإمام الرضا(عليه السلام) وقال: يا سيدي يا علي بن موسى الرضا، إن نادر شاه إنسان قاتل، فإذا رجع ولم يرني مبصراً قتلني، كان يقول ذلك بقلب منكسر، ويتوسل بالإمام(عليه السلام) في أن يشفع له إلى اللّه تعالى في شفائه وإبصاره، فشافاه اللّه تعالى بشفاعة الإمام الرضا(عليه السلام) وأبصرت عيناه.

عاد نادر شاه وإذا به يرى الأعمى وقد أبصر، فقال له: ماذا حدث؟

فال: أبصرت ببركة الإمام الرضا(عليه السلام).

قال له نادر شاه: كيف أبصرت في لحظات، ولم تبصر مدة عشرين عاماً؟

قال: الآن دعوت صادقاً من أعماق قلبي وأقسمت اللّه بحق الإمام الرضا(عليه السلام) بكل وجودي، وذلك لشدة الخوف على نفسي الذي اعتراني من تهديدك إياي بالقتل، وبالفعل لم يخيب الإمام(عليه السلام) رجائي.

قال له نادر شاه: صدقت، ثم خرج من الحرم الرضوي الشريف، بعد أن أمر بإعطائه مبلغاً جيداً من المال، ويقال إن قبر هذا الشخص في مشهد موجود إلى الآن.

نعم، إذا انقطع الإنسان إلى اللّه عزّ وجلّ، ووسط عنده المعصوم(عليه السلام) بقلب منكسر ونية صافية، فإن حوائجه تقضى إن شاء اللّه تعالى.

تهيأ البيت المناسب

قال أحد أصدقائنا من الكربلائيين: عندما أخرجنا من العراق وجئنا إلى إيران وسكنا مدينة قم المقدسة، سعيت كثيراً لأجل شراء بيت حتى مللت. كان المال

ص: 255

موجوداً أما لم أجد البيت المناسب الذي أطلبه. أردت أن أستأجر بيتاً ولكن لم أجد المكان المناسب. وفي أحد الأيام حزنت كثيراً فذهبت إلى مرقد السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام) وقلت لها بقلب منكسر: سيدتي ومولاتي أنا ضيفك وقد نزلت بجوارك، فهل هكذا تحمين النازلين، وتضيّفين الداخلين عليك؟

قلت ذلك بحرقة قلب ثمّ خرجت من المرقد المبارك نحو الصحن، وإذا بي أرى في الصحن الشريف واحداً من المعارف قد قصدني وقال: منذ مدة وأنت تبحث عن بيت فهل وجدت شيئا؟

قلت: كلا.

قال: تعال معي فإن هناك بيتاً مناسباً.

فذهبت معه فأراني بيتاً، فأعجبني حيث لاحظت أنه هو نفس البيت الذي كنت أبحث عنه، فاشتريته وإلى الآن أسكن فيه.

نعم يبدو أن هذا الرجل عندما كان يذهب إلى المرقد الشريف لم يدعُ من أعماق قلبه وإنما كان الدعاء يجري على لسانه دون قلبه، والحال إن اللّه تعالى يريد قلب الإنسان، فالقرآن يصرح: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(1)، يعني: في يوم القيامة لا ينفع الإنسان شيء من المال والبنين ولا يفلح أحد قط إلّا من جاء بقلب سليم.

فإذا كان قلب الإنسان - لا سمح اللّه ولا قدر - غير سليم فإنه سيكون منالأشقياء والعياذ باللّه.

وفي آية أخرى قال تعالى: {ءَاثِمٌ قَلْبُهُ}(2) فالقلب قد يكون عاصياً آثماً.

ص: 256


1- سورة الشعراء، الآية: 89.
2- سورة البقرة، الآية: 283.

لذا يجب علينا دائماً أن لا ننسى التقوى. وأن نخاف اللّه في كل صغيرة وكبيرة، فإن الذي يخاف اللّه خافه كل شيء، ومن كان مع اللّه كان اللّه معه، يعينه وينجيه من المشاكل، قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(1).

فالتقوى إذن موضوع بحثنا الأول.

إنه يجب على الجميع أن يكونوا متقين.

الرجل يجب أن يكون متقياً.

المرأة يجب أن تكون متقية.

الشاب يجب أن تكون له تقوى.

الفتاة يجب أن تكون لها تقوى.

إن الذي لا يملك التقوى يضر نفسه قبل غيره، فاللّه تعالى لا يستجيب دعاءه ولا يقضي له حوائجه.

امرأة من زنجان

وفدت عليّ قبل شهر أو أكثر امرأة من مدينة زنجان وقالت: إن لي مشكلة.

قلت: وما هي مشكلتك؟

قالت: لي بنت وقد حان وقت زواجها ولكن لم يتقدم أحد لخطبتها.

فقلت لها: من أي مدينة أنت؟

قالت: من زنجان.

قلت: استغفري اللّه يومياً مائة مرة (أستغفر اللّه وأتوب إليه) واقرأي كل يوم الدعاء المروي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام): (يا من تحل به

ص: 257


1- سورة الطلاق، الآية: 2-3.

عقد المكاره) المذكور في أوائل كتاب مفاتيح الجنان(1)، يسهل اللّه عليك إن شاء اللّه تعالى.

ذهبت المرأة ثمّ جاءت بعد مدة وقالت: التزمت بالاستغفار والدعاء، وقد تزوجت ابنتي بحمد اللّه تعالى.

إن هذه المرأة انقطعت بقلبها إلى اللّه، واستغفرته ودعته من أعماق قلبها وبنية صادقة، فاستجاب اللّه لها دعاءها.

كونوا مع اللّه يكون اللّه معكم، قال اللّه تعالى في القرآن المجيد: {أَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}(2)، أي أسمعوا كلامي لأسمع كلامكم.

وفي آية أخرى عبّر عن ذلك بالبيع، فكما إن الإنسان يدفع المال ليأخذ في مقابله الخبز مثلاً، فكذلك اللّه تعالى يقول لعباده بيني وبينكم تتم معاملة بيع،{فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ}(3).

هذا هو الموضوع الأول وهو التقوى.

2- حسن الأخلاق

وأما الموضوع الثاني والذي يلزم أن يكون في أذهاننا دائماً ونلتزم به في جميع الأحوال، هو: حسن الخلق.

إن عاقبة الخلق الحسن الجنة وعاقبة الخلق السيئ النار، كما ورد فيالحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «عليكم بحسن الخلق فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق فإن سوء الخلق في النار لا محالة»(4).

ص: 258


1- أورده المرحوم الشيخ عباس القمي في مفاتيح الجنان: وكذا الكفعمي في المصباح: 233.
2- سورة البقرة، الآية: 40.
3- سورة التوبة، الآية: 111.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 31.

وفدت عليّ قبل مدة في هذا المكان مجموعة من النسوة المؤمنات من مدينة يزد وكن حوالي 500 امرأة. فقلت لهن: إن الآيات والروايات تقول إن مَثَل جهنم مَثَل بيت مملوء بالنار ثم تكبّل يدا الإنسان ورجلاه ثمّ يلقى في النار فيعذب من دون أن يستطيع القيام بأي عمل.

يقول اللّه تعالى في القرآن: إذا عمل الإنسان عملاً سيئاً، أو ساءت أخلاقه، أو اقترف ذنباً، فستكبل يداه ورجلاه ويلقى في جهنم، {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٖ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}(1)، أي: قيدوه في سلسلة من نار طولها سبعون ذراعاً - يعني: مائة وأربعين شبراً، إذ الذراع هو مقدار ما بين رؤوس الأصابع إلى المرفق - فإن العاصي يقيد في هذه السلسلة النارية ويسحب إلى جهنم نعوذ باللّه.

والمقيّد بهكذا سلسلة لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شيئاً، بل لا يستطيع أن يتحرك أصلاً.

فإذا وقع لا سمح اللّه ولا قدر مثل هذا البلاء على الإنسان فماذا يكون مصيره؟

بحمد اللّه أنتن مثقفات وتدركنَ هذه المعاني، أنتن متعلمات وقد درستن وطالعتن الكتب، وتحضرنَ المجالس الدينية والحسينية وتسمعنَ هذا الخطاب، لذا يجب أن تكنَ حسنات الأخلاق دائماً.

قال اللّه تعالى لموسى(عليه السلام) قبل أربعة آلاف سنة - على ما جاء في التوراة - : «كما تدين تدان»(2)، يعني: كيفما تتعامل مع الآخرين يتعامل الناس معك أيضاً، فإذا ساءت أخلاقك مع الناس ساءت أخلاقهم معك، وإذا حسنت أخلاقك مع

ص: 259


1- سورة الحاقة، الآية: 32.
2- الكافي 2: 138.

الناس حسنت أخلاقهم معك، وإذا عاملتهم بسوء عاملوك بسوء، وإذا عاملتهم بلطف عاملوك بلطف أيضاً، وهكذا.

لذا يجب عليكن أن تكنَ حسنات الأخلاق دائماً. فإذا كان الإنسان سيئ الأخلاق في وقت ما فسينال جزاءه في الدنيا، ويتعرض هو أيضاً لمعاملة سيئة، فقد يكون ابنه لا سمح اللّه سيئ الأخلاق مثلاً، أو يكون أخوه أو أخته لا سمح اللّه ولا قدر سيئي الأخلاق.

نعم، إنه «كما تدين تدان»، يعني: كل ما تعمل سوف تجزى بمثله. فإذا أحسنت فسترى الإحسان وإذا أسأت فسترى ما يسوءك.

إن الإنسان يجب عليه أن يكون دائماً وفي كل الأحوال حسن الأخلاق، وأن لا يكون سيئ الأخلاق حتى إذا أساء إليه شخص آخر، فالمرأة لا سمح اللّه ولا قدر إذا أساء إليها زوجها، أو أبوها، أو أخوها، أو أختها، أو ابنها، أو جارتها، فيجب عليها في مقابل ذلك أن تكون حسنة الأخلاق.

إذن لا تنسين إن شاء اللّه ما قلناه:

أولاً: التقوى دائماً وفي كل حال.

ثانياً: الأخلاق الحسنة دائماً وفي كل حال.

يقول النبي عيسى(عليه السلام) في هذا المعنى، وهو من الأنبياء العظام: «إن لطم خدك الأيمن فأعطه الأيسر وتقرب إليه بالمودة جهدك وأعرض عن الجاهلين»(1).

3- القدرة على الكتابة والتأليف

الموضوع الثالث: القدرة على الكتابة والتأليف.

ص: 260


1- الكافي 8: 138.

يلزم على كل واحدة منكن أن تسعى لتنمية قدراتها على الكتابة والتأليف. فبحمد اللّه تعالى أنتن متعلمات وقد درستن بعض العلوم الدينية، لذا يلزم أن تكتبن الكتب النافعة والمفيدة للمجتمع وخاصة النسوي منه، لزميلاتكن ومثيلاتكن من البنات والنساء.

إن المسيحيين واليهود، مع قلة معنوياتهم فإن نساءهم أيضاً يؤلفن الكتب، أما نحن الشيعة مع كثرة معنوياتنا فإن نساءنا وبصورة خاصة لا يؤلفن الكتب، مع العلم أن أول سيدة ألفت كتاباً في الإسلام هي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام).

إن فاطمة الزهراء(عليها السلام) وهي القدوة والأسوة كانت بنت تسع سنين حيث تزوجت من الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام).

ثم قضت تسع سنين أخرى في بيت أمير المؤمنين(عليه السلام) ثمّ استشهدت.

إنها(عليها السلام) خلال هذه المدة القصيرة أنجبت خمسة أو ستة من الأولاد الكرام، إضافة إلى أنها(عليه السلام) كانت تكنس البيت، وتغسل الملابس وتخيطها، وتستقي الماء من البئر، لأن الماء سابقاً لم يوصل بالأنابيب. وكانت(عليها السلام) تطحن بالرحى وتخبز الخبز أيضاً لأن في ذلك الوقت لم توجد المطاحن كما لم توجد المخابز المتعارفة في يومنا هذا، فكان كل واحد يطحن لنفسه ويخبز الخبز في بيته.

إن السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) على عظمتها وفضلها وعلى ما كانت عليه منهذه الأعمال المتعبة، كانت(عليها السلام) تؤلف الكتب أيضاً، وكتابها هو (مصحف فاطمة) حيث جاء فيه كل ما سمعته عن أبيها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مضافاً إلى علوم أخرى مما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، وقد توارثه أولادها الطاهرون(عليهم السلام) وهو اليوم عند ولدها الإمام المهدي(عليه السلام).

وفي الخبر: جاءت فاطمة الزهراء(عليها السلام) إلى أبيها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يوماً وطلبت

ص: 261

منه خادماً يعينها في أعمال بيتها، فقال لها النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): هل أعلمك شيئاً هو خير لك من الخادم(1).

قالت: بلى يا رسول اللّه.

فعلمها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) التسبيح المعروف باسم (تسبيح الزهراء(عليها السلام))، والذي نسبح به عقب كل صلاة على الصورة التالية: أربع وثلاثون مرة (اللّه أكبر)، وثلاث وثلاثون مرة (الحمد لله) وثلاث وثلاثون مرة (سبحان اللّه).

نعم إن فاطمة الزهراء(عليها السلام) مع كل هذه الصعوبات والمشكلات، والأعمال البيتية وتربية الأولاد، كانت تؤلف الكتب أيضاً.

أما نساؤنا اليوم فلا يؤلفن. في الوقت الذي أعداؤنا يؤلفون الكتب، ونساء المسيح واليهود يؤلفن الكتب.

هناك سيدة مسيحية في الغرب تدعى (أغاثا كريستي)(2) ألفت مائة وأربعة عشر كتاباً، وأنا شخصياً قرأت قسماً من كتبها، وقد تُرجمت كتبها إلى لغات عديدة وطبعت منها ملايين النسخ وبشكل جذاب.

ما الشيء الذي ينقصنا عنها؟

إنه لا ينقصنا عنها شيء سوى عدم توجهنا إلى ما للكتاب من أثر كبير في التهذيب والتثقيف، لذا يلزم على السيدات أن يكتبن ويؤلفن الكتب، وهذا الأمر سهل جداً، ولكن يحتاج إلى قليل من الهمة.

4- المنبر والخطابة

الموضوع الرابع: المنبر والخطابة.

ص: 262


1- انظر: من لا يحضره الفقيه 1: 320.
2- أغاثا كريستي (1891-1976): روائية إنجليزية.

كل واحدة منكن يلزم أن تكون واعظة وترتقي المنبر، وهذا الأمر بسيط جداً.

يلزمكن ارتقاء المنبر والوعظ وهداية بقية النساء، فإن كثيراً من السيدات لا يعرفن المسائل الشرعية، وفي كل يوم تأتي مجموعة من النساء إليَّ، وقسم منهن لا يعرفن حتى أبسط المسائل بالرغم من تواجدهن في قم، وهذا تقصيرنا نحن حيث لم نعلّم هؤلاء النسوة مسائلهن الشرعية.

على هذا يلزمكن ارتقاء المنبر وتعليم النساء المسائل الدينية.

لا تقولن: لا نستطيع، لا يمكن ذلك، إنه صعب، إنه مشكل. كلا ليس كذلك فإن كل إنسان يريد عمل الخير يمده اللّه تعالى ويساعده، وفي القرآن المجيد: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1)، يعني: إن الأفراد الذين يجاهدون من أجلنا، ويعملون من أجلنا، فإنا نهديهم الصراط المستقيم، وهذه من السنن الإلهية.

إن شاء اللّه تعالى لا يذهب عن بالكن المنبر، فإنه موضوع مهم جداً.

5- المحراب

الموضوع الخامس وهو - للأسف - قليل جداً في مجتمعاتنا: مسألة المحرابوإمامة الجماعة.

يلزم أن يكون للنساء محراب. وأن تكون لهن إمامة جماعة، وهذا الأمر بسيط جداً.

ففي الحسينية أو المسجد القريب من بيتكن تقام صلاة الجماعة، وواحدة من المؤمنات تؤم الباقين، فلصلاة الجماعة أجر كثير.

وقد جاء في الروايات بأن اللّه تعالى يعطي إمام الجماعة من الثواب بقدر ما

ص: 263


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.

يعطي كل المأمومين دون أن ينقص منهم شيئاً من الثواب.

وقد عيّن نبي الإسلام(صلی الله عليه وآله وسلم) امرأة للنساء تصلي بهن جماعة، على الرغم من أن صلاة الجماعة كانت تقام بإمامته(صلی الله عليه وآله وسلم) في المسجد، وكان الرجال والنساء يشتركون فيها، فعلى الرغم من كل ذلك فإن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) كان قد دعا سيدة تسمى (أم ورقة)(1) وأمرها بأن تصلي بالنساء جماعة(2).

وكانت النساء اللواتي ترغب بالصلاة مع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يذهبن إلى مسجد النبي(صلی الله عليه وآله وسلم). وأما النساء اللواتي يرغبن بالصلاة مع أم ورقة يذهبن إلى ذلك المسجد ويصلين معها.

نعم يلزم على النساء أن يكون لهن المحراب، ويرتقين المنبر، ويكتبن ويؤلفن الكتب.

6- الزواج

اشارة

الموضوع السادس: هو الزواج، وهو موضوع مهم جداً حيث يلزم الإسراع في تزويج الشباب من الفتيان والفتيات.قبل قليل أشرنا إلى أن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قد زوّج ابنته فاطمة الزهراء(عليها السلام) وكان لها من العمر آنذاك تسع سنوات. مع أن البنات ذات التسع سنوات هن بنات صغيرات عادة، لكن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فعل ذلك كي يعلم الناس جميعاً الإسراع في مسألة تزويج بناتهم.

ومن جهة أخرى جعل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) مهر زواج ابنته قليلاً جداً، وحكمة هذا العمل هو التسهيل في أمر الزواج، حتى يتمكن الشباب في أول شبابهم أن

ص: 264


1- الصحابية الأنصارية أم ورقة بنت عبد اللّه بن الحارث بن عويمر.
2- انظر: تذكرة الفقهاء 4: 237.

يتزوجوا ولا يبقوا في المجتمع من دون زوجات.

أما الآن وفي كافة الدول يوجد كثير من الشباب وليس لهم زوجات، وهناك الكثير من البنات وليس لهن أزواج، وهذه المسألة سببت كثيراً من المشاكل والمفاسد.

ما أكثر النساء في العراق اللواتي من دون أزواج، وما أكثرهن في إيران، وما أكثرهن في سوريا ولبنان وبقية الدول الأخرى.

لماذا حدث هذا؟

هل فكرنا في سببه؟

إن السبب هو ابتعادنا عن القوانين الإسلامية.

طبعاً توجد هنالك وإلى الآن عوائل مؤمنة تلتزم بالتسهيل في أمر الزواج وعدم تشديده، لكنهم قليلون، بينما يجب أن نكون جميعاً كذلك، فلقد جاءني شخص من سوريا وقال لي: ذهبت إلى مدينة حلب السورية وقلت: أريد الزواج، فعرفوا لي رجلاً مؤمناً وقالوا: إن عنده بناتاً مؤمنات. فذهبت إليه خاطباً، فاحترمني وأخذني إلى بيته وجلب لي الشاي، ثمّ قال: عندي من البنات أربعة فأحضرهن جميعاً وكن كلهن متدرجات في العمر، ومبكرات في السن، وقال: أيواحدة شئت لتتزوج بها فانتخبها.

وقد تزوج بإحداهن وأصبح بها سعيداً، وصارت له منها أولاد.

هذه هي طريقة الدين الإسلامي المبين.

نعم، يستفاد من طريقة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام) في أمر الزواج هو عدم التشديد والتضييق، وعدم خلق المشكلات والمعضلات من دون سبب.

فإذا يسر الإنسان فإن اللّه ييسر له.

ص: 265

وفي القرآن الحكيم: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(1).

يعني: إن اللّه تعالى يريد أن نكون سهلي التعامل في كل شيء، وخاصة في أمر الزواج، إن اللّه تعالى لا يريد بأحد منا العسر بل يريد بنا اليسر، فيلزم علينا التسهيل في جميع الأمور. وإذا سهلنا في الأعمال فإن الأمور سوف تسهل وتسير نحو الأحسن ونتخلص من المشاكل.

نعم عليكن أنتن أيتها النساء المحترمات أن تربين أولادكن تربية جيدة، فإن تربية الأولاد مهمة جداً، ومن ناحية أخرى عليكن ببناتكن فزوجوهن من الشباب المؤمنين سريعاً.

سلمان الفارسي في المدائن

يبعد مرقد سلمان الفارسي(رحمه الله) عن مدينة بغداد بحوالي ستة فراسخ، وقد ذهبت إلى زيارته في منطقة تسمى ب(سلمان باك) قرب طاق كسرى المعروف، وذلك عندما كنا في العراق.

لقد أصبح سلمان حاكم إيران في وقته وكانت عاصمة إيران آنذاك المدائن، وتوجد إلى الآن بقية من آثارها بالقرب من مدينة بغداد.

وروي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «تزوج سلمان امرأة من كندة فدخل عليها فإذا لها خادمة و على بابها عباءة فقال: سلمان إن في بيتكم هذا لمريضاً أو قد تحولت الكعبة فيه فقيل: إن المرأة أرادت أن تستر على نفسها فيه قال: فما هذه الجارية قالوا كان لها شي ء فأرادت أن تخدم قال: إني سمعت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: أيما رجل كانت عنده جارية فلم يأتها أو لم يزوجها من يأتيها ثم فجرت كان عليه وزر مثلها»(2).

ص: 266


1- سورة البقرة، الآية: 185.
2- بحار الأنوار 22: 383.

هذا بالنسبة إلى البنات الشابات حيث يلزم أن يُزوجن سريعاً.

وكذلك بالنسبة إلى الشباب فإنه يجب السعي والإسراع في تزويجهم.

فإذا كان عندنا شاب وشابة، وما أكثرهم اليوم، فإنه يلزم علينا أن نسرع في الزواج بينهما، فإن الزواج كما في الحديث أفضل عمل وأفضل بناء في الإسلام بعد الإيمان باللّه ورسوله والأئمة الطاهرين(عليهم السلام).

إن كثيراً من الشباب يأتون إلى زيارتي، وعندما أوصيهم في الإسراع بالزواج، يقول بعضهم: بأن والديه لا يرغبان بأن يتزوج سريعاً، وهذا غير صحيح.

لقد جاء شاب إلى الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): أ لك زوجة؟

قال الشاب: لا يا رسول اللّه.

قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): هل أنت مريض، أو بك علة؟

قال: لا.

قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): إذن أنت من إخوان الشياطين ورهبان النصارى(1).

يعني: إذا لم يتزوج الشاب كان أخ الشيطان وكان معدوداً من رهبانالمسحيين، ولا يحسب في طريقته هذه على المسلمين.

إن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) كان في غاية الأدب ويتكلم مع الآخرين بأدب كبير، ولكن من أجل أهمية الموضوع تكلم معه هكذا.

وعليه: فإذا كان لديكم شاب فزوجوه سريعاً.

7- العمل

الموضوع السابع الذي أريد الحديث عنه هو العمل.

يلزم على النساء أن يقمن بالأعمال المناسبة في البيت، مثل حياكة السجاد،

ص: 267


1- انظر: مستدرك الوسائل 14: 155.

التطريز، الخياطة وما أشبه، فإن فيه ثلاث فوائد:

1- يوجب النشاط في روح الإنسان، وقد ثبت هذا الأمر بالتجربة.

2- يوجب سلامة البدن لأن الحركة تبعث على السلامة.

3- يوجب تقوية الإنسان من الناحية الاقتصادية.

فيمكن لكل امرأة أن تمارس عملاً مناسباً لشأنها في البيت كالخياطة، والتطريز، والتحبيك وحياكة السجاد وما أشبه ذلك.

وفي الخبر: إنه جاء شخص إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: هل تعمل؟

قال: لا، إني عاطل.

فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «سقط من عيني»(1).

وفي القرآن الكريم قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ}(2).

8- مجالس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام)

اشارة

وفي الختام أوصيكن بالموضوع الثامن وهو إقامة مجالس عزاء الإمامالحسين(عليه السلام) في البيت.

لقد كنا حتى هذا اليوم ضيوفاً على اللّه بمناسبة شهر رمضان المبارك وكان يقام في كل ليلة منه مجلساً دينياً وحسينياً، فإنه يلزم أن تستمر هذه المجالس طيلة السنة، فإن هذه المجالس الحسينية مفيدة جداً، وتبعث بالبركة وتوجب خير الدنيا والآخرة، حيث يذكر فيها مصيبة سيد الشهداء(عليه السلام)، وتبين المسائل الشرعية، وتشتمل على الوعظ والإرشاد، والوصية بالأخلاق والآداب، ويوجب الذهاب والإياب من قبل المؤمنين وكل هذه تبعث بالبركة وترفع المشاكل.

ص: 268


1- انظر: جامع الأخبار: 139.
2- سورة التوبة، الآية: 105.

إنني عندما كنت في الكويت، أصررت كثيراً على الشيعة هناك بأن يقيموا مجالس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام) في البيوت، إلى أن تحقق ذلك بحمد اللّه تعالى، وأخذت المجالس في بعض المناسبات تتراوح بين مائتين وثلاثمائة.

نعم، يلزم على كل شخص أن يقيم مجلساً حسينياً في بيته، وهذا العمل بسيط جداً، فأقمن مجالس العزاء في بيوتكن، علماً بأنه يمكن للمرأة أن ترتقي المنبر للنساء، وتقرأ التعزية، وتبين الأحكام الشرعية، وتتكلم عن الأخلاق، وترشد الآخرين إلى تعاليم الإسلام، فإن هذه الأعمال سهلة جداً.

لقد جاء في الروايات والآيات القرآنية: إن الإنسان عند ما يموت ويوضع في قبره - ونحن أيضاً نموت، فاليوم أحدنا يموت، وغداً شخص آخر يموت وهكذا - نعم عند ما يموت الإنسان، ينتبه من غفلته فيبكي كثيراً على ما فاته من العمر المفيد ولم يستفد منه جيداً، حيث بالموت ينتهي كل ما كان بوسعه ولم يبق في اليد من وسيلة، فيقول كما في القرآن الكريم: {رَبِّ ارْجِعُونِ}، ولكن يأتي الجواب: {كَلَّا}.

يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَقَائِلُهَا}(1).

كن وصيّ نفسك

كان لي صديق في طهران، وكان مؤمناً ملتزماً، فجاءني يوماً إلى هنا وقال: أريد أن أكتب وصية حتى إذا توفيت يعملوا لي الخيرات والأعمال الصالحة من بعدي.

قلت له: لا توص.

قال: لماذا؟

ص: 269


1- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.

قلت: يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «كن وصي نفسك»(1)، فكل وصية تريد أن توصي بها أنجزها أنت بنفسك في حياتك، فإن كنت تريد أن تعطي في سبيل اللّه سجاداً، أو مالاً، أو تبني مسجداً، أو كل عمل بر وإحسان تريده، فأنجزه أنت.

لم يقبل مني ذلك، وأوصى بما أراد، وبعد مدة توفي إلى رحمة اللّه، وكان لديه أربعة أولاد وقد ترك مبلغاً من المال يقرب من خمسة مليارات تومان، فبالرغم من أنه كان إنساناً مؤمناً ولكن أبناءه تنازعوا من بعده على الإرث وراحت الأموال ووصل بهم الأمر إلى المحاكم والسجون وأحدهم لحد الآن في السجن.

إذا أراد الإنسان أن يعمل خيراً يلزم أن يعمله بنفسه، كما قال الإمام الصادق(عليه السلام): «كن وصي نفسك».

كثير من الناس، عندما كنا في العراق أو الكويت أو إيران، يوصون بأعمال الخير من بعدهم ولكن لا يقومون بها بأنفسهم وعندما يموتون ينتهي كل شيءولا يعمل الآخرون لهم أي عمل خيري.

اسأل اللّه أن يوفقكن جميعاً ويؤيدكن لما فيه رضاه.

وفي الختام أكرر وصيتي بعدم الغفلة عن إقامة مجالس الإمام الحسين(عليه السلام) الأسبوعية وما أشبه، حتى ولو لم يحضر إلّا خمسة أشخاص أو عشرة، فإن هذه المجالس تدفع البلاء، وتحل المشاكل وتزيد في الرزق.

وعند ما كنا في الكويت جاءني شخص وقال: لدي أربع بنات لم يتزوجن، ولم يتقدم أحد لخطبتهن فماذا أعمل؟

قلت له: هل تعمل بما أقوله لك؟

ص: 270


1- الكافي 7: 65.

قال: نعم.

قلت: في أي منطقة تسكن؟

قال: في منطقة الصلبيخات، (وكانت تبعد عن بيتنا 40 كيلو متراً تقريباً).

قلت له: أقم مجلس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام) أسبوعياً في بيتك.

قال: وما ربط مجلس العزاء الأسبوعي بتزويجي بناتي؟

قلت: عندما تأتي النساء إلى منزلكم لمجلس العزاء، سوف يشاهدن بناتكم ويتعرفن عليهن ويعجبن بهن فيتقدمن لخطبتهن لشبابهن.

فقبل ذلك وبعد مضي سنة جاءني وقال: زوجت كل بناتي ببركة هذه المجالس المقدسة.

نعم يلزم عليكن جميعاً التقوى والخوف من اللّه، وحسن الأخلاق، ورعاية الآداب، والتأليف والتصنيف وارتقاء المنبر والمحراب، والتسريع في تزويج الشباب والشابات، وإقامة المجالس الحسينية الأسبوعية في بيوتكن.

نسأل من اللّه أن يتقبل أعمال الجميع ويؤيد الجميع، للعمل الصالح، وصلىاللّه على محمّد وآله الطاهرين(1).

من هدي القرآن الكريم

التقوى والأخلاق الحسنة

قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(2).

وقال سبحانه في وصف عباده المؤمنين: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَٰمًا * وَالَّذِينَ

ص: 271


1- ألقيت المحاضرة في ليلة عيد الفطر سنة (1422 ه).
2- سورة القلم، الآية: 4.

يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَٰعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَٰلِحًا فَأُوْلَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَئَِّاتِهِمْ حَسَنَٰتٖ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٖ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُوْلَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَٰمًا * خَٰلِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَا}(1).

وقال عزّ وجلّ: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْأخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(2).

وقال جلّ اسمه: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٖ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* الصَّٰبِرِينَ وَالصَّٰدِقِينَ وَالْقَٰنِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}(3).

الأخلاق السيئة وعدم التقوى

فال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ

ص: 272


1- سورة الفرقان، الآية: 63-77.
2- سورة البقرة، الآية: 1-5.
3- سورة آل عمران، الآية: 15-17.

عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}(2).

وقال جلّ اسمه: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(3).

وقال تعالى: {قُلْ يَٰقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّئَِّاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةِ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٖ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

التقوى

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «خطب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس واللّه ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلّا وقد نهيتكم عنه، ألّا وإن الروح الأمين نفث في روعي(6) أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا

ص: 273


1- سورة آل عمران، الآية: 137.
2- سورة النساء، الآية: 123.
3- سورة المائدة، الآية: 100.
4- سورة الأنعام، الآية: 135.
5- سورة يونس، الآية: 27.
6- الرُوع: العقل والقلب.

اللّه وأجملوا في الطلب ولا يحمل أحدكم استبطاء شيء من الرزق أن يطلبه بغير حله فإنه لا يدرك ما عند اللّه إلّا بطاعته»(1).

وروي عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء»(2).

وعن الوشاء عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: سمعته يقول:«الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قسم في الناس شيء أقل من اليقين»(3).

الخوف من اللّه

عن حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إن مما حفظ من خطب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهايةً فانتهوا إلى نهايتكم، ألّا إن المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما اللّه صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما اللّه قاض فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، وفي الشبيبة قبل الكبر،وفي الحياة قبل الممات، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب وما بعدها من دار إلّا الجنة أو النار»(4).

وعنه(عليه السلام) قال: «من عرف اللّه خاف اللّه ومن خاف اللّه سخت نفسه عن الدنيا»(5).

ص: 274


1- الكافي 2: 74.
2- تهذيب الأحكام 6: 181.
3- الكافي 2: 51.
4- الكافي 2: 70.
5- الكافي 2: 68.

وعنه(عليه السلام) قال: «خف اللّه كأنك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «رأس الحكمة مخافة اللّه»(2).

حسن الخلق

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»(3).

وعن عمار بن مروان الكلبي قال: أوصاني أبو عبد اللّه(عليه السلام) فقال: «أوصيك بتقوى اللّه وأداء الأمانة وصدق الحديث وحسن الصِّحابة لمن صحبت ولا قوة إلّا باللّه»(4).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «أربع من كن فيه كمل إيمانه وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك، قال: وهو الصدق وأداء الأمانة والحياء وحسن الخلق»(5).

وعن علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: «قيل يا رسول اللّه: ما أفضل حال أعطي للرجل؟ قال:(صلی الله عليه وآله وسلم): الخلق الحسن، إن أدناكم مني وأوجبكم علي شفاعةًأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانةً وأحسنكم خلقاً وأقربكم من الناس»(6).

ورد في شأن نزول قول اللّه تعالى لنبيه(صلی الله عليه وآله وسلم): {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(7) أنه قد كان(صلی الله عليه وآله وسلم) قد لبس برداً نجرانياً ذا حاشية قوية فبينما هو يمشي إذ جذبه أعرابي من خلفه فجرت في عنقه فقال: له أعطني عطائي يا محمد، فالتفت(صلی الله عليه وآله وسلم) إليه

ص: 275


1- الكافي 2: 68.
2- الاختصاص: 343.
3- الكافي 2: 99.
4- الكافي 2: 669.
5- الكافي 2: 99.
6- مستدرك الوسائل 8: 442.
7- سورة القلم، الآية: 4.

مبتسماً وأمر له بعطائه، فنزل قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} فمدحه اللّه بهذه مدحة لم يمدح بها أحد من خلقه(1).

وعن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «البر وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار»(3).

وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام) قال: «أتي النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بسبعة أسارى فقال لي يا علي: قم فاضرب أعناقهم قال: فهبط جبرئيل(عليه السلام) في طرف العين فقال: يا محمد اضرب أعناق هؤلاء الستة وخل عن هذا، فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): يا جبرئيل ما بال هذا من بينهم؟ فقال: لأنه كان حسن الخلق سخياً على الطعام سخي الكف، قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): فقلت: يا جبرئيل عنك أو عن ربك، فقال: لا بل عن ربك عزّ وجلّ يا محمد»(4).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن حسن الخلق يثبت المودة وحسن البشر يذهب بالسخيمة ومن أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة فاستنزلوا الرزق بالصدقة وإياكم أن يمنع أحدكم من ذي حق حقه فينفق مثله في معصيته»(5).

التأليف والكتابة

عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «اكتبوا فإنكم لا تحفظون

ص: 276


1- إرشاد القلوب 1: 133.
2- الكافي 2: 99.
3- الكافي 2: 100.
4- مستدرك الوسائل 8: 442.
5- إرشاد القلوب 1: 133.

حتى تكتبوا»(1).

وعن المفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلّا بكتبهم»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «القلب يتكل على الكتابة»(3).

المنبر

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) إذا صعد المنبر قال: ينبغي للمسلم أن يتجنب مواخاة ثلاثة الماجن(4) والأحمق والكذاب»(5)

الحديث.

وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: «من السنة إذا صعد الإمام المنبر أن يسلم إذا استقبل الناس»(6).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) قال: «كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إذا خرج إلى الجمعة قعد على المنبر حتى يفرغ المؤذنون»(7)

صلاة الجماعة

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «الصلاة في جماعة تفضل على كل صلاة الفرد بأربع وعشرين درجةً تكون خمساً وعشرين صلاةً»(8).

ص: 277


1- الكافي 1: 52.
2- الكافي 1: 52.
3- الكافي 1: 52.
4- الماجن: مَن لا يبالي قولاً وفعلاً.
5- الكافي 2: 376.
6- تهذيب الأحكام 3: 244.
7- تهذيب الأحكام 3: 244.
8- تهذيب الأحكام 3: 25.

وعن زرارة والفضيل قالا: قلنا له(عليه السلام): الصلوات في جماعة فريضة هي؟ فقال: «الصلوات فريضة وليس الاجتماع بمفروض في الصلاة كلها، ولكنها سنة ومن تركها رغبةً عنها وعن جماعة المؤمنين من غير علة فلا صلاة له»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن صفوف أمتي كصفوف الملائكة في السماء والركعة في الجماعة أربع وعشرون ركعة كل ركعة أحب إلى اللّه تعالى عن عبادة أربعين سنة»(2).

العمل

عن ابن عباس أنه قال: كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إذا نظر إلى الرجل فأعجبه قال: «هل له حرفة؟» فإن قالوا: لا، قال: «سقط من عيني» قيل: وكيف ذاك يا رسول اللّه؟ قال: «لأن المؤمن إذا لم يكن له حرفة يعيش بدينه؟»(3)

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين(عليهما السلام) يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين(عليهما السلام) حتى رأيت ابنهمحمد بن علي(عليهما السلام) فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي(عليهما السلام) وكان رجلاً بديناً وهو متكئ على غلامين له أسودين أو موليين له فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا واللّه لأعظنه، فدنوت منه فسلمت عليه فسلم علي بِبُهْرٍ(4) وقد تصبب عرقاً فقلت: أصلحك اللّه شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا لو جاءك

ص: 278


1- الكافي 3: 372.
2- روضة الواعظين 2: 335.
3- جامع الأخبار: 139.
4- البُهْر: تتابع النفس.

الموت وأنت على هذه الحال، قال: فخلى عن الغلامين من يده ثم تساند وقال: لو جاءني واللّه الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات اللّه أكف بها نفسي عنك وعن الناس وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي اللّه، فقلت: يرحمك اللّه أردت أن أعظك فوعظتني»(1).

الزواج

عن الإمام الصادق(عليه السلام): «ركعتان يصليهما المتزوج أفضل من سبعين ركعةً يصليها أعزب»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من تزوج أحرز نصف دينه» وفي حديث آخر «فليتق اللّه في النصف الآخر أو الباقي»(3).

وعن محمد بن مسلم أن أبا عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة حتى إن السقط ليجيء محبنطئاًعلى باب الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول لا حتى يدخل أبواي الجنة قبلي»(4).

المجالس الحسينية

عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه قال: قال الرضا(عليه السلام): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذُكِّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(5)

ص: 279


1- الارشاد 2: 161.
2- الكافي 5: 328.
3- الكافي 5: 329.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 383.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 73.

وروي عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «إذا كان يوم القيامة نصب لفاطمة(عليها السلام) قبة من نور ويقبل الحسين(عليه السلام) ورأسه في يده فإذا رأته شهقت شهقة فلا يبقى في الموقف ملك ولا نبي إلّا بكى لبكائها، فيمثله اللّه عزّ وجلّ في أحسن الصورة فيخاصم قتلته بلا رأس فيجمع اللّه لي قتلته والمجهرين عليه ومن شرك في دمه...»(1).

قال الصادق(عليه السلام): «رحم اللّه شيعتنا، شيعتنا واللّه المؤمنين فقد شركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة»(2).

وعن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «إذا كان يوم القيامة جاءت فاطمة(عليها السلام) في لمة أي جماعة من نسائها، فيقال لها: ادخلي الجنة، فتقول: لا أدخل حتى أعلم ما صنع بولدي من بعدي، فيقال لها: انظري في قلب القيامة فتنظر إلى الحسين(عليه السلام) قائماً وليس عليه رأس فتصرخ صرخة وأصرخ لصراخها وتصرخ الملائكة لصراخها فيغضب اللّه عزّ وجلّ لنا عند ذلك فيأمر ناراً يقال لها هبهب قد أوقد عليها ألفعام حتى اسودت لا يدخلها رَوح أبداً ولا يخرج منها غم أبداً فيقال التقطي قتلة الحسين وحملة القرآن فتلتقطهم فإذا صاروا في حوصلتها صهلت وصهلوا بها وشهقت وشهقوا بها وزفرت وزفروا بها فينطقون بألسن ذلقة طلقة: يا ربنا في ما أوجبت لنا النار قبل عبدة الأوثان، فيأتيهم الجواب عن اللّه تعالى أن من علم ليس كمن لا يعلم»(3).

ص: 280


1- مثير الأحزان: 81.
2- مثير الأحزان: 81.
3- ثواب الأعمال: 217.

المرأة في المجتمع المعاصر

مريم البتول(عليها السلام)

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَٰهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(1).

لقد جاءت هذه الآية الكريمة المباركة في سياق ذكر الأنبياء والصديقين(عليهم السلام)(2)، والتي خصت بمحتواها نبأ السيدة مريم(عليها السلام) وهي ابنة عمران أم المسيح(عليه السلام)، وكفاها فخراً أن يدخل ذكرها في ذكر الأنبياء(عليهم السلام) في كلامه تعالى وهي ليست منهم.

نعم، تعتبر السيدة مريم(عليها السلام) نموذجاً ومُثلاً عظيماً من النساء خلد ذكرها القرآن الكريم، وذلك لما تمتعت به من صفات مباركة وسيرة صالحة، وقد عانت الكثير حين ولدت نبي اللّه السيد المسيح (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) بطريقة إعجازية غير ما جرت به القوانين المتعارفة والسنن الكونية المألوفة.

وكان من أشهر ألقابها: البتول، وهي المنقطعة عن الرجال والنكاح والتزويج، أو هي المنقطعة إلى اللّه بالعبادة(3).

ص: 281


1- سورة الأنبياء، الآية: 91.
2- حيث ورد في سياق السورة المباركة ذكر الأنبياء: داود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون وزكريا ويحيى وعيسى (على نبينا وآله وعليهم السلام).
3- قال العلامة فخر الدين الطريحي في (مجمع البحرين): قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} - سورة المزمل، الآية: 8 - أي: انقطع إلى اللّه تعالى وانفرد. والتبتل: الانقطاع إلى اللّه تعالى وإخلاص النية. وأصل ذلك من البتل وهو القطع، كأنه قطع نفسه عن الدنيا. يقال: بتلت الشيء أبتِله بالكسر، إذا قطعته وأبنته من غيره. وفي الخبر: «لا رهبانية ولا تبتل في الإسلام». أراد بالتبتل: الانقطاع عن الدنيا وترك النكاح. والبتول كرسول: العذراء المنقطعة عن الأزواج. ويقال: هي المنقطعة عن الدنيا. والبتول: فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم). قيل: سميت بذلك لانقطاعها إلى اللّه، وعن نساء زمانها ونساء الأمة فعلاً وحسباً وديناً. وفي الرواية وقد سئل(صلی الله عليه وآله وسلم): إنا سمعناك يا رسول اللّه تقول: «إن مريم بتول، وإن فاطمة بتول» ما البتول؟ فقال: «البتول التي لم تر حمرة قط». وبجميع ما ذكرناه وردت الرواية عنهم(عليهم السلام). انظر: مجمع البحرين 5: 316 مادة (بتل).
معجزة مريم وابنها(عليهما السلام)

ولتوضيح الآية الشريفة نقول - بإيجاز - : {وَ} أي: اذكر يا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) المرأة {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي: حفظت نفسها عن الفساد، وهذا لرد اليهود الذين قالوا فيها شراً. والفرج في اللغة العربية بمعنى مقدم الثوب؛ فإن الناس رجالاً ونساءً كانوا يجعلون في أطراف ثيابهم فرجاً، وهو ما تعورف عليه عند أهل البادية، حيث يجعلون تحت اليدين فرجة من اليمين وفرجة من اليسار؛ ولذا سمي مقدم الثوب فرجاً (من الانفراج). فيا رسول اللّه اذكر - في هذا الكتاب - مريم الصديقة(عليها السلام) أم عيسى التي أحصنت فرجها، يعني حفظت ثوبها، وهذا كناية عن العفة؛ لأنها حفظت ثوبها من الزنا، وهذا مدح لها بالعفة والصيانة، وردّ لما أتهمها به اليهود.

وهنا لا بد أن نذكر أن على النساء الإقتداء بالسيدة مريم(عليها السلام) في كيفية وطريقة الحجاب التي أمر اللّه بها، وهكذا الإقتداء بالنساء الطاهرات من أهل البيت(عليهم السلام) كالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، والسيدة زينب(عليها السلام)، وسائر أمهات المعصومين(عليهم السلام) وبناتهم وأخواتهم ومن أشبه، حيث يلزم عليهن الاحتياط والدقةفي الحجاب والتحفظ، بأن لا يرى الرجل يدها ولا شعرها ولا قدميها، وهذا

ص: 282

التحفظ من لوازم العفة - والحمد للّه ما أكثر النساء المؤمنات العفيفات اللواتي يحتطن في هذا الأمر - .

كما عليهن أن ينصحن الأخريات في الالتزام بما قد يغفلن عنه، أو لا يشعرن بما يصدر منهن من تصرفات تنافي عفة المرأة وكرامتها. والسيدة مريم(عليها السلام) كانت قد أحصنت فرجها، يعني أنها كانت منذ صغرها متحفظة، ومحافظة على نفسها وعلى ثوبها وعلى وجهها وعلى شعرها وعلى يدها وعلى رجلها.

وفي الآية الكريمة إشارة - أيضاً - إلى مسؤولية الفتيات المؤمنات بوجوب مراعاة الحجاب من أجل حماية الدين والمجتمع.

أما قوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} فإن النافخ كان جبرائيل(عليه السلام)، لكنه حيث كان بأمر اللّه تعالى، نُسب النفخ إليه تعالى، والروح أضيف إليه سبحانه تشريفاً(1)، كإضافة البيت إليه، وقد كان النفخ في جيب ثوبها، وتكوّن من ذلك النفخ السيد المسيح(عليه السلام)، والضمير هنا وهو (الهاء) يعود إلى البتول مريم(عليها السلام)، والنفخ فيها من الروح كناية ودلالة واضحة على عدم استناد ولادة عيسى(عليه السلام) إلى العادة الجارية والمتعارفة عند البشر في حالة الإنجاب، من تطور النطفة أولاً ثم نفخ الروح فيها، فإذا لم يكن هناك نطفة لم يبق سوى نفخ الروح فيها، وهي الكلمة الإلهية كما قال اللّه تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(2) أي كلاهما - آدم وعيسى(عليهما السلام) - استغنيا عن النطفة المتعارفة عند البشر.

وقوله {مِن رُّوحِنَا} من قبيل (الإضافة التشريفية) فيقال: بيت اللّه يعنى مكة

ص: 283


1- أي: روح خلقها اللّه عزّ وجلّ وتشرفت بخلقه لها.
2- سورة آل عمران، الآية: 59.

المكرمة، فلا يقصد منه أن اللّه يسكن في هذا البيت، بل: إضافة البيت إلى اللّه إضافة تشريفية، وكذلك حينما نقول: (علي ولي اللّه)، فإضافة علي(عليه السلام) إلى اللّه تعالى تشريف لعلي(عليه السلام)(1)، أو في الآية الكريمة: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَٰهَا}(2)، فإن كل النوق هي من خلق اللّه وهي ملك اللّه، فلا خالق ولا مالك حقيقي في هذا الكون غير اللّه، لكن الإضافة هنا أيضاً تشريفية. كذلك عندما نقول: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله) فإن أكبر مقامات التشريف وأعظمها درجة عند اللّه تعالى هي العبودية الحقة، وإن كمال العبودية وتمامها درجة لا ينالها إلّا المصطفون من الأنبياء والرسل(عليهم السلام) وعلى رأسهم نبينا محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، وإلّا فكلنا عباد اللّه حتى الشيطان والكافر والفاسق فكلهم عباد اللّه وإن لم يلتزموا بمقتضيات العبودية ولم يرعوا حق المولوية.

على هذا الأساس لما أراد اللّه أن يشرف عيسى ومريم(عليهما السلام) ذكرهما في هذه الآية المباركة: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} وقد ورد في معنى النفخ قولان:

الأول: إن اللّه تعالى أجرى روح المسيح بن مريم(عليه السلام) كما يجري الهواء بالنفخ، فتكون إضافة الروح إلى الباري عزّ وجلّ إضافة تشريفية لإظهار منزلة عيسى(عليه السلام) ومقامه عند اللّه.

الثاني: إن اللّه تعالى أمر جبرائيل(عليه السلام) فنفخ في جيب مريم(عليها السلام) بإذن اللّه تعالى فصار المسيح(عليه السلام) في رحمها.

{وَجَعَلْنَٰهَا} أي: جعلنا مريم {وَابْنَهَا} المسيح {ءَايَةً لِّلْعَٰلَمِينَ} أي: دلالة على وجود اللّه وقدرته، والمراد ب{ءَايَةً} الجنس، فلا يقال: أنهما آيتان، يعني:

ص: 284


1- أي أنه ولي من اللّه عزّ وجلّ.
2- سورة الشمس، الآية: 13.

جعلنا مريم(عليها السلام) وجعلنا عيسى(عليه السلام) آية ومعجزة وعلامة لكل أهل الأرض؛ لأن العالم ما شهد ولا رأى قبل عيسى(عليه السلام) إنساناً يولد من امرأة بكر لم يمسها بشر، فهو خلق من الأم فقط بدون أن يكون هناك أب(1).

نعم، هذه معجزة؛ لأن الناس ومنذ أن خلق آدم وحواء إلى عيسى لم يسمعوا بأن أحداً خلق من غير أب سوى آدم وحواء، فإن اللّه تعالى خلقهما من غير أبوين.

وهذه المعجزة التي يذكرها القرآن الحكيم ويمدح السيدة مريم(عليها السلام) ويبين مكانتها في المجتمع وأنها (آية) إلى اللّه عزّ وجلّ ودلالة عليه، تعطي دوراً مهماً للمرأة وتنسب إليها مهام ومسؤوليات في سبيل الخير والفضيلة والدلالة على اللّه سبحانه؛ لأن الإسلام لا يجعل من المرأة آلة أو أداة لإشباع الغريزة وتقديم الخدمة، بل منحها وقلدها دوراً مهماً في الحياة، من أجل إيجاد مجتمع تربوي صالح، ومن هذا المنطق نبحث في موضوع المرأة في الرؤية الإسلامية بإيجاز.

لمحة عن حياة المرأة عبر التاريخ

نبتدئ بلمحة مختصرة عما جرى على المرأة عبر التاريخ وقبل بزوغ شمس الإسلام...

مروراً بالأمم غير المتمدنة...

ثم حياة المرأة في الأمم المتمدنة قبل الإسلام...

ثم المرحلة الذهبية التي طرأ عليها من تغير وتطور وعزّ واحترام وضمانلجميع الحقوق في فجر الإسلام...

ثم حياة المرأة من خلال ما يسمى بالمدنية والحضارة الغربية، ولو مروراً

ص: 285


1- انظر: تفسير مجمع البيان 7: 111، وتفسير تقريب القرآن 3: 568.

سريعاً، حتى تتبلور لدينا فكرة واضحة عن دور الإسلام العميق الذي أعطى للمرأة مكانتها ومنزلتها، تلك المنزلة السامية، والدرجة الرفيعة والمكانة المرموقة في داخل المجتمع، وأعطاها كامل حقوقها الإنسانية وحافظ على شخصيتها وشرفها.

فعند ملاحظة حياة المرأة في الأمم غير المتمدنة، كالأمم التي كانت قاطنة في بعض مناطق أفريقيا، واستراليا، والجزائر البعيدة، وأمريكا القديمة وغيرها، نجد أن حياة النساء في هذه الأمم بالنسبة إلى حياة الرجال كانت كحياة الحيوانات الداجنة التي تربى في الحقول والمزارع والبيوت؛ إذ كان الرجل يتصرف بها كما يتصرف الإنسان بالحيوان وكيف ما يشاء، فكما يستفاد من الحيوانات من شعرها ووبرها ولحمها وعظمها ودمها وجلدها وحليبها وحراستها وفي حمل الأثقال وفي الحرث وفي الصيد، إلى غير ذلك من احتياجات الإنسان الحياتية والمعيشية الكثيرة، كذلك كانت نفس النظرة بالنسبة للمرأة! حيث كانت موضعاً لقضاء حاجاته ورغباته وآلة بيده ليس إلّا، دون ملاحظة إنسانيتها ومشاعرها وآمالها وآلامها ورغباتها.

فكان للرجل المتسلط عليها كالأب أو الزوج أو الأخ الأقوى أن يبيعها، أو يهبها، أو يقرضها للخدمة أو الفراش أو الإستيلاد، أو لأي غرض من أغراض الإقراض. بل كان له الحق في أن يقتلها، أو يتركها تموت من الجوع، أو حتى يأكلها، إن رغب أو اضطر لذلك.

وما كان على المرأة في هذه المجتمعات إلّا أن تطيع وتنفذ الأوامر، فهي لمتكن تخدم في البيت وتربي الأولاد وما أشبه من احتياجات الأسرة فقط، بل كانت تكلف وتجبر على القيام بأعمال شاقة فوق قدرتها وطاقتها، كإعداد الطين للبناء وغير ذلك من الحرف والصناعات التي تشق على الرجال فكيف بالنساء.

ص: 286

أما حياتها في الأمم المتمدنة التي كانت قبل الإسلام فلم تكن بأحسن كثيراً منها في الأمم السابقة؛ فهي ليست ذات استقلال وحرية، لا في إرادتها ولا في أعمالها، وتعاني من عدم احترامها كزوجة لها شخصيتها ومكانتها وإنسانيتها؛ إذ ليس لها استقلالية وحرية في قرار يختص بها فضلاً عن غيرها.

وبالمقابل كان عليها أن تتحمل المعاناة والمصاعب في جميع مرافق الحياة من كسب وكدٍّ وأعمال قاسية وصعبة - خاصة من ناحية بنيتها الجسمية - وغير ذلك، فلم يكن عليها أن تختص بأمور البيت والأولاد، بل كان عليها أن تطيع الرجل في جميع ما يأمرها ويريد منها، حتى إذا لم ترغب بذلك وكان فوق طاقتها.

وكان يمكن لعدة رجال أن يتزوجوا امرأة واحدة يشتركون في التمتع بها، ويلحق أولادها بأقواهم.

أما في أيام حيضها ودورتها الشهرية كان عليها أن تتحمل كل أنواع الازدراء والنفور، حيث يجب عليها أن تنفرد عن عائلتها بأكلها وشربها؛ فهي نجسة خبيثة في نظرهم.

ومما يذكر عن حال المرأة تحت ظل ما عرف بشريعة حمورابي(1):

ص: 287


1- حمورابي: ملك البابليين عام (1792- 1750 ق.م) صاحب الشريعة البابلية الشهيرة، بلغت المملكة البابلية أوج عظمتها في عهده، بعد حروب عدة نجح في إخضاع دويلات ما بين النهرين، اشتهر حمورابي بالحكمة وكان يلتجأ إليه في المظالم. يعتبر البعض شريعة حمورابي أول شريعة حاولت تحديد المسؤولية الجنائية في عالم كانت تتحكم فيه شريعة الغاب أو مزاجية الحاكم واستبداده، لذا اعتبروا تشريعاته أول قانون جنائي في تاريخ الإنسانية. كتب حمورابي كتباً كثيرة تخص المعابد وإدارة شؤونها، وأعظم ما خلده التاريخ وأذاع شهرته المسلة القانونية المعروفة بمسلة حمورابي، التي يبلغ سمكها ثمانية أقدام وهي من الحجر الأسود، وقد نقش عليها بالخط المسماري الشرائع السومرية القديمة.

إن المرأة كانت تابعة للرجل بكافة أمورها دون أي استقلال؛ إذ أن الزوجة التي لم تُطع زوجها، أو استقلت بعمل معين دون موافقته، كان يحق للرجل أن يطردها من بيته، أو يتزوج عليها زوجة أخرى، وتعامل الأولى كملك يمين، بل كان لزوجها الحق في قتلها إن أخطأت في بعض شؤون المنزل بإغراقها في الماء. لذا كان للرجل أن يمسكها متى أراد، ويتركها متى شاء، وما عليها إلّا تنفيذ أوامر الرجل.

وكذلك هو حال المرأة السومرية(1) شأنها كسابقتها من ناحية المعاملة الفَظة والغليظة، والتعامل على أساس أنها تابعة للرجل في كل شيء، وما خلقت إلّا لإسعاده.

أما المرأة في بلاد الروم، فهي الأخرى لم تكن بأفضل حال، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الروم من أقدم الأمم وضعاً للقوانين المدنية، نلاحظ أنها وضعت بعض القوانين التي تخص البيت والأسرة. وجعلت لرب البيت - الزوج أو الأب - نوع ربوبية وسلطة شبه مطلقة على ذويه، فقد كان يعبده أهل بيته، وله الاختيار التام والمشيئة النافذة في جميع أمور العائلة من زوجة وأولاد حتى القتل لو رأى أن الصلاح فيه، ولا يعارضه في ذلك معارض. وكانت تعتبر النساء أدنى مرتبة منكل الرجال في العائلة حتى من الأبناء التابعين، فلا تسمع لهن شكوى، ولا تنفذ لهن معاملة. ولم تكن المرأة تعتبر جزءاً أصيلاً في البيت، بل هي تبع، والقرابة الرسمية المعتبرة في التوارث ونحوه مختصة بما بين الرجال من علاقة، وأما النساء فلا. وكان بيد الرجل زمام حياتها يفعل بها ما يشاء، فربما باعها أو وهبها،

ص: 288


1- قامت حضارة سومر القديمة على مجرى نهري دجلة والفرات وتأسست فيها المدن السومرية القديمة، وهي من أولى الحضارات التي عرفها التاريخ ذا سعة شاملة، وهي من أعظمها ابداعاً وإنشاءً.

أو ربما أقرضها للتمتع، وربما أعطاها في سداد دَين عليه أو خراج ونحوهما، وربما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما.

ومما يدل على امتهان كرامة المرأة ما ظهر - بشكل واضح - في مجتمع الروم من مظاهر الفسق والفجور، جعل المرأة ألعوبة بيد الرجل يقضي منها حاجته، فكثرت الدعارة والفحشاء، وزينت البيوت بصور ورسوم كلها دعوة سافرة إلى الفجور، وأصبحت المسارح مظاهر للخلاعة والتبرج الممقوت.

والمرأة اليونانية، أيضاً وضعها كان قريباً من وضع المرأة عند الروم.

أما المرأة الصينية، فاعتبرها القانون الصيني تابعة للرجل، تنفذ أوامره وتقضي حاجته، ولا ميراث لها. وزواج المرأة كان نوعاً من استعبادها، وكانت لا تشارك زوجها ولا أبناءها الغذاء، بل عليها أن تجلس جانباً لوحدها، كما يحق لمجموعة من الرجال أن يتزوجوا امرأة واحدة يشتركون في التمتع بها والاستفادة من أعمالها.

وكان قدماء المصريين يعاملون المرأة معاملة حقيرة شأنها شأن الخدم، وللرجل أن يتزوج بأخته، ولا يدعوها تخرج من البيت إلّا لعبادة الآلهة، بل إنهم كانوا يقدمون أجمل فتاة عندهم قربان وترضية وسكناً لغضب النيل وفيضانه بعدما يزينوها بأبهى حلة لكي يرضى بها، فيلقونها في نهر النيل في مراسم خاصة لئلا يفيض عليهم.

ولم تكن المرأة الفارسية أوفر حظاً من صويحباتها الهنديات والمصريات، فالمجتمع الفارسي القديم كان ينظر إلى المرأة نظرة احتقار وازدراء، وهو يعاقبها أشد المعاقبة وأقساها لأي إساءة أو تقصير في حق زوجها.

أما المرأة الهندية، فبالرغم من أن بلاد الهند آنذاك كانت تعتبر ذات حضارة نسبية تتصف بالعلم والتمدن والثقافة، إلّا أنهم كانوا يعاملون المرأة معاملة قاسية

ص: 289

لا رحمة فيها. فالمرأة عندهم مملوكة للرجل في العائلة كالأب أو الزوج أو ولدها الكبير، محرومة من التملك حتى بالإرث، وعليها أن ترضى بأي رجل يقبل به أبوها أو أخوها، وهي مجبرة على العيش معه إلى آخر حياته، وليس لها حق المطالبة بالطلاق لأي سبب من الأسباب، وفي أيام حيضها عليها أن تنفرد بمأكلها ومشربها، لأنها نجسة خبيثة - باعتقادهم - .

والأدهى من ذلك كله أنها كانت تحرق مع زوجها إذا مات، فإذا مات الرجل منهم يحرقونه بالنار، ويأتون بزوجته المسكينة ويلبسونها أفخر ثيابها وحليها ويلقونها على جثة زوجها المحترقة لتأكلها النيران معه. والمرأة عندهم هي مصدر الشر والإثم والانحطاط الروحي والخلقي.

وفي بعض التقارير: إن نظام (ساتي) في الهند كان يحتم على المرأة التي يتوفى عنها زوجها أن تلحق به من خلال حرق نفسها لتكون قريبة منه بحياته ومماته.

وكلمة (ساتي) تعني المرأة الطاهرة أو المقدسة التي تحرق نفسها لأجل زوجها، أو وفقاً لفلسفة طبقة الراجبوت فإن ساتي تعني المرأة الصالحة التي أصبحت قادرة على تقديم نفسها كهبة حيث كان يعتقد أنه بفعلها هذا ستخلص نفسها وأفراد أسرتها وذويها من هم البعث من جديد أو التجسيد وهو (تحولروح الميت إلى حيوان أو طائر) حسب المعتقد الهندوسي!

وكانت النساء في تلك الحقبة التاريخية يؤدين هذه العادة - باختيار أو بإكراه - تعبيراً عن الإخلاص والتودد لأزواجهن وللحفاظ على شرفهن من أن يدنس.

تذكر كتب الفيشنو الهندوسية المقدسة أن عادة الساتي كانت تمارس ما بين القرن الأول والثاني للميلاد.

وعلى الرغم من استنكار جميع الأوساط لهذا النظام غير الإنساني فإن قصص

ص: 290

المهابراتا تروي أن امرأة تدعى المادري أحرقت نفسها في موكب إحراق زوجها وذلك في القرن السادس للميلاد.

وكان نظام الساتي يمارس في ولايات الهند الشمالية والجنوبية إضافة إلى أنه كان يمارس حتى في عهد المغول وإبان أيام حكم الإسكندر الأكبر الذي بذل جهوداً كبيرة للقضاء على هذه العادات إلّا أن جميع الجهود ذهبت أدراج الرياح أمام التعصب القبلي الأعمى لهذا النظام الذي كان مترسخاً لاسيما في أذهان النساء.

وطريقة ممارسة هذا النظام كانت تتم عند موت الزوج حيث تؤخذ جثته إلى المحرقة وتؤمر زوجته فتتزين بأحسن ما عندها من ثياب وتتعطر بأحسن عطر ثم تتبع الجنازة برفقة ذويها وأهلها إلى أن تصل إلى المحرقة.

وكانت المحرقة تشعل عند قدومهم ثم تؤمر الزوجة فتجلس عند جنازة الزوج المتوفى ثم تبدأ بالنواح على رحيله عنها حتى تصل إلى درجة تفقد صوابها وبعدها يقوم عدد من الرجال بربطها فوق جثة زوجها ويصبون فوقهما سائلاً سريع الاشتعال ثم تضرم فيهما النار حتى تصبح جثتاهما رماداً.

ولم يستثن من هذه العادة الظالمة تلك الفتيات الصغيرات اللائي تزوجن في سن مبكرة جداً وأغلبهن في العاشرة من أعمارهن فكان عليهن إحراق أنفسهنبحجة المحافظة على شرفهن من أن لا يدنسه أحد بعد أزواجهن وحسب التقاليد والأعراف الهندوسية فإن الأرامل لا يحق لهن الزواج مرة أخرى إذا توفي عنهن أزواجهن.

أما اللائي كن يمتنعن عن القيام بهذا العرف فكان جزاؤهن أن يقذفن بالقوة داخل النار، وإن حاولن الهرب كن يحضرن مرة أخرى ويرمين في النار لأنهن حسب زعمهم يردن تدنيس شرفهن وشرف القبيلة ثم يصب فوقهن حديد

ص: 291

مصهور ليمتن طاهرات غير مدنسات!

المرأة في الجاهلية

اشارة

أما حالة المرأة عند العرب الجاهليين الذين كانوا قاطنين في شبه الجزيرة، فإنها إن لم تكن أسوأ من غيرها في الأمم الأخرى لم تكن بأفضل؛ إذ كانوا لا يرون للمرأة استقلالاً في الحياة ولا حرمة ولا شرافة، وكانت النساء لا تورث، وكانت تلك القبائل من العرب يئدون البنات، حيث ابتدأ في ذلك بنو تميم لواقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر(1) أسرت فيها عدة من بناتهم فأغضبهم ذلك فابتدروا بالوأد قضاءً على المرأة، ثم سرت العادة في غيرهم من القبائل.

وخير وصف لذلك ما جاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في إحدى خطبه الشريفة وقد وصف حال العرب قبل الإسلام فقال:

«فالأحوال مضطربةٌ، والأيدي مختلفةٌ، والكثرة متفرّقةٌ، في بلاء أزلٍ(2)، وأطباق جهلٍ، من بناتٍ موءودةٍ(3)، وأصنامٍ معبودةٍ، وأرحامٍ مقطوعةٍ، وغاراتٍمشنونةٍ»(4).

وذُكر في قصة وأد البنات أنه: كان قوم من العرب يئدون البنات، قيل: إنهم بنو تميم خاصة، وإنه استفاض منهم في جيرانهم، وقيل: بل كان ذلك في تميم وقيس وأسد وهذيل وبكر بن وائل، وقال قوم: بل وأدوا البنات أنفة، وزعموا أن تميماً منعت النعمان الإتاوة سنة من السنين، فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر، وجل من معه من بكر بن وائل، فاستاق النعم وسبى الذراري، فوفدت بنو تميم إلى

ص: 292


1- النعمان بن المنذر أبو قابوس ملك الحيرة في العراق.
2- الأَزل: الشدة.
3- مَوْؤودة من وَأَدَ بنته - كوعد - : أي دفنها وهي حية.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

النعمان واستعطفوه، فرق عليهم وأعاد عليهم السبي، وقال: كل امرأة اختارت أباها ردت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلهن اخترن آباءهن إلّا ابنة قيس بن عاصم فإنها اختارت مَن سباها وهو عمرو بن المشمرخ اليشكري، فنذر قيس بن عاصم المنقري التميمي أن لا يولد له بنت إلّا وأدها، والوأد أن يخنقها في التراب ويثقل وجهها به حتى تموت، ثم اقتدى به كثير من بني تميم، قال سبحانه: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(1)، أي: على طريق التبكيت والتوبيخ لمن فعل ذلك أو أجازه.

روى الزبير في (الموفقيات): إن أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري: ما حملك على أن وأدت؟ قال: مخافة أن يخلف عليهن مثلك(2).

وقال ابن عباس: كانت المرأة - في الجاهلية - إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة، وقعدت على رأسها، فإن ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاماًحبسته(3).

وكان الرجل من ربيعة أو مضر يشترط على امرأته، أن تستحيي جارية وتئد أخرى، فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: (أنتِ عليَّ كظهر أمي إن رجعت إليكِ ولم تئديها)، فتتخذ لها في الأرض خداً، وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها ثم يتداولنها حتى إذا أبصرته راجعاً دستها في حفرتها ثم سوت عليها التراب.

وقيل: كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه، فعاتبهم اللّه على ذلك،

ص: 293


1- سورة التكوير، الآية: 8-9.
2- انظر: شرح نهج البلاغة 13: 177.
3- بحار الأنوار 7: 93.

وتوعدهم بقوله: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(1).

وروي في قصة تبين مدى القساوة والظلم الذي كان يلحق المرأة والبنت في الجاهلية، أن رجلاً من أصحاب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) كان لايزال مغتماً بين يدي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

فقال له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما لك تكون محزوناً؟».

فقال: يا رسول اللّه، إني أذنبت ذنباً في الجاهلية، فأخاف أن لا يغفره اللّه لي وإن أسلمت!

فقال له: «أخبرني عن ذنبك؟».

فقال: يا رسول اللّه، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إليَّ امرأتي أن أتركها، فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها فيالبيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي.

فسرّت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت عليَّ المواثيق بأن لا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت في البئر، ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني وجعلت تبكي، وتقول: يا أبتِ، أيش تريد أن تفعل بي!

فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت عليَّ الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبتِ لا تضيع أمانة أمي.

فجعلت مرة أنظر في البئر ومرة أنظر إليها فأرحمها، حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبتِ، قتلتني.

ص: 294


1- سورة التكوير، الآية: 8-9.

فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت.

فبكى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وقال: «لو أمرت أن أعاقب أحداً بما فعل في الجاهلية لعاقبتك»(1).

وهكذا كانت تُظلم المرأة بكل قسوة، ولم تكن تحظى بنظرة التقدير والاحترام في المجتمع الجاهلي والقبلي قبل الإسلام، فهي تابعة لأبيها أو لزوجها، لا يحق لها التصرف بأي شيء لأنها وما تملك لوليها.

وقد كان من حق الولد أن يمنع أرملة أبيه من الزواج، بمجرد أن يضع عليها ثوبه فيرثها، بل كان له أن يتزوجها وبغير مهر إن شاء، أو يزوجها لمن يشاء ويأخذ مهرها.

وكانت هذه العادة سائدة حتى بُعث نبي الرحمة والإنسانية الرسول العظيم(صلی الله عليه وآله وسلم)، فأبلغهم نزول التحريم من اللّه لهذا النوع من الزواج.

فقد ذكر في قصة كبشة بنت معن بن عاصم، أنها لما مات زوجها أبو قيس بن الأسلت انطلقت إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وقالت: يا نبي اللّه، لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح، فنزل قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَٰحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا}(2)، فهي أول امرأة حرمت على ابن زوجها.

وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا مات الرجل وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه فيمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت قبيحة حبسها حتى تموت. وظل هذا شأنهم إلى أن نزل الوحي بتحريم ذلك(3).

ص: 295


1- تفسير القرطبي 7: 97.
2- سورة النساء، الآية: 22.
3- انظر: الدر المنثور 2: 131.

وكانت العرب تتشاءم إذا ولدت لأي أحد منهم بنت، فإن الرجل منهم يعتبرها عاراً على نفسه، كما جاء في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَٰرَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}(1) لكن يسره الابن مهما كثر ولو بالإدعاء والإتحاف، حتى أنهم كانوا يتبنون أولاد الزنا، وربما تنازع رجال من صناديدهم وأولي الطول منهم في ولد ادعاه كل لنفسه.

العزة في الإسلام

أما الإسلام فإنه أبدع في حق المرأة أمراً ما كانت تعرفه الدنيا منذ عصور طويلة؛ فإنه خالف تلك العادات الظالمة بأجمعها، حيث بين أن المرأة كالرجل في الإنسانية يتساويان، وكل إنسان ذكراً كان أم أنثى فإنه يشترك في حقيقة واحدة، وهي أنه لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى، وبهذا صدح القرآن الكريم حينما قال سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَلِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2).

ثم قال سبحانه وتعالى: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ}(3).

وقال جلّ شأنه: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}(4).

ص: 296


1- سورة النحل، الآية: 58-59.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- سورة آل عمران، الآية: 195.
4- سورة النساء، الآية: 123-124.

وقال عزّ وجلّ: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٖ}(2).

فصرح تبارك وتعالى أن الساعي - ذكراً كان أم أنثى - غير خائب، وإن العمل غير مضيع عند اللّه، وأكد اللّه سبحانه وتعالى على أن لا تمايز إلّا بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخلق الحسن، والصبر، والحلم.

فالمرأة المؤمنة السالكة بدرجات الإيمان، أو المليئة علماً، أو الرزينة عقلاً، أو الحسنة خلقاً، أكرم ذاتاً وأسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال، وهذا هو الميزان في الإسلام، فلا كرامة إلّا للتقوى والفضيلة.

ولا إشكال ولا ريب أن الإسلام له الفضل في التقدم الباهر الذي رافق المرأة في إطلاقها من قيد الأسر والعبودية، فأعطاها الاستقلال في الإرادة والعمل مع الحفاظ على شخصيتها وكرامتها، وأن أمم الغرب في ما صنعوا من أمرها جمعوا بين الخير والشر لها، أما الخير فقلدوا فيه الإسلام وإن أساءوا التقليد والمحاكاة.

وبشكل إجمالي إن الغرب أساء إلى المرأة حيث كلفها فوق طاقاتها وجعل منها ضحية للشهوات فعمل على المساواة غير العادلة بين الرجل والمرأة.

المرأة بين الإفراط والتفريط

بلغ التقدم الحضاري والتقني في هذا العصر أوج تطوره وأعلى مراتبه وبصورة

ص: 297


1- سورة النحل، الآية: 97.
2- سورة غافر، الآية: 40.

مذهلة، ولكن ازداد وضع المرأة سوءاً، حيث أصبحت على قائمة ضحايا هذه الثورة التقنية، يتقاذفها التيار شرقاً وغرباً.

ولقد ظُلمت المرأة من قبل البعض - جهلاً وعصبية - من خلال تحجيمها وحرمانها من حقوقها التي منحها الإسلام، كحق التعليم والعمل - الواقع ضمن الضوابط الشرعية - أو حق إبداء الرأي والشورى وغيرها من الحقوق الكثيرة التي ضمنها الإسلام للمرأة، فوقعت المرأة ضحية بين إفراط وتفريط، إفراط الغرب وتفريط بعض المجتمعات في الشرق.

نعم، المرأة في هذا العالم - أي عالمنا اليوم - سواء كانت في الغرب أم الشرق، فقد وقعت في إفراط أو تفريط، ولا يقصد في هذا البحث فرد أو مجموعة خاصة من الأفراد، بل البحث عن المجتمعات بشكل عام، وما وصلت إليه المرأة عموماً:

المرأة والمجتمع المعاصر

إن ما وصل إليه حال المرأة في الدول المتقدمة لا يليق بشأنها ومكانتها،كمخلوق أراد له الباري عزّ وجلّ أن يعيش عفيفاً، محترماً حرّاً... لا أن تستخدم للدعاية الرخيصة والعروض الفاضحة والتصدير(1)، حتى صارت صورها تلصق على علب السجائر وعلب المأكولات. ووصلت بهم الحال أنهم جعلوها واجهة رخيصة لدور السينما والتلفزيون بأشكال شتى. في حين أن دور المرأة ووجودها في الحياة أشرف من هذا كله، حيث إنها تمثل نصف المجتمع، ولا يخفى أنه ليس المقصود بالنصف هنا نسبة (50%) فقط على أساس التعداد السكاني للعالم، وإنما على أساس الدور والوظيفة الحيوية في المجتمع؛ وذلك لأن نسبة

ص: 298


1- تصدير المرأة عبر ما يسمى بتجارة الرقيق الأبيض.

المرأة العددية غالباً ما تشكل نسبة أكبر، إذ غالباً ما يكون تعداد النساء أكثر من الرجال، فالمقصود بالنصف هو النصف الوظيفي، فالمرأة هي نصف المجتمع فهي والرجل جزءان أحدهما يكمل الآخر؛ لذا فليس من كرامة المرأة أن تكون وسيلة للدعاية والإعلانات الرخيصة والمبتذلة التي تحط من كرامتها وتوهن دورها الكبير في الحياة.

وقد أكد القرآن في آيات عديدة أن خلق النساء لا يختلف عن خلق الرجال في الطينة، فإن للمرأة ثقل في المجتمع كما للرجل ذلك، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}(1). ويعني بالنفس الواحدة نفس آدم(عليه السلام)، لذا لا توجد في الإسلام نظرة احتقار تجاه المرأة في طبيعة خلقها وأصل تكوينها.

الإسلام والعظيمات من النساء

في التاريخ الإسلامي يلاحظ الكثير من النساء اللاتي بلغن درجات رفيعةومراتب عالية لم يبلغها إلّا القليل من الرجال.

كالمرتبة التي بلغتها أم المؤمنين السيدة خديجة الكبرى(عليها السلام). فقد كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) شديد الحب لها، روي: أن عجوزاً دخلت على النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فألطفها فلما خرجت، سألته عنها عائشة؟ فقال: «إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان»(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «ذكر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) خديجة(عليها السلام) يوماً وهو عند نسائه فبكى، فقالت عائشة: ما يبكيك على عجوز حمراء من عجائز بني أسد؟!

ص: 299


1- سورة النساء، الآية: 1.
2- كشف الغمة 1: 508.

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): صدَّقَتني إذ كذبتم، وآمنَتْ بي إذ كفرتم، وولدَت لي إذ عقمتم. قالت عائشة: فما زلت أتقرب إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بذكرها»(1).

أما فاطمة الزهراء(عليها السلام) فهي التي لم يبلغ درجتها(عليها السلام) رجل غير الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام).

كما قال فيها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، يرضى اللّه لرضاها، ويغضب لغضبها، وهي سيدة نساء العالمين»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «وأما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي، وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جلّ جلاله ظهر نورها لملائكة السماء، كما يظهر نور الكواكب لأهل الأرض»(3).

وروي في كرامتها عند اللّه سبحانه وتعالى أنها(عليها السلام) كانت تحدّث أمها وهي في بطنها. فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن خديجة لما تزوج بها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) هجرها نسوة قريش، فكن لا يدخلن عليها، ولا يسلمن عليها، ولا يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة لذلك، وكان جزعها وغمها حذراً عليه، فلما حملت بفاطمة(عليها السلام) كانت فاطمة تحدثها من بطنها وتصبرها، وكانت تكتم ذلك من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فدخل(صلی الله عليه وآله وسلم) عليها يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة، فقال لها: يا خديجة، من تحدثين؟

قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني.

ص: 300


1- كشف الغمة 1: 508.
2- إرشاد القلوب 2: 232.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 113.

قال: يا خديجة، هذا جبرائيل يبشرني بأنها أنثى، وأنها النسل الطاهرة الميمونة، وأن اللّه سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه...»(1).

وقال ابن عباس: خطب جماعة من الأكابر والأشراف فاطمة(عليها السلام) فكان لا يذكرها أحد عند رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلّا أعرض عنه؛ فقال: «أتوقع الأمر من السماء فإن أمرها إلى اللّه تعالى»(2).

قال سعد بن معاذ الأنصاري لعلي(عليه السلام): خاطب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) في أمر فاطمة(عليها السلام)، فو اللّه، إني ما أرى أن النبي يريد لها غيرك، فجاء أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فتعرض لذلك، فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «كأن لك حاجة يا علي؟».

فقال: «أجل يا رسول اللّه».

قال:«هات».

قال:«جئت خاطباً إلى اللّه وإلى رسول اللّه فاطمة بنت محمد».

فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «مرحباً وحباً». وزوّجه بها، فلما دخل البيت دعا فاطمة(عليها السلام) وقال لها: «قد زوّجتكِ يا فاطمة سيداً في الدنيا، وأنه في الآخرة من الصالحين، ابن عمك علي بن أبي طالب».

فبكت فاطمة(عليها السلام) حياء، ولفراق رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم). فقال لها النبي: «ما زوجتكِ من نفسي؛ بل اللّه تعالى تولى تزويجكِ في السماء». وكان جبرائيل(عليه السلام) الخاطب، واللّه تعالى الولي، وأمر شجرة طوبى فنثرت الدر والياقوت والحلي

ص: 301


1- الخرائج والجرائح 2: 524.
2- إرشاد القلوب 2: 232.

والحلل، وأمر الحور العين فاجتمعن فلقطن، فهن يتهادينه إلى يوم القيامة، ويقلن: هذا نثار فاطمة، فلما كان ليلة زفافها إلى علي(عليه السلام) كان النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قدامها، وجبرائيل عن يمينها، وميكائيل عن شمالها، وسبعون ألف ملك خلفها، يسبحون اللّه تعالى ويقدسونه إلى طلوع الفجر(1).

وروي أنها(عليها السلام) يوم القيامة تلتقط شيعتها ومحبيها من هول يوم القيامة، كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء. فقد قال الإمام الباقر(عليه السلام): «واللّه يا جابر، إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الردي ء...»(2).

المساواة في الإنسانية

اشارة

إن الإسلام لا يرى فرقاً في الإنسانية بين الرجل والمرأة، إذ يضع القرآن الكريم إلى جانب كل رجل عظيم امرأة عظيمة ومقدسة. فيذكر بكل تقديرزوجات آدم وإبراهيم وأم عيسى وموسى(عليهم السلام)، وما ذلك إلّا لعناية فائقة بالمرأة واعتراف بدورها العظيم في دفع الحياة البشرية نحو المحبة والإيمان والعفة.

مساواة أم ظلم؟

إن مدعي المساواة بين الرجل والمرأة في جميع المجالات ومن دون ملاحظة خصوصيات المرأة النفسية والجسدية وما أشبه، قاموا بدفع المرأة لمزاولة الأعمال الصعبة والثقيلة التي هي فوق طاقتها وغير مناسبة لتكوينها النفسي والجسدي، حيث ملئوا المعامل والمصانع بالنساء، حتى أوصلوا المرأة إلى مناجم الفحم وصناعة الصلب والحديد. وقد تسبب من جراء ذلك

ص: 302


1- إرشاد القلوب 2: 232.
2- تفسير فرات الكوفي: 299.

تنافس وأنانية بين الرجل والمرأة وسبب البطالة للرجال والخلل في توازن المجتمع، بحيث لو أن الرجل يعمل شهرياً بأجر مقداره مائة صارت المرأة تنافسه وتعمل بسبعين. وبهذا تكون المرأة قد تخلت أو تركت ما كان عليها في الحياة الموافق لتكوينها النفسي والجسدي، وهو بناء البيت العائلي السعيد وتربية الأطفال تربية روحية وجسدية وإعدادهم كجيل سليم للمستقبل، فهي قد عُزلت عن البيت وعن تدبير شؤونها المنزلية، وقد سبب ذلك صعوبة إيفاء الرجل بالتزاماته المادية تجاه العائلة، فأضاعت نفسها وبيتها وأطفالها وغالباً زوجها.

يذكر البعض من الذين سافروا إلى أوروبا - لغرض الدراسة أو التجارة أو ما أشبه - إن المرأة في بلاد الغرب وحتى في بعض البلدان الشرقية التي تسير على النهج الغربي، تقوم بأعمال وأدوار لا تليق بها، فهي تقوم بتنظيف الشوارع كموظفة في البلدية، وفي بلدان أخرى جعلوا من المرأة شرطية مرور وشرطية مكافحة الجرائم ومجندة حرب وما شابه.

فهل دفع المرأة إلى هذه الأعمال الثقيلة أو الخشنة المرهقة من الإنصاف بالمرأة والعدالة؟!

وهل هو اهتمام بشؤون المرأة؟! كلا، وإنما هم أرادوا أن يستغلوا المرأة لشهواتهم المادية أبشع استغلال وبكل شراهة وجشع، فجعلوها كوسيلة رخيصة تدر عليهم المال.

في حين أن المرأة خلقت للأعمال غير الشاقة، نظراً للبنية الجسدية والروحية التي وهبها اللّه لها، حيث إن المرأة خلقت بلطف وقد جعلها اللّه سكناً يسكن إليها الرجل، تسره إذا نظر إليها، وتقوم بتربية أجيال صالحة، قال تعالى: {وَمِنْ

ص: 303

ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(1).

وهذه الآية لها دلالة واضحة على أن اللّه سبحانه وتعالى جعل لكم من شكل أنفسكم ومن جنسكم أزواجاً لتطمئنوا بها وتألفوا بها، فيستأنس بعضكم ببعض، لا أن تكلف وتلقى في أتون الأعمال الخشنة والمرهقة.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»(2).

الغرب وموقفه من قضية الزواج

اشارة

دأبت الثقافات الحديثة الغربية منها والشرقية على التشجيع على عدم الزواج، أو على الأقل التأخر في الزواج، بحجج وأعذار واهية. فمرة بأن يكوّن الشاب نفسه مادياً، وأخرى بأن تنضج الفتاة فكرياً وجسدياً، وأخرى بتطويل - ما أبدعوه - لفترة الخطوبة حتى يفهم الطرفان بعضهما بعضاً... .

فملئوا بسبب ذلك البيوت بالعوانس من الرجال والنساء، حتى أصبح عدد النساء الراغبات عن الزواج، أو اللاتي فاتهن قطار الزواج، يشكلن نسبة كبيرة في المجتمع، هذا إضافة إلى أعداد الأرامل اللواتي فقدن أزواجهن في أتون الحروب أو غيبوا في السجون أو طلّقوا(3).

ونحن نتذكر جيداً أنه في السابق ما كنا نرى أن المرأة الباكر تبقى بدون زواج إلى عمر متأخر، وإن وجدت هذه الحالة فهي نسبة ضئيلة جداً لا تتعدى الواحدة

ص: 304


1- سورة الروم، الآية: 21.
2- الكافي 5: 510.
3- كما هو الحال في العراق، حيث ذكرت بعض الإحصائيات أن عدد الأرامل في العراق وحده هو ما يزيد على المليون ونصف إمرأة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أعمارهن بين السابعة والعشرين والأربعين.

أو الاثنتين من العوانس.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من شاب تزوج في حداثة سنه إلّا عجّ شيطانه: يا ويله، يا ويله؛ عصم مني ثلثي دينه، فليتق اللّه العبد في الثلث الباقي»(1).

ولكن بما أن الغرب قام بتصدير أفكاره المنحرفة إلى بلداننا أصبحنا نشاهد حالة العزوبة وبكثرة.

لماذا الزواج؟

ولرب سائل يسأل لماذا الزواج؟

نعم، إن الإنسان بتكوينه مجبول على حب الاقتران مع جنسه الآخر، وإشباع رغباته وشهواته المودعة في داخله، مضافاً إلى أن الزواج أساس للأسرة وهي سنة كونية لا تختص بالإنسان، بل إن الطبيعة قائمة على أساس مبدأ الزوجية العامة، كما أثبت العلم أن كل ما في الكون من الكائنات يخضع لقانون الزوجية... وهذه الحقيقة كشفها القرآن قبل أربعة عشر قرناً، حيث قال اللّه سبحانه وتعالى:{سُبْحَٰنَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}(2).

أي أن الزوجية تجري في النبات كما تجري في الحيوان وفي الإنسان.

وفي آية أخرى قال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}(3)، وهكذا بقية الآيات المباركة التي تتناول موضوع الزوجية.

إذن، فكل شيء خاضع لقانون الزوجية في الحياة، والإنسان أيضاً خاضع لهذا القانون فلا مفر له من الزواج. وإلّا فالمأساة تكبر أمامه شيئاً فشيئاً حتى تصل به

ص: 305


1- النوادر للراوندي: 12.
2- سورة يس، الآية: 36.
3- سورة الذاريات، الآية: 49.

إلى محطة الجنون، كما يقول علماء النفس. وهذا ما وقع في الغرب... حيث امتدت فيه الإباحية الجنسية إلى أسفل درك، وامتدت واتسعت حالات الشذوذ حتى أهلكت الحرث والنسل. فلم تقف عند الزنا واللواط، وإنما بلغت من الانحراف الجنسي حداً لا يطاق. فضاعت المرأة الغربية في هذا الوادي من الفساد، وضاعت بضياعها العفة والحياة وفضائل الأسرة وكرامتها.

من أجل ذلك أكدت الشريعة الإسلامية على الزواج المبكر، واعتبرته الحل الناجح السريع للمشكلة، فقد وردت الروايات الكثيرة وجاءت الأخبار العديدة التي تدفع الشباب نحو الزواج وتحذر المجتمع من خطر الشاب الأعزب ومن خطر العزوبية.

كان النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباه فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فليصم، فإن الصومله وجاء»(1). والباه تعني: القدرة على النكاح(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم) - في حديث طويل - : «ليس شيء مباح أحب إلى اللّه من النكاح؛ فإذا اغتسل المؤمن من حلاله بكى إبليس، وقال: يا ويلتاه، هذا العبد أطاع ربه وغفر له ذنبه»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقالت: يا رسول اللّه، إن عثمان يصوم النهار ويقوم الليل؟!

فخرج رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مغضباً يحمل نعليه حتى جاء إلى عثمان فوجده

ص: 306


1- مستدرك الوسائل 14: 153.
2- الباه والباهة: النكاح، وقيل الباه: الحظّ من النكاح، لسان العرب 13: 480 مادة (بوه).
3- مستدرك الوسائل 14: 154.

يصلي، فانصرف عثمان حين رأى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا عثمان، لم يرسلني اللّه تعالى بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة، أصوم وأصلي وألمس أهلي، فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أيضاً قال: «إن ثلاث نسوة أتين رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت إحداهن: إن زوجي لا يأكل اللحم، وقالت الأخرى: إن زوجي لا يشم الطيب، وقالت الأخرى: إن زوجي لا يقرب النساء.

فخرج رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم، ولا يشمون الطيب، ولا يأتون النساء، أما إني آكل اللحم، وأشم الطيب، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتيفليس مني»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): ­«شرار موتاكم العزاب»(3).

وفي الحديث: «من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق اللّه في النصف الباقي»(4).

لذا فإن الزواج هو الموافق للفطرة البشرية السليمة، وهو الطريق الصحيح لإرواء الظمأ الجنسي.

الطلاق يهتز منه عرش الرحمن

من المشاكل التي تعاني منها المرأة في المجتمع المعاصر إشاعة حالة

ص: 307


1- الكافي 5: 494.
2- الكافي 5: 496.
3- المقنعة: 497.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 518.

الطلاق وهجر الأسرة، ولا يخفى أن المجتمع سابقاً كان يلوم الرجل كثيراً إذا طلق زوجته، حتى أن أهله وأصدقاءه ينظرون إليه بازدراء، وذلك لأن حالة الطلاق كانت حالة نادرة شاذة، وقد ارتفعت هذه النسبة وأصبحت المرأة اليوم تعاني من ضياع المصير وفقدان المستقبل. مع أن الإسلام لم يرتض بالطلاق وجعله حلاً أخيراً، وفي حالات الضرورة فقط من باب آخر الدواء الكي(1).

ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «ما من شي ء مما أحله اللّه عزّ وجلّ أبغض إليه من الطلاق، وإن اللّه يبغض المطلاق الذواق»(2).

حتى أن علماءنا ما كانوا يمارسون إجراءات الطلاق بين الزوجين، إلّا بعد استنفاد كل سبل الإصلاح، حيث كانوا - ولا زالوا - يحاولون دائماً إتباع سبيل الإصلاح بين الزوجين المتخاصمين، فتراهم يتكلمون مرة مع الزوج، وأخرى مع الزوجة، وأحياناً أخرى مع أهليهما، ويحاولون التريث والتأجيل آملين الإصلاح في ما بعد، فإذا لم تنفع كل تلك الأساليب كانوا يجعلون آخر العلاج الطلاق.

ص: 308


1- إذ أن الشروط في عقد النكاح بسيطة حيث يلزم قراءة الصيغة وهي عبارة عن الإيجاب والقبول، فالإيجاب مثل: (زوجتك نفسي)، أو قول الأب - الولي للبنت ووكيلها - : (زوجتك ابنتي)، أو قول الوكيل: (زوجتك موكلتي)، والقبول مثل: (قبلت الزواج)، أو (النكاح)، ويتراضا الطرفان على مهر لايجحف بهما، وللزوجة إسقاط المهر، وليس من شروط عقد النكاح الشهود، ولكن يستحب الإشهاد. أما شروط الطلاق، فقد شدد الإسلام في عملية الطلاق لما فيه من خراب الأسرة، ولقد اشترط الشرع الإسلامي فيه عدة شروط: 1- أن تكون الزوجة طاهرة من الحيض غير مدخول بها، مع الصيغة المعروفة مثلاً: (أنتِ طالق)، أو (زوجتي طالق). 2-أن يكون الطلاق مع إحضار الشهود وبغير الشهود يبطل الطلاق. 3-وأن يكون الطلاق من الزوج أو ممن يوكله الزوج. إلى غير ذلك مما ذكر في الفقه.
2- الكافي 6: 54.

بينما تشير بعض الإحصائيات أن نسبة الطلاق في بعض البلاد وصلت في سنة (1970م) إلى (15%)، وفي سنة (1972م) إلى (20%) حتى وصلت نسبة الطلاق في سنة (1978م) إلى (40%)، وهكذا أخذت الأسر تتهدم وتتفكك. ولا ينحصر هذا الأمر بالشرق ولا بالغرب، بل أن نسبة الطلاق ازدادت كذلك في بعض البلدان الإسلامية التي تقلد الغرب أيضاً، وأصبحت المرأة مظلومة في أغلب الميادين، في المجال الاجتماعي وفي المجال الفكري وفي المجالين السياسي والثقافي وغيرهما.

وما أكثر النساء اللاتي تعرضن للسقوط بسبب ظلم المجتمع الذي يعشنَ فيوسطه، وقد تضطر بعضهم إلى القيام بأعمال غير مشروعة من أجل لقمة العيش، وتنزلق إلى مهالك ممارسة رذيلة البغاء، وهذا هو أبعد حد للاستهانة بكرامة المرأة وعفتها، وإن أمثال هذه الحالات كثيرة جداً في المجتمعات الأوروبية، وهناك أقل منها في البلاد الإسلامية.

أذكر عندما كنا في العراق أني قرأت في صحيفة لإحدى الدول الإسلامية: إن أحد النواب طلب من الحكومة إجازة فتح المبغى، فأبرق في حينها بعض الأصدقاء ببرقية إلى زعيم تلك الدولة واستنكروا فيها هذا الطلب، واظهروا تعجبهم من نائب مجلس الأمة بطلب هذا الشيء لإفساد شعبه وبلده؟! فأجابهم حينها بأننا لا نقدم على مثل هذا الأمر، ومن المستحيل أن نسمح بهذا الأمر في هذا البلد. وإلى الآن لم يسمح بوجود مبغى في البلد، وهذه نعمة كبيرة مَنّ اللّه بها على هذا البلد، حيث أنجى أهله من دور البغاء والتظاهر بالفساد الأخلاقي.

وعلينا نحن المسلمين أن لا ننخدع أبداً بنظام شرقي أو غربي؛ فإن الإسلام

ص: 309

وحده هو الذي يحترم المرأة بكامل احترامها، ويحترم الأم ويحترم البنت والأخت وكذلك العمة والخالة والجدة.

وأي نظام آخر غير الإسلام لا يكن للمرأة هذا الاحترام أو القداسة، بمقدار ما في الإسلام من احترام ومحبة ومودة لها.

مكانة المرأة في الإسلام

اشارة

لقد كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) يقوم لفاطمة الزهراء(عليها السلام) وعمره الشريف ستون سنة، في حين كان عمر فاطمة(عليها السلام) لايتعدى خمس عشرة سنة، ثم كان يأخذ بيدهاويقبّلها ويجلسها في مكانه. ويقول(صلی الله عليه وآله وسلم): «هي روحي التي بين جنبيّ»(1)، وكانت تكنى كما في الحديث ب«أم أبيها»(2).

فهو(صلی الله عليه وآله وسلم) أراد بذلك أن يعلمنا قدر المرأة في الإسلام ومكانتها في المجتمع من جانب، كما أراد أن يظهر فضل فاطمة الزهراء(عليها السلام) من جانب آخر.

هذا هو احترام الإسلام للمرأة البنت، وكذلك كان(صلی الله عليه وآله وسلم) يظهر ويبين دائماً احترام الإسلام للمرأة الأخت.

الشيماء بنت حليمة السعدية

ذكر جماعة من أصحاب الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، قالوا: بينما كنا جالسين إلى جانب الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في المسجد دخلت فتاة بدوية يظهر أنها من صحراء الحجاز، لأن نساء الحجاز آنذاك يتميزن بالسمرة والضعف والملابس البسيطة، فقام لها الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) احتراماً وفرش لها عباءته وأجلسها في جانب من المسجد، وأخذ يكلمها ويبتسم في وجهها باحترام، وأكرمها، ولبى حاجتها.

ص: 310


1- بحار الأنوار 27: 62.
2- بحار الأنوار 43: 19.

وعندما سُئل عنها أجاب(صلی الله عليه وآله وسلم) بأنها شيماء أخته من الرضاعة.

وفي التاريخ أنه بعد معركة حنين التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً باهراً، جاءت الشيماء بنت حليمة أخت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) من الرضاعة إلى الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) فحباها وأكرمها وبسط لها رداءه، وكلمته في السبايا، وقالت: إنما هن خالاتك وأخواتك. فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما كان لي ولبني هاشم فقد وهبته لكِ»، فوهب المسلمون ما كان في أيديهم من السبايا كما فعل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكلمته في مالك بن عوف النضري رئيس جيش هوازن، وآمنه، فجاء وأسلم، ووجهه رسولاللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) لحصار الطائف(1).

الزوجات

كذلك كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يظهر خُلُقه العظيم وتعامله الطيب جلياً باحترام أزواجه احتراماً كبيراً، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «تزوج رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بخمس عشرة امرأة، فماتت منهن اثنتان، ودخل بثلاث عشرة منهن، وقبض عن تسع، فأما التي لم يدخل بهما فعمرة والشنباء، وأما الثلاث عشرة اللاتي دخل بهن: فأولهن خديجة بنت خويلد، ثم سودة بنت زمعة، ثم أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية، ثم أم عبد اللّه عائشة بنت أبي بكر، ثم حفصة بنت عمر، ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث أم المساكين، ثم زينب بنت جحش، ثم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، ثم ميمونة بنت الحارث، ثم زينب بنت عميس، ثم جويرية بنت الحارث، ثم صفية بنت حيي بن أخطب، والتي وهبت نفسها للنبي(صلی الله عليه وآله وسلم) خولة بنت حكيم السلمي، وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه: مارية القبطية وريحانة الخندفية، والتسع اللاتي قبض

ص: 311


1- تاريخ اليعقوبي 2: 63، وقريب منه في بحار الأنوار 21: 172.

عنهن: عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وأم حبيبة بنت أبي سفيان وصفية بنت حيي بن أخطب وجويرية بنت الحارث وسودة بنت زمعة.

وأفضلهن خديجة بنت خويلد(عليها السلام) ثم أم سلمة بنت أبي أمية، ثم ميمونة بنت الحارث»(1).

وعلى الرغم من انشغاله(صلی الله عليه وآله وسلم) بشؤون الإسلام والمسلمين؛ إذ كان هو القائد،وهو القاضي، وهو إمام الجماعة، وهو المتصدي للشؤون الخارجية والداخلية في البلاد الإسلامية، ومع كل هذا كان إذا خرج يودع نساءه الواحدة بعد الأخرى، وإذا دخل عليهن جاء وسلم عليهن واحدة واحدة. وقد ذكر في سيرته(صلی الله عليه وآله وسلم) العطرة مع نسائه ومسامحته لهن ورحمته بهن وعطفه عليهن الكثير.

الإسلام وحجاب المرأة

إن المجتمع إذا تمسك بالإسلام فلن يرى إلّا الخير والفضيلة والتقدم والازدهار للرجل والمرأة، وحينذاك لا يُرى السفور ولا الخلاعة ولا التبرج ولا الاختلاط المحرم، وكذلك تكون المرأة في غنى عن زجها في ساحة الأعمال الثقيلة المرهقة وتحفظ لها كرامتها وشرفها.

نعم، الإسلام غني بأحكامه عمّا يستورد من الغرب والشرق من الأفكار والتقاليد والعادات... .

وأكثر من ذلك فقد جعل القرآن من النساء مَن هي في عداد المعصومين(عليهم السلام)، وفي مصاف الأولياء والصديقين، وجعلها آية للعالمين، وآية في الشرف والعفة، وآية في الإيمان والحرية، ومن أظهر مصاديق ذلك: الصديقة الطاهرة فاطمة

ص: 312


1- وسائل الشيعة 20: 244.

الزهراء(عليها السلام)، ومن بعدها السيدة مريم العذراء(عليها السلام)، وغيرها من بنات الرسالة من أهل البيت(عليهم السلام) كالعقيلة زينب(عليها السلام).

ولكن - وللأسف - أصبح الإسلام في واد، والمسلمون في واد آخر، فإن الإسلام أراد للمرأة أن تقتدي بمريم(عليها السلام) في العفة والحجاب، وتربية الأبناء تربية صالحة، حتى قال عنها القرآن: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَٰهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(1).وفي آية أخرى قال تبارك وتعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَٰنَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَٰنِتِينَ}(2).

نرجو من اللّه أن يهدي نساءنا إلى سعادة الدنيا والآخرة، وأن يأخذ بأيديهن للاقتداء بسيرة سيدة نساء عصرها مريم بنت عمران(عليها السلام) وسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها أفضل صلوات المصلين).

«اللّهم رزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدد ألسنتنا بالصواب والحكمة... وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة... وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة»(3).

ص: 313


1- سورة الأنبياء، الآية: 91.
2- سورة التحريم، الآية: 12.
3- المصباح للكفعمي: 280.

تقارير وإحصاءات عن المرأة في المجتمع المعاصر

اشارة

تقارير وإحصاءات عن المرأة في المجتمع المعاصر(1)

ص: 314


1- التمييز ضد النساء في بريطانيا أخذت ظاهرة (التمييز ضد النساء) تتفاقم على المستوى الرسمي في بريطانيا. ففي أحدث دراسة أنجزتها المؤسسة الملكية البريطانية أشارت فيها للمطالبة بضرورة إنشاء مؤسسة وطنية تهتم بمشكلات المرأة الباحثة هناك، وتعمل مع جهات حكومية محددة في بريطانيا لإنصاف النساء الباحثات وضمان تعيينهن في مناصب مرموقة أسوة بالباحثين الرجال. جاء ذلك تعقيباً على احتجاج خمسين ألف باحثة بريطانية تركن أعمالهن وعدن إلى منازلهن في السنوات الأخيرة إثر فقدانهن الأمل في إنصافهن وتعيينهن في وظائف تليق بمستوى شهاداتهن الجامعية بالمقارنة مع الرجال المفضلين عليهن لكونهن إناث!. وأكدت الدراسة تراجع نسبة تعيين النساء في المناصب المرموقة حيث بلغت نسبتهن في الجمعية الملكية (7/3%) وفي الأكاديمية الملكية للهندسة (1%) وفي معهد علم الأحياء (6%) من إجمالي العاملين، بالإضافة إلى تجاهل إشراكهن في اللجان الحكومية المسئولة عن تطور العمل والعلوم وتعرضهن للشائعات المغرضة والتهكم والتحرش والاستفزاز من جانب الرجال. وبهذا الصدد صرحت مديرة المؤسسة الملكية البريطانية وأستاذة علم الصيدلة في جامعة أوكسفورد قائلة: إننا نبحث عن جيل جديد من العقول الباحثة للشابات اللائي يحتل البحث العلمي مكاناً مميزاً في حياتهن... ونطالب بتخصيص جزء من الزمالة العلمية للباحثات لتشجيعهن على العودة لممارسة العمل البحثي وإخراجهن من دائرة الإحباط. وفي المنازل البريطانية التي اتخذن هؤلاء النساء الباحثات منها مقرات دائمة بعد تركهن للوظائف لا شيء يمكن أن تقدمه المنازل لهن بصورة عامة إذ إن هناك نوعاً آخر من المآسي التي تحدث في المنازل، فقد أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستصدر ورقة تشاورية بهدف استنباط وجهات نظر علمية حول سبل التصدي لجرائم العنف المنزلي الآخذة بالانتشار في بريطانيا. وبهذا الصدد تقول إحصائية حكومية بريطانية إن (25%) من المجموع الكلي لجرائم العنف المختلفة في عموم بريطانيا مردّه العنف المنزلي، ويودي بحياة امرأتين أسبوعياً، كما أن (50%) من معدلات الجرائم التي تطال النساء ينفذها أزواج أو أصحاب حاليون أو سابقون ضد زوجاتهم أو صديقاتهم. وعقب وزير الداخلية البريطاني على معاناة النساء البريطانيات جراء جرائم المنازل قائلاً: إن الحكومة ستفي بالتزاماتها في التصدي لظاهرة العنف المنزلي بكافة مستوياتها، وهذه جريمة يتعين بذل قصارى الجهود لمواجهتها، وضمان حصول ضحاياها على أعلى مستوى من الحماية والدعم. كما أكدت الحكومة البريطانية في بيان أصدرته بهذا الشأن بأنها: تنوي تشديد قوانين العنف المنزلي، وإدخال تحسينات على الحلول والإجراءات المدنية والجزائية المتوفرة حالياً، لإفساح المجال أمام ضحايا هذه الظاهرة لطلب الحماية التي يستحقونها. وفي جانب معتم ثان من اقتراف الجريمة ضد النساء في بريطانيا فقد أثارت حادثة مقتل شقيقتين الكبرى 12 سنة والصغرى 8 سنوات، في ليلة رأس السنة الميلادية جراء إطلاق النار عليهن في لندن، من قبل رجل حكم عليه بالسجن المؤبد على خلفية اعتقاد بوجود علاقة جنسية كانت تربطه بالفتاة الكبرى التي لم تتجاوز الثانية عشرة، وكانت أختها 8 سنوات قد لقيت حتفها ضمن الحادث لسبب لم يعرف، بسبب التكتم الذي أحيطت به هذه القضية المأساوية، حيث أصبح الاعتداء على الأطفال الإناث في بريطانيا شائعاً، والجهات الرسمية هناك لا تتدخل إلّا بعد نهاية حادثة مقتل، أو اغتصاب للنساء بغض النظر عن مقدار أعمارهن، فالمهم في جرائم أولئك الرجال أن تكون ضحاياهم من الإناث. معاناة المرأة في الهند أكدت أحدث الإحصائيات في الهند: تضاؤل أعداد الإناث مقارنة بعدد الذكور هناك، وأن تناقص عدد الإناث وعنوسة الرجال أدت إلى غلاء المهور، وصار الزواج هناك مسألة عرض وطلب تماماً مثل التجارة. وقد أشار التعداد العام للسكان في الهند إلي أن نسبة الفتيات بلغت 820 أنثى مقابل كل ألف ذكر في الشريحة العمرية لأقل من 6 سنوات، وكانت هذه النسبة 879 أنثى مقابل ألف ذكر عام 1991. وأرجعت الدراسات السبب في تناقص عدد الإناث في الهند إلى انتشار ظاهرة وأد البنات في السنوات الأخيرة، فقد أتاحت الرسائل المتطورة في مجال التكنولوجيا الخاصة بالطب معرفة نوع الجنين في رحم الأم مسبقاً وعندما يعلم الزوجان أن الطفل القادم هو أنثى، يسارعون بإجهاضه على الفور، كما أسفر عن تناقص أعداد الإناث في الهند، وتفاقم مشكلة عنوسة الرجال، وصعوبة العثور على عروسة، مما أدى أيضاً إلى ظهور نظام جديد هناك عرف باسم: ثمن العروسة، وهو نظام يجعل العريس يدفع مبلغاً كبيراً من المال لأهل العروس حتى يوافقوا على إتمام الزيجة. وكانت التقاليد الهندية في ما مضي تقضي بأن تدفع العروسة المهر لعريسها، وأدى تفاقم هذه المشكلة إلى تدخل القانون الهندي بنص يمنع الفحوص الطبية التي تكشف عن نوع الجنين قبل ولادته، بل من حق الشرطة هناك أن تشن حملات اعتقال للأطباء الذين يمارسون هذه الفحوصات. وظاهرة وأد البنات في الهند بلغت درجة بالغة القسوة، حيث أن الآباء يلجأون إلى قتل بناتهم حديثات الولادة، إما بتجويعهن حتى الموت، أو دس السم لهن في الطعام. وعلقت مديرة الشعبة لدراسات المرأة بجامعة كوركستيرا في الهند على هذا الأمر بقولها: إن انخفاض عدد الإناث في الهند صار صدمة. إن طقوس الزواج في المجتمع الهندي تختلف من القرى إلى المدن والولايات، وحسب العادات والتقاليد والأعراف والديانات والفكر والطبقات، فلكل منهم طقوسه المعينة في الزواج، إلّا أنهم يجمعون على شيء واحد، وهو دفع المرأة لمهر عريسها، وهو ما يعرف باسم: دوري. فالمرأة الهندية ملزمة بدفع كامل مهرها، إلّا أن هناك بعض العائلات توافق على تأجيل باقي المهر، وأن يتم تسديده في وقت لاحق، ولكن يجب أن يسدد حتى وإن استمر الزواج لسنوات، فعليها أن تدفع جميع المستحقات المترتبة للزوج، وإلّا فالويل كل الويل لها إذا لم تلتزم بدفعها في ما بعد. ومن الممكن أن تتزوج في الهند وأنت في سن الخامسة، وربما لا تستطيع ذلك وأنت في ريعان الشباب، والأغرب من ذلك أن هناك عائلات تحجز الصبي منذ ولادته لتزويجه من ابنتها حيث تقوم بالتكفل بجميع نفقاته حتى إكمال دراسته وتأمين مستقبله فقط لكي يتزوج من ابنتهم. وقالت أستاذة الاجتماع بجامعة دلهي: إن الزواج في الهند يمر بعدة مراحل أهمها الاتفاق على المهر، وفي حال تم الاتفاق فإن باقي الأمور تكون ثانوية - وأضافت - أن هنالك الكثير من الزيجات لم يكتب لها النجاح بسبب عدم اتفاق العائلات على المهر (دوري)، حيث تبالغ بعضها بطلب مهور مرتفعة جداً من الزوجة التي تكون هي أو عائلتها غير قادرين على توفيرها. وقالت: إن الزواج يعرف في الهند بأنه (مهرجان الأعين) حيث ترى العين ما لا تراه يومياً من زينة وألوان، في الوقت الذي يرتدي فيه العروسان والضيوف أبهى الملابس الملونة وهي من الحرير، ومصنوعة خصيصاً لتك المناسبات - وأضافت - أن احتفالات الأعراس في الهند تستمر ليوم ونصف اليوم، كما أنها تعتبر قبل كل شيء مناسبة دينية يحضرها الأقارب والأصدقاء، وعلى أهل الزوجة التكفل بجميع نفقاتها. وقالت عن الكيفية التي تحدث فيها الخطبة والاتفاق على الزواج: إن الفتاة الراغبة بالزواج من شخص ما تقوم بزيارته في منزله، فإن حدث وأعجب بها فإنه يعلن عن موافقته عليها، في الوقت الذي قد تجيب فيه الفتاة وعائلتها بالرفض أو القبول - وأضافت - أنه إذا اتفق الطرفان على الزواج فإن العائلتين تجتمعان لمناقشة التفاصيل، حيث يفرض على الفتاة التكفل بجميع متطلباته، بدءاً بالمهر وتحديد الوقت المناسب للاحتفال، وتوفير صالة الاحتفال والمصروفات الأخرى. وذكرت أن السن التي يتم فيها الزواج تختلف من منطقة إلى أخرى مضيفة أن هناك بعض القبائل الصغيرة في ولاية راجستان شمال الهند تعتبر سن الخامسة هو العمر المناسب لزواج أبنائها. وقالت: إنه في الوقت الذي توجد فيه عائلات تزوج أبناءها في سن صغيرة، هناك عائلات أخرى ترفض هذا النوع من الزواج - وبينت - أن المجتمع الهندي منقسم إلى جزأين شمالي وجنوبي، حيث تختلف العادات والتقاليد بين هذه المجتمعات، مضيفة أن الأسر الشمالية تفضل أن يكون الزوج من خارج الأسرة، أما في المناطق الجنوبية فأن الأسر تفضل زواج تربطه صلة الدم والقرابة. وأضافت أن هناك ظاهرة أخرى متفشية في مناطق وسط الهند بولاية ماديا براديش، وهي ظاهرة التبادل بحيث يزوج كل شخص أخته للشخص الآخر. أما في جنوب الهند فإن الوضع مختلف تماماً فقد يسمح للعم والخال أن يتزوج من ابنة أخيه أو أخته وبخاصة الإبنة الكبرى، حيث تؤمن تلك العائلات بمبدأ أن الفتاة لن تحمل اسماً غير اسم عائلتها التي ولدت بها. وقالت: إن ظواهر أخرى تفشت في الهند مثل زواج الحب، إلّا أنه اصطدم كذلك بعقبة المهر، مضيفة أن هناك ظاهرة بدأت بالانتشار منذ مطلع عام 1990م، وهي الزواج عن طريق الصور أو ما يعرف بالخاطبات، حيث تقوم الأسرة بتوزيع صورة ابنتها على العائلات عن طريق جيرانها أو أصدقائها على الأسر التي بها شباب. وذكرت أن العادات والتقاليد فرضت على أسرة الفتاة بمختلف ولايات ومناطق الهند أن تدفع المهر لزوجها، ويكون في أغلب الأحيان أموالاً سائلة تسلم لعائلة العريس، إضافة إلى الهدايا كالذهب والأدوات المنزلية - وأضافت - أنه في بدايات القرن العشرين كان المهر الذي تفرضه عائلة الزوج على الزوجة مرتفعاً جداً، وفي بعض الأحيان يصر أهل الزوج على الحصول كذلك على تعويضات لابنهم لإكمال دراساته العليا، وتأمين ما يضمن مستقبله وشراء سيارة أو دراجة بخارية للزوج. حرق الزوجة مع جثمان زوجها قال رئيس وزراء ولاية مهاديا براديشديش: إن المرأة التي أحرقت نفسها مع زوجها بإحدى قرى الولاية، كانت قد أُجبرت على ذلك من قبل رجال المنطقة. وقالت صحيفة (تايمز أوف انديا) من موقعها على الإنترنت: إن رئيس الوزراء أكد في برلمان الولاية على أن المرأة كانت قد أُجبرت على حرق نفسها مع زوجها المتوفى، بتحريض من رجال المدينة - وأضاف - أنه لم تكن للمرأة علاقة حميمة مع زوجها، وأنها منفصلة عنه منذ فترة طويلة - مؤكداً - أن السلطات الأمنية بالولاية اعتقلت 15شخصاً، ووجهت لهم تهمة التحريض على القتل. وذكر أن شهود عيان كانوا يحضرون مراسم الحرق للزوج المتوفى، أكدوا على أن مجموعة من القرويين بالمنطقة أحضروا زوجة المتوفى، وأرغموها على القفز داخل المحرقة التي تنصب عادة للمتوفين الهندوس. إن إرغام المرأة التي تدعى: (كوتوبي) على تنفيذ مطالب القرويين، أعاد إلى الأذهان طقوساً هندوسية قديمة يطلق عليها اسم: (ساتي)، تجبر المرأة على حرق نفسها مع زوجها المتوفى؛ لأنها تعتبر أنه لا حياة لها من دون زوجها. الإيدز يهدد عجلة التنمية في الهند تتعرض النساء في الهند لخطر الإصابة بفيروس مرض الإيدز، حتى عن طريق الزواج وليس العلاقات الجنسية غير الشرعية فحسب، وهذا المشهد أخذ يتكرر في كل أنحاء الهند. يقول أحد الأطباء المختصون بمرض الإيدز في المستشفى الحكومي في ولاية بوني في الهند: إنه لتصريح جريء، ولكنه صحيح للأسف. ويقدر هذا الطبيب وآخرون أن أكثر من مليون امرأة في الهند ستتعرض للإصابة بفيروس الإيدز، وستأتي العدوى ل- (60%) منهن من أزواجهن بعضهن سيكن في عمر السادسة عشرة فقط، والكثيرات منهن سيتلقين هذه الأنباء المدمرة لدى خضوعهن لفحص اعتيادي لمرض الإيدز أثناء حملهن الأول، ويبدو أن التقاليد التي تمنح المرأة دوراً ثانوياً في المجتمع هي المسئولة عن ذلك. إن هذا يؤكد على وجه مرعب للأزمة التي تواجه الهند، فوباء الإيدز المتنامي في البلاد يتحدى التقاليد الراسخة حول مكانة المرأة، ويهدد القيم الأخلاقية والثقافية الأخرى المتعارف عليها، وذلك من خلال تعرية الجانب الأسوأ من البلاد، وهو يضع مسألة التمييز ضد قطاعات المجتمع المهمشة تحت المجهر، ويثير أسئلة غير مريحة عن حقوق الإنسان والرعاية الصحية. وفي الإحصاء الأخير، قدرت الحكومة الهندية عدد السكان المصابين بفيروس الإيدز في البلاد بحوالي 4 ملايين نسمة، وزعمت بأن الوباء آخذ بالاستقرار، ولكن الآخرين من أمثال الأطباء والعاملين الاجتماعيين والناشطين يقولون: إن الأعداد في ارتفاع مستمر، مما قد يجعل الهند أكبر ساحة لحالات العدوى بفيروس الإيدز في العالم. ويقول الطبيب المختص بمرض الإيدز في المستشفى الحكومي في ولاية بوني في الهند: ترتبط الهندوسية في الهند بالشوفينية الذكورية، وسيميز دين كهذا متحيز لأحد الجنسين ضد النساء على الدوام، وبالتالي فإنهن سيكن أكثر تعرضاً للخطر في ما يتعلق بفيروس الإيدز. وإن الكثير من النساء لا يعرفن سوى القليل عن أزواجهن في علاقات الزواج المرتبة، ويفتقدن للسيطرة في علاقاتهن الزوجية، وفي حين تصر معظم النساء العاملات في مجال الدعارة الآن على استخدام زبائنهن للواقي، فإن معظم الزوجات لا يستطعن أن يطلبن من أزواجهن مثل هذا الطلب. وذكرت المنظمة الوطنية للسيطرة على الإيدز ومقرها نيودلهي: إن عدد الأشخاص المصابين بفيروس الإيدز حتى عام 2001م بلغ 97ر3 ملايين شخص. أما التقديرات غير الرسمية، فتضع عدد الحاملين لفيروس المرض بين 4-10 ملايين شخص، وترى أن عدد الإصابات سيتضاعف كل ثلاثة إلى أربعة أعوام، ويقدر تقرير حديث لمجلس الاستخبارات الوطني الأميركي: إن ما بين 20 و25 مليون هندي سيصابون بالمرض بحلول عام 2010م، إذا لم يتم فعل أي شيء لاقتلاع المرض، وسيشكل هذا العدد حوالي (2%) من عدد السكان - مقارنة بأكثر من (20%) بالنسبة لبعض الدول الأفريقية - ولكن الرقم بحد ذاته قد يشل عجلة التطور والتنمية في الهند. المرأة والتعري في إيطاليا أصبح التعري في إيطاليا إحدى الطرق السهلة للوصول إلى مواقع التأثير السياسي في البلاد، فإحدى الممثلات استطاعت الوصول إلى مقعد في البرلمان بعدما كانت تجوب الشوارع وهي عارية الصدر. أما إحدى الممثلات التي كانت مشهورة بأفلام التعري، فقد وصل زوجها إلى منصب رئيس وزراء، مما يشير إلى مدى النفوذ الذي وصل إليه دعاة التعري في إيطاليا. إن الأمر لا يقف عند الشواطئ وانتشار الدعارة أو الأفلام، بل أن التعري يتخذ وسيلة أيضاً للاحتجاج السياسي في إيطاليا، وأبرز مثال على ذلك هو ما حدث في ميدان (مونت سيتوريو) في العاصمة روما، حيث يقع مقر البرلمان الإيطالي، حيث قامت مظاهرة كبيرة شاركت فيها المئات من الممثلات الإيطاليات في شهر أيلول (سبتمبر) عام 1996م، احتجاجاً على الدعوات التي أعلنها رئيس رابطة الشمال الإيطالية، والتي دعا فيها إلى انفصال شمال إيطاليا الغني عن جنوبه الفقير، فخرجن الممثلات يعبرن عن رفضهن للإسفاف الذي دعا إليه رئيس الرابطة، فرفعن لافتة كبيرة كتبن عليها: لا إسفاف أكثر من الاستخفاف بالوحدة. وفجأة خلعن جميعاً ثيابهن، ووقفن عرايا في الميدان تحت حماية الشرطة التي كانت تحمي العري أمام البرلمان! ومن الجدير بالذكر هو أن بلاء سرطان الجلد يعصف بالإيطاليين بشكل كبير، نتيجة المبالغة في التعري دون غيرهم، فقد ارتفعت نسبته بينهم إلى (300%)، وحسب إحصاءات وزارة الصحة الإيطالية فقد رصدت الحكومة في عام واحد هو العام 1996م أكثر من أربعمائة مليار ليرة لمكافحة هذا المرض، دون أن تكون هناك أي نتائج ملموسة. إحصاءات من الأمم المتحدة ذكرت نائبة الأمين العام للأمم المتحدة في خطاب لها في الاحتفال الذي أقامته الأمم المتحدة بمقرها: أن هناك (500) مليون امرأة في العالم لا يعرفن القراءة والكتابة، أي ثلثي الأميين في العالم. وناشدت النساء أيضاً لأداء دورهن المأمول في الحملة الدولية لمكافحة مرض الإيدز؛ لأن نصف الناس الذين يصابون به هم من النساء. وحددت أن (58%) ممن يحملون فيروس الإيدز بأفريقيا من النساء.

ص: 315

ص: 316

ص: 317

ص: 318

أوروبا تدعو إلى تشريع وإباحة الدعارة

يعتزم أعضاء في البرلمان البلجيكي التقدم بمشروع قانون يبيح الدعارة للحد من تجارة الرقيق الأبيض، وحسم الوضع القانوني والاجتماعي لواحدة من أقدم المهن في العالم. ويمكن للقانون في حالة صدوره أن يوفر للحكومة بعض العائدات الضريبية التي تعوزها، إذ ستخضع بائعات الهوى لضريبة الدخل مما قد يدر ما يزيد على 50 مليون يورو في العام.

وقال النواب الاشتراكيون والليبراليون في البرلمان: إن مشروع القانون يهدف إلى محاربة الرقيق الأبيض، والحفاظ على الصحة العامة، وتوفير عقود عمل للمشتغلات بمهنة الدعارة.

وقال نائب ليبرالي: سننتشل أقدم مهنة في التاريخ من غياهب عدم الشرعية

ص: 319

والظلام.

وقال سناتور اشتراكي: إن الدعارة ظلت في بلجيكا أسيرة منطقة رمادية من الناحية القانونية.

وقالت عضوة حزب الخضر والوفد البلجيكي في البرلمان الأوروبي - والتي عرفت بتبنيها لهذه القضية - : إن إباحة الدعارة قد تدر عائداً للحكومة يصل إلى 50 مليون يورو من ضرائب الدخل سنوياً.

ودعا حاكم منطقة روسية النواب إلى تشريع الدعارة مشيراً إلى أن تنظيم هذا القطاع الذي يشهد ازدهاراً كبيراً سيسمح بمكافحة الجنوح، وانتشار الأمراض التي تنتقل عن طريق العلاقات الجنسية.

وبدؤوا بتشريع الدعارة في منطقته ساراتوف. وقال المكلف بحقوق الإنسان: إنه يعتزم تنظيم هذا المجال بحيث يتمكن من مكافحة الأمراض التي تنتقل عن طريق العلاقات الجنسية والسل - وقال متوجهاً إلى الصحافيين - : إن الأمر يتعلق بصحة الأمة.

وفي ألمانيا فإن بعض مدنها تفرض (ضريبة) على بيوت الدعارة، فبعد أن أصبح اقتصاد البلاد على حافة الركود، لجأت مدن ألمانية تواجه أزمات مالية إلى فرض (ضريبة) على بيوت الدعارة من أجل الحصول على مبالغ مالية لتعويض ما تعانيه من عجز في ميزانياتها.

وقالت برلين وكولونيا: إنهما ربما توسعان دائرة (الضريبة) الحالية المفروضة على أندية القمار والمناسبات العامة لتشمل بيوت الدعارة ومعارض بيع الأدوات الجنسية.

وقامت مدينتا جلسنكيرشن ودورستن الألمانيتان بالفعل بهذه الخطوة إلّا أنهما لم تحققا سوى نجاح محدود، إذ لم يسدد الضرائب سوى (10%) فقط من

ص: 320

بيوت الدعارة منذ فرض هذه الضريبة.

ويفتش مسئولو الضرائب عن أماكن تقديم العاهرات اللائي تعملن في بيوتهن لبحث إمكانية إخضاعهن للضريبة التي تصل إلى (6/5) يورو يومياً عن كل عشرة أمتار مربعة من مساحة مكان العمل. أما أي منشأة أصغر من ذلك فهي معفاة من هذه الضريبة.

ويقول الناطق باسم مدينة جلسنكيرشن الألمانية: إن مفتشو الضرائبالتابعون لنا يمشطون الإعلانات الجنسية في الصحف ثم يقومون بزيارة هذه الأماكن ومعهم أدوات القياس.

وقالت مجموعة ترعى حقوق العاهرات وتدعى (هيدرا) في بيان لها: إن هذه الضريبة عبثية تماماً، وهل ستحدد الضرائب بناء على مساحة بيت الدعارة، وإذا كان الأمر كذلك فإن زبائن برلين سيتعين عليهم إشباع احتياجاتهم في حجيرات مكتظة أو وقوفاً.

أما في أسبانيا فإن أحد سياسيها عرض على الشبان في جنوب البلاد تسهيلات تجعلهم يمارسون الحب بنصف الثمن مع وعد انتخابي بتقديم دعم مالي لخفض أسعار الغرف الفندقية للشبان الصغار.

وقال مرشح حزب الخضر لمنصب رئيس بلدية غرناطة: إن مجلس المدينة سيعطي الشبان حتى سن الخامسة والعشرين (قسيمة لممارسة الحب) ستسمح لهم بالنزول في الفنادق المحلية بنصف الثمن إذا فاز في الانتخابات المحلية.

ويميل الشبان في أسبانيا التي يدين غالبية سكانها بالكاثوليكية إلى العيش في المنازل لفترة أطول من أقرانهم في دول شمال أوروبا وهو ما دعا المرشح إلى القول بأن السماح للشبان بممارسة الحب في الفنادق بدلاً من المتنزهات العامة حرية شخصية مهمة.

ص: 321

ويقول مفوض مجلس أوروبا لحقوق الإنسان حول الاتجار بالبشر وتجارة الدعارة: إن بعض الأرقام مذهلة ويجب قطعاً أخذها في الاعتبار، ملمحاً إلى أن عدد المضيفات الأجانب اللواتي يعملن في الحانات والملاهي الليلية مرتفع جداً قياساً إلى التعداد السكاني لهذا البلد.

وتفيد الأرقام الرسمية أن جزيرة قبرص التي تضم نحو (700) ألف نسمة،تضم (78) من الحانات، و(38) من الملاهي الليلية تستخدم (1270) فنانة.

وقد كشف تحقيق برلماني مؤخراً أن بين (3000) و(3500) امرأة يتحدر معظمهن من أوروبا الشرقية تصلن كل عام إلى الجزيرة للعمل في حانات أو ملاه ليلية، لكنهن يقعن في حالات كثيرة في شبكات البغاء.

وفي واشنطن اتهمت وزارة الخارجية الأمريكية (15) دولة، من بينها السودان وتركيا واليونان، بعدم بذل الجهد الكافي لمنع الاتجار في الرق والجنس. وقال وزير الخارجية الأمريكية كولن باول: إنه أمر مروع وغير مقبول أخلاقياً أن يستغل مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال ويحولهم متربحون من البؤس الإنساني إلى رقيق.

ومن الأخبار الغريبة في هذا الباب هو ما أعلنه بيت دعارة أمريكي بأنه يقدم الجنس مجاناً للجنود العائدين من الحرب.

وقال أحد أصحاب البيوت المرخصة للدعارة في نيفادا لرويترز: إنه سيقدم أيضاً خفضاً قدره (50%) للعسكريين الذين سيستفيدون من خدماته في الأسابيع القليلة القادمة.

إلى غير ذلك من المآسي والويلات التي أخذت بالمرأة إلى المجهول وكلها من جراء ترك القوانين الإسلامية التي ضمنت للمرأة حريتها وتطورها وكرامتها وشرفها، وبكلمة واحدة سعادتها في الدنيا والآخرة.

ص: 322

تفاقم ظاهرة الطلاق في إيران

في حديثه لمراسل وكالة (إيسنا) الإيرانية، قال مسئول قسم التوجيه والتعاون القضائي في المجمع الأسري بمحافظة تبريز: إن معضلة الطلاق في مجتمعنا ستتحول في السنوات القادمة إلى أزمة حقيقية.

وأضاف: إن الطلاق المتسرع وغير المستند إلى خبرة ووعي كاف، والذييشكل النسبة الغالبة، أضحى يثقل كاهل المجتمع، ويتسبب في تصدعات اجتماعية خطيرة.

وذكر هذا المسئول: بأن نسبة الطلاق الناشئ عن: إدمان المخدرات هي (87/9%)، وعن تدخل الآخرين من طرفي الزوج والزوجة (55/9%)، وعن عدم الانسجام والتفاهم (91/8%)، وعن البطالة (55/8%)، وعن سوء الظن (7%)، وعن فقدان العاطفة بين الزوجين (73/5%)، وعن الزواج الإجباري (5/5%).

وقال: بما أن المشكلة الأصلية التي يعاني منها المدمنون تتمثل في البطالة، والحاجة إلى العطف، فلهذا ندعو المسئولين إلى المتابعة والمزيد من الاهتمام بهذا الصدد.

ومضى يقول: نسبة الطلاق في أوساط المتعلمين أقل، ولكن في حالة حصول طلاق لدى هؤلاء الأفراد، فإنهم قليلاً ما يقومون بمراجعة المراكز المتخصصة.

وعد هذا المسئول ضغوط المعيشة ومشكلة السكن، السبب الرئيسي للجوء النساء إلى الطلاق، وفي المقابل اعتبر قلة الحنان والبرود لدى النساء، سبباً أساسياً وراء نزوع الرجال إلى تطليق زوجاتهم.

الإجهاض في العالم

تدل الإحصائيات على مستوى العالم بأن (50) مليون عملية إجهاض تجري سنوياً في العالم بينها (20) مليون في ظروف غير صحية، ويجدر العلم بأن

ص: 323

(13%) من جميع وفيات الأمومة عالمياً سببه الإجهاض غير المأمون.

الاغتصاب

إن غالبية المراهقين في الولايات المتحدة الأمريكية يفقدون عذريتهم خلال شهر ديسمبر / كانون الأول وهو موسم أعياد الميلاد ونهاية السنة، ويرىالمختصون التربويون أن الأعياد وما يحيطها من أجواء لها تأثير كبير على هذه الظاهرة، وأن العديد من المراهقات والمراهقين الذين يتواعدون بشكل جدي يختارون شهر ديسمبر / كانون الأول لممارسة الجنس لأول مرة، وكذلك فإن المراهقين الرومانسيين معرضين لممارسة الجنس أكثر ب(3) مرات من الذين لا يرتبطون بعلاقات حميمة، وشملت الدراسة إجابات وثقت زهاء ما أوضحه (21) ألف مراهق ومراهقة ابتداء من عمر الثانية عشرة هذا وكان عدد من الباحثين من جامعة ميسسبي قد كُلفوا إنجاز الدراسة المتقدمة التي بان من خلالها أن الشهر الأخير من كل سنة قد جعلوه مناسبة للفساد في الغرب بدلاً من أن يجعلوه مناسبة للاحتفال بزواج شرعي حميم.

ولعل عدم وجود رادع أو أخلاقيات تؤخذ بالحساب أمام الملأ قد شجع على استسهال عمل اقتراف الخطيئة على كونه مندرجاً تحت عنوان ممارسة الحرية الشخصية التي عادة ما تدفع ثمنها الفتاة في أهم جانب من مستقبلها العاطفي إذ إن غالبية الفتيات الغربيات ممن لم يبلغن أكثر من (24) سنة يبدأ لديهن الشعور باليأس من الحصول على زوج نتيجة لإمكانية استحصال الفتاة من علاقة عاطفية خالية من رابطة الزواج المقدس حتى في الدين المسيحي.

الاكتئاب يصيب المرأة أكثر من الرجل

حذرت دراسة طبية من ارتفاع معدل الإصابة بالكآبة بين السيدات. وأكدت

ص: 324

الدراسة أنه رغم التطور الملحوظ في دراسة هذه الظاهرة من جوانبها المختلفة فإن الكثير من الحالات لا يتم تشخيصها بدقة الأمر الذي يؤدي إلى إصابة المرضى بمضا وقال المختصون إن وجود (48) نوعاً من أمراض الاكتئاب التي تصيب الإنسان يشكل صعوبة في التشخيص لدى بعض الأطباء خاصة أنأعراض المرض تتشابه في معظمها، ورأوا أن الاكتئاب النفسي هو السبب المباشر لمعظم الأمراض التي تتعلق بالمناعة الذاتية للجسم كالأورام والسرطان والسكر وضغط الدم وأمراض الكبد والإعاقة الذهنية، والاكتئاب عادة يصيب الإنسان عندما يفقد الأمل في المستقبل أو يتعرض للبطالة والفقر الشديد والعجز والحرمان.

وتشير بعض الدراسات إلى ارتفاع نسبة الإصابة بالاكتئاب بين سكان المدن عن القرى نظراً لضوضاء والزحام والانطواء وتكالب الناس على المادة، وأشار الأخصائيون إلى أن هناك نوعين من الاكتئاب الأول يتميز بتخيل الهلاوس والأوهام ويرتبط بالحالة المزاجية والآخر النوع الموسمي مثل الاكتئاب الذي يصيب البعض مع بداية فصل الشتاء مشيرين إلى أن هذا المرض يصيب المرأة ثلاثة أضعاف الرجل.

المرأة الأفريقية والإيدز

أكد خبراء أفارقة في اليوم الأخير من (المؤتمر الإفريقي السابع حول المرأة والإيدز) الذي عقد في دكار أن (13) مليون امرأة مصابة بالإيدز في البلدان الواقعة جنوب الصحراء.

وقدرت دراسات عرضت في مؤتمر دكار نسبة الإصابات الجديدة بالإيدز عند النساء الشابات اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين (15) و(24) عاماً، ب(60%)، وأوضحت البروفسورة مديرة الاستراتيجيات والأبحاث في المنظمة الدولية

ص: 325

لمكافحة الإيدز: أن ذلك يعود إلى (البلوغ الجنسي المبكر) لدى تلك الشابات.

العنف ضد النساء

- غالبية دول أميركا اللاتينية والوسطى سنَّت قوانين تعاقب كل مرتكبي العنف ضد النساء في هذه الدول.- أكد مركز الأبحاث الإسباني أن سيدة من كل ثلاث في العالم تتعرض أو تعرضت للعنف الزوجي.

- تجارة الرقيق هي ثالث تجارة غير مشروعة من حيث الدخل الذي تدره على أميركا.

- أصاب مرض الإيدز (14) مليون امرأة في العالم.

- (4) ملايين امرأة يرغمن كل عام على ممارسة الدعارة، منهن (500) ألف امرأة في دول الاتحاد الأوروبي وحده.

- (60) مليون أنثى لا تولد (إجهاض انتقائي) أو يقتلن بعيد ولادتهن لمجرد كونهن إناثاً (وأد البنات)!

- منظمة (أكبات) لمكافحة السياحة الجنسية أكدت بأن فتيات في سن السابعة من النيبال وبنغلادش، يتدربن في كبرى مراكز البغاء بالهند.

- سجل (مركز حوادث الاغتصاب) في بانكوك أن (10%) من المترددات عليه قد اصابهن مرض نقص المناعة (الإيدز) بسبب الاغتصاب.

- توجد في أمريكا (400) منظمة مختصة بمكافحة العنف ضد النساء.

- عدد المدخنات في العالم بلغ (200) مليون امرأة، بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية.

- النساء المدخنات أكثر تعرضاً للإصابة بمرض العقم، كما ثبت أن هناك صلة بين التدخين والعقم عند الرجال.

ص: 326

- (2/1) مليون امرأة وفتاة دون سن ال- (18) سنة على نطاق العالم يجري الاتجار بهن كل عام لأغراض البغاء.

- (3) ملايين امرأة وفتاة عربية يعشن في أوروبا.

- (6) ملايين امرأة بدون بعل في مصر عام (97).- (25%) نسبة النساء العاملات في العالم العربي.

- (39%) نسبة النساء العاملات في الدول النامية.

- (600) ألف امرأة إسبانية ضحية سوء المعاملة الزوجية سنوياً.

- (200) ألف حالة انتحار تحصل في الصين سنوياً أغلبها بين النساء.

- (4%) من الإيطاليات بين سن ال(14-59) عاماً ضحايا الاغتصاب الجنسي.

- (1740) جريمة اغتصاب وعنف جنسي شهدتها نساء لندن عام (1997).

نسبة التحرش الجنسي بالنساء العاملات

- (20%) في فرنسا

- (6/16%) في الأرجنتين

- (8/10%) في رومانيا

- (7/9%) في كندا

- (6/8%) في بريطانيا

النساء الداعرات

- (5/1%) من مجموع النساء في إندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند منغمسات في أعمال الدعارة.

- (300) ألف في تايلاند.

- (230) ألف في إندونيسيا.

ص: 327

- (142) ألف في ماليزيا.

- (500) ألف في الفلبين.

- (4000) بيت دعارة في موسكو.

- (000 50) عاهرة في موسكو يعرضن خدماتهن في الشوارع.- (4) مليارات دولار سنوياً تدر على إسرائيل من صناعة الدعارة والجنس.

إلى غير ذلك من الإحصاءات والتقارير الكثيرة في هذا الباب.

من هدي القرآن الحكيم

المرأة في الإسلام

قال اللّه تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَٰتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ وَالْقَٰنِتِينَ وَالْقَٰنِتَٰتِ وَالصَّٰدِقِينَ وَالصَّٰدِقَٰتِ وَالصَّٰبِرِينَ وَالصَّٰبِرَٰتِ وَالْخَٰشِعِينَ وَالْخَٰشِعَٰتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَٰتِ وَالصَّٰئِمِينَ وَالصَّٰئِمَٰتِ وَالْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَٰفِظَٰتِ وَالذَّٰكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(1).

المرأة الصالحة

قال عزّ وجلّ: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَٰهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {فَالصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}(3).

الزواج في الإسلام

قال اللّه تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ

ص: 328


1- سورة الأحزاب، الآية: 35.
2- سورة الأنبياء، الآية: 91
3- سورة النساء، الآية: 34.

أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ}(1).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٖ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}(2).وقال عزّ وجلّ: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

سيدة نساء العالمين

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه تعالى أختار من النساء أربع: مريم، وآسية، وخديجة، وفاطمة»(4).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «أما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين»(5).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما، وأمهما أفضل نساء أهل الأرض»(6).

حق المرأة الأم

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الجنة تحت أقدام الأمهات»(7).

ص: 329


1- سورة النحل، الآية: 72.
2- سورة الفرقان، الآية: 74.
3- سورة النور، الآية: 32.
4- بحار الأنوار 43: 19.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 113.
6- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 62.
7- مستدرك الوسائل 15: 180.

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «تحت أقدام الأمهات روضة من رياض الجنة»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «واعلم، أن حق الأم ألزم الحقوق وأوجب؛ لأنها حملت حيث لا يحمل أحد أحداً، وَوَقَتْ بالسمع والبصر وجميع الجوارح مسرورة مستبشرة بذلك، فحملته بما فيه من المكروه الذي لا يصبر عليه أحد، ورضيت بأن تجوع ويشبع، وتظمأ ويروى، وتعرى ويكتسي، وتظله وتضحى،فليكن الشكر لها والبر والرفق بها على قدر ذلك، وإن كنتم لا تطيقون بأدنى حقها إلّا بعون اللّه»(2).

وقال رجل لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إن والدتي بلغها الكبر، وهي عندي الآن أحملها على ظهري، وأطعمها من كسبي، وأميط عنها الأذى بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي استحياءً منها وإعظاماً لها، فهل كافأتها؟

قال: «لا؛ لأن بطنها كان لك وعاءً، وثديها كان لك سقاءً، وقدمها لك حذاءً، ويدها لك وقاءً، وحجرها لك حواءً، وكانت تصنع ذلك لك وهي تمنى حياتك، وأنت تصنع هذا بها وتحب مماتها»(3).

وقيل: يا رسول اللّه، ما حق الوالد؟

قال: «أن تطيعه ما عاش».

فقيل: وما حق الوالدة؟

فقال: «هيهات هيهات، لو أنه عدد رمل عالج، وقطر المطر أيام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها»(4).

ص: 330


1- مستدرك الوسائل 15: 181.
2- بحار الأنوار 71: 77.
3- مستدرك الوسائل 15: 180.
4- عوالي اللئالي 1: 269.

وقيل للإمام زين العابدين(عليه السلام): أنت أبر الناس بأمك، ولا نراك تأكل معها؟!

قال: «أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال موسى بن عمران: يا رب، أوصني؟ قال: أوصيك بي. فقال: يا رب أوصني؟ قال: أوصيك بي - ثلاثاً - . قال: يا رب، أوصني؟ قال: أوصيك بأمك. قال: يا رب، أوصني؟ قال: أوصيك بأمك. قال: أوصني؟ قال:أوصيك بأبيك...»(2).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «أما حق أمك، فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً. ووَقَتْكَ بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتظلك...»(3).

حب النساء

حب النساء(4)

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «كلما ازداد العبد إيماناً أزداد حباً للنساء»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أخلاق الأنبياء صلى اللّه عليهم حب النساء»(6).

وقال(عليه السلام): «كل من اشتد لنا حباً أشتد للنساء حباً وللحلواء»(7).

ص: 331


1- مكارم الأخلاق: 221.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 511.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 621.
4- إن الإسلام أكد على حب المرأة من الزوجة والأم والبنت والأخت ومن أشبه في مقابل أولئك الذين يبغضون المرأة وتسود وجوههم وهم كاظمين من الأنثى.
5- النوادر للراوندي: 12.
6- الكافي 5: 320.
7- السرائر 3: 636.
الزوجة الصالحة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من سعادة المرء الزوجة الصالحة»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ما أفاد عبد فائدة خيراً من زوجة صالحة، إذا رآها سرته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله»(2).

المرأة وخدمة الزوج

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «سألت أم سلمة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عن فضل النساء في خدمة أزواجهن؟ فقال: ما من امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى موضع تريد به صلاحاً نظر اللّه إليها ومن نظر اللّه إليه لم يعذبه»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «جهاد المرأة حسن التبعل»(4).

أبغض الحلال عند اللّه الطلاق

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ يبغض كل مطلاق ذواق»(5).

وقال رسول(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما من شيء أبغض إلى اللّه عزّ وجلّ من بيت يخرب في الإسلام بالفرقة...»(6). يعني الطلاق.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ يحب البيت الذي فيه العرس، ويبغض البيت الذي فيه الطلاق، وما من شيء أبغض إلى اللّه عزّ وجلّ من الطلاق»(7).

ص: 332


1- الكافي 5: 327.
2- الكافي 5: 327.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 618.
4- الكافي 5: 9.
5- الكافي 6: 55.
6- الكافي 5: 328.
7- الكافي 6: 54.

المرأة في المنظار الإسلامي

كمال الخلقة

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ}(1).

الآية الكريمة تدل على أن اللّه عزّ وجلّ خلق الأشياء في أحسن صورة وأكملها {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(2)، وخاصة بالنسبة إلى الإنسان حيث يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ}(3)، وهذه الآيات تشمل المرأة كما تشمل الرجل، من هنا يتضح أن المرأة في المنظار الإسلامي مخلوقة بأحسن الصور وأكملها ولا نقص فيها.

فإن قوله تعالى: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا} أي: في الأرض {مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ} أي: في دقة وإحكام وتقدير، فالنبات ليس اعتباطاً في مقدار حجمه وشكله ولونه وسائر مزاياه، بل كل ذلك بالوزن والتقدير، وليس المراد بالوزن - معناه الخارجي - بل تشبيه بالموزون الذي ليس فيه زيادة ونقصان، يقال: فلان شخص موزون، أي دقيق الصفات متساوي الجهات، لا زيادة في حركاته وسكناته ولا نقصان(4).

والإنبات في هذه الآية الكريمة يشمل الإنسان أيضاً؛ لأن النبات هو الخارج بالنمو حالاً بعد حال، كما هو واضح في الآية الأخرى التي تقول: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم

ص: 333


1- سورة الحجر، الآية: 19.
2- سورة المؤمنون، الآية: 14.
3- سورة الإسراء، الآية: 70.
4- تفسير تقريب القرآن 3: 162.

مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا}(1).

إن جميع المخلوقات قد دبرت على أكمل وجه وفي غاية الدقة والكمال(2). فإنه تبارك وتعالى يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٖ}(3)، أي أنه تعالى خلق كل شيء مقدراً بمقدار توجبه الحكمة، ولم يخلقه جزافاً ولا ناقصاً، سواء في المخلوقات الصغيرة كالنملة - مثلاً - أو في المخلوقات الكبيرة من الحيوانات كالفيل مثلاً، فكل ما يحتاج إليه المخلوق فقد حباه اللّه تعالى به ووهبه له؛ لأن اللّه تعالى ليس بخيلاً؛ بل هو فياض مطلق قد أعطى كل شيء قدره وبحسب قابليته: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(4). وهناك أيضاً أدلة علمية أخرى تدل على أن مخلوقات اللّه تعالى قد خلقت بميزان دقيق(5).

لا تفاوت في خلق اللّه

إذن، الباري تعالى خلق المخلوقات جميعاً على أتم وجه وعلى ما تقتضيه الحكمة، وكذلك هو خَلَق الرجل والمرأة على أحسن تقويم، فإن المرأة من ناحية الخلقة لا يشوبها أي نقص - كما قد يتوهمه البعض - وفي كل شؤونها خلقت كاملة.

وفي الآية الشريفة: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}(6).

ص: 334


1- سورة نوح، الآية: 17.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 9: 324.
3- سورة القمر، الآية: 49.
4- سورة المؤمنون، الآية: 14.
5- انظر: تفسير مجمع البيان 10: 69.
6- سورة الملك، الآية: 3-4.

ومعناه: {مَّا تَرَىٰ} أيها الرائي {فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ} واختلاف، من جهة أن الجميع مخلوقة بدقة وإتقان وكمال لائق به {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} أي: ردّه إلى الكون، بعد أن كان سابقاً إليه، وكأنه كان ناظراً بلا التفات إلى هذه الجهة، فقيل له: رد بصرك بقصد التفحص والبحث {هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ}؟ أي: شقوق وفتوق كالبناء الذي ينفطر لخلل فيه، فهل في الكون خلل يدل على الوهن والضعف، أم أن كل شيء وضع في محله اللائق به حسب الحكمة والصلاح؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي: كرة بعد كرة، والمراد مكرراً إذ لعل البصر اشتبه في المرة الأولى، فلم يرَ فتقاً - فإن الإنسان إذا كرر النظر إلى شيء أدرك خلله - فانظر إلى الكون مرة أخرى فاحصاً عن الخلل، لكنه لا تجده بل {يَنقَلِبْ} أي: يرجع {إِلَيْكَ} أيها الإنسان {الْبَصَرُ} الذي سرحته في الكون {خَاسِئًا} قد خسئ وطرد وعجز عمّا طلبه - من الفتق - {وَهُوَ حَسِيرٌ} قد حسر، أي: كلَّ وعَيَّ ولم يجد خللاً ووهناً، وما يوجد من الأمراض وما أشبه، إنما هو للامتحان والعبرة، لا لنقص في الخلق(1).

ولا يخفى أنه ليس المقصود من هذه الآية الشريفة الرجال فقط، بل هي شاملة لكل خلق اللّه تبارك وتعالى ومنهم الرجال والنساء. أما الفروق الموجودة في ما بين الرجل والمرأة إنما هي فروق بسيطة وجسدية ونفسية، كلٌ خلق بمقتضى حكمته جلّ وعلا، ولما أعد له، ولو لا وجود الاختلاف والفرق في الخلقة بينهما لكان نقصاً في الصنع والتدبير الإلهي، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

إذن الاختلافات التكوينية بين الرجل والمرأة لا تُعد كمالاً في الرجل ونقصاً

ص: 335


1- تفسير تقريب القرآن 5: 466.

في المرأة؛ بل لكل كماله وبحسبه، فإن المرأة قد خلقت كاملة من جهة كونها إنساناً، ومن حيث مكانتها في المجتمع البشري، فلها كل الحق في أن تتمتع بكامل حقوقها كإنسان، لكن المرأة خلقت بكيفية خاصة بها كما خلق الرجل بكيفية خاصة به، فالمرأة مثلت جانب اللين والنعومة، والرجل يمثل جانب الصلابة والشدة والخشونة، ولو كان كلاهما غليظين أو ناعمين لكان نقصاً في الخلقة، وهذا الاختلاف ناتج من تقدير العليم الخبير ليكمل بعضهما البعض ويسد كل منهما حاجة الآخر، ويكوّنا معاً الأسرة والمجتمع الكاملين؛ لأن الحياة الإنسانية تحتاج لكلا الجنسين، فالاختلاف وظيفي وليس اختلافاً في إنسانية أحدهما عن الآخر.

الثواب والعقاب للمرأة والرجل

اشارة

قال تعالى: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ}(1)، وهذا تصريح من الآية الكريمة بأن اللّه ينظر إلى الرجل والمرأة من حيث قانون الثواب والعقاب نظرة واحدة ولا يضيع أجر أحد.

إن الإسلام ينظر إلى النوع الإنساني... إلى المرأة والرجل على حد سواء، دون فرق في الإنسانية، وهما وليدا عمل تناسلي مشترك، والفرق في الخلق لأن كلاً منهما يتطلب مزايا خلقية خاصة تختلف عن الآخر فسجلته فيه، كما خلق النبات والحيوان والإنسان ليكمل بعضهم البعض الآخر، فالنبات خلق بشكل يختلف عن الحيوان، وكل واحد يكمل الآخر؛ فلا بد من الاختلاف لضرورته.

لذا فالمرأة في حد ذاتها ومن حيث الخلقة كاملة لا يشوبها أي نقص، وأسلوب المرأة وطريقتها طريقة كاملة، وقد خلق اللّه تعالى المرأة منذ أول

ص: 336


1- سورة آل عمران، الآية: 195.

خلقتها، وهي ملازمة للرجل وفي جانبه.

رجال عظماء ونساء معظمات

عند قراءة سيرة العظماء وتاريخهم، نرى كم هو جميل أن يكون إلى جانب الرجال البارزين العظماء أصحاب الإنجازات الكبيرة والمؤثرة في تأريخ البشرية، نجد إلى جانبهم نساء بارزات عظيمات كانت لهن أدوار ومهام مصيرية في سيرة هؤلاء الرجال، بل وكان لهن التأثير المصيري في التأريخ الإنساني، ولعل بعض الرجال لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه لو لا مساندة هذه المرأة، أو تلك التي وقفت إلى جانبه.

فمثلاً، كانت أمنا حواء في جوار آدم(عليهما السلام).

وكذلك كانت هاجر في جوار إبراهيم خليل الرحمن(عليهما السلام).

وأخت موسى(عليها السلام) كانت إلى جواره(عليه السلام).

ومريم(عليها السلام) إلى جانب عيسى(عليه السلام).

والسيدة خديجة(عليها السلام) إلى جانب الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم).

والصديقة فاطمة الزهراء(عليها السلام) بجانب مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام).

والسيدة زينب(عليها السلام) بجانب الإمام الحسين(عليه السلام)، وهكذا.

كل واحدة من هؤلاء النسوة الكريمات كانت لهن أدوار ومهام مصيرية في حياة الرجال العظماء ممن عاصروهن.

السيدة خديجة الكبرى(عليها السلام)

إن من أوائل النساء اللواتي تحملن المسؤوليات الجمة، والصعاب التي تنوء بحملها الجبال الرواسي، هي أم المؤمنين والمؤمنات السيدة العظيمة خديجة الكبرى(عليها السلام)، فقد كانت لها مواقف مشهودة إلى جوار نبينا الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم).

ولهذه المرأة منزلة خاصة عند اللّه وعند رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم)، إلى درجة أن اللّه تعالى

ص: 337

كان يبعث لها سلاماً خاصاً، وقد ورد في بيان مكانتها ومنزلتها روايات عديدة، بشأن مساندتها ودعمها لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وفي سبيل الدين الحق وذلك بأموالها الكثيرة التي أنفقتها في سبيل اللّه، حتى قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في رواية: «ما قام ولا استقام ديني إلّا بشيئين مال خديجة وسيف علي بن أبي طالب»(1).

وعنها قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أفضل نساء الجنة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «حدث أبو سعيد الخدري: إن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: إن جبرئيل(عليه السلام) قال لي ليلة أسري بي وحين رجعت، فقلت: يا جبرئيل، هل لك من حاجة؟ فقال: حاجتي أن تقرأ على خديجة من اللّه ومني السلام، - وحدثنا عند ذلك - أنها قالت حين لقاها نبي اللّه عليه وآله السلام فقال لها الذي قال جبرئيل، قالت: إن اللّه هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، وعلى جبرئيل السلام»(3).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب»(4).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «ذكر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) خديجة يوماً وهو عند نسائه فبكى، فقالت عائشة: ما يبكيك على عجوز حمراء من عجائز بني أسد؟ فقال: صدقتني إذ كذبتم، وآمنت بي إذ كفرتم، وولدت لي إذ عقمتم. قالت عائشة: فما زلت أتقرب إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بذكرها»(5).

ص: 338


1- شجرة طوبى 2: 233.
2- الخصال 1: 205.
3- تفسير العياشي 2: 279.
4- كشف الغمة 1: 507.
5- كشف الغمة 1: 508.

وقال العلامة المجلسي(رحمه الله) في بحار الأنوار: نقلت من كتاب (معالم العترة النبوية)... عن محمد بن إسحاق قال: كانت خديجة بنت خويلد(عليها السلام) امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغها عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) من صدق حديثه، وعظيم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه وعرضت عليه أن يخرج في مالها تاجراً إلى الشام، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له: ميسرة، فقبله منها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)...

وكانت خديجة(عليها السلام) امرأة حازمة لبيبة، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، وكل قومها قد كان حريصاً على ذلك - على الزواج منها - لو يقدر عليه.

وفي الحديث: «كانت خديجة أول من آمن باللّه ورسوله، وصدقت بما جاء من اللّه، ووازرته على أمره، فخفف اللّه بذلك عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك، إلّا فرج اللّه ذلك عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بها، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت رحمها اللّه»(1).

وعن ابن إسحاق قال: ... وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام، وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يسكن إليها(2).

نعم، كانت السيدة خديجة(عليها السلام) عزيزة عند النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، وتتمتع بمكانة خاصةفي قلبه، فكان يحبها حباً جماً، ويعتز بها ويقدر مواقفها الشريفة، والشواهد على

ص: 339


1- كشف الغمة 1: 511.
2- بحار الأنوار 16: 8.

ذلك عديدة. ويكفي دليلاً على عظمتها ومكانتها، أنها كانت تخفف عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وتسلي خاطره من كل ما كان يلاقيه من إيذاء وهوان من قبل مشركي قريش، ولم تسبب له أي أذى أو مشكلة أبداً.

ولم تطلب خديجة(عليها السلام) من النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) شيئاً أبداً إلّا حاجة واحدة فقط، وهذه كانت عبر ابنتها الصديقة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، حيث إنها سمعت من النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) عن أهوال القبر وما يلاقي الميت فيه، على الرغم من إيمانها العظيم وسابقتها ودرجتها عند اللّه، إلّا أنها كانت تخاف القبر فطلبت من النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يكفنها بعباءته الشريفة التي كان يصلي فيها، لكي تشملها الرحمة الإلهية، ببركة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ويرتفع عنها العذاب(1).

الزهراء(عليها السلام) أعظم أسوة للنساء

أما الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء(عليها السلام) فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي صاحبة المواقف العظيمة مع أبيها وبعلها وبنيها(عليهم السلام) في أداء رسالة السماء والدفاع عن الحق وفضح الظالمين.

إن السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) قدوة لنساء العالمين إلى يوم يبعثون؛ وذلك في مختلف مجالات الحياة، فهي أسوة في الأسرة وتربية الأولاد واتخاذ المواقف الحرجة تجاه الظالمين إذ أنها لما رأت أن القوم راحوا يبتعدون عمّا أمر به الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) في أمر الخلافة، انبرت لهم واتخذت موقفها السياسي الحكيم، فخطبت خطبتها المفصلة المشهورة، وأخذت تدافع عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وعن الإسلام والقرآن في قصص عديدة ومواقف مشهودة.

وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة جداً، عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وعن الأئمة

ص: 340


1- انظر: شجرة طوبى 2: 235.

المعصومين(عليهم السلام).

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إنما سميت فاطمة(عليها السلام) محدثة؛ لأن الملائكة كانت تهبط من السماء، فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، اللّه اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين. يا فاطمة، اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها. فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران، فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها، وإن اللّه عزّ وجلّ جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها، وسيدة نساء الأولين والآخرين»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه تعالى إذا بعث الخلائق من الأولين والآخرين نادى منادي ربنا من تحت عرشه: يا معشر الخلائق، غضّوا أبصاركم لتجوز فاطمة بنت محمد سيدة نساء العالمين على الصراط. فيغض الخلائق كلهم أبصارهم، فتجوز فاطمة على الصراط، لا يبقى أحد في القيامة إلّا غض بصره عنها، إلّا محمد وعلي والحسن والحسين والطاهرون من أولادهم؛ فإنهم محارمها، فإذا دخلت الجنة بقي مرطها(2) ممدوداً على الصراط، طرف منه بيدها وهي في الجنة، وطرف في عرصات القيامة. فينادي منادي ربنا: يا أيها المحبون لفاطمة تعلقوا بأهداب مرط فاطمة سيدة نساء العالمين. فلا يبقى محب لفاطمة إلّا تعلق بهدبة من أهداب مرطها، حتى يتعلق بها أكثر من ألف فئام وألف فئاموألف فئام».

قالوا: وكم فئام واحد يا رسول اللّه؟

ص: 341


1- علل الشرائع 1: 182.
2- المِرط: كساء من صوف ونحوه يئتزر به.

قال: «ألف ألف من الناس»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «رائحة الأنبياء رائحة السفرجل، ورائحة الحور العين رائحة الآس، ورائحة الملائكة رائحة الورد، ورائحة ابنتي فاطمة الزهراء رائحة السفرجل والآس والورد»(3).

وعن عائشة قالت: (ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقام إليها، فأخذ بيدها وقبّل يدها وأجلسها في مجلسه، وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إذا دخل عليها رحبت به وقامت إليه، وأخذت بيده فقبّلتها)(4).

وقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «... ففاطمة حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة»(5).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «... وأما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني وهي نور عيني وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي، وهي الحوراء الإنسية متى قامت في محرابها بين يدي ربها جلّ جلاله ظهر نورها لملائكة السماء، كما يظهر نور الكواكب لأهلالأرض، ويقول اللّه عزّ وجلّ لملائكته: يا ملائكتي، انظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي، قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي

ص: 342


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 434.
2- الطرائف 1: 262.
3- بحار الأنوار 63: 177.
4- بشارة المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم): 253.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 461.

أشهدكم أني قد آمنت شيعتها من النار...»(1).

بطلة كربلاء

أما السيدة الحوراء زينب(عليها السلام) بنت أمير المؤمنين(عليه السلام) عقيلة بني هاشم، فهي صاحبة الشرف الرفيع، والمجد الأصيل، فهي بنت علي وفاطمة(عليهما السلام) وجدها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) الذي قال: «إن اللّه عزّ وجلّ جعل ذرية كل نبي من صلبه خاصة، وجعل ذريتي من صلبي ومن صلب علي بن أبي طالب، إن كل بني بنت ينسبون إلى أبيهم إلّا أولاد فاطمة فإني أنا أبوهم»(2).

وهي شقيقة سيدي شباب أهل الجنة الإمامين الهمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) ريحانتي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

لها من الشرف الرفيع، والعلم والغزير، والفضل والتقوى، والكمال والزهد، والورع وكثرة العبادة ومعرفة اللّه، ما لم يعرف لأحد من النساء إلّا لأمها الصديقة الكبرى(عليها السلام). وقد كان بارزاً وواضحاً لكل الناس حب الخمسة الأطهار من أهل العباء(عليهم السلام) لها، ورعايتهم إياها أشد الرعاية والعطف والاهتمام.

تكنى: أم كلثوم، وأم الحسن، وتلقب: الصديقة الصغرى، والعقيلة، وعقيلة بني هاشم، وعقيلة الطالبيين، والموثقة، والعارفة، والعالمة غير المعلمة، والكاملة، وعابدة آل علي، وغير ذلك من الصفات العالية والنعوت الراقية.

ومما يذكر في أحوالها، أنه حدّث يحيى المازني قال: كنت في جوار أميرالمؤمنين(عليه السلام) في المدينة مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب(عليها السلام) ابنته، فلا واللّه ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً، وكانت إذا أرادت

ص: 343


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 113.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 387.

الخروج لزيارة جدها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تخرج ليلاً والحسن(عليه السلام) عن يمينها والحسين(عليه السلام) عن شمالها وأمير المؤمنين(عليه السلام) أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين(عليه السلام) فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن(عليه السلام) مرة عن ذلك؟ فقال(عليه السلام): «أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب»(1).

ولعظم منزلتها ذكر: أن الإمام الحسين(عليه السلام) كان إذا زارته السيدة زينب(عليها السلام) يقوم إجلالاً لها، وكان يجلسها في مكانه (صلوات اللّه عليهما).

ومما ورد عن معرفتها وعلمها، قول الإمام زين العابدين(عليه السلام): «أنتِ بحمد اللّه عالمة غير معلَّمة، وفهِمة غير مفهَّمة»(2).

وكانت زينب(عليها السلام) تجلس في بيتها أيام إقامة أبيها(عليه السلام) في الكوفة، وكانت تفسر القرآن للنساء، وتعلّمهم الأحكام الشرعية والآداب الإسلامية.

وذكر في أحوالها أنها(عليها السلام) ما تركت تهجدها للّه تعالى طول دهرها، فلم تترك صلاة الليل أبداً، حتى ليلة الحادي عشر من المحرم. حيث روي عن زين العابدين(عليه السلام) أنه قال: «رأيتها تلك الليلة تصلي من جلوس».

وعنه(عليه السلام) أيضا قال: «إن عمتي زينب مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تركت نوافلها الليلية».

وأن الإمام الحسين(عليه السلام) لما ودّع أخته السيدة زينب(عليها السلام) وداعه الأخير قال لها: «يا أختاه، لا تنسيني في نافلة الليل»(3).

وكانت لزينب(عليها السلام) نيابة خاصة عن الإمام الحسين(عليه السلام)، وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام، حتى برئ زين العابدين(عليه السلام) من مرضه.

ص: 344


1- عوالم العلوم 11: 955.
2- الاحتجاج 2: 305.
3- انظر: عوالم العلوم 11: 954.

ومن الشرف العظيم لزينب(عليها السلام): أن الإمام الحسين(عليه السلام) ائتمنها على أسرار الإمامة، فقد ورد عن أحمد بن إبراهيم قال: دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا(عليهما السلام)، أخت أبي الحسن صاحب العسكر(عليه السلام) في سنة اثنتين وستين ومائتين، فكلمتها من وراء حجاب، وسألتها عن دينها فسمّت لي من تأتم بهم، ثم قالت: والحجة بن الحسن بن علي(عليهم السلام)، فسمّته.

فقلت لها: جعلني اللّه فداك، معاينة أو خبراً؟

فقالت: خبراً عن أبي محمد(عليه السلام)، كتب به إلى أمه.

فقلت لها: فأين الولد؟

فقالت: مستور.

فقلت: إلى من تفزع الشيعة؟

فقالت لي: إلى الجدة أم أبي محمد(عليه السلام).

فقلت لها: اقتدي بمن وصيته إلى امرأة؟

فقالت: اقتداء بالحسين بن علي(عليهما السلام)، والحسين بن علي أوصى إلى أخته زينب بنت علي(عليها السلام) في الظاهر، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين(عليهما السلام) من علم ينسب إلى زينب(عليها السلام) ستراً على علي بن الحسين(عليهما السلام) - ثم قالت - : إنكم قوم أصحاب أخبار، أما رويتم أن التاسع من ولد الحسين بن علي(عليهما السلام) يقسّم ميراثه وهو في الحياة(1).

وقال الطبرسي: إن زينب(عليها السلام) روت أخباراً كثيرة عن أمها الزهراء(عليها السلام). وروي: أنها(عليها السلام) كانت تروي عن أمها وأبيها وأخويها(عليهم السلام)، وعن أم سلمة وأم هانيء وغيرهما من النساء. وممن روى عنها ابن عباس، وعلي بن الحسين(عليهما السلام)، وعبد

ص: 345


1- كمال الدين 2: 507.

اللّه بن جعفر، وفاطمة بنت الحسين الصغرى، وغيرهم. وقال أبو الفرج: زينب العقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة(عليها السلام) في فدك فقال: حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي(عليهما السلام)(1).

وروي: أنها في طفولتها كانت جالسة في حِجر أبيها - وهو(عليه السلام) يلاطفها بالكلام - فقال لها: «يا بنية قولي: واحد».

فقالت: «واحد».

فقال لها: «قولي: اثنين».

فسكتت.

فقال لها: «تكلمي يا قرة عيني».

فقالت(عليها السلام): «يا أبتاه ما أطيق أن أقول اثنين بلسان أجريته بالواحد».

فضمها (صلوات اللّه عليه) إلى صدره وقبّلها بين عينيها.

السيدة زينب(عليها السلام) والطف

لقد شاركت العقيلة الحوراء السيدة زينب(عليها السلام) أخاها الإمام الحسين(عليه السلام) في كل ما جرى عليه في كربلاء يوم عاشوراء، فكانت حقاً خير شريك ومعين في تلك الأهوال والشدائد.

وكان جلدها وصبرها في تلك الظروف الأمثولة الكبرى للتضحية في سبيل اللّه، فهي(عليها السلام) لما وقفت على جسد أخيها الحسين(عليه السلام) بعد أن استشهد واحتزاللعناء رأسه الشريف، رفعت الجسد الطاهر لأبي الأحرار، وهي ترنو ببصرها إلى السماء وتقول: «اللّهم تقبل منها هذا القربان».

ولما وصلت(عليها السلام) مع السبايا من آل بيت النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى الكوفة ألقت خطبتها

ص: 346


1- انظر: عوالم العلوم 11: 957.

على أهل الكوفة، تلك الخطبة البليغة التي مازالت تتردد على طول الزمان، فقد قال بشير بن خزيم الأسدي: ونظرت إلى زينب بنت علي(عليهما السلام) يومئذ ولم أر واللّه، خفرة قط أنطق منها، كأنما تفرع عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثم قالت:

«الحمد للّه، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار، أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل(1) والغدر، أتبكون! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي {نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَٰنَكُمْ دَخَلَا بَيْنَكُمْ}(2)، ألّا وهل فيكم إلّا الصلف(3) والنطف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة(4)، ألّا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون وتنتحبون؟! إي واللّه، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنآنها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم الأنبياء، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنارحجتكم، ومدرة(5) سنتكم، ألّا ساء ما تزرون وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من اللّه، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.

ص: 347


1- الختل: الخداع.
2- سورة النحل، الآية: 92.
3- الصلف: الذي يمتدح بما ليس عنده.
4- الفضة: الجص، والملحودة: القبر.
5- المدرة: زعيم القوم ولسانهم المتكلم عنهم.

ويلكم يا أهل الكوفة، أي كبد لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فريتم، وأي كريمة له أبرزتم، وأي دم له سفكتم، وأي حرمة له انتهكتم، لقد جئتم بهم صلعاء عنقاء، سواء فقماء(1)، كطلاع الأرض(2)، وملاء السماء، أفعجبتم أن قطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لاتنصرون. فلا يستخفنكم المهل؛ فإنه لا تحفزه(3) البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإن ربكم لبالمرصاد».

قال: فواللّه لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى أخضلت لحيته، وهو يقول: بأبي أنتم وأمي، كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يبزى(4).

وروي: أنه لما جلس ابن زياد في القصر للناس، وأذن إذناً عاماً، وجيء برأس الحسين(عليه السلام) فوضع بين يديه، وأدخل نساء الحسين(عليه السلام) وصبيانه إليه، فجلست زينب بنت علي(عليها السلام) متنكرة، فسأل عنها، فقيل: هذه زينب بنت علي، فأقبل عليها فقال: الحمد للّه الذي فضحكم قتلكم، وأكذب أحدوثتكم!

فقالت زينب(عليها السلام): «الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيه محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) وطهرنا منالرجس تطهيراً، وإنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا».

فقال ابن زياد: كيف رأيتِ فعل اللّه بأهل بيتك؟

قالت: «كتب اللّه عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتحاجون إليه وتختصمون عنده».

ص: 348


1- الفقماء: إذا كانت ثناياها العليا إلى الخارج فلا تقع على السفلى.
2- طلاع الأرض: ملئوها.
3- يحفزه: يدفعه.
4- بحار الأنوار 45: 108.

فغضب ابن زياد واستشاط.

فقال عمرو بن حريث: أيها الأمير إنها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ولا تذم على خطابها.

فقال لها ابن زياد: لقد شفى اللّه نفسي من طاغيتك، والعصاة من أهل بيتك!

فزقت(1) زينب وبكت وقالت له: «لعمري، لقد قتلت كهلي، ... وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت».

فقال ابن زياد: هذه سجاعة، ولعمري لقد كان أبوها سجاعاً شاعراً.

فقالت: «ما للمرأة والسجاعة...».

ثم التفت ابن زياد إلى علي بن الحسين(عليه السلام)، فقال له: من أنت؟

فقال(عليه السلام): «أنا علي بن الحسين».

فقال: أليس قد قتل اللّه علي بن الحسين؟!

فقال له علي(عليه السلام): «قد كان لي أخ يسمى علياً قتله الناس».

فقال له ابن زياد: بل اللّه قتله.

فقال علي بن الحسين(عليهما السلام): «اللّه يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها».فقال ابن زياد: وبك جرأة لجوابي! ... اذهبوا به فاضربوا عنقه.

فتعلقت به زينب(عليها السلام) عمته، وقالت: «يا ابن زياد، حسبك من دمائنا» واعتنقته وقالت: «واللّه، لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه».

فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة، ثم قال: عجباً للرحم! واللّه إني لأظنها ودّت أني قتلتها معه، دعوه فإني أراه لما به.

ص: 349


1- فرقت: أي صاحت.

فقال علي(عليه السلام) لعمته: «اسكتي يا عمة حتى أكلمه»، ثم أقبل(عليه السلام) فقال: «أبالقتل تهددني يا ابن زياد؟! أما علمت أن القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة».

ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين(عليهما السلام) وأهله فحملوا إلى دار إلى جنب المسجد الأعظم، فقالت زينب بنت علي(عليها السلام):

«لايدخلن علينا عربية إلّا أم ولد أو مملوكة؛ فإنهن سبين كما سبينا»(1).

أما خطبتها التي ألقتها في بلاط يزيد اللعين، فكانت حينما رأت يزيد اللعين يضرب بقضيبه ثنايا أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) فقامت(عليها السلام) وقالت:

«الحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على رسوله وآله أجمعين، صدق اللّه كذلك يقول: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}(2)، أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى، أن بنا على اللّه هواناً وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟!

مهلاً مهلاً، أنسيت قول اللّه تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌلِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(3).

أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب

ص: 350


1- انظر: الارشاد 2: 115، واللّهوف: 162.
2- سورة الروم، الآية: 10.
3- سورة آل عمران، الآية: 178.

والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من رجالهن وليّ، ولا من حماتهن حمي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء، وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت، من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:

و أهلوا واستهلوا فرحاً *** ثم قالوا: يا يزيد لا تشل

منتحياً على ثنايا أبي عبد اللّه(عليه السلام)، سيد شباب أهل الجنة، تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك، زعمت أنك تناديهم، فلتردن وشيكاً موردهم، ولتودّن أنك شللت وبكمت، ولم يكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت. اللّهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا، فواللّه ما فريت إلّا جلدك، ولا جززت إلّا لحمك، ولتردن على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع اللّه شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ بحقهم، {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْيُرْزَقُونَ}(1) حسبك باللّه حاكماً، وبمحمد(صلی الله عليه وآله وسلم) خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سوّى لك، ومكنك من رقاب المسلمين، {بِئْسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلًا}(2)، وأيكم {شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا}(3).

ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك،

ص: 351


1- سورة آل عمران، الآية: 169.
2- سورة الكهف، الآية: 50.
3- سورة مريم، الآية: 75.

وأستكبر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى، ألّا فالعجب كل العجب لقتل حزب اللّه النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفوها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً، لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلّا ما قدمت {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلْعَبِيدِ}(1)، فإلى اللّه المشتكى وعليه المعوّل، فكِد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فواللّه لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم يناد المناد: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّٰلِمِينَ}(2).

فالحمد للّه الذي ختم لأولنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل اللّه أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}»(3)(4).نعم، قاربت السيدة زينب(عليها السلام) أمها الصديقة الزهراء(عليها السلام) في الكرامات، والصبر في النائبات، بحيث خرقت العادات ولحقت بالمعجزات(5).

وهذه نماذج من كرامة المرأة وعلو شأنها في الإسلام.

زوجات وأمهات الأئمة(عليهم السلام)
اشارة

كذلك وقفت النساء الكريمات الطاهرات من الأمهات والزوجات مع الأئمة

ص: 352


1- سورة فصلت، الآية: 46.
2- سورة هود، الآية: 18.
3- سورة آل عمران، الآية: 173.
4- بحار الأنوار 45: 133.
5- للمزيد انظر كتاب (زينب الكبرى(عليها السلام)) للشيخ جعفر النقدي، وكتاب (زينب الكبرى من المهد إلى اللحد) للسيد محمد كاظم القزويني.

الأطهار(عليهم السلام) مواقف مشرفة وجليلة، وأنيطت بهن مهام رسالية وتبليغية كبيرة. ومنهن:

السيدة حميدة المصفاة

السيدة حميدة(1) أم الإمام الكاظم(عليه السلام) التي وقفت إلى جانب الإمام الصادق(عليه السلام)، وقد قال(عليه السلام) فيها: «حميدة مصفاةٌ من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إليَّ كرامةً من اللّه لي والحجة من بعدي»(2).

ومما يدل على فضلها وعلمها: أن جماعة في الحج سألوا الإمام الصادق(عليه السلام) فقالوا: إن معنا صبياً مولوداً فكيف نصنع به؟ فقال: «مر أمه تلقى حميدة فتسألها كيف تصنع بصبيانها». فأتتها فسألتها كيف تصنع، فقالت: إذا كان يوم التروية فأحرموا عنه، وجردوه وغسلوه، كما يجرد المحرم، وقِفوا به المواقف، فإذا كان يوم النحر، فارموا عنه واحلقوا عنه رأسه، ومري الجارية أن تطوف به بين الصفا والمروة(3). وقصة زواج السيدة حميدة بالإمام الصادق(عليه السلام) تتضمن كرامات عديدة، فقد روي: أن ابن عكاشة بن محصن الأسدي دخل على أبي جعفر(عليه السلام)، وكان أبو عبد اللّه(عليه السلام) قائماً عنده، فقدم إليه عنباً، فقال: «حبة حبة، يأكله الشيخ الكبير والصبي الصغير، وثلاثة وأربعة يأكله من يظن أنه لا يشبع، وكله حبتين حبتين، فإنه يستحب».

ص: 353


1- هي السيدة حميدة المغربية (البربرية) بنت صاعد البربري. وكانت من أشراف العجم. وقيل: أندلسية. لقبها: لؤلؤة. وقد دعاها الإمام الباقر(عليه السلام) بالمحمودة، ولقبها الإمام الصادق(عليه السلام) بالمصفاة من الأدناس. كانت من المتقيات الثقاة، وكانت الملائكة تحرسها - كما في الحديث الشريف - وكان الإمام الصادق(عليه السلام) يرسلها مع اُم فروة لقضاء حقوق أهل المدينة.
2- الكافي 1: 477.
3- الكافي 4: 301.

فقال لأبي جعفر(عليه السلام): لأي شيء لا تزوج أبا عبد اللّه(عليه السلام)! فقد أدرك التزويج؟ قال: وبين يديه صرة مختومة. فقال: «أما إنه سيجيء نخاس من أهل بربر، فينزل دار ميمون، فنشتري له بهذه الصرة جارية». قال: فأتى لذلك ما أتى.

فدخلنا يوماً على أبي جعفر(عليه السلام)، فقال: «ألّا أخبركم عن النخاس الذي ذكرته لكم قد قدم، فاذهبوا فاشتروا بهذه الصرة منه جارية».

قال: فأتينا النخاس، فقال: قد بعت ما كان عندي، إلّا جاريتين مريضتين إحداهما أمثل من الأخرى.

قلنا: فأخرجهما حتى ننظر إليهما، فأخرجهما.

فقلنا: بكم تبيعنا هذه الجارية المتماثلة؟

قال: بسبعين ديناراً.

قلنا: أحسن.

قال: لا أنقص من سبعين ديناراً.

قلنا له: نشتريها منك بهذه الصرة ما بلغت ولا ندري ما فيها، وكان عنده رجلأبيض الرأس واللحية، قال: فكوا وزنوا.

فقال: النخاس: لا تفكوا فإنها إن نقصت حبة من سبعين ديناراً لم أُبايعكم.

فقال الشيخ: ادنوا. فدنونا وفككنا الخاتم ووزنا الدنانير، فإذا هي سبعون ديناراً لا تزيد ولا تنقص. فأخذنا الجارية فأدخلناها على أبي جعفر(عليه السلام) وجعفر(عليه السلام) قائم عنده، فأخبرنا أبا جعفر(عليه السلام) بما كان. فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال لها: «ما أسمكِ؟».

قالت: حميدة.

فقال: «حميدة في الدنيا، محمودة في الآخرة، أخبريني عنكِ، أ بكر أنتِ أم ثيب؟».

ص: 354

قالت: بكر.

قال: «وكيف ولا يقع في أيدي النخاسين شيء إلّا أفسدوه؟».

فقالت: قد كان يجيئني، فيقعد مني مقعد الرجل من المرأة، فيسلط اللّه عليه رجلاً أبيض الرأس واللحية، فلا يزال يلطمه حتى يقوم عني، ففعل بي مراراً، وفعل الشيخ به مراراً.

فقال(عليه السلام): «يا جعفر، خذها إليك». فولدت خير أهل الأرض موسى بن جعفر(عليهما السلام)(1).

وفي ولادة الإمام الكاظم(عليه السلام) المباركة جاء عن أبي بصير أنه قال: كنت مع أبي عبد اللّه(عليه السلام) في السنة التي وُلد فيها ابنه موسى(عليه السلام)، فلما نزلنا الأبواء، وضع لنا أبو عبد اللّه(عليه السلام) الغداء ولأصحابه، وأكثره وأطابه، فبينا نحن نتغدى إذ أتاه رسولحميدة: أن الطلق قد ضربني، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا.

فقام أبو عبد اللّه(عليه السلام) فرحاً مسروراً، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعيه، ضاحكاً سنه. فقلنا: أضحك اللّه سنك، وأقر عينك ما صنعت حميدة؟

فقال: «وهب اللّه لي غلاماً، وهو خير مَن برأ اللّه، ولقد خبرتني بأمر كنت أعلم به منها!».

قلت: جعلت فداك، وما خبرتك عنه حميدة؟

قال: «ذكرت أنه لما وقع من بطنها، وقع واضعاً يديه على الأرض، رافعاً رأسه إلى السماء، فأخبرتها أن تلك أمارة رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وأمارة الإمام(عليه السلام) من بعده»(2).

ولما وُلد موسى بن جعفر(عليه السلام)، دخل أبو عبد اللّه(عليه السلام) على حميدة البربرية أم

ص: 355


1- الكافي 1: 476.
2- بصائر الدرجات 1: 440.

موسى(عليه السلام)، فقال لها: «يا حميدة، بخ بخ حل الملك في بيتك»(1).

وقد وُلدت للإمام الصادق(عليه السلام) غير الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام): إسحاق ومحمد وفاطمة(2).

وكانت السيدة حميدة ذات مكانة عالية عند أهل البيت(عليهم السلام)، وقد اهتمت بأمر تزويج ولدها الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، وهي التي اشترت السيدة نجمة (تكتم) والدة الإمام الرضا(عليه السلام) لولدها، وزوّجته منها بأمر الإمام الصادق(عليه السلام)، بل بأمر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً.

فعن علي بن ميثم، عن أبيه، قال: لما اشترت الحميدة، أم موسى بن جعفر(عليهما السلام) أم الرضا(عليه السلام) نجمة، ذكرت حميدة أنها رأت في المنام رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لها:«يا حميدة، هبي نجمة لابنك موسى، فإنه سيولد له منها خير أهل الأرض». فوهبتها له، فلما ولدت له الرضا(عليه السلام) سماها الطاهرة، وكانت لها أسماء منها: نجمة وأروى وسكن وسمان وتكتم وهو آخر أساميها(3).

وكذلك كانت أم الإمام الرضا(عليه السلام) أيضاً من النساء الكريمات اللواتي خلد التاريخ ذكرهن.

وكذلك السيدة حكيمة(عليها السلام) التي وقفت إلى جانب الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)(4).

ص: 356


1- الفصول المختارة: 313.
2- كشف الغمة 2: 161.
3- عيون أخبار الرضا(عليه السلام)1: 16.
4- وهي النجيبة الكريمة العالمة والفاضلة التقية حكيمة بنت أبي جعفر الجواد بن الإمام الرضا بن الإمام موسى بن جعفر(عليهم السلام)، كانت مخصوصة بالأئمة(عليهم السلام) ومودعة أسرارهم، وكانت أم الإمام الحجة(عليه السلام) عندها، وكانت حاضرة عند ولادتها، وكانت تراه حيناً بعد حين في حياة الإمام العسكري(عليه السلام) وكانت من السفراء والأبواب بعد وفاة الإمام العسكري(عليه السلام).
أم الإمام المنتظر(عليه السلام)

أما السيدة نرجس(عليها السلام)(1) فقد كانت جليلة القدر،عظيمة المنزلة، لما ستتحمل من مسؤولية عظيمة، ألّا وهي أنها ستكون أم خاتم الأوصياء المهدي المنتظر صاحب العصر والزمان الحجة ابن الحسن(عليهما السلام).

نعم، هي متميزة بمكانة عالية عند اللّه عزّ وجلّ، فهي صديقة طاهرة، تقية نقية، رضية مرضية، وقد وردت لها زيارة خاصة بها يستدل بها على علو شأنها حيث ورد فيها:

«السلام على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) الصادق الأمين. السلام على مولانا أميرالمؤمنين. السلام على الأئمة الطاهرين الحجج الميامين. السلام على والدة الإمام، والمودعة أسرار الملك العلام، الحاملة لأشرف الأنام. السلام عليكِ أيتها الصديقة المرضية. السلام عليكِ يا شبيهة أم موسى، وابنة حواري عيسى. السلام عليكِ أيتها التقية النقية. السلام عليكِ أيتها الرضية المرضية. السلام عليكِ أيتها المنعوتة في الإنجيل، المخطوبة من روح اللّه الأمين، ومن رغب في وصلتها محمد سيد المرسلين، والمستودعة أسرار رب العالمين. السلام عليكِ وعلى آبائكِ الحواريين. السلام عليكِ وعلى بعلكِ وولدكِ. السلام عليكِ وعلى روحكِ وبدنكِ الطاهر. أشهد أنكِ أحسنتِ الكفالة، وأديتِ الأمانة، واجتهدتِ في مرضاة اللّه، وصبرتِ في ذات اللّه، وحفظتِ سر اللّه، وحملتِ ولي اللّه، وبالغتِ في حفظ حجة اللّه، ورغبتِ في وصلة أبناء رسول اللّه، عارفة بحقهم، مؤمنة بصدقهم، معترفة بمنزلتهم، مستبصرة بأمرهم، مشفقة عليهم، مؤثرة هواهم.

ص: 357


1- هي السيدة نرجس بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، واُمها من ولد الحواريين تنسب إلى شمعون وصي المسيح(عليه السلام). من أسمائها أيضاً: مليكة وصقيل وسوسن وريحانة ومريم. وقيل: حكيمة، وقيل: خمط. ولكن أشهر أسمائها: نرجس. وكنيتها: اُم محمد.

وأشهد أنكِ مضيتِ على بصيرة من أمركِ، مقتدية بالصالحين، راضية مرضية، تقية نقية زكية، فرضي اللّه عنكِ وأرضاكِ، وجعل الجنة منزلكِ ومأواكِ، فلقد أولاكِ من الخيراتِ ما أولاكِ، وأعطاكِ من الشرف ما به أغناكِ، فهناكِ اللّه بما منحكِ من الكرامة وأمراكِ»(1).

ومن الشواهد الدالة على عظم مكانتها، أنها ممن تُرجى شفاعتها، لما وصلت إليه من المراتب العالية، ففي الدعاء بعد زيارتها نقرأ:

«اللّهم إياك اعتمدت، ورضاك طلبت، وبأوليائك إليك توسلت، وعلى غفرانك وحلمك اتكلت، وبك اعتصمت، وبقبر أم وليك لذت، فصل على محمد وآل محمد، وانفعني بزيارتها، وثبتني على محبتها، ولا تحرمنيشفاعتها، وشفاعة ولدها عجل اللّه فرجه، وارزقني مرافقتها، واحشرني معها ومع ولدها صلى اللّه عليه، كما وفقتني لزيارة ولدها وزيارتها. اللّهم إني أتوجه إليك بالأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم، وأتوسل إليك بالحجج الميامين، من آل طه ويس، أن تصلي على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، وأن تجعلني من المطمئنين الفائزين، الفرحين المستبشرين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واجعلني ممن قبلت سعيه، ويسرت أمره، وكشفت ضره، وآمنت خوفه. اللّهم بحق محمد وآل محمد، صل على محمد وآل محمد، ولا تجعله آخر العهد من زيارتي إياها، وارزقني العود إليها، أبداً ما أبقيتني، وإذا توفيتني فاحشرني في زمرتها، وأدخلني في شفاعة ولدها وشفاعتها، واغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات، وآتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا برحمتك عذاب النار، والسلام عليكم يا

ص: 358


1- زاد المعاد: 539.

ساداتي ورحمة اللّه وبركاته»(1).

ببركتها زال البلاء

إن أهل البيت(عليهم السلام) أبواب اللّه، والحجج على العالمين بعد الأنبياء(عليهم السلام)، ولهم من الكرامات والمعاجز ما يعجز عن عدها وحصرها العادون. وإن السيدة نرجس(عليها السلام) هي - أيضاً - باب من أبواب اللّه تعالى، يقصده المحتاجون والمنكوبون، فلا يعودون إلّا بحوائج مقضية، وهموم مكشوفة بإذن اللّه تعالى.

ومن الشواهد الكثيرة على ذلك، ما نقل في أحوال العلامة الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) أنه قد أصاب مدينة سامراء مرض الطاعون، وأخذ من أهلها مأخذاً عظيماً، بحيث إن أهالي الموتى عجزوا عن دفن موتاهم، فأصبحوا يأتون بهمويتركونهم في الشوارع آنذاك. وفي شدة المحنة جاء الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) إلى منزل السيد محمد الفشاركي(رحمه الله) الذي كان في منزله مع كوكبة من العلماء، فدار البحث حول الوباء الذي يهدد حياة الجميع، وبينما هم على ذلك وإذا بالميرزا الشيرازي يلتفت إليهم قائلاً: إذا أصدرت حكماً فهل هو نافذ أم لا؟

فرد الجميع: نعم إنه نافذ ويجب إجراؤه.

فقال الميرزا: إني أصدرت حكماً على جميع الشيعة القاطنين في سامراء أن يقرؤوا زيارة عاشوراء من اليوم إلى عشرة أيام، ويهدوا ثوابها إلى روح السيدة نرجس(عليها السلام) والدة الإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، ليبتعد عنهم البلاء.

فأبلغ الحاضرون حكمه ذاك لجميع الشيعة، فشرع الموالون بقراءة الزيارة، وإذا بالطاعون يرتفع عنهم منذ قراءتهم للزيارة، بينما بقي غيرهم يموتون كالعادة حتى انجلى الأمر عن الجميع.

ص: 359


1- زاد المعاد: 540.

وقد سأل بعض أتباع المذاهب الأخرى أبناء الشيعة في سامراء عن سبب ارتفاع الطاعون عنهم فأخبروهم بالحال، فشرعوا أيضا بقراءة الزيارة وإهدائها إلى السيدة نرجس(عليها السلام)، فدفع البلاء عن الجميع.

نعم، فكما أن هناك من الرجال الأفذاذ العظماء يذكرهم التأريخ بكل إجلال وتبجيل، كذلك هناك الكثير من النساء اللواتي يقترن ذكرهن بالفضائل والكرامات والمعاني الإنسانية الرفيعة.

إذ لا يخفى، أن النساء على طول التاريخ يشكلن نصف خلق اللّه تعالى من الآدميين(1)، وهذا النصف يتوقف عليه تكامل الحياة الإنسانية واستمراريتها.

اختلاف الوظائف

يستفاد من النصوص الشرعية أحكام تستثني المرأة عن تولي بعض الوظائف والمهام؛ فلا يناط بها أمر القضاء(2)، ولا تتولى القتال في باب الجهاد، نعم قد تشارك في ميادين الحرب لا لأجل القتال بل لمداواة الجرحى وتقديم بعض المساعدات، وهذه الأحكام ليست نقصاً لها بل رعاية لمشاعرها، لأن تكوين المرأة النفسي والعاطفي لا يسمح بذلك.

حيث قد تتعارض عاطفتها مع عقلها، وربما تكون الغلبة والنصر للعاطفة... وهذه القضايا تقتضي في أغلب الموارد الجدية، والوقوف الحاسم الحازم؛ لذلك فهي لا تنسجم مع كيان المرأة العاطفي.

ولو حمَّلنا النساء هذه القضايا، نكون كمن وضع حمل الحديد الذي يزن عدة أطنان، الخاص بالشاحنات والسيارات الضخمة على السيارة الصغيرة التي لا

ص: 360


1- المراد من النصف: العرفي لا الهندسي والعددي.
2- انظر: جواهر الكلام 40: 14.

تتحمل إلّا أربعة أو خمسة أشخاص فقط، فالسيارة الصغيرة كاملة ومتكاملة من كل جهاتها الخاصة بها، ولكنها لا تنسجم مع حمل الحديد ولا يسعها ذلك، وهذه لا تعتبر نقصاً في السيارة الصغيرة، وكذلك بالنسبة للمرأة، وقد أثبتت التجربة بأن المرأة بفطرتها وخلقتها لا تنسجم مع هذه المناصب، وأحدهما غريب على الآخر.

إن ذلك لا يعني انتقاصاً من مكانة المرأة، بل لتخصصها وإعدادها لشؤون أخرى تقتضي مواصفاتها الجسمية والنفسية، كالتربية والتعليم، وتنشئة الجيل الصالح الذي يقود المجتمع في المستقبل. كما قال الشاعر:

الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيب الأعراق

الأم روض إن تعهّده الحيا *** بالري أورق أيّما إيراق

الأم أستاذ الأساتذة الألى *** شغلت مآثرهم مدى الآفاق(1)

أو ذلك الشاعر الذي يقول:

هي الأخلاق تنبت كالنبات *** إذا سقيت بماء المكرمات

تقوم إذا تعهدها المربي *** على ساق الفضيلة مثمرات

وتسمو للمكارم باتساق *** كما اتسقت أنابيب القناة

وتنعش من صميم المجد روحاً *** بأزهار لها متضوعات

ولم أر للخلائق من محل *** يهذبها كحضن الأمهات

فحضن الأم مدرسة تسامت *** بتربية البنين أو البنات

وأخلاق الوليد تقاس حسناً *** بأخلاق النساء الوالدات

ص: 361


1- الأبيات للشاعر حافظ إبراهيم الملقَّب بشاعر النيل.

وليس ربيب عالية المزايا *** كمثل ربيب سافلة الصفات

وليس النبت ينبت في جنان *** كمثل النبت ينبت في الفلاة(1)

المساواة بين الرجل والمرأة

لقد قام أدعياء التقدم والتطور في الشرق والغرب بظلم المرأة حيث جروها إلى الابتذال والفساد وكلّفوها فوق طاقاتها، وذلك برفعهم شعار: (المطالبة بمساواة المرأة مع الرجل في جميع الحقوق والواجبات وفي جميع مجالات الحياة)، ويقصدون من المساواة التشابه والتماثل في كل شيء؛ وهذا يستلزم أن يكونا متماثلين في التكوين الجسدي والنفسي أيضاً، مع أن الواقع لا يساعد على ذلك.نعم، إن الأصل في الإسلام هو المساواة بين الرجل والمرأة في كل الأمور إلّا ما خرج بالدليل وهو قليل جداً، ولذا فإن الإسلام قد أعطى المرأة كامل حقوقها، وضمن لها كرامتها وشرفها، وأبعدها عما يضرّ بها.

هذا والواقع الخارجي يدل على عدم تمكن المرأة من التصدي لكثير من تلك المناصب والمشاغل الصعبة، فلو أننا سألنا الغربيين أو الشرقيين كم هناك في بريطانيا - مثلاً - من النساء من حازت على منصب القضاء؟ وكم هناك في أمريكا من النساء من نالت منصب الوزارة أو رئاسة الحكومة؟ لكان جوابهم أنه قليل جداً(2).

إذن، هم أنفسهم عندما يطالبون بالمساواة لا يلتزمون بالمساواة في كل الأمور، مضافاً إلى أن المرأة ليست لها قدرة على التساوي مع الرجل في كل شيء، لأنها تتمتع بخصائص تكوينية تختلف عمّا عند الرجل؛ ولذلك فإن من

ص: 362


1- من قصيدة للشاعر معروف الرصافي.
2- خاصة لو لاحظنا النسبة العددية للنساء أمام الرجال، وتشدقهم الدائم بادعاء المساواة بين الرجل والمرأة.

الحكمة أن نعمل على صرف طاقات المرأة في المجالات التي تنسجم مع خصائصها الأنثوية، وتوجيه طاقات الرجل في المجالات الأخرى التي تناسب إمكاناته الرجولية أيضاً. والحكمة ليست إلّا وضع الشيء المناسب في مكانه المناسب كما أوضحه الإسلام، وإلّا لكان فوضى واختلالاً في النظام وأمور الحياة كما فعل الغرب بدعوته إلى المساواة.

تعدد الزوجات

أما ما يقال من أنه: لماذا يجوز تعدد الزوجات للرجل، ولا يجوز تعدد الأزواج للمرأة؟

فقد قال تبارك وتعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْخِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً}(1).

وعن محمد بن سنان، قال: إن الرضا(عليه السلام) كتب إليه في ما كتب من جواب مسائله علة تزويج الرجل أربع نسوة، فقال(عليه السلام): «وتحرم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد؛ لأن الرجل إذا تزوج أربع نسوة كان الولد منسوباً إليه، والمرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو؛ إذ هم المشتركون في نكاحها، وفي ذلك فساد الأنساب والمواريث والمعارف»(2)، وهذا من الحكمة في ذلك.

ثم إن الرجال هم أكثر عرضة للموت والمخاطر من النساء كما في الحروب، مضافاً إلى مخاطر الأعمال الشاقة والسفر الخطر في التجارة والتكسب وما أشبه، فتبقى الكثيرات بلا أزواج، فإن الإسلام قد حل هذه المسألة حيث أجاز للرجال الزواج بأكثر من واحدة، بشرط العدالة.

ص: 363


1- سورة النساء، الآية: 3.
2- علل الشرائع 2: 504.

ولا يخفى أن من أسباب تشويه سمعة هذا القانون عند البعض - طبعاً - إنما هو نابع من سوء سلوك بعض الرجال، وعدم عدالتهم في ما بين زوجاتهم، ولو كان الرجال الذين لهم عدة زوجات يراعون العدالة بين زوجاتهم، لما اصطبغ هذا القانون بصبغة سيئة عند البعض، فإنه باستطاعة الزوجتين أن تعيشا معاً وبلا مشاكل، وهذا مما لا يرفضه العقل ولا الفطرة.

ونحن نسأل: أيهما أفضل أن تعيش المرأة إلى آخر عمرها بدون زوج، أم أن تعيش في كنف رجل متزوج يراعي العدالة بينها بين الأخرى؟

حسن معاشرة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) مع زوجاته

رغم أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قد توفي عن تسع نساء، وأنه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان قد تزوج منخمسة عشر امرأة، إلّا أنه لم يروَ أي خبر عن سوء خلق أو عدم عدالة في ما بينهن، بل العكس من ذلك، فقد كان(صلی الله عليه وآله وسلم) يتحمل سوء معاملة بعضهن وإيذائهن له، حتى هدّدهن الباري تعالى في القرآن.

فقد ذكر أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أن زينب قالت لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): لا تعدل وأنت رسول اللّه! وقالت حفصة: إن طلقنا وجدنا أكفاءنا في قومنا. فاحتبس الوحي عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عشرين يوماً - قال - فأنف اللّه عزّ وجلّ لرسوله فأنزل: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْأخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}(1) - قال: - فاخترن اللّه ورسوله(صلی الله عليه وآله وسلم)، ولو اخترن أنفسهن لَبِنَّ، وإن اخترن اللّه ورسوله فليس بشيء»(2).

ص: 364


1- سورة الأحزاب، الآية: 28-29.
2- الكافي 6: 138.

ومما يروى عن عدالة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بين زوجاته وأخلاقه الكريمة، أنه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يجمع نساءه في كل ليلة ليسلّم عليهن ويسلّمن عليه، ويطلع على أحوالهن، ثم يطلب منهن أن تذهب كل واحدة إلى حجرتها. فقد روي أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يقسم بين أزواجه ويقول: «اللّهم هذا قسمي في ما أملك، فلا تؤاخذني في ما تملك ولا أملك»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يقسم بين نسائه في مرضه فيطاف به بينهن»(2).

وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج أسمهاأخرجها(3).

وروي: أن علياً(عليه السلام) كان له امرأتان فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى(4).

ولو تصرف كل من تزوج بعدة نساء مع نسائه كما فعل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وسعى لتوفير العدالة في ما بينهن، لزال ذلك الانطباع السيئ عن ذهن المجتمع حول تعدد الزوجات.

إذن، فإن قانون تعدد الزوجات إنما هو حل معقول لمشكلة كثير من النساء في المجتمع، مع العلم أن موضوع تعدد الزوجات لم يبتدئه الإسلام ابتداءً وإنما كان موجوداً فأقره الإسلام، ولكن الإسلام حدده ووضع له قيوداً وشروطاً خاصة.

وبنفس المنطق الغربي الذي يتشدق به دعاة المساواة بين المرأة والرجل في

ص: 365


1- عوالي اللئالي 2: 134.
2- تفسير مجمع البيان 3: 208.
3- انظر: مسالك الأفهام 8: 334.
4- وسائل الشيعة 21: 343.

الحقوق يمكن أن نسألهم: أليس حق الزواج من أهم حقوق الإنسان في المجتمع؟ وإن العمل بقانون الزوجة الواحدة يحرم شريحة كبيرة من النساء المؤهلات للزواج من هذا الحق، باعتبار زيادة عدد الإناث على الذكور؟!

وهذه الزيادة جلية وواضحة في الإحصاءات المأخوذة في غالبية بلدان العالم، ويكفي أن نعلم أن ألمانيا وعلى أثر الحروب التي نشبت بينها وبين الدول حرمت أعداداً كبيرة من النساء من الزواج، مما حدا بهن لمطالبة الحكومة بإلغاء قانون الزوجة الواحدة، وطلبت الحكومة الألمانية - على ما ذكر - من الجامع الأزهر تزويدها بالتوجيهات التي تخص موضوع تعدد الزوجات، ولكن الأمر لم يتم لاعتراض الكنيسة آنذاك، إذ فضلت شيوع الفاحشة على تبنيالحكم الإسلامي القائل بتعدد الزوجات.

ثم إن مسألة تعدد الزوجات ليست واجبة، وإنما أباحها الإسلام مقابل شروط وحسابات هي فوق اعتبارات الغريزة؛ لحماية المجتمع الإنساني من الفقر وسد النقص، ولذلك لم نجد حالة من الهرج والمرج جراء إباحة تعدد الزوجات، بل العكس فما نراه اليوم من تفكك الأسر، وفساد العلاقات الإنسانية، وشيوع الأمراض الجنسية، ما هو إلّا بسبب الإباحية، والتخبط في العلاقة بين الرجل والمرأة.

المرأة ظُلمت مرتين

اشارة

لقد ظلم الغربيون المرأة في شخصيتها الاجتماعية والعائلية، من خلال أساليب وممارسات مغلوطة؛ إذ أنهم في الواقع أرادوا استخدامها كوسيلة للكسب المادي الرخيص، عندما جعلوها سلعة سهلة رخيصة في متناول الجميع، وأداة إمتاع لإرضاء وإشباع الغرائز والشهوات المنحرفة والمحرمة، ودفعوها إلى الوقوع في المحذورات، فأبعدوها عن دورها التربوي الإنساني العظيم والمحتشم، فكانوا بذلك قد انتهكوا إنسانيتها وحقوقها الاجتماعية

ص: 366

وعفتها، ولكنهم غلّفوا جميع هذه الانتهاكات - لمكانة وشخصية المرأة المسكينة - بطابع المطالبة بحرية المرأة والمساواة مع الرجل.

ومن جانب آخر نجد بعض المسلمين يضع المرأة في زاوية ضيقة، ويمنعها من حقوقها المادية والإنسانية، ومن أداء دورها في الأسرة وفي المجتمع بشكل مشروع، وهي جاهلية جديدة، ومورثات وتقاليد اجتماعية ليست من الدين في شيء. وكانت النتيجة أن ظُلمت المرأة تارة بيد الغربيين والشرقيين من غير المسلمين، وأخرى بيد بعض المسلمين.

وبإلقاء نظرة سريعة على معاملة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة(عليهم السلام) للمرأة، يتضحلنا كيف أنه(صلی الله عليه وآله وسلم) حفظ للمرأة كافة حقوقها، وأشركها في الميادين الاجتماعية والحيوية، وذلك مع مراعاة العفة وخصوصيات المرأة التكوينية.

فقد روي - كما سبق - عن عائشة: (أن فاطمة(عليها السلام) كانت إذا دخلت على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قام لها من مجلسه وقبّل رأسها وأجلسها مجلسه، وإذا جاء إليها لقيته وقبَّل كل واحد منهما صاحبه وجلسا معاً).

وروي: (كان النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إذا أراد سفراً كان آخر الناس عهداً بفاطمة، وإذا قدم كان أول الناس عهداً بفاطمة(عليها السلام)).

ولو لم يكن لها(عليها السلام) عند اللّه تعالى فضل عظيم لم يكن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يفعل معها ذلك.

وعن عبد اللّه بن الحسن قال: دخل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) على فاطمة فقدمت إليه كسرة يابسة من خبز شعير فأفطر عليها، ثم قال: «يا بنية، هذا أول خبز أكل أبوكِ منذ ثلاثة أيام». فجعلت فاطمة تبكي ورسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يمسح وجهها بيده(1).

ص: 367


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 333.

وحتى مشاركة المرأة للرجل في الأمور السياسية في عصر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) كانت واضحة من خلال بيعة النساء للنبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة، فعند ما فرغ(صلی الله عليه وآله وسلم) من بيعة الرجال جاءت النساء إليه يبايعنه، فنزلت الآية الكريمة: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَٰتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَئًْا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٖ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٖ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).

فإنها نزلت يوم فتح مكة، وذلك أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قعد في المسجد يبايع الرجال إلى صلاة الظهر والعصر، ثم قعد لبيعة النساء وأخذ قدحاً من ماء،فأدخل يده فيه، ثم قال للنساء:

«من أرادت أن تبايع فلتدخل يدها في القدح؛ فإني لا أصافح النساء».

ثم قرأ(صلی الله عليه وآله وسلم) عليهن ما أنزل اللّه من شروط البيعة عليهن، فقال: «{عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَئًْا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٖ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٖ فَبَايِعْهُنَّ}(2)»(3).

ولعل الوجه في بيعة النساء مع أنهن لسن من أهل النصرة بالمحاربة، هو أخذ العهد عليهن بما يصلح من شأنهن في الدين والأنفس والأزواج.

بطولة المرأة

كان للنساء المسلمات أدوار عديدة ومهمة في التاريخ الإسلامي، كما في صدر الإسلام وخاصة في الحالات الضرورية، وقد استفاد النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) من طاقات المرأة حتى في الحروب لكن بشكل يتناسب مع شأن المرأة كمداواة الجرحى،

ص: 368


1- سورة الممتحنة، الآية: 12.
2- سورة الممتحنة، الآية: 12.
3- تفسير القمي 2: 364.

وربما كانت ترى المرأة ضرورة الخوض في المعركة، وذلك في الحالات الاضطرارية جداً للدفاع عن حريم الإسلام وشخص رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم).

ففي غزوة أحد قامت أم عمارة (نسيبة بنت كعب) بالدفاع عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) في أحرج المواقف التي مرت خلال هذه الحرب، وكانت تصول وتجول بين يدي الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) حتى قال عنها(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما التفت يميناً وشمالاً إلّا وأنا أراها تقاتل دوني»(1).

وحينما جرح ابنها عمارة في ذراعه ضمدتها ودفعته للقتال مرة أخرى، وهي تقول له: قم يا بني، فضارب القوم وجاهد في سبيل اللّه، فيلتفتإليها الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) قائلاً: «ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟»(2).

روي أنه: في معركة أحد لم يبق مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلّا أبو دجانة سماك بن خرشة، وأمير المؤمنين(عليه السلام)، وكلما حملت طائفة على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) استقبلهم أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه)، فيدفعهم عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ويقتلهم حتى انقطع سيفه، وبقيت مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) نسيبة بنت كعب المازنية، وكانت تخرج مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في غزواته تداوي الجرحى، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع فحملت عليه، فقالت: يا بني، إلى أين تفر عن اللّه وعن رسوله؟ فردته فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها، فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «بارك اللّه عليك يا نسيبة»(3).

وكانت تقي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بصدرها وثدييها ويديها حتى أصابتها جراحات كثيرة(4).

ص: 369


1- شرح نهج البلاغة 14: 268.
2- شرح نهج البلاغة 14: 267.
3- تفسير القمي 1: 115.
4- تفسير القمي 1: 115.

ونظر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة، فناداه: «يا صاحب الترس، ألق ترسك ومر إلى النار». فرمى بترسه، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «يا نسيبة، خذي الترس». فأخذت الترس وكانت تقاتل المشركين، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان وفلان»(1).

وفي شرح النهج: وكانت أم سعد بنت سعد بن الربيع تحدث، فتقول: دخلت عليها فقالت لها: يا خالة حدثيني خبرك؟ فقالت: خرجت أول النهار إلى اُحد،وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو في الصحابة والدولة والريح للمسلمين. فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فجعلت أباشر القتال، وأذب عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بالسيف، وأرمي بالقوس حتى خلصت إليَّ الجراح، فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور. فقلت: يا أم عمارة، مَن أصابك بهذا؟ قالت: أقبل ابن قميئة - وقد ولى الناس عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) - يصيح: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا. فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه، فكنت فيهم فضربني هذه الضربة. ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو اللّه كان عليه درعان. فقالت لها: يدك ما أصابها؟ قالت: أصيبت يوم اليمامة، لما جعلت الأعراب تنهزم بالناس، نادت الأنصار: أخلصونا فأخلصت الأنصار، فكنت معهم حتى انتهينا إلى حديقة الموت، فاقتتلنا عليها ساعة حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة، ودخلتها وأنا أريد عدو اللّه مسيلمة، فيعرض لي رجل فضرب يدي فقطعها، فو اللّه، ما كانت ناهية ولا عرجت عليها حتى وقفت على الخبيث مقتولاً، وابني عبد اللّه بن يزيد المازني

ص: 370


1- تفسير القمي 1: 115.

يمسح سيفه بثيابه. فقلت: أقتلته؟ قال: نعم. فسجدت شكرا للّه عزّ وجلّ وانصرفت.

وقال الواقدي: وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحداً تسقي الماء، قال: سمعت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول يومئذ: «لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان». وكان يراها يومئذٍ تقاتل أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: ليت الراوي لم يكنِ هذه الكناية وكان يذكرهما باسمهما، حتى لا تترامى الظنون إلى أمور مشتبهة، ومن أمانة المحدثأن يذكر الحديث على وجهه، ولا يكتم منه شيئاً، فما باله كتم اسم هذين الرجلين(1).

أما العلامة المجلسي(رحمه الله) فقد علق على كلام ابن أبي الحديد فقال:

أقول: إن الراوي لعله كان معذوراً في التكنية باسم الرجلين تقية، وكيف كان يمكنه التصريح باسم صنمي قريش وشيخي المخالفين، الذين كانوا يقدمونهما على أمير المؤمنين(عليه السلام)، مع أن كنايته أبلغ من الصريح؛ إذ الظاهر أن الناس كانوا لا يبالون بذكر أحد من الصحابة بما كان واقعاً إلّا بذكرهما وذكر ثالثهما. وأما سائر بني أمية وأجداد سائر خلفاء الجور فلم يكونوا حاضرين في هذا المشهد في عسكر المسلمين، حتى يكنى بذكرهم تقية من أولادهم وأتباعهم، وقد تقدم في رواية علي بن إبراهيم ذكر الثالث أيضا معهما، وذكره كان أولى لأن فراره كان أعرض، وسيأتي القول في ذلك. انتهى كلام المجلسي(رحمه الله)(2).

ص: 371


1- شرح نهج البلاغة 14: 265.
2- بحار الأنوار 20: 133.

إلى أن قال الواقدي: فلما حضرت نسيبة الوفاة كنت في من غسلها، فعددت جراحها جرحاً جرحاً فوجدتها ثلاثة عشر، وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها لقد داوته سنة، ثم نادى منادي النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بعد انقضاء أحد إلى حمراء الأسد، فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم، ولقد مكثنا ليلتنا نكمد الجراح حتى أصبحنا، فلما رجع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) من حمراء الأسد لم يصل إلى بيته، حتى أرسل إليها عبد اللّه بن كعب المازني يسأل عنها، فرجع إليه فأخبره بسلامتها فسر بذلك.

قال الواقدي: وحدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية، قال: قالت أم عمارة:لقد رأيتني وانكشف الناس عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فما بقي إلّا نفير ما يتمون عشرة، وأنا وأبنائي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون عنه منهزمين، فرآني ولا ترس معي ورأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال: «يا صاحب الترس، ألق ترسك إلى من يقاتل». فألقى ترسه فأخذته، فجعلت أترس به على النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، ولو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم، فيقبل رجل على فرس فضربني وترست له، فلم يصنع سيفه شيئاً وولى، وأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) يصيح: «يا ابن عمارة، أمك أمك». قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب.

قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد اللّه بن زيد المازني، قال: جرحت جرحاً في عضدي اليسرى، ضربني رجل كأنه الرقل، ولم يعرج عليَّ ومضى عني، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «اعصب جرحك». فتقبل أمي إليَّ ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح، فربطت جرحي والنبي(صلی الله عليه وآله وسلم) واقف ينظر، ثم قالت: انهض يا بني فضارب القوم، فجعل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «ومن يطيق ما تطيقين يا أم

ص: 372

عمارة؟». قالت: وأقبل الرجل الذي ضربني، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «هذا ضارب ابنكِ». فاعترضت أمي له فضربت ساقه فبرك، فرأيت النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) تبسم حتى بدت نواجذه، ثم قال: «استقدتِ يا أم عمارة». ثم أقبلنا نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «الحمد للّه الذي ظفركِ، وأقر عينكِ من عدوكِ، وأراكِ ثأركِ بعينكِ»(1).

وفي رواية أخرى قال: والنبي(صلی الله عليه وآله وسلم) ينظر إليَّ ويتبسم، فنظر إلى جرح بأميعلى عاتقها، فقال: «أمك أمك، اعصب جرحها، بارك اللّه عليكم من أهل بيت، لمقام أمك خير من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك - يعني زوج أمه - خير من مقام فلان، رحمكم اللّه من أهل بيت». فقالت أمي: ادع لنا اللّه يا رسول اللّه أن نرافقك في الجنة؟ فقال: «اللّهم اجعلهم رفقائي في الجنة». قالت: فما أبالي ما أصابني من الدنيا(2).

وقال الواقدي: وخرجت فاطمة(عليها السلام) في نساء وقد رأت الذي بوجه أبيها(صلی الله عليه وآله وسلم) فاعتنقته، وجعلت تمسح الدم عن وجهه، ورسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «اشتد غضب اللّه على قوم دموا وجه رسوله»(3).

وروى محمد بن إسحاق: أن علياً(عليه السلام) قال لفاطمة بيتي شعر، وهما:

أفاطم هاكِ السيف غير ذميم *** فلست برعديد ولا بلئيم

لعمري لقد جاهدت في نصر أحمد *** وطاعة رب بالعباد رحيم

ص: 373


1- شرح نهج البلاغة 14: 266.
2- شرح نهج البلاغة 14: 269.
3- شرح نهج البلاغة 15: 35.

وقال الواقدي: فلما أحضر علي(عليه السلام) الماء أراد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يشرب منه فلم يستطع وقد كان عطشاً، ووجد ريحاً من الماء كرهها، فقال: «هذا ماء آجن». فتمضمض منه للدم الذي كان بفيه ثم مجه. وغسلت فاطمة به الدم عن أبيها(صلی الله عليه وآله وسلم).

فخرج محمد بن مسلمة يطب مع النساء، وكن أربع عشرة امرأة قد جئن من المدينة يتلقين الناس، منهن فاطمة(عليها السلام) يحملن الطعام والشراب على ظهورهن،ويسقين الجرحى ويداوينهم.

قال الواقدي: قال كعب بن مالك: رأيت عائشة وأم سليم على ظهورهما القرب تحملانها يوم أحد، وكانت حمنة بنت جحش تسقي العطشى وتداوي الجرحى، فلم يجد محمد بن مسلمة عندهن ماء، ورسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قد اشتد عطشه، فذهب محمد بن مسلمة إلى قناة ومعه سقاؤه حتى استقى من حسى قناة عند قصور التميميين اليوم، فجاء بماء عذب فشرب منه رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ودعا له بخير، وجعل الدم لا ينقطع من وجهه(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو يقول: «لن ينالوا منا مثلها حتى نستلم الركن». فلما رأت فاطمة(عليها السلام) الدم لايرقأ وهي تغسل جراحه، وعلي(عليه السلام) يصب الماء عليها بالمجن، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم، ويقال: إنها داوته بصوفة محرقة. وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بعد يداوي الجراح الذي في وجهه بعظم بال حتى ذهب أثره، ولقد مكث يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهراً أو أكثر من شهر، ويداوي الأثر الذي في وجهه بعظم(1).

قال الواقدي: وخرجت السمداء بنت قيس إحدى نساء بني دينار، وقد أصيب

ص: 374


1- شرح نهج البلاغة 15: 35.

ابناها مع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بأحد: النعمان بن عبد عمر، وسليم بن الحارث، فلما نعيا لها قالت: فما فعل رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)؟

قالوا: بخير، هو بحمد اللّه صالح على ما تحبين.

فقالت: أرونيه أنظر إليه.

فأشاروا لها إليه.فقالت: كل مصيبة بعدك يا رسول اللّه جلل.

وخرجت تسوق بابنيها بعيراً تردهما إلى المدينة، فلقيتها عائشة.

فقالت: ما وراءكِ؟ فأخبرتها.

قالت: فمن هؤلاء معكِ؟

قالت: ابناي، حل حل(1)

تحملهما إلى القبر(2).

الإمامة في الصلاة

ومما يدل على مكانة المرأة في الإسلام، أن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) جعلها إماماً لجماعة النساء في الصلاة، وكانت أول امرأة انتخبت لهذا المنصب المهم هي أم ورقة(3).

الحضور في ميادين العلم

وهناك الكثير من الشواهد التي تبين اهتمام الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام)

ص: 375


1- حل حل: كلمة زجر للبعير كي يتحرك.
2- شرح نهج البلاغة 15: 37.
3- انظر: تذكرة الفقهاء 4: 336، ووسائل الشيعة 8: 336 أم ورقة: هي بنت عبد اللّه بن الحارث بن عمير بن نوفل الأنصارية: ويقال لها بنت نوفل، فنسبت إلى جدها الأعلى، وهي التي استأذنت النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) في الخروج إلى بدر وقالت: لعل اللّه يرزقني الشهادة، فقال له النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «اقعدي في بيتك، فإن اللّه سيهدي اليك الشهادة في بيتك» وكان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يزورها ويسميها الشهيدة، وقد أمرها أن تؤم أهل دارها وأن تتخذ في دارها مؤذناً.

بمكانة المرأة والتعامل معها كعنصر فعال في المجتمع، ومن ذلك وجوب طلب العلم عليها، حيث قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، فاطلبوه في مظانه، واقتبسوه من أهله؛ فإن تعليمه للّه حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذلهلأهله قربة إلى اللّه تعالى»(1).

اتقوا اللّه في النساء

اشارة

وفي حديث الحولاء أنها قالت: يا رسول اللّه، صلى اللّه عليك، هذا كله للرجل؟!

قال: «نعم».

قالت: فما للنساء على الرجال؟

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أخبرني أخي جبرئيل ولم يزل يوصيني بالنساء حتى ظننت أن لا يحل لزوجها أن يقول لها: أف.

يا محمد، اتقوا اللّه عزّ وجلّ في النساء؛ فإنهن عوان بين أيديكم، أخذتموهن على أمانات اللّه عزّ وجلّ ما استحللتم من فروجهن بكلمة اللّه وكتابه، من فريضة وسنة وشريعة محمد بن عبد اللّه، فإن لهن عليكم حقاً واجباً لما استحللتم من أجسامهن، وبما واصلتم من أبدانهن، ويحملن أولادكم في أحشائهن حتى أخذهن الطلق من ذلك. فأشفقوا عليهن، وطيبوا قلوبهن حتى يقفن معكم، ولا تكرهوا النساء، ولا تسخطوا بهن، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلّا برضاهن وإذنهن»(2).

ص: 376


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 176.
2- مستدرك الوسائل 14: 252.

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أحسن الناس إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله، وأنا ألطفكم بأهلي»(1).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «فأي رجل لطم امرأته لطمة، أمر اللّه عزّ وجلّ مالكاً خازن النيرانفيلطمه على حر وجهه سبعين لطمة في نار جهنم، وأي رجل منكم وضع يده على شعر امرأة مسلمة سمّر كفه بمسامير من نار»(2).

العلوية المزمنة

وهناك قصص عديدة تدل على مكانة المرأة المسلمة عند اللّه عزّ وجلّ، نشير إلى بعضها:

يذكر أنه: كانت في شارع دار الرقيق ببغداد جارية علوية، أقامت مزمنة نحو خمس عشرة سنة، وكان رجل يتفقدها ويبرها، وكانت مسجّاة لا تنقلب من جنب إلى جنب حتى تُقلب، ولا تقعد حتى تُقعد، وكان لها من يخدمها في ذلك، وكانت فقيرة لا قوت لها هي وخادمتها إلّا مما تبرها الناس. فلما مات الرجل اختل أمرها، فبلغ جارية الوزير المهلبي خبرها فكانت تقوم بأمرها، وأجرت عليها جراية في كل شهر، وكسوة في كل سنة.

قال: فباتت ليلة من الليالي على حالها تلك، ثم أصبحت من غد وقد بُرئت ومشت، وقامت وقعدت. فقالت: إني ضجرت من نفسي ضجراً شديداً، فدعوت اللّه عزّ وجلّ طويلاً بالفرج مما أنا فيه أو بالموت، وبكيت بكاء متصلاً، وبت وأنا قلقلة متألمة ضجرة، وكان سبب ذلك: أن الخادمة تضجرت وخاطبتني بما ضاق منه صدري، فلما استثقلت في نومي دخل عليَّ رجل فارتعدت منه، وقلت: يا

ص: 377


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 38.
2- مستدرك الوسائل 14: 250.

هذا، كيف تستحل أن تراني؟

فقال: «أنا أبوك». فظننته أمير المؤمنين(عليه السلام).

فقلت: يا أمير المؤمنين، ما ترى ما أنا فيه؟

فقال: «أنا أبوك محمد رسول اللّه».فبكيت، وقلت: يا رسول اللّه، ادع لي بالعافية. قالت: فحرك(صلی الله عليه وآله وسلم) شفتيه بشيء لم أفهمه، ثم قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «هاتي يديكِ». فأعطيته يدي، فأخذها وجذبني بهما فقمت.

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم) لي: «امشي على اسم اللّه تعالى».

فقلت: كيف أمشي؟

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «يديكِ»، فأخذهما وما زال يمشي وهما في يديه ساعة. ثم أجلسني حتى فعل بي ذلك ثلاث مرات، ثم قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «قد وهب اللّه عزّ وجلّ لك العافية فاحمديه واتقيه»، وتركني ومضى.

فانتبهت وأنا لا أشك أنه واقف لسرعة المنام، فصحت فظنت الجارية أني أريد قضاء الحاجة فتثاقلت.

فقلت: ويحكِ أسرجي السراج، فإني رأيت النبي(صلی الله عليه وآله وسلم). فانتبهت المرأة فوجدتني مسجاة فشرحت لها المنام.

فقالت: أرجو أن يكون اللّه عزّ وجلّ قد وهب لك العافية، هاتي يديكِ فأعطيتها يدي فأجلستني - ثم قالت لي - قومي. فقمت معها ومشيت متوكئة عليها، ثم جلست وفعلت ذلك ثلاث مرات، الأخيرة منهن مشيت وحدي، فصاحت الخادمة سروراً بالحال وإعظاماً لها، فقدّر الجيران أني قد متّ، فجاءوني فقمت ومشيت معهم.

قالوا: وما زالت قوتها تزيد وكانت من أصلح النساء وأورعهن في أهل زمانها،

ص: 378

وقد زوجت من رجل علوي موسر، وصلحت حالها ولا تعرف إلّا بالعلوية المزمنة(1).

في مواجهة الطغاة

استأذنت سودة بنت عمارة بن الأسك الهمدانية على معاوية ابن أبي سفيان فأذن لها، فلما دخلت عليه.

قال: هيه يا بنت الأسك، أ لستِ القائلة يوم صفين:

شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة *** يوم الطعان وملتقى الأقران

وانصر علياً والحسين ورهطه *** واقصد لهند وابنها بهوان

إن الإمام أخو النبي محمد *** علم الهدى ومنارة الإيمان

فَقِهِ الحتوف وسر أمام لواءه *** قدماً بأبيض صارم وسنان

قالت: أي واللّه، ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب.

قال لها: فما حملكِ على ذلك؟

قالت: حب علي(عليه السلام) وإتباع الحق... .

ثم قالت: إنك أصبحتَ للناس سيداً، ولأمرهم متقلداً، واللّه سائلك من أمرنا، وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يقدم علينا من ينوء(2) بعزك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسلبنا الجليلة، هذا بسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك، فقتل رجالي، وأخذ مالي، يقول لي: فوهي بما استعصم اللّه منه والجأ إليه فيه، ولو لا الطاعة لكان فينا عزّ ومنعة، فأما عزلته عنا فشكرناك، وأما لا فعرفناك.

ص: 379


1- الفرج بعد الشدة 1: 181-183.
2- ينوء: أي ينهض.

فقال معاوية: أ تهدديني بقومك، لقد هممت أن أحملكِ على قتب أشرس، فأردكِ إليه ينفذ فيكِ حكمه.

فأطرقت تبكي ثم أنشأت تقول:

صلى الإله على جسم تضمنه *** قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً *** فصار بالحق والإيمان مقرونا

قال لها: ومن ذلك؟

قالت: علي بن أبي طالب(عليه السلام).

قال: وما صنع بكِ حتى صار عندكِ كذلك؟

قالت: قدمتُ عليه في رجل ولاه صدقتنا قدم علينا من قبله، فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين، فأتيت علياً(عليه السلام) لأشكو إليه ما صنع فوجدته قائماً يصلي، فلما نظر إليَّ انفتل من صلاته، ثم قال لي برأفة وتعطف: «أ لكِ حاجة؟».

فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: «اللّهم إنك أنت الشاهد عليَّ وعليهم، أني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك». ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجواب، فكتب فيها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}(1) {وَلَا تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ}(2) إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام».

فأخذته منه، واللّه ما ختمه بطين، ولا خزمه بخزام، فقرأته.

ص: 380


1- سورة الأعراف، الآية: 85.
2- سورة هود، الآية: 85-86.

فقال لها معاوية: لقد لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، فبطيئاً ما تفطمون - ثم قال - اكتبوا لها برد مالها، والعدل عليها.

قالت: أ لي خاص أم لقومي عام؟

قال: ما أنت وقومكِ؟

قالت: هي واللّه إذن الفحشاء واللؤم، إن لم يكن عدلاً شاملاً وإلّا فأنا كسائر قومي.

قال: اكتبوا لها ولقومها(1).

معاوية وسجن النساء

لما قُتل علي بن أبي طالب(عليه السلام)، بعث معاوية في طلب شيعته، فكان في من طلب عمرو بن الحمق الخزاعي، فراغ منه فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد، فحبسها في سجن دمشق سنتين، ثم إن عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة فقتله، وبعث برأسه إلى معاوية، وهو أول رأس حمل في الإسلام، فلما أتى معاوية الرسول بالرأس بعث به إلى آمنة في السجن، وقال للحرسي: احفظ ما تتكلم به حتى تؤديه إليَّ، واطرح الرأس في حجرها.

ففعل هذا، فارتاعت له ساعة، ثم وضعت يدها على رأسها، وقالت: وا حزنا لصغره في دار هوان، وضيق من ضيمه سلطان، نفيتموه عني طويلاً وأهديتموه إليَّ قتيلاً، فأهلاً وسهلاً بمن كنت له غير قالية، وأنا له اليوم غير ناسية. ارجع به أيها الرسول إلى معاوية فقل له - ولا تطوه دونه - : أيتم اللّه ولدك، وأوحش منك أهلك، ولا غفر لك ذنبك.

فرجع الرسول إلى معاوية فاخبره بما قالت، فأرسل إليها فأتته وعنده نفر فيهم

ص: 381


1- بلاغات النساء: 47.

أياس بن حسل، أخو مالك بن حسل، وكان في شدقيه نتوء(1) عن فيه، لعظم كان في لسانه، وثقل إذا تكلم.فقال لها معاوية: أأنتِ يا عدوة اللّه صاحبة الكلام الذي بلغني؟!

قالت: نعم، غير نازعة عنه، ولا معتذرة منه، ولا منكرة له، فلعمري لقد اجتهدت في الدعاء إن نفع الاجتهاد، وأن الحق لمن وراء العباد، وما بلغت شيئاً من جزائك، وأن اللّه بالنقمة من ورائك. فأعرض عنها معاوية.

فقال أياس: أقتل هذه يا أمير...، فو اللّه ما كان زوجها أحق بالقتل منها.

فالتفتت إليه، فلما رأته ناتئ الشدقين، ثقيل اللسان، قالت: تباً لك، ويلك بين لحيتيك كجثمان الضفدع، ثم أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس، {إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}(2).

فضحك معاوية، ثم قال: للّه دركِ أُخرجي، ثم لا أسمع بكِ شيء من الشام.

قالت: وأبي لأخرجن، ثم لا تسمع لي في شيء من الشام، فما الشام لي بحبيب، ولا أُعرج فيها على حميم، وما هي لي بوطن، ولا أحن فيها إلى سكن، ولقد عظم فيها ديتي، وما قرت فيها عيني، وما أنا فيها إليك بعائدة، ولا حيث كنت بحامدة.

فأشار إليها ببنانه أُخرجي، فخرجت وهي تقول: وا عجبي لمعاوية، يكف عني لسانه، ويشير إليَّ الخروج ببنانه، أما واللّه ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد سديد، أوجع من نوافذ الحديد، أو ما أنا بابنة الشريد(3).

ص: 382


1- نتوء: انتفاخ.
2- سورة القصص، الآية: 19.
3- بلاغات النساء: 87.
ماذا تقول لربك يا معاوية؟

يذكر أن امرأة دخلت على معاوية كأنها قلعة ومعها جاريتان لها، ... ثمقالت: الحمد للّه يا معاوية الذي خلق اللسان، فجعل فيه البيان، ودل به على النعم، وأُجري به القلم، في ما أُبرم وحتم، ودرأ وبرأ، وحكم وقضا، صرف الكلام باللغات المختلفة على المعاني المتفرقة، ألفها بالتقديم والتأخير، والأشباه والمناكر، والموافقة والتزايد، فأدته الآذان إلى القلوب، وأدته القلوب إلى الألسن، بالبيان استدل به على العلم، وعُبد به الرب، وأُبرم به الأمر، وعُرفت به الأقدار، وتمت به النعم، فكان من قضاء اللّه وقدره أن قربت زياداً، وجعلت له بين آل سفيان نسباً، ثم وليته أحكام العباد، يسفك الدماء بغير حلها ولا حقها، ويهتك الحرم بلا مراقبة اللّه فيها، خؤون غشوم، كافر ظلوم، يتخير من المعاصي أعظمها، لا يرى للّه وقاراً، ولا يظن أن له معاداً، وغداً يعرض عمله في صحيفتك، وتوقف على ما اجترم بين يدي ربك، ولك برسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أسوة، وبينك وبينه صهر، فلا الماضين من أئمة الهدى اتبعت، ولا طريقتهم سلكت، جعلت عبد ثقيف على رقاب أمة محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) يدبر أمورهم، ويسفك دماءهم، فماذا تقول لربك يا معاوية، وقد مضى من أجلك أكثره، وذهب خيره، وبقي وزره.

إني امرأة من بني ذكوان، وثب زياد المدعى إلى أبي سفيان، على ضيعتي التي ورثتها عن أبي وأمي، فغصبنيها وحال بيني وبينها، وقتل من نازعه فيها من رجالي، فأتيتك مستصرخة، فإن أنصفت وعدلت، وإلّا وكلتك وزياد إلى اللّه عزّ وجلّ، فإن تبطل ظلامتي عندك ولا عنده، والمنصف لي منكما حكم عدل.

فبهت معاوية ينظر إليها متعجباً من كلامها، ثم قال: ما لزياد لعن اللّه زياداً،

ص: 383

فإنه لا يزال يبعث على مثالبه من ينشرها، وعلى مساويه من يثيرها. ثم أمر كاتبهبالكتاب إلى زياد يأمره بالخروج إليها من حقها(1).

الإسلام رفع شأن المرأة

والخلاصة: إن الإسلام بكتابه الكريم وسنة نبيه(صلی الله عليه وآله وسلم)وسيرة أهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) أجلَّ شأن المرأة وبيّن مسؤولياتها، وضمن لها مكانتها العالية ودورها السامي في المجتمع التي حباها اللّه تعالى بها، وأراد لها العزة والرفعة، وعمل على استنقاذها من الظلم والحيف الذي وقع عليها سابقاً وسيقع لاحقاً. ومنع استغلالها كوسيلة لإشباع الشهوات والرغبات، وسعى في وضعها في مكانتها اللائقة الكريمة التي أكرمها اللّه بها، من حيث إنها تتساوى في الإنسانية مع الرجل، كما قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2).

وفي الدعاء:

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة... واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدد أسماعنا عن اللغو والغيبة، وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة، وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرحمة، وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع

ص: 384


1- بلاغات النساء: 90.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.

والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

نساء صالحات

قال سبحانه: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ}(3).

وقال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَٰهَا بِإِسْحَٰقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَٰقَ يَعْقُوبَ}(4).

وقال سبحانه: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}(5).

نساء غير صالحات

قال عزّ وجلّ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٖ وَامْرَأَتَ لُوطٖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَٰلِحَيْنِ}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدِ}(7).

ص: 385


1- المصباح للكفعمي: 280.
2- سورة آل عمران، الآية: 35.
3- سورة التحريم، الآية: 11.
4- سورة هود، الآية: 71.
5- سورة الأحزاب، الآية: 50.
6- سورة التحريم، الآية: 10.
7- سورة المسد، الآية: 4- 5.
المرأة والزواج

قال اللّه تعالى: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(1).

وقال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَٰجًا وَذُرِّيَّةً}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَءَاتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً}(4).

وقال اللّه تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ}(5).

تعدد الزوجات والعدالة

قال سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَٰمَىٰ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً}(6).

الحجاب واجب للمرأة المسلمة

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}(7).

ص: 386


1- سورة النور، الآية: 32.
2- سورة الروم، الآية: 21.
3- سورة الرعد، الآية: 38.
4- سورة النساء، الآية: 4.
5- سورة النساء، الآية: 34.
6- سورة النساء، الآية: 3.
7- سورة الأحزاب، الآية: 59.

من هدي السنّة المطهّرة

في فضل المرأة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا بني...، ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها؛ فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن من خير نسائكم الولود الودود، الستيرة العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرجة مع زوجها... التي تسمع قوله وتطيع أمره»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا تحملوا النساء أثقالكم واستغنوا عنهن ما استطعتم...»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «جهاد المرأة حسن التبعل»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً»(5).

نساء صالحات

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلّا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد»(6).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه تبارك تعالى... اختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة»(7).

ص: 387


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) يوصي بها الإمام الحسن(عليه السلام).
2- من لا يحضره الفقيه 3: 389.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 764.
4- الكافي 5: 9.
5- الكافي 5: 324.
6- تفسير مجمع البيان 10: 65.
7- الخصال 1: 225.
المرأة والزواج

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «تزوجوا فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كثيراً ما كان يقول: من كان يحب أن يتبع سنتي فليتزوج فإن من سنتي التزويج»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ولو لم يكن في المناكحة والمصاهرة آية محكمة ولا سنة متبعة ولا أثر مستفيض، لكان في ما جعل اللّه من بر القريب، وتأليف القلوب، ... ما يرغب في دونه العاقل اللبيب، ويسارع إليه الموفق المصيب...»(4).

المرأة في الإسلام

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «خير نسائكم الخمس». قيل: يا أمير المؤمنين وما الخمس؟ قال: «الهينة اللينة المواتية، التي إذا غضب زوجها لم تكتحل بغمض حتى يرضى، والتي إذا غاب زوجها حفظته في غيبته، فتلك عامل من عمال اللّه...»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «كنت قاعداً في البقيع مع رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في يوم دجن ومطر، إذ مرت امرأة على حمار فهوت يد الحمار في وهدة فسقطت

ص: 388


1- النوادر للراوندي: 35.
2- بحار الأنوار 100: 220.
3- الخصال 2: 614.
4- الكافي 5: 373.
5- الكافي 5: 325.

المرأة، فأعرض النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) بوجهه، قالوا: يا رسول اللّه، إنها متسرولة؟ قال: اللّهم اغفر للمتسرولات - ثلاثاً - يا أيها الناس، اتخذوا السراويلات فإنها من أستر ثيابكم، وحصنوا بها نساءكم إذا خرجن»(1).

وقال(عليه السلام): «صيانة المرأة أنعم لحالها وأدوم لجمالها»(2).

ص: 389


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 78.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 418.

المرأة في ظل الإسلام

حقوق المرأة

اشارة

قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ}(1).

وقال سبحانه: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}(3).

وقال تعالى: {ئََٰادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}(4).

إلى غيرها من الآيات الشريفة، مضافاً إلى الكثير من الروايات الدالة على حقوق المرأة ولزوم احترامها وحفظ كرامتها.

دعاة المساواة

غالب الكلام في موضوع (الحرية والمساواة) في عالم اليوم يدور حول حرية المرأة وحقوقها، والمساواة بينها وبين الرجل... ودعاة المساواة وحقوق المرأة الغربيون هم أول من ظلمها حقّها، ولتعاسة أغلب النساء في عالم اليوم تراهن

ص: 390


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- سورة الملك، الآية: 3.
3- سورة النساء، الآية: 1.
4- سورة البقرة، الآية: 35.

يتمنين لو أنهن لو يسمعن بهذه الدعاوى ولم يستمعن إليها.

نعم، هناك من انتفع من هذه الدعاوى من النساء لكن ذلك اقتصر علىشريحة معينة منهن، ويمكن أن نقول: إن الطبقة التي انتفعت من هذه الدعاوى هي بعض الطبقة (المترفة) أو قسم من الطبقة الغنية، أما الطبقات المسحوقة فكان نصيبها منها السحق والاضطهاد.

فإن دعاة المساواة وحقوق المرأة لمّا دعوا إلى نزول المرأة إلى ميدان العمل لمشاركة أخيها الرجل - كما يدّعون - بحجة المشاركة في البناء، لم يحددوا نوع العمل الذي يجب أن يسند إليها ليتلائم مع طبيعتها النسوية، مما دعا إلى ظهور اشكالات أخرى، فعندما تخرج المرأة للعمل وغالباً ما يكون عملها في الميادين التي لا يمكنها اصطحاب أولادها، فإنها تترك وراءها بيتاً فيه أطفال صغار بحاجة إلى خدمة ورعاية وليس هناك من يخدمهم ويرعاهم؛ لأن الأب هو الآخر يخرج كزوجته للعمل، فمن سيقوم برعاية هؤلاء الصغار إذن؟ ومن سيسد فراغ الأم؟!

هنا يبرز الرّق مرة أخرى، لأن الذي سيقوم بخدمة ورعاية الأطفال بالإضافة إلى بقية الأشغال المنزلية هو أيضاً من نفس الجنس، أي أن من يسد مسدّ المرأة هي المرأة وبذلك ستبتلي امرأة أخرى باسم ال(خادمة) أو ما أشبه، وستتنعم أخرى باسم ال(سيدة)، إذن ما الذي فعله دعاة حقوق المرأة، أو هل أن الدعاوى تختص (بالسيدات) دون (الخادمات)؟!

فإذا كان هدف الدعاة هو التحرر والخروج للعمل فلماذا تخرج واحدة، لتخنق واحدة أخرى أو أكثر؟!

هذا من جانب، أما الجانب الآخر فهو ما يختص بالعمل نفسه، فلماذا تختص وتقتصر الميادين السهلة على شريحة معينة من (المترفات)، في حين أن الميادين الشاقة تكتظّ بالطبقات العامة من (المسحوقات)؟

ص: 391

فهل تتناسب هذه الأعمال الشاقة مع طبيعة المرأة؟ فإذا كان الجواب: نعم، فلماذا تستنكرون الأعمال التي تقوم بأدائها المرأة الريفية في بلادنا من حراثةورعي وجمع حطب، وما يتطلبه ظرف الريف، وتدعون بأن المرأة الشرقية مضطهدة من قبل الرجل؟ وأن وظيفتها شاقة ومرهقة؛ ولذلك تزعمون أنكم تطالبون بتحررها؟ فهل تحررها في نظركم هو جلوسها في البيت دون مشاركتها الرجل في العمل خارج البيت، أم تحررها في خروجها إلى الحقل للمشاركة في العمل الشاق الذي يشابه الأعمال الشاقة التي تؤديها نساء الطبقات (المسحوقة) في بلدان تدعي (تحرر المرأة)؟!

هذا إذا كان الجواب: نعم، أي إذا كانت تلك الأعمال الشاقة تتناسب مع طبيعة المرأة.

أما إذا كان الجواب (لا)، أي أن الأعمال الشاقة لا تتناسب مع طبيعة المرأة، فلماذا تكلفون المرأة بما لا تطيق بدعاواكم هذه؟ وتدعون أنكم تريدون إنصاف المرأة؟ كما وتدعون المطالبة بحقوقها، فهل من الإنصاف أن تطالبوا برفع الحيف عنها بتكليفها بما لا يطاق لتصبح كالمستجير من الرمضاء بالنار؟

أم إن هناك شيئاً آخر دفعكم لمثل هذه الدعاوى؟!

شعار تحرر المرأة ماركة تجارية

مما سبق نعرف أن دوافع اطلاق مثل هذه الشعارات المزيفة كثيرة، منها ما خفي ومنها ما ظهر.

لكن الدافع الأقوى كان دافعاً اقتصادياً بحتاً حيث إن إطلاق مثل هذه الدعاوى برز على إثر الثورة الصناعية في الغرب، وما نجم عنها من توسع في الدوائر الإنتاجية ووسائلها، وتزايد رؤوس الأموال ونفوذ أصحابها في مراكز القرار ومواطن الدعاية والإعلام، والشيء الذي جعلهم يروّجون لمثل هذه الدعاوى

ص: 392

واضح، حيث إن مؤسساتهم الإنتاجية الواسعة بحاجة إلى أيدي عاملة وبأجورمنخفضة، حيث إن العمل في مؤسساتهم كان مقتصراً على الرجال، فبهذه الدعاوى حصلوا على كم هائل من الأيدي العاملة الرخيصة لديمومة إنتاجهم وزيادته بكلفة أقل وذلك عن طريق استخدام النساء كأيدي عاملة رخيصة لتشغيل مؤسساتهم من وراء دعاواهم تلك.

مضافاً إلى أنهم لترويج بضاعتهم والدعاية لها جعلوا من المرأة آلة رخيصة للإعلان وهتكوا عزها وسترها بذلك، كما جرّوها إلى الفساد والدعارة ليحصلوا عن طريقها على الأرباح الهائلة، فكان الهدف من هذه الشعارات الاستثمار الاقتصادي عبر المرأة المسكينة!

أي المجتمعين أفضل للمرأة؟

لو خيرنا المرأة العاقلة بين العيش في ظل المجتمع الغربي وبين العيش في ظل المجتمع الإسلامي فماذا ستختار بعد أن تطلّع على كل مالها وما عليها من المجتمعين؟

فهي بين أمرين أما أن تختار: الحشمة، والوقار، والعفة، والكرامة، والفضيلة، والعزة، والأخلاق، والتقدم، وكل الصفات الحسنة التي تزيدها فخراً وشموخاً.

وإما أن تختار: الفساد، والانحلال، والانهيار، والوقاحة، والهوان، والرذيلة، والذل، والخداع، والغش، وكل الصفات السيئة التي تحط من قدرها، وتجعلها لعبة دنيئة يعبث بها من أراد ثم ينبذها بعد أن يملّها.

وقطعاً إن المرأة العاقلة ستختار الفضيلة، أما غيرها فستفضل الرذيلة وتنغمس فيها دون الالتفات للهوان الذي ينزل بها، فيسهل عليها الهوان، كما قال الشاعر:

من يَهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرحٍ بميتٍ إيلام

ص: 393

فهل أن العيش أفضل في ظل مجتمع يجعلها سائبة تبحث وراء لقمة العيش،وتلاقي ما تلاقية من تعب ونصب وإهانة وازدراء، وهدر للكرامة وتعرض للآلام وانغماس في المزالق؟

أم العيش أفضل في ظل مجتمع يكفل لها عيشها، ويضمن لها حريتها، ويصون كرامتها، ويدعها تعيش في بحبوحة من الرفاه والعيش الرغيد بفخر واعتزاز؟

وهل أن العيش خير لها في مجتمع يحرمها من حقها الطبيعي في الحياة وهو الأمومة - وهو حلم كل فتاة - ليجعلها سلعة تعرض في سوق المستهلكين، أو ليجعلها كرة يتلقفها الصولجان ليرميها إلى آخر؟

أم أن العيش خير لها في مجتمع يمنحها دستوره الكريم كل شيء، فيقول اللّه تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}(1).

أين هي المساواة؟

كثيراً ما أطلق شعار المساواة بين المرأة والرجل من قبل التقدميين حسب ادعائهم، حتى بلغ ذلك درجة الضجيج، فهل المساواة هي في تشبّه المرأة بالرجل والرجل بالمرأة، والاختلاط المبتذل؟ وأين هذه المساواة التي أصبحت علامة تجارية في الغرب من المساواة التي يصرح بها القرآن الكريم: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}(2)؟

وأين هي من قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ

ص: 394


1- سورة البقرة، الآية: 187.
2- سورة النساء، الآية: 1.

شُعُوبًاوَقَبَائِلَ}(1).

وكذلك قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَٰتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ وَالْقَٰنِتِينَ وَالْقَٰنِتَٰتِ وَالصَّٰدِقِينَ وَالصَّٰدِقَٰتِ وَالصَّٰبِرِينَ وَالصَّٰبِرَٰتِ وَالْخَٰشِعِينَ وَالْخَٰشِعَٰتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَٰتِ وَالصَّٰئِمِينَ وَالصَّٰئِمَٰتِ وَالْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَٰفِظَٰتِ وَالذَّٰكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(2).

فالمرأة إلى الآن لم تحصل على أقل حقوقها في الغرب وكل ما حصلت عليه من المساواة هو ابتذالها وجعلها في متناول الأيدي بغية الحصول عليها بسهولة لمن أراد ذلك، حالها حال بقية المعروضات، بل قد تفضلُها بعض تلك المعروضات، لما تجده من صيانة واضحة أثناء العرض، أو ما توسم به من ثمن باهظ!!

وغاية ما حصلت عليه هو إهانتها، فتارة تستخدم (كعارضة أزياء) وتارة للدعاية التجارية الرخيصة، كاستخدام صورتها على أغلفة الصابون، وأخرى للترويج، كتوظيفها في المحلات التجارية (كبائعة أو خادمة في المطعم) وإلى كثير من هذه الحالات التي تحط من قدر المرأة وتجعلها سلعة تباع وتشترى... بغض النظر عن الأشغال الشاقة التي تقوم بأدائها المرأة وهي خارجة عن طاقتها وغير مناسبة للطافتها، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة(3)، كما ورد في الحديث الشريف كما ذكرنا سابقاً.إذن: فأين هي المساواة؟!

التشبه بالرجال يعني الاسترجال

إذا كانت المساواة تعني التشبه كما يرى البعض، فهذا يعني أن المراد من

ص: 395


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- سورة الأحزاب، الآية: 35.
3- انظر: نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) يوصي بها الإمام الحسن(عليه السلام)، وفيه عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تملّك المرأة ما جاوز نفسها فان المرأة ريحانة وليست بقهرمانة».

ذلك هو أن تتخلى المرأة عن انوثتها للتحوَّل إلى ذكر، وهذا ما يأباه العقل، وترفضه الأنثى، حيث يعني ذلك إن المرأة ستترك دورها لتؤدي دور الرجل.

وهنا ستختل الموازين الطبيعية، ويحل الخراب، وعلى تعبير بعض الحكماء: إن البيت الذي تمارس فيه الدجاجة دور الديك مصيره إلى الخراب.وهذا الحال يشمل الرجال أيضاً لو تشبهوا بالمرأة.

وكلامنا هنا حول (التشبّه) بكل الجنسين فهو منبوذ ومرفوض لما له من أثر سلبي على سير الحياة الطبيعية ومخالفته للنواميس الطبيعية، وقد نهى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عن تشبّه الرجال بالنساء وتشبّه النساء بالرجال، فقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه رأى رجلاً به تأنيث في مسجد رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال له: «أخرج من مسجد رسول اللّه يا من لعنه رسول اللّه». ثم قال علي(عليه السلام): «سمعت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: لعن اللّه المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال»(1).

إذن تشبّه النساء هو غير مساواتهن لهم، فأن تكون المرأة مسترجلة هو شيء مستهجن، وعلى النساء أن يرفضنّه حتى لو فرض عليهن فرضاً؛ لأن ذلك يعني أن نفرض على المرأة ما لا يناسبها ولا ينسجم مع عواطفها وخلقتها، ونفصلها عن شخصيتها التي تعتز بها، وتتقمص شخصية أخرى لا تلائمها ولا تحقق لها رغباتها، فهي تجد سعادتها مثلاً في شعورها بأنها في أسرة محترمة تقوم بدورها كأم وكزوجة، ويحميها رجل قوي وهو شيء طبيعي لدى المرأة السوية. لكن هذا الشعور لا يتوافق مع شخصيتها الجديدة المتقمّصة.

كذلك نجد أن الأدوار التي ستمارسها عند تقمصها لشخصية الرجل لا

ص: 396


1- علل الشرائع 2: 602.

تنسجم مع ما يبحث عنه الجنس الآخر، فكل جنس يميل إلى المخالف لجنسه. أما أن تأتي المرأة لتتشبه بالخشونة والبطولة وما شابه، فهذا يعني أنها أصبحت محل اشمئزاز ونفور، وهذا ليس ثوبها.

أما رأي الإسلام فيها فهو الصواب التي يتضمن سعادتها في الدارين، وقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»(1).

فهذه هي شخصية المرأة التي لا بد لها أن تحافظ عليها؛ لذلك ينهى الإسلام عن تشبهها بالرجال لأنها ستفقد أعزّ خاصية إلى نفسها، وهي أن ترى نفسها أنثى مرغوباً فيها من قبل زوجها كما أراد اللّه تعالى ذلك.

مكانة المرأة

إذا كان الرجل يمثل العين أو اليد اليمنى للمجتمع فالمرأة بمثابة العين أو اليد اليسرى له، وقد كان البعض يقول:

ان كان الرجل يمثل النهار بما فيه من عمل وطلب للفضل فان المرأة تمثل الليل بما فيه من سكن وسكينة.

وقد قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ}(2).

من هذه الآية الكريمة نعرف أن السكن والسكينة والاستقرار والراحة بعد التعب أو قل ما شئت بخصوص ذلك كله يعود إلى الليل.

وقال تعالى في آية أخرى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْإِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(3).

ص: 397


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) إلى ولده الإمام الحسن(عليه السلام).
2- سورة القصص، الآية: 73.
3- سورة الروم، الآية: 21.

أما العمل وطلب الفضل والمعاش فكله يعود إلى النهار... ويوضح ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}(1).

ولا يمكننا أن نفضّل الليل على النهار ولا النهار على الليل، فالحياة بحاجة إلى النهار وضيائه والليل وسكونه.

أي بحاجة للمرأة والسكون إليها والرجل وما يقدمه من عمل، هذا خلاصة تمثيل ذكره البعض، ومن الواضح أن المقصود ليس المعنى الحرفي للمثال، وإلّا فالمرأة لها دورها المشروع في المجتمع وهي أيضاً بإمكانها أن تقدم أعمالاً كثيرة تناسب شأنها وكرامتها.

التساوي في الشرع الإسلامي

قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(2) إن المرأة لها مكانة في الإسلام مساوية لمكانة الرجل في جميع الحقوق والواجبات والأصل هو التساوي في ذلك، إلّا بعض المستثنيات التي هي في مصلحة الرجل والمرأة كليهما فالرجل هو الأب والمرأة هي الأم وهذا لا يعني الظلم بحق أحدهما، بل هو المناسب لخلقتهما وعواطفهما وكذلك في درجة القوامة حيث قال تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(3).

فإن: {الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْأَمْوَٰلِهِمْ}(4) ودرجة القوامة هذه ليست نقصاً في المرأة مطلقاً بل القوامة أو (القيادة أو الإمارة) شيء لا بد منه لتسيير الحياة بصورة منظمة و«... إنه لا بد

ص: 398


1- سورة النبأ، الآية: 10-11.
2- سورة البقرة، الآية: 228.
3- سورة البقرة، الآية: 228.
4- سورة النساء، الآية: 34.

للناس من أمير بر أو فاجر»(1) أي أن القوامة مفروضة حتى على الرجل نفسه، فهل أن الرجال يرفضون تنصيب قائد عليهم؟

والمفروض أن مجموعة من الرجال إذا سافروا فعليهم أن يرشحوا أحدهم للإمارة، فكيف إذا كان ذلك في بيت واحد يحتوي على ذكر وأنثى وأولاد وبنات... وكان ذلك في الغالب مدى الحياة، أفلا يرشح أحدهما للإمارة أو القوامة؟ وكل القوانين الطبيعية ترشح الذكر، وليس الحال هذا خاصاً بالإنسان وحده، بل إن ذلك لدى الحيوانات والطيور أيضاً.

فنرى أن الذكر هو المتقدم على الأنثى في السير، أو أن الذكر هو الذي يسعى للحصول على الطعام والحماية، في حين أن الأنثى وظيفتها الحضانة والرعاية، ولعل ذلك سنة اللّه عزّ وجلّ في مخلوقاته جميعاً.

ولها دور العالِم

قال تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ}(2).

إن الرجل هو المسؤول الأول عن توفير الحماية للبيت، وتوفير كل مستلزمات العيش والسكن... ولنقل: إن المرأة (مدللة) في ظل الرجل وهذا لا يعني أن المرأة معطلة بلا عمل؟ وأن وظيفتها فقط توفير الجو البيتي الملائم للرجل؟ بل إن لديها عملاً أعظم من هذا؟ ومن أعظم مهامها هو تربية الأجيال التي ستمسكبأزمة المجتمع... فإن الكثير ممن يدعي (التقدم) يقول: إن المرأة في الإسلام سجينة أربعة جدران، وهي معطلة عن العمل، وإن النصف الثاني من المجتمع مشلول! وإن المرأة غير منتجة بل مستهلكة!

ص: 399


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 40، من كلام له(عليه السلام) للخوارج.
2- سورة النساء، الآية: 32.

لكن أيها المدعي لماذا لا تجر إشكالك هذا إلى العلماء والفلاسفة والكتّاب والمفكرين الكبار والشعراء وغيرهم، الذين يجلسون في غرفهم الخاصة ويسجنون بين أربعة جدران! فهم ممن يقدمون أكبر الخدمات للمجتمع مع كونهم جالسين في بيوتهم.

أليست المرأة كالعالِم والفيلسوف... فلو قارنا بينه وبينها في العمل لكانت خدمتها للمجتمع لا تقل درجة عن خدمة العالم له، فالعالم وظيفته إعداد الجيل...! والمرأة وظيفتها اعداد الجيل أيضاً، وهي أشرف وظيفة وأقدس عمل، ولذلك يقول الشاعر:

الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيب الأعراق

وكذا الحال بالنسبة للأدباء والمفكرين وغيرهم، فان وظيفتهم بناء الجيل وتربيته ومن وراء أربعة جدران أيضاً، حيث أن عملهم يتطلب التأمل والتفكّر، ولا يتم لهم ذلك إلّا في الجلوس بين هذه الجدران... كما أن عملهم هذا ليس إنتاجياً بل خدمة كبيرة للمجتمع، فلماذا هذا التمييز بين المرأة وهؤلاء؟!

فالمرأة مثلها مثلهم، واجبها ووظيفتها أن تربي الأجيال، وتعدهم إعداداً كاملاً للمستقبل؛ ليكونوا رجاله العظام.

أي أن المرأة (مصنع الرجال العظماء) فهل هناك فخر، أكبر من هذا.

فتلك سيدتنا فاطمة الزهراء(عليها السلام) انظر ماذا أعدت وقدمت.

وتلك أم البنين(عليها السلام) فانظر إلى ما أعدت أيضاً وقدمت.

وبعد هذا الإعداد والإنتاج العظيم فما ينبغي على المرأة أن تنتج؟!

وما نوع الإنتاج المطلوب؟!

إذن يمكننا أن نقول: إن الإعداد والتربية من باب (الفريضة) على المرأة، أما عمل المرأة في المجالات الأخرى المناسبة لها خارج البيت فهو من باب

ص: 400

(النافلة).

وقد وزع الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) الأدوار بين الإمام أمير المؤمنين علي وفاطمة(عليهما السلام)، وجعل(صلی الله عليه وآله وسلم) باب الدار حداً فاصلاً بين عمل الإمام(عليه السلام) وعمل فاطمة(عليها السلام)، حيث إن الباب وما دونه داخل البيت هو من واجبات فاطمة(عليها السلام)، والباب وما وراءه خارج البيت هو من واجبات أمير المؤمنين(عليه السلام)(1).

المعززة المكرمة

المرأة في ظل الإسلام معززة ومكرمة بشكل لم ير التاريخ لها عزاً وكرامة إلّا في تعاليم الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام).

قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا جاء أحدكم بشيء لأولاده فليبدأ بالإناث قبل الذكور»(2).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «خير أولادكم البنات»(3).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ومن فرّح ابنته فكأنما اعتق رقبة ولد إسماعيل»(4).وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «البنات حسنات والبنون نعمة، فالحسنات يثاب عليها والنعمة يسأل عنها»(5).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من عال بنتاً من المسلمين فله الجنة»(6).

ص: 401


1- انظر: قرب الإسناد: 52، وفيه عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) قال: «تقاضى علي وفاطمة إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في الخدمة، فقضى على فاطمة بخدمته ما دون الباب، وقضى على علي ما خلفه، قال: فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلّا اللّه، باكفائي رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) تحمل رقاب الرجال».
2- انظر: الأمالي للشيخ الصدوق: 577 وفيه قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج وليبدأ بالإناث قبل الذكور...» الحديث.
3- مكارم الأخلاق: 219.
4- روضة الواعظين 2: 429.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 481.
6- عوالي اللئالي 3: 294.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن إبراهيم(عليه السلام) سأل ربه أن يرزقه ابنة تبكيه وتندبه بعد موته»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «نعم الولد البنات، ملطفات مجهزات، مونسات، مباركات مفليات»(2).

والآن بعد هذه المأثورات الشريفة، ألّا يحق للبنت أن ترفع رأسها شموخاً في ظل الإسلام؟ فهل هناك حيف واقع عليها؟! ألّا يفهم من هذا أن البنت معززة مكرمة في ظل الإسلام؟ بل هي المفضلة في كل هذه الأحاديث الشريفة؟ ثم ألّا يجدر بالولد أن يطالب بالمساواة معها؟! فهل هنالك مجتمع غير الإسلام يمنحها هذا الشرف وهذا التكريم الذي لا يعرف الحدود؟ كل هذا لأجل عيني البنت، فماذا تبتغي البنت أكثر من هذا؟!

وقد كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) يحب ابنته فاطمة(عليها السلام) ويجلّها ويكنّيها ب(أم أبيها)(3). أما الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) فقد عامل بناته (عليهن السلام) بنفس أسلوب الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، أما الإمام الحسين(عليه السلام) فمواقفه مع ابنته سكينة(عليها السلام) معروفة... فقد كان(عليه السلام) يصفها بأنها غالب عليها الاستغراق في ذات اللّه، وكانيلقبها بخيرة النساء(4)، وقد كان يحبها حباً جماً، وقد استشهد على ذلك بشعر

ص: 402


1- الكافي 6: 5.
2- عدة الداعي: ص89.
3- انظر: بحار الأنوار 43: 19.
4- انظر: مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 109، وفيه: ... ثم ودع النساء وكانت سكينة تصيح فضمها إلى صدره وقال: سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي *** منك البكاء إذا الحمام دهاني لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة *** مادام مني الروح في جثماني وإذا قتلت فأنت أولى بالذي *** تأتينه يا خيرة النسوان

منسوب، يبرز فيه مدى حب الإمام(عليه السلام) لأبنته سكينة وزوجته الرباب وهو:

لعمرك أنني لأحب داراً *** تحل بها سكينة والرباب(1)

الأخت

هذا عن تكريم البنات، أما عن تكريم الأخوات فلا يقل شأناً عن تكريم البنات، ونبدأ من تكريم الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) لها فقد ورد أنه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان جالساً المجلس، وقد دخلت عليه امرأة فقام إجلالاً لها، وعظّمها، وافترش لها رداءه، فجلست وراح يحدثها، ويصغي لكلامها، وهو مقبل عليها بكله، حتى إذا فرغت من الكلام، وقامت منصرفة، ودّعها النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، وسار خطوات معها، تقدم أحد الأصحاب يسأله عن هذه المرأة التي استحقت كل هذا التكريم منه، فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): إنها أختي من الرضاعة، انها شيماء بنت حليمة السعدية(2)!

أما مواقف الإمام الحسين(عليه السلام) مع أخته السيدة زينب(عليها السلام) فقد تجلّت لنا في واقعة الطف وقد أعدّها لما بعد واقعة الطف وعوّل عليها في اكمال دوره في ثورته... وقد كان يجلّها ويحترمها إلى أبعد الحدود، وقد كان يحاورها كعالمة وحليمة، فقوله لها قبل بدء المعركة: «يا أختاه لا يذهبن بحلمك الشيطان»(3)دليل واضح واعتراف صريح من إمام معصوم ب(حلم) سيدتنا زينب(عليها السلام) وكان تعامله معها دائماً على هذا الأساس.

ونكتفي بهذا القدر من الشواهد على تكريم الأخت فهي كثيرة جداً.

الزوجة

أما تكريم الزوجات فهذا ما غصت به كتب الروايات الشريفة، وقد رحل

ص: 403


1- شرح الأخبار 3: 177.
2- انظر: قصص الأنبياء(عليهم السلام) للراوندي: 351.
3- اللّهوف: 83.

رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وكان يوصي بالمرأة خيراً. والإسلام منح الزوجة حقوقاً ساوت حقوق الزوج إن لم نقل فاقت عليها في بعض الأحيان، فقد حذر الإسلام من الاعتداء والتجاوز عليها وعلى حقوقها.

وكان التحذير شديد اللّهجة، فيقول الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «اتقوا اللّه في الضعيفين: اليتيم والمرأة، فإن خياركم خياركم لأهله»(1).

وعنه أيضاً(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»(2).

هكذا يتعامل الإسلام مع المرأة (الزوجة) بالمعروف أولاً وآخراً، فقد قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(3) كما يقول تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(4).

وقد كان الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يشارك فاطمة(عليها السلام) في كثير من الأعمال المنزلية فقد كان يتناوب معها على (الرحى) لطحن الحبوب، وإن الرجل الذي يشارك امرأته في مثل هذه الأعمال يعد من السعداء وأهل المعروف، فعلى الزوج أن يكون رفيقاً بزوجته ورفيقاً لها.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «دخل علينا رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) وفاطمة جالسة عند القدر، وأنا أنقي العدس، قال: يا أبا الحسن، قلت: لبيك يا رسول اللّه.

قال اسمع مني، وما أقول إلّا من أمر ربي، ما من رجل يعين إمرأته في بيتها إلّا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، وأعطاه اللّه تعالى من الثواب مثل ما أعطاه اللّه الصابرين وداود النبي ويعقوب وعيسى(عليهم السلام).

ص: 404


1- قرب الإسناد: 92.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 555.
3- سورة النساء، الآية: 19.
4- سورة البقرة، الآية: 228.

يا علي، من كان في خدمة العيال في البيت ولم يأنف، كتب اللّه تعالى اسمه في ديوان الشهداء وكتب اللّه له بكل يوم وليلة ثواب ألف شهيد، وكتب له بكل قدم ثواب حجة وعمرة وأعطاه اللّه تعالى بكل عرق في جسده مدينة في الجنة.

يا علي، ساعة في خدمة العيال خير من عبادة ألف سنة وألف حج وألف عمرة، وخير من عتق ألف رقبة وألف غزوة وألف عيادة مريض، وألف جمعة وألف جنازة، وألف جائع يشبعهم وألف عار يكسوهم، وألف فرس يوجهها في سبيل اللّه، وخير له من ألف دينار يتصدق على المساكين، وخير له من أن يقرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومن ألف أسير أسر فأعتقها وخير له من ألف بدنة يعطي للمساكين، ولا يخرج من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة.

يا علي، من لم يأنف من خدمة العيال دخل الجنة بغير حساب، يا علي خدمة العيال كفارة للكبائر ويطفئ غضب الرب، ومهور حور العين، ويزيد في الحسنات والدرجات.

يا علي، لا يخدم العيال إلّا صدّيق أو شهيد أو رجل يريد اللّه به خير الدنيا والآخرة»(1).

كما عليها أن تكون هي كذلك فإن «جهاد المرأة حسن التبعل»(2) أي أن للمرأة أجر المجاهد دون أن تشترك في المعركة، وذلك بمجرد حسن تبعّلها.

وقد قال الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم): «أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة»(3).

فانظر كيف يمهد الإسلام سبل السعادة الزوجية ويشد الزوجين إلى بعضهما

ص: 405


1- جامع الأخبار: 102.
2- الكافي 5: 9.
3- نهج الفصاحة: 359.

ويبني حولهما سوراً منيعاً للعيش بداخله في بحبوحة الهدوء والطمأنينة والسلامة والاستقرار.

أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك!

وأما الأمهات فقد وضعت الجنة تحت أقدامهن قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «الجنة تحت أقدام الأمهات»(1) وجاء رضاهن بعد رضا اللّه تعالى والإحسان اليهنّ جاء بعد عبادة اللّه سبحانه: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا}(2).

وورد أن عقوق الأم من أكبر الكبائر بعد الشرك باللّه «وليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة، [و قال(صلی الله عليه وآله وسلم):] أكبر الكبائر الشرك باللّه وعقوق الوالدين»(3) والبر للأم يتقدم على البر للأب بثلاث مراتب!

يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «جاء رجل إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه من أبر؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): أمك.

قال: ثم من؟قال(صلی الله عليه وآله وسلم): أمك.

قال: ثم من؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): أمك.

قال: ثم من؟

قال(صلی الله عليه وآله وسلم): أباك»(4).

وهكذا إلى كثير من الشواهد التي تؤكد على منزلة الأم لدى الإسلام.

ص: 406


1- مستدرك الوسائل 15: 180.
2- سورة الإسراء، الآية: 23.
3- مستدرك الوسائل 15: 193.
4- الكافي 2: 159.
إلى جانب العظام

قالوا: إلى جانب كل رجل عظيم امرأة!

ولنبدأ بأعظم خلق اللّه محمد(صلی الله عليه وآله وسلم).

فهناك نساء عدة في حياته فمن هي المرأة العظيمة التي وقفت إلى جانبه؟!

فمن هي المرأة التي شدّت على ساعده ومن هي المرأة التي صدّقته حين كذّبه الناس وآمنت به إذ كفر الناس؟

تلك هي خديجة الكبرى (رضوان اللّه عليها).

وقد ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) قال: «ذكر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) خديجة يوماً وهو عند نسائه فبكى، فقالت عائشة: ما يبكيك على عجوز حمراء من عجائز بني أسد؟

فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): صدقتني إذ كذبتم، وآمنت بي إذ كفرتم، وولدت لي إذ عقمتم»(1).

لقد كانت خديجة هذه المرأة العظيمة من أوسط قريش نسباً وأعظمهم شرفاً،وأكثرهم مالاً وكل قومها قد كان حريصاً على الاقتران بها لو يقدر عليه. إلّا أنها فضلّت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته على كل الأشراف من قومها... على الرغم من كونه مقلاً في المال. وذكر المحققون أن خديجة(عليها السلام) كانت من النساء أول من آمنت باللّه ورسوله وصدّقت بما جاء من عند اللّه، ووازرته على أمره، فخفف اللّه بذلك عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من ردٍ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلّا فرج اللّه ذلك عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بها، فإذا رجع إليها تخفف عنه، وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت رحمها اللّه(2).

ص: 407


1- كشف الغمة 1: 508.
2- انظر: بحار الأنوار 16: 10.

نعم لقد كانت تصبّره فطالما قالت له: «يا بن عم اثبت وابشر»(1).

وقد أنفقت كل أموالها في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، وعانت معاناة في حياتها تفوق التصور من أجل مساندة دعوة زوجها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى أن ماتت بعد الحصار الذي فرضه المشركون على بني هاشم في شعب أبي طالب، بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام، وسمّي ذلك العام ب(عام الحزن) تأبيناً لتلك المرأة العظيمة واعتزازاً بها.

نموذج آخر

وبعد ما ذكرنا من تضحية السيدة خديجة ومكانتها عند رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ننتقل الكلام إلى ابنة هذه المرأة العظيمة(عليها السلام)، فهي سيدة نساء العالمين، وقد وقفت إلى جانب زوجها(عليه السلام) نعم، إن فاطمة الزهراء(عليها السلام) وقفت إلى جانب زوجها أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام)، كما وقفت أمها إلى جانب الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم). وقد زادت عليها بأنها وقفت إلى جانب أبيها(صلی الله عليه وآله وسلم) بالإضافة إلى وقوفها إلى جانبزوجها(عليه السلام)، ومواقفها مشهودة ومشرفة والأمثلة كثيرة على ذلك، مضافاً إلى كونها أفضل أم حيث ربّت الحسن والحسين والسيدة زينب وأم كلثوم(عليهم السلام).

أما باقي النساء اللاتي وقفن إلى جانب الرجال العظماء فأمثالهن كثيرة أيضاً ومن أعظمهن زينب(عليها السلام) حيث وقفت بجانب أخيها الإمام الحسين(عليه السلام) في مواقف مشرفة خلدها التاريخ.

ومن تلك النساء أيضاً:

هاجر التي وقفت إلى جانب النبي إبراهيم(عليه السلام).

وامرأة أيوب التي وقفت إلى جاب النبي أيوب(عليه السلام) في شدّته.

ص: 408


1- كشف الغمة 1: 511.

والرباب زوجة الإمام الحسين(عليه السلام).

وزوجة وهب (رضوان اللّه عليه) في معركة الطف التي وقفت إلى جانبه دفاعاً عن الحسين(عليه السلام)(1) حتى استشهدت(2).

وزوجة الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) حميدة.

وزوجة الإمام العسكري(عليه السلام) نرجس(عليها السلام) والدة الإمام المهدي(عليه السلام) وهي امرأة في غاية الإيمان والفضيلة ومرقدها عند ضريح الإمام الهادي(عليه السلام) في سامراء ولها زيارة خاصة كزيارة الإمام الهادي(عليه السلام).

ومن الأمهات أيضاً:

أم عيسى(عليه السلام) مريم بنت عمران(عليها السلام).

وأم موسى(عليه السلام) قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ}(3).

وأم إسماعيل(عليه السلام) هاجر.

وأم عمار ابن ياسر (سميّة).

وأم وهب في معركة الطف أيضاً.

وأم القاسم(عليها السلام) رملة.

والمرأة العظيمة التي ضحت بأربعة رجال عظماء وهي أم البنين(عليها السلام).

وأما الأخوات فمنهن كلثم أخت موسى(عليه السلام) والحوراء زينب(عليها السلام) وأختها أم كلثوم، وشيماء أخت الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) من الرضاعة.

ومن البنات إضافة إلى فاطمة(عليها السلام) بنت الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وزينب بنت أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام)، نجد سكينة بنت الحسين(عليه السلام) وبنتي النبي

ص: 409


1- انظر: اللّهوف: 105.
2- انظر: بحار الأنوار 45: 17.
3- سورة القصص، الآية: 7.

شعيب(عليه السلام)... إلى شخصيات نسائية أخرى كثيرة.

ولا ننسى بعد هذا المورد أن نذكر امرأة عظيمة الشأن لكنها تحت إمرة رجل كافر وهي زوجة فرعون آسيا بنت مزاحم، فقد قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أفضل نساء أهل الجنة أربع: خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون»(1).

مهمات ووظائف

هناك مهمات عديدة ملقاة على الجميع وعلى عاتق النساء على وجه الخصوص نشير إلى بعضها:

1- يجب تربية الفتيات الصغيرات تربية إسلامية صحيحة من خلال تعليمهن القرآن وتفسيره، وسيرة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وتاريخ الأئمة الأطهار(عليهم السلام)، وتفسير نهج البلاغة، وبقية الآداب الإسلامية كالصلاة، والصوم، وغير ذلك من العبادات.

2- تعليم الفتيات كيفية إدارة بيت الزوجية في المستقبل لكونهن زوجاتوأمهات في المستقبل وهذا فن لا بد من تعلمه جيداً.

3- لا بد من تعليمهن الصناعات اليدوية من حياكة السجاد، والخياطة، والتطريز، وشغل فراغهن بما ينفعهن وينفع أسرهن.

4- دعوة البنات إلى القيام بكافة الأعمال المنزلية منذ الصغر لإتقان ذلك والاستئناس به عند الكبر.

5- تحفيظهن القرآن الكريم، فنحن عندما كنا في كربلاء المقدسة أسسنا مدارس متعددة لحفظ القرآن للأولاد بنين وبنات، وكان عدد الحافظات ما يقارب (1500) بنت، كن يحفظن القرآن بالإضافة إلى أعمالهن المنزلية وتعلم

ص: 410


1- الخصال 1: 205.

الخياطة، والتطريز. فان تعلم مثل هذه الأمور مفيد في المستقبل؛ إذ يمكن لهن أن يساهمن في إدارة احتياجات المنزل مع الرجل، إذ تذكر الروايات أن فاطمة الزهراء(عليها السلام) كانت تعمل بعض الأعمال في المنزل؛ لتعين الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في خارج البيت، في الوقت الذي كانت إدارة البيت آنذاك صعبة بكثير مما هي عليه اليوم، حيث إنه كثرت الوسائل وأعمال المنزل تدار عبر الأجهزة الكهربائية الحديثة، وأما قديماً فقد كانت النساء يطحنَّ الشعير ويصنعن الخبز، إلى غير ذلك من الأمور التي قلما نراها في حياتنا الحاضرة.

6- لا بد على النساء من أن يضعن صناديق خيرية لجمع التبرعات والمساعدات في سبيل ثقافة المرأة المسلمة فهناك الكثير من العوائل التي لها بنات صغيرات يردن الذهاب إلى المدرسة ولكن لا يمتلكن المال لشراء الملابس والقرطاسية وما أشبه ذلك.

فقد ورد عن الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) أنه إذا أردت أن تنظر إلى أحسن الناس فانظر إلى من هو أكثر نفعاً للآخرين، حيث قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «خير الناس من انتفع بهالناس»(1) فليس الذي يكثر من الصلاة فقط والذي يكثر من الذهاب إلى الحج، ويؤدي عباداته فقط من دون أن يسعى لخدمة الآخرين وهو أفضل.

فإن كثيراً من الناس بحاجة إلى المساعدة في كل المناطق والمدن، فلا بد للإسراع في فتح مثل هذه الصناديق؛ لمساعدة العوائل التي لم يدخل في بيتها الطعام المناسب، أو البيت الذي لا يملك الوقود لدفع البرد، أو المكيفة لتبريد الهواء والاحتياجات الأخرى التي تسد الحاجة.

7- تأسيس صناديق التبرع لتسهيل أمور الزواج، فعلى الأخوات اللاتي

ص: 411


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 21.

يجتمعن في مثل هذه الحوزات والهيئات أن يسعين في تأسيس مؤسسات لدعم الزواج المبكر وصناديق لجمع الأموال والتبرعات، ثم صرفها لهذا الغرض. فقد كان النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إذا رأى الشاب يقول له: هل لك زوجة؟ فإذا قال لا، عندها يتوجه إلى بعض المؤمنين أصحاب الخير والمال فيقول لهم: زوجوا هذا الشاب!(1) فإن الإسلام يهتم بشؤون الفرد الدنيوية والأخروية، وعندما كنا في كربلاء المقدسة كانت لبعض الأخوة مؤسسة باسم لجنة الزواج الخيرية، وكانت هذه اللجنة تختص في أمر تزويج الشباب، فكانوا يعطون للذي يريد الزواج قرضاً، فإذا كان الشاب يستطيع أن يرد القرض يؤخذ منه على شكل أقسام بسيطة وبعيدة الأمد، وأما إذا كان غير قادر على تسديد القرض فيجعلونه هبة له، بالإضافة إلى وجود المحسنين الذين يتبرعون بالمدافئ والأفرشة والأغطية، وغير ذلك من الحاجات اللازمة، وقد روي عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) أن من سعى في أمر تزويج الشابسواء كان شاباً أو شابة فإن له حسنة في كل خطوة يخطوها(2)، وفي بعض الروايات أن الحسنة الواحدة أكبر من جبل أحد، ويعطي له هذا الثواب سواء وفق في سعيه أو لم يوفق.

8- تشكيل الهيئات الحسينية في وسط النساء في كل المناطق.

9- على النساء اللاتي يمتلكن الوقت الكافي أن يشتغلن في الأعمال الاجتماعية العامة التي هي عادة خارج المنزل ولكن مع حفظ الموازين الشرعية، فهناك الكثير من مدارس البنات الابتدائية وغيرها تفتقد المعلمات، وهناك الكثير من المستشفيات التي تفتقر إلى العدد الكافي من الممرضات، ولكون المرأة

ص: 412


1- انظر: الكافي 5: 347.
2- انظر: ثواب الأعمال: 288.

نصف المجتمع فعليها أن تدير بعض الدوائر الاجتماعية أيضاً - كل ذلك بشرط أن تصون عفتها وكرامتها، ولا يتعارض عملها مع أحكام الإسلام - فالمرأة لها حقوق كاملة كما للرجل، فإنكم إذا ذهبتم إلى الحج ترون النساء يؤدين مناسك الحج كالرجال، وهكذا قال الإمام الرضا(عليه السلام) ترون النساء يزرن كما يزور الرجال، والحال هذا في المساجد وغيرها.

التأكيد على الزواج

ومن أهم النقاط التي لا بد أن أكررها عليكم أن تسهلوا أمر الزواج، فلا تضعوا العراقيل والحواجز أمام هذا الأمر الإلهي، فإن الشرط الذي يجب توفره في الرجل هو سلامة الدين والأخلاق، كما جاء ذلك في الروايات الواردة عن المعصومين(عليهم السلام) فقد كتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر(عليه السلام) في أمر بناته وأنه لا يجد أحداً مثله، فكتب إليه أبو جعفر(عليه السلام): «فهمت ما ذكرت من أمر بناتك وإنك لا تجد أحداً مثلك، فلا تنظر في ذلك رحمك اللّه فإن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: إذاجاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(1).

وليس الملاك هو نوع عمله وكسبه، فإذا كان يوفر رزقه عن طريق حلال فهذا يكفي، ولا تصرّوا على إمتلاكه رصيداً في البنك... وغير ذلك من القيود التي لم يجعلها اللّه عزّ وجلّ معياراً في الشرع.

والآن بعد أن عرفنا وعرفت المرأة بعض ما لها وما عليها يمكننا أن نقول: إن المرأة لن تسعد ولن تهنأ، ولن تحقق ذاتها، ولن تشعر بعزتها وكرامتها، إلّا في ظل الإسلام، كما ونقول: (لا منفعة ترتجيها إلّا في ظل الإسلام).

نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لرضاه ولخدمة الآخرين وما فيه خير الإسلام

ص: 413


1- الكافي 5: 347.

والمسلمين، ونسأله تعالى أن يتفضل على مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة إنه سميع مجيب.

من هدي القرآن الحكيم

المثل الأعلى لنساء العالم

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ}(1).

وقال سبحانه: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ...}(3).

المرأة والعمل الصالح

قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَالْجَنَّةَ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّ}(5).

لا تفاوت بين الرجل والمرأة

قال تعالى: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ}(6).

وقال سبحانه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَٰرَىٰ

ص: 414


1- سورة آل عمران، الآية: 42.
2- سورة آل عمران، الآية: 61.
3- سورة التحريم، الآية: 11.
4- سورة النساء، الآية: 124.
5- سورة الأحزاب، الآية: 59.
6- سورة الملك، الآية: 3.

مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

المرأة في ظل الإسلام

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه تعالى يوصيكم بالنساء خيراً فإنهن أمهاتكم وبناتكم وخالاتكم»(3).

وقال مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب(عليه السلام)، دخلت على نساء رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول اللّه، إن النساءلفي خيبة وخسار! فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «ومم ذلك؟» قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَٰتِ} أي المخلصين الطاعة للّه والمخلصات(4).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى على الإناث أرأف منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة إلّا فرحه اللّه تعالى يوم القيامة»(5).

ص: 415


1- سورة النحل، الآية: 58-59.
2- سورة النساء، الآية: 1.
3- نهج الفصاحة: 313.
4- تفسير مجمع البيان 8: 158.
5- الكافي 6: 6.
أقسام النساء
1- الأمهات

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «قال موسى بن عمران(عليه السلام) يا رب أوصني قال: أوصيك بي، فقال: يا رب أوصني، قال: أوصيك بي، ثلاثاً، قال يا رب أوصني قال: أوصيك بأمك، قال: يا رب أوصني، قال: أوصيك بأمك، قال: يا رب أوصني، قال: أوصيك بأبيك، قال فكان يقال لأجل ذلك أن للأم ثلثي البر وللأب الثلث»(1).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «إن اللّه تعالى يوصيكم بأمهاتكم ثلاثاً، إن اللّه تعالى يوصيكم بآبائك مرتين، إن اللّه تعالى يوصيكم بالأقرب فالأقرب»(2).

وعن الإمام السجاد(عليه السلام) قال: «أما حق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً، ووَقَتْكَ بجميع جوارحها، ولن تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك،وتظلك وتضحى، وتهجر النوم لأجلك، ووَقَتْك الحر والبرد لتكون لها، وإنك لا تطيق شكرها إلّا بعون اللّه وتوفيقه»(3).

2- الزوجة

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أيما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى موضع تريد به صلاحاً إلّا نظر اللّه عزّ وجلّ إليها، ومن نظر اللّه إليه لم يعذّبه»(4).

ص: 416


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 511.
2- نهج الفصاحة: 312.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 371.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 411.

وجاء رجل إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: ­«إن لي زوجة إذا دخلت تلقتني، وإذا خرجت شيعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت: ما يهمك إن كنت تهتم لرزقك فقد تكفل به غيرك، وإن كنت تهتم بأمر آخرتك فزادك اللّه هماً، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إن للّه عمالاً وهذه من عمّاله لها نصف أجر الشهيد»(1).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «ما أفاد عبد فائدة خيراً من زوجة صالحة: إذا رآها سرّته، واذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله»(2).

3- البنات

عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة»(3).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «نعم الولد البنات المخدّرات من كانت عنده واحدة جعلها اللّه له ستراً من النار ومن كانت عنده ابنتان أدخله اللّه بهما الجنةومن كن ثلاثاً أو مثلهن من الأخوات وضع عنه الجهاد والصدقة»(4).

وعن الجارود بن المنذر قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «بلغني أنه ولد لك ابنة فتسخطها! وما عليك منها، ريحانة تشمها وقد كفيت رزقها، وقد كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أبا بنات»(5).

4- الأخوات

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): من عال ثلاث بنات أو ثلاث

ص: 417


1- من لا يحضره الفقيه 3: 389.
2- قرب الأسناد: 20.
3- نهج الفصاحة: 752.
4- روضة الواعظين 2: 369.
5- الكافي 6: 6.

أخوات وجبت له الجنة، فقيل يا رسول اللّه واثنتين؟ فقال: واثنتين، فقيل: يا رسول اللّه وواحدة؟ فقال: وواحدة»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من عال ابنتين أو أختين أو عمتين أو خالتين حجبتاه من النار»(2).

يوصيكم اللّه تعالى بالنساء خيراً

عن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «من أبتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار»(3).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «خيركم خيركم لنسائه ولبناته»(4).

وعن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عيالهكان كحامل صدقة إلى قوم محاويج وليبدأ بالإناث قبل الذكور...»(5).

خير النساء

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في خير النساء:

1- «أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً»(6).

2- «خير نسائكم العفيفة الغلمة»(7).

3- «خير نسائكم الولود الودود العفيفة، العزيزة في أهلها الذليلة مع

ص: 418


1- الكافي 6: 6.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 482.
3- نهج الفصاحة: 722.
4- نهج الفصاحة: 472.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 577.
6- الكافي 5: 324.
7- الكافي 5: 324.

بعلها...»(1).

4- قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أكثروا الخير بالنساء»(2).

الحث على الزواج

عن الصادق(عليه السلام) قال: «تزوجوا ولا تطلقوا فإن اللّه لا يحب الذواقين والذواقات»(3).

من أخلاق الأنبياء

وعنه(عليه السلام) قال: «من أخلاق الأنبياء صلى اللّه عليهم حب النساء»(4).

فما للنساء؟

وفي حديث سئل(صلی الله عليه وآله وسلم) فما للنساء؟ قال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا هي حملت كتب اللّه لها أجر الصائم القائم، فإذا أخذها الطلق لم يدر ما لها من الأجر إلّا اللّه الواحدالقهار، فإذا وضعت كتب اللّه لها بكل مصة - يعني من الرضاع - حسنة ومحى عنها سيئة، وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): النفساء إذا ماتت من النفاس جاءت يوم القيامة بغير حساب؛ لأنها تموت بغمها»(5).

ص: 419


1- الكافي 5: 324.
2- مكارم الأخلاق: 197.
3- مكارم الأخلاق 197.
4- الكافي 5: 320.
5- عوالي اللئالي 2: 292.

المنهل العذب

اللين وحسن المعاملة

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من لانت كلمته وجبت محبته»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): ثلاث من أبواب البرّ، سخاء النفس، وطيب الكلام، والصبر على الأذى»(2).

إن اللين في القول والمعاملة الحسنة من صفات المؤمنين، وكثيراً ما حثت عليهما الشريعة المقدسة وأوصت الإنسان باتباعهما، فهذه الخصال الحسنة لها تأثير قوي في نفوس الناس واستمالة قلوبهم حتى مع الأعداء، فعندما تتكلم معهم بقول ليِّن وتعاملهم معاملة حسنة فإنّك تستطيع أن تحدّ أو تقلل من عداوتهم، أو على الأقل تلقي الحجّة عليهم.

فقد قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(3).

الولي الحميم

وفي تفسير هذه الآية الكريمة قلنا: وإذ جرى حديث الدعوة، لا بد وأن يسير

ص: 420


1- تحف العقول: 91.
2- المحاسن 1: 6.
3- سورة فصلت، الآية: 34.

السياق إلى واجب الداعي أمام الأتعاب والمصاعب التي يواجهها الدعاة إلىاللّه {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} فإن الحسنة المأمور بها الداعي في مقابل الجهال، خير من السيئة التي هي مقتضى تقابل السيئة بمثلها، وهذه الجملة كمقدمة لقوله - تعالى - ادفع يا رسول اللّه، أو أيها الذي تواجَه بالسيئة {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي ادفع أذى الكفار وكيدهم بالطريقة التي هي أحسن الطرق في دفع الأذى والكيد، وقد جمع الإمام السجاد(عليه السلام) ذلك في قطعة من دعاء (مكارم الأخلاق) هي قوله(عليه السلام): «سددني لأن أعارض من غشني بالنصح وأجزي من هجرني بالبر وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر وأن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة»(1)، فإذا فعلت ذلك كان الذي بينك وبينه عداوة وغضاضة كأنه ولي أي موال لك حميم كثير المودة والمحبة(2).

وجاء في مجمع البيان للطبرسي(رحمه الله): قال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}، قيل معناه: لا تستوي الملة الحسنة التي هي الإسلام والملة السيئة التي هي الكفر،وقيل معناه لا تستوي الأعمال الحسنة ولا الأعمال القبيحة، وقيل: لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة، فلا يستوي الصبر والغضب والحلم والجهل والمداراة والغلظة والعفو والإساءة، ثم بين سبحانه ما يلزم على الداعي من الرفق بالمدعو فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} خاطب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال ادفع بحقك باطلهم وبحلمك جهلهم وبعفوك إساءتهم {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} معناه: فإنك إذا دفعت خصومك بلين ورفق ومداراة صار عدوك الذي

ص: 421


1- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأفعال ومرضي الأفعال.
2- تفسير تقريب القرآن 4: 652.

يعاديك في الدين بصورة وليك القريب فكأنه وليك في الدين وحميمك فيالنسب(1).

القول اللين مع الأعداء

عندما ذهب نبي اللّه موسى (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) إلى فرعون أمره اللّه تعالى أن يخاطب فرعون باللين والرفق. قال اللّه تعالى: {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(2).

فقد قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ قال لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ} يقول اللّه عزّ وجلّ: كنّياه وقولا له يا أبا مصعب»(3).

ففرعون ذلك المتجبر الظالم الذي مارس بحق الناس ألوان الظلم والتعسف، فقد ذكر في التاريخ: إن فرعون كان يأخذ النساء الحوامل ويبقر بطونهنّ ويستخرج الأجنة فإذا كان مولوداً ذكراً قطع رأسه، وبهذه الكيفية وغيرها قتل فرعون أكثر من مائة ألف من الأطفال، ووصل به الاستخفاف بأرواح الناس وممتلكاتهم والاستهزاء بهم حتى ادّعى أنه الرب الأعلى حيث قال مخاطباً الناس كما في قوله تعالى: {أَنَا۠ رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ}(4) ومع كل هذه الجرائم البشعة التي مارسها فرعون بحق الناس أمر اللّه موسى(عليه السلام) أن يكلمه باللين والرفق، وهذا بحد ذاته دليل واضح على استخدام اللين في الكلام والمعاملة سواء كان مع الأصدقاء أو الأعداء.

ص: 422


1- تفسير مجمع البيان 9: 23.
2- سورة طه، الآية: 43-44.
3- معاني الأخبار: 385.
4- سورة النازعات، الآية: 24.

والمتتبع لسيرة المصطفى وآل بيته الأطهار(عليهم السلام) سوف يلاحظ وبوضوح أنهذه الخصلة الحميدة (اللين والرفق) كانت علامة بارزة في تعاملهم مع شيعتهم ومحبيهم، بل ومع أعدائهم أيضاً، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى ولا عجب لأنهم(عليه السلام) المنهل العذب الذي يرتوي منه الناس؛ ومنبع الأخلاق الحميدة وجميع الفضائل الحسنة.

عطاء سيد الشهداء(عليه السلام)

قدم أعرابي المدينة، فسأل عن أكرم الناس بها فدل على الحسين(عليه السلام) فدخل المسجد فوجده مصلياً، فوقف بإزائه وأنشأ:

لم يخب الآن من رجاك ومن *** حرك من دون بابك الحلقة

أنت جواد وأنت معتمد *** أبوك قد كان قاتل الفسقة

لو لا الذي كان من أوائلكم *** كانت علينا الجحيم منطبقة

قال: فسلم الحسين(عليه السلام) وقال: «يا قنبر، هل بقي شيء من مال الحجاز؟».

قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فقال(عليه السلام): «هاتها قد جاء من هو أحق بها منا»، ثم نزع برديه ولف الدنانير فيهما، وأخرج يده من شق الباب حياء من الأعرابي، وأنشأ:

«خذها فإني إليك معتذر *** واعلم بأني عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا الغداة عصا *** أمست سمانا عليك مندفقة

لكن ريب الزمان ذو غير *** والكف مني قليلة النفقة»

قال: فأخذها الأعرابي وبكى، فقال(عليه السلام): «لعلك اسقللت ما أعطيناك؟»، قال: لا ولكن كيف يأكل التراب جودك؟»(1).

ص: 423


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 65.
الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وحسن المعاملة

قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

المتتبع لسيرة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وخصوصاً في جانب معاملة الناس بلا شك يعجز عن الوصف الكامل لهذه السيرة، فقد كان(صلی الله عليه وآله وسلم) منبع الأخلاق الطيبة حتى مع أعدائه ومبغضيه، والشواهد على ذلك كثيرة، فعفوه عن قومه الذين عملوا في سبيل القضاء عليه شتى أنواع المكائد ومارسوا أبشع الأعمال من المصاديق الواضحة على سيرته(عليه السلام)(2).

وقد ذكر في التاريخ أن الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في غزوة أحد كسرت رباعيته وشجّ وجهه من قبل جهال قومه، ولكنه(صلی الله عليه وآله وسلم) قابل كل هذا بأسلوب لم تعهده العرب من قبل هو (أسلوب العفو والرحمة) ولم يكتف رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بالعفو عنهم، بل دعا لهم بالهداية وقد روي أنه(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللّهم إهد قومي فانهم لا يعلمون»(3)،

قومه الذين أذاقوه أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بدءاً بتكذيبه ونعته بنعوت كاذبة إلى وضع الأشواك في طريقه وقتل أتباعه وآل بيته، وقد كان بإمكان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يقضي عليهم ولو دعا اللّه تعالى أن يجتثهم لأجتثهم جميعاً لكنه مع كل ذلك كان يدعو لهم بالهداية.

فأي قلب هذا وأي إنسانية انطوى عليها الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)، فهذه الأعمال وغيرها هي التي جعلت الإسلام حياً في ضمائر الناس، وهي التي جعلت أعدائه(صلی الله عليه وآله وسلم) يطمعون في عفوه وصفحه.

ص: 424


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- انظر: مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 206.
3- انظر: مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 192، والخرائج والجرائح 1: 164، والاحتجاج 1: 211.
من عظيم أخلاقه(صلی الله عليه وآله وسلم)

ينقل أن عبد اللّه بن الزبعري كان يهجو رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ويعظم القول فيه والوقيعة في المسلمين فلما فتحت مكة هرب منها، وحينما عرف أن الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) رسول الرحمة والإنسانية، رجع إلى مكة واعتذر من الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) مما بدا منه فقبل الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) عذره، وعلى إثر ذلك أسلم، بل وقد أمر له رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بحلة، وقد أنشد - الزبعري - يقول:

ولقد شهدت بأن دينك صادق *** حقاً وإنك في العباد جسيم

واللّه يشهد أن أحمد مصطفى *** مستقبل في الصالحين كريم

وقال أيضاً - الشاعر - :

فالآن اخضع للنبي محمد *** بيد مطاوعة وقلب نائب

ومحمد أوفى البرية ذمة *** وأعزّ مطلوب وأظفر طالب

هادي العباد إلى الرشاد *** وقائد للمؤمنين بضوء نور ثاقب

إني رأيتك يا محمد عصمة *** للعالمين من العذاب الواصب(1)

وهذه الأخلاق وهذه السيرة ليست مع قومه فقط وإنما مارسها مع اليهود أيضاً، فقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال: «إن يهودياً كان له على رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) دنانير، فتقاضاه، فقال له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك، فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني، فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): إذن اجلس معك فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة وكان أصحاب رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يتهددونه ويتواعدونه فنظر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إليهم، فقال: مالذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول اللّه

ص: 425


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 166.

يهوديٌ يحبسك؟

فقال: لم يبعثني ربي عزّ وجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره، فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وشطر مالي في سبيل اللّه...»(1)،

وهكذا كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يعامل الناس باللين والرفق حتى استطاع بهذا الأسلوب أن يكسب قلوب الناس وعواطفهم، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(2).

فهنا - في هذه الآية المباركة - بيّن سبحانه أن مساهلة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إياهم ومجاوزته عنهم من رحمته تعالى حيث جعله لين العطف حسن الخلق {فَبِمَا رَحْمَةٖ} أي فبرحمة {مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} معناه: أن لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين لأنك تأتيهم مع سماحة أخلاقك وكرم سجيتك بالحجج والبراهين {وَلَوْ كُنتَ} يا محمد {فَظًّا} أي جافياً سيئ الخلق {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي قاسي الفؤاد غير ذي رحمة ولا رأفة {لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} أي لتفرق أصحابك عنك ونفروا منك... وقيل معناه: فاعف عنهم فرارهم من أحد واستغفر لهم من ذلك الذنب {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أي:

استخرج آراءهم واعلم ما عندهم، واختلفوا في فائدة مشاورته إياهم مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد على أقوال أحدها: إن ذلك على وجه التطيب لنفوسهم والتآلف لهم والرفع من أقدارهم ليبين لهم أنهم ممن يوثق بأقوالهم ويرجع إلى آرائهم.

وثانيها: إن ذلك لتقتدي به أمته في المشاورة ولم يروها نقيصة، كما مدحوا

ص: 426


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 465.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.

بأن أمرهم شورى بينهم. وثالثها: إن ذلك لأمرين، لإجلال أصحابه ولتقتدي أمته في ذلك. ورابعها: إن ذلك ليمتحنهم بالمشاورة ليتميز الناصح من الغاش. وخامسها: إن ذلك في أمور الدنيا ومكائد الحرب ولقاء العدو وفي مثل ذلك يجوز أن يستعين بآرائهم(1).

وهو(صلی الله عليه وآله وسلم) القائل: «أدبني ربي فأحسن تأديبي»(2).

عصر المرحمة

كان الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) دائم الحركة والتنقل بين أصحابه يزور القبائل ويجتمع بالناس ويرشدهم ويعود المرضى ويقضي حوائج المحتاجين، كما أنّه بنى ملجأ(3) في المسجد نزل فيه الذين لا مأوى لهم، وكذلك امتاز(صلی الله عليه وآله وسلم) بالعفو، فعفوه لا نظير له، فقد عفا عن المرأة اليهودية التي وضعت له السم(4)، وعفا عن قاتل عمّه حمزة، وعفا عن هند امرأة أبي سفيان التي أمرت بقتل حمزة وشق صدره واخراج كبده وبعد ذلك لاكت كبده(رحمه الله)، حتى سميت هند بآكلة الأكباد؛ ولذلك جاء وصفها هذا في زيارة عاشوراء «اللّهم إن هذا يوم تبركت به بنو أمية (وابن آكلة الأكباد) اللعين ابن اللعين...»(5)، وعفا أيضاً عن أبي سفيان رأس الشرك والظلال الذي ترأس الحملة ضد دعوته(صلی الله عليه وآله وسلم)(6).

وهناك الكثير من الشواهد والأعمال التي تدل على عظم أخلاقه وعفوه حتى

ص: 427


1- انظر: تفسير مجمع البيان 2: 428.
2- بحار الأنوار 16: 210.
3- يطلق عليه صُفّة المسجد يسكن فيه من لا مأوى لهم وقد وصل عددهم كما في بعض التواريخ إلى أربعمائة فقير.
4- انظر: الأمالي للشيخ الصدوق: 224.
5- مصباح المتهجد 2: 775.
6- انظر: بحار الأنوار 21: 101.

خاطبه اللّه قائلاً: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(1).

فقد روي أن إعرابياً من بني سليم جاء إلى رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فلما وقف بازائه ناداه: يا محمد يا محمد... أنت الساحر الكذاب الذي ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة هو أكذب منك، أنت الذي تزعم أن لك في هذه الخضراء إلهاً بعث بك إلى الأسود والأبيض، واللات والعزى لو لا أني أخاف أن قومي يسمونني العجول لضربتك بسيفي هذا ضربة أقتلك بها فأسود بك الأولين والآخرين، فوثب إليه - أحد أصحابه - ليبطش به، فقال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «اجلس... فقد كاد الحليم أن يكون نبياً»، ثم التفت النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى الأعرابي، فقال له: «يا أخا بني سليم هكذا تفعل العرب؟ يتهجمون علينا في مجالسنا يجبهوننا بالكلام الغليظ؟ يا أعرابي، والذي بعثني بالحق نبياً إن من ضرّ بي في دار الدنيا هو غداً في النار يتلظى، يا أعرابي، والذي بعثني بالحق نبياً إن أهل السماء السابعة يسمونني: أحمد الصادق، يا أعرابي، أسلم تسلم من النار، يكون لك ما لنا وعليك ما علينا، وتكون أخانا في الإسلام...» وبعد ذلك أسلم الرجل وصار داعياً إلى الإسلام(2).

هكذا كان رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يعامل الناس حتى أخرجهم من الظلام الدامس الذي كانوا يعيشون فيه من القتل والسبي والظلم والتشريد إلى النور الساطع الذي كشف كل ذلك وأزاله.

اليوم يوم المرحمة

حقاً، يصح لنا أن نسمّي عصر الرسالة بعصر المرحمة والأمان والحرية، وهذا

ص: 428


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- انظر: بحار الأنوار 43: 69.

ما صرح به رسول الرحمة(عليه السلام) عندما فتح جيش المسلمين مكة.

فقد روي أن راية رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) كانت مع سعد بن عبادة... فلمّا حاذاهما سعد - أبو سفيان والعباس - نادى: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل اللّه قريشاً... فوقف النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) وناداه: لا يا أبا سفيان، بل اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ اللّه قريشاً وأرسل إلى سعد فعزله عن اللواء(1).

فأمر رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بأخذ الراية بقوله(صلی الله عليه وآله وسلم): «أدرك سعداً فخذ الراية منه وأدخلها إدخالاً رفيقاً»، فأخذها علي(عليه السلام) وأدخلها كما أمر(صلی الله عليه وآله وسلم)(2).

فرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) عندما ظفر بعدوه عفى عنه بل التاريخ ينقل أن الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) عندما فتح مكة لم يخرج حتى من كان غاصباً لدور المسلمين، بل أسكن أصحابه في منطقة خارج مكة حتى يبنوا لهم دوراً بدل دورهم التي غصبها بعض من بقي في مكة.

هذه هي المعاملة التي كان يتبعها رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) مع الناس والتي كانت من ضمن الأسباب التي رسخت وشجعت الناس على الدخول في الإسلام أفواجاً أفواجاً.

الأخلاقية الفاضلة

قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا}(3).

ص: 429


1- انظر: بحار الأنوار 21: 105 و 107.
2- انظر: إعلام الورى: 109، وبحار الأنوار 21: 130.
3- سورة النصر، الآية: 1-3.

جاء في بعض التفاسير لهذه السورة المباركة: أن اللّه سبحانه وتعالى بشّر رسوله(صلی الله عليه وآله وسلم) في هذه السورة بالنصر والفتح قبل وقوع الأمر {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} أي جماعة بعد جماعة وزمرة بعد زمرة، والمراد بالدين الإسلام والتزام أحكامه واعتقاد صحته... فكانوا يدخلون في دين اللّه أفواجاً أي جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً أو اثنين اثنين فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام...(1).

وما كان هذا ليحصل لو لا الأخلاقية الفاضلة والسيرة الحسنة التي تحلى بها النبي الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وكذلك لرؤية الناس الحقائق المكنونة في الإسلام فلم يجبرهم رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) على الدخول في الإسلام بل اتبع أسلوب اللين والرفق والرحمة والعفو وما إلى ذلك من الفضائل الحميدة، مما ترك أثراً فاعلاً في قلوب الناس فدخلوا في الإسلام وهنالك آيات كثيرة أشارت إلى ذلك.

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(2) وهذه الآية تدل على أن أسلوب النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) كان أسلوباً ليّناً لا غلظة فيه.

وقال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(3) وهذا دليل على أن الدعوة إلى الدين يجب أن تكون باللين والرفق لا بالإجبار والإكراه.

وفي هذا المعنى ورد عن سليمان بن مهران قال: دخلت على الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام) وعنده نفر من الشيعة فسمعته وهو يقول: «معاشر الشيعة، كونوا لنا

ص: 430


1- انظر: تفسير مجمع البيان 10: 466.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة البقرة، الآية: 256.

زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول وقبيح القول»(1).

أمير المؤمنين(عليه السلام) وحسن المعاملة

لقد حَذا أمير المؤمنين(عليه السلام) حذو الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في جميع ما صدر منه، كيف لا وهو نفس الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم)؟ كما أشارت الآية الكريمة: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ}(2) ولذا فهو(عليه السلام) امتداد طبيعي لحياة الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في كافة الجوانب إلّا النبوة وكذلك في جانب معاملة الناس وقضاء حوائجهم.

فقد روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) في خبر: أن الإمام علي(عليه السلام) «رجع إلى داره في وقت القيظ فاذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدّى علي وحلف ليضربني، فقال(عليه السلام): يا أمة اللّه أصبري حتى يبرد النهار ثم أذهب معك إن شاء اللّه، فقالت: يشتد غضبه وحرده عليّ، فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا واللّه أويؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلك؟

فمضى إلى بابه فقال: السلام عليكم، فخرج شاب فقال علي(عليه السلام): يا عبد اللّه اتق اللّه فإنك قد أخفتها وأخرجتها، فقال الفتى: وما أنت وذاك؟ واللّه لاحرقنَّها لكلامك، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، تستقبلني بالمنكر وتنكر بالمعروف؟

قال: فأقبل الناس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين، فسقط الرجل في يديه فقال: يا أمير المؤمنين أقلني عثرتي، فواللّه لأكونن لها أرضاً

ص: 431


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 400.
2- سورة آل عمران، الآية: 61.

تطأني،...

فقال(عليه السلام): يا أمة اللّه أدخلي منزلك ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه»(1).

الأئمة(عليهم السلام) ولين الكلام

قال أحد النصارى للإمام الباقر(عليه السلام): أنت بقر؟

قال(عليه السلام): «أنا باقر»، قال: أنت ابن الطباخة؟ قال: «ذاك حرفتها»، قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية؟ قال(عليه السلام): «إن كنت صدقت غفر اللّه لها، وإن كنت كذبت غفر اللّه لك»، فأسلم النصراني(2)، لما رأى عظيم أخلاقه.

الكلام عن سيرة أحد الأئمة الأطهار(عليهم السلام) عن نفسه، أو عن تعامله مع الناس، أو عن شجاعته، أو كرمه،... هو عين الكلام عنهم جميعاً(عليهم السلام) لأنهم خلقوا من نور واحد وطينة واحدة، وما يصدر عن أحدهم بلا شك سوف يصدر عينه عنهم(عليهم السلام) لو عرض لهم وفي نفس الظروف، لأنهم معصومون عن الخطأ وجميع الأفعال والأقوال التي صدرت منهم(عليهم السلام) هي على أكمل وجه، وهذا ثابت في عقيدتنا، وكل ما ينافي ذلك فهو باطل وناتج عن أثر شبهة أو جهل سواء كان تقصيراً أو قصوراً.

كلهم(عليهم السلام) نور واحد

يقول البعض من الناس إن الإمام الحسن(عليه السلام) ميال إلى السلام والصلحبعكس الإمام الحسين(عليه السلام) فإنه ميال إلى القتال والتحدي. وهذا خلاف الحقيقة فانهم(عليهم السلام) ميالون إلى السلام في ظروفه بل ويهيئون ظروف هذا السلام، وميالون

ص: 432


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 106.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 207.

إلى القتال في ظروفه اضطراراً، فلو كان الإمام الحسين(عليه السلام) في محل الإمام الحسن(عليه السلام) لفعل مثلما فعل الإمام الحسن(عليه السلام) بلا زيادة أو نقصان، وكذلك الإمام الحسن(عليه السلام) لو كان في يوم كربلاء لفعل مثلما فعل الإمام الحسين(عليه السلام).

وخلاصة ما نريد بيانه: إن جميع الأفعال والأقوال التي صدرت منهم(عليهم السلام) هي الأعمال والأقوال التي ينبغي لها أن تصدر، ولا يمكن أن تصدر من واحد دون الآخر في نفس الظروف.

فعندما نستشهد برواية أو قصة عن أحد الأئمة(عليهم السلام)، فمثلاً: إذا قلنا بأن الإمام السجاد(عليه السلام) كان يفعل كذا وكذا فإن كل إمام منهم(عليهم السلام) يفعل نفس الفعل مع نفس الظروف، وفي علم الكلام هناك مبحث يقرره علماؤنا: أن علمهم(عليهم السلام) واحدٌ مستمد من علم الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) فلا فرق بين واحد وآخر لا في العلم، ولا في الفضيلة ولا في أي شيء آخر، وكل كلام عن فضل أحدهم ينطبق على الجميع بلا تفاوت، ففي الرواية المتقدّمة عن الإمام الباقر(عليه السلام) وكيفية المعالجة أو الردّ الذي أجاب به النصراني لو حصل لأي إمام من الأئمة الأطهار(عليهم السلام) لكان الرد واحداً، فهم جميعاً(عليهم السلام) يعاملون الناس باللين والرفق في أقوالهم وفي أفعالهم(عليهم السلام) وهذا الأسلوب مستمد من سيد البشرية جمعاء نبي الرحمة(صلی الله عليه وآله وسلم).

وبهذه الطريقة وبهذا الأسلوب استطاع آل المصطفى(عليهم السلام) أن يهدوا ويؤثروا بل يسودوا على كثير من الناس حتى أعدائهم ومخالفيهم، فهذه الرواية وكثير غيرها تبين ذلك.

فذلك النصراني الذي كان يبغض آل البيت(عليهم السلام) بحيث وصلت به الضغينةوالحقد إلى درجة التجاسر على الإمام الباقر(عليه السلام) واسماعه كلمات قاسية، ولكن الإمام(عليه السلام) وبكل ثبات وهدوء رد عليه بأسلوب هادئ وليّن، ولم يستخدم العنف في ذلك، بل قال(عليه السلام) له: «إن صدقت في كلامك غفر اللّه لها، وإن كذبت غفر

ص: 433

اللّه لك» هذه هي الروح الإيمانية العظيمة التي أثّرت في قلب ذلك النصراني وهدته إلى الحق، وتلك الروح هي التي أثمرت هداية المئات، بل الآلاف من ذوي القلوب المتحجرة التي كانت الغالبية من الناس تحملها في صدر الإسلام، وأصبحوا من أثر هذه الروح دعاة حق مخلصين، واستمر تدفق ينابيع هذه الروح الطيبة العذبة اللطيفة إلى يومنا هذا، وسوف يستمر إن شاء اللّه تعالى إلى آخر الزمان في قلوب المخلصين أتباع المنهج القويم، المتمثل بآل المصطفى(عليهم السلام).

أتباع آل البيت(عليهم السلام)

اشارة

فإذا كنا ندّعي بأننا أتباع هذا النهج فلنتمسك به قولاً وفعلاً، ولنتعامل مع الناس - مع كل الناس - بأسلوب لطيف وليّن حتى يصدق علينا بأننا أتباع آل البيت(عليهم السلام).

وليس هذا فقط - وإن كان في هذا الفوز بالجنة - وإنّما كذلك للكلام الليّن الرقيق تأثير كبير في حياتنا اليومية التي نعيشها فالأستاذ والعامل والمهندس والتاجر وجميع شرائح المجتمع بالإضافة إلى محبوبيتهم بين الناس، فإنهم يحصلون على منافع عظيمة نتيجة كلامهم الليّن وأسلوبهم الرقيق في التعامل، فالتاجر يزداد وفود الناس على بضاعته والمهندس تتوفر له فرص عمل جيدة وكذلك العامل والأستاذ وهكذا... .

وبهذا يحصل صاحب الكلام اللَّين والمعاملة الحسنة على محبة اللّه تعالى ومحبة الناس، بعكس الإنسان غليظ الطبع خشن المعاملة، فإن الناس يتفرقونعنه ولا يميلون إليه، ولعل أغلب الناس لا يساعدونه إن ألمت به مصيبة ويتركونه لمصيره، وفي حياتنا المعاصرة نماذج كثيرة من هذا، بل إن ما يعيشه الناس اليوم من تناحر وتصارع أغلبه ناشئ عن الغلظة والعنف وسوء المعاملة بينهم، فلو

ص: 434

اتبعوا أسلوب اللين والرفق في ما بينهم لتحولت الضغينة والعداوة السائدة اليوم إلى محبة وسلام، وعاش الناس أمة واحدة كما خلقهم اللّه تعالى. وقد قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(1).

علماؤنا الأعلام وحسن المعاملة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا كميل هلك خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة»(2).

كما أن الأئمة(عليهم السلام) امتداد طبيعي لسيرة الرسول الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم) فإن العلماء امتداد لسيرة الأئمة، والتاريخ يحتفظ في ذاكرته بكثير من العلماء الأفاضل الذين ساروا على نهج الرسالة.

الخاجة نصير الدين الطوسي(رحمه الله) والرفق في المعاملة

ينقل أن أحد الأشخاص من ذوي الألسن اللاذعة كتب رسالة إلى الخاجة(رحمه الله) تفيض بالشتم والسباب والكلام البذئ، وكان من ضمنها أنه خاطبه بالكلب! فلما قرأها الخاجة(رحمه الله) لم يبد أي غضب أو عصبية أو يرد عليه بالمثل، بل كتب له رسالة جواباً على رسالته قال له فيها: إنني لست بكلب؛ وذلك لأن الكلب يمشي على أربع، ولا يستطيع التكلم والكتابة، وله مخالب وهو يعوي! أما أنا فأمشيعلى رجلين وأستطيع أن أتكلم وأكتب وليس لي مخالب بل لي أظافر حسنة ولا أعوي.

هذه هي أخلاق عُلمائنا لا يبادلون الإساءة بالإساءة، بل يقابلون الإساءة

ص: 435


1- سورة المؤمنون، الآية: 52.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 147.

بالإحسان.

شاهد آخر

كان في مدينة كربلاء المقدسة شخص قد أضمر العداء لأحد العلماء(1) الأبرار، وقد أنشأ قصيدة كاملة يهجو فيها هذا العالم، وكان يقرؤها في كلّ محفل ومجلس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

ينقل صاحب القصيدة إنه في ذات يوم حار عند الظهيرة طُرق باب داري وقد انتهيت من تناول الغذاء توّاً، وعندما فتحت الباب فوجئت بالعالم الذي أنشأت القصيدة في هجوه خلف الباب، فدعوته إلى الدخول، وعندما استقر بنا المجلس طلب مني مترجياً أن أقرأ عليه القصيدة، فامتنعت عن ذلك، فلم يرض إلّا بقراءتها عليه، فاستسلمت للأمر وقرأتها وأنا أتصبب عرقاً من الخجل، وعندما انتهيت منها أخرج من جيبه ظرفاً فيه مقدار من المال وأعطاه لي، وقال: جرت العادة إذا قرأ شخص قصيدة أن يعطوه هدية، فأرجو منك قبول الهدية مني، ومن شدة دهشتي لم أعرف بماذا أجيبه، فوضع المال في يدي وخرج، فبدّل بمعاملته هذه كل الحقد الدفين الذي كنت أحمله ضدّه إلى ود ومحبة له.

نعم هذه المعاملة مستمدة من سيرة المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار(عليهم السلام). إذ هم مقتدى كل مؤمن ومؤمنة.

فمن وصايا الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية قال: «وأحسنإلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك، وأرض لهم ما ترضاه لنفسك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وحَسّن مع جميع الناس خلقك، حتى إذا غبت عنهم حنّوا إليك، وإذا مت بكوا عليك، وقالوا: إنا للّه وإنا إليه راجعون.

ص: 436


1- هو السيد أبو الحسن الإصفهاني(رحمه الله).

ولا تكن من الذين يقال عند موته الحمد للّه رب العالمين، واعلم أن رأس العقل بعد الإيمان باللّه عزّ وجلّ مداراة الناس ولا خير في من لا يعاشر بالمعروف...»(1).

نسأل اللّه العلي القدير أن يحلينا بحلية الصالحين ويلبسنا زينة المتقين في بسط العدل وكظم الغيظ وإطفاء النائرة وضم أهل الفرقة وإصلاح ذات البين.

«الحمد للّه الذي يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره، الحمد للّه كما يُحبّ اللّه أن يحمد، الحمد للّه كما هو أهله، اللّهم أدخلني في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد، وأخرجني من كل سوء أخرجت منه محمداً وآل محمد، صلى اللّه على محمد وآل محمد»(2).

من هدي القرآن الحكيم

الرفق ولين الكلام

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(3).

وقال سبحانه: {وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِحُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ}(4).

وقال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(5).

ص: 437


1- من لا يحضره الفقيه 4: 387.
2- الكافي 2: 529.
3- سورة آل عمران، الآية: 159.
4- سورة البقرة، الآية: 83.
5- سورة طه، الآية: 44.
قول الخير والقول الحسن

قال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَٰنِ عَدُوًّا مُّبِينًا}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(2).

وقال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَٰهِلِينَ}(3).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(4).

وقال سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(5).

الصفح الجميل

قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(6).

وقال سبحانه: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}(7).

وقال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}(8).

ص: 438


1- سورة الإسراء، الآية: 53.
2- سورة الفرقان، الآية: 63.
3- سورة القصص، الآية: 55.
4- سورة الأحزاب، الآية: 70-71.
5- سورة فصلت، الآية: 34.
6- سورة الحجر، الآية: 85.
7- سورة المعارج، الآية: 5.
8- سورة المزمل، الآية: 10.

من هدي السنّة المطهّرة

حفظ اللسان

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «نجاة المؤمن في حفظ لسانه»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «قلت أربع كلمات أنزل اللّه تعالى تصديقي بها في كتابه قلت: المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر فأنزل اللّه تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(2)...»(3).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «لا يزال العبد المؤمن يكتب محسناً مادام ساكتاً، فإذا تكلم كتب محسناً أو مسيئاً»(4).

وقال(عليه السلام): «أمرني والدي(عليه السلام) بثلاث ونهاني عن ثلاث فكان في ما قال لي: يا بني، من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم ومن لا يملك لسانه يندم، ثم أنشدني فقال(عليه السلام):

عود لسانك قول الخير تحظ به *** إن اللسان لما عودت يعتاد

موكل بتقاضي ما سننت لهفي *** الخير والشر فانظر كيف تعتاد»(5)

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «حق اللسان إكرامه عن الخنا(6). وتعويده

ص: 439


1- الكافي 2: 114.
2- سورة محمد، الآية: 30.
3- بحار الأنوار 101: 370.
4- الكافي 2: 116.
5- الخصال 1: 169.
6- الخنا: الفحش من القول.

الخير وترك الفضول التي لا فائدة لها. والبر بالناس. وحسن القول فيهم»(1).

التأدب بآداب اللّه

قال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «... من تأدب بأدب اللّه عزّ وجلّ أدّاه إلى الفلاح الدائم. ومن استوصى بوصية اللّه كان له خير الدارين»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من لم يصلح على أدب اللّه سبحانه لم يصلح على أدب نفسه»(3).

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أدبني ربي فأحسن تأديبي»(4).

قول الخير

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «والذي نفسي بيده، ما أنفق الناس من نفقة أحبّ من قول الخير»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «قولوا الخير تعرفوا به واعملوا الخير تكونوا من أهله»(6).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «قلب الأحمق في فمه وفم الحكيم في قلبه»(7).

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «القول الحسن يثري المال وينمي الرزق

ص: 440


1- من لا يحضره الفقيه 2: 619.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 17.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 654.
4- بحار الأنوار 16: 210.
5- المحاسن 1: 15.
6- الكافي 2: 225.
7- تحف العقول: 489.

وينسي في الأجل ويحبب إلى الأهل ويدخل الجنة»(1).

الرفق واللاعنف

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «ما اصطحب اثنان إلّا كان أعظمهما أجراً وأحبهما إلى اللّه عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه»(2).

وقال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»(3).

ومن كتاب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) لبعض عماله: «واخلط الشدة بضغث(4) من اللّين، وارفق ما كان الرفق ارفق... واخفض للرعية جناحك وابسط لهم وجهك وألن لهم جانبك وآس بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك، والسلام»(5).

وقال أبي عبد اللّه(عليه السلام): «من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس»(6).

ص: 441


1- الأمالي الشيخ الصدوق: 2.
2- الكافي 2: 120.
3- الكافي 2: 119.
4- الضغث: بالكسر والفتح، قبضة الحشيش المختلط اليابس رطبها ويابسها، مجمع البحرين 2: 257 مادة (ضغث).
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 46، من كتاب له(عليه السلام) إلى بعض عما له.
6- الكافي 2: 120.

النضج وأثره في حياة الإنسان

آثار النضج

اشارة

قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّٰلِحُونَ}(1).

إن من الأمور الصعبة والمهمة التي يلزم على الإنسان السعي وراءها وتحصيلها هو النضج، بمعنى أن يكون الإنسان ناضجاً في فكره وسلوكه. ولصعوبة الوصول إلى هذا المستوى نرى أنه لا يستطيع كل شخص الوصول إليه، ولا يتمكن تحصيله بسهولة؛ إذ أن هذا المستوى يتحصل من أثر توالي الأحداث، وتقلب الأحوال، وممارسة الصعاب، وحفظ التجربة، وبهذه الأمور وشبهها ينقدح النضج في داخل الإنسان ويترعرع وينمو.

وفي الحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «من تورط في الأمور غير ناظر في العواقب فقد تعرض لمفظعات النوائب، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم، والعاقل من وعظته التجارب، وفي التجارب علم مستأنف، وفي تقلب الأحوال علم جواهر الرجال»(2).

فعندما يصل الإنسان إلى مفترق طرق، ويكون نهباً لمشاكل وصعاب،

ص: 442


1- سورة الأنبياء، الآية: 105.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 388.

تتقاذفه من هنا وهناك، حينئذ يتبين جوهر الإنسان حيث النضج أو عدمه.

ذكر في قصة: أن امرأة كانت تصر على زوجها ليتزوج بامرأة أخرى، ولكنه لم يكن يستجيب لها، بل كان يعللها ويسوفها، وبعد مدة رضخ لرأيها وتزوج بامرأة أخرى، وبمجرد أن رأت الزوجة الأولى الوضع الجديد، وأن ضرة نزلت بيتها انقلب حالها واضطربت، وفجأة خرجت من البيت كاشفة شعرها مضطربة، متوجهة إلى المسجد، وجاء زوجها في إثرها ودار بينهم كلام طويل حتى انتهى إلى توافق الزوجين وتصالحهما ثم عادا معاً إلى الدار.

والشاهد في هذه الرواية: إن المرأة هذه ربما لم تكن تمتلك النضج الكافي ولم تعلم بما سيجري عليها؛ وإنما كانت تتأثر بتقلب الأحوال بسرعة عجيبة بحيث تفقد معها عقلها وتتصرف تصرفاً غير لائق بها، كما خرجت إلى المسجد كاشفة عن رأسها؛ فلم تكن تعلم بأنها غير قادرة على تحمل (ضرّة) تنزل عليها، ولكن عندما تحقق الأمر خرجت وهي كاشفة الرأس.

مراقبة النفس

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أحكم التجارب سلم من المعاطب»(1).

وقال الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام): «ابن آدم، إنك لاتزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وماكانت المحاسبة من همك، وما كان الخوف لك شعاراً، والحزن لك دثاراً، ابن آدم إنك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي اللّه عزّ وجلّ ومسئول، فأعد جواباً».(2)

إن الإنسان ربما يقف على اعتاب المستقبل وهو جاهل تماماً بما تخبئ له

ص: 443


1- عيون الحكم والمواعظ: 431.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 115.

الأيام التالية، ولا يقدر أن يكشف ذلك أو يتنبأ به ليتخذ بإزائه الموقف الصحيح المعقول؛ ولذلك عليه أن يراقب نفسه وتصرفاته بدقة حتى لا يأتي عليه يوم يفقد فيه عقله وتوازنه أمام الحوادث والمشكلات بسبب قلة تجاربه، فيظهر أمام الآخرين وقد انكشف جوهره، وشخصيته الضعيفة المنهزمة وغير الناضجة.

وكيل السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله)

كان من الأساليب الحكيمة للسيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله) في إدارة شؤون الناس، هو أنه(رحمه الله) كان يختار ويصطفي رجالاً من العلماء ليكونوا وكلاء عنه في البلدان المختلفة... فيبعثهم إلى مختلف البلاد لإدارة شؤون الناس، والقيام بالمهام الدينية هناك، من الوعظ والإرشاد وتوضيح المسائل الشرعية والإجابة عنها وإجراء عقود النكاح وغير ذلك من الوظائف التي تخص العلماء ورجال الدين عادة.

وقد ذكر أنه بعث مرة أحد الأفراد وكيلاً عنه إلى إحدى المناطق، وبعد مدة حدث خلاف كبير في تلك المنطقة، ولعل وكيل السيد كان طرفاً في النزاع، وهو أمر لا يليق بوكيل المرجع الديني؛ حيث يفترض فيه أن يكون دوره دائماً الإصلاح بين الناس لا صنع الخلاف بينهم. فاستقدمه السيد ليطلع على واقع الأمر ويعرف سبب الاختلاف، وعندما حضر هذا الوكيل عند السيد الاصفهاني قال له السيد: نحن بحاجة إلى وجودك في النجف عندنا هنا. قال ذلك من دون أن يستفسر سبب الاختلاف أو وجهه. ويلزم هنا أن نلاحظ كيف أن السيد(رحمه الله) غيّر مهمة وكيله إلى مهام أخرى باحترام حيث قال: نحن بحاجة إلى وجودك هنا.

وكان هذا أسلوباً حكيماً وسليماً ومؤدباً يستعمله فقهاؤنا في حل المشاكل؛ إذ

ص: 444

يتجنبون دائماً الشدة والعنف والغلظة في التعامل مع الأصدقاء والأعداء، ولا يوجهون إهانة لطرف من الأطراف أبداً، وهذه أخلاق الإسلام وسياسته الصالحة في إدارة الناس، قال اللّه تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(1).

ثم بعد ذلك استفسر بعض الحاضرين من السيد(رحمه الله) عن السبب الذي دعاه إلى عزل هذا الوكيل وبهذه الطريقة الهادئة، من دون سؤاله عن تفاصيل الاختلاف وسببه؟!

فأجاب السيد: عرفت بأنه لا يليق لهذا المنصب؛ وذلك أني عندما دعوته ليجلس بجانبي - حيث كان جالساً في نهاية المجلس - رأيته قام وجاء إليّ مهرولاً، فعرفت أنه لا يتمتع بالوقار والنضج في السلوك، وهذه صفات لا تمنح صاحبها أهلية إدارة مثل هذا المنصب الحساس، ولذلك لم أسأله عن سبب الاختلاف، لعدم الداعي له بعد الذي رأيته منه.

ولا يخفى أن وكيل المرجع هو وجه المرجع ومرآته التي تعكس - عادة - أخلاقه وسلوكه.

وذكر عن بعض الفضلاء الذي كان يجالس أحد مراجعنا الكبار (قدس اللّه أسرارهم) قال مرة: كلما استمرت مجالستي لهذا المرجع الكبير ازددت إعجاباً به وإخلاصاً له، فضلاً عن إعجابي الشديد بعلميته القوية وتقواه وأخلاقه الفاضلة؛ وذلك لما كنت أراه من شدة ارتباطه بالناس من جهة، وشدة تأثر الناس به والتزامهم بتوجيهاته وإرشاداته، وكان سبب قوة روابطه الاجتماعية وتأثيره المتزايدفي المجتمع هو النضج الكامل الذي كان يتمتع به في كل شؤونه.

ص: 445


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
النضج الاجتماعي

ذكر في قصة: أن عبداً هرب من سيده والتجأ إلى غابة، وبعد عدة أيام فوجئ بأسد ضار كان يتوثب لافتراسه وهو يزأر، فاستيقن أنه سوف يكون طعمة للأسد الذي سينهش لحمه ويفترسه بعد قليل، ولكن عندما اقترب منه الأسد جلس على الأرض متألماً من شيئ أصابه وهو يشير إلى قدمه، فانتبه العبد إلى أن هناك شوكة كبيرة في رجل الأسد تؤلمه كثيراً أعجزته عن الوثوب عليه وافتراسه، فعمد العبد إلى تلك الشوكة وأخرجها من رجل الأسد؛ ليحظى بعد ذلك بصداقة الأسد جراء عمله هذا... .

فقام الأسد بإظهار تودده وحبه للعبد، حيث كان يأتي لزيارته في مخبأه كل يوم، واستمرت الأيام على هذه الحالة والأسد يزور الرجل كل يوم. حتى كان ذات يوم فلم يأت الأسد كعادته فاحتمل العبد بأن الأسد قد وقع في شباك الصيادين، وبعد مدة عثر عمال السيد على الغلام فأخذوه مكتوفاً إلى مولاه في المدينة وحكم عليه بالموت، وكانت طريقة القتل في تلك المدينة تتم بإلقاء المحكوم عليه بالموت في حفرة كبيرة لا يستطيع الفرار منها، ثم يطلقون عليه أسداً جائعاً يفترسه حتى الموت، فعندما جعلوا هذا العبد في الحفرة أمام الأسد الضارٍ، وإذا بالأسد أقبل عليه يهز ذيله لإظهار حبه وصداقته له، فعرف العبد بأن هذا الأسد صاحبه السابق، وقد أدهش المنظر الناس كثيراً، وحملهم على اعتبار ما جرى مكرمة عظيمة وفضلاً للعبد، فأخذوا يصفقون له ويعظمونه، ثم جعلوه ملكاً عليهم طبقاً لما كان مرسوماً عندهم، من أن تنصيب الملك وعزله كان يتم بيدهم واختيارهم.

وشاهد كلامنا في هذه القصة - وإن كانت غير واقعية ومن صنع الخيال الأدبي - هو أن الناس كانوا لا يتمتعون بالنضج السياسي والثقافي في حق الانتخاب؛فلذلك عزلوا ملكهم السابق عن منصبه وعينوا شخصاً آخر مكانه بلا داع أو مبرر.

ص: 446

فهل يستطيع عبد غير ناضج على إدارة المدينة؟!

فهل كان تنصيب رجل محنك صاحب تجربة وأهلية سياسية وإدارية، متمتع بالصفات التي تؤهله لمنصب الرئاسة والملوكية، أفضل؟ أم تنصيب العبد الذي لم يكن يمتلك من مؤهلات الإدارة سوى ما رأوه من علاقته بالأسد؟!

من الواضح أن المجتمع الذي لا يتصرف في شؤونه العامة طبق البصيرة والنضج، ولا يحكم العقل والمنطق السليم في أموره سوف يتردى في الحياة، وتسوء أوضاعه يوماً بعد يوم.

النضج حاجة عامة

إن النضج والوعي مسألة لا تخص أحداً دون أحد، بل تعم وتشمل حتى الهيئات والأحزاب والتجمعات المختلفة، وهو من العوامل الرئيسية لنجاح بعض الأحزاب أو الهيئات دون الأخرى؛ لأن موضوع النضج والاحتكام إلى العقل والبصيرة في السلوك من الأمور العامة التي تشمل الجميع.

وهو ليس بالأمر السهل والهين، وإنما بحاجة إلى التعب والجد والاجتهاد ليل نهار، والتحمل الكثير للصعاب والمشاكل، حتى يحصل الإنسان على درجة من التعقل والنضج تكون على شكل ملكة ثابتة في ذاته وكيانه، بحيث يستطيع أن يحل أكثر مشكلاته وأموره، ويتخذ مواقفه دائماً بالتي هي أحسن، وتحت ظل الحكمة والحنكة والذكاء.

الاستشارة من مقومات النضج

ومن أهم مقومات النضج هو الاستشارة، فإذا أراد الإنسان أن يكون ناضجاً في قراراته فعليه باستشارة ذوي الرأي، ولا يستبد برأيه في الأمور.

علماً بأن الاستشارة تبدأ بأصغر الأمور وتنتهي بأعظمها وهي إدارة البلاد

ص: 447

والعباد، فلا يحق للحاكم - غير المعصوم(عليه السلام) - أن يتخذ قرارات بشأن الأمة من دون الاستشارة، ومن هنا رأينا ضرورة شورى الفقهاء المراجع، واستشارة الأخصائيين الزمنيين، وعقد المؤتمرات الأقليمية والعالمية، واحترام الرأي الآخر، في سبيل الإنهاض بالأمة.

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «بعثني رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن فقال وهو يوصيني: يا علي ما حار من استخار، ولا ندم من استشار»(1).

وقال الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام): «من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً، وعند الخطأ عاذراً»(2).

وقال علي(عليه السلام): «ما عطب امرؤ استشار»(3).

وقال(عليه السلام): «لا رأي لمن انفرد برأيه»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وإن الجاهل من عد نفسه بما جهل من معرفة العلم عالماً، وبرأيه مكتفياً»(6).

ضياع الجهود

كان في إحدى المناطق مجموعة من الرجال العاملين والنشطين من أجل الإسلام، يتعاهدون الموعظة والإرشاد دائماً من العلماء والخطباء، وكان العلماء

ص: 448


1- وسائل الشيعة 8: 78.
2- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 123.
3- الخصال 2: 620.
4- كنز الفوائد 1: 367.
5- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 112.
6- تحف العقول: 73.

ينصحونهم بالوحدة والتلاحم والانسجام، ولكنهم اتخذوا سبيل الاختلاف والاضطراب في ما بينهم، فخيم عليهم النزاع والتنافر حتى آل الأمر بهم في النهاية إلى تفرقهم وتلاشى كيانهم، فضيعوا كل الأتعاب والنشاطات التي بذلوها في هذا السبيل، وكان ذلك بسبب عدم النضج والتعقل والوعي في إدارة العمل.

ومن الواضح أنهم افتقدوا حب الناس وخسروا شعبيتهم التي قدّموا من أجلها الكثير؛ وذلك لأن الذي يعجز عن حل مشاكله ولم يتمكن من كسب وإدارة أعضائه الخاصين والعاملين معه فهو عن كسب الآخرين أعجز.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلاث(1) بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم. فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها، والتواصي بها. واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم، وأوهن منتهم(2)، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي.

وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء وأجهد العباد بلاء وأضيق أهل الدنيا حالاً، اتخذتهم الفراعنة عبيداً فساموهم سوء العذاب وجرعوهم المرار، فلم تبرحالحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة لايجيدون حيلة في امتناع ولاسبيلاً إلى دفاع حتى إذا رأى اللّه سبحانه جدَّ الصبر منهم على الأذى في محبته والاحتمال

ص: 449


1- المثلات: العقوبات.
2- المُنّة: القوة.

للمكروه من خوفه جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العزّ مكان الذل والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً وأئمة أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم. فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة. ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين؟ فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، وقد خلع اللّه عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين...»(1).

النضج الطبي

أصيب شخص في العراق بألم شديد في قدمه، فراجع الكثير من الأطباء لأجل العلاج ولكنه لم يجد عندهم شفاء ولا فائدة، وفي النهاية يئسوا من معالجته والقضاء على آلامه إلّا بقطع رجله، فلم يستجب المريض لذلك.

وفي ذات يوم سافر هذا المريض إلى مدينة الكوفة فصادف على جسر الكوفة رجلاً من البدو، وبعدما تعرف عليه وصادقه، شكا له مرضه الشديد، فوصف له ذلك البدوي علاجاً، فقال: خذ عدة ضفادع وشق بطونها من الوسط، وضعها على موضع الألم وشدها برباط.

يقول صاحب القصة: فعلت ذلك كما قال لي البدوي، وبعد أربع وعشرينساعة فقط ارتفع الألم وارتحت منه، ولم يعد ليّ ذلك الألم أبداً!

والشاهد في هذه القصة هو: الإشارة إلى أن أهمية العلوم ليست فقط بالتعلم

ص: 450


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

وفهم مسائلها، بل الأهم من ذلك هو النضج، وهكذا في الطب، حيث من الضروري النضج الطبي لدى الأطباء، وعدم التسرع واليأس من علاج المريض لمجرد ممارسة العلاج معه لفترة معينة، بلا تأكد تام وكامل من طرق العلاج؛ إذ أن بعض الأطباء ربما لا يتمتع بالتجارب الكافية التي تمنحه القدرة اللازمة على مكافحة الأمراض وتشخيص العلاج لها، ولا يمتاز بالنضج والمهارة الكافية في عمله، الأمر الذي يدعو أحياناً إلى التسرع في الحكم على المريض بعلاجات صعبة وعسيرة، كان من الممكن علاجه بطرق أسهل وأيسر لو تأنى ودقق وفحص أكثر، كما حكم بعضهم على هذا المريض بقطع ساقه بلا تحقيق أو تدقيق في احتمال وجود علاج آخر، أو بالاعتقاد بأن هذا العلاج - القطع - هو الوحيد.

النضج العلمي لدى الشيخ الأنصاري(رحمه الله)

لقد امتاز الشيخ المرتضى الأنصاري(رحمه الله) بالعمق والنضج العلمي الشديد في آرائه، فقد كان يتابع أقوال وآراء سائر الفقهاء، قولاً قولاً ورأياً ورأياً، ويفسرها ويوضحها، ويقلب وجوهها، ولايقبلها أو يؤيدها أو يردها بدون تدقيق وتحقيق.

مثلاً:

قاعدة: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي)(1)، وقاعدة: (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده)(2) وغيرها من القواعد

ص: 451


1- قاعدة فقهية شهيرة، مستنبطة من الحديث الشريف لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «على اليد ما أخذت حتى تؤدي». نهج الحق وكشف الصدق: 456، أي: أن كل من استولى على مال غيره ووقع تحت يده كان ضامناً له، تلف عنده أو عند غيره. للمزيد راجع القواعد الفقهية للإمام الشيرازي(رحمه الله) الفصل الأول قاعدة اليد، ضمان اليد.
2- المراد منه: أن كل عقد يوجب الضمان في فرض الصحة يكون كذلك في فرض الفساد، والمراد منه هو الذي يتعلق بالمعاملة المادية، وهي قاعدة استقرائية حصلت في باب العقود التي تنبثق منها القاعدة، ووجد الفقهاء أن كل عقد مثل البيع والجعالة وغيرهما، الذي يحقق الضمان في صحيحه يتحقق الضمان في فاسده، ولكل من الموارد دليل خاص مذكور في محله.

الفقهية المهمة، كان يدقق النظر فيها ويقلب وجوه النظر والرأي حتى ينتهي إلى النتيجة قبولاً أو رداً، بتحقيق ودقة، وبلا تسرع وملل؛ ولذا نجد أن كتابيه (الرسائل) في الأصول و(المكاسب) في فقه التجارة، أصبحا من أهم المحاور التي تدور حولها الدراسة الدينية في الحوزات العلمية، بسبب نضج مؤلفها وضلوعه في العلم، وقوته في التدقيق والتحقيق، وشمولها لأدق الآراء وأعمقها في هذين العلمين.

نظرة إلى التاريخ العباسي

كان هارون العباسي أحد سلاطين بني العباس، وللأسف يعتبره بعض الغربيين الملك الأكبر للبلاد الإسلامية، حيث جعلوا منه شخصية عالمية مهمة؛ تشويهاً للإسلام. ولو لا وجود الحوزة العلمية في إيران لسرى ذلك التشويه حتى إلى إيران أيضاً في تقديس هذا السلطان الظالم، كما نواجه ذلك في صلاح الدين الأيوبي حيث يقدسه البعض مع ما ارتكب من الجرائم الكبيرة في حق الإسلام والمسلمين.

يذكر أنه في إحدى السنين عزل هارون واليه على خراسان (الفضل بن يحيى البرمكي)(1) ونصب مكانه (علي بن ماهان) وكان ابن ماهان رجلاً متملقاً وظالماًوقاسي القلب؛ ولذلك كان يمعن في أخذ الضرائب والأموال من الناس، ويجحف في ذلك كثيراً ويرسلها إلى بغداد محملة على آلاف النياق.

ص: 452


1- أبو العباس الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك (147-193) أخو هارون من الرضاعة، قلده هارون العباسي الوزارة وتولى خراسان، والبرامكة أسرة عريقة من بلخ ينتسبون إلى جدهم برمك الذي كان عالماً في الطب والتنجيم. وقد تقلدت هذه الأسرة منصب الوزارة للعباسيين فترة طويلة وكان لهم دوراً بارزاً في سياسة الدولة العباسية. وإن أول من اتصل من البرامكة بالعباسيين هو خالد بن برمك، الذي عرف بحصافة الرأي وشدة البأس، ولما تسلم الحكم هارون العباسي، بوأ البرامكة مكانة رفيعة حيث أوكل لهم الوزارة، وفي سنة (189ه) تبدل طالعهم وأفل نجم ونزلت بهم النكبة التي عرفت بنكبة البرامكة، فقتل أغلب رجالهم وسجن الباقين حتى ماتوا في السجون، وصودرت أموالهم. انظر: تتمة منتهى الآمال للشيخ عباس القمي.

وذات يوم قال هارون ليحيى وهو أبو جعفر البرمكي سائلاً: أين كانت تذهب هذه الأموال في زمن ولاية ابنك على خراسان، ولم يكن يبعثها إلى بغداد؟

وكان هارون يريد بقوله هذا أن يشير إلى عدم أهلية الفضل البرمكي وكفاءته في الولاية؟!

فقال له يحيى: سوف يأتي يوم تضطر إلى صرف عشرة أضعاف هذه الأموال التي بعثها إليك (علي بن ماهان) من خراسان لتعيد سلطانك على أهلها وتخضعها لحكمك، ومع ذلك لا يعود الأمر إلى ما كان عليه أولاً! وكان يحيى صادقا في كلامه هذا وذلك لكثرة توغله في القضايا السياسية، وكانت رؤيته هذه نتيجة نضجه السياسي.

وهكذا صار الأمر حيث ثار أهل خراسان ضد ظلم وإجحاف (علي بن ماهان)، مما اضطر هارون إلى تعبئة جيش كامل من أجل السيطرة على تلك الثورة الناشبة في خراسان وإخمادها، وقاد بنفسه ذلك الجيش وقد مرض في أثناء ذلك ومات هناك ودفن بخراسان، بعدما صرف أضعاف أضعاف ما أخذه (علي بن ماهان) من أهل خراسان!!

والانتهاء إلى هذه النتيجة كان واضحاً؛ لأن الحاكم الذي يضغط على الناس ويكرههم على دفع الضرائب والأموال يخرج حبه من قلوب الناس، ويفقدمكانته عندهم، الأمر الذي يعجل في سقوطه.

نضج الميرزا الشيرازي(رحمه الله)

ينقل المرحوم السيد علي شبر(رحمه الله) بأنه أرسل مجموعة من العلماء رسالة إلى الميرزا الشيرازي(رحمه الله) في العراق تنص على أن وكيل الميرزا في المكان الفلاني، أصبح متبطراً معتنياً بالأمور الدنيوية والمادية، وهو لا يليق بأن يكون وكيلاً عن

ص: 453

المرجع الأعلى للطائفة، فطلبوا من الميرزا عزله عن هذا المنصب الحساس.

ولكن الميرزا تأنى في قراره وتصبر في اتخاذ الموقف، حتى فاتحه بعض علماء سامراء المقدسة بهذا الشأن وطلبوا منه بيان وجه توقف الميرزا في عزل هذا الوكيل؟

فأجابهم الميرزا: بأن هذا الوكيل كانت له - قبل أن يكون وكيلنا - شخصية اجتماعية بين الناس بدرجة خمسين بالمائة مثلاً، وعندما أصبح وكيلاً عني بلغت شخصيته الاجتماعية مائة بالمائة، ولو عزلته عن الوكالة فأكون سبباً لذهاب كل شخصيته وسقوطه اجتماعياً، ولا يجوز لي أن آخذ نصف شخصيته التي كانت له قبل الوكالة، وإنني الآن في تفكير متواصل لأجد طريقة جيدة عن كيفية استرجاع النصف المكمل لشخصيته فقط من دون المس بنصفه الأول!!

نعم، بهذه الخصائص النبيلة تمكن علماؤنا من قيادة الناس وإنقاذهم من الاستعمار في أيام المحن والآلام، والحفاظ على الإسلام في كل عصر(1).

والمسلمون إذا أوجدوا في أنفسهم البصيرة وبلغوا مرتبة سامية من النضج فيالعلم والعمل، سوف يتمكنون من نشر الإسلام وتطبيقه في العالم، وعند ذلك يدخل الناس في دين اللّه أفواجاً أفواجا، وتعود للمسلمين سيادتهم وعزتهم التي كانت لهم في الصدر الأول بإذن اللّه تعالى.

كان المجدد الشيرازي(رحمه الله) من كبار العلماء الناضجين، ويتبين ذلك من خلال مواقفه الحكيمة في قصة التبغ (التنباك)، وقصة يهود همدان، وقصة شراء أراضي طوس من قبل الروس، وقصة إنقاذ شيعة أفغانستان حيث قام السلطان

ص: 454


1- كما أن من أهم الأسباب التي جعلت العالم الغربي اليوم يتقدم ويحكم الدنيا هو بعض ما امتلك من النضج العلمي والعملي الذي يتمتعون به وإن كان لأهدافهم الدنيوية!!

المخالف المتعصب بذبحهم حتى جعل منائر من رؤوسهم.

وعندما هاجر الميرزا الكبير إلى سامراء المقدسة انتقلت الحوزة العلمية إليها وتجمع فيها العلماء والفضلاء وانتشرت تعاليم أهل البيت(عليهم السلام) وقوي أتباعهم وشيعتهم.

أسس مدرستين علميتين في سامراء، وبنى جسراً على شط سامراء، وبنى حمامين للمدينة للرجال وللنساء، قام بترميم روضة العسكريين(عليهما السلام) المطهرة، بنى سوقاً كبيراً للمدينة، وبنى حسينية لإقامة مجالس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام) فيها، بنى دوراً كثيرة للفقراء، وكان ينفق حتى على فقراء السنة، في عام 1311ه قام بعض أيادي الاستعمار بإشعال نار الفتنة بين الشيعة والسنة، فقام الميرزا بإخماد تلك النيران بنضجه وحكمته ودرايته، فلما أراد الوالي العثماني ببغداد والقنصلية البريطانية التدخل فيها أخبرهم بأن المسألة بسيطة وسنقوم بحلها ولا حاجة لتدخلهم فيها.

الهجمات الاستعمارية

إن العالم الغربي والشرقي المعادي للإسلام يشن في هذا اليوم هجمات دعائية كاذبة ضد الإسلام والمسلمين، ويتهمهم بأنهم أمة متأخرة تنشر التفرقة والحرب والانحطاط أينما حلت، وقد نجح في تشويه صورة الأمة إلى حد كبيربحيث أصبح العالم - بعضه - لا يقيم للإسلام والمسلمين قيمة أو أهمية، وهذا بسبب قلة الوعي والنضج والحكمة التي أصبحت في المسلمين، فعلينا أن نزيح عن أفكار العالم هذه النظرة الخاطئة بنشر الموازين العلمية والتقدمية والأحكام الإلهية المنسجمة مع الفطرة الإنسانية في العالم.

وهذا ليس بالأمر الهيّن والسهل الممكن إلّا بالعمل بموازين الإسلام، وإيجاد النضج الكامل والوعي التام في أنفسنا لنصل إلى درجة نكون فيها قادرين على

ص: 455

هداية العالم أجمع، ونشر العدل والرفاه والصلاح والاستقرار في كل البقاع والأرجاء.

قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1).

نور المؤمنين في القيامة

جاء في الآيات الكريمة والروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) أن المؤمن يأتي يوم القيامة وتشع جبهته نوراً، وهو يحمل في يده اليمنى صحيفة أعماله الصالحة فرحاً ومستبشراً، كما أنه ينظر بنوره هذا إلى مسافات تختلف بحسبه(2) وذلك حسب أعماله الصالحة في الدنيا. فمنهم من يكون نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه، ومنهم من يكون نوره كشجرة، ومنهم من يكون نوره مثل راية بيده، ومنهم من يعطى أصغر من ذلك، وبعض لا يعطى إلّا على إبهام قدميه يضيء مرة ويطفأ أخرى.

قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِم}(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما المؤمنون يوم القيامة نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم حتى ينزلوا منازلهم من الجنان»(4).

وفي تفسير القمي: يقسم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم، يقسم للمنافق فيكون نوره بين إبهام رجله اليسرى فينظر نوره، ثم يقول للمؤمنين: مكانكم حتى أقتبس من نوركم فيقول المؤمنون لهم: {ارْجِعُواْ وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ

ص: 456


1- سورة التوبة، الآية: 33.
2- أي بحسب النور وشدته وضعفه.
3- سورة الحديد، الآية: 12.
4- تفسير نور الثقلين 3: 612.

نُورًا}(1) فيرجعون ويضرب بينهم بسور له باب فينادون من وراء السور المؤمنين {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ}(2)، قال: بالمعاصي {وَارْتَبْتُمْ} قال: أي شككتم...(3).

فالعمر قصير جداً والإنسان في كل آن معرض لزيارة ملك الموت له لأخذ روحه ونقله إلى عالم الأموات {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسُ بِأَيِّ أَرْضٖ تَمُوتُ}(4).

لذا على الإنسان أن يجمع ذرات النور ليوم الآخرة ما أمكنه، بواسطة الطاعات والأعمال الصالحة، ومن أهم الطاعات التي سعى إليها الأنبياء والنبي الأعظم والأئمة الطاهرون(عليهم السلام) هو نشر أحكام اللّه وتطبيق أحكام الإسلام، فلذا علينا أن نجعل معظم جهودنا في هذه الطاعة المهمة، ونهيئ لأنفسنا النضج الكامل حتىنستطيع أن نؤدي واجباتتنا ومسؤولياتنا على أتم صورة وأحسن وجه لكي ننجح في إصابة الأعمال الحسنة وحتى لا نكون مسيئين من حيث نتصور أننا محسنين.

كما قال اللّه تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(5).

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية، وصدق النية وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدد ألسنتنا بالصواب والحكمة، وأملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وطهر بطوننا من الحرام والشبهة، واكفف أيدينا عن الظلم

ص: 457


1- سورة الحديد، الآية: 13.
2- سورة الحديد، الآية: 14.
3- تفسير القمي 2: 351.
4- سورة لقمان، الآية: 34.
5- سورة الكهف، الآية: 103-104.

والسرقة، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدد أسماعنا عن اللّهو والغيبة، وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

النضج الفكري والحرية

قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(3).

النضج وعواقب الأمور

قال سبحانه: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّارَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(5).

نور المؤمن في القيامة

قال عزّ وجلّ: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِ}(6).

ص: 458


1- المصباح للكفعمي: 280.
2- سورة الزمر، الآية: 17-18.
3- سورة البقرة، الآية: 256.
4- سورة الرعد، الآية: 22.
5- سورة الأعراف، الآية: 128.
6- سورة الزمر، الآية: 22.

وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}(1).

وقال سبحانه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}(2).

وقال جلّ وعلا: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}(3).

المؤمن وقور

قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ}(5).

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

النضج الفكري والحرية

وفي حديث المعراج قال تعالى لحبيبه المصطفى(صلی الله عليه وآله وسلم): «يا أحمد! استعمل عقلك قبل أن يذهب فمن استعمل عقله لا يخطئ ولا يطغى»(7).

وقال الإمام الجواد(عليه السلام): «الرأي مع الأناة، وبئس الظهير الرأي الفطير»(8)(9).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما يهلك الناس لأنهم لايسألون»(10).

ص: 459


1- سورة النور، الآية: 40.
2- سورة الأنعام، الآية: 122.
3- سورة الحديد، الآية: 28.
4- سورة الفرقان، الآية: 63.
5- سورة لقمان، الآية: 19.
6- سورة الفتح، الآية: 4.
7- إرشاد القلوب 1: 205.
8- الفطير: كل ما أعجل عن إدراكه، أي البديهي.
9- كشف الغمة 2: 349.
10- الكافي 1: 40.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ»(1).

النضج وعواقب الأمور

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته فإن يك خيراً أو رشداً اتبعته وإن يك شرا أو غياً تركته»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لولده الحسين(عليه السلام): «من تورط في الأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرض للنوائب، التدبير قبل العمل يؤمنك الندم»(3).

وقال(عليه السلام): «الفكر في العواقب ينجي من المعاطب»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قف عند كل أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه قبل أن تقع فيه فتندم»(5).

وفي ما أوصى آدم(عليه السلام) إلى ابنه شيث: «إذا عزمتم على أمر فانظروا إلى عواقبهفإني لو نظرت في عاقبة أمري لم يصبني ما أصابني»(6).

المؤمن وقور

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أحسن زينة الرجل السكينة مع الإيمان»(7).

عن الحلبي قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): أي الخصال بالمرء أجمل؟ فقال: «وقار بلا مهابة، وسماح بلا طلب مكافأة، وتشاغل بغير متاع الدنيا»(8).

ص: 460


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 173.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 410.
3- تحف العقول: 90.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 78.
5- تحف العقول: 304.
6- بحار الأنوار 75: 452.
7- الأمالي للشيخ الصدوق: 488.
8- الكافي 2: 240.
نور المؤمن في القيامة

قال الإمام السجاد(عليه السلام) في الدعاء: «اللّهم وما أجريت علي ألسنتنا من نور البيان وإيضاح البرهان فاجعله نوراً لنا في قبورنا ومبعثنا ومحيانا ومماتنا»(1).

النضج والتعلم في الشباب

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من تعلم العلم في شبابه كان بمنزلة النقش في الحجر ومن تعلمه وهو كبير كان بمنزلة الكتاب على وجه الماء»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «لو أتيت بشاب من شبّاب الشيعة لا يتفقه لأدبته».

وفي حديث قال(عليه السلام): «لأوجعته»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لست أحب أن أرى الشاب منكم إلّا غادياً في حالين: إما عالماً أو متعلما،ً فإن لم يفعل فرط، فإن فرط ضيع، وإن ضيع أثم، وإن أثم سكن النار، والذي بعث محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) بالحق»(4).

ص: 461


1- بحار الأنوار 91: 126.
2- دعائم الإسلام 1: 82.
3- المحاسن 1: 228.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 303.

النضج وسمو النفس

اشارة

النضج وسمو النفس(1)

ضبط النفس

اشارة

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام): «مرّ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بقوم يرفعون حجراً، فقال: ما هذا؟ قالوا: نعرف بذاك أشدنا وأقوانا، فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): ألّا أخبركم بأشدكم وأقواكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: أشدكم وأقواكم الذي إذا رضى لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له بحق»(3).

وعي الإنسان ونضجه وعقلانية تصرفاته من المسائل الصعبة غاية الصعوبة - في الدنيا - مهما كان مجال الإنسان وتخصصه تاجراً كان أو إدارياً أو طالباً، ولأن النضج والفهم والنظرة العميقة للأمور عمل صعب، فإن تحصيلها لا يتم إلّا عن طريق المشقة وبذل الجهد والمواصلة في الفحص وكسب التجارب، ولعل أول الطرق إلى ذلك هو ضبط النفس والسيطرة عليها والوصول بها إلى درجات الكمال، وقد أشار اللّه تعالى إلى ذلك بقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ

ص: 462


1- ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ: 17 / صفر / 1407ه- .
2- سورة المائدة، الآية: 105.
3- معاني الأخبار: 366.

أَنفُسَكُمْ لَايَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1) لكن اللّه سبحانه يأمرنا أن لا نترك سبيل الهداية، وأن نحفظ أنفسنا ولا نتأثر بمن ضل من الناس، لأنه عزّ وجلّ هو المرجع النهائي للجميع.

فعندما بيّن سبحانه أحوال الكفار وأنهم ضالون أمر المسلمين باتباع الحق، وأنهم لا يضرهم ضلال من ضل. حينما كانوا هم مهتدين {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ} هو اسم فعل بمعنى الزم واحفظ، أي احفظوا {أَنفُسَكُمْ} عن الضلال والانحراف {لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ} من الناس {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} أي: إذا كنتم مهتدين، ومن المعلوم إن من شروط الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرشاد وسائر الواجبات التي هي من هذا القبيل(2).

فعلى الإنسان المؤمن أن يسلك الطريق الصحيح بصبر واستقامة وضبط لميول النفس، ولا تزحزحه أو تغره الحياة التي يعيشها الناس الضالّون؛ قال تعالى: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(3).

وإن ضبط النفس - هنا - أخص من كبر النفس. وهو ملكة التحمل في خوض الأهوال، وقوة المقاومة مع الشدائد والآلام بحيث لا يعتريه إنكسار، وإن زادت وكثرت الأهوال والشدائد، ولا سيما في الأمور الإيمانية والاعتقادية، بحيث لا يتزلزل بالشبهات والتشكيكات. وهذا الاطمئنان من شرائط كسب الكمال وفضائل الأعمال، إذ ما لم تستقر النفس على معتقداتها في المبدأ والمعاد لم يحصل لها العزم البالغ على تحصيل ما تتوقف فائدته عليهما، من الاهتمام

ص: 463


1- سورة المائدة، الآية: 105.
2- تفسير تقريب القرآن 2: 28.
3- سورة المائدة، الآية: 100.

والعمل بالأمور الحسنة، وتجنب الأمور القبيحة. وهذه الفائدة ستعطي المجتمع الإسلامي النضج والوعي والإيمان. وتسلك به طريق الهداية.

أما الضد: فسيدخله في المتاهات والحيرة. ولا أقل من الخمول في الهمة وعدم الغيرة والحمية على الدين وسوء الظن والغضب في كل الأعمال. فقد قال الإمام الباقر أبو جعفر(عليه السلام): «من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه حشى اللّه قلبه أمنا وإيماناً يوم القيامة - قال - ومن ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا غضب حرَّم اللّه جسده على النار»(1).

تنازع من أجل مائة دينار

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض عمّا تبذل من نفسك عوضاً»(2).

وقال(عليه السلام): «عوّد نفسك فعل المكارم وتحمل أعباء المغارم تشرف نفسك وتعمر آخرتك ويكثر حامدوك»(3).

في إحدى مدن العراق، تنازع شخصان من الوجهاء وأهل المكانة المعروفين لدى الناس على مائة دينار! وتشاجرا للحد الذي كتبت إحدى الجرائد عن هذا الموضوع ونشرته في صفحتها الأولى، فوضعت صورة هذين الشخصين تتوسطها صورة الدينار وكتبت تحت الصورتين - تعليقاً - إن هذين الشخصين يريدان أن يصيرا زعيمين للبلاد في المستقبل.

وهذه القصة تكشف عن مدى دناءة الهمة وضعف النفس لدى البعض،وقصوره عن طلب المعالي من الأمور والقناعة، وهذه إحدى نتائج ضعف النفس

ص: 464


1- تفسير القمي 2: 277.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) لإبنه الإمام الحسن(عليه السلام).
3- عيون الحكم والمواعظ: 341.

وصغرها التي أشرنا إليها، وهي ضد ضبط النفس الناتج عن قلة النضج والوعي عند من يتحمل كهذه المسؤولية والمقام.

النضج والحكمة
اشارة

ومن العوامل التي تقع في طريق تحصيل النضج والحكمة:

أولاً: النفس منطقة الخطر
كيف نتصرف بحكمة، ونكتسب التعقل ونلتزم جانب الإنصاف؟

لا شك في أن ذلك أمر لا يُدرك إلّا بشق الأنفس، وطالما قصرت - وما زالت تقصر - دونه رغبات الناس، وطموحات الرجال. ذلك لأن أول المحكات فيه محك النفس، وهي نقطة الضعف ومكمن الخطر. ونحن لا نريد بذلك أن نلغي العوامل الأخرى الهامة من قبل تحصيل المعارف واكتساب التجارب، وتحمل الصعوبات في ذلك، غير أن أول الطرق إلى ذلك - في ما نرى - هو ضبط النفس الأمّارة بالسوء، والسيطرة على ضعفها، للوصول بها إلى درجات الكمال. والآية الكريمة التي ذكرناها آنفاً(1) إشارة واضحة إلى ذلك.

إذ أن نفس الإنسان ميالة للدعة، والهروب من المسؤولية، سريعة الرضا بالمستوى المتوافر، كثيرة التبرير للهفوات والتراجعات! فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إياكم وغلبة الدنيا على أنفسكم فإن عاجلها نغصة وآجلها غصة»(2).

وقال(عليه السلام): «ألّا إنه ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنة فلا تبيعوها إلّا بها»(3).

ص: 465


1- سورة المائدة، الآية: 105.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 175.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 177.
ثانياً: عامل الصبر

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزموا الصبر فإنه دعامة الإيمان وملاك الأمور»(1).

في علم الأخلاق هناك وصيتان:

1- إن الإنسان إذا حصل على الفضائل، وغرق فيها، فعليه أن لا يخبر أحداً بذلك.

2- لو تعرض الإنسان إلى المشاكل، وغرق فيها، فعليه أن لا يخبر بذلك أحداً. فإن الإنسان الذي يشتكي عند الناس من مشاكله دائماً أو يتباهى أو يشير إلى بعض فضائله ومزاياه، فذلك الإنسان ليس لديه بعد نظر ولا نضج؛ لأن مدح النفس يؤدي إلى سقوط الإنسان من أنظار الناس في المجتمع فإن «من مدح نفسه فقد ذبحها»(2) وكذلك فإن إظهار المعاناة والشكوى للناس هي من الأمور التي يتشفى بها الأعداء، ويحزن لها الأصدقاء، وإن كلا العملين دليل على عدم النضج والوعي في بعض الأحيان.

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «علامة الصابر في ثلاث أولها: أن لا يكسل، والثانية أن لا يضجر، والثالثة أن لا يشكو من ربه تعالى، لأنه إذا كسل فقد ضيع الحق وإذا ضجر لم يؤد الشكر وإذا شكا من ربه عزّ وجلّ فقد عصاه»(3).

وقال الإمام علي(عليه السلام): «خير الناس من إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا ظلم غفر»(4).

ص: 466


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 155.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 661.
3- علل الشرائع 2: 498.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 358.
ثالثاً: عامل العلم والتجربة
اشارة

ومن بعد عامل النفس والصبر يأتي عامل العلم والخبرة، ذلك لأن من يريد أن يحصل على النضج والوعي الكافي عليه أن يتسلح بالعلم، فالجاهل لا يمكن أن يكون واعياً وناضجاً أبداً فإن «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1).

وقال زين العابدين(عليه السلام): «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج»(2).

نضج ووعي السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله)

ينقل أحد رؤساء العشائر في العراق: إن أحد الخطباء من طلبة الحوزة جاء إلى منطقتهم لغرض التبليغ، وتحدث لهم لمدة عشر ليال عن الخمس والزكاة ووجوبهما وتحدث أيضاً في مواضيع أخرى، وعندما أراد الذهاب بعد ذلك والعودة إلى النجف الأشرف - يقول رئيس العشيرة - طلبت منه أن يتسلم خمس أموالي، وقد بلغ خمسة آلاف دينار وأعطيته المبلغ ليوصله إلى السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله) وبعد أن ودعناه، جئت وأخبرت أصدقائي عمّا جرى، فلاموني وقالوا لي: كيف حصل لك الاطمئنان به فأعطيته ذلك المبلغ الضخم؟ فمن الممكن أن لا يوصل المبلغ إلى السيد، وما عليك الآن إلّا أن تذهب إلى النجف وتخبر السيد بالموضوع وفعلت ذلك، فوصلت إلى السيد الأصفهاني(رحمه الله) بينصلاتي المغرب والعشاء، وطلبت منه أن يعطيني وصلاً بمبلغ خمسة آلاف دينار عن الخمس، بعدما شرحت له ما حدث تفصيلاً إلّا أن السيد ودون أن يبحث أو يسأل عن شخصية الطالب، أو أن يعلمني بعدم وصول المبلغ إليه، أعطاني وصلاً

ص: 467


1- كنز الفوائد 2: 107.
2- الكافي 1: 35.

عن المبلغ، فأطمئن قلبي، ورجعت لأقول لأصدقائي: إن النقود قد أوصلها الخطيب إلى السيد(رحمه الله) وهذا هو وصل الاستلام - وعلمت في ما بعد أن ذلك الخطيب لم يصل بعد إلى النجف، وأن المبلغ لم يصل إليه أيضاً - .

وبعد أن وصل الخطيب إلى النجف في وقت متأخر من الليل بعد جهد كبير تحمله من عناء السفر، ذهب إلى السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله) في اليوم الآخر وسلمه المبلغ، وكان من قصده أن يأخذ من السيد وصلاً عن المبلغ ليعود به إلي، غير أن السيد أخبره بالموضوع مفصلاً، ثم قال له: إني أردت بذلك حفظ ماء وجهك كطالب لعلوم الدين، وماء وجهي بل ماء وجه كل أهل العلم.

إن هذا العمل إن دل على شيء فإنما يدل على نضج ووعي السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله) نتيجة بعد النظر وعلو الهمة، المستحصلة من السعي في تحصيل الكمال، وطلب معالي الأمور من دون ملاحظة لمنافع الدنيا، والحفاظ على مكانة العلم وطلبته.

النضج اللازم في العمل

يُذكر أن فريقاً من مهندسي المباني، قرروا تشييد بناية مجهزة وواسعة، تتسع لمئات الأشخاص.

وبدءوا بالعمل ولكنهم قبل أن ينتهوا من البناء، ونظراً لعدم تناسب وزن السقف مع البناء الذي تحته، انهارت البناية على سبعين عاملاً كانوا تحتها، فماتوا تحت الأنقاض.

في حين أن المهندسين كانوا من ذوي الاختصاص، ولا يمكن أن نقول: إنهم لم يعرفوا العلوم الهندسية.

لكن مع ذلك انهار بناؤهم لأنهم لم يكونوا بدرجة من النضج والتجربة في عملهم. لأن العلم حتى يؤدي نتائجه المطلوبة، لا بد أن يخلط بالنضج

ص: 468

والتجربة، ومعرفة الأمور الفيزيائية، التي قد تخفى على الجدد من المهندسين؛ ولذا وباستمرار نسمع عن انهيار الأبنية، نتيجة الخطأ في التخطيط، أو في عدم اعتبار العوامل المؤثرة على ديمومة استقرار البناء أو لمصلحة ذاتية عند القائم بالبناء نتيجة الخسة في النفس، كالطمع في المال الكثير، الذي يسبب عدم منح البناء المقدار الكافي من المواد، مما يسبب بالنتيجة عدم رصانة البناء واستقراره لمدة طويلة، وبالتالي انهياره وربما يموت المئات من الأبرياء تحته.

شيخ الطائفة(رحمه الله)

يعد شيخ الطائفة من أكبر الشخصيات النادرة في زمانه؛ لأنه كتب الفقه بشكل بديع، بحيث نجد وبعد مرور ألف سنة لا يزال العلماء وطلاب العلوم الدينية يستفيدون منه، وكذلك يُعدّ تفسيره (التبيان) أحد مصادر التفسير الأساسية للقرآن، مع كل هذا فقد أشكل أحد العلماء على كتابات شيخ الطائفة(رحمه الله)، حيث كان له رأي حول استنباط الشيخ الطوسي(رحمه الله) وادعى أن الشيخ قد بيّن مسألة في التهذيب وخالفها في تفسيره، فقلت له: إذا كان حديث الشيخ مخالفاً لما كتبه في التهذيب فليس هذا لعدم استنباطه لتلك المسألة، بل أحياناً لقوة الاستنباط عنده في ذلك، لأن الاجتهادات المختلفة قد تكون دليلاً على أن الإنسان صاحب الرأي يتمتع بذهن دفّاق وفكر وقّاد، فإن الفكر الوقاد يفيض على صاحبه في كل يوم رأياً جديداً، وقد أشار الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى ذلكبقوله: «من أكثر الفكر في ما تعلم أتقن علمه وفهم ما لم يكن يفهم»(1).

وقال(عليه السلام): «الفكر يوجب الاعتبار ويؤمن العثار ويثمر الاستظهار»(2).

ص: 469


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 647.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 121.

ولأن العلوم العقائدية تعتمد على التفكير والتأمّل وسعة الاطلاع بحيث يجمع بين الأدلة والآراء، فالإنسان كلما بلغ مرتبة من مراتب العلم فإن تفكيره ينضج أكثر، ويساعد على ثبات النفس في آراءه، فتراه بعد نضجه يأتي بآراء أكثر وعياً وصواباً، والشيخ لكونه في حالة التدرج والصعود في مراتب العلم فالجهل بشيء قبل بلوغه وبعده لا يعتبر تناقضاً، بل هي حالة من حالات كمال النفس وترقيها إلى الأفضل في الاجتهادات.

رابعاً: العبادة والتوسّل
اشارة

لأن ما يصيبنا من خير هو من عند اللّه تعالى، ولأن لحظة ابتعاد واحدة عن اللطف الإلهي تعني التيه والضياع، ولأن الاستمداد منه يعني الارتباط بالمدد الذي لا ينقطع، وبالقدرة المطلقة التي تتلاشى دونها القدرات من جميع الجهات؛ لذلك كان لعباد اللّه المقدسين طريقهم الخاص للوصول إلى الحقائق وبلوغ المراتب العالية، من العلم باللّه، والعمل في سبيل طاعته وعبوديته. وفي الحقيقة: فإن أكثر الأخطاء والعثرات وأوخمها عاقبة عادة ما تنشأ إما من الخوف من خطر دنيوي أو من رغبة في راحة أو متاع زائلين، ومع الارتباط باللّه تعالى، لا يبقى لمثل هذا وذاك مجال فإن «من خاف اللّه أخاف اللّه منه كل شيء»(1) كماورد في الحديث الشريف، وفي قوله تعالى: {إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}(2)، والفرقان هو الهداية والنور في القلوب للتفريق بين الحق والباطل أو الفتح والنصر أو العزّ في الدنيا والثواب في الآخرة(3).

ص: 470


1- الكافي 2: 68.
2- سورة الأنفال، الآية: 29.
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 456.
خدمة الناس

خدمة الناس مظهر من مظاهر الحكمة والاتزان، فبعد أن يتمتع الإنسان بالصفات المتقدمة التي تكسبه الحكمة والنضج، تظهر على سلوك الإنسان وتصرفاته فوائد عديدة منها مساعدة الناس وخدمتهم وعادةً هؤلاء ينالون درجات رفيعة.

لقد تابعت - في فترة من الزمن - تواريخ وقصص بعض الأخيار لأتعرف على بعض الناس الذين وفقوا لرؤية الإمام الحجة(عليه السلام)؛ ولذلك سألت من أحد أصدقائنا المقدسين وكان في أكثر حالاته خاشعاً متبتلاً إلى اللّه تعالى ويحظى بمعنويات عالية، فقلت له: هل تعرف أحداً تشرف برؤية الإمام(عليه السلام)؟ وبعد الإصرار عليه ذكر هذه القصة: قال: لقد ذهبت مرة لزيارة الإمام الرضا(عليه السلام) وبعد أن انتهيت من صلاة المغرب والعشاء قررت الذهاب إلى إحدى القرى التي كان لي فيها عشيرة وأقارب، ولكني تذكرت بعد ذلك إنّ امرأة من أقاربي تسكن حالياً في مدينة مشهد المقدسة فقررت زيارتها، فلما وصلت إليها ليلاً رأيتها قد اصفرَّ لونها وبان عليها التعب الشديد، وبعد أن سلمت عليها سألتها وتفقدت أحوالها وسألت عمّا ظهر بها من التعب والإرهاق، فقالت: إن لي طفل رضيع أقوم بتربيته، وإن ابنتي كذلك قد ولدت طفلين (توأم)؛ لذا فإني لا أستطيع النوم فيالليل منذ عدة أيام حيث أسهر على مراعاتهم، يقول: ففكرت أن أبقى عندها هذه الليلة وأقوم بمساعدتها برعاية الأطفال؛ لكي تستريح هذه المرأة وتنام ليلتها، فأحضرت للأطفال الحليب ووضعته في قنينة الرضاعة، وطلبت من تلك المرأة أن تذهب وتستريح هذه الليلة، وقد استطعت حتى نصف الليل أن أقوم برعاية وتسكين الأطفال، لكن بعد ذلك استيقظ الأطفال الثلاثة من النوم وبدءوا بالبكاء ولم أتمكن من تهدئتهم، فاضطررت أن أنادي أمهم لأسألها عن سبب بكاءهم؟

ص: 471

قالت: يجب أن نغيّر لهم ثيابهم الداخلية ولكني الآن لا أملك ملابس ناشفة(1) حتى نغيرها.

فقررت أن أقسَّم عباءتي عدة أقسام واستخدمها لهذا الغرض، وفعلاً عملت ذلك وغيرنا ملابسهم فنام الأطفال وذهبت المرأة إلى مكانها لتستريح ثانية، وفي الصباح ودعتهم وذهبت متوجهاً إلى تلك القرية التي يسكنها أقاربي، وكان الطريق يمر عبر بساتين ومزارع، وفي الطريق اعترضتني مجموعة من الكلاب المسعورة واتجهت كلها نحوي لتنهشني، ففزعت جداً واعتراني الخوف الشديد، وبينا أنا كذلك ظهر من جهة البستان رجل فأشار إلى تلك الكلاب فوقفت وسكتت!! ثم قال لي: إن الشخص الذي لا ينام حتى الصباح ليحصل على رضا اللّه ويقوم بمراعاة الأطفال الرضع محفوظ من كل سوء. وما أن أكمل هذا الكلام حتى غاب من عيني ولا أدري أصعد إلى السماء أم نزل في الأرض!!

فعرفت عند ذلك أن هذا الشخص - الذي خرج لي ساعة الشدة فجأة وأشار إلى تلك الكلاب المسعورة وأسكتها، وفي نفس الوقت كان يعرف خبر رعايتي للأطفالالتي لا يعملها إلّا اللّه وأمهم وأنا - كان سيدي ومولاي صاحب الزمان(عليه السلام).

نعم، هكذا شخص يحمل هذه النفس الكبيرة والمعرفة بثواب اللّه وأجره ويقوم برعاية أطفال رضع ولا ينام حتى الصباح؛ لكي يُرضي اللّه تعالى بمساعدة تلك المرأة وأطفالها، هكذا إنسان يسبغ عليه اللّه سبحانه عنايته الخاصة ولطفه، وقال عزّ من قائل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}(2).

ص: 472


1- المقصود منها قطع من القماش تستخدم كحفاظات للأطفال للاستعمال المتكرر.
2- سورة آل عمران، الآية: 195.
زيارة مسجد السهلة

ورد في كتاب البحار: أن رجلاً صادق اللّهجة كان حلاقاً، وله أب كبير مسن وهو لا يقصرّ في خدمته، حتى أنه يحمل له الإبريق إلى الخلاء، ويقف ينتظره حتى يخرج فيأخذه منه، ولا يفارق خدمته إلّا ليلة الأربعاء؛ فإنه يمضي إلى مسجد السهلة، ثم ترك الروّاح إلى المسجد! فسئل عن سبب ذلك، فقال: خرجت أربعين أربعاء فلما كانت الأخيرة لم يتيسر لي أن أخرج إلى قريب المغرب فمشيت وحدي وصار الليل، وبقيت أمشي حتى بقي ثلث الطريق، وكانت الليلة مقمرة. فرأيت أعرابياً على فرس قد قصدني فقلت في نفسي هذا سيسلبني ثيابي، فلما انتهى إلي كلمني بلسان البدو من العرب، وسألني عن مقصدي، فقلت: مسجد السهلة، فقال: معك شيء من المأكول؟

فقلت: لا. فقال: ادخل يدك في جيبك - هذا نقل بالمعنى وأما اللفظ دورك يدك لجيبك - ، فقلت: ليس فيه شيء، فكرر عليّ القول بزجر حتى أدخلت يدي في جيبي، فوجدت فيه زبيباً كنت اشتريته لطفل عندي، ونسيته فبقي في جيبي.

ثم قال الأعرابي: أوصيك بالعود، أوصيك بالعود، أوصيك بالعود - والعود فيلسانهم اسم للأب المسن - ، ثم غاب عن بصري، فعلمت أنه المهدي(عليه السلام) وأنه لا يرضى بمفارقتي لأبي حتى في ليلة الأربعاء فلم أعد(1).

من سمات الناضجين

إن الأئمة(عليهم السلام) في كل عصر ومكان يوصون بخدمة الناس ورعاية الأهل القريب والبعيد؛ لأن رعاية وخدمة الناس من سمات الواعين الناضجين في هذه الحياة، لما فيها من دلالة على كمال النفس وسعتها، هذا فضلاً عن الفوز برضى

ص: 473


1- بحار الأنوار 53: 245.

اللّه تعالى ورسوله والأئمة الأطهار(عليهم السلام)، ولهذا نجد ذلك من أبرز سمات النبي والأئمة(عليهم السلام).

فعن أحد الصحابة أنه رأى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يوماً في شدة الحر في فناء حائط، فقال: يا أمير المؤمنين بهذه الساعة!؟

قال(عليه السلام): «ما خرجت إلّا لأعين مظلوماً أو أغيث ملهوفاً»(1).

وجاء في بحار الأنوار: أنه(عليه السلام) كان بشره دائم وثغره باسم غيث لمن رغب، وغياث لمن ذهب، مآل الآمال، وثمال الأرامل، يتعطف على رعيته، ويتصرف على مشيته ويكفه بحجته ويكفيه بمهجته.

وقال نظر علي(عليه السلام) إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ عنها القربة، فحملها إلى موضعها وسألها عن حالها، فقالت: بعث علي بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل وترك عليّ صبياناً يتامى وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس فانصرف(عليه السلام) وبات ليلته قلقاً فلما أصبح حمل زنبيلاً فيه طعام، فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك. فقال: «من يحمل وزري عني يومالقيامة»، فأتى وقرع الباب. فقالت: من هذا؟ قال: «أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، فافتحي فإن معي شيئاً للصبيان»، فقالت: رضي اللّه عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب، فدخل وقال: «إني أحببت اكتساب الثواب فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعلّلين الصبيان لأخبز أنا». فقالت: أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان فعلِّلهم حتى أفرغ من الخبز. قال: فعمدت إلى الدقيق فعجنته وعمد علي(عليه السلام) إلى اللحم فطبخه وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره... فلما اختمر العجين قالت: يا عبد اللّه، اسجر

ص: 474


1- الاختصاص: 157.

التنور فبادر لسجره...(1).

فإذا كان الأئمة(عليهم السلام) هكذا يقومون برعاية الناس وقضاء حوائجهم وهم القادة والأولياء في أمور العباد، فمن الأولى أن نهتم نحن أيضاً لهذا العمل الكبير؛ ولذا نجد أنهم يمنحون من يقوم برعاية أهله وإخوانه الاحترام والتقدير، ويحصل لذلك الإنسان لياقة برؤية الإمام الحجة(عليه السلام).

فكيف بمن يقوم برعاية جميع خلق اللّه تعالى وفيهم أولياء اللّه الصالحين؟ فإنه يستحق الثواب الجزيل والدرجات الرفيعة والكمال النفسي والقيادة وتوجيه الناس إلى ما فيه الخير والسعادة لتأسّيه بأهل البيت(عليهم السلام).

أبغض الناس

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) قال: من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2).أما الذين لا يصلون إلى هذه الدرجة من الاهتمام بالناس، فإنهم لا يتمتعون عادة بالنضج وكبر النفس؛ وبالنتيجة لا يحظى بتوفيق التأسّي والاقتداء بأهل البيت(عليهم السلام). وقد أشار إلى ذلك الإمام السجاد(عليه السلام) بقوله: «إن أبغض الناس إلى اللّه من يقتدي بسنة إمام ولا يقتدي بأعماله»(3).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «رحم اللّه عبداً حببنا إلى الناس ولا يبغِّضنا إليهم، أما واللّه لو يَرْوُون محاسن كلامنا لكانوا به أعزّ وما استطاع أحد أن يتعلق

ص: 475


1- بحار الأنوار 41: 51.
2- الكافي 2: 164.
3- الكافي 8: 234.

عليهم بشيء»(1).

ومن الواضح أن رعاية الناس تحتاج إلى ضبط النفس وعقل رزين والنضج والحكمة في العمل؛ حتى تحقق أهدافها وتعطي نتائجها من نيل مقام القرب عند أهل البيت(عليهم السلام) وغيره. فإن الإنسان الناضج الذي يرعى الناس يكون في راحة، ونفسه فرحة ومسرورة، أما غيره فقد خسر راحة الروح وفضيلة النفس.

بالإضافة إلى أن من يرعى الناس ويخدمهم هو شخص واحد، ولكنه يحظى بمحبة ورعاية كثيرين، ومن لم يراعي الناس فهو واحد أيضاً ولكن يبغضه كثيرون؛ فقد قال الإمام أبو جعفر(عليه السلام): «إن أعرابياً... أتى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له: أوصني. فكان مما أوصاه: تحبب إلى الناس يحبوك»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من كف يده عن الناس فإنما يكف عنهم يداًواحدة ويكفون عنه أيدياً كثيرة»(3).

لذا نرى الإسلام يحث على هذه الفضيلة حيث قال النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش»(4).

«اللّهم إني أسألك بنور وجهك المشرق الحي القيوم الباقي الكريم، وأسألك بنور وجهك القدوس، الذي أشرقت له السماوات والأرضون، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن تصلي على محمد وآله، وأن تصلح لي شأني كله»(5).

ص: 476


1- الكافي 8: 229.
2- الكافي 2: 642.
3- الكافي 2: 643.
4- الكافي 2: 117.
5- مصباح المتهجد 1: 101.

من هدي القرآن الحكيم

التفكر والوعي والاعتبار

قال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {تِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}(4).

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(5).

ثمار العلم

قال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(7).

وقال جلّ وعلا: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ}(8).

ص: 477


1- سورة البقرة، الآية: 219-220.
2- سورة آل عمران، الآية: 13.
3- سورة الحشر، الآية: 21.
4- سورة الأنعام، الآية: 50.
5- سورة الأعراف، الآية: 201.
6- سورة الزمر، الآية: 9.
7- سورة المجادلة، الآية: 11.
8- سورة البقرة، الآية: 247.

وقال تعالى: {يُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ}(1).

المعرفة والعمل

قال سبحانه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}(3).

وقال جلّ وعلا: {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَٰهَا وَزَيَّنَّٰهَا... * ... تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٖ مُّنِيبٖ}(4).

وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَئًْا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَٰرَ وَالْأَفِْٔدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(5).

المداراة والرفق بالناس

وقال سبحانه: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}(6).

وقال عزّ وجلّ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(7).

وقال جلّ وعلا: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(8).

ص: 478


1- سورة يونس، الآية: 5.
2- سورة الرعد، الآية: 19.
3- سورة الحج، الآية: 46.
4- سورة ق، الآية: 6-8.
5- سورة النحل، الآية: 78.
6- سورة النساء، الآية: 149.
7- سورة الأعراف، الآية: 199.
8- سورة التغابن، الآية: 14.

وقال تعالى: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

التفكر والوعي والاعتبار

قيل لأبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام): تفكر ساعة خير من قيام ليلة؟

قال(عليه السلام): «نعم، قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): تفكر ساعة خير من قيام ليلة»، قلت: كيف يتفكّر؟ قال(عليه السلام): «يمر بالدار والخربة فيقول: أين بانوك؟ أين ساكنوك؟ مالك لا تتكلمين»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الفكر يوجب الاعتبار ويؤمن العثار ويثمر الاستظهار»(4).

وقال(عليه السلام) لكميل بن زياد(رحمه الله): «... ومن الزم قلبه فكراً ولسانه الذكر ملأ اللّهقلبه إيماناً ورحمة ونوراً وحكمة، وإن الفكر والاعتبار يخرجان من قلب المؤمن من عجائب المنطق في الحكمة، فتسمع له أقوال يرضاها العلماء وتخشع له العقلاء وتعجب منه الحكماء»(5).

وقال(عليه السلام): «إذا قدمت الفكر في أفعالك حسنت عواقبك في كل أمر»(6).

ص: 479


1- سورة آل عمران، الآية: 134.
2- سورة الجاثية، الآية: 14.
3- المحاسن 1: 26.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 121.
5- إرشاد القلوب 1: 100.
6- عيون الحكم والمواعظ: 136.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أكثر عبادة أبي ذر رحمة اللّه عليه خصلتين: التفكر والاعتبار»(1).

أهمية العلم

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «سألت جبرائيل(عليه السلام) فقلت: العلماء أكرم عند اللّه أم الشهداء؟ فقال: العالم الواحد أكرم على اللّه من ألف شهيد، فإن اقتداء العلماء بالأنبياء واقتداء الشهداء بالعلماء»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فضل العلم أحب إلى اللّه عزّ وجلّ من فضل العبادة وأفضل دينكم الورع»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم ضالة المؤمن»(4).

وقال(عليه السلام): «سمعت رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: طلب العلم فريضة على كل مسلم فاطلبوا العلم من مظانه واقتبسوه من أهله فإن تعلمه للّه حسنة، وطلبه عبادة،والمذاكرة فيه تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة...»(5).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «لا يستخف بالعلم وأهله إلّا أحمق جاهل»(6).

المعرفة والعمل

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «نوم مع علم خير من صلاة على جهل»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المتعبد بغير علم كحمار الطاحونة يدور ولا

ص: 480


1- الخصال 1: 42.
2- إرشاد القلوب 1: 164.
3- الخصال 1: 4.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 66.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 488.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 785.
7- منية المريد: 104.

يبرح من مكانه»(1).

وقال(عليه السلام): «يا كميل، ما من حركة إلّا وأنت محتاج فيها إلى معرفة»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «من خرج يطلب باباً من علم ليرد به باطلاً إلى حق، أو ضلالة إلى هدى، كان عمله ذلك كعبادة متعبد أربعين عاماً»(3).

ثمرة المعرفة ونتائجها

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثمرة المعرفة العزوف عن دار الدنيا»(4). وقال(عليه السلام): «العلماء أطهر الناس أخلاقاً وأقلهم في المطامع أعراقاً»(5).

وقال أيضاً(عليه السلام): «العلم ينجي من الارتباك والحيرة»(6).

وقال أيضاً(عليه السلام): «ثمرة العلم إخلاص العمل»(7).

المداراة والرفق بالناس

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض»(8).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «أعقل الناس أشدهم مداراة للناس... وأذل الناس من أهان الناس»(9).

ص: 481


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 116.
2- تحف العقول: 171.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 619.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 329.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 120.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 92.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 328.
8- الكافي 2: 117.
9- الأمالي للشيخ الصدوق: 21.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «جاء جبرئيل(عليه السلام) إلى النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول لك: دارِ خَلقي»(1).

وقال(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن لكل شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق»(3).

وقال(عليه السلام): «أن اللّه عزّ وجلّ رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»(4).

ص: 482


1- الكافي 2: 117.
2- الكافي 2: 117.
3- الكافي 2: 118.
4- الكافي 2: 119.

الهداية والرشد الفكري

أصحاب الكهف

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَٰبَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَا ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَىٰ ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَٰهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا * نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَٰهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَٰنِ بَيِّنٖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُاْ إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٖ مِّنْهُ ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَٰهُمْ لِيَتَسَاءَلُواْ بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٖ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٖ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا * وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا

ص: 483

عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَٰزَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِم بُنْيَٰنًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمَا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَٰهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا* وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا * وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}(1).

الآيات الكريمة تتحدث عن قصة أصحاب الكهف، وكانوا في زمن ملك جبار يقال له (دقيانوس) على بعض الروايات(2) وقد هداهم اللّه سبحانه وتعالى إلى الإيمان والمعرفة بالخالق بعد أن تفكروا في خلق السماوات والأرض، وتدبروا في ما يعبده قومهم من أصنام وأوثان، فأدى هذا التفكير والتدبير إلى رشدهم ثم معرفتهم باللّه سبحانه وتعالى وارتباطهم به، مما دعاهم إلى إنكار العبودية إلى الملك نفسه وترك عبادة الأصنام، وخروجهم من بلدهم خائفين مترقبين لما فرضه الملك حينذاك من رقابة على المدينة وعلى الخارجين عن عبادته، وخصوصاً هؤلاء الفتية المؤمنة.

إذن هؤلاء جعلوا التفكير طريقاً إلى الرشد، وهو طريقٌ إلى الإيمان؛ لأن اللّه سبحانه عندما يرى العبد وقد تقدم خطوة في طريقه سبحانه يقدم إليه بخطوات،

ص: 484


1- سورة الكهف، الآية: 9-26.
2- انظر: بحار الأنوار 14: 422 والقصة منقولة بكاملها عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في بحار الأنوار 14: 411.

وقد ورد في ذلك روايات ورد في الحديث القدسي: «عبدي تقدم إلي شبراً أقدم إليك ميلاً»(1)،

وهؤلاء فكّروا وتدبروا بالخلق فوفّقهم الخالق للوصول إليه.

الرشد عند أصحاب الكهف

وقد ذكر اللّه تعالى مسألة الهداية والرشد في الآيات الكريمة المتقدمة مراراً وفيها الآية الكريمة من قوله تعالى: {رَبَّنَا ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}(2).

وأيضاً قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَٰهُمْ هُدًى}(3).

وقوله تعالى: {ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا}(4).

وقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا}(5).

وينبغي للإنسان المؤمن أن يدعو ربّه دائماً ويسأله أن يهديه سبل النجاح ويأخذ بيده إلى طريق الخير وذلك لأن على الإنسان أن يهيئ المقدمات ويسلك الطريق، ثم يسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفقه للخاتمة الحسنة والوصول إلى الهدف الناجح.

ومن أهم المقدمات الموصلة إلى النجاح هو الرشد الفكري وقد جاء الرشد

ص: 485


1- في مستدرك الوسائل 5: 297، عن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم): «إذا أدنى العبد من اللّه يُدني اللّه إليه، ومن تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً...».
2- سورة الكهف، الآية: 10.
3- سورة الكهف، الآية: 13.
4- سورة الكهف، الآية: 17.
5- سورة الكهف، الآية: 24.

- في بعض معانيه - بمعنى: الاهتداء إلى المطلوب وهو مقابل الغيّ حيث يقول اللّه سبحانه وتعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(1).

فعندما نقول الإنسان الراشد أو الرشيد فقد نعني به مرة الرشد الجسدي: بمعنى أن هذا الإنسان ترك وراءه مرحلة الطفولة ووضع القدم في مرحلة الشباب.ومرة نعني به الرشد العقلي والفكري: الدال على مستوى الفهم والتفكير الموصل إلى النتائج الحسنة وهذا هو الذي يدور الكلام حوله.

الرشد الفكري

اشارة

قد يحصل الإنسان على الرشد الفكري عن طريق دراسة التاريخ وتحليل أحداثه، وفي هذا القسم من دراسة فلسفة التاريخ يتعرف على أسباب ظهور العقائد واختلافها، وما هي الدوافع والمحركات للثورات والتحولات الاجتماعية في الأمم والشعوب، كمعرفة أسباب ظهور الدول الكبرى وأسباب انحطاط الدول الضعيفة، والأوضاع المأساوية التي تعيشها من التأخر والجمود الفكري الذي يطغى عليها، وكيف استعمرت من قبل الدول ومن نماذج هذه الحقيقة أيضاً معرفة أسباب ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) وشهادته، وفلسفة صلح الإمام الحسن(عليه السلام). وكذلك فلسفة تطور الدول أو التأخر للبعض الآخر.

وهكذا، فدراسة التاريخ والتعرف على فلسفته تعيننا على كشف بعض الأسرار والغوامض الخافية علينا والمرتبطة بحياتنا المعاصرة أيضاً، فنحن نؤمن إيماناً كاملاً بأن اللّه سبحانه وتعالى خلق هذا الكون وخلق عباده من طين ولم يفرق بين البشر في منحهم العقل وقوة الإدراك، ولكن مع ذلك نرى أن بعض الأشخاص يتميزون عن البعض الآخر في ذكائهم ومستوياتهم العلمية العالية

ص: 486


1- سورة البقرة، الآية: 256.

فنرى الجاهل والعالم، فياترى ما الفرق في ذلك مع أنهم متساوون من حيث العقل تكويناً؟

تنمية القدرات العقلية

من هنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: لماذا هذا التفاوت في المستويات بين الناس؟

والجواب بسيط وهو تنمية العقول التي جعلها اللّه تعالى علينا حجة، فالتنمية هي التي جعلت هذا الفرق بين المستويات.

فالناس من حيث العقل متساوون؛ لأن العقل من المواهب الإلهية فهو أمر تكويني خلقه اللّه سبحانه وأودعه في كل إنسان وليس باختيار الإنسان أن يكون عاقلاً بمعنى يمتلك عقل أو ليس بعاقل بأن يكون فاقداً له، فوجود العقل وعدمه في الإنسان ليس اختيارياً، بل عندما خلق اللّه سبحانه الإنسان خلقه عاقلاً؛ ولهذا فإن الناس متساوون من جهة العقل، ولكن أعمال العقل وتنمية القدرات العقلية من مميزات الناس وراجع إلى اختيارهم، فبعض الناس ينمون مواهبهم فيصبحوا علماء وقادة بينما البعض الآخر مع امتلاكهم العقل لا ينمون تلك العقول فيبقون طوال حياتهم ملازمين للجهل والخرافة.

قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا}(1).

في هذه الآية يبين اللّه تعالى أنه خلق الخلق، ومن البديهي أن اللّه تعالى لم ولن يخلق أحداً بقصد تعذيبه بل خلق الإنسان وزوّده بجميع المؤهلات للراحة ومكنّه منها، وأهمها العقل حيث إن هذا العقل له القدرة والاستطاعة على تمييز

ص: 487


1- سورة الأعراف، الآية: 179.

الحق من الباطل والهدى من الضلال والنقص من الكمال. وترك له الخيار في سلوك الطريق الذي يشاء منهما. وبالتالي للعقل دور كبير في سعادة الإنسان أو شقاءه وكما جاء عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «الدين لا يصلحه إلّا العقل»(1) وعنه(عليه السلام) أنه قال: «استرشد العقل وخالف الهوى تنجح»(2).

تنوع القراءات

إن تنمية هذه العقول التي أودعها اللّه تعالى فينا يتم بمراعاة أحكامها واتباع إرشاداتها، وفي هذا طرق ومقدمات عديدة منها:

قراءة الكتب المتنوعة ومباشرة الحكماء من ذوي التجربة والخبرة وبكثرة السفر والاطلاع في مختلف نواحي الحياة وغير ذلك.

إن اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلّهم على ربوبيته بالأدلة، فقال: {وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٖ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٖ وَتَصْرِيفِ الرِّيَٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(3).

لذا يجب علينا أن نكون في تحرك مستمر ودائب في هذا المجال حتى تتنور عقولنا ويستيقظ إدراكنا الفكري.

فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لا بصيرة لمن لا فكر له»(4).

ص: 488


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 72.
2- عيون الحكم والمواعظ: 82.
3- سورة البقرة، الآية: 163-164.
4- عيون الحكم والمواعظ: 539.

وعنه(عليه السلام) قال: «رأس الاستبصار الفكرة»(1).

مصباح الفكر

ليس الرشد الفكري كالأدوية المختلفة التي توضع في علبها الخاصة ثم ترتب على رفوف الصيدلية ليستعملها المرضى وأهل الحاجة، بل إن الرشدالفكري يحتاج إلى السعي والعناء الكثير الكثير في ما إذا أردنا أن نناله، ويمكن أن نمثل ذلك ونشبهه بالغواص الذي يغوص في البحر لاستخراج اللآلئ فهذا الغواص وظيفته ليست سهلة وإنما يعاني ما يعاني لدى الغوص في أعماق البحر لكي يصل إلى تلك الحاجة التي يبحث عنها وهي اللآلئ وكما قال الشاعر:

ومن طلب العلى سهر الليالي *** يغوص البحر في طلب اللآلئ

وكذلك الرشد فإنه لا يحصّله الإنسان بالراحة، بل بالسعي والتعب والجهد وسلوك طرقه، ومن طرقه: التدبر والتفكير الدائم في مختلف جوانب الحياة وهذا الجانب يكشف عنه القرآن الكريم وبطرق مختلفة وأساليب متنوعة، حيث يقول اللّه سبحانه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا}(2).

وقوله عزّ وجلّ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(3).

وقوله جلّ ذكره: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(4).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ

ص: 489


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 57.
2- سورة الأنعام، الآية: 122.
3- سورة الزمر، الآية: 9.
4- سورة المجادلة، الآية: 11.

وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تدعوا إلى الفكر الصحيح والتأمل ودراسة مقدمات الأمور وخواتمها، لما للرشد الفكري من دور كبير في بناء حياة الإنسان وسعادته.وفي هذا جاء عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «المؤمن إذا نظر اعتبر وإذا سكت تفكر وإذا تكلم ذكر وإذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر»(2).

والفكر كلما كان أصح وأتم كانت الحياة أقوم، فالحياة القيمة ترتبط بالفكر القيم وتبتني عليه وبقدر حظها منه يكون حظها من الاستقامة والسعادة والنجاح... ، والفكر القيّم يبتني على أسس ومقومات، منها دراسة التاريخ ومواصلة التدبر والتفكير المستمر وبنظرة تحليلية.

كيف أصبح لقمان حكيماً

ذكروا في شأن لقمان(عليه السلام)(3) أن سبب اعطائه الحكمة هو أنه كان يكثر التفكير في الأشياء والتدبر في الأمور. و{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَٰنَ الْحِكْمَةَ}(4)، أي معرفة مواضع الأشياء وعلم الارتباط بين الأسباب والمسببات بحيث يعلم كيف ينهج الإنسان حتى يسعد في الحياة، فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه سئل عن لقمان وحكمته التي ذكرها اللّه عزّ وجلّ؟

ص: 490


1- سورة الزمر، الآية: 18.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 116.
3- لقد اختلفوا في شأن نبوته فهناك من عدّه من الأنبياء وبعضهم من عدّه من الحكماء منهم ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقيل: إن اللّه سبحانه خيّره بين النبوة وبين الحكمة فاختار الحكمة على النبوة لصعوبة أمر الثانية وثقل مسؤوليتها. انظر: تفسير مجمع البيان 8: 80.
4- سورة لقمان، الآية: 12.

فقال(عليه السلام): «أما واللّه، ما أوتي لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل، ولا بسط في جسم، ولا جمال، ولكنه كان رجلاً قوياً في أمر اللّه متورعاً في اللّه، ساكتاً سكيناً، عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستعبراً بالعبر، لم ينم نهاراً قط، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط، ولا اغتسال لشدة تستره، وعمقنظره، وتحفظه في أمره، ولم يضحك من شيء قط، مخافة الإثم، ولم يغضب قط، ولم يمازح إنساناً قط، ولم يفرح بشيء إن أتاه من أمر الدنيا... ولم يسمع قولاً قط من أحد استحسنه إلّا سأل عن تفسيره، وعمّن أخذه، فكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا به، ويرحم لملوك والسلاطين لعزتهم باللّه وطمأنينتهم في ذلك، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه، ويجاهد به هواه، ويحترز به من الشيطان، فكان يداوي قلبه بالفكر، ويداوي نفسه بالعبر، وكان لا يظعن إلّا في ما ينفعه، فبذلك أوتي الحكمة...»(1).

وكما يذكر في الروايات إنّه: دخل ضرار بن ضمرة على معاوية بعد استشهاد أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال له: يا ضرار صف لي علياً قال: أعفني قال: لتصفّنه، قال: أما إذ لا بد فانه كان واللّه بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة...»(2).

الآن وبعد مرور أكثر من (1400 سنة) بقي ويبقى اسم أمير المؤمنين(عليه السلام) مفكراً عظيماً في كافة المجالات بالإضافة إلى عصمته وإمامته (صلوات اللّه

ص: 491


1- تفسير القمي 2: 162.
2- كشف الغمة 1: 77.

وسلامه عليه).

واليوم إن من الأمور اللازمة والمهمة بالنسبة للمسلمين وربما كانت أهميتها أكبر من بعض الأعمال الهامة والضرورية هي الرشد الفكري، لماذا؟

لأن بعض تلك الأعمال قد يستطيع المسلم تأديتها بدون آدابها ولا يلحقهضرر كبير من جرّاء التخلي عنها أو العمل بغير صورتها المطلوبة، وإن بعض الأضرار جراء تركه لبعض تلك الأعمال فإنها تصيبه هو كشخص لأنه ترك العمل الضروري ولا تمس أضرارها غيره من الناس... غير أن اليوم الذي يصبح فيه المسلمون لا يملكون الوعي والرشد الفكري ولا يعطون لذلك أي أهمية فإن المأساة حينئذ تأتيهم من حيث لا يشعرون، ويصبحون تبعاً للدول الغربية فيبتعدون عن الواجبات وتنتشر بينهم المحرمات أيضاً ويضيع الدين فضلاً عن ضياع الدنيا.

التبليغ المسيحي في العراق

هذه القصة التي سأذكرها هي من القصص التي لها تأثير كبير في النفس، وهي تكشف عمّا يعمله أعداء الإسلام لنشر أفكارهم الضالة بين مجتمعاتنا الإسلامية.

قبل عدة سنوات كان في بغداد سوق يسمى (سوق الرياحين)(1).

في إحدى المرات جاء أحد المبشرين المسيحيين لهذا السوق لغرض التبشير بالمسيحية، وأخذ يدور في السوق ويهدي لكل صاحب دكان كتباً من الإنجيل وبعض الكتب المسيحية، ولقد كان أصحاب هذه المحلات يأخذون هذه الكتب ثم يجمعونها فيحرقونها بعد ذهاب ذلك المبشر المسيحي.

ص: 492


1- وهو سوق للنحاسين الذين يصنعون فيه الأواني النحاسية قرب سوق الشورجة المعروف في العراق.

وبعد فترة طويلة رق قلب أحد النحاسين، وقال مع نفسه وهو يأخذ الكتب: وا أسفاه على هذه الكتب ذات الشكل اللطيف والمنظر الجميل يكون مصيرها إلى المحرقة، فذهب إلى المبشر المسيحي وعندما وصل إليه قال له: يا فلان انني كنت آخذ كتبك ثم أجمعها وأرميها في المحرقة، وكذلك يفعل بقية النحاسينفي هذا السوق. ألّا تأسف على هذه الكتب الجميلة أنت تعطيها ثم تكون نتيجتها في عداد المحروقات؟

فقال المبشر المسيحي وبكل هدوء وراحة، ولم يظهر على وجهه أي انزعاج: إنني كنت أعلم منذ اليوم الأول إنكم تعملون ذلك، إلّا أننا نبذل كل هذه الجهود من أجل كتاب واحد لربما يأخذه أحدكم إلى بيته ثم يأتي ابنه الشاب من بعده فيقرأه ويعتنق المسيحية!!

هذا هو الموضوع المهم لدينا ولو أن جميع الكتب حرقت فهي فداء لذلك الشاب الذي سوف يصبح مسيحياً.

فليتأمل كل شخص منا بأية طريقة جاءت المسيحية بعفلقها(1) ووضعته رمزاً للعراق. ولنتأمل، بما لحق بهذا الشعب المظلوم من ويلات ومصائب على أيدي هذه العصابة المضلة. إن اللّه أعطى لأغلب البشر القابلية على الرشد الفكري ولكن بعضهم يستخدمونها وينموها وبعضهم يقضون عليها بأيديهم.

تأثير الرشد الفكري

نعم إذا لم يحفظ المسلمون دينهم وبلادهم وثروتهم وأفرادهم، والتي يعد الرشد الفكري أحد طرقه فإن المسيحيّة واليهودية وباقي الأفكار المنحرفة الأخرى، التي تأخذ دينها كستار تستر فيه نشر أفكارها الاستعمارية المنحرفة،

ص: 493


1- إشارة إلى ميشيل عفلق أحد مؤسسي حزب البعث في العراق.

سوف تأتي تلك الفئات وتشغل هذا الفراغ الحاصل، ومن الأمثلة على ذلك نذكر ما حدث للمسلمين قبل ستة عقود، وفي العراق بالذات حيث امتلكوا قسماً من الرشد الفكري.

ففي عام (1918/1920م) استطاع المسلمون العراقيون الذين كان عددهم لايزيد على بضعة ملايين نسمة وبقيادة الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) الانتصار على أعظم امبراطورية في العالم في ذلك الزمان. الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا) القوة العظمى الوحيدة في تلك الأيام، كيف استطاعوا ذلك؟

السبب إن ثقافتهم وأفكارهم كانت ثقافة الدين والفضيلة والقرآن والسنّة، واتباع القيادة المرجعية، التي تمثل الرشد في التفكر والتعقل الصائب، رغم إنهم لم يكونوا يمتلكون أسلحة حربية متطورة، ولا أجهزة مخابرات حديثة، ولكن الأفكار والثقافة التي كانوا يحملونها ويحملها الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه الله) هي التي جعلتهم يقاومون ويقدمون الألوف من الضحايا في سبيل دفع المعتدين، ثم بعد ذلك استطاع الإمام الشيرازي(رحمه الله) تشكيل بعض أوليات الحكومة الإسلامية في بعض مناطق العراق، ولو لا وفاة القائد لجرت الأحداث على ما يرام، ولكن بعد مرور فترة زمنية استطاع العملاء كعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وأخيراً عفلق وحزب البعث نشر أفكارهم الضالة على هذا الشعب وساموه سوء العذاب، بذبح أبنائه واستحياء نسائه وينهبون ثرواته! والسبب في ذلك هو أن الأفكار الاستعمارية حلت محل الأفكار الإسلامية الأصيلة(1).

ص: 494


1- لعله بنظرة واحدة إلى ما جرى وحل على العراق وشعبه خلال تعاقب أمثال هؤلاء على حكم البلاد تتضح الصورة أكثر.

واليوم أكثر المسلمين يعيشون حياة مأساوية، وفي العديد من البلدان الإسلامية؛ لأنهم يعيشون التأخر الفكري وعدم الوعي والرشد في أمورهم... ولو فكّروا بأوضاعهم السيئة وسعوا وراء التوعية والتثقيف ورفع المستوى الفكريوالثقافي عندهم فإن حياتهم سوف تتبدل شيئاً فشيئاً إلى الأفضل والأحسن، عن الإمام الصادق(عليه السلام): كان أمير المؤمنين(عليه السلام): يقول: «بالعقل استُخرج غور الحكمة وبالحكمة استُخرج غور العقل وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح. قال:

وكان(عليه السلام) يقول: التفكر حياة قلب البصير كما يمشي الماشي في الظلمات بالنور بحسن التخلص وقلة التربص»(1).

«اللّهم وأنطقني بالهدى وألهمني التقوى ووفقني للتي هي أزكى، واستعملني بما هو أرضى، اللّهم اسلك بي الطريقة المثلى واجعلني على ملّتك أموت وأحيى، اللّهم صل على محمد وآله ومتعني بالاقتصاد واجعلني من أهل السداد، ومن أدلة الرشاد، ومن صالح العباد. وارزقني فوز المعاد. وسلامة المرصاد»(2).

من هدي القرآن الكريم

التفكير وتأثيره

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(3).

وقال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ

ص: 495


1- الكافي 1: 28.
2- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
3- سورة آل عمران، الآية: 190-191.

لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَٰبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِ إِنَّ فِيذَٰلِكَ لَأيَةً لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(3).

العلم والدين

قال سبحانه: {لَّٰكِنِ الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}(4).

وقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَٰطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(6).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(7).

ص: 496


1- سورة الجاثية، الآية: 13.
2- سورة النحل، الآية: 10-11.
3- سورة الأعراف، الآية: 176.
4- سورة النساء، الآية: 162.
5- سورة سبأ، الآية: 6.
6- سورة آل عمران، الآية: 18.
7- سورة الأعراف، الآية: 52.

وقال سبحانه: {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}(1).

الطريق إلى اللّه تعالى

قال تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَرَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}(2).

وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}(4).

العلماء ومواجهة الحكومات الظالمة

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَٰهِۧمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَىٰهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحْيِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(5).

وقال سبحانه: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بَِٔايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ

ص: 497


1- سورة الأنعام، الآية: 50.
2- سورة الإسراء، الآية: 57.
3- سورة الأنبياء، الآية: 49.
4- سورة الكهف، الآية: 110.
5- سورة البقرة، الآية: 258.
6- سورة طه، الآية: 42-43.

الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

أصحاب الكهف

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام) في ذكر أصحاب الكهف: «لو كلفكم قومكم ما كلفهم قومهم؟» فقيل له: وما كلفهم قومهم؟ فقال(عليه السلام): «كلفوهم الشرك باللّه العظيم فأظهروا لهم الشرك وأسروا الإيمان حتى جاءهم الفرج»(3).

وقال(عليه السلام): «خرج أصحاب الكهف على غير معرفة ولا ميعاد فلما صاروا في الصحراء أخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق فأخذ هذا على هذا وهذا على هذا، ثم قالوا: أظهروا أمركم فأظهروا فاذا هم على أمرٍ واحد»(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام) لرجل: «ما الفتى عندكم؟» فقال له: الشاب، فقال: «لا الفتى المؤمن إن أصحاب الكهف كانوا شيوخاً فسمّاهم اللّه عزّ وجلّ فتية بإيمانهم»(5).

العقل والدين

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين لمن لا عقل له»(6).

ص: 498


1- سورة آل عمران، الآية: 52.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- تفسير العياشي 2: 323.
4- تفسير العياشي 2: 322.
5- الكافي 8: 395.
6- تحف العقول: 54.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العقل رسول الحق»(1).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «... لا يكمل العقل إلّا باتباع الحق»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من كان عاقلاً كان له دين...»(3).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) لهشام: «يا هشام، إن لقمان قال لابنه: تواضع للحقتكن أعقل الناس»(4).

وقال(عليه السلام): «يا هشام، قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود، يا هشام، إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا فلذلك ربحت تجارتهم، يا هشام، إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض»(5).

الرشد الفكري وأثره

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «فكرة ساعة خيرٌ من عبادة سنة»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الفكر يهدي إلى الرشاد»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): ­«قال أمير المؤمنين(عليه السلام): إن التفكر يدعو إلى البر والعمل به»(8).

ص: 499


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 27.
2- أعلام الدين: 298.
3- الكافي 1: 11.
4- الكافي 1: 16.
5- الكافي 1: 17.
6- بحار الأنوار 68: 326.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 41.
8- الكافي 2: 55.

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «لكل شيء دليل ودليل العاقل التفكر ودليل التفكر الصمت»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة وإنما العبادة كثرة التفكر في أمر اللّه»(2).

الخوف والرجاء من اللّه تعالى

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «عند الخوف يحسن العمل»(3).

وقال(عليه السلام): «خير الأعمال اعتدال الرجاء والخوف »(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أبي يقول: إنه ليس من عبدٍ مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء ولو وزن هذا لم يزد على هذا»(5).

وقال(عليه السلام) في وصيته لابن جندب: «يا بن جندب، يهلك المتكل على عمله ولا ينجو المجترئ على الذنوب الواثق برحمة اللّه» قلت - ابن جندب - : فمن ينجو؟ قال(عليه السلام): «الذين هم بين الرجاء والخوف كأن قلوبهم في مخلب طائر شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب»(6).

وقال(عليه السلام): «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو»(7).

ص: 500


1- تحف العقول: 386.
2- تحف العقول: 442.
3- كنز الفوائد 1: 278.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 361.
5- الكافي 2: 67.
6- تحف العقول: 302.
7- الكافي 2: 71.
أهمية العلم

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في فضل العلم: «أيها الناس، اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسوم بينكم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه سيفي لكم به، والعلم مخزون عليكم عند أهله قد أمرتم بطلبهمنهم فاطلبوه، واعلموا أن كثرة المال مفسدة للدين مقساة للقلوب، وإن كثرة العلم والعمل به مصلحة للدين وسبب إلى الجنة، والنفقات تنقص المال، والعلم يزكو على إنفاقه، فإنفاقه بثه إلى حفظته ورواته، واعلموا أن صحبة العلم واتباعه دين يدان اللّه به، وطاعته مكسبة للحسنات ممحاة للسيئات، وذخيرة للمؤمنين، ورفعة في حياتهم، وجميل الأحدوثة عنهم بعد موتهم، إن العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه التواضع وعينه البراءة من الحسد، وأذنه الفهم، ولسانه الصدق وحفظه الفحص، وقلبه حسن النية، وعقله معرفة الأسباب بالأمور، ويده الرحمة، وهمته السلامة ورجله زيارة العلماء وحكمته الورع ومستقره النجاة، وقائده العافية، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين الكلام، وسيفه الرضى، وقوسه المداراة، وجيشه محاورة العلماء، وماله الأدب، وذخيرته اجتناب الذنوب، وزاده المعروف ومأواه الموادعة ودليله الهدى ورفيقه صحبة الأخيار»(1).

دور العلماء في مواجهة الحكومات الظالمة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا(2)

ص: 501


1- تحف العقول: 199.
2- ألّا يقاروا: ألّا يوافقوا مقرّين.

على كظة ظالم ولا سغب(1) مظلوم»(2).

وقال(عليه السلام): «لو أن حملة العلم حملوه بحقه لأحبهم اللّه وملائكته وأهل طاعتهمن خلقه، ولكنهم حملوه لطلب الدنيا فمقتهم اللّه وهانوا على الناس»(3).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «اعتبروا أيها الناس بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار... وإنما عاب اللّه ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة في ما كانوا ينالون منهم...»(4).

وقال الإمام الجواد محمد بن علي(عليهما السلام): «... والعلماء في أنفسهم خانة إن كتموا النصيحة وإن رأوا تائهاً ضالاً لا يهدونه أو ميتاً لا يحيونه فبئس ما يصنعون لأن اللّه تبارك وتعالى أخذ عليهم الميثاق في الكتاب أن يأمروا بالمعروف وبما أمروا به وأن ينهوا عمّا نهوا عنه وأن يتعاونوا على البرّ والتقوى ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان»(5).

ص: 502


1- الكِظَّة: ما يعتري الآكل من الثقل واكرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق، السَغَب: شدة الجوع.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3.
3- تحف العقول: 201.
4- تحف العقول: 237.
5- الكافي 8: 54.

دور الكتابة في الحياة

الإنسان والعلم والقلم

قال تعالى: {الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(1).

لقد قدّم اللّه سبحانه وتعالى تعليم القرآن على خلق الإنسان، لما له من الجلالة والعظمة والأهمية، إذ هو مفتاح الهداية، وباب العلوم، وبه تكون الدعوة إلى اللّه تعالى، ثم جاء ذكر خلق الإنسان. وأشار سبحانه إلى واحدة من خصائصه، وهي: البيان، أي: قدرة الإنسان على الإفصاح والتكلم عمّا في داخله وضميره، وليس المعنى: أنه تعالى علّمه اللغة، بل ألهمه قدرة البيان عمّا في داخله، تارة يكون بواسطة اللسان، وأخرى بواسطة القلم. أي: إنه ألهمه، وأودع فيه قدرة الكشف، والإظهار لما يريد إظهاره. وفي آية أخرى، قال تعالى: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}(2). وهو الكشف عن النوع الثاني من البيان، والذي هو مدار بحثنا. فإن اللّه تعالى أعطى للإنسان قدرة الكتابة والتدوين بالقلم، فالقلم هو سبب لتدوين وكتابة العلم، والأخير سبب لتقدم الإنسان، وتصحيح ارتباطه باللّه عزّ وجلّ، وسبب لحصول المعرفة لديه؛ إذن كان السبب الأول هو القلم.

نعم، قد يقال: إنّ العلم لا يتوقف على القلم. وهو أمر مسلّم، ولكن لولاه لما

ص: 503


1- سورة الرحمن، الآية: 1-4.
2- سورة العلق، الآيه: 4.

حصلنا على الصحف الخطية الأُولى، للأجيال التي مضت، فنحن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولو لم نعلم أين انتهوا، لم نعلم من أين نبدأ، بل لكلّفتنا البداية الشيء الكثير من العمر والجهود، ولولا وجود الصحف الخطية للعلماء، لما علمنا قيمتهم العلمية، أو مستواهم العلمي، ورتبتهم في المجتمع، ولضاعت جهودهم. ولذلك يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «اكتُبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا»(1).

فالكتابة سببٌ للحفظ، ثم إنه حتى الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) كان قد وضع كتّاباً للوحي يكتبون القرآن، نعم، الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) كان يحفظ القرآن، ولكنّه كان يأمر بالكتابة، لكي توزع هذه الصُّحف في مشارق الأرض ومغاربها، وكذلك لكي تحفظ إلى الأجيال اللاحقة، وإلى هذا المعنى وغيره أشار الإمام الصادق(عليه السلام)، حينما قال: «اُكتُب وبُثّ علمك في إخوانك»(2).

فالكتابة أمر ضروري جداً وهي سبب أساسي في إيصال المعرفة والعلم والمفاهيم إلى الآخرين، ولذلك ابتدأ القرآن بذكر القلم؛ قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، في فضل الكتابة والقلم: «رسولك ميزان نبلك، وقلمك أبلغ من ينطق عنك»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «عقول الفضلاء في أطراف أقلامها»(4).

إذن كما كانت اللّغات علّة وواسطة لنقل الأفكار وتلاقحها، فإن للقلم والكتابة الدور الرئيس في هذا النقل، ومما لا شك فيه أنّ الكتابة مؤثرة في الإنسان كتأثيرالكلام فيه، ولو لم تكن كذلك لما استقبلها الإنسان، ولما تعامل بها، حيث كان لها

ص: 504


1- الكافي 1: 52.
2- الكافي 1: 52.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 389.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 467.

الأثر البالغ في هداية الناس إيجاباً، كما في آيات القرآن، والأحاديث الشريفة، وقصص الأنبياء، ومكارم الأخلاق، والكتب الدينية التربوية الأخرى... ومقابل ذلك يوجد نوع من الكتابة يؤثر على الإنسان سلباً، ككتب الضلالة والرذيلة، وكذلك بعض القصص البوليسية التي أثّرت على الناس، وأدّت إلى ارتفاع مستوى الجريمة، لا سيّما في الدول الأوروبية والغربية، وأثّرت الكتابات الفكرية المادية والمنحرفة في توجيه الشباب إلى غير جادة الحق والمنطق، إذن الكتابة لها الأثر الفعّال إيجاباً وسلباً في كل عصر، ومن هنا يأتي دور المفكرين والمصلحين، لتهذيب الناس وإرشادهم إلى النافع من الكتب والمؤلّفات لئلا تؤثر على حياتهم سلباً ... .

من وسائط الهداية

اشارة

يضرب اللّه عزّ وجلّ مثالاً من خلال عرضه لقصّة سليمان(عليه السلام) مع ملكة سبأ (بلقيس)، فلما أخبره الهدهد بوجود قوم يعبدون الشمس من دون اللّه كما جاء في الكتاب العزيز: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإِ بِنَبَإٖ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٖ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ...}(1). وعند ذلك قرّر النبي سليمان(عليه السلام)، أن يكتب لهم - أولاً - كتاباً، يدعوهم فيه للتوحيد، وعبادة اللّه، وعدم التَعالي على ذلك، فأرسل كتابه مع الهدهد: {اذْهَب بِّكِتَٰبِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}(2). وفعلاً، فقد قام الهدهد بإيصال كتاب النبي سليمان(عليه السلام) إلىملكة سبأ، فعندما قرأته: {قَالَتْ يَٰأَيُّهَا الْمَلَؤُاْ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَٰبٌ كَرِيمٌ}(3).

ص: 505


1- سورة النمل، الآية: 22-24.
2- سورة النمل، الآية: 28.
3- سورة النمل، الآية: 29.

فأول ما قالته: أنها وصفت الكتاب بأنه كريم، فقد عظّمته، لأنه كان من سليمان، وعظّمته لأنه كان يحمل معاني عالية وشريفة، فأثر بها، مما جعلها تصفه بالكرم، لأن الوثنيين كلّهم قائلون بوجود اللّه تعالى، ولكنهم يتخذون أرباباً وآلهة متعددة، يتقربون من خلالها إلى اللّه عزّ وجلّ. ومن أجل ذلك فعندما رأت الملكة محتوى الكتاب: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَٰنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}(1). ووجدت ما يحمل هذا الكتاب من معاني شريفة، حيث ابتدأ بالبسملة وذكر اللّه عزّ وجلّ، ثم دعوة سليمان(عليه السلام) لهم إلى الدخول في ولايه اللّه عزّ وجلّ. فكانت هذه المعاني المقدسة من عوامل هداية ملكة سبأ إلى اتباع سليمان، وتوحيد اللّه عزّ وجلّ. فهذا نموذج قرآني يشير إلى أهمية الكتاب، ولا سيما عندما تكون هادفة، وتدعو للحق والصراط القويم.

ولقد شهد التاريخ الإسلامي هذا اللون من التبليغ، حيث كانت البلاد الإسلامية مترامية الأطراف بعيدة المدن، تفصلها مسافات شاسعة، فكانوا يستعينون بالكتابة لإيصال الأفكار. فكان اتباع الأئمة(عليهم السلام) وغيرهم يكتبون اسألتهم واستفساراتهم، على هيئة (رسائل) ثم يبعثون بها إلى الأئمة(عليهم السلام). وكان الأئمة(عليهم السلام) يجيبون عليها، ثم يرسلونها إليهم، ولقد شهدت حركة الرسائل هذه نشاطاً ملحوظاً، وبخاصة في عصر الإمام الرضا(عليه السلام)، وما بعده من الأئمة(عليهم السلام)، حيث كانت السلطات الحاكمة تفرض حصاراً على اتباع أهل البيت(عليهم السلام)، من الالتقاء بالأئمة، والتزود بعلومهم، فقد اتخذ الأئمة(عليهم السلام) أسلوب الرسائل في نشرالعقائد الحقّة، والإجابة على الشبهات، وردود بعض المسائل الفقهية، والدعوة إلى التمسك بالأخلاق والتقوى، وغيرها من الدعوات التبليغية، التي قام بها

ص: 506


1- سورة النمل، الآية: 30-31.

الهداة(عليهم السلام) عبر القلم، بل نجد أن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يُعلّم أصحابه وعمّاله في الأمصار كيفية الكتابة والخط، فيقول: «افتح برية قلمك واسمِك شحمته وأيمن قطتك يجد خطك»(1)، ويقول(عليه السلام) أيضاً: «إذا كتبت كتاباً فأعد فيه النظر قبل ختمه، فإنما تختم على عقلك»(2)، ويقول(عليه السلام): «قلمك أبلغ من ينطق عنك»(3)، وغيرها من الكلمات التي سطرها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمة(عليهم السلام) في فضل القلم والكتابة والدعوة لهما.

كيفَ نَبْدأ؟ وماذا نكتب؟

من المفروض والضروري لكلّ إنسان يريد أن يصبح كاتباً أن يحصن نفسه، ويزودها بخزين ثقافي واسع، يكون بمثابة الركن الوثيق، والحجر الأساس الذي يتكئ ويعتمد عليه في كتاباته المختلفة وحريّ به أن يمتلك إرشيفاً كبيراً من المعلومات، التي تخص الباب الذي يكتب فيه، حتى تكون لدية إحاطة بالموضوع الذي يريد الكتابة عنه. وبالنتيجة سوف تكون كتاباته ذات شمولية تستوعب كافة ما يتعلق بالموضوع، وتكون مثمرة منتجة. إذ أنّ الموسوعة الثقافية والمعلوماتية سوف تحصن الكاتب من مرض التقليد، أو سرقة النصوص من الآخرين؛ لأن عادة الإنسان إذا كان مقتدراً في مجال مّا، فإنه لا يعمد إلى الزيف والتزوير في ذلك المجال. أمّا الإنسان غير المقتدر، فإنه دائماً يركن إلى سرقةالنصوص من الغير أو تقليدهم. وهناك نقطة مهمة، يحسن الإشارة إليها، هي: أن ضخامة المعلومات، وسعة الاطلاع، تكون ضرورية ومهمة، في كل موضوع يريد

ص: 507


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 49.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 49.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 49.

الكاتب الكتابة عنه، ولكن في المواضيع والأفكار المهمة تزداد هذه الأهمية أضعافاً مضاعفة، مثلاً: إذا أراد الكاتب أن يكتب عن موضوع غلاء الأسعار أو ما شاكل ذلك، فإنه بلا شك يحتاج إلى سعة اطلاع في هذا المجال. وسعة الاطلاع والمعلومات التي يجب أن يحملها الكاتب تتضاعف، وتكون ضرورة ملحة، إذا أراد الكاتب أن يكتب حول موضوع حساس، ومهم جداً.

ومن هنا يجب على الكاتب الإسلامي أن يكون بمستوى الأفكار الإسلامية العظيمة فالإسلام يريد أن تعيش الإنسانية حياةً هانئة مطمئنة، ويسلك الإنسان مسلكاً إنسانياً، خالياً من الانحرافات، والأعمال المشينة واللاأخلاقية، في الوقت الذي عمَّ فيه الانحراف المعمورة وعشعشت بها الأفكار التضليلية.

إذن لتكن البداية بكثرة المطالعة للمؤلفات والمصادر والنشرات، والمناهج التي تعلّم كيفية الكتابة وأساليبها وطرقها، والاعتماد على النفس، وشحذ الهمم، والتوكل على اللّه تعالى وطلب العناية والتسديد منه تعالى.

أما ماذا نكتب؟ فهذا يبقى على ما تفرضه طبيعة المرحلة التي نعيش فيها؛ إذ أنّ الاسلام جاء متكاملاً، ووضع في مصادره، من الكتاب والسنّة، كل ما يحتاجه الإنسان والأمة. ولكن فعل المؤامرات الخارجية، والتضليل الإعلامي، والتطبيق الخاطئ لمبادئ الإسلام من البعض، جعل المرحلة تفتقد تلك الحيوية والخصوبة. وإنّ من تلك النماذج المصادرة: أن الأمة الواحدة صارت أمماً متجزئة متناثرة. ومنها: أن الإنسان الحرّ المنطلق الذي أوجده الإسلام صار مكبّلاً ومقيداً ومنها: أن مقياس التقوى الذي جعله القرآن الكريم مقياساً للكرم والفضل بقولهسبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1). هذا المقياس بات اليوم هو القوم

ص: 508


1- سورة الحجرات، الآية: 13.

واللغة والنعرات الطائفية. ومن هنا يفترض في الكاتب أولاً أن يحمل خزيناً واسعاً من المعلومات، وثانياً: عليه أن يكتب في المسائل الحيوية، التي تهدف إلى استنهاض الأمة من جديد، ورسم القدوة لها استناداً إلى سيرة نبيها العظيم(صلی الله عليه وآله وسلم)، وأئمتها المطهرين(عليهم السلام)، وإيصال المفاهيم الإسلامية وتعاليم الإسلام السمحاء إلى أقصى نقطة في العالم، لتبديل الفكرة السلبية التي روّجها أعداء الإسلام، عن الإسلام والمسلمين، وتوضيح الغموض السائد اليوم حول الإسلام وتعاليمه. ومما لا شك فيه أنّ الدين الإسلامي دين السلام والحرية، والأخلاق الفاضلة، والعلم والتقدم، وفوق هذا كله، فهو دين الفطرة السليمة. والشاهد على ذلك: أن الدين الإسلامي ما وصل إلى بقعة من الأرض إلّا واعتنق أهلها الإسلام طواعية، إلّا المعاندين والمغرضين، فهؤلاء عرفوا الحق وانحرفوا عنه.

أثَرُ الإعْلام

اشارة

ذكرت مجلة لبنانية: بأنّ اسرائيل تصدر وتطبع، من المجلات والجرائد والكتب، بقدر ما تطبعه جميع الدول العربية، التي يبلغ عدد سكانها مجتمعين أكثر من مائة وخمسين مليون مسلم(1)، بينما يبلغ نفوس اليهود في إسرائيل ثلاثة ملايين فقط. ولهذا السبب وغيره انتشرت أفكارهم الضالّة والمنحرفة في كل مكان، لأنهم يعملون بالأسباب والمقدممات بجدّ، فيصلون إلى غاياتهم، وإن كانت سلبية، مع أنهم لا يمتلكون الإيمان الذي يمتلكه المسلم. وقد يقال: بأن الإيمان يعلو وينتصر على جميع المخططات والأهداف الاستعمارية؟ نعم، هذاصحيح، ولكن لا ينفع الإيمان بدون العمل. إذ لا بدّ من مزج العمل بالإيمان، لكي يكون الإيمان كاملاً ونافعاً. ففي عصرنا الحاضر، تحتل الصحف مكانةً

ص: 509


1- واليوم يبلغ عدد سكان البلاد العربية حوالي ثلاثمائة مليون نسمة.

بارزة في أوساط المجتمعات، ولها التأثير الفعّال في تغيير الأفكار، وخلق اتجاه فكري معيّن، يحمله بعض المواطنين دون أن يشعروا بذلك. فمن هنا نلاحظ أهمية القلم، وتأثيره على رفعة الإنسان أو هبوطه إلى مستوى الجهل. فمثلاً الكتاب الإسلامي الذي يحمل أفكاراً بناءة يشكل خطراً على الحكومات التي تضلّل شعوبها، فهو سبب لهداية الكثير من الناس، ودخولهم إلى حظيرة الإسلام، كما كان الحال - وما يزال - بالنسبة إلى كتاب (المراجعات)(1)، صاحب الأثر العظيم في نشر أفكار أهل البيت(عليهم السلام)، حيث أدّى كتابه هذا إلى رجوع الكثير من أبناء العامة إلى الطريق الصحيح في العقيدة والعمل، بعدما أماط لهم الحجاب عن الوجه الناصع لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وفكرهم الحقّ الوضّاء.

وقفةٌ مَعَ كاتب

أحد الكتّاب المعروفين(2) كتب كتاباً حول شخصية الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام). وكان الكاتب مسيحياً، وقبل مدّة التقى به بعض الأصدقاء، وقال لهم: إني مشغول في الكتابة عن شخصية الإمام الحسين(عليه السلام) منذ تسع سنوات، وسوف أنجز الكتاب بعد ثلاثة سنوات، وكان هذا الكاتب نفسه قد حضر إلى كربلاء، من ضمن المدعوين للمهرجان السنوي الذي يقام هناك، في ذكرى مولد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وكان الحديث يدور معه حول تأليفاته، ورأيه في اعتناق الإسلام، وكان يُبدي إعجابه الكبير بالإسلام وشخصياته العظيمة، فعندمانسمع أن كاتباً مسيحياً يكتب حول أئمتنا (صلوات اللّه عليهم)، ويستغرق سنوات في البحث والكتابة عنهم، فمن الأولى أن يقوم كُتّابنا بأكثر من ذلك. هذا

ص: 510


1- للسيد عبد الحسين شرف الدين(رحمه الله).
2- هو: جورج جرداق (1933م-2014).

أولاً، وأيضاً: يكون هذا الكاتب درساً لكتّابنا، في حشد الهمم والصبر، والتأني في الكتابة والبحث، لكي تكون المعاني عظيمة، وذات تأثير بالغ في الآخرين. وأن لا يكون هدفنا هو إتمام الكتابة وإخراج الكتاب إلى الأسواق.

دعوة إلى من يهمّه الأمر

اشارة

يسأل البعض عن قلّة ما كتب حول السيدة الزهراء، أو الإمام الجواد أو الهادي(عليهم السلام)، فضلاً عن أنّ الكتب التي تتكلم حول الأئمة كلهم ما زالت محصورة في بلداننا الإسلامية، ولم تخرج إلى المجتمعات الغربية، وحتى لو وصلت فإن ما وصل منها قليل كالقطرة في البحر. فما زال أئمتنا(عليه السلام) غير معروفين خارج العالم الإسلامي بالشكل المطلوب، بل وحتى في بعض بلداننا الإسلامية هناك الكثير ممن يجهلون - ولا يعلمون شيئاً عن - الأئمة(عليهم السلام)، وسيرتهم، وتأثيرهم على مسيرة الإنسانية وتقدمها. فنلاحظ مثلاً في بعض الدول الإسلامية أن بعض الكتاب يركزون على حياة شخص مثل غاندي، ويتناول كل الظروف المحيطة بذلك الشخص، ويكتب حول هذه الشخصية الكتب العديدة، ويتجاهل في نفس الوقت سيرة الأئمة(عليهم السلام)، وهم الذين رفدوا الإنسانية بكل المعاني والقيم السامية، ولأجلهم خلق الكون. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على اللامبالاة الذي يعيشها بعضنا. فالكتب التي كتبت حول الأئمة(عليهم السلام)، وحول معتقداتنا قليلة جداً بالقياس إلى ما هو مفروض أن يكتب في هذا المجال، وكذلك قليلة بالقياس إلى كتب اليهود أو النصارى حول معتقداتهم. وتكاد تكون حصيلة ذلك (10%) فقط، إذا قيست بكتابات الآخرين. فنحن بحاجة إلى إنشاءمؤسسات، تتولى مسؤولية إصدار وجمع ونشر الكتب التي تتكلم عن سيرة أهل البيت(عليهم السلام)، وتصديرها إلى أنحاء العالم بكافة اللغات، وإزالة المعوقات التي

ص: 511

تقف بوجه ذلك، والتي من ضمنها:

أولاً: تشتت الجهود: فإن أكثر الجهود مشتتة ومتناثرة فلو اجتمعت تحت مؤسسات وهيئات لكان النتاج عظيماً جداً.

ثانياً: العجز المادي، أو بالأحرى عدم مناسبة المبالغ المصروفة على مثل هكذا مؤسسات، فإن أكثر مؤسساتنا الموجودة تعاني من النقص المادي، أو أنها لا ترغب في صرف أموالها في هكذا مشاريع، بحيث لا تدرّ عليها أرباحاً مادية كبيرة. وهذا ناتج عن ضعف الإيمان وهبوط المعنويات، وعدم السعي بإخلاص لخدمة أهل البيت(عليهم السلام) ونحن بدورنا ندعو المؤسسات الإسلامية نحو الاتحاد، ومضاعفة الجهود، والاهتمام الكبير بالكتّاب الاسلاميين، وتسهيل كافة ما يحتاجون إليه.

الشعور بالمسؤوليَّة

إن الإحساس الواعي، والشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتق كل فرد مسلم، هو الذي دفع الشيخ الصدوق(رحمه الله) إلى أن يكتب كتاب الخصال، وثواب الأعمال، وأماليه، ومعاني الأخبار، وعلل الشرائع. وهو الذي دفعه أيضاً لأن يكتب كتاباً في الفقه بعنوان: من لا يحضره الفقيه. فالشيخ الصدوق هو أوّل شخص استطاع تنظيم وترتيب الأحاديث بشكل مرتب ومفيد. وهو نفس الشعور الذي دفع شيخ الطائفة الطوسي الذي انتهت إليه رئاسة المذهب وزعامته، فقد دفعه الإحساس بالمسؤولية الملقاة عليه، إلى الكتابة والتصنيف في مختلف الأبواب والعلوم الإسلامية، من الكلام والفلسفة والحديث والعقائدوالتفسير. فقد كتب كتاباً حول تفسير القرآن العظيم، باسم: التبيان ولا زال أهل العلم يستفيدون منه إلى يومنا هذا. وكتب كتاباً في الفقه أسماه: الخلاف وهو

ص: 512

كتاب مفيد جداً وقيّم. وهو ذات الشعور الذي دفع بالشيخ المفيد نحو الكتابة والتأليف، وحفظ التراث، وردّ الشبهات، والدفاع عن حرمة الإسلام، وسار على غراره الشيخ محمد باقر المجلسي صاحب بحار الأنوار، وكذلك الحر العاملي صاحب الوسائل، وغيرهم من الأعلام الذين صانوا ما تبقّى من التراث المقدس لأهل بيت العصمة والطهارة. فكما كان أولئك الأعلام لديهم هذا الحس والشعور بضرورة الكتابة، فلا بد أن نكون نحن على غرار ما كانوا عليه، فعلينا أن نسعى للكتابة والتأليف للدفاع عن مبادئ الإسلام وسيرة السلف الصالح من أتباعه، ونصون ما وصل بأيدينا بفضل أولئك الأعلام، ونثمن تلك الجهود الجبارة التي بذلت في سبيل الإسلام.

هناك بعض المجلات، والصحف والكتب، في العالم تنتقد الإسلام، وتهزأ بالأحكام والحدود الشرعية، مثل الجَلْد، والرجم بالحجارة، وباقي الحدود الأخرى. وإنهم يتصورون بأن ذلك علامة على التأخر، فياترى: هل كتبنا إلى هذه المجلات والصحف عن حقيقة الأوامر والحدود الإلهية؟ من هو المسؤول عن مخاطبة وردّ هذه المجلات والصحف؟! ومن هو المسؤول عن إفهام العالم بالقوانين الإسلامية والإجابة على هذه التساؤلات؟ إنّ المسؤولية تقع على عاتق الجميع كلاً حسب موقعه، لذا علينا التسلح بالقلم والبيان، وأن نكون كثيري العمل والنشاط، لكي ننتصر على أعدائنا، الذين يريدون لنا الدمار والهلاك، فلكي نتمكن من تحقيق هذا الأمر، لا بدّ أن يتكاتف الجميع من طلاب وعلماء، ثم يباشروا في كتابة الكتب والمقالات التي توضح للناس بأنّالإسلام دين النظام والحياة، وتردّ الشبهات والأقاويل الباطلة التي يطلقها أعداء الإسلام.

ص: 513

التخوّف الغَربي مِن الإسلام

اشارة

أحد الكتّاب الألمان(1) كتب كتاباً قبل أكثر من خمسين سنة - تقريباً - يحذر فيه العلماء ورؤساء الدول الغربية من قوة الإسلام، وتنامي قدراته، ويطلب منهم الوقوف أمام تقدمه وزحفه. فيصف الإسلام بأنه ماردٌ جبار، أي أن الإسلام صاحب قوة جبارة، وقدرة فائقة، لا تضاهيها أي نظرية أو فكرة أخرى، ولهذا فهو يحذر الحكومات الاستعمارية، والمفكرين الغربيين من الإسلام، ودليله على ذلك هو: أنه يرى الإسلام يمتلك أربع مزايا:

أولاً

أن البلاد الإسلامية يقع أغلبها في وسط الكرة الأرضية، وأنها إذا استخدمت القوة بشكل كافٍ تستطيع الهجوم والقضاء على جميع الدول الكافرة وقد قرأت في إحدى الصحف الكويتية، نقلاً عن إحدى المقالات الأوروبية: أن علماء الاتحاد السوفيتي يتوقعون ويقولون بأن بوصلاتنا القطبيه سوف تشير في المستقبل القريب إلى الكعبة المشرفة بأنها مركز القطب المغناطيسي، وأن الأنبياء(عليهم السلام) بُعثوا في هذه المناطق الحساسة والمهمة.

ثانياً

إنّ البلدان الإسلامية تمتلك ثروات طبيعية هائلة، لذا فهم ليسوا في ضائقة من الناحية الاقتصادية.

ثالثاً

إن القانون الإسلامي يشجع على الزواج، مما يؤدي ذلك إلى الازدياد السريع في تعداد المسلمين بحيث يشكلون ضغطاً كبيراً ورصيداً لا ينضب.

ص: 514


1- الكاتب باول شمتز وكتابه: (الإسلام قوة الغد).
رابعاً

السبب الرئيسي في تقدم الإسلام هو: أن الدين الإسلامي يمتلك خاصية التطور ومواكبة الزمن، أي أنّ له برامج ونظاماً للحياة في جميع مجالاتها، وفي جميع الأزمنة، ونظمه تمتاز بالفائدة الكثيرة، وكلما تأتي أجيال فإنها تقبل هذا الدين بكل قوة وكمال. فعندما يمتلك المسلمون مثل هذه المزايا الكبيرة، فسوف يقضون علينا، شئنا ذلك أم أبينا. ولهذا فيجب أن نسعى لإعادة الحروب الصليبية، وإشعال مختلف الفتن والحروب ضد المسلمين، لكي نقضي عليهم، ولكي لا يتمكنوا من السيطرة علينا في المستقبل ومن ثم القضاء عليهم.

إذ قال هذا الكلام في زمن كانت فيه أغلب الدول الإسلامية تحت السيطرة الاستعمارية الغربية. وهذا يدل على خوفهم من قوة وعظمة الإسلام المتنامية، وأنهم يخشون من يقظة المسلمين، واستفادتهم من تعاليم دينهم العظيم. فعلى هذا الأساس فإن الاستعمار وضع هذه العوامل الأربعة نصب عينيه، وأخذ يسعى دوماً إلى خلق الفتن والحروب، لجرّ الويلات والأذى والسوء على البلدان الإسلامية، بصور مختلفة. فهم من جانب قطّعوا البلاد الإسلامية إلى دويلات صغيرة، وذلك لكي يتمكنوا من السيطرة عليها بسهولة، ومن جانب آخر أشعلوا الحرب الداخلية في لبنان، وأفغانستان، وفي مصر، والسودان، والعراق، وهكذا في كل يوم نلاحظ الأيدي الخفية تتحرك لإشعال الحروب في المنطقة الإسلامية، فمن أجل ذلك: لا بدّ أن يعي المسلمون كل ما يدور حولهم، ويهتموا بالكتابة من أجل إعادة الوحدة الإسلامية إلى ما كانت عليه، ونشر الأخوّة الإسلامية، والمطالبة بالحرية الإسلامية... وكذلك يقدمون علىنشر مبادئ الإسلام في داخل المجتمعات الغربية وخارجها، وذلك بفتح مؤسسات وكيانات إسلامية في قلب الدول الكافرة والملحدة. وهذه الكيانات

ص: 515

تشق طريقها في المستقبل نحو السيطرة على فكر الفرد الأوروبي وتجذبه إلى الإسلام.

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصِدق النيّة، وعرفان الحُرمة، وأكْرِمنا بالهدى والاستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعِلم والمَعرفة، وطهِّر بطوننا من الحرام والشبْهة، واكْفف أيدينا عن الظلم والسرقة»(1)، بحق محمّد وآل محمّد.

من هدي القرآن الحكيم

ينبغي لمن يمتهن الكتابة أنْ يلتزم بأمور
1- تقوى اللّه

قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(2).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ...}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ...}(4).

وقال جلّ وعلا: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(5).

2- الإنصاف والعدل

قال عزّ اسمه: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُ بِالْعَدْلِ}(6).وقال جلّ شأنه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ

ص: 516


1- البلد الأمين: 349.
2- سورة البقرة، الآية: 194.
3- سورة آل عمران، الآية: 102.
4- سورة النساء الآية: 1.
5- سورة المائدة، الآية: 100.
6- سورة البقرة، الآية: 282.

النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}(1).

وقال عزّ من قائل: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).

وقال جلّ ثناؤه: {...وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ...}(3).

3- الصدق

وقال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّٰدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ...}(6).

وقال جلّ شأنه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَٰتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ وَالْقَٰنِتِينَ وَالْقَٰنِتَٰتِ وَالصَّٰدِقِينَ وَالصَّٰدِقَٰتِ وَالصَّٰبِرِينَ وَالصَّٰبِرَٰتِ وَالْخَٰشِعِينَ وَالْخَٰشِعَٰتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَٰتِ وَالصَّٰئِمِينَ وَالصَّٰئِمَٰتِ وَالْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَٰفِظَٰتِ وَالذَّٰكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(7).

4- الوعي

قال عزّ اسمه: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ

ص: 517


1- سورة النساء، الآية: 58.
2- سورة المائدة، الآية: 8.
3- سورة الشورى، الآية: 15.
4- سورة المائدة، الآية: 119.
5- سورة التوبة، الآية: 119.
6- سورة الأحزاب، الآية: 24.
7- سورة الأحزاب، الآية: 35.

فَعَلَيْهَا...}(1).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي...}(2).

وقال عزّ من قائل: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

ينبغي لمن يمتهن الكتابة أن يلتزم بأمور
1- تقوى اللّه

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أحب العباد إلى اللّه الأتقياء...»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه التي هي الزاد وبها المعاذ...»(5).

وقال الباقر(عليه السلام): «... أحب العباد إلى اللّه عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته...»(6).

قال الإمام الصادق(عليه السلام) لعمرو بن سعيد الثقفي: «... اُوصيك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد...»(7).

2- الإنصاف والعدل

قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) في وصية له لعلي(عليه السلام): «يا علي سيد الأعمال ثلاث

ص: 518


1- سورة الأنعام، الآية: 104.
2- سورة يوسف، الآية: 108.
3- سورة الحاقة، الآية: 12.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 5.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 114 من خطبة له(عليه السلام) وفيها مواعظ للناس.
6- الكافي 2: 74.
7- الكافي 2: 76.

خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومواساة الأخ في اللّه عزّ وجلّ وذكر اللّه تبارك وتعالى على كل حال...»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «في العدل صلاح البرية»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في حديث له: «ألا اخبركم بأشدّ ما فرض اللّه على خلقه»، فذكر ثلاثة أشياء أولها: «إنصاف الناس من نفسك»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة»(4).

3- الصدق

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «زينة الحديث الصدق»(5).

وقال الإمام علي(عليه السلام): «الصدق أشرف رواية»(6).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «تعلّموا الصدق قبل الحديث»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من صدق لسانه زكى عمله»(8).

4- الوعي واليقظة و...

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلّا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع»(9).

ص: 519


1- الخصال 1: 125.
2- عيون الحكم والمواعظ: 353.
3- الكافي 2: 145.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 24.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 402.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 49.
7- الكافي 2: 104.
8- الكافي 2: 104.
9- الكافي 1: 33.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رحم اللّه إمرأً تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر...»(1).

وقال(عليه السلام): «اليقظة نور»(2)

اليقظة استبصار(3).

وقال(عليه السلام): «من تبصّر في الفطنة ثبتت له الحكمة، من ثبتت له الحكمة عرف العبرة»(4).

ص: 520


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 103 من خطبة له(عليه السلام).
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 21.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 24.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 642.

مفهوم الشجاعة

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنا وضعت في الصغر بكلاكل(1) العرب، وكسرت نواجم(2) قرون ربيعة ومضر»(3).

الشجاعة من الصفات الحميدة، ومن الفضائل التي ينبغي أن يتحلّى بها كلّ مؤمنٍ، لذا قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشجاعة زين»(4)، وذلك في مقابل الشين، وَهو الأمر المعاب غير المرغوب. والشجاعة سلاح ذو حدين، يمكن أن تستخدم بصورة صحيحة ومفيدة، ويمكن أن تتحول إلى التهور والاستهتار، فيقوم حاملها بظلم الناس، والاعتداء عليهم. وكلّما استخدمت بصورة عقلائية كان النجاح حليفها، كما هو واضح من سيرة الرسول الأكرم، والإمام أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، وبالعكس كلّما استخدمها الإنسان في الظلم والبغي والاعتداء كلّما كان الخسران والفشل يرافقها إلى أن تنعكس الآثار السلبية، الناتجة عنها، على نفس الشخص، فتؤثر عليه وتعيق مسيرة كماله، كما جاء في الحديث الشريف: «آفة الشجاعة البغي»(5). فعندما يفقد الإنسان الشجاع توازنه، ويضيّع

ص: 521


1- كلاكل: أي الصدور والتعبير به عن الأكابر.
2- نواجم: القرون الرفيعة وهو تعبير عن أشراف القبائل.
3- نهج البلاغة الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 21.
5- الخصال 2: 416.

هدفه في الحياة، وتضطرب رؤيته للأشياء، فإنه يزداد جانب التفريط، وهو التهور، وعدم الانضباط. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «آفة الشجاع إضاعة الحزم»(1).

ويقابل هذا الجانب، جانب الإفراط، وهو الجبْن والخوف، وهما من الصفات المذمومة للرّجال فلا إفراط ولا تفريط. فإن الدين الإسلامي بل حتى الطبع الإنساني، وذوق العقلاء، تقضي بأن يكون الإنسان في حالة وسط بين هاتين الصفتين، بغية الوصول إلى كماله؛ لأن الشجاعة من الكرم والجود والوفاء بالعهد، وما إلى ذلك من الصفات التي تكون سبباً للكمال والرفعة.

الشجاعة بين الاعتدال والتهوّر

إنّ الأرضيّة التي تستند عليها جميع الصفات الحميدة هي الإيمان والعقل، فكلّما قوي الإيمان باللّه، وازدادت معرفة الإنسان؛ كان مراعياً لحرمات اللّه تعالى وأحكامه. والعكس كذلك، فبقدر ما يضعف الإيمان أو ينعدم، وبقدر الجهل، وعدم المعرفة؛ يزداد الإنسان انحرافاً ويعثوا في الأرض فساداً. والشجاعة من جملة الصفات الحميدة التي تتخذ الإيمان والعقل منطلقاً لها، فإذا كانت هذه الأرضية صالحة وجيدة كان هناك اعتدال، وكان استعمال الشجاعة في موضعها ووقتها المناسب. فأمير المؤمنين(عليه السلام) من أشجع الشجعان، منذ نعمومة أظفاره. ولقد كانت الأرضية عنده خصبه، بحيث يعجز القلم واللّسان عن وصفها. فشجاعة أمير المؤمنين(عليه السلام) كانت سبباً لانتصارات الإسلام، وكفى بمنادي السماء شهادةً له بذلك حينما قال: «لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي»(2). فهل كانت شجاعته هذه على سبيل التهور وعدم الإنضباط وقلّة العلم؟

ص: 522


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 279.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 200، والهواتف: 20.

هيهات. فلم نسمع، ولم نقرأ إلى اليوم - في كتب الفريقين - أن أمير المؤمنين(عليه السلام) ظلم أحداً أو اعتدى على أحد أو استخدم شجاعته في غير طاعة اللّه عزّ وجلّ.

لنأخذ نموذجاً واحداً من سيرته العطرة، ففي حرب الأحزاب، وعندما التقى بعمرو بن عبد ودّ العامري فصرعه، وطرحه أرضاً، وجلس على صدره، نرى الإمام(عليه السلام) لم يعجّل في قتله لأن ذلك اللعين بصق في وجه الإمام(عليه السلام) فتركه لشأنه حتى خمدت فورة غضبه من ذلك ثم عاد إليه فقتله طاعة للّه تعالى لا بدافع الانتقام(1)، فمواقف أمير المؤمنين(عليه السلام) البطولية جارية إلى اليوم على لسان المسلمين عامة، ولا نجد كتاب سيرةٍ يتطرق إلى حياته(عليه السلام)، إلّا وهو يطرق باب شجاعته، ويسندها بالشواهد التاريخية.

بَين الظُلم والشجاعة

اشارة

وهكذا يتبين أن الشجاع يمكن أن يكون إنساناً يخدم الناس بواسطة شجاعته في طرد الأعداء ورفع الظلم عنهم، ويمكن أن يكون الشجاع ظالماً، والظلم من السجايا الراسخة في الكثير من النفوس. وقد عانت منه البشرية في تاريخها بشتّى ألوان المآسي والأحوال. وقد تكاثرت الآيات والأخبار الواردة بذمّه والتحذير منه؛ قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ}(2). {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(3). {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(4).

ص: 523


1- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 115.
2- سورة الأنعام، الآية: 21.
3- سورة المائدة، الآية: 51.
4- سورة آل عمران، الآية: 57.

والفارق الرئيسي بين الاتجاه الأول والاتجاه الأخير: هو مستوى الإيمان باللّه عزّ وجلّ، والمعرفة به ومدى اتساع الأُفق الفكري والنضج العقلي. وبطبيعة الحال إنّ للظلم صوراً متعددة، ولكن أشدّها وأقبحها هو ظلم الحكام والمتسلطين على الشعوب؛ لأن ظلمهم واستبدادهم غالباً ما يكون جماعياً وشاملاً، بحيث يشمل أكبر عدد من الناس، فيخنقون الحريات، ويمتهنون الكرامات، ويصادرون الأموال ويسخرونها لمصالحهم الخاصة. أما إذا كان الحاكم يسخّر سلطاته ونفوذه وشجاعته في سبيل شعبه، وفي سبيل الإنسانية بصورة عامة، كما هو الحال في ذي القرنين؛ فإن ذلك هو الهدف الحقيقي من الشجاعة؛ قال تعالى: {قَالُواْ يَٰذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}(1) حيث طلبوا منه أن يخلّصهم وينجيهم من فساد يأجوج ومأجوج، ويرفع عنهم ظلمهم وخطرهم. وفعلاً قام ذو القرنين بوضع السدّ، وحَجَز قوم يأجوج ومأجوج، وأبْعَد خطرهم عن المؤمنين: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَٰعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَٰعُواْ لَهُ نَقْبًا}(2).

تصوّر الظلم شجاعة!

رضاخان بهلوي كان يعرف باستبداده وعناده، وتأثره الكبير بالغرب، كما عُرف بعلاقاته المشبوهة بالإنجليز. وفي زمانه خضعت البلاد لنظام تسلّط بوليسي شديد. ولقد عمل رضاخان على إلغاء الحريات الفردية، هادفاً من وراء ذلك

ص: 524


1- سورة الكهف، الآية: 94.
2- سورة الكهف، الآية: 95-97.

تثبيت سلطته، وتصرّف تصرف طاغية حقيقي، فأزال كلّ المعارضين، إما بالنفي أو الإعدام، ثم ألغى مرسوم (اسم فارس) فجعله (إيران) معتبراً أنّ لفظة (فارس) رمز كريه للماضي، حيث يذكره بالتراث الإسلامي، وقد عمل غرار ما فعله أتاتورك، حيث أمر برفع الحجاب، ودعا إلى السفور، وحارب علماء الدين بقوة، وأفشى حالات الفساد والانحلال الأخلاقي والدعارة في البلاد، إلى أن أدّى هذا الوضع إلى هيجان نقمة المومنين، فاجتمع الناس بقيادة العلماء في مسجد (كوهرشاد)، في مدينة مشهد المقدسة؛ فقاموا بتنظيم مسيرة ضد هذه التصرفات المخالفة للدين والخلق الإنساني. فأمر رضاخان بإغلاق أبواب حرم الإمام الرضا(عليه السلام) ومسجد كوهرشاد(1)، ثم واجه الناس العزّل بالسلاح الفتاك، فاستشهد على إثرها المئات، ثم ألقى القبض على مجموعة من العلماء، من بينهم آية اللّه يونس الأردبيلي، الذي كان له الدور الرئيسي في هذه التظاهرة السلمية. ثم أُودعوا السجن، وصدر قرار الإعدام بحقهم، إلّا أنه لم ينفّذ. فحاول رضاخان أن يُملي ما يريد على هؤلاء المؤمنين، فوضع (18) شرطاً، إذا وقعوا عليها، فإن قرار الإعدام سوف يُلغى بحقهم، ويُفرج عنهم، وكان من ضمن الشروط هو عدم التدريس وعدم إقامة المآتم الحسينية، وصلاة الجمعة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الأذان وغلق الحوزات العلمية...، فلمّا نظر آية اللّه الأردبيلي إلى هذه الشروط، قال للضابط: أريد أن تضيف إليها شيئاً، وهو أنني لن أوقّع على هذه الورقة، وافعلوا مابدالكم. وهنا تبرز شجاعة الإنسان المؤمن، وهو اختيار الموت من أجل الدفاع عن الدين وشعائر الدين... وظل آية اللّه الأردبيلي

ص: 525


1- گوهرشاد: هي زوجة الأمير شاهرخ بن الأمير تيمور الكوركاني أمير هرات وخراسان وسمي المسجد باسمها لأنها هي التي أحدثته.

صامداً مع من معه إلى أن أُفرج عنهم، على أثر التظاهرات التي حدثت ضد الشاه في الباكستان والهند وغيرها.

فهنا كان للشجاعة التي أبداها أُولئك المؤمنون دور بارز في الحفاظ على الدين الإسلامي في إيران، ولولا هذه الاعتراضات والوقفات البطولية من قبل المؤمنين، لتمادى الشاه في هدم الدين ومسحه. وكلّما بقي الدين كانت سيرة الناس حسنة ومرضية، وغير مخالفة للطبع الإنساني، وبالتالي، فالدين يحفظ المجتمع بكامله. وهذا من إيجابيات صفة الشجاعة. فلولا الشجاعة لما دافع المرء عن دينه، ولا عن نفسه، ولا عن ماله، ولا عن أي شيء.

مواقِف بطوليّة

إنّ الثبات على المبدأ والعقيدة يتطلب من الإنسان أن يكون شجاعاً، فيقول ويصرّح بما يؤمن به، ثم يحافظ على اعتقاده وإيمانه بهذا المبدأ.

رشيد الهجري واحد من حواري الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام). وقد رافق الإمام بقلبه وفكره وعقائده، رافقه بروحه وجسده حتى أن الامام(عليه السلام)، من شدة ارتباطه ووثاقته برشيد، كان يخبره ببعض الأمور المستقبلية، لا سيما حول قتله على يد زياد ابن سمية. فعندما قبض ابن سمية عليه، قال له: بماذا أخبرك خليلك ابن أبي طالب، أنّا فاعلون بك؟ فردّ عليه قائلاً: لقد أخبرني بأنكم تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني، فقال أما واللّه لأُكذبن حديثه. خلّوا سبيله، فأطلقه الجلاوزة، فلما خرج، قال زياد لجلاوزته ردّوه. فلما أرجعوه إليه قال: واللّه لا أجد شيئاً أصلح لك مما قال صاحبك، فأمر بقطع يديه ورجليه. فبقي رشيد يتكلم، ويشتم معاوية، وزياداً، وبني أمية، فاغتاظ زياد، وأمرهم أن يصلبوه ويقطعوا لسانه، ولما همّوا بقطعه، قال هذا واللّه ما أخبرني به أمير المؤمنين

ص: 526

علي بن أبي طالب(عليه السلام)(1).

إن آلام السيف الذي قطّع رشيد الهجري إلى أوصال، ثم قطع لسانه لم تؤثر شيئاً على إيمانه الراسخ بحبّه لأمير المؤمنين وولائه وإخلاصه لأهل البيت(عليهم السلام)، وكذلك الحال مع عمرو بن الحمق الخزاعي الذي أعرب عن ولائه وإخلاصه لأمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: واللّه ما أحببتك للدنيا، ولا لمنزلة تكون لي بها، وإنما أحببتك لخمس خصال: لأنك أول المسلمين إيماناً، وابن عمّ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، وأعظم المهاجرين والأنصار جهاداً وتضحية وتفانياً في سبيل النبي محمد(صلی الله عليه وآله وسلم) ورسالته، وزوج بضعة الرسول سيدة النساء(عليها السلام)، وأب لعترة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وذريته(عليهم السلام). واللّه لو قطعت الجبال الرواسي، وعبرت البحار الطوامي(2)، في توهين عدوك، وتلقيح حجتك، كان ذلك قليلاً من كثير ما يجب عليّ من حقك(3). وأيضاً تتبعه معاوية وزياد بن سميّة، فسجنا امرأته، ثم قتلا زوجها، وحزّا رأسه، ثم أمر زياد أن يرسلوه إلى زوجته آمنة بنت الشريد. فوضعوه في حجرها، وهي لا تعلم من أمره شيئاً، فلمّا نظرت اضطربت، وكادت أن تموت لهول الصدمة، ثم طلب منها معاوية أن تتبرأ من ولائها لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)(4).

هذه صور عن الصمود والثبات على المبدأ والاستقامة في الطريق وعدم الاكتراث بالموت والتعذيب والتهديد. هذه البطولات سجلّها الأولياء، لتظل رافداً للأجيال التي تسلك هذا الطريق. وحقاً إنّ قول كلمة الحق أمام السلطان

ص: 527


1- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 294.
2- انظر الإختصاص: 14.
3- الطوامي: الممتلئ، طمى البحر إذا امتلأ ماءً.
4- انظر بلاغات النساء: 87.

الجائر تحتاج إلى شجاعة وإرادة قويّة، نابعة من الإيمان الواقعي الخالص، ولذلك كانت هذه الكلمات التي تركها الأبطال أمام الطواغيت تعيش في كل زمان، وتتمثل بها معظم الأجيال، فنحن إلى الآن نسجّل كلمات مولاتنا زينب(عليها السلام) أمام يزيد بن معاوية، بماء من ذهب، ونقتدي بها كأُسوة وقدوة(1).

الجُبْن منقَصَة

جاء عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّ «من هاب خاب»(2).

وذلك هو واقع الأمر، فإنّ طريق الوصول إلى الأماني والأهداف المنشودة طريق مليء بالعراقيل والمخاوف والمطبّات غالباً، ولكن أهميّة الهدف الذي يسعى نحوه الإنسان يجعله في حركه دائبة، فيتحمل مشاكل الطريق وأعباءه، ويتغلب على المخاوف، فيمضي قُدماً حتى يصل إلى ضالّته. ولكن إذا أُصيب هذا الإنسان في أثناء سيره بمرض الخوف والجبن، فإنه يترك المسيرة مطلقاً، لأنّ المخاوف وما في الطريق من مشاكل، كلّها سوف تتغلب عليه فيعود خاسراً. وهذا: معنى الخيبة، وأنّ سوف تتغلب عليه فيعود خاسراً. وهذا: معنى الخيبة، وأنّ «من هاب خاب».

ومن ذلك سوف نخرج بنتيجة وهي: إنّ الجبن يعيق عملية التكامل الإنسانية، لأنه يدعو المرء إلى الجمود، وعدم الإقدام، وعدم الحركة، وهذه سوف تفقد الإنسان الكثير. وهذا ما بيّنه - أيضاً - الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، إذ قال: «الجبن منقصة»(3)، لأنه يسلب من الإنسان أحد كمالاته، وهو الشجاعة والإقدام. ثم يؤثر هذا على كلّ مجالات الحياة، فيصبغ الحياة بلون الجبن، ويصبح هذاالإنسان يخاف من كل شيء، من الإقدام على اتخاذ القرارات، ومن السير بمفرده

ص: 528


1- انظر الإحتجاج 2: 307.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 576.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 3.

في الظلام، ومن الأصوات، ومن الحقائق؛ كما هو حال الذين قالوا لرسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، في حرب الخندق: {... إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}(1).

إنّ من أصعب المعاوك التي خاضها المسلمون هي معركة الخندق، إذ يصفها اللّه تعالى: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَٰرُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا۠ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالًا شَدِيدًا}(2). ففي مثل هذا الموقف الرهيب، يطلب بعض المسلمين من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) أن يسمح لهم بترك ساحة المعركة؛ لأنّ بيوتهم عورة ولم تكن كذلك، وإنما جبناً منهم، فأرادوا الفرار والهرب، وهذه من سمات الجبناء؛ الهروب في المواقف التي تتطلب منهم الثبات، فهؤلاء لم يريدوا أن ينصروا الإسلام الذي يوصلهم إلى كمالهم، ويعلّمهم طرق الخير، بل إنهم دائماً يختارون الطرق المغلقة، التي تزيد من جبنهم؛ قال تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لَأتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}(3). أي: إنهم لا يترددون في الالتجاء إلى جبهة الكفر، والتخلي عن المسلمين، لا لشيء سوى الفرار من حالة الرعب والخوف من القتل. فالجبن يقود الإنسان إلى ما يجعل الطرق أمامه مسدودة فيتشبث بكلّ شيء، وإن كان باطلاً. الجبان لديه استعداد تام - غالباً - لترك الحق والالتحاق بالباطل، لما في طريق الحق من مخاطر ومواقف تتطلب الشجاعة. ودائماً طرقالباطل مغلقة، تقود الإنسان نحو الخسران، ولذلك يحذر الإمام أمير

ص: 529


1- سورة الأحزاب، الآية: 13.
2- سورة الأحزاب، الآية: 10-11.
3- سورة الأحزاب، الآية: 14.

المؤمنين(عليه السلام) من صفة الجبن بقوله: «احذروا الجبن فإنه عار ومنقصة»(1).

مِن ملّف الشجاعة

قال ابن أبي الحديد، وهو يتحدث عن شجاعة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة، يُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فرّ في موقف قطّ، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلّا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية، وفي الحديث: (كانت ضرباته وتراً). ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو (بن العاص): لقد أنصفك، فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلّا اليوم. أتأمرني بمبارزة أبي الحسن، وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي(2).

لقد مثّل الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أروع حالات الفروسية والبطولة والإقدام. والكلام عن شجاعته كالشمس في رابعة النهار، فلقد طار صيته في كل مكان، حتى أن عضد الدولة وركن الدولة، قد رسما صورته على سيفهما تفاؤلاً بالنصر والظفر(3).

ولقد كانت شجاعته تحمل في طيّاتها أسمى معاني الفضل والكرم والحلم والعفو والسماحة فقد نُقل عن مؤدّب الواثق، قال: سمعت ابراهيم بن رياح يقول:

ص: 530


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 160.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 20.
3- عضد الدولة وركن الدولة كانا في زمن الخليفة المستكفي وهما من بني بويه الذين جاءوا من إيران واستولوا على العراق سنة (334ه) وانتهى حكمهم سنة (447 ه)، وفي عهد بني بويه انتشر العلم والأدب بكل ألوانه وكانوا من الشيعة.

تُستحق الخلافة بخمسة أشياء: بالقرب من رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، والسبق إلى الإسلام، والزهد في الدنيا، والفقه في الدين، والنكاية في العدو، فلم ير هذه الخمسة أشياء إلّا في علي(1).

ولقد كان صاحب لواء رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) في كل مشهد(2). ولو أعرضنا عن كل مواقفه، ونظرنا إلى موقفه في الخندق؛ لكفى. وذلك لقول رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «أبشر يا علي، فلو وزن اليوم عملك بعمل جميع أمة محمّد، لرجح عملك على عملهم»(3).

لقد ذكر ابن اسحاق: أن عمرو بن عبد ودكان ينادي: من يبارز؟ فقام علي(عليه السلام)، وهو مقنع في الحديد، فقال: «أنا له يا نبي اللّه»، فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «إنه عمرو، إجلس» ونادى عمرو: ألّا رجل؟ ويؤنبهم ويسبّهم ويقول: أين جنّتكم التي تزعمون أن من قُتِلَ منكم دخلها؟ فقام علي(عليه السلام) فقال: «أنا له يا رسول اللّه»، ثم نادى الثالثة، فقال علي: «أنا له يا رسول اللّه»، فقال: «إنه عمرو»، فقال: «وإن كان عمراً». فاستأذن رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) فأذن له فألبسه درعه، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وعمّمه عمامته، ثم قال له تقدّم، فقال لما ولّى: «اللّهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوق رأسه، ومن تحت قدميه»، إلى أن اقتتلا، وثارت عجاجة، فسُمع علي(عليه السلام) يُكبّر، فقال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) «قتله والذي نفسي بيده» فإذا علي(عليه السلام) يمسح سيفه بدرع عمرو، وأقبل نحو رسولاللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) ووجهه يتهلل(4).

ولا نبالغ لو قلنا: إن من أصعب المواقف في تاريخ الإنسانية كلها، الذي

ص: 531


1- تاريخ مدينة دمشق 42: 437.
2- معاني الأخبار: 60.
3- كنز الفوائد 1: 298.
4- انظر بحار الأنوار 20: 203.

يتطلب شجاعة وقوة إرادة، وصموداً أقوى من الجبال، وإيماناً راسخاً وعظيماً؛ هو: موقف سيد الشهداء أبيّ الضيم الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء.

بُطولات مِن نوعٍ خاص

الإمام الحسين(عليه السلام) عاش فترة كان المجتمع الإسلامي خلالها مفككاً بسبب ما شنّته حكومة بني أمية، من حرب شعواء ضد المؤمنين، ولا سيّما آل البيت(عليهم السلام)، فسببوا بذلك ابتعاد الأمة عن منهل الإسلام وتعاليمه القيمة وأوضعوا الأحاديث وأكثروا البدع فتاهت الأمة ورجعت القهقرى تدنّوا إلى الجاهلية شيئاً فشيئاً فكان الطريق الوحيد لإنقاذ الأمة من التيه وإيقاضها من سباتها، هو تفجير ثورة حمراء والمواجهة الحاسمة مع العدو، علماً بأنه كان قد خطّط، وأعدّ إعداداً جيداً للقيام بهذه الثورة العظيمة. وفعلاً، فقد واجه الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه القلائل جيش يزيد بن معاوية، المتكوّن من الألوف المؤلّفة، وحملت الثورة في طياتها ومشاهدها صور الإيمان الخالص، والحس الأبوي العاطفي الحريص على الأمة، المتمثل بالإمام الحسين(عليه السلام)، حيث كان يدعوهم إلى مراجعة أنفسهم، ويذكّرهم بأقوال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم)، ورغم صعوبة الموقف كان الإمام(عليه السلام)، يوصي أصحابه بالتحلي بالصفات الحميدة، والتمسك بتعاليم الإسلام، فقد أوصاهم بعدم الغدر والخيانة، وهكذا إلى أن ظل الإمام الحسين(عليه السلام) بمفرده أمام هذه الجيوش وصمد الإمام(عليه السلام) بوجه الأعداء إلى أنسقط مضرجاً بدمائه، في سبيل اللّه. وهو يقول:

القتل أولى من ركوب العار *** والعارُ أولى من دخول النار

ويقول(عليه السلام) أيضاً:

أنا الحسين بن علي *** آليت أن لا أنثني

ص: 532

أحمي عيالات أبي *** أمضي على دين النبي(1)

ولم يعرف للذلة أو الاستسلام وكان في قلبه الشريف فكان يقول(عليه السلام): «لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفِرّ فرار العبيد»(2).

فسلام عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً.

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، واجعل لي يداً على من ظلمني، ولساناً على من خاصمني، وظفراً بمن عاندني. وهب لي مكراً على من كايدني، وقدرة على من اضطهدني»(3).

من هدي القرآن الحكيم

الشجاعة والشدّة في الحق فقط

قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَايَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}(6).

ص: 533


1- انظر تسلية المجالس 2: 318، وبحار الأنوار 45: 49 و 50.
2- الإرشاد 2: 98.
3- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
4- سورة آل عمران، الآية: 173.
5- سورة المائدة، الآية: 54.
6- سورة الأحزاب، الآية: 39.

وقال جلّ وعلا: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(1).

لا للجبن ولا للتهاون

قال عزّ اسمه: {وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(2).

وقال جلّ شأنه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا مِنَ الْأخِرَةِ فَمَا مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فِي الْأخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}(3).

وقال عزّ من قائل: {انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(4).

وقال جلّ ثناؤه: {فَلَا تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ}(5).

نعم للاعتدال والاتزان في كل شيء

قال تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(6).

وقال سبحانه: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ}(7).

المؤمن يخاف اللّه فقط ويخشاه

قال عزّ وجلّ: {وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(8).

ص: 534


1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة آل عمران، الآية: 139.
3- سورة التوبة، الآية: 38.
4- سورة التوبة، الآية: 41.
5- سورة محمد، الآية: 35.
6- سورة البقرة، الآية: 195.
7- سورة الرحمن، الآية: 7-8.
8- سورة آل عمران، الآية: 175.

وقال جلّ شأنه: {فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}(1).

وقال عزّ اسمه: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}(3).

وقال عزّ من قائل: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

فضل الشجاعة:

قال الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم): «... ويجب (اللّه) الشجاعة ولو على قتل حيّة»(5).

وقال الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشجاعة أحد العزين»(6).

وقال(عليه السلام) في وصف المؤمنين: «نفسه أصلب من الصلد»(7).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «المؤمن أصلب من الجبل، الجبل يستقل منه والمؤمن لا يستقل من دينه شيء»(8).

من هو الشجاع؟

قال النبي الأكرم(صلی الله عليه وآله وسلم): «أشجع الناس من غلب هواه»(9).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «مرّ رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم) بقوم يرفعون حجراً، فقال: ما

ص: 535


1- سورة المائدة، الآية: 44.
2- سورة الأعراف، الآية: 154.
3- سورة الأنفال، الآية: 2.
4- سورة البينة، الآية: 8.
5- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 21.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 88.
7- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 333.
8- الكافي 2: 241.
9- من لا يحضره الفقيه 4: 395.

هذا؟ قالوا: نعرف بذاك أشدنا وأقوانا، فقال(صلی الله عليه وآله وسلم): ألّا أُخبركم بأشدكم وأقواكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: أشدكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له بحق»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أشجع الناس أثبتهم عقلاً في بداهة الخوف»(2).

في الجبن وذمه والنهي عنه

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «شر ما في الرجل شح هالع أو جبن خالع»(3).

وقال(صلی الله عليه وآله وسلم): «اعلم يا علي أن الجبن والبخل والحرص غريزة واحدة يجمعها سوء الظن»(4).

وقال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «شدة الجبن من عجز النفس وضعف اليقين»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يؤمن رجل فيه الشح والحسد والجبن ولا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً»(6).

فضيلة الخوف من اللّه تعالى

قال رسول اللّه(صلی الله عليه وآله وسلم): «وأما علامة التقي فستة: يخاف اللّه...»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لما كلّم اللّه عزّ وجلّ موسى بن عمران... ، قال:

ص: 536


1- معاني الأخبار: 366.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20: 304.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 29.
4- الخصال 1: 102.
5- عيون الحكم والمواعظ: 298.
6- الخصال 1: 83.
7- تحف العقول: 21.

إلهي فما جزاء من دمعت عيناه من خشيتك؟ قال: يا موسى أقي وجهه من حر النار وأومنه يوم الفزع الأكبر»(1).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «ابن آدم! لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك، وما كان الخوف لك شعاراً...»(2).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليهما السلام): «من خاف اللّه أخاف اللّه منه كل شيء ومن لم يخفف اللّه أخافه اللّه من كل شيء»(3).

ص: 537


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 208.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 337.
3- الكافي 2: 68.

ص: 538

فهرس المحتويات

العمل الصالح طريق التغيير

الإخلاص في العمل... 5

ستة آلاف كلمة... 5

العمل الصالح... 7

بين العمل الصالح والعمل الطالح... 7

من أسباب تخلف المسلمين... 9

العقائد المنحرفة... 11

الثوب الجديد... 12

الانحراف الفكري وأثره في الإسلام... 13

نقل الأموات... 14

متطلبات العصر... 15

كيف نخطو إلى الأمام... 16

من جرائم المستكبرين... 17

طريق التغيير... 18

مجلس الشورى... 19

إلى العاملين... 20

من هدي القرآن الحكيم... 22

المؤمن بعمله... 22

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... 22

ص: 539

الشورى والاستشارة... 23

سوء العاقبة... 23

الانحراف عن الصراط السوي... 24

الحكومات الجائرة وآثارها... 24

من هدي السنّة المطهّرة... 25

الاستشارة عين الهداية... 25

العمل رفيق المؤمن... 26

الموعظة حياة القلوب... 26

من فضائل علي(عليه السلام)... 27

مفاسد المستكبرين... 29

الغرب والحصار الاقتصادي على المسلمين

شمولية الإمداد الإلهي... 31

من هو المتقدم الفائز... 33

غفلة المسلمين... 34

تحطيم البنية الاقتصادية... 35

الإنجليز ودورهم في تدمير الاقتصاد العراقي... 36

الاكتفاء الذاتي ضرورة... 38

تجربة الهند مع الاحتلال البريطاني... 38

السعي إلى الاكتفاء الذاتي... 39

لا لليأس... 41

قصة واقعية... 43

العلاج الإسلامي الاقتصادي... 45

اقتصاد الدول المتقدمة... 47

الجد والاجتهاد في العمل... 48

ص: 540

قصة من التاريخ... 49

من هدي القرآن الحكيم... 51

لزوم العمل... 51

الأنبياء(عليهم السلام) والعمل... 51

التقدير في المعيشة... 52

أسلوب الكفار والمستعمرين... 52

من مقومات العزة... 53

من هدي السنّة المطهّرة... 53

لزوم العمل... 53

الأنبياء(عليهم السلام) والعمل... 54

التقدير في المعيشة... 54

آثار المال في المجتمع الإسلامي... 55

من مقومات العزة... 56

الفهم السياسي

السياسة وقانون الأسباب والمسببات... 57

الفهم السياسي... 59

مفهوم السياسة... 60

التوعية والتثقيف... 65

الاستهلال والفهم السياسي... 66

العلماء والفهم السياسي... 67

احتلال أفغانستان... 68

شهادة زور... 70

مواجهة الأعداء والفهم السياسي... 70

التفرقة مخطط الأعداء... 72

ص: 541

من مقومات الفهم السياسي... 73

التحقيق والتدبر... 74

إيجاد الوعي العام... 76

من هدي القرآن الحكيم... 77

لكل شيء سبب... 77

معارف ضرورية... 77

معرفة الدين... 78

معرفة الناس... 78

ضرورة نشر المعرفة... 78

دور العلماء في مواجهة الانحراف... 78

من هدي السنّة المطهّرة... 79

لكل شيء سبب... 79

العلم والمعرفة... 80

دور العلماء في مواجهة الانحراف... 81

السياسة من صميم الإسلام... 82

الفئات الاجتماعية بين الحق والباطل

الحق والباطل... 83

فئات المجتمع... 84

صراع الحق والباطل... 86

كيف يتكون الباطل؟... 87

قمة الباطل... 89

الظلم عنوان الباطل... 89

الحق هو المنتصر... 90

جولة ودولة... 92

ص: 542

الباطل والتعبئة ضد الإسلام... 93

فئة المستضعفين... 94

حتى تنتصر فئة الحق... 98

شروط الانتصار... 99

1- الوعي السياسي... 100

2- الإرادة الصلبة... 101

3- نشر القيم والفضائل... 103

من هدي القرآن الحكيم... 105

التمسك بالدين شرط الانتصار... 105

الصمود والاستقامة في العمل... 105

الوعي والبصيرة... 106

عاقبة الظلم والظالمين... 106

من هدي السنّة المطهّرة... 107

التمسك بالدين شرط الانتصار... 107

الصمود والاستقامة... 107

الوعي والبصيرة... 108

عاقبة الظلم والظالمين... 108

القرآن منهج وسلوك

الدستور الكامل للبشر... 110

القرآن سبب للهداية... 112

أهل البيت(عليهم السلام) والقرآن... 115

القرآن في الروايات... 119

التدبر في القرآن... 120

القرآن للجميع... 121

ص: 543

من خصائص القرآن... 122

مع الفضيل بن عياض... 123

بعض آثار التلاوة... 124

القرآن والخوف من اللّه... 125

طبيعة الخوف... 126

نموذجان قرآنيان للخوف الممدوح... 126

النموذج الأول... 126

النموذج الثاني... 127

تخويف القرآن من العذاب... 131

القرآن ومستدعيات الخوف الحقيقي... 132

ثمرة الخوف من اللّه تعالى... 133

الدنيا والآخرة في القرآن... 134

القرآن يدعو إلى الأفضل... 135

ثمار التدبر في القرآن... 136

من هدي القرآن الحكيم... 138

القرآن دستور الحياة... 138

القرآن كتاب هدى ورحمة... 139

التدبر في القرآن... 139

الخوف الحقيقي في القرآن... 140

من هدي السنّة المطهّرة... 140

القرآن دستور الحياة... 140

القرآن إمام ورحمة... 141

التدبر في القرآن... 142

القرآن والخوف الحقيقي من اللّه... 142

ص: 544

القرآن يتحدى

المقدمة... 144

أنبياء اللّه وكتب السماء... 148

القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية... 151

وصية الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) بالقرآن والعترة... 153

إعجاز القرآن... 158

القرآن يتحدى الجميع... 160

آية التحدي... 161

النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) ينذر قومه... 163

أقسام الحكومات في عصر النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)... 164

النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) والوليد بن المغيرة... 164

القرآن يتوعّد المفترين... 167

مُفترو القرن العشرين... 170

الإلحاد المنّظم وحرب المقدسات... 171

بداية التنظيم الإلحادي... 172

واجبنا تجاه القرآن الحكيم... 174

تعلّم القرآن وتعليمه... 176

القرآن مصدر التقدّم والتطور... 177

من هدي القرآن الحكيم... 180

بعثة الأنبياء وبعض أهدافها... 180

القرآن يتحدى الجن والأنس... 180

صيانة القرآن من التحريف... 181

التدبر في القرآن... 182

من هدي السنّة المطهّرة... 182

ص: 545

الشمولية والتكامل في القرآن... 182

القرآن يتحدى الأجيال... 183

القرآن مصون من التحريف... 185

التدبر في القرآن... 186

ثواب قراءة القرآن... 186

اللاعنف منهج وسلوك

العنف لغة... 188

العنف والنفس الإنسانية... 189

العدوانية وعلاجها... 191

العلاج الإسلامي... 192

العمل والتقدم... 193

تقدم الغرب... 194

العمل شعار المؤمن... 196

العمل المصحوب باللاعنف... 198

الغضب من مصاديق العنف... 200

نصائح الأطباء... 202

منهج اللاعنف... 203

في سيرة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)... 203

منهج أهل البيت(عليهم السلام)... 207

هل تعرف الصلاة؟... 218

أي شيء تعبد؟... 219

الموعظة المهذبة... 219

إنني أصلحت أمره... 220

أنت احب خلق اللّه إلي... 221

ص: 546

طِب نفساً... 221

أشهد أنك من أولاد الرسل... 222

وعنك أغضي... 223

ولا يستخفنك الذين لا يوقنون... 223

اللاعنف عند العلماء... 223

الاختلاف السلبي والإيجابي... 225

أسباب الاختلاف... 226

اللاعنف والمناظرة... 228

ثمار اللاعنف... 230

الأول: رضا اللّه تعالى... 230

الثاني: الطمأنينة بين الناس... 231

الثالث: محبوبية الإنسان... 232

من هدي القرآن الحكيم... 234

اللاعنف سلوك حسن... 234

بالعمل تنال الدرجات العلى... 234

ثمار العمل... 235

الاختلاف... 235

من هدي السنّة المطهّرة... 235

اللّه رفيق يحب الرفق... 235

الغضب أول العنف... 236

أخذت باليسير... 237

ثمار اللاعنف... 238

نوعية العمل المقبول عند اللّه... 239

اللاعنف في المعيشة... 240

ص: 547

اللاعنف في التبليغ... 240

اللاعنف السياسي... 243

لا للعنف... 243

اللاعنف دائماً... 244

اللاعنف من صفات المؤمن... 245

اللاعنف مع الحيوان... 246

أهمية العمل... 247

المرأة المسلمة والوصايا الأخيرة

1- التقوى والخوف من اللّه... 248

معنى التقوى... 249

الشاب الذي أسلم تواً... 250

ماذا تعني الذرة؟... 251

من كرامات الحمّال التبريزي... 252

الأعمى الذي ارتد بصيراً... 254

تهيأ البيت المناسب... 255

امرأة من زنجان... 257

2- حسن الأخلاق... 258

3- القدرة على الكتابة والتأليف... 260

4- المنبر والخطابة... 262

5- المحراب... 263

6- الزواج... 264

سلمان الفارسي في المدائن... 266

7- العمل... 267

8- مجالس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام)... 268

ص: 548

كن وصيّ نفسك... 269

من هدي القرآن الكريم... 271

التقوى والأخلاق الحسنة... 271

الأخلاق السيئة وعدم التقوى... 272

من هدي السنّة المطهّرة... 273

التقوى... 273

الخوف من اللّه... 274

حسن الخلق... 275

التأليف والكتابة... 276

المنبر... 277

صلاة الجماعة... 277

العمل... 278

الزواج... 279

المجالس الحسينية... 279

المرأة في المجتمع المعاصر

مريم البتول(عليها السلام)... 281

معجزة مريم وابنها(عليهما السلام)... 282

لمحة عن حياة المرأة عبر التاريخ... 285

المرأة في الجاهلية... 292

العزة في الإسلام... 296

المرأة بين الإفراط والتفريط... 297

المرأة والمجتمع المعاصر... 298

الإسلام والعظيمات من النساء... 299

المساواة في الإنسانية... 302

ص: 549

مساواة أم ظلم؟... 302

الغرب وموقفه من قضية الزواج... 304

لماذا الزواج؟... 305

الطلاق يهتز منه عرش الرحمن... 307

مكانة المرأة في الإسلام... 310

الشيماء بنت حليمة السعدية... 310

الزوجات... 311

الإسلام وحجاب المرأة... 312

تقارير وإحصاءات عن المرأة في المجتمع المعاصر... 314

أوروبا تدعو إلى تشريع وإباحة الدعارة... 319

تفاقم ظاهرة الطلاق في إيران... 323

الإجهاض في العالم... 323

الاغتصاب... 324

الاكتئاب يصيب المرأة أكثر من الرجل... 324

المرأة الأفريقية والإيدز... 325

العنف ضد النساء... 326

نسبة التحرش الجنسي بالنساء العاملات... 327

النساء الداعرات... 327

من هدي القرآن الحكيم... 328

المرأة في الإسلام... 328

المرأة الصالحة... 328

الزواج في الإسلام... 328

من هدي السنّة المطهّرة... 329

سيدة نساء العالمين... 329

ص: 550

حق المرأة الأم... 329

حب النساء... 331

الزوجة الصالحة... 332

المرأة وخدمة الزوج... 332

أبغض الحلال عند اللّه الطلاق... 332

المرأة في المنظار الإسلامي

كمال الخلقة... 333

لا تفاوت في خلق اللّه... 334

الثواب والعقاب للمرأة والرجل... 336

رجال عظماء ونساء معظمات... 337

السيدة خديجة الكبرى(عليها السلام)... 337

الزهراء(عليها السلام) أعظم أسوة للنساء... 340

بطلة كربلاء... 343

السيدة زينب(عليها السلام) والطف... 346

زوجات وأمهات الأئمة(عليهم السلام)... 352

السيدة حميدة المصفاة... 353

أم الإمام المنتظر(عليه السلام)... 357

ببركتها زال البلاء... 359

اختلاف الوظائف... 360

المساواة بين الرجل والمرأة... 362

تعدد الزوجات... 363

حسن معاشرة النبي(صلی الله عليه وآله وسلم) مع زوجاته... 364

المرأة ظُلمت مرتين... 366

ص: 551

بطولة المرأة... 368

الإمامة في الصلاة... 375

الحضور في ميادين العلم... 375

اتقوا اللّه في النساء... 376

العلوية المزمنة... 377

في مواجهة الطغاة... 379

معاوية وسجن النساء... 381

ماذا تقول لربك يا معاوية؟... 383

الإسلام رفع شأن المرأة... 384

من هدي القرآن الحكيم... 385

نساء صالحات... 385

نساء غير صالحات... 385

المرأة والزواج... 386

تعدد الزوجات والعدالة... 386

الحجاب واجب للمرأة المسلمة... 386

من هدي السنّة المطهّرة... 387

في فضل المرأة... 387

نساء صالحات... 387

المرأة والزواج... 388

المرأة في الإسلام... 388

المرأة في ظل الإسلام

حقوق المرأة... 390

دعاة المساواة... 390

شعار تحرر المرأة ماركة تجارية... 392

ص: 552

أي المجتمعين أفضل للمرأة؟... 393

أين هي المساواة؟... 394

التشبه بالرجال يعني الاسترجال... 395

مكانة المرأة... 397

التساوي في الشرع الإسلامي... 398

ولها دور العالِم... 399

المعززة المكرمة... 401

الأخت... 403

الزوجة... 403

أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك!... 406

إلى جانب العظام... 407

نموذج آخر... 408

مهمات ووظائف... 410

التأكيد على الزواج... 413

من هدي القرآن الحكيم... 414

المثل الأعلى لنساء العالم... 414

المرأة والعمل الصالح... 414

لا تفاوت بين الرجل والمرأة... 414

من هدي السنّة المطهّرة... 415

المرأة في ظل الإسلام... 415

أقسام النساء... 416

1- الأمهات... 416

2- الزوجة... 416

3- البنات... 417

ص: 553

4- الأخوات... 417

يوصيكم اللّه تعالى بالنساء خيراً... 418

خير النساء... 418

الحث على الزواج... 419

من أخلاق الأنبياء... 419

فما للنساء؟... 419

المنهل العذب

اللين وحسن المعاملة... 420

الولي الحميم... 420

القول اللين مع الأعداء... 422

عطاء سيد الشهداء(عليه السلام)... 423

الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله وسلم) وحسن المعاملة... 424

من عظيم أخلاقه(صلی الله عليه وآله وسلم)... 425

عصر المرحمة... 427

اليوم يوم المرحمة... 428

الأخلاقية الفاضلة... 429

أمير المؤمنين(عليه السلام) وحسن المعاملة... 431

الأئمة(عليهم السلام) ولين الكلام... 432

كلهم(عليهم السلام) نور واحد... 432

أتباع آل البيت(عليهم السلام)... 434

علماؤنا الأعلام وحسن المعاملة... 435

الخاجة نصير الدين الطوسي(رحمه الله) والرفق في المعاملة... 435

شاهد آخر... 436

ص: 554

من هدي القرآن الحكيم... 437

الرفق ولين الكلام... 437

قول الخير والقول الحسن... 438

الصفح الجميل... 438

من هدي السنّة المطهّرة... 439

حفظ اللسان... 439

التأدب بآداب اللّه... 440

قول الخير... 440

الرفق واللاعنف... 441

النضج وأثره في حياة الإنسان

آثار النضج... 442

مراقبة النفس... 443

وكيل السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه الله)... 444

النضج الاجتماعي... 446

النضج حاجة عامة... 447

الاستشارة من مقومات النضج... 447

ضياع الجهود... 448

النضج الطبي... 450

النضج العلمي لدى الشيخ الأنصاري(رحمه الله)... 451

نظرة إلى التاريخ العباسي... 452

نضج الميرزا الشيرازي(رحمه الله)... 453

الهجمات الاستعمارية... 455

نور المؤمنين في القيامة... 456

من هدي القرآن الحكيم... 458

ص: 555

النضج الفكري والحرية... 458

النضج وعواقب الأمور... 458

نور المؤمن في القيامة... 458

المؤمن وقور... 459

من هدي السنّة المطهّرة... 459

النضج الفكري والحرية... 459

النضج وعواقب الأمور... 460

المؤمن وقور... 460

نور المؤمن في القيامة... 461

النضج والتعلم في الشباب... 461

النضج وسمو النفس

ضبط النفس... 462

تنازع من أجل مائة دينار... 464

النضج والحكمة... 465

أولاً: النفس منطقة الخطر... 465

كيف نتصرف بحكمة، ونكتسب التعقل ونلتزم جانب الإنصاف؟... 465

ثانياً: عامل الصبر... 466

ثالثاً: عامل العلم والتجربة... 467

نضج ووعي السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه الله)... 467

النضج اللازم في العمل... 468

شيخ الطائفة(رحمه الله)... 469

رابعاً: العبادة والتوسّل... 470

خدمة الناس... 471

زيارة مسجد السهلة... 473

ص: 556

من سمات الناضجين... 473

أبغض الناس... 475

من هدي القرآن الحكيم... 477

التفكر والوعي والاعتبار... 477

ثمار العلم... 477

المعرفة والعمل... 478

المداراة والرفق بالناس... 478

من هدي السنّة المطهّرة... 479

التفكر والوعي والاعتبار... 479

أهمية العلم... 480

المعرفة والعمل... 480

ثمرة المعرفة ونتائجها... 481

المداراة والرفق بالناس... 481

الهداية والرشد الفكري

أصحاب الكهف... 483

الرشد عند أصحاب الكهف... 485

الرشد الفكري... 486

تنمية القدرات العقلية... 487

تنوع القراءات... 488

مصباح الفكر... 489

كيف أصبح لقمان حكيماً... 490

التبليغ المسيحي في العراق... 492

تأثير الرشد الفكري... 493

من هدي القرآن الكريم... 495

ص: 557

التفكير وتأثيره... 495

العلم والدين... 496

الطريق إلى اللّه تعالى... 497

العلماء ومواجهة الحكومات الظالمة... 497

من هدي السنّة المطهّرة... 498

أصحاب الكهف... 498

العقل والدين... 498

الرشد الفكري وأثره... 499

الخوف والرجاء من اللّه تعالى... 500

أهمية العلم... 501

دور العلماء في مواجهة الحكومات الظالمة... 501

دور الكتابة في الحياة

الإنسان والعلم والقلم... 503

من وسائط الهداية... 505

كيفَ نَبْدأ؟ وماذا نكتب؟... 507

أثَرُ الإعْلام... 509

وقفةٌ مَعَ كاتب... 510

دعوة إلى من يهمّه الأمر... 511

الشعور بالمسؤوليَّة... 512

التخوّف الغَربي مِن الإسلام... 514

أولاً... 514

ثانياً... 514

ثالثاً... 514

رابعاً... 515

ص: 558

من هدي القرآن الحكيم... 516

ينبغي لمن يمتهن الكتابة أنْ يلتزم بأمور... 516

1- تقوى اللّه... 516

2- الإنصاف والعدل... 516

3- الصدق... 517

4- الوعي... 517

من هدي السنّة المطهّرة... 518

ينبغي لمن يمتهن الكتابة أن يلتزم بأمور... 518

1- تقوى اللّه... 518

2- الإنصاف والعدل... 518

3- الصدق... 519

4- الوعي واليقظة و... 519

مفهوم الشجاعة

الشجاعة بين الاعتدال والتهوّر... 522

بَين الظُلم والشجاعة... 523

تصوّر الظلم شجاعة!... 524

مواقِف بطوليّة... 526

الجُبْن منقَصَة... 528

مِن ملّف الشجاعة... 530

بُطولات مِن نوعٍ خاص... 532

من هدي القرآن الحكيم... 533

الشجاعة والشدّة في الحق فقط... 533

لا للجبن ولا للتهاون... 534

نعم للاعتدال والاتزان في كل شيء... 534

ص: 559

المؤمن يخاف اللّه فقط ويخشاه... 534

من هدي السنّة المطهّرة... 535

فضل الشجاعة:... 535

من هو الشجاع؟... 535

في الجبن وذمه والنهي عنه... 536

فضيلة الخوف من اللّه تعالى... 536

فهرس المحتويات... 539

ص: 560

المجلد 5

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 5/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

-----

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)

الناشر: دار العلم

المطبعة: إحسان

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

كمية: 500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

-----

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الثالث): 9-204541-964-978

-----

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

إلى المجاهدين في العراق

خطاب إلى المجاهدين في العراق

قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)»

الأخوة المجاهدون، في داخل العراق وخارجه:

أحييكم بتحية الإسلام، وقد ظلمتم وأخرجتم من دياركم بغير حقٍ؛ لأنكم قلتم: لا إله إلّا اللّه.

أصبحتم مصداق قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ}(2).

قال الإمام الباقر(عليه السلام) في هذه الآية المباركة: «نزلت في المهاجرين وجرت في آل محمد(عليهم السلام) الذين أخرجوا من ديارهم وأخيفوا»(3).

وعن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن الدعاء إلى اللّه والجهاد في سبيله، أهو لقوم لايحل إلّا لهم، ولا يقوم به إلّا من كان منهم، أم هو مباح لكل من وحّد اللّه عزّ وجلّ، وآمن برسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ومن كان كذا فله أن يدعو إلى اللّه عزّ وجلّ، وإلى طاعته، وأن يجاهد في سبيله؟

ص: 5


1- سورة آل عمران، الآية: 200.
2- سورة الحج، الآية: 40.
3- تفسير مجمع البيان 7: 156.

فقال(عليه السلام): «ذلك لقوم لا يحل إلّا لهم، ولا يقوم بذلك إلّا من كان منهم».

قلت: من أولئك؟

قال: «من قام بشرائط اللّه عزّ وجلّ في القتال، والجهاد على المجاهدين، فهو المأذون له في الدعاء إلى اللّه عزّ وجلّ، ومن لم يكن قائماً بشرائط اللّه عزّ وجلّ في الجهاد على المجاهدين، فليس بمأذون له في الجهاد، ولا الدعاء إلى اللّه، حتى يحكم في نفسه ما أخذ اللّه عليه من شرائط الجهاد».

قلت: فبيّن لي يرحمك اللّه؟

قال: «إن اللّه تبارك وتعالى أخبر [نبيّه] في كتابه، الدعاء إليه، ووصف الدعاة إليه، فجعل ذلك لهم درجات يعرف بعضها بعضاً، ويستدل ببعضها على بعض، فأخبر أنه تبارك وتعالى أول من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته، واتباع أمره، فبدأ بنفسه، فقال: {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1) ثم ثنى برسوله، فقال: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2) يعني بالقرآن، ولم يكن داعياً إلى اللّه عزّ وجلّ من خالف أمر اللّه، ويدعو إليه بغير ما أمر [به] في كتابه، والذي أمر أن لا يدعى إلّا به - إلى أن قال(عليه السلام) - ثم ذكر مَن أذن له في الدعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه، فقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3) ثم أخبر عن هذه الأمة، وممن هي، وأنها من ذرية إبراهيم، ومن ذرية إسماعيل من سكان الحرم، ممن لم يعبدوا غير اللّه قط، الذين وجبت لهم الدعوة، دعوة إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد، الذين أخبر عنهم

ص: 6


1- سورة يونس، الآية: 25.
2- سورة النحل، الآية: 125.
3- سورة آل عمران، الآية: 104.

في كتابه،أنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً - إلى أن قال(عليه السلام) - ثم وصف أتباع نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من المؤمنين، فقال عزّ وجلّ: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ}(1).

وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِمْ}(2) يعني أولئك المؤمنين، وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}(3) ثم حلّاهم ووصفهم، كي لايطمع في اللحاق بهم إلّا من كان منهم، فقال في ما حلّاهم به ووصفهم: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}(4) إلى قوله {أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْوَٰرِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(5).

وقال في صفتهم وحليتهم أيضاً: {الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَٰعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}(6).

ثم أخبر أنه اشترى من هؤلاء المؤمنين، ومن كان على مثل صفتهم: {أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ}(7).

ثم ذكر وفاءهم له بعهده ومبايعته، فقال: {وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ

ص: 7


1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة التحريم، الآية: 8.
3- سورة المؤمنون، الآية: 1.
4- سورة المؤمنون، الآية: 2- 3.
5- سورة المؤمنون، الآية: 10-11.
6- سورة الفرقان، الآية: 68- 69.
7- سورة التوبة، الآية: 111.

بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1) فلما نزلت هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}(2) قام رجل إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا نبي اللّه، أرأيتك الرجل يأخذ سيفه فيقاتل حتى يقتل، إلّا أنه يقترف من هذه المحارم، أ شهيد هو؟

فأنزل اللّه عزّ وجلّ على رسوله: {التَّٰئِبُونَ الْعَٰبِدُونَ الْحَٰمِدُونَ السَّٰئِحُونَ الرَّٰكِعُونَ السَّٰجِدُونَ الْأمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(3).

ففسر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المجاهدين من المؤمنين الذين هذه صفتهم وحليتهم بالشهادة والجنة، وقال: التائبون من الذنوب، العابدون: الذين لا يعبدون إلّا اللّه، ولا يشركون به شيئاً، الحامدون: الذين يحمدون اللّه على كل حال في الشدة والرخاء، السائحون: وهم الصائمون، الراكعون الساجدون: الذين يواظبون على الصلوات الخمس، والحافظون لها، والمحافظون عليها بركوعها وسجودها، وفي الخشوع فيها، وفي أوقاتها، الآمرون بالمعروف بعد ذلك، والعاملون به، والناهون عن المنكر والمنتهون عنه، قال: فَبَشّر من قُتل وهو قائم بهذه الشروط بالشهادة والجنة، ثم أخبر تبارك وتعالى أنه لم يأمر بالقتال إلّا أصحاب هذه الشروط، فقال عزّ وجلّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ}(4) وذلك أن جميع ما بين السماء والأرض للّه عزّ وجلّ ولرسوله ولأتباعهما من المؤمنين من أهل هذه الصفة، فما كان من الدنيا في أيدي

ص: 8


1- سورة التوبة، الآية: 111.
2- سورة التوبة، الآية: 111.
3- سورة التوبة، الآية: 112.
4- سورة الحج، الآية: 39- 40.

المشركين والكفار والظلمة والفجار من أهل الخلاف لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمولّي عن طاعتهما، مما كان في أيديهم، ظلموا فيه المؤمنين من أهل هذه الصفات، وغلبوهم عليه، مما أفاء اللّه على رسوله، فهو حقهم، أفاء اللّه عليهم وردّه إليهم - إلى أن قال(عليه السلام): - فذلك قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ}(1) ما كان المؤمنون أحق به منهم، وإنما أذن للمؤمنين الذين قاموا بشرائط الإيمان التي وصفناها؛ وذلك أنه لا يكون مأذوناً له في القتال حتى يكون مظلوماً، ولا يكون مظلوماً حتى يكون مؤمناً، ولا يكون مؤمناً حتى يكون قائماً بشرائط الإيمان التي اشترط اللّه عزّ وجلّ على المؤمنين والمجاهدين، فإذا تكاملت فيه شرائط اللّه عزّ وجلّ كان مؤمناً، وإذا كان مؤمناً كان مظلوماً، وإذا كان مظلوماً كان مأذوناً له في الجهاد؛ لقوله عزّ وجلّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(2)، وإن لم يكن مستكملاً لشرائط الإيمان فهو ظالم ممن يبغي، ويجب جهاده حتى يتوب، وليس مثله مأذوناً له في الجهاد والدعاء إلى اللّه عزّ وجلّ؛ لأنه ليس من المؤمنين المظلومين الذين أذن لهم في القرآن في القتال، فلما نزلت هذه الآية {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} في المهاجرين الذين أخرجهم أهل مكة من ديارهم وأموالهم، أحل لهم جهادهم بظلمهم إياهم وأذن لهم في القتال».

فقلت: فهذه نزلت في المهاجرين بظلم مشركي أهل مكة لهم، فما بالهم في قتالهم كسرى وقيصر ومن دونهم من مشركي قبائل العرب؟

فقال(عليه السلام): «... ولو كانت الآية إنما عنت المهاجرين الذين ظلمهم أهل مكة كانت الآية مرتفعة الفرض عمّن بعدهم؛ إذا لم يبق من الظالمين والمظلومين

ص: 9


1- سورة الحج، الآية: 39.
2- سورة الحج، الآية: 39.

أحد - إلى أن قال(عليه السلام) - فمن كانت قد تمت فيه شرائط اللّه عزّ وجلّ التي وصف بها أهلها من أصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو مظلوم، فهو مأذون له في الجهاد، كما أذن لهم في الجهاد؛ لأن حكم اللّه عزّ وجلّ في الأولين والآخرين، وفرائضه عليهم سواء، إلّا من علة أو حادث يكون، والأولون والآخرون أيضاً في منع الحوادث شركاء، والفرائض عليهم واحدة، يسأل الآخرون عن أداء الفرائض عمّا يسأل عنه الأولون، ويحاسبون عمّا به يحاسبون، ومن لم يكن على صفة مَن أذن اللّه له في الجهاد من المؤمنين فليس من أهل الجهاد، وليس بمأذون له فيه، حتى يفيء بما شرط اللّه عزّ وجلّ عليه، فإذا تكاملت فيه شرائط اللّه عزّ وجلّ على المؤمنين والمجاهدين فهو من المأذونين له في الجهاد، فليتق اللّه عزّ وجلّ عبد ولا يغتر بالأماني التي نهى اللّه عزّ وجلّ عنها من هذه الأحاديث الكاذبة على اللّه، التي يكذّبها القرآن ويتبرأ منها ومن حملتها ورواتها، ولا يقدم على اللّه عزّ وجلّ بشبهة لا يعذر بها، فإنه ليس وراء المتعرض للقتل في سبيل اللّه منزلة يؤتى اللّه من قبلها، وهي غاية الأعمال في عظم قدرها، فليحكم امرؤ لنفسه، وليرها كتاب اللّه عزّ وجلّ ويعرضها عليه، فإنه لا أحد أعرف بالمرء من نفسه، فإن وجدها قائمةً بما شرط اللّه عليه في الجهاد فليقدم على الجهاد، وإن علم تقصيراً فليصلحها، وليقمها على ما فرض اللّه عليها من الجهاد، ثم ليقدم بها وهي طاهرة مطهرة من كل دنس يحول بينها وبين جهادها.

ولسنا نقول لمن أراد الجهاد وهو على خلاف ما وصفنا، من شرائط اللّه عزّ وجلّ على المؤمنين والمجاهدين: لاتجاهدوا، ولكن نقول: قد علّمناكم ما شرط اللّه عزّ وجلّ على أهل الجهاد، الذين بايعهم واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنان، فليصلح امرؤ ما علم من نفسه من تقصير عن ذلك، وليعرضها على شرائط اللّه، فإن رأى أنه قد وفى بها وتكاملت فيه، فإنه ممن أذن اللّه عزّ وجلّ له

ص: 10

في الجهاد، فإن أبى أن لا يكون مجاهداً على ما فيه من الإصرار على المعاصي والمحارم والإقدام على الجهاد بالتخبيط والعمى والقدوم على اللّه عزّ وجلّ بالجهل والروايات الكاذبة، فلقد لعمري جاء الأثر في من فعل هذا الفعل، إن اللّه عزّ وجلّ ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم، فليتق اللّه عزّ وجلّ امرؤ وليحذر أن يكون منهم، فقد بيّن لكم ولا عذر لكم بعد البيان في الجهل، ولا قوة إلّا باللّه، وحسبنا اللّه عليه توكلنا وإليه المصير»(1).

الكل يعلم، أنّ منفذي سياسات القوى الاستعمارية البريطانية والأمريكية والصهيونية، هم الآن على رأس السلطة في العراق. وهم الذين يديرون شؤونه الاقتصادية والسياسية والعسكرية والشؤون الأخرى. وأنّ حزب البعث في العراق الذي أسسه صليبيان(2) إنما أسس لتدمير العراق بل والشرق الأوسط، ولمواجهة الإسلام والمسلمين وتدميرهم، وكانت أمنية المستعمرين منذ القدم أن يقضوا على مراكز العراق العلمية والدينية والاقتصادية والاجتماعية. ويجعلوها في عزلة تامة فيمنعوا الزوار عن المشاهد المقدسة للأئمة الأطهار(عليهم السلام)، ويقضوا على روح التمسك بهذه الرموز الخالدة والالتفاف حول الإسلام وعظمائه، وقد حققوا الكثير من أهدافهم عن طريق أعوانهم وأذيالهم.

العلماء والحوزات العلمية

اشارة

فالحوزة العلمية في النجف الأشرف والتي يرجع تاريخها إلى أكثر من ألف سنة، حيث اُسست على يد شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي(رحمه اللّه) قد شُلّتحركتها بعد هذا العمر المديد.

ص: 11


1- الكافي 5: 13.
2- هما ميشيل عفلق وأكرم الحوراني، وكان أيضا من مؤسسي هذا الحزب زكي الأرسوزي وصلاح البيطار، وذلك عام (1942م)، وقد سيطر الحزب على الحكم في العراق عام (1968م).

وكذلك الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة والتي تأسست قبل أكثر من ألف سنة أيضاً على يد حميد بن زياد النينوي(1) ونشطت على يد الشيخ ابن حمزة(2) وشُلّت أيضاً.

وكذلك الحال بالنسبة إلى بقية الحوزات العلمية في الكاظمية وسامراء وغيرها.

وقد قام طغاة العراق بقتل علماء المسلمين داخل وخارج العراق، كما صادروا الكثير من الكتب وأغلقوا المكتبات العامرة بها. فقد كان في مدينة كربلاء المقدسة وحدها أكثر من أربعين مكتبة، وكان يرتادها الشباب من الطلاب والطالبات، فابتداءً من مكتبة القرآن الحكيم، وانتهاءً بمكتبة النهضة الإسلامية(3) ومدارس الحفاظ(4) كلها أغلقت، كما نُهبت أموال الكثير من المؤسسات الأخرى التي صودرت أبنيتها. كما أنّ السلطات الحاكمة عاملت علماء الدين وطلاب الحوزات العلمية في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وغيرها بأبشع أنواع المعاملة، من قتل وسجن وملاحقة وتضييق وأخيراً تهجيرهم، بل حتىمطاردتهم واغتيالهم خارج العراق، كما حدث للأخ الشهيد السيد حسن

ص: 12


1- حميد بن زياد بن حماد بن زياد هوار الدهقان أبو القاسم الكوفي النينوي، عالم فقيه أصولي من أهل نينوى قرية إلى جنب الحائر.
2- هو أبو جعفر عماد الدين محمد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي من علماء القرن السادس الهجري حسب ما يظهر من تأريخ مصنفاته.
3- مكتبة القرآن الحكيم العامة وتأسست عام (1387ه /1967م) ومقرها خلف المخيم الحسيني وكان يربو عدد كتبها على 70 ألف كتاب في مواضيع شتى. ومكتبة النهضة الإسلامية التي تأسست عام (1380ه) وكانت تحتوي على أكثر من ثلاثة آلاف كتاب بضمنها كتب مخطوطة ثمينة، وكانت تقع في مسجد الشهرستاني مقابل باب الصافي.
4- حيث أنشئت في مدينة كربلاء المقدسة العديد من مدارس حفاظ القرآن الكريم وذلك بتوجيه مباشر من آية اللّه العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه).

الشيرازي(رحمه اللّه)(1) والسيد مهدي الحكيم(رحمه اللّه)(2) وكثير غيرهما.

في أيام السيد الحكيم(رحمه اللّه) كان في النجف الأشرف أكثر من عشرة آلاف طالب من طلاب العلوم الدينية في مختلف المستويات. أما اليوم فلا يوجد في مدينة النجف الأشرف إلّا الأقل من هذا العدد بكثير، وكذلك الحال في كربلاء المقدسة حيث تقلصت فيها أعداد العلماء وطلاب العلوم الدينية بشكل كبير، واليوم الكثير من الطلبة يحاول أن يكون بعيداً عن الأنظار وذلك خوفاً من مراقبة أجهزة القمع التابعة للسلطة الحاكمة وملاحقتها لهم.

هذا مضافاً إلى ملاحقة مختلف الناس المؤمنين واعتقالهم وتعذيبهم ونفيهم أو قتلهم.

سجناء العراق

ثم إن هناك في العراق شيئاً ربما لم يجده المتتبع في التاريخ بمثله أبداً، حتى في عهود أكثر الحكام طغياناً وجوراً، فإنه حسب بعض الإحصاءات هناك أكثر من خمسمائة ألف سجين مودعين في سجون العراق، وأغلبهم تحت التعذيب الشديد، وبضمنهم ما يقارب ثلاثة آلاف امرأة. وقد اطلعت على أحد الكتب المختصة في هذا الشأن حيث تذكر أنَّ سجون التعذيب في العراق تحتوي على ثمانين قسماً من أشد أنواع التعذيب القاسي النفسي والجسدي.

إنَّ هذه الحالة قد تكون نادرة من نوعها في التاريخ وربما انفرد بها نظام البعث

ص: 13


1- آية اللّه السيد حسن بن السيد مهدي الشيرازي(رحمه اللّه)، اغتيل برصاصات عملاء نظام البعث العراقي في لبنان عام (1400ه).
2- العلامة الشهيد السيد محمد مهدي بن آية اللّه العظمى الإمام السيد محسن الحكيم(رحمه اللّه) ولد في النجف الأشرف سنة (1353ه/ 1935م) واغتيل في السودان على يد عملاء طغاة العراق في عصر يوم الأحد (27 جمادى الأولى 1408ه- .

العراقي الجائر، فلو عدنا إلى ظلمة التاريخ والسفاكين للدماء مثل نمرود وفرعون، وابن زياد، والحجاج...

فربما لا يجد الإنسان عندهم ما عند هؤلاء الظلمة من التفنن في الإجرام وأنواع التعذيب الرهيبة. نعم لأولئك الطغاة من أمثال ابن زياد جرائم لا تصل إليها جريمة أبداً.

ومن أفعال البعثيين في العراق أنهم كانوا يسجنون ويعذبون ويذبحون الأبناء والنساء والأطفال أمام ذويهم، وذلك بغية انتزاع الاعترافات منهم. ومن هنا قد يقال بأنهم أكثر طغياناً حتى من فرعون والحجاج، رغم إرهاب الحجاج وبطشه، وكذلك فرعون، وبرغم تعذيبهما للناس بمختلف الوسائل، لكنهما قد لا يصلان إلى المستوى الذي وصله هؤلاء في بشاعة التعذيب.

أما نمرود فقد ذكر لنا التاريخ أنّه لما أراد أن يقتل نبي اللّه إبراهيم(عليه السلام) أحضر ثلاثمائة قاضٍ وقال لهم: حاكموه على محضر من الناس حتى يعلم الناس أن إبراهيم كان مذنباً حسب زعمه!، فإن نمرود على طغيانه وجبروته كان إذا أراد أن يقتل إنساناً شريفاً يستدعي القضاة لمحاكمته، مع قدرته على قتله بدون محاكمة، ولم يكتف بقاض واحد بل ثلاثمائة قاض. وكان يفعل ذلك لإغواء الناس. أما هؤلاء يأخذون العلماء من بيوتهم ليلاً ويقتلونهم سراً أو جهاراً دون محاكمة ولا إحضار حتى قاض واحد، فإنهم جمعوا أساليب التعذيب القديمة والحديثة واستخدموا أشدها إيذاءً للإنسان.

ليل العراق المظلم

اشارة

خلاصة الكلام: قد لم تمر بالعراق فترة أظلم من هذه الفترة وربما حتى فيعهد التتار والمغول الذين سوّدوا صفحات التاريخ، فإنهم مع (وثنيتهم) لما

ص: 14

جاؤوا إلى بغداد وقيل لهم إن مدن النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والحلة هي مراكز لأئمة المسلمين(عليهم السلام) ولعلمائهم. قالوا: نحن لا نحارب أهل العلم ومراكزهم الدينية؛ ولذا أصدر المغوليون أمراً بعدم التعرض إلى النجف وكربلاء والحلة حسب ما ورد في التاريخ(1).

فالمغول رغم قسوتهم وبربريتهم وإجرامهم لم يتعرضوا بسوء إلى هذه المدن المقدسة.

أما البعثيون في العراق وهم ذيول الاستعمار، فقد رأيتم كيف فعلوا بمدن المقدسات وأهاليها، فإن أفعالهم الإجرامية لاتعد ولا تحصى، وقد أصبحوا أشد وأخطر من مجرمي التاريخ وربما حتى من فراعنته ومن الوثنيين التتر والمغول.

وهم أكثر إجراماً من الشاه في إيران، فإن الشاه لم يقتل العلماء علناً ولم تكن سجونه مثل سجون العراق أبداً.

القضاء على الإسلام

لقد تجلت مهمة البعثيين في العراق وصارت واضحة للجميع، وهي

ص: 15


1- برزت مدرسة الحلة الفقهية بعد احتلال بغداد على يد هولاكو التتار، فقد كانت مدرسة بغداد قبل الاحتلال، حافلة بالفقهاء والباحثين وحلقات الدراسة الواسعة، وكان النشاط الفكري في ما قبل الاحتلال على قدم وساق. وحينما احتلت بغداد من قبل المغول، أوفد أهل الحلة وفدا إلى قيادة الجيش المغولي، يلتمسون الأمان لبلدهم، فاستجاب لهم هولاكو وآمنهم على بلدهم بعد أن اختبرهم على صدقهم. وبذلك ظلت الحلة مأمونة من النكبة التي حلت بسائر البلاد في محنة الاحتلال المغولي، وأخذت الحلة تستقطب الشاردين من بغداد من الطلاب والأساتذة والفقهاء، واجتمع في الحلة عدد كبير من الطلاب والعلماء، وانتقل معهم النشاط العلمي من بغداد إلى الحلة، واحتفلت هذه البلدة - وهي يومئذ من الحواضر الإسلامية الكبرى - بما كانت تحتفل به بغداد من وجوه النشاط الفكري. واستقرت المدرسة في الحلة، وظهر في هذا الدور في الحلة: فقهاء كبار، كان لهم الأثر الكبير في تطوير مناهج الفقه والأصول الإمامي، وتجديد صياغة عملية الاجتهاد، وتنظيم أبواب الفقه، كالمحقق الحلي والعلامة وولده فخر المحققين وابن نما وابن أبي الفوارس والشهيد الأول وابن طاوس وغيرهم من فطاحل الأعلام ورجال الفكر. انظر: منتهى المطلب 3: 14.

القضاء على الإسلام وكل ما يمت له بصلة، وذلك عن طريق ممارسة القمع والإرهاب والتعذيب والقتل وسفك الدماء وانتهاك الحرمات ومصادرة الأموال، وسوف يتجلى ذلك أكثر للعالم عند سقوط حكومتهم بعون اللّه تعالى.

وستُظهِر الأقلام كثيراً من الأشياء التي خفيت خوفاً، وسيعلم الجميع بشاعة هؤلاء وجرائمهم، والشواهد على ذلك كثيرة.

وذلك كتعرية الشاه بعد سقوطه في إيران... .

وكتعرية عبد الكريم قاسم...

والبكر...

وعبد السلام...

ونوري السعيد...

والحرس القومي...

والمهداوي... في العراق.

وكتعرية ملوك العهد البائد (خدم المستعمرين).

أما الإمبراطوريات الظالمة وأذيالها فقد امتلأت كتب التاريخ بفضائحها، وهكذا الحال بالنسبة لكل دول العالم التي ترزح تحت نير الظلم والاستبداد والتي لا بد لها أن تأخذ حريتها في يوم من الأيام لتفضح جرائم طغاتها أمثال: هتلر... وموسوليني... وستالين... وغيرهم.

مما يلزم على المجاهدين

اشارة

إن الأخوة المجاهدين الثائرين من أجل اللّه، المطرودين من بلادهم والمخرجين من أجله، عليهم واجبات نذكرها للتذكرة عسى اللّه أن يوفقنا للعمل

ص: 16

بها، يقول تبارك وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

أولاً: رص الصفوف

قال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(2).

علينا أن نجمع قوانا ونوحد صفوفنا ونرصها رصاً ولا ندع مجالاً للفرقة بيننا. فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة»(3).

وقال(عليه السلام): «إياك والفرقة فإن الشاذ عن أهل الحق للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب»(4).

وقال(عليه السلام): «إياكم والتدابر والتقاطع وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(5).

لذا يجب أن نكون يداً واحدة كي نتمكن من مواجهة طغاة العراق وننقذ الشعب من الظلم والاستبداد.

كما على الإنسان أن لا يبعده انتسابه إلى أحزابه ومنظماته الإسلامية عن وحدته والقرآن الكريم يقول: {وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ}(6).

كما لا يجب أن يبعده انتسابه إلى مدن أو قوميات مختلفة عن وحدته، فإن الهدف الأسمى هو الخلاص من الطغاة.

ص: 17


1- سورة الذاريات، الآية: 55.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 175.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 174.
6- سورة الحجرات، الآية: 13.

فعند ما ننسب أحداً ونقول: هذا بغدادي، وهذا موصلي، وهذا بصري، فإنما يكون ذلك لأجل التعارف فقط ولا يكون سبباً للفرقة والاختلاف، فإن كل واحد منهم ينتسب إلى نسب أكبر وهو العراق، فكل واحد منهم عراقي، والعراقي بضمنه ينتسب إلى قيمة أكبر وأعلى وهي الإسلام فهو مسلم، كما قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

فالإنسان عندما ينسب إلى هذه الفئة أو تلك الهيئة أو الجمعية أو المنظمة أو الحزب، يلزم أن يتذكر أن هناك انتساباً أكبر وهو الإيمان؛ لذا يجب أن تكون الأحزاب والمنظمات وغيرها يداً واحدة على عدو اللّه والإسلام والإنسانية؛ فإن في الاتحاد قوة، وفي التفرقة ضعفاً، قال تبارك وتعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(2).

فلنكن كتلة ذات هدف واحد ومصير واحد واتجاه واحد، لنتمكن من مواجهة الأعداء وإنقاذ المظلومين.

ثانياً: العمل للّه

يجب أن يعمل الجميع لأجل اللّه تعالى وبإخلاص، كما قال تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ}(3).

فإذا كنا للّه ومع اللّه كان اللّه ناصرنا وكان معنا، فهو القائل سبحانه: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}(4).

ص: 18


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة القصص، الآية: 4.
3- سورة الأنعام، الآية: 91.
4- سورة آل عمران، الآية: 160.

ويقول تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(1).

فمن تكون بريطانيا أمام اللّه؟

ومن تكون إسرائيل أمام اللّه؟

ومن تكون أمريكا أمام اللّه؟

بل ومن يكون كل طغاة التأريخ أمام اللّه جلّ وعلا.

إن هذه الدول الاستعمارية لا قيمة لها أمام قدرة اللّه تعالى، كما صرح لنا بذلك القرآن الكريم: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَٰدِ * مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَٰفِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}(3).

فكم رأينا تقلب أهل الكفر وطغاة العصور، إلّا أن متاعهم قليل، فأين الفراعنة في مصر؟

وأين امبراطور إيران؟

وأين ملوك العراق؟

وأين (برسي كوكس(4) والجنرال مود(5)} قادة احتلال العراق... ، كلهم ذهبواوبقيت (كلمة اللّه هي العليا) كما قال تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَىٰ

ص: 19


1- سورة محمد، الآية: 7.
2- سورة آل عمران، الآية: 196-197.
3- سورة الملك، الآية: 20.
4- برسي كوكس ممثل الحكومة البريطانية في العراق، تقلد منصب المندوب السامي البريطاني وكان يدير الحكومة الملكية في العراق.
5- ستانلي مود، قائد القوات البريطانية التي احتلت بغداد في (11 آذار 1917م) قال عند دخوله العراق: (إن جيوشنا لم تدخل مدنكم وأراضيكم بمنزلة قاهرين أو أعداء بل محررين) - أي من الحكم العثماني - .

وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}(1).

وقال سبحانه: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(2).

إن بعض الناس كانوا يظنّون أن عائلة بهلوي ستبقى على رأس السلطة في إيران وستستمر في الحكم، لكن هؤلاء ظنوا شيئاً وأراد اللّه شيئاً آخر. وإنه تعالى دائماً مع المستضعفين قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}(3).

فالنتيجة الحتمية هي النصر للمؤمنين والاندحار لأهل الكفر والظلم والطغيان، كما ورد في الذكر الحكيم {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ}(4).

وهذا وعد حتمي، وإن بوادر النصر قد ظهرت وإن سقوط صدام وحزبه الكافر الظالم، أصبح قريباً إن شاء اللّه، فإن حزب البعث في العراق لم تبق له قيمة لا في داخل البلاد الإسلامية ولا في خارجها. فاللّه مع المجاهدين المخلصين والناس معهم أيضاً.

ثالثاً: الجهاد بمختلف الوسائل

قال تبارك وتعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَٰعِدِينَ دَرَجَةًوَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ عَلَى الْقَٰعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(5).

علينا أن لا نتوانى في جهادنا في سبيل اللّه، بل نضحيّ بكل غالٍ ونفيس لوجه

ص: 20


1- سورة التوبة، الآية: 40.
2- سورة هود، الآية: 86.
3- سورة النساء، الآية: 75.
4- سورة غافر، الآية: 51.
5- سورة النساء، الآية: 95.

اللّه عزّ وجلّ، وعلى الإنسان أن يقدم كل أشكال الدعم المالي والفكري للمجاهدين المخلصين، بالإضافة إلى تهيئة كل المستلزمات الضرورية من غذاء ولباس، وكل ما يحتاجه انتصار المؤمنين في العراق.

إن الواجب يدعونا لأن نوحّد الجهود وأن نساعد المجاهدين المخلصين ونجعل هدفنا هو رضا اللّه سبحانه وتعالى.

ومن الواضح أنَّ نهاية الظالمين والمستبدين هي كنهاية فرعون وهامان وجنودهما، فإنهم كانوا يلاحقون النبي موسى(عليه السلام) فكانت نهايتهم كما قال تعالى: {مِّمَّا خَطِئَٰتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارًا فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا}(1).

نعم، هذه نهاية كل الطغاة والظالمين، وها هي جبهة البعث في العراق أصبحت مفكّكة إلى أبعد الحدود، وصار بعضهم يقتل بعضاً(2) كمقتل حردان التكريتي، ومقتل حماد شهاب، وناظم كزار، ومحمد عايش، وعدنان الدليمي، وغيرهم من الظلمة الذين ساعد بعضهم بعضاً لمواجهة الشعب المسلم في العراق ولمحاربة الدين المبين والقرآن الكريم. ثم إنه لم يبق اليوم من صورة حزب البعث العراقي أمام العالم إلّا مفهوم الجريمة والقتل وسفك الدماء وانتهاك الأعراض ونهب الأموال وتدنيس الحرمات وإشعال الحرب مع الجيران وتدبير المؤامرات. وقدذكرت إحدى الصحف العربية: أن أكثر من ثلاثة مليارات دينار عراقي(3) قد هرّبها عفلق وصدام وطلفاح ومن أشبه إلى البنوك الأجنبية في الخارج.

وبعد كلّ هذا لقد اتضح لكل منصف في العالم أنَّ هؤلاء لم يأتوا إلى العراق

ص: 21


1- سورة نوح، الآية: 25.
2- كل هؤلاء المذكورين كانوا من قادة ما يسمى بثورة (17 تموز 1968م) وتمت تصفيتهم الواحد بعد الآخر على يد أقرانهم وهذا مصير الظلمة وأعوانهم في الدنيا قبل الآخرة.
3- في وقت كان الدينار العراقي يساوي أكثر من ثلاثة دولارات.

إلّا لأجل استعماره والقضاء على شعبه ونهب ثرواته وتدمير الحركات الإسلامية فيه. لكن اللّه خيب ظنّهم وشتت شملهم وجعل الكلمة عليهم لا لهم، فها نحن نرى بعض الذين اُخرجوا من العراق سواء إلى البلاد الغربية أو البلدان الإسلامية صار العديد منهم كتلة من النشاط ومن الحركة، فأنشأوا المؤسسات الدينية والعلمية والاجتماعية والثقافية والصحية في أنحاء العالم، لندن وباريس ونيويورك وبون وكندا ودلهي، ومختلف المدن الإيرانية، وفي سوريا ولبنان والكويت والبحرين ومسقط والإمارات وسائر البلدان الأخرى، وكان ذلك بفضل جهود المخلصين من هؤلاء المجاهدين الذين أقصوا وأخرجوا من بلادهم.

وإن شاء اللّه سيأتي اليوم الذي يتم فيه رفع هذا الكابوس الجاثم على صدر العراق والعراقيين؛ لتستلم إدارة البلاد حكومة إسلامية تسعى لتطبيق الإسلام بشرائعه السمحة السهلة، ويكون قانونها القرآن الحكيم والسنّة المطهرة، وتكون قيادتها بيد مجلس (شورى الفقهاء المراجع) من الذين يرضاهم اللّه وترضاهم الأكثرية من الأُمة بالانتخابات الحرة، كما يقول تعالى في القرآن الحكيم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(1).

من أين يبدأ التغيير؟

اشارة

لكن قبل هذا علينا أن نلتفت إلى عامل مهم جداً في تحقيق النصر والغلبةعلى الظالمين، فإنه لا يكون ذلك إلّا إذا بدأنا بأنفسنا، فعلينا أن نغيّر ما بأنفسنا أوّلاً كما قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2).

وقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ بعث نبياً من أنبيائه إلى قومه،

ص: 22


1- سورة الشورى، الآية: 38.
2- سورة الرعد، الآية: 11.

وأوحى إليه: أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سرّاء فتحولوا عمّا أحب إلى ما أكره، إلّا تحولت لهم عمّا يحبون إلى ما يكرهون. وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عمّا أكره إلى ما أحب إلّا تحولت لهم عمّا يكرهون إلى ما يحبون. وقل لهم: إن رحمتي سبقت غضبي، فلا تقنطوا من رحمتي؛ فإنه لا يتعاظم عندي ذنب أغفره، وقل لهم: لا يتعرضوا معاندين لسخطي، ولا يستخفوا بأوليائي، فإن لي سطوات عند غضبي لا يقوم لها شيء من خلقي»(1).

نعم، فعندما نغير ما بأنفسنا من شر وسوء عند ذلك سيرفرف النصر على رؤوسنا أينما توجهنا.

كما يلزم مضافاً إلى ذلك الإعداد النفسي والثقافي، والتنسيق الدقيق، والحذر، والحزم، والصبر، والمبادرة، ومخالفة النفس، والدفاع، والصمود حتى النصر، أو الشهادة، فقد ورد في رسالة الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر ما نصّه: «واعلم يا محمد بن أبي بكر، أني قد ولّيتك أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر، فأنت محقوق أن تخالف على نفسك، وأن تنافح(2) عندينك، ولو لم يكن لك إلّا ساعة من الدّهر»(3).

هكذا يأتي النصر، أما إذا لم نعمل على تغيير أنفسنا ولم نسع لتوفير مقومات النصر فإن الفشل - لا سامح اللّه - سيصيبنا.

فالدفاع عن النفس والأهل والأرض والوطن واجب في سبيل اللّه وفي سبيل

ص: 23


1- الكافي 2: 274.
2- المنافحة: المدافعة والمجادلة.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 27، من عهد له(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر.

المستضعفين، وهو ما يسمى في الإسلام بالجهاد، والسعي لإزاحة هؤلاء الطغاة عن كرسي الحكم جهاد من أجل إعلاء كلمة اللّه وإنقاذ المستضعفين.

مقومات التغيير
اشارة

إذا أردنا أن نغير ملامح العراق المأساوية ونوجد واقعاً جديداً مفعماً بالأمل والسعادة والاستقرار فلا بد أن نغير الخطوط التي رسمها الاستبداد، ونرسم خطوطاً واقعية تعتمد على الحرية والتعددية والاستقلال والاكتفاء الذاتي وحكم الأكثرية والأخلاق الفاضلة والحفاظ على حقوق الناس ومصالحهم وحماية مقدساتهم.

فإن للتغيير مقومات ينبغي مراعاتها، منها:

حكومة الأكثرية

يلزم أن تحكم العراق حكومة استشارية منتخبة من أكثرية الشعب، فإن كثيراً من هذه الاضطهادات هي نتيجة أن الأقلية هي التي سيطرت على الحكم في العراق لعشرات السنين، وأخذت تتحكم في مقدراته وتفرض آراءها وأفكارها على الأكثرية المضطهدة، فالأكثرية الشيعية في العراق التي نسبتها تناهز 85% من مجموع السكان قُمعت ومنعت من حقوقها ومصالحها ومعتقداتها، مع أنها هي التي حررت العراق من سيطرة الأعداء مراراً عديدة وضحت من أجل الدينوالوطن بالغالي والنفيس.

التعددية

ولا بد أن تستند الحكومة الإسلامية في العراق على القدرة الواقعية المنبثقة من الشعب، وهذه القدرة تعتمد بشكل أساسي على وجود الأحزاب والمنظمات الحرة والمؤسسات الدستورية والعشائر التي يحركها نظام التعددية، فلا قدرة واقعية بدون وجود تعدد الأحزاب، وتتنافس هذه الأحزاب بكفاءة وتراقب الحكومة لكي

ص: 24

لاتنحرف، أما الاستبداد فإنه حكم هش لا يمتلك القدرة الواقعية وإن امتلك القوة العسكرية، فإن «المستبد متهور في الخطأ والغلط» كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام)(1).

الحرية

وعلى الدولة الإسلامية أن تمنح كافة الحريات للناس في كل الأبعاد - ضمن الإطار الإسلامي - من حرية العقيدة والرأي والزراعة والاكتساب والتجارة والصناعة والدخول في الوظائف والسفر والإقامة والعمارة وحيازة المباحات ونصب محطات الراديو والتلفزيون وتأسيس المطابع وإنشاء الأحزاب والمنظمات وإنشاء المصانع والمعامل وإصدار الصحف والجرائد والمجلات والانتقال من بلد إلى بلد بنفسه أو بكسبه، إلى غير ذلك.

وبذلك تلغى كل القيود وكافة أنواع الكبت، من الهويات الشخصية والجنسية والجواز وإجازة الاستيراد والتصدير، وما أشبه. فكل إنسان حر في كل شيء ما عدا المحرمات وهي قليلة جداً.

القوانين الإسلامية

ومن الضروري السعي لتطبيق كافة القوانين الإسلامية، حيث إن هذه القوانينالحيوية تتوافق مع فطرة الإنسان وتتلاءم مع مصالحه وتسهل عليه حياته، وهي أسهل بكثير من القوانين المستوردة من الغرب والشرق.

كما يلزم تطبيق القوانين الإسلامية بشكل شمولي لا أن يطبق بعضها ويترك البعض الآخر، فإن القوانين الإسلامية متداخلة.

وأيضا لا بد من التدرج في التطبيق حتى يستطيع الناس أن يتكيفوا معها ويفهموا ثقافتها.

ص: 25


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 64.

ومن هذه القوانين الحيوية:

1- قانون الأمة الواحدة(1).

2- قانون الأخوة الإسلامية(2).

3- قانون «الأرض للّه ولمن عمرها»(3).

4- قانون الإلزام(4).

5- قانون «الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم»(5).

6- قانون بيت المال.

7- قانون «من سبق»(6).

أما القوانين غير الإسلامية فهي عادة قوانين جامدة لا تخدم الإنسان، بل تعقد حياته ولا تتوافق مع فطرته مما تقوده نحو الشقاء والبؤس. قال تعالى: {وَمَنْأَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(7).

الاكتفاء الذاتي

ولا بد للحكومة الإسلامية من السعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي عبر الاعتماد على الصناعة الوطنية وتقويتها وتطوير الزراعة والثروة الحيوانية، وذلك بإعطاء حرية العمل والتجارة والصناعة والزراعة.

ومن المشاكل الحالية التي يلزم القضاء عليها هو الوجود المكثف للموظفين

ص: 26


1- قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} سورة الحجرات، الآية: 10.
3- قال الإمام الصادق(عليه السلام): «.. فإن الأرض للّه ولمن عمرها»، الكافي 5: 279.
4- عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: «ألزموهم بما ألزموا أنفسهم»، تهذيب الأحكام 9: 322.
5- قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الناس مسلطون على أموالهم»، نهج الحق: 494.
6- قال الإمام الصادق(عليه السلام): «سوق المسلمين كمسجدهم يعني إذا سبق إلى السوق كان له مثل المسجد» 5: 155.
7- سورة طه، الآية: 124.

الذين يعملون في جهاز الدولة، وأغلبهم يعمل في وظائف هامشية لا تنفع الشعب، بل يعقِّدون الأعمال ويعرقلونها ويستهلكون ميزانية الدولة وأموال الشعب؛ مما يحولهم إلى عبء ثقيل على كاهل الشعب، فلا بد من تقليلهم وتحويل أعمالهم إلى المؤسسات الخاصة، وأما الدولة فتكون مشرفة فقط على سير العمل وعدم انحرافه لا أن تتدخل في كل شيء.

اللاعنف

ثم إن الدولة تحتاج إلى أكبر قدر من الالتفاف الشعبي والشرعي حولها ومعاونتها والدفاع عنها، فإذا اتخذت الحكومة سياسة العنف وإراقة الدماء والسجون والتعذيب وما أشبه، سارت في طريق الزوال فينقلب الأعوان أعداءً والأنصار خصماء، فإن الناس لايصبرون على قتل أولادهم وإخوانهم وآبائهم وذويهم وأصدقائهم، فيأخذون في ذم القاتل وترصد عثراته وينصرفون إلى هدم كيانه وإسقاط شرعيته وإثارة الرأي العام ضده.

ومن اللازم على الدولة الإسلامية إعلان العفو العام عن كل من أجرم قبل قيام الدولة، وهذا الأمر في غاية الأهمية من ناحية وفي غاية الصعوبة من ناحية ثانية.فإن العفو العام يسبب اطمئنان الناس إلى الحكومة القائمة مما يؤدي إلى تعاونهم مع الحكومة، وهذا يعني انتشار الاستقرار والأمن، والحكومة خصوصاً في أول أمرها بحاجة إلى التعاون الواسع من الناس.

وعدم العفو يوقع الحكومة في مشاكل لا تعدّ ولا تحصى، حيث إن القتل والملاحقة لا تبقى في دائرة خاصة بل تتعداها إلى دوائر أوسع وأوسع.

هذا بالإضافة إلى أن من مصاديق عدم العفو هو: مصادرة الأموال، وملاحقة الأفراد، وكله يوجب تكوين الأعداء، وأحيانا يسقط أولئك الأعداء الحكومة.

مضافاً إلى أن عدم العفو يوجب تأليب الإعلام في سائر البلاد على الحكومة

ص: 27

الفتيّة مما يسبب فقدان شوكتها وضياع سمعتها.

وهذا - العفو العام - هو الأصل وإذا كان استثناء فاللازم أن تقدر بقدر أقصى الضرورة.

وقد عفا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أهل مكة وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء(1)، وعفا أمير المؤمنين(عليه السلام) عن أهل الجمل(2).

نسأل اللّه أن يجمع شمل الجميع تحت لواء الإسلام.

«اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(3).

من هدي القرآن الحكيم

أقسام الجهاد

قال سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَٰدًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ جَٰهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَٰفِقِينَ}(5).

وقال تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَأتٖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *

ص: 28


1- انظر: الكافي 3: 513.
2- انظر: شرح نهج البلاغة 1: 22.
3- الكافي 3: 424.
4- سورة الممتحنة، الآية: 1.
5- سورة التحريم، الآية: 9.

وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَجَٰهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}(3).

الطغاة ومصيرهم

قال سبحانه: {هَٰذَا وَإِنَّ لِلطَّٰغِينَ لَشَرَّ مََٔابٖ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِّلطَّٰغِينَ مََٔابًا}(5).

وقال جلّ وعلا: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَءَاثَرَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}(6).

الظالمون في ضلال

قال جلّ اسمه: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(7).وقال عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(8).

وقال سبحانه: {بَلِ الظَّٰلِمُونَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(9).

الإخلاص في النية

قال عزّ وجلّ: {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(10).

ص: 29


1- سورة العنكبوت، الآية: 5-6.
2- سورة العنكبوت، الآية: 69.
3- سورة الفرقان، الآية: 52.
4- سورة ص، الآية: 55.
5- سورة النبأ، الآية: 21-22.
6- سورة النازعات، الآية: 37-39.
7- سورة البقرة، الآية: 258.
8- سورة آل عمران، الآية: 57.
9- سورة لقمان، الآية: 11.
10- سورة غافر، الآية: 14.

وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَٰبِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الجهاد

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «جاهد في اللّه حق جهاده، ولا تأخذك في اللّه لومة لائم، وخض الغمرات للحق حيث كان»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الجهاد على أربعة أوجه: فجهادان فرض، وجهاد سنة لايقام إلّا مع الفرض، فأمّا أحد الفرضين فمجاهدة الرجل نفسه عن معاصي اللّه عزّ وجلّ، وهو من أعظم الجهاد، ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض. وأما الجهاد الذي هو سنة لا يقام إلّا مع فرض فإن مجاهدة العدو فرض على جميع الأمة، ولو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب...»(4).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «... وجاهد نفسك لتردّها عن هواها؛ فإنّه واجبعليك كجهاد عدوّك»(5).

الهجرة إلى اللّه تعالى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنّة وكان رفيق أبيه إبراهيم(عليه السلام) ونبيه محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «...والهجرة قائمة على حدها الأوّل ما كان

ص: 30


1- سورة مريم، الآية: 51.
2- سورة الشعراء، الآية: 109.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام).
4- الكافي 5: 9.
5- تحف العقول: 399.
6- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 33.

للّه في أهل الأرض حاجة، من مستسّر الأمّة ومعلنها، لا يقع اسم الهجرة على أحد إلّا بمعرفة الحجة في الأرض، فمن عرفها وأقرّ بها فهو مهاجر ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه»(1).

وفي قوله تعالى: {يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَٰسِعَةٌ}(2). قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إذا عُصي اللّه في أرض أنت فيها فاخرج منها إلى غيرها»(3).

الطاغوت والظلم

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «للظالم من الرجال ثلاث علامات: يظلم من فوقه بالمعصية، ومن دونه بالغلبة، ويظاهر القوم الظلمة»(4).

وقال(عليه السلام): «ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن اللّه سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد»(5).

وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّٰغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ}(6)، قال الإمام الباقر(عليه السلام): «أنتم الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها، ومن أطاع جباراً فقد عبده»(7).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «كفانا اللّه وإيّاكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبّارين، أيها المؤمنون، لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا، المائلون إليها، المفتتنون بها، المقبلون عليها وعلى

ص: 31


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 189 من كلام له(عليه السلام) في الإيمان ووجوب الهجرة.
2- سورة العنكبوت، الآية: 56.
3- تفسير مجمع البيان 8: 37.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 350.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) للأشتر النخعي لما ولاه على مصر.
6- سورة الزمر، الآية: 17.
7- تأويل الآيات الظاهرة: 502.

حطامها الهامد، وهشيمها البائد غداً...»(1).

العمل الخالص لوجهه تعالى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئٍ مسلم: إخلاص العمل للّه ...» الحديث(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ونؤمن به إيمان من رجاه موقناً، وأناب إليه مؤمناً، وخنع له مذعناً، وأخلص له موحداً، وعظّمه مجدداً، ولاذ به راغباً مجتهداً»(3).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «واجعل جهادنا فيك، وهمّنا في طاعتك، وأخلص نياتنا في معاملتك، فإنا بك ولك، ولا وسيلة لنا إليك إلّا بك...»(4).

السلطان الجائر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «السلطان الجائر والعالم الفاجر أشد الناس نكاية»(5).

وقال(عليه السلام): «أحقُ أن يحذر، السلطان الجائر والعدوُّ القادر والصديق الغادر»(6).

وقال(عليه السلام): «من آثر رضى ربٍّ قادر فليتكلم بكلمة عدل عند سلطان جائر»(7).

ص: 32


1- الكافي 8: 15.
2- الكافي 1: 403.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 182 من خطبة له(عليه السلام) بالكوفة وهو قائم على حجارة.
4- بحار الأنوار 91: 147.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 103.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 210.
7- عيون الحكم والمواعظ: 463.

إلى الهيئات الحسينية

الشيعة وقبور الأئمة(عليهم السلام)

اشارة

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة»(1).

إن لقبور أهل البيت(عليهم السلام) ومراقدهم الشريفة فائدة دنيوية كبيرة للشيعة ولجميع الناس، كما لها فائدة أخروية وهي نيل الشفاعة لمن زارهم واعتقد بولايتهم، وقد مرت الشيعة بظروف سياسية مختلفة نتيجة تجمعها حول قبور أئمتها، وصعوبات عديدة فرضها الحاكمون وغيرهم من الدخلاء الأجانب ومع كل ذلك صمدوا واستقاموا في سبيل اللّه، وكانت الهيئات الحسينية تتحمل مسؤوليات عديدة على عاتقها لتنظيم وإحياء المراسيم والشعائر في كافة المناسبات كالوفيات والمواليد المباركة وعيد الغدير الأغر، ومنها الهيئات المباركة التي نراها هذه الأيام والتي تحمل تاريخاً مشرقاً لخدمة أهل البيت(عليهم السلام) سواء في العراق أو في غيره، والبعض من هذه الهيئات المباركة يتحمل السفر ومشاق الطريق لأجل تهيئة موكب وإقامة عزاء، كمن يسافر من كربلاء إلى الكاظمية حيث مرقد الإمامين الجوادين(عليهما السلام) ومن يسافر إلى النجف الأشرف في أيام شهادة أمير

ص: 33


1- الكافي 4: 567.

المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) وأيام عيد الغدير، ومن يأتي إلى كربلاء المقدسة أيام عاشوراء وزيارة الأربعين وليالي الجمعة، وكذلك من يتحمل عناء السفر من مشهد الإمام الرضا(عليه السلام) إلى قم المقدسة حيث قبر فاطمة المعصومة(عليها السلام)، وغيرها من المدن التي تضم مراقد أهل البيت(عليهم السلام) ومواليهم.

فمن جملة الفوائد التي ترتبت على انتشار قبور الأئمة(عليهم السلام) في مشارق الأرض ومغاربها هي زيادة الروابط الودية والتآخي والتعارف بين أبناء الشيعة، وذلك عند تلاقيهم في المناسبات والزيارات الخاصة أو العامة لهذه القبور، وهذا الحشد كان ولا يزال يمثل ثقلاً سياسياً وعقائدياً في المجتمع العالمي، وهناك فوائد اجتماعية واقتصادية وغيرها لهذه المسألة، فضلاً عن أن وجود قبور الأئمة(عليهم السلام) في هذه البلدان رحمة لأهلها وسبب نيلهم الأجر والثواب لخدمة الناس والزوار.

توسع المدن بمراقدهم(عليهم السلام)

كما إن المناطق التي توجد فيها القبور جذبت الشيعة والمؤمنين حولها للإقامة فيها، وهذا الاجتماع مصدر قوة لا يستهان به، ومن هنا أخذ الأعداء يحاربون مراقد أهل البيت(عليهم السلام) وربما سببوا مواجهات بين الشيعة الموالين وبين الحكومات الجائرة والظالمة على مرّ التاريخ. وبما أن الأمة الإسلامية تمر أحياناً بحالات من الضعف نتيجة عوامل لا مجال لذكرها هنا، سمحت للكثير من المنحرفين وأصحاب الشبهات والبدع من الجهلة إلى التجاوز على هذه المناطق المقدسة والمعتقدات الشريفة، فالوهابيون مثلاً قاموا بتخريب قبور أئمة البقيع سنة (1343ه) حين انتزعوا الحجاز من الشريف حسين واستولوا عليه، ومن قبل هجموا على كربلاء المقدسة مرتين وعاثوا فيها فساداً وقتلاً وتخريباً مركزينحقدهم على الحرم الحسيني الشريف وذلك عام (1216ه).

ص: 34

وظلت القبور الطاهرة في البقيع على حالها إلى الآن، ومن المعلوم أن قبور أخرى كثيرة كانت هناك، فبالإضافة إلى القبور الأربعة للائمة المعصومين(عليهم السلام)، فهناك رواية تقول بأن فاطمة الزهراء(عليها السلام) قد دفنت في البقيع مع اختلاف بين المؤرخين حول مكان دفنها(عليها السلام)(1) وهناك في البقيع قبر أم البنين (رضوان اللّه عليها) وقبور أخرى لذرية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله الأطهار، مضافاً إلى بعض الصحابة المؤمنين.

ولئن جرت المقادير بأن تكون هذه القبور تحت إشراف الزمرة الوهابية فالمحصلة تكون مزيداً من الظلم والتعسف والتخريب للآثار الإسلامية والتاريخية وعدم معرفة حقها وعدم الاهتمام لما ينبغي، على عكس المراقد المقدسة التي هي تحت إشراف الشيعة، كما هو الحال بالنسبة إلى الضريح الشريف للإمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام) أو المرقد الشريف في قم المقدسة للعلوية فاطمة المعصومة(عليها السلام) إذ يحف الشيعة بهذه القبور الطاهرة، ويتوسلون بها إلى اللّه، وقد جاء عن الإمام الرضا(عليه السلام) عندما سئل عن زيارة فاطمة بنت موسى(عليها السلام): «من زارها فله الجنة»(2).

وقال الإمام الجواد(عليه السلام): «من زار قبر عمتي بقم في الجنة»(3).

ولا بد من القول هنا أن مدينة قم المقدسة ما صارت بهذا الشكل لو لا وجود قبر فاطمة المعصومة(عليها السلام)، إذ كانت مدينة قم قبل ذلك عبارة عن مجموعة منالقرى تصل إلى سبع قرى، ولا يصل تعداد سكانها إلى أكثر من ثلاثة آلاف

ص: 35


1- هناك ثلاث احتمالات في المقام كلها مبنية على الروايات وتوجد هذه الروايات في بحار الأنوار 43: 180 باب ما وقع عليها من الظلم. الاحتمال الأول: إنها في البقيع، الاحتمال الثاني: أنها في بيتها، الاحتمال الثالث: أنها بين قبر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومنبره.
2- كامل الزيارات: 324.
3- كامل الزيارات: 324.

نسمة وكان سكانها في السابق من بعض اليهود والمجوس وعبدة النار.

أما اليوم فإن قم المقدسة هي مدينة كبيرة مترامية الأطراف، وأكثر سكانها من الشيعة. وما ذلك إلّا بفضل السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام).

وصايا تخص الهيئات المقيمة في المشاهد المشرفة

اشارة

ومن هنا تكون واجبات على الهيئات الشريفة التي تسكن في هذه البلاد الطاهرة من مشهد الرضا(عليه السلام) المقدس وقم وكربلاء والنجف والكاظمين وما أشبه، نذكر بعضها:

معرفة الإمام

منها: إنه لا بد من معرفة الإمام المعصوم المدفون في تلك البقعة معرفة حقيقية والعمل بما أراده(عليه السلام)، من الدفاع عن الإسلام ونشر مفاهيمه، وكما هو واضح أن الأئمة(عليهم السلام) جميعاً لا يمنعهم الموت من سماع الأحياء أو رؤيتهم كما نقرأ ذلك في الزيارات، قال الشيخ الكفعمي(رحمه اللّه) تقرأ في أذن الدخول لزيارة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو أحد الأئمة(عليهم السلام): «.. واعلم ان رسولك وخلفائك(عليهم السلام) أحياء عندك يرزقون، يرون مقامي ويسمعون كلامي ويردّون سلامي...»(1). فهم(عليهم السلام) يسمعون الأحياء ويردون جوابهم، فإن الإنسان حينما يرتفع عن الدنيا والماديات سوف يسمع ويرى كثيراً مما لم يكن يسمعه أو يراه في الدنيا هذا بالنسبة إلى الإنسان العادي فكيف بالأنبياء والأئمة الصالحين(عليهم السلام).

شكر النعمة

ومنها: أنه يلزم على الإنسان المقيم في المشاهد المشرفة أن يشكر اللّه علىهذه النعمة الكبيرة وهي مجاورته للإمام(عليه السلام)، وأن يقدر هذه النعمة ويذكرها

ص: 36


1- المصباح للكفعمي: 473.

دائماً ويؤدي ما عليه من واجبات تجاهها، فإن الإنسان إذا لم يشكر نعمة اللّه عليه فلربما يأتي يوم يرفع اللّه هذه النعمة منه، كما قال تعالى في القرآن الكريم {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «نحن واللّه نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده، وبنا يفوز من فاز»(2).

ومنها: إنه يلزم التفكير والسعي لتأسيس وتقوية الحوزات العليمة عند المراقد المطهرة، فمثلاً: إن الحوزة العلمية اليوم في مشهد الإمام الرضا(عليه السلام) تضم حوالي سبعة آلاف من الطلبة وأهل العلم في حين أن المطلوب أن تكون الحوزة هناك أوسع من هذا بكثير، فتضم على أقل تقدير خمسين ألفاً، وتقوية ذلك بأيدينا فإن كل عائلة قادرة على إرسال أحد أبنائها إلى الحوزة عليها أن ترسله، ولو أن هذه الخطوة ستواجه مشاكل كثيرة، إلّا أنه لا بد للإنسان المؤمن أن يتحمل ذلك، فيرسل أحد أبنائه والذي يتميز بالذكاء والفطنة والرغبة في الدرس، وهذا الابن لو وفق وصار من طلاب العلوم الإسلامية، فإنه سوف يصبح أحد خدام وجنود الإمام صاحب الزمان(عليه السلام)، وسوف يصبح الحامي لحرم الأئمة المعصومين(عليهم السلام) والمدافع عنهم في كل حين. بل المدافع عن بيضة الإسلام كله.

قلة طلاب العلوم الدينية

وفي الحقيقة إن عدد طلاب العلوم الدينية قليل جداً، قياساً إلى تعداد الشيعة وحاجة الإسلام اليوم إلى أكبر قدر ممكن من الدعوة إليه، ففي قم المقدسةيوجد حوالي عشرون ألف طالب، وفي مشهد حوالي سبعة آلاف، في حين أن

ص: 37


1- سورة إبراهيم، الآية: 7.
2- تفسير القمي 1: 371.

الوهابيين صار عدد طلاب مدارسهم في مكة لوحدها أضعاف ذلك ولذا ترى أن الوهابيين يملكون منافذ كثيرة في العالم لترويج أفكارهم ففي السعودية لديهم مراكز كثيرة لاستقبال الطلبة، فهناك مركز في مكة وآخر في المدينة، وفي الرياض وفي بعض المدن الأخرى مضافاً إلى مدارسهم وحوزاتهم في العديد من الدول الإسلامية، ومن الطبيعي حينما يكون عدد الطلبة والمبلغين عند الوهابية أكثر منا، فإنهم سيسبقوننا في نشر أفكارهم، ويصبح لهم النفوذ الأعظم حيث قال تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ}(1).

ألم تكن مكة المكرمة في السابق مدينة من مدن المسلمين يزورها كل من يرغب إليها وكذلك المدينة المنورة فكان يزورها كل مسلم وبكامل حريته لزيارة مرقد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام)، فكان المرء يسافر إلى مكة كما يسافر الإنسان اليوم من أصفهان إلى شيراز، أما ما نراه اليوم من كثرة القيود لمن يريد السفر لزيارة بيت اللّه وزيارة قبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو من جور وتآمر الوهابيين على الإسلام، فهم الذين وضعوا هذه العراقيل أمام ذهاب المسلمين إلى مكة والمدينة.

المجالس الحسينية

ومن أهم ما يلزم على كل إنسان موال لأهل البيت(عليهم السلام) أن يقيم كل واحد مجلساً حسينياً في بيته في كل أسبوع مرة، أو كل أسبوعين مرة، أو كل شهر مرة، فإن لإقامة هذه المجالس فوائد كثيرة، منها: ذكر أهل البيت(عليهم السلام) وهي عبادة، ومنها: إن إقامة المجالس لذكرهم(عليهم السلام) يدفع البلاء والمشكلات، وتنزل الملائكةعلى ذلك المكان، وهذا يؤكد حبنا لهم(عليهم السلام) ويشدنا نحوهم، ويربطنا بهم، مما

ص: 38


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

يوجب سعادة الدنيا والآخرة.

فقد جاء عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) أنه قال: «تجلسون وتتحدثون؟» قال: قلت جعلت فداك نعم، قال: «إن تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا، إنه من ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذبابة غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(1).

وقال الإمام أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين(عليه السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوأه اللّه بها غرفاً في الجنة يسكنها أحقاباً»(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «من ذكرنا عنده ففاضت عيناه حرم اللّه وجهه على النار»(3).

وعن أبي هارون المكفوف قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا أبا هارون أنشدني في الحسين(عليه السلام)» قال: فأنشدته فبكى فقال: «أنشدني كما تنشدون» يعني بالرقة، قال: فأنشدته:

أمرر على جدث الحسين *** فقل لأعظمه الزكية

قال: فبكى، ثم قال: «زدني» قال: فأنشدته القصيدة الأخرى، قال: فبكى وسمعت البكاء من خلف الستر. قال: فلما فرغت. قال لي: «يا أبا هارون من أنشد في الحسين(عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى عشراً كتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى خمسة كتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحداً كتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسين(عليه السلام) عنده فخرج منعينيه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على اللّه ولم يرض له بدون

ص: 39


1- ثواب الأعمال: 187.
2- كامل الزيارات: 104.
3- كامل الزيارات: 104.

الجنة»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من رجل ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينيه ماء ولو قدر مثل جناح البعوضة إلّا بنى اللّه له بيتاً في الجنة وجعل ذلك حجاباً بينه وبين النار...»(2).

ثمار المجالس

ومن أهم ثمار هذه المجالس كثرة الثواب ومما يوجب ثقل ميزان الإنسان في يوم القيامة، فمثلاً: كم سيذكر فيها الصلاة على محمد وآل محمد(عليهم السلام)؟ وهذه الصلوات مثقلة للميزان.

كما ورد في الروايات، فقد جاء عن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنا عند الميزان يوم القيامة فمن ثقلت سيئاته على حسناته جئت بالصلاة عليّ حتى أثقل بها حسناته»(3).

وعن عبد السلام بن نعيم قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إني دخلت البيت فلم يحضرني شيء من الدعاء إلّا الصلاة على النبي وآله، فقال(عليه السلام): «لم يخرج أحد بأفضل مما خرجت»(4).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «كل دعاء محجوب عن السماء حتى تصلي على محمد وآله»(5).

وعن أحدهما(عليهما السلام) قال: «ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمد وآل

ص: 40


1- كامل الزيارات: 104.
2- كفاية الأثر: 249.
3- ثواب الأعمال: 155.
4- ثواب الأعمال: 155.
5- ثواب الأعمال: 155.

محمد(عليهم السلام)، إن الرجل ليوضع علمه في الميزان فيميل به فيخرج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الصلاة عليه وآله فيضعها في ميزانه فيرجح به»(1).

ترسيخ حب أهل البيت(عليهم السلام)

ومن أهم الفوائد الأخرى ما قاله أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إن حبنا أهل البيت ليحط الذنوب عن العباد كما تحط الريح الشديدة الورق عن الشجر»(2).

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... لكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره في ما أفناه، وشبابه في ما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفي ما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت»(4).

إذن لا بد من المحافظة والحرص الشديد على إقامة المجالس الحسينية، وإن هذه المجالس لو حضرها حتى القليل كأهل الدار ومن يجاورهم وكان عدد الحاضرين خمسة أو عشرة فقط وصعد الخطيب المنبر وتحدث لهم عن الأخلاق أو التفسير أو عن التاريخ الإسلامي أو عن الأحكام الشرعية والواجبات والمحرمات، فإنكم ستستفيدون ويستفيد أبناؤكم ويستفيد أهل الدار جميعاً.

المجالس الحسينية والعائلة

ويلزم اصطحاب الأطفال والنساء للمجالس الحسينية، مع حفظ الموازينالشرعية بأن يخصص للنساء مكاناً خاصاً، فالمرأة لها حقوق كثيرة في دين

ص: 41


1- عدة الداعي: 165.
2- قرب الإسناد: 39.
3- الكافي 2: 46.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 39.

الإسلام، وعلى عهد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانت النساء يأتين لمسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأداء فريضة الصلاة، وإن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما كان يخرج للحرب كان يأخذ معه النساء، فإذا لم تحضر النساء هذه المجالس فمن أين يتعلمن الأحكام الشرعية؟ وهكذا الأطفال، فعلينا أن نربيهم على ولاء أهل البيت(عليهم السلام) وعلى معرفة القرآن والأحكام الإسلامية.

ثم إن اللّه تبارك وتعالى لم يستثن النساء من التكليف، إنما جعل التكليف على الرجال والنساء معاً، فقد جاء في القرآن الكريم: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ...}(1).

وهنا لا بد لنا من توصية لنسائنا المؤمنات بالالتزام الكامل لأوامر الشريعة السمحاء، واحترامها ومراعاة توصيات أهل البيت(عليهم السلام) وجميع الأحكام الشرعية كمسألة غض البصر وترك الزينة في الأماكن العامة، لاسيما عند زيارة الأئمة وأولادهم(عليهم السلام)، ومراعاة الحجاب الإسلامي الكامل.

فقد قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَائِهِنَّ أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَٰنِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَٰنِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَٰتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُنَّ أَوِ التَّٰبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَٰتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(2).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنه نهى المرأة أن تضرب برجليها الأرض ليسمع

ص: 42


1- سورة النحل، الآية: 97.
2- سورة النور، الآية: 31.

صوت خلخاها ويعلم ما يخفى من زينتها»(1)، وعدم التهاون في الصلاة، وبالأخص إذا أقيمت صلاة جماعة، وعقد محافل القرآن ومجالس التعزية، وأن لا تكون مجالس النساء عبارة عن اجتماع للتحدث في الأمور الدنيوية والقضايا التي لا نفع من ورائها، بل يجب أن تكون نساؤنا متأسيات بالسيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) والحوراء زينب(عليها السلام) وكيف كانت في نفس الوقت إنسانة عالمة فاضلة وشجاعة وعابدة ومجاهدة، هكذا يجب أن تكون المرأة الشيعية تنطلق من العفاف إلى العلم والعبادة وطاعة المولى وتعظيم الشعائر بشكل صحيح غير مناف للأحكام.

نشر معارف أهل البيت(عليهم السلام)

الموضوع الآخر هو لزوم نشر معارف أهل البيت(عليهم السلام) عبر مختلف الوسائل من الكتب والصحف والإذاعات وما أشبه، فعلينا معرفة معارف الإمام المعصوم(عليه السلام) أولاً ثم نشرها ليستفيد منها العالمون. وخصوصاً من يسكنون إلى جوار الأئمة(عليهم السلام)، فالإمام له بحر بل أبحر من المعرفة، فقد جاء عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون» قال: ثم سكت هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه، فقال: «علمت ذلك من كتاب اللّه عزّ وجلّ، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: فيه تبيان كل شيء»(2)(3).

فعلم الإنسان العادي ما هو إلّا وعاء ماء مقابل علوم الإمام التي هي أكبر من

ص: 43


1- دعائم الإسلام 2: 163.
2- إشارة إلى قوله تعالى في سورة النحل، الآية: 89: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ}.
3- الكافي 1: 261.

سعة البحر الهادر.

فإن هؤلاء أئمة(عليهم السلام) ليسوا خلقاً عادياً، بل هم أوتاد الأرض، وأركان الكون، وعماد الدين. وقد ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام) إنه قال: «فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره هيهات هيهات، ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء...»(1).

نعم، إن اللّه عزّ وجلّ أبقاهم مناراً للبشر ووسيلة لسعادتهم رغم مرور أكثر من (1400) عام على الدعوة والرسالة التي حملوها، بل لو قدر اللّه أن تبقى الأرض ومن فيها أربعين مليون سنة أو أكثر لأبقاهم اللّه، رغم طمع الأعداء في تهديم قبورهم وإزالتها، فإنها ملجأ المؤمنين ومقصد المخلصين، كما في قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٖ}(2).

فإن {مَا عِندَكُمْ} أيها البشر {يَنفَدُ} يتم ويخلص، ولنفرض أنكم حصلتم من وراء نقضكم للعهد على ملك الدنيا فإنه فانٍ زائل {وَمَا عِندَ اللَّهِ} من الأجر والثواب المترتب على الوفاء بالعهد {بَاقٖ} أبد الآبدين... فإنا نرى الإمام المرتضى علي بن أبي طالب(عليه السلام) حين قيل له في الشورى: نبايعك على كتاب اللّه، وسنة رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة الشيخين، رفض الشرط الأخير من الجمل الثلاث، ولم ينل الإمبراطورية الإسلامية لأجل هذا الرفض. وقبل عثمان الثلاث لكنه خالف(3)، فنرى جزاء الإمام(عليه السلام) في الدنيا لصبره إلى اليوم، أما عثمان، فكانجزائه في نقضه للعهد ما رأينا إلى هذا اليوم، وثم قيل للإمام(عليه السلام) أن إبقاء معاوية

ص: 44


1- الكافي 1: 201.
2- سورة النحل، الآية: 96.
3- انظر: شرح نهج البلاغة 1: 188.

لأيام قلائل يمهد له الإمبراطورية الهادئة، لكن الإمام(عليه السلام) رفض، ومعاوية غدر واهتبل، فما مصيره في الدنيا إلّا اللعن والعار، بينما مصير الإمام(عليه السلام) الصابر ما نراه. وفي الإسلام أمثلة كثيرة ترشد إلى مصير الوفي الصابر، وإن رفت الوية الغادر المستعجل أياماً...(1).

ولما كان الأئمة(عليهم السلام) يمثلون إرادة اللّه، ولما كانوا أقرب الخلق إلى اللّه عزّ وجلّ، فهم يستمدون كل شيء من اللّه، واللّه جعلهم مصدر فيوضاته والطافه وهم محمد وآل محمد(عليهم السلام) فلذلك لا ينفذ ما عندهم.

نفحات من حب أهل البيت(عليهم السلام)

من بركات المراقد الشريفة، حصول المعجزات وظهور الكرامات، واستجابة الدعاء وشفاء المرضى وقضاء الحوائج.

كان في كربلاء المقدسة أحد طلاب العلوم الدينية وذلك في زمان الشيخ مرتضى الأنصاري(رحمه اللّه)، اسمه الشيخ إبراهيم، وكان هذا الشيخ بحاجة إلى الزواج، وإلى مبلغ من المال لأداء الحج ولقضاء دينه، فجاء إلى حرم أبي الفضل العباس(عليه السلام) وطلب حاجته، ثم انتظر يوماً ويومين وثلاثة حتى ستة أشهر، وفي أحد الأيام حينما كان جالساً في حرم أبي الفضل العباس(عليه السلام)، وبعد أن مرّت عليه أيام صعبة لما يعانيه من ضائقة العيش، فقد قضى ستة أشهر ينتظر أن تقضى له حاجته، ولكن الإجابة تأخرت لمصلحة ما، وفجأة نظر إلى امرأة من أهل البادية قد دخلت ضريح أبي الفضل العباس(عليه السلام) وهي تأخذ بيد طفلة لها اشتد بها المرض حيث كانت مصابة بمرض (الكزاز) وقد طوي بدنها لشدة المرض،فقالت الأم مخاطبة أبا الفضل(عليه السلام): يا أبا فاضل، إني أريد أن يشفي اللّه ابنتي

ص: 45


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 258.

بالجاه الذي عندك، فشفيت البنت من ساعتها، فراحت الأم تزغرد بالهلاهل وتنثر الحلوى على الزوار، فغضب الشيخ إبراهيم مما رأى وراح يخاطب أبا الفضل العباس(عليه السلام) بلهجة غير التي تناسب مقامه، إذ قال: يا أبا الفضل أهكذا تقضي حاجة البدوية وأنا طالب علم ورجل دين ولا تقضي حاجتي فلا نفع لي بهذه الملابس التي ارتديها - زي طلاب العلوم الدينية - وإني من الآن سأرجع إلى مدينتي التي قدمت إليكم منها (إيران) واترك الدراسة فإنكم قد خيبتموني، وبعد أن خرج من ضريح العباس(عليه السلام)، قال: لا بأس بتوديع الإمام الحسين(عليه السلام)، وبينما هو كذلك بين ضريح العباس(عليه السلام) وضريح الحسين(عليه السلام)، أوقفه شخص وقال له: هل أنت الشيخ إبراهيم؟

قال له: نعم.

قال: يا شيخ إبراهيم إن الشيخ مرتضى الأنصاري يطلبك الآن أن تحضر عنده، ولم يكن الشيخ إبراهيم معروفاً عند الشيخ الأنصاري من قبل، فلما ذهب ودخل على الشيخ الأنصاري(رحمه اللّه) قال له الشيخ الأنصاري: خذ كيس النقود هذا يا شيخ إبراهيم، واذهب لإنجاز ما طلبته من الإمام، ولكن لا ينبغي أن تكلم الإمام(عليه السلام) والأولياء الصالحين بهذه اللّهجة في المرة القادمة.

نعم، إن حب أهل البيت(عليهم السلام) والالتزام بتعاليمهم والتشرف بمجاورتهم وخدمتهم سواء كانت الخدمة علمية أو عملية له ثمرة دنيوية وأخروية، أما الأخروية فينال الشفاعة بشرطها وشروطها، وأما الفائدة الدنيوية فهي متمثلة في قضاء الحوائج والصفاء الروحي والعون في جميع الأمور الحرجة، ولكن مع ذلك فالمعصوم بإذن اللّه تعالى يستجيب لدعوة المحتاج ويقضي حاجته، وأماما علينا في قصة الشيخ إبراهيم والمرأة البدوية فإن ذلك امتحان للشيعة بقدر المعرفة، فإن ما يحمله الشيخ من معرفة يوجب عليه الصبر، أما المرأة البدوية

ص: 46

فإنها لا تعرف ذلك وإنما تعرف أن الإمام(عليه السلام) سيقضي حاجتها.

إلى الهيئات عامة

وعلى كافة الهيئات أيضاً بالإضافة إلى ما تقدم من الوصايا أن تعمل على:

أولاً: وضع برنامج متكامل يؤكد ويعمق من خلاله حب أهل البيت(عليهم السلام) في كل فرد، وهذا الحب يجب أن يكون عن وعي وفهم، فإن الحب الساذج من دون وعي، لعله يتصدع في المواقف الحرجة، كما مرّ في القصة الآنفة الذكر، إن صياغة الحب ونقشه في الصدور يقع أيضاً على عاتق الهيئات الحسينية بما تقيمه من مجالس، وإحياء المراسيم الإسلامية ودعوة الخطباء وغيرها من الأمور التي تحيي القلوب وتقلل من انشداد الإنسان بالدنيا، بل تدعوه إلى العروج بالروح عالياً مع فكر أهل البيت(عليهم السلام).

ثانياً: لا بد من الاهتمام بالقرآن الكريم وإقامة المحافل المتعددة لقراءة القرآن وتعليمه وحفظه وخاصة للأطفال؛ لأنهم قوة الإسلام في المستقبل، وكذلك الشباب والنساء، فعلى الجميع أن ينهل من هذا المنهل العذب، ليتزين بأحكامه وتعاليمه، فقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «معاشر الأنصار أدبوا أولادكم على حب علي...»(2).

ثالثاً: إقامة مجالس تذكر فيها الأحكام الشرعية المبتلى بها عند الناسوتدريس الأمور العقائدية المهمة التي تجب على كل أحد معرفتها، من قبيل أصول الإسلام وفروعه، وأصول المذهب وفروعه، وتأريخ المذهب وحياة

ص: 47


1- كنز الفوائد 1: 319.
2- الصراط المستقيم 2: 68.

الأئمة(عليهم السلام) وتصديهم الخالد للطواغيت، والمسائل الفقهية المبتلى بها يومياً.

رابعاً: لتكن مراكز الهيئات ملتقى للأخوة الإسلامية، ومكان للتآخي والتحابب والصدق وذكر اللّه، والإخلاص في جميع علاقاتنا مع الناس، ومع الأسرة، ومع الأولاد، ومع الأصدقاء وفي الدرجة الأولى علاقتنا مع اللّه عزّ وجلّ ثم علاقتنا مع الأئمة(عليهم السلام) ثم مع الناس.

وفي الختام نسأل اللّه عزّ وجلّ أن يوفقنا للمزيد من معرفة القرآن والعترة الطاهرة إنه سميع مجيب.

اللّهم صل على محمد وآل محمد، «اللّهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع»(1) وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

تعريف الإسلام للناس

قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا}(2).

إقامة مجالس الوعظ والإرشاد

قال سبحانه: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}(3).

إقامة مجالس التفقه في الدين

قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْإِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(4).

ص: 48


1- المصباح للكفعمي: 299.
2- سورة فصلت، الآية: 33.
3- سورة النحل، الآية: 125.
4- سورة التوبة، الآية: 122.
الاهتمام بالأعمال الخيرية

قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(1).

لزوم اتباع الأئمة المعصومين(عليهم السلام)

قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(2).

قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(4).

ضرورة إقامة المجالس الحسينية

قال تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(5).

وقال سبحانه: {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}(6).

الاهتمام كثيراً بتعليم القرآن الكريم

قال عزّ وجلّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ}(7).

وقال تعالى: {وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(8).

ص: 49


1- سورة المائدة، الآية: 2.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- سورة المائدة، الآية: 55.
4- سورة التوبة، الآية: 119.
5- سورة الحج، الآية: 32.
6- سورة الشورى، الآية: 13.
7- سورة النساء، الآية: 82.
8- سورة الأنعام، الآية: 155.

وقال جلّ وعلا: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَاْ الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}(1).

وقال سبحانه: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

نشر حب أهل البيت(عليهم السلام)

قال الإمام الباقر عن آبائه(عليهم السلام): قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن أهوالهن عظيمة: عند الوفاة وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط»(3).

الاهتمام بالقرآن وتعليمه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ومن تعلم القرآن وتواضع في العلم وعلَّم عباد اللّه وهو يريد ما عند اللّه، لم يكن له في الجنة أعظم ثواباً منه ولا أعظم منزلة منه...»(5).

إقامة مجالس التفقه في الدين

قال الإمام الكاظم(عليه السلام):

«تفقهوا في دين اللّه فإن الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادة والسبب إلى

ص: 50


1- سورة النمل، الآية: 91-92.
2- سورة ص، الآية: 29.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 10.
4- عوالي اللئالي 1: 99.
5- ثواب الأعمال: 293.

المنازل الرفيعة والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقه في دينه لم يرض اللّه له عملاً»(1).

لزوم معرفة الإمام المعصوم(عليه السلام)

قال الإمام الصادق(عليه السلام) في قوله اللّه عزّ وجلّ: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(2) فقال: «طاعة اللّه ومعرفة الإمام»(3).

وعن أحدهما(عليهما السلام) أنه قال: «لا يكون العبد مؤمنا حتى يعرف اللّه ورسوله والأئمة كلهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له ثم قال: كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأول؟!»(4).

وقال الإمام أبو الحسن(عليه السلام) في قوله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}(5) قال: «يعني من اتخذ دينه رأيه بغير هدىً أئمة الهدى»(6).

وفي ما كتب الإمام الرضا(عليه السلام) للمأمون من شرائع الدين: «من مات ولم يعرفهم - الأئمة(عليهم السلام) - مات ميتة جاهلية»(7).

ضرورة إقامة المجالس الحسينية

قال الإمام الصادق(عليه السلام) لأبي عمار المنشد:

«يا أبا عمار أنشدني في الحسين بن علي(عليهما السلام)» قال: فأنشدته فبكى ثم أنشدته

ص: 51


1- تحف العقول: 410.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- الكافي 1: 185.
4- الكافي 1: 180.
5- سورة القصص، الآية: 50.
6- بصائر الدرجات 1: 13.
7- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 122.

فبكى قال: فواللّه مازلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار»(1).

أخبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين(عليه السلام) وما يجري عليه من المحن بكت فاطمة(عليها السلام) بكاءً شديداً، وقالت: «يا أبت فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟»

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل، في كل سنة...»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة. ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(3).

فضائل زيارة قبور المعصومين(عليهم السلام)

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من زارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي، وكنت له شهيداً وشافعاً يوم القيامة»(4).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام) لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«يا أبت ما جزاء من زارك؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من زارني أو زار أباك أو زارك أو زار أخاك كان حقاً عليّ أن أزوره يوم القيامة حتى أخلصه من ذنوبه»(5).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أتى الحسين(عليه السلام) عارفاً بحقه كتبه اللّه تعالى في

ص: 52


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 141.
2- بحار الأنوار 44: 293.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 73.
4- كامل الزيارات: 13.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 59.

أعلى عليين»(1).

قال الإمام الرضا(عليه السلام) في كتاب له إلى البزنطي (أحد أصحابه):

«أبلغ شيعتي أن زيارتي تعدل عند اللّه ألف حجة» قال (البزنطي): فقلت لأبي جعفر(عليه السلام): ألف حجة؟! قال(عليه السلام): «إي واللّه وألف ألف حجة لمن زاره عارفاً بحقه»(2).

ص: 53


1- ثواب الأعمال: 85.
2- كامل الزيارات: 306.

إلى حكومة شيعية في العراق

لكل شيء سبب

اشارة

الإنسان - كما المعروف عنه - لا يعلم الغيب، والقرآن الكريم يقول: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(1).

ولكن اللّه سبحانه وتعالى جعل هناك علامات وأسباباً يستطيع من خلالها أن يتنبأ الإنسان بعض الشيء عن المستقبل، فيطلع على بعض خفايا الأمور ويعرف ما سيحدث بنسبة معينة.

فعلى سبيل المثال، إن علماء الطب القديم قالوا: إن الأمراض التي تصيب الإنسان تبلغ (24000) قسم ونوع، وهي تنتج من الأخلاط الأربعة المعروفة لدى الإنسان: الصفراء والدم والبلغم والسوداء، ولهذه ال(24000) مرض (24000) سبب، و(24000) علامة، و(24000) دواء، فكل مرض ينتهي إلى سبب، وكل مرض له عرض وعلامة تميزه عن باقي الأمراض، وله علاج مختص به، لذلك كان على الطبيب الحاذق آنذاك أن يعرف (96) ألف مسألة طبية حتى يستحق أن يدعى طبيباً حاذقاً.

بناءً على هذا، فالطبيب الذي يشخص المرض ويصف الدواء لبرء المريض، ليس عمله من قبيل العلم بالغيب، وإنما هو تشخيص للمرض بواسطة العلامات

ص: 54


1- سورة النمل، الآية: 65.

والأعراض الموجودة في جسم المصاب، وتنبؤ للصحة إذا استعمل الدواء الموصوف.

وهكذا يكون الأمر بالنسبة إلى معرفة المستقبل السياسي للشعوب والأمم والحكومات والدول.

المنجمون وعلماء الفلك

وكذلك أكثر المنجمين ومعدي التقويم حين يتحدثون شيئاً عن المستقبل، مثلاً: يخبرون بأنه في اليوم الكذائي سيحدث الخسوف أو الكسوف أو أي حدث آخر، فكلام هؤلاء المنجمين وإخبارهم بالمستقبل أيضاً ليس من قبيل العلم بالغيب، وإنما هو إجراء بعض الحسابات الفلكية عبر معرفة بعض العلامات والظواهر الكونية، إذ لكل شيء علامة وقانون يوصلنا إلى بعض الحقائق الخفية؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى جعل الدنيا دار أسباب ومسببات وخلقها وسيرها وفق قوانين وسنن خاصة، كل قانون من هذه القوانين والسنن يشير إلى سر من أسرار هذا العالم حيث يقول تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}(1).

كل هذا كان من باب المقدمة لموضوع بحثنا الذي هو: (إلى حكومة شيعية في العراق)، حيث يستفاد من بعض القرائن أن الحكم في العراق سيتغير بإذن اللّه عزّ وجلّ، قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا}(2)، ومن هنا يلزم على الشعب العراقي أن يكون واعياً لأخذ حقوقه المهدورة، حتى لا تتكرر هذه المآسي التي نشاهدها في كل يوم، وفي كل ساعة ضد أبناء الأكثرية في العراق.

ص: 55


1- سورة الأحزاب، الآية: 62.
2- سورة المعارج، الآية: 6- 7.

مقدمات الوصول لحكومة الأكثرية

اشارة

للوصولى الى حكومة شيعية في العراق لا بد من مقدمات ومقومات، من أهمها:

1- الإنفاق في سبيل اللّه.

2- وحدة الكلمة.

1- الإنفاق سر التقدم
اشارة

المقدمة الأولى: يلزم علينا صرف جهود كبيرة وأموال طائلة في سبيل وعي الأمة لكي تأخذ بحقها، وهي حق الأكثرية الشيعية في العراق؛ لأن الحكومة في العراق ومنذ مئات السنين - باستثناء بعض السنوات - كانت تحت سلطة الأقلية وسياستها الطائفية الظالمة، علماً بأن انتزاع الحكومة من أيديهم وإرجاعها إلى سلطة الأكثرية وهم شيعة أهل البيت(عليهم السلام) من الأمور الصعبة جداً، خصوصاً وأن الأقلية قد نشروا وطبقوا مبادءهم من كل الجوانب السلطوية، واحتفظوا باتحادهم وترابطهم في ما بينهم، بخلاف الشيعة حيث حرموا حتى من أبسط حقوقهم.

فإذا كنا نريد أن نصل إلى حقوقنا المغصوبة فلا بد من بذل سيل من الأموال لتوعية الشعب؛ إن البعثيين استولوا على الحكم في العراق بواسطة سيل الأموال وحماية من الغرب.

فالرجل الشيعي الذي له القدرة على الإنفاق، عليه أن ينفق في سبيل حقوق شعبه، ومن له الوعي والفهم والثقافة عليه بالسعي الجاد للمطالبة بهذه الحقوق، فما ينفق في هذا السبيل هو جزء من مقدمات الوصول إلى حكومة الأكثرية. وهكذا نجد أن حقوق الشيعة مهدورة في العراق من دون أن يجد أبناء الشيعة وعلماؤهم ومفكروهم القدرة الكافية على المطالبة بها.

ص: 56

حفظ كامل حقوق الأقليات

طبعاً نحن عندما ندعو إلى تأسيس حكومة شيعية في العراق لانريد منه التعصب والإساءة إلى الغير، ولا الطائفية الظالمة كما كانت الأقلية تفعل ذلك ولا زالت.

بل لأن ذلك مطلب عقلي وشرعي وقانون طبيعي في كل العالم الإنساني وعند جميع عقلاء العالم؛ وذلك لأن العقل يحكم بأن الحق في الحكم إنما يمتلكه صاحب الأكثرية، إذ لا يصح عقلاً ومنطقاً أن تقهر الأقلية النادرة الأمة على مذهب وقانون لا يرتضيه أكثر أبناء الشعب، فإن الحق للأكثرية مع احترام الأقليات وحفظ كامل حقوقها من دون نقيصة، ولذلك نحن نطالب بقيام حكومة شيعية في العراق لا سنية؛ وذلك لأن الأكثرية الساحقة في الشعب العراقي هم من أبناء الشيعة، إذ تبلغ نسبة الشيعة حوالي (85%) من أبناء الشعب، بينما ليس للسنة إلّا (12%).

وفي نفس الوقت فإن دعوتنا للحكومة الشيعية لا تعني أننا نريد مصادرة حقوق السنة، بل نقول لكل حصته، للشيعة حصتهم بمقدار (85%)، وللسنة حصتهم بمقدار (12%) أيضاً. أما إذا حكمت السنة الأقلية على الأكثرية الشيعية، كان ذلك تطرفاً واعتداءً على حقوق الأكثرية، وهضماً لها وبثاً لنوازع الفرقة والاختلاف، ومصداقاً واضحاً من الطائفية.

نفوذ الإنجليز في العراق عن طريق الأموال

يقول المرحوم والدي(رحمه اللّه): عندما سيطر الإنجليز على العراق، كان الدخل الشهري للعائلة المتوسطة في العراق حوالي ليرة واحدة، وكان للإنجليز مئات الآلاف من الجنود الذين جاؤوا بهم من الهند، وكانت القيادة الإنجليزية قد خصصت لكل جندي من جيش الإنجليز ليرة واحدة في كل يوم، وأبلغتهم بأنه

ص: 57

على كل جندي أن يصرف هذه الليرة خلال اليوم بأي صورة كانت، ومن يتخلف عن ذلك فإن السياط سوف تتلوى على قدميه، لذلك كان الجندي الإنجليزي يشتري الدجاجة الواحدة التي لا تتجاوز قيمتها عشرين فلساً بروبية واحدة، وهو مبلغ يعادل عدة أضعاف سعر الدجاجة الأصلي، وهكذا سائر الأشياء من أجل أن يتمكن من صرف الليرة في يومه بكاملها ولا يبقى منها شيء، وبهذا صبت في العراق أموال طائلة، وعلى قول أحدهم: كانت الأبواب والجدران آنذاك تمطرنا بالأموال، كان هذا من أسباب تمكن الإنجليز من السيطرة على العراق وجره إلى الفلك الإنجليزي.

إنفاق المال في الموارد الصحيحة

والمطلوب هو إنفاق المال في موارده الصحيحة من التبليغ وإقامة مجالس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام)، ونشر الكتب والصحف والمجلات، وبناء المحطات التلفزيونية والإذاعية، وما أشبه في سبيل توعية الأمة، وكذا في سائر المرافق الحياتية الأخرى، فإنها جيدة ومفيدة. علماً بأن هناك قانون الأهم والمهم، فإن صرف الأموال في بعض الموارد مهم ولكن يكون في البعض الآخر أهم.

ومن الأهم صرف الأموال وإنفاقها - طبقاً للقاعدة الفقهية التي تنص بتقديم الأهم على المهم - في مقدمات وطرق وصول الأكثرية الشيعية إلى حقها في العراق.

لا للاحتكار، نعم للإنفاق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لم نبعث لجمع المال ولكن بعثنا لإنفاقه»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما أوحي إليَّ أن أجمع المال»(2).

ص: 58


1- مشكاة الأنوار: 183.
2- روضة الواعظين 2: 454.

إلى غير ذلك من الروايات الشريفة والآيات الكريمة التي تحث على الإنفاق وتنهى عن الاحتكار، فإن المال له دور كبير في الحياة الاجتماعية والسياسية والعالمية وغيرها، وهو من طرق تأمين اللذة المادية منها والمعنوية، كاللباس والغذاء والمسكن والزوجة والعلم والفضيلة والقوة وما أشبه، كما أنه من طرق دفع الألم في أضداد تلك الأمور.

ولذا فمحبة المال ثانوية في نظر الإسلام، أي أن الإسلام ينظر إلى المال نظرة طريقية لا موضوعية، فليس المال هو الهدف، بل المال يكون في خدمة الهدف وفي خدمة الإنسان. فهو وسيلة لإنماء الإنسان وعمارة الأرض التي هي أيضاً لإنماء الإنسان وليست هدفاً بما هي هي، لكن قسماً من الأثرياء يجعلون المال هدفاً لا وسيلة، وهو تحريف المال عن مقصده المشروع، وهذا من أسباب التغيير في شخصية الإنسان، فالتاجر الذي يجعل المال هدفاً والمزيد منه مقصداً، لا يلاحظ حقوق الآخرين عادة، فينظر إلى نفسه وماله فقط، فيكفي إن نام هو وأكل ولبس وتمشى وإن كانت على حساب الآخرين. وقد يصاب بالأمراض والعاهات في نفسه، بالإضافة إلى أنه يجعل المجتمع متأخراً؛ لأنه يهتم بجمع المال واحتكاره وعدم إنفاقه.

لذا يلزم الإنفاق من المال وعدم احتكاره، وبذلك يتقدم المجتمع، حيث يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «كن مقدراً ولا تكن محتكراً»(1).

إن إنفاق المال يؤدي إلى التكامل الفردي والرشد الإنساني، ويجسدها من ثلاث نواح:

1- إنه يزيح موانع التكامل النفسي والرشد الإنساني، ويقلع السدود عن

ص: 59


1- غرر الحكم: 528.

مسيرتهما؛ لأنه يذهب بتراكم المال والثروة، الموجب للغنى المفرط المفسد للإنسان والإنسانية، والعامل على سقوطه وترديه في معركته ضد مسيرة التكامل والرشد، فإن «من يستأثر من الأموال يهلك»(1).

2- إنه يجلي الروح الإنسانية في الشخص، ويكبر النفس، ويغرس السماح وعلو الهمة في ذاته، ويربي الفضائل الخلقية.

3- إنه ينمي في الإنسان روح التربية الإسلامية، وهي الالتزام بالهدف الديني وحب الآخرين.

تقسيم الأموال بأمر الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه)

نقل لي الحاج محمود الصراف وكان الوكيل العام للمرجع الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) القصة التالية:

كانت القيادة العليا للمرجعية في يد الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه)، وكانت تصله وباستمرار من الأماكن القريبة والبعيدة الأموال والحقوق الشرعية، فكانت تصل إليه الأموال من أذربيجان، وإيران، وبادكوبة(2)، وأفريقيا وغيرها. وبعضها كانت تأتي بشكل ليرات مكدسة في أكياس كبيرة كأكياس السكر والرز، وحدث ذات يوم أن طلبني - والكلام لوكيله العام - الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) وأعطاني كيساً كبيراً مليئاً بالليرات، وقال: خذ هذا الكيس، وطف على بيوت الناس بيتاً بيتاً، بغض النظر عن غناء أصحابها وفقرهم، وأعطِ لكل عائلة ليرة واحدة. وهكذا فعلت حتى أنهيت جميع الأموال التي كانت عندي.

هذه القصة تبين لنا أن المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) كم كان

ص: 60


1- تحف العقول: 217.
2- وتعرف ب(باكو) أيضاً، عاصمة جمهورية أذربيجان.

يصرف من الأموال في سبيل خدمة الناس، وتقوية حكومة الأكثرية، ودعم الشعب وتقوية عزائمه.

أما في الآونة الأخيرة فنرى العكس من ذلك، فإن البعض يطمع أن يفعل شيئاً، أو يقيم مؤسسات ومشاريع، أو يقدم خدمات للناس، أو يأخذ بحق الأكثرية، ولكن لا ينفق الأموال في سبيل ذلك، ومن المعلوم أن بدون إنفاق المال لا يمكن إقامة تلك المشاريع ولا الوصول إلى حق الأكثرية في العصور الراهنة.

حكومة العراق المستقبلية

مما يبدو للنظر وحسب بعض الشواهد والعلامات التي تتجلى شيئاً فشيئاً مع الأحداث، أن حكومة العراق المستقبلية ستكون حكومة طائفية سنية متعصبة كما كانت من قبل، إلّا إذا أصبحت الأكثرية الشيعية بمستوى المسؤولية، وانتشر الوعي في صفوفهم، وإلّا فإن بعض الحكومات العربية تعمل ليل نهار حتى تكون الحكومة في العراق حكومة سنية، فإن إحدى هذه الحكومات قامت في هذا المجال بعدة أعمال منها:

أولاً: إنها قامت بإعداد مائة وثلاثين ألف جندي عراقي هم في بلادها أسرى بعد حرب الكويت، كما قامت بالعناية بهم بأفضل ما يكون، فهي تعدهم للحكومة المستقبلية في العراق.

ثانياً: قامت أيضاً بتوزيع الأموال الطائلة جداً على بعض العشائر لكسب مودتها.

ثالثاً: منحت بعض رؤساء العشائر جنسيتها.

رابعاً: شكلت حكومة في المنفى ضمت رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وسائر الأعضاء، وهم جميعاً على أهبة الاستعداد لتسلم السلطة في العراق في أي وقت.

ص: 61

فنتيجة ذلك المجهود الذي تصرفه هذه الحكومة، وبذل الأموال الطائلة التي لا حدود لها، هي تشكيل حكومة سنية تحمل أفكاراً وهابية في العراق ذي الأكثرية الشيعية. كما فعلت مثل ذلك في لبنان، حيث قامت بصرف سيل من الأموال الطائلة، واستطاعت بعد أن وجدت لنفسها هناك موضع قدم، من هضم حقوق الشيعة وبث الفرقة في ما بينهم. وهكذا تستفيد هذه الدولة من قدراتها المالية للتأثير في سياسة المنطقة، والتحكم في مصيرها وزرع الطائفية بين الأمة الإسلامية.

وفي المقابل علينا أن نصرف الأموال الكثيرة، وإنفاقها في سبيل قضيتنا لتمكنا من أن نصل إلى حقوقنا، وهي حق الأكثرية الشيعية في العراق، بعيداً عن جميع أساليب العنف والإرهاب.

2- وحدة الكلمة للوصول إلى حقوق الأكثرية
اشارة

المقدمة الثانية - في سبيل منح الأكثرية في العراق حقوقها المشروعة - هي: وحدة الكلمة، فإنها العامل الثاني لانتصار الشيعة في العراق، فنحن لو افتقدنا (وحدة الكلمة) واحتفظت الدولة الوهابية بوحدة كلمتها، فإن الناس سوف يميلون إلى من اتصف بوحدة الكلمة؛ لأن المقدمات الخاطئة تعطي دائماً نتائج خاطئة أيضاً، إذ النتائج تتبع أخس المقدمات حسب المذكور في علم المنطق على تفصيل مذكور في محله، كما أن المقدمات الصحيحة لا تعطي إلّا النتائج الصحيحة أيضاً.

فعلى سبيل المثال: الجوهري هو أحد علماء اللغة، الذي أجهد نفسه كثيراً في مجال اللغة، وعندما كتب قاموسه المسمى ب- (الصحاح) فاق القواميس الموجودة في عصره وربما نسخها، ولكنه لكثرة مطالعته وضغطه على نفسه أصيب بحالةمن الجنون، ففكر ذات يوم مع نفسه وقال: لماذا لا يكون لي جناحان ككل طائر

ص: 62

فأطير بهما، لذلك قلع مصراعي الباب وشدهما على يديه على هيئة الجناحين وصعد على أعلى السطح وصاح في الناس: أيها الناس، إنني سأقوم بعمل فريد لم يفعله أحد قبلي لحد الآن، كما جئت بعلم اللغة وتفاصيلها بما لم يأتِ به أحد، ثم قفز من السطح وهو يحرك يديه كالطائر في محاولة فاشلة للطيران، فهوى إلى الأرض وارتطم بها بشدة، فتكسرت عظامه ومات(1).

إذن، المقدمات الخاطئة لا بد وأنها تعطي النتائج الخاطئة لا غير.

ونتيجة الكلام هي أنه إذا لم نفهم الطريق الصحيح للوصول إلى أهدافنا، واتبعنا المقدمات الخاطئة، فسنبقى متأخرين عن ركب الحياة، والتقدم الذي حصل فيها، وسنكون عرضة لتلقي الصفعات والضربات من هنا وهناك، والعياذ باللّه.

ومن أهم مقدمات الانتصار هو إنفاق المال ووحدة الكلمة.

التلبس بالدين

هناك البعض ممن يتلبس بالدين ليخدع المسلمين، ويبث الفرقة والنزاع بينهم، ومن هنا نرى بعض الدول تقوم - بدهاء وذكاء عجيب - بخداع المسلمين، حيث تأخذ بتطبيق ظاهري لبعض القوانين التي تتلبس بمظاهر إسلامية، وتخفي وراءها مصالح سياسية حاقدة بعيدة عن الإسلام، فتحت شعار (وحدة الكلمة) تكفر المسلمين، وتبث فيهم روح الطائفية، وتدعم الفكر الوهابي الطائفي، وإن أنكرت ذلك.

وقد تحدث رئيس تلك الدولة وقال في خطابه: (نحن نسير على خطىالأنبياء، ومن ينسب إلينا الوهابية فهو كذب، نعم يوجد في أمتنا مذهب يدعى

ص: 63


1- انظر: معجم الأدباء 6: 157.

بالوهابية، ولكن استراتيجيتنا قائمة على تجليل واحترام كل المذاهب بدون استثناء، وهذا المذهب أيضاً من ضمنها).

وقبل مدة تحدث هذا الرئيس لمجموعة من الشيعة وقال: (بأننا نقدر ونحترم مذهب الشيعة، وذلك لأنه لو لم يكن هذا المذهب لبقي قسم كبير من تاريخ الإسلام مجهولاً)، وذلك من أجل كسب ودهم وتعاطفهم ولو زيفاً.

ولكن في مرحلة العمل ترى النظرة الطائفية حاكمة على سياستهم في مختلف المجالات.

العزم والإرادة بعد التوكل على اللّه
اشارة

إذا قمنا - بعد التوكل على اللّه عزّ وجلّ - بهذين العملين المهمين:

1- بذل الأموال وصرفها في سبيل الهدف.

2- إيجاد وحدة الكلمة.

عندئذ يمكن تأسيس حكومة الأكثرية في العراق، ومن هنا يلزم على المؤمنين العمل الجاد لتوفير هذين العاملين، وبث الوعي في صفوف الأمة لضرورة المطالبة بحقوق الأكثرية، وتأسيس الحكومة الشيعية في العراق المبتنية على أسس السلم والسلام، والتعددية واحترام الآخرين، وضمان حقوق الأقليات، وما هي العوامل المساعدة على تأسيس هذه الحكومة وتركيزها، وما هي الأسس التي تبتني عليها.

ونحن إذا أردنا هذا الأمر وعزمنا عليه وتوكلنا على اللّه، فإنه سيتحقق بإذن اللّه تعالى، فإن التصميم والعزم على الأمر هو الأساس، كما يقول المثل الفارسيومضمونه: (الإرادة تعني القدرة)(1).

ص: 64


1- أصل المثل بالفارسية: (خواستن توانستن است).

نعم الإرادة هي الاستطاعة، فبمجرد أن تتحقق الإرادة فإن ذلك يعني تحقق الاستطاعة على الشيء.

وحيث يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ فوض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمع قول اللّه عزّ وجلّ يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(1)، فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، قال: إن المؤمن أعز من الجبل إن الجبل يستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقل من دينه بشيء»(2).

السكاكي: قوة الإرادة

وقصة السكاكي في التاريخ مشهورة، حيث كان كاسباً ماهراً في صناعته، وفي ذات يوم صنع محبرة قيمة صرف عليها من الوقت سنة كاملة، فذهب لإهدائها إلى الملك ليحصل على جائزة منه، وعندما رآها الملك فرح بها كثيراً وأثنى عليه، وفي هذا الأثناء دخل أحد العلماء، فاستقبله الملك بحفاوة وتقدير وترك المحبرة جانباً، ثم أجلس العالم إلى جانبه، وأخذ يحادثه ولم يهتم بأمر السكاكي ومحبرته، كأنه لم يشعر بوجوده، فأثر هذا الموقف في نفس السكاكي أثراً عميقاً حين رأى مكانة العلماء حتى عند الملوك، ففكر في نفسه وقال: يجب أن أصبح عالماً، وصمم على ذلك بالرغم من تقدمه في السن، لذلك ذهب إلى مكتب أحد المعلمين ليتعلم لديه العلوم بالرغم من كبر سنه الذي كان يتجاوز الأربعين، فعلمه المعلم درساً وقال له: احفظه إلى غد، وكان الدرس هو: (قالالشيخ: جلد الكلب يطهر بالدباغة!).

فأخذ السكاكي يردده إلى صباح الغد، وعندما جاء إلى مكتب المعلم قرأه

ص: 65


1- سورة المنافقون، الآية: 8.
2- الكافي 5: 63.

على العكس فقال: (قال الكلب: جلد الشيخ يطهر بالدباغة).

فضحك عليه جميع من كان في الدرس، وخرج السكاكي على أثر ذلك وهو حزين متألم، فهام على وجهه وهو ممتلئ حزناً ويأساً، فوصل ذات يوم إلى منطقة جبلية، فجلس يستريح، فرأى أمامه منظراً جميلاً أثر في كيانه أثراً عميقاً وغير مسار حياته، حيث رأى قطرات الماء تسقط من أعلى الجبل على صخرة صماء صلدة، ولكن لكثرة توالي سقوط القطرات على هذه الصخرة حفرت فيها ثقباً عميقاً، فقال في نفسه: إن عقلي ليس بأصلب من هذه الصخرة الصماء بحيث لا يؤثر فيه التعليم، فيجب عليَّ أن أجد واجتهد في الدرس وتحصيل العلم، فذهب وأخذ يدرس ويدرس ويجتهد، حتى صنع من نفسه أحد أكبر علماء البلاغة والأدب.

إذن على الإنسان أن يجتهد في تحصيل الهدف ولا ييأس، وهكذا بالنسبة إلى تأسيس حكومة الأكثرية في العراق على رغم صعوبتها، فعلينا أن نجتهد في السعي وراء أهدافنا من أجل تأسيس الحكومة الشيعية في العراق، وذلك لأن الانتفاضات التي حدثت في تاريخ العراق إنما قام بها الشيعة، والتعب والعناء والتشريد والتعذيب والنهب والقتل والويلات إنما تحملها الشيعة أنفسهم، فلماذا تترك الحكومة إلى غيرهم، فيلزم أن يكون الشعب واعياً، حتى لا يستغل أعداء المسلمين من اليهود والوهابيين ودول الغرب، فيستفيدوا من تضحيات الشيعة كما استفادوا من كل شيء في أفغانستان والباكستان وباقي دول العالم الإسلامي، ويلزم أن لا ننسى أن الإرادة تساوي القدرة والاستطاعة بعد التوكل على اللّه عزّ وجلّ، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَوَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1).

ص: 66


1- سورة التوبة، الآية: 105.

وفي الختام نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يسهل للشعب العراقي المظلوم المطالبة بحقوقه المهدورة، وذلك بتأسيس الحكومة الشيعية في العراق عملاً بقانون الأكثرية، مع رعاية حقوق سائر الأقليات(1).

«اللّهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النّفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدّنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

الحكومة الإسلامية الشاملة

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(3).

وقال سبحانه: {قُلْ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(4).

وقال جلّ جلاله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(5).

وقال عزّ اسمه: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ}(6).

اتباع أحكام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}(7).

ص: 67


1- ألقيت المحاضرة في 13/ ذي الحجة/ 1411ه- بقم المقدسة.
2- الكافي 3: 424.
3- سورة سبأ، الآية: 28.
4- سورة الأعراف، الآية: 158.
5- سورة التوبة، الآية: 33.
6- سورة النساء، الآية: 105.
7- سورة الشعراء، الآية: 107- 108.

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(1).

وقال جلّ جلاله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٖ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ}(2).

وقال عزّ اسمه: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُواْ أَعْمَٰلَكُمْ}(3).

لا للطواغيت

قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}(4).

وقال سبحانه: {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّٰغُوتَ}(5).

وقال جلّ جلاله: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(6).

وقال عزّ اسمه: {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَئًْا وَإِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}(7).

الشورى والمشاورة

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ

ص: 68


1- سورة النساء، الآية: 59.
2- سورة الأحزاب، الآية: 36.
3- سورة محمد، الآية: 33.
4- سورة النساء، الآية: 60.
5- سورة النحل، الآية: 36.
6- سورة آل عمران، الآية: 64.
7- سورة الجاثية، الآية: 19.

حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(1).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}(2).

أهداف الحاكم المسلم

قال تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(3).

وقال سبحانه: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ}(4).

وقال جلّ جلاله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}(5).

وقال عزّ اسمه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

الحكومة الإسلامية الشاملة

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «فبعث اللّه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق ليخرج عباده من

ص: 69


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- سورة الشورى، الآية: 38.
3- سورة هود، الآية: 88.
4- سورة النساء، الآية: 114.
5- سورة النساء، الآية: 58.
6- سورة الحجرات، الآية: 10.

عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته»(1).

وعن علي(عليه السلام) قال: «إن اللّه بعث رسولاً هادياً بكتاب ناطق، وأمر قائم لا يهلك عنه إلّا هالك»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى أعطى محمدا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى(عليهم السلام)»(3).

اتباع أحكام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمر الولاية

عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «اللّهم إني أقول كما قال أخي موسى: اللّهم اجعل لي وزيراً من أهلي، علياً اشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً»(4).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله»(5).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «علي خير من أترك بعدي، فمن أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني»(6).

لا للطواغيت

عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من أرضى سلطاناً بسخط اللّه خرج من دين اللّه»(7).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال:«أربعة من قواصم الظهر: إمام يعصي اللّه ويطاع

ص: 70


1- نهج البلاغة: الخطب الرقم: 147.
2- نهج البلاغة: الخطب الرقم: 170، من خطبة له(عليه السلام) عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة.
3- الكافي 2: 17.
4- بحار الأنوار 38: 148.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 58.
6- الروضة في فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام): 24.
7- الكافي 2: 373.

أمره...»(1).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من خف لسلطان جائر كان قرينه في النار، ومن دل سلطاناً على الجور قرن مع هامان، وكان هو والسلطان من أشد أهل النار عذاباً»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: في قول اللّه تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}(3)، قال: «واللّه ما صلوا لهم، ولا صاموا، ولكن أطاعوهم في معصية اللّه»(4).

الشورى والمشاورة

عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا»(5).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «إذا عزمت فاستشر»(6).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «وشاور في أمرك الذين يخشون اللّه عزّ وجلّ...»(7).

وعن الإمام أبي جعفر(عليه السلام) قال: «فإن المشورة مباركة، قال اللّه لنبيه في محكم كتابه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}»(8)(9).

ص: 71


1- الخصال 1: 206.
2- ثواب الأعمال: 281.
3- سورة التوبة، الآية: 31.
4- المحاسن 1: 246.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 153.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 281.
7- الخصال 1: 169.
8- سورة آل عمران، الآية: 159.
9- تفسير العياشي 1: 205.
أهداف الحاكم المسلم

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «وليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم للّه وأنتم تريدونني لأنفسكم. أيها الناس، أعينوني على أنفسكم، وايم اللّه لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته(1) حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها»(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه»(3).

وعن الإمام الحسين(عليه السلام) قال: «اللّهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك، وسننك وأحكامك»(4).

ص: 72


1- الخِزامة: حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشد بها الزمام ويسهل قياده.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 136، ومن كلام له(عليه السلام) في أمر البيعة.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 37، ومن كلام له(عليه السلام) قاله بعد واقعة النهروان.
4- تحف العقول: 239.

انتهاء أمد اليهود في اغتصاب فلسطين

المقدمة

هذا الكتاب (انتهاء أمد اليهود في اغتصاب فلسطين) كتبته لما يظهر من حال العالَم بانتهاء الاغتصاب، وإنما تلك أيام بإذن اللّه سبحانه.

إن اليهود جاؤوا إلى فلسطين واغتصبوها أيام ضعف العالم الإسلامي، فقد سبب العثمانيون ضعف البلاد الإسلامية أيما ضعف، وبعد العثمانيين قوي العالم الغربي بمختلف فئاته، وتمكن اليهود بحبل من الناس من اغتصاب فلسطين.

وقد استمر الضعف في العالم الإسلامي إلى يومنا هذا، حيث الحكام لا يدعون الشعب المسلم من العمل والتقدم والتطور... .

ومن الواضح أن الأمة العاملة تتقدم على الأمة الهاملة غير العاملة، ومن هنا تقدم الغرب علينا.

جاءني قبل أيام شخص عرّفه أصدقاؤه بأنه معلم في الثانوية، وقالوا: إنه خبير جداً في مسح المواقع الإلكترونية.

قالوا: إنه تمكن من مسح سبعة مواقع إسرائيلية من الإنترنيت، مما أزعج اليهود حتى اكتشفوه، فأبلغت دولة إسرائيل الغاصبة أمريكا بهذا الشيء وطالبت بمطاردته، وأمرت أمريكا حكّام ذلك البلد بأن يلقوا القبض على هذا الرجل، لكنه تمكن من الهرب إلى بلد آخر، حيث اختفى حتى تهدأ العاصفة ويرجع إلى بلاده.

هذه القصة تدلنا على مدى استيلاء المستعمرين على بلاد الإسلام وعلى

ص: 73

حكّامهم، حتى إن حاكم ذلك البلد يكون رهن إشارة أولئك الأمريكيين.

ومن الواضح أن حكام المسلمين كانوا في يوم اغتصاب فلسطين في غاية الضعف، فإنهم قد غرقوا في الشهوات والمفاسد وظلم العباد، وقد أخذوا على عاتقهم إبقاء الضعف في الأمة الإسلامية، حيث لم يسمحوا للمسلمين بالعمل، وقاموا بسحق الكفاءات العلمية والعملية، ولذلك تقدم الغربيون أيما تقدم، وتأخر المسلمون أيما تأخر.

فإن العلم والعمل سر التقدم.

وإني أتذكر قبل خمسين سنة كان المتاع الياباني في العراق مثالاً للسوء والتأخر، والناس لا يشترون منه، حتى قُيّض ليابان تعدد الأحزاب بعد الحرب العالمية الثانية، فأخذوا بالعلم والعمل فتقدموا وتقدموا حتى نجدهم اليوم سبقوا العالم كله، فإنهم تقدموا على الغرب في التكنولوجيا كما هو معروف. أما العالم الإسلامي فهم متأخرون إلى اليوم، وتعيش الشعوب الإسلامية في الفقر والمآسي، وما يوجد لبعضهم من أموال النفط وغيرها فإنها تصرفها الحكام في شهواتهم وطغيانهم لا في العلم والخبروية والصناعة.

ولو صرفت هذه الأموال الطائلة في عالم الخبروية والصناعة وما أشبه ذلك من التطوير وفي العلم والعمل، لتقدم المسلمون لعله خلال عشر سنوات، لأن المسلمين قابلون للتقدم، لا لأنهم بشر فحسب والبشر له قابلية التقدم، بل لأنهم يؤمنون بأقوى المناهج التقدمية، حيث إن «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(1)، والإسلام يقدّم من تبعه إلى الأمام، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من استوىيوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة

ص: 74


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334.

في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة»(1).

فعدم الديمقراطية - بمعناها الصحيح - في بلاد المسلمين، وعدم تعدد الأحزاب، وجعل الحكم استبدادياً هو سبب التأخر، وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من استبد برأيه هلك»(2). أقول: ومن الواضح أن الهالك (من هلك) لايتمكن من إنقاذ غيره، وإنما هلك وأهلك، ويُهلِك ويَهلُك، ولعل عدم ذكر الإمام(عليه السلام) ل- : (أهلك) لوضوحه من باب التلازم العقلي والعرفي، إذ من الواضح أن فاقد الشيء لا يعطيه.

وهذا هو من أسرار تقدم الغرب واليهود على المسلمين، وغصب أراضيهم... ولكن هناك بوادر خير تفيد انتهاء أمد اليهود في اغتصاب فلسطين، بإذن اللّه تعالى.

اليهود لغةً وتاريخاً

اشارة

(اليهود) يطلق على الأمة التي اتبعت شريعة التوراة التي جاء بها النبي موسى(عليه السلام) سواء كان ذلك قبل تحريف التوراة أو بعده.

وسموا باليهود، قيل: لأنهم تابوا واهتدوا (هادوا) إلى دين النبي موسى(عليه السلام) بعد اتخاذهم العجل.

وقيل: لأنهم يتهوّدون أي يتحركون عند قراءة التوراة.

وقيل: لأن بعضهم يصل نسبه إلى يهوذا أحد الأسباط الاثني عشر والمنسوب إلى أحد أبناء يعقوب(عليه السلام).

وتسمى اليهود ببني إسرائيل أيضاً لأن بعضهم ينحدر من نسل يعقوب

ص: 75


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 668.
2- وسائل الشيعة 12: 40.

النبي(عليه السلام) وكان من ألقابه إسرائيل، ولكن يعقوب(عليه السلام) لم يكن يهودياً فإن التوراة نزلت بعده لا في عهده، بل كان يعقوب(عليه السلام) حنيفاً مسلماً على دين إبراهيم(عليه السلام). ويسمون أيضاً بالعبرانيين، نسبة إلى لغتهم العبرية.

ادعاءات لا أساس لها

ثم إنه لا صحة لما يدعيه اليهود بحقهم في فلسطين باعتبار سكناهم فيها أو سكنى جدهم يعقوب(عليه السلام).

فإن النبي يعقوب(عليه السلام) كان يعيش فترة في البادية بقرب سيناء، وقد وُلد أبوه إسحاق وعمه إسماعيل(عليهما السلام) في فلسطين وكانا من المهاجرين إليها ولم يكونوا من المستوطنين فيها، ومن بعد ذلك رحل يعقوب(عليه السلام) وبنوه إلى مصر.

وأقدَم من عُرف بأنهم من سكنة فلسطين هم الكنعانيون والآموريون وهم من الجزيرة العربية استقروا في بلاد الشام وفلسطين قبل اليهود بقرون عدة.

ثم إن أكثر اليهود المعاصرين ليسوا من نسل يعقوب(عليه السلام) فمثلاً يهود الخزر (الأشكناز) معظمهم من الوثنيين الذين تهودوا في القرن الثامن الميلادي وينحدر نسل بعضهم من البدو في أفريقيا وآسيا، كما أن ملك اليمن (تبان أسعد أبوكرب) عند ما تهوّد أكره شعبه على التهود وهم ليسوا من نسل إسرائيل، وهكذا.

أولاد يعقوب(عليه السلام)

كان ليعقوب(عليه السلام) اثنا عشر ولداً من أربع نسوة، وهم حسب بعض التواريخ:

1-6: راويين، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويسّاكر، وزبلون، من أمهم ليئة.

7-8: ويوسف وبنيامين، من راحيل.

9-10: ودان ونفتالي من زلفة.

ص: 76

11-12: وجاد وأشير من امرأة أخرى.

وفي قصة يوسف(عليه السلام) حيث أصبح عزيز مصر استوطن أخوته مصر وبقوا فيها إلى أن جاءهم فرعون واضطهدهم واستعبدهم، فبعث اللّه تعالى موسى بن عمران(عليه السلام) وهو من أحفاد لاوي بن يعقوب(عليهم السلام) ليهدي بني إسرائيل إلى عبادة اللّه تعالى عوضاً عن عبادة فرعون، ويخرجهم من الذل والظلم. ومن هنا بدأ تاريخ الديانة اليهودية، من عهد موسى(عليه السلام) وفي مصر، وليس في فلسطين.

كفر اليهود

كان اليهود سريعي الكفر والارتداد على نبيهم موسى(عليه السلام) ودينه، فلم يمض على خلاص اليهود من فرعون وجنوده فترة إلّا ظهر كفرهم على الرغم من كثرة المعجزات التي شاهدوها من النبي موسى(عليه السلام)، قال تعالى:

{وَجَٰوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٖ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٖ لَّهُمْ قَالُواْ يَٰمُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1).

وبعد أن ذهب النبي موسى(عليه السلام) لملاقاة ربه، اتخذ اليهود العِجل يعبدونه من دون اللّه، وهدّدوا النبي هارون(عليه السلام) بالقتل إن اعترض عليهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَٰتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَٰلِمُونَ}(2).

وهناك قصص كثيرة في كفر اليهود ومخالفتهم لنبيهم موسى(عليه السلام) وهي مذكورة في القرآن الكريم والروايات الشريفة والكتب التاريخية... حتى إنهمرفضوا الإيمان إلّا برؤية اللّه جهرة! ... {وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى

ص: 77


1- سورة الأعراف، الآية: 138-139.
2- سورة البقرة، الآية: 92.

اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}(1).

وقد ابتلوا بالتيه والضياع لكثرة مخالفاتهم، فلم يصلوا إلى الأرض المقدسة فترة التيه، وتوفي النبي موسى(عليه السلام) وأخوه هارون(عليه السلام) في تلك الفترة.

ومن بعدهما بعث اللّه تعالى فيهم يوشع بن نون(عليه السلام) نبياً فقاد بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ودخلوها ولكنهم أخذوا يكفرون بأنعم اللّه تعالى مرة أخرى. قال عزّ وجلّ: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَٰيَٰكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}(2).

وبعد أن مات يوشع(عليه السلام) انقسم بنو إسرائيل إلى عدة قبائل وانتشرت بينهم الحروب والنزاعات وعادوا إلى عبادة العِجل وكثر فيهم الكفر والزندقة والفساد والزنا واتهام الأنبياء بأشد المحرمات، بل قتلهم للأنبياء(عليهم السلام).

وهكذا استمر كثير منهم على الكفر والعصيان والفاحشة والظلم والعدوان والمكر والخديعة إلى يومنا هذا.

وقد أضاعوا التوراة ولم يعثروا عليها أبداً، نعم ادعوا أنهم عثروا عليها في عهد الملك يوشيا. ولكنها لم تكن التوراة المنزلة من اللّه بل كتبوها بأيديهم. قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(3).

ص: 78


1- سورة البقرة، الآية: 55.
2- سورة البقرة، الآية: 58-59.
3- سورة البقره، الآية: 79.
اليهود ومحاولة قتل السيد المسيح(عليه السلام)

ولما بعث اللّه النبي عيسى(عليه السلام) ومعه المعجزات والبراهين الكثيرة على صدق نبوته، لم يؤمن به اليهود، بل حاولوا قتله، فتآمروا عليه بعد اتهامه بالكفر واتهام أمه الصديقة مريم(عليها السلام) بالفاحشة، فألقى اللّه تعالى صورة السيد المسيح(عليه السلام) على أحد حوارييه فأخذه اليهود وقتلوه صلباً وزعموا أنهم قتلوا النبي عيسى(عليه السلام). {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا}(1).

اليهود في البلاد العربية

هاجر كثير من اليهود إلى مختلف البلاد فراراً من ظلم حكامهم.

وفي عام (740 ق م) غزا الآشوريون الذين جاؤوا من العراق أرض فلسطين، ومن بعدهم حكم البابليون العراق وفلسطين، ثم هاجم الملك البابلي (بخت نصر) القدس وأخذ من كان هناك من اليهود إلى أرض بابل في العراق.

كما أنه فرّ بعض اليهود وفي عهود مختلفة إلى أرض العرب، فنزل بعضهم المدينة المنورة (يثرب) وبعضهم خيبر وتيماء واليمن وغيرها.

ولما بعث اللّه خاتم المرسلين محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الجزيرة العربية وهاجر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة أسلم كثير من اليهود، وبقي البعض منهم معانداً مصراً على رفض الإسلام، ولكن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تعامل معهم بأفضل ما يمكن، فأعطاهم حقوقهم كاملة غير منقوصة من حرية العبادة والتجارة والزراعة والسفر والإقامة وجميع حقوق المواطنة، وكذلك حماية ممتلكاتهم وأموالهم وأعراضهم وأنفسهم.

وكتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معهم عدة مواثيق في الصلح وحسن التعايش، ولكنهم

ص: 79


1- سورة النساء، الآية: 157.

غدروا بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين واتفقوا مع المشركين ودخلوا في حروب ضد المسلمين... .

وقد سجل التاريخ غدر بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، والمحاولات التي حاولوا فيها اغتيال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كاليهودية التي قدمت للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه شاة مسمومة... وغيرها من القضايا التاريخية. ومع كل ذلك عفى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنهم، ثم فتح اللّه على يد الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) أقوى حصون اليهود وهي خيبر... فلم تبق لهم قوة وشوكة بعد ذلك اليوم.

تعامل المسلمين مع اليهود

تلقى اليهود على رغم نواياهم السيئة وفسادهم وإفسادهم، معاملة حسنة في البلاد الإسلامية بما ليس له مثيل في العالم، وذلك من عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا. فكان المسلمون يتعاملون معهم كبشر له حقه في الحياة، كما كتب أمير المؤمنين(عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر لما ولاه مصر: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولاتكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق...»(1).

أما سائر الملل والأديان والحكّام، فتعاملوا مع اليهود تعاملاً سيئاً ربما كان ذلك نتيجة غدر اليهود وخيانتهم.

ففي عام (1298م) أمر الملك إدوارد الأول بطرد جميع اليهود من البلاد البريطانية وبكل قسوة.

وقد اضطهدهم الملك لويس التاسع في فرنسا، ثم نكل بهم الفرنسيون في عهد الملك فيليب سنة (1206م و1321م) وطردوهم من أراضيهم.

ص: 80


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53، ومن كتابه(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه مصر.

وفي إيطاليا هاجمهم باباوات الكنيسة الكاثولوكية وأثاروا الشعب عليهم حتى طردوهم سنة (1540م).

وفي ألمانيا لاقوا ما لاقوه من النازيين.

وفي روسيا قتلوا منهم الآلاف في ظل الحكم القيصري عام (1881م) وبعدها.

اغتصاب فلسطين

اجتمع اليهود عدة مرات لتأسيس دولة لهم فلم يتمكنوا، ولكنهم جهدوا واجتهدوا وعملوا ليل نهار حتى تمكنوا من ذلك وأسسوا دولة إسرائيل الغاصبة بالمكر والخديعة وإراقة الدماء وغصب الأراضي والظلم والجور.

ففي عام (1897م) حضر في سويسرا زعماء اليهود في أول مؤتمر صهيوني وقرروا فيه إنشاء (المنظمة الصهيونية العالمية) واتفقوا على تجمع اليهود في فلسطين ليكون وطناً لهم، ثم أخذوا يخططون بكل ما يمكن إلى أن حققوا هدفهم.

وكان من تخطيطهم تأسيس (الصندوق اليهودي الوطني) لشراء الأراضي في فلسطين، وعرض الرشاوى على الحكام، كما قام اليهود بشراء السلاح وتخزينه في مخازن خاصة بهم في أوروبا أيام الحرب العالمية الأولى، وعند ما احتاجت بريطانيا للسلاح وصارت مهددة بخسارة الحرب، فاوض اليهود حكومة بريطانيا بتقديم السلاح لهم مقابل توطينهم في فلسطين لتكون دولة لهم.

وقد تمكن اليهود بعد جهد طويل من (وعد بلفور) عام (1917م) حيث أصدر وزير خارجة بريطانيا (بلفور) وعده بإقامة دولة يهودية في أرض فلسطين، كان هذا نصه:

وزارة الخارجية في الثاني من نوفمبر تشرين الثاني سنة (1917م)

ص: 81

... إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية... آرثر بلفور.

وفي عهد احتلال بريطانيا لفلسطين هاجر ما يقرب من مائة وعشرون ألف يهودي إلى فلسطين وكانت تحميهم عصابات مسلحة إرهابية فقاموا باغتصاب أرض فلسطين من المسلمين.

وقد شجعت بريطانيا خلال استعمارها لفلسطين من عام (1918- 1948م) على الهجرة اليهودية، ودعمت تملك الأراضي لليهود، فتمكن اليهود إلى سنة (1948م) من بناء ثلاثمائة مستوطنة على الأراضي الفلسطينية، كما شكل اليهود ميليشيات إرهابية يزيد مقاتليها على سبعين ألفاً، فقاموا بمجازر بشعة في حق الفلسطينيين وقتل الملاّك العزّل وبل قتلوا النساء والأطفال وأبادوا المسلمين في مناطقهم.

واستمر هذا الأمر حتى سيطر اليهود على معظم الأراضي وأعلنوا عن دولة إسرائيل في (14 أيار عام 1948م) وقد هزمت قواتهم الجيوش العربية واستولت على ما يقارب من (80 بالمائة) من أرض فلسطين، كما شردوا ما يقارب من مليون فلسطيني.

وبقيت تلك الأراضي المقدسة بأيديهم إلى يومنا هذا، وذلك بسبب اتحادهم وتكاتفهم على الباطل، وتفرقنا في حقنا، مضافاً إلى أخذهم بمقومات الحياة وأسس التقدم، وتركنا لها.

اليهود وإمكان هدايتهم إلى الإسلام

اشارة

ومع ذلك كله، مِن مكر اليهود وظلمهم وعنادهم للحق، نرى الكثير والكثير من اليهود في طول التاريخ منذ بدأ الرسالة المحمدية أسلموا وحسن إسلامهم،

ص: 82

فمن هنا نقول: يمكن هداية كثير من يهود اليوم أيضاً إلى الإسلام، إذا تعرفوا على محاسن الإسلام وحسن تعاليمه.

ونحن كنا في العراق نستقبل بعض غير المسلمين لغرض هدايتهم إلى الإسلام ونطرح عليهم المسائل العقائدية، وقد تشرف العديد منهم إلى الإسلام والتشيع، وذكرنا جملة منها في كتاب (كيف ولماذا أسلموا)؟ وبعض الكتب الأخرى(1)،

وكان اليهود في العراق كغيرهم من الأقليات الدينية والمذهبية الأخرى، لكن لم يتفق لي يوماً أن يأتي يهودي ويتكلم معنا أو يباحثنا في دينه ودين الإسلام، مع العلم أن اليهود كانوا موجودين في عدد من مدن العراق، فكانوا في بغداد، وفي الشمال، بل وفي الجنوب أيضاً، حتى في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وكان في كربلاء حمام يسمى بالحمام اليهودي، كما كان في كربلاء سوق لليهود ومحلة(2) لهم. وكان يمر من زقاقنا في كربلاء يهودي يشتري بعض الأشياء المستعملة التي استغنى أهلها عنها، وما أشبه.

نعم ربما يكون من الصعب هدايتهم لكنه أمر ممكن بل واقع، والدليل عليه كما ذكر: كثرة اليهود الذين أسلموا منذ بعثة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا.

ولنا قصتان مسموعتان حول إسلام بعض اليهود المعاصرين، نذكرهما:

1- إسلام يهودي في النجف الأشرف

القصة الأولى نقلها الحاج عبد الأمير النجفي قبل أكثر من خمسين سنة، وكان وكيلاً للتاجر محسن شلاش في النجف الأشرف، قال: كان لشلاش دكاكين قد أجّرها لبعض الكسبة، وذات يوم أراد تعمير تلك الدكاكين وترميمها فأمر

ص: 83


1- مثل كتاب (مباحثات مع الشيوعيين) و(القوميات في خمسين سنة).
2- المحلة: المنطقة التي يسكنها جمع من الناس شبه الحي.

بإخلائها، فقمت بإنذار المستأجرين لأخذ أمتعتهم والخروج منها، فقبل كلهم باستثناء يهودي واحد كان مصراً على البقاء في الدكان... .

ولم يكن في ذلك اليوم قانون يحمي بقاء المستأجر وإن كان مخالفاً لعقد الإيجار، فإن هذا القانون حدث بعد الحرب العالمية الثانية وهو يخالف الشرع المبين. لذلك كان من السهل إخراجه.

قال: وأخيراً حذرت ذلك المستأجر بأنه إذا لم يخرج غداً من الدكان جئت بعمال البلدية لإفراغ الدكان قسراً، وهكذا كان يعمل آنذاك المالكون إذا عصى المستأجرون.

قال الحاج عبد الأمير: ولكني في نفس الليلة رأيت أمير المؤمنين(عليه السلام) في المنام فقال(عليه السلام) لي: دع هذا الرجل ولا تمسه بسوء، فإنه قد أسلم منذ فترة وهو ضيفنا ونحن نحترم الضيف. فقلت للإمام(عليه السلام) في المنام: سمعاً وطاعةً.

وغداً ذهبت إلى الرجل اليهودي وقلت له: لا حاجة لإفراغ الدكان، فإني رأيت الإمام(عليه السلام) في المنام وأمرني بأن أدعك ولا أجبرك على ترك الدكان، فإنه(عليه السلام) أخبرني بأنك قد أسلمت منذ فترة ولا يعلم بذلك أحد، وأنت ضيف الإمام(عليه السلام) في النجف.

فبكى الرجل بكاءً كثيراً وقال: هذا دليل آخر على أحقية الإسلام، فإني كنت يهودياً ولما رأيت حسن تعامل المسلمين انجذبت إلى الإسلام فأسلمت ولم يعلم بإسلامي أحد، حتى عائلتي لا تعلم بذلك، فمن أين علم الإمام(عليه السلام) بإسلامي؟

إنه دليل على صحة الإسلام وصدق الإمام(عليه السلام).

أقول: وهكذا كان المسلمون في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة قبل

ص: 84

خمسين سنة يتعاملون بقوانين الإسلام ويتحلون بالأخلاق الإسلامية في معاملاتهم وعباداتهم وسائر سلوكهم مع مختلف الناس من مسلمين وغيرهم.

ثم قال الرجل: إن عائلتي لا تعلم بإسلامي، فإذا جاء أجلي ومتّ فخذ جنازتي منهم وغسّلها وكفّنها وحنّطها وصلّ عليها حسب التعاليم الإسلامية وادفنها في وادي السلام في النجف الأشرف، ولا تترك جنازتي بيد أهلي، فإن يهود العراق كان إذا مات منهم أحد في النجف أو كربلاء أو ما أشبه من البلدان ذهبوا بجنازته إلى (ذي الكفل) المعروف، لأنه كان محلاً لتجمع اليهود، ولهم هناك مقبرة.

قال الحاج عبد الأمير: وبعد سنوات لما توفي الرجل أخبرت أهله بأن الرجل كان قد أسلم وأثبتّ لهم ذلك بالأدلة والقرائن، فأخذته منهم وغسّلته وكفّنته وحنّطته وصليت عليه ودفنته في وادي السلام.

وهذه القصة تدل على أن إسلام بعض اليهود المعاصرين ممن كانوا في البلاد الإسلامية مستمر إلى يومنا هذا.

2- إسلام يهودي في بغداد

وهناك قصة ثانية من هذا القبيل تدل على إسلام يهودي في زماننا، نقلها أحد تجار بغداد، قال:

تعلق في ذمتي ألف دينار من الحقوق الشرعية، وكان مبلغاً كبيراً آنذاك، فجئت إلى السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) في النجف الأشرف ودفعت له مائتي دينار، وقلت: سيدنا بقي في ذمتي ثمانمائة، وإنني أطلب يهودياً في بغداد لكنه قد تدهورت أوضاعه الاقتصادية، فاستمهلني فأمهلته، فعندما يأتيني بالثمانمائة أدفعها إليكم.

ص: 85

يقول: عند ذلك خاطبني السيد أبو الحسن(رحمه اللّه) وقال: أنت تقلّد من في مسائلك الشرعية؟

قلت: أقلّد جنابكم الكريم.

قال: فهل كلامي مقبول عندك؟

قلت: نعم.

قال: وهل تأخذ برأيي؟

قلت: نعم.

وأخذ السيد يؤكد ذلك لعدة مرات، فلما أجبته بأن كلامه مسموع مقبول قال: خذ هذه المائتين واذهب بها إلى بغداد إلى ذلك الرجل اليهودي وأبلغه سلامي ثم أعطه المائتين وقل له: إن هذه هدية من السيد الأصفهاني وقد وهبك ما في ذمتك من الثمانمائة! وعندئذ تبرأ ذمتك من الحقوق الشرعية ولا شيء عليك.

فتعجبت كثيراً وقلت: سيدنا، إن هذا المبلغ الكبير هو حق الإمام(عليه السلام) وحق السادة الكرام، فكيف تهبه ليهودي فاسق كافر لا يؤمن بالنبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا بأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)؟

فقال السيد: ألم تتعهد بقبول كلامي؟

قلت: نعم، واعتذرت من السيد، ولكنني كنت متعجباً من قرار السيد، فرجعت إلى بغداد وذهبت إلى بيت اليهودي وطرقت الباب عليه، فجاءت ابنته وراء الباب وقالت: إن أباها مريض لا يمكنه أن يستقبل أحد.

فقلت: إنني لا أريد منه المال، وإنما عندي أمانة له.

فذهبت ورجعت وقالت: تفضل.

ص: 86

فدخلت الدار وصعدت الدرج إلى غرفته وكان مريضاً نائماً على السرير، فقدمت له المبلغ وقلت له: هذه هدية من السيد أبي الحسن(رحمه اللّه) وقد وهبك ما في ذمتك من الدين المتبقي، أي الثمانمائة دينار!

قال: فتعجب الرجل اليهودي وأخذ يبكي بكاءً كثيراً، وقال: نعم تبين لي أن هذا السيد من ورثة نبينا موسى(عليه السلام) وأوصيائه.

فقلت: كلا، إنه من ورثة النبي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصيائه(عليهم السلام)، وأخذت أبين له شيئاً عن نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعن الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) ودور العلماء.

فقال: علّمني كيف الدخول في الإسلام فإنني أريد أن اُسلم الآن؟

فقلت له: قل: «أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وأن علياً ولي اللّه».

فتشهد الرجل وأسلم ثم قال: لقد كنت أفكر يوم أمس بأن النبي موسى(عليه السلام) أو وصيه لو كان حياً لما تركني في هذه الشدة. وبالفعل يبدو أن خط الأنبياء مستمر بدين الإسلام.

وبعد أن أسلم اليهودي نادى عائلته وأولاده ومن كان في البيت فجمعهم وبين لهم أنه أسلم، وطلب منهم أن يسلموا، فأسلم كلهم بطوع ورغبة.

ففرحت أنا كثيراً بإسلامهم، وهناك علمت بسر ما قام به السيد أبو الحسن(رحمه اللّه).

نعم إن لين القائد وحكمته يسبب لين الناس وهدايتهم إلى الحق.

وهكذا كان يسلم اليهود فرداً فرداً، أو جماعةً جماعة في مختلف البلاد الإسلامية وبمناسبات مختلفة طول التاريخ، بل هناك جماعة من الإسرائيليين في زماننا هذا قد أسلموا، كما أن كثيراً من المشركين والكفار لا زالوا يسلمون، وكل ذلك ببركة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، وتعاليمهم الحقة، فالاهتداء إلى

ص: 87

الإسلام مستمر في جميع الشعوب وحتى في اليهود، منذ ظهور الإسلام إلى يومنا هذا، وفي التواريخ قصص كثيرة في هذه الأبواب(1).

زواج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) باليهودية

تزوج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بامرأة من اليهود وهي صفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، فوقعت أسيرة فأعتقها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتزوجها، فصارت زوجة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، كما تزوج مارية القبطية المسيحية بعد ما أسلمت، وكان قد أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية، في قصص مشهورة.

وقد أراد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك الاقتراب من اليهود والنصارى بالمصاهرة، حتى يلين قلوبهم ويؤمنوا برسالته، حيث كانت المصاهرة خصوصاً في الزمان القديم من أسباب الاقتراب واللين.

نعم إن بعض اليهود كانوا شديدي التعصب، ولم يؤمنوا عناداً، على رغم أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحسن تعامله معهم، فقد نقل عن صفية: أن أباها وعمها خرجا ذات يوم صباحاً يريدان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لينظرا في كلامه وأنه حق أم لا؟ فخرجا أول الصبح إلى المدينة المنورة ولم يرجعا إلّا في الليل.

تقول صفية: فسمعتهما وكان يقول أحدهما للآخر: هل هو نبي حقاً؟

فقال صاحبه: أي واللّه إنه نبي وهو الذي بشّر به موسى(عليه السلام). فقال الأول: وهل تؤمن به؟

قال صاحبه: لا واللّه، وإنما بيني وبينه السيف حتى أموت!،

وهكذا صار، فقد خالفا الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أن ماتا(2).

ص: 88


1- انظر: كتاب (قصص من اليهود) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
2- انظر: إعلام الورى: 69.
السعي لهداية اليهود

من اللازم السعي لهداية يهود اليوم إلى الإسلام، كما أسلم كثير من يهود الأمس.

وقد ذكرت في كتاب (هؤلاء اليهود) حيث كتبته قبل أربعين سنة، وفي غيره(1):

بأنه من الممكن هداية اليهود في فلسطين وفي غيرها إلى الإسلام، فهم بشر كسائر الناس، لهم قابلية الهداية. وإنما هناك عوامل حرّفتهم وجعلت كثيراً منهم يعاند الحق ولا يقبل به، منها:

ضغوط فرعون القاسية التي ضغطت عليهم كثيراً حتى جعلتهم يعاندون حتى مع نبيهم موسى(عليه السلام)...

قال تعالى: {وَجَٰوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٖ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٖ لَّهُمْ قَالُواْ يَٰمُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}(2).

إلى غير ذلك من القصص الكثيرة المذكورة في القرآن الحكيم وغيره من تعمدهم وعنادهم وعدم استقامتهم على الطريقة الصحيحة ومخالفتهم لما أمره النبي موسى(عليه السلام)، وذلك لخلفياتهم في أيام فرعون الطويلة الشديدة.

هذا بالإضافة إلى أنهم تبعوا علماءهم المنحرفين الذين كتبوا لهم التلمود فصارت عقيدة عندهم، واستمروا عليها إلى هذا اليوم، فإن العقيدة تؤثر في الإنسان أثراً كبيراً.

ومع ذلك فإني أرى أن اليهود في يومنا هذا قابلون للهداية وقبول الإسلام إذاعرض عليهم بلين ولطف وحكمة وبالتي هي أحسن كما قاله القرآن الكريم(3).

ص: 89


1- انظر: (الأقصى المبارك)، و(من قصص اليهود)، للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
2- سورة الأعراف، الآية: 138.
3- قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} سورة فصلت، الآية: 34.

وقد أسلم أحد كبار علماء اليهود قبل أكثر من مائة سنة وكان من أهل يزد، وكتب كتاباً طبع في أصفهان.

مشكلة اليهود في أنفسهم

ثم إن هناك مشكلة في اليهود تسبب عدم محبوبيتهم بين الشعوب وفي مختلف الدول التي يعيشون فيها، من هنا نرى أنهم لا يتمكنون عادةً من البقاء في دولة، والمشكلة في أمرين:

1- التخطيط للسيطرة على اقتصاد البلد.

2- ونشر الفساد في المجتمع.

فهم يعملون بكل خبث للسيطرة على اقتصاد الدولة ونهب أموال الشعب واحتكار الثروات لأنفسهم، ومن الواضح أن الدول والشعوب لا تتحمل ذلك، فاليهود يسعون لجمع أموال الناس عبر مختلف الطرق، الشرعية وغير الشرعية، بالحق أو الباطل، بالربا وغيره، وجعلها تحت نفوذهم. ومن هنا نرى أنهم كانوا منبوذين في مختلف الأمم، وربما أخرجوا من البلاد، ورأينا قبل خمسين سنة أن هتلر كيف فعل بهم، وإن كان اليهود قد أضافوا على ذلك كثيراً ليستفيدوا ظلامة لأنفسهم.

وقبل عشرات السنين أعطاهم البريطانيون أرض فلسطين في قصة مشهورة يوم كانوا محتاجين إليهم في الاستعمار، فلما تقلص استعمارهم أخذوا في الابتعادعنهم، وجملة من الحركات المعارضة لإسرائيل اليوم هي من اعمال البريطانيين.

نعم أمريكا تحتضنهم اليوم، لاحتياجها إليهم احتياجاً واقعياً واحتياجاً تصورياً، وبعد أيام سيخرجونهم من البلاد بعد أن يحددوا من نشاطهم.

وكثير من الذين أتوا من أمريكا وكندا قالوا: إن الشعب الأمريكي منزعج من

ص: 90

اليهود أيما انزعاج.

وفي بعض الإحصاءات: إن اليهود يسيطرون على نحو 14% من الاقتصاد الأمريكي مع أن عددهم حوالي 2% من الشعب الأمريكي. وهكذا لهم سيطرة على الاقتصاد البريطاني وغيرها من الدول الأوروبية. مضافاً إلى أنهم كانوا يعاملون الناس بالربا وأخذ الفوائد الجشعة منهم.

هذا هو الأمر الأول.

والأمر الثاني: إن اليهود ينشرون الفساد الأخلاقي في المجتمع، ويبيحون الجنس والدعارة حتى مع زوجاتهم وبناتهم وأولادهم، وذلك لإفساد الناس وسحب أموالهم.

وهذا يوجب غضب الناس عليهم، فالنساء لا تحبهم، والرجال لا يحبونهم، لأن الشخص يرى ضياع ولده أو ابنته أو زوجته بمكرهم وتعلماً منهم أو مؤامرةً عليهم وبفعلهم.

فاليهود من وراء نشر الدعارة والخلاعة والتجارة بالجنس في العالم، حتى إنهم أخذوا ينشرون زنا المحارم في المجتمعات لإفسادها، وقد ابتكروا أساليب منوعة في ترويج العاهرات وإفساد الشباب والفتيات.

وهذان سببان ينتهيان إلى انزعاج الناس منهم والسعي لإخراجهم وطردهم من مختلف البلاد، حتى غير الإسلامية منها. وقد دعا الرئيس الأمريكي الأسبق(بنجابين فرنكلين) في سنة (1789م) إلى طرد اليهود من أمريكا، حيث وقف الرئيس أمام المجلس التأسيسي لوضع الدستور الأمريكي وقال:

أيها السادة، في كل أرض حل بها اليهود أطاحوا بالمستوى الخلقي وأفسدوا الذمة التجارية فيها، وما زالوا منعزلين لا يندمجون بغيرهم، وقد أدى بهم الاضطهاد إلى العمل على خنق الشعوب مالياً كما هي الحال في البرتغال

ص: 91

واسبانيا... إذا لم يبعد هؤلاء من الولايات المتحدة بنص دستورها فإن سيلهم سيتدفق إلى الولايات المتحدة في غضون مائة سنة إلى حد يقدرون معه على أن يحكموا شعبنا ويدمروه ويغيروا شكل الحكم الذي بذلنا في سبيله دماءنا، ولن تمضي مائتا سنة حتى يكون مصير أحفادنا أن يعملوا في الحقول لإطعام اليهود...، إنني أحذركم أيها السادة إنكم إذا لم تبعدوا اليهود نهائياً فسوف يلعنكم أبناؤكم وأحفادكم في قبوركم.

من أخطاء اليهود

اشارة

ثم إن من أكبر أخطاء اليهود أنهم بعد ما غصبوا فلسطين فعلوا كل جريمة ومنكر بحق الشعب الفلسطيني، حيث أبادوا المسلمين إبادة جماعية وقتلوا حتى النساء والأطفال، مما سبب انزعاج العرب وغير العرب منهم. ومن الواضح أن الظلم لا يدوم، وقد جاء في الأثر: الظالم قصير العمر.

اليهود وغصب فلسطين

اغتصب اليهود فلسطين، كما اغتصبها من قبلهم المسيحيون وبقوا(1) في فلسطين مائتي سنة، كما يذكره التاريخ، ولم يخرجهم من فلسطين إلّا توحيد الجهد من المسلمين لإخراجهم، فأخرجوا منها. وبقيت فلسطين بيد المسلمينألف سنة.

ولما قوي الاستعمار الغربي وضعف المسلمون في هذا القرن الأخير بشكل خاص، خططوا لإخراج المسلمين من فلسطين، وإسكان اليهود فيها، ولكن كان إسكانهم في فلسطين خطأً، سيكشف عنه التاريخ، وقد ظهرت بوادر الخطأ في هذا الإسكان، فبينما كان اليهود لهم جيش لا يقهر - كما يقولون - أصبحوا في

ص: 92


1- أي المسيحيون.

مشاكل لا تنتهي، وهم في حالة حرب مع المسلمين خمسين سنة، أليست هذه مشكلة لهم.

والسبب الرئيسي في بقاء فلسطين تحت سيطرة اليهود أن حكام المسلمين صاروا عملاء للغرب، ومن الواضح أن المسلمين الذين يريدون إنقاذ بلدهم من اليهود إذا كان يحكمهم العملاء لا يمكنهم أن يفعلوا شيئاً.

فإذا حكم بلاد الإسلام من لم يكن عميلاً - وهو أحد أسباب النجاح، واجتمعت سائر المقومات أيضاً - نجح المسلمون في إرجاع أراضيهم وإخراج اليهود من فلسطين.

مكانة بيت المقدس عند المسلمين

إن لبيت المقدس والمسجد الأقصى مكانة خاصة في دين المسلمين، ويقرؤونه في قرآنهم كل يوم، قال سبحانه: {سُبْحَٰنَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَٰرَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَٰتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(1) ومن المعلوم أن الشيء إذا كان جزءاً من الدين ومن عقيدة المسلمين فلا يمكن للسياسة أن تتدخل فيه حتى تفصله عن الأمة، فمهما حاول الغربيون أن ينسى المسلمون قضية فلسطين، أو إعراضهم عنها، أو إلغاء هذه الوضعية الجارية، لا يتمكنون.

القبلة الأولى

إن بيت المقدس هي القبلة الأولى للمسلمين، وقد صلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) وأصحابه نحو بيت المقدس في مكة ثلاث عشرة سنة، وكذلك بعد هجرته في المدينة عدة أشهر(2).

ص: 93


1- سورة الإسراء، الآية: 1.
2- قيل: إنها سبعة عشر شهراً. وقيل تسعة عشر، وقيل تسعة، وقيل عشرة، وقيل ثلاثة عشر، وقيل سبعة. انظر: مستدرك الوسائل 3: 171.

فإن المسلمين في مكة كانوا يتوجهون إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين الذين كانوا يتوجهون إلى الكعبة، فلما هاجر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة كان اليهود هناك يتوجهون إلى بيت المقدس، فأمر اللّه نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يتحول إلى الكعبة.

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجره إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، قال: ثم وجهه اللّه تعالى إلى الكعبة...»(1).

إذن بيت المقدس هي القبلة الأولى للمسلمين لمدة أربع عشرة سنة.

قصة الإسراء

وكان بيت المقدس محطة في إسراء نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حيث دخلها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصلى فيها، ومنها عرج إلى السماء. قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«صليت بأصحابي صلاة العتمة بمكة معتماً، فأتاني جبريل بدابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل، فاستصعب عليّ فأدارها بأذنها حتى حملني عليها، فانطلقت تهوي بنا، تضع حافرها حيث أدرك طرفها، حتى انتهينا إلى أرض ذات نخل، قال: انزل، فنزلت، ثم قال: صلّ، فصليت.

ثم ركبنا، قال لي تدري أين صليت؟ قلت: اللّه أعلم؟

قال: صليت بيثرب صليت بطيبة.

ثم انطلقت تهوي تضع حافرها حيث أدرك طرفها حتى بلغنا أرضاً بيضاء، قال لي: انزل، فنزلت، ثم قال لي: صل، فصليت، ثم ركبنا، قال: تدري أين صليت؟

قلت: اللّه أعلم ورسوله.

قال: صليت بمديَن، صليت عند شجرة موسى(عليه السلام).

ص: 94


1- بحار الأنوار 19: 196، ومستدرك الوسائل 3: 171-172.

ثم انطلقت تهوي بنا تضع حافرها حيث أدرك طرفها ثم ارتفعنا قال: انزل، فنزلت، فقال: صلّ فصليت ثم ركبنا فقال: تدري أين صليت؟ قلت: اللّه أعلم.

قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح بن مريم.

ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها الثامن فأتى قبلة المسجد فربط دابته ودخلنا المسجد من باب فيه مثل الشمس والقمر فصليت من المسجد حيث شاء اللّه، وأخذ مني العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر عسل، أرسل إلي بهما جميعاً، فعدلت بينهما ثم هداني اللّه فأخذت اللبن فشربت حتى فرغت به جبى وبين يدي شيخ متكئ فقال: أخذ صاحبك الفطرة أو قال بالفطرة. ثم انطلق بي حتى أتيت الوادي الذي بالمدينة فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابي.

قلت: يا رسول اللّه كيف؟ قال: مثل الحمة السخمة.

ثم مررنا بعير لقريش بمكان كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم فسلمت عليهم فقال بعضهم لبعض هذا صوت محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة، فأتاني أحدهم فقال: يا رسول اللّه أين كنت الليلة فقد التمسناك في مكانك فلم نجدك؟ قال: إني أتيت بيت المقدس الليلة.

فقال: يا رسول اللّه إنه مسيرة شهر صفه لي.

ففتح لي شراك كأني أنظر إليه، لا يسألوني عن شيء إلّا أنبأتهم عنه. فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبي كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة.

قال: نعم وقد مررت بعير لكم في مكان كذا قد أضلوا بعيراً لهم بمكان كذا وكذا وأنا مسيرهم لكم ينزلون بكذا ثم يأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل أدم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوتان، فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون

ص: 95

حتى كان قريباً من نصف النهار أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل كالذي وصف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1).

فتح القدس

وعلي أي حال فالقدس كانت تعني لجيوش المسلمين التي أرسلت لفتح الشام أكثر مما كانت تعنيه بلدان الشام الأخرى حتى قبل أن تفتح المدينة المقدسة، وقد ذكر الواقدي والذي توفى سنة (207ه ق) في حديثه عن القدس يقول:

ولقد بلغني أن المسلمين باتوا تلك الليلة - السابقة على الاشتباك مع جيش الروم الموجودين في القدس - كأنهم ينتظرون قادماً يقدم عليهم من شدة فرحهم بقتال أهل بيت المقدس، وكل أمير يريد أن يفتح على يديه فيتمتع بالصلاة فيه والنظر إلى آثار الأنبياء، قال: فلما أضاء الفجر أذن وصلّت الناس صلاة الفجر، فقرأ إمامهم هذه الآية بعد الحمد: {يَٰقَوْمِ ادْخُلُواْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ}(2).

وكذلك قرأ سائر أئمة الجماعة هذه الآية المباركة مع أصحابهم كأنهم كانواعلى ميعاد(3).

ثم نشبت الحرب بين المسلمين والروم إلى أن جاءهم أمير الروم وتحدث مع أمير المسلمين عن قداسة المدينة عند المسيحيين، فقال أمير المسلمين: نعم إنها شريفة ومنها أسري بنبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى السماء ودنا من ربه قاب قوسين أو أدنى، وإنها معدن الأنبياء(عليهم السلام) وقبورهم فيها، ونحن أحق منكم بها. وهذه القضية

ص: 96


1- انظر: مجمع الزوائد 1: 73، والخرائج والجرائح 1: 24، والتبيان في تفسير القرآن 6: 446.
2- سورة المائدة، الآية: 21.
3- انظر: فتوح الشام 1: 231.

حدثت في السنة الخامسة عشر من الهجرة.

بيت المقدس مسكن الأنبياء(عليهم السلام)

وكان عدد من الأنبياء(عليهم السلام) من بعد النبي موسى(عليه السلام) يسكنون بيت المقدس وما حوله، فبارك اللّه في تلك المواطن بأن باعد الشرك عنها، ولهذا سميت بيت المقدس لأنها قُدّست أي طهّرت عن الشرك(1).

المسجد الأقصى

وسمي الأقصى، لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، لأن الذين نزل فيهم القرآن كانوا من أهل مكة(2)، قال تعالى: {سُبْحَٰنَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا}(3).

والمسجد الأقصى هو مسجد سليمان بن داوود، وكان (المسجد) يسمى مسجداً وبهذا اللفظ حتى قبل الإسلام، كما ورد في قصة أصحاب الكهف: {قَالَالَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}(4)، وقد سمى سليمان بن داود(عليه السلام) هذا المسجد مسجداً(5).

فصل: روايات في القدس الشريف

اشارة

تكرر في الروايات ذكر بيت المقدس والمسجد الأقصى، وقد جمعنا بعضها في كتاب (الأقصى المبارك).

ص: 97


1- انظر: تفسير مجمع البيان 6: 218.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 6: 218.
3- سورة الإسراء، الآية: 1.
4- سورة الكهف، الآية: 21.
5- انظر: التبيان في تفسير القرآن 6: 446.
دعاء سليمان(عليه السلام) لمن يزور بيت المقدس

وفي نقل لم أره مروياً عن المعصوم(عليه السلام) أنه لما فرغ نبي اللّه سليمان(عليه السلام) من بناء بيت المقدس، ذبح ثلاثة آلاف بقرة وسبعة آلاف شاة، ثم قال: «اللّهم من أتاه من ذي ذنب فاغفر له ذنبه، أو ذي ضر فاكشف ضره» قال: فلا يأتي أحد بيت المقدس إلّا أتاه من دعوة سليمان خيراً كثيراً(1).

نور إلى بيت المقدس

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «ما من عبد يقرأ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}(2) إلى آخر السورة، إلّا كان له نور من مضجعه إلى بيت اللّه الحرام. فإن كان من أهل بيت اللّه الحرام كان له نور إلى بيت المقدس»(3).

قصور الجنة

وعن الإمام الرضا عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «أربعة من قصور الجنة في الدنيا: المسجد الحرام ومسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومسجد بيتالمقدس ومسجد الكوفة»(4).

الصلاة نحو بيت المقدس

وعن الحلبي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سألته هل كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصلي إلى بيت المقدس؟ قال:نعم، وقلت: أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال: أما إذا كان بمكة فلا، وأما إذا هاجر إلى المدينة فنعم، حتى حُوّل إلى الكعبة»(5).

ص: 98


1- الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل 1: 242.
2- سورة الكهف، الآية: 110.
3- ثواب الأعمال: 107.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 369.
5- الكافي 3: 286.

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما بُعث كانت الصلاة إلى بيت المقدس فكان في أول مبعثه يصلى إلى بيت المقدس جميع أيام مقامه بمكة، وبعد هجرته إلى المدينة بأشهر، فعيّرته اليهود وقالوا: إنك تابع لقبلتنا، فأنف رسول اللّه ذلك منهم، فأنزل اللّه تعالى عليه وهو يقلب وجهه في السماء وهو ينتظر الأمر: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَىٰهَا...}(1)(2).

الصلاة تعدل حجة أو عمرة

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال لأبي حمزة الثمالي: «المساجد الأربعة المسجد الحرام ومسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومسجد بيت المقدس ومسجد الكوفة، يا أبا حمزة الفريضة فيها تعدل حجة، والنافلة تعدل عمرة»(3).

ألف صلاة

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «صلاة في بيت المقدس ألف صلاة، وصلاة فيالمسجد الأعظم مائة صلاة، وصلاة في مسجد القبيلة خمس وعشرون صلاة، وصلاة في مسجد السوق اثنتا عشرة صلاة، وصلاة الرجل في بيته وحده صلاة واحدة»(4).

سبعة عشر شهراً

وعن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): متى صُرف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الكعبة؟ قال: «بعد رجوعه من بدر وكان يصلي في المدينة إلى

ص: 99


1- سورة البقرة، الآية: 144.
2- مستدرك الوسائل 3: 173.
3- من لا يحضره الفقيه 1: 229.
4- تهذيب الأحكام 3: 253.

بيت المقدس سبعة عشر شهراً ثم أعيد إلى الكعبة»(1).

الزيتون

وعن موسى بن جعفر عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«إن اللّه تبارك وتعالى اختار من البلدان أربعة: فقال عزّ وجلّ:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}(2): التين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سنين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكة»(3).

شيعة فلسطين

وفي الرواية: سمعت الصادق(عليه السلام) يقول: «قدم وفد من فلسطين على الباقر(عليه السلام)، فسألوه عن مسائل فأجابهم، ثم سألوه عن الصمد، فقال: تفسيره فيه، الصمد خمسة أحرف...» الحديث(4).

إلى غيرها من الروايات الشريفة.وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الكتاب واللّه الموفق للصواب.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 100


1- وسائل الشيعة 4: 298.
2- سورة التين، الآية: 1-3.
3- معاني الأخبار: 365.
4- معاني الأخبار: 7.

إنقاذ العتبات المقدسة

مستقبل العراق والعتبات المقدسة

قال اللّه تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(1).

الكلام عن وضع العتبات المقدسة والمشاهد المشرفة في العراق لاينفصل عن وضع العراق ككل، وما يحيط بذلك من الملابسات.

وبشكل عام فالذي نطمح إليه في ما يخصّ وضع العتبات المقدسة هو: أن تتمتع باستقلالية تامة، لا تخضع فيها لأيّة حكومة ظالمة، وذلك بأن تكون تحت إدارة حرة ومستقلة ضمن بلد حر لايحكمه أي قانون مستبد، بل يستمد دستوره من مبادئ الإسلام الحنيف من القرآن الحكيم والسنة المطهرة المروية عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) حتى يتسنى لجميع المسلمين السفر إليها وزيارتها دون قيد أو شرط.

وكذا الكلام بالنسبة للحوزة العلمية حيث اللازم استقلاليتها إذ إن حرية الدين والمعتقد ليست حِكراً على أحد، بل هي ملك عام لجميع الناس وخاصة المعتقدين بها. ومن هنا يجب أن تكون أبوابها مفتوحة للجميع دون موانع أو قيود وأن تكون محل احترام الجميع.

والسؤال هو: هل بإمكاننا تحرير العراق والعتبات المقدسة فيه من القبضة

ص: 101


1- سورة الحج، الآية: 32.

البعثية المستبدة، ونجعلها مفتوحة أمام المسلمين؟

والجواب: إنه ممكن وغير بعيد ولكن بشرط أن نقوم بتقديم ما يوازي هذا الطموح، وأن نعمق هذا المفهوم في أذهان الناس ليشعروا بأهميته، ويصبح من شغلهم الشاغل وذلك بعد أن نرفع مستوى تفكيرهم ونجعلهم يستشعرون حقيقة الواقع المأساوي الذي يعيشونه ونقنعهم بضرورة مواصلة العمل وتجاوز الصعوبات لتحقيق أهدافهم الدينية المقدسة.

البيان والقلم

اشارة

من أهم الوسائل التي يجب اتباعها لتعميق الوعي وتحديد الأهداف هي اتباع طريقي البيان والقلم، واستخدامهما بما يخدم قضايانا الإسلامية ويعمق الوعي وينشر الثقافة الدينية لدى شعوبنا الإسلامية. فيقوم الخطباء الكرام وطلبة العلوم الدينية بالتبليغ ونشر المبادئ والتعبئة لذلك من خلال منابرهم وخطاباتهم ومحاوراتهم مع مختلف الناس، وأن يجعلوا هذا الأمر - إنقاذ العتبات المقدسة من قبضة الأنظمة الظالمة - المحور الأساسي لخطاباتهم وتحركاتهم في الداخل والخارج، كما أن مهمة الكتّاب والمفكرين نشر ذلك بواسطة أقلامهم وإمكاناتهم، وأن يكثفوا الحديث حول المطلب الذي يخص الوضع في العراق والسياسة اللاإنسانية للبعثيين مع الشعب العراقي ووضع العتبات المقدسة والحوزات العلمية هناك، فيذكروها في كتبهم وتأليفاتهم ومقالاتهم التي تنشر في الصحف والمجلات.

فعلى هاتين الطائفتين (المبلغين والكتّاب) الاهتمام بهذا الأمر اهتماماً مركزاً بدون فتور أو كسل أو يأس، بل بعزم وتصميم راسخين، والاعتقاد به وبتحقيقه اعتقاداً جازماً وكأنه واقع قريب. وهذان الأمران وهما التصميم والاعتقاد لهما تأثير إيجابي كبير على مجمل واقع الحركة ومدى تحقيقها لأهدافها المنشودة،

ص: 102

والملاحظ هو أن جميع المعتقدات الصحيحة أو الباطلة تعتمد في ظهورها على هذين العاملين (اللسان والقلم) ولكن للأسف الشديد فإن الكثير من المسلمين بصورة عامة وبعض الشيعة بصورة خاصة غافلون عن تأثيرهما في المجتمع بكل جوانبه واتجاهاته وبلورة الرأي العام وتوجيهه الوجهة الصحيحة.

تعميق الوعي وتعبئة الرأي العام

بعد انتصار ثورة العشرين التي هزّت عرش الإنجليز في العراق ووفاة قائد الثورة المرجع الديني الأعلى الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) استطاع الإنجليز أن يلتفوا على العراق مرة أخرى وبصيغة جديدة إذ نصبوا (فيصل)(1) ملكاً على العراق وقد انطلت المؤامرة على بعض الثائرين نتيجة قلة الوعي، ووقف البعض الآخر ضد المؤامرة من أمثال السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) والشيخ محمد حسين النائيني(رحمه اللّه) حيث عارضا ترشيح (فيصل) وأي مرشح آخر في ظل الانتداب، وشددوا على تشكيل الحكومة الإسلامية المستقلة عن الأجنبي استقلالا تاماً، وظهر واضحاً هذا المواقف عندما كان فيصل يزور المناطق الشيعية فلم يكن علماء الدين في استقباله، وكان الاستقبال الشعبي ضعيف جداً خصوصاً في كربلاء والنجف، وبعد فترة أمر فيصل (صالح حمام)(2) بنفي مراجع التقليد ورجال الدين من النجف الأشرف وكربلاء المقدسة إلى إيران، وفي اليوم المحدد لرحيلهم ذهب الناس لوداعهم في منطقة المخيم في كربلاء المقدسة إلى باب بغداد (وهي المنطقة التي تؤدي إلى بغداد) وكانت حالة الحزن والبكاء والتضرع بادية عليهم وهم يودعون العلماء، ويقولون

ص: 103


1- فيصل الأول (1883-1933م).
2- كان مدير شرطة كربلاء المقدسة.

لهم لا تنسونا بالدعاء عند مرقد الإمام الرضا(عليه السلام)!!

هكذا كانت ردة فعل الناس تجاه هذا الحدث المؤلم، فالناس أخذوا ينصرون العلماء بالدموع والحزن فقط من دون أن يتخذوا موقفاً عملياً في هذا السبيل، وكان بامكانهم تغيير مسار الحدث في حينه لو أنهم تصرفوا بوعي وأدركوا خطورة تصرف الحكومة تجاه مراجعهم وعلمائهم وما لذلك من أثر في المستقبل وكونه خطوة أولى ستتبعها خطوات أخر أشد خطورة وأكثر تأثيراً، وللأسف الشديد لم يبد أحد من الناس إعتراضه المؤثر واستنكاره الشديد على الحكومة لاتخاذها هذا الإجراء الظالم ضد العلماء والمراجع؛ لذا فإن الحكومة أوصلت القرار وأبعدتهم إلى إيران.

بعد مدة قال (صالح حمام) - وهو المسؤول عن عملية إبعاد العلماء إلى إيران - : كان لدينا أمر من الجهات العليا في الدولة بأنه إذا اعترض الناس ولو جزئياً وصدرت ردود فعل منهم بهذا الاتجاه احتجاجاً على تسفير هؤلاء العلماء، أو تكلموا ضد قرار الدولة وطالبوا برفع هذا الحكم عنهم فإنه سيتعين علينا الغاء القرار وترك العلماء يعودون إلى ما كانوا عليه، ولكن الناس لم يبدوا أي اعتراض على ذلك لذا طبقنا ما أمرنا به.

نعم، هكذا تتبين خطورة الدور المهم للسان والقلم في تعميق الوعي وتعبئة الرأي العام لتحقيق الأهداف اللازمة. فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ليس وراء ذلك شيء من الإيمان»(1).

وقد اهتم الإسلام كثيراً بالرأي العام لما له من أثر في استقرار وضع المجتمع ومتطلباته واستعداداته في مختلف الجوانب، فقد كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 104


1- عوالي اللئالي 1: 431.

يستشير أصحابه حول الحرب وغيرها من الأمور المهمة الأخرى.

وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول للأمة: «فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل»(1).

فنظرة الإسلام للرأي العام تتوازى مع ما له من أثر في صنع القرارات والتوجيهات وما يمثله من مقياس لمدى تأييد أو رفض الشعب لسياسة الدولة في الإطار الشرعي.

العقل المدبر

إذن فالمرحلة الأولى لإنقاذ العراق والعتبات المقدسة هي تعبئة الرأي العام وتجنيد القلم واللسان لهذه المهمة.

أما المرحلة الثانية فهي الالتفاف حول العقل المدبر ونقصد به الشخصية الإسلامية بل شورى الشخصيات الإسلامية التي تتمكن من قيادة الأمة وتشخص أهدافها بدقة ووعي للمسؤولية الملقاة على عاتقها، ومتى ما توحّد الشعب العراقي والتفّت الجماهير المسلمة حول قيادة شورى الفقهاء المراجع فعندها يكون من الممكن بل والمؤكد أن يسقط حزب البعث العراقي - صنيعة الاستعمار وأعوانه - وما جند له من المرتزقة وهو يجر أذيال الخيبة والهزيمة.

وهذا الأمر ليس أمراً بعيداً أو مجرد أمنية، وإنما مسيرة الأحداث عند الكثير من شعوب العالم تثبت ذلك في الماضي والحاضر، ومستقبل العالم يقاس دائماً على الماضي، وإلى ذلك يشير الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «صدق بما سلف من الحق واعتبر بما مضى من الدنيا فان بعضها يشبه بعضاً وآخرها لاحقبأولها»(2).

ص: 105


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 216، من خطبة له(عليه السلام) خطبها بصفين.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 420.

المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) الذي كان يعتبر العقل المدبر في ثورة العشرين في العراق وأدار الشعب بحكمة فائقة وبالخصوص الشيعة منهم، واستطاع أن يسقط هيبة الاستعمار البريطاني بمعاونة العشائر والأحزاب والشعب بما فيهم بعض أبناء السنة الذي التفّوا حوله، هذا الاستعمار الذي كان مسيطراً على الهند لمدة (300) عام، لم يتمكن من البقاء في العراق وقد خسر الاستعمار في تلك الظروف في العراق خسائر كثيرة في الأرواح والأموال، وقد ذكرت بعض الإحصاءات أن عدد القتلى من الإنكليز بلغ عشرات الآلاف.

هكذا تكون القيادة الإسلامية

ثم إن القيادة الإسلامية تهتم بجميع جوانب الحياة ما يرتبط بسعادة الشعب، فهي توفر لهم التوعية والثقافة، كما تهتم باقتصادهم وعمرانهم وما أشبه.

ومن هنا يلزم ضمان حرية العتبات المقدسة لكي يزورها جميع الناس ويتعرفوا على منهج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام).

نعم هكذا نرى إن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يهتم بكل شؤون الناس ويداريهم ويعلمهم جوانب الحياة ويرسم لهم منهاج الحياة، ولذلك التفوا حوله واعتنقوا الإسلام ديناً ومنهاجاً لحياتهم.

فيقول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض»(1).

ويقول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش»(2).

ويقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «عنوان العقل مداراة الناس»(3).

إن الناس يشخصون الحق والباطل والصدق والكذب بسهولة ويسر،

ص: 106


1- الكافي 2: 117.
2- الكافي 2: 117.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 465.

ويشخصون من يمثلهم بكل صدق ومن يحقق أمانيهم وطموحاتهم ويسلك بهم السبيل الأمثل، لذا فإنهم التفوا حول الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنه يقودهم إلى النجاح الذي يكمن فيه سر قوتهم وتقدمهم، وليس هناك طريق واضحة معالمه غير الإسلام الصحيح الذي مثله أهل البيت(عليهم السلام) خير تمثيل، أما إسلام حكام الجور الذي جعلوا الناس ينفضّون عن الإسلام بسبب أفعالهم وظلمهم وجرائمهم التي كانت تزداد يوماً بعد آخر فإنه شيء لايدوم.

جواب عن إشكال

من الممكن أن يخطر في أذهان البعض هذا الإشكال وهو: كيف حقق الغربيون هذا التقدم الحضاري الهائل في مجالات الصناعة والتكنولوجيا وبعض المجالات الأخرى إلى درجة أن العالم أصبح ألعوبة بأيديهم فيوجهونه كيفما شاءوا باتجاه منافعهم وأطماعهم وآمالهم، بالرغم من ابتعادهم عن أوامر اللّه سبحانه وتعالى وشريعته السمحاء؟

والجواب: إن هؤلاء عرفوا بعض طرق التقدم في الحياة فاخذوا يسيرون في الطرق التي جعلها سبحانه وتعالى تكويناً للتقدم باعتبار أن الدنيا دار أسباب لا دار أماني، قال تعالى في كتابه الحكيم: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

فاللّه سبحانه وتعالى رسم طريق التقدم ولم يقصره على أمة دون أخرى أوطائفة دون أخرى، ونحن إذا سرنا في نفس الطريق ستصبح أزمة الدنيا بأيدينا، واذا كان عملنا في سبيل اللّه تعالى أصبحت الدنيا والآخرة في نصيبنا، أما إذا تركنا العمل بسنن اللّه الكونية فمعنى ذلك إنه نخسر كل شيء حتى نخسر

ص: 107


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

العتبات المقدسة لائمتنا الطاهرين(عليهم السلام) فلن يكون بإمكاننا زيارتها بكامل حريتنا كما هو الحال في يومنا هذا.

العلم والعمل أسسا التقدم

من أبرز الطرق التي حددها اللّه سبحانه وتعالى للرقي والتقدم هي: العلم والعمل، فهما ركنا التقدم، وقد ركزت الشريعة المقدسة على الاهتمام بالعلم لأنه هو الذي يقود الحياة نحو التقدم.

يقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «العلم يرفع الوضيع، وتركه يضع الرفيع»(2)، وقال(عليه السلام): «اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة»(3).

وطبعاً العلم يكون طريقاً للتقدم متى كان مرتبطاً بالعمل فمن يرد أن يسلك هذا الطريق بجد فعليه أن يدرك التلازم الوثيق بينهما، قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إحدى وصاياه لابن مسعود قال فيها: «يا ابن مسعود، إذا عملت عملاً فاعمل بعلم وعقل، وإياك وأن تعمل عملاً بغير تدبر وعلم، فإنه جلّ جلاله يقول: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثًا}»(4)(5).

ويقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم يرشدك والعمل يبلغ بك الغاية»(6).

ص: 108


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- بحار الأنوار 75: 6.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
4- سورة النحل، الآية: 92.
5- مكارم الأخلاق: 458.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 115.

وعن إتقان العمل يقول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه»(1).

هذا هو طريق التقدم فمن يسلك طريق العلم والعمل المتقن يتقدم، ومن يخلّ بهما يتأخر من أي أمة أو شعب كان، فقد تقدم أعداؤنا في بعض جوانب حياتهم لأنهم سلكوا هذا الطريق ولو قليلاً وتأخرنا نحن لأننا ابتعدنا عنه.

الدعاء

ثم إن ما ذكرناه من لزوم سلوك طرق التقدم لا يعني الغفلة عن الدعاء والجانب الغيبي فإن هناك أمور كثيرة تتعاضد كلها فتؤدي إلى النتيجة المطلوبة، وأحد تلك الأمور الدعاء والتوسل بأهل البيت(عليهم السلام) قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(2).

وقال سبحانه في آية أخرى: {وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}(3).

فإن اللّه عزّ وجلّ هو الغني المطلق وليس لنا إلّا الدعاء والتضرع لنحصل على استجابته تعالى لدعائنا وقضاء حوائجنا، ولنستمد منه التوفيق لكن للاستجابة شروط منها العمل بالمنهج الذي رسمه الباري عزّ وجلّ تكويناً أو تشريعاً، فاللازم أن يكون دعاؤنا مقترناً بعلمنا الصالح وهكذا توسلنا بأهل البيت الأطهار(عليهم السلام).

مستقبل العراق

اشارة

لا بد من توفر ثلاثة أمور في العراق لنتمكن من خلالها إنقاذ العتبات

ص: 109


1- نهج الفصاحة: 305.
2- سورة الفرقان، الآية: 77.
3- سورة المائدة، الآية: 35.

المقدسة من السياسة الجائرة تجاهها وحفظ استقلاليتها، وكذلك إنقاذ الشعب العراقي من الظلم والاستبداد اللذين فرضهما نظام البعث الصدامي عليه، ولكي نرسم بعض الملامح المستقبلية للعراق علينا أن نبين المقومات الأساسية التي تضمن حرية العراق وإدارة عتباته المقدسة، وهي أمور منها:

1- المؤسسات الدستورية

فاللازم أن توجد للناس قدرة قوية ومؤثرة مقابل قدرة الدولة تعادلها وتوازيها، بل وأقوى منها؛ لأنه يلزم أن لا توجد قدرة أقوى من إرادة الشعب إلّا قدرته سبحانه وتعالى، وهذه القدرة يجب أن تظهر من خلال القنوات الحرة الإعلامية المختلفة كشبكات الإذاعة والتلفزة والصحف والمجلات والبرامج الأخرى، وهكذا الأحزاب والجمعيات والتكتلات المختلفة، لأن هذه الأمور هي التي تحد من طغيان الدولة واستبدادها، وبهذه الوسائل ستكون الأجهزة الرسمية في الدولة مسؤولة مسؤولية مباشرة أمام الشعب في إدارة ثرواته وما تتخذه من آراء وأعمال ومواقف سياسية، أو اقتصادية أو في المجالات الأخرى، حيث يطالبها الشعب عبر هذه الوسائل بالأدلة والبراهين كما يطالبها بالإيضاحات والاستفسارات عن قراراتها المتخذة في كل الشؤون.

وبهذا لا يستطيع رئيس الدولة أو المسؤولون أن يستبدوا في الحكم أو يخدعوا الشعب أو ينهبوا ثرواته؛ ولهذا فعندما كانت الصحف والمجلات حرة بعض الشي في العراق لم يكن للدولة الجرأة على نقض القوانين الحقوقية والمدنية للشعب، إذ كان هناك توزيع نسبي للقدرة السياسية في العراق ويتمثلهذا التوزيع في ثلاث قدرات رئيسية كانت تتحكم في صدور القرارات وتوجهاتها، وتشكل قوة مراقبة كبيرة على الحكومة حتى تخضع إلى رغبات الشعب وتطلعاته وكانت هذه القدرات:

ص: 110

1- قدرة الحكومة التي تعتبر سلطة قانونية.

2- قدرة المراجع وتعتبر سلطة دينية.

3- قدرة العشائر وكانت سلطة عسكرية.

إضافة إلى ما تشكله الأحزاب والتكتلات الأخرى في حينه من قدرات واسعة النفوذ، وقد كان العلماء يسيّرون بعض اتجاهات السلطة، ولا يدعون مجالاً للحاكم بالاستبداد وقمع الشعب، لأن العلماء بسلاح الفتوى والتقليد كانوا يقودون العشائر التي هي الأخرى تحترم وتطيع العلماء، وتلتزم بأوامرهم للحيلولة دون انفراد الحكومة بالسلطة وقمع الشعب.

2- التعددية الحزبية

ثم إن من الضروري تشكيل الأحزاب وإيجاد تعددية حزبية حسب الموازين الإسلامية تحت نظر المراجع والمجتهدين، وبهذه الوسيلة يمكن أن نحتوي شبابنا المسلم وننقذه من مخاطر السقوط في مهاوي الأفكار والثقافات الفاسدة كالشيوعية الملحدة، والأحزاب والحركات المنحرفة الأخرى المرتبطة بأعداء الشعوب وأعداء الإسلام أو اللجوء إلى أماكن الفساد والتحلل الخلقي، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن التعددية الحزبية تضمن تعدد مراكز القدرة وتوزيعها وتساعد على بناء العراق وتقدمه، لأنها تبرز مسألة الرقابة بين الأحزاب والحركات والتي يسميها القرآن منافسة كما أشار إلى هذا في قوله تعالى: {وَفِيذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(1)، وتشجع النقد البناء، فإن للمنافسة دور مهم وفعّال في حل المشكلات وتذليل الصعوبات التي تعترض طريق التقدم والازدهار،

ص: 111


1- سورة المطففين، الآية: 26.

وذلك لإن كل حزب يريد أن يسبق الأحزاب الأخرى في قيادة البلد نحو الخير والرفاه فيعمل أكثر ويقدم أكثر الخدمات في طريق الرفاه الاقتصادي وبقية الجوانب الأخرى ليحظى بتأييد ومؤازرة الأمة.

3- شورى المراجع

خلق اللّه تعالى الأفراد مختلفين في أشكالهم وأذواقهم، والناس على طول التاريخ لم تكن أفكارهم وعقائدهم موحّدة ولما لم تجتمع أفكارهم لتشكيل فكرة جامعة وأيديولوجية مشتركة تولدت أمامهم مشاكل وصعاب لا يمكن تلافيها أو حلها، والشورى وإن كانت مسألة معروفة وسهلة التصور إلّا أن تحققها صعب ويحتاج إلى جهود كبيرة، ولكنها ممكنة وبملاحظة تحققها ولو نسبياً في إدارة بعض الدول في عالم اليوم تتوضح المسألة بشكل أكثر.

مثلاً لدولة سويسرا شورى مؤلفة من سبعة أفراد يشكلون المجلس الرئاسي، وبذلك يحتل منصب رئيس الدولة سبعة رؤساء لكل منهم في حدود تخصصه وإدراته وزير ووزارة، ولذا تراهم لايعانون في كثير من الأحيان من مشاكل الاستبداد والديكتاتورية مثل الانفراد بالرأي ومصادرة حقوق وأفكار الآخرين، بالشكل الذي نعانيه نحن في بلادنا.

فالاستشارة ضرورية جداً وما طبقت في مجال إلّا سببت تقدمه وازدهاره، بينما الاستبداد لا يؤدي إلّا إلى الإنهيار والتأخر، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تستبدبرأيك فمن استبد برأيه هلك»(1).

وذلك لأن الاستشارة تعرّف الإنسان على الخطأ والصواب وتجنبه الأخطاء والعثرات وتأخذ بيده إلى الطريق السليم على عكس الاستبداد.

ص: 112


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 752.

وفي الختام نؤكد على لزوم السير قدماً على ضوء خطى القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) حتى بلوغ الأهداف المطلوبة من أجل خدمة مبادئ الإسلام الحنيف، والقضاء على الظلم والاستبداد الذي يخيم على أمتنا الإسلامية، وننقذ العتبات المقدسة والحوزات العلمية من خلال إنقاذنا للأمة حتى لا تكون معالجتنا مبتورة ومحدودة.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

العلم

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2).

وقال سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3).

العلماء

قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}(4).

وقال سبحانه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن

ص: 113


1- الكافي 3: 424.
2- سورة الجمعة، الآية: 2.
3- سورة البقرة، الآية: 269.
4- سورة فاطر، الآية: 28.

مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(2).

وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3).

من أخلاق خاتم الأنبياء(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(4).

وقال سبحانه: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(5).

قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ...}(6).

قال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(7).

أهمية العقل

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(8).

ص: 114


1- سورة الأنعام، الآية: 122.
2- سورة المجادلة، الآية: 11.
3- سورة الزمر، الآية: 9.
4- سورة القلم، الآية: 4.
5- سورة آل عمران، الآية: 159.
6- سورة التوبة، الآية: 61.
7- سورة الأعراف، الآية: 199.
8- سورة آل عمران، الآية: 190.

قال سبحانه: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1).

قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(2).

النظر في العاقبة

قال سبحانه: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ}(3).

قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٖ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}(4).

قال سبحانه: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(5).

قال تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُنذَرِينَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

زيارة العتبات المقدسة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من زارني حيّاً وميتاً كنت له شفيعاً يوم القيامة»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أتمّوا برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حجكم إذا خرجتم إلى بيت اللّه، فإن تركه جفاء وبذلك أمرتم، وأتموا بالقبور التي ألزمكم اللّه عزّ

ص: 115


1- سورة البقرة، الآية: 242.
2- سورة الملك، الآية: 10.
3- سورة الروم، الآية: 42.
4- سورة فاطر، الآية: 44.
5- سورة الزخرف، الآية: 25.
6- سورة يونس، الآية: 73.
7- قرب الإسناد: 65.

وجلّ حقها وزيارتها واطلبوا الرزق عندها»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا حج أحدكم فليختم حجه بزيارتنا لأن ذلك من تمام الحج»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أن الحسين بن علي(عليهما السلام) كان يزور قبر الحسن(عليه السلام) في كل عشية جمعة»(3).

الدعاء ودفع البلاء

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ادفعوا أمواج البلاء بالدعاء، ما المبتلى الذي قد اشتد به البلاء بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «بالدعاء يستدفع البلاء»(5).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إن الدعاء بعد نزول البلاء لاينتفع به»(6).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إن الدعاء يستقبل البلاء فيتوافقان إلى يوم القيامة»(7).

الالتفاف حول الإمام(عليه السلام) وإطاعته

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «ذروة الأمر، وسنامه، ومفتاحه، وباب الأشياء، ورضىالرحمان تبارك وتعالى، الطاعة للإمام بعد معرفته»(8).

ص: 116


1- الخصال 2: 616.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 262.
3- قرب الإسناد: 139.
4- الدعوات للراوندي: 21.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 299.
6- عوالي اللئالي 4: 20.
7- فلاح السائل: 29.
8- الكافي 1: 185.

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما نظر اللّه عزّ وجلّ إلى ولي له، يجهد نفسه بالطاعة لإمامه والنصيحة، إلّا كان معنا في الرفيق الأعلى»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}(2) قال: السماء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رفعه اللّه إليه، والميزان أمير المؤمنين(عليه السلام) نصبه لخلقه» قلت: {أَلَّا تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ}(3)؟ قال: «لا تعصوا الإمام» قلت: {وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ}(4) قال: «أقيموا الإمام بالعدل»، قلت: {وَلَا تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ}(5)؟ قال: «لا تبخسوا الإمام حقه ولا تظلموه...»(6).

حسن التدبير

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أدل شيء على غزارة العقل حسن التدبير»(7).

وقال(عليه السلام): «طول التفكير يصلح عواقب التدبير»(8).

وقال(عليه السلام): «لا عقل كالتدبير»(9).

سوء التدبير

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «سبب التدمير سوء التدبير»(10).

ص: 117


1- الكافي 1: 404.
2- سورة الرحمن، الآية: 7.
3- سورة الرحمن، الآية: 8.
4- سورة الرحمن، الآية: 9.
5- سورة الرحمن، الآية: 9.
6- تفسير القمي 2: 343.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 202.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 437.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 767.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 397

وقال(عليه السلام): «من ساء تدبيره كان هلاكه في تدبيره»(1).

وقال(عليه السلام): «يستدل على الإدبار بأربع: بسوء التدبير، وقبح التبذير، وقلة الاعتبار، وكثرة الاغترار»(2).

في العقل وأحواله

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما قسم اللّه للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإفطار العاقل أفضل من صوم الجاهل وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث اللّه رسولاً ولا نبياً حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضله من عقول جميع أمته، وما يضمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نفسه أفضل من اجتهاد جميع المجتهدين وما أدى العاقل فرائض اللّه حتى عقل منه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، إن العقلاء هم أولوا الألباب، الذين قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}»(3)(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «نظرت في كتاب لعلي(عليه السلام) فوجدت في الكتاب أن قيمة كل امرئ وقدره معرفته، ان اللّه تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا»(5).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «ان للّه على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجةباطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، وأما الباطنة فالعقول»(6).

ص: 118


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 636.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 799.
3- سورة الزمر، الآية: 9.
4- المحاسن 1: 193.
5- معاني الأخبار: 1.
6- الكافي 1: 16.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أصل العقل الفكر، وثمرته السلامة»(1).

المشورة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «شاوِرْ في أمورك الذين يخشون اللّه ترشد»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن المشورة لا تكون إلّا بحدودها... فأولها أن يكون الذي يشاوره عاقلاً، والثانية أن يكون حراً متديناً، والثالثة أن يكون صديقاً مواخياً، والرابعة أن تطلعه على سرك فيكون علمه به كعلمك بنفسك، ثم يستر ذلك ويكتمه، فإنه إذا كان عاقلاً انتفعت بمشورته وإذا كان حراً متديناً جهد نفسه في النصيحة لك، وإذا كان صديقاً مؤاخياً كتم سرك إذا اطلعته على سرك فكان علمه به كعلمك تمت المشورة وكملت النصيحة»(3).

وقال(عليه السلام): «... لا تشاور من لا يصدقه عقلك، وإن كان مشهوراً بالعقل والورع»(4).

الهداية إحياء

عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(5)؟

قال(عليه السلام): «من حرق أو غرق»، قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟قال: «ذاك تأويلها الأعظم»(6).

وعن أبي بصير، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سألته: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا

ص: 119


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 198.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 413.
3- المحاسن 2: 602.
4- مصباح الشريعة: 153.
5- سورة المائدة، الآية: 32.
6- الكافي 2: 210.

النَّاسَ جَمِيعًا}؟ قال: «من استخرجها من الكفر إلى الإيمان»(1).

وعن سماعة، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: قول اللّه {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(2)؟

قال: «من أخرجها من ضلال إلى هدى فقد أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلالة فقد قتلها»(3).

قضاء الحوائج

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من قضى لأخيه المؤمن حاجة كان كمن عبد اللّه دهره»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من ذهب مع أخيه في حاجة، قضاها أو لم يقضها كان كمن عبد اللّه عمره»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أوحى اللّه تعالى إلى موسى(عليه السلام): إن من عبادي لمن يتقرب إليّ بالحسنة فأحكمه في الجنة، فقال موسى(عليه السلام): يا رب ما تلك الحسنة؟ قال: يمشي في حاجة أخيه المؤمن قضيت أو لم تقض»(6).

ص: 120


1- تفسير العياشي 1: 313.
2- سورة المائدة، الآية: 32.
3- تفسير العياشي 1: 313.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 481.
5- مصادقة الإخوان: 68.
6- مصادقة الإخوان: 66.

آثار الظلم في الدنيا والآخرة

عاقبة الظلم

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الظلم في الدنيا بوار، وفي الآخرة دمار»(1).

يجب على الإنسان أن يبتعد مهما استطاع عن الظلم؛ لأن عناءه يزول عمّن ظلمه ويبقى وزره عليه، فإن الظالم يرى عقوبة ظلمه في العوالم الثلاثة جميعاً:

أولاً: في الدنيا، وذلك عن طريق الأمراض والآلام التي يتعرض لها في حياته بسبب ما ارتكبه من جرائم، فإن الآلام والأمراض قد تكون من باب الامتحان والاختبار، وذلك لتخفيف بعض ذنوبه التي ارتكبها في دنياه، وكلامنا لا يتضمنها، وقد تكون عقوبة دنيوية على ظلمه للناس، فكم من الظالمين أصيبوا في هذه الدنيا بأمراض نفسية وجسدية أودت بحياتهم بعد ذلّ عاشوه.

ثانياً: في البرزخ، فالظالم إذا لم ير عاقبة ظلمه في الدنيا فإنه يراها في عالم البرزخ.

وثالثاً: في الآخرة، حيث تكون نار جهنم بانتظارهم{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٖ}(2).

ص: 121


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 90.
2- سورة ق، الآية: 30.
عالم البرزخ

البرزخ: ما بين كل شيئين، وقيل: هو الحاجز بين الشيئين، وهو ما بين الدنيا والآخرة قبل الحشر: من وقت الموت إلى البعث فمن مات دخل البرزخ(1)، أي هو عالم متوسط بين الموت والبعث يوم الحساب، وبين عالم الدنيا وعالم الآخرة، وقد صرّح القرآن الحكيم بالبرزخ في قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(2).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «البرزخ: القبر، وفيه الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة»(3).

فإذا كانت أعمال الإنسان في الدنيا صالحة تنعّم في قبره، وإن كانت غير صالحة كالظالم مثلاً كان قبره حفرة من حفر النيران - نعوذ باللّه تعالى - .

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران... وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول في آخر صلاته: وأعوذ بك من عذاب القبر»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... من خان جاره شبراً من الأرض جعله اللّه طوقاً في عنقه من تخوم الأرض السابعة حتى يلقى اللّه يوم القيامة مطوقاً إلّا أن يتوب ويرجع. ألّا ومن تعلم القرآن ثم نسيه متعمداً لقى اللّه يوم القيامة مغلولاً، ويسلط اللّه عليه بكل آية منها حية تكون قرينه إلى النار إلّا أن يغفر له... ألّا ومن زنى بامرأة مسلمة أو يهودية أو نصرانية أو مجوسية حرة أو أمة ثم لم يتب ومات مصرّاً عليه

ص: 122


1- انظر: لسان العرب 3: 8، مادة (برزخ).
2- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
3- تفسير القمي 1: 19.
4- بحار الأنوار 6: 205.

فتح اللّه له في قبره ثلائمائة باب تخرج منه حيات وعقارب وثعبان النار، فهو يحترق إلى يوم القيامة، فإذا بعث من قبره تأذى الناس من نتن ريحه فيعرف بذلك وبما كان يعمل في دار الدنيا حتى يؤمر به إلى النار...»(1).

عالم القيامة

العالم الثالث الذي سيراه الظالم نتيجة ظلمه ويعاقب فيه، هو يوم القيامة، فإذا لم يتخلص الإنسان من ذنوبه في الدنيا والبرزخ، بسبب عظمتها وكثرتها، فلا بد من العقاب في القيامة، حيث يأتي العبد يوم القيامة وقد سرّته حسناته، فيجيء الرجل فيقول: يا رب ظلمني هذا، فيؤخذ من حسناته فيجعل في حسنات الذي سأله، فما يزال كذلك، حتى لا تبقى له حسنة، فإذا جاء من يسأله، نظر إلى سيئاته فجعلت مع سيئات الرجل، فلا يزال يستوفي منه حتى يدخل النار(2).

وفي خطبة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المدينة قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس إنه من لقي اللّه عزّ وجلّ يشهد أن لا إله إلّا اللّه مخلصاً لم يخلط معها غيرها دخل الجنة» فقام علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: «يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمي كيف يقول مخلصاً لا يخلط معها غيرها فسّر لنا هذا نعرفه؟»

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نعم حرصاً على الدنيا وجمعها من غير حلها ورضي بها، وأقوام يقولون أقاويل الأخيار ويعملون عمل الجبابرة والفجار، فمن لقى اللّه وليس فيه شيء من هذه الخصال وهو يقول: لا إله إلّا اللّه فله الجنة، فإن أخذ الدنيا وترك الآخرة فله النار ومن تولى خصومة ظالم أو أعانه عليها نزل به ملك الموت بالبشرى بلعنة اللّه ونار جهنم خالداً فيها وبئس المصير ومن خف لسلطان جائر

ص: 123


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 427.
2- انظر: تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 260.

كان قرينه في النار، ومن دل سلطاناً على الجور قرن مع هامان، وكان هو والسلطان من أشد أهل النار عذاباً ومن عظّم صاحب دنيا وأحبه لطمع دنياه سخط اللّه عليه وكان في درجته مع قارون في الباب الأسفل، ومن بنى بيتاً رياءً وسمعة حمله يوم القيامة إلى سبع أرضين ثم يطوقه ناراً يوقد في عنقه ثم يرمى به في النار» فقيل له: يا رسول اللّه كيف يبني رياءً وسمعة؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يبني فضلاً على ما يكفيه أو يبني مباهاة، ومن ظلم أجيراً أجره أحبط اللّه عمله وحرم عليه ريح الجنة وريحها يوجد من خمسمائة عام، ومن خان جاره شبراً من الأرض طوقه اللّه تعالى يوم القيامة إلى سبع أرضين نار حتى يدخله جنهم، ومن تعلم القرآن ثم نسيه متعمداً لقى اللّه يوم القيامة مجذوماً ومغلولاً ويسلط اللّه عليه بكل آية حية موكلة به، ومن تعلم القرآن فلم يعمل به وآثر عليه حب الدنيا وزينتها أستوجب سخط اللّه تعالى وكان في الدرجة مع اليهود والنصارى الذي ينبذون كتاب اللّه وراء ظهورهم ومن نكح امرأة حراماً في دبرها أو رجلاً أو غلاماً حشره اللّه تعالى يوم القيامة أنتن من الجيفة يتأذى به الناس حتى يدخل جهنم ولا يقبل اللّه منه صدقا ًولا عدلاً وأحبط اللّه عمله ويدعه في تابوت مشدوداً بمسامير من حديد ويضرب عليه في التابوت بصفائحه حتى يبشك يتشبك في تلك المسامير فلو وضع عرق من عروقه على أربعمائة أمة لماتوا جميعاً، وهو من أشد الناس عذاباً»(1).

أنواع الظلم

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لايغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لايغفر فالشرك باللّه، قال اللّه

ص: 124


1- ثواب الأعمال: 281.

تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}(1)، وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات(2)، وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً»(3).

وقال(عليه السلام): «شر الزاد إلى المعاد احتقاب ظلم العباد»(4).

يعبر الإمام(عليه السلام) عن الشرك باللّه تعالى بالظلم الذي لا يغفر لماذا؟

لأن معنى الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالمشرك ظالم؛ لأنه جعل غير اللّه تعالى شريكاً له، ووضع العبادة في غير محلها، وهكذا العاصي ظالم؛ لأنه وضع المعصية موضع الطاعة وهذا لا يغفر له؛ لأن المغفرة تكون لمن يعتقد بالغفار، أما الذي لا يعتقد باللّه أصلاً فكيف ينتظر غفرانه.

وأما الظلم الذي يغفر فهو ظلم الإنسان نفسه بارتكابه صغائر الذنوب أو الكبائر التي لا تصل إلى حد الشرك باللّه تعالى قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(5).

وأما الظلم الذي لا يدعه اللّه عزّ وجلّ، فهو ظلم الناس بعضهم لبعض، وإن تاب الظالم، لكن اللّه تعالى لا يتركه إلّا برضا المظلوم أو التعويض للمظلوم بما لحقه من ضرر.

فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا يؤمن بالمعاد من لم يتحرَّج عن ظلمالعباد»(6).

ص: 125


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- الهَنات - جمع هَنة - الشيء اليسير والعمل الحقير.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176، من خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبيّن فضل القرآن وينهى عن البدعة.
4- الإرشاد 1: 300.
5- سورة النساء، الآية: 48.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 788.

وقال(عليه السلام): «من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده»(1).

وقال(عليه السلام): «... وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص هناك شديد ليس جرحاً بالمُدى(2) ولا ضرباً بالسياط ولكنه ما يستصغر ذلك معه»(3).

جزاء الظالم يوم القيامة
اشارة

هناك روايات كثيرة تشير إلى عذاب يوم القيامة. وسنشير إلى بعضها؛ فمثلاً: الشخص الذي يظلم أخاه المؤمن، بالتعدي عليه، سواء بجوارحه أو بلسانه، يرى رد فعل ظلمه في الآخرة.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... وإياكم والظلم، فإن الظلم عند اللّه هو الظلمات يوم القيامة...»(4).

وقال أيضاً(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من ضرب بسوط ظلماً اقتص منه يوم القيامة»(5).

وهناك سؤال قد يدور في أذهان البعض:

فهل جزاء الذي يضرب شخصاً بصفعة، أن يقابل بعشرين صفعة يوم القيامة؟

لكن اللّه سبحانه يقول في القرآن الحكيم: {وَجَزَٰؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}(6) أي أن الإنسان يعاقب بمقدار جرمه، في ما إذا لم يشمله العفو من عند الباري عزّ وجلّ،حيث بيّن سبحانه وتعالى الحد في هذه الآية، لئلا يتجاوز المظلوم عن مقدار ما ظلم، انتقاماً وتشفياً، {وَجَزَٰؤُاْ سَيِّئَةٖ} يوردها الظالم {سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}

ص: 126


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 605.
2- المُدى - جمع مُدية - وهي السكين.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176، ومن خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبيّن فضل القرآن وينهى عن البدعة.
4- الخصال 1: 176.
5- نهج الفصاحة: 771.
6- سورة الشورى، الآية: 40.

يوردها المظلوم، وسميت سيئة من باب المزاوجة، لأن الرد يشبه التعدي في الشكل، وإن خالفه في المقصد والواقع.

جزاء القتل

وكذلك فإن العقل يدل على هذا الأمر أيضاً؛ إذ جزاء السيئة في الدنيا عقوبة بقدرها في الآخرة ولكن الموازين تختلف والمحاسبة دقيقة تراعي جميع الجوانب {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1) قد يكون جزاء القتل بالآخرة، هو خمسين سنة من الإحراق والتعذيب؛ وذلك لأن المذنب يحاسب على مقدار أذاه، فإذا كان مقدار الأذى الذي يراه المقتول خمسين درجة، فبمقدار ذلك الأيلام يحاسب القاتل، كمثل الذي يستقرض ألف دينار ويعطي قرضة بشكل أقساط خلال خمسين سنة، وذلك لأن اللّه سبحانه وتعالى عادل، ولا يجازي المذنب بأكثر من جزائه.

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «من ظلم سلط اللّه عليه من يظلمه»(2).

حبس الحق

وعن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «يا يونس، من حبس حق المؤمن، أقامه اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة، خمسمائة عام على رجليه، حتى يسيل عرقه أو دمه، وينادي مناد من عند اللّه: هذا الظالم الذي حبس عن اللّه حقه، قال فيوبّخ أربعين يوماً ثم يؤمر به إلى النار»(3).

الحق عند أمير المؤمنين(عليه السلام)

ومن كلام لأمير المؤمنين(عليه السلام) يتبرأ من الظلم: «واللّه لأن أبيت على حسك

ص: 127


1- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
2- الكافي 2: 332.
3- الكافي 2: 367.

السعدان مسهّداً، أو أجرَّ في الأغلال مصفَّداً، أحب إليّ من أن ألقى اللّه ورسوله يوم القيامة، ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنَفسٍ يُسرِعُ إلى البِلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها؟!

واللّه لقد رأيت عقيلاً وقد أملق، حتى استماحني من بُرِّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنما سوّدت وجوههم بالعِظلِم(1).

وعاودني مؤكداً، وكرر عليّ القول مردداً، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتَّبع قياده، مفارقاً طريقتي، فأحميت له حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجَّ ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من مِيسَمِها(2)، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبّارها لغضبه! أتئن من الأذى ولا أئن من لظى؟! وأعجب من ذلك، طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها(3)، كأنما عجنت بريق حية أوقيئها، فقلت: أصِلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرَّم علينا أهل البيت! فقال: لاذا ولا ذاك، ولكنّها هدية، فقلت: هبلتك الهبول(4)،

أعن دين اللّه أتيتني لتخدعني؟

أمختبط أنت، أم ذو جِنة أم تهجر؟

واللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي اللّه فينملة أسلبها جلب شَعيرة ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها.

ص: 128


1- العِظْلِم: سواد يصبغ به.
2- ميسم: بكسر الميم وفتح السين المكواة.
3- شنئتها: كرهتها.
4- هبِلَتك: ثكلتك، والهَبول: المرأة لا يعيش لها ولد.

ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ باللّه من سبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعين»(1).

إمهال الظالم

الجاني الذي يقترف جريمة قتل مثلاً في مجتمعه الذي يعيش فيه، يكون لجريمته جوانب عديدة، فمن جانب إنه أزهق نفساً زكية، ومن الجانب الآخر أخلّ بالأمن الاجتماعي، واستهان بقيمة الإنسان والإنسانية، ومن جانب ثالث أدخل الحزن والأسى في قلوب الآخرين بعد أن فقدوا أحد أبنائهم أو أعزتهم وقد تكون هنالك جوانب عديدة أخرى. فما هو جزاؤه إذن؟

وقد يحصل في بعض الحالات أن الظالم لا ينال جزاءه في الدنيا، فهل هذا يعني أنه في الآخرة يترك ولا يعاقب؟ كلا، بل إن اللّه للظالمين بالمرصاد، وإمهال اللّه للظالم لا يعني تركه أبداً.

فإن لحكمة إلهية علمها عند اللّه كما يقول في كتابه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(2).

وقد جاء في التفسير لهذه الآية المباركة: أي لا يظن {الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ} الإملاء: الإمهال، أي: أن إطالتنا لأعمارهم وإمهالنا إياهم، وتوفير المال والجاه لهم ليس خيراً لهم، فإن الخير هو الذي لا يسبب شراً وعقاباً. و{أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} نطيل عمرهم ونعطيهم ما نعطيهم؛ {لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا} ومعصية،فإنهم باعراضهم عن الحق وخبث بواطنهم استحقوا العقاب والعذاب، لكن حيث لا عقاب على الخبث الباطني فقط، كان الإمهال مُظهراً لذلك

ص: 129


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 224 من كلام له(عليه السلام) يتبرأ من الظلم.
2- سورة آل عمران، الآية: 178.

الخبث، فبقاؤهم موجب لزيادة عقوبتهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يهينهم علاوة على ألمه وكربه(1).

وقد جاء عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوله: «إن اللّه تعالى يمهل الظالم حتى يقول: أهملني، ثم إذا أخذه أخذه أخذة رابية»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه حمد نفسه عند هلاك الظالمين، فقال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}»(3)(4).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «ولئن أمهل اللّه الظالم، فلن يفوت أخذه، وهو له بالمرصاد، على مجاز طريقه، وبموضع الشجا من مساغ ريقه»(5).

والمجاز: محل العبور، من جاز بمعنى مرّ، والشجى هو ما يعترض في الحلق من عظم ونحوه، ومساغ الريق: أي ممره من الحلق، فإن ماء الفم يمر من الحلق بسهولة إلى الباطن، وهذا تمثيل لقرب ترقب اللّه سبحانه للظالم، حتى كأنه سبحانه في حلقه، فإذا أراد أخذه جعل هناك شجى فلا يتمكن من شرب الماء.

وقد قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}(6).

أثره على المظلوم

للظالم الأثر الواضح على المظلوم في جوانب عديدة، أقلها أنه استهان

ص: 130


1- تفسير تقريب القرآن 1: 422.
2- كنز الفوائد 1: 135.
3- سورة الأنعام، الآية: 45.
4- كنز الفوائد 1: 135.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 97، من خطبة له(عليه السلام) في أصحابه وأصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
6- سورة ق، الآية: 16.

بقيمته وكرامته، سواء بغصب حقه، أو بأكل ماله، أو الاعتداء عليه... .

فعن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): سباب المؤمن فسق وقتاله كفر، وأكل ماله معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه»(1).

مضافاً إلى أن الظالم استهان أيضاً بالأوامر والأحكام الإلهية التي تؤكد على عدم الظلم، ومما لا شك فيه أن الشخص الذي يرتكب ظلماً، سيترك أثراً سيئاً على الشخص المظلوم، والقضاء العادل الذي يكون في يوم القيامة يحاسب جميع هذه التأثيرات، ولذا فإن الظالم سيلاقي جزاءه حتماً، إما آجلاً أو عاجلاً، والجزاء العاجل قد يكون من ظالم آخر، يسلطه اللّه عليه، بسبب ظلمه الناس، حيث قال عزّ وجلّ: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2).

فعن علي بن عيسى قال: معناه إنا كما وكلنا هؤلاء الظالمين من الجن والإنس بعضهم إلى بعض يوم القيامة وتبرأنا منهم، فكذلك نكل الظالمين بعضهم إلى بعض يوم القيامة، ونكل الاتباع إلى المتبوعين، ونقول للأتباع: قولوا للمتبوعين حتى يخلصوكم من العذاب، وقيل: والغرض بذلك إعلامهم أنه ليس لهم يوم القيامة وليّ يدفع عنهم شيئاً من العذاب(3).

وأصرح من ذلك ما ورد عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال: «ما انتصر اللّه من ظالم إلّا بظالم...»(4).

أثره على المجتمع

إن المجتمع الذي تكثر فيه حالة الظلم، لا بد وأن تكثر فيه الاضطرابات

ص: 131


1- الزهد: 11.
2- سورة الأنعام، الآية: 129.
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 163.
4- الكافي 2: 334.

المختلفة، وحالة عدم الاستقرار، وتترتب عليه آثار وخيمة جداً في نفوس أبناء المجتمع، خصوصاً إذا كان الحاكم نفسه ظالماً لشعبه، مستبداً برأيه، لا يهمه سوى مصالحه الشخصية، وبقائه في الحكم مدة أطول. وهذا شيء لا ينكر وقد صرح به علماء الاجتماع أيضاً، والتاريخ ينقل لنا شواهد كثيرة بهذا الخصوص؛ ومن هنا ترى أن الإسلام أكد على صيانة المجتمع بدءاً من قيادته إلى عموم الرعية، فجعل هناك شروطاً وصفات لا بدّ من توفرها في الحاكم والرئيس، بحيث لا تنحرف القيادة عن طريق الحق، ولاتنتهي بالأمة إلى أسوأ مصير.

نعم، لقد فطن الإسلام إلى ذلك الأمر الخطير، فاشترط شروطاً مهمة في الحاكم، ومنها: الإيمان، العدالة، التفوق في الدراية السياسية، وقد أشار الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى هذه الناحية فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تصلح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللّه، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم»(1).

أثره في التجاوز على القانون

الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الإلهي على الناس، بَيد أن الناس داخل النظام الإسلامي متساوون في ما بينهم بالحقوق والواجبات، وهذا ما يؤكد عليه التاريخ في حياة الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حيث عمّ الرفاه في الدولة الإسلامية، بحيث لم يرَ في ذلك الوقت أي نوع من الظلم والإرهاب.

لكننا في الوقت الحاضر بعد أن أهملنا العمل بالكثير من التوصيات التيأوصانا بها القرآن والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، نجد الظلم والفساد وغيرها من الفواحش قد كثرت في غالب المجتمعات المسلمة، وهذه بدورها قد انعكست على سمعة

ص: 132


1- الكافي 1: 407.

القوانين الإسلامية.

إن المجرم الذي يقترف جريمة ما، فإنه بدوره قد خرج عن قوانين الحكومة، وتمرد عليها، وضرب بها عرض الحائط؛ مما يؤدي إلى الاختلال والاضطراب في ميزان قوانين تلك الدولة. ثم إن من الثابت: إن القوانين الإلهية ثابتة، لا يطرأ عليها أي تغيير أو تبديل، وهي القوانين العادلة المنسجمة مع فطرة الإنسان، أما بالنسبة إلى المجرم فلم يسكت عنه الإسلام من دون النظر إليه، بل يواجهه بأسلوب حاسم حفظاً للمجتمع، فترى لكل جريمة جزاءً مناسباً، بالشرائط الشرعية المخصوصة، وبذلك تتمكن الحكومة الإسلامية من السيطرة على الاختلال الذي قد يصيبها نتيجة وجود أفراد مسيئين، علماً بإن الإسلام يحل المشاكل بمعالجة جذور الجريمة قبل كل شيء، فتقل الجرائم في المجتمع الإسلامي، وتفصيل هذا البحث في مظانه.

روي أن في التوراة مكتوباً: من يظلم يخرب بيته(1).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنما يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرك أن تسوءه، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب أخيه هتكت عورات بيته...، أذكر عند الظلم عدل اللّه فيك، وعند القدرة قدرة اللّهعليك»(2).

السكوت عن الظلم

وقال عيسى بن مريم(عليه السلام) في موعظة لحواريه:

ص: 133


1- كنز الفوائد 1: 135.
2- كنز الفوائد 1: 136.

«إن الحريق ليقع في البيت الواحد، فلا يزال ينتقل من بيت إلى بيت، حتى تحترق بيوت كثيرة، إلّا أن يستدرك البيت الأول فيهدم من قواعده، فلا تجد فيه النار معملاً، وكذلك الظالم الأول لو يؤخذ على يديه لم يوجد من بعده إمام ظالم فيأتمون به، كما لو لم تجد النار في البيت الأول خشباً وألواحاً لم تحرق شيئاً»(1).

فبمقدار ما يظلم يجد الظالم أو القاتل جزاءه في الآخرة، وإن طال العذاب وتوسّع، فمثلاً: الغواص الذي يدخل بجسمه في الماء، يزيح من الماء بمقدار حجم بدنه، ولا يفرق في ذلك إذا دخل نهراً أو بحراً، وهكذا المجرم فإنه يجازى بقدر جريمته حسب موازين الآخرة، كما قال سبحانه وتعالى واصفاً أهل النار: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ}(2) فحتى لو تبدل جلده خمسين مرة فإنه يأخذ بمقدار ما ارتكب من الجريمة والأذى.

ثم إن الجلود الجديدة هي الجلود القديمة، التي صنعت من جديد، إذ الشيء المحترق تتفرق أجزاءه في الفضاء، فيجمعها سبحانه، ويعطيها الصورة الجلدية من جديد، هذا بالاضافة إلى أنه لو خلقت جلود جديدة لم يكن بذلك بأس؛ إذ المتألم هو الروح في بعض الصور، فلا يقال: بم استحق الجلد الجديد العذاب؟

إذن عقاب اللّه للظالم شديد فيجب على الإنسان أن يحذر ويتجنب الوقوع في الظلم، لأن اللّه سبحانه وتعالى وعد الظالمين بعذاب أليم قال تعالى: {ثُمَّقِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ}(3).

وقال سبحانه: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِ بَِٔيسِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}(4).

ص: 134


1- تحف العقول: 504.
2- سورة النساء، الآية: 56.
3- سورة يونس، الآية: 52.
4- سورة الأعراف، الآية: 165.

وقال عزّ وجلّ: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}(1).

وقال الشاعر:

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً *** فالظلم مرتعه يقضي إلى الندم

فاحذر بُني من المظلوم دعوته *** كيلا يصبك سهام الليل في الظلم

تنام عينك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين اللّه لم تنم(2)

شوكة في يد الظالم

جاء في قصص بني إسرائيل، أن أحد الظالمين كان يسير في إحدى الطرقات، وإذا به يلتقي بصياد، بيده سمكة، يتجه إلى بيته، فجاء إليه الظالم، وأخذ منه السمكة، بعد أن ضربه بعصا كانت في يده، ثم ذهب إلى بيته، وقال لزوجته: اطبخي لي هذه السمكة، فلما حان وقت الغذاء، قدمت الزوجة السمكة إلى زوجها، وعند الأكل دخلت إحدى شوكات السمكة في يد الظالم وأخذت تؤلمه ألماً شديداً، وبعد مدة اضطر للذهاب إلى الطبيب.

فقال له: يجب أن تُقطع كفك، وإلّا فسيصعد الألم أكثر، وعندها يجب أن تقطع يدك من المرفق، وبعدها من الكتف وإلّا فان الألم سوف يسري في جسدك ويقتلك، فتحير كثيراً ولم يعرف ماذا يفعل؟! فتأثر كثيراً لحالته، وأخذ يتناول أنواع الأدوية ولكن دون أي جدوى، وفي يوم من الأيام هام على وجهه إلىالصحراء، وفي المساء وبعد أن نام رأى في منامه قائلاً يقول له: لا علاج لك سوى أن تذهب إلى ذلك الصياد، الذي أخذت منه السمكة وتعتذر منه، لكي تعود لك صحتك، فقام من منامه وذهب إلى ذلك الصياد ليعتذر منه، فقدم له اعتذاره، وقبل الصياد منه الاعتذار وسامحه، وبعد فترة عوفي من مرضه.

ص: 135


1- سورة الزخرف، الآية: 65.
2- ديوان الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): 406.

نعم، بعض الظالمين قد يرى جزاء ظلمه في الدنيا قبل الآخرة ولو بعد حين؛ لأن اللّه تعالى يمهله ولكن لا يهمله، والبعض الآخر قد يمهله إلى يوم القيامة ليرى هناك أشد العذاب... .

وفي الدعاء:

«يا من لا يخفى عليه أنباء المتظلمين، ويا من لا يحتاج في قصصهم إلى شهادات الشاهدين، ويا من قربت نصرته من المظلومين، ويا من بَعُدَ عونه عن الظالمين... اللّهم فصل على محمد وآله»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الظلم

قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ...}(2).

وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٖ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٖ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ}(4).

وقال سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}(5).

وقال تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَٰبُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(6).

ص: 136


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) إذا إعتديَ عليه أو رأى من الظالمين ما لا يحب.
2- سورة الأنعام، الآية: 21.
3- سورة هود، الآية: 117.
4- سورة الروم، الآية: 29.
5- سورة الأنعام، الآية: 144.
6- سورة لقمان، الآية: 13.
إمهال الظالمين وجزاؤهم

قال عزّ وجلّ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٖ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَٰرُ}(1).

وقال تعالى: {فَيَوْمَئِذٖ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}(2).

وقال عزّ من قائل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ}(3).

وقال سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسِ بِمَا تَسْعَىٰ}(4).

بعض آثار الظلم والظالمين

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}(6).

وقال سبحانه: {وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَٰهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا}(7).

أنواع الظلم

قال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}(8).

وقال سبحانه: {فَلَمَّا أَنجَىٰهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا

ص: 137


1- سورة إبراهيم، الآية: 42.
2- سورة الروم، الآية: 57.
3- سورة العنكبوت، الآية: 53.
4- سورة طه، الآية: 15.
5- سورة المائدة، الآية: 51.
6- سورة البقرة، الآية: 59.
7- سورة الكهف، الآية: 59.
8- سورة الأحزاب، الآية: 58.

بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم}(1).

وقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٖ}(2).

وقال عزّ من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

الظلم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أقدموا على اللّه مظلومين ولا تقدموا عليه ظالمين»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد»(6).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من أكل مال أخيه ظلماً ولم يردّه إليه أكل جذوة منالنار يوم القيامة»(7).

إمهال الظالمين وجزاؤهم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ

ص: 138


1- سورة يونس، الآية: 23.
2- سورة الأنعام، الآية: 108.
3- سورة المطففين، الآية: 29-32.
4- الكافي 2: 332.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم 151، ومن خطبة له(عليه السلام) يحذر من الفتن.
6- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 221.
7- الكافي 2: 333.

الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}(1) «إن اللّه تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»(2).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «إن اللّه يمهل الظالم حتى يقول أهملني، ثم يأخذه أخذة رابية، إن اللّه حمد نفسه عند هلاك الظالمين، فقال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}»(3)(4).

وروي أنه تعالى أوحى إلى داود(عليه السلام): قل للظالمين لا يذكروني، فإنه حقَّ عليَّ أن أذكر من ذكرني، وإن ذكري إياهم أن ألعنهم(5).

بعض آثار الظلم والظالمين

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الظالم ملوم»(6).

وقال(عليه السلام): «الظلم وخيم العاقبة»(7).

وقال(عليه السلام): «إياك والظلم فمن ظلم كرهت أيامه»(8).وقال(عليه السلام): «شيئان لا تسلم عاقبتهما الظلم والشر»(9).

وقال(عليه السلام): «الظلم يردي صاحبه»(10).

ص: 139


1- سورة هود، الآية: 102.
2- تفسير مجمع البيان 5: 328.
3- سورة الأنعام، الآية: 45.
4- أعلام الدين: 315.
5- جامع الأخبار: 155.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 21.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 33.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 165.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 414.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: 59.
أنواع الظلم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من آذى مؤمناً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى اللّه عزّ وجلّ ومن آذى اللّه فهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أذل مؤمناً أو حقره لفقره وقلّة ذات يده شهره اللّه على جسر جهنم يوم القيامة»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم والفحش، فإن اللّه لا يحب الفحش والتفحش»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجنة حرام على كل فاحش أن يدخلها»(4).

وعن مولانا الكاظم(عليه السلام) في رجلين يتسابان فقال: «البادي منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه، ما لم يعتد المظلوم»(5).

إعانة الظلمة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاءثلاثتهم»(7).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الظلمة وأعوان الظلمة ومن لاق لهم دواتاً، أو ربط لهم كيساً أو مدهم

ص: 140


1- روضة الواعظين 2: 293.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 70.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 110.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 110.
5- الكافي 2: 322.
6- جامع الأخبار: 155.
7- الكافي 2: 333.

بمدة قلم فاحشروهم معهم»(1).

الإصرار على الذنب

قال الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام): «لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ}(2) صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيدنا لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟

فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا، قال: لست لها، فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال لست لها، فقال الوسواس الخناس: أنا لها، قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار. فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة»(3).

ظلم الرعية

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام):«من ظلم رعيته نصر أضداده»(4).وقال(عليه السلام): «شر الأمراء من ظلم رعيته»(5).

وقال(عليه السلام): «أفظع شيء ظلم القضاة»(6).

ص: 141


1- جامع الأخبار: 155.
2- سورة آل عمران، الآية: 135.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 465.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 581.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 410.
6- عيون الحكم والمواعظ: 119.

بين المسلمين واليهود

لماذا سيطر اليهود

قال اللّه تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(1).

سؤال يدور في ذهن الكثير من الناس، وهو: كيف تمكن اليهود - مع قلتهم - من الوقوف بوجه المسلمين وهم بهذه الكثرة، ومن السيطرة على أراضيهم وما أشبه؟

وإذا عرضنا هذا السؤال على القرآن الحكيم؛ نرى التصريح القرآني يقتضي ويستلزم عكس الواقع الحاضر ويبين لزوم تقدم المسلمين؛ لأن القرآن بيّن حال اليهود بأنهم أذلاء وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، فقال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ}(2).

قال الطبرسي(رحمه اللّه) في تفسيره: أي أُلزموا الذلة الزاماً لايبرح عنهم، كما يُضرب المسمار على الشيء فيلزمه(3).

أما بالنسبة إلى المسلمين فقد عبّر القرآن الكريم عن حالهم بقوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(4).

ص: 142


1- سورة البقرة، الآية: 120.
2- سورة البقرة، الآية: 61.
3- تفسير مجمع البيان 1: 239.
4- سورة المنافقون، الآية: 8.

وقوله عزّ وجلّ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(1).

فهم أفضل الأمم وأحقها، فان العزة لا تأتي إلّا من اللّه سبحانه وتعالى؛ لأنّه الملك القادر، فيعز من يشاء ويذل من يشاء وبيده الملك وهو على كل شيء قدير؛ لذلك ينبغي أن تكون العزة حالة مانعة للمؤمنين من أن يغلبهم أحد لصلابتهم وقوتهم ووحدتهم وتآخيهم، قال اللّه تعالى:

{أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}(2).

فإن العزة من فروع الملك، والملك للّه سبحانه وتعالى وحده، فالعزيز هو الذي يقهر ولا يُقهر، والعزة الدائمة الباقية للّه ولرسوله وللمؤمنين، وهي العزة الحقيقية، أما عزة الكافرين فهي عابرة وغير حقيقية وإنما هي تعزز ظاهري، وذل في الباطن، قال سبحانه وتعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ وَشِقَاقٖ}(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمع قول اللّه عزّ وجلّ يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(4) فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً»، ثم قال: «إن المؤمن أعز من الجبل إن الجبل يُستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقل من دينه شيء»(5).

اليهود بين الأمس واليوم

اشارة

هذا هو حال اليهود والمسلمين عند اللّه تعالى وفي القرآن الكريم فقد كانت اليهود أذلة طول التاريخ.

ص: 143


1- سورة آل عمران، الآية: 110.
2- سورة النساء، الآية: 139.
3- سورة ص، الآية: 2.
4- سورة المنافقون، الآية: 8.
5- الكافي 5: 63.

أما الواقع اليوم فيشير إلى سيطرتهم على العديد من مجالات الحياة، فإن اليهود كان عددهم (56) ألف شخص في فلسطين قبل خمسين عاماً، وقد وصل عددهم اليوم إلى أربعة ملايين نسمة، أي أن عددهم في فلسطين آخذ في التزايد حيث جمعوا اليهود من شتى بقاع الأرض وأسكنوهم في بلاد المسلمين قهراً وغصباً، وفي المقابل صارت نسبة المسلمين في فلسطين في تناقص، فكيف جرى كل هذا ولماذا؟

السر في انقلاب المعادلة

الجواب واضح، وهو أن المسلمين قد تركوا العمل بأوامر اللّه، وقد جاء في الحديث القدسي أن اللّه تعالى بيّن لأنبيائه(عليهم السلام) هذه الحقيقة بقوله: «إذا عصاني من خلقي من يعرفني سلطت عليه من خلقي من لا يعرفني»(1).

إن المسلمين في جميع العالم - غالباً - لا يلتفتون إلى ما يريد اللّه منهم ولا يعملون بأوامره في جميع مجالات الحياة كما هو المفروض، في حين أن كلام اللّه والأنبياء والأئمة(عليهم السلام) هو واضح كوضوح الشمس بل هو سنة من سنن الكون، سواء صدّقنا هذا، أم لم نصدقه.

فبما أن المسلمين لم يعملوا بقوانين اللّه في التقدم في كافة مناحي الحياة تسلط عليهم اليهود منذ خمسين عاماً. وهذا إلى جانب معصية اللّه فإنه سبب تأخر المسلمين وتفرق كلمتهم وأصبحوا أمماً متعددة وصغيرة يحارب بعضهم بعضاً، وقد قسّمها الاستعمار إلى كتل وتجمعات صغيرة وضعيفة، لا تستطيع الوقوف بوجه الدولة اليهودية الغاصبة لأرض فلسطين، فكانت هذه الحدود الجغرافية المصطنعة لكي لا يتمكن المسلمون من الوقوف بوجه المؤامرات

ص: 144


1- من لا يحضره الفقيه 4: 404.

الغربية والشرقية في أرض المسلمين، وقد شملت هذه التجزئة أغلب الدول العربية، وبالأخص دول المواجهة مع اسرائيل، كما تسمي هي نفسها بذلك، وقد جاء في خطبة للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... العرب اليوم وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع»(1).

فالعزّ للمسلمين ككل وللعرب لا يأتي إلّا في طاعة اللّه تعالى والاجتماع تحت راية الإسلام، فعندما يطابق الواقع البشري كلام اللّه تعالى فسيبقى اليهود أذلاء، كما أشار تبارك وتعالى إلى ذلك في آيات عديدة من القرآن، وإن ترك المسلمون سبل التقدم التي أمر بها الباري عزّ وجلّ فيتأخرون ويغلب عليهم أعداؤهم من اليهود وغيرهم.

إحصائية

قام الجامع الأزهر قبل مدة بإجراء إحصائية توصّل خلالها إلى أن عدد المسلمين في العالم يبلغ مليار وستمائة مليون مسلم(2)، في حين أن جميع يهود العالم حسب كتاب ألفه مؤخراً أحد الكتاب المصريين(3) تحت عنوان (حرب الخليج) هو (14) مليوناً، يعني أقل من سكان مدينة إسلامية واحدة التي يبلغ تعداد سكانها (16) مليوناً، وإن هؤلاء الأربعة عشر مليون يهودي موزعون كالآتي: أربعة ملايين يهودي في إسرائيل، وخمسة ملايين يهودي في أمريكا والبقية منتشرون في أرجاء العالم.

إن هؤلاء المسلمين الذي يبلغ عددهم ملياراً و(600) مليون، وهم أغنى سكان الأرض، بما لديهم من الثروات النفطية والمعدنية والثروات المائية، كيف

ص: 145


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 146، من كلام له(عليه السلام) في الاستشارة في الشخوص لقتال الفرس بنفسه.
2- وقد بلغت الإحصاءات الأخيرة لنفوس المسلمين: المليارين.
3- الكاتب المصري هو محمد حسنين هيكل.

استطاع الإسرائيليون الذين عددهم أربعة عشر مليوناً التغلب على عددهم الهائل هذا، وفي فترة قصيرة نسبياً من الزمن؟

إن قصة المسلمين اليوم تشبه قصة أولئك الذين كانوا في قافلة، فجاء قطاع الطرق وأخذوا منهم كل شيء، فراحوا يبكون إلى أقرب مدينة إليهم ولما سألهم الناس عن القضية قالوا نحن كنا مائة رجل فقط وكان السراق نفرين فأخذوا منا بضاعتنا.

وأما على نطاق خاص بالدول المسلمة العربية فإن عدد المسلمين العرب يبلغ (250) مليوناً، وأمام أربعة ملايين يهودي لم يستطيعوا إنقاذ فلسطين، بل هم كل يوم يدخلون عملية مصالحة وإذلال لأنفسهم، والسبب كله يعود إلى أننا قد خالفنا أوامر اللّه تعالى، وتفرقنا، فسلط اللّه علينا اليهود.

قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1).

مثل قرآني

ولأجل مطابقة أحوال اليهود سابقاً، أي: في زمن النبي موسى(عليه السلام) وأحوالهم هذا اليوم؛ نعرض بعض الآيات القرآنية ونشير إلى تفسيرها، لكي نصل إلى السبب الرئيسي في تقدمهم وتأخرنا وهو أن اليهود عملوا من أجل غلبتهم، ونحن ابتعدنا عن الأخوة والأمة الإسلامية الواحدة - التي كانت من أسباب قوتنا بالأمس - ففشلنا.

يقول اللّه تعالى في محكم كتابه الكريم: {يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَٰلَمِينَ}(2).

ص: 146


1- سورة طه، الآية: 124.
2- سورة البقرة، الآية: 47-122.

وقد تكررت الآية في سورة البقرة مرتين وهو مفيد للتأكيد أيضاً، ولكن هذا الخطاب مختص باليهود في زمن النبي موسى(عليه السلام) حيث فضلهم اللّه على آل فرعون وغيرهم من المشركين.

قال الطبرسي(رحمه اللّه) في تفسيره: قال ابن عباس: أراد به عالمي أهل زمانهم لأن أمتنا (الأمة الإسلامية) أفضل الأمم بالإجماع، كما أن نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل الأنبياء، وبدليل قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(1)(2).

وقد أنعم اللّه تعالى على بني إسرائيل بنعم كثيرة، منها: إنزال المن والسلوى والألطاف الإلهية، وكما جاء في قوله تعالى:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ}(3).

ولكن اليهود أنكروا هذه النعمة، وقتل بعضهم البعض، وتفرقوا وارتكبوا المعاصي، فخاطبهم اللّه تعالى بقوله:

{ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمْ تَظَٰهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(4).

ومن بعد ذلك ضربت عليهم الذلة والمسكنة حيث تركوا أوامر اللّه عزّ وجلّ وقد عملوا هذه الأعمال المحرمة كلها بعد أن أخذ اللّه تعالى الميثاق والعهد

ص: 147


1- سورة آل عمران، الآية: 110.
2- تفسير مجمع البيان 1: 198.
3- سورة المائدة، الآية: 20.
4- سورة البقرة، الآية: 85.

منهم في زمن موسى(عليه السلام) في عدم القتل، ولكن اليهود خالفوا الأوامر الإلهية، في زمن موسى(عليه السلام) بقتلهم بعضهم البعض، استمرت خصلة القتل وسفك الدماء فيهم إلى يومنا الحاضر بقتلهم المسلمين وإخراجهم من ديارهم.

أما قتلهم بعضهم البعض وتهجير مواطنيهم فهذه الأعمال لم يرتكبوها في الوقت الحاضر، وكما يدل على ذلك قانون اسرائيل؛ إذ أنه لا يمنح أي حق لأحد بقتل يهودي أبداً.

الاقتداء بمساوئ اليهود

والحقيقة إن اليهود أخذوا بعض صفات الإسلام الحسنة فتقدموا بتلك النسبة، في حين أخذ بعضنا قسماً من صفاتهم السيئة، فاليهود ليس عندهم نفر واحد مشرد من وطنه، أما نظام العراق وحده فقد تسبب في تشريد ثلاثة ملايين عراقي مسلم قهراً.

وفي بعض البلاد الإسلامية يعيش المسلمون تحت نير الحكومات المستخدمة من قبل الأجنبي، والمرتمية في أحضان اليهود، وكل يوم يجري إعدام العشرات هنا وهناك في العديد من بلادنا الإسلامية العريضة، وإيداع العشرات الآخرين السجون والمعتقلات، ويتلقون أنواعاً مبتكرة من التعذيب الوحشي في ما يُشرد آخرون من بلادهم إلى مختلف البلاد.

ففي إحدى البلاد الإسلامية أصبحت المواجهة بين المسلمين والجيش حتى في داخل المساجد وفي الشوارع علناً، بعد أن عاش المسلمون هناك شتى أنواع الكبت والتهجير والاعتقال، وهكذا في غيرها من البلاد الإسلامية الأخرى، وربما لا تجد بلداً مسلماً في الوقت الحاضر مستقلاً بما للكلمة من معنى، ويعيش في أمان وحرية من التدخلات الاستعمارية، ومثالنا الأخير ما يجري للمسلمين في

ص: 148

البوسنة والهرسك من مذابح وقتل جماعي وجميع الدول الإسلامية تنظر ولا تفعل شيئاً، إذ أن المسلمين يعيشون في تشتت وتفرقة، والأطفال والشيوخ والنساء في الهرسك يقتلون لأنهم مسلمون لا غير، ويشردون من بلادهم يوماً بعد يوم(1)، وترى اليهود يعيشون بأمان وليس لديهم شخص واحد مشرد، وهم يد واحدة على أعدائهم رغم ضلالهم وإلحادهم.

رسالة إلى عرفات

لقد وجهت رسالة إلى عرفات قبل (15) عاماً، وكان الغرض من رسالتي إلى عرفات أن ألفت نظره إلى مسألة مهمة، فقلت له: أنكم سوف لا تنتصرون في الوقت الحاضر على إسرائيل؛ لسببين:

السبب الأول: لاستخدامكم العنف.

السبب الثاني: لا تسمعون كلام اللّه.

فأما العنف فلأن الذي عندكم مما لا فائدة من ورائه، لأنكم كمن يملك سيفاً، وعدوه مجهز بأحدث العدد الحربية، وإنكم لو أردتم أن تأخذوا فلسطين بالسيف والعمليات العسكرية واغتيال الأعداء فهناك مقومات أخرى يلزم توفرها، وإلّا فلا تحصل النتيجة، هذا وإسرائيل قبل عشر سنوات كانت تصنع (60) صنفاً من السلاح، في الوقت الذي لم تكن بلاد المسلمين بأجمعها تصنع حتى (60) قطعة من السلاح، كما أن العنف الذي تتخذونه وسيلة لا يوصلكم إلى شيء، لأن العدو هو الآخر سوف يواجهكم بالعنف أيضاً، فإذا كان سلاحه أقوى ينتصر عليكم، ثم قلت له في جانب من الرسالة:

ص: 149


1- وذلك بين عام (1992م إلى 1995م) وراح ضحيتها أكثر من مئة ألف واغتصاب خمسين ألف امرأة إلى غير ذلك من الخسائر... .

علينا أن نتخذ نفس الأسلوب الذي اتبعه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في فتح مكة، فالنبي استطاع أن يدخلها بسلم ودون حرب ودون أن يخسر ضحايا، والأفضل أن يكون الأسلوب في أخذ الحقوق بالطرق المنطقية وأسلوب الضغط السياسي وما أشبه مما تأثيره أكثر، بعيداً عن العنف.

بين السلم والعنف

الإسلام دين السّلام، وما الحرب والمقاطعة وأساليب العنف فلا تكون إلّا وسائل اضطرارية تستخدم قليلاً وذلك في أشد حالات الضرورة القصوى على خلاف الأصول الإسلامية؛ قال تعالى: {ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(1). ولا يخفى أن السلام غير الاستسلام وهذا الذي يحصل بين العرب واليهود نوع من الاستسلام المصحوب بالذلة والهوان والتنازل عن الحقوق.

لذا فإن تحرك الفلسطينيين الاستراتيجي والعملي على الساحة الدولية، الخارجية أو الداخلية، يجب أن يتصف بالسلم ودقة التأثير، وهو من الأسس الحيوية التي يلزم أن تقوم عليها النضالات للحركة السياسية في يومنا هذا، فبدونه تكون الخسائر أكثر والنتائج أقل، وهذا الأمر يحتاج إلى ضبط الأعصاب، وإلى مقدرة نفسية توجب أن يعمل الإنسان بحزم وبأخلاق عالية حتى مع الأعداء، فالقائمون بالحركة يجب أن يتحلوا بالسلام في فكرهم، وفي قولهم، وفي كتاباتهم، وفي مواجهاتهم، حتى يتمكنوا من استرداد حقوقهم المغصوبة، وحتى عملية الإضرابات والمظاهرات لا بد أن تتصف باللين والمنطق وقوة التأثير؛ لأن المهم هو الهدف السامي واسترجاع الحقوق الضائعة، وليس الانتقام والحقد والبغضاء، فإن السلام - بمعناه الصحيح - هو الضمان الأكيد لبقاء المبدأ، هذا

ص: 150


1- سورة البقرة، الآية: 208.

من ناحية الأصل العملي في كل حركة، أما لو اضطرت الحركة بعد أن تستنفد كل ما لديها من أسس السلام، أن تواجه الأعداء بالمواجهة العسكرية، والجهاد في سبيل اللّه فلا بإشكال في ذلك بل هو من أقرب القربات إلى الباري عزّ وجلّ، ولكن مع توخي السلام المشرِّف في كل فرصة. قال سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}(1)

روح الانتفاضة

ثم إنه من الواجب على الفلسطينيين في هذه الفترة الزمنية من عملهم أن يحافظوا على روح الانتفاضة الفلسطينية ويلزم توجيه هذه الانتفاضة بحيث تكون ذات فوائد أسرع وأكثر، كالاستفادة من الإعلام والضغط الدولي والعمل الجذري المركز وما أشبه، وهذا لا يستدعي دائماً استخدام العنف كما يفعل اليهود بأبناء الشعب الفلسطيني من العنف.

وحدة الصف

والأمر الآخر للتحرك الفلسطيني بجانب السلم: هو وحدة التحرك، ووحدة الصف وعلى جميع الميادين، والإخلاص لأجل إنقاذ الوطن ونصرة أبناء الشعب الفلسطيني، دون الارتماء في حضن المستعمرين اليهود والأجانب، والذلة بالدخول في معاهدة خاسرة وباطلة.

وكذلك كانت السيرة النبوية وسيرة الأئمة الأطهار(عليهم السلام) مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسلام، كما ينقل لنا التاريخ من قصصهم وأعمالهم في فتح مكة، والعفو عن قريش بعد أن آذت الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً فدخلها بسلام ودون عنف، بل عفوه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أبي سفيان وهند ووحشي وغيرهم، مع كونهم كانوا رموزاً للحقد والعنف

ص: 151


1- سورة البقرة، الآية: 216.

والمؤامرة ضد الإسلام والمسلمين. بل حتى في حروب الرسول والأئمة(عليهم السلام) كان السلام شعاراً لهم، بل وواقعاً، لذا تراهم نجحوا وخلّدهم التأريخ، وانتشر الإسلام بفضلهم وببركة سياستهم الرشيدة وأخلاقياتهم الفاضلة، أما غيرهم كالأمويين والعباسيين والعثمانيين؛ فقد ذهبوا حيث لا يذكرهم أحد مطلقاً إلّا بسوء بسبب عنفهم، بينما قادة الإسلام الحقيقيون يذكرون بكل خير واحترام وحتى من قبل الأعداء أيضاً، ويعرفهم الناس بالسلام والعفو والصفح.

ملكنا فكان العفو منّا سجية *** ولما ملكتم سال بالدم أبطح

وأحللتم قتل الأسارى وإننا *** غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضح(1)

قال سبحانه: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}(2).

وعن ابن فضّال قال: سمعت أبا الحسن(عليه السلام) يقول: «ما التقت فئتان قط إلّا نصر أعظمهما عفواً»(3).

وفي رواية أنه شكى رجل إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من خدمه، فقال له: «أعفُ عنهم تستصلح به قلوبهم» فقال: يا رسول اللّه إنهم يتفاوتون في سوء الأدب،فقال: «أُعف عنهم»، ففعل(4).

ص: 152


1- انظر: وفيات الأعيان 2: 364، حيث يذكر: قال الشيخ نصر اللّه بن مجلي... رأيت في المنام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فقلت له: يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ثم يتم على ولدك الحسين(عليه السلام) يوم الطف ما تمّ فقال(عليه السلام): أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت: لا، فقال: اسمعها منه، ثم استيقظت فبادرت إلى دار حيص بيص (ابن الصيفي) فخرج إلي فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء وحلف باللّه إن كانت خرجت من فمي... وإن كنت نظمتها إلّا في ليلتي هذه، ثم أنشدني: ملكنا فكان العفو... .
2- سورة البقرة، الآية: 109.
3- الكافي 2: 108.
4- مستدرك الوسائل 9: 7.

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إنّا أهل بيت مروّتنا العفو عمّن ظلمنا»(1).

وقال(عليه السلام): «العفو عند المقدرة من سنن المرسلين والمتقين»(2).

لا تسمعون كلام اللّه

أما السبب الثاني: فإنكم(3) لم تعملوا بالقرآن، علماً إن فلسطين قد خلّصها الإسلام من أيدي الأعداء، لا العروبة، ثم أخذها اليهود من أهلها؛ لأن اليهود متحدون مع بعضهم البعض، يحترم بعضهم البعض الآخر، وهم أمة واحدة، مع أن الاتحاد والاحترام والأمة الواحدة هي كلها من توصيات القرآن الحكيم لنا، لكننا أعرضنا عنها فخسرنا الدنيا والآخرة.

فليس المسلمون اليوم أمة واحدة كما أراد القرآن العظيم، فما نراه في الواقع الخارجي شيء آخر لايطابق كتاب اللّه، فهذا عراقي وذاك باكستاني والآخر إيراني وهو بنغالي و...، فصرنا سبعين أمة وحصلت بيننا التفرقة.

وعلى أي حال، أنا أرسلت رسالتي إليه، لأقول له: إنكم سوف لا تحققون شيئاً على طريق النصر ما لم تتخذوا الإسلام والقرآن وتعاليمهما في الوحدة والأمة والأخوة والحرية واللاعنف منطلقاً لتحرككم، فإن حالكم سيكون كمن يريد أن يخطو إلى الأمام، وهو يعلم أنّه بعد خمس دقائق سوف يقع في البئر، وبالفعل سقط عرفات ومن قبله بعض الحكام في أحضان اليهود أو فخهم.

التفاوض بذلة

والآن قد حصل كل ذلك بعد أن لم يعملوا بما أشار عليهم الإسلام، فقد راح أُناس يعدون أنفسهم قادة لفلسطين، وهم أذلاء، لكي يقولوا للإسرائيليين: نعم

ص: 153


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 289.
2- بحار الأنوار 68: 423.
3- السبب الثاني مما ذكره الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في رسالته إلى ياسر عرفات في أوائل الثمانينات أو قبلها.

للتفاوض والصلح والاستسلام، ولا يخفى أن التفاوض يجري اليوم على قسم صغير جداً من الأرض الفلسطينية التي تسمى (بغزة وأريحا) ومساحتهما قليلة جداً بحيث لا تتسع لمليون فلسطيني في حين أن عدد الفلسطينيين أكثر من خمسة ملايين. وقد تنازلوا عن سائر الأراضي الفلسطينية للعدو الغاصب مقابل لاشيء!

أليست هذه هي الذلة بعينها؟

صفات اليهود

كان بعض اليهود في بغداد، وكانوا يحملون صفتين أشير إليهما لأبين ما يتعلق بالخطر الذي يأتينا منهم، ففي السابق كان الخطر اليهودي يكمن في:

1- السيطرة على التجارة، حيث أن اليهود أينما يحلون يأخذون مقاليد التجارة بأيديهم.

2- إشاعة الفساد الفحشاء، حيث أنهم يشيعون الفساد في البلدان التي يتواجدون فيها.

وسأذكر هنا قصتين حول الخطر اليهودي:

الخطر التجاري

لقد جاءني رجل في كربلاء قبل 45 أو 46 سنة، وقال لي: إني قد ارتكبت ذنباً كبيراً فماذا أعمل؟

قلت له: إن اللّه يقبل التوبة من عباده ويعفو عن الكثير واللّه غفار للذنوب ولا حاجة لبيان نوعية الذنب.

قال: لكن ذنبي أكبر حتى من هذا المعنى!

وأصر على أن يقول الذنب.

ص: 154

قال: إنني ارتكبت ذنباً دون أن أعلم بأنه ذنب، فقد كنت موظفاً في دائرة البريد والبرق والهاتف، وكان راتبي آنذاك (10) دنانير - وراتب عشرة دنانير كان يعد حينذاك مرتباً متوسطاً - وفي أحد الأيام جاءني تاجر يهودي وقال لي: هل أنت على استعداد إذا أعطيتك (10) دنانير شهرياً مضافاً إلى ما تستلمه على أن تعمل لي شيئاً أنت قادر عليه؟

فقلت له: وما ذلك العمل؟

فقال: هو أن تحوّل لي كل تلغراف يأتي من خارج العراق حول الأسعار، قبل أن يطلع على ذلك الخبر شخص غيري، على أن أحتفظ لنفسي بهذا الخبر يوماً كاملاً!

فقلت له: لا بأس في ذلك.

ثم قال لي: ولا تنس لو جاء تلغراف فأعلمني بذلك بسرعة!

فعملت مع هذا اليهودي بهذا الاتفاق عدة سنين، ثم عرفت الآن بأن عملي كان محرماً، حيث كان يتضرر المسلمون كثيراً بسبب ارتفاع الأسعار وانخفاضها.

إن هذا التلغراف لو كان يحمل ارتفاع قيمة السكر مثلاً، فإن اليهودي كان يعرف السعر الجديد قبل غيره، ثم يخبر أصدقائه فيقوموا بشراء السكر من الأسواق، ومن أغلب المحلات بالسعر القديم، وكنت بعد ذلك أقوم وأرسل البرقية إلى صاحبها الأصلي، فيفهم الناس أن السكر قد ارتفعت أسعاره بعد أن باعوا السكر بالسعر القديم المنخفض، ثم كان ذلك اليهودي وأصدقائه يبيعون السكر على السعر الجديد المرتفع، وهكذا لو كان التلغراف يشير إلى انخفاضسعر السكر - مثلاً - فإن اليهودي كان يخبر أصدقائه اليهود حتى يبيعوا السكر بالسعر المرتفع فلا يخسرون بذلك شيئاً. والنتيجة أن اليهودي، وفي بضع سنين

ص: 155

قد أضروا بالناس مئات الملايين من الدنانير.

الخطر الجنسي

والخطر الثاني، أن اليهود قد أشاعوا الفساد في البلاد ولازالوا كذلك، فهم لا يمانعون من اختلاط أبنائهم من الذكور والإناث، بل أنهم يبيحون ذلك السلوك، وهذه القصة التي يذكرها عبد الجبار أيوب في كتابه، يقول: حينما كنت مديراً لسجن الكوت، جاءت السلطات الأمنية ذات مرة بثلاثة أشخاص كانت جرائمهم - حسبما يبدو - خطيرة، بحيث أن الدولة قد أوصتنا أن نضعهم تحت المراقبة الشديدة، وبعد أيام دخل المديرية اثنان من تجار بغداد من اليهود، وبعد أن جلسا وتبادلا معي السلام، قالا: إن ثلاثة من الشباب قد أُدخلوا هذا السجن، وهم من العوائل المعروفة في بغداد، لذا نطلب أن تنقلهم من الكوت إلى بغداد، ونحن قد تحدثنا مع مدير سجن بغداد ولم يُبد أي مانع في ذلك. فأجبتهم بعدم الموافقة فألحوا عليّ بالأخلاق والمجاملة إلّا أنني لم أوافق، وبعد أسبوع جاء اليهوديان مرة ثانية، وقالا لي: ما هو رأيك لو نقلتهم إلى بغداد، ولا تكلف نفسك سوى كتابة جملة (لا مانع لدي)، أي ثلاث كلمات لا أكثر، وسندفع لك عن كل كلمة (100) مائة دينار، يعني مبلغ (300) دينار، وكان هذا المبلغ آنذاك يعد مبلغاً كبيراً مغرياً، لكن بالرغم من إصرارهما لم يحصلا على موافقتي أيضاً، وفي الأسبوع الثالث، جاءا مع ثلاث بنات ومن أجمل البنات، وألحوا عليّ كثيراً بالقبول فرفضت ثم عرضوا عليّ البنات فلم أقبل، وبقيت منشغلاً بعملي دون أن أبدي لهن أي اهتمام، فخرجوا يائسين إلّا أنهم حينما خرجوا قالوا لي يا فلان في المرة الأولى أتيناك بالأخلاق فلم ترضخ، وفي المرة الثانية بالمال فلم تقبل، وفيالمرة الثالثة بالجنس فرفضت، والآن استعد للبلاء ولم تمض إلّا أيام وإذا بي أرى قد نقلت من منصبي كمدير السجن إلى مكان آخر، وبعد ذلك سمعت بنقل

ص: 156

هؤلاء السجناء إلى بغداد.

المخدرات والإيدز

هذان طريقان كان اليهود يستخدمونهما من أجل تمشية أعمالهم سابقاً في سبيل سيطرتهم على البلاد والعباد، أما اليوم فقد استخدموا طريقين آخرين أيضاً، ومن المعروف في هذا العصر أن كبار تجار المواد المخدرة هم من اليهود، ومن الواضح أن المواد المخدرة هي من الأشياء الهدّامة لكيان الإنسان.

والشكل الثاني الجديد، هو الإيدز، حيث يقوم اليهود عن طريق التحلل الأخلاقي الذي يشيعونه، وعن طرق أخرى بنشر مرض الإيدز الذي هو أخطر من مرض السرطان، ففي ذات مرة سمعت بموت أحد الأشخاص الذين كنت أعرفهم وعندما استفسرت عن سبب موته، قيل لي أنه أصيب بمرض الإيدز، فقلت: إنه كان مؤمناً لا يرتكب الفساد، فقيل لي: صحيح هذا، إلّا أنه ذهب إلى إحدى الدول العربية وتزوج هناك من امرأة كانت مصابة بالإيدز، فانتقل إليه المرض عن طريق العدوى ثم قالوا: أنه بعد أن أصيب بالمرض شُلت يده اليسرى أولاً، وبعد أن ذهب إلى الطبيب قال له: لا ينفعك أي دواء أبداً، ثم أصيبت يده اليمنى بالشلل، وبعدها رجله اليسرى ثم اليمنى ولم يمهله المرض أكثر من شهرين، فمات بعد ذلك.

كما أصيب شخص آخر من الشباب المتدين بهذا المرض وذلك عبر الدم، حيث احتاج جسمه الى الدم فكان الدم الذي أعطوه ملوثاً بالإيدز فمات من ذلك.

واليهود يقومون اليوم بنشر هذا المرض في العديد من البلدان الإسلامية مثلمصر...، إن اليهود كانوا يستخدمون سلاحين ضد الإنسانية سابقاً، وذلك لإحكام قبضتهم على التجارة وإشاعة الفساد، واليوم تراهم قد أضافوا إلى أسلحتهم

ص: 157

السابقة سلاحين آخرين هما: ترويج المخدرات ونشر مرض الإيدز.

الصلح مع عرفات

إن هذا الصلح الذي أبرموه مؤخراً مع ياسر عرفات هو أخطر من طاعون الإيدز، فإنه سيثبت كيانهم ويفسح لهم المجال للانتشار بين المسلمين ونشر مفاسدهم في البلاد الإسلامية أكثر، واليهود لا يوقفون أعمالهم الإجرامية هذه على مكان معين، بل هم يخططون لكل العالم، لذا فإن خطرهم كبير، ومضرتهم بالغة جداً، فمن الأعمال الضرورية جداً، والتي تجب المبادرة إليها: الوقاية العاجلة من أخطار هؤلاء، وإلّا فقد يأتي يوم - لا سامح اللّه - فنرى أن تجارة أغلب المدن الإسلامية أصبحت تحت قبضة اليهود، وخطر ذلك على المسلمين واضح جداً، لأنّهم لو استولوا على تجارة السوق، فإن التاجر المسلم الذي كان يملك الملايين يصبح كالفقير فلا يتمكن من إسناد المشاريع الإسلامية ولا يدفع الحقوق الشرعية، والذي به تدار كثير من مشاريع المسلمين، وهذا يوجب عرقلة أو إيقاف تلك المشاريع الدينية، فاليوم لو التهمت النار بيت الجار، فغداً ستلتهم النار بيتنا وبيتكم وبيوت الجميع أيضاً، فنحن مكلفون بتوعية المسلمين وايقاضهم من سباتهم وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1).

كيفية تنبيه المسلمين

وتنبيه المسلمين يتم عبر إيضاح هذه المواضيع والتفكير فيها، إذ على المبلغين والمفكرين الإسلاميين كشف المخططات والمؤامرات والأساليب التييستخدمها اليهود بين أبناء الشعب المسلم أجمع وفضحهم.

وبعد ذلك يلزم التعاون بين جميع طبقات المسلمين من أصغر مستخدم في

ص: 158


1- سورة الحجرات، الآية: 10.

البلاد الإسلامية إلى الحاكم المسلم نفسه، في عدم إيجاد فرصة تأثير اليهود والأعداء على بلداننا الإسلامية؛ فكرياً وسياسياً واقتصادياً للمسلمين فإنه مضر بالمسلمين دون ريب، ولا يمكن تمييز ألاعيب اليهود إلّا من خلال الوعي والاكتفاء الذاتي والوحدة الإسلامية والتعاون المستمر والعمل بقوانين الإسلام والقرآن الكريم. بحيث لا يبقى لهم أي مجال للتدخل في سوق المسلمين أو في تفكيرهم أو في عواطفهم، وإذا لم نعمل بهذه النصائح المذكورة فسوف يأتي يوم نرى فيه أنهم قد سيطروا حتى على عقولنا - والعياذ باللّه - .

وأيضاً يجب علينا أن نميز بين الخيّر والشرير، ولا ننقاد مع العاطفة المجردة من دون تعقل وتفكر، وعلينا أن نعرف السيئ قبل أن تصلنا اساءته، مثلما حدث لبعض الناس في العراق إذ تصوروا الخير في مثل صدام، إلى أن انكشفت بعد ذلك لهم عوراته ومساويه، ولكن لم يحصل ذلك للأسف الشديد إلّا بعد أن قتل أبناء الشعب العراقي وشردهم، وبعدما وصل إجرامه صواريخه وسقطت على المدن المقدسة.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا يؤنسنّك إلّا الحق ولا يوحشنّك إلّا الباطل»(1).

نسأل اللّه، أن يخيب آمال اليهود لكي لا يصلوا إلى ما يطمحون إليه بتنفيذ مطامعهم وأن ينصر الإسلام والمسلمين على أعدائهم إنه سميع مجيب.

«اللّهم صل على محمد وآله واجعلني يداً على من ظلمني، ولساناً على منخاصمني، وظفراً بمن عاندني، وهب لي مكراً على من كايدني، وقدرة على من اضطهدني، وتكذيباً لمن قصبني، وسلامة ممن توعدني، ووفقني لطاعة من

ص: 159


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 752.

سددني، ومتابعة من أرشدني»(1).

من هدي القرآن الكريم

اللاعنف أنجح الحلول

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(2).

وقال سبحانه: {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(4).

وقال تعالى: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}(5).

من صفات القائد العفو والصفح

قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(6).

وقال سبحانه: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}(8).

وقال جلّ وعلا: {وَجَزَٰؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}(9).

ص: 160


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة البقرة، الآية: 208.
3- سورة النحل، الآية: 125.
4- سورة العنكبوت، الآية: 46.
5- سورة النساء، الآية: 5.
6- سورة الأعراف، الآية: 199.
7- سورة الحجر، الآية: 85.
8- سورة البقرة، الآية: 109.
9- سورة الشورى، الآية: 40.
الفُرقة وآثار السلبية

قال تعالى: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ}(3).

طاعة اللّه شرط التقدم

قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(6).

وقال عزّ من قائل: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّۧنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

اللاعنف أنجح الحلول

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تَغضبوا ولا تُغضبوا أفشوا السلام وأطيبوا

ص: 161


1- سورة الأنفال، الآية: 46.
2- سورة آل عمران، الآية: 105.
3- سورة القصص، الآية: 4.
4- سورة النور، الآية: 52.
5- سورة الفتح، الآية: 17.
6- سورة الأحزاب، الآية: 71.
7- سورة النساء، الآية: 69.

الكلام»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من حسن كلامه كان النجح أمامه»(2).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس»(3).

من صفات القائد

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) للاشتر لما ولاه مصر: «ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق... فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه...»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أُتي باليهودية التي سمّت الشاة للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لها ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت إن كان نبياً لم يضره وإن كان ملكاً أرحت الناس منه، قال: فعفا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنها»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليكم بالعفو فإن العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً فتعافوا يعزكم اللّه»(6).

الفرقة وآثارها السلبية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجماعة رحمة والفُرقة عذاب»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وإني واللّه لأظن أن هؤلاء القوم - أصحاب

ص: 162


1- الكافي 2: 645.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 619.
3- الكافي 2: 120.
4- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53، من كتاب له(عليه السلام) للأشتر النخعي لما ولّاه مصر.
5- الكافي 2: 108.
6- الكافي 2: 108.
7- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 27.

معاوية - سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم،وتفرقكم عن حقكم»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزموا الجماعة واجتنبوا الفُرقة»(2).

العز في طاعة اللّه وتقواه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أراد أن يكون أعز الناس فليتق اللّه عزّ وجلّ»(3).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا طلبت العز فاطلبه بالطاعة»(4).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ولا عزّ أعز من التقوى»(5).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أراد عزاً بلا عشيرة... فلينقل عن ذل معصية اللّه إلى عزّ طاعته...»(6).

ص: 163


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 25، من خطبة له(عليه السلام) وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.
3- كنز الفوائد 1: 351.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 285.
5- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 371.
6- الخصال 1: 169.

تحديد النسل فكرة غربية

الإسلام والتكاثر

قال اللّه تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1).

من المسائل المهمة التي وقف الإسلام بوجهها هي مسألة تحديد النسل وقتل الأولاد ورفض الحالة التي كانت في زمن الجاهلية من وأد للبنات، وكما جاء في الآية الكريمة المتقدمة أن لا تقتلوا أولادكم خوفاً من الفقر(2) فإن رزقكم ورزقهم على اللّه تعالى(3).

ومن هنا جاءت سنّة اللّه تعالى في جميع الأديان ومنذ بدء الخليقة إلى يوم القيامة على تشجيع الزواج والتناسل والتكاثر، وبهذا الصدد أوضح الإسلام على لسان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تناكحوا تناسلوا، تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة، ولو بالسقط»(4).

ص: 164


1- سورة الأنعام، الآية: 151.
2- جاء في معنى الإملاق: خشية الفقر والحاجة، انظر: لسان العرب 10: 348 مادة (ملق).
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 191.
4- جامع الأخبار: 101.

تحديد النسل فكرة غربية

اشارة

والآن إذ يسعى الغربيون لأجل القضاء على الإسلام بمختلف الوسائل، ومنها اتباع محاولة تقليل عدد المسلمين وبالنتيجة يقل معهم عدد المؤمنين الرساليين في البلاد الإسلامية، إضافة إلى أن قلة عدد الأطفال في داخل الأسرة يوافقه تقليل المسؤولية الأسرية الذي قد يؤدي بدوره إلى افساح المجال أمام العائلة للانصراف إلى وسائل الفساد والإفساد، ولذا فإنهم يتوسلون بالمكر والحيلة والخداع لتضليل البسطاء ليتقبلوا هذه المفاهيم المضلة.

من هذه الأساليب ما يتعلق بتحديد النسل وادعاءات هؤلاء الذين ينساقون وراء ذلك أن العالم يشهد زيادة سكانية هائلة، ومن الممكن أن يتعرض الناس إلى أزمة غذائية عالمية خطيرة نتيجة لما أسموه ب(الانفجار السكاني)، حتى أن هذه الأفكار أخذت محلها في أذهان بعض المسلمين إلى درجة أن أحد المختصين راح يتحدث عبر الإذاعة عن تشجيع الإسلام لتحديد النسل وأغرب من ذلك أنه كان يستدل بالآية الشريفة: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(1).

وقد جاء في تفسير الآية عن مجمع البيان للطبرسي(رحمه اللّه) قوله:

{وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ} يعني الجارية المدفونة حياً وكانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت على رأسها فإن ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وإن ولدت غلاماً حبسته... ومعنى قوله {بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ} أن الموؤدة تسأل فيقال لها بأي ذنب قتلت ومعنى سؤالها توبيخ قاتلها...(2).

ص: 165


1- سورة التكوير: 8-9.
2- تفسير مجمع البيان 10: 277.
ترويج الفكر الغربي

واللّه تعالى يقول لا تقتلوا أولادكم خشية الفقر كما نقلنا ذلك، ويأتي البعضويقول: إن هذه الآية توحي بتحديد إنجاب الأطفال لأن زيادتهم تتطلب وقتاً كثيراً من الأب والأم لرعايتهم، والآباء بدورهم ونتيجة لتشعب مشاغل الحياة لا يملكون وقتاً كافياً لذلك، بما سيحرم الطفل من التربية الصحيحة ولربما يجعله عنصراً شريراً في المجتمع، وهذا هو أخطر من قتل النفس، وأن الآباء سيسألون عن ذلك يوم القيامة، وهكذا يحمِّلون الأدلة الشرعية آراءهم ومعتقداتهم الشخصية بما لا يرتضيها الإسلام، كما أن هناك العديد في البلاد الإسلامية ممن يعتقدون بصحة هذه الآراء، ويقولون بما أن المصادر الغذائية اللازمة لإدامة الحياة هي غير كافية مقابل الزيادة السكانية الطارئة في هذا العصر، لذا لا بد من اتباع حل عاجل لذلك والحل يكمن في تحديد النسل.

مشاكل المسلمين

المشاكل التي تعترض طريق تقدم البلاد الإسلامية بما فيها المشاكل السياسية والاقتصادية وأزمات الغذاء والسكن. ليست ناتجة عن قلة في الثروات أو زيادة السكان وما إلى ذلك، بل يرجع الكثير منها - إذا لم تكن جميعها - إلى استبداد الحكومات الفاسدة المفسدة والأساليب الديكتاتورية إلى تمارسها تجاه الشعوب، فهذه الأساليب من الطبيعي أن تقود إلى أزمات ومشاكل حادة تؤدي بحياة الشعب، فيأتي البعض ليعالج النتيجة دون الالتفات إلى السبب مختلقاً الحجج والتبريرات التي لا تصمد أمام الواقع.

وللإجابة على التبرير الذي اختاره هؤلاء نقول لهم: أرجعوا الحريات الإسلامية المسلوبة إلى الناس أولاً حتى يتمكن الناس في ظل الحرية من تهيئة مستلزمات السكن والعمل بسهولة حينذاك فإن الآباء يستطيعون تربية أطفالهم

ص: 166

- مهما كثروا - تربية صحيحة. هيئوا للأب الوقت اللازم والفرصة حتى يقوم بواجبه في التربية، حيث إن بعض الآباء يقضون أوقاتهم سعياً وراء متطلباتالحياة فيذهب الأب ليراجع هذه الدائرة أو تلك كل يوم لأخذ الرخصة - مثلاً - لإنشاء دار للسكن أو للحصول على العمل أو للحصول على جواز السفر أو الجنسية أو غير ذلك، مما يستهلك جهده ووقته في أمور جانبية، وقد يضطره ذلك إلى دفع الرشوة أحياناً، فمن الطبيعي أن إنساناً كهذا لا يستطيع تربية أطفاله أكثر - التربية المطلوبة - إضافة الى ذلك فإن الضرائب الثقيلة التي تجبى من الناس تجرهم أحياناً بالقوة الى الفقر.

ومَثل دعوى هؤلاء كمثل قول الشاعر:

القاه في اليمّ مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتلّ بالماء

نعم، فإن الحكومات تعمد إلى أن توثق أيدي الناس ثم تتهمهم بعدم القدرة على تربية أولادهم.

وإن إشكالهم هذا يرد كذلك في مسألة تعدد الزوجات بحجة أن الرجل لا يقدر أن يعدل بين الزوجتين، وقد نسي القائلون بهذا حرمان الناس من حرياتهم وعدم توطيد السبل الكفيلة بتذليل مشاكل الزواج حتى بقي الملايين من الشباب ذكوراً وإناثاً بعيدين عن الزواج، مما قد يضطرهم إلى الانحراف الجنسي أو الأمراض النفسية وغيرها من الأعمال المنكرة.

الإسلام والزواج المبكر

لمّا كانت زيادة النفوس من أهم عوامل القوة، حيث تشكل الطاقة البشرية قدرة كبيرة للشعوب في البناء والعمران والمحافظة على الاستقلال، لذلك نرى حرص النظام الإسلامي واضحاً في تشجيع زيادة النسل. وتتضح نظرة الإسلام هذه من خلال حثه على الزواج المبكر وتقليل كلفته وهذه النظرة واضحة من خلال:

ص: 167

أولاً: تشجيع الإسلام على الزواج والإنجاب والتكاثر، إذ يقول الرسولالأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة...»(1) وامتدح المرأة الولود، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خير نساءكم الولود الودود»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تزوجوا بكراً ولوداً، ولا تزوجوا حسناء جميلة عاقراً فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة»(3) هذا أولاً.

ثانياً: حبّذ الإسلام على الزواج المبكر وذلك في فترة البلوغ الشرعي للبنين والبنات، فقد جاء عن بريد الكناسي قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام) متى يجوز للأب أن يزوج ابنته ولا يستأمرها؟

قال(عليه السلام): «إذا جازت تسع سنين، فإن زوجها قبل بلوغ التسع سنين كان الخيار لها إذا بلغت تسع سنين» قلت: فإن زوجها أبوها ولم تبلغ تسع سنين فبلغها ذلك فسكتت ولم تأب ذلك أيجوز عليها؟

قال(عليه السلام): «ليس يجوز عليها رضى في نفسها ولا يجوز لها تأب ولا سخط في نفسها حتى تستكمل تسع سنين، وإذا بلغت تسع سنين جاز لها القول في نفسها بالرضا والتأبي وجاز عليها بعد ذلك وإن لم تكن أدركت مدرك النساء». قلت: أفتقام عليها الحدود وتؤخذ بها وهي في تلك الحال وإنما لها تسع سنين ولم تدرك مدرك النساء في الحيض؟

قال(عليه السلام): «نعم، إذا دخلت على زوجها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالها وأقيمت الحدود التامة عليها ولها».

قلت: فالغلام يجري في ذلك مجرى الجارية؟

ص: 168


1- من لا يحضره الفقيه 3: 383.
2- الكافي 5: 324.
3- الكافي 5: 333.

فقال(عليه السلام): «يا أبا خالد إن الغلام إذا زوجه أبوه ولم يدرك كان بالخيار إذا أدرك وبلغ خمس عشرة سنة، أو يُشعر في وجهه أو ينبت في عانته قبل ذلك». قلت: فإن أدخلت عليه امرأته قبل أن يدرك فمكث معها ما شاء اللّه ثم أدرك بعد فكرهها وتأباها؟

قال(عليه السلام): «إذا كان أبوه الذي زوجه ودخل بها ولذّ منها وأقام معها سنة فلا خيار له إذا أدرك ولا ينبغي له أن يرد على أبيه ما صنع ولا يحل له ذلك»، قلت: فإن زوجه أبوه ودخل بها وهو غير مدرك أتقام عليه الحدود وهو في تلك الحال؟

قال(عليه السلام): «أما الحدود الكاملة التي يؤخذ بها الرجل فلا، ولكن يجلد في الحدود كلها على قدر مبلغ سنّه، يؤخذ بذلك ما بينه وبين خمس عشرة سنة ولا تبطل حدود اللّه في خلقه، ولا تبطل حقوق المسلمين في ما بينهم».

قلت له: جعلت فداك فإن طلقها في تلك الحال ولم يكن قد أدرك أيجوز طلاقه؟

فقال(عليه السلام): «إذا كان قد مسها في الفرج فإن طلاقها جائز عليها وعليه وإن لم يمسها في الفرج ولم يلذ منها ولم تلذ منه فإنها تعزل عنه وتصير إلى أهلها فلا يراها ولا تقربه حتى يدرك فيسأل ويقال له إنك كنت قد طلقت امرأتك فلانة، فإن هو أقر بذلك وأجاز الطلاق كانت تطليقة بائنة، وكان خاطباً من الخطاب...»(1).

وجاء عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «من سعادة المرء أن لا تطمث ابنته في بيته»(2).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «ما من شاب تزوج في

ص: 169


1- وسائل الشيعة 20: 278.
2- الكافي 5: 336.

حداثة سنه إلّا عج شيطانه: يا ويله يا ويله عصم مني ثلثي دينه، فليتق اللّه العبد في الثلث الباقي»(1).

وشجع العزاب على الزواج المبكر فقال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شراركم عزّابكم والعزاب إخوان الشياطين»(2).

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوج...»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً: «من ترك التزويج مخافة الفقر فقد أساء الظن باللّه عزّ وجلّ إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}»(4)(5).

ثالثاً: رفع الإسلام القيود التي وضعت على الزواج، فحث على المهر القليل وحبّذ مساعدة المؤمن الفقير إذا طلب التزويج فيقول تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(6).

حتى إن بعض العلماء يحرم رد المؤمن القادر على النفقة؛ فالعلامة الحلي(رحمه اللّه) يقول: ويجب إجابة المؤمن القادر على النفقة(7).

رابعاً: يستحب في الإسلام التزويج بأكثر من واحدة إلى أربع زوجات إذااستطاع الزوج أن يعدل بينهن، فقد تمرض المرأة أو تصبح مسنّة عند ذلك لا

ص: 170


1- النوادر للراوندي: 12.
2- جامع الأخبار: 102.
3- المقنعة: 497.
4- سورة النور، الآية: 32.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 385.
6- سورة النور، الآية: 32.
7- انظر: تبصرة المتعلمين: 179.

تتمكن من الإنجاب، سيما وإن المرأة غالباً ما يتوقف إنجابها بعد سن الأربعين بينما الرجل فإنه قد يستمر إلى ما بعد سن الخمسين ففي هذه الحالات نجد أن استمرار النسل مرتبط بإباحة الزواج من أخرى.

السبب الحقيقي لتحديد النسل؟

هناك من يقول بتحديد النسل ومنع زيادته!

إن أولئك الذين يطرحون هذه الاعتقادات هم في الحقيقة يروجون أفكار الاستعمار لكي يتجنبوا الرجحان العددي للمسلمين، ويتجنبوا مجيء مولود من المسلمين لربما سيقلب الدنيا رأساً على عقب فيكون المولود - مثلاً - كإبن سينا والشيخ الطوسي والخواجة نصير الدين الطوسي والمحقق الحلي والعلامة المجلسي والبهائي.

وفي الحقيقة إن وراء هذه الأفكار المخططات الغربية أولاً. وثانياً: جهل حكام البلاد الإسلامية.

فالقضية لا تكمن في تحديد النسل، ولا في الحد من تعدد الزوجات، بل المشكلة تكمن في موضوع آخر، لقد قرأت في أحد المقالات أن أراضي السودان لو زرعت باستثمار أموال الكويت لكانت هي لوحدها تكفي لكي تكوّن البلاد العربية، والتي تعدادها (210) مليون نسمة(1) في حالة اكتفاء ذاتي في الجانب الغذائي.

يعني لو أن أرض السودان زرعت بكاملها وكانت تكاليف زراعتها هي من الأرباح التي تحصل عليها الكويت فإن الدول العربية ستسجل اكتفاءً ذاتياً فيمجال الزراعة.

ص: 171


1- ذكرت بعض الإحصائيات أن البلاد العربية وصل تعداد سكانها إلى ما يزيد على (450 مليون) نسمة.

ولن يحتاجوا إلى استيراد ملايين الأطنان من الحنطة والرز وأمثال ذلك. لكن هل يسمح الغربيون بهذا؟ طبعاً لا، فهم أولاً جعلوا من السودان بلداً فقيراً. ثانياً: إن معظم أرضه صارت عرضةً للجفاف والتصحّر، وثالثاً: إن ثروة الكويت المالية وضعت لصالح منفعة الغربيين وأصحاب رؤوس الأموال بطريقة وأخرى، ورابعاً: جعل الاستعمار من البلاد الإسلامية سوقاً لتصريف منتجاته. هذا هو واقع ما يريده الاستعمار وسيبقى دوماً ينشّط فعاليته ودسائسه ومؤامراته ضد المسلمين.

كما أن عملاءهم يُدخلون إلى أذهان الناس ما يريد أن يتكلمه الغربيون ويوجهون أنظار المسلمين إلى ذلك.

يذكر أحد الكتاب المصريين في أحد كتبه: إن مصر ليست لها القدرة على توفير الغذاء لأكثر من أربعين مليون نسمة لذا لا بد من سنّ قانون يحدد بمقتضاه النسل! ويضيف الكاتب قائلاً: علماً أن حكومة مصر قادرة على تأمين غذاء عشرة ملايين نسمة من طريق الثروة السمكية فقط في ما إذا أعدت برنامجاً متكاملاً للصيد والتربية. إلّا أنها عملت خلاف ذلك؛ فلماذا لا يعطي حكام مصر إلى هذه المسألة أية أهمية؟

تحديد النسل والهجرة اليهودية

تنشر بعض وسائل الإعلام إن إسرائيل تشجع كثيراً على تعدد الزوجات وزيادة نسبة الولادات، ونحن نرى الجهود الكبيرة والعمل المضني والمستمر الذي قامت - وتقوم - به إسرائيل والمنظمات اليهودية لفسح المجال أمام الهجرة اليهودية من كل أنحاء العالم إلى أرض فلسطين الإسلامية من أجل جمع اليهود واستغلال القدرة البشرية لهم.

الصهاينة قاموا بدور كبير وبذلوا جهوداً وأموالاً كثيرة من أجل ممارسة الضغوط على الحكومات المختلفة في أغلب بلدان العالم التي تسكنها أقليات

ص: 172

يهودية؛ ومن هذه الدول دول إسلامية. وكانت هجرة اليهود مستمرة، حتى أن الحكومات أحياناً كانت تضطر إلى التهجير القسري لليهود من بلدانهم إلى فلسطين، وحاولوا بشتى الوسائل إسكانهم وتوفير مستلزمات العمل لهم رغم صغر الرقعة الجغرافية التي تمثلها إسرائيل قياساً بأراضي البلدان الإسلامية.

لم نر محاولات في الدول الإسلامية - على اختلاف أنظمتها وعقائدها السياسية - كمحاولات إسرائيل لاستقطاب اليهود من كل العالم.

فإسرائيل دائماً تحاول تجميع المزيد من اليهود في الأراضي الفلسطينية ولم يقولوا في يوم ما إنهم لا يمكنهم استيعاب المزيد من المهاجرين اليهود أو إنهم يمرون بأزمات غذائية وأن عليهم تقليل عدد السكان نتيجة لهذه الأزمات التي يمرون بها، بينما نحن وبرغم من سعة أراضينا وكثرة خيراتنا ندعي ذلك!!

تحطيم القدرة البشرية

وخلافاً لما تقوم به إسرائيل من بناء واستغلال للعامل البشري نرى أن حكومات بعض البلدان الإسلامية، بكل أراضيها الشاسعة المتروكة، وبكل مواردها الاقتصادية الضخمة غير المستغلة؛ تطالب شعوبها وباستمرار بتحديد النسل وتحذر من مخاطر الانفجار السكاني والأزمة الغذائية المحلية والعالمية، بل إن هذه الحكومات غالباً ما تبرر المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها البلد بأنها نتيجة العبء الذي يشكّله المهاجرون والوافدون من البلاد الإسلامية الأخرى والتي لا تشكل في أكثر حالاتها نسبة تتراوح بين (10-20) بالمائة(1)وربما أقل من ذلك بكثير من نسبة السكان الأصليين للبلد وبدلاً من أن تستغل هذه الطاقات البشرية والإمكانات الثقافية والعلمية والتقنية وتوظف في خدمة

ص: 173


1- نقلاً عن أحد المسؤولين في احدى الدول العربية.

الإسلام والمسلمين بتوجيهها الوجهة الصحيحة، نرى أن حكام البلاد الإسلامية يبرزونها بأنها أم المشاكل.

نحن لم نسمع بأن الكثرة السكانية في البلاد الإسلامية في الأزمنة السابقة كانت تخلق أزمات أو اختلافات اقتصادية للمجتمع بالرغم من بدائية وسائل العمل والإنتاج، بل كان للعامل البشري دوره المهم في تقوية الجوانب المادية والمعنوية لنهوض المجتمع وازدهاره وسيادته.

لذا فإن بعض المتحمسين لضرورة تحديد النسل إما أن يكونوا مغفلين أو أنهم وظفوا أنفسهم لخدمة الشرق والغرب وتبرير المشاكل والمتاعب التي يسببها هؤلاء للإنسانية بصورة عامة وللبلاد الإسلامية بشكل أخص.

الخالق يتكفل الرزق

قال سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: {وَمَا مِن دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}(1).

وفي آية أخرى: {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٖ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ}(2).

فنحن كمسلمين لدينا كامل الاطمئنان من أنه تعالى عندما يخلق الخلق يهيئ له مستلزمات المعيشة والبقاء، وفي الآيتين المتقدمتين يؤكد سبحانه وتعالى أنه تكفّل برزق كل المخلوقات صغيرها وكبيرها، فلا يخالجنا أي قلق يتعلق بقلة الموارد نسبة إلى زيادة عدد السكان، يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لكل ذيرمق قوت»(3).

ص: 174


1- سورة هود، الآية: 6.
2- سورة العنكبوت، الآية: 60.
3- الكافي 8: 23.

ويقول(عليه السلام) في خطبة له: «انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر... مكفول برزقها، مرزوقة بِوِفْقها(1)، لا يغفلها المنان ولا يحرمها الديان، ولو في الصفا اليابس(2)،

والحجر الجامس»(3).

وفي خطبة أخرى يقول(عليه السلام): «عياله الخلائق ضمن أرزاقهم وقدر أقواتهم»(4).

شاهد صغير

يروي أحد الفضلاء أنه في أحد الأيام وبعد جمع محصول القمح كان يتأمل في صبرة(5) القمح فرأى النحل يقترب من الصبرة فيلتقط حبة القمح ثم يترك الصبرة وبعد لحظة يأتي مرة أخرى فيلتقط حبة أخرى ويغادر الصبرة.

ولأن هذه العملية تكررت أمامه لفتتت انتباهه وبدافع من حب الاستطلاع قام بمراقبة النحل ليرى سر هذا الأمر وعندما طار النحل من الصبرة تابعه مراقباً له فرآه يقترب من قبّرة(6) عمياء تفتح منقارها فيضع النحل الحبة فيه لتأكله هذه القبرة، وهكذا كان الزنبور يكرر إطعامها.

حتى هذه القبرة العمياء تكفل اللّه سبحانه وتعالى برزقها وإطعامها وسخر لها كائناً ليس من جنسها لاشباعها! فهل يخلق الرزاق الكريم سبحانه عباده بنيالبشر دون أن يقدر معهم ما يصلحهم وما تتقوّم به حياتهم ومعيشتهم؟ تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

ص: 175


1- بِوِفْقها: أي بما يوافقها من الرزق ويلائم طبعها.
2- الصَفا: الحجر الأملس لا شقوق فيه، والجامس: الجامد.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 185، من خطبة له(عليه السلام) يحمد اللّه فيها ويشفي على رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويصف خلقاً من الحيوان.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 91، من خطبة له(عليه السلام) تعرف بخطبة الأشباح.
5- الصبرة هي الكومة من الحنطة المجتمعة في مكان واحد.
6- القبّرة: ضرب من الطير.
لا أزمة غذائية

صحيح أن هناك في بعض بقاع العالم من يتضورون جوعاً وفقراً ولكن مقابل أولئك كم هي البطون المتخمة في بقاع أخرى؟

نسمع كثيراً أن البلدان المصدرة للحبوب والمنتجات الغذائية تلجأ بين آونة وأخرى إلى إلقاء آلاف الأطنان من المحاصيل والحبوب في البحر أو تتلفها بأساليب أخرى، لتلافي هبوط أسعارها، وتعمل بهذا الاتجاه لرفع أسعارها على المستوردين والمستهلكين، لتحقيق الأرباح التجارية الطائلة عبر طرق لا أخلاقية ولا إنسانية إطلاقاً، حتى إن بعض الإحصائيات تؤكد أن ما يتلف ويحتكر من الحبوب لرفع الأسعار يسد النقص الغذائي الحاصل في كثير من الدول الافريقية. إذن فليس الخلل في نقص الثروات أو قلة الإنتاج. بل في سوء التوزيع وما يقوم به الأقوياء من افتراس للضعفاء، أو ما يمارسونه من ضغوط لإبقاء الملايين تعيش في فقر مدقع، ليصدروا لهم أسلحة الدمار والمخدرات بأثمان باهظة خيالية.

الخلل في الحكومات

بعض الإحصائيات تشير إلى أن القوى الكبيرة ارسلت إلى العالم الثالث من عام (1981- 1989م) (27 ألف) صاروخ أرض - جو و(20 ألف) مدفع و(11 ألف) دبابة و(3200) طائرة حربية و(540) باخرة حربية، وبلغ مجموع واردات هذه الدول من مبيعات الأسلحة في عام واحد (3500) مليار دولار، وأن أوربا وحدها تصرف على اليهود (100) مليار دولار سنوياً.

هذه المبالغ الضخمة لو استغلت استغلالاً صحيحاً ووجهت في الوجهة التيتخدم البشرية هل كان سيبقى بؤس وفقر في هذا العالم؟

وهل كانت الحكومات تسعى جاهدة للترويج لتحديد النسل بهذه الأعذار

ص: 176

الواهية؟ من الطبيعي إذا كانت غالبية الواردات والأموال تذهب إلى جيوب الحكام وخزانات القوى الكبرى ويدس الحاكم أنفه في كل صغيرة وكبيرة، ويحدد الأعمال والتصرفات البسيطة، ويرسم حدود المساحة التي يتحرك ضمنها المواطن، بل ويحدد حتى عدد الغرف في المسكن، ونوع البناء، فحتماً - والحالة كهذه - ستعيش الشعوب حالة من الفقر واللّهاث وراء لقمة العيش وسط هذه المشاكل التي زجّها حكام الجور والسلاطين المستبدون، الذين لا يهمهم سوى خدمة أسيادهم، وإرضاء غرورهم وطموحاتهم مهما كانت التضحيات، وهم على أتم الاستعداد لاختلاق شتى الحجج والتبريرات لتمرير مخططاتهم.

المثل السيئ للقمع

ذكر أن معاوية بن أبي سفيان عندما أراد أن يأخذ البيعة من الناس لابنه يزيد. أصدر أمراً بأن يتهيأ عدد من الجنود ليقف كل واحد منهم على رأس أحد المستمعين لخطابه. وأمرهم إذا رأوا أحداً من المستمعين اعترض عليهم فلهم الحق أن يضربوا عنقه بالسيف.

وفي نفس اليوم قال معاوية لأحد الخطباء: اصعد المنبر وتحدث عن التأييد لبيعة يزيد.

هذا الخطيب كان خبيثاً ماكراً فصعد المنبر وقال ثلاث جمل فقط، أوجز فيها ولبى غرض معاوية فقال:

هذا أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية.

فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد.

ومن أبى فهذا وأشار إلى السيف.

ص: 177

فقال له معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء(1).

سياسة التبرير

في أيام عبد الكريم قاسم وبسبب سنّ قانون إصلاح الأراضي الذي شرّع لخدمة منافع الغرب في العراق، حدث نقص كبير في المواد الغذائية، ومن جملة تلك المواد التي صار من الصعب الحصول عليها البيض، حيث صار يباع في المحلات بالبطاقة ونقاسي في سبيل الحصول عليه الكثير من المعاناة، فذهب شخص إلى عبد الكريم قاسم وقال له: إنك قد دمرت الزراعة والثروة الحيوانية بإصلاحك الزراعي هذا، وخير دليل على ذلك أن كل المواد الغذائية ومنها البيض أصابها نقص شديد، إلّا أن عبد الكريم قاسم - ولكي لا توجّه ضربة إلى ما يسمى بإصلاحاته - تجاهل ذلك النقص الحاصل بالمواد الغذائية الأولية وأجابه قائلاً: إن الأمر على عكس ما تدعي فمنذ أن أُعلن قانون إصلاح الأراضي في العراق فإن الناس أخذوا يشترون المواد الغذائية أضعاف ما كانوا يشترونه في السابق، وهم لا يزالون كذلك. وإن البيض من جملة تلك المواد التي صاروا يشترونها بكثرة، وإن نقص البيض الذي تدعيه قد جاء من هنا!!

نعم، كل هذه الأمور هي بسبب أوامر الغرب التي وجهت إلى البلدان الإسلامية عن طريق خدامهم في المنطقة لإغراقهم بالمشاكل الجانبية وزرع الإحباط في نفوسهم، وإن الشاهد على هذه الأوامر هو أن العرب هم (210)ملايين نسمة(2) لم يتمكنوا من الوقوف بوجه دويلة إسرائيل التي لا تزيد نفوسها على(3) ملايين يهودي.

ص: 178


1- الكامل في التاريخ 3: 508.
2- حسب بعض الإحصاءات الحديثة بلغ عدد سكان الوطن العربي (450 مليون) نسمة.
خيوط الحل

لذا ومن أجل التخلص من هذه المشاكل يجب ما يلي:

أولاً: أن تسود الحرية ربوع البلدان الإسلامية، حتى تدخل الآراء بحرية وأمان ميدان السياسة، وتصبح مسألة المناقشة وطرح الآراء من مسائل الناس المهمة، فإن الرسول والأئمة(عليهم السلام) صرفوا وقتاً طويلاً في محادثة ومناقشة الناس حتى الجهال وعبّاد الأوثان منهم، علماً بأنّ توجيه أمة إلى الطريق الصحيح يكلف الإنسان المشقة والعناء وقد يصرف الإنسان المؤمن لذلك وقتاً طويلاً قد يكون بقدر عمر الإنسان نفسه. ولما كان الشخص الذي يريد أن يحصل على شهادة الدكتوراة لا بد له أن يبذل جهداً لمدة تتراوح بين (20-30) سنة وهو فرد واحد، فكيف إذا أردنا أن نعلم أمة بأكملها ونحن مطالبون بتعليمها.

وثانياً: الحث نحو العمل والزراعة والصناعة والاكتفاء الذاتي وفسح المجال أمامها وتسهيل عقباتها.

إذا سعينا لذلك فإن أكثر مشاكلنا الاجتماعية والتربوية والعسكرية والسياسية سوف تصل إلى الحل.

ومن دون ذلك فلا معنى للانفراج وارتفاع الأزمات، إنه قانون كوني وسماوي ثبت بالتجربة وهي خير برهان.

فضلاً عن العقل والنقل قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1).

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النية وعرفان الحرمة... وتفضّل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلّمين بالجهد والرغبة، وعلى

ص: 179


1- سورة طه، الآية: 124.

المستمعين بالاتباع والموعظة، وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرّحمة، وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة وعلى الفقراء بالصبر والقناعة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الإسلام والإنجاب

قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ أَفَبِالْبَٰطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}(2).

وقال سبحانه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَالْبَٰقِيَٰتُ الصَّٰلِحَٰتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٖ وَأَصْفَىٰكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}(4).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَا أَوْلَٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنيَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ}(5).

الإسلام والزواج

وقال تعالى: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن

ص: 180


1- المصباح للكفعمي: 280.
2- سورة النحل، الآية: 72.
3- سورة الكهف، الآية: 46.
4- سورة الزخرف، الآية: 16-17.
5- سورة المنافقون، الآية: 9.

يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(1).

وقال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَٰجًا وَذُرِّيَّةً}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَٰمَىٰ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

المرأة الولود

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن خير نسائكم الولود الودود العفيفة العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها المتبرجة مع زوجها الحصان على غيره...»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تزوجوا بكراً ولوداً ولا تزوجوا حسناء جميلة عاقراً، فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة»(6).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «النفساء تبعث من قبرها بغير حساب لأنها ماتت فيغم نفاسها»(7).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «النفساء يجرها ولدها يوم القيامة بسرره(8) إلى

ص: 181


1- سورة النور، الآية: 32.
2- سورة الروم، الآية: 21.
3- سورة الرعد، الآية: 38.
4- سورة النساء، الآية: 3.
5- الكافي 5: 324.
6- الكافي 5: 333.
7- الأمالي للشيخ الطوسي: 673.
8- السرر - بفتح السين - ما تقطعه القابلة من سرة المولود التي هي موضع القطع وما بقي بعد القطع فهو السرة.

الجنة»(1).

الزواج عبادة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق اللّه في النصف الباقي»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ركعتين يصليهما متزوج أفضل من سبعين ركعة يصليهما غير متزوج»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «لو لم يكن في المناكحة والمصاهرة آية محكمة ولا سنة متبعة ولا أثر مستفيض، لكان في ما جعل اللّه من بر القريب وتقريب البعيد وتأليف القلوب وتشبيك الحقوق وتكثير العدد وتوفير الولد لنوائب الدهر وحوادث الأمور، ما يرغب في دونه العاقل اللبيب ويسارع إليه الموفق المصيب ويحرص عليه الأديب الأريب»(4).

فضل الأولاد وتربيتهم

وقال الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه، ما سألت ربي ولداً نضير الوجه ولا سألت ولداً حسن القامة، ولكن سألت ربي وُلداً مطيعين للّهخائفين وجلين منه حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع للّه قرت به عيني»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «البنات حسنات والبنون نعمة والحسنات يثاب عليها والنعمة يسأل عنها»(6).

ص: 182


1- بحار الأنوار 79: 117.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 518.
3- ثواب الأعمال: 40.
4- الكافي 5: 373.
5- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 380.
6- ثواب الأعمال: 201.

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً لم يمته حتى يريه الخلف»(1).

التكاثر والسنة

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنة»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عال ابنتين أو ثلاثاً كان معي في الجنة»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عال ثلاث بنات، يعطى ثلاث روضات من رياض الجنة كل روضة أوسع من الدنيا وما فيها»(4).

البساطة في نفقات الزواج

عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: ذكر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الفرش فقال: «فراشٌ للرجل وفراشٌ للمرأة وفراش للضيف والرابع للشيطان»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) لعيسى بن موسى: «يا عيسى! المال مال اللّه عزّوجلّ، جعله ودائع عند خلقه وأمرهم أن يأكلوا منه قصداً ويشربوا منه قصداً ويلبسوا منه قصداً وينكحوا منه قصداً ويركبوا منه قصداً ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، فمن تعدى ذلك كان أكله حراماً وما شرب منه حراماً وما لبسه منه حراماً وما نكحه منه حراماً وما ركبه منه حراماً»(6).

ص: 183


1- من لا يحضره الفقيه 3: 481.
2- الكافي 6: 6.
3- مستدرك الوسائل 15: 115.
4- مستدرك الوسائل 15: 115.
5- الخصال 1: 121.
6- أعلام الدين: 269.

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في ما رواه عن أبيه(عليه السلام): «لينفق الرجل بالقصد وبلغة الكفاف ويقدّم منه فضلاً لآخرته...»(1).

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «أنعم الناس عيشاً من منحه اللّه تعالى القناعة وأصلح له زوجه»(2).

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لا تجعل أكثر همّك بأهلك وولدك فإنهم إن يكونوا أولياء اللّه سبحانه فإن اللّه لا يضيع وليه وإن يكونوا أعداء اللّه فما همّك بأعداء اللّه»(3).

ص: 184


1- الكافي 4: 52.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 212.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 761.

تحليل الأحداث ضرورة حياتية

أهمية التحليل في حياة الإنسان

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْأيَٰتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٖ لَّا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا ينفع اجتهاد بغير تحقيق»(2).

وقال(عليه السلام): «لا علم لمن لا بصيرة له»(3).

وقال(عليه السلام): «لا سنة أفضل من التحقيق»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «والعالم بزمانهِ لا تَهجم عليه اللَّوابسُ»(5).

إن من أهم الأمور التي يلزم أن يتحلى بها حملة العلوم الإسلامية، هو القدرة على تحليل الأحداث؛ لكي لا تلتبس عليهم الأمور، ويختلط عندهم الخطأ بالصواب دون أن يشعروا، بل يفترض عليهم الدقة في فهم الأشياء، واستيعابها

ص: 185


1- سورة يونس، الآية: 100-102.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 778.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 783.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 775.
5- الكافي 1: 27.

بوعي، حتى يدركوا الحق، ويجتنبوا الوقوع في الخطأ.

فالذي لا يتمكن، أو لا يعرف أن يرد على القائلين بعدم وجود اللّه(1) أو القائلين بوجود إلهين اثنين أو أكثر - مثلاً - من الممكن أن يصدقهم ويذعن لهم، أو يسلك مسلكهم، وكذلك الذي لا يعلم أن الاقتصاد أو أن الحكم الرأسمالي الغربي غير سليم، ولم يحلل مفرداته، فمن المحتمل أن يكون يوماً ما أحد الرأسماليين.

فكما يحصل الإنحراف على مستوى السلوك، فأيضاً يحصل على مستوى الفكر والاعتقاد. وسبب ذلك الانحراف هو الجهل وعدم وضوح الرؤية لديه، وهكذا بالنسبة إلى سائر نواحي الحياة، فلو عجزنا عن تحليل مفردات الواقع لما فهمنا الواقع بصورة سليمة، بل قد نفهمه بصورة خاطئة أو يكون فهماً مشوشاً، وهذا يؤثر على سلوك الإنسان ومواقفه.

الجاحدون المستيقنون

نعم هناك بعض المعاندين وهم قلة.

قال اللّه تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(2).

فإن المعاندين هم الذين يعرفون الحقائق جيداً، إلّا أنهم يجحدون بها ويخالفون ما علموا به ويفضّلون العوم - أي السباحة - بالاتجاه المعاكس، أما عن خاتمة هؤلاء؛ فكما يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في دعائه المشهور، الموسوم بدعاء كميل: «أقسمت... وأن تخلد فيها المعاندين»(3)، ويؤيد ذلك قوله تعالى في

ص: 186


1- وهم ما يعرفون بالوجوديوين: وهو مذهب من المذاهب المادية التي تنكر وجود الصانع والخالق لهذا الكون.
2- سورة النمل، الآية: 14.
3- مصباح المتهجد 2: 848.

الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّاطَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}(1) وذلك بسبب كفرهم وصدهم غيرهم عن سبيل اللّه، وانحرافهم عن الحجج، وجحدهم للرسالة على علم منهم، وظلمهم لأولياء اللّه حسداً لهم، وبغياً عليهم(2).

فهؤلاء يظلمون ويكفرون ويصدون عن علم، وما هو إلّا العناد واللجاج، فهم خالدون في النار، كما هو الظاهر من الآية؛ فإن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: كفروا باللّه ورسله وما جاءوا به {وَظَلَمُواْ} أنفسهم بالعصيان والناس بالحرمان عن طريق الهداية {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} إذا ماتوا على الكفر، كما يظهر القيد من سائر الآيات {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} والمراد طريق الجنة، {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} جزاءً لما فعلوا من الكفر والظلم {خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} لا زوال للعذاب ولا انقطاع.

وقد يتساءل البعض: ولِمَ العذاب الدائم مقابل العمل الذي كانت له مدة محدودة له؟ والجواب: أن العذاب للشر الكامن الذي كان له مظهر، وذلك باقٍ أبداً، ولذا قال سبحانه: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}(3)(4).

وفي المقام آراء ومباحث عديدة للعلماء، حول خلود أهل النار، لا يسع المجال هنا لذكرها.

تحليل ثورة المختار

ولبيان نموذج من تحليل الأحداث نضرب بعض الأمثلة، ونذكر بعض المصاديق التاريخية، منها ثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي، حيث استطاع أن

ص: 187


1- سورة النساء، الآية: 168-169.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 3: 244.
3- سورة الأنعام، الآية: 28.
4- تفسير تقريب القرآن 1: 586.

يحرر الكثير من البلاد الإسلامية من سيطرة ملوك بني أمية، ويجعلها تحت لواءولاء أهل البيت(عليهم السلام)، باستثناء بلاد الشام ومصر وأجزاء من البصرة والحجاز.

وقد وقع فيه البعض، لكن بعد المراجعة والتحقيق والتحليل يظهر صحة عقيدته وولائه وشرعية ما قام به ضد الظلم والطغيان على تفصيل سيأتي بيانه.

وفي البحار: إن ابن زياد حبس ميثم التمار ومعه المختار بن أبي عبيدة الثقفي، فقال ميثم للمختار وهما في حبس ابن زياد: (إنك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين(عليه السلام) فتقتل هذا الجبار الذي نحن في سجنه وتطأ بقدمك هذا على جبهته وخديه).

فلما دعا عبيد اللّه بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد اللّه يأمره بتخلية سبيله.

وذلك أن أخته كانت تحت عبد اللّه بن عمر بن الخطاب فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد، فشفع فأمضى شفاعته فكتب بتخلية سبيل المختار على البريد فوافى البريد وقد أخرج ليضرب عنقه فأطلق(1).

وقد نزل مسلم بن عقيل(عليه السلام) عند وصوله الكوفة في بيت المختار وأقبلت الشيعة تختلف إليه وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفا(2).

ومدحه العلامة الحلي(رحمه اللّه) في رجاله(3).

وفي الحديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «لا تسبوا المختار، فإنه قتل قتلتنا وطلب بثارنا وزوج أراملنا وقسم فينا المال على العسرة»(4).

ص: 188


1- بحار الأنوار 41: 345.
2- إعلام الورى: 223.
3- رجال العلامة الحلي: 168.
4- رجال الكشي: 125.

وروي أن الإمام الصادق(عليه السلام) ترحم على المختار(1).

وعن الأصبغ، قال رأيت المختار على فخذ أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو يمسح رأسه ويقول: «يا كيّس يا كيّس»(2).

نعم كانت حكومة المختار حكومة إسلامية وشيعية، والظاهر أن عقيدته كانت سليمة. وقد ذكره العلامة الأميني(رحمه اللّه) وأثنى عليه الثناء البالغ حيث قال:

رجل الهدى، الناهض المجاهد، والبطل المغوار... .

وقال: ومن عطف على التاريخ والحديث وعلم الرجال نظرة تشفعها بصيرة نفاذة علم أن المختار في الطليعة من رجالات الدين والهدى والإخلاص، وأن نهضته الكريمة لم تكن إلّا لإقامة العدل باستيصال شأفة الملحدين، واجتياج جذوم الظلم الأموي، وإنه بمنزح من المذهب الكيساني، وإن كل ما نبزوه من قذائف وطامات لا مقيل لها من مستوى الحقيقة والصدق؛ ولذلك ترحم عليه الأئمة الهداة سادتنا: السجاد والباقر والصادق (صلوات اللّه عليهم)، وبالغ في الثناء عليه الإمام الباقر(عليه السلام)، ولم يزل مشكور عند أهل البيت الطاهر هو وأعماله(3).

ص: 189


1- رجال العلامة الحلي: 169.
2- رجال الكشي: 127.
3- ويقول الأميني(رحمه اللّه): وقد أكبره ونزهه العلماء الأعلام منهم: سيدنا جمال الدين ابن طاووس في رجاله. وآية اللّه العلامة في الخلاصة. وابن داود في الرجال. والفقيه ابن نما في ما أفرد فيه من رسالته المسماة بذَوب النضار. والمحقق الأردبيلي في حديقة الشيعة. وصاحب المعالم في التحرير الطاووسي. والقاضي نور اللّه المرعشي في المجالس. وقد دافع عنه الشيخ أبو علي في منتهى المقال. وغيرهم. وقد بلغ من إكبار السلف له أن شيخنا الشهيد الأول ذكر في مزاره زيارة تخص به ويزار بها، وفيها الشهادة الصريحة بصلاحه ونصحه في الولاية وإخلاصه في طاعة اللّه ومحبة الإمام زين العابدين(عليه السلام)، ورضا رسول اللّه وأمير المؤمنين (صلوات اللّه عليهما وآلهما) عنه، وأنه بذل نفسه في رضا الأئمة(عليهم السلام) ونصرة العترة الطاهرة والأخذ بثأرهم. والزيارة هذه توجد في كتاب (مراد المريد) وهو ترجمة مزار الشهيد للشيخ علي بن الحسين الحايري، وصححها الشيخ نظام الدين الساوجي مؤلف (نظام الأقوال) ويظهر منها أن قبر المختار في ذلك العصر المتقادم كان من جملة المزارات المشهورة عند الشيعة، وكانت عليه قبة معروفة كما في رحلة ابن بطوطة 1: 138. ولقد تصدى لتدوين أخبار المختار وسيرته وفتوحه ومعتقداته وأعماله جماعة من الأعلام، فمنهم: أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي المتوفى (157ه)، له كتاب (أخذ الثار في المختار). وأبو المفضل نصر بن مزاحم المنقري الكوفي العطار المتوفى (212ه) (أخبار المختار). وأبو الحسن علي بن عبد اللّه بن أبي سيف المدايني (أخبار المختار). وأبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي الصدوق له (كتاب المختار). وأبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، له (مختصر أخبار المختار). والشيخ أحمد بن المتوج له (الثارات) أو (قصص الثار). منظومة. والفقيه نجم الدين جعفر الشهير بابن نما له (ذوب النضار في شرح الثار) طبع برمته في المجلد العاشر من البحار. والشيخ ميرزا محمد علي الأوردبادي، له (سبيك النضار). أو (شرح حال شيخ الثار) في مائتي وخمسين صحيفة، وقد أدى فيه حق المقال، وأغرق نزعاً في التحقيق، ولم يبق في القوس منزعاً، قرأت كثيراً منه ووجدته فريداً في بابه لم يؤلف مثله، جزاه اللّه عن الحق والحقيقة خيراً. انظر: الغدير 2: 343.

وما قاله البعض: من أن المختار ألقى بعض المجرمين في الماء المغلي، وقطع أعضاء البعض الآخر أو مثّل بهم، ما هذه الأقوال إلّا افتراءات واتهامات غير صحيحة(1).

ولعل سائلاً يسأل: كيف تمكن المختار من تجريد بعض البلاد الإسلامية من سلطة الظلم المتمثلة بالأمويين؟

هناك سببان لظهور ثورة المختار، وانكسار الأمويين:

السبب الأول: هو أن الكوفة كانت عاصمة البلاد الإسلامية في زمن الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، وكان الإمام(عليه السلام) قد هيأ شيعته فيها للوقوف بوجه الطغاة من الأمويين وغيرهم من أعداء أهل البيت(عليهم السلام) في المستقبل، أضف إلى ذلك:سعة مساحة الكوفة وأطرافها المترامية، حيث كان الإمام(عليه السلام) يتصل بأطرافها

ص: 190


1- ويحتمل بعض المحققين أن مثل ذلك - على فرض صحته أو صحة بعضه - قام به بعض الناس لشدة حقدهم على من ظلم عترة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يصدر بأمر من المختار.

ويزرع فيهم المبادئ الإسلامية الحقة، فبالرغم من مجيء معاوية ابن أبي سفيان (لعنة اللّه عليهما)، وتمكنه من السيطرة الكاملة على البلاد، إلّا أن حب أهل البيت(عليهم السلام) وولائهم كان راسخاً في قلوب الكوفيين، ولهذا كانت الكوفة دائماً مهيأة للثورة ضد الأمويين الذين أسرفوا في العداء لأهل البيت(عليهم السلام)، وكل من والاهم. ولهذا عندما ظهر المختار (رضوان اللّه عليه) ونادى بالثأر للحسين(عليه السلام)، خرجت السيوف لتنضم إلى دعوته(1).

والسبب الآخر: هو أن مروان الذي كان حاكماً على الشام؛ كان يتصف بالضعف الشديد، بسبب سيطرة عبد اللّه بن الزبير على مناطق الجزيرة كلها والعراق، الذي استعمل أخاه مصعباً على العراق. وكان الضحّاك بن قيس قد بايعه أهل الشام، وهو يدعو إلى ابن الزبير سراً، وكان زفر بن الحرث الكلابي بقنسرين يبايع لابن الزبير، والنعمان بن بشير بحمص أيضاً يبايع لابن الزبير، وناتل بن قيس في فلسطين يبايع لابن الزبير، ثم قامت ثورة التوابين التي هزّت عرش حكومة الأمويين(2)، وغيرها من الحركات والثورات التي أدت كلها إلى إضعاف أمرهم.

أضف إلى ذلك: أن مروان كان يمضي التدبير على غير روية(3)، والحروب

ص: 191


1- فإن قيل: لماذا حاربوا الحسين(عليه السلام) من قبل؟ قلنا: إن الذين حاربوا الحسين(عليه السلام) أكثرهم من غير أهل الكوفة، أضف إلى ذلك وجود الإغراءات وكذا الإرهاب الأموي الدموي والتضليل العام ووجود نفوس مريضة من الذين باعوا آخرتهم بدنياهم. واغتيال واعتقال قيادات الشيعة في الكوفة أمثال: حجر بن عدي الكندي وأصحابه، وعمرو بن الحمق، واعتقال المختار الثقفي وميثم التمار وسليمان بن صرد الخزاعي، وكثير غيرهم.
2- ثورة التوابين: وهي من جملة الثورات التي قامت في الكوفة بعد استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام)، وذلك في سنة (65) من الهجرة.
3- انظر: التنبيه والأشراف: 269.

التي كان يقودها كلها أضعفت الحكومة المركزية، وأدّت إلى ترجيح كفة ثورة المختار، وسيطرته على الكوفة، وفرض نفسه حاكماً مطاعاً. وهناك أسباب أخرى اجتمعت وأدت إلى انتصار المختار.

وهكذا في كل ثورة، فإن فيها أسباب ومسببات قد تكون بعضها خفية.

فإذا لم تحلل الحوادث التاريخية بشكل جيد وصحيح؛ فسوف يجهل الإنسان كثيراً من الحقائق، وتخفى عليه أمور مهمة.

تحليل أحداث التأريخ ضرورة

وهناك بعض الناس يرفضون مسألة التحليل التاريخي والسياسي والاجتماعي، حيث إنهم يكتفون بالإيمان بالغيب، وترك الواقع والأمور إلى الغيب ينتظرون ما يفعل بهم القضاء والقدر من دون معرفة صحيحة لمعنى الغيب والقضاء والقدر.

والحقيقة: إن الإيمان بالغيب أمر ضروري جداً، وكذلك القضاء والقدر، ولكن ذلك لا يدعونا إلى أن نترك التمسك بالأسباب الطبيعية والحياتية، التي جعلها اللّه عزّ وجلّ أسباباً توصلية، بل إن الطريق الصحيح، بعد التوكل على اللّه سبحانه وتعالى، هو التمسك بالأسباب الدنيوية؛ التي سنها الباري جلّ وعلا، يقول القرآن الكريم عن ذي القرنين: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}(1) أي: إنه استطاع أن يصل إلى القدرة عن طريق الأخذ بالأسباب الحياتية(2).

فالأمر الذي يستفاد من تحليل الأحداث - مضافاً إلى المعرفة الصحيحة لما جرى - هو: معرفة كيفية مواجهة أعدائنا، وكيفية تحقيق حكم الإسلام، ونشر

ص: 192


1- سورة الكهف، الآية: 89.
2- انظر: تفسير مجمع البيان 6: 380 و 382.

مفاهيمه وثقافته، وهذا لا يكون إلّا بالاستفادة من الأسباب الحياتية، وبانتهاج النهج السليم، الذي يوصلنا إلى الهدف، بأسرع وقت.

ومسألة التحليل في معرفة كيفية نجاح ثورة المختار ومن خلال سيرته العملية وأقواله ورسائله وغيرها من الأمور، يفيدنا أن حركته كانت ذات طابع شيعي، وقد أراح الإنسانية والمسلمين من سلطة بني أمية الظالمة في بلاد عديدة، وقد كان هو مرضياً عند أهل البيت(عليهم السلام). وإنما يمكن التوصل إلى هذه النتيجة بتحليل كل الظروف الموضوعية المحيطة بالمختار.

تحليلات الماركسية المغلوطة

كان ماركس يدعو إلى إقامة نظام شيوعي بدل النظام الرأسمالي، زاعماً أن الشيوعية هي مرحلة الوحدة الإنسانية، وبداية السعادة البشرية، والقضاء على كل أنواع الظلم والاستبداد. هكذا قال ماركس، وتنبأ بأن الثورة الإصلاحية الشيوعية ستحدث في أوربا لتهد النظام الرأسمالي وتقيم النظام الاشتراكي فيها.

ولكن ما حدث كان هو العكس تماماً؛ فعندما تفجرت الثورة الاشتراكية الشيوعية في روسيا، وتسلط الطغاة على الشعب الروسي، وأجبروه على الدخول في تنظيمات الحزب الشيوعي، أخذوا يمارسون التسلط الحديدي على الشعب، وبقيت أوروبا إلى اليوم محتفظة بنظامها الرأسمالي، وذهبت كل أقاويل ماركس أدراج الرياح. وبمجرد أن هبت رياح التغيير نجد أن الأنظمة الشيوعية في أوروبا والاتحاد السوفيتي بدأت تتساقط الواحدة تلو الأخرى، لتترك ما جاء به ماركس وتقع في أحضان الرأسمالية - غالباً - .

الإسلام والعدالة الاجتماعية

أما الإسلام العظيم فهو يرفض كلا النظامين الاشتراكي والرأسمالي، ويدعو

ص: 193

إلى مجتمع متكافئ عادل، خالٍ من الطبقات المصطنعة، ويدعو إلى إقامة نظامه الاقتصادي الذي يضمن مصالح الجميع؛ فقد جاء في قوله تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}(1)، وقوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوٰاْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوٰاْ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ}(2). حيث إن الآية الشريفة تؤكد أن من امتنع عن الربا فله ما سلف، أي: أن له حق الاحتفاظ بما عنده من ربح، سواء كان في حقوق اللّه، أو في حقوق الناس، فإنه لا يؤاخذ عليها بعينها، لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته، كما تخلّص من أصله، من حيث صدوره بل أمره فيه إلى اللّه. فإن{وَحَرَّمَ الرِّبا} لما فيه من المضار، ويكفي أن نلمح إلى ضرر واحد هو أن معطي الربا، إما ساقته الضرورة إلى الاقتراض كمرض أو نحوه مما الجأه للاقتراض برباء، فما أقبح أن يستغل الإنسان أخيه في مثل هذا الموقع مما يجدر به أن يساعده ويسعفه، وأما اقترض للتجارة وهذا لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة: الأول: أن يخسر، الثاني: أن لا يربح ولا يخسر، وما أقبح في هاتين الصورتين أن يأخذ صاحب المال زيادة، بينما خسر العامل في الأول، ولم يربح في الثاني، الثالث: أن يربح وقد قرر الإسلام المضاربة والاشتراك في الربح، في ما الربا يُجبر المقترض أن يدفع بمقدار خاص إلى المقرض بينما قد ربح بمقداره وقد ربح أقل وقد ربح أكثر(3).

المهم في هذا المقام: أن حكم اللّه بالنسبة إلى الأموال هو: إقرارها فيأيديهم، وعدم سلبها، وجواز الكسب حيث يوجب زيادة المال مراعياً في ذلك

ص: 194


1- سورة البقرة، الآية: 279.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
3- انظر: تفسير تقريب القرآن 1: 296.

الشروط المقررة شرعاً، وهذا حكم الإسلام.

كما أن الإسلام لا يقرّ المبدأ الماركسي القائل بلزوم التساوي في العطاء للعمال واعتبار هذا عين العدالة، بل الإسلام يقرّ أن لكل إنسان عطاءً يقابل مقدار ما يبذله من جهد، فالتفريق بين العامل الذكي والعامل الغبي ضروري، وبين العامل الذي يعمل بتقنية عالية، وآخر عكسه، أمر ضروري يقره العقل، بالإضافة إلى ذلك فإن الإسلام يعطي الحرية الكاملة لمعتنقيه، فلهم اختيار الأعمال التي يرونها مناسبة لهم، ويمتلكون أيضاً فيها الخيرة؛ إذ الإسلام أيضاً يدعو إلى عدم سلب حقوق الآخرين، وأن لا يكون إجحاف وغبن في التعاملات المتبادلة؛ يقول القرآن الكريم: {وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}(1).

وبكلمة موجزة، فإن الاقتصاد الإسلامي لا يوافق قانونه كلا النظامين الماركسي والرأسمالي(2)، بل يمتلك حالة الوسط بين الأمرين؛ كما قال تعالى: {جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}(3)، وكما في الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خير الأمور أوسطها»(4).

الإسلام دين الاعتدال

وهكذا الإسلام لا يقبل الفكر القائل: لا إله لهذا الكون، كما ادعىالماديون(5)، وفي المقابل: يرفض مقولة تعدد الآلهة التي تدعيها المسيحية

ص: 195


1- سورة الإسراء، الآية: 35.
2- للإمام الراحل(رحمه اللّه) مؤلفات عدة في بيان النظرية الإقتصادية الإسلامية، منها المخطوط ومنها المطبوع، وهي: كتاب (الفقه: الإقتصاد) جزءان، وكتاب (الاقتصاد الإسلامي المقارن)، و(الفقه: المال)، و(الاقتصاد عصب الحياة)، وغيرها.
3- سورة البقرة، الآية: 143.
4- مستدرك الوسائل 8: 255.
5- راجع كتاب (نقد نظريات فرويد)، و(نقد المادية الديالكتيكية)، و(وقفة مع الوجوديين)، للإمام الراحل(رحمه اللّه).

بشكل مبطّن(1)، بل الإسلام يؤكد ويبرهن على وجود خالق واحد مدبر لهذا الكون، لا شريك له. فالإسلام يطرح أفكاره المتلائمة مع فطرة الإنسان دائماً وعلى مر العصور.

هذا على مستوى الفكر، وكذلك في بقية المستويات يؤكد الإسلام على حالة الاعتدال، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(2).

وعلى هذا فالإسلام لا يقرّ بالفكر الماركسي، ولا بالنظام الاشتراكي الذي يسلب حقوق البشر، ولا بالنظام الرأسمالي الذي يطلق الحرية للإنسان في كل شيء حتى إذا كان على حساب الآخرين. لا سيما في الحصول على معاشه، مما يؤدي بالفرد إلى طرق سبل الرذيلة والفساد؛ مثل فتح بيوت الدعارة والفساد،وحانات الخمر، وظلم الآخرين، وهو بالتالي يؤول إلى تفسخ المجتمع وانحطاطه. بل الإسلام يعطي الحرية في مجالات المنافسة الحميدة، مثل طلب

ص: 196


1- ترتكز المسيحية على خمسة أمور هي جوهر العقيدة عندهم: 1- التثليث: وهو أهم وأول أسرار المسيحية (أب، وابن، وروح القدس). 2- ألوهية المسيح: وهي أن عيسى لم يكن المسيح الموعود بل أنه ابن اللّه نزل ليقدم نفسه قرباناً ويصلي تكفيراً عن خطيئة البشر. وهذه من أعمال بولس منشأ المسيحية. 3- ألوهية روح القدس: وهو الذي حل على مريم العذراء لدى البشارة، وعلى المسيح في العماد، وعلى الرسل بعد صعود المسيح إلى السماء، وأن روح القدس لا يزال موجوداً وهو ينزل على الآباء والقديسين في الكنيسة. 4- صلب المسيح لتكفير عن خطيئة البشر. 5- محاسبة المسيح للناس، وأن الأب أعطى سلطان الحساب للابن، ذلك لأن الابن بالإضافة إلى ألوهيته فهو ابن الإنسان، فهو أولى بمحاسبة الإنسان. وللاطلاع الأكثر انظر: كتاب: الهدى إلى دين المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، للشيخ محمد جواد البلاغي(رحمه اللّه).
2- سورة الفرقان، الآية: 67.

العلم والتقوى وجهاد النفس وغيرها، وبالمقابل: الإسلام يقر الملكية الفردية للأشخاص وملكية الدولة بشروط خاصة.

قضية فلسطين وتحليل الموقف

اشارة

مسألة فلسطين تحتاج هي الأخرى إلى تحليل دقيق، لكي يدرك المرء السبب الرئيسي، والأسباب الثانوية، التي أدت إلى احتلالها وبقائها إلى الآن في يد الأعداء.

في البدء نقول: إن الدولة العثمانية التي كانت فلسطين تحت سيطرتها، كانت تتسم - خاصة في فتراتها الأخيرة - ، بالتخلف والضعف والاضمحلال والظلم والاستبداد، ففي عام (1909م) حاول كثير من السلاطين العثمانيين الإصلاح، وإعادة الروح لهذه الامبراطورية، وتسديد ديونها الثقيلة، ولكن دون فائدة. ومن جهة أخرى كانت الحركة الصهيونية قد استغلت مشاكل الدولة العثمانية المستعصية، وخاصة حاجتها إلى المال، فجاءت تعرض على السلطان عبد الحميد الثاني الملايين، ورغم رفضه إلّا أن الدول الصليبية والحركة الصهيونية كانتا تسعيان جاهدتين للسيطرة على المشرق، وكان في المقدمة هرتزل زعيم الحركة الصهيونية.

وأول من دعا إلى انشاء وطن لليهود، تم بموجبه اتفاقية (سايكس بيكو) عام (1916م) التي أقرت وضع فلسطين تحت نظام دولي. وأيضاً عملت بريطانيا على طرح اقتراح إنشاء وطن قومي لليهود، عبر ما عرف ب(وعد بلفور) المشؤوم (1917م)، ودعمت فرنسا كل ادعاءات بريطانيا بفلسطين، مقابل مصالحمشتركة، ثم جاء دور مؤتمر (سان ريمو) بصورة رسمية، ليؤكد أن فلسطين أصبحت تحت الانتداب البريطاني، ومنحت السلطة المنتدبة كامل السلطة

ص: 197

التشريعية والتنفيذية، فقامت بتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين، وإصدار الجنسية الفلسطينية لهم، وإنشاء المنظمة الصهيونية العالمية للدعاية للصهيونية واليهود في كل الدول، داعية اليهود للهجرة إلى فلسطين، ثم قاموا بإنشاء حركة هجرة الشباب، وأخذت منظمة الشباب النسائية الأمريكية بتمويل هذه الحركة، ثم قاموا - أيضاً - بعملية سحب والإستيلاء على الأراضي من الفلاحين الفلسطينيين، التي أخذت تشتد وتتسارع سنة بعد سنة، مما أدى إلى توقف العمل وتفشي البطالة، والتضخم السكاني في المدن، وصيرورة الأراضي لليهود.

هذا بالإضافة أن أسباباً أخرى، كلها اجتمعت وجعلت من فلسطين محتلة تحت الانتداب البريطاني، العامل الذي ساعد على إيجاد الكيان الصهيوني فيها، والى الآن.

ومن جهة أخرى فإن هناك أسبابا لبقاء فلسطين محتلة، من أهمها ضعف الدول الإسلامية، وتنازلها عن قضية فلسطين مقابل مصالحها الخاصة، كما فعل السادات عام (1978م)، عندما عقد الصلح مع إسرائيل. كل هذه الأمور أدت إلى ترسيخ الاحتلال وسقوط فلسطين بيد اليهود الصهاينة.

كما أن من الاسباب الرئيسية المؤدية لبقاء (فلسطين محتلة تحت سيطرة اليهود الصهاينة) إلى الآن هو ضياع مفهوم (الأخوة الإسلامية) الأصيل من المجتمعات والدول الإسلامية، وانتشار الأفكار التي تثير نعرات التفرقة الطائفية في المجتمع إلى اليوم على قدم وساق، وهكذا ظهور الدعوات القومية والأفكار الإلحادية منها: البعثية والشيوعية، بين المسلمين.

ومن أهم أسباب بقاء فلسطين محتلة هو اتخاذ سياسة العنف والارهاب من قبل الحركات الإسلامية.

ومن جانب آخر استطاع الاستعمار عبر وسائله الخبيثة أن يبث في المسلمين

ص: 198

روح الانهزام والإحباط، ويفهم المسلمين بأنهم غير قادرين على التقدم في الحياة بمفردهم، بل لا بد من الاستعانة بالمستعمرين والسير خلف الغرب، وحاول الغرب أن ينشر أفكاره العلمانية. وأحياناً حاول أن يصوغ الثقافة الإسلامية بشكل يتناسب مع أفكاره، تلك الثقافة التي تدعو المسلم نحو الخمول والكسل، والابتعاد عن اللّه عزّ وجلّ، وترك الإسلام واعتباره دين طقوس لا غير.

ولكن إذا أراد المسلمون التحرر والعزة والعيش الكريم عليهم أولاً التمسك باللّه تبارك وتعالى، والرجوع إلى أحكام الإسلام ونشر أفكاره الأصيلة التي بثها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام)، ومن أهمها: قانون (الأمة الواحدة) و(الأخوة الإسلامية) و(عدم استبداد الحكام) وعدم الفرق بين مسلم ومسلم، العربي وغير العربي، الأبيض والأسود وهكذا... لأن الإنسان متى ما كان مخلصاً في إيمانه مع اللّه، فإن اللّه عزّ وجلّ يمدّه بقوة خفية غيبية، وتصميم وإرادة وعزم وثبات.

فالطريق الصالح لإنقاذ وتحرير فلسطين هو الرجوع الحقيقي إلى الإسلام، والالتزام بالمبادئ الإسلامية التي تخلى عنها البعض كلياً والبعض الآخر جزئياً، وتمسكوا بالأفكار المنحرفة الشرقية والغربية التي لا نفع فيها، فأصبحت الأمة مشتتة وفلسطين قضية عربية فقط مع كونها قضية إسلامية، واتخذت الحركات السياسية طريقة العنف والإرهاب، وهذه كلها من أسباب تأخر الأمة وبقاء الاحتلال.

إذن السبب الوحيد في بقاء اليهود وإلى يومنا هذا في فلسطين هو ابتعادنا عن الإسلام، بالإضافة إلى سوء استخدامنا وسوء إدارتنا لقدراتنا وثرواتنا الماديةوالعلمية.

فيجب علينا السعي والجد في تحصيل العلوم والإمكانيات، والتحرك بروح ملؤها الإيمان باللّه والتوكل عليه، وإشاعة المفاهيم الروحية السامية بين أفراد

ص: 199

شعوبنا الإسلامية، لكي يتم لقاء الجميع في مشترك واحد، وهو اللّه عزّ وجلّ، مضافاً إلى ضرورة التحلي بالسلم واللاعنف في جيمع نواحي الحياة.

دعوة مفتوحة للجميع

يقول تعالى في كتابه المجيد: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِيْ الْمُرْسَلِينَ}(1) الآية تنفي أي مبدل لكلمات اللّه، سواء كان من ناحيته تعالى، بأن تتبدل مشيئته في خصوص كلمة، بأن ينقضها بعد إبرامها، أو كان التبديل من غيره تعالى، بأن يظهر عليه ويقهره، وهذه الكلمات التي لا تقبل التبديل والتغير هي سنن اللّه عزّ وجلّ في هذا الكون حيث قال عزّ وجلّ: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}(2). وهذا هو معنى {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ}. أي: لا مبدل لسنن اللّه عزّ وجلّ التكوينية والتشريعية. فاللّه عزّ وجلّ جعل في هذا الكون، وفي هذه الحياة، سنناً لا تتبدل، ومن أخذ بهذه السنن وصل إلى كماله، وحقق جميع أهدافه ومن لم يأخذ بها فسوف يشقى، ولا يصل إلى كماله المنشود، ومرامه المأمول.

يقول اللّه عزّ وجلّ: {وَأَلَّوِ اسْتَقَٰمُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّاءً غَدَقًا}(3)، فكما أن الإستقامة على الطريقة أي طريقة الإسلام الحقة التي تقتضي الثبات والإيمان الخالص باللّه وبآياته، تتحقق النتيجة المذكورة، وهي {مَّاءً غَدَقًا} أي: كثيراً،وهذا كناية عن الإفضال عليهم، وهي التوسعة والرزق والبركات المفاضة من السماء والأرض؛ فكذلك التمسك بالسنن بصورة صحيحة تعطي نتائج رائعة وحقيقية، ولا يستطيع أحد أن يقاوم هذه السنن الإلهية.

ص: 200


1- سورة الأنعام، الآية: 34.
2- سورة الأحزاب، الآية: 62.
3- سورة الجن، الآية: 16.

فعلى الإنسان أن يسير مع القرآن، ومع الإسلام، ومع الإيمان باللّه عزّ وجلّ، ومع كل ما نطق به القرآن الكريم، وعليه الأخذ بالأسباب والمسببات الكونية، فإنها سنن اللّه في الكون {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}(1) وأن العمل على عكس ما أمر به اللّه وما جاء بها الإسلام والقرآن كريم يؤدي إلى زوال النعم، وعدم تحقق التقدم، واستبعاد إحراز الأهداف؛ قال تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... إنه ما عاش قوم قط في غضارة من كرامة نعم اللّه في معاش دنيا ولا دائم تقوى في طاعة اللّه والشكر لنعمه، فأزال ذلك عنهم، إلّا من بعد تغيير من أنفسهم، وتحويل عن طاعة اللّه، والحادث من ذنوبهم وقلة محافظة، وترك مراقبة اللّه جلّ وعزّ، وتهاون بشكر نعمة اللّه؛ لأن اللّه عزّ وجلّ يقول في محكم كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٖ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}(3) ولو أن أهل المعاصي وكسبة الذنوب، إذا هم حذروا زوال نعم اللّه وحلول نقمته وتحويل عافيته، أيقنوا أن ذلك من اللّه جلّ ذكره بما كسبت أيديهم، فأقلعوا وتابوا وفزعوا إلى اللّه جلّ ذكره، بصدق من نياتهم وإقرار منهم بذنوبهم وإساءتهم، لصفح لهم عن كلذنب، وإذا لأقالهم كل عثرة ولرد عليهم كل كرامة نعمة، ثم أعاد لهم من صلاح أمرهم ومما كان أنعم به عليهم كلَّ ما زال عنهم وأفسد عليهم. فاتقوا اللّه أيها الناس حق تقاته، واستشعروا خوف اللّه جلّ ذكره...»(4).

ص: 201


1- سورة الأحزاب، الآية: 62.
2- سورة الأنفال، الآية: 53.
3- سورة الرعد، الآية: 11.
4- الكافي 8: 256.

وقال الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام): «الذنوب التي تغيّر النعم: البغي على الناس، والزوال عن العادة في الخير واصطناع المعروف، وكفران النعم، وترك الشكر، قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1).

والذنوب التي تورث الندم: قتل النفس التي حرم اللّه، قال اللّه تعالى {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} وقال عزّ وجلّ في قصة قابيل حين قتل أخاه هابيل فعجز عن دفنه... : {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّٰدِمِينَ}(2) وترك صلة القرابة حتى يستغنوا، وترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وترك الوصية وردّ المظالم ومنع الزكاة حتى يحضر الموت وينغلق اللسان.

والذنوب التي تنزل النقم: عصيان العارف بالبغي والتطاول على الناس والاستهزاء بهم والسخرية منهم.

والذنوب التي تدفع القسم: إظهار الافتقار والنوم عن العتمة وعن صلاة الغداة واستحقار النعم وشكوى المعبود عزّ وجلّ.

والذنوب التي تهتك العصم: شرب الخمر واللعب بالقمار وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح وذكر عيوب الناس ومجالسة أهل الريب.

والذنوب التي تنزل البلاء: ترك إغاثة الملهوف وترك معاونة المظلوم وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والذنوب التي تديل الأعداء: المجاهرة بالظلم وإعلان الفجور وإباحة المحظور وعصيان الأخيار والانطباع للأشرار.

ص: 202


1- سورة الرعد، الآية: 11.
2- سورة المائدة، الآية: 31.

والذنوب التي تعجل الفناء: قطيعة الرحم واليمين الفاجرة والأقوال الكاذبة والزنا وسد طرق المسلمين وادعاء الإمامة بغير حق.

والذنوب التي تقطع الرجاء: اليأس من روح اللّه والقنوط من رحمة اللّه والثقة بغير اللّه والتكذيب بوعد اللّه عزّ وجلّ.

والذنوب التي تظلم الهواء: السحر والكهانة والإيمان بالنجوم والتكذيب بالقدر وعقوق الوالدين.

والذنوب التي تكشف الغطاء الاستدانة بغير نية الأداء والإسراف في النفقة على الباطل والبخل على الأهل والولد وذوي الأرحام وسوء الخلق وقلة الصبر واستعمال الضجر والكسل والاستهانة بأهل الدين.

والذنوب التي ترد الدعاء: سوء النية وخبث السريرة والنفاق مع الإخوان وترك التصديق بالإجابة وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها وترك التقرب إلى اللّه عزّ وجلّ بالبر والصدقة واستعمال البذاء والفحش في القول.

والذنوب التي تحبس غيث السماء: جور الحكام في القضاء وشهادة الزور وكتمان الشهادة ومنع الزكاة والقرض والماعون وقساوة القلب على أهل الفقر والفاقة وظلم اليتيم والأرملة وانتهار السائل وردّه بالليل»(1).

بين التحليل والسنن الإلهية

يقول اللّه تبارك وتعالى حكاية عن قصة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}(2) هنا وفي هذه الآية يدعو نوح(عليه السلام) قومه إلى سنة من سنن اللّه، ويحرضهم على العمل والتمسك بها، بذكر النتائج المترتبة على هذه السنة

ص: 203


1- معاني الأخبار: 270.
2- سورة نوح، الآية: 10.

{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّٰتٖ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَٰرًا}(1).

ولكنهم خالفوا نبيهم فنرى في سياق الآيات الشريفة أنهم عندما لم يتمسكوا بالسنن، ولم يستجيبوا لدعوة نوح(عليه السلام) جاءت النتائج التي حاكوها بأيديهم: {وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}(2) فكانت النتيجة كما يلي: {مِّمَّا خَطِئَٰتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارًا فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا}(3). فكما أن اللّه عزّ وجلّ أودع في عالم المادة جملة من القوانين والقابليات، كذلك في عالم المعنى، فما ذكرناه مصداق للسنن الكونية في عالم المعنى الذي تكون نتائجه ملحوظة في عالم المادة.

ومن هنا تبرز أهمية التحليل في الأمور الكونية، مادية ومعنوية، للوصول إلى أصل السنن الإلهية، والعمل بها، فكما أن ذا القرنين أخذ بالأسباب الطبيعية، واستطاع أن يبني سداً ضخماً، كما حكاه القرآن: {فَمَا اسْطَٰعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَٰعُواْ لَهُ نَقْبًا}(4).

وكما استطاع نيوتن من خلال تحليله العميق لسبب سقوط التفاحة أن يكشفعن وجود قانون الجاذبية، وهكذا.

إذن بالتحليل الواعي والتفكير الجدي المتواصل الصحيح يستطيع الإنسان أن يصل إلى حقائق الأشياء وأصولها، ويحصل على نتائج سليمة واعية. وهكذا يلزم تحليل الأحداث لمعرفة ما يجري على الأمة الإسلامية فإن العارف بزمانه لا

ص: 204


1- سورة نوح، الآية: 11-12.
2- سورة نوح، الآية: 23.
3- سورة نوح، الآية: 25.
4- سورة الكهف، الآية: 97.

تهجم عليه اللوابس.

«اللّهم صل على محمد وآله محمد، اللّهم واقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصيبات الدنيا»(1)

بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الكريم

التدبر في القرآن

قال اللّه تعالى: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٖ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(4).

التحليل الاقتصادي

قال تعالى: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةَ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(6).

ص: 205


1- مصباح المتهجد 2: 568.
2- سورة ص، الآية: 29.
3- سورة القمر، الآية: 22.
4- سورة محمد، الآية: 24.
5- سورة الحشر: 7.
6- سورة البقرة: 195.

وقال سبحانه: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَٰزِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعْلُومٖ}(1).

الإسلام معتدل في نهجه

قال اللّه تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(2).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}(5).

تحليل الأحداث ينجي من المهالك

قال اللّه تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(6).

وقال سبحانه: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ}(8).

ص: 206


1- سورة الحجر: 19- 21.
2- سورة الإسراء، الآية: 29.
3- سورة الفرقان، الآية: 67.
4- سورة الإسراء، الآية: 110.
5- سورة البقرة، الآية: 143.
6- سورة الأنعام، الآية: 11.
7- سورة النمل، الآية: 69.
8- سورة الروم، الآية: 42.

من هدي السنّة المطهّرة

التدبر في القرآن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لابن مسعود: «يا ابن مسعود، اذا تلوت كتاب اللّه تعالى فأتيت على آية فيها أمر ونهي فرددها، نظراً واعتباراً فيها، ولا تَسهُ عن ذلك»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر»(3).

التحليل الاقتصادي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من غرس شجراً أو حفر وادياً بدءاً لم يسبقه إليه أحد، وأحيا أرضاً ميتة فهي له، قضاء من اللّه ورسوله»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «لا ضرر ولا ضرار»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر حين ولاه مصر: «... وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله؛ فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم، لأن الناس كلهم عيالٌ على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لايدرك إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارةٍ أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلّا قليلاً. فإن شكوا ثقلاً أو علةً أو انقطاع شربٍ أو بالةٍ أو إحالة أرضٍ اغتمرها غرقٌ أو أجحف بها عطشٌ خففتَ عنهم بما ترجو أن يصلح به

ص: 207


1- مكارم الأخلاق: 452.
2- منية المريد: 368.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 318.
4- الكافي 5: 280.
5- الكافي 5: 280.

أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم؛ فإنه ذخرٌ يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضل قوّتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك(1) لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبةً أنفسهم به، فإن العمران محتملٌ ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر...، ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه؛ فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترءون عليها، فإنهم سلمٌ لا تخاف بائقته وصلحٌ لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثيرٍ منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات وذلك باب مضرةٍ للعامة وعيبٌ على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدلٍ وأسعارٍ لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرةً بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبهفي غير إسرافٍ...»(2).

الإسلام معتدل في نهجه

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام) لما تلا هذه الآية: «{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ

ص: 208


1- الإجمام: الترفيه والإراحة.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53، من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولّاه مصر.

وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(1) قال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده فقال: هذا الإقتار الذي ذكره اللّه في كتابه، ثم قبض قبضة أخرى فأرخى كفه كلها ثم قال: هذا الإسراف، ثم أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال: هذا القوام»(2).

وقال العياشي: استأذنت الرضا(عليه السلام) في النفقة على العيال؟ فقال: «بين المكروهَين» قال: فقلت: جعلت فداك، لا واللّه ما أعرف المكروهين؟

فقال: «بلى يرحمك اللّه أما تعرف أن اللّه عزّ وجلّ كره الإسراف وكره الإقتار فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}»(3)(4).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «إن للسخاء مقداراً فإن زاد عليه فهو سرف، وللحزم مقداراً فإن زاد عليه فهو جبن، وللاقتصاد مقداراً فإن زاد عليه فهو بخل، وللشجاعة مقداراً فإن زاد عليه فهو تهور»(5).

معرفة الأحداث تنجي من المهالك

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فانما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر،وانتفع بالعبر، ثم سلك جدداً واضحاً يتجنب فيه الصرعة في المهاوي...»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في وصيته لعبد اللّه ابن جندب: «وقف عند كل أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه؛ قبل أن تقع فيه فتندم»(7).

ص: 209


1- سورة الفرقان، الآية: 67.
2- الكافي 4: 54.
3- سورة الفرقان، الآية: 67.
4- الخصال 1: 54.
5- الدرة الباهرة: 45.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 153 من خطبة له(عليه السلام) في صفات الغافلين.
7- تحف العقول: 304.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد»(1).

تحليل أحوال الأمم الماضية

قال أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه): «وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لآثار مواقع النعم ف- : {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَٰلًا وَأَوْلَٰدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(2) فإن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء(3) والنجداء(4) من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل(5)، بالأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة والأخطار الجليلة والآثار المحمودة، فتعصبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض. واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم واحذروا أن تكونوا أمثالهم، فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم،فالزموا كل أمرٍ لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها، والتواصي بها، واجتنبوا كل أمرٍ كسر فقرتهم، وأوهن منتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي. وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في

ص: 210


1- الكافي 8: 23.
2- سورة سبأ، الآية: 35.
3- المجداء: الشرفاء والكرماء من القوم.
4- النجداء: وهم أهل الاعانة والاستغاثة.
5- اليعاسيب جمع يعسوب: وهو أمير النحل، ويستعمل مجازاً في رئيس القوم.

حال التمحيص والبلاء؛ أ لم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً وأجهد العباد بلاءً، وأضيق أهل الدنيا حالاً، اتخذتهم الفراعنة عبيداً، فساموهم سوء العذاب وجرعوهم المرار، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة، لا يجدون حيلةً في امتناعٍ، ولا سبيلاً إلى دفاعٍ، حتى إذا رأى اللّه سبحانه جد الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً وأئمةً أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم، فانظروا كيف كانوا، حيث كانت الأملاء مجتمعةً، والأهواء مؤتلفةً، والقلوب معتدلةً، والأيدي مترادفةً، والسيوف متناصرةً، والبصائر نافذةً، والعزائم واحدةً، أ لم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين، فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة وتشتتت الألفة واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين وتفرقوا متحاربين، وقد خلع اللّه عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين.

فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل(عليهم السلام) فما أشد اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال، تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم، لياليكانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق، وبحر العراق، وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح(1)، ومهافي(2) الريح، ونكد المعاش، فتركوهم عالةً مساكين، إخوان دبرٍ ووبرٍ، أذل الأمم داراً وأجدبهم قراراً، لا يأوون إلى جناح

ص: 211


1- الشيح: نبات معروف ينبت في البادية.
2- المهافي: المواضع التي تهفو الرياح أي تهب.

دعوةٍ يعتصمون بها، ولا إلى ظل ألفةٍ يعتمدون على عزها، فالأحوال مضطربةٌ والأيدي مختلفةٌ والكثرة متفرقةٌ، في بلاء أزلٍ وأطباق جهلٍ، من بناتٍ موؤودةٍ وأصنامٍ معبودةٍ وأرحامٍ مقطوعةٍ وغاراتٍ مشنونةٍ.

فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولاً(1) فعقد بملته طاعتهم، وجمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين، وفي خضرة عيشها فكهين، قد تربعت الأمور بهم في ظل سلطانٍ قاهرٍ، وآوتهم الحال إلى كنف عزّ غالبٍ، وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملكٍ ثابتٍ، فهم حكامٌ على العالمين، وملوكٌ في أطراف الأرضين، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم، ويمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم، لا تغمز لهم قناةٌ ولا تقرع لهم صفاةٌ. ألّا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة، وثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهلية، فإن اللّه سبحانه قد امتن على جماعة هذه الأمة، في ما عقد بينهم من حبل هذه الألفة، التي ينتقلون في ظلها ويأوون إلى كنفها، بنعمةٍ لا يعرف أحدٌ من المخلوقين لها قيمةً؛ لأنها أرجح من كل ثمنٍ، وأجل من كل خطرٍ. واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً،وبعد الموالاة أحزاباً، ما تتعلقون من الإسلام إلّا باسمه، ولا تعرفون من الإيمان إلّا رسمه، تقولون النار ولا العار، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه، انتهاكاً لحريمه، ونقضاً لميثاقه، الذي وضعه اللّه لكم حرماً في أرضه، وأمناً بين خلقه، وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصارٌ ينصرونكم، إلّا المقارعة بالسيف، حتى يحكم اللّه

ص: 212


1- ألا وهو سيد الكائنات المبعوث رحمة للعالمين الرسول الأعظم محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

بينكم.

وإن عندكم الأمثال من بأس اللّه وقوارعه وأيامه ووقائعه، فلا تستبطئوا وعيده جهلاً بأخذه، وتهاوناً ببطشه، ويأساً من بأسه، فإن اللّه سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن اللّه السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي. ألّا وقد قطعتم قيد الإسلام وعطلتم حدوده وأمتم أحكامه»(1).

ص: 213


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

توصيات إلى العاملين للإسلام

الدعوة إلى الإسلام

اشارة

قال اللّه تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(1).

وقال سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).

هناك حقيقة يعترف بها حتى بعض أعداء الإسلام وهم يستيقنونها في أنفسهم، وهي أن الإسلام لو طبق نظامه وقوانينه على العالم لتحققت العدالة الاجتماعية كاملة، وتحقق الرفاه والسعادة البشرية بحيث لا يبقى مجال أبداً لأية قوة ظالمة أو حكومة غاشمة متسلطة على رقاب الشعوب.

ومن هنا جاءت الدعوة الإلهية لجميع العباد بالدخول في الإسلام.

من أساليب الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

إن الإسلام دعا الجميع إلى الانضمام تحت لوائه، وكانت الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجلى ذلك في أسلوب دعوة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) غير المسلمين إلى الإسلام، فقد كان من أساليبه التي اتبعها بأمر اللّه عزّ وجلّ - باعتباره

ص: 214


1- سورة النحل، الآية: 125.
2- سورة آل عمران، الآية: 85.

قائداً للمسلمين - مع باقي الحكام والملوك أن دعاهم إلى الإسلام وترك دياناتهم التي تخالف العقل والفطرة، وضمن لهم السلم والسلامة وأنهم لو دخلوا الإسلام فإنه سيبقيهم في مناصبهم التي هم عليها. كما أظهر لهم أن لا حاجة لإرسالهم الأموال والموارد التي كانت تجمع في دولتهم بشرط أن تصرف على الشعوب، إلّا في حالة واحدة وهي تلك الأموال الفائضة عن حاجة ذلك الشعب.

فقد ذكر أن (كسرى) كتب إلى (باذان) - وكان والياً على اليمن - : بلغني أن في أرضك رجلاً يتنبأ فاربطه وابعث به إلي، فبعث (باذان) قهرمانه وهو (بانوبه)، وكان كاتباً حاسباً، وبعث معه برجل من الفرس يقال له: (خرخسك) فكتب معهما إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى وقال لبانوبه: ويلك، انظر ما الرجل، وكلمه، وأتني بخبره.

فخرجا حتى قدما المدينة على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكلمه بانوبه وقال: إن شاهنشاه (ملك الملوك) كسرى، كتب إلى الملك باذان يأمره، أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتبت فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكف عنك به، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.

وكانا قد دخلا على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما،وقال: «ويلكما من أمركما بهذا؟».

قالا: أمرنا بهذا ربنا، يعنيان كسرى.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي».

ثم قال لهما: «ارجعا حتى تأتياني غداً». وأتى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الخبر من السماء: أن اللّه عزّ وجلّ قد سلط على كسرى ابنه (شيرويه) فقتله في شهر كذا وكذا لكذا وكذا من الليل، فلما أتيا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لهما: «إن ربي قد قتل

ص: 215

ربكما ليلة كذا وكذا من شهر كذا وكذا، بعد ما مضى من الليل كذا وكذا، سلط عليه شيرويه فقتله».

فقالا: هل تدري ما تقول؟! إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا، فنكتب بها عنك ونخبر الملك؟

قال: «نعم، أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهي إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملّكتك على قومك»(1).

وروي أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتب إلى باذان كتاباً جاء فيه: «إن اللّه وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا فانتظر ذلك»، فلما أتى الكتاب باذان توقف وقال: إن كان نبياً فسيكون ما قال، فلما جاء إليه كتاب شيرويه أسلم، وأسلم معه الأبناء من فارس من كان منهم باليمن، وبعث إليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنيابة اليمن بكمالها، فلم يعزله عنها حتى مات(2).

وهكذا كتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى العديد من ملوك العالم أن: «أسلم تسلم».

وذلك عندما رجع(صلی اللّه عليه وآله وسلم)من صلح الحديبية في ذي الحجة من السنة السادسة للهجرة، فأخذ يبعث إلى الملوك ورؤساء الدول والقبائل يدعوهم إلى الإسلام. وكل هذه الرسائل كانت تحكي عن الدعوة إلى الصلح والأمن والسلام.

وإليكم نماذج منها:

رسالة إلى هرقل

1- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى هرقل عظيم الروم:

ص: 216


1- بحار الأنوار 20: 389.
2- انظر: مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 332.

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه، عبده ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، أسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم اليريسين(1) ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا اللّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللّه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون».

والأريسين أو اليريسين: جمع أريس، أي المزارع.

رسالة إلى كسرى

2- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى كسرى ملك إيران:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى وآمن باللّه ورسوله، وشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لاشريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بداعية اللّه عزّ وجلّ، فإني أنا رسول اللّه إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم فإن أبيت فعليك فإن إثم المجوس عليك»(2).

رسالة إلى النجاشي

3- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك الحبشة:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى النجاشي ملك الحبشة: إني أحمد إليك اللّه الملك القدوس السلام المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة، فحملت بعيسى، وإني أدعوك إلى

ص: 217


1- بحار الأنوار 20: 386.
2- بحار الأنوار 20: 389.

اللّه وحده لا شريك له، فإن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول اللّه وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، والسلام على من اتبع الهدى»(1).

رسالة إلى النجاشي الثاني

4- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى النجاشي الثاني:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى النجاشي عظيم الحبشة: سلام على من اتبع الهدى وآمن باللّه ورسوله، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية اللّه، فإني رسوله، فأسلم تسلم {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(2) فإن أبيت فعليك إثم النصارى)(3).

ولا يخفى أن لقب ملك الحبشة كان (الأضخم).

رسالة إلى المقوقس

5- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المقوقس كبير القبط(4):

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى المقوقس عظيم القبط: سلام على من اتبع الهدي، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم

ص: 218


1- بحار الأنوار 20: 392، ومكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 430.
2- سورة آل عمران، الآية: 64.
3- انظر: بحار الأنوار21: 23، وقد أشار العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إلى أصل الرسالة من دون ذكر نصها، ومكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 455.
4- انظر: بحار الأنوار 20: 382 وقد أشار العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إلى أصل الرسالة من دون ذكر نصها، مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 416.

يؤتك اللّه أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط، و{يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ})(1).

رسالة إلى ملك مصر

6- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك مصر:

روي أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتب رسالة ثانية إلى المقوقس ملك مصر، وفي ما يلي نصها:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عند رسول اللّه إلى صاحب مصر، أما بعد، فإن اللّه أرسلني رسولاً، وأنزل علي كتاباً قرآناً مبيناً، وأمرني بالإعذار والإنذار ومقاتلة الكفار، حتى يدينوا بديني، ويدخل الناس فيه، وقد دعوتك إلى الإقرار بوحدانيته تعالى، فإن فعلت سعدت، وإن أبيت شقيت، والسلام)(2).

رسالة إلى صاحب دمشق

7- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى الحارث بن أبي شمر: سلام على من اتبع الهدى، وآمن به وصدق، وإني أدعوك أن تؤمن باللّه وحده لا شريك له، يبقى ملكك)(3).

رسالة إلى ملك البحرين

8- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المنذر بن ساوي ملك البحرين:

ص: 219


1- سورة آل عمران، الآية: 64.
2- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 418.
3- انظر: بحار الأنوار 20: 383 وقد أشار العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إلى أصل الرسالة من دون ذكر نصها، ومكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى المنذر بن ساوي: سلمأنت، فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلّا هو، أما بعد: فإن من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ذمة اللّه وذمة رسوله ممن أحب ذلك من المجوس فإنه آمن، ومن أبى فعليه الجزية)(1).

رسالة إلى ملك اليمامة

9- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى هوذة بن علي ملك اليمامة:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى هوذة بن علي: سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك)(2).

رسالة إلى ملوك عمان

10- رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جيفر وعبد ملكي عمان:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد عبد اللّه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، إني رسول اللّه إلى الناس كافةً لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما)(3).

ص: 220


1- انظر: بحار الأنوار 21: 49 وقد أشار العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إلى أصل الرسالة من دون ذكر نصها، ومكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 649.
2- انظر: بحار الأنوار 20: 394 وقد أشار العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إلى أصل الرسالة من دون ذكر نصها، ومكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 343.
3- انظر: بحار الأنوار 18: 138 وقد أشار العلامة المجلسي(رحمه اللّه) إلى أصل الرسالة من دون ذكر نصها، ومكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 361.

وقد كان هذا الأسلوب الهادئ والهادف نابعاً من تلك الحكمة العالية التيكان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتحلى بها، حيث ساعد في الدعوة للإسلام كثيراً، وعلم الناس أن هذا الدين ليس من ورائه أطماع دنيوية رخيصة ولا منافع شخصية تعود بشكل أو آخر على صاحب الدعوة الإسلامية الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ ولهذا السبب حينما سمع الناس نداء الإسلام وعرفوا صدقه لبّوا الدعوة واستقبلوها بكل شوق لاطمئنانهم على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم.

رسالة إلى يهود خيبر

11- ومن كتاب لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى يهود خيبر:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه صاحب موسى وأخيه المصدّق لما جاء به، ألّا إن اللّه قال لكم: يا معشر أهل التوراة، وإنكم لتجدون ذلك في كتابكم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَْٔهُ فََٔازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَا}(1). وإني أنشدكم باللّه، وأنشدكم بما أنزل عليكم، وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاكم من فرعون وعمله إلّا أخبرتموني هل تجدون في ما أنزل اللّه عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(2) فأدعوكم إلى اللّه ونبيه)(3).

ص: 221


1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة البقرة، الآية: 256.
3- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 487.
رسالة إلى أهل جرباء وأذرح

12- وكتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أهل جرباء وأذرح:(بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي رسول اللّه، لأهل جرباء وأذرح، إنهم آمنون بأمان اللّه وأمان محمد، وإن عليهم مائة دينار في كل رجب، ومائة أوقية طيبة، وإن اللّه عليهم كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين ومن لجأ إليهم من المسلمين)(1).

رسالة إلى أهل نجران

13- وكتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأهل نجران:

(... لنجران وحاشيتها جوار اللّه وذمة محمد النبي رسول اللّه، على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعيرهم وبعثهم وأمثلتهم، لا يغير ما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم وأمثلتهم، لا يفتن أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا واقه من وقاهيته(2)

على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم رهق ولا دم جاهلية، ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين بنجران، ومن أكل منهم رباً من ذي قبل فذمتي منه برئية، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، ولهم على ما في هذه الصحيفة جوار اللّه وذمة محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبداً حتى يأمر اللّه ما نصحوا وأصلحوا في ما عليهم غير مكلفين شيئاً بظلم)(3).

رسالة إلى اليهود عامة

14- وفي بعض المصادر أنه كتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في معاهدة له مع عامة

ص: 222


1- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 3: 113.
2- الواقه: قيم البيعة، والوقاهية: الوظيفة.
3- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 3: 152 و 3: 165.

اليهود، ليحافظ بذلك على الأمن والأمان والسلم والسلام لعموم الشعب من مسلمين وغيرهم، وكانت لمثل هذه المعاهدات والرسائل الأثر البالغ فيالتعرف على سماحة الإسلام وأخلاقياته، وكان ذلك سبباً في إسلام الكثير من اليهود:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم(1) وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النجار على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف

ص: 223


1- الربعة: الحالة التي جاء الإسلام وهم عليها.

والقسط بين المؤمنين.

وبنو النبيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً(1)بينهم، أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة(2) ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين. وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن. وإن ذمة اللّه واحدة، يجير عليهم أدناهم. وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

وإن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصرين عليهم. وأن سلم المؤمنين واحدة، لايسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلّا على سواء وعدل بينهم. وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً. وإن المؤمنين يبئ بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه. وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه. وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش، ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن. وإنه من اعتبط(3) مؤمناً قتلاً عن بيّنة، فإنه قود به، إلّا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلّا قيام عليه. وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن باللّه واليوم الآخر: أن ينصر محدثاً، ولايؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة اللّه وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين

ص: 224


1- المفرح: المثقل بالدين والكثير العيال.
2- الدسيعة: العظيمة.
3- اعتبطه: قتله بلا جناية منه توجب قتله.

دينهم، مواليهم وأنفسهم إلّا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ(1) إلّا نفسه وأهل بيته.

وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بن عوف. وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلّا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلّا نفسه وأهل بيته. وإن جفنة - بطن من ثعلبة - كأنفسهم. وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف. وإن البر دون الإثم. وإن موالي ثعلبة كأنفسهم. وإن بطانة(2) يهود كأنفسهم. وإنه لا يخرج منهم أحد إلّا بإذن محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وإنه لاينحجز(3) على ثأر جرح. وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، إلّا من ظلم. وإن اللّه على أبر هذا(4).

وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه. وإن النصر للمظلوم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. وإن الجار كالنفس، غير مضابى ولا آثم. وإنه لا تجار حرمة إلّا بأذن أهلها. وإن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وإن اللّه على أتقى ما في هذا الصحيفة وأبره.

وإنه لا تجار قريش، ولا من نصرها. وإن بينهم النصر على من دهم يثرب،

ص: 225


1- يوتغ: يهلك.
2- بطانة الرجل: خاصته وأهل بيته.
3- الحجز: الفصل والمنع، وحجز عليه ماله.
4- أي على الرضا به.

وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلّا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم، من جانبهم الذي قبلهم.

وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة. وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلّا على نفسه، وإن اللّه على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلّا من ظلم وأثم. وإن اللّه جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم))(1).

وهذه المكاتيب تدل على أسلوب التبليغ الإسلامي وأنه يلزم على العاملين للإسلام الاتصاف بهذه الأخلاقيات والفضائل.

المستعمرون وتشويه سمعة الإسلام

لقد لاحظ المعاندون من غير المسلمين سرعة انتشار هذا الدين الحنيف؛ حيث هو الدين الموافق للفطرة السليمة والعقل النظيف، فبعدما تقدم الإسلام ذلك التقدم الهائل، خاصة في البلاد التي خضعت للإسلام بدون أي حرب أو تهديد، بل كان انتشار الإسلام فيها عبر دعوة العلماء والتجار، فخاف الغربيون على مصالحهم فعمدوا - خاصة عندما دب الضعف في دولة الإسلام خلال القرون الثلاثة الأخيرة - بتشويه صورة الإسلام أمام العالم، عبر أكاذيب وأباطيل يروجونها ضد الإسلام، وإظهاره للعالم على خلاف حقيقته. وهم يهدفون من وراء ذلك عدة أمور:

فمن جانب لينفروا العالم عن الإسلام بتضعيفه وتهميشه في أعين الناس،

ص: 226


1- انظر: مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 3: 6-44.

ومن جانب آخر لكي يبقوا هم أسياد العالم، ويستمروا في تسلطهم وظلمهم للشعوب، واستعمارهم للدول، ونهبهم لممتلكاتها وخيراتها.

هذا على الرغم من أن بعض حكام الغرب، وبعض رجال الدين المسيحي - البابوات -(1) يدركون جيداً أن الإسلام هو الدين الحق، وهو الدين الذي سيعم العالم كله، فقد قال تبارك وتعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(2)، إلّا أنهم يحاولون أن يضعوا العراقيل في طريقه، ولكن اللّه يأبى إلّا أن يتم نوره، والإسلام سينتشر سريعاً - بإذن اللّه - وسيكون الدين الأقوى والأكثر انتشاراً حتى في الغرب، لما يحمله من أفكار تتلاءم مع فطرة الإنسان السليمة.

كما أن الإنسانية ترى فيه كمالها المنشود وسعادتها المفقودة، ولا سيما الجانب الأخلاقي والروحي في الإسلام؛ فهو من أفضل طرق الهداية والتبليغ وكسب الناس إلى الإسلام.

الأخلاق الإسلامية سر التقدم

لذا يلزم أن يتحلى المسلمون وخاصة الدعاة منهم، بالأخلاق الإسلامية الرفيعة التي أمر بها اللّه تعالى في كتابه الكريم، حيث امتدح الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(3) وجسّد ذلك الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأفعاله وأقواله وسيرته، وكذلك هي متجسدة في أفعال وأقوال الأئمة الطاهرين من أهل البيت (صلوات اللّه أجمعين).

ص: 227


1- والبابا مصطلح يراد به الحبر الأعظم والرئيس الأعلى للكنيسة.
2- سورة التوبة، الآية: 32-33.
3- سورة القلم، الآية: 4.

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(1).

وكذلك ورد عن عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) أنه قال: «إنا لنحب من شيعتنا: من كان عاقلاً فهماً، فقيهاً حليماً، مدارياً صبوراً، صدوقاً وفيّاً - ثم قال - إن اللّه تبارك وتعالى خص الأنبياء بمكارم الأخلاق، فمن كانت فيه فليحمد اللّه على ذلك، ومن لم يكن فيه فليتضرع إلى اللّه وليسأله إياه».

قال قلت: جعلت فداك، وما هي؟

قال: «الورع والقنوع والصبر والشكر والحلم والحياء والسخاء والشجاعة والغيرة والبر وصدق الحديث وأداء الأمانة»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن من مكارم الأخلاق صدق الحديث وإعطاء السائل وصدق الناس وصلة الرحم وأداء الأمانة والتذمم للجار والتذمم للصاحب وإقراء الضيف»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام):«ذللوا أخلاقكم بالمحاسن، وقوِّدوها إلى المكارم، وعودوا انفسكم الحلم، واصبروا على الإيثار على أنفسكم في ما تحمدون عنه، ولا تداقوا الناس وزناً بوزن(4)، وعظموا أقداركم بالتغافل عن الدني من الأمور، وأمسكوا رمق الضعيف بجاهكم وبالمعونة له إن عجزتم عمّا رجاه عندكم ولا تكونوا بحاثين عمّا غاب عنكم؛ فيكثر عائبكم، وتحفظوا من الكذب فإنه منأدنى الأخلاق قدراً، وهو نوع عن الفحش وضرب من الدناءة، وتكرموا بالتعامي

ص: 228


1- بحار الأنوار 16: 210.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 192.
3- الجعفريات: 151.
4- أي: لا تحاسبهم بالدقة في الأمور.

عن الاستقصاء»(1).

وقال النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاث خصال من كن فيه فقد حاز خصال الخير: من إذا قدر لم يتناول ما ليس هو له، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل»(2).

وعن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد(عليهما السلام): «أنصف الناس من نفسك، وواسهم من مالك، وارض لهم ما يرضونه، واذكر ثواب اللّه، وإياك والكسل والضجر في ما يقربك منه، وعليك بالصدق والورع وأداء الأمانة، وإذا وعدتم لا تخلفوه، وذلك لكم دون غيركم»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «المكارم عشر، فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن، فإنها تكون في الرجل ولا تكون في ولده، وتكون في الولد ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في الحر».

قيل: وما هن؟

قال: «صدق البأس، وصدق اللسان، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وإقراء الضيف، وإطعام السائل والمكافأة على الصنائع، والتذمم للجار(4) والتذمم للصاحب، ورأسهن الحياء»(5).

وعن الإمام الرضا(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): عليكمبمكارم الأخلاق؛ فإن ربي عزّ وجلّ بعثني بها، وإن من مكارم الأخلاق أن يعفو

ص: 229


1- تحف العقول: 224.
2- مستدرك الوسائل 11: 189.
3- مستدرك الوسائل 11: 189.
4- التذمم للجار: وهو أن يحفظ ذمامه ويطرح عن نفسه ذم الناس له إن لم يحفظه، وحاصل المعنى: أن يدفع الضرر عمن يصاحبه سفراً أو حضراً وعمن يجاوره.
5- الكافي 2: 55.

الرجل عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وأن يعود من لا يعوده»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «طلبت القدر والمنزلة فما وجدت إلّا بالعلم، تعلموا يعظم قدركم في الدارين، وطلبت الكرامة فما وجدت إلّا بالتقوى، اتقوا لتكرموا، وطلبت الغنى فما وجدت إلّا بالقناعة، عليكم بالقناعة تستغنوا، وطلبت الراحة فما وجدت إلّا بترك مخالطة الناس إلّا لقوام عيش الدنيا، اتركوا الدنيا ومخالطة الناس تستريحوا في الدارين، وتأمنوا من العذاب، وطلبت السلامة فما وجدت إلّا بطاعة اللّه، أطيعوا اللّه تسلموا، وطلبت الخضوع فما وجدت إلّا بقبول الحق، اقبلوا الحق فإن قبول الحق يبعد من الكبر، وطلبت العيش فما وجدت إلّا بترك الهوى، فاتركوا الهوى ليطيب عيشكم، وطلبت المدح فما وجدت إلّا بالسخاء، كونوا أسخياء تمدحوا، وطلبت نعيم الدنيا والآخرة فما وجدت إلّا بهذه الخصال التي ذكرتها»(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال لولده: «إن اللّه عزّ وجلّ جعل محاسن الأخلاق وُصلة بينه وبين عباده، فنحب أحدكم أن يمسك بخُلُق متصل باللّه»(3).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «الأخلاق منائح من اللّه عزّ وجلّ فإذا أحب عبداً منحه خلقاً حسناً، وإذا أبغض عبداً منحه خلقاً سيئاً»(4).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لو كنا لا نرجو جنة ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق؛ فإنها مما تدل على سبيل

ص: 230


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 478.
2- جامع الأخبار: 123.
3- مستدرك الوسائل 11: 192.
4- الإختصاص: 225.

النجاح».

فقال رجل: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين، سمعته من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟

قال: «نعم، وما هو خير منه، لمّا أتانا سبايا طي، فإذا فيها جارية - إلى أن قال(عليه السلام) - فقالت: يا محمد، إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب؛ فإني ابنة سيد قومي، كان أبي يفك العاني، ويحمي الذمار، ويقري الضيف ويشبع الجائع ويكسي المعدوم ويفرج عن المكروب، أنا ابنة حاتم طي، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): خلوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، فقام أبو بردة فقال: يا رسول اللّه، اللّه يحب مكارم الأخلاق؟ فقال: يا أبا بردة، لا يدخل الجنة أحد إلّا بحسن الخلق»(1).

نعم، بهذه الأخلاق والتعاليم يلزم أن يتحلى دعاة الإسلام والمبلغين له؛ ليكونوا دعاة حقيقيين إلى الإسلام، فيمتلكوا السلاح الرابح في المعركة.

واجبنا تجاه المحافظة على الإسلام ونشره

اشارة

إذن وبعد ما ذكرنا في هذه المقدمة، التي تطرقنا فيها إلى تقدم الإسلام من جهة، ومحاربة الغرب له من جهة أخرى، نبين ما يلزم على المسلمين ملاحظته:

مؤسسات الدعوة وكوادرها

أولاً: يلزم على المسلمين العمل لإيجاد مؤسسات، تتضمن كادراً مثقفاً وواعياً يبحث فيها كيفية إحباط دسائس ومؤامرات أعداء الإسلام، الإعلامية والسياسية والاقتصادية وغيرها، ووضع برامج وخطط لهذه المؤسسات الإسلامية تساهم فيتطوير ورفع المستوى العلمي والفكري والأخلاقي لأفراد المجتمع الإسلامي.

ص: 231


1- مستدرك الوسائل 11: 193.
العمل الثقافي

ثانياً: العمل على نشر المفاهيم الصحيحة والعقائد الإسلامية وإيصالها إلى العالم، بواسطة القلم، والخطابة، والمحاضرات، وعقد الندوات، وإرسال المبلغين، وإنشاء المؤتمرات الثقافية لذلك الهدف.

السيد الرضي(رحمه اللّه) وعمله الإسلامي

ومن أبرز الأمثلة على هذه النقطة، هو نشاط السيد الرضي(رحمه اللّه) في بغداد، الذي أسس تجمعاً يجمع تحت لوائه غير المسلمين، ويُطلعهم على محاسن الإسلام، وأهدافه السامية، وقوانينه السمحاء، وذلك من أجل جذبهم إلى الإسلام من جهة، ومن جهة أخرى رفع كل الشبهات والتصورات الوهمية التي كانوا يحملونها عن الإسلام.

وكان ممن رباهم الشريف الرضي(رحمه اللّه) هو (مهيار الديلمي)(1) الذي كان مجوسياً في بداية أمره وأسلم على يد الشريف الرضي(رحمه اللّه)، وبعد التوجيه المركّز، والإرشاد المتواصل له من قبل السيد الرضي(رحمه اللّه) ومؤسسته، أصبح (حامل لواء التشيع) في عصره، وقد كان من الشعراء أيضاً وله ديوان يعتبره البعض من أفضل الدواوين في الشعر العربي والإسلامي.

فهذا مثال بسيط، وشاهدنا نحن على أسلوب الدعوة وفائدة إنشاء المؤسسات الإسلامية، ونشر الأفكار والتعاليم الدينية من خلالها، فعلى العاملين للإسلام أن يهتموا بذلك.

ذكاء وحذر

ثالثاً: يلزم على العاملين لنشر وتبليغ الدين أن يتصفوا بالذكاء في العمل،

ص: 232


1- انظر: ترجمته وبعض قصائده بعد الهداية في كتاب الغدير 4: 238.

والحذر الدائم من مكائد أعداء الإسلام، كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في وصف المؤمن: «المؤمن كيس فطن حذر»(1).

دور العلماء

رابعاً: كما عليهم المحافظة على علمائهم وحمايتهم، والدفاع عنهم؛ ليتمكنوا من أداء دورهم في الحفاظ على الأمة ومعتقداتها وثرواتها، لأن أعداء الإسلام يحاولون تشويه سمعة العلماء وإسقاطهم في أعين الناس، ويتحينون الفرص لتصفيتهم معنوياً وجسدياً؛ لأن الغربيين أدركوا أهم جهة في قوة المسلمين، حيث علموها في علمائهم ومراجع تقليدهم، فقد كان ذلك واضحاً في قصة التنباك وغيرها(2).

فخططوا تخطيطاً دقيقاً وبدهاء وخبث، في العمل على قطع صلة الأمة والمسلمين عن مراجعها وعلمائها، فدخلوا من باب الاغتيالات الفردية؛ وقد حاول طغاة العراق وبأمر من الاستعمار، بتصفية العلماء في قصص مشهورة، ومرة خططوا لاغتيال أبناء كبار مراجع الشيعة في العراق عبر خطة مدبرة، وبما أن بعض هؤلاء كان مقيماً في لندن فقد أجلوا اغتياله إلى وقت آخر، أي إلى حين أن يخرج من لندن، حيث لم يكن الاستعمار البريطاني يريد أن يثير الرأي العام ضده وتلطيخ سمعته السياسية بتهمة الاغتيالات والتصفية الجسدية هناك، وذلك باغتيال أحد علماء المسلمين في عقر داره، فيعود ضرر ذلك عليهم؛ إذ أنهم طالما تبجحوا وادعوا إطلاق الحريات والديمقراطية في العالم. فتربصوا به حتىسافر إلى السودان فاغتالوه على أيدي عملائهم من حزب البعث هناك(3).

ص: 233


1- جامع الأخبار: 85.
2- كثورة العشرين في العراق عام (1920م).
3- هو الشهيد العلامة السيد مهدي الحكيم(رحمه اللّه)، الابن الثالث للمرجع الديني الإمام السيد محسن الحكيم(رحمه اللّه).

ولو كان المسلمون على وعي وحذر ويقظة وتنبه لمخططات الأعداء، لما وقعت هذه الأمور التي أضرت بالمسلمين كثيراً.

إذن، المطلوب هو المحافظة على العلماء والحوزات العلمية بوعي وحذر، لكي يقوم العلماء بواجبهم، فلا تعطى فرصة لأعداء الإسلام للعمل ضد الإسلام والمسلمين، وليتمكن العلماء من إفشال مخططاتهم التي تستهدف ضرب هذا الدين المبين.

العلم دائماً

خامساً: ومن الأمور التي يجب أن تكون في سعي العاملين، هو العمل الدؤوب في تحصيل العلم والزيادة منه، وخاصة ما يرتبط بالمعارف الإسلامية، وعدم ترك هذا التعلم والتعليم، وفي القرآن الكريم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(1).

ذلك لأجل أن نكون دائماً على أتم الاستعداد لنشر الإسلام ومعارفه، وتكون لنا ملكة الرد على شبهات أعدائه المبطلين.

هكذا الحرص على التعلم والتعليم

كان في مدينة (شيراز) أحد العلماء وقد اهتم بكتابة شرح قانون ابن سينا، ففي أثناء شرحه واجهته مسألة عجز عن بيانها، فحاول التعرف على شخص قادر على حلها، فقالوا له: إن هناك عالماً في مدينة أصفهان له القدرة على الإجابة الصائبة، وعندما وصله الشارح لم يحصل منه على جواب، ثم قيل له: أن هناك عالماً آخر في مدينة قزوين، يستطيع أن يجيبك على سؤالك هذا، فذهب إلى هناك، وعندماطرح السؤال أبدى القزويني عجزه أيضاً. بعد ذلك قالوا للشارح: أن عالماً كبيراً في بغداد يدعى نصير الدين الطوسي، وهو عالم عصره ومتبحر في أغلب العلوم،

ص: 234


1- سورة طه، الآية: 114.

ولم يعجزه مثل هذا السؤال أبداً. فذهب الرجل الشارح إلى بغداد، متحملاً مصاعب الطريق ووعثاء(1) السفر. فبعدما وصل إلى بغداد أرشدوه إلى دار نصير الدين الطوسي، فقيل له: إنه يخرج في الصباح لإنجاز أعماله ثم يعود إلى منزله وقت صلاة الظهر ليصلي ويستريح شيئاً من الوقت. فقرر ذلك الرجل (الشارح) الوقوف على قارعة الطريق الذي يمر منه العلامة نصير الدين الطوسي، لكي يرى موكب الطوسي حينما يمر بالقرب منه، ولما أن وصل تقدم إليه الرجل وعرض عليه حاجته، فقال له الخواجة: ائتني في هذا الوقت (وهو وقت استراحته) حتى أجيبك على جميع ما عندك من إشكالات. وفعلاً التقى ذلك الرجل بالخواجة وأجابه على كل ما طرحه من أسئلة.

من هذه القصة وغيرها نستدل على مدى اهتمام العلماء الماضين وسعيهم وهمتهم على تحصيل العلوم، بالرغم من كثرة المشاكل وشدة المعاناة، فكانوا يقطعون المفازات(2) البعيدة، والفجاج العميقة، من أجل الحصول على إجابات للأسئلة، التي يشكل حلها عندهم، أو للمزيد من الإيضاحات، كما حصل لهذا السائل الذي قطع تلك المسافات البعيدة الصعبة حتى نال جواباً لتلك المسألة من الخواجة نصير الدين الطوسي(رحمه اللّه).

إذن يلزم علينا أن نوجد هذه الحالة في أنفسنا - حالة الاهتمام بالعلم والعلماء - والعمل الدؤوب، لأجل تحصيل المعارف الإسلامية الصحيحة، بحيث تصبحالصفة الغالبة على أوقاتنا هي النشاط والفعالية، في مختلف أبعاد الحياة، لنصل إلى أهدافنا المتوخاة، إن شاء اللّه.

ص: 235


1- وعثاء السفر: مشقته وشدته.
2- تسمى الصحراء بالمفازة لأن من خرج منها وقطعها فاز، انظر: لسان العرب 5: 393، مادة (فوز).
مكارم الأخلاق

سادساً: المواظبة على اكتساب مكارم الأخلاق؛ فإن حسن الخلق ضروري ومهم في نجاح العمل، إذ ليس الهدف النهائي هو الاكتفاء بتحصيل العلم وتعبئة أنفسنا بالمفاهيم والأفكار فقط، وإنما الهدف من تحصيل العلوم الإلهية هو تجسيدها على الواقع العملي، لأن ثمرة العلم لا تحصل بذلك فقط، بل لا بد - ولكي يثمر العلم - أن يقترن العلم بالعمل الصالح والخلق الرفيع والإقتداء بخلق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمتنا الطاهرين(عليهم السلام) وقد سبق وذكرنا في بداية الكلام: أن الأخلاق من عوامل الجذب، ومن عوامل النجاح، أما العلم بدون الأخلاق وبدون العمل فهو مورد الحديث الشريف: «أشد الناس عذاباً عالم لا ينتفع من علمه بشيء»(1).

وهنا نذكر قصة - على سبيل المثال - لها دلالة واضحة على أهمية الأخلاق في العمل والجذب الاجتماعي، وعلى كون الأخلاق الحسنة من العوامل الأساسية المؤثر في هداية الناس:

الأخلاق عامل الجذب

ذكر أنه كان أحد المشايخ - وكان من تلاميذ الميرزا المجدد السيد محمد حسن الشيرازي(رحمه اللّه) صاحب ثورة (التنباك) - معروفاً بالتقوى والصلاح، وقد نقل حادثة تعرض لها فقال:

إنه كان ذات مرة وهو في طريقه من الكوفة إلى النجف الأشرف، وإذا بمجموعة من اللصوص يجتمعون عليه بقصد الاعتداء عليه وسرقته، فأمروه بالتجرّد من ثيابه وأن يسلمها لهم بما فيها، ففعل الشيخ ما طلبوا منه، فتجرّد من

ص: 236


1- عدة الداعي: 76.

ملابسه باستثناء الإزار، ثم سلمها إليهم، ولكنه قال لهم: ملابسي بما فيها قد وهبتها لكم؛ حتّى لا تقعوا في معصية اللّه من أجل غصب ملابسي!

وإذا بهذا الكلام يفعل شبه المعجزة في اللصوص، فحصلت فيهم ردة فعل داخلي قادتهم إلى الانتباه والإرتداع، وإذا بهم لايأخذون الثياب، ويتوبون على يديه قائلين: إنه ليس من الحقّ عصيان اللّه تعالى بالسرقة، بعد أن نرى منك مثل هذه الشفقة علينا، وبالفعل فقد تابوا وصار أمرهم إلى خير، وهكذا يفعل الرفق بالنفوس.

مقابلة الإساءة بالإحسان

وحكي عن الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه) أيّام تواجده في سامراء بأنّ جماعة من أهالي سامراء غير الشيعة كانوا قد أغروا صغارهم وشبانهم لأذيّة الميرزا والشيعة، وتحمل الشيعة منهم الأذى بأمر الميرزا، وفي ذات يوم أراد أحد أولئك الشبان - المؤذين للميرزا والشيعة - أن يتزوّج، فقال في نفسه: سوف أذهب إلى الميرزا وأطلب منه مؤنة الزواج فإن أعطاني شيئاً فبها ونعمت وإلّا آذيته.

وبالفعل جاء إلى الميرزا وعرض عليه أمر زواجه ثم طالبه بمساعدة مالية، وبشكل فظ وفج.

فقال له الميرزا: وكم مصرف زواجك؟

قال الشاب: خمسون ليرة - الكلفة تلك الأيام - .

فأعطاه الميرزا المبلغ من دون مماكسة؟!

فتعجبّ الشاب كثيراً وجاء إلى أبيه وحكى له القصّة، فتعجّب أبواه أيضاًوانبهرا من مقابلة الميرزا إساءتهم بالإحسان، وأخذ الشاب يحكي القصّة لكلّ من يراه، حتّى أنه حكى ذلك في ديوان أحد شيوخ العشائر في سامرّاء، فتعجّب الجميع، وقالوا بكلمة واحدة: لاينبغي ايذاء مثل هذا الرجل الكريم.

ص: 237

ثم قام جماعة من الشيوخ والوجهاء ومعهم القرآن الحكيم والسيف وأتوا إلى دار الميرزا، وكان مثل هذا العمل عادة منهم لإظهار التوبة عند الكبراء، فلمّا التقوا بالميرزا قالوا له وهم نادمون معتذرون: إنّ أولادنا آذوك ولم يحفظوا حرمتك، وقد جئناك معتذرين، فإن رأيت أن تغفر لنا وهذا القرآن نحلف به: أننا لا نعود إلى ما يسخطك عنّا أبداً، وإن رأيت أن تقتص منّا فهذا السيف خذه واقتص به منّا.

فأجابهم الميرزا بكل عطف وحنان قائلاً: لابأس عليكم، إنّ هؤلاء الشباب أولادي، وهل يقتص الأب من أولاده؟! ثم إني مطمئنّ بحسن جواركم، وطيب تعاملكم، فلا حاجة لشيء من الأمرين، فشكروا الميرزا على قبوله عذرهم وقاموا وخرجوا من عنده وهم فرحون مستبشرون، وصار هذا الصنيع من الميرزا سبباً من أسباب الألفة بين السنّة والشيعة، والإجلال والإكبار من الأهالي للميرزا وأصحابه.

قصة أخرى

وروي أنه كان أحد العلماء في مدينة بلوشستان ويدعى (عبد العزيز)، يتمتع بنفوذ ووجاهة دينية واجتماعية في تلك المدينة، وكان عالماً اجتماعياً وله تخصص فريد في العلاقات الاجتماعية وحسن المعاشرة مع الناس، فمثلاً: في إحدى المرات حينما كان يريد المجيء إلى إحدى المدن المجاورة لمدينته هاجمه مجموعة من الشباب وسببوا له عدة جراحات في جسده. ولكنه وبالرغم من أنه كان من حقه معاقبتهم على إيذائه وردعهم بالعنف والشدة عن تكرارعملهم هذا فلم يقابلهم بالمثل، بل بعث لهؤلاء الشباب مقداراً من المال، وحذرهم من تكرار مثل ذلك العمل.

وبهذا الأسلوب استطاع أن يجذب حتى أعداءه ويعمل عملاً واسعاً لأجل

ص: 238

الإسلام والمسلمين.

الإخلاص في العمل

سابعاً: من أهم الصفات التي يلزم على العاملين والمبلغين للإسلام أن يلتزموا به هو الإخلاص في أعمالهم، وجعلها للّه تعالى؛ فاللازم أن يكون المسلمون مخلصين في كل أعمالهم وتحركاتهم، فيعملون للّه ومن أجل اللّه وفي سبيل اللّه وبكل إخلاص، وإذا كان عنوان العمل هو بناء حكومة إسلامية، فيجب - من باب أولى - أن يكون ذلك بكامل الإخلاص لأن الهدف إقامة حكم اللّه وتثبيت معالم دينه. لا الحصول على مكاسب دنيوية ولمجرد الجلوس على كرسي الحكم وامتلاك السلطة وما أشبه، فإن العمل مهما كان كبيراً أو صغيراً يلزم أن تكون نية العامل خالصة لوجه اللّه وابتغاء مرضاته.

أعلى نماذج الإخلاص

وخير قدوة للإخلاص هم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) وذويهم.

ورد عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(1) قال: «ليس يعني أكثر عملاً؛ ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية اللّه والنية الصادقة والحسنة - ثم قال - الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ،والنية أفضل من العمل. ألّا وإن النية هي العمل» ثم تلا قوله عزّ وجلّ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ}(2) «يعني: على نيته»(3).

ص: 239


1- سورة الملك، الآية: 2.
2- سورة الإسراء، الآية: 84.
3- الكافي 2: 16.

وقد ورد في معركة الخندق: أنه لما رأى المسلمون الجيوش والأحزاب التي اجتمعت لقتال المسلمين، عظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظنٍ، وظهر النفاق من بعض المنافقين، فأقام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأقام المشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة، لم يكن بينهم قتال إلّا الرمي بالنبل إلّا أن فوارس من قريش منهم: عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد اللّه، قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيولهم حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيئوا للحرب يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان، ثم أقبلوا تعنق بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق، فقالوا: واللّه، إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فضربوا خيولهم فاقتحموا، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ منهم الثغرة التي منها اقتحموا وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود فارس قريش... فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مشهده وكان يعد بألف فارس، وكان يسمى فارس يليل... وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المداد، وكان أول من طفره عمرو وأصحابه، فقيل في ذلك:

عمرو بن عبد كان أول فارس *** جزع المداد وكان فارس يليل

وذكر ابن إسحاق: أن عمرو بن عبد ود كان ينادي: من يبارز؟

فقام علي(عليه السلام) وهو مقنع في الحديد، فقال: «أنا له يا نبي اللّه».

فقال - رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - : «إنه عمرو اجلس».

ونادى عمرو: ألّا رجل ويؤنبهم ويسبهم، ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قُتل منكم دخلها.

ص: 240

فقام علي(عليه السلام) فقال: «أنا له يا رسول اللّه».

ثم نادى الثالثة فقال:

ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجع *** موقف البطل المناجز

إن السماحة والشجاعة *** في الفتى خير الغرائز

فقام علي(عليه السلام) فقال: «يا رسول اللّه، أنا»

فقال: «إنه عمرو؟».

فقال(عليه السلام): «وإن كان عَمراً». فاستأذن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأذن له... فألبسه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) درعه (ذات الفضول) وأعطاه سيفه (ذا الفقار) وعممه (السحاب) على رأسه تسعة أكوار، ثم قال له: «تقدم». فقال لما ولى: «اللّهم، احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه»... فمشى إليه وهو يقول:

لا تعجلن فقد أتاك *** مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية وبصيرة *** والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقيم *** عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى *** ذكرها عند الهزاهز

قال له عمرو: من أنت؟

قال: «أنا علي».

قال: ابن عبد مناف؟

فقال: «أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف».

فقال: غيرك يا ابن أخي، من أعمامك من هو أسن منك؛ فإني أكره أن أهريق

ص: 241

دمك.

فقال: «لكني واللّه ما أكره أن أهريق دمك».

فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضباً فاستقبله علي بدرقته فضربه عمرو في الدرقة فقدها، وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي(عليه السلام) على حبل العاتق فسقط... وتسيف علي(عليه السلام) رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه، وثارت بينهما عجاجة فسُمع علي(عليه السلام) يكبر فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قتله والذي نفسي بيده».

... وأقبل - علي -(عليه السلام) نحو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووجهه يتهلل، فقال عمر بن الخطاب: هلا استلبته درعه؛ فإنه ليس للعرب درع خيراً منها؟

فقال(عليه السلام): «ضربته فاتقاني بسوأته فاستحييت من ابن عمي أن أستلبه».

قال حذيفة: فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أبشر يا علي، فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك بعملهم؛ وذلك أنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلّا وقد دخله وهن بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلّا وقد دخله عزّ بقتل عمرو». وروي: أنه ضَرب علي(عليه السلام) ضربة ما كان في الإسلام أعز منها، يعني ضربة عمرو بن عبد ود، وضُرب علي(عليه السلام) ضربة ما كان في الإسلام أشأم منهايعني ضربة ابن ملجم عليه لعائن اللّه.(1)

وروي أنه(عليه السلام) لما أدرك عمرو بن عبد ود لم يضربه فوقعوا في علي(عليه السلام) فرد عنه حذيفة فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مه يا حذيفة فإن علياً سيذكر سبب وقفته» ثم إنه ضربه فلما جاء سأله النبي عن ذلك فقال: «قد كان شتم أمي، وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظِّ نفسي، فتركته حتى سكن ما بي ثم قتلته في اللّه»(2).

ص: 242


1- بحار الانوار 20: 202.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 115.
كتمان المعروف

وهكذا يكون أتباع أهل البيت(عليهم السلام) فإنهم يعملون بكل إخلاص ولوجه اللّه تعالى.

أذكر عندما كنا في كربلاء المقدسة، في يوم من الأيام الحارة جداً وبعد الانتهاء من صلاة الجماعة لفريضة الظهر والعصر، توجهت إلى البيت، وفي أثناء الطريق شعرت بوجود شخص يسير خلفي ويتبعني، فقلت في نفسي: لعله لا يقصدني أو لم يقصد متابعتي، لذا واصلت مسيري حتى وصلت إلى الدار، وفتحت الباب، فاقترب ذلك الشخص مني وبدأ بالسلام، فقدّم لي ظرفاً فيه مقدار من المال كحقوق شرعية عنده، وحينذاك عرفت الرجل وكان وجيهاً مخلصاً يدعى الحاج علي الوكيل(رحمه اللّه)، ففهمت أنه طول الطريق كان يريد أن يسلمني ذلك المبلغ ولكن بعيداً عن أعين الناس، إذ كان يريد أن يكون عمله خالصاً لوجه اللّه وحده، خالياً من الرياء، فلهذا ما نقلت هذا الأمر إلّا بعد وفاته.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن لكل حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيء من عمل اللّه»(1).

الصبر دائماً

ثامناً: وهذه آخر نقطة مهمة أردنا بيانها، هي الصبر وطول النفس؛ إذ يلزم أن يتحلى العاملون للإسلام بأكثر قدر ممكن من الصبر وطول النفس، وعدم العجلة في الحصول على النتائج.

فإن للصبر في العمل الإسلامي دوراً كبيراً، ولسعة الصدر دوراً أكبر، فقد عمل الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة(عليهم السلام)، وصبروا على المعاناة، في سبيل نتائج تتحقق في المستقبل البعيد، ولعلها في اليوم الموعود.

ص: 243


1- روضة الواعظين 2: 414.

ولقد كان طول النفس دوماً أسلوب العقلاء والزعماء الناجحين، بعد أن خبروا تكاليف الحياة، وعلموا أن المرامي البعيدة لا تتأتى إلّا بالصبر والاحتمال وطول الأناة.

وهكذا يعمل أغلب أعداء الإسلام حيث يضعون خططاً بعيدة المدى ويصبرون على ذلك، كما حدث ذلك فعلاً في مجلس العموم البريطاني حين صوّب على قانون يقضي باتباع السياسات والخطط التي تعطى نتائج مؤثرة ومغرية، ولو بعد حين!

لذا يلزم على العاملين للإسلام التحلي بالصبر وعدم توقع ظهور النتيجة المطلوبة على الفور وبلا طي للزمن، أو بلا تهيئة للمقدمات اللازمة، وينبغي علينا أن نكون على حذر لئلا نصبح مصداقاً لهذه الآية الكريمة: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْأخِرَةَ}(1).

وبطبيعة الحال فإن الإنسان يحب تحصيل النتائج بأسرع ما يمكن، غير أن ذلك يتنافى أحياناً مع الظروف الموضوعية والمتطلبات الواقعية للعمل.

نعم، هذه بعض التوصيات المختصرة لمن يعمل في سبيل خدمة الإسلام، ولمن يحب هذا الدين العظيم، ويحرص على نشره في ربوع العالم، حتى تنقذ الشعوب المستضعفة من براثن الظلم والاضطهاد، ولن يتحقق هذا الأمر إلّا بتأييد من اللّه عزّ وجلّ والصبر والمصابرة والمرابطة والعمل المتواصل لإعلاء كلمة «لا إله إلّا اللّه، محمد رسول اللّه» في آفاق الأرض(2).

ص: 244


1- سورة القيامة، الآية: 20-21.
2- للمزيد والتفصيل انظر: الكتب التالية: (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، و(طريق النجاة)، و(ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين)، و(السبيل لإنهاض المسلمين)، و(الدولة الإسلامية)، وكثير غيرها مما ألفها الإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

مضافاً إلى ضرورة التحلي بالعلم والفضائل، فإن قيمة كل امرئ هي ما يحمله من علم، ومن صفات الخير والأخلاق الحسنة، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1). حيث أراد الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يكون كل إنسان مسلم متسلحاً بالعلم لكي يحافظ على عقيدته من جهة، ويعمل على إيصال صوت الإسلام أينما حل من جهة أخرى، هذا بالإضافة إلى سائر الشروط الضرورية في سبيل نجاح الدعوة، ونشر الإسلام والمحافظة عليه.

«اللّهم واجعلنا ممن تنتصر به لدينك وتعز به نصر وليك، ولا تستبدل بنا غيرنا»(2) بحق محمد وآل محمد.

من هدي القرآن الكريم

أسلوب الدعوة

قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَأَحْسَنُ}(3).

وقال سبحانه: {فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(5).

وقال جلّ وعلا: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(6).

ص: 245


1- كنز الفوائد 2: 107.
2- مصباح المتهجد 1: 411.
3- سورة النحل، الآية: 125.
4- سورة الإسراء، الآية: 28.
5- سورة طه، الآية: 44.
6- سورة البقرة، الآية: 256.
الإخلاص في العمل

قال عزّ وجلّ: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}(1).

وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).

وقال سبحانه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةِ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فََٔاتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}(3).

وقال جلّ وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(4).

ضرورة نشر الإسلام

قال عزّ وجلّ: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(5).

وقال سبحانه: {رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْالصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(6).

وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

نشر العلوم الإسلامية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربعة تلزم كل ذي حجى وعقل من أمتي».

ص: 246


1- سورة الجن، الآية: 20.
2- سورة الفاتحة، الآية: 5.
3- سورة البقرة، الآية: 265.
4- سورة الأنعام، الآية: 162.
5- سورة سبأ، الآية: 28.
6- سورة الطلاق، الآية: 11.
7- سورة المائدة، الآية: 15-16.

قيل: يا رسول اللّه، ما هن؟

قال: «استماع العلم وحفظه ونشره والعمل به»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من المفروض على كل عالم أن يصون بالورع جانبه، وأن يبذل علمه لطالبه»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لكل شيء زكاة وزكاة العلم أن يعلمه أهله»(3).

وقال الإمام أبو جعفر(عليه السلام): «زكاة العلم أن تعلّمه عباد اللّه»(4).

الأخلاق الفاضلة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفضلكم إيماناً أحسنكم أخلاقاً»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «صل رحمك ولو بشربة من ماء، وأفضل ما توصلبه الرحم كف الأذى عنها...»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «التُقى رئيس الأخلاق»(7).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إذا وعدتم الصغار فأوفوا لهم»(8).

الإخلاص عبادة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمعاذ بن جبل: «أخلص العلم يجزك منه القليل»(9).

ص: 247


1- تحف العقول: 57.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 678.
3- عدة الداعي: 72.
4- الكافي 1: 41.
5- تحف العقول: 45.
6- الكافي 2: 151.
7- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 410.
8- عدة الداعي: 84.
9- المحجة البيضاء 8: 126.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ولا بد للعبد من خالص النية في كل حركة وسكون؛ لأنه إذا لم يكن هذا المعنى يكون غافلاً»(1).

وقال الإمام الجواد(عليه السلام): «أفضل العبادة الإخلاص»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزم الإخلاص في السر والعلانية»(3).

وقال: «الإخلاص غاية»(4).

وقال(عليه السلام): «الإخلاص ملاك العبادة»(5).

أسلوب الدعوة إلى اللّه عزّ وجلّ

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورعوالاجتهاد والصلاة والخير فإن ذلك داعية»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لن يجدي القول حتى يتصل بالفعل»(7).

وقال الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام): «أبلغ خيراً وقل خيراً»(8).

ص: 248


1- بحار الأنوار 67: 210.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 329.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 148.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 20.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 49.
6- الكافي 2: 78.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 552.
8- الإختصاص: 343.

حديث مع الناشئين

شباب المستقبل

اشارة

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في كلام له: «المرء حيث وضع نفسه برياضته وطاعته فإن نزّهها تنزّهت وإن دنّسها تدنّست»(1).

يبين أمير المؤمنين(عليه السلام) إن الإنسان له القدرة على أن يوصل نفسه إلى ما يريد بشرط أن يبذل في سبيله السعي اللازم، فعند ما تريد أن تكون مهندساً، محامياً، طبيباً، عالماً، خطيباً، كاسباً، كاتباً، عاملاً، فلاحاً، فأنت قادر على ذلك في ما إذا وفّرت في نفسك مؤهلاته وذهبت وراء أسباب تحقيقه(2). وللإنسان الحرية في - اختيار نوع الملابس ومحل السكن وقت نومه وطريقة أكله، إلّا أن هذه الأشياء هي بيد اللّه سبحانه أولاً وبالذات ولكنه سبحانه جعل لها أسباباً لتحصيلها، ومن هذه الأسباب اهتمام الإنسان وإرادته وعلمه.

وأنتم أيها الشباب بإمكانكم أن تكونوا من أعظم الكبار في المستقبل. وقد ورد عن الإمام الحسن(عليه السلام) أنه دعا بنيه وبني أخيه فقال: «إنكم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين فتعلموا العلم، فمن يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه

ص: 249


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 104.
2- فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب فجعل لكل شيء سبباً وجعل لكل سبب شرحاً وجعل لكل شرح علماً وجعل لكل علم باباً ناطقاً عرفه من عرفه وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحن». انظر الكافي 1: 183.

وليضعه في بيته»(1) يعني أنتم الآن صغار لكن في المستقبل تكونون كباراً، آباءً وأجداداً، بل عمدة البلاد، وإن أيّاً منكم يستطيع وبالتوكل على اللّه وبذل الهمة والمثابرة أن يكون عظيماً من العظماء، وأن يكون له موقع ومنصب يستطيع من خلاله أن يخدم الدين والناس.

نعم، أنتم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين لذا من الضروري أن تفكروا في بناء أنفسكم بناءً تنفعون به أنفسكم وتنفعون شعبكم في العراق(2)، وبالتالي تنفعون الأمة الإسلامية - ذات المليار ونصف المليار مسلم(3) - في المستقبل، كذلك تتمكنون أن تؤدوا دوراً بارزاً في بناء كيان الإنسانية كلّها بالإرادة والعمل فإن كل العظماء كانوا ذات يوم أطفالاً، فالميرزا الشيرازي الكبير(رحمه اللّه) كان في يوم ما طفلاً وكان في يوم ما طالباً من الطلاب في النجف الأشرف وكان يدرس في المدارس الدينية إلّا أنه تمكن في ما بعد من أن يصبح مرجعاً عاماً للتقليد ومن ثم يطرد الإنكليز من إيران.

وأنتم كذلك قادرون على أن تكونوا ذات يوم عظماء وشخصيات كبيرة ومؤلفين وكتّاباً وعلماء مجتهدين، وشخصيات بارزة في المجتمع الإسلامي وحتى على صعيد المجتمع العالمي. لذا يجب أن تفكروا من الآن بذلك.

أصبح رئيساً

كان أحد المعلّمين في إحدى البلاد الإسلامية يدرّس صفاً من الطلاب تعداده (40 طالباً) وفي ذات يوم سأل المعلّم أحد الطلاب هذا السؤال: ماذا ترغب أن تكون في المستقبل؟ فقال الطالب أريد أن أكون محامياً، فقال له المعلّم: بارك اللّهفيك، وسأل الطالب الثاني، فقال أريد أن أكون طبيباً، فقال له المعلّم: بارك اللّه

ص: 250


1- منية المريد: 340.
2- خصهم بالعراق لأن الحديث كان مع الشباب العراقيين في المهجر.
3- حسب بعض الإحصائيات الأخيرة فإن نفوس المسلمين بلغت المليارين.

فيك وسأل الثالث، فقال: أريد أن أكون مهندساً حتى وصل المعلّم إلى طفل آخر - وكانوا جميعاً في الصف الرابع الابتدائي - فسأله نفس السؤال الأول: ماذا ترغب أن تكون في المستقبل؟ فقال الطفل: أنا أريد أن أصبح رئيساً للجمهورية في هذا البلد، فبدأ الأطفال الآخرون بالضحك عليه، إلّا أن المعلّم قال لهم لا تضحكوا من قوله فمن هو رئيس الجمهورية، ألم يكن ذات يوم طفلاً، فليكن هذا الطالب هو الذي سيصبح في المستقبل رئيساً للجمهورية هنا سكت الأطفال وأحس الطفل بالثقة من خلال تشجيع معلّمه له، فأخذ يدرس ويجد ويجتهد حتى تحقق حلمه وأصبح رئيساً للجمهورية في ذلك البلد والقصة مشهورة.

من طلب شيئاً ناله

اشارة

من كلام لأمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «من لم يجهد نفسه في صغره، لم ينبل في كبره»(1) وفي كلام آخر له(عليه السلام): «من طلب شيئاً ناله أو بعضه»(2) والطفل الذي يسعى للوصول إلى هدفه سائراً إليه في الطريق السليم فإنه سيدركه لا محالة، فهؤلاء العلماء والعظماء والمخترعون والمصلحون والكتاب الكبار كانوا في يوم ما أطفالاً مثلكم فكونوا أنتم كأولئك الأطفال الذين يصبحون في المستقبل شخصيات مرموقة لكي تخدموا الأمة الإسلامية وبالتالي تخدمون الإنسانية جمعاء، أما الطريق إلى ذلك فيتلخص في أمور منها:

الأول: طلب العلم

تحصيل العلم، على أن تدرسوا وتتعلموا بجد واجتهاد فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 251


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 606.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 618.

قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة فاطلبوه في مظانه، واقتبسوه من أهله، فإن تعليمه للّه حسنة وطلبه عبادة والمذاكرة به تسبيح والعمل به جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة إلى اللّه تعالى»(1) وطلب العلم هذا يحتاج إلى دراسة دائمة وعمل لا يعرف الكلل والملل. وعن الإمام السجاد(عليه السلام) قال: «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال أنّ أمقت عبيدي إليّ الجاهل المستخف بحق أهل العلم التارك للاقتداء بهم، وأن أحب عبيدي إليّ التقيّ الطالب للثواب الجزيل اللازم للعلماء التابع للحلماء القابل عن الحكماء»(2).

وإن اللّه تعالى خلق العالم وهو قادر بذاته وعالم بذاته وعالم بجميع مخلوقاته فالعلم والقدرة عين ذاته ولم يفته منها شيء، فخلق الخلق بالتدبير وهذا شأن القادر العالم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا}(3).

ويستفاد من هذه الآية الشريفة أن النظام والتدبير قوامهما بالعلم وكفى بهذه الآية دليلاً واضحاً على شرف العلم لاسيما علم التوحيد الذي هو أساس كل علم، ومدار كل معرفة «أول الديانة به معرفته وكمال معرفته توحيده وكمال توحيده نفي الصفات عنه...»(4)، وجعل سبحانه العلم أعلى شرف وأدل منة منّ

ص: 252


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 176.
2- الكافي 1: 35.
3- سورة الطلاق، الآية: 12.
4- الكافي 1: 140.

اللّه على ابن آدم بعد خلقه وإخراجه من ظلمة العدم إلى ضياء الوجود، فقالتعالى في أول سورة أنزلها على نبيه الأعظم محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(1).

وحسب بعض المباني الأصولية القائلة بأن أول ما خلق اللّه تعالى هو القلم، وجاء في تفسير مجمع البيان أن قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} أي: علم الكاتب أن يكتب بالقلم أو علم الإنسان البيان بالقلم، أو علم الكتابة بالقلم، أمتنّ سبحانه على خلقه بما علمهم من كيفية الكتابة بالقلم؛ لما في ذلك من كثرة الانتفاع في ما يتعلق بالدين والدنيا، قال قتادة: القلم نعمة من اللّه عظيمة، لو لاه لم يقم دين ولم يصلح عيش(2).

الثاني: الإخلاص والتوكل على اللّه

الإخلاص للّه سبحانه وتعالى في كل الأمور والتوكل عليه فإن {مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(3) أي: أن من يكل أموره إلى اللّه يكفيه كل مخوف ومشكلة وينجيه من كل هلكة(4). والخوف من اللّه سبحانه وتعالى.

يُذكر أنه كان لرجل فقير طفل صغير وفي أحد الأيام قال لولده الصغير: تعال معي لنذهب إلى أحد بساتين المنطقة لنسرق مقداراً من الفاكهة، وعندما وصل الأب مع ابنه إلى البستان، قال الأب لابنه: أنت عليك أن تقف هنا وتنتبه إلى كل الجهات بحذر، فإذا رأيت أحداً قادماً إلى هنا أو كان أحد يرانا من بعيد فأخبرني

ص: 253


1- سورة العلق، الآية: 1-5.
2- تفسير مجمع البيان 10: 399.
3- سورة الطلاق، الآية: 3.
4- تفسير تقريب القرآن 5: 442.

بسرعة؛ لكي نأوي إلى مكان آخر، فبينما كان الطفل واقفاً والأب منشغلاً بقطعالثمار صاح الطفل: يا بابا يا بابا إن هناك أحداً يرانا، فخاف الأب ونزل من على الشجرة بسرعة وهنا سأل ابنه: من الذي رآنا؟ فقال الابن الصغير: يا بابا إن الربّ العظيم هو الذي يرانا وهو مطّلع على كل شيء، إن هذا الطفل لخوفه الشديد وحذره من اللّه حاول أن يثني أباه عن السرقة بهذه الطريقة، وقد أثرت في والده كثيراً مما سبب ندمه وخجله من ابنه الصغير وترك السرقة من ذلك الحين.

وقد أكد اللّه تعالى على ذلك في قوله: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}(1). ولذا كان من اللازم على الإنسان أن يراقب نفسه باستمرار لئلا ينحرف عن منهاج الإسلام. وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوها قبل أن تُوزنوا»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئاً إلّا أعطاه فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلّا من عند اللّه عزّ ذكره، فإذا علم اللّه عزّ وجلّ ذلك من قلبه لم يسأله شيئاً إلّا أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها فإن للقيامة خمسين موقفاً كل موقف مقداره ألف سنة ثم تلا: {فِي يَوْمٖ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ}»(3)(4)، وهكذا فإن الاخلاص للّه تعالى والخوف والخشية من اللّه تعالى يبعث في النفس الطمأنينة والاستقرار وبالتالي يمكن أن يصل الإنسان إلى أي هدف يريد تحقيقه وذلك بالتوكل على اللّه تعالى.

ص: 254


1- سورة الرعد، الآية: 21.
2- أعلام الدين: 251.
3- سورة السجدة، الآية: 5.
4- الكافي 8: 143.
الثالث: خدمة الناس
اشارة

حب الخير للجميع، فإن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «... وخير الناس من انتفع به الناس»(1)، وفي حديث آخر من وصيته للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك»(2) إن نبينا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) كانوا يخدمون الناس دائماً وينجزون الأعمال التي يعود نفعها إلى الناس.

ففي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام): «لقي رجل أمير المؤمنين(عليه السلام) وتحته وَسْق من نوى، فقال له: ما هذا يا أبا الحسن تحتك؟ فقال(عليه السلام): مائة ألف عذق إن شاء اللّه، قال: فغرسه فلم يغادَر منه نواة واحدة»(3).

نعم، كان الإمام علي(عليه السلام) حينها ينقل مائة ألف نواة تمر لكي يغرسها في الصحراء الواحدة بعد الأخرى، وتحمّل(عليه السلام) التعب الكثير في سبيلها حتى نمت تلك النوى جميعاً وأصبحت فعلاً مائة ألف شجرة نخيل، وإن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يقوم بهذا العمل طالباً بذلك رضا اللّه وخدمة الناس وكان بالإضافة إلى ذلك يجعل نخله وبساتينه وقفاً في سبيل اللّه ويرعى بذلك حال المحتاج والفقير. وهذه من علامات المؤمن.

عظيم أخلاق وآداب

قال الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام): أعرف الناس لحقوق إخوانه وأشدهم قضاء لها أعظمهم عند اللّه شأناً، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند اللّه من الصديقين، ومن شيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام) حقاً، لقد ورد على أمير المؤمنين

ص: 255


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 21.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصيته(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام).
3- الكافي 5: 75، وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يخرج ومعه أحمال النوى، فيقال له: يا أبا الحسن ما هذا معك؟ فيقول: نخل إن شاء اللّه فيغرسه فلم يغادر منه واحدة».

أخوان له مؤمنان أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين أيديهما ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطشت وإبريق خشب ومنديل وجاء ليصب على يد الرجل ماء فوثب أمير المؤمنين(عليه السلام) وأخذ الإبريق ليصبه على يد الرجل، فتمرغ الرجل في التراب وقال: يا أمير المؤمنين يراني اللّه وأنت تصب على يدي!، قال: اقعد واغسل فإن اللّه عزّ وجلّ يراك وأخاك الذي لا يتميز منك ولا يتفضل عنك، يزيد بذلك في خدمه في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلى حسب ذلك في ممالكه فيها، فقعد الرجل، فقال له علي(عليه السلام): أقسمت عليك بعظيم حقي الذي عرفته ونحلته وتواضعك للّه حتى جازاك أن تدنى لما شرفك به من خدمتي لك لما غسلت يدك مطمئناً كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبر، ففعل الرجل ذلك، فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده؛ ولكن اللّه عزّ وجلّ يأبى أن يساوي بين أب وابنه إذا جمعهما مكان، لكن قد صب الأب على الأب فليصب الابن على الابن فصب محمد بن الحنفية على الابن، قال الحسن بن علي(عليه السلام): فمن اتبع علياً على ذلك فهو الشيعي حقاً»(1).

وقال علي بن الحسين(عليهما السلام):«أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى(عليه السلام) حببني إلى خلقي وحبب الخلق إلي، قال: يا رب كيف أفعل؟ قال: ذكرهم آلائي ونعمائي ليحبوني، فلئن ترد آبقاً عن بابي أو ضالاً عن فنائي أفضل لك من عباده مائة سنة بصيام نهارها وقيام ليلها، قال: موسى(عليه السلام) ومن هذا العبد الآبق منك؟ قال: العاصي المتمرد، قال: فمن الضال عن فنائك؟ قال: الجاهل بإمام زمانه فيعرفه، والغائب عنه بعد ما عرفه، الجاهل بشريعة دينه وبمن يعرفه شريعته، وما يعبد به

ص: 256


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 107.

ربه ويتوسل به إلى مرضاته»(1).

كما جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام): «بدنه منه في تعب والناس منه في راحة»(2).

فمن الواجب علينا التأسي بأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة؛ لأنهم قدوة وأسوة لنا في كل أعمالنا وأفعالنا، وهذا الطريق طريق رضا اللّه سبحانه وتعالى وخدمة الناس وحب الخير للجميع هو القاعدة الرصينة التي تمهد لنا السبيل نحو بناء مجتمع إسلامي متكامل.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «خير الناس من نفع الناس»(3).

الرابع: أحكام الإسلام

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا أيها الناس، إنه لم يكن للّه سبحانه حجة في أرضه أوكد من نبينا محمد صلوات اللّه عليه وآله ولا حكمة أبلغ من كتابه القرآن العظيم، ولا مدح اللّه تعالى إلّا من اعتصم بحبله واقتدى بنبيه وإنما هلك من هلك عندما عصاه وخالفه واتبع هواه؛ فلذلك يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}»(4)(5).

يلزم الالتزام بكل الأحكام الإسلامية من صلاة وصوم وصدق وأمانة ووفاء وحياء وإطاعة الوالدين والإحسان إليهم وما أشبه من الواجبات والمستحبات. والاجتناب عن الغيبة والنميمة وترك الكذب وكل الأعمال السيئة، وعلى الإنسان

ص: 257


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 108.
2- الكافي 2: 47.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 357.
4- سورة النور، الآية: 63.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 806.

ومنذ صغره أن يتعلم أحكام الإسلام. ويحفظ القرآن في هذا السن المبكر ما استطاع.

ذكر أن أحد الشعراء المعروفين وهو الفرزدق، جاء به أبوه يوماً إلى أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) يسأله - وكان الفرزدق حينها طفلاً صغيراً - قائلاً: يا أمير المؤمنين إني علمت ولدي الشعر وكلام العرب على أحسن وجه. فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): لماذا لم تعلمه القرآن فلو كنت قد علمته القرآن لكان الفضل له. ولمّا سمع الفرزدق هذا الكلام من أمير المؤمنين(عليه السلام) أثَّر على قلبه تأثيراً بالغاً فاستجاب لكلام الإمام(عليه السلام) وقرر أن يحفظ القرآن بأكمله، وفعلاً وُفّق لحفظ القرآن(1)، فالقرآن هو الصراط المستقيم وهو كتاب الهداية والنور والرحمة وهو كتاب العقل والتفكير.

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «إن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلّا به»(2).

وقال(عليه السلام): «في القرآن نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم»(3).

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ}(4) فإن هذه الروايات والآيات تشير إلى أبعاد القرآن الكريم التي لا حدود لها وأسراره الإلهية. ولذا جاء في فضل حفظ القرآن الكثير من الروايات، نذكر منها هذا الحديث الشريف عن الإمام أبو جعفر الباقر(عليهما السلام) قال: «يجي ءالقرآن يوم

ص: 258


1- انظر البداية والنهاية 9: 293، وأنساب الأشراف 12: 68.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 18، من كلام له(عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 313.
4- سورة الرعد، الآية: 31.

القيامة في أحسن منظور إليه صورة فيمر بالمسلمين فيقولون هذا الرجل منا، فيجاوزهم إلى النبيين فيقولون هو منا، فيجاوزهم إلى الملائكة المقربين فيقولون هو منا، حتى ينتهي إلى رب العزة عزّ وجلّ فيقول: يا رب، فلان بن فلان أظمأت هواجره وأسهرت ليله في دار الدنيا، وفلان بن فلان لم أظمئ هواجره ولم أسهر ليله، فيقول تبارك وتعالى: أدخلهم الجنة على منازلهم فيقوم فيتبعونه فيقول للمؤمن: اقرأ وارقه، قال فيقرأ ويرقى حتى يبلغ كل رجل منهم منزلته التي هي له فينزلها»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الحافظ للقرآن، العامل به، مع السفرة الكرام البررة»(2).

فاهتمّوا - بحفظ القرآن الكريم - وأنتم بهذا السن اليافع لتسعدوا في الدنيا والآخرة.وبعد أن تربّوا في ذواتكم وأنفسكم هذه الخصوصيات الأربع التي ذكرناها، لا بد لكم من التحلّي بالهدفية، لأن المسيرة الواقعية تتطلب أهدافاً واضحة.

تطبيق حكم اللّه في الأرض
اشارة

بما أنكم صغار اليوم ويوشك أن تصيروا كبار القوم لا بد أن يكون هدفكم الأول هو إقامة حكم اللّه في الأرض، وسيكون ذلك في القريب العاجل إن شاء اللّه.

وستزول تلك الأيادي الاستعمارية الظالمة التي تسلطت على رقاب شعبنا في العراق، أمثال نظام الطاغية صدام وعفلق وجماعتهما، ويبزغ في العراق، فجر الحكم الإسلامي وتكون الحاكمية فيه للّه ولرسوله وللأئمة الأطهار(عليهم السلام) وللعلماء

ص: 259


1- الكافي 2: 601.
2- الكافي 2: 603.

والمتدينين من أبناء الشعب العراقي المظلوم، إذن يجب أن يكون هدفنا إقامة حكم اللّه فإذا أقمنا حكم اللّه في الأرض نكون قد ربحنا الحياة في الدنيا وربحنا كذلك في الآخرة إن شاء اللّه تعالى.

الهدف النبيل

وإن تحقيق هذا الهدف النبيل يحتاج إلى أمرين:

أولاً: بناء النفس من الداخل أي تربية النفس على الفضائل التي ترضي اللّه سبحانه وتعالى؛ لأن اللّه تعالى خلق النفس وعرّفها طريق الطاعة والمعصية أو الخير والشر أو الفجور والتقوى كما جاء في قوله تعالى: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(1) فقد أفلح ونجح وفاز من زكّى نفسه في هذه الدنيا وربّاها على الفضائل، وخسر وندم من ربّاها على المعاصي والخمول والعمل الطالح. لذا فإن تحقيق هذا الأمر شاق على الأنفس ويحتاج إلى مدة طويلة وتحمل للآلام والمتاعب والصبر وهذا هو الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، وقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث سرّية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول اللّه وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم):أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(2).

ثانياً: العمل الجاد والمتواصل وعدم التخلّي عن الهدف حتى يأذن اللّه بنصره؛ لذا يجب أن نستمر بهمة عالية حتى نصل إلى الهدف النبيل وهو (تطبيق أحكام اللّه في الأرض) الذي راحت من أجله عشرات بل مئات الآلاف من

ص: 260


1- سورة الشمس، الآية: 7-10.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 466.

النفوس الزكية منذ الصدر الأول للإسلام وإلى يومنا هذا.

فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «اعلموا أنه ليس بين اللّه وبين أحد من خلقه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلهم إلّا طاعتهم له فاجتهدوا في طاعة اللّه إن سركم أن تكونوا مؤمنين حقاً حقاً»(1). وإن هذه الطاعة متمثلة بتطبيق أحكام اللّه في الأرض، ولا يتحقق ذلك إلّا بالعمل والجد والاجتهاد في سبيل الوصول إليه.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

العمل الصالح

قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}(4).

وقال سبحانه: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}(5).

ص: 261


1- الكافي 8: 11.
2- الكافي 3: 424.
3- سورة النحل، الآية: 97.
4- سورة الكهف، الآية: 88.
5- سورة القصص، الآية: 67.

وقال تبارك وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَٰتُ الْعُلَىٰ}(2).

طلب العلم وأهميته

قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ}(3).

وقال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

وقال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(6).

الإخلاص والتوكل على اللّه

قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَٰبِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}(7).

ص: 262


1- سورة طه، الآية: 82.
2- سورة طه، الآية: 75.
3- سورة آل عمران، الآية: 164.
4- سورة الزمر، الآية: 9.
5- سورة البقرة، الآية: 269.
6- سورة العلق، الآية: 1-5.
7- سورة مريم، الآية: 51.

وقال تعالى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(1).

وقال سبحانه: {قُلْ مَا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٖ وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(4).

وقال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

تربية الناشئين

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «علّموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم اللّه به لا تغلب عليهم المرجئة برأيها»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة»(7).

وقال(عليه السلام): «الغلام يلعب سبع سنين ويتعلّم الكتاب سبع سنين ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين»(8).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إنا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا

ص: 263


1- سورة الأعراف، الآية: 29.
2- سورة ص، الآية: 86.
3- سورة الشعراء، الآية: 109.
4- سورة الشورى، الآية: 10.
5- سورة الطلاق، الآية: 3.
6- وسائل الشيعة 21: 478.
7- تهذيب الأحكام 8: 111.
8- الكافي 6: 47.

كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم إن كان إلى نصف النهار أو أكثرمن ذلك أو أقل، فإذا غلبهم العطش والغرث(1) أفطروا حتى يتعودوا الصوم ويطيقوه، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم فإذا غلبهم العطش أفطروا»(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام متتابعة فقد وجب عليه صيام شهر رمضان»(3).

تأديب الأحداث

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم يغفر لكم»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته للإمام الحسن(عليه السلام): «إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبّك»(5).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «... مُر الصبي فليتصدق بيده بالكسرة والقبضة والشيء وإن قل، فإن كل شيء يراد به اللّه وإن قلّ بعد أن تصدق النية فيه عظيم، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(6) وقال: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَىٰكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَٰمٌ فِي يَوْمٖ ذِي مَسْغَبَةٖ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٖ}(7) علم اللّه أن كل أحد

ص: 264


1- الغَرَثْ: الجوع.
2- الكافي 3: 409.
3- الكافي 4: 125.
4- مكارم الأخلاق: 222.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصيته(عليه السلام) لولده الإمام الحسن(عليه السلام).
6- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
7- سورة البلد، الآية: 11-16.

لايقدر على فك رقبة فجعل إطعام اليتيم والمسكين مثل ذلك تصدق عنه»(1).

ومن وصايا لقمان(عليه السلام) لابنه: «يا بني، إن تأدّبت صغيراً انتفعت به كبيراً»(2).

حقوق الأولاد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رحم اللّه والدين أعانا ولدهما على برّهما»(3).

وقال أبو الحسن موسى(عليه السلام): «جاء رجل إلى النّبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، ما حقّ ابني هذا؟ قال: تحسّن اسمه وأدبه وضعه موضعاً حسناً»(4).

وكان داود بن زربيٍّ شكا ابنه إلى أبي الحسن(عليه السلام) في ما أفسد له، فقال(عليه السلام): «استصلحه فما مائة ألفٍ في ما أنعم اللّه به عليك»(5)(6).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «صلّى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنّاس الظّهر والعصر فخفّف الصلاة في الرّكعتين، فلمّا انصرف قال له النّاس: يا رسول اللّه، أحدث في الصّلاة شي ء؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وما ذاك؟ قالوا: خفّفت في الرّكعتين الأخيرتين، فقال: لهم أما سمعتم صراخ الصّبيّ»(7).

و قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):«يلزم الوالدين من العقوق لولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما»(8).

وكتب الإمام عليّ بن موسى الرّضا(عليهما السلام) إلى محمّد بن سنان في ما كتب من

ص: 265


1- الكافي 4: 4.
2- تفسير القمي 2: 164.
3- الكافي 6: 48.
4- الكافي 6: 48.
5- الكافي 6: 48.
6- بيان: أي اطلب صلاحه فإن هذا المبلغ من الدينار أو الدرهم وإن أفسده فهو يسير في جنب نعمة الولد.
7- تهذيب الأحكام 3: 274.
8- الكافي 6: 48.

جواب مسائله: «حرّم اللّه قتل النّفس لعلّة فساد الخلق... - إلى قوله(عليه السلام) - وحرّم اللّه تبارك وتعالى عقوق الوالدين لما فيه من الخروج من التّوقير للّه عزّ وجلّ والتّوقير للوالدين وكفران النّعمة وإبطال الشّكر وما يدعو من ذلك إلى قلّة النّسل وانقطاعه لما في العقوق من قلّة توقير الوالدين والعرفان بحقّهما وقطع الأرحام والزّهد من الوالدين في الولد وترك التّربية لعلّة ترك الولد برّهما وحرّم اللّه تعالى الزّنا لما فيه من الفساد من قتل الأنفس وذهاب الأنساب وترك التّربية للأطفال وفساد المواريث وما أشبه ذلك من وجوه الفساد...»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): حقّ الولد على والده إذا كان ذكراً أن يستفره أمّه(2) ويستحسن اسمه ويعلّمه كتاب اللّه ويطهّره ويعلّمه السّباحة، وإذا كانت أنثى أن يستفره أمّها ويستحسن اسمها ويعلّمها سورة النّور ولا يعلّمها سورة يوسف ولا ينزلها الغرف ويعجّل سراحها إلى بيت زوجها...»(3).

وعن يونس بن رباطٍ عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال:«قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): رحم اللّه من أعان ولده على برّه» قال قلت: كيف يعينه على برّه؟ قال: «يقبل ميسوره ويتجاوز عن معسوره ولا يرهقه ولا يخرق به(4) فليس بينه وبين أن يصير في حدٍّ من حدود الكفر إلّا أن يدخل في عقوقٍ أو قطيعة رحمٍ ثمّ قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الجنّة طيّبة طيّبها اللّه وطيّب ريحها يوجد ريحها من مسيرة ألفي عامٍ ولا يجد ريح الجنّة عاقّ ولا قاطع رحمٍ ولا مرخي الإزار خيلاء»(5)(6).

ص: 266


1- من لا يحضره الفقيه 3: 565.
2- يستفره أي: يستكرم أمه ولا يدعو بالسب لأمه واللعن والفحش.
3- الكافي 6: 49.
4- الخُرْق: الحمق والجهل، أي لا ينسب اليه الحمق.
5- الإرخاء: الإرسال، والخيلاء: التكبر.
6- الكافي 6: 50.
طلب العلم وأهميته

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «اغد عالماً أو متعلماً ولا تكن الثالث فتعطب»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من عبد يغدو في طلب العلم أو يروح إلّا خاض الرحمة وهتفت به الملائكة: مرحباً بزائر اللّه، وسلك من الجنة مثل ذلك المسلك»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الناس اثنان عالم ومتعلّم وسائر الناس همجُ والهمج في النار»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، إعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألّا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال...»(5).

أهمية السعي

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لن يضيع من سعيك ما أصلحك وأكسبك الأجر»(6).

وقال(عليه السلام): «التشمر للجد من سعادة الجد»(7).

وقال(عليه السلام): «من بذل جهد طاقته بلغ كنه إرادته»(8).

ص: 267


1- كنز الفوائد 2: 107.
2- كنز الفوائد 2: 109.
3- ثواب الأعمال: 131.
4- الخصال 1: 39.
5- الكافي 1: 30.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 554.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 127.
8- عيون الحكم والمواعظ: 462.
الإخلاص للّه تعالى

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن أمير المؤمنين (صلوات للّه عليه) كان يقول: طوبى لمن أخلص للّه العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ولم ينس ذكر اللّه بما تسمع أذناه ولم يحزن صدره بما أعطي غيره»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، شهادة ممتحناً إخلاصها، معتقداً مصاصها(2)، نتمسك بها أبداً ما أبقانا وندّخرها لأهاويل ما يلقانا فإنها عزيمة الإيمان وفاتحة الإحسان ومرضاة الرحمن ومدحرة الشيطان...»(3).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ {حَنِيفًا مُّسْلِمًا}(4): «خالصاً مخلصاً ليس فيه شيء من عبادة الأوثان»(5).

فضل القرآن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تعلموا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شاب جميلٍ شاحب اللون، فيقول له القرآن: أنا القرآن الذي كنت أسهرت ليلك وأظمأت هواجرك وأجففت ريقك وأسلت دمعتك - إلى أن قال - : فأبشر، فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه ويعطى الأمان بيمينه والخلد في الجنان بيساره ويكسى حلتين، ثم يقال له: اقرأ وارقه فكلما قرأ آية صعد درجة، ويكسى أبواه حلتين إن كانا مؤمنين، ثم يقال لهما: هذا لما علمتماه القرآن»(6).

ص: 268


1- الكافي 2: 16.
2- مصاص كل شيء: خالصه.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 2 بعد انصرافه(عليه السلام) من صفين.
4- سورة آل عمران، الآية: 67.
5- الكافي 2: 15.
6- الكافي 2: 603.

قال أبو عبد اللّه الإمام الصادق(عليه السلام): «إن الدواوين يوم القيامة ثلاثة، ديوان فيه النعم، وديوان فيه الحسنات، وديوان فيه السيئات، فيقابل بين ديوان النعم وديوان الحسنات، فتستغرق النعم عامة الحسنات، ويبقى ديوان السيئات، فيدعى بابن آدم المؤمن للحساب فيتقدم القرآن أمامه في أحسن صورة، فيقول: يا رب، أنا القرآن وهذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه بتلاوتي ويطيل ليله بترتيلي وتفيض عيناه إذا تهجد، فأرضه كما أرضاني، قال: فيقول العزيز الجبار: عبدي ابسط يمينك فيملؤها من رضوان اللّه العزيز الجبار ويملأ شماله من رحمة اللّه، ثم يقال: هذه الجنة مباحةٌ لك فاقرأ واصعد فإذا قرأ آية صعد درجة»(1).

أفضل الأعمال

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أحب الأعمال إلى اللّه سرور تدخله على المؤمن تطرد عنه جَوْعته وتكشف عنه كربته»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سأل ربّه سبحانه ليلة المعراج فقال: يا ربّ أي الأعمال أفضل؟ فقال اللّه تعالى: ليس شيء أفضل عندي من التوكل عليّ والرضا بما قسمت...»(3).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «وإن أعظمكم عند اللّه عملاً أعظمكم في ما عند اللّه رغبةً، وإن أنجاكم من عذاب اللّه أشدكم خشية للّه، وإن أقربكم من اللّه أوسعكم خُلقاً، وإن أرضاكم عند اللّه أسبغكم على عياله، وإن أكرمكم على اللّه أتقاكم للّه»(4).

ص: 269


1- الكافي 2: 602.
2- الكافي 2: 191.
3- إرشاد القلوب 1: 199.
4- الكافي 8: 68.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «احرصوا على قضاء حوائج المؤمنين وإدخال السرور عليهم ودفع المكروه عنهم فإنه ليس من الأعمال عند اللّه عزّ وجلّ بعد الإيمان أفضل من إدخال السرور على المؤمنين»(1).

ص: 270


1- بحار الأنوار 71: 313.

حكومة الأكثرية

المسؤوليات الاجتماعية

حكومة الأكثرية(1)

قال اللّه تعالى: {لَقَدْ جِئْنَٰكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَٰرِهُونَ}(2).

تعد المسؤوليات الاجتماعية من المسؤوليات الصعبة والمهمة؛ لأنها تتطلب التضحية والبذل والعطاء؛ وليس الكل قادراً على تفهمها، بل إن بعضهم ليس على استعداد حتى لبحثها والخوض فيها، ولو كانوا مستعدين يوماً لتعلّم هذه المسائل، فهم غير مستعدين لإبداء نشاط إيجابي واضح وصحيح للعمل في هذا المجال؛ لذا نرى أن تأخّر المسلمين في بعض المجالات وبالخصوص في مجالات (الحقوق، والسياسة، والاقتصاد أو التجارة، وشبهها) ناشئ من عدم أداء بعضهم للواجب الملقى على عاتقهم بشكل صحيح ومتقن. والغريب أن البعض يعتقدون بأنهم متقدمون في هذا المجال، وحين تنكشف الحقيقة لهم بأنهم قد قصروا في أداء الواجب يلقون باللوم على عاتق الآخرين، في حين أنهم جزء لا يتجزأ من أولئك الأفراد المتأخرين.

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «إن اللّه يبغض من عباده المائلين فلا تزلّوا عن الحق، فمن استبدل بالحق هلك وفاتته الدنيا وخرج منها ساخطاً»(3).

ص: 271


1- ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ: 5/ربيع الأول/1411ه.
2- سورة الزخرف، الآية: 78.
3- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 381.

فهناك أفراد في المجتمع - مثلاً- يدرسون من أجل أن يكونوا خطباء ويصعدون المنبر في النهاية، إلّا أنهم لا يأتون بجديد سوى أنهم يعتبرون هذا العمل وظيفة شرعية أو للكسب، لا وظيفة اجتماعية وحيوية أيضاً، فلا يتعرضون لقضايا الأمة ومشاكلها؛ لأنهم لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم، وحينذاك تكون النتيجة أن يظل المسلمون في تأخرهم الذي هم عليه الآن، وتظهر المشاكل في ضياع حقوق الناس، وسيطرة الأقلية على الأكثرية.

مشكلتان رئيسيتان

اشارة

إن بحثنا يدور حول التحولات التي تجري في العراق، وقد طالعت الكثير عن ماضي العراق وحاضره، فوجدت أن فيه مشاكل قد تكون مشتركة في كل البلاد الإسلامية، وقد تكون خاصة به تبعاً لتركيبة الشعب أو لجغرافية منطقته، أو لتاريخه المليء بالأحداث الساخنة والمتميزة، إلّا أن حقيقة الأمر هي أن مشكلتين رئيسيتين موجودتين في العراق:

أولهما: عدم الوعي والتخلف في ميادين السياسة والحقوق، وغيرها من ميادين الحياة المهمة، وهذا التخلف جعل الكثير من أبناء الشعب لا يعرف ما يدور حوله من مكائد ومؤامرات استعمارية.

وثانيهما: سيطرة الأقلية على الأكثرية.

فالمشكلة لا تقتصر على سلب الحقوق ومصادرة تضحيات الأكثرية، بل تتعداهما إلى أن المستفيد من هذه التضحيات هم أناس بعيدون عن الجهاد والتضحية، سوى أنهم مرتبطون ببريطانيا، وقبلها كانوا يقتاتون على الحكم العثماني، فهم يتحينون الفرص الملائمة ليضربوا أصحاب الحق. في حين أن

ص: 272

الشيعة يشكلون نسبة (85%) من مجموع الشعب(1). وهم الذين وقفوا بوجه الاستعمار البريطاني ومن قبله العثمانيين وقدموا الشهداء والتضحيات الجليلة، ولكننا نراهم معزولين ومبعدين عن الحكم، ويعانون من الظلم والاضطهاد، فضلاً عن أن القانون الديمقراطي الذي يحكم أوسع رقعة جغرافية من العالم اليوم يقضي بأن الاتجاه السياسي والمذهبي للدولة يجب أن يختاره الشعب طبق ميزان التوزيع وحق الأكثرية، مع احترام حقوق الأقليات، فنسبة (85%) هي التي يجب أن تحكم في العراق مع ضمان احترام حقوق الأقليات الأخرى بقدر نسبتها التي أشرنا إليها.

سؤال

والسؤال هنا: لو كان هدف الطاغية صدام هو العمل الحزبي السياسي فقط، وليس التعصب المذهبي، فلماذا كل هذه المحاربة للشيعة، لماذا هذا التبعيد؟ ولماذا كل هذه الضغوط على الحوزات العلمية الشيعية؟ وليس هذا منحصراً في صدام وحده، بل كل الذين جاءوا إلى السلطة من ملكيين وبعثيين وقوميين وشيوعيين وغيرهم، مما يكشف عن كون حقيقة الحكم في العراق بشتى صوره وأصنافه راجع إلى الاضطهاد المذهبي والتعصب الطائفي.

نصب تأريخي

عبد المحسن السعدون من الشخصيات التي يرد أسمها في تاريخ العراق الذي تسلّم منصب رئاسة الوزراء في العراق، وكان يتمتع آنذاك بقدرة عالية في تنفيذ أوامره، وكان عميلاً شديد الولاء لبريطانيا، وقد استفادت منه كثيراً في تمرير

ص: 273


1- هذه إحصائية أجراها السيد محمد الصدر رئيس الوزراء العراق أواخر الأربعينيات. للتفصيل انظر كتاب تلك الأيام للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

مؤامراتها على العراق. ومن شنائع ما قام به هو إبعاد العديد من علماء الشيعة وبعض مراجعهم، ومنهم المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) إلى إيران، لكن مع كل ذلك فإن نصبه التذكاري لا يزال موجوداً في بغداد، وإن بعض الشيعة لا يسألون من هو هذا الشخص؟ وماذا كان؟ وكيف بقي تمثاله قائماً في شوارع بغداد إلى الآن؟

ولا يدرون أن هذا التمثال هو لذلك الشخص، الذي أبعد المراجع العظام، وزعماء الطائفة الشيعية الموقرة من العراق إلى إيران، والشيء العجيب أن الحكومات الملكية تأتي ثم الشيوعيون والديمقراطيون والجمهوريون، وهذا التمثال موجود من دون أن تتعرض له الحكومات المتعددة بسوء؛ وذلك لأن كل هذه الحكومات التي جاءت إلى السلطة كانت - وما زالت - تعمل ضد الشيعة، وهدفها قمع الشيعة وسحق حقوقها.

التعصب الشديد ضد الشيعة

في أيام الحكم الملكي في العراق قررنا أن نؤسس مدرسة باسم مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)، ولكن لأن السلطة كانت بيد السُّنة (الذين يشكلون 12% من الشعب)، فإن الحكومة رفضت أن تمنحنا الإجازة لذلك؛ لأنها تعد ذلك تقوية للشيعة، وقالت: يجب أن تغيروا اسم هذه المدرسة إلى اسم آخر، إلّا أننا بذلنا السعي الكثير ولمدة ستة أشهر حتى استطعنا أن نبقي اسم المدرسة (مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام))، أما لو كانت المدرسة تحمل اسماً لغير أئمة الشيعة(عليهم السلام) أو لا يرمز إلى التشيع لكانت الإجازة تمنح بفترة قليلة جداً وبلا صعوبة!

القيادة الرشيدة ووحدة الأمة

قام الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) خلال قيادته لثورة العشرين ضد

ص: 274

قوات الاحتلال البريطانية، بخطوات واسعة في سبيل تحقيق وحدة الأمة، وجعلها قوة موحدة متماسكة ضد الاحتلال، وإزالة الخلافات من خلال هذه الوحدة بين السنة والشيعة، في الحركة السياسية، فقد وجّه(رحمه اللّه) عدة رسائل إلى شخصيات سُنية وشيعية، يطلب منها الاتحاد والتعاون.

ففي رسالة بعثها إلى جعفر أبو التمن، بتاريخ (3 رجب 1338ه) جاء فيها:

سرَّنا اتحاد كلمة الأمة البغدادية، واندفاع علمائها ووجوهها وأعيانها، إلى المطالبة بحقوق الأمة المشروعة، ومقاصدها المقدسة، فشكر اللّه سعيك ومساعي إخوانك وأقرانك من الأشراف، وحقق المولى آمالنا وآمال علماء وفضلاء حاضرتكم، الذين قاموا بواجباتهم الإسلامية.

هذا وإننا نوصيكم أن تراعوا في مجتمعاتكم قواعد الدين الحنيف، والشرع الشريف، فتظهروا أنفسكم بمظهر الأمة المتينة الجديرة بالاستقلال التام، المنزّهة عن الوصاية الذميمة، وأن تحفظوا حقوق مواطنيكم الكتابيين الداخلين في ذمة الإسلام، وأن تستمروا في رعاية الأجانب الغرباء، وتصونوا نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، محترمين كرامة شعائرهم الدينية، كما أوصانا بذلك نبينا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والسلام عليكم وعلى العلماء والأشراف والأعيان.

وجاء في رسالة ثانية أرسلها بتاريخ (4 رجب 1338ه) إلى الشيخ أحمد الداود أحد علماء السنة في بغداد:

تلقيت بالابتهاج برقيتكم، فما وجدتها أعربت مقدراً، ولا أبرزت مستتراً، هذا ما أعتقده في عامة المسلمين أن يكونوا على مبدأ القرآن، ومنهج الحق، وقول الصدق، فكيف بمن ربّي في حجر العلم... ولا أرى أنه يسرك أن تراني مقتنعاً بما عاهدت عليه اللّه وقد أخذ في ذلك عليك عهدك من قبل أن يبرأك... وليكن

ص: 275

التوفيق رائدك في عمل الخير، وكن لساناً ناطقاً بالصواب، داعياً إلى الشرع الشريف أهله، سالكاً بهم محجته البيضاء... .

ومن رسالة أخرى أرسلها الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه) في (3 رجب) إلى الشيخ موحان الخير اللّه أحد رؤساء عشائر المنتفك جاء فيها:

... إن جميع المسلمين إخوان، تجمعهم كلمة الإسلام، وراية القرآن الكريم والنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فالواجب علينا جميعاً الاتفاق والاتحاد والتواصل والوداد، وترك الاختلاف، والسعي في كل ما يوجب الائتلاف، وتوحيد الكلمة، وجمع شتات الأمة، والتعاون على البر والتقوى، والتوافق في كل ما يرضي اللّه تعالى، فإنكم إن كنتم كذلك جمعتم بين خير الدنيا والآخرة، ونلتم الدرجة العلياء، والشرف الدائم والذكر الخالد... .

ولكن حينما نستقرئ أحداث ثورة العشرين نرى أن استجابة السنة لم تكن بنفس المستوى الذي تحرك فيه علماء الشيعة، وشيوخ العشائر بشكل خاص، والشيعة كأفراد بشكل عام، في مقاومة الإنكليز وعملائهم في الداخل، فقد ظل بعض شيوخ العشائر السنية وبعض علمائها يوالون الإنكليز.

والسبب في ذلك عدم انسجامهم مع فكرة تأسيس حكومة مستقلة في العراق، إذ أنهم كانوا يعلمون بأن من الطبيعي أن تكون الحكومة القادمة شيعية، باعتبار أن القائد العام للثورة كان شيعياً، بل ومرجعاً دينياً، وهو الإمام الشيرازي(رحمه اللّه)، ومعه علماء الشيعة، ومركز قوة المقاومة العشائرية بيد العشائر الشيعية، فمن الطبيعي أن تكون الحكومة شيعية أيضاً(1)؛ لذلك اتجه بعض السنة وقتها إلى موالاة الحكم البريطاني، ضد أبناء شعبهم ودينهم، ليحقق لهم مطامحهم في

ص: 276


1- وللأغلبية الساحقة في العدد كما مر سابقاً.

الحكم والخلاص من الشيعة بالرغم من حدوث التقارب الشيعي السني تحت مظلة الميرزا الشيرازي خلال التحضير للثورة ولكن موالاة بعض السنة للحكم البريطاني مكّن الانكليز من تقييد ومحاصرة الثورة.

ضعف الوعي

من الأشياء العجيبة، والتي تشير إلى عدم وعي بعض الشيعة في العراق، هو أن الحكام الذين جاءوا إلى السلطة من فيصل الأول، وفيصل الثاني وعبد الكريم قاسم، ثم إلى عبد السلام عارف، وعبد الرحمن عارف، وأحمد حسن البكر، وصدام حسين، كانوا كلهم من السنّة، وإن تلبسوا بلباس البعث ونحوه.

فأين ذهبت نسبة (85%) الذين هم من الشيعة في العراق، فالالتزام الديني لا يعني ترك الحقوق وعدم الاشتغال بالسياسة وما أشبه.

إن بعض الشيعة ملتزمون بطقوسهم وعباداتهم التزاماً تاماً، وإن العتبات المقدسة ومراقد الأئمة الأطهار(عليهم السلام) ملأى بالزائرين الشيعة، وكذلك الجيش غالبيته من الشيعة - عدا كبار الضباط فإنهم من السنة عادة - وكل المحافظات العراقية عدا أربع محافظات، وهذه هي أيضاً يوجد فيها عدد كبير من الشيعة، ولكننا نراهم خلال الستين سنة الماضية أشبه شيء بكرة من طين تعبث بها الأيدي السنية دون رحمة.

لذا نقول: إن الشيعة في العراق لو استمروا على هذه الحال، فإنهم سوف يبقون - لا سمح اللّه - على التخلف والتأخر وضياع الحقوق!

وعلى هذا لو أن (نظام صدام) الحالي أزيل من السلطة، وجاء شخص آخر هو أيضاً ليس من الشيعة، فربّما سيقول بعض الشيعة: الحمد للّه لقد انتهى عهد صدام، وجاء شخص جديد إلى الحكم هو أفضل منه، لكنه بعد أن يحكم قبضته

ص: 277

على السلطة فإنه يفعل ما فعله الذين سبقوه أيضاً؛ لأن الجوهر واحد في الحكومات السابقة وإن تبدّلت الصور.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من لا يعقل يهن ومن يهن لا يوقّر»(1).

وقال(عليه السلام): «ضلال العقل يبعد من الرشاد ويفسد المعاد»(2).

الطائفية في كل شيء

قطع الكهرباء

في أحد الأيام قمنا ببناء مسجد في العراق بين مرقد الشهيد الحر الرياحي (رضوان اللّه عليه) ومركز مدينة كربلاء المقدسة باسم (مسجد المتقين) وبينما كنت ذاهباً يوماً لزيارة المرقد المطهر للإمام الحسين(عليه السلام)، جاءني شخص وأنا في طريقي إلى حرم الإمام(عليه السلام) وقال لي: قطعوا التيار الكهربائي عن مسجد المتقين؛ بسبب عدم تسديد مبلغ ثمانية دنانير كمصرف كهرباء، طالباً مني تسديد هذا المبلغ.

فقلت له: اذهب وقل لذلك الشخص الذي قطع الكهرباء عن المسجد: كيف يصحّ أن تبنوا مسجداً للسنة في كربلاء بمبلغ (250.000) دينار، في حين أن كربلاء ليس فيها سنّة ليصلوا بهذا المسجد، لكن من أجل ثمانية دنانير تقطعون الكهرباء عن مسجد شيعي، يستفيد منه كثير من المصلين؟!

ألّا يعبِّر هذا عن مدى الطائفية للحكومة؟!

الاعتقال من الحمام

نقل لنا سلطان الواعظين صاحب كتاب (ليالي بيشاور)، أثناء زيارته لكربلاء،

ص: 278


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 578.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 426.

قال: في زمن عبد الكريم قاسم، ذهبت إلى حمام في الكاظمين(1)، وكنت وقتها مريضاً جداً، وأثناء ما كنت في الحمام كان عدد من الرجال يستحمون أيضاً، وفجأة قام جنودٌ من قبل السلطة بمداهمة الحمام وأخذونا منه، ثم نقلونا في سيارات مغلقة إلى وزارة الدفاع، وكان الهواء حينها بارداً جداً، وهناك وضعونا في مرآب(2) قذر متعفن، فوجدنا هناك الآلاف من الذين اعتبروهم إيرانيين، وقد وضعوا في حالة يرثى لها، وحينما حلّ وقت الظهر حيث كنا جياعاً جداً، جاءوا لنا (بالتمن والمرق) إلّا أنهم وضعوه في عربات تدفع بالأيدي، تستخدم لنقل الطابوق والتراب عادة، وقالوا لنا تحرّكوا مجموعات مجموعات، كل مجموعة تقف على عربة وتتناول الطعام وذلك زيادة بالتنكيل والإهانة لنا.

كان الوضع يجري هكذا في العراق، وكان رئيس الدولة هو عبد الكريم قاسم. رغم هذا وذاك شاهدنا بأعيننا ذلك الشيعي الجاهل، الذي رسم صورة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفي وسطها صورة عبد الكريم قاسم والى يساره صورة الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وهو يربط سيفاً على محزم عبد الكريم قاسم، وكانت الصورتان معلقتين على باب الدخول لحرم الإمام أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) بأمر من الحكومة!!

المشكلة الثانية

كانت المشكلة الدائرة بين الدول الكبرى هو تنافسها للاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من العالم، ففي العراق كان الصراع قائماً بين أمريكا وبريطانيا. ففي حقبة من الزمن كانت أمريكا تدّعي بأنها تملك الحق في السيطرة على

ص: 279


1- أي مدينة الكاظمية.
2- مرآب: مكان لإصلاح السيارات وإيواءها.

العراق، ومرة أخرى تتصدى بريطانيا لهذا الإدعاء وبقيت هاتان الدولتان تتعاقبان على امتصاص ثروات العراق، وتدمير ما بقي من هذه الثروة.

وقد قرأت في إحدى المجلات، أن كيلو اللحم في العراق - اليوم - أصبح يباع بما يعادل أربعة آلاف تومان، في حين أتذكر جيداً، أن كيلو اللحم كان يباع سابقاً ب(24 فلساً)، أي ما يعادل (24) رغيف من الخبز، أما الآن فإن كيلو اللحم يعادل ألف رغيف من الخبز، مع العلم أن المعروف عن العراق أنه كان من الدول المصدرة للحوم سابقاً، أما اليوم فقد أصبح مستورداً لها.

كيفية الخلاص

مما لا شك فيه أن حكومة البعث ستسقط باذنه تعالى، فقد قيل: أن حبل الظالم قصير وإن طال، والذي يبدو للنظر أن هناك عدة مسائل يجب الاهتمام بها لحل مشاكل العراق مستقبلاً بعد سقوط حكومة البعث الحاكمة، منها:

1- إن الحكومة القادمة يجب أن تكون بيد الشيعة؛ لأنهم الأكثرية، وحتى لو قيل: إن هذا الحاكم الفلاني هو إنسان طيب ومسلم وملتزم حتى بالمستحبات، فلا ينبغي أن ننخدع بذلك(1)، بل يجب أن يكون حاكم البلاد شيعياً لأن الأكثرية في البلاد هم الشيعة، وإن القانون الإلهي والقانون المتعارف عليه دولياً يقرّ بذلك، نعم من الضروري أن نعطي للآخرين حقوقهم بقدر تمثيلهم في الشعب.

2- تصعيد الإعلام، وبيان ذلك لكل العالم بأن العراق يجب أن يكون حاكمه شيعياً، فينبغي أن يكون الطرح شجاعاً من غير خوف أو وجل وعلى مستوى واسع، فيطرح هذا الرأي على البقال والخباز والمهندس والموظف والعسكري

ص: 280


1- قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تغترن بمجاملة العدو فإنه كالماء وإن أطيل إسخانه بالنار لم يمنع من إطفائها» عيون الحكم والمواعظ: 519.

وعلى غيرهم من شرائح المجتمع، وهؤلاء هم الذين يمثلون (الوحدة القاعدية) وهم جماهير الناس، وحين تكون لهم مطالبات دينية أو دنيوية فإنها توجب الضغط على القوى الكبرى أو الدولة في سياستها خاصة، إيجاباً أو سلباً أو تعديلاً. وأسلوب ضغط الجماهير وإن لم يكن بشكل خاص، إلّا أنه بالنتيجة يؤثر على الرأي العام ككل، وبالتالي الضغط على أصحاب النفوذ والقوى، فإذا كانت الدولة استشارية تتفادى سخط الرأي العام وترضخ لمطالبه، وإذا كانت ديكتاتورية فهي تتجاهل الرأي العام وبالتالي ستكون نتيجتها السقوط الحتمي.

إن الإعلام والتأثير على الرأي العام سوف يوجد تكاتفاً واسعاً في الرأي وسيكون بالنتيجة سدّاً بوجه القوى الكبرى، التي تمنع من تحقيق ذلك.

وقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من جهل وجوه الآراء أعيته الحيل»(1).

ثمار ضغط الرأي العام

حينما أخذ المأمون السلطة من أخيه الأمين، في خديعة يذكر التاريخ مفرداتها بالتفصيل، ثم روّج حيلة معينة انطلت على بعض الشيعة آنذاك بحيث صدّقوها(2)، لكنه حينما جاء إلى السلطة قام بقتل ذرية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن والاهم، وإن أكثر هذه القبور المتناثرة في إيران والعراق هي من فعل المأمون وجلاوزته، أخيراً عاد المأمون إلى بغداد وكأنه لم يفعل شيئاً.

وفي يوم من الأيام شاهد (يحيى بن أكثم) - الذي كان وزيراً للمأمون - أنالمأمون يذرع القصر جيئة وذهاباً، وهو يقول: مالك يا جُعَل(3) أتحلل وتحرم؟

ص: 281


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 584.
2- وهي الإدعاء بالثورة لأجل إرجاع حق آل محمد(عليهم السلام) - ذرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) - في الخلافة.
3- الجُعَل: دابة سوداء من دواب الأرض وقيل هو أبو جَعْران، لسان العرب 11: 112، مادة (جعل).

وكان المأمون يريد بخطابه الخليفة الثاني، ويقول له: هل لك حق التحليل والتحريم؟ يقول يحيى بن أكثم: فقلت للمأمون: ما هي المناسبة لكلامك هذا؟ فقال المأمون: يا ابن أكثم لماذا حرم الخليفة الثاني المتعة، في حين أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد حللّها، أما الآن يا ابن أكثم، فأصدر أمراً إلى المنادين، لينادوا بين الناس أنه من الآن فصاعداً قد أجزت حلية الزواج المؤقت.

يقول ابن أكثم: فقلت للمأمون: لا تفعل هذا أيها الخليفة، لأنك حينما قتلت الأمين صار لك معارضون (وهم أهل السنة)، ولو أنك فعلت اليوم هذا فإنهم سوف يؤلبون عليك الرأي العام ويثور الناس ضدك. بهذا استطاع ابن أكثم أن يخوّف المأمون حتى صرفه عن الرأي(1).

فالشاهد أن الرأي العام قادر على أن يؤثر في القرارات المتخذة سواء كانت بحق أو باطل.

فعلينا أيضاً كسب الرأي العام، وقضيتنا قضية الحق أمام الباطل، فنحتاج في هذه المرحلة إلى الإعلام المركّز والصحيح.

لماذا الحكومة بيد الشيعة؟

يذكر الشيخ جعفر الرشتي(رحمه اللّه): أنه قبل ثمانين سنة - حيث لم تكن الجنسية التي جاء بها الاستعمار لبلادنا قد عرفت بين الناس - كان هناك جسر على طريق بغداد قبل الوصول إلى مدينة كربلاء بفرسخ واحد، وكذلك كان على طريق (كربلاء - النجف) مكان يدعى ب(خان الهندي)، وهو يبعد عن كربلاء فرسخاً واحداً أيضاً، يقول الشيخ الرشتي: وكان الزوّار في ذلك الزمان لكثرتهم ينامونعلى هذا الطريق، أي من جسر الأبيض(2) حتى كربلاء، ومن كربلاء حتى خان

ص: 282


1- انظر وفيات الأعيان 6: 149.
2- ما يسمى اليوم عند أهالي كربلاء (القنطرة البيضة).

الهندي في الطرف الآخر من المدينة، فانظر كم كان عدد الزائرين آنذاك؟

وهنا نتساءل: أين ذهبت تلك الأعداد من الزوار؟

والجواب: لما أحكمت الحكومات السنية قبضتها على الشيعة، قامت بمنع كل هذه الجموع من الشيعة، ومنعتهم من زيارة إمامهم أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)، وسائر الأئمة، وذلك إما باستخدامهم القوة والبطش، أو بإدخال الأفكار المنحرفة غربية وشرقية إلى عقول بعض السذج لكي يصرفوهم عن سبيل أئمة الهدى(عليهم السلام)، إذ يروّجون لهم بأن هذه الأعمال والشعائر هي من الخرافات، وتقف حائلاً أمام التقدم والحضارة وغيرها من الدعاوى الباطلة.

وما نراه في بعض الأحيان من السماح للزوار إنما يكون لظروف طارئة وأغراض استدعت ذلك، كامتصاص للنقمة أو إيجاد قاعدة جماهيرية تمتدحهم على خطوتهم فيجلبون رضى الشعب ويثبتون قواعدهم أكثر فأكثر، وإلّا فالأصل عندهم هو المنع من جميع ذلك وبشتى الوسائل والطرق فلهذا وغيره يجب أن تكون الحكمة بيد الشيعة.

إيجاد الديمقراطية في العراق

كما يجب أن يكون الحكم في العراق قائماً على أساس إعطاء الناس حقوقهم في إبداء الرأي بحرية، وأن يعمل بالشورى والمشورة، وأن تعطى للأحزاب الإسلامية حرية العمل والتنافس، وأن يكون لها الحق في نقد الحكومة، وحينذاك سوف لا تكون الحكومة قادرة حتى على قتل خمسة أشخاص بالباطل، كما رأينا ذلك بأعيننا، حينما كانت التعددية الحزبية - على علاتها - هي الحاكمة.

أما إذا انفردت بالسلطة حكومة دكتاتورية فسيؤول وضع العراق من سيئ إلى أسوأ.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ تُعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق

ص: 283

وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

نتائج الإعراض عن الحق

قال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَٰؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وِزْرًا}(3).

وقال سبحانه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَٰمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(4).

إيثار الحق والعمل به

قال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ}(5).

وقال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَٰتِحِينَ}(6).

التعصب الأعمى

وقال سبحانه: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَٰهِلِيَّةِ}(7).

ص: 284


1- الكافي 3: 424.
2- سورة الأنعام، الآية: 5.
3- سورة طه، الآية: 100.
4- سورة البقرة، الآية: 75.
5- سورة النساء، الآية: 135.
6- سورة الأعراف، الآية: 89.
7- سورة الفتح، الآية: 26.

وقال جلّ وعلا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(1).

وقال تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَٰرَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(2).

الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامي

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(3).

وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

إيثار الحق والعمل به

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم»، قيل: يا رسول اللّه ومن هم؟ فقال: «الذين يقبلون الحق إذا سمعوه ويبذلونه إذا سُئلوه ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم، هم السابقون إلى ظل العرش»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «...يا علي، ثلاثة تحت ظل العرش يوم القيامة، رجل أحب لأخيه ما أحبّ لنفسه، ورجل بلغه أمر فلم يتقدم فيه ولم يتأخر حتى يعلم أن ذلك الأمر للّه رضاً أو سخط، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى يصلحذلك العيب من نفسه، فإنه كل ما أصلح من نفسه عيباً بدا له منها آخر...»(6).

ص: 285


1- سورة البقرة، الآية: 206.
2- سورة محمد، الآية: 23-24.
3- سورة الأنبياء، الآية: 92.
4- سورة آل عمران، الآية: 103.
5- النوادر للراوندي: 15.
6- تحف العقول: 7.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحق وإن ضرّك على الباطل وإن نفعك، وأن لا يجوز منطقك علمك»(1).

الشيعة مع الحق

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا، الذين إن غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا، بركة على من جاوروا سلم لمن خالطوا»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إنما شيعة علي الحلماء، العلماء، الذبل الشفاه، تعرف الرهبانية على وجوههم»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «شيعتنا أهل الهدى، وأهل التقى، وأهل الخير، وأهل الإيمان وأهل الفتح والظفر»(4).

المؤمنون أخوة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... المؤمنون أخوة تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الإخوان في اللّه تعالى تدوم مودتهم لدوامسببها»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله لا يخونه ولا

ص: 286


1- الخصال 1: 53.
2- الكافي 2: 236.
3- الكافي 2: 235.
4- الكافي 2: 233.
5- الكافي 1: 404.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 96.

يظلمه ولا يغشّه ولا يعده عدة فيخلفه»(1).

الاهتمام بأمور المسلمين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عليك بالنصح للّه في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(3).

وقال(عليه السلام): «إنه من عظم دينه عظم إخوانه، ومن استخف بدينه استخف بإخوانه...»(4).

الموعظة والإرشاد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: «... واتبع الموعظة، فإنه أقوى لهم على العمل بما يحب اللّه، ثم بثّ فيهم المعلِّمين، واعبد اللّه الذي إليه ترجع، ولا تخف في اللّه لومة لائم...»(5).

ص: 287


1- الكافي 2: 166.
2- الكافي 2: 163.
3- الكافي 2: 164.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 98.
5- تحف العقول: 26.

خدمة الناس والتقوى

اشارة

قال الإمام الحسين(عليه السلام): «اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم اللّه عليكم فلا تملّوا النعم فتحور(1) نقماً واعلموا أن المعروف مكسب حمداً ومعقب أجراً، فلو رأيتم المعروف رجلاً رأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين، ولو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجاً(2) مشوهاً تنفر منه القلوب وتغض دونه الأبصار»(3).

إذا قال الإنسان: إني نذرت أن أعطيك عشرة آلاف تومان فهذه نعمة أنعمها اللّه عليك، أو قال آخر: إني نذرت أن أعطيك هذه السيارة فهذه أيضاً نعمة أنعمها اللّه عليك، ولكن هل تصورت يوماً ما إذا طلب منك أحد مالاً لأجل ترميم داره أو شفاء مريضه أن هذه نعمة أيضاً؟

في نظر الإمام الحسين(عليه السلام) إن هذه ليست نعمة فقط بل هي من أفضل وأهم النعم فإن ما يحصله الإنسان من متاع الحياة الدنيا كالسيارة أو المال الكثير سينفد بعد فترة زمنية أو يتلف ولا يبقى منه شيء.

أما إذا جاءك شخص بحاجة ولبيتها له أو أعطيته سؤله فهذا لا يعدم أبداً فقد قال تعالى: {وَالْبَٰقِيَٰتُ الصَّٰلِحَٰتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}(4).

ص: 288


1- حار حوراً: رجع.
2- السمج: القبيح.
3- كشف الغمة 2: 29.
4- سورة الكهف، الآية: 46.

والمراد بالباقيات الصالحات الأعمال الصالحة، فإن أعمال الإنسان محفوظة له عند اللّه بنص القرآن فهي باقية وإذا كانت صالحة فهي باقيات صالحات وهي عند اللّه خير ثواباً لأن اللّه سبحانه يجازي فاعلها خير الجزاء... وخير أملاً لأن ما يؤمل بها من رحمة اللّه وكرامته ميسور للإنسان فهي أصدق أملاً من زينة الدنيا وزخارفها التي لا تفي للإنسان في أكثر ما تعد والآمال المتعلقة بها كاذبة على الأغلب وما صدق منها غار خدوع.

{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٖ}(1).

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذبح الشاة

ذات يوم ذبح النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شاة في بيته ووزعها على الفقراء إلّا الرقبة فرأت عائشة أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعطى كل الشاة فلم يبق إلّا أن يعطي الرقبة أيضاً ولذا قالت: يا رسول اللّه لقد ذهبت كل الشاة ولم يبق منها إلّا الرقبة! فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): بل لم يذهب من الشاة إلّا الرقبة لأننا سنأكلها، أما الشاة فستبقى إلى يوم القيامة حسنة مكتوبة لنا(2).

إن قضاء حوائج المؤمنين بل الناس جميعاً من النعم الإلهية الكبيرة التي يوفق لها بعض الناس خصوصاً في هذا العصر حيث ازدادت حوائج الناس واتسعت مشاكلهم وأزماتهم التي تستدعي التعاون والاهتمام من أجل رفعها وقضائها من قبل الجميع.

الإمام الصادق(عليه السلام) والأمر بالإنفاق

عن أبان بن تغلب قال: قلت للصادق(عليه السلام): ما حق المؤمن على أخيه؟

ص: 289


1- سورة النحل، الآية: 96.
2- انظر مستدرك الوسائل 7: 266.

فقال(عليه السلام): «لا ترده».

فقلت: بلى، فقال: «أن تقاسمه مالك شطرين» قال: فعظم ذلك عليّ، فلما رأى(عليه السلام) شدته عليّ قال: «أما علمت أن اللّه تعالى ذكر المؤثرين على أنفسهم ومدحهم في قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}»(1) فقلت: بلى، فقال: «فإذا قاسمته وواسيته وأعطيته النصف من مالك لم تؤثره، إنما تؤثره إذا أعطيته أكثر مما تأخذه»(2).

فمن الضروري على المؤمن أن يغتنم الفرصة ليخدم الناس ويساعدهم ويقضي حوائجهم، ولا يخفى أن قضاء حوائج الناس لا يعني فقط حوائجهم المادية بل أعم من ذلك فيشمل حتى الجوانب الروحية والأخلاقية والخدمات الأخرى... .

مثلاً: إن زيداً من الناس له بنات كثيرات فبإمكاننا مساعدته في أمر تزويج بناته، وذلك بأن نرشد المؤمنين الراغبين في الزواج إليه، أو أن فلاناً يريد الزواج فأعنه حتى يعثر على فتاة صالحة، أو أن فلاناً لا يعرف القراءة والكتابة فساعده حتى يتعلمها، أو فلاناً أصابته كربة أو نائبة فأنت تسعى في أن تنفس عنه كربته... .

وقد جاءت في ذلك روايات عديدة ومفصّلة منها:

سئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أي الأعمال أحب إلى اللّه؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اتباع سرور المسلم»، قيل: يا رسول اللّه وما اتباع سرور المسلم؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شبع جوعته وتنفيس كربته وقضاء دينه»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من كان في حاجة أخيه المسلم كان اللّه في

ص: 290


1- سورة الحشر، الآية: 9.
2- أعلام الدين: 126.
3- قرب الإسناد: 145.

حاجته ما كان في حاجة أخيه»(1).

وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من سرّ مؤمناً فقد سرني ومن سرني فقد سر اللّه»(2).

وطبعاً إن سرور اللّه تعالى يراد منه ما يترتب على السرور من اللطف والرحمة، وسرور المؤمن يتحقق بفعل أسبابه وموجباته كأداء دينه أو تكفل مؤونته أو ستر عيوبه أو دفع جوعته أو تنفيس كربته أو قضاء حاجته أو إجابة مسألته وغيرها من دواعي إدخال السرور والفرح في قلوب الناس... .

الإمام الصادق(عليه السلام) والنجاشي

عن محمد بن جمهور قال: كان النجاشي(3) وهو رجل من الدِّهاقين(4)عاملاً على الأهواز وفارس فقال بعض أهل عمله لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إن في ديوان النجاشي عليّ خراجاً(5) وهو ممن يدين بطاعتك فإن رأيت أن تكتب إليه كتاباً، قال: فكتب إليه - أبو عبد اللّه(عليه السلام) - : «بسم اللّه الرحمن الرحيم سر أخاك يسّرك اللّه».

قال: فلما ورد عليه الكتاب دخل عليه وهو في مجلسه فلمّا خلا ناوله الكتاب وقال: هذا كتاب أبي عبد اللّه(عليه السلام)، فقبّله ووضعه على عينيه وقال له: ما حاجتك؟قال: خراج عليّ في ديوانك فقال له: كم هو؟ قال: عشرة آلاف درهم، فدعا كاتبه وأمره بأودائها عنه ثم أخرجه منها أن يثبتها له لقابل ثم قال له: سررتك؟

ص: 291


1- وسائل الشيعة 16: 367.
2- الكافي 2: 188.
3- يظهر من كتب الرجال أن النجاشي المذكور في الخبر اسمه عبد اللّه وأنه ثامن آباء احمد بن علي النجاشي صاحب الرجال المشهور.
4- الدِّهقان: التاجر فارسي معرب، أنظر لسان العرب 10: 107 مادة (دهق).
5- الخراج ما يأخذه السلطان من الأراضي وأجرة الأرض للأراضي المفتوحة عنوة.

فقال له: نعم قال: أمر له بعشرة آلاف درهم أخرى، فقال له: هل سررتك؟ فقال: نعم جعلت فداك، قال: ثم أمر له بمركب وجارية وغلام ثم أمر له بتخت ثياب، في كلّ ذلك يقول له هل سررتك؟ فكلّما قال له: نعم زاده حتى فرغ، ثم قال له: احمل فرش هذا البيت الذي كنت جالساً فيه حين دفعت إليّ كتاب مولاي الذي ناولتني فيه وارفع إليّ جميع حوائجك قال: ففعل، وخرج الرجل فصار إلى أبي عبد اللّه(عليه السلام) بعد ذلك فحدّثه بالحديث على جهته وجعل يسرّه بما فعل فقال له الرجل: يا ابن رسول اللّه كأنه قد سرك بما فعل بي؟ فقال: «إي واللّه لقد سرّ اللّه ورسوله»(1).

إن وظيفة المسلم أن يتفقد حاجات الناس ويسعى في سبيل قضائها ولا ينتظر أن يستغيثه أحد لقضاء حاجته وأنّما يلتزم هو بالمبادرة في قضاء الحوائج، وفي القرآن الكريم: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَٰتِ}(2).

وفي الرواية: «إن الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرّب...»(3).

اللّه يتقبل الأعمال

في كتاب التحصين عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخاطب أبا ذر الغفاري: «يا أبا ذر قلوبهم إلى اللّه وعملهم للّه»(4).

ولذلك يخاطب لقمان ولده: «يا بني أخلص العمل فإن الناقد بصير»(5).

إذن ففي مقابلك الذي يقبل الأعمال أو يردها هو اللّه تعالى العالم بجميع

ص: 292


1- الاختصاص: 260.
2- سورة التوبة، الآية: 104.
3- تفسير العياشي 2: 108.
4- التحصين في صفات العارفين: 23.
5- الإختصاص: 341.

الموجودات والكائنات وخصوصياتها وما يدور في خلدها. فاسع لأن يكون سعيك خالصاً لوجهه الكريم بلا أن يداخلك الوسواس أو العجب، فقد ورد عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «قال إبليس لعنة اللّه عليه لجنوده إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل فإنه غير مقبول منه: إذا استكثر عمله ونسي ذنبه ودخله العجب»(1)؛ لأنه بصير بكل حالاتك وأوضاعك ومشاعرك وما ينتابك من إحساس فان {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ}(2).

إنفاق أهل البيت(عليهم السلام)

الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وفاطمة الزهراء(عليها السلام) والحسن والحسين(عليهما السلام) وفضة أعطوا خمسة عشر(3) قرصاً من الخبز في سبيل اللّه في قصة مفصلة وكان ذلك خالصاً لوجه اللّه فأنزل اللّه تعالى في ذلك آية يقرأها المسلمون منذ أربعة عشر قرناً والى الآن وهي درس عملي لجميع المسلمين في الانفاق والعطاء في سبيل اللّه {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}(4)، إن العمل الصالح الذي يؤتى به لأجل السمعة والرياء لا ينفع بأن نقول نحن فعلنا ذلك، ونحن قمنا بذلك، ونحن هيئنا ذلك، وهكذا بل يجب أن يكون العمل خالصاً للّه.

الإخلاص في خدمة الناس

الإمام زين العابدين(عليه السلام) عندما ودّع هذه الدنيا تبين أنه كان هناك أربعمائة عائلة فقيرة تحت تكفله ولم تكن هذه الأربعمائة عائلة تعرف أن الذي يوصل

ص: 293


1- الخصال 1: 112.
2- سورة الإسراء، الآية: 25.
3- أنظر الأمالي للشيخ الصدوق: 257.
4- سورة الإنسان، الآية: 8-9.

الغذاء والمعونة إليهم هو الإمام السجاد(عليه السلام) وعندما كانوا يغسّلون الإمام(عليه السلام) رأوا على كتفه ثفنات(1) وكان ذلك أثر حمل الغذاء الكثير والثقيل الذي كان يوصله في جوف الليل إلى الفقراء والمساكين بعيداً عن أعين الناس وفي الرواية عن الصادق(عليه السلام): «يا بن جندب لا تتصدق على أعين الناس ليزكوك، فإنك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تطلع عليها شمالك»(2).

أهمية خدمة المسلمين
السيد البروجردي(رحمه اللّه) وبكاؤه خوفاً من اللّه

يقول أحد علماء قم وكان من زملاء السيد البروجردي في المباحثة وله الآن تسعون سنة من العمر:

إن السيد البروجردي كان في أواخر حياته متأثراً ومتألماً جداً فذات يوم قلنا للسيد لماذا نراك متأثراً ومتألماً؟ فقال: إنني في أواخر أيام حياتي وعلى وشك الموت وأنا متأثر لأنني سأموت ولم أقدم أية خدمة في سبيل الإسلام! - والحال إننا نجد أن خدمات السيد البروجردي تفوق الذكر وهي لم تخف على أحد من الناس سواء في العراق أو في لبنان أو في إيران أو غيرها من البلاد - فقلنا له: لماذاتقول هذا الكلام وأنت لك في طهران فقط أربعمائة مسجد أسستها، فعندما سمع هذا الكلام منّا أغرورقت عيناه بالدموع واستعبر باكياً وقال: أنتم تحسنون الظن بي كثيراً! ولكن يجب أن نرى أيها وقع مورداً لقبول اللّه ورضايته هكذا يفكر مثل

ص: 294


1- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 153، والثفنات: لحم ميت شبيه بركبة البعير التي يتصلب لحمها على أثر الاصطكاك بالأرض.
2- تحف العقول: 305.

السيد البروجردي(رحمه اللّه) فكيف بنا نحن؟؟

وعندما مات لم يكن يملك من حطام الدنيا شيئاً، نعم، كان لديه ثلاثمائة ألف تومان من الحقوق الشرعية، وقد أوصى بها أن تعطى شهرية لطلاب العلوم الدينية.

زهد وورع السيد البروجردي(رحمه اللّه)

نقل أحد الأصدقاء قصة عن السيد البروجردي(رحمه اللّه) قال:

بأن السيد أصابته وعكة صحية فقال طبيبه الخاص بعد فحصه: بأن سبب مرضه الضعف الجسمي وعليه أن يقوي نفسه ليستعيد صحته وذلك بأن يعطى اللحم المشوي، فيقول خادمه (الحاج أحمد):

فاتبعت وصية الطبيب وشويت له لحماً وقدمته له في وقت الغداء، وعندما رأى السيد ذلك قال لي: يا حاج أحمد ما هذا الذي جئت به إلي؟ ارفعه من بين يدي!

فقلت له: إن هذه وصية الطبيب من أجل صحتك وسلامتك، فقال إذا لم ترفع هذا من أمامي فإني لن آكل هذا اليوم أي شيء، يقول الحاج أحمد: فرفعت اللحم المشوي من بين يديه وعند ذلك تناول طعامه اليومي.

فعل الخيرات

يقول اللّه تعالى في القرآن الكريم أن بعض الناس يلقون في جهنم ويلاقون أشد الحساب وذلك لأنهم لا يفعلون الخير ولا يدلون عليه قال تعالى: {أَرَءَيْتَالَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ}(1).

أي يا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أرأيت هذا الكافر الذي يكذب بالجزاء والحساب وينكر

ص: 295


1- سورة الماعون، الآية: 1-3.

البعث مع وضوح الأمر في ذلك وقيام الحجج على صحته، ثم يبدأ بنقل أهم صفاته بعد التكذيب بالدين وهي: أنه يدفع اليتيم الفقير المحتاج عن حقه بجفوة وقسوة وقهر لأنه لا يؤمن بالجزاء في مقابله ولذلك ليس له رادع عنه. ولا يحض على طعام المسكين أي لا هو يطعمه ويشبعه رحمة وشفقة به ولا يأمر طعامه فهو لا يطعمه إذا قدر عليه ولا يحض عليه إذا عجز هو عن اطعامه كلّ ذلك لأنه يكذب بالجزاء، وقد ورد أن بعض كفار قريش كان كذلك إذا جاء يتيم يطلب رفده طرده بقساوة(1).

وإذا كان ذلك موجباً للذم والتوبيخ بالنسبة للكافر، فمن يعمل باسم الإسلام وهو بعيد عنه كان أولى بالذم والتوبيخ إذ المنافق أسوأ حالاً من الكافر. وفي آية أخرى يقول تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}(2).

لينطق بهما فيبين باللسان ويستعين بالشفتين على البيان أي: نحن أعطيناه عينين يرى بهما عمل الخير فيفعل مثله، وأعطيناه لساناً ليحركه في فعل الخير أو الحض والتشجيع عليه، ويرى العمل السيئ فيجتنب عنه ويحرك لسانه في ترك ذلك والاجتناب عنه.

ثم يقول: {وَهَدَيْنَٰهُ النَّجْدَيْنِ}(3) يعني: قد بينا له الطريقين طريق الخير وطريق الشر واللّه تعالى سمّى الطريقين بالنجدين لأنهما يوجبان الرفعة والشرف للإنسان.

أما العامل بالخير فواضح وأما الشر سمي نجداً من حيث أن اجتنابه يوجب الرفق أيضاً، وقد يكون من باب التغليب.

ص: 296


1- انظر تفسير القمي 2: 444.
2- سورة البلد، الآية: 8-9.
3- سورة البلد، الآية: 10.

وعلى أي حال فإذا حاسبنا اللّه سبحانه يوم القيامة بهذه الآية الشريفة فماذا سيكون حينئذ جوابنا؟!

إذن على الإنسان أن يشغل نفسه دائماً بفعل الخيرات ولا يدع للمدح أو للذم تأثيراً في نفسه سلباً أو إيجاباً، قال الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) لهشام: «يا هشام، لو كان في يدك جوزة وقال الناس في يدك لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس أنها جوزة ما ضرّك وأنت تعلم أنها لؤلؤة»(1).

التقوى

المسألة المهمة والضرورية التي يجب أن يلتفت إليها كلّ الأخيار والمحبين للهدى والصلاح هي مسألة التقوى والورع عن محارم اللّه، والقرآن يقول في سورة التغابن: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(2)، والتي نزلت لغرض دعوة السامعين إلى الإيمان باللّه تعالى ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واليوم الآخر، وترغيبهم إلى طاعة اللّه (جل وعلا) وطاعة رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلى صالح الأعمال وفضائل الأخلاق بذكر مآلها من الجنة ونعيمها... وتحذيرهم من الكفر والطغيان وذميم الصفات وموجباتها من حب الدنيا واعراضها بذكر وبالها من النار وعذابها وتنبيههم بنكال اللّه تعالى في الكافرين السابقين... وجاءت هذه الآية تفريعاً على ما تقدمها من آيات تحثالمؤمنين على التقوى في اتباع أوامر اللّه تعالى واجتناب نواهيه جهد استطاعتهم إذ لكل نفس طاقة من التحمل وقدر من القوة وإن اللّه لا يكلف نفساً إلّا وسعها فلا تدعوا من الإتقاء شيئاً تسعه طاقاتكم وجهدكم.

ص: 297


1- تحف العقول: 386.
2- سورة التغابن، الآية: 16.
محكمة القيامة

بناءً على رأي بعض المفسرين إن آخر آية نزلت على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي آية: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}(1) أي: اتقوا ذلك اليوم الذي تقفون فيه أمام المحكمة الإلهية العادلة التي لا تضاهيها أية محكمة أخرى، ولا يمكن التخلص منها أبداً؛ لأن الحاكم فيها هو اللّه العالم بكل شيء ولا تخفى عليه خافية في الأرض وفي السماء «ولا يمكن الفرار من حكومتك»(2) وهي المكان الذي تعرض فيه علينا جميع أعمالنا مكتوبة في صحيفة لا يدخلها الكذب والزور ويقولون لنا: {كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}(3).

ففي ذلك اليوم بعض الناس ينكرون بأنهم قد فعلوا المنكر فيأمر اللّه تعالى أعضاءهم وأيديهم وأرجلهم ويقول لها تكلمي بإذني فتتكلم اليد والرجل بل وحتى الأعضاء التناسلية تشهد بالمنكرات التي فعلها صاحبها بها.

{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٖ}(4).

فإذن يجب الخوف من اللّه تعالى وطاعته في كل حال والقرآن يقول: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(5).

كي تكونوا من المفلحين الفائزين يوم القيامة.

حتى النيات يعلم بها اللّه تعالى

على الإنسان أن لا يرتكب الحرام بل عليه أن لا يفكر بالمنكر والحرام! لأن

ص: 298


1- سورة البقرة، الآية: 281.
2- مصباح المتهجد 2: 845.
3- سورة الاسراء، الآية: 14.
4- سورة فصلت، الآية: 21.
5- سورة المائدة، الآية: 100.

اللّه عالم ومحيط به، إذا كنت على علم بأن صديقك يضمر لك السوء في نفسك أو مالك أو عرضك فهل تسافر معه أو تأمنه على شيء من ذلك؟

طبعاً ستقول في الجواب: كلا وألف كلا، إذن على الإنسان أن لا يفكر بالحرام؛ لأن اللّه تعالى يعلم بالأسرار وبكل شيء وفي القرآن قال تبارك وتعالى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}(1) أي: إنه يعلم حتى بنيات البشر ومطلع عليها مهما بالغ الإنسان في إضمارها واخفائها، ويقول سبحانه في القرآن الكريم: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}(2) أي: الحقائق التي يسرها الإنسان ويخفيها ولا يطلع أحداً عليها... وبُيّن ذلك في الرواية بأنه يؤتى بإنسان يوم القيامة ويعطونه صحيفة بيده فيقرأ فيجد فيها أنه قد بنى مسجداً، فيقول: يا رب لم تكن لي أموال لأبني مسجداً ولا بد بأنه حصل هناك اشتباه في هذه الصحيفة؟! فيأتيه الخطاب: بأن الملائكة لا تشتبه أبداً ولكنك في حياتك تمنيت يوماً وأنت تعبر على مسجد بأنه إذا كانت لي أموال لبنيت مسجداً ونحن قد جزيناك على نيتك هذه بثواب من بنى مسجداً واقعاً وكتبنا ذلك في صحيفة أعمالك(3).

وورد عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) - في حديث طويل - وفيه يقول السائل فما علة الملائكة الموكلين بعباده يكتبون عليهم ولهم، واللّه عالم السر وما هو أخفى؟قال: «استعبدهم بذلك وجعلهم شهوداً على خلقه ليكون العباد لملازمتهم إياهم أشد على طاعة اللّه مواظبة وعن معصيته أشد انقباضاً، وكم من عبد يهم بمعصيته فذكر مكانهما فارعوى وكف، فيقول: ربي يراني وحفظتي علي بذلك تشهد، وإن اللّه برأفته ولطفه أيضاً وكلهم بعباده يذبون عنهم مردة الشياطين وهوام

ص: 299


1- سورة طه، الآية: 7.
2- سورة الطارق، الآية: 9.
3- انظر الكافي 2: 85.

الأرض وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن اللّه إلى أن يجيء أمر اللّه...»(1).

والقرآن الكريم يقول: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(2).

والقيامة هي المكان الذي لا يمكن لأحد التجاوز عنها وليس للإنسان فيها أي مخلّص أو مفر، لذلك على الإنسان أن يحفظ نفسه ويصونها من السقوط في مهاوي الرذيلة والحرام والمنكر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ لأنه سوف يواجه يوماً لا ناصر ولا معين له فيه إلّا عمله الصالح {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٖ وَلَا نَاصِرٖ}(3).

التنبيه من الغفلة

من الأعمال المستحبة في الإسلام الحضور عند المحتضر، وكذلك زيارة القبور؛ وذلك لأن هذه الأمور تنبه الإنسان من غفلته وتوجهه إلى نفسه وأعماله، وتجعله يبتعد ويمتنع عن فعل المنكرات، ويسعى في الإتيان بالخيرات والأعمال الصالحة.

وكتب الإمام الحسن(عليه السلام) إلى قوم يعزونه في ابن له، ومنها: «أضحوا قد اخترمتهم الأيام، ونزل بهم الحمام، فخلفوا الخلوف، وأودت بهم الحتوف، فهم صرعى في عساكر الموتى...»(4).

كان الإمام(عليه السلام) يستعمل هذا الأسلوب كطريق ناجح وعظيم لتذكير الناس ووعظهم وإرشادهم وتنبيههم من غفلتهم، كما كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مهتم كثيراً بوعظ الناس وتذكيرهم بالنهاية المحتومة للحياة الدنيا، حتى أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم أخذ بيد أبي ذر وجاء به إلى خربة كانت في أطرافها عظام لميت وبقايا أثواب

ص: 300


1- الاحتجاج 2: 348.
2- سورة غافر، الآية: 19.
3- سورة الطارق، الآية: 10.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 202.

متهرئة ووسخة، فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر: أأخبرك عن حقيقة الدنيا؟

هذه النجاسات هي غذاء أهل الدنيا أما الأثواب العفنة والمتهرئة فهي كانت لباس أهل الدنيا يلبسونها بتجمل وتكبر، وأما هذه العظام فهي عظام أهل الدنيا(1).

ونقرأ هذا المعنى في نهج البلاغة في قوله(عليه السلام) وقد مرّ بقذر على مزبلة قال: «هذا ما بخل به الباخلون»(2).

فعلى الإنسان أن يعتبر عند رؤية هذه الدنيا الفانية وما تؤول إليه، وعليه أن يتخذ طريق التقوى والرشاد لأن {خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ}(3).

وهي الوسيلة الكبيرة التي تنجي الإنسان في الآخرة وتكتب له حسن العاقبة.«يا رب يا رب يا رب، اسألك بحقك وقدسك، وأعظم صفاتك وأسمائك، أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة وأعمالي عندك مقبولة، حتى تكون أعمالي وأورادي كلها ورداً واحداً، وحالي في خدمتك سرمداً، يا سيدي يا من عليه معولي، يا من إليه شكوت أحوالي»(4).

ص: 301


1- أنظر تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 130، وفيه: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا هريرة، ألّا أريك الدنيا جميعاً بما فيها؟» قلت: بلى يا رسول اللّه. فأخذ بيدي وأتى بي وادياً من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذرات وخرق وعظام ثم قال لي: «يا أبا هريرة، هذه الرؤوس كانت تحرص على الدنيا كحرصكم وتأمل آمالكم ثم هي عظام بلا جلد ثم هي صائرة رماداً، وهذه العذرات ألوان أطعمتكم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها من بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم فأصبحت والرياح تصفقها وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد. فمن كان راكناً إلى الدنيا فليبك...».
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 195.
3- سورة البقرة، الآية: 197.
4- مصباح المتهجد 2: 849.

من هدي القرآن الحكيم

الإيثار

قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(1).

التقوى مفتاح الأعمال

قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(3).

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَئَِّاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}(5).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}(6).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(7).

مميزات المتقين

قال سبحانه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(8).

ص: 302


1- سورة الحشر، الآية: 9.
2- سورة الأعراف، الآية: 96.
3- سورة البقرة، الآية: 194.
4- سورة الأعراف، الآية: 201.
5- سورة الطلاق، الآية: 5.
6- سورة الأنفال، الآية: 29.
7- سورة الحجرات، الآية: 13.
8- سورة الزمر، الآية: 33.

وقال تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).

وقال تعالى: {وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

خدمة الناس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيما مسلم خدم قوماً من المسلمين إلّا أعطاه اللّه مثل عددهم خُدّاماً في الجنة»(4).

وروي أنه تعالى أوحى إلى داود(عليه السلام): «مالي أراك منتبذاً(5)؟

قال: أعيتني الخليقة فيك قال: فماذا تريد؟ قال محبتك، قال: فإنّ محبتي التجاوز عن عبادي فإذا رأيت لي مريداً فكن له خادماً»(6).

وعن جميل عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سمعته يقول: «المؤمنون خدم بعضهملبعض» قلت له: وكيف يكونون خدماً بعضهم لبعض؟ قال: «يفيد بعضهم بعضاً»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أخدم أخاك فإن استخدمك فلا ولا كرامة»(8).

ص: 303


1- سورة البقرة، الآية: 237.
2- سورة المائدة، الآية: 8.
3- سورة القصص، الآية: 83.
4- الكافي 2: 207.
5- انتبذ: تنحى وبعد.
6- مستدرك الوسائل 12: 428.
7- الكافي 2: 167.
8- الإختصاص: 243.
الإيثار

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الإيثار أعلى المكارم»(1).

وقال(عليه السلام): «الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان»(2).

ورُوي عن نبي اللّه موسى(عليه السلام) أنه قال: يا رب أرني درجات محمد وأمته؟

قال: يا موسى إنك لن تطيق ذلك ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي - قال - فكشف له عن ملكوت السماء فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها وقربها من اللّه عزّ وجلّ.

قال: يا رب بماذا بلغته إلى هذه الكرامة؟

قال: بخُلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمر إلّا استحييت من محاسبته وبوأته من جنتي حيث يشاء(3).

التقوى في المؤمن

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «التقى رئيس الأخلاق»(4).

وسئل أمير المؤمنين(عليه السلام) أي عمل أفضل؟ قال: «التقوى»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه فإنها خير ما تواصى العباد به وخير عواقب الأمور عند اللّه»(6).

وقال(عليه السلام): «التقوى حصن حصين لمن لجأ إليه»(7).

ص: 304


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 54.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 90.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 173.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 410.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 394.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 173، من خطبة له(عليه السلام) في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 83.

وقال(عليه السلام): «فاعتصموا بتقوى اللّه فإن لها حبلاً وثيقاً عروته ومعقلاً منيعاً ذروته»(1).

التقوى مصباح الهدى

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فإن تقوى اللّه مفتاح سداد وذخيرة معاد وعتق من كل ملكة ونجاة من كل هلكة بها ينجح الطالب وينجو الهارب وتنال الرغائب»(2).

عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سألته في قول اللّه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(3). ما ذلك الطائف؟ فقال: «هو السيء يهم العبد به ثم يذكر اللّه فيبصر ويقصّر»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى والأبصار اللامحة إلى منار التقوى، أين القلوب التي وهبت للّه وعوقدت على طاعة اللّه»(5).

ويروى أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دخل البيت عام الفتح ومعه الفضل بن عباسوأسامة بن زيد ثم خرج فأخذ بحلقة الباب ثم قال:

«الحمد للّه الذي صدق عبده وأنجز وعده وغلب الأحزاب وحده إن اللّه أذهب نخوة العرب وتكبرها بآبائها وكلكم من آدم وآدم من تراب وإن أكرمكم عند اللّه أتقاكم»(6).

ص: 305


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 190، من خطبة له(عليه السلام) يحمد اللّه ويثني على نبيه ويعظ بالتقوى.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 230، من خطبة له(عليه السلام).
3- سورة الأعراف، الآية: 201.
4- تفسير العياشي 2: 44.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 144، من خطبة له(عليه السلام).
6- مشكاة الأنوار: 59.
معنى التقوى

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فإن تقوى اللّه دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم وصلاح فساد صدوركم وطهور دنس أنفسكم وجلاءٌ عشا بصاركم وأمن فزع جأشكم وضياءُ سواد ظلمتكم... فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوها وأحلولت له الأمور بعد مرارتها وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها...»(1).

وقال(عليه السلام): «التقوى آكد سبب بينك وبين اللّه إن أخذت به، وجُنّة من عذاب أليم»(2).

ومن وصايا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر: «يا أبا ذر كن بلعمل بالتقوى أشدّ اهتماماً منك بالعمل فإنه لا يقل عمل بالتقوى»(3).

علامات التقوى

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وقلة الفخر والبخل وصلة الأرحام ورحمة الضعفاء وقلة المؤاتاة للنساء، وبذل المعروف، وحسن الخلق، وسعةالحلم، واتباع العلم في ما يقرب إلى اللّه عزّ وجلّ طوبى لهم وحسن مآب»(4).

ص: 306


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 198 من خطبة له(عليه السلام) ينبّه على إحاطة علم اللّه... ويحث على التقوى.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 117.
3- مكارم الأخلاق: 468.
4- الخصال 2: 483.

دروس من الهجرة

المقدمة

قال تعالى: {قُلْ يَٰعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةٌ}(1).

وتفسير الآية المباركة هكذا: {قُلْ} يا رسول اللّه {يَٰعِبَادِ} وأصله يا عبادي {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فعل ماضي {اتَّقُواْ} أيها الناس{رَبَّكُمْ} أي:خافوا عقابه،فلا تخالفوا أوامره، فإنه{لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} في العقيدة والعمل {فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} المراد بها الجنس، فإن اتباع مناهج اللّه سبحانه، يوجب الغنى والصحة والأمن والعلم والفضيلة وسائر الخيرات، كما دل عليه الدليل والتجارب {وَ} إذا رأيتم أنكم لا تتمكنون من الإتيان بالطاعة في مكان فهاجروا، ف{أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةٌ} إلى حيث تتمكنون من أن تحسنوا هناك، وحيث إن الهجرة توجب أتعاباً جمّة فقال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى} يُعطى وافياً {الصَّٰبِرُونَ} في الشدائد {أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٖ} فإنه لكثرته لا يتمكن الإنسان من عده، وإن كان بقدر معلوم عند اللّه سبحانه(2).

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَٰئِكَ

ص: 307


1- سورة الزمر، الآية: 10.
2- تفسير تقريب القرآن 4: 551.

مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(1).

وفي هذه الآية المباركة يتوجه الخطاب إلى طائفة أخرى من القاعدين عن الهجرة الذين لم يعدهم اللّه الحسنى، بل وعدهم العذاب لأنهم هم السبب في ظلم الكفار لهم وهضمهم حقوقهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ} أي تقبض الملائكة أرواحهم، فإن لملك الموت أعواناً كما ورد في الروايات الشريفة، ودلت عليه هذه الآية، {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} أي: في حال كونهم ظالمين لأنفسهم، لأنهم بقوا في دار الهوان حيث يسومهم الكفار العذاب ويمنعونهم من الإيمان باللّه والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقد كان بإمكان هؤلاء أن يهاجروا إلى دار الإيمان ويؤمنوا، ولعل الآية أعم منهم ومن المؤمنين الذين بقوا في دار الكفر ولا يتمكنون من إظهار واجبات الإسلام والعمل بما أوجبه اللّه سبحانه {قَالُواْ} أي: قالت الملائكة لهم عند قبض أرواحهم: {فِيمَ كُنتُمْ} أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم، وهو استفهام تقريري توبيخي {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} ليستضعفنا أهل الشرك في بلادنا فلا يتركوننا لأن نؤمن، أو لايتركوننا لأن نعمل بالإسلام {قَالُواْ} أي: قالت الملائكة لهم {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} حتى تخرجوا من سلطنة الكفار، وتتمكنوا من الإسلام أو من العمل بشرائعه.

ص: 308


1- سورة النساء، الآية: 97-100.

{فَأُوْلَٰئِكَ} الذين سبق وصفهم {مَأْوَىٰهُمْ} مرجعهم ومحلهم {جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أي: أنها مصير سيئ لعذابها وأهوالها.

ثم استثنى سبحانه من هؤلاء من لا يتمكن من الهجرة فإنه ليس مكلفاً، وإنما أمره إلى اللّه تعالى {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} الذين استضعفهم الكفار في بلادهم {مِنَ الرِّجَالِ} العجزة {وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ} وهاتان الطائفتان في طبيعتهم العجز عن الفرار والهجرة {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} أي: علاجاً لأمرهم وفكاً لأنفسهم عن سلطة المشركين {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} للفرار والهجرة، {فَأُوْلَٰئِكَ} العاجزون من المستضعفين {عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أي: لعل اللّه سبحانه يغفر لهم ذنبهم، ودخول عسى في مثل هذه الآية للدلالة على كون الأمر بيد اللّه سبحانه، وأنه كان قادراً على أن يأمرهم بما يحرجهم من وجوب خروجهم وإظهار دينهم وإن بلغ لهم الأمر ما بلغ.

لا يقال: إن كان المراد بالمستضعفين الكفار فكيف يعفى عن الكفر؟

لأنه يقال: الدليل العقلي والنقلي قد دل على امتحان الضعفاء والعجزة والبله ومن إليهم في الآخرة، وذلك بخلاف الكافر المعاند الذي مصيره النار حتماً.

{وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا} يعفو عمّن يشاء {غَفُورًا} يغفر الذنوب، ولعل الفرق بين العفو والغفران أن العفو غفران بلا ستر، والغفران عفو مع الستر، فإن عدم العقاب لا يلازم الستر.

وقد يمنع عن الهجرة خوف أن لا يجد الإنسان في محله الجديد ما يلائم مسكنه ومكسبه، ولكنه ليس إلّا توهماً؛ فإن الأرض واسعة والكسب ممكن في كل مكان {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأمره سبحانه ومن أجله {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا} المرغم مصدر بمعنى المتحول، وأصله من الرغام وهو

ص: 309

التراب(1) {وَسَعَةً} أي في الكسب وسائر شؤون الحياة. {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} يهاجر وطنه ومحله، وينقطع عنه {إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} والهجرة إلى اللّه أي: إلى محل أمره، والهجرة إلى الرسول إما حقيقي كما في زمان حياته(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإما مجازي كما إذا هاجر إلى بلاد الإسلام حسب أمر الرسول {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} أي: يموت في طريقه {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} لأنه خرج في سبيله وحسب أمره فأجره وثوابه عليه سبحانه {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} يغفر ذنوب المهاجر {رَّحِيمًا} يرحمه بإعطائه الثواب، وفي الحديث: «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنة،وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(2).

وقد ورد في بعض التفاسير أن السبب في نزول هذه الآية أنه لما نزلت آيات الهجرة سمعها رجل من المسلمين كان بمكة يسمى (جندب بن ضمرة) فقال: واللّه ما أنا مما استثنى اللّه، إني لأجد قوة، وإني لعالم بالطريق، وكان مريضاً شديد المرض، فقال لبنيه: واللّه لا أبيت بمكة حتى أخرج منها، فإني أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه على سرير حتى إذا بلغ التنعيم مات، فنزلت الآية(3).

مدرسة الهجرة

اشارة

بعد ما ذكرنا بعض التوضيح للآيات الشريفة، والتي موضوعها الهجرة وما يحيط بها، نقول: إن الحياة مدرسة زاخرة بالدروس التي تمد الإنسان بمختلف

ص: 310


1- انظر لسان العرب 12: 245، مادة (رغم).
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 33.
3- انظر تفسير تقريب القرآن 1: 529. وانظر بحار الأنوار 19: 30.

أسباب التقدم والكمال، ومن هذه الدروس درس (الهجرة)، فعلى الإنسان المسلم أن يستفيد من هذا الدرس، ويوظّفه لصالحه ولصالح مجتمعه.

وكما أن الإنسان يواجه في الهجرة المتاعب والآلام الكثيرة من ترك الوطن والأهل والشعور بالغربة ونحو ذلك، إلّا أنه في مقابل ذلك يجني فوائد عظيمة، حيث ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى ليحب الاغتراب في طلب الرزق»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام):«ليس في الغربة عار إنما العار في الوطن والافتقار»(2).

وهذا بالإضافة إلى الثواب الأخروي العظيم الذي سوف يناله نتيجة هجرته في سبيل اللّه تعالى، بنص القرآن الكريم، كما قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْأخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(3). فإن الذين هاجروا من ديارهم فراراً بدينهم، وإتباعاً لنبيهم، من بعد أن ظلمهم قومهم وآذوهم وبخسوهم حقوقهم، فإن اللّه تعالى يبوئهم في الدنيا حسنة، والتبوء الإحلال بالمكان للمقام، يقال: تبوأ منزلاً يتبوأ إذا اتخذه، وبوأه غيره تبويئاً إذا أحله غيره(4).

لذا فإن الهجرة تعتبر مدرسة تعلم الإنسان المهاجر الصبر والشجاعة من خلال إقدامه على تحمل المعاناة، وكيفية التكيّف مع الظروف المحيطة به من فقر وقلة ناصر ومعين، ونحو ذلك. وفي نفس الوقت تحفظ نفس الإنسان ودينه

ص: 311


1- من لا يحضره الفقيه 3: 156.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 560.
3- سورة النحل، الآية: 41.
4- التبيان في تفسير القرآن 6: 383.

وماله من بطش الظَلمة وطغيانهم الذين ترك بلده بسببهم مضافاً إلى ما يقوم المهاجر بتبليغ دينه في أرض المهجر.

الهجرة وتقسيماتها

للهجرة معان متعددة من أهمها:

1- الهجرة المكانية، وهو الخروج من أرض إلى أخرى.

2- الهجرة من السيئات والخروج من ذل معصية اللّه إلى عزّ طاعته. كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اهجروا الشهوات فإنها تقودكم إلى ارتكاب الذنوب والتهجم على السيئات»(1).

وبحثنا هنا يدور حول القسم الأول من الهجرة، أي: (الهجرة المكانية)، أما الهجرة من السيئات فهي مما لا تختص بزمان أو مكان، وإنما تتعلق بالإنسان المؤمن مادام حياً، وأينما كل وحلّ، بل إن ذلك من مقومات شخصية المؤمن، وكما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لكميل بن زياد: «ياكميل، قل الحق على كل حال، وواد المتقين، واهجر الفاسقين، وجانب المنافقين ولا تصاحب الخائنين»(2).

من أسباب الهجرة

إن الهجرة المكانية تحصل لأسباب عديدة منها:

1- الظلم.

2- التبليغ.

3- الجهاد.

ونحو ذلك.

ص: 312


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 152.
2- تحف العقول: 173.

وللهجرة المكانية مصاديق متعددة في الخارج، وخير مصداق نستشهد به هو هجرة المسلمين إلى الحبشة، وكذلك هجرتهم الثانية إلى المدينة المنورة، ونستخلص من هاتين الهجرتين الدروس الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية الكثيرة، ولعل دراستها والاستفادة منها في وقتنا الحاضر تعيننا أكثر على فهم ظروفنا الحالية وطريقة معالجتها، خصوصاً بعد أن عادت اليوم الجاهلية إلى الناس، ولكن بأسلوب جديد يكاد يكون أكثر خطورة من ذي قبل، فكثرت الضغوط على المسلمين، ومن جميع الاتجاهات، ونشبت الحروب المدمّرة في البلاد الإسلامية، وكثر القتل والسبي والنهب في صفوف المسلمين من قبل الحكّام الظلمة وعملاء الغرب والشرق، وأنشئت السجون والمعتقلات الرهيبة، وانتشر الظلم والفساد في المنطقة،مما أدى إلى ازدياد أعداد المهاجرين والمهجّرين والمشردين من أرض الوطن الإسلامي إلى شتى بقاع العالم، وما أحوج المسلمين اليوم إلى الدروس العظيمة التي أفرزتها هجرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين، وأساليبهم المبتكرة في التغلب على الأوضاع الصعبة التي عاشوها، وكيفية تعاملهم مع الأعداء الذين أحاطوا بهم.

المسلمون الأوائل وقريش

اشارة

كان المسلمون في بادئ الأمر فئة قليلة مستضعفة من الناحية العددية والاقتصادية والعسكرية مقارنة بقريش وسائر الكفار؛ حيث كانت قريش تمتلك قوة اقتصادية هائلة في مكة، ولها تحالفات تجارية قوية مع أغلب القبائل العربية، وتملك أراض واسعة وسلطاناً مترامي الأطراف، تنطوي تحت لوائه قبائل عربية كبيرة ذات سطوةٍ وهيبةٍ كبيرتين مقارنة بغيرها، فضلاً عن العنجهية والتكبّر المتمثلين بجاهلية قريش.

ص: 313

كل هذه العوامل والأسباب جعلت قريشاً تعلن الحرب ضد الإسلام، وحاولت إخماد جذوة هذا الدين الفتي الذي تتعارض تعاليمه السمحاء مع مصالح قريش الدنيوية وجاهليتهم واستكبارهم واستبدادهم، فسارعوا إلى محاربة كل من يؤمن بهذا الدين أو يمت له بصلة، ومارسوا بحق أتباعه شتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، ابتداءً بتسخيف هذا الدين واتهام صاحبه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالسحر أو الجنون (والعياذ باللّه)، وانتهاء بترويج الإشاعات الباطلة بشرعية هذا الدين، وما إلى ذلك من أساليب العاجزين، فقال تبارك وتعالى: {ص وَالْقُرْءَانِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ وَشِقَاقٖ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٖ فَنَادَواْ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٖ * وَعَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٌ كَذَّابٌ}(1).

وفي هذا المعنى قال أمير المؤمنين(عليه السلام):

«أنا وضعت في الصغر بكلاكل(2) العرب، وكسرت نواجم قرون(3) ربيعة ومضر، وقد علمتم موضعي من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده ويشمني عَرفه(4)، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة(5) في فعل، ولقد قرن اللّه به(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله

ص: 314


1- سورة ص، الآية: 1-4.
2- الكلاكل: الصدور، عبّر بها عن الأكابر.
3- النواجم من القرون: الظاهرة الرفيعة، يريد بها أشراف القبائل.
4- عَرْفه: رائحته الذكية.
5- الخطلة: واحدة الخطل كالفرحة واحدة الفرح، والخطل الخطأ ينشأ عن عدم الروية.

ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقلت: يا رسول اللّه، ما هذه الرنة؟

فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلّا أنك لست بنبي. ولكنك لوزير وإنك لعلى خير.

ولقد كنت معه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما أتاه الملأ من قريش، فقالوا له: يا محمد، إنك قد ادعيت عظيماً لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمراً إن أنت أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وما تسألون؟

قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن اللّه على كل شيء قدير، فإن فعل اللّه لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟

قالوا: نعم.

قال: فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير، وإن فيكم من يطرح في القليب(1)، ومن يحزّب الأحزاب، ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا أيتها الشجرة، إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر، وتعلمين أني رسول اللّه، فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن اللّه. فو الذي بعثه بالحق، لانقلعت بعروقها وجاءت، ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 315


1- القليب كأمير: البئر والمراد منه قليب بدر.

مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا - علواً واستكباراً - : فمرها فليأتك نصفها ويبقي نصفها.

فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دوياً، فكادت تلتف برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقالوا - كفراً وعتواً - : فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرجع.

فقلت أنا: لا إله إلّا اللّه، فإني أول مؤمن بك يا رسول اللّه، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى، تصديقاً بنبوتك، وإجلالاً لكلمتك.

فقال القوم كلهم: بل ساحر كذاب، عجيب السحر خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك إلّا مثل هذا - يعنوني - وإني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم، سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الأبرار، عُمّار الليل ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللّه وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلون(1) ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل»(2).

وهكذا كانت قريش تتهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالسحر والجنون وكانوا يمارسون القتل والتعذيب بحق أتباعه، كما أعلنوا المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية بوجههم، بحيث لم يتعاملوا معهم ببيع أو شراء أو زواج أو أي نوع من أنواع التعامل،وبالمقابل حاولوا إغراء الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين بالسلطة والمال للعدول

ص: 316


1- يغلّون: يخونون.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

عن دينهم ومعتقدهم، فاستخدموا أسلوب الترهيب والترغيب في الضغط على المسلمين ولكن قوة الإيمان والاعتقاد هي التي حالت دون ذلك.

صحيفة قريش

لقد عانى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المصاعب الجمة في سبيل هداية قومه من قريش وغيرهم، ولاقى منهم ما لاقى من المؤامرات تلو المؤامرات، وكان من أشدها وأشرسها على المسلمين عامة وعلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حصارهم في شعب أبي طالب(عليه السلام).

فعندما أسري برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى بيت المقدس، حمله جبرئيل على البراق فأتى به بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء(عليهم السلام) وصلى بهم وردّه، فمرّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في رجوعه بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية فشرب منه واكفأ ما بقي، وقد كانوا أضلوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه، فلما أصبح قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لقريش: «إن اللّه قد أسرى بي إلى بيت المقدس فأراني آيات الأنبياء ومنازلهم، وإني مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم، فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك».

فقال أبو جهل: قد أمكنتم الفرصة منه، فسألوه كم فيها من الأساطين والقناديل؟ فقالوا: يا محمد، إن هاهنا من قد دخل بيت المقدس، فصف لنا أساطينه وقناديله ومحاريبه؟

فجاء جبرئيل(عليه السلام) فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما سألوه عنه.

فلما أخبرهم قالوا: حتى يجيء العير نسألهم عمّا قلت.

فقال لهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تصديق ذلك أن العير يطلع عليكم عند طلوعالشمس يقدمها جمل أحمر عليه عزارتان».

ص: 317

فلما كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون: هذه الشمس تطلع الساعة، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم العير حين طلوع القرص يقدمها جمل أحمر، فسألوهم عمّا قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

قالوا: لقد كان هذا، ضل لنا بعير، في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد أريق الماء. فلم يزدهم ذلك إلّا عتواً.

فاجتمعوا في دار الندوة وكتبوا بينهم صحيفة أن لا يوُاكلوا بني هاشم، ولا يكلموهم،ولا يبايعوهم،ولا يزوّجوهم، ولايتزوجوا إليهم، ولا يحضروا معهم، حتى يدفعوه إليهم ليقتلوه، وأنهم يد واحدة على محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليقتلوه غيلة، أو صراحاً.

فلما بلغ ذلك أبا طالب(عليه السلام) جمع بني هاشم ودخل الشعب، وكانوا أربعين رجلاً، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم والركن والمقام، لئن شاكت محمداً شوكة لأثبن عليكم يا بني هاشم. وحصن الشعب، وكان يحرسه بالليل والنهار، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول اللّه مضطجع ثم يقيمه ويضطجعه في موضع، فلا يزال الليل كله هكذا، وكَّله ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار، وأصابهم الجهد، وكان من دخل من العرب مكة لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً، أو باع منهم شيئاً انتهبوا ماله. وكان أبو جهل، والعاص بن وائل السهمي، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكة، فمن رأوه معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ويحذرونه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله.

وكانت خديجة لها مال كثير فأنفقته على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الشعب.

ولم يدخل في الصحيفة مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد المطلب بن عبد مناف، وقال: هذا ظلم.

ص: 318

وختموا الصحيفة بأربعين خاتماً ختمها كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلقوها في الكعبة، وتابعهم أبو لهب على ذلك.

وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخرج في كل موسم ويدور على قبائل العرب فيقول لهم: «تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب اللّه ربي وثوابكم على اللّه الجنة» وأبو لهب في أثره فيقول: لا تقبلوا منه فإنه ابن أخي وهو ساحر كذاب. فلم يزل حاله فبقوا في الشعب أربع سنين لا يأمنون إلّا من موسم، ولايشترون ولايبايعون إلّا في الموسم.

وكان يقوم بمكة موسمان في كل سنة: موسم العمرة في رجب، وموسم الحج في ذي الحجة، فكان إذا جاء الموسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون ثم لا يجسر أحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني، فأصابهم الجهد وجاعوا.

وبعثت قريش إلى أبي طالب: ادفع إلينا محمداً لنقتله ونملكك علينا.

فقال أبو طالب(عليه السلام) قصيدته الطويلة، يقول فيها:

فلما رأيت القوم لا ود فيهم *** وقد قطعوا كل العرى والوسائل

ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب *** لدينا ولا يعني بقول الأباطل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطوف به الملاك من آل هاشم *** فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت اللّه نبزى محمداً *** ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع دونه *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

لعمري لقد كلفت وجداً بأحمد *** وأحببته حب الحبيب المواصلوجدت

بنفسي دونه وحميته *** ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها *** وشيناً لمن عادى وزين المحافل

ص: 319

حليماً رشيداً حازماً غير طائش *** يوالي إله الحق ليس بماحل

فأيده رب العباد بنصره *** وأظهر ديناً حقه غير باطل

فلما سمعوا هذه القصيدة آيسوا منه.

فلما أتى لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الشعب أربع سنين بعث اللّه على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض، فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم اللّه، ونزل جبرئيل(عليه السلام) على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبره بذلك، فأخبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبا طالب.

فقام أبو طالب(عليه السلام) فلبس ثيابه ثم مشى حتى دخل المسجد على قريش وهم يجتمعون فيه، فلما بصروا به قالوا: قد ضجر أبو طالب وجاء الآن ليسلم ابن أخيه. فدنا منهم وسلم عليهم، فقاموا إليه وعظموه وقالوا: يا أبا طالب قد علمنا أنك أردت مواصلتنا والرجوع إلى جماعتنا، وأن تسلم إلينا ابن أخيك.

قال: واللّه ما جئت لهذا، ولكن ابن أخي أخبرني، ولم يكذبني: أن اللّه أخبره أنه قد بعث على صحيفتكم القاطعة دابة الأرض، فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم اللّه، فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقاً فاتقوا اللّه وارجعوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرحم، وإن كان باطلاً دفعته إليكم، فإن شئتم قتلتموه وإن شئتم استحييتموه.

فبعثوا إلى الصحيفة فأنزلوها من الكعبة وعليها أربعون خاتماً فلما أتوا بها نظر كل رجل منهم إلى خاتمه، ثم فكوها فإذا ليس فيها حرف واحد إلّا: باسمكاللّهم. فقال لهم أبو طالب: يا قوم اتقوا اللّه وكفوا عمّا أنتم عليه. فتفرق القوم ولم يتكلم أحد منهم.

ورجع أبو طالب إلى الشعب وقال في ذلك قصيدته البائية التي أولها:

ص: 320

ألّا من لهم آخر الليل منصب *** وشعب القضاء من قومك المتشعب

وقد كان في أمر الصحيفة عبرة *** متى ما يخبر غائب القوم يعجب

محا اللّه منها كفرهم وعقوقهم *** وما نقموا من ناطق الحق معرب

وأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً *** ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب

وأمسى ابن عبد اللّه فينا مصدقاً *** على سخط من قومنا غير معتب

فلا تحسبونا مسلمين محمداً *** لذي عزة منا ولا متعزب

ستمنعه منا يد هاشمية *** مركبها في الناس خير مركب

وقال عند ذلك نفر من بني عبد مناف، وبني قصي، ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم منهم: مطعم بن عدي بن عامر بن لؤي، وكان شيخاً كبيراً كثير المال له أولاد، وأبو البختري ابن هشام، وزهير بن أمية المخزومي في رجال من أشرافهم: نحن براء مما في هذه الصحيفة. وقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل.

وخرج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الشعب ورهطه وخالطوا الناس، ومات أبو طالب(عليه السلام) بعد ذلك بشهرين وماتت خديجة(عليها السلام) بعد ذلك. وورد على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمران عظيمان وجزع جزعاً شديداً(1).

أهداف قريش

وكانت من أهداف قريش في هذه الأعمال وغيرها النقاط التالية:

1- الضغط على الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين ليتركوا هذا الدين، ويعدلواإلى ديانة قريش، إما بالترغيب أو الترهيب، خصوصاً وأنهم كانوا أقليّة.

2- حصر المسلمين بطائفة قليلة، ليحولوا دون انتشار الإسلام بين الناس، ففرضوا الحصار الشديد على المسلمين وحاولوا منع اختلاطهم بالناس،

ص: 321


1- إعلام الورى: 49.

وخصوصاً القبائل العربية من غير قريش عند مجيئها إلى مكة.

الفشل الذريع

إلّا أن جميع هذه التدابير فشلت فشلاً ذريعاً وذلك بفضل السياسة الحكيمة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث استخدم أسلوب الهجرة لفك الحصار عن المسلمين، والانتشار في الأرض لإنقاذ المسلمين من الضغوطات أولاً، ولنشر الدين الإسلامي ثانياً.

مضافاً إلى الإيمان القوي الذي كان يحمله المسلمون بحيث لم تؤثر فيهم كل تلك الضغوط من قتل وسبي ومقاطعة اقتصادية واجتماعية، بل ازدادوا إيماناً باللّه تعالى ورسوله يوماً بعد يوم، وتمكنوا من التأثير على بعض الناس للدخول في الإسلام، ولذا فإنه وبالرغم من المحاصرة والمقاطعة أخذ هذا الدين بالتوسع والانتشار، فأعلنت قريش الحرب بصورة أشد وأوسع، وبدأت تزيد من ضغوطها، وأخذ القتل والتعذيب ينال كل من يعلن إسلامه، وأصبح الخطر يهدد جميع المسلمين في كل زمان ومكان، فأمر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المسلمين بالسفر إلى الحبشة.

لماذا الحبشة؟

ولكن لماذا اختار الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحبشة للهجرة الأولى دون سواها من البقاع؟

في جواب ذلك نقول:أولاً:

لأن ملك الحبشة المسمى (النجاشي)(1) كان ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، وهذا ما صرّح به الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما أمر المسلمين بالخروج إلى

ص: 322


1- اسمه أصحمة وهو بالعربية عطية، وقيل: صحمة، وإنما النجاشي اسم لكل من ملك الحبشة، كقولهم، كسرى ملك الفرس أو قيصر ملك الروم، اختار الإسلام وحسن إسلامه ولما توفي نعاه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودعا له.

الحبشة حيث قال: «إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد، فأخرجوا إليه حتى يجعل اللّه عزّ وجلّ للمسلمين فرجاً»(1).

ثانياً: لبعد الحبشة عن مكة، وهذا يساعد في الحد من ضغوط قريش على المسلمين.

ثالثاً: لقوة الحبشة، فالحبشة في ذلك الوقت كانت مملكة قوية لا تستطيع قريش محاربتها والإغارة عليها.

رابعاً: لضعف النفوذ المكّي على السلطة الحاكمة في الحبشة بخلاف بقية المناطق الأخرى والتي يحظى بها المكّيون بنفوذ قوي وواسع، سواء كان تجارياً أو سياسياً أو دينياً.

لهذه الأسباب وغيرها اختار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحبشة دون سواها.

فخرج عدد من المسلمين سراً إلى الحبشة، وقد ذكر في بعض كتب التاريخ: إن المسلمين الذين خرجوا في بادئ الأمر إلى الحبشة كانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة. فخرجوا إلى البحر واستأجروا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وذلك في شهر رجب من السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وكانت هذه الهجرة هي الهجرة الأولى، ثم خرج جعفر بن أبي طالب (رضوان اللّه عليهما) من بعد ذلك، وتتابع المسلمون في الهجرة إلى الحبشة حتى وصلعددهم إلى اثنين وثمانين رجلاً من غير النساء والصبيان(2).

موقف قريش من الهجرة

عندما هاجر المسلمون إلى الحبشة، وسمع بذلك أهل مكة، نزل هذا الخبر

ص: 323


1- بحار الأنوار 18: 412.
2- بحار الأنوار 18: 412.

كالصاعقة على رؤوس الشرك والضلال من زعماء قريش، حيث غيّر الكثير من حساباتهم التي وضعوها للحد من انتشار هذا الدين، فمن ضمن الأهداف التي كانوا يرومونها من الضغط على الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأتباعه هي:

حصر المسلمين والحد من دعوتهم، وذلك بمنعهم من الالتقاء بأهل مكة وغير أهل مكة والحيلولة دون هجرتهم إلى المناطق المجاورة، فقد كان زعماء الشرك في مكة يعلمون أن المسلمين لو استطاعوا النفوذ إلى المناطق المجاورة، لعملوا على كسب أهل هذه المناطق للدخول في الإسلام؛ لأن الإسلام دين الفطرة والعقل ويأمر بكل الأشياء الحسنة، وينهى عن كل الأشياء القبيحة، فقد أحل اللّه تبارك وتعالى الطيبات وحرم عزّ وجلّ الخبائث، ولما يتمتع به المسلمون من إيمان قوي وحنكة وذكاء، فيستطيعون بواسطة هذا كسب الناس إلى دينهم، وهذا ما حصل فعلاً، حيث إن المسلمين استطاعوا أن يُدخلوا مجموعات كبيرة من الناس إلى الدين الإسلامي وكان من ضمنهم ملك الحبشة نفسه، ولكن نظراً للعنجهية التي كانت مسيطرة على تفكير زعماء الشرك في مكة، والجهل المتغلغل إلى أبعد نقطة في عقولهم، ولتعارض تعاليم الإسلام مع المفاسد والأطماع غير الشرعية التي كانوا يدعون لها، فإنهم لم يرضخوا للأمر الواقع ولم يقبلوا النتيجة، بل فكروا في كل وسيلة يستطيعون بواسطتها إرجاعهؤلاء المسلمين إلى مكة، فأوصلهم جهلهم إلى إرسال مبعوثين إلى ملك الحبشة، يحملون معهم الهدايا الثمينة إليه، ليطالبوه بتسليم المسلمين إليهم، ظناً منهم أن الهدايا ستؤثر أثرها بالملك فيستجيب لطلبهم، ولكن النتيجة جاءت عكسية وليس كما يظنون.

قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ

ص: 324

إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(1).

سفراء قريش إلى ملك الحبشة

جاء في التفاسير: إن سبب نزول قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ}(2) أنّه لما اشتدت قريش في أذى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه الذين آمنوا به بمكة قبل الهجرة، أمرهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يخرجوا إلى الحبشة، وأمر جعفر بن أبي طالب(عليه السلام) أن يخرج معهم، فخرج جعفر ومعه سبعون رجلاً من المسلمين حتى ركبوا البحر، فلما بلغ قريش خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي ليردوهم إليهم، وكان عمرو وعمارة متعاديين، فقالت قريش: كيف نبعث رجلين متعاديين؟ فبرئت بنو مخزوم من جناية عمارة، وبرئت بنو سهم من جناية عمرو بن العاص، فخرج عمارة وكان حسن الوجه شاباً مترفاً، فأخرج عمرو بن العاص أهله معه، فلما ركبوا السفينة شربوا الخمر، فقال عمارة لعمرو بن العاص: قل لأهلك تقبلني، فقال عمرو: أيجوز هذا، سبحان اللّه؟! فسكت عمارة فلما انتشا عمرو وكان على صدر السفينة، دفعه عمارة وألقاهفي البحر، فتشبث عمرو بصدر السفينة وأدركوه فأخرجوه، فوردوا على النجاشي، وقد كانوا حملوا إليه هدايا فقبلها منهم.

فقال عمرو بن العاص: أيها الملك، إن قوماً منا خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وصاروا إليك فردهم إلينا، فبعث النجاشي إلى جعفر فجاؤوا به، فقال: يا جعفر، ما يقول هؤلاء؟

ص: 325


1- سورة الأنعام، الآية: 123.
2- سورة المائدة، الآية: 82.

فقال جعفر: أيها الملك وما يقولون؟

قال: يسألون أن أردكم إليهم.

قال: أيها الملك سلهم: أعبيد نحن لهم؟

فقال عمرو: لا بل أحرار كرام.

قال: فسلهم: ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟

قال: لا ما لنا عليكم ديون.

قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟

قال عمرو: لا.

قال: فما تريدون منا، آذيتمونا فخرجنا من بلادكم؟

فقال عمرو بن العاص: أيها الملك خالفونا في ديننا، وسبوا آلهتنا، وأفسدوا شبابنا، وفرقوا جماعتنا، فردهم إلينا لنجمع أمرنا.

فقال جعفر: نعم أيها الملك، خالفناهم بأنه بعث اللّه فينا نبياً أمر بخلع الأنداد، وترك الاستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة، وحرم الظلم والجور، وسفك الدماء بغير حقها، والزنا والربا والميتة والدم، وأمرنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

فقال النجاشي: بهذا بعث اللّه عيسى بن مريم(عليه السلام)، ثم قال النجاشي: يا جعفرهل تحفظ مما أنزل اللّه على نبيك شيئا؟

قال: نعم.

فقرأ عليه سورة مريم، فلما بلغ إلى قوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَٰقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا}(1) فلما سمع النجاشي بهذا بكى بكاءً

ص: 326


1- سورة مريم، الآية: 25-26.

شديداً، وقال: هذا واللّه هو الحق.

فقال عمرو بن العاص: أيها الملك إن هذا مخالفنا فرده إلينا.

فرفع النجاشي يده فضرب بها وجه عمرو، ثم قال: اسكت، واللّه يا هذا، لأن ذكرته بسوء لأفقدنك نفسك.

فقام عمرو بن العاص من عنده والدماء تسيل على وجهه، وهو يقول: إن كان هذا كما تقول أيها الملك فإنا لا نتعرض له.

وكانت على رأس النجاشي وصيفة له تذب عنه، فنظرت إلى عمارة بن الوليد وكان فتى جميلاً فأحبته، فلما رجع عمرو بن العاص إلى منزله، قال لعمارة: لو راسلت جارية الملك؟ فراسلها فأجابته، فقال عمرو: قل لها تبعث إليك من طيب الملك شيئا، فقال لها فبعثت إليه، فأخذ عمرو من ذلك الطيب، وكان الذي فعل به عمارة في قلبه حين ألقاه في البحر، فأدخل الطيب على النجاشي، فقال: أيها الملك إن حرمة الملك عندنا وطاعته علينا وما يكرمنا إذا دخلنا بلاده، ونأمن فيه، أن لا نغشه ولا نريبه، وأن صاحبي هذا الذي معي قد أرسل إلى حرمتك وخدعها، وبعثت إليه من طيبك، ثم وضع الطيب بين يديه، فغضب النجاشي وهم بقتل عمارة، ثم قال: لا يجوز قتله؛ فإنهم دخلوا بلادي فأمان لهم، فدعا النجاشي السحرة فقال لهم: اعملوا به شيئا أشد عليه من القتل، فأخذوه ونفخوافي احليله الزئبق فصار مع الوحش يغدو ويروح وكان لا يأنس بالناس، فبعثت قريش بعد ذلك فكمنوا له في موضع حتى ورد الماء مع الوحش، فأخذوه، فما زال يضطرب في أيديهم ويصيح حتى مات.

ورجع عمرو إلى قريش فأخبرهم أن جعفر في أرض الحبشة في أكرم كرامة، فلم يزل بها حتى هادن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قريشاً وصالحهم وفتح خيبر، فوافى بجميع من معه، وولد لجعفر بالحبشة من أسماء بنت عميس عبد اللّه بن جعفر،

ص: 327

وولد للنجاشي ابن فسماه محمداً... .

وبعث النجاشي ثلاثين رجلاً من القسيسين، فقال لهم: انظروا إلى كلامه - أي كلام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وإلى مقعده ومشربه ومصلاه، فلما وافوا المدينة دعاهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ} إلى قوله تعالى {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(1) فلما سمعوا ذلك من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكوا وآمنوا، ورجعوا إلى النجاشي فأخبروه خبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقرءوا عليه ما قرأ عليهم، فبكى النجاشي وبكى القسيسون، وأسلم النجاشي ولم يظهر للحبشة إسلامه وخافهم على نفسه، وخرج من بلاد الحبشة إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما عبر البحر توفي، فأنزل اللّه على رسوله {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ}(2) إلى قوله {وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}(3)(4).

رواية أخرى في قصة الهجرة

رواية أخرى في قصة الهجرة(5)

روي عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أرض النجاشي ونحن ثمانون رجلاً، ومعنا جعفر بن أبي طالب، وبعثت قريش خلفنا عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص مع هدايا فأتوه بها، فقبلها، وسجدوا له، فقالوا: إن قوماً منا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك.

فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم أحد منكم أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى

ص: 328


1- سورة المائدة، الآية: 110.
2- سورة المائدة، الآية: 82-85.
3- تفسير القمي 1: 176.
4- سورة المائدة، الآية: 85.
5- الخرائج والجرائح 1: 133.

النجاشي، فقال عمرو وعمارة: إنهم لايسجدون لك. فلما انتهينا إليه زبرنا الرهبان أن اسجدوا للملك. فقال لهم جعفر: لا نسجد إلّا للّه.

فقال النجاشي: وما ذاك؟

قال: إن اللّه بعث فينا رسوله، وهو الذي بشّر به عيسى اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد اللّه لا نشرك به شيئاً، وأن نقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر، فأعجب النجاشي قوله.

فلما رأى ذلك عمرو قال: أصلح اللّه الملك، إنهم يخالفونك في ابن مريم.

فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول اللّه: هو روح اللّه وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر.

فتناول النجاشي عوداً من الأرض، فقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذا، ثم قال النجاشي لجعفر: أتقرأ شيئاً مما جاء به محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟

قال: نعم.

قال: اقرأ، وأمر الرهبان أن ينظروا في كتبهم، فقرأ جعفر: {كهيعص}(1) إلى آخر قصة عيسى(عليه السلام) وكانوا يبكون. ثم قال النجاشي: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد: أنه رسول اللّه، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، ولو لا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه، اذهبوا أنتم سيوم(2) - أي آمنون - وأمر لنا بطعام وكسوة، وقال: ردوا على هذين هديتهما. وكان عمرو قصيراً، وعمارة

ص: 329


1- سورة مريم، الآية: 1.
2- سَيم: قوم سيوم أي آمنون. قال ابن الأثير: هي كلمة حبشية وتروى بفتح السين، وقيل: سيوم جمع سائم أي: تسومون في بلدي كالغنم السائمة لا يعارضكم أحد، انظر لسان العرب 12: 314 مادة (سوم).

جميلاً، وشربا في البحر الخمر، فقال عمارة لعمرو: قل لامرأتك - وكانت معه - : تقبلني. فلم يفعل عمرو، فأخذه عمارة فرمى به في البحر، فناشده حتى خلاه فحقد عليه عمرو(1).

ص: 330


1- وفي ذخائر العقبى: 209، في جعفر بن أبي طالب، روي الخبر بهذا اللفظ: عن أم سلمة قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا اللّه لا نؤذى، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة، فجمعوا له أدما كثيراً ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلّا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا بذلك عبد اللّه بن ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي بهداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم، قال: فخرجا فقدما على النجاشي فدفعا إلى كل بطريق هديته، وقالا: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فقالوا: نعم، ثم قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلم بما عابوا عليهم. فقالت البطارقة - بطارقته - : صدقوا فأسلمهم إليهم، فغضب النجاشي وقال: لاها اللّه إذن، لا أسلمهم إليهم، ولا أكيد قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هؤلاء في أمرهم، فإن كان كما يقولون سلمتهم إليهما، وإن كان على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قال: ثم أرسل إلى أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدعاهم، فلما أن جاءهم الرسول اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول واللّه ما علمناه، وما أمرنا به نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين من دين هذه الأمم؟ قالت: وكان الذي يكلمه جعفر بن أبى طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيئ الجوار، يأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث اللّه إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللّه عزّ وجلّ لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، أمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد اللّه لا نشرك به شيئاً، وأمر بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به، فعبدنا اللّه عزّ وجلّ ولم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما نهرونا فظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن اللّه عزّ وجلّ شيء؟ قال: نعم. قال: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدراً من {كهيعص} سورة مريم، الآية: 1، فبكى واللّه النجاشي حتى اخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم، ثم قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقوا فواللّه لا أسلمهم إليكم أبداً. قالت: فلما خرجنا من عنده، قال عمرو بن العاص: لآتينه غداً أعيبهم عنده بما أستأصل به خضراءهم، فقال له عبد اللّه بن ربيعة، وكان أتقى الرجلين: لا تفعل فإن لهم أرحاماً، قال: لا واللّه لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عمّا يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم فسألهم عنه؟ قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم؟ قالوا: نقول واللّه ما قال اللّه عزّ وجلّ وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ قال له جعفر بن أبى طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو عبد اللّه وروحه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قال: فضرب النجاشي يده على الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، ثم قال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لنا بها، فواللّه ما أخذ اللّه مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة، أو ما أطاع اللّه الناس في فأطيعهم فيه. قال: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.

وهكذا حفظ اللّه تعالى المسلمين من مكر قريش ودسائسهم، كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ}(1).

ص: 331


1- سورة آل عمران، الآية: 54.
أبو طالب(عليه السلام) كافل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والرسالة

أبو طالب(عليه السلام) كافل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والرسالة(1)

كان لوفاة أبي طالب(عليه السلام) عمّ النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووالد أمير المؤمنين(عليه السلام) الأثر الكبير في نفس رسول اللّه وكانت وفاته من الأسباب التي أمر اللّه تعالى نبيه بالهجرة من مكة موطن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومولده؛ إذ كان أبو طالب(عليه السلام) هو السندوالناصر والكافل والمحامي والمدافع عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في دعوته ورسالته.

ولا بأس هنا بالإشارة إلى بعض سيرته الإيمانية الطيبة مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومع الرسالة المحمدية الشريفة.

فهو أبو طالب واسمه عبد مناف، وقيل: إن اسمه عمران، وقيل: اسمه كنيته، والصحيح أن اسمه عبد مناف(2)، وبذلك نطقت وصية أبيه عبد المطلب حين أوصى إليه برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد روي: أنه عندما حضرت عبد المطلب الوفاة

ص: 332


1- كان لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تسعة أعمام هم بنو عبد المطلب: الحارث، والزبير، وأبو طالب، وحمزة، والغيداق، والضرار، والمقوم، وأبو لهب واسمه: عبد العزى، والعباس. ولم يعقب منهم إلّا أربعة: الحارث وأبو طالب، والعباس، وأبو لهب، - إلى أن قال - وأما أبو طالب عم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكان مع أخيه عبد اللّه ابني أم، وأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، واسمه عبد مناف وله أربعة أولاد ذكور: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي، ومن الإناث أم هاني، واسمها فاختة وجمانة، أمهم جميعاً فاطمة بنت أسد، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وأعقبوا إلّا طالباً، وتوفي قبل أن يهاجر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بثلاث سنين، ولم يزل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ممنوعاً من الأذى بمكة موقى له حتى توفي أبو طالب، فنبت به مكة ولم يستقر له بها دعوة حتى جاءه جبرئيل(عليه السلام) فقال: إن اللّه يقرئك السلام، ويقول لك: اخرج من مكة فقد مات ناصرك... . وأما العباس فكان يكنى أبا الفضل، وكانت له السقاية وزمزم، وأسلم يوم البدر، واستقبل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عام الفتح بالأبواء، وكان معه حين فتح وبه ختمت الهجرة، ومات بالمدينة في أيام عثمان، وقد كف بصره، وكان له من الولد تسعة ذكور، وثلاث إناث... إعلام الورى: 144.
2- وفي ذكر نسب أمير المؤمنين(عليه السلام) قالوا: علي بن أبي طالب واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، واسم عبد المطلب شيبة بن هاشم، واسم هاشم عمرو بن عبد مناف، واسم عبد مناف المغيرة بن قصي، واسم قصي زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. انظر عمدة عيون صحاح الأخبار: 23.

- إلى أن قال - مال عبد المطلب إلى جنبه، وأقبل بوجهه على أبي طالب؛ لأنه لم يكن في أولاد عبد المطلب أرفق منه برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا أميل منه، ثم أنشأ يقول:

أوصيك يا عبد مناف بعدي *** بموحد بعد أبيه فردي

فارقه وهو ضجيع المهدي *** فكنت كالأم له في الوجدي

قد كنت ألصقه الحشى والكبدي *** حتى إذا خفت فراق الوحدي

أوصيك أرجى أهلنا بالرفدي *** يابن الذي غيبته في اللحدي

بالكره مني ثم لا بالعمدي *** وخيرة اللّه يشاء في العبدي

ثم قال عبد المطلب: يا أبا طالب، إنني القي إليك بعد وصيتي.

قال أبو طالب: ما هي؟

قال: يا بني، أوصيك بعدي بقرة عيني محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنت تعلم محله مني،ومقامه لدي، فأكرمه بأجل الكرامة، ويكون عندك ليله ونهاره ومادمت في الدنيا، اللّه ثم اللّه في حبيبه.

ثم قال لأولاده: أكرموا وجللوا محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكونوا عند إعزازه وإكرامه، فسترون منه أمراً عظيما علياً، وسترون آخر أمره ما أنا أصفه لكم عند بلوغه.

فقالوا بأجمعهم: السمع والطاعة يا أبانا، نفديه بأنفسنا وأموالنا ونحن له فدية.

قال أبو طالب: قد أوصيتنا بمن هو أفضل مني ومن إخواني؟

قال: نعم، - ولم يكن في أعمام النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أرفق من أبي طالب قديماً وحديثاً في أمر محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ، ثم قال: إن نفسي ومالي دونه فداء، أنازع معاديه، وأنصر مواليه، فلا يهمنك أمره.

ثم إن عبد المطلب غمض عينيه وفتحهما ونظر قريشاً وقال: يا قوم، أليس

ص: 333

حقي عليكم واجباً؟

فقالوا بأجمعهم: نعم، حقك على الكبير والصغير واجب، فنعم القائد ونعم السائق فينا كنت، فجزاك اللّه تعالى عنا خيراً، ويهون عليك سكرات الموت، وغفر لك ما سلف من ذنوبك.

فقال عبد المطلب: أوصيكم بولدي محمد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأحلوه محل الكرامة فيكم، وبروه ولا تجفوه، ولا تستقبلوه بما يكره.

فقالوا بأجمعهم: قد سمعنا منك وأطعناك فيه(1).

وقد ورد الكثير من الروايات الدالة وبشكل قاطع على إيمانه وكاملمساندته(عليه السلام) للرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).

وقد صرح في شعره بما يدل أشد الدلالة على إيمانه(عليه السلام) برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونبوته، حيث يقول(3):

إن ابن آمنة النبي محمداً *** عندي بمثل منازل الأولاد

فأقر بنبوته كما هو واضح.

ومنها: قوله لما رأى بحيرا الراهب الغمامة على رأس رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال فيه:

فلما رآه مقبلاً نحو داره *** يوقيه حر الشمس ظل غمام

ص: 334


1- انظر بحار الأنوار 15: 152 وانظر الفضائل لابن شاذان: 45.
2- قال العلامة المجلسي: أجمعت الشيعة على إسلامه(عليه السلام) وأنه قد آمن بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أول الأمر ولم يعبد صنماً قط، بل كان من أوصياء إبراهيم(عليه السلام)... وقال الطبرسي: قد ثبت إجماع أهل البيت(عليهم السلام) على إيمان أبي طالب، وإجماعهم حجة؛ لأنهم أحد الثقلين اللذان أمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالتمسك بهما. بحار الأنوار 35: 138.
3- إعلام الورى: 19.

حنا رأسه شبه السجود وضمه *** إلى نحره والصدر أي ضمام

إلى أن قال:

وذلك من أعلامه وبيانه *** وليس نهار واضح كظلام

فافتخاره بذلك وجعله من أعلامه دليل على إيمانه.

ومنها: قوله في رجوعه من عند بحيرا وذكر اليهود:

لما رجعوا حتى رأوا من محمد *** أحاديث تجلو غم كل فؤاد

ومنها: أنه أرسل إليه عقيلاً وجاء به في شدة الحر لما شكوا منه، وقال له: إن بني عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم فانته عنهم.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم: أترون هذه الشمس؟

فقالوا: نعم.

فقال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها شعلة.

فقال لهم أبو طالب: واللّه، ما كذب ابن أخي قط فارجعوا عنه، وهذا غاية التصديق.

ومنها: قوله في جواب ذلك في أبياته:

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وأبشر وقر بذاك منك عيونا

إلى أن قال:

وعرضت ديناً قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا

وقال:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً *** نبياً كموسى خط في أول الكتب

فقد أقر بنبوته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأكد ذلك بأن شبهه بموسى(عليه السلام) وزاد في التأكيد بقوله: خط في أول الكتب، فاعترف بأنه قد بشر بنبوته كل نبي له كتاب، وهذا أمر لا

ص: 335

يعترف به إلّا من قد سبق له قدم في الإسلام، ثم وكّد اعترافه أيضاً بقوله:

وإن عليه في العباد محبة *** ولا خير ممن خصه اللّه بالحب

فاعترف بمحبة الخلق له وبمحبة اللّه له وجعله خير الخلق بقوله: (ولا خير) إلى آخره، يعني لا يكون أحد خيراً ممن خصه اللّه بحبه بل هو خير من كل أحد.

نعم، يستدل بما مضى وبغيره مما لا يسع المجال لذكره على إيمان أبي طالب(عليه السلام) وقد ذكر المحققين كثيراً من القصص والأشعار الدالة على وبشكلقاطع على إيمان أبي طالب(عليه السلام)(1).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) يرثي أباه أبا طالب بعد وفاته، فقال:

أرقت لنوح آخر الليل غردا *** لشيخي ينعى والرئيس المسودا

أباطالب مأوى الصعاليك ذاالندى *** وذا الحلم لا خلفا ولم يك قعددا

أخا الملك خلى ثلمة سيسدها *** بنو هاشم أو يستباح فيمهدا

فأمست قريش يفرحون بفقده *** ولست أرى حياً لشي ء مخلدا

أرادت أموراً زينتها حلومهم *** ستوردهم يوماً من الغي موردا

يرجون تكذيب النبي وقتله *** وأن يفتروا بهتاً عليه ومحجدا

كذبتم وبيت اللّه حتى نذيقكم *** صدور العوالي والصفيح المهندا

ويبدو منا منظر ذو كريهة *** إذا ما تسربلنا الحديد المسردا

فإما تبيدونا وإما نبيدكم *** وإما تروا سلم العشيرة أرشدا

وإلّا فإن الحي دون محمد *** بنو هاشم خير البرية محتدا

وإن له فيكم من اللّه ناصراً *** ولست بلاق صاحب اللّه أوحدا

نبي أتى من كل وحي بخطه *** فسماه ربي في الكتاب محمدا

ص: 336


1- انظر بحار الأنوار 35: 139.

أغر كضوء البدر صورة وجهه *** جلا الغيم عنه ضوؤه فتوقدا

أمين على ما استودع اللّه قلبه *** وإن كان قولاً كان فيه مسددا(1)

أما كفالته ونصرته لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو مما تواتر ذكره في الأخبار، فقد روي عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(2) قال علي(عليه السلام) - وقالابن عباس - : «كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يربيه، وعبق من سمته وكرمه وخلائقه ما أطاق، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لي: يا علي، قد أمرت أن أنذر عشيرتي الأقربين فاصنع لي طعاماً واطبخ لي لحماً» قال علي(عليه السلام): «فعددتهم بني هاشم بحتا فكانوا أربعين - قال - فصنعت الطعام، طعاماً يكفي لاثنين أو ثلاثة، قال: فقال لي المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم): هاته.

قال: فأخذ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شظية من اللحم فشظاها بأسنانه، وجعلها في الجفنة.

قال: وأعددت لهم عُسّاً من لبن، قال: ومضيت إلى القوم فأعلمتهم أنه قد دعاهم لطعام وشراب، قال: فدخلوا وأكلوا ولم يستتموا نصف الطعام حتى تضلعوا، قال: ولعهدي بالواحد منهم يأكل مثل ذلك الطعام وحده.

قال: ثم أتيت باللبن، قال: فشربوا حتى تضلعوا، قال: ولعهدي بالواحد منهم وحده يشرب مثل ذلك اللبن، قال: وما بلغوا نصف العُس.

قال: ثم قام فلما أراد أن يتكلم اعترض عليه أبو لهب لعنه اللّه فقال: أ لهذا دعوتنا؟ ثم أتبع كلامه بكلمة ثم قال: قوموا، فقاموا وتفرفوا كلهم.

قال: فلما كان من الغد، قال لي: يا علي أصنع لي مثل ذلك الطعام والشراب، قال: فصنعته ومضيت إليهم برسالته.

قال: فأقبلوا إليه فلما أكلوا وشربوا قام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليتكلم فاعترضه أبو

ص: 337


1- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 152.
2- سورة الشعراء، الآية: 214.

لهب لعنه اللّه.

قال: فقال له أبو طالب(عليه السلام): اسكت يا أعور، ما أنت وهذا.

قال: ثم قال أبو طالب(عليه السلام): عنه لا يقومن أحد.

قال: فجلسوا، ثم قال للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): قم يا سيدي، فتكلم بما تحب وبلغ رسالة ربك، فإنك الصادق المصدق.

قال: فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم: أرأيتم لو قلت لكم إن وراء هذا الجبل جيشاً يريد أن يغيرعليكم أكنتم تصدقوني؟

قال: فقالوا: كلهم نعم؛ إنك لأنت الأمين الصادق.

قال: فقال لهم: فوحدوا اللّه الجبار، واعبدوه وحده بالإخلاص، واخلعوا هذا الأنداد الأنجاس، وأقروا واشهدوا بأني رسول اللّه إليكم وإلى الخلق، فإني قد جئتكم بعز الدنيا الآخرة.

قال: فقاموا وانصرفوا كلهم، وكان الموعظة قد عملت فيهم»(1).

ودخل أبو طالب(عليه السلام) على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرآه كئيباً، وقد علم مقالة قريش - حين طلبوا تسليم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، لا تحزن، ثم قال:

واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر وقرّ بذاك منك عيونا

ودعوتني وذكرت أنك ناصحي *** ولقد نصحت وكنت قبل أمينا

وذكرت دينا قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا(2)

وقال(عليه السلام) للرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): اخرج يابن أخي فإنك المنيع كعباً والمنيع

ص: 338


1- الطرائف 1: 299.
2- بحار الأنوار 35: 147.

حزباً والأعلى أباً، واللّه لا يسلقك لسان إلّا سلقته ألسن حداد، واجتذبته سيوف حداد، واللّه لتذللن لك العرب ذل البهم لحاضنها، ولقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً، ولقد قال: إن من صلبي لنبياً لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به(1).

وروي أن أبا طالب(عليه السلام) فقد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فظن أن بعض قريش اغتاله فقتلهفبعث إلى بني هاشم، فقال: يا بني هاشم، أظن أن بعض قريش اغتال محمداً فقتله، فليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة وليجلس إلى جنب عظيم من عظماء قريش، فإذا قلت: أبغي محمداً قتل كل رجل منكم الرجل الذي إلى جانبه، وبلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جمع أبي طالب وهو في بيت عند الصفا، فأتى أبا طالب وهو في المسجد، فلما رآه أبو طالب أخذ بيده ثم قال: يا معشر قريش، فقدت محمداً فظننت أن بعضكم اغتاله، فأمرت كل فتى شهد من بني هاشم أن يأخذ حديدة ويجلس كل واحد منهم إلى عظيم منكم، فإذا قلت: أبغي محمداً قتل كل واحد منهم الرجل الذي إلى جنبه، فاكشفوا عمّا في أيديكم يا بني هاشم، فكشف بنو هاشم عمّا في أيديهم فنظرت قريش إلى ذلك، فعندها هابت قريش رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم أنشأ أبو طالب يقول:

ألّا أبلغ قريشاً حيث حلت *** وكل سرائر منها غرور

فإني والضوابح غاديات *** وما تتلو السفافرة(2) الشهور

لآل محمد راع حفيظ *** وود الصدر مني والضمير

فلست بقاطع رحمي وولدي *** ولو جرت مظالمها الجزور

ص: 339


1- الطرائف 1: 302.
2- وفي نسخة أخرى: (السفاسرة) وهي تعني أصحاب الأسفار والكتب، انظر لسان العرب 4: 371، مادة (سفر).

أيأمر جمعهم أبناء فهر*** بقتل محمد والأمر زور

فلا وأبيك لا ظفرت قريش *** ولا لقيت رشاداً إذ تشير

بنيَّ أخي ونوط القلب مني *** وأبيض ماؤه غدق كثير

ويشرب بعده الولدان رياً *** وأحمد قد تضمنه القبور

أيا ابن الأنف أنف بني قصي *** كأن جبينك القمر المنير

وله(عليه السلام) أيضاً:

فكيف يكون ذلكم قريشاً *** وما مني الضراعة والفتور

علي دماء بدن عاطلات *** لئن هدرت بذلكم الهدور

لقام الضاربون بكل ثغر *** بأيديهم مهندة تمور

وتلقوني أمام الصف قدماً *** أضارب حين تحزمه الأمور

أرادي مرة وأكر أخرى *** حذاراً أن تغور به الغرور

أذودهم بأبيض مشرفي *** إذا ما حاطه الأمر النكير

وجمعت الجموع أسود فهر *** وكان النقع فوقهم يثور

كأن الأفق محفوف بنار *** وحول النار آساد تزير

بمعترك المنايا في مكر *** تخال دماءه قدراً تفور

إذا سالت مجلجلة صدوق *** كأن زهاءها رأس كبير

وشظباها محل الموت حقاً *** وحوض الموت فيها يستدير

هنالك أي بني يكون مني *** بوادر لا يقوم لها الكثير

تدهدهت الصخور من الرواسي *** إذا ما الأرض زلزلها القدير

ولا قفل بقيلهم فإني *** وما حلت بكعبته النذور

ص: 340

وفي دون نفسك إن أرادوا *** بها الدهياء أو سالت بحور

إلى أن قال:

لك اللّه الغداة وعهد عم *** تجنبه الفواحش والفجور

بتحفاظي ونصرة أريحي *** من الأعمام معضاد يصور

وروي أنه(عليه السلام) قال: حدثني محمد ابن أخي وكان واللّه صدوقاً - قال - قلت له: بم بعثت يا محمد؟

قال: «بصلة الأرحام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة»(1).

وفاة أبي طالب(عليه السلام)

توفي أبو طالب(عليه السلام) في آخر السنة العاشرة من مبعث الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم توفيت خديجة(عليها السلام) بعده بثلاثة أيام، فسمى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك العام عام الحزن، فقال: «مازالت قريش قاعدة عني حتى مات أبو طالب»(2).

ولما قبض أتى أميرُ المؤمنين(عليه السلام) رسولَ اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فآذنه بموته فتوجع لذلك النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: «امض يا علي، فتول غسله وتكفينه وتحنيطه، فإذا رفعته على سريره فأعلمني».

ففعل ذلك أمير المؤمنين(عليه السلام) فلما رفعه على السرير اعترضه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فرقّ له، وقال: «وصلتك رحم، وجزيت خيراً، فلقد ربيت وكفلت صغيراً، وآزرت ونصرت كبيراً». ثم أقبل على الناس، فقال: «أما واللّه، لأشفعن لعمي شفاعة يعجب بها أهل الثقلين»(3).

ص: 341


1- بحار الأنوار 35: 149.
2- قصص الأنبياء، للراوندي: 317.
3- انظر إيمان أبي طالب(عليه السلام): 265.

وروي عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول اللّه، ما ترجو لأبي طالب؟

قال: «كل خير أرجوه من ربي».(1)نعم، هذه هي الحماية والمساندة والرعاية والحب الكبير من أبي طالب(عليه السلام) عمّ النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبموته وموت خديجة الكبرى(عليها السلام) سمى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك العام بعام الحزن.

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الطائف

اشتد الضغظ على المسلمين المتواجدين في مكة، بعد فشل مهمة الوفد الذي أرسلته قريش لإرجاع المهاجرين المسلمين من الحبشة، حيث أمعنت قريش في تعذيب المسلمين، وخصوصاً بعد وفاة أبي طالب(عليه السلام) عم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فبوفاته فقد المسلمون ركناً أساسياً من أركان الحماية المنيعة القائمة بوجه قريش؛ إذ بعد هذه الحادثة أخذ مشركو قريش يسومون المسلمين أبشع أنواع الاضطهاد، فأخذ الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفكر في إيجاد وسيلة لرفع هذا الضغط عن المسلمين، فرأى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يهاجر المسلمون من مكة، فوقع اختياره في بادئ الأمر على الطائف؛ لأنها منطقة جبلية لا تبعد عن مكة كثيراً، ومناخها معتدل صيفاً وشتاءً، وفيها خصائص اقتصادية جيدة، فكانت تنتج التمور والحبوب والرمان وغيرها من المواد، وتتاجر بها مع التجار من أهل مكة، إلى غيرها من المؤهلات التي دعت الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لاختيارها. فصمم على الهجرة إليها لكي يبني قاعدة للمسلمين هناك، وأخذ يدعو أهلها إلى الإسلام.

ولكن أهل الطائف لم يكن ردهم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأفضل من رد أهل

ص: 342


1- الطرائف 1: 305.

مكة؛ وذلك لأن أهل الطائف تربطهم علاقات تجارية وعقائدية وثيقة مضافاً إلى صلة القربى مع أهل مكة، مما جعلهم على نمط واحد من التفكير، فتركهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد أن جاءهم ودعائهم إلى الإسلام، ولكنهم دفعوا صبيانهم وسفهاءهم لأن يتعرضوا للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويرموه بالحجارة.

فقد روي أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما مات أبو طالب(عليه السلام) لج المشركون في أذيته، فصار يعرض نفسه على القبايل بالإسلام والإيمان، فلم يأت أحد من القبائل إلّا صده ورده. فقال بعضهم: اعلم أنه لا يقدر أن يصلحنا وهو قد أفسد قومه، فعمد إلى ثقيف بالطائف فوجد سادتهم جلوساً، وهم ثلاثة إخوة، فعرض عليهم الإسلام وحذرهم من النار وغضب الجبار.

فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان اللّه بعثك نبياً.

وقال آخر: يا محمد، عجز اللّه أن يرسل غيرك؟

وقال آخر: لا تكلموه إن كان رسولاً من اللّه كما يزعم، هو أعظم قدراً أن يكلمنا، وإن كان كاذباً على اللّه فهو أسرف بكلامه.

وجعلوا يستهزئون به، فجعل يمشي كل ما وضع قدماً وضعوا له صخرة، فما فرغ من أرضهم إلّا وقدماه تشخب دماً، فعمد لحائط من كرومهم، وجلس مكروباً، فقال: «اللّهم، إني أشكو إليك غربتي وكربتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، أنت رب المكروبين، اللّهم إن لم يكن لك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي الثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، لك الحمد حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم».

قيل: وكان في الكرم عتبة بن ربيعة وشيبة، فكره أن يأتيهما، لما يعلم من عداوتهما. فقالا لغلام لهما يقال له: عداس: خذ قطفين من العنب، وقدحاً من

ص: 343

الماء، واذهب بهما إلى ذلك الرجل، وإنه سيسألك أهدية أم صدقة، فإن قلت: صدقة لم يقبلها، بل قل له: هدية.

فمضى ووضعه بين يديه، فقال: «هدية أم صدقة؟».فقال: هدية، فمد يده، وقال: بسم اللّه، وكان عداس نصرانياً، فلما سمعه عجب منه، وصار ينظره، فقال له: «يا عداس من أين؟».

قال: من أهل نينوى.

قال: «من مدينة الرجل الصالح أخي يونس بن متى».

قال: ومن أعلمك؟

فأخبره بقصته، وبما أوحي إليه.

فقال: ومن قبله؟

فقال: «نوح، ولوط» وحكاه بالقصة.

فخر ساجداً للّه، وجعل يقبل قدميه، هذا وسيداه ينظران إليه.

فقال أحدهما للآخر: سحر غلامك، فلما أتاهما قالا له: ما شأنك سجدت وقبلت يديه؟

فقال: يا أسيادي ما على وجه الأرض أشرف ولا ألطف ولا أخير منه.

قالوا: ولم ذلك؟

قال: حدثني بأنبياء ماضية، ونبينا يونس بن متى، فقالا: يا ويلك فتنك عن دينك؟

فقال: واللّه إنه نبي مرسل.

قالا له: ويحك عزمت قريش على قتله، فقال: هو واللّه يقتلهم ويسودهم ويشرفهم، إن تبعوه دخلوا الجنة، وخاب من لايتبعه، فقاما يريدان ضربه فركض

ص: 344

للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأسلم(1).

وقال ابن شهر آشوب: لما توفي أبو طالب(عليه السلام) لم يجد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ناصراً ونثروا على رأسه التراب، قال: ما نال مني قريش شيئاً حتى مات أبو طالب، وكان يستتر من الرمي بالحجر الذي عند باب البيت من يسار من يدخل وهو ذراع وشبر في ذراع إذا جاءه من دار أبي لهب ودار عدي بن حمران - إلى أن قال - لما توفي أبو طالب واشتد عليه البلاء عمد إلى ثقيف بالطائف رجاء أن يؤُدوه سادتها: عبد نائل ومسعود وحبيب بنو عمرو بن نمير الثقفي، فلم يقبلوه وتبعه سفهاؤهم بالأحجار ودموا رجليه، فخلص منهم واستظل في ظل حبلة منه، وقال: «اللّهم إني أشكو إليك من ضعف قوتي وقلة حيلتي وناصري، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين» فأنفذ عتبة وشيبة ابنا ربيعة إليه بطبق عنب على يدي غلام يدعى عداساً وكان نصرانياً، فلما مد يده وقال: «بسم اللّه».

فقال: إن أهل هذا البلد لا يقولونها.

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أين أنت؟».

قال: من بلدة نينوى.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى».

قال: وبما تعرفه؟

قال: «أنا رسول اللّه، واللّه أخبرني خبر يونس».

فخر عداس ساجداً لرسول اللّه وجعل يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء، فقال عتبة لأخيه: قد أفسد عليك غلامك، فلما انصرف عنه سئل عن مقالته فقال: واللّه إنه نبي صادق، فقالوا: إن هذا رجل خداع لا يفتننك عن نصرانيتك، وقالوا: لو

ص: 345


1- حلية الأبرار 1: 129.

كان محمد نبياً لشغلته النبوة عن النساء ولأمكنه جميع الآيات ولأمكنه منعالموت عن أقاربه. انتهى(1).

الرجوع إلى مكة

وبعد تعنت أهل الطائف ووقوفهم بوجه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لم يبق أمامه إلّا خياران: الرجوع إلى مكة، أو الذهاب إلى منطقة أخرى غير الطائف ومكة، فاختار(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأول، وعزم على ذلك، وذهب إلى مكة وأشرف على الدخول إليها. ولكن دخول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى مكة ليس بالأمر الهين، خصوصاً بعدما فقد سنده القوي، عمه أبا طالب(عليه السلام)، فكَرِه لذلك دخول مكة وليس له مجير فيها.

في بعض الأحاديث: انه لما رجع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الطائف، وأشرف على مكة وهو معتمر، كره أن يدخل مكة وليس له فيها مجير، فنظر إلى رجل من قريش، قد كان أسلم سراً، فقال له: «ائت الأخنس بن شريق فقل له: إن محمداً يسألك أن تجيره حتى يطوف ويسعى فإنه معتمر» فأتاه وأدى إليه ما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال الأخنس: إني لست من قريش، وإنما أنا حليف فيهم، والحليف لا يجير على الصميم - إلى أن قال - فرجع إلى رسول اللّه فأخبره، وكان رسول اللّه في شعب حراء مختفياً مع زيد...(2).

وأخذ الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يرسل هذا الرجل إلى بعض شخصيات مكة المعروفة لإجارته، وربما كان من أهداف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو إتمام الحجة عليهم من جميع النواحي التي منها الناحية الاجتماعية والأخلاقية، إلّا أن كل ذلك جوبه بالرفض والتهرب، نظراً لحقدهم وكراهتهم لدعوة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أو خوفاً مما ستجره عليهم

ص: 346


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 67.
2- بحار الأنوار 19: 7.

من العداء والأذى من أشياع الضلال في مكة.كل هذا، والرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يهن في دعوته، بل أخذ يعرض نفسه وينشر دعوته على أغلب الشخصيات، كما جاء في كتب الأخبار، فقد روي أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال للرجل المسلم الذي بعثه إلى الأخنس وغيره: «اذهب إلى مطعم بن عدي، فاسأله أن يجيرني حتى أطوف وأسعى»، فجاء إليه وأخبره، فقال: أين محمد؟ فكره أن يخبره بموضعه، فقال: هو قريب، فقال: ائته، فقل له: إني قد أجرتك، فتعال وطف واسع ما شئت(1).

فأتى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فطاف وسعى تحت إجارة مطعم بن عدي فلما انتهى من الطواف والسعي جاء(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى مطعم وقال له: «أبا وهب! قد أجرت وأحسنت، فردّ عليّ جواري»، قال: وما عليك أن تقيم في جواري؟ قال:«أكره أن أقيم في جوار مشرك أكثر من يوم». قال مطعم: يا معشر قريش، إن محمداً قد خرج من جواري(2).

فخرج(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى شعب مكة وواصل هناك مهامه الرسالية.

الفترة الحرجة

وبعد أن عاد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الشعب أخذ يقلب فكره في سبيل إيجاد قاعدة انطلاق لنشر الإسلام، أو على الأقل إيجاد حل مؤقت في هذه الفترة الحرجة، فالناصر القوي الذي يستطيع الوقوف بوجه قريش ويصد اعتداءاتهم وهو أبو طالب(عليه السلام) قد فقده المسلمون، والأعداء يزدادون يوماً بعد آخر عناداً وصداً عن الدين، ومهمته في الطائف فشلت لتعنّت أهلها، والحبشة أيضاً لم تعد تتمكن من احتواء المسلمين لوجود موانع صارفة للهجرة الجماعية إليها كان منها بعد

ص: 347


1- بحار الأنوار 19: 7.
2- بحار الأنوار 19: 7.

الحبشة عن مكة، وإغلاق الطرق المؤدية إليها من قبل المشركين، ووجودشخصيات متنفذة في الحبشة، كبعض القساوسة والبطارقة، وهؤلاء يعلم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن مصالحهم الدنيوية وتمسكهم بعقائدهم المحرّفة، يمنع من قبولهم الإسلام، بل يحاربونه، وهذا خطر على الإسلام الفتي، إلى غير ذلك من الأسباب. فهذه الأسباب وغيرها شغلت فكر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجعلته ينظر إلى إيجاد قاعدة صلبة وأمينة يستطيع بواسطتها نشر الإسلام في أرجاء المعمورة.

بارقة الأمل

في السنة الحادية عشرة من البعثة الشريفة حصل تحول كبير في حياة المسلمين؛ إذ صادف هذا العام، وفي موسم الحج، قدوم وفد من قبيلتي الأوس والخزرج إلى مكة، وهاتان القبيلتان بينهما عداوة قديمة أسفرت عن حروب شرسة وطويلة، وكان كل قبيلة يطمح في الحصول على تحالف مع قريش لغرض ترجيح ميزان القوى لصالحها، وقبل أن يجروا تحالفاتهم مع زعماء قريش اتصل بهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وعرض عليهم الإسلام فلم يكن ردهم سلبياً؛ وذلك لأن اليهود المقيمين في المدينة (أرض الأوس والخزرج) قد أخبروا هاتين القبيلتين بظهور نبي قريباً، كما هو موجود في كتبهم، وحين التقى الوفد بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعلن فوراً إسلامه بعد أن تيقن أن هذا الشخص هو نبي مرسل من اللّه تعالى.

وعاد الوفد إلى المدينة يحمل أفكاراً جديدة، وأخذ ينشرها بين الناس، وكانت هذه تعد بارقة الأمل الأولى التي بزغت في سماء الإسلام في تلك الفترة الحرجة.

روي عن علي بن إبراهيم قال: قدم أسعد بن زرارة، وذكوان ابن عبد قيس في موسم من مواسم العرب، وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد

ص: 348

بغوا فيها دهوراً طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخرحرب بينهم يوم بغاث(1)، وكانت الأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرغ لشيء. قال: وما شغلتكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟

قال له عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول اللّه، سفه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شباننا، وفرق جماعتنا.

فقال له أسعد: من هو منكم؟

قال: ابن عبد اللّه بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم - النظير وقريظة وقينقاع - أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب.

فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود، قال: فأين هو؟

فقال: جالس في الحجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم، فلا تسمع منه ولاتكلمه؛ فإنه ساحر يسحرك بكلامه. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر، لا بد لي أن أطوف بالبيت؟

فقال: ضع في أذنيك القطن.

ص: 349


1- يوم بغاث أو بعاث، بضم الباء: يوم معروف، كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، هو من مشاهير أيام العرب، وبعاث: اسم حصن للأوس، انظر لسان العرب 2: 117، مادة (بعث).

فدخل أسعد المسجد وقد حشا أذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني، أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا نعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم؟ ثم أخذ القطن من أذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنعم صباحاً. فرفع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأسه إليه، وقال: «قد أبد لنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم».

فقال له أسعد: إن عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمد؟

قال: «إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأني رسول اللّه، وأدعوكم {أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.(1)

فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأنك رسول اللّه، يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها اللّه بك فلا أجد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم اللّه لنا أمرنا فيك، واللّه يا رسول اللّه، لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد للّه الذي ساقني إليك، واللّه ما جئت إلّا لنطلب

ص: 350


1- سورة الأنعام، الآية: 151-152.

الحلف على قومنا، وقد أتانا اللّه بأفضل مما أتيت له.

ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد: هذا رسول اللّه الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلم وأسلم، فأسلم ذكوان، ثم قالا: يارسول اللّه، ابعث معنا رجلاً يعلمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمصعب بن عمير، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم ولم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، وكان مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد، فأمره رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخروج مع أسعد، وقد كان تعلم من القرآن كثيراً، فخرج هو مع أسعد إلى المدينة ومعهما مصعب بن عمير، وقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخبره، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان، وكان مصعب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كل يوم ويطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الإسلام فيجيبه الأحداث، وكان عبد اللّه بن أُبيّ شريفاً في الخزرج، وقد كان الأوس والخزرج اجتمعت على أن يملكوه عليهم لشرفه وسخائه، وقد كانوا اتخذوا له إكليلاً احتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها، وذلك أنه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بغاث ولم يعن على الأوس، وقال: هذا ظلم منكم للأوس ولا أعين على الظلم، فرضيت به الأوس والخزرج، فلما قدم أسعد كره عبد اللّه ما جاء به أسعد وذكوان وفتر أمره.

فقال أسعد لمصعب: إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس، وهو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف، فإن دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا، فهلم نأتي محلتهم. فجاء مصعب مع أسعد إلى محلة سعد بن معاذ فقعد على بئر من آبارهم واجتمع إليه قوم من أحداثهم وهو يقرأ عليهم القرآن، فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فقال لأسيد بن حضير وكان من أشرافهم: بلغني أن أبا أمامة أسعد

ص: 351

ابن زرارة قد جاء إلى محلتنا مع هذا القرشي يفسد شباننا، فأته وانهه عن ذلك.

فجاء أسيد بن حضير، فنظر إليه أسعد فقال لمصعب بن عمير: إن هذا الرجل شريف، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا، فأصدق اللّه فيه. فلما قرب أسيد منهم قال: يا أبا أمامة، يقول لك خالك: لا تأتنا في نادينا، ولا تفسد شباننا، واحذر الأوس على نفسك.

فقال مصعب: أو تجلس فنعرض عليك أمراً، فإن أحببته دخلت فيه، وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه.

فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن.

فقال: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟

قال: نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلي ركعتين. فرمى بنفسه مع ثيابه في البئر، ثم خرج وعصر ثوبه، ثم قال: اعرض عليّ، فعرض عليه شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فقالها، ثم صلى ركعتين، ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا أبعث إليك الآن خالك وأحتال عليه في أن يجيئك.

فرجع أسيد إلى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: اقسم أن أسيداً قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا، فأتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب: {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}(1) فلما سمعها، قال مصعب: واللّه، لقد رأينا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، فبعث إلى منزله وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلى ركعتين، ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه وقال: أظهر أمرك ولا تهابن أحداً. ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح: يا بني عمرو بن عوف لايبقين رجل ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبي إلّا أن

ص: 352


1- سورة فصلت، الآية: 1-2.

يخرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب.

فلما اجتمعوا قال: كيف حالي عندكم؟

قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا، ولا نرد لك أمراً، فمرنا بما شئت.

فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم علي حرام حتى تشهدوا أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، والحمد للّه الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به. فما بقي دار من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلّا وفيها مسلم أو مسلمة، وحول مصعب بن عمير إليه وقال له: أظهر أمرك وادع الناس علانية. وشاع الإسلام بالمدينة وكثر، ودخل فيه من البطنين جميعاً أشرافهم، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود.

وبلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام، وكتب إليه مصعب بذلك، وكان كل من دخل في الإسلام من قريش ضربه قومه وعذبوه، فكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأمرهم بالخروج إلى المدينة، فكانوا يتسللون رجلاً فرجلاً فيصيرون إلى المدينة فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم...(1).

لماذا المدينة المنورة؟

منذ ذلك الحين راح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخطط في سبيل إرساء قواعد الإسلام في المدينة المنورة، بعد أن وقع اختياره عليها لتكون القاعدة الأمينة، لنشر الدين الإسلامي، وذلك لعدة أسباب منها:

أولاً: النضج الفكري الذي كان يتمتع به أهل المدينة بالمقارنة مع أهل مكة، حيث كان أهل المدينة غير منغلقين على أنفسهم دينياً، مضافاً إلى الديانات اليهودية والمسيحية التي كانت تبشر بنبي آخر الزمان.

ص: 353


1- إعلام الورى: 55.

ثانياً: ظهور الرغبة الصادقة عند بعض أهالي المدينة في اعتناق الإسلام على العكس من مكة التي وقفت بوجه الإسلام بكل ما تستطيع.

ثالثاً: البعد النسبي بين مكة والمدينة، فالمدينة لا هي بعيدة جداً عن مكة بحيث يصعب الاتصال بها، ولا هي قريبة جداً بحيث تؤثر بها دسائس مكة.

رابعاً: الموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به المدينة من الناحية الاقتصادية والعسكرية، فالمدينة تشرف على الطرق الرئيسية، التي تمر بها التجارة من وإلى مكة، وبهذا الموقع اكتسبت قدرة على فرض الحصار على مكة بقطع تجارتها دون العكس، بالإضافة إلى أنها منطقة زراعية، وأرضها خصبة بعكس مكة، أما من الناحية العسكرية فهي محصنة من أغلب جهاتها، وواقعة بين موانع طبيعية محصنة فمن الغرب والشرق، تحيط بها أراض وعرة متكونة من الحجارة المسننة والتي يصعب على كثير من الناس والحيوانات إجتيازها.

وأما جهاتها الأخرى فتحيط بها أشجار النخيل الكثيفة بحيث تشكل مانعاً بوجه هجمات الأعداء إذا ما حاولوا الإغارة عليها، كل هذه العوامل وغيرها جعلت الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يركز تركيزاً مباشراً على المدينة، ويتخذها كقاعدة للانطلاق، وفعلاً تحقق طموح الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك، وجاءت النتائج كما خطط لها.

بيعة الأنصار الأولى والثانية

بعد رجوع وفد أهل المدينة إلى أرضهم - كما مر - أخبروا أهلها بأنهم لم يجروا أي اتفاق مع زعماء قريش. بل التقوا بنبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي كانت اليهود تتوعدهم به وبايعوه، فعمَّ الخبر جميع أهل المدينة، واستبشر بعضهم به، وفي العام الثاني أرسلوا إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفداً يضم اثني عشر رجلاً، فواجهوا رسول

ص: 354

اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وبايعوه في العقبة، وسميت هذه البيعة ببيعة النساء، أو بيعة العقبة الأولى، وكانت هذه البيعة تنص على أن لا يشركوا باللّه ولا يسرقوا، قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليلة العقبة الأولى، ونحن اثنا عشر رجلاً، أنا أحدهم، فلما انصرفوا بعث معهم مصعب بن عمير إلى المدينة يفقِّه أهلها ويقرئهم القرآن(1). وكان ذلك في السنة الثانية عشرة للبعثة الشريفة كما جاء في بعض كتب الأخبار(2).

وكذلك روي أنه: في السنة الثالثة عشرة كانت بيعة العقبة الثانية، وذلك أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خرج إلى الموسم، فلقيه جماعة من الأنصار، فواعدوه عند العقبة أوسط أيام التشريق، قال كعب بن مالك: اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلاً، ومعهم امرأتان من نسائهم... فبايعنا وجعل علينا اثنا عشر نقيباً منّا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، ثم أمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه بالخروج إلى المدينة، فخرجوا أرسالاً، وأقام هو بمكة ينتظر أن يؤذن له(3).

وروي: فلما قدمت الأوس والخزرج مكة، جاءهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لهم: «تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم وثوابكم على اللّه الجنة؟».

قالوا: نعم يا رسول اللّه، فخذ لنفسك وربك ما شئت.

فقال: «موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق».

فلما حجوا رجعوا إلى منى، وكان فيهم ممن قد أسلم بشر كثير، وكان أكثرهم مشركين على دينهم وعبد اللّه بن أبي فيهم، فقال لهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في اليومالثاني من أيام التشريق: «فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة ولا تنبهوا نائماً،

ص: 355


1- بحار الأنوار 19: 24.
2- بحار الأنوار 19: 23.
3- بحار الأنوار 19: 24.

وليتسلل» وكان رسول اللّه نازلاً في دار عبد المطلب، وحمزة وعلي والعباس معه، فجاءه سبعون رجلاً من الأوس والخزرج، فدخلوا الدار، فلما اجتمعوا قال لهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم وثوابكم على اللّه الجنة؟»

فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد اللّه بن حزام: نعم يا رسول اللّه، فاشترط لنفسك ولربك.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تمنعوني مما تمنعون أنفسكم، وتمنعون أهلي مما تمنعون أهليكم وأولادكم؟»

قالوا: فما لنا على ذلك؟

قال: «الجنة، تملكون بها العرب في الدنيا، وتدين لكم العجم، وتكونون ملوكاً».

فقالوا: قد رضينا.

فقام العباس بن نضلة وكان من الأوس فقال: يا معشر الأوس والخزرج، تعلمون على ما تقدمون عليه؟ إنما تقدمون على حرب الأحمر والأبيض، وعلى حرب ملوك الدنيا، فإن علمتم أنه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تغروه، فإن رسول اللّه وإن كان قومه خالفوه فهو في عزّ ومنعة.

فقال له عبد اللّه بن حزام وأسعد بن زرارة وأبو الهيثم بن التيهان: ما لك وللكلام يا رسول اللّه، بل دمنا بدمك، وأنفسنا بنفسك، فاشترط لربك ولنفسك ما شئت.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكفلون عليكم بذلك، كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً».

فقالوا: اختر من شئت.

ص: 356

فأشار جبرئيل(عليه السلام) إليهم. فقال: «هذا نقيب، وهذا نقيب» حتى اختار تسعة من الخزرج، وهم: أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، وعبد اللّه بن حزام وهو أبو جابر بن عبد اللّه، ورافع بن مالك، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبد اللّه بن رواحة، وسعد بن الربيع، وعبادة بن الصامت. وثلاثة من الأوس، وهم: أبو الهيثم بن التيهان - وكان رجلاً من اليمن حليفاً في بني عمرو بن عوف - وأسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة. فلما اجتمعوا وبايعوا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صاح بهم إبليس: يامعشر قريش والعرب، هذا محمد والصباة من الأوس والخزرج على هذه العقبة يبايعونه على حربكم. فأسمع أهل منى، فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح، وسمع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) النداء فقال للأنصار: «تفرقوا».

فقالوا: يا رسول اللّه، إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لم أؤمر بذلك، ولم يأذن اللّه لي في محاربتهم».

فقالوا: يا رسول اللّه، فتخرج معنا؟

قال: «أنتظر أمر اللّه».

فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح، وخرج حمزة ومعه السيف فوقف على العقبة هو وعلي بن أبي طالب(عليه السلام)، فلما نظروا إلى حمزة قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم عليه؟

قال: ما اجتمعنا، وما هاهنا أحد، واللّه لا يجوز أحد هذه العقبة إلّا ضربته بسيفي.

فرجعوا وغدوا إلى عبد اللّه بن أبي وقالوا: قد بلغنا أن قومك بايعوا محمداً على حربنا؟ فحلف لهم عبد اللّه أنهم لم يفعلوا ولا علم له بذلك، وأنهم لميطلعوه على أمرهم، فصدقوه. وتفرقت الأنصار ورجع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى

ص: 357

مكة(1).

هاتان البيعتان فتحتا صفحة جديدة للمسلمين، لنشر الدين الإسلامي في المعمورة، بعد أن كسروا الطوق الذي فرضه جبابرة قريش عليهم، وذلك بفعل إيمانهم وصبرهم وجهادهم وثقتهم باللّه سبحانه وتعالى، وعلى رأس كل هذه الأشياء والمقومات تقف قيادة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحكيمة، والتي تستند على بعد النظر، ودراسة الأحداث التي تدور في فلك قريش وما يدور حولها، دراسة موضوعية وافية، ووضع البدائل المناسبة للأزمات والمعضلات التي تواجه الإسلام.

مؤامرة قتل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

بعد أن فشلت جميع خطط قريش للقضاء على الإسلام، أو الحد من انتشاره، وخصوصاً بعد الهجرة الثانية التي قام بها المسلمون إلى المدينة المنورة أحسوا بالخطر الداهم الذي سوف يعصف بهم، ولكن ما يخفف عنهم هذه الوطأة وجود النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بينهم، ففكروا كثيراً بعقولهم الناقصة، وسرح بهم خيالهم المبني على الأطماع والتكبر، فتصوروا أنهم لو قضوا على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لانتهى كل شيء، ولقضي على دعوته ناسين أو متناسين أن عملهم العدائي الذي تكرر مراراً منذ اليوم الأول لظهور الإسلام لم يثمر ولم يحقق أي إنتاج يضعف الرسالة، بفضل عناية اللّه ولطفه، وحنكة نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ورد في بعض التفاسير أن قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْيَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ}(2)، نزل في قصة دار

ص: 358


1- إعلام الورى: 59.
2- سورة الأنفال، الآية: 30.

الندوة.

وذلك أن نفراً من قريش اجتمعوا فيها، وهي دار قصي بن كلاب، وتآمروا في أمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال عروة بن هشام: نتربص به ريب المنون، وقال أبو البختري: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه، وقال أبو جهل: ما هذا برأي، ولكن اقتلوه، بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد، فيرضى حينئذ بنو هاشم بالدية، فصوّب إبليس هذا الرأي، وكان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد، وخطّأ الأولين. فاتفقوا على هذا الرأي، وأعدوا الرجال والسلاح، وجاء جبرائيل(عليه السلام) فأخبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فخرج إلى الغار، وأمر علياً(عليه السلام) فبات على فراشه، فلما أصبحوا وفتشوا عن الفراش وجدوا علياً(عليه السلام)، وقد رد اللّه مكرهم، فقالوا: أين محمد؟ فقال: لا أدري، فاقتصوا أثره، وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الجبل، ومروا بالغار رأوا على بابه نسج العنكبوت.

فقالوا: لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثاً ثم قدم المدينة(1).

المدينة المنورة والهجرة

ينقل لنا التاريخ بأن المدينة على الرغم من توفر شيء من النضج الفكري فيها، وما يلازم ذلك عادة من المرونة العقيدية، مضافاً إلى بعض الإيجابيات الأخرى إلّا أنه كانت توجد فيها مقابل ذلك بعض السلبيات أيضاً، مثل: الصراعات الدموية الطويلة القائمة بين أهم قبيلتين فيها وهما قبيلتي (الأوس)و(الخزرج) وكذلك بعض العادات الجاهلية المتفشية في تفكير الغالبية من أهالي المدينة مثل التعصب والثأر بأسلوبه الجاهلي، وتفشي الربا إذ كان اليهود

ص: 359


1- تفسير مجمع البيان 4: 457.

في ذلك الوقت يمسكون بعصب الحياة في المدينة عن طريق المال والخداع، حيث كانوا يستغلون الأهالي، وينشرون الربا والفساد... وكل واحد من هذه السلبيات كان كفيلاً بالقضاء على الأفكار والتيارات الجديدة التي تدخل المدينة، فكيف إذا كانت هذه السلبيات مجتمعة؟ ولكن على الرغم من ذلك كله، استطاع الإسلام أن يشق طريقه ويزرع بذرته الأولى في المدينة، ولكن هذه البذرة الطيبة كانت تحتاج إلى عناية كبيرة لكي تصبح شجرة وتعطي ثمارها.

وعلى هذا الأساس كان عمل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تلك الفترة يتمثل بمرحلتين:

المرحلة الأولى: مرحلة التثبيت والبناء.

المرحلة الثانية: مرحلة الانتشار.

مرحلة التثبيت والبناء

بدأت هذه المرحلة منذ اللحظات الأولى لقدوم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة، وشملت مجموعة من المشاريع والأعمال من أهمها:

أولاً: بناء المسجد.

من أهم ما قام به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في بداية دخوله للمدينة المنورة هو بناء المسجد؛ وذلك لحاجة الناس في ذلك الوقت إلى مركز يجتمعون فيه لأداء الصلوات وتبادل الآراء، وإعداد الخطط، وتعليم وتعلّم القرآن، وكذلك حل الخصومات والمشاكل، وغيرها من الأعمال، ولهذا أمر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببنائه وتشييده، فأصبح ذلك المسجد كالجامعة في مفهوم اليوم، بل أعظم وأشمل منها فالجامعةاليوم تحتوي على مجموعة من الكليات والأقسام فكذلك المسجد كان يحتوي على كثير من الأقسام والفروع، جهة للقضاء وأخرى للاجتماعات، وثالثة لتعليم

ص: 360

القرآن، وهكذا.

ثانياً: المؤاخاة بين المسلمين.

لقد كانت هذه الخطوة ضرورية؛ كأحد أسباب العلاج للنعرات والعداوات والضغائن التي ألمعنا إليها آنفاً، لاسيما في ما بين الأوس والخزرج، أضف إلى ذلك الأزمات المتجددة التي خلقتها قوافل المهاجرين اللاجئين الذين كانوا بأمس الحاجة إلى المسكن والمأكل، وغيرها من الأمور. ومن هنا كان نداء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تآخوا في اللّه...»(1).

روي عن ابن عباس - وغيره - قال: لما نزل قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(2) آخى رسول اللّه بين الأشكال والأمثال، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين عثمان وعبد الرحمن، وبين سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، وبين طلحة والزبير، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب الأنصاري، وبين أبي ذر وابن مسعود، وبين سلمان وحذيفة، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي الدرداء وبلال، وبين جعفر الطيار ومعاذ بن جبل، وبين المقداد وعمار، وبين عايشة وحفصة، وبين زينب بنت جحش وميمونة، وبين أم سلمة وصفية، حتى آخى بين أصحابه بأجمعهم على قدر منازلهم، ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنتأخي وأنا أخوك يا علي»(3).

ولقد كانت هذه الخطوة أعظم أساس قامت عليه الأمة الإسلامية، وأحسن

ص: 361


1- انظر الغدير 3: 116، وفيه: قال محمد بن إسحاق: وآخى رسول اللّه بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال في ما بلغنا ونعوذ باللّه أن نقول عليه ما لم يقل: «تآخوا في اللّه أخوين أخوين». ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: «هذا أخي». فكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب(عليه السلام) أخوين.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 185.

دواء أزيل به ما تبقى في النفوس من ضغينة وعداوة، وفي نفس الوقت كانت مفتاحاً لحل الأزمات الأخرى.

ثالثاً: الصحيفة.

الصحيفة(1) عبارة عن نظام تدار بواسطته الأمور العامة للمسلمين وغيرهم

ص: 362


1- نظراَ لأهمية هذه الوثيقة التاريخية وتوخياً للفائدة نورد نصها هنا، ليتسنى لنا الاطلاع - ولو بجزء بسيط - على الحنكة السياسية والقدرة الإدارية العظيمة التي كان عليها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى الأخص في مراحل بناء اللبنات الأولى لهذا الدين العظيم، وقد تضمنت الصحيفة ما يلي: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم وهم يَفْدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على رِبْعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على رِبْعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربْعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على رِبعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على رِبعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على رِبعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو البيت على رِبعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على رِبْعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحاً - المفرح المثقل بالدين - بينهم أن يُعطوه بالمعروف في فداء أو عَقْل. وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عِدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولدَ أحدهم، ولا يَقْتل مؤمنٌ مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وإن ذمة اللّه واحدة، يُجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس؛ وإنه من تبعنا من يهود، فإنه له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم؛ وإن سِلْم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه، إلّا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً، وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هَدْي وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن؛ وإنه مَنْ اعتبط مؤمناً قتلاً عن بيّنة، فإنه قودٌ به إلّا أن يرضى وليُّ المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلّا قيامٌ عليه. وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن باللّه واليوم الآخر، أن ينصر مُحْدِثاً ولا يؤويه؛ وإنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة اللّه وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإنه مردَّه إلى اللّه عزّ وجلّ، وإلى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلّا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغَ إلّا نفسه، وأهل بيته، وإن ليهود بني النجّار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلّا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلّا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطنٍ من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشُطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلّا بإذن محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإنه لاينحجز على ثأر جُرْح، وأنه من فتك فبنفسه [ فتك ]، وأهل بيته، إلّا من ظلم، وإن اللّه على أبرّ هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم؛ وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلّا بإذن أهلها، وإن ما كان بين أهل الصحيفة من حَدَثٍ أو اشتجار يخاف فساده، فإن مردَّه إلى اللّه عزّ وجلّ، وإلى محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإن اللّه على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه، وإنه لا تُجار قريش ولا من نصرها، وإذا دُعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلّا من حارب في الدين، على كل أُناس حصتهم من جانبهم الذي قِبلَهم، وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبٌ إلّا على نفسه، وإن اللّه على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإن من خرج آمنٌ ومن قعد آمنٌ بالمدينة، إلّا من ظلم أو أثم، وإن اللّه جارٌ لمن برّ وأتقى ومحمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)». انظر السيرة النبوية 2: 348.

ممن جاورهم، فالمجتمع المدني في ذلك الوقت كان خليطاً من القبائل العربية وغير العربية، وكذلك كانت تتعايش معه مجموعة من الديانات اليهودية والمسيحية، وإن مجتمعاً كهذا لهو بحاجة إلى نظام يدير شؤون الناس، فأوجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الصحيفة.

ص: 363

فقد روي عن أبي عبد اللّه، عن أبيه(عليهما السلام) قال: «قرأت في كتاب لعلي(عليه السلام) أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب: أن كل غازية غزت بما يعقِّب بعضها بعضاً بالمعروف والقسط بين المسلمين، فإنه لا يجوز حرب إلّا بإذن أهلها، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه وأبيه، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلّا على عدل وسواء»(1).

في بادئ الأمر أراد اليهود استمالة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جانبهم، بمعنى آخر: حاولوا ضم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تحت السيادة اليهودية بزعمهم، وذلك نظراً للنفوذ الاقتصادي القوي الذي كان اليهود يتمتعون به، ولكن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعمله هذا - إعلان الصحيفة - جعل اليهود وغيرهم من الأقليات تحت السيادة الإسلامية، وبعد أن وفر لهم الحماية أعطاهم كامل الحرية الدينية، سواء أرادوا البقاء على عقيدتهم، أم الدخول في الإسلام.

وهكذا استطاع(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يبني مجتمعاً متماسكاً تسوده المحبّة والأمان، وزرع لدى الإنسان المسلم شخصية فريدة من نوعها بين المجتمعات الأخرى.

وبالإضافة إلى كل هذه الأعمال، ركز(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على سد الثغرات، وتحصين المدينة المنورة بوجه الأعداء، وكذلك حث المسلمين على التدريب على الرمايةوصناعة السيوف والرماح والدروع... استعداداً للدفاع في قبال مخطط المشركين لمحاربة المسلمين والقضاء عليهم.

مرحلة نشر الدين الإسلامي

بعد أن اطمأن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الحالة العامة التي وصل إليها المسلمون من

ص: 364


1- الكافي 5: 31.

إيمان وتقوى واستعداد دائم للجهاد في سبيل اللّه وما إلى ذلك، شرع في المرحلة الثانية من مهمته، وهي نشر الدين الإسلامي في أرجاء المعمورة، وهذه المرحلة هي هدف الرسالة. فالإسلام لا يقتصر على أهل المدينة فقط، أو أهل الطائف فقط، وإنما هو دين البشرية جمعاء، وأن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو مرسل إلى الناس كافة لينقذهم من الظلمات إلى النور.

كتبه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الملوك والحكام
اشارة

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(1)، فإن: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ} يا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} أي: للناس عامة، وكان تقديم{كَافَّةً} لإفادة أن الغرض المسوق له الكلام هو عموم الرسالة، وإنما {كَافَّةً} بمعنى عامة؛ لأنها إذا عمتهم فقد كفتهم(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الآية: «بعثت إلى الأحمر والأسود والأبيض»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بعثت إلى الثقلين»(4).

وقد روي أنه: اتخذ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الخاتم في المحرم ونقش عليه «محمدرسول اللّه» وكاتب الملوك في شهر ربيع الأول، ونفذت كتبه ورسله إليهم يدعوهم للإسلام. وافتتح كتبه إليهم ب«بسم اللّه الرحمن الرحيم»(5).

ولهذا أخذ الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يرسل الرسل إلى الملوك وزعماء القبائل

ص: 365


1- سورة سبأ، الآية: 28.
2- تفسير تقريب القرآن 4: 386.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 229.
4- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 229.
5- انظر التنبيه والإشراف: 225.

يدعوهم إلى الدخول في الإسلام(1) وينذرهم من العدول والصد عن نداء الحق بالحكمة والموعظة الحسنة.

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى كسرى ملك الفرس

أرسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبد اللّه بن حذافة بن قيس السهمي إلى كسرى بن هرمز ملك الفرس ومن كان في سلطته بكتاب جاء فيه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن باللّه ورسوله، وشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بداعية اللّه عزّ وجلّ، فإني أنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الناس كافة، لأنذر {مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(2)، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك».(3)

فلما وصل إليه الكتاب مزقه واستخف به وقال: من هذا الذي يدعوني إلىدينه ويبدأ باسمه قبل اسمي؟ وبعث إليه بتراب، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مزق اللّه ملكه كما مزق كتابي، أما إنه ستمزقون ملكه، وبعث إلي بتراب، أما إنكم ستملكون أرضه» فكان كما قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(4).

وذكر أن كسرى كتب في الوقت إلى عامله باليمن (باذان) ويكنى أبا مهران: أن

ص: 366


1- اختلف المؤرخون في تأريخ بدء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإرسال الكتب والمراسيل إلى الملوك وغيرهم، فمنهم من قال كان ذلك في سنة ست من الهجرة في ذي القعدة، وقيل في ذي الحجة، وقيل في سنة سبع، وقيل كان ذلك بين الحديبية وبين وفاته(صلی اللّه عليه وآله وسلم). انظر تاريخ الطبري 2: 288، البداية والنهاية 4: 298. وانظر بحار الأنوار 20: 382.
2- سورة يس، الآية: 70.
3- انظر بحار الأنوار 20: 389.
4- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 79.

احمل إلي هذا الذي يذكر أنه نبي، وبدأ باسمه قبل اسمي، ودعاني إلى غير ديني. فبعث إليه - إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - فيروز الديلمي في جماعة مع كتاب يذكر فيه ما كتب به كسرى، فأتاه فيروز بمن معه،فقال له:إن كسرى أمرني أن أحملك إليه، فاستنظره ليلة.

فلما كان من الغد حضر فيروز مستحثاً، فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أخبرني ربي أنه قتل ربك البارحة، سلط اللّه عليه ابنه شيرويه على سبع ساعات من الليل، فامسك حتى يأتيك الخبر». فراع ذلك فيروز وهاله.

وعاد إلى باذان فأخبره، فقال له باذان: كيف وجدت نفسك حين دخلت عليه؟ فقال: واللّه ما هبت أحداً كهيبة هذا الرجل. فوصل الخبر بقتله في تلك الليلة من تلك الساعة، فأسلما جميعاً(1).

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى قيصر عظيم الروم

وأرسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر عظيم الروم بكتاب جاء فيه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه عبده ورسوله إلى هرقلعظيم الروم، وسلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، أسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم اليريسين(2) و{يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ

ص: 367


1- بحار الأنوار 20: 382.
2- اليريسين أو الأريسيين أو الأريسين قيل هم الأكارون وقيل الخدم والأعوان ومعناه: إن عليك إثم رعاياك ممن صددته عن الإسلام فاتبعوك على كفرك، أي: إن عليك مثل إثمهم.

بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}»(1)(2).

وقد ذكر أن هرقل بعث رجلاً من غسان وأمره أن يأتيه بخبر محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقال له: احفظ لي من أمره ثلاثاً: انظر على أي شيء تجده جالساً، ومَن على يمينه، وإن استطعت أن تنظر إلى خاتم النبوة فافعل.

فخرج الغساني حتى أتى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوجده جالساً على الأرض، ووجد علي بن أبي طالب(عليه السلام) عن يمينه، وجعل رجليه في ماء يفور، فقال: من هذا على يمينه؟ قيل: ابن عمه.

فكتب ذلك ونسي الغساني الثالثة. فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تعال، فانظر إلى ما أمرك به صاحبك». فنظر إلى خاتم النبوة، فانصرف الرسول - أي رسول الملك - إلى هرقل. قال: ما صنعت؟

قال: وجدته جالساً على الأرض والماء يفور تحت قدميه. ووجدت علياً ابن عمه عن يمينه، وأنسيت ما قلت لي في الخاتم، فدعاني فقال: «هلم إلى ما أمرك به صاحبك». فنظرت إلى خاتم النبوة.

فقال هرقل: هذا الذي بشّر به عيسى بن مريم، إنه يركب البعير فاتبعوهوصدقوه. ثم قال للرسول: أخرج إلى أخي فأعرض عليه، فإنه شريكي في الملك. فقلت له: فما طاب نفسه عن ذهاب ملكه(3).

وردّ قيصر دحية بن خليفة مكرما، وأهدى إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هدية وكتب إليه كتابا يعتذر فيه، فكتب: إلى أحمد رسول اللّه الذي بشّر به عيسى، من قيصر ملك الروم: إنه جاءني كتابك مع رسولك، وإني أشهد أنك رسول اللّه، نجدك

ص: 368


1- سورة آل عمران، الآية: 64.
2- بحار الأنوار 20: 386.
3- الخرائج والجرائح 1: 104.

عندنا في الإنجيل بشّرنا بك عيسى بن مريم، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيراً لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك وأغسل قدميك.

وجعل كتاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الديباج والحرير وجعله في سفط، فلما وصل كتابه إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يبقى ملكهم ما بقى كتابي عندهم»(1).

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المقوقس ملك الإسكندرية

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المقوقس(2) ملك الإسكندرية

وأرسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية، بكتاب وفيه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد اللّه إلى المقوقس عظيم القبط(3)، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، واسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط، و{قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًامِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}»(4)(5).

وقد روي أن المقوقس قال: إني نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولاينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكذاب، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى، وسأنظر، ثم

ص: 369


1- انظر تاريخ اليعقوبي 2: 78.
2- المقوقس: بضم أوله وثانيه وكسر رابعه، هو جريح بن ميني، ومعنى المقوقس مطول البناء، وطائر مطوق سواده في بياض، وهو لقب لكل من ملك مصر والإسكندرية كفرعون وكسرى.
3- القبط بكسر القاف وسكون الباء الموحدة، هم سكان مصر الأصليون.
4- سورة آل عمران، الآية: 64.
5- انظر بحار الأنوار 20: 383.

أخذ الكتاب وجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جاريته(1).

وكان المقوقس قد دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية، فكتب إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): بسم اللّه الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد اللّه من المقوقس عظيم القبط: سلام عليك، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبثياب، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك(2).

وقال حاطب: كان المقوقس لي مكرماً في الضيافة وقلة اللبث ببابه، وما أقمت عنده إلّا خمسة أيام ودفع له مائة دينار وخمسة أثواب(3).

وقد روي أن المقوقس قال لحاطب(4): القبط لا يطاوعوني في اتباعه ولاأحب أن تعلم بمجاورتي إياك، وأنا أظن بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد.

وبعث معه جيشا إلى أن دخل جزيرة العرب ووجد قافلة من الشام تريد المدينة فرد الجيش وارتفق بالقافلة(5).

ص: 370


1- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 1: 189.
2- انظر مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 424.
3- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 426.
4- حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو بن عمير بن سلمة بن صعب بن سهل اللخمي حليف بني أسد بن عبد العزى، ويقال إنه حالف الزبير، وقيل: كان مولى عبيد اللّه بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد فكاتبه فأدى مكاتبته، شهد بدرا، يكنى أبا عبد اللّه، وقيل: أبا محمد من بني خالفة بطن من لخم، وقيل: إنه من مذحج، بعثه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المقوقس ثم أرسله عمر أيضا إليه، فيه نزل قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} سورة الممتحنة، الآية: 1. انظر تفسير فرات الكوفي: ص480 سورة الممتحنة ح625.
5- انظر مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 426.
كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى النجاشي

وأرسل(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عمرو بن أمية الضميري إلى النجاشي ملك الحبشة بكتاب وفيه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول اللّه إلى النجاشي ملك الحبشة، إني أحمد إليك اللّه، الملك القدوس السلام المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح اللّه {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ}(1) البتول الطيبة فحملت بعيسى، وإني أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له، فإن تبعتني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول اللّه، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، والسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى»(2).

فكتب النجاشي إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جواب كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفيه:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، إلى محمد رسول اللّه من النجاشي، سلام عليك يا نبي اللّه ورحمة اللّه وبركاته، الذي لا إله إلّا هو الذي هداني إلى الإسلام. أما بعد، فقد بلغني كتابك يا رسول اللّه في ما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماءوالأرض، إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقاً(3) إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقدم ابن عمك وأصحابك، وأشهد أنك رسول اللّه، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه للّه رب العالمين، وقد بعثت إليك يا نبي اللّه، فإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول اللّه، فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته. وذكر أنه بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة حتى إذا توسطوا البحر غرقت بهم السفينة فهلكوا(4).

ص: 371


1- سورة النساء، الآية: 171.
2- بحار الأنوار 20: 391.
3- الثفروق: قمع البسرة والتمرة، وقيل: الثفروق هو ما يلزق به القمع من التمرة، لسان العرب 10: 34، مادة (ثفرق).
4- بحار الأنوار 20: 392.

وروي أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتب كتاباً للنجاشي فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): «اكتب جواباً وأوجز» فكتب: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، أما بعد، فكأنك من الرقة علينا منا، وكأنا من الثقة بك منك؛ لأنا لا نرجو شيئا منك إلّا نلناه، ولا نخاف منك أمرا إلّا أمنّاه، وباللّه التوفيق».

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الحمد للّه الذي جعل من أهلي مثلك، وشد أزري بك»(1).

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك اليمامة

وأرسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سليط بن عمرو إلى ملك اليمامة هوذة بن علي الحنفي يدعوه إلى الإسلام، وجاء في رسالته:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم: من محمد رسول اللّه إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك»(2).

فلما أتاه سليط بن عمرو أرسل إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفداً فيهم مجاعة بن مرارة والرجال بن عنفوة يقول له: إن جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصره، وإلّا قصد حربه، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا ولا كرامة، اللّهم اكفنيه» فمات بعد قليل(3).

وروي أن هوذة بن علي ملك اليمامة كتب إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتابا جاء فيه: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك. ثم أجاز سليطاً بجائزة وكساه أثواباً من نسج هجر(4).

ص: 372


1- بحار الأنوار 20: 397.
2- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 343.
3- بحار الأنوار 20: 394.
4- بحار الأنوار 20: 394.

وقيل: إن هوذة أهدى إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) غلاماً اسمه: كركرة(1).

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك عمان

وكتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتاباً إلى جيفر وعبد ابني الجلندي وكانا على ملك عمان، وفيه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد عبد اللّه ورسوله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول اللّه إلى الناس كافةً لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما»(2).

وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال عندما أرسل رسوله إلى أهل عمان:«أما إنهم سيقبلون كتابي ويصدقوني ويسألكم ابن الجلندي هل بعث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معكم بهدية،فقولوا: لا، فسيقول: لو كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث معكم بهدية لكانت مثل المائدة التي نزلت على بني إسرائيل وعلى المسيح(3).

الخلاصة

ظهر مما سبق أن بعض هؤلاء آمن برسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل النجاشي ملك الحبشة، وحاكم اليمامة، وحاكم عمان، وهرقل ملك الروم.

والبعض الآخر رد رداً مناسباً مثل المقوقس، حيث أرسل رسالة جوابية إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومعها هدية، فقبل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هديته.

أما البعض الآخر فكان رده سلبياً مثل كسرى ملك الفرس، حيث مزق رسالة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهان رسوله، كما جاء في كتب الأخبار.

ص: 373


1- إعلام الورى: 147.
2- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 361.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 114.

وما يهمنا هنا هو ليس تدوين الوقائع، بل الاستشهاد بها، لكي نعلم بأن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يضع يداً على الأخرى في الهجرة وينتظر الفرج، بل جاهد جهاداً لا هوادة فيه، وروّض الظروف الصعبة التي مرت به، ووظفها لصالح التبليغ الديني، وهذا هو الدرس المهم الذي نريد أن نستفيد من حديثنا عن هجرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين الأوائل وكيفية تعاملهم مع الظروف التي تواجههم في الهجرة، وتطبيقها على حياتنا اليومية، خاصة وأن عالمنا الإسلامي اليوم - ونتيجة الظروف التي أوجدها الأعداء، وبعض العوامل الأخرى - يعيش كثير من أبنائه في المهجر، إما مهاجرين أو مهجّرين. ونتعرف أيضاً على طريقة مقاومة هذه الظروف لتحويل الهجرة إلى نصر نحقق فيه أهدافنا الإسلامية.

من دروس الهجرة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رحم اللّه امرأً تفكر فاعتبر واعتبر فأبصر»(1).

وقال(عليه السلام): «إن في كل شيء موعظة وعبرة لذوي اللب والاعتبار»(2).

تعد الهجرة لو استفيد منها مدرسة لإعداد المجاهدين، وفي الوقت نفسه هي محل اختبار للإنسان. إن في الهجرة دروساً وعبراً كثيرة وعلى الإنسان المسلم الذي اضطرته الظروف إلى التغرب عن بلده أن يستفيد منها ويصبّها في صالح دينه ومجتمعه، ونحاول هنا باختصار أن نذكّر ببعض الأمور، التي ينبغي على الإنسان المسلم المهجّر، أو المهاجر العمل بها:

أولاً: التمسك بحبل اللّه تعالى.

قال تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}(3).

ص: 374


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 103، ومن خطبة له(عليه السلام).
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 224.
3- سورة آل عمران، الآية: 103.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى داود(عليه السلام): ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيته، ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهن إلّا جعلت له المخرج من بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيته إلّا قطعت أسباب السماوات والأرض من يديه وأسخت(1) الأرض من تحته، ولم أبال بأي واد هلك»(2).

على الإنسان المسلم أن يتوجه بكل إحساسه إلى اللّه تعالى، ويؤمن إيماناً مطلقاً بأن اللّه سبحانه وتعالى بيده كل شيء، وهو عزّ وجلّ يراقب كل حركاته وسكناته، وعلى المؤمن أن يحسب هجرته وجميع أعماله في سبيل اللّه، ولا يخرجها من هذا الإطار.

ثانياً: الصبر.

قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام):«الصبر على مضض الغصص يوجب الظفر بالفرص»(4).

إن الإنسان المهاجر أو المهجر سوف يتعرض عادة إلى مضايقات ومشاكل كثيرة، سواء كان في ما يتعلق بعمله الجهادي، أو في ما يتعلق بمعيشته وما يترتب عليها. فهنا يحتاج إلى قلب صبور، يتحمل الاخفاق والعوز، لكي يتغلب على الظروف، بل لا بد له أن يخلق الظروف المناسبة، كما فعل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فعندما هاجر هو وسائر المسلمين إلى المدينة، في بادئ الأمر كانت الظروف

ص: 375


1- ساخت بهم الأرض: خسفت.
2- الكافي 2: 63.
3- سورة النحل، الآية: 96.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 119.

المحيطة به(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صعبة جداً، من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك من جهة العدو وقوته وغيرها من المضايقات. ولكن صبر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإيمانه القوي وكذلك كان المسلمون، غيّر كل هذه الظروف، وروّضها لصالح الإسلام، فالصبر عامل مهم في حسم النتيجة نحو الأفضل. كما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الصبر أعون شيء على الدهر»(1).

ثالثاً: اختيار المكان المناسب.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ليس بلد أحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك»(2).وقال(عليه السلام): «شر الأوطان ما لم يأمن في القطان»(3)(4).

فإن الإنسان المسلم المهاجر في سبيل اللّه تعالى عليه أن يختار المكان المناسب لهجرته، كما فعل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فالشخص الذي يهاجر من بلد يخاف فيها على دينه، أو عرضه، أو نفسه، أو ماله، إلى بلد آخر لا يحفظ له هذه الحقوق، فإن النتائج ربما تكون أسوأ؛ لأنه بالإضافة إلى ضياع حقوقه، فإنه سوف يبتلى بالغربة وأمثالها. بينما إذا اختار البلد المناسب فإنه ربما يعاني من الغربة ومشاكلها، إلّا أنه سوف يحفظ بعض حقوقه على الأقل، كالنفس والعرض والمال مثلاً.

كلمة أخيرة

يعيش عالمنا الإسلامي اليوم في صراعات مدمرة أثارها الأعداء بتخطيط

ص: 376


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 67.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 558.
3- القُطّان: المقيمون.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 410.

مسبق، حتى لا يتفرغ الإنسان المؤمن لهدفه الأسمى، وهو نشر الإسلام، فأججوا الحروب هنا وهناك في عالمنا الإسلامي: في لبنان، وأفغانستان، والعراق، ومصر، والجزائر وتونس، وكشمير، وغيرها.

وكذلك عملوا على زرع الخلافات السياسية والدينية بين شعوبنا الإسلامية.

وكذلك نصبوا على بلادنا الحكام العملاء الظلمة، فتسلطوا على رقاب المسلمين، ونهبوا خيراتهم، ومارسوا بحقهم أبشع أنواع الجرائم والكبت ومصادرة الحريات والاعتقال والتعذيب، فنتج من هذا وغيره ملايين المشردين، بل الأكثر من ذلك.

إن الأعداء لم يكتفوا بتشريد هؤلاء، بل عملوا على تشديد الخناق، وضيقواعليهم سبل العيش بشتى أنواع المضايقات، كما فعل أعداء الإسلام بالمسلمين الأوائل، ولكن في ذلك الوقت استطاع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يحبط جميع مخططات الأعداء، وذلك بإيجاد الحلول المناسبة لها فتمكن(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك من حفظ المسلمين ونشر الرسالة.

لذا فاللازم علينا أن نهتدي بسيرة المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) والمسلمين الأوائل، في كيفية التعامل مع الأعداء، ومع الظروف التي عاشوها في المهجر والاستفادة من تجاربهم التي مروا بها فنوظفها لصالح الأمة؛ حتى نتجاوز المحنة فنوفق لخدمة هذا الدين الحق.

قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(1).

فالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خطط وأعد المسلمين فكرياً وعسكرياً، في سبيل تجاوز المحن، والظفر في عمله، فباشر أولاً بتثبيت كيان المسلمين في المهجر،

ص: 377


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.

وإعدادهم تعبوياً ونفسياً، ومن ثم قام بنشر الدين في الآفاق، فعلينا أن نستفيد من هذا الدرس العظيم ونقوم بمراجعة تفاصيله مراجعة دقيقة، مبنية على أساس التجارب والعبر، وبطرق علمية سليمة، وندرس جميع الظروف المحيطة بنا، سواء كان في طرفنا أو في الطرف الآخر، حتى نرزق النصر إن شاء اللّه تعالى.

«اللّهم إني أسألك بنور وجهك المشرق الحي الباقي الكريم، وأسألك بنور وجهك القدّوس، الذي أشرقت له السماوات والأرضون، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن تصلي على محمد وآله وأن تصلح لي شأني كله»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الإيمان والهجرة

قال تعالى: {وَالسَّٰبِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْأخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(3).

وقال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(4).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا

ص: 378


1- مصباح المتهجد 1: 101.
2- سورة التوبة، الآية: 100.
3- سورة النحل، الآية: 41.
4- سورة النساء، الآية: 100.

حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الصَّٰدِقُونَ}(2).

تعلم الصبر

قال تعالى: {وَالصَّٰبِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰأَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا}(4).

وقال سبحانه: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَٰكِمِينَ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(6).

وقال تبارك وتعالى: {يَٰبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٖ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}(8).

ص: 379


1- سورة الحج، الآية: 58.
2- سورة الحشر، الآية: 8.
3- سورة البقرة، الآية: 177.
4- سورة الأنعام، الآية: 34.
5- سورة يونس، الآية: 109.
6- سورة هود، الآية: 115.
7- سورة لقمان، الآية: 17.
8- سورة النحل، الآية: 127.

وقال جلّ وعلا: {قُلْ يَٰعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٖ}(1).

نشر الدعوة الإسلامية

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}(3).

وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌلِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(4).

الثبات على المبدأ

قال جلّ وعلا: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا}(5).

وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}(7).

ص: 380


1- سورة الزمر، الآية: 10.
2- سورة سبأ، الآية: 28.
3- سورة الحجر، الآية: 94.
4- سورة التوبة، الآية: 122.
5- سورة الأحزاب، الآية: 23.
6- سورة آل عمران، الآية: 173.
7- سورة الأنفال، الآية: 15.

من هدي السنّة المطهّرة

الإيمان والهجرة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد - صلى اللّه عليهما وآلهما -»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا عصي اللّه في أرض أنت فيها فأخرج منها إلى غيرها»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «...ومن دخل في الإسلام طوعاً فهو مهاجر»(3).وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... والمهاجر من هجر السيئات وترك ما حرَّم اللّه»(4).

تعلم الصبر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثلاث من كن فيه رزق من خير الدنيا والآخرة هن: الرضا بالقضاء، والصبر على البلاء، والشكر في الرخاء»(5).

وقال(عليه السلام): «الصبر عنوان النصر»(6).

وقال(عليه السلام): «بالصبر تدرك معالي الأمور»(7).

وقال(عليه السلام): «من صبر فنفسه وقّر، وبالثواب ظفر، وللّه سبحانه أطاع»(8).

ص: 381


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 33.
2- تفسير مجمع البيان 8: 37.
3- الكافي 8: 148.
4- الكافي 2: 235.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 331.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 45.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 301.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 648.

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «يا حفص إن من صبر صبر قليلاً، وإن من جزع جزع قليلاً - ثم قال: - عليك بالصبر في جميع أمورك. فإن اللّه عزّ وجلّ بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأمره بالصبر...»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «من لا يعد الصبر لنوائب الدهر يعجز»(3).

نشر الدعوة الإسلامية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في سبب تسميته بالداعي - : «وأما الداعي، فإني أدعو الناس إلى دين ربي عزّ وجلّ»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فبعث اللّه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته بقرآن قد بينه وأحكمه، ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه»(5).

ومن كتاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أهالي نجران:

«بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد رسول اللّه إلى أسقف نجران وأهل نجران، إن أسلمتم فإني أحمد إليكم اللّه إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد...»(6).

ص: 382


1- الكافي 2: 89.
2- الكافي 2: 88.
3- الكافي 2: 93.
4- معاني الأخبار: 52.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 147، ومن خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها الغاية من البعثة.
6- بحار الأنوار 21: 285.

وقال الإمام أبو جعفر(عليه السلام) في رسالته إلى بعض حكام بني أمية: «ومن ذلك ما ضيع الجهاد الذي فضله اللّه عزّ وجلّ على الأعمال... اشترط عليهم فيه حفظ الحدود، وأول ذلك الدعاء إلى طاعة اللّه عزّ وجلّ من طاعة العباد، والى عبادة اللّه من عبادة العباد...»(1).

الثبات على المبدأ

لما أظهر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الدعوة بمكة اجتمعت قريش إلى أبي طالب(عليه السلام) فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سفه أحلامنا.. فإن كان الذي يحمله على ذلك العُدْم جمعنا له مالاً حتى يكون أغنى رجل في قريش ونملكه علينا، فأخبرأبو طالب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك فقال: «لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري ما أردته»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دعا إلى طاعته، وقاهر أعداءه جهاداً عن دينه، لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه، والتماس لإطفاء نوره»(3).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «لا واللّه، لا أعطيكم - مخاطباً أعداءه - بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد»(4).

ص: 383


1- الكافي 5: 3.
2- تفسير القمي 2: 228.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 190، من خطبة له(عليه السلام) يحمد اللّه ويثني على نبيه ويعظ بالتقوى.
4- الإرشاد 2: 98.

دعاة التغيير ومستقبل العراق

الأمانة في الاستخلاف

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}(1).

إن خلافة الإنسان، هي عبارة عن رعايته لما استؤمن عليه، مما خلق اللّه عزّ وجلّ، وأدائه الأمانة على أحسن وجه أراده اللّه تبارك وتعالى منه؛ ليتم الهدف الذي من أجله خلق اللّه الدنيا، وجعل الإنسان خليفته فيها، فتكون الدنيا وسيلة للوصول إلى الدار الآخرة، والدرجات العالية.

فقد قال تعالى في القرآن الحكيم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(2).

وقال سبحانه: {يَٰدَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ}(3).

ص: 384


1- سورة الأعراف، الآية: 129.
2- سورة البقرة، الآية: 29-30.
3- سورة ص، الآية: 26.

وقال عزّ وجلّ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٖدَرَجَٰتٖ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ}(1).

و قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو المسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في مال أبيه راع وهو مسئول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(2).

لذا كان من واجب الإنسان أن يبني حياته الاجتماعية على أساس من العدل والتآلف، والأخوّة والمحبّة؛ لتتحقق للمجتمعات سعادتها، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما المؤمنون إخوة بنو أبٍ وأمٍّ، وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون»(3).

وعن جابر الجعفي قال: تقبَّضت بين يدي أبي جعفر(عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، ربما حزنت من غير مصيبة تصيبني، أو أمر ينزل بي حتى يتعرف ذلك أهلي في وجهي وصديقي؟

فقال(عليه السلام): «نعم يا جابر، إن اللّه عزّ وجلّ خلق المؤمنين من طينة الجنان، وأجرى فيهم من ريح روحه؛ فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، فإذا أصاب روحاً من تلك الأرواح في بلد من البلدان حزن حزنت هذه؛ لأنها منها»(4).

نعم، فهذا المؤمن أخو المؤمن وبالتالي يكون هذا الإنسان المؤتمن في

ص: 385


1- سورة الأنعام، الآية: 165.
2- عوالي اللآلي 1: 129.
3- الكافي 2: 165.
4- الكافي 2: 166.

مستوى الأمانة والاستخلاف. ولعل أوضح مثال للإنسان غير الصالحللاستخلاف طغاة العراق الذين ألبسوه ثوب الدمار والذلّ، قتلاً وتشريداً لخيرة أبنائه؛ بغية سلخ هذا الشعب وهذه الأمة عن دينها، والقضاء على قيمها ومبادئها السامية. إلّا أن إرادة الشعب دائماً أقوى من إرادة أولئك الطغاة؛ لأن الشعب يستمد قوته من الإيمان باللّه، والتوكل عليه، وطلب العون منه.

فرغم استمرار مأساة الشعب العراقي المظلوم، ورغم الوحشية والقسوة في قمع هذا الشعب نجد فيه من يقف كالطود في وجه هذا الكابوس الجاثم على صدره، جادّاً في منعه من تحقيق أهدافه الخبيثة في سلب ثروات الشعب الضخمة. وهدف هؤلاء المخلصين هو تطبيق أحكام الإسلام وإعلانه ديناً ونظاماً لما تتضمن تلك الأحكام سعادة الإنسان ورفاهه وحريته في الدنيا والآخرة.

ولكي تكون هذه الحركة المضادة لمخططات النظام صحيحة ومتقنة، لا بد من الإشارة إلى بعض النقاط الواجب مراعاتها في العمل والتحرك، لكي تعطي الجهود أكلها وجناها، ولعل أهم هذه الأمور هي: المرتكزات السياسية بكافة مفرداتها وأشكالها.

الفهم السياسي

اشارة

قال تبارك وتعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1).

إن من أهم تلك المفردات السياسية التي يجب على دعاة التغيير أن يتحلّوا بها هو: الفهم السياسي؛ إذ بدون الفهم المذكور لا يتمكن الإنسان من الشروع

ص: 386


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

في العمل، وإن بدأ فإنه لا يتمكن من الاستقامة والاستمرار ومهما كان يملك منالجلد والمقاومة، فإنه سيعجز عن مواصلة السير إلى الهدف المنشود.

ومن الواضح، أن بعض المثقفين من المتدينين، أو غيرهم، لايعرفون السياسة ولا يفهمونها إلّا فهماً سطحياً، فهماً مجرداً عن التجربة والتطبيق، فهم - غالباً - منشغلين بدراسة العلوم النظرية وغيرها؛ ولذا نرى المسلمين يصب عليهم البلاء صباً، وهم عاجزون عن معرفة السبب الحقيقي، والمصدر الكامن وراء ذلك، وبالتالي يعجزون عن رفعه وعلاجه، ومن ثم الخروج من المأزق بسلام.

فمن اللازم دراسة السياسة دراسة مستوعبة، وممارستها في الواقع العملي، وحيث لا يمكن تجريد السياسة عن علمي الاجتماع والاقتصاد، فيتوجب على دعاة التغيير من العاملين في الحقل السياسي دراستهما أيضاً.

ثم إنَّ الفهم السياسي بمفرده، مجرداً عن التجربة الميدانية، يعتبر نقصاً في شخصية العامل، فلا بد من النزول إلى الساحة السياسية بكل ميادينها، والإطلاع على مستواها ونمطها، ومدى استعدادها لتقبل التغيير.

غاندي والاستقلال

حينما كان غاندي منشغلاً بتحرير الهند سافر إلى إنجلترا لأمرٍ ما، وبينما كان جالساً في أحد المجالس قام إليه أحد الحاضرين، فسأله قائلاً: إن عيسى [على نبينا وعلى آله وعليه السلام] ولأجل إصلاح الناس، قال: (إذا ضربك أحد على خدّك الأيمن، فأدر له خدّك الأيسر)(1)، فالشيء الذي جئت به لإصلاح الناس، لا أثر له سوى استنهاضك للشعب الهندي ضد بريطانيا.

قال غاندي: إن كلام المسيح - (عليه السلام) - حق، ولكنني أقول:

ص: 387


1- انظر الكافي 8: 138 وفيه: «.. وإن لطم خدك الأيمن فأعطه الأيسر».

إنّ على الإنسان أن يتحمل كل ما يعترضه من صعوبات، وأن يبقى مع الحق،والحق يكمن في تخليص أبناء بلدي من أيدي المستغلين.

وهذا له الأثر الواضح في عملية الإصلاح على مرّ التاريخ، وبشهادة الجميع سوى من عميت بصيرته، فإنه يرى استنهاض الشعب عملاً غير مفيد؛ لأنه يؤدي إلى فقدان مصالحه.

قصة من الواقع المؤلم

نقل لي أحد الأفاضل: أن وزيراً قاجارياً كان قد صادقه أيام زيارته للعراق، فنقل له هذه القصة:

كان في الجبال بين طهران وخراسان راهب مسيحي متبتّل متعبّد معروف في أوساط الناس بالزهد والانقطاع إلى اللّه تعالى، وكان في صومعة في الجبل، منذ أكثر من خمسين سنة، ولكني فوجئت ذات مرة بكتاب من الراهب يدعوني فيه لزيارته في يوم كذا؛ وحيث كنت أعرف زهده وتقواه، وكنت أجلّه واحترمه لبّيت دعوته، وحضرت عنده وإذا بي أجد عنده مجموعة من الناس تضم عدداً كبيراً من شخصيات البلد، وكلهم كانوا قد دعوا أيضاً، وبعد أن استقرّ بنا المجلس، قال الراهب: اعلموا أني لم أكن راهباً في يوم من الأيام وانما أنا من البريطانيين تلبّست بهذا الزيّ لخدمة وطني، وكنت أقوم في هذه المدة الطويلة بدور التجسس في إيران وأفغانستان؛ لغرض الحصول على المعلومات عن طريق العملاء!! والآن وأنا أحسّ باقتراب موتي أتوب إلى اللّه مما عملته، وإني أظهر لكم إسلامي، وأرجو إذا متّ أن تجهزوني كما تجهزون المسلمين، ثم بدأ يبكي ليثير فينا أكبر قدر ممكن من الشفقة عليه والعاطفة، فهذه طريقتهم دائماً.

ولعل خطوته الأخيرة هذه أي: إخبارهم بأمره، وإعلان إسلامه، وبكائه، أيضاً

ص: 388

كانت ضمن برنامجه الموجّه؛ لكي يبيّن لنا قوة دولته.

نعم، هكذا يتغلغل الاستعمار في بلادنا، يدسّ عملاءه في كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية التي تغطّ في سبات وجهل عمّا يدور حولها، مما يسهل الأمر للاستعمار بالتدخل في شؤوننا.

لذا لا بد أن لا ينخدع الإنسان بالمظاهر، فليس المعيار ظاهر الإنسان، وإنما المعيار القلب السليم والعمل النابع من الإخلاص والإيمان.

وهذه الأمور من الأمور الخفية التي لا تنكشف للإنسان إلّا إذا كان دعاة التغيير أصحاب فهم سياسي وبصيرة نافذة ترى الأشياء على واقعها، وكما في الحديث الشريف: «المؤمن ينظر بنور اللّه»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... واقطع عمّن ينسيك وصله ذكر اللّه تعالى، وتشغلك ألفته عن طاعة اللّه؛ فإن ذلك من أولياء الشيطان وأعوانه، ولا يحملنك رؤيتهم إلى المداهنة عند الخلق، فإن في ذلك خسراناً عظيماً نعوذ باللّه تعالى»(2).

وقال لقمان لولده: «... ولا تأمن من الأعداء؛ فإن الغل في صدورهم»(3).

من أوليات الفهم السياسي

إن من أوليات الفهم السياسي: أن نعرف أن هناك ثلاثة أشياء ليست من الإسلام في شيء، وإن جاء المستغلّون لها بألف حجة ودليل، وهي:

1- إن كل شيء يهدّد وحدة المسلمين، ويفرقهم على أساس من القومية أو الطائفية أو العنصرية، فهو ليس من الإسلام في شيء. والمفروض أن تذوب كل

ص: 389


1- بصائر الدرجات 1: 357.
2- مصباح الشريعة: 43.
3- الإختصاص: 338.

هذه التقسيمات من خلال وحدة الإسلام العظيم، الذي يرى كل المسلمينسواسية، وأنهم أخوة تتكافأ دماؤهم. فقد قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى»(2).

وأبرز مثال على ذلك هو: الأخوّة التي عقدها النبي بين الأنصار والمهاجرين، حيث كان الإسلام فوق كل الفوارق الأخرى، والتاريخ يشهد بقوة ذلك المجتمع من جرّاء وحدة القلوب، ومن ثم وحدة الصف(3).

2- إن كل من يصل إلى الحكم بلا استفتاء حرّ من الشعب، وبلا شورى منهم، ولا انتخاب واختيار، فهذه الصورة ليست من الإسلام في شيء، سواء كان وصوله إلى الحكم بسبب العشيرة، أو القبيلة، أو بسبب الملكية الوراثية، أو بسبب الانقلاب العسكري، أو بغير ذلك.

3- إن كل بلد يُجهر فيه بالمعاصي والمحرمات، وهو على مرأى ومسمع من الحكومة أو بتشجيع منها، فذلك دليل على انحراف تلك الحكومات عن الإسلام وابتعادها عنه.ولربما محاربتها له. فعلى التيار الإسلامي الذي ينشد التغيير أن لا تغيب عنه هذه الأساليب والألوان، التي تقوم بها تلك الحكومات.

دائماً مع الناس

اشارة

إنّ على الرجال المعنيين بقضية العراق أن يشخصوا العلاقات البارزة في

ص: 390


1- سورة المؤمنون، الآية: 52.
2- الإختصاص: 341.
3- انظر وسائل الشيعة 24: 283.

مستقبله، وهذا التحرك يجب أن يكون مقترناً بالإخلاص التام، والتوكل على اللّه- عزّ وجلّ - أولاً، وصمود الإرادة ثانياً، والابتعاد عن الاستبداد الحزبي ثالثاً.

فمن المغالطات في بعض التنظيمات الحزبية هو ابتعادها عن الناس، وعدم تفاعلها معهم، إلّا في المواقف الحرجة التي تفرض عليهم أن يتعاملوا مع الناس، والناس لا يتفاعلون إلّا مع من يتفاعل معهم، لا في قضاء الحاجات فحسب، بل في الآراء والأعمال أيضاً.

فإن الناس يريدون من هو منهم وإليهم، وهم منه وإليه، ولا يريدون جماعة تعمل خارج نطاقهم، وتتكبّر عليهم، وتستبد بالآراء دونهم؛ ولذا لا تتمكن أمثال هذه التنظيمات من تحريك الناس، فالواجب على المنظمات الإسلامية وأشباهها، وعلى من يريد إنقاذ المسلمين في العراق، وفي غير العراق أمران هما: الإستشارة، والتواضع. كما يوصينا بذلك أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: «الشركة في الرأي تؤدي إلى الصواب»(1).

وقال(عليه السلام): «لا تستصغرن عندك الرأي الخطير إذا أتاك به الرجل الحقير»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «التواضع أن تعطي الناس ما تحب أن تعطاه»(3).

وسئل(عليه السلام): ما حد التواضع الذي إذا فعله العبد كان متواضعاً؟

فقال(عليه السلام): «التواضع درجات، منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم، لا يحب أن يأتي إلى أحد إلّا مثل ما يؤتى إليه، إن رأى سيئة درأها(4)

ص: 391


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 107.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 750.
3- الكافي 2: 124.
4- درأها: دفعها.

بالحسنة، كاظم الغيظ عاف عن الناس، واللّه يحب المحسنين»(1).

تحمّل المصاعب

إنّ على المعنيين بقضية العراق، وتحريره من الكابوس الجاثم على صدره، أن يتحملوا الصعوبات والمشاقّ؛ فإن تحملها يسجل للإنسان التأريخ المشرق، ويدفع الأجيال إلى الأمام؛ وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «إن اللّه عزّ وجلّ فرض الجهاد وعظمه وجعله نصره وناصره، واللّه ما صلحت دنيا ولا دين إلّا به»(2).

ولذا نرى تحمل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المشاق الجسدية والروحية، حتى قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما أوذي نبي مثلما أوذيت»(3)

وهكذا الأئمة المطهرون(عليهم السلام) ومن سار على نهجهم من الأولياء والمخلصين والعلماء.

التعددية الحزبية
اشارة

قال تبارك وتعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(4).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب»(5).

من المفردات السياسية المهمة التي يجب أن يحملها الإنسان المغيّر، هي الإطلاع والمعرفة بفوائد التعددية الحزبية، والأضرار الناجمة عن نظرية الحزب الواحد، الذي عادة ما يؤدي إلى ظهور الدكتاتورية، بينما التعددية تعطي فرصة للشعب وللأفراد، واللّجوء إلى أيّ حزب أرادوا، وإعطاء صوتهم لأي حزب يرون

ص: 392


1- الكافي 2: 124.
2- الكافي 5: 8.
3- مناقب آل أبي طالب(عليه السلام) 3: 247.
4- سورة الشورى، الآية: 38
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 158.

أنه يخدم الشعب، ويحافظ على وحدته.

ففي ظل التعددية يرتفع ستار الجبر والضغط على الشعب، وتتوفر الحريات ضمن إطار الشرع المقدس، وبموجبها يعلن الفرد ويصرح عن رأيه.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «امخضوا الرأي مخض السقاء ينتج سديد الآراء»(1).

الأحزاب في العراق

كان في العراق (44) حزباً - كما أتذكر - وكانت جميعها تعمل بحرّية - نسبياً - . وكان أكبر هذه الأحزاب أربعة منها، وهي: حزب الاستقلال، وحزب الدستور، والحزب الديمقراطي، وحزب الأمة. فعلى الرغم من أن هذه الأحزاب لم تكن إسلامية، ولانقرّ بها؛ لأنّ الحزب في نظرنا يجب أن يستمد مبادئه من القرآن الكريم والسنة الشريفة، ويتّبع القيادة الرشيدة للمرجعية، إلّا أنها كانت أحزاباً وطنية، وتقوم أحياناً على خدمة الناس والبلاد، والدفاع عنهما، وحل مشاكل الأفراد؛ ولذلك كان الناس يعكسون احترامهم وتقديرهم لهذه الأحزاب. بينما في نظرية الحزب الواحد، غالباً ما تُفرض سياسة الحزب ورؤاه الخاصة على الأمة، فيكون الأفراد مجبرين على سياسة هذا الحزب، ولا خيار لهم، لخلو الساحة من أي منافس آخر.

المعالم الواضحة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليف إذا وعد»(2).

وعن سليمان الجعفري قال: قال أبو الحسن الرضا(عليه السلام): «أتدري لم سمي إسماعيل صادق الوعد؟».

ص: 393


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 158.
2- الكافي 2: 364.

قلت: لا أدري.

قال: «وعد رجلاً فجلس حولاً ينتظره»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من المروءة أن تقتصد فلا تسرف وتعد فلا تخلف»(2).

من الضروري للعاملين والساعين نحو مستقبل العراق أن يوضحوا معالم طريقتهم وسياستهم ومفرداتها، وأن يحذروا الخوض في الوعود - بلا ميزان - للناس، سواء قبل الوصول إلى الحكم، أو بعد الوصول إليه، فإن الإنسان قد يحاول بسبب الوعود الخلاّبة أن يجتذب الناس حوله، بينما ذلك يأتي بعكس النتيجة، فإنه كثيراً ما لا يتمكن الإنسان من الوفاء بوعده، فينفضّ الناس من حوله، على أنه ينبغي لنا جميعاً أن لا ندّخر وسعاً لتقويم كل اعوجاج، وللوقوف بوجه كل من يعمل ضد حرية الناس، وضد حقوق المسلمين، وغير المسلمين.

البرنامج المتكامل

إن وضوح المعالم لا يقتصر على المفردات الداخلية للعمل السياسي، بل تشمل القضايا الإقليمية والدولية، فمثلاً: إن مسألة الجوار، وحسن التعامل والترابط من أهم المسائل في عالم اليوم، فلا بدّ من الإلتقاء مع الجيران وتنسيق الخطوات، ووضع نوع الروابط، التي يجب اختيارها مع هذه الدول المجاورة للعراق. وجعل هذه النقطة من الأسس الرئيسية التي تثبت في برنامج العمل المستقبلي. فلا بد من إيجاد صيغة للتفاهم مع الدول المجاورة.

كما أن البعض يتصور أن الحصول على التأييد الشعبي الكبير بإلقاء الوعود

ص: 394


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 79.
2- عيون الحكم والمواعظ: 473.

الفارغة، وتحسين الصورة من قبل أتباعه، من أهم خطوات العمل. ولكن الأمر على العكس تماماً؛ إذ أن الدخول في منافسات التأييد الشعبي مع الآخرين سوف يرهق الأموال والخزينة ويستنزفها، وبالتالي سيأتي يوم تسحب الجماهير منه تأييدها، بمجرد التقصير في أدنى نقطة في الحياة الاجتماعية ونظمها، وهذا سيؤدي إلى السقوط أو الضعف الواضح، الذي يؤدي هو بدوره إلى فتح جبهات مناهضة.

إن السير مع الجماهير بإخلاص تام، وخدمتهم بأكبر قدر ممكن، وعدم تجاهل أي منهم، وتوضيح خط سير الحركة الإسلامية التغييرية، وإعلان شعار واضح، وإبراز رجال لا تحوم حولهم الشبهات، كل ذلك هو المهم في عمل القادة والحركات؛ لأن الجماهير هي أساس الحكم، وليس شخص الحاكم أو الحركة، وكذلك بناء علاقات إنسانية مستقلة ومتينة مع الجيران، دون غموض أو تبعية، ورفع الحواجز والقيود التي وضعها المستعمرون في البلاد الإسلامية، من حدود ووثائق تُقيّد حرية الفرد والأمة.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة. اللّهم ما عرّفتنا من الحق فحمّلناه، وما قصرنا عنه فبلّغناه»(1) بحق محمّد وآله الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

الأمانة

قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ}(2).

ص: 395


1- مصباح المتهجد 2: 581.
2- سورة المؤمنون، الآية: 8.

وقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(2).

وقال عزّ شأنه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا}(3).

وقال سبحانه: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَٰنَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}(4).

الوعي

قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ}(5).

وقال سبحانه: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَٰنَ اللَّهِ وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(7).

وقال عزّ اسمه: {إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا}(8).

ص: 396


1- سورة الأحزاب، الآية: 72.
2- سورة الأنفال، الآية: 27.
3- سورة النساء، الآية: 58.
4- سورة البقرة، الآية: 283.
5- سورة الأنعام، الآية: 104.
6- سورة يوسف، الآية: 108.
7- سورة الحاقة، الآية: 12.
8- سورة المزمل، الآية: 19.
الإصلاح

قال جلّ وعلا: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(1).

وقال عزّ اسمه: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(2).

وقال سبحانه: {فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(3).

وقال تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}(5).

الإخلاص

وقال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(7).

وقال سبحانه: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}(8).

ص: 397


1- سورة النساء، الآية: 114.
2- سورة النساء، الآية: 145-146.
3- سورة الأعراف، الآية: 35.
4- سورة الأنفال، الآية: 1.
5- سورة هود، الآية: 88.
6- سورة النساء، الآية: 146.
7- سورة الأعراف، الآية: 29.
8- سورة الزمر، الآية: 3.

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}(1).

وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الأمانة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أكفلوا لي ستةً أكفل لكم بالجنة: إذا تحدّث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف...»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزال أمتي بخير، ما تحابوا وتهادوا وأدوا الأمانة واجتنبوا الحرام ووقروا الضيف وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة، فإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين»(5).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده؛ فإن ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(6).

وقال(عليه السلام): «عليك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار، وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زيناً

ص: 398


1- سورة البينة، الآية: 5.
2- سورة التوبة، الآية: 105.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 27.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 108.
5- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 29.
6- الكافي 2: 105.

ولا تكونوا شيناً، وعليكم بطول الركوع والسجود، فإن أحدكم إذا أطال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه وقال: يا ويله، أطاع وعصيت، وسجد وأبيت»(1).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إن أهل الأرض لمرحومون ما تحابوا وأدوا الأمانة وعملوا بالحق»(2).

الوعي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلّا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة يذكر فيها آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية(4)، لا عقل سماع ورواية فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل»(5).

وقال(عليه السلام) لكميل بن زياد: «يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع(6) أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق. يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الانفاق، وصنيع المال يزول بزواله...»(7).

ص: 399


1- الكافي 2: 77.
2- مشكاة الأنوار 52.
3- الكافي 1: 33.
4- عقل الوعاية: حفظ في فهم. والرعاية: ملاحظة أحكام الدين وتطبيق الأعمال عليها وهذا هو العلم بالدين.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 239، من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
6- الرَّعاع: سفلة الناس.
7- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 147، من كلام له(عليه السلام) لكميل بن زياد النخعي.
الإصلاح

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي أيوب الأنصاري: «يا أبا أيوب ألّا أخبرك وأدلّك على صدقة يحبها اللّه ورسوله: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتباعدوا»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثابروا على صلاح المؤمنين والمتقين»(2).

وقال(عليه السلام): «من كمال السعادة السعي في إصلاح إصلاح الجمهور»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما عمل رجل عملاً بعد إقامة الفرائض خيراً من إصلاح بين الناس، يقول خيراً ويتمنى خيراً»(4).

الإخلاص

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مخبراً عن جبرئيل عن اللّه عزّ وجلّ أنه قال: «الإخلاص سرّ من أسراري أستودعته قلب من أحببت من عبادي»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بالإخلاص فإنه سبب قبول الأعمال وأشرف الطاعة»(6).

وقال(عليه السلام): «من عري عن الهوى عملُه حَسُن أثره في كل أمر»(7).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما أخلص العبد الإيمان باللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً - أو قال: ما أجمل عبد ذكر اللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً - إلّا زهّده اللّه عزّ وجلّ في الدنيا وبصّره داءها ودواءها، فأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه» ثم تلا:

ص: 400


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 6.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 334.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 678.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 522.
5- منية المريد: 133.
6- عيون الحكم والمواعظ: 335.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 657.

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(1) «فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلاً، ومفترياً على عزّ وجلّ وعلى رسوله وعلى أهل بيته صلى اللّه عليهم إلّا ذليلاً»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الإخلاص يجمع فواضل الأعمال، وهو معنى، مفتاحه القبول وتوقيعه الرضا، فمن تقبل اللّه منه ورضي عنه فهو المخلص وإن قلّ عمله ومن لا يتقبل اللّه منه فليس بمخلص وإن كثر عمله اعتباراً بآدم(عليه السلام) وإبليس»(3).

ص: 401


1- سورة الأعراف، الآية: 152.
2- الكافي 2: 16.
3- بحار الأنوار 67: 245.

دور الاستعمار في تفكيك الأمة

الأمة الإسلامية الواحدة

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

تشير الآية الكريمة إلى واحدة من أهم القوانين الإسلامية الحيوية وهي قانون الأمة الواحدة، فالأمة الإسلامية - وبصريح القرآن - أمة واحدة لا تتجزأ، ولا يصح جعلها أمماً متعددة يكون بعضها كالأجانب بالنسبة إلى البعض.

أما اعتبار بعض المسلمين أجانب، فهو حرام في الشريعة المقدسة، فليس هناك فرق بين لون ولون، ولا لسان ولسان، ولا عرق وعرق، ولا منطقة ومنطقة، فالعراقي والهندي والإيراني والخليجي والمصري والمغربي و.... كلهم يشكلون أمة واحدة وشعباً واحداً تحت نظام واحد وقانون واحد وبلد إسلامي واحد للجميع.

فلا يحق منع أي فرد مسلم في أي دولة إسلامية من الإقامة والعمل، والسفر والحضر، والزواج والمتجر، والمشاركة في أي نشاط سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وما أشبه.

فالآية الكريمة تخاطب المسلمين جميعاً وتصرح لهم: بأنكم أمة واحدة،

ص: 402


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.

وتنتمون لشريعة واحدة، وقانون واحد، ورب واحد، ومعبود واحد، فاللّه تعالى هو الرب والصانع لكل المخلوقات، وهو الوحيد الذي يستحق العبادة، ويجب على الجميع التمسك بشرعه واتباع هداه.

قال الشيخ الطبرسي(رحمه اللّه) في تفسير هذه الآية: أي هذا دينكم دين واحد، وأصل الأمة: الجماعة التي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة واحدة لاجتماعهم بها على مقصد واحد(1).

ولكن هذا المعنى هو غير المعنى الظاهري للآية الكريمة، فإن الآية الواحدة ممكن أن يقصد بها عدة معان، فإذا فسرت بمعنى لا يعني نفي المعنى الآخر.

فالمعنى الظاهري للأمة الواحدة هي الجماعة الواحدة كما صرح به المفسرون، في مقابل الأمم المتعددة المتناحرة المتضاربة.

كما يمكن الاستفادة من الآية الكريمة في عموم نشر الرسالة، دون تخصيصها بقوم دون قوم، على ما ذكرناه في (التقريب):

{إِنَّ هَٰذِهِ} أي: البشر المتناثر في الأرض المتباعد في الزمان {أُمَّتُكُمْ} أيها الأنبياء {أُمَّةً وَٰحِدَةً} فلا أمم تحت لواء الأنبياء، وإنما أمة واحدة... {وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ} رب واحد {فَاعْبُدُونِ} أي أطيعوني واتخذوني إلهاً دون غيري(2).

ويمكن أيضا أن يستفاد من الآية ضرورة تمسك الأمة بالحق في المعتقدات وعدم تشتتهم في العقائد، فهم أمة واحدة، ولا يجوز أن يختار كل واحد منهم وبحسب هواه معتقداً وديناً وشرعاً، بل على الكل أن يتبع القرآن الكريم والرسول العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) والأوصياء الطاهرين

ص: 403


1- تفسير مجمع البيان 7: 111.
2- تفسير تقريب القرآن 3: 569.

المعصومين(عليهم السلام).كما قال تعالى: {وَمَا ءَاتَىٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(2).

آية الأمة الواحدة

مع كل هذه المعاني المذكورة، تبقى آية الأمة الواحدة المذكورة في سورة الأنبياء(3) حجة في معناها الظاهري، فالأمة تحت راية كل نبي هي أمة واحدة، والأمة الإسلامية هكذا، لا يمكن أن نجعلها أمما مختلفين، كما صنعه الغرب في بلادنا، حيث يعتبر العراقي في إيران، وكذلك العكس، أجنبياً.

بل العراقي والإيراني والهندي والأفغاني والتركي والكردي و... كلهم سواء يشكلون أمة واحدة، لا فرق بينهم في القانون الإسلامي، فيحق لكل منهم أن يعيش في أي بلد إسلامي، من دون مراجعة لدائرة من دوائر الدولة لأخذ الإقامة أو دفع رسوم وضريبة.

كما يجوز له أن يسافر إلى أي بلد إسلامي آخر من دون حاجة إلى جواز سفر وتأشيرة وما أشبه.

كما يجوز له أن يعمل في أي بلد إسلامي ويؤسس المصانع والمتاجر والمزارع وما أشبه بلا حاجة إلى أخذ رخصة أو دفع ضريبة.

ص: 404


1- سورة الحشر، الآية: 7.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} سورة الأنبياء، الآية: 92.

كما يجوز له أن يتزوج بأي امرأة من أي بلد إسلامي مراعياً الشروط الشرعيةالمقررة، وكذلك بالنسبة إلى الفتاة المسلمة أن تتزوج بأي مسلم من أي بلد إسلامي.

وهكذا له أن يستفيد من حقوقه كمواطن في أي بلد إسلامي، في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والأسرية وغيرها.

أما ما نراه اليوم من تشتيت الأمة الإسلامية، فهذا عراقي، وذاك إيراني، والآخر هندي، وأفغاني، ومصري وجزائري و... بحيث يحرم من حقوقه في بلد آخر ويعامل معه كالأجنبي، فهو خلاف صريح الإسلام.

على أرض الواقع

وعلى أرض الواقع، والتعايش الاجتماعي فيلزم أن يبقى الناس كذلك أمة واحدة، لا فرق بين الأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، وقد نهاهم اللّه تعالى عن التفرقة والتشتت، فقال عزّ من قائل: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1).

فالخطاب للمؤمنين: يا أيها المؤمنون، {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ} يعني: اليهود والنصارى، {مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ} أي من بعد ما نصبت لهم الأدلة، ولا يدل ذلك على عناد الجميع، لأن قيام البينات إنما يعلم بها الحق إذا نظر فيها، واستدل بها على الحق(2).

آية أخرى تؤكد على الأمة الواحدة

ثم لأهمية قانون (الأمة الواحدة) نرى أن هذه الآية جاءت مرة أخرى في

ص: 405


1- سورة آل عمران، الآية: 105.
2- انظر التبيان في تفسير القرآن 2: 550.

القرآن الكريم، وبشكل آخر في تتمتها، فالباري عزّ وجلّ أنزل (آية الأمةالواحدة) مرتين وجعلهما في كتابه العزيز، قال تعالى في سورة أخرى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(1).

فمرة وردت الآية في سورة الأنبياء.

ومرة في سورة (المؤمنون) مع فرق في نهايتهما.

المعصوم(عليه السلام) يؤكد على الأمة الواحدة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... والزموا السواد الأعظم، فإن يد اللّه مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان؛ كما أن الشاذ من الغنم للذئب»(2).

وقال(عليه السلام): «ليردعكم الإسلام ووقاره عن التباغي والتهاذي(3)، ولتجتمع كلمتكم، والزموا دين اللّه الذي لا يقبل من أحد غيره، وكلمة الإخلاص التي هي قوام الدين وحجة اللّه على الكافرين، واذكروا إذ كنتم قليلاً مشركين متفرقين متباغضين، فألف بينكم بالإسلام، فكثرتم واجتمعتم وتحاببتم، فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم، ولا تباغضوا بعد أن تحاببتم»(4).

وقال الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام): «... فإنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلّا اشتد أمرهم واستحكمت عقدتهم»(5).

وقد طرحت السيرة النبوية هذه الوحدة طرحاً عملياً وطبقتها على أرض

ص: 406


1- سورة المؤمنون، الآية: 52.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 127 من كلام له(عليه السلام) يبين فيه بعض أحكام الدين.
3- التباغي: ظلم بعضهم بعضاً، والتهاذي: التكلم بغير المعقول لمرض ونحوه.
4- الغارات 2: 272.
5- وقعة صفين: 114.

الواقع، وبينت الأسس التي تقوم عليها والمبادئ التي تعتمدها، وذلك في إطار دولة الإسلام المباركة التي أقامها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة، وحكّم فيها قانون الإسلام، فكل من كان يسلم من أي قومية أو لغة أو عرق أو لون، كان كسائر المسلمين بلا فرق، وكان واحداً من تلك الأمة الإسلامية.

فقانون الأمة الواحدة وهو قانون يفرز وحدة الأمة ويقويها حينما يمنع تجزئتها على صعيد الواقع، يقول الباري تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(1)، فلا يقبل هذا القانون تحول الدولة الإسلامية إلى دويلات متعددة ومتفرقة، ولهذا صرح الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في خطبة حجة الوداع - مؤكداً على هذا الأمر - بقوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«... أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلّا بالتقوى، ألّا هل بلغت؟».

قالوا: نعم، قال: «فليبلغ الشاهد الغائب»(2).

وفي حديث آخر: قال سيدنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلّا بالتقوى، قال اللّه تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}»(3)(4).

وعن الأصبغ بن نباتة قال: أتى أمير المؤمنين(عليه السلام) عبد اللّه بن عمر، وولد أبي

ص: 407


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- تحف العقول: 34، باب ما روي عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في طوال هذه المعاني.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.
4- معدن الجواهر: 21.

بكر، وسعد بن أبي وقاص، يطلبون منه التفضيل لهم؟!

فصعد المنبر ومال الناس إليه فقال(عليه السلام): «الحمد للّه ولي الحمد... أما بعد أيها الناس، فلا يقولنّ رجال قد كانت الدنيا غمرتهم فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا أفره الدواب، ولبسوا ألين الثياب، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إن لم يغفر لهم الغفار، إذا منعتهم ما كانوا فيه يخوضون، وصيرتهم إلى ما يستوجبون، فيفقدون ذلك فيسألون، ويقولون: ظلمنا ابن أبي طالب، وحرمنا ومنعنا حقوقنا، فاللّه عليهم المستعان، من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا وآمن بنبينا وشهد شهادتنا ودخل في ديننا، أجرينا عليه حكم القرآن وحدود الإسلام، ليس لأحد على أحد فضل إلّا بالتقوى، ألّا وإن للمتقين عند اللّه تعالى أفضل الثواب وأحسن الجزاء والمآب، لم يجعل اللّه تبارك وتعالى الدنيا للمتقين ثواباً، وما عند اللّه خير للأبرار. انظروا أهل دين اللّه في ما أصبتم في كتاب اللّه، وتركتم عند رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجاهدتم به في ذات اللّه، أ بحسب، أم بنسب، أم بعمل، أم بطاعة، أم زهادة، وفي ما أصبحتم فيه راغبين؟ فسارعوا إلى منازلكم رحمكم اللّه، التي أمرتم بعمارتها، العامرة التي لا تخرب، الباقية التي لا تنفد، التي دعاكم إليها، وحضكم عليها، ورغبكم فيها، وجعل الثواب عنده عنها. فاستتموا نعم اللّه عزّ ذكره بالتسليم لقضائه، والشكر على نعمائه، فمن لم يرض بهذا فليس منا ولا إلينا، وإن الحاكم يحكم بحكم اللّه، ولا خشية عليه من ذلك، أولئك هم المفلحون...»(1).

بداية التجزئة

اشارة

لقد نشأت الدولة الإسلامية الموحدة في المدينة المنورة في السنة الأولىللهجرة، وقد جعل الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أساس هذه الدولة: العدالة، والمساواة

ص: 408


1- الكافي 8: 360.

أمام القانون، والأخوة، والتعاون، والأمة الواحدة، وأول عمل قام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) به أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، وجعل أموالهم واحدة، وأهدافهم مشتركة، ومصالحهم واحدة، وقد كان هذا الاشتراك داعياً إلى الاتحاد أكثر.

وقد اتبع هذا النظام في المدن والبلاد العديدة، التي دخلت إلى الإسلام في ما بعد، فكان الجميع في ظل الأمة الواحدة.

ولما ارتحل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ربه، كانت الدولة الإسلامية قد امتدت إلى بلاد جديدة، خارج حدود المدينة ومكة، كاليمن وتبوك وأطراف الجزيرة العربية، وكانت بأجمعها تحت قانون الأمة الواحدة، وبعد وفاة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) توسعت الدولة الإسلامية أكثر، فشملت النوبة، ومصر، والشام، والعراق، وفارس، وأرمينية، وأذربيجان، وجرجان، وطبرستان، والأهواز، وغيرها، وكان السائد في البلاد هو قانون الأمة الواحدة، والدين الواحد، والهدف الواحد، والشعور الواحد، والقانون الواحد، بالرغم من وجود التسميات العديدة للبلاد. لأن تلك المسميات يومئذ لم تكن حاجزاً بين المسلم الذي يعيش في مصر وبين أخيه الذي يعيش في العراق مثلاً، وهكذا في البلاد الأخرى الإسلامية، ولم يكن - ببركة الإسلام - للنعرات القومية والإقليمية أو العنصرية يومئذ وجود.

وباختصار: فإن قانون الأمة الواحدة كان هو القانون الجاري بين المسلمين منذ عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى قرون عديدة.

أما الحدود والتقسيمات الجغرافية المصطنعة فقد ظهرت منذ خمسين سنة أو أكثر قليلاً(1). وإن كان في بداية التوسع الإسلامي قد بادر بعض المسلمين ممن

ص: 409


1- المحاضرة ألقيت قبل عام (1400)ه. علماً أن تقسيم البلاد الإسلامية قد برز بشكل واضح بعد انهيار الدولة العثمانية وخسارتها في الحرب العالمية الأولى، وبوشر بتنفيذ اتفاقية (سايكس - بيكو) بين الحلفاء المنتصرين في الحرب.

دخلوا الإسلام لمصلحة ذاتية بعض نوبات الاختلاف، غير أن وجود الأئمة المعصومين(عليهم السلام) بين الناس وتوجيههم لهم قد منع الدخلاء والأجانب والأعداء من توسيع دائرة التفرقة والخلاف ليظل الإسلام والأمة المرحومة شامخة وموحدة، وباءت بالفشل كل محاولات معاوية ويزيد وأضرابهما من الأمويين وممن غصب الخلافة، ومن تبعهم من العباسيين، ودسائسهم التي كانوا يحوكونها، من أجل طمس معالم الدين وإماتة أحكامه، وذلك بفضل المواقف الشجاعة والحكيمة التي سطّرها أئمة الهدى (عليهم الصلاة والسلام).

نعم، إن تشتت الأمة كما أشرنا، لم يخيم على بلادنا إلّا في العصور المتأخرة، حين استطاع الغرب والشرق، أن يضللا الناس ويجرانهم نحو الانحدار، حيث غيروا قانون الأمة الواحدة إلى قانون الأمة المتشتتة المتنازعة المتحاربة، وقاموا بتأجيج نار التفرقة والعنصرية والتعصب القومي ونحوه في ما بين الأمة. مضافاً إلى ما سعوا إليه من فصل الناس والجماهير عن قياداتهم الدينية ومراجعهم الشرعية.

وهكذا تحولت الأمة إلى أمم عديدة، والدولة إلى دول متفرقة، بل دويلات متناحرة، لا تقوى على أن ترد عن أنفسها ضرراً، أو تجلب لها نفعاً، ثم اصطنعت بحجة مواكبة العصر والتمدن موجة من التخلف والجاهلية المعاصرة، فاستبدلت بالأحكام الوضعية والثقافات المستوردة وأحلتها محل أحكام اللّه وتعاليم كتابه، وبهذا نمت المشكلات المعقدة، والنعرات الغربية على مجتمعاتنا، والتي بقيتآثارها إلى يومنا هذا حاكمة بين المسلمين، وهكذا نشاهد الآن، حكومات متعددة متناحرة، وقوانين متعددة تشتت الأمة، وبلاد متناثرة تحت نير الدول الاستعمارية.

ص: 410

المأساة والعلاج

يبلغ عدد المسلمين اليوم حسب بعض الإحصائيات المنشورة مليار مسلم(1). لكنهم مبعثرون جغرافياً، وإقليمياً، ونفسياً، وأغلبهم يعيشون تحت سيطرة الاستعمار، والاستغلال الأجنبي.

وقد تبدلت القوانين الإسلامية في البلاد الإسلامية إلى قوانين وضعية وهدامة، مدسوسة من الغرب والشرق، بعدما كانت قوانين إلهية سهلة سمحة، وهذا سبب للبلاد الإسلامية التجزؤ والتشتت والوقوع تحت نير الاستعمار، حيث نشأ من عدم اتخاذ الإسلام - بالكامل - منهجاً عملياً في الحياة، وقد صدق اللّه سبحانه وتعالى حيث قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(2). أي: ومن أعرض عن القرآن وقوانينه وأحكامه، وعن الدلائل التي أنزلها اللّه لعباده، وصدف عنها، ولم ينظر فيها، وعن الحجج التي نصبهم أئمة للخلق، فتركهم ولم يتبعهم {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي: عيشاً ضيقاً، وهو أن يقتر عليه الرزق عقوبة له على إعراضه، فإن وسع عليه فإنه يضيق عليه المعيشة بأن يمسكه ولا ينفقه على نفسه. وإن أنفقه فإن الحرص على الجمع وزيادة الطلب يضيق المعيشة.(3)

ومن تفسير هذه الآية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أي لم يتبع أوامري التي ذكرته بها، وسميت الأوامر ذكراً لما أودع في فطرة الإنسان من أصولها وجذورها،{فَإِنَّ لَهُ} في الدنيا {مَعِيشَةً ضَنكًا} أي ضيقة؛ وذلك لأن أوامر اللّه سبحانه هي الملائمة للحياة، فالإعراض عنها يوجب ضيق العيش مادياً أو روحياً، ولذا نرى الكفار في أوج ماديتهم الظاهرية في أضنك الحالات الروحية وأضيق المجالات

ص: 411


1- وفي بعض الإحصائيات الأخيرة ذكر أن نفوس المسلمين يناهز المليارين.
2- سورة طه، الآية: 124.
3- انظر تفسير مجمع البيان 7: 63.

النفسية {وَنَحْشُرُهُ} أي نحشر المعرض، ومعنى الحشر جمعه مع سائر بني نوعه {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ} عن العين لا يرى شيئاً(1).

والضنك: معناه الضيق، الذي هو ضد السعة، كما ذكره الراغب في المفردات(2).

وإن ذكر اللّه سبحانه وتعالى يعني السعة والتحرر من العبودية ومن الانحلال ومن الأهواء الشيطانية.

ومن الواضح: أن الذكر العملي من أجلى مصاديق الذكر، وذلك باتباع الأحكام الإلهية، من دون استثناء أو تبعيض، فإنها مناهج عملية للمسلمين في كل شؤون حياتهم، فإن صلاة الجماعة، والأمر بالمعروف، والصوم، والحج، والتصدق، والجهاد، وغيرها، كلها أعمال عبادية تتضمن مفاهيم سياسية، فيها رضا اللّه تعالى، كما تتضمن مفاهيم اجتماعية تدعو المسلمين للاجتماع والقوة، والاكتفاء الذاتي، والتحرر من الاستعمار ومن القوانين الوضعية، والسعة في العيش الرغيد، بدون قيود. ولقد لمس الناس كل هذه الصورة الجميلة في إطار الدولة الإسلامية الموحدة في زمن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام).(3)

وقد استفاد أعداء الإسلام من القوانين الإسلامية الحيوية في تمشية أمور حياتهم وتطورهم وتقدمهم، وعملوا ليل نهار على أن لا يعمل المسلمون بها لكي يتأخروا، وكانت النتيجة ما نشاهده اليوم ونلمسه من مظاهر الضعف والتمزق والتخلف في الأمة وفي كل المجالات! ولا تكاد تمر بنا فترة دون أن

ص: 412


1- تفسير تقريب القرآن 3: 515.
2- مفردات غريب القرآن: 512، مادة (ضنك).
3- انظر كتاب: (حكومة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام))، و: (الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين(عليه السلام)) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

تصدمنا أنباء حرب هنا، ونزاع هناك بين تلك الدولة الإسلامية وجارتها الإسلامية الأخرى... وما ذلك إلّا بسبب الإعراض عن ذكر اللّه، وهجران أحكامه وقوانينه وخاصة قانون الأمة الواحدة. فالعيشة ضنك، والسمة جهل وتأخر، وانهيار تام.

وها نحن جميعاً نرى المأساة الأخيرة، للشعب الأفغاني ذلك البلد المسلم، الذي لاقى شتى أنواع الظلم والاضطهاد على أيدي الشيوعية الظالمة، عندما أرسل السوفييت عشرات الألوف من قواتهم وعملائهم للقضاء على كرامة الإنسان المسلم واستعماره في أفغانستان، فجاءوا إليها كالسيل الجارف، وهم يحملون روح الشر والعدوان ضد الإسلام والمسلمين، فكان دأبهم اليومي هو قتل المسلمين وهدم بيوتهم، وزجّ القسم الآخر منهم إلى السجون، وتعذيبهم بأبشع أنواع التعذيب، وغالبية المسلمين يتفرجون، فكيف حدث ذلك في هذا البلد المظلوم؟(1)

إن ذلك لم يحدث فجأة، وبدون تخطيط وعمل. إذ أننا لو رجعنا إلى الوراء قليلاً وبحثنا في التأريخ لأدركنا سبب ما يحدث في هذا البلد وسائر البلدانالإسلامية.

حكومة القاجار في إيران

كانت الحكومة القاجارية، قبل ما يقارب ال(250) سنة هي الماسكة بزمام الحكم في إيران، ولقد جاء القاجار بحالتين إلى هذه الدولة، ولا نريد البحث

ص: 413


1- بعد إنقلاب عام (1978م) الذي جاء بالحزب الشيوعي للحكم إلى أفغانستان بدأت حركة الرفض الشديد للنظام الشيوعي القائم، فأخذت الدولة الشيوعية حملة من الاعتقالات ضد الشعب الأفغاني، مما أثار موجة استياء عامة أعقبها حركة هجرة من البلاد، وموجة من المقاومة الشعبية في أطراف البلاد ضد الحكم الجديد، ومن خلال هذه الأحداث وجد السوفييت الفرصة السانحة لغزو أفغانستان فدخلوا العاصمة كابل عام (1979م)، وقد مر الغزو السوفيتي بثلاث مراحل مهمة:

بشكل مفصل في هذا الجانب هنا. ولكن للإشارة فقط نقول: إنه لم يكن اسم الحكومة الروسية قبل (150) سنة (السوفييت(1)) ولم يكن النظام الشيوعي بعد قد ظهر هناك إلى الوجود. وكانت الديانة الحاكمة هي المسيحية. ولاشك في أنه قبل ظهور الحكومة المسيحية فيها، أي قبل (450) سنة، كانت - الغالبية العظمى - في بلاد السوفييت تحت الحكم الإسلامي، حتى أنه يذكر بأن المسلمين هم الذين بنوا قصور الكرملين(2). ولكن بعد ذلك سيطرت الدولة المسيحية التي جاءت بدعم الدول الغربية زمام الحكم من المسلمين، وذلك عبر مؤامرة ماكرة مفصلة مذكورة في التاريخ.

وأن أول ما فعلته الحكومة المسيحية بعد مجيئها إلى الحكم كان اغتصاب الأراضي الواسعة من بلاد المسلمين التي تشمل اليوم الجمهوريات ذات الأغلبيةالإسلامية وهي: (أوزبكستان، داغستان، طاجيكستان، القفقاز، قرقيزيا، أرمينيا، وتركمنستان).

ووقعت هذه الحوادث في زمن كان حكام القاجار مشغولين بالبذخ والترف والليالي الماجنة، فالانحلال كان سمة الدولة البارزة، مما أدى إلى انحلال الحكومة القاجارية في إيران، وقد كان في نية الحكومة الروسية أن تضم إليها كل

ص: 414


1- السوفيت: كلمة روسية معناها مجلس وهي الوحدة الأولى التي تشغل قاعدة التنظيم السياسي في روسيا، وقد شكلت أولاها عام (1905م) باعتبارها لجان ثورية نظمها الاشتراكيون الثائرون من عمال المصانع.
2- الكرملين: هي نوع من القلاع في عدة مدن روسية كان تستخدم مقراً للإدارة ومركزاً دينياً، وفي نفس الوقت تكون حصوناً لصد الغارات الحربية في العصور الوسطى، ومن أشهر هذه القلاع كرملين استرخان، وقازان، وموسكو، وبسكوف، ونفغورد. أما قصر الكرملين الشهير اليوم: فهو القصر الذي بني في القرن التاسع عشر، وقد أعاد السوفيت بناءه ليكون مقراً لمجلس السوفيت الأعلى (برلمان الأتحاد السوفيتي) والحكومة.

الأراضي الإيرانية، ولكنها واجهت مقاومة شديدة وفعالة من قبل رجال الدين، كان أبرز زعماء هذه المقاومة المرجع الديني الكبير السيد محمد المجاهد(رحمه اللّه) وغيره من العلماء، الذي حاول أن يصدهم عن هذا العمل، وبالفعل تمكن من الحؤول دون استيلائهم على كل الأراضي الإيرانية.

ونفوس السوفييت الآن ما يقارب ال(260) مليون نسمة، وفي إحصاءاتهم أن عدد المسلمين عندهم ما يقارب ال(50) مليون نسمة، ولكن حسب بعض الإحصاءات الأخرى فإن عدد المسلمين في الاتحاد السوفييتي يزيد على ذلك بكثير!

إن هذا العدد الهائل من المسلمين، هم اليوم واقعون تحت ضغط وأذى الحكومة السوفيتية، وعندما تبدلت الحكومة القيصرية، إلى حكومة شيوعية، كانت نتيجة هذا التغيير والتحول، هو قتل (50) ألف رجل دين، و(5) ملايين مسلم، بسبب عدم تقبلهم للأفكار الشيوعية الملحدة، وتمسكهم بالدين الإسلامي، واتباعهم العلماء والمراجع العظام.

إضاعة أفغانستان

ولما كانت الحكومة القاجارية مشغولة بالترف والبذخ واللّهو، والانشغال بالنساء، وأمثال هذه التوافه، وقد دبّ الضعف الشديد في رجال الحكمالقاجاري بحيث تسلمت امرأة تدعى (مهد العليا) رئاسة الحكومة، وكان من صفات هذه المرأة أنها لو غضبت على أي شخص، تأمر جلاوزتها أن يقلعوا عينيه من محجرهما، وفي أحد الأيام غضبت (مهد العليا) على (عباس ميرزا)(1)، وأصدرت الأمر بقلع عينيه، ففر عباس ميرزا حافي القدمين ولجأ إلى السفارة

ص: 415


1- ابن فتح علي شاه ولي العهد وحاكم أذربيجان.

الإنكليزية، لكي يحافظ على حياته، وعندما كتبت الملكة (مهد العليا) رسالة إلى السفير الإنكليزي تطلب فيها إخراج عباس ميرزا من السفارة وتسليمه إليها، رد السفير الإنكليزي على ذلك، فقال: إن عباس ميرزا يعتبر لاجئاً سياسياً، ومسؤولية الحفاظ على حياته تقع على السفارة.

ومن الواضح، أن السفير الإنكليزي، لم يرد بهذا الرد لأجل سواد عيون عباس ميرزا، وإنما هي المصلحة والأطماع، فإن الإنكليز كانوا يريدون من وراء هذا الجواب، تحقيق أهداف أكبر، وأهم... كما سنشير إليه.

وفي أحد الأيام، وصلت رسالة إلى الملكة من بريطانيا مفادها: إنكم تجاسرتم علينا، ولا نرى جزاءً لتجاسركم هذا، إلّا بدخول الجيش الإنكليزي في الأراضي الإيرانية!

وبعد فترة، دخل الجيش الإنكليزي مدينة بوشهر، عن طريق البحر. وبدأ بالتوغل في الأراضي الإيرانية، إضافة إلى الأعمال البشعة التي قام بها من القتل والسلب وانتهاك أعراض الناس، ومصادرة أموالهم وتخريب الأراضي الزراعية، وتدمير الأماكن العامة.

وهنا وجدت الملكة (مهد العليا) نفسها ضعيفة، أمام الزحف الإنكليزي فيبلدها، فارتأت أن ترتكب جناية أخرى في حق الشعب الإيراني، وكانت الجناية أنها (أعطت أفغانستان هدية للإنكليز، في مقابل توقف الزحف الإنكليزي، من الحدود الجنوبية نحو العاصمة)، وكان هذا من الأسباب الرئيسية لانفصال أفغانستان عن إيران، وجعلها دولة مستقلة منفصلة، واقعة تحت سيطرة الإنكليز.

مسؤولية المسلمين أمام الزحف السوفييتي

لما هجم جيش السوفييت على أفغانستان وسيطر عليها، قام الجيش الكافر

ص: 416

خلال ال(20) شهراً الأولى من غزوه للأراضي الأفغانية، بقتل ما يقارب ال(200) ألف إنسان، وشرد مليونين آخرين فروا بأنفسهم، لا يمتلكون ملجأً يلتجئون إليه، هذا بالإضافة إلى (100) ألف شخص مفقود و(50) ألف معوّق(1).

فعلى المسلمين في كل أنحاء العالم، أن لا يسمحوا للروس وغيرهم من المحتلين المغتصبين بالاستمرار في جورهم وظلمهم للمسلمين في أفغانستان وغيرها من بلاد المسلمين، ويلزم عليهم العمل في سبيل إعلاء كلمة (لا إله إلّا اللّه)، في ذلك البلد المستضعف، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ...}(2). والمستضعف في أوضح معانيه: هو ذلك الشخص الذي سلبوا منه كرامته وحريته، وسلطوا عليه شتى أنواع الأذى والتعذيب، مضافاً إلى أن مجاهدة العدو فرض على جميع أبناء الأمة، بحيث لو تركوا الجهاد، لأتاهم العذاب من بين أيديهم ومن خلفهم.

فالحث من اللّه سبحانه على تخليص المستضعفين هو المستفاد من الآيةالكريمة، حيث قال عزّ وجلّ: {وَمَا لَكُمْ} أيها المؤمنون {لَا تُقَٰتِلُونَ} فأي عذر لكم في ترك القتال مع اجتماع الأسباب الموجبة للقتال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طاعة اللّه، وقيل: في دين اللّه، أو في نصرة دين اللّه. أو في اعزاز دين اللّه وإعلاء كلمته، {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} أي: وفي المستضعفين، أو في سبيل المستضعفين: أي نصرتهم، وقيل: في إعزاز المستضعفين وفي الذب عنهم {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ} وقيل: يريد بذلك قوماً من المسلمين بقوا بمكة ولم يستطيعوا

ص: 417


1- هذه الإحصاءات هي إلى عام 1400ه، وإلّا فقد ارتفعت النسبة بكثير بعد ذلك.
2- سورة النساء، الآية: 75.

الهجرة(1).

وسئل الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): عن الجهاد أسنّة هو أم فريضة؟ قال(عليه السلام): «الجهاد على أربعة أوجه: فجهادان فرض، وجهاد سنة لا يقام إلّا مع فرض، وجهاد سنة، فأما أحد الفرضين: فمجاهدة الرجل نفسه عن معاصي اللّه عزّ وجلّ وهو من أعظم الجهاد، ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض، وأما الجهاد الذي هو سنة لا يقام إلّا مع فرض؛ فإن مجاهدة العدو فرض على جميع الأمة، ولو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب، وهذا هو من عذاب الأمة، وهو سنة على الإمام أن يأتي العدو مع الأمة فيجاهدهم، وأما الجهاد الذي هو سنة، فكل سنة أقامها الرجل، وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها، فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال، لأنه إحياء سنة»(2).

ولكن المسلمين اليوم تركوا الجهاد، ولم يلبوا نداءات المستضعفين في أفغانستان؟!

ولم يتصدوا لطغيان وظلم وأطماع القوى المستكبرة التي لا تراعي أي حقومبدأ من أبسط حقوق الإنسان، إلّا في سبيل تحقيق مصالحهم الخاصة غير المشروعة، ولا تهتم أبداً للأعداد الهائلة التي سحقتها أسلحتها الفتاكة؟! فإن هؤلاء المحتلين يصرحون وبكل صلافة: إنا لو قتلنا جميع الناس، وبقي لنا عشرهم يقبلون الشيوعية كان ذلك كافياً لنا. إن إفناء مليارات البشر لا تحرك فيهم شعرة، وفي المقابل ترى القرآن يصرح: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(3).

ص: 418


1- انظر تفسير مجمع البيان 3: 132.
2- الخصال 1: 240.
3- سورة المائدة، الآية: 32.
ماذا يعمل الأعداء

يعمل الأعداء ليل نهار على تفتيت الأمة الإسلامية، فإن الأمة إذا كانت (أمة واحدة) كما جعلها الباري عزّ وجلّ وأمر بها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام)... لم يتمكن أحد من السيطرة عليها ونهب ثرواتها.

فلا بد من العمل الدؤوب حتى إرجاع قانون (الأمة الواحدة) للمسلمين.

فإن أهل الباطل يعملون لباطلهم بكل جد واجتهاد، في كل صغيرة وكبيرة.

فهل رأيتم اليهود أو سمعتم عنهم في مشاريعهم التي تصب في خدمة مصالحهم، والتي يهدفون من ورائها دعم قضاياهم ومخططاتهم الباطلة والظالمة؟

فباستطلاع بسيط في قضايا اليهود، يرى الإنسان الكثير من البرامج والمشاريع الصغيرة والكبيرة التي لا غاية منها إلّا دعم مخططاتهم. وكمثال على ذلك نذكر هذه القصة:

نقل أحد تجار طهران قائلاً: ذهبت مرة إلى أحد تجار الأقمشة الكبار، وبعد أن اشتريت مقداراً من القماش من صاحب المحل، أعطاني صندوقاً صغيراً،وقال: إنك رجل طيب وتحب الخير، فخذ هذا الصندوق واجمع فيه بعض المساعدات والتبرعات لإسرائيل!

يقول التاجر الطهراني: ارتجف بدني، وشعرت بالمهانة الشديدة لجرأة هذا التاجر على جمع المال لليهود المغتصبين وفي البلاد الإسلامية!! فقلت له في غضب: لو كنت أعلم بأنك إسرائيلي، وتدعم المعتدين من اليهود لما اشتريت منك شيئاً أبداً.

نعم، هذا هو دأب اليهود، وشغلهم الشاغل، فهم يهتمون دائما وبكل جد في سبيل الحفاظ على عقيدتهم المنحرفة، ويبذلون جهداً واسعاً في دعم كيانهم

ص: 419

الغاصب، وإن بعض الإسرائيليين يوزعون المئات، بل الآلاف من أمثال هذه الصناديق الصغيرة بين الناس، لأجل مساندة إسرائيل الغاصبة.

وبحجم هذه التحديات الخطيرة، فالمسؤولية الملقاة على عواتقنا كبيرة وخطيرة جداً، وتحتاج إلى بذل الجهد في جميع المجالات لنشر الإسلام ومبادئه الحقة.

التخلص من المآسي وإرجاع قانون الأمة

اشارة

هناك عدة نقاط رئيسية في مسألة العلاج للخروج من مأساة المسلمين والتخلص من الاستعمار، وإرجاع قانون (الأمة الواحدة)، نذكرها باختصار:

الأول: الوعي

لا بد من تعميم الوعي الإسلامي، ومن اللازم على كل مسلم أن يعمم الثقافة الإسلامية في جميع جوانب الحياة الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وخاصة ما يرتبط بقانون (الأمة الواحدة) وذلك بواسطة كافة الوسائل الإعلامية المتاحة، كالإذاعة والصحف والمجلات والنوادي والكتبوالمؤتمرات وغيرها.

ولعلنا نحتاج إلى طبع ملياري كتاب لننشرها في مختلف البلاد الإسلامية، تتحدث عن أوضاع المسلمين ومآسيهم وطرق معالجتها وكذلك في خصوص قانون (الأمة الواحدة)، وهذا أقل الواجب.

وإلّا فيلزم علينا أن نبذل الجهد الكبير لنشر أكثر ما يمكن من الكتب في سبيل التوعية الإسلامية العامة لكل البشر، وبلغاتهم المختلفة، أي ستة مليارات من الكتب، لكل إنسان كتاب واحد على الأقل.

فإنه بغير الوعي واليقظة لا يمكن التخلص من المؤامرات التي تحاك ضدنا،

ص: 420

فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(1).

وبشكل عام، الروايات التي تحث على طلب العلم والقراءة والكتابة وما أشبه كلها تدل على ضرورة الوعي في الأمة كما هو واضح.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج»(3).

وقال(عليه السلام) للمفضل: «تأمل يا مفضل، ما أنعم اللّه تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا النطق الذي يعبر به عمّا في ضميره - إلى أن قال(عليه السلام) - وكذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين وأخبار الباقين للآتين، وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرها، وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات والحساب، ولو لاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعضوأخبار الغائبين عن أوطانهم ودرست العلوم وضاعت الآداب، وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم ومعاملاتهم، وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم، وما روي لهم مما لا يسعهم جهله...»(4).

وإن أول سورة نزلت في القرآن الكريم على المشهور هي سورة (العلق) التي تبدأ بآيات حول العلم والقراءة والكتابة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(5) وفيها الدعوة إلى القراءة والعلم والكتابة.

ص: 421


1- الكافي 1: 27.
2- روضة الواعظين 1: 11.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 108.
4- بحار الأنوار 3: 82.
5- سورة العلق، الآية: 1-5.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار وتواضعوا لمن تُعلِّمونه العلم وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم»(2).

وقال النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من خرج يطلب باباً من العلم ليرد به باطلاً إلى حق وضالاً إلى هدى كان عمله كعبادة أربعين عاماً»(3).

ومعلوم أن التفقه هو الفهم، ومن جزئياته فهم الحياة، وبهذه الروح الخلاقة، والفكر الواعي استطاع الإسلام أن يتقدم، وتصل حضارته إلى أقصى نقطة في العالم.

الثقافة وأثرها

لقد اهتم العالم بالثقافة، لأن الثقافة هي التي ترسم للأجيال مسيرتهم، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والوقائع، وهي التي تعيّن مستقبل الأمم.

فالثقافة الإسلامية الأصيلة تجعل الأمة واحدة وتسير سيراً متميزاً في الحياة، فكرياً وعملياً ونظرياً وسلوكياً. والمسلمون في الصدر الأول تحلوا بهذه الثقافة الرائعة فانتشر الإسلام في نصف الكرة الأرضية، بأقل من ثلث قرن من بداية الهجرة الشريفة.

والمسلمون قبل ستة عقود - وفي العراق بالذات - امتلكوا قسماً من هذه الثقافة المعجزة فحرروا أنفسهم من الاستعمار، فما بين الأعوام (1918-1920م)

ص: 422


1- كنز الفوائد 2: 107.
2- الكافي 1: 36.
3- منية المريد: 101.

استطاعوا إحراز النصر على أعظم إمبراطورية في العالم، التي اشتهرت بأنها: الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.

كيف استطاعوا ذلك؟ مع أن عددهم يومئذ كان لا يزيد على ال(4) ملايين نسمة؟

كان من أسباب ذلك الوعي الإسلامي، حيث تمكن الشعب العراقي وبقيادة المرجع الأعلى الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) من القيام بثورة العشرين.

لقد ذكرنا أن السبب الأول والأكبر كان هو الوعي، والثقافة الدينية، واتباع القيادة المرجعية الرشيدة آنذاك، بالرغم من عدم امتلاكهم للأسلحة الحربية المتطورة، ولا الأجهزة المخابراتية الحديثة، وإنما كانوا شعباً أعزل إلّا من الوسائل الحربية البدائية، التي كانوا يمتلكونها، كمثل (الفالة والمكوار) وغيرها من الأدوات البدائية التي اعتادوا عليها في حياتهم المعيشية. ولكن الثقافة الإسلامية والإيمان باللّه كانت هي السلاح الرئيسي لهم، وهي التي جعلتهميقاومون ويقدمون المئات والمئات من الضحايا، في سبيل دفع المعتدين، فتغلبوا على أسلحتهم المتطورة، ثم بعد ذلك استطاع الشيخ الشيرازي(رحمه اللّه) من تشكيل حكومة إسلامية، وكان مقرها في كربلاء المقدسة.

ولكن بعد مرور فترة زمنية، استطاع العملاء أن يسيطروا على الشعب المسلم - بعد أن عملوا دائبين ليل نهار - على إبعاد الجماهير عن فكرهم وثقافتهم، وبعد أن تم لهم ما أراد صاروا يذبحون الأبناء ويستحيون النساء ويقودون الآلاف نحو السجون والسراديب المظلمة بكل قساوة وعنف في وضح النهار، وبعض الأبناء في الأمة يتحملون جزءاً من السبب في ذلك، لأنهم لم يسيروا على طريق الآباء. وكما قال سبحانه وتعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوٰةَ وَاتَّبَعُواْ

ص: 423

الشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}(1).

وهذا هو الفرق بين الأمس واليوم، إذ أن النصر في الأمس جاء مع الوعي والتمسك بالدين، والهزيمة اليوم حلت مع الجهل بالتعاليم الإسلامية والتمسك بالثقافة الغربية الوضعية، التي وضعها الاستعمار بنفسه لاستغلالنا، وفرض الجهل بالتعاليم الأصيلة، حتى فرض علينا في النهاية قبول التقسيم والتفرقة، والحدود المصطنعة وترك قانون (الأمة الواحدة).

الثاني: التنظيم

لا بد للمجتمع الإسلامي من التنظيم والتدبير.

قال الإمام الرضا(عليه السلام) في حديث: «... إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين»(2).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا أراد اللّه بعبد خيراً ألهمه الاقتصاد وحسن التدبير وجنّبه سوء التدبير والإسراف»(3).

وقال الإمام(عليه السلام): «التدبير بالرأي، الرأي بالفكر»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المؤمن حسن المعونة، خفيف المئونة، جيد التدبير لمعيشته، ولا يلسع من جحر مرتين»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة»(6).

ص: 424


1- سورة مريم، الآية: 59.
2- الكافي 1: 200.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 291.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 19.
5- الكافي 2: 241.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 344.

وسُئل الإمام الحسن(عليه السلام) عن المروءة؟ فقال(عليه السلام): «حفظ الرجل دينه، وقيامه في إصلاح ضيعته، وحسن منازعته، وإفشاء السلام، ولين الكلام، والكف والتحبب إلى الناس»(1).

يعتبر التنظيم من المقومات الأساسية للأمة الإسلامية في تحركاتها، والتي كانت سببها في انتصار السلف، ويعتبر التنظيم حلقة مهمة في المجتمع، وأيّة جماعة تريد الوصول إلى الهدف سواء كان سامياً أم كان دانياً فهي بحاجة إلى التنظيم، ومن خلاله يتم التعرف أيضاً على نقاط الضعف والقوة في سلوك الطريق، ولا شك في أن الذي ينظم أمور حياته الخاصة الشخصية أو الاجتماعية فإن اللّه تعالى سيوفقه للنجاح في مهمته، قال اللّه تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا}(2).

وقد حثت الشريعة الإسلامية على التنظيم في مختلف المجالات الحيوية، قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لابنيه الحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه): «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى اللّه، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم...»(3).

الثالث: السلم

السلم من الدعائم المهمة لإرجاع قانون (الأمة الواحدة)، ولتصافي النفوس وترابط القلوب بعضها مع بعض، والتي تزرع الاطمئنان والأمن في المجتمع، وتقضي على الأحقاد والعداوات وأعمال العنف التي تحول دون تحقيق الأهداف.

ص: 425


1- معاني الأخبار: 257.
2- سورة الإسراء، الآية: 84.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه.

قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في حديث: «... ومن ألقى إليكم السلم فاقبلوا منه واستعينوا بالصبر، فإن بعد الصبر النصر من اللّه...»(2).

وقال(عليه السلام): «السلم ثمرة الحلم»(3).

وقال(عليه السلام): «السلم علة السلامة، وعلامة الاستقامة»(4).

وقال(عليه السلام): «سالم الناس تسلم دنياك»(5).

وقال(عليه السلام): «سالم الناس تسلم، واعمل لآخرتك تغنم»(6).

وقال(عليه السلام): «من سالم الناس كثر أصدقاؤه وقل أعداؤه»(7) وقال(عليه السلام): «من رضي من الناس بالمسالمة سلم من غوائلهم»(8).

هذا وفي الروايات أن السلم الحقيقي هو في اتباع تعاليم أهل البيت(عليهم السلام) والقبول بولايتهم.

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}(9).

قال: قلت: ما السلم؟ قال: «الدخول في أمرنا»(10).

ص: 426


1- سورة الأنفال، الآية: 61.
2- الكافي 5: 41.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 51.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 72.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 401.
6- عيون الحكم والمواعظ: 285.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 595.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 643.
9- سورة الأنفال، الآية: 61.
10- الكافي 1: 415.
الرابع: الرجوع إلى أحكام اللّه

يلزم الرجوع إلى حكم اللّه تعالى وقانونه في توحيد المسلمين ورفع الحواجز، والحدود المصطنعة، التي ولدت التفرقة وتفكيك وحدة الأمة، فإعراض المسلمين عن الأحكام الإلهية ولّد هذه التجزئة، واستغلال الغرب لبلادنا. وكما جاء في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1).

ومن وصايا الإمام الصادق(عليه السلام) لعبد اللّه بن جندب: «يا ابن جندب، قديماً عُمّر الجهل وقوي أساسه، وذلك لاتخاذهم دين اللّه لعباً، حتى لقد كان المتقرب منهم إلى اللّه بعمله، يريد سواه أولئك هم الظالمون»(2).

الخامس: الاكتفاء الذاتي

يلزم السعي لتطبيق الاكتفاء الذاتي في المجتمع الإسلامي؛ فإنه من مقوماتقانون الأمة الواحدة.

فعلى أساس الاكتفاء الذاتي يسود المجتمع التعاون والإخاء والتكامل في أغلب النواحي الاقتصادية، وكذلك يتحقق الاستغناء عن الشرق والغرب.

إن اللّه جعل في أراضي المسلمين الخير الوفير من الزراعة والمعادن وغيرها، مما يساعد على الاكتفاء الذاتي.

وعندما يفهم أبناء الأمة ضرورة الاكتفاء الذاتي وحصول التكامل الاقتصادي، فهذا الإحساس بالمسؤولية تجاه الأمة يستطيع تفجير طاقاتها، ويحرك عجلة الإنتاج نحو الخروج بالأمة من قيود العبودية والتبعية، ويدخلها في إطار الحرية والوحدة والتطور والتقدم.

ص: 427


1- سورة طه، الآية: 124.
2- تحف العقول: 301.

والاكتفاء الذاتي بحاجة إلى أمور عديدة، منها الهجرة والزهد والعمل والجهد وغيرها.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «إذا أعسر أحدكم فليضرب في الأرض ويبتغي من فضل اللّه ولا يغم نفسه»(1).

وروي: أن سلمان (رضوان اللّه عليه) كان يسف الخوص وهو أمير على المدائن ويبيعه ويأكل منه، ويقول: لا أحب أن آكل إلّا من عمل يدي، وكان تعلم سف الخوص من المدينة.(2)

وفي كتاب سلمان إلى عمر بن الخطاب قال: «وأما ما ذكرت أني أقبلت على سف الخوص وأكل الشعير، فما هما مما يعير به مؤمن ويؤنب عليه، وايم اللّه يا عمر، لأكل الشعير وسف الخوص والاستغناء عن رفيع المطعم والمشرب، وعنغصب مؤمنٍ حقه، وادعاء ما ليس له بحق، أفضل وأحب إلى اللّه عزّ وجلّ وأقرب للتقوى، ولقد رأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا أصاب الشعير أكل وفرح به ولم يسخطه».(3)

وسأل الإمام الصادق(عليه السلام) عن معاذ بيّاع الكرابيس؟

فقيل له: ترك التجارة.

فقال: «عمل الشيطان عمل الشيطان؛ من ترك التجارة ذهب ثلثا عقله، أما علم أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما قدمت عير من الشام فاشترى منها واتجر فربح فيها ما قضى دينه».(4)

ص: 428


1- مستدرك الوسائل 13: 7.
2- بحار الأنوار 22: 390.
3- الإحتجاج 1: 131.
4- تهذيب الأحكام 7: 4.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما غدوة أحدكم في سبيل اللّه بأعظم من غدوته يطلب لولده وعياله ما يصلحهم».(1)

وقال(عليه السلام): «الشاخص في طلب الرزق الحلال كالمجاهد في سبيل اللّه»(2).

وروي أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وقف بغزوة تبوك بشاب جلد يسوق أبعرة سمانا، فقال أصحابه: يا رسول اللّه، لو كان قوة هذا وجلده وسمن أبعرته في سبيل اللّه، لكان أحسن! فدعاه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «أ رأيت أبعرتك هذا أي شي ء تعالج عليها؟».

قال: يا رسول اللّه، لي زوجة وعيال، وأنا أكتسب بها ما أنفقه على عيالي، فأكفهم عن الناس وأقضي ديناً علي.

قال: «لعل غير ذلك؟».قال: لا، فلما انصرف قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لئن كان صادقاً إن له لأجراً مثل أجر الغازي وأجر الحاج وأجر المعتمر».(3)

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تحت ظل العرش يوم القيامة يوم لا ظل إلّا ظله رجل ضارب في الأرض يطلب من فضل اللّه ما يكف به نفسه ويعود به على عياله»(4).

وحكي عن داود(عليه السلام): إنه كان يتوخى من تلقاه من بني إسرائيل فيسأله عن حاله؟ فيثني عليه، حتى لقي رجلاً فقال: نعم العبد لو لا خصلة فيه، فقال: «وما هي؟».

قال: إنه يأكل من بيت المال، فبكى داود وعلم أنه قد أتي، فأوحى اللّه عزّ

ص: 429


1- السرائر 2: 228.
2- عوالي اللئالي 3: 194.
3- عوالي اللئالي 3: 194.
4- عوالي اللئالي 3: 194.

وجلّ إلى الحديد: «أن لن لعبدي داود».

فألان اللّه له الحديد، فكان يعمل كل يوم درعاً يبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة وستين درعاً فباعها بثلاث مائة وستين ألفاً، فاستغنى عن بيت المال.(1)

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة سلام اللّه عليها تطحن وتعجن وتخبز»(2).

وروى سيابة: إن رجلاً سأل الصادق(عليه السلام): أسمع قوماً يقولون: إن الزراعة مكروهة؟ فقال(عليه السلام): «ازرعوا واغرسوا، فلا واللّه ما عمل الناس عملاً أحل ولا أطيب منه، واللّه ليزرعن وليغرسن النخل بعد خروج الدجال»(3).

النتيجة

ويعرف مما سبق بأن هذه النقاط الخمس هي من أهم الأمور التي بواسطتها يتم خروج الأمة من هذا الوضع المأساوي، وإعادة مجدها الحضاري ووحدتها وتطبيق قانون (الأمة الواحدة) في مختلف البلاد الإسلامية حتى تصبح بلداً واحداً ذا شعب واحد، سواء في أفغانستان أو فلسطين أو العراق الذي مر ويمر بظروف صعبة للغاية بسبب تعاقب الطواغيت على حكمها وخاصة في فترة البعثيين. أو غيرها من البلاد.

فإن الحديث عن جزء من بلاد المسلمين يجرنا إلى جميع البلاد الإسلامية باعتبارها أمة واحدة وإن اختلفت التسميات؛ فلذا كان لا بد من تعميم الكلام ليشمل البلاد الإسلامية أجمع، وكيفية معالجة ما قام به الاستعمار في تفكيك وحدتها، وقد ذكرنا بإيجاز بعض النقاط الرئيسية للعلاج في سبيل إعادة وحدة

ص: 430


1- عوالي اللئالي 3: 199.
2- الكافي 5: 86.
3- الكافي 5: 260.

الأمة وتحقيق الحكومة الإسلامية الكبيرة، وهذه النقاط واضحة المعالم. وهي موجودة في الكتاب والسنة بشكل متكامل. ولكن تحتاج في مرحلة تطبيقها إلى دراسة وتخطيط؛ لكي نتمكن من العمل بها على أرض الواقع بشكل صحيح، واللّه الموفق المستعان.

«اللّهم صل على محمد وآل محمد، وأبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبة، ومن حسد أهل البغي المودة، ومن ظنة أهل الصلاح الثقة، ومن عداوة الأدنين الولاية، ومن عقوق ذوي الأرحام المبرة، ومن خذلان الأقربين النصرة، ومن حب المدارين تصحيح المقة، ومن رد الملابسين كرم العشرة، ومن مرارة خوف الظالمين حلاوة الأمنة...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الأمة الإسلامية الواحدة

قال تعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(3).

وقال سبحانه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(5).

ص: 431


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة المؤمنون، الآية: 52.
3- سورة الأنبياء، الآية: 92.
4- سورة آل عمران، الآية: 110.
5- سورة آل عمران، الآية: 103.
الاختلاف والفرقة ونتائجها

قال جلّ وعلا: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1).

وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا}(2).

وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ}(3).

العلم أصل كل خير

وقال عزّ وجلّ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(5).

وقال تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}(6).

الشعور بالمسؤولية

وقال سبحانه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسَْٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(8).

وقال جلّ وعلا: {فَلَنَسَْٔلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}(9).

ص: 432


1- سورة آل عمران، الآية: 105.
2- سورة الروم، الآية: 31-32.
3- سورة الأنعام، الآية: 65.
4- سورة المجادلة، الآية: 11.
5- سورة طه، الآية: 114.
6- سورة يوسف، الآية: 76.
7- سورة الصافات، الآية: 24.
8- سورة الحجر، الآية: 92-93.
9- سورة الأعراف، الآية: 6.

من هدي السنّة المطهّرة

الأمة الإسلامية الواحدة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزال أمتي بخير ما تحابوا وتهادوا، وأدوا الأمانة، واجتنبوا الحرام»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزال أمتي بخير ما لم يتخاونوا وأدوا الأمانة»(2).

وقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المؤمنون يد واحدة على من سواهم»(3).

الاختلاف والفرقة ونتائجها

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الاجتماع رحمة والفرقة عذاب»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وايم اللّه ما اختلفت أمة بعد نبيها إلّا ظهر باطلها على حقها، إلّا ما شاء اللّه»(5).

وقال(عليه السلام): «كثرة الخلاف شقاق»(6).

وقال(عليه السلام): «عرجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة»(7).

وقال(عليه السلام): «الأمور المنتظمة يفسدها الخلاف»(8).

العلم أصل كل خير

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من طلب علماً فأدركه كتب اللّه له كفلين من الأجر،

ص: 433


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 29.
2- ثواب الأعمال: 251.
3- بحار الأنوار 58: 150.
4- إرشاد القلوب 2: 335.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 235.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 524.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 464.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 63.

ومن طلب علماً فلم يدركه كتب اللّه له كفلاً من الأجر»(1).

وقال لعلي(عليه السلام): «فواللّه لئن يهدي اللّه بك رجلاً خير لك من أن تكون لك حمر النعم»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن العلم يهدي ويرشد وينجي، وإن الجهل يغوي ويضل ويردي»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قليل من العلم خير من كثير العبادة»(4).

الشعور بالمسؤولية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألّا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكم بتقوى اللّه في ما أنتم عنه مسئولون وإليه تصيرون، فإن اللّه تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(6) ويقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}(7) ويقول: {فَوَرَبِّكَ لَنَسَْٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(8) فاعلموا يا عباد اللّه، إن اللّه جلّ وعزّ سائلكم عن الصغير من عملكم والكبير»(9).

ص: 434


1- منية المريد: 99.
2- عمدة عيون صحاح الأخبار: 145.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 242.
4- بحار الأنوار 1: 185.
5- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 6.
6- سورة المدثر، الآية: 38.
7- سورة آل عمران، الآية: 28.
8- سورة الحجر، الآية: 92-93.
9- الأمالي للشيخ المفيد: 261.

دور الشباب في إنهاض الأمة

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدوة وأسوة

اشارة

قال عزّ وجلّ في كتابه العزيز: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

وقال سبحانه وتعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(2).

جاء في تفسير هذه الآية: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ} معاشر المكلّفين {فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: قدوة صالحة، يقال: لي في فلان أسوة، أي: لي به إقتداء، والأسوة من الإتساء، كما أن القدوة من الإقتداء، اسم وضع موضع المصدر. والمعنى: كان لكم برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إقتداء، لو اقتديتم به في نصرته والصبر معه في مواطن القتال، كما فعل هو يوم أُحد إذ انكسرت رباعيته(3)، وشُجَّ حاجبه، وقتل عمه، فواساكم مع ذلك بنفسه، فهلاّ فعلتم مثل ما فعله هو. وقوله: {لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ} بدل من قوله {لَكُمْ}، وهو تخصيص بعد العموم للمؤمنين، يعني: أن الأسوة برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما تكون {لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ} أي: يرجو ما عند اللّه

ص: 435


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- الرباعية: بالفتح، السن التي بين الثنية والناب من كل جانب، والجمع رباعيات بالتخفيف، وللإنسان أربع رباعيات، انظر مجمع البحرين 4: 331، مادة (ربع).

من الثواب والنعيم، عن ابن عباس. وقيل: معناه يخشى اللّه ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال(1).

فحياة الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مليئة بالدروس الأخلاقية والعبر التي ينبغي للإنسان المسلم أن يتبعها ويطبقها في سلوكه اليومي.

فمن جملة هذه الدروس التي حفظها لنا التاريخ أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حياته الشريفة، وبإخلاصه وجهده المبارك وصبره وتحمله، تمكن من نشر الفكر الإسلامي وقضى على عادات الجاهلية التي كانت متفشية حينذاك، فعمل من أجل بناء مجتمع تسوده المحبة والإخاء، واستطاع أن ينقل الإنسان المسلم إلى أعلى مراتب العلم والكمال، وأن يحدث هذا التغيير العملي العظيم في واقع المجتمع الجاهلي، الذي كان يسوده التخلف والجهل والظلم والظلام، وذلك بقوة إيمانه، وعميق فكره، وطول صبره على الأذى، حتى قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لقد أخفت في اللّه وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في اللّه وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين ليلة ويوم مالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلّا شيء يواريه إبط بلال»(2).

وعن حفص بن غياث، قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا حفص، إن من صبر صبر قليلاً، وإن من جزع جزع قليلاً - ثم قال: - عليك بالصبر في جميع أمورك؛ فإن اللّه عزّ وجلّ بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فأمره بالصبر والرفق فقال: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ}(3)، وقال تبارك وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا

ص: 436


1- تفسير مجمع البيان 8: 144.
2- حلية الأبرار 1: 351.
3- سورة المزمل، الآية: 10-11.

يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ}(1).

فصبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى نالوه بالعظائم، ورموه بها، فضاق صدره، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّٰجِدِينَ}(2).

ثم كذبوه ورموه، فحزن لذلك، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا}(3).

فألزم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نفسه الصبر، فتعدوا فذكروا اللّه تبارك وتعالى وكذبوه، فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي، ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٖ * فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ}(4)، فصبر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جميع أحواله، ثم بشر في عترته بالأئمة(عليهم السلام) ووصفوا بالصبر، فقال جلّ ثناؤه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(5)، فعند ذلك قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فشكر اللّه عزّ وجلّ ذلك له فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}(6).

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إنه بشرى وانتقام، فأباح اللّه عزّ وجلّ له قتال المشركين، فأنزل اللّه:

ص: 437


1- سورة فصلت، الآية: 34-35.
2- سورة الحجر، الآية: 97-98.
3- سورة الأنعام، الآية: 33-34.
4- سورة ق، الآية: 38­-39.
5- سورة السجدة، الآية: 24.
6- سورة الأعراف، الآية: 137.

{فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٖ}(1) {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}(2) فقتلهم اللّه على يدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأحبائه، وجعل له ثواب صبره، مع ما ادخر له في الآخرة، فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقر اللّه له عينه في أعدائه، مع ما يدخر له في الآخرة»(3).

فاستطاع(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يقضي على جميع المحاولات التي كان من ورائها إلقاء الفتن والتفرقة والاختلاف بين فئات المجتمع، حيث بيّن(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم أن المسلمين يد واحدة على من سواهم، وقوة واحدة وأخوة في اللّه، لا يفرق بين أحد منهم؛ لأنهم ما داموا يشكّلون شرائح المجتمع الإسلامي، وينصرون اللّه ورسوله، فإنه لا فرق بين غني ولا فقير، ولا كبير وصغير، ولا ضعيف وقوي إلّا بالتقوى والإيمان، وأن أكرمهم عند اللّه أتقاهم، حيث قال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(4).

وكما استطاع(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن ينقي المجتمع الإسلامي من حالة التمايز وحالة الخصوصيات الطبقية التي كانت منتشرة بين مختلف طبقات المجتمع قبل الإسلام. فمثلاً، كان الغني يظلم الفقير، والقوي يأكل الضعيف، وكان كل واحد منهم يريد سحق الآخر، وكان الشاب في العصر الجاهلي يحاول وبكل ما أوتي من قوة أن يُلغي دور كبار السن، وفي الوقت نفسه كان أولئك الشيوخ الطاعنون في السن يحاولون إلغاء دور الشباب، باعتبارهم أصحاب تجربة طويلة وحنكة في الحياة.

ص: 438


1- سورة التوبة، الآية: 5.
2- سورة البقرة، الآية: 191.
3- الكافي 2: 88.
4- سورة الحجرات، الآية: 13.

فقد قال أمير المؤمنين في خطبة له(عليه السلام): «فاللّه اللّه في كبر الحمية وفخر الجاهلية؛ فإنه ملاقح(1) الشنئان(2) ومنافخ الشيطان، التي خدع بها الأمم الماضية والقرون الخالية، حتى أعنقوا(3) في حنادس(4) جهالته ومهاوي ضلالته، ذللا(5) عن سياقه، سُلُساً في قياده، أمراً تشابهت القلوب فيه، وتتابعت القرون عليه، وكِبراً تضايقت الصدور به.

ألّا فالحذر الحذر، من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة(6) على ربهم، وجاحدوا اللّه على ما صنع بهم، مكابرة لقضائه، ومغالبة لآلائه؛ فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائم أركان الفتنة، وسيوف اعتزاء الجاهلية(7). فاتقوا اللّه ولا تكونوا لنعمه عليكم أضداداً، ولا لفضله عندكم حساداً، ولا تطيعوا الأدعياء(8) الذين شربتم بصفوكم كدرهم(9)، وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهم آساس(10) الفسوق وأحلاس(11) العقوق، اتخذهم إبليس مطايا ضلال، وجنداً بهم يصول على

ص: 439


1- المَلاقِح: الفحول التي تلقح الإناث وتستولد الأولاد.
2- الشنآن: البغض.
3- أعنقوا: من أعنقت الثريا، أي غابوا واختفوا.
4- الحنادس: جمع حندس، الظلام الشديد.
5- الذلل: جمع ذلول، من الذل، ضد الصعوبة، والسياق هنا السوق.
6- الهجينة: الفعلة المستهجنة.
7- اعتزاء الجاهلية: تفاخرهم بأنسابهم، كل منهم يعتزي أي: ينتسب إلى أبيه، وما فوقه من أجداده.
8- الادعياء: جمع دعي، وهو من ينتسب إلى غير أبيه، والمراد منهم الأخساء المنتسبون إلى الأشراف، والأشرار المنتسبون إلى الأخيار.
9- أي: خلطوا صافي إخلاصكم بكدر نفاقهم، وسلامة أخلاقكم مرض أخلاقهم.
10- آساس: جمع أساس، دعامة الشيء.
11- الأحلاس: جمع حلس، كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازماً له، فقيل لكل ملازم لشيء هو حلسه، والعقوق العصيان.

الناس، وتراجمة ينطق على ألسنتهم، استراقاً لعقولكم، ودخولاً في عيونكم، ونفثاً في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله وموطئ قدمه ومأخذ يده.

فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته ووقائعه ومثلاته، واتعظوا بمثاوي خدودهم ومصارع جنوبهم، واستعيذوا باللّه من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر، فلو رخص اللّه في الكبر لأحدٍ من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه، ولكنه سبحانه كره إليهم التكابر ورضي لهم التواضع. فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفروا في التراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، وكانوا قوماً مستضعفين، قد اختبرهم اللّه بالمخمصة، وابتلاهم بالمجهدة، وامتحنهم بالمخاوف، ومخضهم بالمكاره، فلا تعتبروا الرضى والسخط بالمال والولد، جهلاً بمواقع الفتنة والاختبار، في موضع الغنى والاقتدار، فقد قال سبحانه وتعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَٰتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ}(1) فإن اللّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم»(2).

الرسالة العظيمة والمرأة

وهكذا تجد الصراع قائماً حول المرأة، فقد كانت المرأة في ذلك العصر مغلوبة على أمرها، ومنتهكة الحقوق، مسلوبة الحرية؛ فقد كانوا لا يسمحون لها بأن تُظهر قدراتها لممارسة دورها المشروع في الحياة، والمشاركة في بناء وتطوير المجتمع، فيصف أمير المؤمنين(عليه السلام) حال العرب في الجاهلية فيقول: «فاعتبروابحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل(عليهم السلام) فما أشدّ اعتدال الأحوال

ص: 440


1- سورة المؤمنون، الآية: 55-56.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192، من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

وأقرب اشتباه الأمثال - إلى أن قال - فتركوهم عالة مساكين إخوان دَبَر ووَبَر(1)، أذل الأمم دارا، وأجدبهم قرارا، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلى ظلّ ألفة يعتمدون على عزّها، فالأحوال مضطربة والأيدي مختلفة، والكثرة متفرّقة، في بلاء أَزْل(2) وأطباق جهل، من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة وغارات مشنونة»(3)(4).

فجاء الإسلام العزيز وأكرم المرأة أيما إكرام، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان(5) عندكم»(6).

وقيل لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في حديث - : فما للنّساء على الرجال؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أخبرني أخي جبرئيل، ولم يزل يوصيني بالنساء حتى ظننت أن لا يحل لزوجها أن يقول لها: أف - فقال جبرئيل - يا محمد، اتقوا اللّه عزّ وجلّ في النساء فإنهن عوان بين أيديكم، أخذتموهن على أمانات اللّه عزّ وجلّ ما استحللتم من فروجهن، بكلمة اللّه وكتابه من فريضة وسنة وشريعة محمد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فإن لهن عليكم حقاً واجباً لما استحللتم من أجسامهن، وبما واصلتم من أبدانهن، ويحملن أولادكم في أحشائهن حتى أخذهن الطلق من ذلك. فأشفقوا عليهن، وطيبوا قلوبهن حتى يقفن معكم، ولا تكرهوا النساء ولاتسخطوا بهن، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلّا برضاهن وإذنهن»(7).

ص: 441


1- الدَبَر: القرحة في ظهر الدابة، الوَبَر: شعر الجمال والمراد أنهم رعاة.
2- بلاء أَزْل: الشدة.
3- شنَّ الغارة: صَبَّها من كل وجه.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192، من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.
5- عوان: أي أسيرات.
6- مستدرك الوسائل 14: 252.
7- مستدرك الوسائل 14: 252.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه تبارك وتعالى على الإناث أرأف منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة إلّا فرحه اللّه تعالى يوم القيامة»(3).

الابتعاد عن الروح الإسلامية

وما زال ذلك الاختلاف والتمايز الجاهلي في تلك العصور، يتغلغل بين صفوف بعض المجتمعات التي يعيش أفرادها بعيداً عن الإسلام والروح الإسلامية، فكما لا يخفى أن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قضى على حالة التفاضل بالجاه والأنساب، التي كانت منتشرة وقت ذاك، حيث قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة: «أيها الناس، إن اللّه تبارك وتعالى قد ذهب عنكم بنخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألّا إنكم من آدم وآدم من طين، وخير عباد اللّه عنده أتقاهم، إن العربية ليست بأب والد ولكنها لسان ناطق فمن قصر به عمله فلم يبلغه رضوان اللّه حسبه، ألّا إن كل دم كان في الجاهلية أو إحنة فهو تحت قدمي هاتين إلى يوم القيامة»(4).

إذ أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قام بإرساء قواعد وقوانين جديدة، على أساسها يكون التفاضل، وهي قاعدة التقوى والإيمان، وحث على المنافسة بين المسلمين في أعمال

ص: 442


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 392.
2- من لايحضره الفقيه 3: 443.
3- الكافي 6: 6.
4- معاني الأخبار: 207.

الخير والصلاح، حيث باشر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعملية المساواة بين المسلمين، وذلك عن طريق جمع شمل جميع الفئات المتنازعة والمتصارعة، وجعلها في خط واحد، وهدف مشترك، وهو خط الإسلام الصحيح ومبادئه، وبدون أن يفرّط بأحد منهم، فكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً ما يتلو على أسماعهم الآية الشريفة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1)، وكذلك دائماً يقول لهم: «ألّا أنكم وُلد آدم، وآدم من تراب، واللّه لعبد حبشي حين أطاع اللّه خير من سيد قرشي عصى اللّه»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «كان سلمان جالساً مع نفر من قريش في المسجد فأقبلوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم، حتى بلغوا سلمان فقال له عمر بن الخطاب: أخبرني، من أنت، ومن أبوك، وما أصلك؟

فقال: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه عزّ وجلّ بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، هذا نسبي وهذا حسبي.

قال: فخرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسلمان (رضي اللّه عنه) يكلمهم، فقال له سلمان: يا رسول اللّه ما لقيت من هؤلاء، جلست معهم فأخذوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم، حتى إذا بلغوا إلي قال عمر بن الخطاب: من أنت وما أصلك وما حسبك؟فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): فما قلت له يا سلمان؟

قال: قلت له: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت عائلاً فأغناني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً

ص: 443


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- تفسير القمي 2: 94.

فأعتقني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، هذا نسبي وهذا حسبي.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا معشر قريش، إن حسب الرجل دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، وقال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1) ثم قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لسلمان: ليس لأحد من هؤلاء عليك فضلٌ إلّا بتقوى اللّه عزّ وجلّ، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل»(2).

فجعل لكل فرد من أفراد المجتمع دوره الذي يؤدّيه لخدمة دينه وأمته الإسلامية، فكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحترم الشباب أمثال (علي(عليه السلام)، مصعب، أسامة، بلال) ويمجّد بمواقفهم البطولية وقدراتهم، وكان أيضاً يكرّم كبار السن، ويبين دورهم الكبير بين المسلمين.

ونتيجة لهذه المساواة، وتنظيم وتعبئة طاقات المسلمين وتوحيد صفوفهم وجهودهم، عمّت المجتمع الإسلامي آنذاك حالة رفاه عام، في مختلف مجالات الحياة، فساد الأمن والاستقرار ربوع الدولة الإسلامية.

لكنك إذا أخذت بعين الاعتبار مثل هذا الاحترام والمساواة في الحياة الغربية، فإنك ستجدها بلا شك خالية من مثل هذه العقائد النبيلة السامية؛ ولهذا كثير من الغربيين لا يحترمون كبار السن أبداً، حتى إذا كان ذلك الكبير والده أو والدته أوأحد أقربائه، بل إنه ما إن يكبر ويصبح عاجزاً عن أداء العمل تراهم يذهبون به إلى مصحات خاصة، تسمى: ب(دور العجزة) ويبقى هناك إلى أن يموت وينتهي أجله، ولا يستفيدون عادة من آرائهم وتجاربهم الحياتية الطويلة، لكونهم ينظرون

ص: 444


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الكافي 8: 181.

إلى الأشخاص بمقدار ما يمتلكون من قدرة العمل والإنتاج المادي، بينما الإنتاج المادي ليس بوحده مقياساً للشخص في الإسلام، بل إن مقياس وقيمة الشخص التي ينظر لها الإسلام عند كبار السن أو الشباب أو النساء هو مقدار التقوى والإيمان الذي يمتلكه ذلك الشخص؛ لذا فقد وردت أحاديث كثيرة تؤكد على توقير الشيوخ من الآباء والأجداد وحتى غير الأقرباء، وتحث على احترامهم ورعايتهم، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عرف فضل كبيرٍ لسنه فوقّره آمنه اللّه من فزع يوم القيامة»(1).

وعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «إن من إجلال اللّه عزّ وجلّ إجلال الشيخ الكبير»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رأي الشيخ أحب إلي من حيلة الشاب»(3).

وخلاصة الكلام، فإن رسول الهداية(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جاء إلى البشر عامة والمسلمين بوجه أخص وهو قدوة وأسوة لهم، وذلك بالنص الصريح والمحكم للقرآن الكريم. حيث قال اللّه تبارك وتعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(4).

واقع بلا أسوة

عندما ننظر إلى واقع حياتنا المعاصرة، نتساءل أين هي هذه الأسوة المباركة التي تحدث عنها اللّه في كتابه الكريم، وأمرنا بالتأسي بها؟

وأين التطبيق العملي لها؟

ص: 445


1- الكافي 2: 658.
2- الكافي 2: 658.
3- كنز الفوائد 1: 367.
4- سورة الأحزاب، الآية: 21.

إننا نتحدث عن الأسوة دائماً في كتبنا، ونتكلم بها في كل مجلس، لكن التأسي بها في الواقع الخارجي غير موجود، نرى أن هذه الآية الشريفة غدت وكأنها حبر على ورق، مع العلم بأن القرآن عندما يتطرق لمثل هذه الأمور فإنما هو لمصلحتنا، وللحفاظ على مستقبلنا وديننا وحياتنا.

إن الذي نريد الإشارة إليه هو أننا - وللأسف الشديد - فقدنا الكثير والكثير من الأعمال والأفعال التي كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتخذها أساساً وقواعد لبناء وإرساء معالم الدين الإسلامي، التي هي عبرة لكل من يعتبر على مرّ العصور وكرّ الأزمان اللاحقة، لذا يلزم أن نطبق تلك الأفعال ونجعلها دروساً نسلك بها مناهجها، حتى نستطيع التحرز من الوقوع بمطبات ومهالك، تؤثر على مستقبلنا ومستقبل أمتنا الإسلامية.

لكن الذي نراه في هذا الوقت، أن بعضنا قد أصبح متأسياً ومتبعاً لعادات وتقاليد الحياة الغربية، لا الحياة الشريفة لرسولنا الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمتنا القادة الهُداة الطاهرين(عليهم السلام).

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يختار الشباب الصالحين

اشارة

لقد كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يختار الشباب المؤمنين الصالحين، ويجعلهم في بعض المناصب والوظائف الحساسة، لإدارة ما يرتبط بالأمة الإسلامية؛ والسبب في ذلك الاختيار يرجع إلى عدة أمور:

أولاً: لأن الشاب في بداية شبابه يشعر بأن له قوة عظيمة تمكنه أن يكون مؤثراًفي العالم، وله القابلية على العمل والإبداع، وهو ذو حب كبير للنشاط والخدمة، واستعداد دائم للتضحية من أجل أفكاره وآرائه، ويحاول أن يضحّي بنفسه من أجلها، فإنه عادة لايتشبّث بالحياة كثيراً كالرجل الكبير؛ لأن طبيعة الإنسان كل ما

ص: 446

طال بقاؤه في الدنيا ازداد حرصاً وطمعاً فيها، وكما جاء في حديث الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال: «يهرم ابن آدم وتشبّ منه اثنتان: الحرص والأمل»(1).

أما كثير من الشباب فتقل فيهم هذه الحالات عادة.

ثانياً: في مرحلة الشباب يشعر الشاب بتفتح عقله، وكذلك يشعر بأن مواهبه تتفجّر، حيث يبدأ بالتفكير الدقيق، فتشخص في ذهنه الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام عن الحياة والمجتمع، والتي لا بد له من تحصيل الإجابة عليها؛ لذلك نراه يقوم بالبحث عن الأجوبة، ولو كلّف ذلك حياته أحياناً، فتراه مستعداً لأن يعتنق الفكرة الجديدة التي ينسجم معها أحياناً مهما كانت خطورتها ومصاعبها.

وإننا إذا راجعنا التاريخ متتبعين فيه حياة الأنبياء(عليهم السلام) يتبين لنا أن العديد من الرسالات السماوية إنما قامت على أكتاف الشباب، فهم الذين كانوا يتسابقون إلى الإيمان بالدين وتقبل تلك الأفكار الجديدة، وكانوا على أهبة الاستعداد دائماً للتضحية في سبيل هذه المبادئ القيمة.

فمثلاً: نبي اللّه نوح(عليه السلام) حينما أعلن دعوته التوحيدية في ذلك المجتمع المنحل، من الذي استجاب له ونصره؟ ومن الذي لبّى نداءه، وهو نداء الحق؟

نجد أن الذي تجاوب معه(عليه السلام) هم مجموعة من الشباب الفقراء المؤمنين،الذين سارعوا لنصرة نوح(عليه السلام) والإيمان بما جاء به من الحق، أما بقية قومه وهم كثرة، فإنهم ظلوا على كفرهم، ولم يؤمنوا به، ولم يكتفوا بهذا، بل كانوا ينتقصون منه(عليه السلام) ومن أتباعه، ويقولون لهم: أنتم مجموعة من الشباب الفقراء الخاملي الذكر في المجتمع، كما ورد في القرآن الكريم حيث قال عزّ وجلّ: {مَا نَرَىٰكَ إِلَّا

ص: 447


1- إرشاد القلوب 1: 39.

بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}(1).

وعندما صدع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالدين الجديد والأفكار الإسلامية الجديدة، نرى أن الذين سارعوا إلى الإيمان به(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واعتنقوا الدين الجديد كان منهم ثلة ومجموعة من الشباب، فأول من آمن وأسلم هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) والذي كان عمره لا يتجاوز العشر سنين(2)، وكان منهم جعفر بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، ومصعب بن عمير، وبلال الحبشي، ومعاذ بن جبل، وزيد وغيرهم(3)... وهذا سبب من أسباب عديدة وقع بموجبها اهتمام الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالشباب وتحميلهم مسؤوليات كبيرة في أمور الدولة الإسلامية.

روي عن إسماعيل بن عبد الخالق قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع: «أتيت البصرة؟».

فقال: نعم.

قال:«كيف رأيت مسارعة الناس في هذا الأمر ودخولهم فيه؟».

فقال: واللّه إنهم لقليل، ولقد فعلوا، وإن ذلك لقليل.

فقال: «عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى كل خير...»(4).

ويقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «أَي بني، إني لما رأيتني قد بلغت سناً ورأيتني أزداد وهناً بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً منها، قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا؛ فتكون كالصعب النفور، وإنما

ص: 448


1- سورة هود، الآية: 27.
2- انظر بحار الأنوار 35: 43.
3- لا يخفى أن كل هؤلاء الصحابة قد أسلموا في بداية الدعوة المحمدية وأغلبهم لايتجاوز عمره العشرين عاماً.
4- الكافي 8: 93.

قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك؛ لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه، واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه»(1).

طاقات الشباب

عندما يمر الإنسان بمرحلة الشباب تتفجر طاقاته العقلية والبدنية وتتفتق مواهبه، وكل ذلك يؤهله ويشجعه لكي يقوم بدور ما في المجتمع. فإذا فسحنا المجال للشاب لأن يمارس دوراً اجتماعياً، ووجهناه الوجهة المناسبة والملائمة له للقيام بدور صالح مفيد في المجتمع، يساعده على بناء شخصيته، وينمي فيه كفاءاته، ويزوده بالخبرة الاجتماعية، نكون قد أحسنّا الاستفادة من ملابسات مرحلة الشباب ومميزاتها.

وإن لم نهتم بهذه المسالة، ولم نفسح المجال للشباب في ممارسة رغبته المشروعة بأداء دور اجتماعي ضمن توجيه صالح، فستكون النتيجة أحد أمرين: إما أن تخمد طاقات الشاب وتقتل مواهبه وتدفن طموحاته، وإما أن يبادر إلى ممارسة أدوار منحرفة ويقوم بأعمال فاسدة.

لذا يلزم تعليمهم وتوجيههم الوجهة الصحيحة، وفي هذا قال الإمامالباقر(عليه السلام): «لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه لأدبته»(2).

لا لقياس العمر

لعل أكثر المجتمعات الحالية - وهذا ما يؤسف له - بما في ضمنها بعض المجتمعات الإسلامية ما زالوا يقيّمون الإنسان بمقياس العمر والزمن... وما دام

ص: 449


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له، للحسن بن علي(عليهما السلام).
2- المحاسن 1: 228.

الشباب لم يقطعوا من الحياة إلّا مسافة قصيرة فإن مجتمع الكبار لا ينظر إليهم نظرة ثقة واحترام - في بعض الأحيان - ولا يفسح لهم مجال التحرك والنشاط، على العكس من المقياس الذي اتخذه الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حياته الشريفة، فقد أعلن(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رفض الإسلام لمقياس العمر والسن، وجعل المقياس الصحيح هو التقوى والعمل والكفاءة والقدرة على الإبداع، فكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يختار من بين أفراد المجتمع الإسلامي الطاقات المتفجرة، ويولّيهم إدارة وقيادة المسلمين.

فقد ولّى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عتاب بن أسيد على مكة وعمره ثمانية عشر سنة، حيث روي عن الإمام السجاد(عليه السلام) قال: «لما بعث اللّه محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة وأظهر بها دعوته، ونشر بها كلمته، وعاب أديانهم في عبادتهم الأصنام، وأخذوه وأساؤوا معاشرته، وسعوا في خراب المساجد المبنية كانت لقوم من خيار أصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشيعته وشيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام). كان بفناء الكعبة مساجد يحيون فيها ما أماته المبطلون، فسعى هؤلاء المشركون في خرابها، وأذى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسائر أصحابه، وألجاؤه إلى الخروج من مكة إلى المدينة، التفت خلفه إليها فقال: اللّه يعلم أني أحبك، ولو لا أن أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً، ولا ابتغيت عنك بدلاً، وإني لمغتم على مفارقتك. فأوحى اللّه تعالى إليه: يا محمد، إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، ويقول: سأردك إلى هذا البلدظافراً، غانماً، سالماً، قادراً، قاهراً، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖ}(1) يعني: إلى مكة ظافراً غانماً.

وأخبر بذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه، فاتصل بأهل مكة فسخروا منه، فقال اللّه تعالى لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): سوف أظهرك بمكة، وأجري عليهم حكمي، وسوف أمنع

ص: 450


1- سورة القصص، الآية: 85.

عن دخولها المشركين حتى لايدخلها منهم أحد إلّا خائفا، أو دخلها مستخفياً من أنه إن عثر عليه قتل. فلما حتم قضاء اللّه بفتح مكة استوسقت له، أمّر عليهم عتاب بن أسيد، فلما اتصل بهم خبره قالوا: إن محمداً لا يزال يستخف بنا؛ حتى ولى علينا غلاماً حديث السن ابن ثماني عشرة سنة، ونحن مشايخ ذوو الأسنان، خدام بيت اللّه الحرام وجيران حرمه الأمن، وخير بقعة له على وجه الأرض.

وكتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعتاب بن أسيد عهداً على أهل مكة، وكتب في أوله:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جيران بيت اللّه وسكان حرم اللّه، أما بعد:

فمن كان منكم باللّه مؤمناً، وبمحمد رسول اللّه في أقواله مصدقاً، وفي أفعاله مصوباً، ولعلي أخي محمد رسوله وصفيه ووصيه وخير خلق اللّه بعده موالياً، فهو منا وإلينا. ومن كان لذلك أو لشيء منه مخالفاً، فسحقاً وبعداً لأصحاب السعير، لا يقبل اللّه شيئاً من أعماله وإن عظم وكثر، ويصليه نار جهنم خالداً مخلداً أبداً. وقد قلد محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عتاب بن أسيد أحكامكم ومصالحكم، قد فوض إليه تنبيه غافلكم، وتعليم جاهلكم، وتقويم أود مضطربكم، وتأديب من زال عن أدب اللّه منكم؛ لما علم من فضله عليكم من موالاة محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن رجحانه في التعصب لعلي ولي اللّه، فهو لناخادم، وفي اللّه أخ، ولأوليائنا موال، ولأعدائنا معاد، وهو لكم سماء ظليلة، وأرض زكية، وشمس مضيئة، وقمر منير، قد فضله اللّه تعالى على كافتكم بفضل موالاته ومحبته، لمحمد وعلي والطيبين من آلهما. وحكمته عليكم، يعمل بما يريد اللّه فلن يخليه من توفيقه، كما أكمل من موالاة محمد وعلي شرفه وحظه، لا يؤامر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا يطالعه، بل هو السديد الأمين، فليعمل المطيع منكم، وليف بحسن معاملته، ليسر بشريف الجزاء، وعظيم الحباء، وليوفر

ص: 451

المخالف له بشديد العقاب، وغضب الملك العزيز الغلاب. ولا يحتج محتج منكم في مخالفته بصغر سنه؛ فليس الأكبر هو الأفضل، بل الأفضل هو الأكبر، وهو الأكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا ومعاداة أعدائنا، فلذلك جعلناه الأمير لكم والرئيس عليكم، فمن أطاعه فمرحباً به، ومن خالفه فلا يبعد اللّه غيره.

قال: فلما وصل إليهم عتاب، وقرأ عهده، وقف فيهم موقفاً ظاهراً، ونادى في جماعتهم حتى حضروه، وقال لهم: معاشر أهل مكة إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رماني بكم شهاباً محرقاً لمنافقيكم، ورحمة وبركة على مؤمنيكم، وإني أعلم الناس بكم وبمنافقيكم، وسوف آمركم بالصلاة فيقام لها، ثم أتخلف أراعي الناس، فمن وجدته قد لزم الجماعة التزمت له حق المؤمن على المؤمن، ومن وجدته قد قعد عنها فتشته، فإن وجدت له عذراً أعذرته - إلى أن قال - فأما بعد، فإن الصدق أمانة، والفجور خيانة، ولن تشيع الفاحشة في قوم إلّا ضربهم اللّه بالذل، قويكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، وضعيفكم عندي قوي حتى آخذ له الحق، اتقوا اللّه وشرفوا بطاعة اللّه أنفسكم، ولا تذلوها بمخالفة ربكم.

ففعل واللّه كما قال، وعدل وأنصف وأنفذ الأحكام، مهتدياً بهدى اللّه، غيرمحتاج إلى مؤامرة ولامراجعة»(1).

نعم، حينما نطالع سيرة قادة الإسلام وتاريخهم المشرّف، نراهم يتعاملون مع الشباب بتشجيع واحترام، ويمنحون ذوي الكفاءة منهم ثقة عظيمة، ويحمّلونهم مسؤوليات خطيرة.

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعيّن أسامة قائداً للجيش

كذلك في آخر حياة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الشريفة هيأ جيشاً كبيراً فيه أكابر الصحابة

ص: 452


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 554.

وشيوخ المسلمين لحرب الروم، وجعل قيادة ذلك الجيش لتلك المعركة الخطيرة، بيد أسامة بن زيد، وهو شاب لم يبلغ العشرين من العمر... وقد كان من ضمن الجيش الخاضع لقيادة أسامة الشاب: أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير... وأمثالهم. وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكرراً: «أنفذوا جيش أسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه»(1).

وقد ذكر المؤرخون أن أسامة كان ذكياً منذ صغره ومقداماً، وكان عمره اثنتي عشرة سنة عندما تقدم للتطوع في غزوة أحد(2).

موقعة حنين

وهكذا كان الشباب المؤمنون لهم الدور البارز في التاريخ الإسلامي. ففي موقعة حُنين حينما انهزم جيش المسلمين لم يثبت إلّا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعشرة من المسلمين، كان أحد أولئك الثابتين الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وبعض أولاد العباس، فقد روي: لما كانت غزوة حنين، فاستظهر فيها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكثرةالجمع فخرج ومعه عشرة آلاف من المسلمين، فظن أكثرهم أن لن يغلبوا؛ لما شاهدوا من كثرة جمعهم وعددهم وعدتهم، وأعجب أبا بكر الكثرة يومئذ فقال: لن يغلب اليوم من قلة، فكان الأمر بخلاف ما ظنوه وعانهم أبو بكر، فلما التقوا لم يلبثوا وانهزموا بأجمعهم، ولم يبق مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلّا تسعة من بني هاشم وعاشرهم أيمن ابن أم أيمن وقتل رحمه اللّه، وثبت التسعة الهاشميون ورجعوا بعد ذلك وتلاحقوا وكانت الكرة لهم على المشركين، فأنزل اللّه في إعجاب أبي بكر بالكثرة: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَئًْا وَضَاقَتْ

ص: 453


1- بحار الأنوار 30: 430.
2- المغازي 1: 216.

عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(1) يريد علياً(عليه السلام) ومن ثبت معه من بني هاشم: أمير المؤمنين(عليه السلام) وثمانية: العباس بن عبد المطلب عن يمين رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ والفضل بن العباس عن يساره، وأبو سفيان بن الحارث ممسك بسرجه عند نفر بغلته، وأمير المؤمنين بالسيف بين يديه، ونوفل بن حرث، وربيعة بن الحرث، وعبد اللّه بن الزبير بن عبد المطلب، وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب حوله(2).

مصعب بن عمير

كانت الأخلاق التي يحملها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها الأثر البالغ والمشجِّع على دخول الناس في الإسلام، وكما وصفه الباري في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(3). وكان من ضمن هؤلاء الذين تأثروا بأخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاعتنقوا الإسلام الشاب مصعب بن عمير، فقد تأثر بأخلاق الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والصفات الحميدة التي يحملها تأثراً كبيراً، وانجذب إليها انجذاباً شديداً، دون أن يبالي

ص: 454


1- سورة التوبة، الآية: 25-26.
2- كشفة الغمة 1: 221، ذكر الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وفي ذلك يقول مالك بن عبادة الغافقي: لم يواس النبي غير بني *** هاشم عند السيوف يوم حنين هرب الناس غير تسعة ورهط *** فهم يهتفون بالناس أين ثم قاموا مع النبي على الموت *** فأبوا زيناً لنا غير شين وثوى أيمن الأمين من *** القوم شهيداً فاعتاض قرة عين وقال العباس بن عبد المطلب في هذا المقام: نصرنا رسول اللّه في الحرب تسعة *** وقد فر من قد فر عنه فاقشعوا وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه *** على القوم أخرى يا بني ليرجعوا وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه *** لما ناله في اللّه لا يتوجع يعني به أيمن ابن أم أيمن.
3- سورة القلم، الآية: 4.

بردود الفعل التي سيواجهها من قومه، وهذه هي طبيعة الشباب الذين يمتلكون الصفاء الروحي.

بينما بعض كبار السن قد لا يؤمل منهم ذلك؛ لكونهم كبروا في الأجواء الفاسدة، بحيث يصعب قلع تلك الحالات والصفات التي انغرست في نفوسهم.

فمصعب (رضوان اللّه عليه) ذلك الشاب الذي تمتع بصفاء روحي، اعتنق الإسلام بكل روحه وجوانحه، ولم يبال بما سيحدث له من المشاكل والضغوط بسبب ذلك التعصب الجاهلي الذي كان والداه يحملانه. ففي بداية إسلامه أخفى دينه، وكان مجبراً على ذلك؛ لكون الذين أسلموا قبله كانوا يلاقون أنواع الأذى والعذاب من مشركي قريش وأتباعهم. وفي أحد الأيام وعندما كان يصلي، وإذا بأحد المشركين يشاهده وهو في حالة الصلاة، فأخذ ذلك المشرك ينقل ما شاهده من ذلك المشهد - العجيب في نظره - إلى والدي مصعب، فلما سمعابذلك الخبر وتيقنا بأن ولدهما قد دخل في الدين الجديد، الذي جاء به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تألما كثيراً؛ لكونهما كانا يصفان الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاتهامات والأكاذيب الباطلة، فكيف الآن وهما يريان ولدهما قد انضم إلى دين ذلك الرجل الذي كانا يتهمانه بالأباطيل ومختلف التهم.

فقاما بنصحه بترك هذا الدين، وعدم الالتقاء بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولكن ولدهم الشاب لم يتزلزل إيمانه، فأخذا يفكران بطريقة أخرى علّهما يجعلان مصعباً بعيداً عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فسجناه وحرماه من كل النعم والملذات التي كان فيها، ولكنه لم يبال ولم يتنازل عن عقيدته التي تمسك بها، وكان مستعداً لأن يضحي حتى بنفسه في سبيل إيمانه.

ص: 455

رسول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

في أحد الأيام جاء رجلان من قبيلة الخزرج إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكان أحدهما يسمى: ابن زرارة، والثاني: عبد قيس، وقد أقبلا من المدينة فدخلا مكة على حين غفلة من أهلها الذين كان أكثرهم كفاراً، فلمّا حضرا عند الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أوضحا له بأنهما يريدان إنهاء حالة الحرب التي كانت قائمة بينهم وبين القبائل الأخرى، والتي دامت أكثر من مائة سنة، فعرض عليهما رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإسلام، فأسلما، ثم طلبا من الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يرسل معهما إلى المدينة شخصاً من المسلمين ليدعو أهل المدينة إلى الإسلام، وبالفعل استجاب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لطلبهما، فأرسل معهما مصعب بن عمير إلى المدينة.

وكان في المدينة آنذاك ما يقارب العشرة آلاف نسمة، وكانت معيشتهم قاسية، حيث كان اقتصادهم يعتمد على الزراعة فقط، وبالإضافة إلى ذلك كان اليهود يمتلكون قدرة كبيرة من الناحية الاقتصادية، علاوة على ما طبعوا عليه من نشرالمفاسد الأخلاقية والجنسية كيفما شاؤوا، أينما حلوا وارتحلوا، وذلك لجلب الناس إليهم، لتكون لهم السيادة عليهم.

فبسبب هذه الظروف الشديدة كان يمكن لمصعب (رضوان اللّه عليه) أن يختار القرى المجاورة للمدينة، لينطلق منها في عمله التبليغي بدل المدينة، ولكن مع هذا نراه يذهب إلى المدينة، ويجعلها محطته الأولى في عمله الرسالي، متحملاً المصاعب الجسام؛ كل ذلك في سبيل اللّه تعالى، ولكونه قد آمن بالإسلام، ومن آمن بالإسلام والعقيدة الصالحة حق الإيمان فإنه يبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس، وتسهل أمامه الصعوبات والمهمات.

دخل مصعب المدينة، وكأنه رحمة من اللّه قد نزلت على أهلها، وبالفعل كان مصعب رحمة لهم، وذلك لما يحمل في نفسه من نفحات الإيمان والهدى،

ص: 456

مضافاً إلى جمال سيرته وصورته وصوته، فأخذ يدعو الناس إلى الإسلام، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، مبيناً لهم خصائص وامتيازات الدين الجديد، فكان الناس يجتمعون عنده ويسلمون على يديه. وكلما كانت تخرج جماعة منه إلّا وتأتي جماعة أخرى، حتى أنه لم يبق بيت في المدينة إلّا وقد دخله الإسلام؛ وذلك الإقبال الكبير من قبل أهالي المدينة على الإسلام يرجع إلى أنهم كانوا يمتلكون نفوساً طيبة وصافية، فاستطاع مصعب الشاب أن ينفذ إلى نفوسهم، وأن يُدخل في قلوبهم الإيمان بسرعة، بالإضافة إلى عمله الدؤوب وقدرته على إدارة الأمور، وامتلاكه للأخلاق العالية، كل هذه الأمور أدّت بأهل المدينة لأن يختاروا الإسلام على معتقداتهم القديمة.

وهكذا ذهبت الأحقاد والأضغان التي كانت في قلوبهم في ما بين الأوس والخرزج، وذلك بسبب توجههم الإيماني، كما قال اللّه في كتابه الكريم:{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(1).

فقد ورد: إن المراد ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة، إلى أن ألف اللّه بين قلوبهم بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد(2).

واستطاعوا أن يحفظوا الكثير من الآيات المباركة والسور القرآنية، وكانوا يصلّون جماعة في صفوف متراصة، وإذا ما ظهر أحد يحتاج إلى مساعدة ومعونة كانوا يسعون لقضاء حوائجه، وكانت حالة الصفاء والتقوى والعلم هي المعيار والمقياس الأساسي الذي يتميز به الأشخاص.

ص: 457


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- انظر مجمع البيان 2: 357.
استشهاد مصعب بن عمير

شارك مصعب بن عمير مع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في معارك كثيرة وكان فارساً شجاعاً لا يهاب شيئاً، وآخر معركة شارك بها مع الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي معركة أُحد، وكان ممن حمل الراية في يوم أُحد، وعندما نشبت المعركة، واشتد القتال بين المعسكر الإسلامي ومعسكر المشركين، شعر مصعب بأن الشهادة قد اقتربت إليه وكان يتمنى ذلك اليوم الذي يستشهد فيه في سبيل اللّه؛ ولهذا فإنه توجه إلى اللّه تعالى ودعاه بأن لا تسقط الراية من يده حتى بعد استشهاده، وبالفعل قد استجاب دعاءه فعندما حان وقت استشهاده، وكانت المعركة قد ألهبت نيرانها، بعث اللّه عزّ وجلّ ملكاً من الملائكة إلى الأرض، وكان هذا الملك قد نزل وهو في صورة مصعب بعد أن سقط مصعب شهيداً على الأرض، فأخذ الملك الراية من يد مصعب وحملها إلى أن انتهت الحرب.

وبعد أن خمد لهيب الحرب سأل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أحوال مصعب؟ فأجابهالمسلمون بأنه ما زال على قيد الحياة، وأنه ما زال يحمل الراية بيده فلم تسقط الراية من يده منذ بداية الحرب إلى انتهائها، فطلب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يحضره عنده، عندها تقرّب الملك الذي نزل بصورة مصعب قائلاً: يا رسول اللّه إني ملك من الملائكة جئت بأمر اللّه عزّ وجلّ وحملت الراية بدلاً من مصعب؛ لأن مصعب قبل أن يستشهد دعا ربه بأن لا تسقط الراية من يده، فاستجاب له ربه فأمرني أن أهبط إلى ساحة المعركة، وأحمل الراية بدلاً من مصعب، هذا حسب بعض التواريخ(1)، وفي بعض الروايات روي: إن مصعب عندما استشهد أعطى الرسول

ص: 458


1- انظر بحار الأنوار 20: 143، والمغازي 1: 234.

الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اللواء إلى الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)(1).

ذو البجادين

كان عبد اللّه ذو البجادين(2) شاباً من إحدى القبائل القاطنة في أطراف المدينة المنورة، مات أبوه - رئيس القبيلة - وتولى الرئاسة عمه الذي كانت له بنت جميلة وكان صاحب ثروة عريضة وزعامة على القبيلة. هذا الشاب كان مرشحاً لأن يكون زوجاً للفتاة، وأن يرث الزعامة والمال والمكانة الاجتماعية المميزة بعد عمه.

كان هذا الفتى يذهب إلى المدينة كل شهر لأجل شراء ما تحتاجه القبيلة، وذات مرة وأثناء جولته في المدينة رأى رجلاً يخطب في ساحة تحيط بها جدرانأربعة على مجموعة من الناس، وقف يسمع، جذبته الخطبة، سأل رجلاً: من الخطيب، ومن المستمعون؟

أجابه الرجل: الخطيب، محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والجالسون هم المسلمون، وهذا المحوطة مسجد بناه المسلمون.

رجع الشاب إلى قبيلته، وفي الشهر التالي عاد إلى المدينة للاشتراء وذهب إلى المسجد للاستماع، وفي المرة الثالثة والرابعة كان يحس بأنه ينجذب أكثر فأكثر نحو هذا النبي العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وفي أحد الأيام خاطب عمه قائلاً: يا عم، لماذا نشتري كل شهر مرة، فلنشتر كل أسبوع مرة؛ حتى تكون البضائع والمواد التي نشتريها جديدة، وقبل العم،

ص: 459


1- انظر بحار الأنوار 20: 144، وروي: أعطى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اللواء مصعب بن عمير يوم أحد فاستشهد ووقع اللواء من يده، فتشوفته القبائل، فأخذه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدفعه إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام) فجمع له يومئذ الراية واللواء، فهما إلى اليوم في بني هاشم. الإرشاد 1: 79.
2- عبد اللّه بن عبد نهم بن عفيف المزني، صحابي راجز.

وهكذا أصبح باستطاعة الشاب أن يستمع إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كل أسبوع مرة واحدة، وبعد مدة أسلم الشاب، فجاء إلى عمه قائلاً: يا عم، قد أسلمت.

فقال العم: أصبوت إلى دين محمد؟

قال: إن دين محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الإسلام لا انحراف فيه.

قال العم: يا بني لو أصررت على إسلامك فلن أزوجك ابنتي.

أجابه الشاب: هذا هين، لا رغبة لي في النساء.

قال له العم: وسوف أمنعك من دخول بيتي.

أجابه الشاب: إن ذلك سهل، فأرض اللّه واسعة.

قال له عمه: سأحرمك من الثروة.

أجابه: إن الثروة مال فانٍ وزائل.

فقال: ستحرم عن رئاسة القبيلة.

أجابه الشاب: إنني لا أريد الزعامة.

فقال له عمه: يجب عليك أن تنفصل عن قبيلتنا.أجابه: سوف أخرج.

فقال له العم: وعليك أن تنزع كل ملابسك وتعطيها لي.

أجابه: لا بأس.

فجرده عمه القاسي من كل ملابسه وتركه عارياً، ولما رأته أمه عارياً أشفقت عليه وأعطته بجاداً(1) شقّه نصفين، وجعل نصفه إزاراً والنصف الآخر مئزراً ولبسهما، ثم اتجه نحو المدينة المنورة ووصلها ليلاً - وليس معه أي شيء - واتجه نحو المسجد ونام الليل فيه، وعندما جاء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى صلاة الصبح،

ص: 460


1- كساء من أكسية العرب مخطط.

رأى شاباً غريباً فسأله: «من أنت؟».

فذكر له الشاب اسمه الجاهلي: عبد العزى.

فقال له الرسول: «إن اسمك هو عبد اللّه ذو البجادين».

وبدأ الشاب يأتمر بأوامر الإسلام وكان من خيرة المسلمين حتى استشهد في إحدى المعارك(1).

فما الذي غير شخصية عبد اللّه ذي البجادين، وأحدث انقلاباً في ضميره؟

إن الذي تغيّر في هذا الشاب هو معرفته بالدين الجديد العظيم، الذي تنجذب إليه النفوس البريئة والنظيفة غير المتطبعة على الانحراف.

الشباب والعمل التنظيمي

اشارة

وهنا لا بأس بالإشارة إلى نقطة مهمة في أمر الشباب، وذلك من باب التذكرة، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(2)، لذا فمن الضروري العملبذلك في سبيل إنقاذ المسلمين وهو:

تنظيم الشباب

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لولديه الإمامين الحسن المجتبى والحسين الشهيد (صلوات اللّه عليهما): «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى اللّه ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم فإني سمعت جدكما(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام اللّه»(3).

لا بد للمسلمين من التنظيم؛ إذ عليهم أن يؤسسوا تنظيمات صالحة لكي تقوم

ص: 461


1- انظر أسد الغابة 3: 122.
2- سورة الذاريات، الآية: 55.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام).

بتنظيم الشباب ورعايتهم، لأنهم إذا لم يفعلوا ذلك فسيأتي غيرهم من مروجي الأحزاب الفاسدة والمنحرفة، فينظمهم ويرسّخ في أذهانهم أفكار منحرفة ومزيفة، وقد تكون أساساً أحزاباً ضد الإسلام، وهذا ما شاهدناه بالفعل في بعض بلادنا(1).

فإن الشاب يمتلك أماني وطموحات وأهداف كبيرة، وهو يحث الخطى في أغلب الأحيان لتحقيقها، وكذلك عنده حاجيات ومتطلبات، يحاول ويجهد نفسه أن يقضيها. لذا فمن الضروري أن نهتم بتنظيم الشباب تنظيماً حسب الموازين العلمية والشرعية، وحسب متطلبات العصر(2).

ويلزم أن يكون التنظيم عملياً بكل أبعاده، في خلاياه الحزبية والسياسية والثقافية والاجتماعية، فمثلاً: يلزم التأكيد على أهداف ومبادئ مهمة أكد عليهاالإسلام، منها:

مبدأ الحرية، حيث قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(3).

ومبدأ الأمة الواحدة؛ حيث قال سبحانه: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(4) وقال عزّ وجلّ: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(5).

ص: 462


1- كما حصل في العراق وأفغانستان وما أشبه؛ حيث روجوا فيهما لأحزاب وأفكار عديدة كالقومية والشيوعية والبعثية والاشتراكية والرأسمالية وغيرها، وهي أحزاب ومبادئ منحرفة عن الإسلام وتهدف إلى التخلي عن الإسلام تحت مسميات عديدة، وتنعت الملتزمين به بالرجعيين والمتخلفين، وما إلى ذلك.
2- للتفصيل انظر كتاب (نحو يقظة إسلامية) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه)، و(الفقه) كتاب الدولة الإسلامية.
3- سورة الأعراف، الآية: 157.
4- سورة الأنبياء، الآية: 92.
5- سورة المؤمنون، الآية: 52.

ومبدأ الأخوة؛ حيث قال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1).

كما يجب التأكيد على ترسيخ مبدأ اللاعنف والرفق - الذي هو من صميم الإسلام - في صفوف التنظيم وبين الشباب المسلم، فقد قال اللّه تعالى:

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ}(2).

وورد في الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «إن الرفق لم يوضع على شيء إلّا زانه، ولا نزع من شيء إلّا شانه»(3).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن لكل شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق، فمن رفقه بعباده تسليله أضغانهم، ومضادتهم لهواهم وقلوبهم، ومن رفقه بهم أنه يدعهم على الأمر يريد إزالتهم عنه رفقاً بهم؛ لكيلا يلقي عليهم عرى الإيمان ومثاقلتهجملة واحدة فيضعفوا، فإذا أراد ذلك نسخ الأمر بالآخر فصار منسوخاً»(5)، لذا يلزم زرع هذه المبادئ في نفوسهم، والتعاون على تطبيقها.

وكذلك يلزم العمل على ترسيخ مبدأ عدم وجود الحدود الجغرافية في ما بين البلاد الإسلامية، ولأنه مبدأ الإصلاح الحكيم، فيلزم عليهم أن يغيروا المحيط الفاسد بما يقتضيه الشرع، لا أن ينخرطوا في المحيط ويذوبوا فيه فإنه تبارك وتعالى قال: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(6).

ص: 463


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سورة فصلت، الآية: 34-35.
3- الكافي 2: 119.
4- الكافي 2: 118.
5- الكافي 2: 118.
6- سورة المؤمنون، الآية: 52.
من لوازم التنظيم

إذا كان التنظيم يتوقف على السرية والكتمان؛ لبعض الظروف التي تعيشها البلاد الإسلامية من سيطرة الطغاة والدكتاتوريين فلا بأس بذلك، فإنه يلزم أن يكون الأمر سراً في ما يقتضي السّرية، فقد ورد في الحديث الشريف: «واستعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان»(1).

ومن الواضح أن في حياة الإنسان - فرداً وجماعة - أسرار خاصة وعلاقات متمايزة، لا يحب أو لا يصلح أن يطلّع عليها أحد من الناس، فإنه لا تخلو حياة الإنسان من أسرار ذات علاقة بعائلته ورزقه وعمله وعيشه، فحياة الإنسان مهما كانت جليّةً وواضحة، منطوية - عادة - على أمور من الأفضل أو اللازم أن لا يطّلع عليها أحد، وقد قال سبحانه: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِ حَدِيثًا}(2) الآية.

وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا أراد الحرب أخفى توقيتها؛ حتى لايعرف العدو فيأخذ حيطته وحذره فتكون الحرب أشد، أو قد تسبب خسارة المسلمين للحربوبالتالي وقوع عدد كبير من الضحايا. وقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخفى نية فتحه لمكة المكرمة؛ وذلك حذراً من إراقة الدماء في قصة مفصلة دونها التاريخ(3).

وقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلًا}(4).

ص: 464


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 127.
2- سورة التحريم، الآية: 3.
3- انظر بحار الأنوار 21: 102، وفيه قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها».
4- سورة النساء، الآية: 83.

وهكذا نجد أن السرّية في الجملة لازمة بالنسبة إلى أمثال هذه الأمور في العديد من المؤسسات على تباين أعمالها واختلاف تخصصاتها، سواء المؤسسة الكبيرة المديرة التي تسمى بالحكومة أو الحزب الحاكم، أو المؤسسة الصغيرة. فإنه للمخترعين والمكتشفين أسرار يحبّون أن تُصان ويلجئون لحمايتها بأخذ حق الاختراع؛ حتى لا يسطو عليه أحد ولا يدّعيه آخرون. وكذلك أسرار في الصحافة ودور النشر والتوزيع وما أشبه، حيث يسعى أصحابها إلى كتمانها حرصاً على حمايتها من التراجع والتأخر، وهكذا المؤسسات الهندسية ومكاتب التعهدات والمؤسسات التجارية التي ينافسها غيرها في السوق، بل وحتى للطهاة والطّباخين وصانعي الحلويات وما أشبه أسرارهم الخاصة، كما يُشاهد أيضاً أن للمرضى أسراراً عند أطبائهم لا يحبّون أن يطلّع عليها أحد.

فيصحّ إذن أن يكون للتنظيم الذي يدار من جهة القيادة الصحيحة الشرعية أسراره الخاصة في حقولهم المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليس معنى ذلك أنهم يريدون الإيقاع بالآخرين أو المؤامرة على الدولة، أو ما أشبه ذلك.

من هم قادة الشباب؟

ثم إن اللازم على التنظيم أن يقدم للشباب قادة صلحاء فيلزم أن يكون التنظيم بيد القادة الناضجين الذين يخافون اللّه عزّ وجلّ واليوم الآخر، ويحبّون الناس شيوخاً وشباباً، ويسعون في هدايتهم إلى الخير، فإن هذا من أهم ما يلزم تأسيسه لإدارة أمور الشباب، وبذلك يتمكنون من اطّراد العمل الصالح باستقامة وتقدم وعلو، فإن: «يد اللّه مع الجماعة»(1) والقوى إذا اجتمعت بعضها إلى بعض تأتي

ص: 465


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 127، من كلام له(عليه السلام) وفيه يبيّن بعض أحكام الدين.

بشبه المعجز في السعة والعلو والعمق، كما قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في آخر وصية له:

«أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى اللّه ونظم أمركم»(1)، وقبل ذلك قال تبارك وتعالى: {مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْزُونٖ}(2).

فإن اللّه سبحانه وتعالى خلق الخلق من الذرة، أو الأصغر منها، إلى المجّرة أو الأكبر منها بكل دقة وتنظيم ووزن، حتى أن الأمر إذا زاد أو نقص عن حده التكويني أو التشريعي أوجب اضطراباً متزايداً أو في الجملة.

والإنسان إذا رأى النملة الصغيرة جداً يرى الموزونية الشاملة والنظم الدقيق في جميع أعضائها وجوارحها ومتطلباتها وشهواتها، فإذا كانت رجلها - مثلاً - عوجاء ناقصة أوجبت لها تعرجاً واضطراباً، وهكذا، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(3).

القائد الناجح والشباب

نقل لي أحد المراجع عن قائد ثورة العشرين الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) فقال: إن الإمام الثائر قد التفّتْ حوله الجماهير التفافاً عجيباً، الشيوخ والعشائر، الكبار والصغار، ضد بريطانيا الغاصبة، وكان وراء بريطانيا في ذلك اليوم أكثر من ألف مليون إنسان - الهند بكاملها والصين والشرق الأوسط ومناطق أخرى من أفريقيا وغيرها - لكن هذا القائد الإسلامي المحنّك تمكن أن يطرد الاستعمار البريطاني من العراق. وكان الازدحام هائلاً حول الميرزا محمد تقي الشيرازي، ومن الطبيعي أن المرجع وعمره الكبير لا يتمكن أن يجمع بين

ص: 466


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام).
2- سورة الحجر، الآية: 19.
3- سورة المؤمنون، الآية: 14.

قيادة الثورة المتأججة؛ فهو كالقائد في ميدان المعركة المشتعلة، وبين تلبية حوائج الناس، فقال لنا - نحن معاشر الطلبة - وكنا في مقتبل العمر ذلك اليوم:

أيها الطلبة، إني قبل الثورة كنت أتمكن من قضاء حوائجكم شخصياً، وأما بعد الثورة فإني مشغول بالمسؤوليات، ولا أتمكن من قضاء حوائجكم فرداً فرداً، كما أنكم لا تتمكنون أن تصلوا إليّ للازدحام الذي حولي، فإذا كانت لأحدكم حاجة فإني في كل يوم بعد صلاة الصبح أخرج إلى الشوارع المحيطة بأطراف كربلاء المقدسة، فيتمكن كل طالب علم أو أي شخص آخر يريد لقائي على انفراد، أن يأتي في ذلك الوقت لأقضي حاجته.

فهذا العالم - الراوي للقصة - يقول: إني شخصياً ذهبت إليه مرات عدة وعندي حاجة مادية أو معنوية، وكنت أرى الشيخ يمشي وحده، على النهر أو في الشارع المحاط بالأشجار، وأحياناً يذهب إليه فقير أو طالب أو جماعة لأخذ حاجاتهم وهكذا.

فهذا الإمام الأسوة والقائد الأعلى للمسلمين في ذلك اليوم كان يعطي بعضوقته لفرد فرد من أفراد الأمة ويقضي حاجاتهم، مما سبب التفاف الجماهير حوله وطاعته بمختلف فئات المجتمع خاصة شبابهم، وهو سبب تمكنه من طرد بريطانيا من بلد المقدسات العراق، وإنما تمكّن من ذلك للمحبوبية المنقطعة النظير التي اكتسبها جراء أخلاقه الطيبة وجماهيريته الواسعة.

فاللازم على المجتمع الإسلامي أن يسعى بكل جهده للاهتمام بمتطلبات الشباب ورغباتهم المشروعة؛ والتي منها إيجاد التنظيمات الصالحة، إذ أن الشاب إذا لاحظ أن مجتمعه عاجز عن تلبية طموحاته وأهدافه، فربما سيقع في المحرمات والمعاصي، كالجائع الذي لا يستطيع الحصول على ما يسد جوعه،

ص: 467

فتراه يسعى في الحصول على رغيفه حتى إذا كان عن طريق السرقة في بعض الأحيان، فكذلك الشاب لا بد له من إيجاد وسائل وطرق تؤدي لحل مشاكله، وطرق تقوم بتلبية أمانيه، كي لا ينجرف إلى تيار الفساد والعصيان، وأفضل وسيلة لذلك هي التنظيم الصالح.

ربما يقرؤه أحد الشباب

ذكر أحد الأشخاص قصة فقال: كنت أعمل في سوق الصفّارين ببغداد وهو سوق كبير، والعاملون فيه كلهم مسلمون، وكنت واحداً من الصفّارين، وقد كان أحد المسيحيين يأتي كل أسبوعين أو كل شهر مثلاً، ويقدّم لكل صفّار كتاباً، وربما كان الكتاب مجلداً ضخماً بقيمة دينار كامل - وهو مبلغ كبير في ذلك الزمان - وعندما كان المبشر المسيحي يخرج من السوق، كان الصفارون يلقون بالكتب في النار (في الكورة التي يستخدموها لصهر النحاس وما أشبه، حيث إنهم يعلمون أنها كتب مسيحية وحفظ كتب الضلال محرم).

يقول الراوي: فكرت ذات مرة أن أقول للمسيحي واقع الحال؛ حتى يمتنع عنالاستمرار في توزيع الكتب، وبالفعل عندما جاء هذه المرة ووزع الكتب، ولما أراد الذهاب تعقبته وقلت له: إنك تعلم أيها المبشِّر المسيحي إن هؤلاء مسلمون، وهم يحرقون هذه الكتب التي تعطيها لهم، فلماذا تفعل ذلك، إذ أنها جهود لا طائل تحتها ولا ثمرة لها؟!

فتبسم المسيحي، وقال: إني أعلم بذلك منذ اليوم الأول؛ لأني رأيت بطرف عيني إحراقهم للكتب!!

فقلت له: إذن ما الداعي لما تفعل؟!

قال: صحيح إن هؤلاء يحرقون الكتب ولكن ربما لا يحرق أحدهم الكتاب،

ص: 468

بل يذهب به إلى داره فيقع في يد ابنه الشاب أو ابنته الشابة، فيطالعه أو تطالعه ويؤثر عليهما ولو جزئياً، وهذا ربح لنا!!

هكذا يضحون بالمال والأتعاب والطاقات في سبيل تحريف شخص واحد، فهؤلاء يعملون هكذا، أما نحن فلإننا لم نستطع أو لم نبذل الجهد المطلوب لتثقيف شبابنا وفتياتنا - وهذا هو سبب تأخرنا - نجد كثيراً من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن الفكر الإسلامي في مجال السياسة الإسلامية، والاجتماع والاقتصاد وغيرها من معالم الإسلام، كما لا يعرفون شيئاً عن كيفية عمل المستعمرين في بلادنا وأساليبهم وخططهم، ولا يعرفون كيف يواجهونهم ويسدون الطريق عليهم.

الشباب والمبادئ والقيم

من اللازم أن يكون المعيار في العمل القيم والمبادئ والمعرفة الدينية، دون العمر أو القوميات أو اللون أو العرق؛ فإن الدين أعلى القيم وأشرفها، ولا بد من وضع الإنسان المؤمن المتقي والعارف بدينه وعقيدته في مكانه المناسب، كمافي القول المأثور: الرجل المناسب في المكان المناسب(1)، حتى وإن كان هذا الرجل من قومية أخرى، فلا فرق في الإسلام بين الهندي والباكستاني والعراقي والمصري والتركي والإيراني أو من أشبه؛ إذ ليست الجنسية والقومية هي المعيار في تحديد شخصية الإنسان، بل إن المعيار هو التقوى والكفاءة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(2).

ص: 469


1- انظر نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 كتاب أمير المؤمنين(عليه السلام) للأشتر النخعي، وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن. وفي هذا العهد يبين الإمام(عليه السلام) لمالك المقاييس والضوابط لاختيار العمال كل حسب مؤهلاته وإمكانياته.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلكم بنو آدم طفّ الصاع إلّا من أكرمه اللّه بالتقوى، إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم»(2).

وروي عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «كان سلمان جالساً مع نفر من قريش في المسجد، فأقبلوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم حتى بلغوا سلمان، فقال له عمر بن الخطاب: أخبرني من أنت، ومن أبوك، وما أصلك؟

فقال: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه عزّ وجلّ بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، هذا نسبي وهذا حسبي.

قال: فخرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسلمان (رضي اللّه عنه) يكلمهم، فقال لهسلمان: يا رسول اللّه، ما لقيت من هؤلاء، جلست معهم فأخذوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم، حتى إذا بلغوا إلي قال عمر بن الخطاب: من أنت، وما أصلك، وما حسبك؟

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): فما قلت له يا سلمان؟

قال: قلت له: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت عائلاً فأغناني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، هذا نسبي وهذا حسبي.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا معشر قريش، إن حسب الرجل دينه، ومروءته خلقه،

ص: 470


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- مستدرك الوسائل 11: 267.

وأصله عقله، وقال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).

ثم قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لسلمان: ليس لأحد من هؤلاء عليك فضلٌ إلّا بتقوى اللّه عزّ وجلّ، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل»(2).

بالإضافة لمشورة سلمان التي عمل بها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قضية حفر الخندق(3).

ومن هنا يلزم الاهتمام بعقائد الشباب ومبادئهم وقيمهم؛ فإن العقيدة هي التي تحمي الإنسان في مختلف المراحل الحياتية، فالعقيدة الصحيحة بشكل كامل هي الضمان لعدم الانجراف في مختلف المفاسد، أما العقيدة المنحرفة بشيء من الانحراف فبقدر انحرافها يكون لها الأثر السلبي، وإذا بقي لها نوع منالصحة فبقدر صحتها تكسب الإيجابيات، قال سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٖ لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَٰتٌ وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}(4).

فالشرق حيث تجرّد عن العقيدة الدينية بشكل مطلق، وأخذ يحاربها بمختلف صورها، سبّب أكبر شقاء للبشرية، وقد سجل التأريخ مآسيه البشعة، فقد ذكر أن ستالين وحده قتل ما يزيد على عشرين مليون إنسان غير قتلاه في الحروب، إلى أن تحطم الاتحاد السوفياتي تحطماً كاملاً.

وأن (ماو)(5)قتل تسعاً وثلاثين مليونا صبراً وقد تحطم بعد مدّة.

ص: 471


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الكافي 8: 181.
3- انظر تفسير القمي 2: 177.
4- سورة الحج، الآية: 40.
5- ماو تسه تونغ (1893-1976م) زعيم صيني صاحب الثورة الاشتراكية.

والغرب وإن كان أظهر اللامبالاة أمام العقيدة والدين إلّا أنه اضطر إلى تقوية الكنيسة واتباع رجالها في العقيدة المسيحية.

ومنه يعلم حال اليهود والهندوك ومن أشبه.

الشباب وطلب العلم

إن العقيدة الصحيحة عصمة للإنسان وللمجتمع من الانحراف الفكري والعملي، وعلى هذا فاللازم على القادة والعلماء الاهتمام بعقائد الشباب كل الاهتمام، وإلّا أصبح أمرهم مبعثراً، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}(1) فإن الإنسان الذي لا ينظّم حياته وفي مختلف مراحلها وأبعادها ومنها العقيدية يكون أمره فرطاً، لا يعرف من أين يأخذ، وأين يعطي، وأين يسير، وماذا يعمل، وكيف يبني... حاله حال العنب الذي انفرط عن عنقوده، فإنه لا جامع له.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم من معدن العلم، وإياكم والولائج؛ فهمالصادون عن سبيل اللّه» ثم قال: «ذهب العلم وبقي غبرات العلم في أوعية سوءٍ، واحذروا باطنها فإن في باطنها الهلاك، وعليكم بظاهرها فإن في ظاهرها النجاة»(2).

وحيث إن العقيدة الإسلامية المباركة مطابقة للعقل والفطرة والدليل، فالشباب يقبلونها بسرعة، وإنما المهم تسييرهم في أول الخط حتى يسيروا إلى آخر الخط باستقامة وثبات، إن شاء اللّه تعالى، قال الإمام الباقر(عليه السلام): «كل ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل»(3).

كما على الشباب الالتفات إلى ضرورة تحصيل العلم والدراسة بما للكلمة

ص: 472


1- سورة الكهف، الآية: 28.
2- بحار الأنوار 2: 93.
3- وسائل الشيعة 27: 75.

من معنى، لا كالمتعارف في هذا الزمان حيث إنهم إذا اشتغلوا بدراسة العلوم، وأنهوا الجامعة ابتدؤوا الحياة تاركين التقدم العلمي وتطوير معلوماتهم أو تنويعها من دون استفادات أخرى من التجارب والنظريات الجديدة؛ لذا يلزم المواظبة على طلب العلم دائماً، فقد روي عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اطلبوا العلم من المهد إلى اللّحد»(1)، وهذا صحيح قطعاً، فمن المهد يتعلم الطفل كما ثبت في العلم الحديث، وقد ورد عن المعصومين(عليهم السلام) استحباب ذكر الأذان في الأذن اليمنى والإقامة في الأذن اليسرى من المولود(2).

وهكذا يكون العلم مستمراً إلى اللّحد، ولذا ورد في الأحاديث: أن الميت يلقّن في قبره، وربما كان ذلك ليتذكر ما نساه بسبب أهوال القبر، فإن الإنسان لا تموت روحه؛ فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «ينبغي أن يتخلف عند قبر الميتأولى الناس به بعد انصراف الناس عنه، ويقبض على التراب بكفيه ويلقنه برفيع صوته، فإذا فعل كفي الميت المسألة في قبره»(3).

هذا من جهة الامتداد الزمني، أما من جهة الامتداد المكاني، فقد رُوي عنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اطلبوا العلم ولو بالصين»(4). حيث إن الصين كانت أبعد نقطة حضارية معلومة في ذلك العصر، ولعل السفر من الحجاز إليها - ذهاباً وإياباً - كان يتطلب سنوات من الزمن.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج»(5).

ص: 473


1- نهج الفصاحة: 218.
2- فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من ولد له مولود فليؤذن في أذنه اليمنى بأذان الصلاة وليقم في أذنه اليسرى؛ فإنها عصمة من الشيطان الرجيم». تهذيب الأحكام 7: 437.
3- علل الشرائع 1: 308.
4- روضة الواعظين 1: 11.
5- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 108.

وفي حديث آخر قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال:«سارعوا في طلب العلم، فوالذي نفسي بيده، لحديث واحد في حلال وحرام تأخذه من صادق خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضة»(2).

قصة في طلب العلم

يذكر أن أحد العلماء الفقهاء زار أحد العلماء الرياضيين وهو في حالة الاحتضار، فسأله العالم المحتضر عن مسألة فقهية عميقة، مثل إرث الأجداد الثمانية.

فقال له الفقيه: كيف تسأل هذا السؤال ولا تحتاج إليه، لأنك على أبوابالآخرة وتقضي آخر يوم من أيام الدنيا؟

فأجابه العالم الرياضي بجواب جميل جداً قائلاً: هل إذا مت وأنا أعلم هذه المسألة أفضل أو مت وأنا لا أعلم هذه المسألة؟

قال الفقيه: إذا كنت تعرف هذه المسألة كان أفضل.

فقال العالم الرياضي للفقيه: إذن فتفضل بالجواب، وأخذ الفقيه يبيّن له الجواب... وما أن انتهى من الجواب إلّا وقد مات العالم الرياضي.

فهكذا يلزم أن يكون الاهتمام بالعلم.

فكلما كان الإنسان أعلم كان أفضل لحياته ومماته، لنفسه ولغيره.

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة وبُعدَ المعصية، وصدق النية، وعرفان الحُرمة،

ص: 474


1- كنز الفوائد 2: 107.
2- المحاسن 1: 227.

وأكرمنا بالهُدى والاستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وطهّر بطوننا من الحرام والشُّبهة، وأكفف أيدينا عن الظلم والسرقة، وأغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدُد أسماعنا عن اللغو والغيبة، وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة، وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرحمة، وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

القدوة والأسوة الحسنة

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ}(2).

وقال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ

ص: 475


1- المصباح للكفعمي: 280.
2- سورة الممتحنة، الآية: 6.
3- سورة آل عمران، الآية: 31.
4- سورة يونس، الآية: 35.

وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

درجات التفضيل بين الناس

قال سبحانه وتعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُنَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(2).

وقال سبحانه: {لَّا يَسْتَوِي الْقَٰعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ عَلَى الْقَٰعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَلَلْأخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَٰتٖوَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}(4).

العمل التبليغي

قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}(5).

وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ

ص: 476


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة التوبة، الآية: 19.
3- سورة النساء، الآية: 95.
4- سورة الإسراء، الآية: 21.
5- سورة الأحزاب، الآية: 39.
6- سورة النحل، الآية: 125.

الْمُسْلِمِينَ}(1).

العمل مقياس للكفاءة

قال عزّ وجلّ: {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَٰتُ الْعُلَىٰ}(3).

وقال سبحانه: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(4).

وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو القدوة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أحب العباد إلى اللّه المتأسي بنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمقتص لأثره»(6).

وقال(عليه السلام): «ارض بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رائداً وإلى النجاة قائداً»(7).

وقال(عليه السلام): «اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى، واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن»(8).

ص: 477


1- سورة فصلت، الآية: 33.
2- سورة البقرة، الآية: 62.
3- سورة طه، الآية: 75.
4- سورة الأنعام، الآية: 132.
5- سورة ص، الآية: 28.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 160 من خطبة له(عليه السلام) في عظمة اللّه.
7- عيون الحكم والمواعظ: 76.
8- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 110 من خطبة له(عليه السلام) في أركان الدين.

وقال(عليه السلام): «يا أيها الناس، إنه لم يكن للّه سبحانه حجة في أرضه أوكد من نبينا محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولا حكمة أبلغ من كتابه العظيم، ولا مدح اللّه تعالى منكم إلّا من اعتصم بحبله واقتدى بنبيه، وإنما هلك من هلك عندما عصاه وخالفه واتبع هواه؛ فلذلك يقول عزّ من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}»(1)(2).

أفضل الناس

سئل عيسى(عليه السلام) من أفضل الناس قال: «من كان منطقه ذكراً وصمته فكراً ونظره عبرة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن أفضل الناس عند اللّه من كان العمل بالحقأحب إليه وإن نقصه»(4).

وقال(عليه السلام): «فاعلم أن أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هُدِيَ وهَدَى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة مجهولة»(5).

وقال(عليه السلام): «إن أفضل الناس عند اللّه، من أحيا عقله، وأمات شهوته، وأتعب نفسه لصلاح آخرته»(6).

الإخلاص في العمل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لابن مسعود: «يا ابن مسعود، إذا عملت فاعمله للّه

ص: 478


1- سورة النور، الآية: 63.
2- عيون الحكم والمواعظ: 557.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 250.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 125 من كلام له(عليه السلام) في التحكيم.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 164 من كلام له(عليه السلام) لما اجتمع الناس إليه وشكوا ما نقموه على عثمان... .
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 236.

خالصاً، لأنه لا يقبل من عباده الأعمال إلّا ما كان له خالصاً»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «طوبى لمن أخلص للّه عمله وعلمه، وحبه وبغضه، وأخذه وتركه، وكلامه وصمته، وفعله وقوله»(2).

وقال(عليه السلام): «العمل كله هباء إلّا ما أخلص فيه»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «في إخلاص الأعمال تنافس أولي الألباب»(4).

العمل مقياس للكفاءة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه تعالى لا يقبل من العمل إلّا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشرف عند اللّه بحسن الأعمال لا بحسن الأقوال»(7).

وقال الإمام علي الهادي(عليه السلام): «الناس في الدنيا بالأموال وفي الآخرة بالأعمال»(8).

ص: 479


1- مكارم الأخلاق: 453.
2- تحف العقول 2: 100.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 75.
4- عيون الحكم والمواعظ: 354.
5- نهج الفصاحة: 300.
6- تنبيه الخواطر ونزهة الناظر 2: 228.
7- عيون الحكم والمواعظ: 57.
8- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 139.

شخصية المؤمن

النفس والإطراء

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «اللّهم إنك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللّهم اجعلنا خيراً مما يظنون واغفر لنا ما لا يعلمون»(1).

جاء هذا الكلام من أمير المؤمنين وإمام المتقين(عليه السلام) عندما مدحه قوم في وجهه الشريف(عليه السلام).

فقال(عليه السلام): «اللّهم إنك أعلم بي من نفسي» فإن اللّه سبحانه وتعالى يعلم دقائق وخفايا صفات الإنسان وأعماله ما لا يعلمه الإنسان بنفسه «وأنا أعلم بنفسي منهم». أي من هؤلاء المدّاحين؛ لأن كل إنسان يعرف نفسه خيراً من معرفة غيره له «اللّهم اجعلنا خيراً مما يظنون» أي مما يظن هؤلاء المادحون «واغفر لنا ما لا يعلمون» من الأخطاء، ومن المعلوم أن طلب الأئمة(عليهم السلام) للغفران، باعتبار بعض المباحات التي لا يرونها لائقة بمقامهم مع اللّه سبحانه وتعالى مضافاً إلى أنه تعليم للآخرين.

وهو توجيه للمؤمنين في الحذر من العجب بالنفس وتمكين الشيطان منهم بإعطائه هذه الفرصة وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حب الإطراء والمدح من أوثق

ص: 480


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 100.

فرص الشيطان»(1).

وقال(عليه السلام): «إياك والإعجاب وحب الإطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان»(2).

قوة الشخصية

اشارة

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «نزه عن كل دنية نفسك وابذل في المكارم جهدك تخلص من المآثم وتحرز المكارم»(3).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «يا أيها الناس نافسوا في المكارم وسارعوا في المغانم...»(4).

يتطلع كل إنسان سوي إلى التكامل في الأخلاق وتحصيل السمعة الطيبة ونيل المكانة المرموقة بين الناس، فهذه حاجة نفسية أصيلة في كل فرد، تدفعه دفعاً إلى نيل المكرمة والتمتع بالشهرة واكتساب الذكر الحميد في المجتمع، وهذا يتحصل عن طريق قيامه بالأعمال الحسنة والأفعال الطيبة، التي تعود عليه بحسن العاقبة في رضا اللّه عنه، وتأييد أفراد المجتمع ومصادقتهم على كل ما يصدر عنه من انجازات ناجحة وأعمال باهرة وفضائل محمودة، وكلما حظي المرء باحترام الناس انبسطت نفسه انبساطاً، وقويت روحه المعنوية، فدفعته من نجاح إلى نجاح آخر وأكبر.

وكلما استطاع الإنسان أن يألف الجماعة ويبادلها المودة ويشارك في سرّائها وضرّائها، كل ما ظهرت تلك الشخصية القوية في حياته التي تولد عنده نوعاً من

ص: 481


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 348.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 168.
3- عيون الحكم والمواعظ: 498.
4- كشف الغمة 2: 29.

الاطمئنان النفسي والاستقرار الروحي.

السبيل إلى الشخصية القوية

من الأمور التي لها أهمية كبرى في حياة الإنسان، هي أنه كيف يمكن للإنسان أن يكون صاحب شخصية علمية ومذهبية وعملية مرموقة بين الناس، لكي يستطيع هداية الناس إلى الطريق الإسلامي السوي؟

لعل من أولى متطلبات الشخصية الناجحة، الصدق في معاملة الناس ومطابقة الأقوال بالأفعال، ورعاية مصالحهم، والالتزام بالمبادئ السليمة، وعدم التفريط في ذلك كله، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الصدق صلاح كل شيء»(1).

وقال(عليه السلام): «عليك بالصدق فمن صدق في أقواله جلّ قدره»(2).

فالشخصية الأصيلة والجذابة في المجتمع تبنى حقاً على حسن النية التي يبديها الفرد نحو الآخرين والاهتمام المخلص بمصلحتهم، وبذلك فالشخص الذي يمتلك المكانة الاجتماعية والعلمية يستطيع العمل كثيراً في داخل مجتمعه فعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(3) قال: «يعني بالعلماء من صدَّق فعله قوله، ومن لم يصدِّق فعله قوله فليس بعالم»(4)، خلافاً للشخص الذي لا يمتلك تلك الشخصية. ويستطيع الإنسان أن يحصل على هذه الشخصية عن طريق السعي الكبير والإبداع الدائم والعمل الدؤوب والإخلاص وفي ذلك، قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا

ص: 482


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 59.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 446.
3- سورة فاطر، الآية: 28.
4- الكافي 1: 36.

سَعَىٰ}(1)، فالسعي(2) هو المشي السريع دون العدو، وان الإنسان لا يحصل على الخير إلّا من أفعال وأعمال الخير التي فعلها وهو حي في الحياة الدنيا، أما في مماته فانه لا يجني إلّا التبعات المترتبة على الأموال التي تركها، فإن كان الورثة أخياراً، فإن بذل هذه الأموال في طريق الخير يرجع ثوابها إليهم، وهو لا يحصل على ذلك الثواب؛ لأنها ليست ملكه، فقد أصبحت ملك غيره، وإن كان الورثة أشراراً فإن تبعات الآثام ونتيجة صرفها في طريق الشر تعود عليه ويتأذى بسببها. وكذا من سنّ سنة حسنة فله ثوابها وثواب من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة(3).

ثمار الخير والصلاح

إنّ اللّه سبحانه وتعالى تعهد في كتابه الشريف بتوفيق من سعى في طريق الخير والصلاح، حيث قال: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(4)، أي: إن الذين جاهدوا الكفار ابتغاء مرضاتنا وطاعة لنا، وجاهدوا أنفسهم في هواها، خوفاً منا لنهدينهم السبل الموصلة إلى ثوابنا بالنصر والمعونة في دنياهم لهداية الناس، فإن في وسط هذا الزحام الخانق، والجو الكافر، من يجاهد في اللّه بالإيمان، والأعمال الصالحة، فإنه يهتدي إلى طريق الحق الموصل له إلى سعادة الدنيا والآخرة، فإن {سُبُلَنَا} جمع سبيل وهو الطريق

ص: 483


1- سورة النجم، الآية: 39.
2- السعي: عدو ليس بشديد، يقولون: السعي العمل، أي: الكسب، انظر كتاب العين 2: 202 مادة (سعي).
3- فقد قال الصادق الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». الفصول المختارة: 136.
4- سورة العنكبوت، الآية: 69.

الذيقررنا لأجل الرشاد والصلاح والخير والسعادة، وهذا عام، فكل من جاهد في طريق فُتح أمامه باب الحق والصدق. فإن {اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} الذين يحسنون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم، فإنه تعالى معهم بالنصرة والغلبة والسعادة في الدارين(1).

العمل للّه وحده

والنقطة المهمة التي يجب أن يلتفت إليها الإنسان هي أنه إذا أراد أن يكوّن لنفسه شخصية قوية لا بد أن يجعل أعماله للّه عزّ وجلّ، فإن ما كان للّه ينمو وما كان للشيطان يخبو، حيث قال الإمام الصادق(عليه السلام) لأصحابه يوماً: «اجعلوا أمركم هذا للّه ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان للّه فهو للّه، وما كان للناس فلا يصعد إلى اللّه»(2)، لذا يجب أن يكون للمرء أهداف دينية نبيلة تقود خطاه في الحياة؛ إذ على المرء العامل في سبيل اللّه أن يؤمن بأن اللّه معه طول الوقت وأنه يسدد خطاه ويعينه كل ما ألمّت به وحشة وأصابته نكبة أو ضائقة... وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك فإنك تلجئها إلى كهف(3) حريزٍ(4) ومانع عزيز، وأخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان»(5).

وكما قيل: مهما يكن شعورك بالوحدة فاعلم أنك لست بمفردك أبداً؛ لأن اللّه معك، سر على جانب الطريق وإنك على يقين من أنه يسير على الجانب الآخر،

ص: 484


1- انظر تفسير تقريب القرآن 4: 225.
2- الكافي 2: 293.
3- الكهف: الملجأ.
4- الحريز: الحافظ.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام).

رتب أمورك على أساس أن ربك شريك لك في كل شيء تفعله.

وبذلك تزداد طمأنينة نفسك، وتشعر في قرارة نفسك أنك على الصراط المستقيم، لا يأتيك الباطل من بين يديك أو من خلفك، وهذا من أعظم نعم اللّه على الإنسان الذي يرضى عنه اللّه والناس، لا لأجل أهداف دنيوية تافهة مؤقتة من جاه ومال وتسلط على رقاب الناس، وما مثل هذا الفرد إلّا كيان مضر في المجتمع ومفسد في الأرض.

الخالق حكيم

فإن اللّه سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً مضراً إلّا وبه منفعة في هذه الدنيا، بل كل المخلوقات لها فائدة ونفع، حتى النجاسات التي تخرج من بدن الإنسان نحن نستقذرها وننفر منها لكن لها فوائد كثيرة في الزراعة - مثلاً - ، إذ أن المزارعين يستخدمونها كسماد لأراضيهم في زراعة بعض المحاصيل الحقلية. والقصد مما سبق: هو أن كل مفيد ومضر إذا وجهناه الوجهة الصحيحة يمكن الاستفادة منه، ومن الشواهد الجلية الوضوح حول هذا البحث ما ذكر عن الصين بأن (ماوتسه تونغ) أذاع بياناً خاصاً طلب فيه من الشعب الصيني القضاء على جميع العصافير، وذلك لأجل أن لا تصيب الغابات والأشجار بأضرار ولا تلتهم الحبوب وما أشبه، فقام الناس بحملة إبادة عليها، حيث قتلوا في تلك السنة ما يقارب العشرة ملايين من تلك الطيور الصغيرة، وإن الشعب الصيني كان يعتقد أنه بعمله هذا سوف يحصل على أكبر كمية من المحاصيل والإنتاج الزراعي لتلك السنة، ولكن حدث العكس تماماً حيث أصبح انتاج المحاصيل أسوءَ حالاً من جميع السنين الماضية؛ وذلك لأنهم بعملهم هذا جعلوا مزارعهم طعمة للديدان والحشرات، حيث هجم على تلكم المحاصيل الزراعية ملايين الجراد والحشرات فأصابتها إصابة شديدة.

ص: 485

فتنبه الصينيّون إلى أن تلك العصافير التي قضوا عليها كانت الحصن المنيع للمزارع من الحشرات، وكان لها دور كبير في زيادة إنتاجهم؛ حيث كانت تقوم بعمل هام لم يستطع أحد القيام به وهو التهام تلك الديدان والآفات الحشرية التي تظهر بين سنة وأخرى، وفي السنة التالية قاموا بالحفاظ عليها بل وتربية وتكثير تلك الطيور، ليعود إنتاجهم كما كان عليه في السنين الماضية. إذن فالعصافير التي كانوا يظنون أنها عديمة الفائدة، بل تصوروا أنها حيوانات ضارة فقد ظهر لهم أنها كثيرة النفع للإنسان، ولها دور حيوي مهم في تكامل الحياة الإنسانية، وهكذا الأمر في العقارب والأفاعي والحشرات فان فائدتها أكثر بكثير من ضررها وأذاها، ويذكر بأن من فوائد العقارب والأفاعي أنها تمتص السموم الموجودة في الهواء.

إذن، فلا بد للإنسان أن يكون موجوداً نافعاً في الحياة كسائر الكائنات والمخلوقات الأخرى، فكيف لا يكون كذلك وقد سلّحه اللّه تعالى بكل اللوازم، حيث سخر له ما في السماوات والأرض ورزقه من الطيبات، وأعطاه العقل والفطرة السليمة وأرسل له رسلاً تترى وكتباً مبينة فيها شفاء لما في الصدور، فقال عزّ وجلّ: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَٰهِرَةً وَبَاطِنَةً}(1).

وقال سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ بِقَدَرٖ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَٰجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَٰمِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُاْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْنِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَٰنَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا

ص: 486


1- سورة لقمان، الآية: 20.

وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}(1).

قضاء حوائج الناس

أفضل مصداق للإنسان النافع في الحياة هو ذلك الشخص الذي يقدم الخدمة والنفع للآخرين، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... أصلح الناس أصلحهم للناس، وخير الناس من انتفع به الناس»(2)، وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من كثرت نعم اللّه عليه كثرت حوائج الناس إليه فمن قام للّه فيها بما يجب فيها عرّضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال والفناء»(3).

وروي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) دخل مكة وهو في بعض حوائجه، فوجد أعرابياً متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول: يا من لا يحويه مكان، ولا يخلو منه مكان، ولا يكفه مكان، ارزق الأعرابي أربعة آلاف درهم، قال - الراوي - : فتقدم إليه أمير المؤمنين(عليه السلام) وقال: «ما تقول يا أعرابي؟» فقال الأعرابي: من أنت؟ فقال: «أنا علي بن أبي طالب» قال: أنت واللّه حاجتي، قال(عليه السلام): «سل يا أعرابي» قال: أريد ألف درهم للصداق، وألف درهم أقضي بها ديني، وألف درهم أشتري بها داراً، وألف درهم أتعيش بها، قال له(عليه السلام): «أنصفت يا أعرابي، إذا خرجت من مكة فسل عن داري بمدينة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)» فأقام الأعرابي أسبوعاً بمكة وخرج في طلب أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى المدينة، ونادى: من يدلني على دار أمير المؤمنين(عليه السلام)؟ فلقيه الحسن [الحسين](عليه السلام) فقال: «أنا أدلك على دار أمير المؤمنين» فقال الأعرابي: من أبوك؟ قال: «أمير المؤمنين(عليه السلام)» قال: من أمك؟ قال: «فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين(عليها السلام)» قال: من جدك؟ قال: «رسول اللّه

ص: 487


1- سورة الزخرف، الآية: 10-13.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 396.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 372.

محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب(صلی اللّه عليه وآله وسلم)» قال: من جدتك؟ قال: «خديجة بنت خويلد(عليها السلام)» قال: من أخوك؟ قال: «حسين [حسن] بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام)» قال: لقد أخذت الدنيا بطرفيها امش إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وقل له: إن الأعرابي صاحب الضمان بمكة على الباب، فدخل الحسين(عليه السلام) وقال: «يا أبة، أعرابي بالباب يزعم أنه صاحب ضمان بمكة».

قال: فخرج إليه(عليه السلام) وطلب سلمان الفارسي (رضي اللّه عنه) وقال له: «يا سلمان، أعرض الحديقة التي غرسها لي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على التجار» فدخل سلمان إلى السوق وعرض الحديقة فباعها باثني عشر ألف درهم وأحضر المال وأحضر الأعرابي فأعطاه أربعة آلاف درهم وأربعين درهما لنفقته، فرفع الخبر إلى فقراء المدينة، فاجتمعوا إليه والدراهم مصبوبة بين يديه فجعل(عليه السلام) يقبض قبضة ويعطي رجلاً رجلاً حتى لم يبق له درهم واحد منها ودخل منزله، فقالت فاطمة(عليها السلام): «يا ابن عم، بعت الحديقة التي غرسها رسول اللّه والدي؟» فقال: «نعم بخير منها عاجلاً وآجلاً» قالت له: «جزاك اللّه في ممشاك» ثم قالت: «أنا جائعة وابناي جائعان ولا شك أنك مثلنا» فخرج(عليه السلام) ليقترض شيئاً ليصرفه على عياله فجاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: «يا فاطمة، أين ابن عمي؟» فقالت له: «خرج يا رسول اللّه» فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هاك هذه الدراهم فإذا جاء ابن عمي فقولي له يبتاع لكم بها طعاماً» وخرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجاء علي(عليه السلام) وقال: «جاء ابن عمي فإني أجد رائحة طيبة؟» قالت: «نعم» وناولته الدراهم وكانت سبعة دراهم سود هجرية وذكرت له ما قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «يا حسن، قم معي» فأتيا السوق وإذا هما برجل واقف وهو يقول: من يقرض اللّه الوفي الملي؟ فقال: «يا بني نعطيه الدراهم؟» قال: «بلى واللّه يا أبة» فأعطاه(عليه السلام) الدراهم ومضى إلى باب رجل ليقترض منه شيئاً، فلقيه أعرابي ومعه ناقة فقال: اشتر مني هذه الناقة، قال: «ليس

ص: 488

معي ثمنها» قال: فإني أنظرك به قال: «أ بكم يا أعرابي؟» قال: بمائة درهم قال(عليه السلام): «خذها يا حسن» ومضى، فلقيه أعرابي آخر فقال: يا علي أ تبيع الناقة؟ قال له(عليه السلام): «وما تصنع بها؟» قال: أغزو عليها أول غزوة يغزوها ابن عمك(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال(عليه السلام): «إن قبلتها فهي لك بلا ثمن» قال: معي ثمنها فبكم اشتريتها؟ قال: «بمائة درهم» فقال الأعرابي: فلك سبعون ومائة درهم فقال(عليه السلام): «خذها يا حسن وسلم الناقة إليه، والمائة للأعرابي الذي باعنا الناقة، والسبعون لنا نأخذ بها شيئاً» فأخذ الحسن(عليه السلام) الدراهم وسلم الناقة، قال(عليه السلام): «فمضيت أطلب الأعرابي الذي ابتعت منه الناقة؛ لأعطيه الثمن فرأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكان لم أره فيه قبل ذلك على قارعة الطريق، فلما نظر إلي رسول اللّه تبسم وقال: يا أبا الحسن، أ تطلب الأعرابي الذي باعك الناقة لتوفيه ثمنها؟ فقلت: إي واللّه فداك أبي وأمي، فقال: يا أبا الحسن الذي باعك الناقة جبرائيل، والذي اشتراها منك ميكائيل، والناقة من نوق الجنة، والدراهم من عند رب العالمين الملي الوفي»(1).

قال أحد العلماء الصالحين بعد أن قضى سنين طويلة في إقامة صلاة الجماعة في أحد المساجد: إني نادم ومقصّر، إذ كان يسأل نفسه: لماذا قبل هذه السنين الطوال لم أكن إماماً للجماعة ولم أسع للقيام بالأمور الاجتماعية؟ لإدراكه أن صلاة الجماعة لها ثواب عظيم، بالإضافة إلى أنها طريق صالح يستطيع العالم من خلالها خدمة الآخرين سواء الذين يأتون إلى المسجد والذين لا يأتون.

عبرة من النحلة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن مثل المؤمن كمثل النحلة، إن صاحبته نفعك، وإن

ص: 489


1- إرشاد القلوب 2: 221.

شاورته نفعك، ... وكذلك النحلة كل شأنها منافع»(1).

وقال حكيم من اليونانيين لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا، قالوا: وكيف النحل؟

قال: إنها لا تترك عندها بطالاً إلّا أبعدته وأقصته عن الخلية؛ لأنه يضيق المكان ويفني العسل ويعلم النشيط الكسل(2).

كتب أحد العلماء حول مسألة صنع العسل من قبل النحل فقال: إن النحلة الواحدة تحتاج لكي تصنع كيلو غراماً واحداً من العسل إلى ثمانية عشر ألف جلسة على الورود لكي تمتص من رحيقها بالإضافة إلى المسافة التي تقطعها النحلة في كل جلسة ما بين الخلية والأزهار، وهكذا الإنسان لا يمكن له أن يكون فرداً صالحاً وصاحب شخصية في المجتمع من دون أن يبذل جهوداً كافية في سبيل ذلك.

وقيل في هذا: إن وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة، حذق النحل وفطنته وقلة أذاه وحقارته ومنفعته وقنوعه وسعيه في النهار وتنزهه عن الأقذار وطيب أكله، وأنه لا يأكل من كسب غيره ونحوله وطاعته لأميره، وللنحل آفات تقطعه عن عمله منها الظلمة والغيم والريح والدخان والماء والنار وكذلك المؤمن له آفات تفتره عن عمله منها ظلمة الغفلة وغيم الشك وريح الفتنة ودخان الحرام وماء السعة ونار الهوى.

وفي مستدرك الدارمي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال: «كونوا في الناس كالنحلة في الطير، إنه ليس في الطير إلّا وهو يستضعفها ولو

ص: 490


1- بحار الأنوار 61: 238.
2- بحار الأنوار 61: 238.

تعلم الطير ما في أجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها»(1).

إعانة الناس

لذا فإن السعي في قضاء حوائج الآخرين والحركة في وسط المجتمع توصل الإنسان إلى درجة عالية من السمو والكمال وهو الهدف المطلوب، وبنفس الوقت يدفع عجلة المجتمع إلى الأمام.

ومن هنا نجد أن رسول اللّه والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) كانوا جميعاً يسعون في قضاء حوائج الناس بكل ما أوتوا من قدرة وإمكان، حيث كان أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، قد جعل في وسط الكوفة بيتا سمّاه (بيت القصص) (2) حتى إذا كان لإنسان حاجة واستحيا من علي(عليه السلام) وان يواجهه بها، والكل يعلم أن علياً(عليه السلام) كان قريباً إلى قلوب كل الناس، ولم يكن ديكتاتوراً مستبداً يجتنب الناس ويتجنبونه، وكما يقول أحد تلامذة الإمام(عليه السلام): كان فينا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويقربنا إذا زرناه، لا يغلق له دوننا باب، ولا يحجبنا عنه حاجب...،(3) يدور في أسواق المسلمين ويقضي أوقاته في المسجد بينهم، ويقضي حاجاتهم ويخطب ويصلي بهم، ومع ذلك كان قد صنع بيتاً يسمى بيت القصص، حتى إذا عجز إنسان ما عن الوصول إلى الإمام(عليه السلام)، أو يستحي من مواجهته، كان يكتب حاجتهفي ورقة ويقذف بتلك الورقة في بيت القفص، ثم كان الإمام(عليه السلام)، يأتي إلى ذلك البيت ويفتح بابه المقفل ويأخذ الأوراق ويطلع على الحاجات ويقضيها للناس.

ص: 491


1- بحار الأنوار 61: 238.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17: 87 وفيه: «كان لأمير المؤمنين(عليه السلام) بيت سمّاه بيت القصص يلقي الناس فيه رقاعهم.
3- انظر الأمالي للشيخ الصدوق: 624، والقائل هو ضرار بن ضمرة النهشلي.

أهل البيت(عليهم السلام) نموذج وشاهد

اشارة

فقد جاء في الروايات أن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «رجع علي(عليه السلام) إلى داره في وقت القيظ فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدى علي وحلف ليضربني، فقال(عليه السلام): يا أمة اللّه اصبري حتى يبرد النهار ثم أذهب معك إن شاء اللّه، فقالت: يشتد غضبه وحرده علي، فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا واللّه أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلك؟

فمضى(عليه السلام) إلى بابه فقال: السلام عليكم، فخرج شاب فقال علي: يا عبد اللّه، اتق اللّه، فإنك قد أخفتها وأخرجتها، فقال الفتى: وما أنت وذاك، واللّه لأحرقنها لكلامك، فقال أمير المؤمنين: آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف، قال: فأقبل الناس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين، فسقط الرجل في يديه فقال: يا أمير المؤمنين، أقلني عثرتي، فو اللّه لأكونن لها أرضاً تطؤني، فأغمد علي سيفه وقال: يا أمة اللّه، ادخلي منزلك ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا»(1).

وقال(عليه السلام): «لما أخذت في غسل أبي علي بن الحسين(عليهما السلام) أحضرت معي من رآه من أهل بيته» فنظروا إلى مواضع السجود منه في ركبتيه وظاهر قدميه وبطن كفيه وجبهته قد غلظت من أثر السجود حتى صارت كمبارك البعير، وكان (صلوات اللّه عليه) يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، ثم نظروا إلى حبل عاتقهوعليه أثرٌ قد اخشوشن، فقالوا لأبي جعفر(عليه السلام): أما هذه فقد علمنا أنها من أثر السجود، فما هذا الذي على عاتقه؟ قال(عليه السلام): واللّه، ما علم به أحدٌ غيري وما علمته من حيث علم أني علمته، ولو لا أنه قد مات ما ذكرته، كان إذا مضى من

ص: 492


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 106.

الليل صدره قام وقد هدأ كل من في منزله، فأسبغ الوضوء وصلى ركعتين خفيفتين، ثم نظر إلى كل ما فضل في البيت عن قوت أهله فجعله في جراب ثم رمى به إلى عاتقه وخرج محتسباً، يتسلل لا يعلم به أحدٌ، فيأتي دوراً فيها أهل مسكنة وفقر فيفرق ذلك عليهم وهم لا يعرفونه إلّا أنهم قد عرفوا ذلك عنه، فكانوا ينتظرونه فإذا أقبل قالوا: هذا صاحب الجراب وفتحوا أبوابهم له، ففرق عليهم ما في الجراب وانصرف به فارغاً، يبتغي بذلك فضل صدقة السر، وفضل صدقة الليل، وفضل إعطاء الصدقة، بيده ثم يرجع فيقوم في محرابه فيصلي باقي ليله، فهذا الذي ترون على عاتقه أثر ذلك الجراب».

وقد جاء في بعض صفات الإمام الكاظم(عليه السلام) انه كان أعبد أهل زمانه، وأفقههم وأسخاهم كفاً، وأكرمهم نفساً، فقد روي: أنه كان يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثم يعقب حتى تطلع الشمس، ويخرّ للّه ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس(1).

وكان(عليه السلام) أوصل الناس لأهله ورحمه.. وكان يتفقد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم الزنبيل، فيه العين والورق والتمور، فيوصل إليهم ذلك.. ولا يعلمون من أي وجه هو(2).

وجاء عن معلى بن خنيسٍ عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: ما حق المسلمعلى المسلم؟ قال: «له سبع حقوقٍ واجباتٍ ما منهن حق إلّا وهو عليه واجبٌ، إن ضيع منها شيئاً خرج من ولاية اللّه وطاعته ولم يكن للّه فيه من نصيبٍ» قلت له: جعلت فداك وما هي؟ قال: «يا معلى، إني عليك شفيقٌ أخاف أن تضيع ولا

ص: 493


1- انظر الإرشاد 2: 231.
2- انظر الخرائج والجرائح 2: 896.

تحفظ، وتعلم ولا تعمل» قال: قلت له: لا قوة إلّا باللّه، قال: «أيسر حق منها: أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك.

والحق الثاني: أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أمره.

والحق الثالث: أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك.

والحق الرابع: أن تكون عينه ودليله ومرآته.

والحق الخامس: أن لا تشبع ويجوع ولا تروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى.

والحق السادس: أن يكون لك خادمٌ وليس لأخيك خادمٌ فواجبٌ أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه.

والحق السابع: أن تبر قسمه وتجيب دعوته وتعود مريضه وتشهد جنازته، وإذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها ولا تلجئه أن يسألكها ولكن تبادره مبادرة، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك»(1).

نعم، هكذا كان المعصومون(عليهم السلام) وهكذا كانت توجيهاتهم للمؤمنين في الحث على السعي لقضاء حوائج الناس، إلى جانب تعليمهم وتربيتهم على الأخلاق والفضيلة.

الشيخ الحائري وإغاثة محتاج

كان للمرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري (مؤسس الحوزة العلمية بقمالمقدسة) خادم يدعى (الشيخ علي) قال: في إحدى ليالي الشتاء كنت نائماً في ساحة منزل الشيخ، فسمعت صوتاً بالباب، فنهضت وفتحت الباب فوجدت امرأة فقيرة تقول: إن زوجي مريض وليس عندنا دواء ولا غذاء وحتى الفحم للتدفئة لا يوجد عندنا، فأجبتها بالقول: أيتها السيدة لا نستطيع في هذا الوقت من الليل أن

ص: 494


1- الكافي 2: 169.

نعمل شيئاً، وأنا أعلم بأن الشيخ ليس بحوزته شيء حتى يقوم بمساعدتك.

فرجعت المرأة خائبة، فصاح بي الشيخ بعد أن سمع كلامنا، وقال لي: يا شيخ علي إذا كان يوم القيامة وسأل اللّه مني ومنك، في هذه الساعة من الليل جاءت أمتي إلى باب داركم ولم تلبوا حاجتها؟ ماذا يكون جوابنا؟

فقلت: أيها الشيخ! ما الشيء الذي نستطيع أن نفعله الآن لهذه المرأة؟

فقال: أنت تعرف منزل هذه المرأة؟

فقلت: أعرفه ولكن يصعب الذهاب إليه الآن حيث إن الشوارع مكسوة بالطين والثلج.

فقال: قم نذهب.

فلما وصلنا رأينا زوجها المريض، وشاهدنا المنزل، ورأينا صحة أقوال المرأة.

فأمرني الشيخ بأن أذهب إلى الدكتور صدر الحكماء وأنقل له عن لسان الشيخ أن يأتي لفحص الرجل المريض، فذهبت إلى الطبيب المعالج وجئت به فكتب له العلاج وأعطاني الورقة وذهب، فطلب مني الشيخ أن أذهب إلى الصيدلية لأشتري الدواء بحساب الشيخ، فذهبت وجئت بالأدوية، ثم طلب الشيخ مني أن أذهب إلى منزل فلان لأشتري كيساً من الفحم على نفقة الشيخ، فجئت بالفحم مع مقدار من الأكل.

والخلاصة، أن عائلة الفقير في تلك الليلة قد دخلها السرور من كل جانب،فمريضهم تحسنت حالته بعد تناول الدواء وأكلوا الطعام، وتدفئوا.

ثم قال لي الشيخ: ما كمية اللحم التي تأتي بها إلى منزلنا؟

قلت: سبعمائة غرام، فقال: أعطِ نصفه إلى هذه العائلة كل يوم، والنصف الباقي يكفينا، ثم طلب مني أن نذهب لننام.

ص: 495

نموذج آخر

كان في سوق العطارين في مدينة النجف الأشرف شخص يعرف باسم الحاج محمد رضا الشوشتري وكان شخصية معروفة جداً بين الناس، ومن أسباب تكون شخصيته الكبيرة هذه أنه كان يسعى دائماً في قضاء حوائج الناس، ولما انتشر صيته وأصبح معروفاً بين الناس، واستفاد من شخصيته أيضاً في التوصل إلى الأغنياء والتجار لأجل قضاء حوائج الناس.

نقل أحد الأشخاص: بأن امرأة مرضعة جف اللبن لديها، وقد راجعت الأطباء، فقالوا لها: يجب عليك أن تأتي بثعلب صغير ليمص الحليب من ثدييك لكي يرجع الحليب إلى صدرك ثانية، احتارت المرأة من أين تأتي بهذا الثعلب الرضيع، فجأة تذكرت الحاج محمد رضا الشوشتري(رحمه اللّه) فذهبت إليه مسرعة، وأخبرته بالأمر، فقبل الحاج طلبها ولكن طلب منها أن تمهله يومين ليهيئ لها ذلك، في اليوم التالي توجه الحاج الشوشتري إلى سوق تأتي إليه النساء القرويات من المزارع والبساتين لبيع ما عندهن من الحليب والصوف والدهن وما أشبه، فأعطى لإحداهن عشر روبيات وقال لها: أريد منك أن تصيدي لي جرو الثعلب وتجلبيه لي، وفي اليوم الثاني جاءت المرأة بالجرو، فذهب به إلى المرأة التي طلبته منه، فأخذت المرأة الثعلب وبتجويز الأطباء قربته من صدرها فامتص الحليب من صدرها فجرى الحليب فيه.

فبهذه الأعمال الصالحة التي كانت تصدر من هذا الرجل الصالح جعلت إقبال الناس عليه أكثر فأكثر.

لذا فنحن أيضاً لا بد أن نمتلك هذه الحالة في أنفسنا، بل لا بد أن نتنافس في الأمور الخيرية؛ لكي نتمكن من خدمة الإسلام والمسلمين، وأن تكون أعمالنا خالصة

ص: 496

للّه عزّ وجلّ وأن لا نتعذر بأننا لا نمتلك الأهلية في القيام بالأعمال الصالحة.

يقول الإمام أبو جعفر الباقر(عليه السلام) في وصف الإنسان المؤمن قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لم يعبد اللّه عزّ وجلّ بشي ء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول والشر منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره ويستقل كثير الخير من نفسه، ولا يسأم من طلب العلم طول عمره، ولا يتبرم بطلاب الحوائج قبله، الذل أحب إليه من العز والفقر أحب إليه من الغنى، نصيبه من الدنيا القوت، والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحداً إلّا قال هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان فرجل هو خير منه وأتقى وآخر هو شر منه وأدنى، فإذا رأى من هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شر منه وأدنى قال عسى خير هذا باطن وشره ظاهر، وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده وساد أهل زمانه»(1) أي: إن الإنسان المؤمن هو الذي يمتلك الصفة الخيرة، وفي نفس الوقت لا يصل منه أذى لأحد من الناس، وأي عمل أفضل من تقديم الخير والمعونة للآخرين وقضاء حوائجهم!!

حكومة الأدارسة في المغرب

هناك ما يقارب المائة من الحكومات الشيعية التي قامت في التاريخ ووصلت إلى الحكم وأخذت زمام الأمور بيدها، ولكن لم يكتب كتاب جامع ومفصليشتمل على ذكر الجزئيات والتفاصيل في هذا المجال؛ لذا فمن اللازم علينا السعي في تأليف مثل هذا الكتاب وتزويد المكتبات الإسلامية به.

إحدى هذه الحكومات هي حكومة الأدارسة


1- الخصال 2: 433.

بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).(1) وسائل الشيعة 15: 54.(2) سورة البقرة، الآية: 156.(3) بحار الأنوار 48: 165.(4) فخ: بفتح أوله، وتشديد ثانيه، والفخ واد بمكة، ويوم فخ كان أبو عبد اللّه الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الإمام الحسن المجتبى بن الإمام علي بن أبي طالب(عليهم السلام) خرج يدعو إلى نفسه في ذي القعدة سنة (169ه) فبايعه جماعة من العلويين بالخلافة بالمدينة وخرج إلى مكة، فلما كان بفخ لقيته جيوش بني العباس فقتل وأهل بيته فبقي قتلاهم ثلاثة أيام حتى أكلتهم السباع. انظر معجم البلدان 4: 237 وقال الإمام الجواد(عليه السلام): «لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ» بحار الأنوار 48: 165.(5) وقيل: في زمن موسى الهادي ابن المهدي ابن المنصور العباسي، انظر: سير أعلام النبلاء 7: 443.(6) انظر مقاتل الطالبين: 324.


1- نسبة إلى إدريس بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) الذين كانوا أبناء عم للإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، وكان الأئمة(عليهم السلام) يؤيدون مثل هؤلاء الأشخاص، وهناك ما يقارب أربعين إلى خمسين رواية في كتب التاريخ تبيّن أن الأئمة(عليهم السلام) كانوا يؤيدون هذه الحركات والنهضات الإسلامية، ومن جملة تلك الروايات الرواية الواردة عن الإمام الصادق(عليه السلام): «... ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعلي نفقة عياله»
2- أي: أحب أن أرى ذرية رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخرجون على خلفاء الجور وأنا الذي أتكفل بنفقة عيالهم. وقال الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) حينما أروه رأس الحسين بن علي بن الحسن صاحب فخ: «{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}
3- مضى واللّه مسلماً صالحاً صواماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ما كان في أهل بيته مثله»
4- ، وقد يكون هذا أحد الأسباب في توجيه التهم إلى أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بجمع الأسلحة والأموال لإستخدامها في الثورة على الأنظمة الحاكمة من قبل أعدائهم وحكام الجور معاصريهم، فبعد وقعة فخ
5- هرب إدريس من يد هارون العباسي
6- وقصدالمغرب واستطاع هناك تأسيس حكومة الأدارسة
الأرض للّه ولمن عمرها

وكان من أهم الأعمال والقوانين التي وضعها موضع التطبيق والعمل هو قانون: (الأرض للّه ولمن عمرها) فقد قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «أيما رجل أتى خربة بائرةً فاستخرجها وكرى أنهارها وعمرها فإن عليه فيها الصدقة، وإنْ كانت أرض لرجل قبله فغاب عنها وتركها فأخربها ثم جاء بعد يطلبها فإن الأرض للّه ولمن عمرها»(1).

وعن أبي جعفرٍ(عليه السلام) قال: «وجدنا في كتاب علي(عليه السلام): {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2) أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض، ونحن المتقون، والأرض كلها لنا فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها فإن تركها أو أخربها، فأخذها رجلٌ من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها، فليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل حتى يظهر القائم(عليه السلام) من أهل بيتي بالسيف، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومنعها إلّا ما كان في أيدي شيعتنا فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم».وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من غرس شجراً أو حفر وادياً بدءاً لم يسبقه إليه أحدٌ وأحيا أرضاً ميتة فهي له قضاء من اللّه ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(3)، ولكون الحكام السابقين كانوا يمنعون الناس من العمل وفق هذا القانون الإلهي؛ لهذا وافقوا عليه وانتخبوه حاكماً على البلاد وبقي على منصبه هذا حتى آخر عمره وأسس فيها مدن كبيرة منها مدينة باسم فاس.

ص: 499


1- الكافي 5: 279.
2- سورة الأعراف، الآية: 128.
3- الكافي 5: 279.

فخلاصة القصة: أن إدريس استطاع أن يكون حاكماً على بلاد المغرب حتى مقتله شهيداً ولكن موته لم يقض على مشروع الدولة الإدريسية الذي عمل وبذل جهده له، إذ أن أتباعه صمموا على الاحتفاظ باستقلالهم، فاستطاع أن يدخل في قلوب الناس، وذلك عن طريق إخلاصه وسعيه في تقديم الخير والعمل الصالح للآخرين. والإنسان الذي يريد أن تكون له شخصية مرموقة لا بد أن ينمي في نفسه حالة التقوى والزهد كثيراً.

الزهد والتقوى

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة صوت معروف ولم يحجب عن السماء، ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجيب له إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة: إن ذا الصوت لا نعرفه»(1) فهذا يعني: أن المؤمن متى ما دعا اللّه عزّ وجلّ قالت الملائكة: إن هذا الصوت ليس بغريب: لهذا فهم يقولون كلمة آمين بعد دعائه، وليس معنى التقوى والزهد هو الانزواء عن المجتمع بل إن حقيقة التقوى والزهد هو الارتباط الدائم والصادق مع اللّه سبحانه وتعالى؛ لذا يقول الشاعر في وصف مولىالمتقين الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام):

هو البكاء في المحراب ليلاً *** هو الضحّاك إذا اشتد الضراب(2)

لذا يعتبر الزهد والتقوى من الصفات التي يتحلى بها المؤمنون الأتقياء، فإن هؤلاء هم الذين تنمو عندهم تلك الشخصية التي لا حدود لها.

وكما جاء عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا ذر، إذا أراد اللّهُ عزّ وجلّ بعبد خيراً

ص: 500


1- الكافي 2: 472.
2- البيت من قصيدة للشاعر ابن الفارض أوردها في سفينة البحار 7: 66.

فقهه في الدين وزهده في الدنيا وبصَّره بعيوب نفسه، يا أبا ذر، ما زهد عبدٌ في الدنيا إلّا أنبت اللّهُ الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانهُ وبصَّره بعيوب الدنيا وداءها ودواءها، وأخْرجهُ منْها سالماً إلى دار السلام، يا أبا ذر، إذا رأيت أخاك قد زهد في الدنيا فاستمع منهُ فإنه يُلقّن الحكمة»(1) فإن هذا العبد الذي يتلقى الحكمة هو الذي يمكن الاعتماد عليه بالنهوض بالحركة الإسلامية.

وفقنا اللّه عزّ وجلّ جميعاً لما يحب ويرضى وجعلنا من الدعاة إلى سبيله وخدمة دينه.

{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(2).

{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ}(3).

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَءَامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(4).

من هدي القرآن الحكيم

المؤمن القوي

قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

ص: 501


1- مكارم الأخلاق: 463.
2- سورة التحريم، الآية: 8.
3- سورة البقرة، الآية: 286.
4- سورة الحشر، الآية: 10.
5- سورة البقرة، الآية: 3.

الْمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ وَأُوْلَٰئِكَ مِنَ الصَّٰلِحِينَ}(1).

وقال سبحانه: {لَّٰكِنِ الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوٰةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ أُوْلَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}(2).

وقال جلّ وعلا: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(3).

إخلاص المؤمن

قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ}(4).

وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(5).وقال عزّ وجلّ: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(6).

وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوٰةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}(7).

ص: 502


1- سورة آل عمران، الآية: 114.
2- سورة النساء، الآية: 162.
3- سورة البقرة، الآية: 256.
4- سورة الزمر، الآية: 3.
5- سورة الفاتحة، الآية: 5.
6- سورة ص، الآية: 82-83.
7- سورة البينة، الآية: 5.
من خصال المؤمن

قال جلّ وعلا: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(2).

وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَٰهِلِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرَامًا}(6).وقال سبحانه: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواْ مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

كيفية خلق المؤمن وخصاله

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن في الجنة لشجرة تسمى المزن فإذا أراد اللّه أن

ص: 503


1- سورة الأعراف، الآية: 199.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.
3- سورة المؤمنون، الآية: 1-3.
4- سورة المؤمنون، الآية: 8.
5- سورة القصص، الآية: 55.
6- سورة الفرقان، الآية: 72.
7- سورة البقرة، الآية: 262

يخلق مؤمناً أقطر منها قطرة، فلا تصيب بقلة ولا ثمرة أكل منها مؤمن أو كافر إلّا أخرج اللّه عزّ وجلّ من صلبه مؤمناً»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقوراً عند الهزاهز، صبوراً عند البلاء، شكوراً عند الرخاء، قانعاً بما رزقه اللّه، لا يظلم الأعداء ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب والناس منه في راحة، إن العلم خليل المؤمن والحلم وزيره، والعقل أمير جنوده، والرفق أخوه والبرّ والده»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لم يعبد اللّه عزّ وجلّ بشي ء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول والشر منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره ويستقل كثير الخير من نفسه، ولا يسأم من طلب العلم طول عمره، ولا يتبرم بطلاب الحوائج قبله، الذل أحب إليه من العز والفقر أحب إليه من الغنى، نصيبه من الدنيا القوت، والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحداً إلّا قال: هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان: فرجل هو خير منه وأتقى، وآخر هو شر منه وأدنى، فإذا رأى من هو خير منه وأتقى تواضع لهليلحق به، وإذا لقي الذي هو شر منه وأدنى، قال: عسى خير هذا باطن وشره ظاهر وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده وساد أهل زمانه»(3).

قضاء حاجة المؤمن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من قضى لأخيه المؤمن حاجة كان كمن عبد اللّه دهراً»(4).

ص: 504


1- الكافي 2: 14.
2- وسائل الشيعة 15: 185.
3- الخصال 2: 433.
4- بحار الأنوار 71: 302.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى اللّه عزّ وجلّ له يوم القيامة مائة ألف حاجة من ذلك، أولها الجنة ومن ذلك أن يدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنة بعد أن لا يكونوا نصاباً»(1)(2).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إن خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم، وإلّا لم يقبل منكم عمل حنّوا على إخوانكم وارحموهم تلحقوا بنا»(3).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «إن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه فلا تكون عنده فيهتم بها قلبه فيدخله اللّه تبارك وتعالى بهمّه الجنة»(4).

مراتب الإخلاص

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مخبراً عن جبرئيل عن اللّه عزّ وجلّ: «الإخلاص سر منأسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أخلص للّه أربعين يوماً فجر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «سادة أهل الجنة المخلصون»(7).

وقالت سيدة النساء فاطمة الزهراء(عليها السلام): «من أصعد إلى اللّه خالص عبادته

ص: 505


1- قال العلامة المجلسي في مرآة العقول 9: 102، في بيان معنى الناصب: أقول: الناصب في عرف الأخبار يشمل المخالفين المتعصبين في مذهبهم فغير النُصّاب هم المستضعفون.
2- الكافي 2: 193.
3- بحار الأنوار 72: 379.
4- الكافي 2: 196.
5- منية المريد: 133.
6- عدة الداعي: 227.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 400.

أهبط اللّه عزّ وجلّ له أفضل مصلحته»(1).

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «طوبى لمن أخلص للّه عمله وعلمه، وحبه وبغضه، وأخذه وتركه، وكلامه وصمته، وفعله وقوله...»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(3) قال: «ليس يعني أكثركم عملاً ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية اللّه، والنية الصادقة الحسنة - ثم قال - الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ، والنية أفضل من العمل، ألّا وإن النية هي العمل - ثم تلا قوله عزّ وجلّ - {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ}(4) يعني على نيته»(5).

أمير المؤمنين(عليه السلام) يصف المؤمن

ومن كلام لأمير المؤمنين(عليه السلام) في المؤمن وصفاته وعلائمه:

1- المؤمن كيس عاقل(6).

2- المؤمن هين، لين، سهل، مؤتمن(7).

3- المؤمن قليل الزلل، كثير العمل(8).

ص: 506


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 108.
2- تحف العقول: 100.
3- سورة الملك، الآية: 2.
4- سورة الإسراء، الآية: 84.
5- الكافي 2: 16.
6- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 89.
7- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 89.
8- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 89.

4- المؤمن صدوق اللسان بذول الإحسان(1).

5- المؤمن من كان حبه للّه وبغضه للّه، وأخذه للّه وتركه للّه(2).

ص: 507


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 89.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 89.

دور الأمل في حياة الإنسان

الأمل

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الأمل رفيق مؤنس»(1).

الأمل نعمة من نعم اللّه عزّ وجلّ للإنسان، حيث تبقى شعلة الروح مشتعلة ووهاجة...، وتبقى الفكرة ناضجة... وتبقى التطلعات الإنسانية قائمة، ويبقى السعي حثيثاً نحو الأهداف بواسطة الأمل... ذلك لأنه شعور نحو الدوام وإحسان بالتواصل. إذ بالأمل تتصل حلقات الحياة، ويُستعمر عمر الإنسان بالعطاء... فهو الروح الذي يبعث الواحة في النفس، ويبعد عنها آلامها وأزماتها، أما إذا ارتفع الأمل من شعور الإنسان فإنه سوف يجد التعب والضيق الدائمين. وإن الأطباء القُدامى والمعاصرين يوصون الناس بأن لا يقولوا لمرضاهم الكلام الذي يُزيدهم ألماً ومرضاً، بل يقولوا لهم الطيب من الكلام الذي يبعث فيهم الأمل على الشفاء والعافية، ليكون الأمل الروحي له تأثير كبير في بعث الصحة في بدن المريض، كما يذكر التاريخ أنّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما كان يسمح للخوف والضعف أن ينفذ إلى نفوس المسلمين، بل يبعث في نفوسهم الأمل الكبير في النصر والتقدم. ولهذا كان المسلمون في حالة ترقّب وبشرى دائمين، فاستطاعوا بسبب الأمل تبديل السنين الصعبة بسنين طيبة يشوبها النجاح والانتصار، بفعل

ص: 508


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 56.

الأمل الكبير الذي كان عندهم. وقد قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الأمل رحمة لامتي ولولا الأمل ما أرضعت أم ولداً، ولا غرس غارس شجراً»(1).

فالأُم عندما تعطي اللبن لولدها تأمل من ذلك أن يكبر وترى منه الخير والصلاح، والغارس عندما يغرس الشجر على أمل أن يكبر، ويجني منها ثمرها، ويستفيد منها، فإذا لم يملك الطبيب أملاً فإنه يعجز عن علاج مريضه، وهكذا المريض عندما يذهب للطبيب يأمل بذلك الشفاء من مرضه، والإنسان الذي يجمع الأموال يأمل أن يجد منها اللذّة، فأما أن يتزوج بها، أو يشتري بيتاً، أو يكسب اعتباراً. والطالب الذي يذهب إلى المدرسة يأمل من ذلك أن يكون رجلاً نافعاً لمجتمعه ولنفسه، فتارة يدرس لكي يكون مهندساً أو طبيباً أو عالماً أو تاجراً، فالأمل يبعث الحيوية والنشاط في النفوس، ويدفع نحو السعي والعمل، وإذا ما استولى اليأس على مجتمعٍ، فإنه سوف يتجه نحو التأخر إلى أن يصل إلى درجة الفشل والسقوط النهائي.

الروح العالية

وإن هناك رواية تقول: إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما كان يحفر الخندق مع المسلمين، ضرب ضربة بمعوله على صخرة فانقدح منها نور، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): رأيت قصور كسرى في هذا النور، وفي الضربة الثانية قال: رأيت في هذا النور المتشعشع قصور الحيرة في العراق، وضرب ثالثة قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأيت قصور الشام(2)، وفي هذا بثّ الروح الخلّاقة التي تحمل الأمل، والتفاؤل بالنصر وفتح البلاد وانتشار الدين في أقرب وقت، الأمر الذي ملأ قلوب المسلمين بالأمل والمستقبل الزاهر، وكان المسلمون

ص: 509


1- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 21.
2- انظر تفسير القمي 2: 178.

على هذا الأمل تتوالى انتصاراتهم وفتوحاتهم. لقد أودع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكلماته تلك روح التحمل والمقاومة في تلك القلوب، وأبقى فيها شعلة الثورة مضطرمة متأججة، وهاجس الجهاد من أجل إنقاذ العباد وتعبيدهم للّه عزّ وجلّ فعّالاً، وكسر شوكة الطغاة أمراً محتملاً ومقدوراً، ذلك لأن المسلمين في الغالب كان لديهم خوف دائم من اسم الامبراطورية الفارسية والرومانية، ولم يفكر أحد بأن تذوب هاتان الدولتان العظيمتان، ويكون حالهما حال الأقوام التي غضب اللّه عليها، فأذاقها الويلات. ولذا عندما أخبرهم الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بانهيار هاتين الدولتين على أيديهم استصعب بعضهم ذلك، وتصوروا أن النبي إنما يتكلم عن أماني لا واقع لها، ليخدع المسلمين: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(1). لقد كان خبر سيطرة المسلمين على بلاد الروم والشام والحيرة كبيراً على عقول بعض الناس، لأنهم كانوا يعيشون الانهزام الداخلي والفرار الروحي وضعف إرادتهم، وكل ذلك انعكس على حياتهم، فلم يحملوا أملاً ولو ضئيلاً بأنهم سوف ينتصرون على الطغاة يوماً. ولذلك كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعمل دائماً لتقوية إرادتهم وبث الأمل الصحيح والممدوح فيهم، لئلا يسيطر اليأس عليهم فيركنوا إلى الجمود والسكون. ولقد اتخذ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) طريقين لزرع الأمل في قلوب المسلمين:

الأول: عبر الكلام المتمثل بالقرآن الكريم والأحاديث، فمثلاً: الآية الكريمة: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(2)، والآية: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَٰلِبُونَ}(3)، والآية: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(4). وكذلك

ص: 510


1- سورة الأحزاب، الآية: 12.
2- سورة يوسف، الآية: 87.
3- سورة الصافات، الآية: 173.
4- سورة محمد، الآية: 7.

الأحاديث والروايات مثلاً: «كل قانط آيس»(1)، و«للآيس الخائب مضض الهلاك»(2).

الثاني: كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبث الأمل في نفوس المسلمين عبر العمل الدؤوب المتواصل مع تحمل التعب والعناء والمآسي، وعدم إظهار اليأس والقنوط والتعب.

طول الأمل

اشارة

لقد ذكرت الروايات نوعين من الأمل؛ أحدهما: ممدوح مرغوب فيه، وقد حثت عليه الآيات والروايات، والتي ذكرنا شطراً منها سابقاً، والآخر: مذموم يؤدي إلى نتيجة سيئة، وهو المسمى ب- (طول الأمل) أي: أن يعتقد الإنسان بقاءه إلى دهر طويل، ويتصور أنّ عمره مديد، وأيامه ممتدة، ويلازم هذا الاعتقاد الفاسد التعلق بكل ألوان الدنيا وزخارفها. والمتأمل في حقيقة هذه الفكرة يجدها ترجع إلى الجهل الذي خيَّم على النفس فجهلت واقع الدنيا وحقيقتها، واضمحل الهدف، واضطربت الأفكار، فلم تعد الرؤى واضحة، ولا المسير مبيّناً... ولذلك ترى الإنسان الجاهل يسلك الطرق الشيطانية التي يوحيها إليه متخيلاً أنها مما يدعو إليه العلم.

أما التوابع السيئة الناتجة من هذه الخصلة فهي:

1- انعدام الرؤية الكلية عن العالم، واختصاص التفكير والسلوك في عالم الدنيا فقط، مما يؤدي بالإنسان إلى الجحيم في الآخرة، لانعدام رصيده الإيمانيمن العمل الصالح أو العبادات.

ص: 511


1- عيون الحكم والمواعظ: 375.
2- عيون الحكم والمواعظ: 403.

2- اشتداد الحبّ للدنيا والتعلق بها، مما يؤثر أو يلغي حب اللّه في القلب، فيكون مظلماً. وعلى ذلك تنطلق السلوكيات السيئة والكلام السيء من هذا القلب.

3- لأن صاحب الأمل الطويل لا يفكّر بالموت والنهاية، فهو دائماً يضع خططاً وبرامج، ولا يرسم نهاياتها، فتبقى أموره مضطربة. وعند الموت تنهار المخططات الخيالية، والأماني الفارغة.

4- تصاعد الأماني الكاذبة في حياته، لأنه دائماً يأمل في أن يبقى فترة أطول، ويحقق كل أمانيه التي يبثّها إليه الشيطان، فيظل يعيش الأمنية الكاذبة والإيحاءات الباطلة دون أن يصل إليها إلى أن يدركه الموت: ف- «الأمل سلطان الشيطان على قلوب الغافلين»(1).

5- صاحب الأمل الطويل يسوء عمله دائماً، وتسوء سمعته على أثر ذلك، لأنه سوف يشتد التصاقاً بالدنيا وتوابعها، فيكون ذا طابع مادي محض، فتذوب كل المعنويات ومعاني الاحترام في داخله، فيتعامل مع الناس تعاملاً جافّاً، حفاظاً على أملاكه، وحرصاً على الدنيا؛ «أطول الناس أملاً أسوؤهم عملاً»(2). ولا شك فإنه تبقى هناك نتائج سيئة أعرضنا عنها خوفاً من الإطالة.

الأمل أغناه

على الرغم من وجود مساوئٍ في طول الأمل إلّا أنه لا تغيب الإيجابيات عنه إن كان معتدلاً، وهو عدم اليأس والتطلع نحو النجاح مع تهيئة الأسبابوالمقدمات. أما أن يأمل الإنسان في النجاح والرفاه بدون سعي وعمل وتهيئة،

ص: 512


1- تنبية الخواطر ونزهة النواظر 2: 18.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 196.

فإن ذلك وهم وخيال، ذلك لأن الأمل حاله حال الغضب، إذ عندما يخرج عن حدّ الاعتدال فإن الإنسان يكون على صفة الوحوش، وعندما يذوب وينمحي من شخصيته، فإنه لا يدفع لا عن العرض ولا عن المال ولا عن الدين. وهنا الاعتدال هو المفهوم من قوله(عليه السلام): «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»، فهو ميزان دقيق ينبذ الإفراط، ويتجنّب التفريط.

يُحكى أنه كان في بغداد شخص فقير جداً ولم يكن قادراً على جلب الطعام لزوجته وأطفاله. فقالت له زوجته يوماً: اذهب واسع لكي تجلب لنا شيئاً نأكله، فقال الزوج: لا أعرف وسيلة أستطيع من خلالها الحصول على المال، فقالت له الزوجة: خُذ هذه الجرّة واملأها بالماء من نهر دجلة وبعه على الناس. فقال الزوج: لا بأس بذلك، فلما ذهب إلى النهر رأى على ساحل النهر جماعة عليهم آثار الثراء والنعمة، يريدون الركوب في إحدى السفن، فتقرب منهم، ودون أن يسألهم عن مقصدهم وسبب ذهابهم ركب السفينة معهم، وقال في نفسه: يظهر بأن هؤلاء مدعوون إلى وليمة ولا ضير في الذهاب معهم، فعلَّني أنقذ نفسي من الجوع، وأجلب شيئاً من الطعام الفائض عن الحاجة لعائلتي وسأل اللّه عزّ وجلّ أن يسهل له أمره، ويذلل العقبات في طريقه، ويرزقه ما يسدّ به جوع أهله. وبعد ذلك ظهر أنهم شعراء، قدموا على الحاكم لكي يقرأوا له الشعر، ويأخذوا منه الجوائز النفيسة على أشعارهم، وبعد أن أفرغ الشعراء ما في قرائحهم عند الحاكم جاء دور الرجل الذي كان قد علّق الجرّة على ظهره، فقال له الحاكم: أسمعنا ما عندك؟ فتلا بيتين من الشعر منسوبين للإمام الحسين(عليه السلام)(1) ثم أضاف عليهمابيتاً من نفسه. فقال:

ص: 513


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 66.

إذا جادت الدنيا عليك فجُد بها *** على الناس طُرّاً قبل أن تتفلَّتِ

فلا الجود مفنيها إذا هي أقبلت *** ولا البخل مبقيها إذا هي ولَّت

وبعدها أضاف من نفسه قائلاً:

ولما رأيتُ الناسَ شَدّوا رِحالِهم *** إلى بحرك الطامي أتيت بجرَّتي!

وأخذ الجرّة التي كانت على ظهره من فوره ووضعها أمامه، ولم تكن تخفى ظرافة حركته تلك، خاصة في ذلك المجلس. ولهذا أمر الحاكم بأن تُملأ جرَّته بالذهب، فحمل جرَّته وعاد إلى بيته، وصار أحد أغنياء بغداد، بعد أن كان فقيراً. وهذه نتيجة الأمل الذي بذرته المرأة في قلب زوجها، بحيث جعله يقف أمام الخليفة ليأخذ منه حاجته، مع أنه لم يكن قصارى بغيته أكثر من الحصول على طعام يسدّ رمقه وعائلته! وللّه في تسهيله شؤون، لا سيما إذا كان الأمل مقروناً بالدعاء والتوسل به عزّ وجلّ، فإن القوى الدنيوية كُلّها بيده سبحانه وتعالى؛ يقول السبزواري:

أزمّة الأمور طُرّاً بيده *** والكُلُّ مستمِدَةٌ من مَدَدِهِ

وهذا أمر يسوقنا إلى التذكير بضرورة امتزاج الأمل بأمور، حتى يكون إيجابياً ومنتجاً... وفي الطريق الصحيح:

1- أن تكون نفس الإنسان مملوءةً بالأمل والتفاؤل بالخير والمستقبل الكبير.

2- الدعاء والتضرع إلى اللّه سبحانه وتعالى في المجالات كلّها.

3- العمل والحركة في المجالات الممكنة.

الأمل والإرادة

ينقل المؤرخون أنّ رجلاً كان يغرس شجرة للجوز فمرّ عليه أنوشيروان الملك، فقال له: يا هذا إن عمرك لا يكفيك لتجد ثمرة هذه الشجرة التي تغرسها،

ص: 514

فلماذا إذن تغرسها؟ فقال الرجل: زرع الآخرون فأكلنا، ونحن نزرع ليأكل الآخرون! فقال انوشيروان له: أحسنت، ثم أعطاه مبلغاً من المال على كلماته الحكيمة وإحساسه بالمسؤولية، بعدها قال الرجل الكبير: من العجيب أن الناس جميعاً يأكلون بعد أن يزرعوا، ولكني آكل الثمر حين الزرع والعمل (قصد هدية الملك) فقال الملك انوشيروان له: أحسنت، وأعطاه هدية أخرى، فقال الرجل: من العجيب أيضاً أن الناس يأكلون ثمر الشجر في السنة مرة واحدة، وإنّي في مدة قصيرة آكل ثمر الشجر مرتين فقال له انوشيروان: أحسنت، وقدّم له جائزة ثالثة، بعدها قال أحد الوزراء: إن بقينا هنا واقفين واستمر الملك في حواره مع هذا الرجل، فإنه سوف يأخذ الكثير من أموال الخزينة!

ولقد كان أحد رجال الغرب يقول: نحن نقوم بالأعمال والمشاريع التي يبقى ثمرها مستمراً لصالح شعبنا، إلى بعد ثلاث مئة سنة.

إذن فليس من الصحيح أن يقصر الإنسان أمله على ما يجنيه بنفسه في أمد قصير. بل عليه أن يتحلّى بروحية كبيرة وأمل عظيم يحتضن به الناس والأجيال القادمة، فيعمل من أجل أن يستفيد القادمون غداً، وكما هو دأب الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، فإنهم يضعون أنفسهم في المواقف الخطيرة، لتكون النتائج عظيمة، ينهل منها الجميع. إن صاحب الأمل المعتدل في الحياة هو ذلك الإنسان الذي ملك إرادته واختياره، فلا تعرف إرادته الخضوع والخمول ولا الذلَّ ولا التوقف عن العمل المتواصل. إنها الإرادة القوية والعزيمة الصلبة. التي تدفعه نحو استيعاب الحياة والخوض فيها، دون أن يتأثر بها. وإنما يؤثر فيها من خلال الإرادة الصلبة والأمل الكبير.

وهكذا عباد اللّه الصالحون، فإنهم يعبدون اللّه من خلال الأمل... أملهم في لقائه عزّ وجلّ، وأملهم برضاه وأملهم بالنجاة في يوم يكون الأمر والحكم للواحد

ص: 515

القهّار. فالأمل هو الذي يدفعهم نحو اللّه تعالى، وهو - الأمل - بدوره نعمة من اللّه يودعها قلب عبده العابد المؤمن.

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، واجعل أوسع رزقك عليَّ إذا كبرت، وأقوى قوتك فيَّ إذا نصبت، ولا تبتلني بالكسل عن عبادتك، ولا العمى عن سبيلك، ولا بالتعرض لخلاف محبتك، ... اللّهم اجعلني أصول بك عند الضرورة، وأسألك عند الحاجة، وأتضرّع إليك عند المسكنة»(1)، بحق محمّد وآله الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

يجب أن يكون الأمل مصحوباً بأمور
الدعاء إلى اللّه تعالى

قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(2).

وقال سبحانه: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}(3).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(5).

والتوكل عليه عزّ وجلّ

قال عزّ اسمه: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(6).

ص: 516


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة البقره، الآية: 186.
3- سورة الأعراف، الآية: 55.
4- سورة الفرقان، الآية: 77.
5- سورة غافر، الآية: 60.
6- سورة آل عمران، الآية: 159.

وقال جلّ شأنه: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}(1).

وقال عزّ من قائل: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(2).

وقال جلّ ثناؤه: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ}(3).

والعمل

قال تعالى: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَاعْمَلُواْ صَٰلِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(6).

وقال جلّ وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ...}(7).

إبتعد عن اليأس

قال عزّ اسمه: {فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَٰنِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّاالضَّالُّونَ}(8).

ص: 517


1- سورة التوبة، الآية: 129.
2- سورة هود، الآية: 88.
3- سورة الطلاق، الآية: 3.
4- سورة الأنعام، الآية: 132.
5- سورة التوبة، الآية: 105.
6- سورة سبأ، الآية: 11.
7- سورة الجاثيه، الآية: 30.
8- سورة الحجر، الآية: 55-56.

وقال جلّ شأنه: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1).

وقال عزّ من قائل: {قُلْ يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

يجب أن يكون الأمل مصحوباً بأمور
الدعاء إلى اللّه تعالى

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن العبد لا يخطئه من الدعاء إحدى ثلاثة: إما ذنب يُغفَرُ له، وامّا خير يُعجَّلُ له، واما خير يدّخر له»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في بيان صفات المتقين: «ذُبلُ الشفاه من الدعاء»(4).

وقال(عليه السلام): «الدُعاءُ سلاحُ الأولياء»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من شيء أحبّ إلى اللّه من أن يُسأَل»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عليكم بالدعاء فإنكم لا تقربون بمثله»(7).

والتوكل عليه عزّ وجلّ

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أحبَّ أن يكون أقوى الناس فليتوكل على

ص: 518


1- سورة العنكبوت، الآية: 23.
2- سورة الزمر، الآية: 53.
3- المحجة البيضاء 2: 282.
4- نهج البلاغة الخطب الرقم: 121 ومن خطبة له(عليه السلام) بعد ليلة الهرير.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 46.
6- تحف العقول: 282.
7- الكافي 2: 467.

اللّه»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «والتوكل على اللّه نجاة من كل سوء، وحرز من كل عدوّ»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «من توكل على اللّه لا يُغلَب ومن اعتصم باللّه لا يُهزم»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّ الغنى والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا»(4).

والعمل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... ولكن الإيمان ما خلص في القلب وصدّقه الأعمال»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بإدمان العمل في النشاط ولكسل»(6).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إنّ أحبّكم إلى اللّه عزّ وجلّ أحسنكم عملاً»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «دعا اللّه الناس في الدنيا بآبائهم ليتعارفوا، وفيالآخرة بأعمالهم ليجازوا»(8).

ص: 519


1- تحف العقول: 27.
2- كشف الغمة 2: 346.
3- روضة الواعظين 2: 425.
4- الكافي 2: 65.
5- معاني الأخبار: 187.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 444.
7- الكافي 8: 68.
8- كشف الغمة 2: 207.
إبتعد عن اليأس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفاجر الرّاجي لرحمة اللّه تعالى أقربُ منها من العابد المُقنِط»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «قَتَلَ القُنُوط صاحبَهُ»(2).

وقال(عليه السلام): «للآيس الخائب مَضَضُ الهلاك(3).

ص: 520


1- نهج الفصاحة: 591.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 498.
3- عيون الحكم والمواعظ: 403.

فهرس المحتويات

إلى المجاهدين في العراق

خطاب إلى المجاهدين في العراق... 5

العلماء والحوزات العلمية... 11

سجناء العراق... 13

ليل العراق المظلم... 14

القضاء على الإسلام... 15

مما يلزم على المجاهدين... 16

أولاً: رص الصفوف... 17

ثانياً: العمل للّه... 18

ثالثاً: الجهاد بمختلف الوسائل... 20

من أين يبدأ التغيير؟... 22

مقومات التغيير... 24

حكومة الأكثرية... 24

التعددية... 24

الحرية... 25

القوانين الإسلامية... 25

الاكتفاء الذاتي... 26

اللاعنف... 27

ص: 521

من هدي القرآن الحكيم... 28

أقسام الجهاد... 28

الطغاة ومصيرهم... 29

الظالمون في ضلال... 29

الإخلاص في النية... 29

من هدي السنّة المطهّرة... 30

الجهاد... 30

الهجرة إلى اللّه تعالى... 30

الطاغوت والظلم... 31

العمل الخالص لوجهه تعالى... 32

السلطان الجائر... 32

إلى الهيئات الحسينية

الشيعة وقبور الأئمة(عليهم السلام)... 33

توسع المدن بمراقدهم(عليهم السلام)... 34

وصايا تخص الهيئات المقيمة في المشاهد المشرفة... 36

معرفة الإمام... 36

شكر النعمة... 36

قلة طلاب العلوم الدينية... 37

المجالس الحسينية... 38

ثمار المجالس... 40

ترسيخ حب أهل البيت(عليهم السلام)... 41

المجالس الحسينية والعائلة... 41

نشر معارف أهل البيت(عليهم السلام)... 43

ص: 522

نفحات من حب أهل البيت(عليهم السلام)... 45

إلى الهيئات عامة... 47

من هدي القرآن الحكيم... 48

تعريف الإسلام للناس... 48

إقامة مجالس الوعظ والإرشاد... 48

إقامة مجالس التفقه في الدين... 48

الاهتمام بالأعمال الخيرية... 49

لزوم اتباع الأئمة المعصومين(عليهم السلام)... 49

ضرورة إقامة المجالس الحسينية... 49

الاهتمام كثيراً بتعليم القرآن الكريم... 49

من هدي السنّة المطهّرة... 50

نشر حب أهل البيت(عليهم السلام)... 50

الاهتمام بالقرآن وتعليمه... 50

إقامة مجالس التفقه في الدين... 50

لزوم معرفة الإمام المعصوم(عليه السلام)... 51

ضرورة إقامة المجالس الحسينية... 51

فضائل زيارة قبور المعصومين(عليهم السلام)... 52

إلى حكومة شيعية في العراق

لكل شيء سبب... 54

المنجمون وعلماء الفلك... 55

مقدمات الوصول لحكومة الأكثرية... 56

1- الإنفاق سر التقدم... 56

حفظ كامل حقوق الأقليات... 57

ص: 523

نفوذ الإنجليز في العراق عن طريق الأموال... 57

إنفاق المال في الموارد الصحيحة... 58

لا للاحتكار، نعم للإنفاق... 58

تقسيم الأموال بأمر الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه)... 60

حكومة العراق المستقبلية... 61

2- وحدة الكلمة للوصول إلى حقوق الأكثرية... 62

التلبس بالدين... 63

العزم والإرادة بعد التوكل على اللّه... 64

السكاكي: قوة الإرادة... 65

من هدي القرآن الحكيم... 67

الحكومة الإسلامية الشاملة... 67

اتباع أحكام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 67

لا للطواغيت... 68

الشورى والمشاورة... 68

أهداف الحاكم المسلم... 69

من هدي السنّة المطهّرة... 69

الحكومة الإسلامية الشاملة... 69

اتباع أحكام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمر الولاية... 70

لا للطواغيت... 70

الشورى والمشاورة... 71

أهداف الحاكم المسلم... 72

انتهاء أمد اليهود في اغتصاب فلسطين

المقدمة... 73

ص: 524

اليهود لغةً وتاريخاً... 75

ادعاءات لا أساس لها... 76

أولاد يعقوب(عليه السلام)... 76

كفر اليهود... 77

اليهود ومحاولة قتل السيد المسيح(عليه السلام)... 79

اليهود في البلاد العربية... 79

تعامل المسلمين مع اليهود... 80

اغتصاب فلسطين... 81

اليهود وإمكان هدايتهم إلى الإسلام... 82

1- إسلام يهودي في النجف الأشرف... 83

2- إسلام يهودي في بغداد... 85

زواج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) باليهودية... 88

السعي لهداية اليهود... 89

مشكلة اليهود في أنفسهم... 90

من أخطاء اليهود... 92

اليهود وغصب فلسطين... 92

مكانة بيت المقدس عند المسلمين... 93

القبلة الأولى... 93

قصة الإسراء... 94

فتح القدس... 96

بيت المقدس مسكن الأنبياء(عليهم السلام)... 97

المسجد الأقصى... 97

فصل: روايات في القدس الشريف... 97

ص: 525

دعاء سليمان(عليه السلام) لمن يزور بيت المقدس... 98

نور إلى بيت المقدس... 98

قصور الجنة... 98

الصلاة نحو بيت المقدس... 98

الصلاة تعدل حجة أو عمرة... 99

ألف صلاة... 99

سبعة عشر شهراً... 99

الزيتون... 100

شيعة فلسطين... 100

إنقاذ العتبات المقدسة

مستقبل العراق والعتبات المقدسة... 101

البيان والقلم... 102

تعميق الوعي وتعبئة الرأي العام... 103

العقل المدبر... 105

هكذا تكون القيادة الإسلامية... 106

جواب عن إشكال... 107

العلم والعمل أسسا التقدم... 108

الدعاء... 109

مستقبل العراق... 109

1- المؤسسات الدستورية... 110

2- التعددية الحزبية... 111

3- شورى المراجع... 112

من هدي القرآن الحكيم... 113

ص: 526

العلم... 113

العلماء... 113

من أخلاق خاتم الأنبياء(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 114

أهمية العقل... 114

النظر في العاقبة... 115

من هدي السنّة المطهّرة... 115

زيارة العتبات المقدسة... 115

الدعاء ودفع البلاء... 116

الالتفاف حول الإمام(عليه السلام) وإطاعته... 116

حسن التدبير... 117

سوء التدبير... 117

في العقل وأحواله... 118

المشورة... 119

الهداية إحياء... 119

قضاء الحوائج... 120

آثار الظلم في الدنيا والآخرة

عاقبة الظلم... 121

عالم البرزخ... 122

عالم القيامة... 123

أنواع الظلم... 124

جزاء الظالم يوم القيامة... 126

جزاء القتل... 127

حبس الحق... 127

ص: 527

الحق عند أمير المؤمنين(عليه السلام)... 127

إمهال الظالم... 129

أثره على المظلوم... 130

أثره على المجتمع... 131

أثره في التجاوز على القانون... 132

السكوت عن الظلم... 133

شوكة في يد الظالم... 135

من هدي القرآن الحكيم... 136

الظلم... 136

إمهال الظالمين وجزاؤهم... 137

بعض آثار الظلم والظالمين... 137

أنواع الظلم... 137

من هدي السنّة المطهّرة... 138

الظلم... 138

إمهال الظالمين وجزاؤهم... 138

بعض آثار الظلم والظالمين... 139

أنواع الظلم... 140

إعانة الظلمة... 140

الإصرار على الذنب... 141

ظلم الرعية... 141

بين المسلمين واليهود

لماذا سيطر اليهود... 142

اليهود بين الأمس واليوم... 143

ص: 528

السر في انقلاب المعادلة... 144

إحصائية... 145

مثل قرآني... 146

الاقتداء بمساوئ اليهود... 148

رسالة إلى عرفات... 149

بين السلم والعنف... 150

روح الانتفاضة... 151

وحدة الصف... 151

لا تسمعون كلام اللّه... 153

التفاوض بذلة... 153

صفات اليهود... 154

الخطر التجاري... 154

الخطر الجنسي... 156

المخدرات والإيدز... 157

الصلح مع عرفات... 158

كيفية تنبيه المسلمين... 158

من هدي القرآن الكريم... 160

اللاعنف أنجح الحلول... 160

من صفات القائد العفو والصفح... 160

الفُرقة وآثار السلبية... 161

طاعة اللّه شرط التقدم... 161

من هدي السنّة المطهّرة... 161

اللاعنف أنجح الحلول... 161

من صفات القائد... 162

ص: 529

الفرقة وآثارها السلبية... 162

العز في طاعة اللّه وتقواه... 163

تحديد النسل فكرة غربية

الإسلام والتكاثر... 164

تحديد النسل فكرة غربية... 165

ترويج الفكر الغربي... 166

مشاكل المسلمين... 166

الإسلام والزواج المبكر... 167

السبب الحقيقي لتحديد النسل؟... 171

تحديد النسل والهجرة اليهودية... 172

تحطيم القدرة البشرية... 173

الخالق يتكفل الرزق... 174

شاهد صغير... 175

لا أزمة غذائية... 176

الخلل في الحكومات... 176

المثل السيئ للقمع... 177

سياسة التبرير... 178

خيوط الحل... 179

من هدي القرآن الحكيم... 180

الإسلام والإنجاب... 180

الإسلام والزواج... 180

من هدي السنّة المطهّرة... 181

المرأة الولود... 181

ص: 530

الزواج عبادة... 182

فضل الأولاد وتربيتهم... 182

التكاثر والسنة... 183

البساطة في نفقات الزواج... 183

تحليل الأحداث ضرورة حياتية

أهمية التحليل في حياة الإنسان... 185

الجاحدون المستيقنون... 186

تحليل ثورة المختار... 187

تحليل أحداث التأريخ ضرورة... 192

تحليلات الماركسية المغلوطة... 193

الإسلام والعدالة الاجتماعية... 193

الإسلام دين الاعتدال... 195

قضية فلسطين وتحليل الموقف... 197

دعوة مفتوحة للجميع... 200

بين التحليل والسنن الإلهية... 203

من هدي القرآن الكريم... 205

التدبر في القرآن... 205

التحليل الاقتصادي... 205

الإسلام معتدل في نهجه... 206

تحليل الأحداث ينجي من المهالك... 206

من هدي السنّة المطهّرة... 207

التدبر في القرآن... 207

التحليل الاقتصادي... 207

ص: 531

الإسلام معتدل في نهجه... 208

معرفة الأحداث تنجي من المهالك... 209

تحليل أحوال الأمم الماضية... 210

توصيات إلى العاملين للإسلام

الدعوة إلى الإسلام... 214

من أساليب الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 214

رسالة إلى هرقل... 216

رسالة إلى كسرى... 217

رسالة إلى النجاشي... 217

رسالة إلى النجاشي الثاني... 218

رسالة إلى المقوقس... 218

رسالة إلى ملك مصر... 219

رسالة إلى صاحب دمشق... 219

رسالة إلى ملك البحرين... 219

رسالة إلى ملك اليمامة... 220

رسالة إلى ملوك عمان... 220

رسالة إلى يهود خيبر... 221

رسالة إلى أهل جرباء وأذرح... 222

رسالة إلى أهل نجران... 222

رسالة إلى اليهود عامة... 222

المستعمرون وتشويه سمعة الإسلام... 226

الأخلاق الإسلامية سر التقدم... 227

واجبنا تجاه المحافظة على الإسلام ونشره... 231

ص: 532

مؤسسات الدعوة وكوادرها... 231

العمل الثقافي... 232

السيد الرضي(رحمه اللّه) وعمله الإسلامي... 232

ذكاء وحذر... 232

دور العلماء... 233

العلم دائماً... 234

هكذا الحرص على التعلم والتعليم... 234

مكارم الأخلاق... 236

الأخلاق عامل الجذب... 236

مقابلة الإساءة بالإحسان... 237

قصة أخرى... 238

الإخلاص في العمل... 239

أعلى نماذج الإخلاص... 239

كتمان المعروف... 243

الصبر دائماً... 243

من هدي القرآن الكريم... 245

أسلوب الدعوة... 245

الإخلاص في العمل... 246

ضرورة نشر الإسلام... 246

من هدي السنّة المطهّرة... 246

نشر العلوم الإسلامية... 246

الأخلاق الفاضلة... 247

الإخلاص عبادة... 247

أسلوب الدعوة إلى اللّه عزّ وجلّ... 248

ص: 533

حديث مع الناشئين

شباب المستقبل... 249

أصبح رئيساً... 250

من طلب شيئاً ناله... 251

الأول: طلب العلم... 251

الثاني: الإخلاص والتوكل على اللّه... 253

الثالث: خدمة الناس... 255

عظيم أخلاق وآداب... 255

الرابع: أحكام الإسلام... 257

تطبيق حكم اللّه في الأرض... 259

الهدف النبيل... 260

من هدي القرآن الحكيم... 261

العمل الصالح... 261

طلب العلم وأهميته... 262

الإخلاص والتوكل على اللّه... 262

من هدي السنّة المطهّرة... 263

تربية الناشئين... 263

تأديب الأحداث... 264

حقوق الأولاد... 265

طلب العلم وأهميته... 267

أهمية السعي... 267

الإخلاص للّه تعالى... 268

فضل القرآن... 268

أفضل الأعمال... 269

ص: 534

حكومة الأكثرية

المسؤوليات الاجتماعية... 271

مشكلتان رئيسيتان... 272

سؤال... 273

نصب تأريخي... 273

التعصب الشديد ضد الشيعة... 274

القيادة الرشيدة ووحدة الأمة... 274

ضعف الوعي... 277

الطائفية في كل شيء... 278

قطع الكهرباء... 278

الاعتقال من الحمام... 278

المشكلة الثانية... 279

كيفية الخلاص... 280

ثمار ضغط الرأي العام... 281

لماذا الحكومة بيد الشيعة؟... 282

إيجاد الديمقراطية في العراق... 283

من هدي القرآن الحكيم... 284

نتائج الإعراض عن الحق... 284

إيثار الحق والعمل به... 284

التعصب الأعمى... 284

الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامي... 285

من هدي السنّة المطهّرة... 285

إيثار الحق والعمل به... 285

الشيعة مع الحق... 286

ص: 535

المؤمنون أخوة... 286

الاهتمام بأمور المسلمين... 287

الموعظة والإرشاد... 287

خدمة الناس والتقوى

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذبح الشاة... 289

الإمام الصادق(عليه السلام) والأمر بالإنفاق... 289

الإمام الصادق(عليه السلام) والنجاشي... 291

اللّه يتقبل الأعمال... 292

إنفاق أهل البيت(عليهم السلام)... 293

الإخلاص في خدمة الناس... 293

أهمية خدمة المسلمين... 294

السيد البروجردي(رحمه اللّه) وبكاؤه خوفاً من اللّه... 294

زهد وورع السيد البروجردي(رحمه اللّه)... 295

فعل الخيرات... 295

التقوى... 297

محكمة القيامة... 298

حتى النيات يعلم بها اللّه تعالى... 298

التنبيه من الغفلة... 300

من هدي القرآن الحكيم... 302

الإيثار... 302

التقوى مفتاح الأعمال... 302

مميزات المتقين... 302

من هدي السنّة المطهّرة... 303

ص: 536

خدمة الناس... 303

الإيثار... 304

التقوى في المؤمن... 304

التقوى مصباح الهدى... 305

معنى التقوى... 306

علامات التقوى... 306

دروس من الهجرة

المقدمة... 307

مدرسة الهجرة... 310

الهجرة وتقسيماتها... 312

من أسباب الهجرة... 312

المسلمون الأوائل وقريش... 313

صحيفة قريش... 317

أهداف قريش... 321

الفشل الذريع... 322

لماذا الحبشة؟... 322

موقف قريش من الهجرة... 323

سفراء قريش إلى ملك الحبشة... 325

رواية أخرى في قصة الهجرة... 328

أبو طالب(عليه السلام) كافل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والرسالة... 332

وفاة أبي طالب(عليه السلام)... 341

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الطائف... 342

الرجوع إلى مكة... 346

ص: 537

الفترة الحرجة... 347

بارقة الأمل... 348

لماذا المدينة المنورة؟... 353

بيعة الأنصار الأولى والثانية... 354

مؤامرة قتل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 358

المدينة المنورة والهجرة... 359

مرحلة التثبيت والبناء... 360

مرحلة نشر الدين الإسلامي... 364

كتبه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الملوك والحكام... 365

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى كسرى ملك الفرس... 366

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى قيصر عظيم الروم... 367

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المقوقس ملك الإسكندرية... 369

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى النجاشي... 371

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك اليمامة... 372

كتابه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك عمان... 373

الخلاصة... 373

من دروس الهجرة... 374

كلمة أخيرة... 376

من هدي القرآن الحكيم... 378

الإيمان والهجرة... 378

تعلم الصبر... 379

نشر الدعوة الإسلامية... 380

الثبات على المبدأ... 380

ص: 538

من هدي السنّة المطهّرة... 381

الإيمان والهجرة... 381

تعلم الصبر... 381

نشر الدعوة الإسلامية... 382

الثبات على المبدأ... 383

دعاة التغيير ومستقبل العراق

الأمانة في الاستخلاف... 384

الفهم السياسي... 386

غاندي والاستقلال... 387

قصة من الواقع المؤلم... 388

من أوليات الفهم السياسي... 389

دائماً مع الناس... 390

تحمّل المصاعب... 392

التعددية الحزبية... 392

الأحزاب في العراق... 393

المعالم الواضحة... 393

البرنامج المتكامل... 394

من هدي القرآن الحكيم... 395

الأمانة... 395

الوعي... 396

الإصلاح... 397

الإخلاص... 397

من هدي السنّة المطهّرة... 398

ص: 539

الأمانة... 398

الوعي... 399

الإصلاح... 400

الإخلاص... 400

دور الاستعمار في تفكيك الأمة

الأمة الإسلامية الواحدة... 402

آية الأمة الواحدة... 404

على أرض الواقع... 405

آية أخرى تؤكد على الأمة الواحدة... 405

المعصوم(عليه السلام) يؤكد على الأمة الواحدة... 406

بداية التجزئة... 408

المأساة والعلاج... 411

حكومة القاجار في إيران... 413

إضاعة أفغانستان... 415

مسؤولية المسلمين أمام الزحف السوفييتي... 416

ماذا يعمل الأعداء... 419

التخلص من المآسي وإرجاع قانون الأمة... 420

الأول: الوعي... 420

الثقافة وأثرها... 422

الثاني: التنظيم... 424

الثالث: السلم... 425

الرابع: الرجوع إلى أحكام اللّه... 427

الخامس: الاكتفاء الذاتي... 427

ص: 540

النتيجة... 430

من هدي القرآن الحكيم... 431

الأمة الإسلامية الواحدة... 431

الاختلاف والفرقة ونتائجها... 432

العلم أصل كل خير... 432

الشعور بالمسؤولية... 432

من هدي السنّة المطهّرة... 433

الأمة الإسلامية الواحدة... 433

الاختلاف والفرقة ونتائجها... 433

العلم أصل كل خير... 433

الشعور بالمسؤولية... 434

دور الشباب في إنهاض الأمة

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدوة وأسوة... 435

الرسالة العظيمة والمرأة... 440

الابتعاد عن الروح الإسلامية... 442

واقع بلا أسوة... 445

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يختار الشباب الصالحين... 446

طاقات الشباب... 449

لا لقياس العمر... 449

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعيّن أسامة قائداً للجيش... 452

موقعة حنين... 453

مصعب بن عمير... 454

رسول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 456

ص: 541

استشهاد مصعب بن عمير... 458

ذو البجادين... 459

الشباب والعمل التنظيمي... 461

تنظيم الشباب... 461

من لوازم التنظيم... 464

من هم قادة الشباب؟... 465

القائد الناجح والشباب... 466

ربما يقرؤه أحد الشباب... 468

الشباب والمبادئ والقيم... 469

الشباب وطلب العلم... 472

قصة في طلب العلم... 474

من هدي القرآن الحكيم... 475

القدوة والأسوة الحسنة... 475

درجات التفضيل بين الناس... 476

العمل التبليغي... 476

العمل مقياس للكفاءة... 477

من هدي السنّة المطهّرة... 477

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو القدوة... 477

أفضل الناس... 478

الإخلاص في العمل... 478

العمل مقياس للكفاءة... 479

شخصية المؤمن

النفس والإطراء... 480

ص: 542

قوة الشخصية... 481

السبيل إلى الشخصية القوية... 482

ثمار الخير والصلاح... 483

العمل للّه وحده... 484

الخالق حكيم... 485

قضاء حوائج الناس... 487

عبرة من النحلة... 489

إعانة الناس... 491

أهل البيت(عليهم السلام) نموذج وشاهد... 492

الشيخ الحائري وإغاثة محتاج... 494

نموذج آخر... 496

حكومة الأدارسة في المغرب... 497

الأرض للّه ولمن عمرها... 499

الزهد والتقوى... 500

من هدي القرآن الحكيم... 501

المؤمن القوي... 501

إخلاص المؤمن... 502

من خصال المؤمن... 503

من هدي السنّة المطهّرة... 503

كيفية خلق المؤمن وخصاله... 503

قضاء حاجة المؤمن... 504

مراتب الإخلاص... 505

أمير المؤمنين(عليه السلام) يصف المؤمن... 506

ص: 543

دور الأمل في حياة الإنسان

الأمل... 508

الروح العالية... 509

طول الأمل... 511

الأمل أغناه... 512

الأمل والإرادة... 514

من هدي القرآن الحكيم... 516

يجب أن يكون الأمل مصحوباً بأمور... 516

الدعاء إلى اللّه تعالى... 516

والتوكل عليه عزّ وجلّ... 516

والعمل... 517

إبتعد عن اليأس... 517

من هدي السنّة المطهّرة... 518

يجب أن يكون الأمل مصحوباً بأمور... 518

الدعاء إلى اللّه تعالى... 518

والتوكل عليه عزّ وجلّ... 518

والعمل... 519

إبتعد عن اليأس... 520

فهرس المحتويات... 521

ص: 544

المجلد 6

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 6/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

-----------------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

-----------------

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الأوّل): 6-204539-964-978

-----------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

صلاح الدين والتعصب الطائفي

القرآن يأمر بالاتحاد والتآخي

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(1).

ورد في تفسير الآية المباركة: {وَاعْتَصِمُواْ} أي: تمسكوا {بِحَبْلِ اللَّهِ} أي دينه وقرآنه، شُبّه بالحبل لمناسبة أن من يتمسك بالحبل لا بد وأن يرتفع به للأعلى، وكذلك من يتمسك بالإيمان يصعد به في الدنيا إلى المراتب الراقية وفي الآخرة إلى جنات خالدة {جَمِيعًا} أي: جميعكم لا بعضكم دون بعض. {وَلَا تَفَرَّقُواْ} بأن يتمسك البعض بحبل اللّه والبعض بحبل الشيطان، وهذا تأكيد لقوله: (جميعاً) {وَاذْكُرُواْ} أي تذكروا {نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً} قبل الإسلام يعادي بعضكم بعضاً {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} جعلها قريبة بعضها إلى بعض، حيث أدخل الإيمان فيها فخرج ما كان فيها من الضغينة والإحن والحسد والعداوة {فَأَصْبَحْتُم} أيها المسلمون {بِنِعْمَتِهِ} أي بسبب نعمة الألفة التي وهبها اللّه إليكم {إِخْوَٰنًا} أحدكم أخ الآخر في الإيمان، له ما لأخيه وعليه ما عليه. وأن هذه النعمة قد خرقت المقاييس الجاهلية القبلية والعشائرية والعرقية وما أشبهها. وما ورد في بعض الأحاديث أن المراد من حبل اللّه الإمام أمير

ص: 5


1- سورة آل عمران، الآية: 103.

المؤمنين(عليه السلام) أو الأئمة(عليهم السلام)أو القرآن، فإنما هي مصاديق جلية(1).

فقد ورد عن ابن يزيد قال: سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن قوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}؟ قال: «علي بن أبي طالب حبل اللّه المتين»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «آل محمد(عليهم السلام) هم حبل اللّه الذي أمرنا بالاعتصام به، فقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}»(3).

وفي (مجمع البيان) في تفسير الآية المباركة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ} قال: أي تمسكوا به، وقيل: امتنعوا به من غيره، وقيل في معنى حبل اللّه أقوال:

أحدها: إنه القرآن، عن أبي سعيد الخدري وعبد اللّه وقتادة والسدي.

وثانيها: إنه دين اللّه الإسلام.

وثالثها: ما رواه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد(عليهما السلام) قال: «نحن حبل اللّه الذي قال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}».

والأولى حمله على الجميع، والذي يؤيده ما رواه أبو سعيد الخدري، عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «أيها الناس إني قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألّا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».

{وَلَا تَفَرَّقُواْ} معناه: ولا تتفرقوا عن دين اللّه الذي أمركم فيه بلزوم الجماعة والائتلاف على الطاعة، واثبتوا عليه.

وقيل: معناه لا تتفرقوا عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، عن الحسن.

وقيل: عن القرآن بترك العمل به.

ص: 6


1- انظر تقريب القرآن 1: 374.
2- تفسير العياشي 1: 194.
3- تفسير العياشي 1: 194.

{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}(1) قيل: أراد ما كان بين الأوس والخزرج، من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة، إلى أن ألفَّ اللّه بين قلوبهم بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد.

وقيل: هو ما كان بين مشركي العرب من الطوائل.

والمعنى: احفظوا نعمة اللّه ومنته عليكم بالإسلام، وبالائتلاف، ورفع ما كان بينكم من التنازع والاختلاف، فهذا هو النفع الحاصل لكم في العاجل، مع ما أعد لكم من الثواب الجزيل في الآجل؛ إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم بجمعكم على الإسلام، ورفع البغضاء والشحناء عن قلوبكم.

{فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ}أي: بنعمة اللّه {إِخْوَٰنًا} متواصلين، وأحباباً متحابين بعد أن كنتم متحاربين متعادين، وصرتم بحيث يقصد كل واحد منكم مراد الآخرين، لأن أصل الأخ من توخيت الشيء: إذا قصدته وطلبته. {وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ} أي: وكنتم يا أصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على طرف حفرة من جهنم، لم يكن بينها وبينكم إلّا الموت، {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} بأن أرسل إليكم رسولاً، وهداكم للإيمان، ودعاكم إليه، فنجوتم بإجابته من النار.

وإنما قال: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} وإن لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها، من حيث كانوا مستحقين لدخولها(2).

إذن: إن اللّه تعالى يأمرنا في كتابه الحكيم والقرآن الكريم بالاتحاد والتآخي، وينهانا عن التفرقة ومعاداة بعضنا البعض، وعلينا كمسلمين امتثال ذلك، فمن يخالفه ويتخذ سياسة التفرقة والمعاداة بدل الاتحاد والتآخي بين المسلمين،

ص: 7


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- تفسير مجمع البيان 2: 356.

فليس هو من الإسلام في شيء، وعلى المسلمين معرفة ذلك كي لا تلتبس عليهم الأمور، فيخطط الأعداء لتمزيقهم وتشتيتهم.

زرّاع العداوة بين المسلمين

إن من الذين عرّفهم التاريخ الصحيح بإعلان سياسة التفرقة، وزرع العداوة بين المسلمين، وقتل الكثير منهم، وتطبيق الطائفية بأبشع صورة وأفضعها، حيث راح ضحيتها عشرات الآلاف من المؤمنين، هو صلاح الدين التكريتي (الأيوبي) الذين ينبغي الكلام حوله، وبيان تاريخه، كي لا يُتخذ أسوة وقدوة، بل آية وعبرة. قال اللّه تعالى في شأن فرعون: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً}(1).

لماذا التفرقة؟

قد تكون سياسة التفرقة هدفاً مرحلياً لدكتاتور يريد السيطرة على شعبه، قال اللّه تعالى في حق فرعون: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}(2) أي: فرقاً مختلفة متعادين لينقادوا له.

وفي التفسير: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا} أي: ترفّع وتكّبر {فِي الْأَرْضِ} والمراد بها أرض مصر {وَجَعَلَ أَهْلَهَا}أي: أهل أرض مصر{شِيَعًا} أي: طوائف، جمع شيعة، وهي الطائفة التي تتبع مسلكاً خاصاً، من شايعه إذا تابعه، وهذا دأب الطغاة دائماً؛ إذ لو لم يجعلوا الناس طوائف متناحرة، حتى تشتغل بعضهم ببعض، خافوا من أن يتحدوا ضدهم(3).

وتفريق المسلمين هو الذي تسعى إليه الأيدي الاستعمارية الحاقدة، فإنه أمر

ص: 8


1- سورة يونس، الآية: 92.
2- سورة القصص، الآية: 4.
3- انظر تفسير تقريب القرآن 4: 133.

جوهري ومهم لهم، وهدف دائم وأبدي للأعداء الذين يريدون السيطرة على الأمة ونهب ثرواتها.

ثم إن الغربيين لتصوّرهم الخاطئ بأن في وحدة المسلمين تهديداً لمنافعهم، ونهاية لحياتهم السياسية، يسعون في بث الفرقة بين المسلمين، مع إنه ليس الأمر كذلك، بل الأمر بالعكس، فإن اتحاد المسلمين تحت لواء القرآن وظلال النبي الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) يمكنهم من التفرغ لنشر ثقافة القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) الداعية إلى تعميم السلم والسلام في أرجاء العالم، وتحقيق الأمن والأمان على الكرة الأرضية، وتطبيق نظام التعامل العادل مع الجميع على أساس الاحترام المتقابل، وهذا ما يتعطش إليه كل إنسان حيّ الضمير وسالم الواجدان والفطرة.

وكيف كان: فإن التصور الخاطئ للقوى الكبرى حمل أصحابها على بث سياسة التفرقة بين المسلمين، وقد أحدثت هذه السياسة الخاطئة مشاكل كثيرة، ومتاعب جسيمة، ليس للمسلمين فحسب، بل لهم أيضاً، مما لسنا الآن بصدد بيانها، وإنما نريد الآن بيان عوامل التفرقة وأضرارها على العالم وليس على مجموعة خاصة فقط.

نعم، إن التفرقة قد تكون من حكومة قُطرية تريد السيطرة على شعبها، أو من حكومات القوى الكبرى تريد السيادة على العالم، وتسعى لتأمين منافعها غير المشروعة، وكلا الطرفين في اشتباه كبير، لأنه يحفر قبره بيده، ويقرر مصيره الأسود بنفسه.

ولقد ذكر أحد الأدباء(1) وصور القائمين بأمر التفرقة، والمتصدين لتنفيذها،

ص: 9


1- هو إقبال اللاهوري.

في قصيدة له سماها: (مؤتمر إبليس) ومضمونها كما يلي:

إن إبليس استدعى جنوده وذراريه من كافة الشياطين، فحضروا جميعاً واشتركوا في مؤتمر ضخم كبير، ثم جاء إبليس وبين يديه الكرة الأرضية وجلس بين الشياطين، فلما استقر به المجلس سألهم قائلاً: أين يكمن الخطر علينا في هذا الكوكب؟

فأشار بعض الشياطين بإصبعه إلى موسكو.

فابتسم وقال: هؤلاء اتباعنا فلا خوف منهم.

وأشار البعض الآخر بيده إلى واشنطن!!

فضحك إبليس وقال: هؤلاء أيادينا!

فاحتارت الشياطين وسكتوا، فرفع إبليس يده وخبط بها على رقعة العالم الإسلامي قائلاً: ها هنا مكمن الخطر!

قالوا: تعني هؤلاء المسلمين؟

قال: بلى!

قالوا: إنهم مستعمَرون مستضعفون!

قال: ولو!

قالوا: إنهم متخلفون!

قال: ولو.

قالوا: إنهم مجزّأون!

قال: هذا ما نريده، إياكم أن يتحدوا فإن الخطر في اتحادهم!!

وهذا هو شأن الاستعمار فينا حيث اتفق مع إبليس على أن لانتّحد أبداً، وأسس قاعدة معروفة يجري عليها، ألّا وهي قاعدة (فرق تسد).

ص: 10

صلاح الدين ومحكمة التاريخ

إن من عادة الحكام المستبدين، هو أن يجعلوا حولهم مجموعة من المتملقين والمداحين، ليطروهم باللسان والبيان، ويمدحوهم في الكتب والمؤلفات، فتبقى تلك الكتب والمؤلفات من بعدهم حتى تعد من مصادر التاريخ.

ومن المعلوم أن مثل هذه المصادر ليست من التاريخ الصحيح، ولا يصح الاعتماد عليها، لأنها مما كتبها الحكام بأنفسهم أو كتبت بأمر منهم.

ومن هؤلاء الحكام الذين جروا على هذه العادة هو (صلاح الدين الأيوبي) فقد روى لنا التاريخ الذي كُتب بأمر منه أو بدافع العصبية له، عن عظمته ومآثره، وعن حروبه وانتصاراته على الصليبيين، وقد شوهد في بعض الكتب أنها سجلت المدح والثناء له كما وسُمع من بعض الإذاعات أنها تقول عنه: (البطل، المنتصر، المجاهد الظافر، الرئيس صلاح الدين الأيوبي) وهناك إلى يومنا هذا بعض المجلات والصحف تقوم بمدحه والإطراء عليه.

هذا هو من التاريخ غير الصحيح الذي أشرنا إليه، ومن الواضح أنه لا يُعتمد عليه.

ولكن التاريخ الصحيح الذي يُعتمد عليه، قد روى لنا جانبين عن صلاح الدين:

الجانب الأول: عن حروبه وانتصاراته العسكرية.

الجانب الثاني: عن شدة تعصبه وطائفيته وعنفه وإرهابه في هذا المجال.

ولا منافاة أبداً بين أن يكون شخص واحد محارباً منتصراً في حروبه، وبين أن يكون متعصباً حاقداً طائفياً، عنيفاً إرهابياً في تعصبه، حاملاً على عاتقه كل آثاره الخطيرة.

لقد تسبب صلاح الدين الأيوبي قبل ثمانمائة وخمسين عاماً تقريباً، أكبر مشكلة تاريخية في العالم الإسلامي بشكل عام، وللشيعة بشكل خاص؛ فليس

ص: 11

كل من حمل السيف ثار على التقاليد والأعراف، ولا كل من انتصر على أعدائه كان في حرز حريز من الوقوع في العنف والإرهاب.

فقد كان أعراب الجاهلية كعنترة(1) وغيره أبطالاً في الجاهلية، يدافعون عن أموالهم وأعراضهم وينتصرون على مناوئيهم وأعدائهم، ولكن كانوا في الوقت نفسه يتعصبون للباطل دون الحق إلى حدّ العنف والإرهاب.

وإذا أردنا أن نعرف شيئا عن هذه الروح العنيفة والإرهابية، فعلينا أن نتعرف على تاريخ صلاح الدين قبل دخوله حلب ومصر، وأن نتعرف عليه في بلاط الفاطميين، فمن هذا البلاط شاع اسمه، ومن فضلهم بزغ نجمه، فأسندوا إليه إمارة الجيش تارةً، وقلدوه الوزارة أخرى. فبماذا جازاهم صلاح الدين نتيجة ثقتهم به؟!

مقابلة الإحسان بالإساءة

لقد جازى صلاح الدين إحسان الفاطميين بالإساءة، إذ قام بقتل الكثير منهم ومن غيرهم ممّن كان على مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وشرَّد منهم النساء والأطفال عندما استتب له الأمر في مصر.

ولم تقف مظالم صلاح الدين عند سفك الدماء ونهب الأموال وتشريد النساء والأطفال؛ بل تعدى طغيانه إلى محاربة العلم والتراث، ومقارعة العلماء ومفاخر الدين الإسلامي، وحرق المكتبات والمخطوطات الثمينة.

لقد كانت الدولة الفاطمية آنذاك تعتني عناية خاصة باقتناء الكتب النفيسة، وإنشاء المكتبات العظيمة، التي كانت تزيد محتوياتها على مائتي ألف مجلد من المخطوطات في سائر العلوم والفنون: من الفقه والحديث، واللغة والتاريخ، والأدب والطب، والكيمياء والفيزياء، وغير ذلك، وكانت هذه المكتبات من

ص: 12


1- عنترة بن شداد من فرسان العرب في الجاهلية، ومن شعراء الطبقة الاولى.

عجائب الدنيا حتى قيل: ليس في جميع بلاد الشام بأعظم منها. كما نقل في بعض التواريخ.

ومن هنا يمكن المقارنة بين هذه الروح الجاهلية الإرهابية التي حملها صلاح الدين التكريتي، وبين الروح العلمية السلمية التي أشاعها الفاطميون.

وقد عمد الفاطميون إلى تأمين الحريات لجميع المذاهب الإسلامية، وأسسوا المعاهد العلمية والجامعات المثالية، وأباحوها للجميع بدون تمييز مذهبي أو طائفي.

نعم، لقد أنشأ الحاكم بأمر اللّه الفاطمي (سنة 395ه) دار العلم التي هي أشبه ما تكون في هذا العصر بالجامعات العلمية الكبيرة والمكتبات العامة، وأباحها لسائر المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتباين آرائهم.

فقد أولى الفاطميون من أنفسهم عناية كبرى للعلم وأهله، مما جعل أهل العلم على اختلاف مذاهبهم وطبقاتهم في فسحة واسعة من العيش، وحظ وافر من التقدم والإبداع، والنشاط الدائب والمستمر.

الفاطميون والفقيه المالكي

ومن الحوادث الدالة على انفتاح الفاطميين على جميع المذاهب وأصحابها، قصة الفقيه المالكي: عبد الوهاب بن علي(1) وكان من الأئمة المجتهدين في مذهبه، والذي وصفه الخطيب في تاريخه المعروف (تاريخ بغداد): لم نلق من المالكيين أحداً أفقه منه(2). وقصة هذا الرجل هي: أنه ضاقت به دنيا العرب والإسلام في بلاده فكاد يموت من الجوع في بغداد، فلم يجد إلّا مصر الفاطمية الإسلامية الشيعية يحتمي بها، فلما جاءها أغدق الفاطميون عليه المال وأمروه بالانصراف إلى علمه وبحثه، ولكن الأمر لم يدُم له طويلاً حتى أصيب بالفالج،

ص: 13


1- عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد أبو محمد الفقيه المالكي (362-422ه).
2- تاريخ بغداد 11: 32.

فقال على أثر إصابته: لا إله إلّا اللّه عندما عشنا متنا(1).

استنجاد الفاطميين بالزنكيين

وأكبر من ذلك الذي حدث للفاطميين مع الفقيه المالكي واستقبالهم له هو ما فعله آخر الخلفاء الفاطميين العاضد، عندما تعرض لأكبر تهديد صليبي وذلك في سنة (564ه) وعلم أن لا قدرة له على مقاومة هذا الزحف. فماذا فعل العاضد تجاه هذه الهجمة الصليبية؟!

لقد أرسل الخليفة العاضد(2)..

إلى نور الدين محمود(3) الذي كان يتربص بالفاطميين الدوائر، وكان ممن لم تخف مطامعه وتعصبه وأحقاده على العاضد، فإنه بالرغم من كل ذلك استنجد العاضد به، وذلك بعد أن قص شيئاً من شعر نسائه وأرسلها إليه مع كتب الاستنجاد وفيها يقول له: هذه شعور نسائي من قصري يستنجدن بك لتنقذهن من الإفرنج(4).

أول مرسوم ديني للفاطميين

لم يكن الفاطميون من الشيعة الإمامية الإثني عشرية، وإنما كان مذهبهم إسماعيلياً(5)

ولكن انتشر مذهب الشيعة الإمامية في عهدهم في مصر، والسبب

ص: 14


1- البداية والنهاية 12: 41.
2- العاضد لدين اللّه (544-567ه = 1149-1171م) عبد اللّه (العاضد) بن يوسف بن الحافظ، العلوي الفاطمي، أبو محمد: آخر خلفاء الدولة الفاطمية بمصر والمغرب.
3- نور الدين (511-569ه = 1118-1174م) محمود بن زنكي (عماد الدين) ابن أقسنقر، أبو القاسم، نور الدين: ملك الشام وديار الجزيرة ومصر.
4- انظر سير أعلام النبلاء 20: 415، والكامل في التاريخ 11: 337.
5- الإسماعيليون: وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) والذي توفى في حياة أبيه عام (140ه) ودفن في مقبرة البقيع.

في ذلك هو إعطاء الفاطميين الحرية الكاملة لجميع المذاهب الإسلامية من دون فرق بين هذا أو ذاك، ونشرهم التسامح المذهبي الذي مارسوه بين المسلمين آنذاك.

وأول مرسوم ديني صدر بالتسامح المذهبي في الدولة الفاطمية هو المرسوم الذي أصدره الحاكم بأمر اللّه الفاطمي وقد جاء فيه:

أما بعد، فإن الأمير يتلو عليكم آية من كتاب اللّه المبين: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1) مضى أمس بما فيه وأتى اليوم بما يقتضيه، معاشر المسلمين، نحن الأئمة وأنتم الأمة، من شهد الشهادتين ولا يحل عروة بين اثنين تجمعها هذه الأخوة، عصم اللّه بها من عصم، وحرم لها ما حرم من كل محرم، من دم ومال ومنكح، الصلاح والإصلاح بين الناس أصلح، والفساد والإفساد من العباد يستقبح، يطوى ما كان في ما مضى فلا ينشر، ويعرض عمّا انقضى فلا يذكر ولا يقبل على ما مر وأدبر... يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض أهل الرؤية في ما هم عليه صائمون ومفطرون، صلاة الخمس للذين بها جاءهم فيها يصلون، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون، يخمس في التكبير على الجنائز المخمسون، ولا يمنع من التكبير عليها المربعون، يؤذن بحي على خير العمل المؤذنون ولا يؤذى من بها لا يؤذنون، لا يسب أحد من السلف، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف، والخالف فيهم بما خلف، لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده، وإلى اللّه ربه ميعاده، عنده كتابه وعليه حسابه، ليكن عباد اللّه على مثل هذا عملكم منذ اليوم، لا يستعلى مسلم على مسلم بما اعتقده، ولا يعترض معترض على صاحبه في ما اعتمده،

ص: 15


1- سورة البقرة، الآية: 256.

من جميع ما نصه الأمير في سجله هذا وبعده، قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1) سورة المائدة: 105. والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، كتب في رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة»(2).

الفرق بين السيرتين

عند المقارنة بين هذه السيرة المنفتحة والواعية التي كان يتميز بها الفاطميون مع السيرة العنيفة التي كان صلاح الدين يتبعها على الأخص مع سائر مذاهب المسلمين وبالذات مع الشيعة، يُعرف الفرق بينهما، ويُعلم المدى الشاسع بين سيرة صلاح الدين الأيوبي وسيرة الفاطميين، فأين تلك الروح من هذه؟!

مع أن صلاح الدين قد لمس تلك الروح وعاش معها، ولكنه تعامل معهم بالعكس من ذلك، وقابل الإحسان بالإساءة، والخير بالشر، وما كان كل الذي ارتكبه في حقهم لذنب فعلوه، ولا لجرم ارتكبوه، سوى أنهم كانوا شيعة.

أجل، لقد أشعل صلاح الدين جراء تعصبه المذهبي وشدة عنفه وإرهابه، الحروب والفتن بين المسلمين، فقد كانت من جملة ممارساته العدائية والطائفية أنه كان يحاول بشتى الوسائل العنيفة والسبل الإرهابية في القضاء على كل أثر للشيعة، وكان يحمل الناس على التسنن وعقيدة الأشعري(3) ومن خالف ضرب عنقه، وأمر بأن لا تقبل شهادة أحد، ولا يقدّم للخطابة، ولا للتدريس، إلّا إذا كان مقلداً لأحد المذاهب الأربعة.

ص: 16


1- سورة المائدة، الآية: 105.
2- انظر تاريخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر 4: 60.
3- الأشاعرة والأشعرية: نسبة تمثل رواد مذهب كلامي في أصول الدين، مؤسسه: أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، في أواخر القرن الرابع الهجري.

نعم لقد أحدث صلاح الدين في العالم الإسلامي فجوةً لاتلتئم وجرحاً لا يندمل، وهذا ما أراده الاستعمار الصليبي آنذاك حتى يتمكن من دخول بلاد الإسلام.

وبهذا أصبح صلاح الدين - من حيث يشعر أو لا يشعر - أداة مطيعة لتنفيذ مخططات الاستعمار الصليبي، وسبباً لتقويتهم، وتضعيف المسلمين، وإن كان في الظاهر حاربهم وانتصر عليهم، وأخرجهم من بلاد المسلمين، ولكنه في المقابل نراه قد تنازل عن الكثير من البلاد الإسلامية للصليبيين، عبر معاهدات وعهود مشبوهة. فإن الاستعمار الصليبي منذ ذلك الزمان وحتى يومنا هذا، يستغل مثل هؤلاء المتعصبين - من حيث يشعرون أولا يشعرون - لمصالحه، ويستفيد من عنفهم وإرهابهم لتنفيذ مخططاته الشيطانية ضد المسلمين.

هذا غير تقسيم البلاد والإمارات على أولاده وأقربائه مما سبب نشوب العديد من الحروب الطاحنة في ما بينهم بعد موته، فقد قسم صلاح الدين الامبراطورية الأيوبية ممالك بين أولاده وأخوته وأبناء إخوته، كأنها ضيعة يملكها، لا وطناً إسلامياً ضخماً تملكه الأمة الإسلامية.

نعم، كما استفادت القوى الاستعمارية الصليبية بالأمس من الخلافات المذهبية التي أوجدها بين المسلمين أمثال صلاح الدين ومن سار على شاكلته، فكذلك القوى الاستعمارية الصليبية اليوم - وبشكلها الجديد - غدت تعمل جادّة في الخفاء، وبوسائلها الشيطانية، وأصابعها الخفية المرموزة، على تنفيذ مؤامراتها، وتهيئة الأجواء المناسبة لنمو الخلاف القومي، وانتشار الطائفية، وإشعال نار الفتن، وزرع بذور الشقاق والنفاق بين أبناء الدين الواحد وأحياناً بين المذهب الواحد، لتستفيد من ذلك في السيطرة عليهم، ونهب ثرواتهم، وسلب خيراتهم.

ومن المؤسف جداً - رغم توفر التاريخ الصحيح في المكتبة الإسلامية حول

ص: 17

عنف صلاح الدين وإرهابه - أن نجد اليوم من يمدح صلاح الدين ويقلده الألقاب الجميلة، ويسمه الأوسمة الرفيعة، ويطرحه بعنوان شخصية تاريخية حاربت الصليبيين وانتصرت عليهم، أما أنه ماذا ارتكب من جرائم في حق الإسلام والمسلمين، بل في حق الإنسان والإنسانية، فلا يتطرقون إلى ذلك مطلقاً.

حتى إن هناك بعض الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) ينقلون ما نقله الآخرون لهم، ويفوهون بما يتفوه به غيرهم في مدح صلاح الدين، وذلك من دون النظر إلى صحتها وسقمها!

التكريتيان: صلاح وصدام

إن صداماً سوف يزول إن شاء اللّه تعالى(1)، إلّا أن بعض المتعصبين والطائفيين من حكام وغيرهم - الذين يكونون أداة طيعة لخدمة الاستعمار الصليبي من حيث يشعرون أو لا يشعرون - كما صنعوا بالأمس من صلاح الدين بطلاً تاريخياً، فكذلك سيصنعون في الغد من صدام بطلاً تاريخياً أيضاً؛ وما ذلك إلّا لأنه قام كصلاح الدين بقتل الشيعة وتشتيت شملهم وتفريق وحدتهم وزرع الفتن بين صفوف المسلمين، وإلّا فأيّ خدمة لصدام تستحق التقدير، وأيّ صفة إنسانية له يستحق لها الثناء والتقريظ؟ هل تعطشه للدماء، وقتله للأبرياء، وتسلطه على رقاب الشعب العراقي بالحديد والنار، وسجونه الرهيبة وتعذيباته الوحشية و...؟

قصة من الواقع العراقي

نقل لي أحد الأصدقاء وكان مدعواً من قبل أحد شيوخ المنطقة قائلاً: كان من

ص: 18


1- نعم، زال طاغوت العراق في العصر الحديث عام (2003م).

ضمن المدعوّين شخصية عراقية معروفة وهو من أبناء العامة المتعصبين، وفي أثناء تبادل الحديث أخذ هذا المتعصب يمدح صداماً. فقلت له: لماذا هذا المدح وإن صداماً هذا هو تلميذ ميشيل عفلق المسيحي الصليبي، وصاحبه طارق حنّا عزيز الذي يقوم بتنفيذ كل مخططات صدام الإجرامية وخاصة في قتل الشيعة، هو مسيحي صليبي أيضاً؟

فأجابني قائلاً: هذا كله صحيح إلّا أن صداماً عدو للشيعة قبل كل هذا، وقد أنزل البلاء الأسود بلا هوادة ولا رحمة على الشيعة قاصداً ومتعمداً!

فقلت له: اتقّ اللّه في دماء المسلمين يا شيخ.

فقال لي: أشيعي أنت؟

فقلت له: نعم.

فقال وهو يتنصّل ويعتذر: عفواً!

هكذا يقف بعض المتعصبين إلى جانب الظلم والعدوان، ويتحملون دماء المسلمين الأبرياء، تحقيقاً لأهداف طائفية باطلة عمياء، وهذا يخالف ما أمر به القرآن الكريم والنبي العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام).

قصة أخرى

لقد رأيت مرة أحد البعثيين ممن كان قد ارتدى لباس رجل دين، وحشر نفسه مع أهل العلم، أنه كتب لأحمد حسن البكر رسالة خاطبه فيها تملّقاً بقوله: إلى حضرة العلامة الحاج الشيخ أحمد حسن البكر دامت بركاته... .

ومن المعلوم: أن أمثال هؤلاء المتملقين، الذين يبيعون دينهم وضمائرهم للحكام الظالمين، هم على استعداد تام للتعاون معهم في ظلمهم وعنفهم، ومشاركتهم في إجرامهم وإرهابهم.

ص: 19

من نتائج التعصب الأعمى

إن هذا البلاء: بلاء الاستضعاف الذي لحق بالأمة، وإن هذه الاستهانة: استهانة النفوس والدماء، ونظرة الازدراء التي يقابلنا بها الغرب والشرق، ما هو إلّا نتيجة التفرقة البغيضة، والعداء المقيت، الذي يزيده استعاراً شدة تعصب البعض، وذلك التعصب الأعمى الجاهلي الذي لا ينطبق مع أي من الموازين الإسلامية، بل وحتى الإنسانية، مع أن اللّه تعالى يقول:

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَٰهِلِيَّةِ}(1).

ويقول رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «انصر أخاك ظالماً أومظلوماً».

فقيل: يا رسول اللّه، كيف أنصره ظالماً؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ترده عن ظلمه، فذاك نصرك إياه».(2)

فلو كففنا أمثال صلاح الدين عن ظلمهم، وذلك بفضحهم وكشف واقعهم وبيان تاريخهم، لما قام أحد بمدح صلاح الدين وأمثاله، ولا تجرأ على أن يصنع من صدام التكريتي صلاح دين آخر.

وإني من هنا أوجّه خطابي إلى السادة الكتّاب والمؤلفين، وإلى كل من له القدرة على القلم والبيان: من الفضلاء والخطباء، وأهل الفكر والثقافة، وأطلب منهم - خدمة للإنسانية ونفياً للعنف والإرهاب بكل أشكاله - أن يسعوا للكتابة بشكل موضوعي، وبعيداً عن التعصب ودواعي الهوى، وينقلوا بأمانة ما سجله التاريخ الصحيح عن صلاح الدين الأيوبي وأمثاله، ممن كان له دور كبير في تمزيق الأمة الإسلامية، وفي تأجيج نار الفتنة العمياء: فتنة الطائفية المقيتة في العالم الإسلامي؛ والتي راح ضحيتها حتى اليوم ملايين الأبرياء، وأدّت إلى فشل

ص: 20


1- سورة الفتح، الآية: 26
2- رياض المسائل 13: 286.

المسلمين ومصادرة عزهم وسؤددهم، وتسلط الأعداء عليهم ونهب ثرواتهم وسلب خيراتهم.

عبد الناصر وصلاح الدين

من أبرز الذين بدؤوا - تبعاً لسياسة التفرقة والعداء بين المسلمين - بمدح صلاح الدين الأيوبي هو جمال عبد الناصر وتبعه آخرون دون تحقيق؛ علماً بأن عبد الناصر هو من سعى في تأجيج نار الطائفية المقيتة، بل ونار القومية البغيضة أيضاً في المسلمين، فقد دعا إلى القومية العربية ونفي القوميات الأخرى، كما وبلغ للطائفية وضرب مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وذلك بكل إمكاناته الدعائية، وجميع وسائله الإعلامية، وبالعديد من اللغات الحية العالمية، وأصبح بذلك أداة طيّعة لتنفيذ مخططات الاستعمار الصليبي - من حيث يشعر أو لا يشعر - وأدّى ذلك إلى تدمير مصر وتقهقر الشعب المصري بل خسارة العالم الإسلامي، فلا بد من كشف هؤلاء وفضحهم للرأي العام.

وكيف كان: فإن علماء المسلمين ومثقفيهم لو لم يقوموا بفضح الحكام السابقين أمثال معاوية ويزيد ومروان وغيرهم، لأصبحوا اليوم شخصيات تاريخية تحظى بأهمية متميزة، واحترام فائق، وقدسية وشرعية.

إلّا أن المسلمين فضحوهم وأظهروا للناس جرائمهم وكشفوا عن نياتهم وأعمالهم، وعن عنفهم وإرهابهم حتى سقطوا من أعين الناس. وهكذا علينا أن نفضح أمثال صلاح الدين التكريتي حتى لا يخفى على أحد خيانتهم بالأمة الإسلامية، وإجرامهم في حقها، بل في حق الإنسان والإنسانية جمعاء(1).

ص: 21


1- لعل من المفيد في هذا الشأن مطالعة كتاب (صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين) للسيد حسن الأمين.
معاونا الحاكم العباسي: وصيف وبغا

كان لأحد حكام بني العباس معاونان هما: وصيف وبغا، وكانا من الأتراك، وقد جاء بهما الحاكم العباسي إلى السلطة بعد ضرب البرامكة(1) وجعلهما في دار الخلافة، وأوكل إليهما كل الأعمال المهمة في البلاد. وبقي الحاكم منشغلاً باللّهو والفساد، وقد قال الشاعر في ذلك:

خليفة في قفص *** بين وصيف وبغا

يقول ما قالا له *** كما يقول الببغا(2)

وكذلك فعل المغرضون والمقلدون، فحينما قام جمال عبد الناصر - متابعة منه لسياسة التفرقة وإلقاء العداء بين المسلمين - بمدح صلاح الدين الأيوبي، تبعه الآخرون وراحوا يقلدونه في ذلك ويمدحون صلاح الدين الأيوبي وكأنهم الببغاء، فساعة نسمع المدح من هذا الراديو، وساعة أخرى من ذلك الراديو، حتى اشتهر اسمه مقروناً بالمدح والإطراء بين بعض الناس؛ لذا فمن الضروري القيام بنشر ما أثبته التاريخ الصحيح عن عنف صلاح الدين، وأعماله الإرهابية التي قام بها تجاه المسلمين خدمة للاستعمار الصليبي حتى يسقط من أعين الناس؛ ويعرفه الجميع بأنه - على أقل تقدير - كان سفاك ذلك الزمان وحتى لا يتكرر من أمثاله.

نموذج من الانصياع

نقل لي أحد الأصدقاء قائلاً: التقيت برجل - وكان من عشائر إيران - أيام حكم البهلوي الأول(3) في مطار بغداد ومعه زوجته وأطفاله مهاجرين إلى العراق،

ص: 22


1- البرامكة: أسرة فارسية من بلخ، تولى أبناؤها الوزارة في عهد العباسيين، عظم شأنهم ثم نقم عليهم هارون العباسي ونكبهم.
2- وصيف وبغا: مملوكان تركيان، كانا من كبار الأمراء في بغداد أيام المتوكل وبعده بقليل.
3- رضا خان (1878- 1944م) شاه إيران.

فقلت له متسائلاً: إن أمرك عجيب، إذ لك في إيران عشيرة وارتباطات، فلماذا تركتها وأقدمت على الهجرة إلى العراق؟

فقال في الجواب: إن البهلوي أمر في مرسوم حكومي بفرض التبرّج على المرأة وإلغاء الحجاب عنها بنحو إجباري، ولهذا هاجرنا من إيران وجئنا إلى العراق حتى تبقى العائلة محافظة على حجابها.

قال: فاستحسنت منه هذه الخطوة وباركته عليها، ولكن التقيت به للمرة الثانية وبعد عشر سنوات مضت عليه وفي بغداد أيضاً، فرأيته يصحب معه زوجته وبناته وهنّ بغير حجاب!! ويظهر أنهنّ جئن من صالون الحلاقة وتصفيف الشعر، وكنّ أيضاً يرتدين الثياب غير الملائمة للحشمة، والمنافية لشخصية المرأة الموقرة، فسلم عليّ، فأجبت على سلامه وسألته وأنا متحير في أمره قائلاً: من هؤلاء النسوة اللواتي معك؟

قال: هؤلاء بناتي.

فقلت له: هؤلاء هم الذين كانوا أطفالاً قبل عشر سنوات؟

قال: نعم.

فقلت له: وما هذا التبرج السافر ونبذ الحجاب وترك الحشمة؟

قال: هذا من متطلبات العصر!!

نعم، إن الانصياع للأقوال الباطلة والأفعال المحرمة، والتقليد الأعمى هو أحد أسباب تأخر المسلمين.

علماً بأننا لسنا بحاجة إلى مثل هذا التقليد؛ فالشريعة الإسلامية متكاملة، ونبيّنا خاتم الأنبياء وسيد الرسل(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمتنا هم أهل بيته المعصومون(عليهم السلام) وهم القادة لنا، والحجة علينا، والأسوة فينا، الذين يجب علينا إتباعهم في كل جوانب الحياة.

ص: 23

لذلك يجب علينا أن نقرأ الحقائق ونطالع الكتب حتى نعرف سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) وتعاليم السماء ونعمل بما جاء به الإسلام، لا أن نقلد الآخرين تقليداً أعمى وبدون تحقيق. كما يفعل البعض اتجاه ما يسمعه من مدح لصلاح الدين الأيوبي فيردّده هو أيضاً، وذلك من دون تحقيق وتدقيق.

بعض ما سجله التاريخ عن صلاح الدين

إن من جملة الأعمال التي سجلها التاريخ الصحيح على صلاح الدين بحق الشيعة والتشيع، والإسلام والمسلمين، هو ما يلي:

1- إنه قام بقتل الشيعة الفاطميين في مصر، وسورية، والأردن، ولبنان، وغيرها. فإنه حينما دخل الصليبيون القدس، كان هو قائداً في جيش الفاطميين الذين جمعوا قدرتهم وعززوها لمواجهة الصليبيين وإخراجهم من القدس، وقد أوكل الفاطميون إلى صلاح الدين مقاتلة الصليبيين في جناح دمشق القتالي، إلّا أنه قام بانقلاب عسكري ضد دولة الفاطميين، والانقلاب العسكري جريمة لا تغتفر، وخاصة إنه كان انقلاباً على من أحسنوا إليه، وتفضلوا عليه، وصار بذلك مصداقاً لقول الشاعر:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

2- إنه مضافاً إلى جريمة الانقلاب العسكري وإسقاط حكومة الفاطميين الذي أحسنوا إليه، عمل على تجزئة الدولة الإسلامية التي كانت متحدة في ما بينها، فصارت لسورية حكومة مستقلة، بعد أن كانت هي إحدى المدن التابعة للدولة الفاطمية، وكذلك انفصلت مصر وصارت لها حكومة مستقلة أخرى.

وإن التجزئة لوحدة البلاد الإسلامية سببّت تضعيفاً لقدرات المسلمين التي كانت تقابل قدرة الصليبين، ومن المعلوم: إن هذه التجزئة هي بحد ذاتها جريمة كبرى لا تغتفر، لأنها سبّبت سُلطة الصليبيين - الذين كانت تدفعهم أطماع

ص: 24

استعمارية - على المسلمين إلى يومنا هذا.

3- إنه قام بقتل مليون شيعي أو ما يزيد على ذلك من الفاطميين وغيرهم ظلماً ومن دون سبب، سوى أنهم شيعة، وإنهم أحسنوا إليه وتفضلوا عليه.

4- إنه أمر بإحراق المكتبات الكبيرة التي أسسها الفاطميون، والتي تعد من أضخم المكتبات في العالم الإسلامي آنذاك، حيث يعجز المؤرخون في وصف عظمتها ونفاسة محتوياتها، وكان بها ما يزيد على مائتي ألف مجلد من المخطوطات، وقيل: ستمائة ألف، في سائر العلوم والفنون.

وإحراق التراث العلمي لوحده جريمة تاريخية لا تغتفر ضد العلم والثقافة، وبحق الإنسان والإنسانية.

5- إنه أوصى بعد وفاته بتقسيم البلاد الإسلامية على أبنائه كما يقسم الإرث، وكذلك فعل أبناؤه واقتسموا البلاد بينهم، فلما مات صلاح الدين في الشام كان ابنه وولي عهده: علي أبو الحسن، حاضراً عنده، فجلس بعد أبيه مكانه وتلقب: باسم الملك الأفضل، واستقل بالحكم في الشام وما يليها، واستقل بالحكم كل من أخويه: الملك العزيز عثمان في مصر، والملك الظاهر في حلب.

6- إنه كان يأمر بتعذيب الناس، وهذه مخالفة صريحة لأحكام الإسلام ونصوص القرآن، الآمرة باحترام الإنسان وتكريمه، ورعاية حقوقه وشؤونه، كما أنه مخالف للعقل أيضاً، وكان من أنواع التعذيب التي استخدمها صلاح الدين الأيوبي ضد المسلمين الشيعة بالذات هي: صناعة خوذ وإعداد قلنسوات خاصة كان يملؤها بالعقارب ثم يلبسها في رأس المسلم الشيعي، فتقوم العقارب بلدغه ولسعه حتى يموت وهذه هي نفس الطريقة التي اتبعها صدام التكريتي اليوم في حق أبناء شعبنا المظلوم في سجون العراق الرهيبة.

7- إنه قام بقتل العلماء والفقهاء، وعمل على تحطيم الحوزات العلمية في

ص: 25

حلب وغيرها من البلاد التي صارت تحت سيطرته عبر الانقلاب العسكري الذي قام به غدراً بالفاطميين.

إلى غير ذلك من أعمال إرهابية عنيفة قام بها تنكيلاً بالمسلمين الشيعة، وتضعيفاً للأمة الإسلامية، مما حرّمها اللّه ورسوله، ولم يرض بها الإسلام العظيم.

التكريتيان ينّفذان مخّططاً واحداً

لقد قام صدام التكريتي في عراقنا اليوم بمثل ما قام به صلاح الدين التكريتي في مصر بالأمس: من تدمير وتخريب، وإرهاب وعنف.

وتكرار هذا التاريخ وأشباهه هو بعض نتائج أسباب كثيرة، ونزر من ثمار أمور عديدة، لعل أهمها هو عدم التصدّي لفضح أمثال صلاح الدين التكريتي في وسائل الإعلام العالمي، وفي الأوساط الشعبية والجماهيرية، حتى يحذر الناس من تكرار أشباه صلاح الدين، ويمنعوا من وصولهم إلى الحكم والتسلّط على رقاب الشعوب المغلوبة على أمرها.

فالتصدي الإعلامي لكشف الشخصيات المزوّرة، ذوي الاتجاهات العنيفة، والأفكار الإرهابية، المتطفلة على الإسلام والمسلمين، وفضحهم أمام الرأي العام العالمي، أمر ضروري لا بدّ منه، وذلك عبر كل وسائل الإعلام القديمة والحديثة: من كتب وكرّاسات، ونشرات ومقالات، ومجلات وصحف، وراديوات وتلفزة، وغير ذلك، فإن الفكر الإرهابي العنيف لا يقاومه إلّا الفكر الإسلامي المسالم الصحيح، والفكر المسالم الصحيح أسرع تقبلاً في الأوساط الشعبية والجماهيرية من غيره.

سياسة ترويج الطغاة

نعم، إن الفكر لا يقاومه إلّا الفكر، والكلمة الباطلة لاتدفعها إلّا الكلمة الحقة، والثقافة الفاسدة لا تغيّرها إلّا الثقافة الصحيحة، وعلينا أن نعلم أن

ص: 26

الاستعمار الصليبي لا يكف عن تنفيذ مخّططاته السيئة تجاه المسلمين ما لم يتحدوا ويتآخوا في ما بينهم، كما إنه لايقصّر في نشر ثقافة الباطل وترويج الشخصيات الإرهابية في الأمة الإسلامية وتحكيمها برقاب المسلمين ما لم يحصلوا على وعي ديني وفقه سياسي.

فمثلاً: فرعون الإرهابي العنيف الذي قتل الناس وشق بطون النساء الحوامل وقضى على الأطفال والأجنّة، واستضعف أهل مصر وكان يذبّح أبناءهم ويستحي نساءهم، وقد لعنه القرآن لعناً وبيلاً، نرى مع ذلك أن جمال عبد الناصر يروّج له بكل طاقاته وقواه، وجميع إمكاناته ووسائله، فيعرض له الأفلام، ويقيم المسرحيات، وينصب له التماثيل في وسط الساحات العامة في مصر، مضافاً إلى ذلك كّله، إنه أخذ يقلّد فرعون في سياسته وأساليبه، مع أن فرعون قد ذمّه القرآن الحكيم على طغيانه وادعائه الألوهية.

قال تبارك وتعالى: {هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ * إِذْ نَادَىٰهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ * فَأَرَىٰهُ الْأيَةَ الْكُبْرَىٰ * فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ * فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْأخِرَةِ وَالْأُولَىٰ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ}(1).

نعم، إن فرعون ومصيره الأسود عبرة، وقد حكى القرآن قصته لنعتبر به، فلا نكرر أعماله، ولا نسمح لأحد بأن يكرر مواقفه الإرهابية، وأفكاره العنيفة، ويتبع سياسة التفرقة والعداء بين المسلمين.

الطغاة ومصيرهم الأسود

لقد ذكر لنا التاريخ: إن فرعون أمر بتشييد الأبنية الفخمة، والصروح العالية

ص: 27


1- سورة النازعات، الآية: 15-26.

جدّاً(1) وقد أصدر أمره بالعمل الإجباري، وفرض على كل واحد من الناس رجلاً كان أو امرأة مزاولة الأعمال الشاقة، وذلك بأن يأتي بحجر كبير من الجبال المحيطة بالمدينة لغرض استخدامه في تلك الأبنية.

إنه لم يستثن من ذلك أحداً ولم يعذر فيه حتى المرأة الحامل، وفي أحد الأيام بينما كانت إحدى النساء الحوامل ترتقي سلماً لتنقل حجراً كبيراً كان على عاتقها حتى توصله إلى محل البناء، تعبت فأرادت أن تستريح قليلاً ثم تواصل عملها، لكنها فور ما ركنت إلى الاستراحة قام إليها الجلاوزة يضربونها بالسياط حتى أسقطوا جنينها، فصاحت هذه المرأة التي لا حامي لها وهي بتلك الحالة المزرية: يا رب، أأنت نائم يا إلهي؟ ألم تر فرعون الظالم ماذا يفعل بنا؟

استجاب اللّه تعالى دعاءها، ليتثبت لها ولكل المظلومين في العالم بأنه تعالى بالمرصاد لهؤلاء الظالمين، فلم تمض إلّا مدة يسيرة حتى غرق فرعون وجاءت هذه المرأة المظلومة إلى جانب نهر النيل لترى ما حلّ بفرعون الظالم من نهاية سيئة، فلمّا وقفت عليه إذا بها تسمع كأن منادياً ينادي: أيتها المرأة، ما كنا نائمين بل إنا للظالمين بالمرصاد، وهذا هو مصير الطغاة ونهاية الظالمين دائماً وأبداً، وأما في يوم القيامة فالنار مثواهم وبئس المصير.

فضح الظالمين

ثم إن من اللازم على المسلمين اليوم هو أن يقوموا بفضح صلاح الدين وصدام وأمثالهما، وذلك ببيان مثالبهم وجرائمهم؛ ليتعرف عليها الناس

ص: 28


1- ومنها أمره بتشييد صرح عالٍ وكما جاء في الآيتين الكريميتين قوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا} سورة القصص، الآية: 38. وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰهَٰمَٰنُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَٰبَ} سورة غافر، الآية: 36.

فيحذروها ويحذروا من تكرار أمثالها، وحتى لا يصبح غداً صدام التكريتي صلاح الدين الثاني لهذا العصر.

فإن ما حلّ بالمسلمين من الأحداث المؤلمة كالتفرقة والمعاداة وويلاتها التي عظم وقعها في العالم الإسلامي اليوم، والتي حدثت بسبب صلاح الدين وأمثاله ممن زرعوا الطائفية البغيضة بين المسلمين، يجب أن تبين، وتنشر في الملأ، وعلى رؤوس الأشهاد، حتى يحذر المسلمون اليوم من دعاة التفرقة، أمثال صدام التكريتي وغيره من الذين سوّدوا التأريخ بصفحاتهم المظلمة، المليئة بالظلم والعدوان.

وكي لا ندع مجالاً لهؤلاء الذين يستغلون مراكز القدرة وثروات شعبهم من أجل ترويج الطغاة كفرعون ومن شابهه، وحتى لا ندع مجالاً للطائفية المقيتة والعصبية العمياء لتأتي على وحدتنا، وتقضي على تآخينا؛ فإن نتائجها خطيرة على الإسلام والمسلمين.

هذا وقد سئل الإمام السجاد(عليه السلام) عن العصبية؟

فقال:«العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم»(1).

«اللّهم إني أعوذ بك من هيجان الحرص، وسورة الغضب، وغلبة الحسد، وضعف الصبر، وقلّة القناعة، وشكاسة الخُلق، وإلحاح الشهوة، وملكة الحمية، ومتابعة الهوى، ومخالفة الهدى»(2).

ص: 29


1- الكافي 2: 308.
2- الصحيفة السجادية: من دعاءه(عليه السلام) في الإستعاذة من المكاره وسيئ الأخلاق ومذام الأفعال.

من هدي القرآن الحكيم

المسلمون أمة واحدة

قال اللّه تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(3).

تداول الأيام

قال اللّه تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}(4).

وقال سبحانه: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّىٰمِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ}(6).

التعصب ليس من أخلاق الإسلام

قال اللّه تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَٰهِلِيَّةِ}(7).

وقال سبحانه: {وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَٰسِرُونَ}(8).

ص: 30


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة المؤمنون، الآية: 52.
3- سورة الحجرات، الآية: 10.
4- سورة آل عمران، الآية: 140.
5- سورة يونس، الآية: 102.
6- سورة إبراهيم، الآية: 5.
7- سورة الفتح، الآية: 26.
8- سورة المؤمنون، الآية: 34.

وقال عزّ وجلّ: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا۠ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّنَفَرًا}(1).

رفعة العلم والعلماء

قال اللّه تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال سبحانه وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(3).

القرآن يأمر بالتآخي

قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(6).

هزيمة الباطل أمام الحق

قال اللّه تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}(7).

ص: 31


1- سورة الكهف، الآية: 34.
2- سورة الزمر، الآية: 9.
3- سورة المجادلة، الآية: 11.
4- سورة الحجرات، الآية: 10.
5- سورة آل عمران، الآية: 103.
6- سورة الأنعام، الآية: 153.
7- سورة الأنبياء، الآية: 18.

وقال عزّ وجلّ: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

المؤمنون أخوة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لكميل: «ياكميل، المؤمن مرآة المؤمن؛ لأنه يتأمله ويسدُّ فاقته ويجمِّل حالته، ياكميل، المؤمنون إخوة ولا شيء آثر عند كل أخ من أخيه، ياكميل، إن لم تحبَّ أخاك فلستَ أخاه».(2)

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما المؤمنون أخوة بنو أب وأم، وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون»(3).

وقال(عليه السلام):«لكل شيء شيء يستريح إليه، وإن المؤمن ليستريح إلى أخيه المؤمن كما يستريح الطير إلى شكله»(4).

التعقل والتعرف على الزمان

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «في حكمة آل داود: على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه»(5).

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): «من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد»(6).

وقال(عليه السلام):«من لم يعرف لؤم ظفر الأيام لم يحترس من سطوات الدهر، ولم

ص: 32


1- سورة المجادلة، الآية: 21.
2- تحف العقول: 173.
3- الكافي 2: 165.
4- بحار الأنوار 71: 274.
5- الكافي 2: 116.
6- الكافي 8: 23.

يتحفظ من فلتات الزلل، ولم يتعاظمه ذنب وإن عظم»(1).

التعصب منفي في الإسلام

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تعصّب أو تعصّب له فقد خلع ربق الإيمان من عنقه»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه اللّه يوم القيامة مع أعراب الجاهلية»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من تعصب عصبهُ اللّه بعصابة من نار»(4).

وقال(عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الصدود لأوليائي؟ فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم، فيقال: هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنفوهم في دينهم، ثم يؤمر بهم إلى جنهم»(5).

فضل العلم ورفعة العلماء

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر»(6).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العلم رأس الخير كله، والجهل رأس الشرّ كله»(7).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال: أنّ أمقت

ص: 33


1- بحار الأنوار 68: 342.
2- الكافي 2: 308.
3- الكافي 2: 308.
4- الكافي 2: 308.
5- الكافي 2: 351.
6- بصائر الدرجات 1: 7.
7- بحار الأنوار 74: 175.

عبيدي إليّ الجاهل، المستخف بأهل العلم، التارك للاقتداء بهم، وأن أحب عبيدي إليّ التقي، الطالب للثواب الجزيل، اللازم للعلماء، التابع للحلماء، القابل عنالحكماء»(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إذا أراد اللّه بعبد خيراً فقههُ في الدين»(2).

وقال(عليه السلام): «اغدُ عالماً أو متعلماً أو أحبب أهل العلم، ولا تكن رابعاً فتهلك ببغضهم»(3).

التآخي بين المسلمين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):«المؤمن مرآة المؤمن»(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «المسلم أخو المسلم، هو عينه ومرآته ودليله، لايخونه ولا يخدعه، ولا يظلمه ولا يكْذبه ولا يغتابه»(5).

وقال(عليه السلام): «المؤمن أخ المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة، وإن روح المؤمن لأشد اتصالاً بروح اللّه من اتصال شعاع الشمس بها، ودليله لايحزنه، ولايظلمه، ولايغتابه، ولا يعدهُ عدة فيخلفه»(6).

انتصار الحق وهزيمة الباطل

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحق سيف على أهل الباطل»(7).

ص: 34


1- الكافي 1: 35.
2- الكافي 1: 32.
3- المحاسن 1: 227.
4- جامع الأخبار: 85.
5- الكافي 2: 166.
6- مصادقة الأخوان: 48.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 77.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما الحق منيف فاعملوا به، ومن سره طول العافية فليتق اللّه»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ليس من باطل يقوم بإزاء الحق إلّا غلب الحق الباطل، وذلك قوله عزّ وجلّ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}»(2)(3).

ص: 35


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 304.
2- سورة الأنبياء، الآية: 18.
3- الكافي 8: 242.

ضرورة التفرغ للعمل في سبيل اللّه

التفرغ للعمل

على كل فرد يعيش في المجتمع أن يفّرغ نفسه للعمل في سبيل اللّه عزّ وجلّ، إذا تمكن من ذلك، فإن في ذلك ثواب عظيم من اللّه سبحانه وتعالى لعبده المؤمن.

وقد ورد في أغلب كتب التاريخ في وصف أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) أنهم كانوا رهباناً في الليل فرساناً في النهار(1) أي إنهم كانوا يقضون لياليهم في إقامة الصلاة والعبادة وقراءة القرآن وما أشبه... وفي النهار يواصلون أيامهم في ساحات الجهاد والعمل في سبيل اللّه.

والجهاد: يعني إجهاد النفس لأجل طاعة اللّه سبحانه وتعالى وتحكيم كلمته في الأرض، فكما أن التواجد في ساحة الحرب وجهاد النفس من أنواع الجهاد، فكذلك الجهاد لأجل هداية الناس، سواء كان عبر الكتابة والخطابة والتبليغ والموعظة الحسنة وإقامة المؤتمرات والندوات وما أشبه... يعتبر هو الآخر من أنواع الجهاد أيضاً، وهذا لا يكون إلّا عبر التفرغ التام للعمل في سبيل اللّه.

ص: 36


1- انظر نهج البلاغة، الخطب الرقم: 193 ومن خطبة له(عليه السلام) يصف فيها المتقين، الكافي 2: 236 وفيه عن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «صلى أمير المؤمنين(عليه السلام) الفجر ثم لم يزل في موضعه حتى صارت الشمس على قيد رمح وأقبل على الناس بوجهه فقال: واللّه لقد أدركت أقواماً يبيتون لربهم سجداً وقياماً يخالفون بين جباههم وركبهم، كأن زفير النار في آذانهم...».

ذلك لأن الفرد الذي يصرف معظم يومه من أجل مكسبه الشخصي وقضاياه الحيوية الخاصة، سوف يكون عادة خائر القوى، متوتر الأعصاب في آخر يومه، وهذا ما يجعله أن لا يتمكن من القيام بمهمة التبليغ والإرشاد للمجتمع كما ينبغي.

فمن الواجب على الإنسان المسلم الرسالي - على أقل تقدير - أن يخصص جزءاً من يومه وبعضاً من وقته للعمل في سبيل اللّه كل ما تمكن من ذلك، وبالخصوص في مرحلة الشباب، لما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره في ما أفناه، وشبابه في ما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفي ما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت»(1).

فهذا الحديث يأمرنا بأن نحافظ على مرحلة الشباب ولا نضيعها في اللّهو والأعمال الباطلة، بل نستغلها في أعمال الخير والصلاح والتفرغ ما أمكن في سبيل اللّه، ذلك لأن مرحلة الشباب سريعة الزوال، وسريعاً ما يجد الفرد نفسه يعيش في مرحلة الشيخوخة والهرم بعد أن كان في بحبوحة الشباب.

يقول الشاعر:

فتراكضوا خيل الشباب وحاذروا *** أن تسترد فإنهن عواري

لذا على المؤمنين باللّه - وبالذات الشباب منهم - أن يتفرغوا لرسالة اللّه ودينه، كما يتفرغ الكثير من الناس للمبادئ الهدامة والعقائد الباطلة من شيوعية وقومية ومعتقدات وثنية وما أشبه.

وجوب الجهاد

اشارة

والمشهور بين الفقهاء: إن الاجتهاد واجب كفائي، لكن والدي المرحوم

ص: 37


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 39.

السيد ميرزا مهدي(رحمه اللّه) كان يقول: في زماننا هذا الاجتهاد واجب عيني، أي إن حكمه كحكم الصلاة والصيام الواجبين على جميع الناس، وقد كان(رحمه اللّه) يعلل ذلك بكثرة وجود القوى المنحرفة بين صفوف المسلمين، وضعف القوة الإسلامية بسبب قلة العلماء والفقهاء والمراجع في بلاد الإسلام، لذلك كان يرى بأن الاجتهاد واجب عيني في هذا الزمن.

من نصائح الوالد

وإني أذكر كيف كان والدي(رحمه اللّه) ينصحني بقلة النوم، وقد كان معدل نومه في شبابه(رحمه اللّه) ساعتين ونصف في اليوم الواحد فقط، وكلما كان يأخذه النوم والنعاس وأراد الخلود إلى الراحة كان يذكر نفسه مخاطباً إياها: يا مهدي - وذلك هو اسمه(رحمه اللّه) - إنك ستنام في القبر أحقاباً وأحقاباً حتى تصبح عظامك تراباً، فأخر النوم إلى القبر.

وهكذا كان(رحمه اللّه) يجد ويجتهد ويجاهد في سبيل طلب العلم وخدمة اللّه عزّ وجلّ.

في ليلة شديدة البرد

وأتذكر حادثة في هذا المجال، وهي أننا كنا في ذات ليلة قد توجهنا من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة، وذلك في أول الليل بعد صلاة المغرب والعشاء حيث صليناهما في الطريق مع الوالد، فتوقفت السيارة في وسط الطريق بين النجف وكربلاء حيث نفذ وقودها وقال السائق إننا مضطرون للبقاء هنا إلى الصباح.

وكان الجو شتاءً قارصاً ولم تكن السيارات تعبر من ذلك الطريق، لذلك أخلدنا إلى الراحة في داخل السيارة فراراً من البرد، لكن الوالد(رحمه اللّه) أخذ يتمشى في الصحراء

ص: 38

وفي ذلك الجو البارد وإلى الصباح، حتى طلع الفجر وصلينا صلاة الصبح بالتيمم لعدم وجود الماء، وحينما أشرقت الشمس قلت لوالدي: بأنك لم تنم وأخذت تتمشى إلى الصباح مع العلم بأن الليل كان طويلاً حيث إنها ليلة شتوية؟

فأجابني(رحمه اللّه): نعم كنت أريد أن أقرأ شيئاً من القرآن - ذلك لأنه كان يحفظ القرآن كاملاً وكان يقرأ في كل صباح من بعد الصلاة إلى شروق الشمس جزءاً من القرآن الحكيم بتجويد وصوت رخيم - .

فسألته: كم قرأت من القرآن؟

قال: ثمانية أجزاء!

الاقتداء بالعظماء

يلزم على الإنسان الرسالي أن يقتدي بهؤلاء العظماء فعليه أن يستغل عمره وأن يصرف أوقاته في طاعة اللّه كما كان يقضي أولئك الكبار أيامهم ويصرفون أوقاتهم في التعب والجد والاجتهاد.

والفرد يجب أن يعي بأن قدرته وعظمته لا تكمن في مدى قوة جسمه ومقدار وزنه، وإلّا أصبح الإنسان كالغنم، همها علفها، كما في بعض الناس حيث ترى الواحد منهم يفرح حينما يزيد خمس كيلوات على وزنه ويحزن حينما ينقص عن وزنه الطبيعي، وهناك البعض ممن يقوم بوزن نفسه بين فترة وأخرى، وكما هو الملاحظ في بداية شهر رمضان، من أجل أن يحافظ على وزنه من النقصان بسبب الصوم في هذا الشهر المبارك.

فهؤلاء يتصورون أن قيمة الإنسان تكمن في كمية اللحم والعظام التي يحتويها جسمه، وأن الإنسان كل ما كان وزنه أكثر كان أفضل من غيره، بينما هذا التصور خاطئ جداً، فقدر وقيمة الإنسان تكمن في تقواه وفضيلته، وعلمه

ص: 39

وجهاده، وحبه للخير، وخدمته للناس.

صاحب ثورة العشرين

إن الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) صاحب ثورة العشرين الشهيرة، وهو خال والدي(رحمه اللّه)، لم يكن وزنه الجسمي - كما يقال - أكثر من خمسين كيلواً، ولكنه مع ذلك تمكن أن يجابه أكبر قوة عظمى في ذلك الوقت وهي بريطانيا، فاستطاع أن يحارب البريطانيين في العراق وأن يخرجهم منه، حيث إن بريطانيا استعمرت العراق في الحرب العالمية الأولى وأرادت أن تبقى فيه مدة طويلة، كما فعلت في الهند حيث استعمرت الهند لمدة ثلاثمائة سنة، لكنها لم تتمكن من البقاء في العراق ولا لمدة عشر سنوات، بالرغم من قلة عدد سكان العراق حيث كانوا لا يتجاوزون الأربعة ملايين نسمة في ذلك الوقت، وبالرغم من انعدام كافة الوسائل الحضارية من الصناعة المتقدمة والتكنولوجيا المتطورة والآلات الحربية الحديثة الصنع من دبابات وطائرات ومدافع وبوارج، وما أشبه، في مقابل كل تلك الأسلحة الحديثة التي كانت تمتلكها بريطانيا، والجيش المنظم المسلح والمجهز بأحدث الأسلحة، والقوة البشرية التي كانت تسندها، والتي يصل عددها إلى المليار نسمه من البشر، بالرغم من كل ذلك استطاع هذا الرجل العظيم الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) أن يهزم ويطرد أعظم قوة في العالم آنذاك من بلد مستضعف كالعراق، هذا مع إنه لم يكن نبياً ولا إماماً ولا معصوماً وإنما كان عالماً متقياً مجاهداً في سبيل اللّه، يخاف اللّه ويخشاه ويعمل في سبيل رضاه.

قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(1).

ص: 40


1- سورة الطلاق، الآية: 2-3.

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٖ قَدْرًا}(1).

حب الدنيا من موانع العمل

إذن على المؤمنين الحقيقيين أن يفرغوا أنفسهم للعمل الإسلامي وأن لا تخدعهم الدنيا وزخرفها، فإن حب الدنيا وطلبها والسعي من أجل الحصول على مكاسب مادية فيها، من سيارة أو قصر أو زوجة جميلة أو ما أشبه ذلك، يشكل حاجزاً بين الإنسان المؤمن وبين التفرغ في سبيل اللّه.

بل يلزم أن نفهم بأن هذه كلها تعتبر زينة الحياة الدنيا، وهي لن تنفعنا {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(2).

فلا المال ولا المنزل ولا الجاه ولا غيره يجدي شيئاً حينها، سوى عمل الإنسان الصالح الذي قدمه في دار الدنيا، وذلك لا يكون إلّا بأن يترك الدنيا وما فيها لأصحابها ويعيش بكل كيانه للّه سبحانه فقط وفقط.

مع أمير المؤمنين(عليه السلام)

في الحديث عن الإمام الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده(عليهم السلام) قال: «لما أشرف أمير المؤمنين(عليه السلام) على المقابر قال: يا أهل التربة ويا أهل الغربة، أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، وأما الأموال فقد قسمت، فهذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟

ثم التفت(عليه السلام) إلى أصحابه فقال: لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى(3).

ص: 41


1- سورة الطلاق، الآية: 3.
2- سورة الشعراء، الآية: 88-89.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 107.

وهناك آية شريفة تتحدث عن هذا المجال فتقول:

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}(1).

نعم سوف يأتي يوم القيامة، وسيأتي يوم القبر وهو يوم عسير بالنسبة لنا، حيث تحمل جنائزنا إلى المقابر وحينها لا يكون لنا نصير إلّا عملنا الصالح، كما يقول الشاعر:

وإذا حملت إلى القبور جنازة *** فاعلم بأنك بعدها محمول

والشاعر الآخر يقول:

إن الطبيب له بالطب تجربة *** ما دام في أجل الإنسان تأخير

وحينها نعرف بأننا لم نكن إلّا في غرور وانخداع بهذه الدنيا، قد خدعتنا الأموال والقصور، وقد غررنا بالجاه والمنصب والمستقبل المادي الشخصي، حيث كان جلّ هدفنا هو الحصول على شهادة عليا أو مكانة اجتماعية مرموقة أو منصب رفيع وما أشبه.

أبو العتاهية ومجلس هارون

جاء أبو العتاهية إلى هارون العباسي ورآه جالساً في مجلسه الكبير، وقد هيأ فيه الخمور والفجور والغناء والرقص وأصنافاً من الشعراء الذين قال عنهم القرآن الكريم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُنَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٖ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}(2).

وكانوا يمدحون هارون العباسي وقصره ويصفونه بإمرة المؤمنين وبأنه خليفة

ص: 42


1- سورة الكهف، الآية: 7-8.
2- سورة الشعراء، الآية: 224-226.

المسلمين! و... .

فلما رأى أو العتاهية الشاعر المشهور كل ذلك سكت ولم ينطق بحرف، إلى أن أمره هارون بأن ينشأ شعراً، فأنشأ أبو العتاهية عدة أبيات من الشعر مما أخرس جميع من في المجلس بما فيهم هارون العباسي الذي أخذ يتظاهر بالبكاء والتوبة أمام الجميع، وما كان بكاءه نابعاً من قلب صاف وإنما كان كبكاء التماسيح.

والأبيات التي أنشدها أبو العتاهية مخاطباً بها هارون كانت:

عشْ ما بدا لك سالماً *** في ظل شاهقة القصور

يهدي إليك بما اشتهيت *** من الرواح إلى البكور

فإذا النفوس ترقرت *** في ظل حشرجة الصدور

لعلمت أنك موقناً *** ما كنت إلّا في غرور

وكان هذا هو واقع هارون ومن حوله من المتملقين والمتزلفين، ولذلك لم يعتبر هارون ولم يخشع قلبه خشوعاً صحيحاً بسبب غروره وغطرسته.

عند ذلك أخذ الفضل بن يحيى بسب أبي العتاهية وقال له: انك هدمت المجلس وغيرت الأحوال، حيث بدلت مجلس العيش والطرب والفرح إلى الحزن والبكاء والكآبة، والأمير تأثر كثيراً - يعني بذلك هارون - .

لكن هارون زجر الفضل وقال له: إن أبا العتاهية قد قال الحق وأنه هو الذي نبهني، أما هؤلاء الشعراء فقد خدعوني(1)، ولكنه كان في قوله هذا كاذباً حيث كان يريد التظاهر بالتقوى والرشاد، لأن كلامه لا ينطبق مع جوره واستبداده الشديد وقتله الألوف من العلويين والشيعة وعلى رأسهم الإمام موسى بن

ص: 43


1- انظر الكامل في التاريخ 6: 220.

جعفر الكاظم(عليهما السلام) بعد أن سجنه لمدة لا تقل عن أعوام كما تؤكد الروايات على ذلك.

مضافاً إلى غصبه للحقوق وانتهاكه للحرمات والأعراض وما أشبه.

الدنيا في القرآن

فالإنسان في غرور وتكبر مادام مرتبطاً بالدنيا ومتشبثاً بها، والقرآن الكريم يصف هذه الحالة بقوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(1).

وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَٰطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَٰمِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمََٔابِ}(2).

وقال سبحانه: {قُلْ مَتَٰعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}(3).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَٰمُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَا أَتَىٰهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(4).

الدنيا في الروايات

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في كلمة جميلة له يصف الدنيا بقوله:

ص: 44


1- سورة لقمان، الآية: 33.
2- سورة آل عمران، الآية: 14.
3- سورة النساء، الآية: 77.
4- سورة يونس، الآية: 24.

«إن الدنيا عيشها قصير، وخيرها يسير، وإقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، ولذاتها فانية، وتبعاتها باقية»(1).

وقال(عليه السلام) في صفة الدنيا:

«الدنيا تغر وتضر وتمر...»(2).

وقد ورد في روايات عديدة ذم اتباع الدنيا، قال عيسى بن مريم(عليه السلام) للحواريين: «يا بني إسرائيل لا تأسوا على ما فاتكم من دنياكم إذا سلم دينكم، كما لا يأسى أهل الدنيا على ما فاتهم من دينهم إذا سلمت دنياهم»(3).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) في كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف: «... ألّا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(4)،

ومن طعمه بقرصيه، ألّا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد، فواللّه ما كنزت من دنياكم تبراً(5)، ولاادخرت من غنائمها وفراً(6)، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولاحزت من أرضها شبراً...»(7).

وقال رجل للإمام الحسن(عليه السلام): يا بن رسول اللّه ما بالنا نكره الموت ولا نحبه؟ فقال(عليه السلام): «لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب»(8).

ص: 45


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 247.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 415.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 496.
4- الطِمْر: الثوب الخلق البالي.
5- التِبر: فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ.
6- الوَفر: المال.
7- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 45، ومن كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.
8- معاني الأخبار: 390.
الإنسان رهين عمله

الإنسان رهين بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والعمل الذي يتصورهالإنسان صغيراً جداً يلاقي جزاءه في الآخرة، سواءً كان هذا العمل خيراً أم شراً، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).

مما يجب على الشباب

إن من الواجب الملقى على عاتق الشباب المؤمن في يومنا هذا، وبصورة خاصة - وإن كانت المسألة تعم الجميع - أن يوجهوا طاقاتهم وكفاءاتهم المودوعة في أنفسهم، وأن يستغلوها لصالح الإسلام، ذلك لأن كل ما يمتلكه الإنسان من عين وأذن وفم ويد ورجل وفكر وعقل وقوة و... هي طاقات أودعها اللّه سبحانه عند الإنسان وسوف يأتي يوم تُسلب هذه النعم منه.

كما يقول الشاعر:

إنما الدنيا عواري *** والعواري مستردة

شدة بعد رخاء *** ورخاء بعد شدة

فعلى الشباب أن يصرفوا طاقاتهم كلها، في سبيل اللّه عزّ وجلّ، وفي سبيل إنهاض المسلمين، وفي سبيل تأسيس حكومة ألف وثلاثمائة مليون مسلم، حيث أن الإحصائية التي صدرت مؤخراً تنص على أن المسلمين بلغ عددهم إلى ألف وثلاثمائة مليون مسلم وليس ألف مليون كما هو المشاع(2).

مقومات الإنهاض

فاللازم الاهتمام لإنهاض المسلمين، ولا يتحقق ذلك إلّا بمقدمات عديدة،

ص: 46


1- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
2- آخر الإحصاءات تؤكد على أن المسلمين بلغوا المليارين.

منها:

1- وجود22 مليون منظِّم، أي لكل خمسين إنساناً شخص واحد ينظمهم ويقودهم ويرشدهم لما فيه الخير والصلاح من أمور الدين والدنيا.

2- طباعة ما لا يقل عن 1300 مليون كتاب، أي لكل إنسان مسلم ما لا يقل عن كتاب واحد.

وأقصد بالكتب تلك التوعوية العقائدية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية، والكتب التي تتحدث عن الاستعمار وعن استغلاله لبلاد المسلمين وكيفية الخلاص منه وما أشبه.

ما هو الأمل

ونحن كلنا أمل في أن يأتي يوم - وهو قريب بإذن اللّه سبحانه وتعالى - يكون لكل المسلمين حكومة واحدة عالمية.

وأن يكونوا أمة واحدة، كما كانوا في السابق.

وأن تزال وتتلاشى هذه الحدود الجغرافية المصطنعة في ما بينهم، والتي أوجدها الاستعمار من أجل تمزيق وحدة الأمة.

وأن ترجع الأخوة الإسلامية في ما بين المسلمين، حتى يصبح العربي والعجمي والهندي والتركي و... كلهم إخوة، كما في القرآن الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1).

وأن تسود القوانين والتشريعات الإسلامية إلى حيّز التطبيق وتنزل في واقع البلاد الإسلامية، وذلك مثل قانون الحريات، وقانون الضرائب الشرعية غير

ص: 47


1- سورة الحجرات، الآية: 10.

الباهظة(1)، وقانون الأرض للّه ولمن عمرها، وغيرها من القوانين... سواء بالنسبةإلى المعاملة أو العبادة أو العائلة أو الدولة أو الأمة، أو غيرها.

وهذا الأمل يتحقق باذن اللّه تعالى، ولكن لن يأتي ذلك إلّا عبر التفرغ التام للعمل في سبيل اللّه عزّ وجلّ.

أما حين نلتهي بالأماني الفارغة والتخيلات الكاذبة، فإن ذلك لن يغير من واقعنا شيئاً.

فعلى الرساليين في كل مكان أن يعزموا على التفرغ والتجرد من الدنيا والالتحاق بركب المجاهدين العاملين في سبيل اللّه من أجل تحقيق ذلك الهدف المنشود والأمل الكبير.

فإن في ذلك عزة للإسلام والمسلمين، وعزة لأنفسهم ذاتهم، حيث إن الأمة إذا كانت قوية وعزيزة، فهذا يعني عزة أفرادها وقوتهم، وكذلك العكس، أي إذا كانت الأمة ذليلة منحطة كان الأفراد بدورهم أذلاء منحطين.

فإذا تفرغ المؤمنون للعمل الرسالي وجمعوا كلمتهم ووحدوا صفوفهم، انطلاقاً من الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}(2) وجعلوا من أنفسهم قدوة ومثالاً يحتذى بهم في مجال الخير والعمل الصالح، فحينها يمن اللّه بالنصر على الأمة، وحينها يرى المؤمنون رؤوسهم مرفوعة وهم يمتلكون حكومة إسلامية واحدة عالمية، ذات ألف وثلاثمائة مليون مسلم.

ولا غرابة في ذلك، فإن الأمور كلها بيد اللّه، وهو على كل شيء قدير... قال

ص: 48


1- وهي الخمس والزكاة والجزية والخراج.
2- سورة الصف، الآية: 4.

تعالى في القرآن الكريم: {قُلِ اللَّهُمَّ مَٰلِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَمِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(1).

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يرينا ذلك قريباً عاجلاً، وما ذلك على اللّه بعزيز.

ص: 49


1- سورة آل عمران، الآية: 26.

طريق النزاهة

اشارة

طريق النزاهة(1)

في البدء

جاء في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق(رحمه اللّه)، عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «قال اللّه جلّ جلاله لموسى: يا موسى، لو أن السماوات وعامريهن والأرضين السبع في كفة ولا إله إلّا اللّه في كفة مالت بهن لا إله إلّا اللّه»(2).

بمعنى، أن السموات والأرض لو وضعتا في كفة ميزان، ووضعت في كفته الأخرى كلمة لا إله إلّا اللّه، لكانت كلمة لا إله إلّا اللّه أثقل في الميزان، وهذا على سبيل التشبيه؛ وإلّا فان في منطق الواقع لا يمكن أن تقاس المعنويات بالماديات، أو توضع المعنويات مقابل الماديات في ميزان؛ لأن المادة لها حجم ومكان وزمان وغير ذلك، فهي لا توزن ولا تقاس إلّا بالمقياس المادي.

أما المعنويات، فهي حقائق مجردة عن مظاهر المادة من الحجم والمكان وغير ذلك، فلا يمكن أن تقاس بمقياس المادة لعدم السنخية بين الشيئين.

نعم، المعنويات تحس وتدرك بالحواس الباطنة للإنسان.

المعنويات وأثرها على الماديات

اشارة

ينقل المرحوم الوالد(رحمه اللّه): إن الألمان جاءوا ذات مرة إلى العراق من أجل

ص: 50


1- ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ: 9/ جمادى الثانية/1406ه.
2- التوحيد: 30.

القيام بالحفر والتنقيب عن الآثار القديمة في سامراء، فاستأجروا مجموعة من العمال لغرض القيام بالحفر، وكان من بين العمال شخص فقير الحال، وعند المباشرة بالتنقيب والحفر عثر هذا الشخص فجأة على قطعة من الجواهر الثمينة بحجم بيضة الدجاجة، فذهب بها إلى بغداد لبيعها دون أن يخبر بها أحداً، فباعها بخمسين ألف روبية(1)، بحيث صار في ذلك الحين من التجار المعروفين في البلاد، فبالرغم من أن هذه القطعة من الجواهر الصغيرة جداً مادياً ولم يكن لها وزن محسوس، لكنها تميزت بقدمها وتراثها وتمثيلها لحضارة عريقة، فأعطتها ثقلاً معنوياً، فارتفعت قيمتها وثمنها بهذا الشكل الباهظ.

فالمعنويات تعطي الشيء قيمة أكثر بكثير مما تعطيه الماديات، ومن هنا كان اعتقادنا أن الكلمة الطيبة «لا إله إلّا اللّه» وإن لم يكن لها ثقل مادي، إلّا أنها تحمل قيمة كبيرة جداً من ناحية الروح والمعنويات، وهكذا كل شيء، إذ وإن كانت صغيرة الحجم لكنها ذات قيمة عالية بل قد لا تقدر بثمن.

الروايات تؤكد ذلك

ومما يدل على أهمية المعنويات، ما دل على أنّ الأشياء العظيمة لا تحصل إلّا بها.

روي في البحار عن أبي عبد اللّه عن أبيه(عليهما السلام) قال: «أنه جاء أعرابي إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، هل للجنة من ثمن؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): نعم، قال: ما ثمنها؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لا إله إلّا اللّه يقولها العبد مخلصاً بها قال: وما إخلاصها؟ قال: العمل بما بعثت به في حقه وحب أهل بيتي، قال: فداك أبي وأمي وإن حب أهل البيت لمن حقّها؟ قال: إن حبهم لأعظم حقّها»(2).

ص: 51


1- الروبية: العملة المتداولة في ذلك الوقت في العراق إبان الحكم العثماني.
2- بحار الأنوار 3: 13.

وفي رواية أخرى، جاء رجل إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: ما رأس العلم؟ قال:«معرفة اللّه حق معرفته...»(1).

وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «ما من الكلام كلمة أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ من قول لا إله إلّا اللّه، وما من عبد يقول: لا إله إلّا اللّه يمدّ بها صوته فيفرغ إلّا تناثرت ذنوبه تحت قدميه كما تناثر ورق الشجر تحتها»(2).

فالجنة وتناثر الذنوب لا تكون إلّا بالأمور المعنوية فهذا يدل على أهميتها؛ لأن هناك سنخية بين الأثر والمؤثر كما لا يخفى.

صفات العلماء العاملين

اشارة

ثم من بعد أن ظهرت القيمة المعنوية نقول لطلاب علوم الدين:

إن النزاهة من الصفات التي يجب عليهم أن يوفروها في أنفسهم، كما يجب أن تتوفر فيهم الخفة وعدم التثاقل والتكاسل، بحيث يكون طالب العلم خفيفاً وذا همة عالية في أداء عمله ووظيفته، لا أن يكون ثقيلاً متثاقلاً كما عبر القرآن الكريم عن ذلك حيث قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}(3) أي: أبطأتم في أعمالكم.

والنزاهة بالمعنى الأخلاقي تعني: أن لا يفعل الإنسان العمل القبيح، قلباً، وعيناً، وأذناً، وأنفاً وفماً، بل كل جوارحه وجوانحه لا بد أن تكون نزيهة من فعل القبيح والمعصية.

طبعاً النزاهة الواقعية هي أمر مشكل جداً ويصعب الوصول إليها، لكن لا بد

ص: 52


1- التوحيد: 285.
2- ثواب الأعمال: 6.
3- سورة التوبة، الآية: 38.

من تحصيل ذلك ولا يمكن تحصيل النزاهة بالادعاء؛ إذ قد يكون يدعي ذلكوواقعه خال من أي نزاهة، ولا يلزم أن يظهر ذلك على الآخرين حيث يخفى عليهم؛ لأن الحقيقة سوف تكشف في يوم من الأيام، وإن كان تمييز الحق من الباطل عملاً في غاية الصعوبة، إلّا أنه ليس مستحيلاً، وقد قال تعالى: {وَلِكُلّٖ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ}(1).

وقد جاء في الروايات(2): أن اللّه ومنذ اليوم الأول لخلق الخلق خلط الحق والباطل ووضع الدنيا محلاً لهما، حتى يمتحن الناس بذلك، وإلّا فإن للّه القدرة بأن يعطي للناس القوة المميزة بين الحق والباطل، لكن إن تم ذلك لما كان هناك حاجة لامتحان الناس، وكانت فلسفة الاختيار تسقط لأن الناس أجمع كانوا يطلبون الحق حتى ذلك الشخص الذي يعمل خلاف الشرع يأتي - في مقام إقامة الدليل - بأدلة يعتقد أنها شرعية في غالب الأحيان، وإن اللّه تعالى خاطبنا بقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(3).

فالآية الكريمة تخاطب جميع المكلفين من الناس، لأنهم محل الاختبار والامتحان الذي أشرنا له. فالعاملون بحقل الدين أكثر ابتلاءً بهذا الخطاب، فعليهم أن يكونوا أكثر صواباً وامتثالاً للأوامر واجتناباً عن النواهي، لتتوفر فيهم النزاهة الواقعية والروحية التي بها يتمكنون من توجيه الناس وإرشادهم.

ص: 53


1- سورة البقرة، الآية: 148.
2- انظر الاحتجاج 2: 387 احتجاج أبي إبراهيم موسى بن جعفر(عليهما السلام) وفيه: عن الحسن بن علي العسكري(عليهما السلام): «أن أبا الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال: إن اللّه خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون، فأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلّا بإذنه، وما جبر اللّه أحداً من خلقه على معصيته بل اختبرهم بالبلوى، وكما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}». سورة هود، الآية: 7.
3- سورة الملك، الآية: 2.

وجاء في الروايات انه سُئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن قوله تعالى: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}ما عنى به؟ فقال: «يقول أيكم أحسن عقلاً» ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أتمكم عقلاً وأشدكم للّه خوفاً وأحسنكم في ما أمر اللّه به ونهى عنه نظراً وإن كان أقلكم تطوعاً»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية اللّه والنية الصادقة والحسنة - ثم قال - الإبقاء على العمل حتى يخلص أشدُّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ، والنية أفضل من العمل، ألّا وإن النية هي العمل - ثم تلا - قوله عزّ وجلّ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ}(2) يعني على نيته»(3).

النزاهة دروس وعبر
النزاهة عند النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)

ولنا في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) أسوة حسنة بالنزاهة الروحية والبساطة في العيش الواقعية لا التظاهرية، فقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): «فتأسّ بنبيّك الأطهر الأطيب(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنّ فيه أسوةً لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى، وأحبّ العباد إلى اللّه تعالى المتأسّي بنبيّه، والمقتصّ لأثره، قضم الدّنيا قضماً، ولم يعرها طرقاً، أهضم أهل الدّنيا كشحاً، وأخمصهم من الدّنيا بطناً، عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقّر شيئاً فحقّره، وصغّر شيئاً فصغّره، ولو لم يكن فينا إلّا حبّنا ما

ص: 54


1- تفسير مجمع البيان 10: 69.
2- سورة الإسراء، الآية: 84.
3- الكافي 2: 16.

أبغض اللّه وتعظيمنا ما صغّر اللّه لكفى به شقاقاً للّه ومحاداةً عن أمر اللّه. ولقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ويركب الحمار العاريويردف خلفه، ويكون السّتر على باب بيته فتكون فيه التّصاوير فيقول: يا فلانة لإحدى أزواجه، غيّبيه عنّي؛ فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا وزخارفها. فأعرض عن الدّنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه؛ لكيلا يتّخذ منها رياشاً ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النّفس وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر. وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده، ولقد كان في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يدلّك على مساوئ الدّنيا وعيوبها إذ جاع فيها مع خاصّته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته.

فلينظر ناظرٌ بعقله، أ أكرم اللّه محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك أم أهانه؟ فإن قال: أهانه، كذب وأتى بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه، فليعلم أنّ اللّه قد أهان غيره حيث بسط الدّنيا له وزواها عن أقرب النّاس، فتأسّى متأسّ بنبيّه واقتصّ أثره وولج مولجه، وإلّا فلا يأمن الهلكة؛ فإنّ اللّه جعل محمّداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) علماً للسّاعة ومبشّراً بالجنّة ومنذراً بالعقوبة، خرج من الدّنيا خميصاً وورد الآخرة سليماً لم يضع حجراً على حجر حتّى مضى لسبيله وأجاب داعي ربّه إلى آخره»(1).

وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعود المريض، ويتبع الجنازة، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، وكان يوم خيبر ويوم قريظة والنّضير على حمار مخطوم بحبل من ليف تحته إكافٌ من ليف. (2)(3)

ص: 55


1- مستدرك الوسائل 12: 54.
2- المخطوم: من خطم الحمار بحبل أي: جعله على أنفه، والإكاف: برذعة الحمار.
3- مكارم الأخلاق: 15.

وروي عن أحد أصحاب الإمام علي(عليه السلام) - سويد بن غفلة - فقال: دخلت على أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد ما بويع بالخلافة وهو جالس على حصير صغير وليس في البيت غيره فقلت:يا أمير المؤمنين، بيدك بيت المال ولست أرى في بيتك شيئاً مما يحتاج إليه البيت؟ فقال(عليه السلام): «يا ابن غفلة ان البيت (العاقل) لا يتأثث في دار النقلة، ولنا داراً قد نقلنا إليها خير متاعنا، وأنا عن قليل إليها صائرون»(1).

و من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها فكتب(عليه السلام) إليه:

«أمّا بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوٌّ، وغنيّهم مدعوٌّ فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه. ألّا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضي ء بنور علمه، ألّا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه. ألّا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد. فواللّه، ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادّخرت من غنائمها وفراً(2)، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلّا كقوت أتان دَبِرة(3)، ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة(4). بلى كانت في أيدينا فدكٌ من كلّ ما أظلّته السّماء، فشحّت عليها نفوس

ص: 56


1- عدة الداعي: 121.
2- الوفر: المال.
3- أتان دَبرة: هي التي عقر ظهرها فقلّ أكلها.
4- مَقِرة: أي مُرة.

قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم اللّه، وما أصنع بفدك وغير فدك والنّفس مظانّها في غد جدثٌ، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرةٌ لو زيد في فسحتها، وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسدّفرجها التّراب المتراكم، وإنّما هي نفسي أروضها بالتّقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات، أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشّبع. أو أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرّى أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكبادٌ تحنّ إلى القدّ

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش؟

فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات كالبهيمة المربوطة، همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها(1)،

تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يراد بها، أو أترك سدى أو أهمل عابثاً، أو أجرّ حبل الضّلالة أو أعتسف طريق المتاهة.

وكأنّي بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضّعف عن قتال الأقران ومنازلة الشّجعان، ألّا وإنّ الشّجرة البرّيّة أصلب عوداً والرّواتع الخضرة أرقّ جلوداً والنّابتات العذية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً. وأنا من رسول اللّه كالضّوء من الضّوء والذّراع من العضد، واللّه، لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها. وسأجهد في أن أطهّر

ص: 57


1- تقممها: التقاطها للقمامة أي الكناسة.

الأرض من هذا الشّخص المعكوس والجسم المركوس حتّى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد.

- ومن هذا الكتاب وهو آخره - :إليك عنّي يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذّهاب في مداحضك. أين القرون الّذين غررتهم بمداعبك، أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك؟ فها هم رهائن القبور ومضامين اللّحود.

واللّه، لو كنت شخصاً مرئيّاً وقالباً حسّيّاً، لأقمت عليك حدود اللّه في عباد غررتهم بالأمانيّ، وأمم ألقيتهم في المهاوي، وملوك أسلمتهم إلى التّلف، وأوردتهم موارد البلاء، إذ لا ورد ولا صدر، هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ عن حبائلك وفّق، والسّالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه، والدّنيا عنده كيوم حان انسلاخه. اعزبي عنّي، فواللّه لا أذلّ لك فتستذلّيني، ولا أسلس لك فتقوديني، وأيم اللّه، يميناً أستثني فيها بمشيئة اللّه، لأروضنّ نفسي رياضةً تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغةً دموعها، أتمتلئ السّائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الرّبيضة من عشبها فتربض، ويأكل عليٌّ من زاده فيهجع، قرّت إذاً عينه، إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسّائمة المرعيّة.

طوبى لنفس أدّت إلى ربّها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في اللّيل غمضها، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسّدت كفّها في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، أولئك حزب اللّه ألّا إنّ حزب اللّه هم المفلحون.

ص: 58

فاتّق اللّه يا ابن حنيف، ولتكفف أقراصك ليكون من النّار خلاصك»(1).

القول مع العمل

روي عن أحد علماء شيراز: أن قسيساً جاء إلى شيراز لجذب الشباب المسلمين إلى المسيحية، وفعلاً استقطب عدداً من الشباب حوله.

يستمر ذلك العالم قائلاً: لقد تعجبت من عمل هذا المسيحي وأردت أن يكون لي لقاء معه؛ حتى أعرف السر الذي أدى إلى نجاحه في عمله، فذهبت إليه الساعة الثانية بعد الظهر، وعندما طرقت الباب وفتح الباب كان يرتدي ملابس النوم (بجامة)، ثم لما رآني بدا عليه الخجل من ارتدائه هذه الملابس أمام الضيف، فسارع إلى داخل المنزل ولبس لباساً آخر، وحينما دخلت المنزل تعجبت لبساطة المعيشة عند هذا الرجل، فسألته: هل لك راتب شهري تعيش من خلاله؛ لأني أرى أنك تعيش حياة بسيطة؟ فقال: في الحقيقة إني استلم راتباً شهرياً قدره ستين ألف تومان - وفي ذلك الزمان كان مبلغ أربعين ألف تومان يعادل راتب عشرين معلماً أو أكثر فكيف بستين ألف! - ، إلّا أنني أنفقه كله في طريق مساعدة المحتاجين.

وأضاف العالم قائلاً: إن غرفة ذلك القسيس كانت نظيفة جداً، ومفروشة بالحصران العادية، وكان قد وضع أمامه نسخة من الإنجيل كتبت بخط جميل!

ومن هذه القصة وأمثالها تظهر لنا أهمية النزاهة الروحية، حيث أنها الطريق لجذب الناس، وبهذه السياسة دخل هذا القس واستخدم النزاهة والزهد في التعرف الظاهري - لأجل المصالح السياسية للاستعمار والكنيسة - فتمكن من خداع الناس وكسب الشباب المسلم والرأي العام، لتحقيق مآرب الاستعمار

ص: 59


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 45 كتابه(عليه السلام) إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف.

الغربي، وقد كان بعض الرهبان يمهّدون الطريق للاستعمار في بلادنا، في حين أن النزاهة الواقعية والزهد ليس لمصلحة دنيوية - كما في هذا القسيس المسيحي - بل من أجل نيل رضا اللّه تعالى في الدرجة الأولى والفوز بالآخرة في الدرجةالثانية.

ابن ميثم البحراني(رحمه اللّه)

نقل بعض العلماء قصة عن ابن ميثم البحراني، وهو من علماء البحرين التي كانت تعد في ذلك الزمان من مراكز الإسلام العلمية، حيث خرجت مجموعة من العلماء الذين كان لهم دور كبير في تأريخ الشيعة، أمثال صاحب الحدائق الفقيه الكبير وغيره، قال: أرسل أهل إحدى مدن العراق التي كانت مركزاً للحوزات العلمية آنذاك رسالة إلى ابن ميثم يدعونه فيها ليأتي إلى النجف، فأراد ابن ميثم البحراني أن يختبر بعض المدرسين؛ لذلك قام بتبديل لباسه ودخل المدينة متنكراً ثم حضر درساً لأحد المدرسين وطرح سؤالاً على الأستاذ، وكان سؤاله ينبئ عن فضله ومعرفته وعلميته، أي كان إشكاله في محله، إلّا أن الأستاذ لم يحترمه ولم يعط له جواباً، وفي اليوم الثاني ارتدى ابن ميثم البحراني ملابساً جيدة، وحضر نفس الدرس وعند نفس الأستاذ، فرأى أن الحاضرين في ذلك الدرس قد تفسحوا له وأجلسوه المكان المناسب، كما أنه طرح سؤالاً آخر ولكنه لم يكن في محله، ولعله لم يتناسب مع الموضوع، إلّا أن الأستاذ أعطى لسؤاله أهمية بالغة وأجابه عليه.

فقال ابن ميثم: يظهر أن الأستاذ ظاهري لا أكثر، وتؤثر فيه المظاهر لا الواقعيات، وهذا مؤشر يدل على أن أكثر الناس عقولهم مرهونة بما تراه أعينهم من مظاهر؛ لذلك هم لا يستطيعون أن يدركوا المعنويات وأن يعيشوا بنزاهة،

ص: 60

فيجب أن يكون عملهم واقعياً لا ظاهرياً.

وفي قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأخِرَةِ هُمْغَٰفِلُونَ}(1).

دلالة على أن من كان يريد الظاهر فقط فهو جاهل وغافل عن أمور الدين والآخرة، كما فيه دلالة على أن قيمة الإنسان في جوهره وباطنه، وليس بما يلبسه وبما يتظاهر به، فعلى الإنسان الاعتناء بباطنه وظاهره معاً؛ أما الباطن فلأن اللّه تعالى يحاسب الناس على ما في قلوبهم، وأما الظاهر فمن أجل إبراز نعم اللّه تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(2).

والى ذلك أشار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: «ثلاث من كن فيه أو واحدة منهن كان في ظل عرش اللّه يوم لا ظل إلّا ظله:...، ورجل لم يقدِّم رجلاً حتى يعلم أن ذلك للّه رضاً أو يحبس...»(3).

وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً قال: «أن أوّل الناس أن يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، لكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل ذلك، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلَّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت القرآن ليقال: قارئ القرآن، فقد قيل ذلك، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار»(4).

ص: 61


1- سورة الروم، الآية: 7.
2- سورة الضحى، الآية: 11.
3- المحاسن 1: 5.
4- منية المريد: 134.
الحرام الفاضح

روي أن أحد الضباط الكبار - من ذوي الرتب العسكرية العالية - دعا رضاخان بهلوي - أيام حكمه - إلى منزله، وبعد أن دخل رضا خان إلى المنزل رأى البيت واسعاً وجميلاً جداً، فتعجب لذلك كثيراً، فقرر أن يأتي بحديث يفهم من خلاله أن الضابط من أين جاء بهذه الأموال؛ لذا قال له: أنت صاحب ذوق وقد اخترت منزلاً جيداً، إلى أن وصل الكلام بينهما، حتى قال الضابط: إن هذا المال لم يحصل لي من التجارة ولا إرث من الآباء أو الأمهات.

وبما أن رواتبه من الجيش لم تكن تكفي لبناء هذا البيت الجميل أو شراءه، فقال له رضا خان: إذن من أين حصلت على هذه الأموال؟

فلم يعط الضابط جواباً، فتوضح أنه حصل على الأموال، إما من طريق الغصب، أو الرشوة - والعياذ باللّه - أو من طريق آخر غير مشروع؛ لأن المال إذا لم يأتك عن طريق الحق والحلال فهو من طريق الحرام، إذ لا فاصلة بين الحلال والحرام والحق والباطل(1).

الطلاب وبساطة العيش

الشاهد من هذه القصة ومن غيرها هو ما يختص بطلاب العلوم الدينية؛ لأن طالب العلم غالباً ليس لديه كسب أو تجارة، فإذا عاش معيشة طاغوتية تسبب ابتعاد الناس عنه وعن حياته؛ لأنها تجعل الطالب مورد الاتهام، والناس ينفضون عن المتهم، وعن غير النزيه، وإن كان ما حصل عليه هو من الرزق الحلال.

بل يلزم على طالب العلم والعامل به، وإن كان غنياً أن يجتنب الأشياء

ص: 62


1- حيث جعل الشارع طرقاً لانتقال الملكية إلى الغير وبدون سير هذه الأسباب والطرق كان حصول المال من الأكل بالباطل.

المحللة له شرعاً إن كان العرف لا ولم يتحملها. كأن يعيش في قصر، أو يركب سيارة فخمة، أو يأكل طعاماً راقياً، وغير ذلك من الأمور التي تجعل بينه وبينعامة الناس بعداً وفوارق كبيرة، وإلّا فكيف يمكن أن يكون قدوة للناس بحيث يأخذون منه تعاليم الإسلام؟! وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بقوله: «ولقد كان في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كاف لك في الأسوة(1)، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكنافها(2)، وفطم عن رضاعها وزوي عن زخارفها.

وإن شئت ثنيت بموسى كليم اللّه(عليه السلام) حيث يقول: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٖ فَقِيرٌ}(3). واللّه ما سأله إلّا خبزاً يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف(4) صفاق(5) بطنه؛ لهزاله وتشذّب لحمه(6).

وإن شئت ثلثت بداود(عليه السلام) صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده(7) ويقول لجلسائه: أيكم يكفيني بيعها؟ ويأكل قرص الشعير من ثمنها.

وإن شئت قلت في عيسى بن مريم(عليه السلام) فلقد كان يتوسّد الحجر، ويلبس الخشن ويأكل الجشب، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في

ص: 63


1- الأسوة: القدوة.
2- الأكناف: الجوانب، وزوي: قبض.
3- سورة القصص، الآية: 24.
4- شفيف: رقيق، يستشف ما وراءه.
5- الصفاق: على وزن كتاب الجلد الباطن الذي فوقه الجلد الظاهر من البطن.
6- تشذب اللحم: تفرقه.
7- السفائف: - جمع سفيفة - وسف من سف الخوص إذا نسجه، أي منسوجات الخوص.

الشتاء مشارق الأرض ومغاربها(1)، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم...»(2).

وأشار(عليه السلام) أيضاً إلى الصفات السيئة في بعض قادة المجتمع وذكر(عليه السلام) حرمة الرشوة في الحكام بشكل خاص بقوله(عليه السلام):

«وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام، وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلُهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول(3) فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع(4) ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة»(5).

فاللازم على الطلاب أن يراعوا النزاهة الواقعية لا الظاهرية؛ ولا النزاهة لأجل الناس؛ ذلك ليستفيد الناس بهم وليكونوا مصداقاً واقعياً لقول الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم ارحم خلفائي»، قيل: يا رسول اللّه ومن خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي»(6).

النزاهة والمراتب العليا

كان الشيخ عبد الكريم الحائري(رحمه اللّه) ابناً لكاسب بدخل بسيط، لكنه وبسبب علمه ونزاهته وطهارة قلبه وصل إلى مرتبة استطاع بها أن يوفق لتأسيس الحوزة

ص: 64


1- ظلاله - جمع ظل - بمعنى الكِن والمأوى. ومن كان كنه المشرق والمغرب فلا كِنّ له.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم 160، من خطبة له(عليه السلام).
3- الحائف - من حيف - أي: الجور والظلم، الدُوَل جمع دُولة: هي المال، لأنه يتداول أي ينقل من يد إلى يد.
4- المقاطع الحديد التي عينها اللّه لها.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 131 وفيها يبين(عليه السلام) سبب طلبه الحكم ويصف الإمام الحق.
6- من لا يحضره الفقيه 4: 420.

العلمية في قم المقدسة.

وهناك جملة من علمائنا الماضين الذين امتازوا بنزاهتهم وطهارة القلب،فوصلوا إلى مرتبة عالية من الشرف والتقدير، كالشيخ أبي منصور أحمد بن علي الطبرسي صاحب كتاب الاحتجاج وكان فاضلاً وعالماً بل من أجل العلماء ومشاهير الفضلاء وهو غير أبي علي الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان - وإن كانا في عصر واحد - والذي هو أيضاً كان من جملة علمائنا الفاضلين وتمتع بالنزاهة والإخلاص، وكالشيخ جمال الدين المعروف بابن فهد الحلي والذي امتاز بزهده وورعه العظيم القدر وعلمه، وكان من الثقاة وله مؤلفات كثيرة منها: المهذب، وعدة الداعي، وشرح الألفية والدر الفريد في التوحيد، وغيرها.

وليست نزاهة الإنسان مع اللّه هي المعيار فقط، بل لا بد وأن تكون في المجتمع فإنها معيار آخر أيضاً، وبهذا يكون الإنسان موضع تقدير عند أولياء اللّه المعصومين(عليهم السلام) وعند الناس؛ لأن الابتعاد عن الشيء القبيح هو المطلوب عند اللّه وبالتالي هو فوز دنيوي وأخروي.

البساطة في العيش

إن انجذاب الناس إلى شخص، واكنانهم المحبّة والصداقة له يأتي بسبب النزاهة، فكما أن الإنسان لا يصدّق كل أحد إلّا من أحرز أنه منزه عن الكذب، كذلك الناس لا يسلمون أمورهم وأموالهم وعواطفهم لكل أحد، إلّا لمن تنزه عن القبائح وكان لائقاً بذلك؛ لذلك أعطى اللّه منصب تبليغ الرسالة إلى أنزه الناس، حيث نعتقد نحن أن الأنبياء(عليهم السلام) وعلى رأسهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هم أنزه البشر، وقد جاء في الدعاء: «اللّهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين

ص: 65

استخلصتهم لنفسك ودينك، إذا(1) اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيمالذي لا زوال له ولا اضمحلال بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقربتهم...»(2).

وعن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) «أن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يقول: طوبى لمن أخلص للّه العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينسى ذكر اللّه بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أعطي غيره»(3).

وفي رواية عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رجل للنبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا رسول اللّه، علمني شيئاً إذا أنا فعلته أحبني اللّه من السماء، وأحبني أهل الأرض، قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ارغب في ما عند اللّه يحبك اللّه، وأزهد في ما عند الناس يحبك الناس»(4).

ومن هنا نعرف أن الأنبياء والأئمة الأطهار(عليهم السلام) - بالإضافة إلى أداء واجبهم - كانوا مكلّفين بانتهاج أسلوب البساطة في العيش ولو لا اختيارهم لهذا النوع من العيش ما كان الناس يعتقدون بهم وبرسالاتهم؛ فلهذا لم يكن الأنبياء(عليهم السلام) يملكون السلطة الظاهرية عدا يوسف وسليمان(عليهما السلام)، وهم كذلك كانوا على أعلى درجات الكمال والزهد والتقوى وفي غاية النزاهة من كل الجهات.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال عيسى بن مريم(عليه السلام) في خطبة قام بها في بني إسرائيل: أصبحت فيكم وإدامي الجوع، وطعامي ما تنبت الأرض للوحوش والأنعام، وسراجي القمر، وفراشي التراب، ووسادتي الحجر، ليس لي بيت

ص: 66


1- في بحار الأنوار 99: 104 ورد: «إذ اخترت»، ولعله هو الأصح.
2- إقبال الأعمال 1: 295.
3- الكافي 2: 16.
4- تهذيب الأحكام 6: 377.

يخرب، ولا مال يتلف، ولا ولد يموت، ولا امرأة تحزن، أصبحت وليس ليشيء، وأمسيت وليس لي شيء، وأنا أغنى ولد آدم»(1).

نزاهة الشيخ علي القمي(رحمه اللّه)

نزاهة الشيخ علي القمي(رحمه اللّه)(2) إن الشيخ علي القمي وبالرغم من أنه لم يكن مرجعاً معروفاً - في النجف الأشرف - آنذاك، لكنه وبسبب نزاهته وزهده وطهارته، كان العلماء وحتى بعض المراجع يصلون خلفه صلاة الجماعة، فإن هذه المنزلة الرفيعة التي نالها الشيخ هي ثمرة من ثمرات الزهد والنزاهة، ويذكر في أحواله أنه كان قد تشرف إلى رؤية الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف.

من وصية لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أبي ذر(رحمه اللّه) قال: «يا أبا ذر ما زهد عبد في الدنيا إلّا أثبت اللّه الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصره عيوب الدنيا وداءها ودواءها وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام.

يا أبا ذر، إذا رأيت أخاك قد زهد في الدنيا فاستمع منه فإنه يلقي إليك الحكمة»(3).

نعم، إن الزهد والنزاهة يجعلان من طلبة العلم قادة يتأسى بهم الناس لنيل رضا اللّه تعالى والأمن في الآخرة.

إذن فعلينا أن نحمل هذه الصفات بروحية قوية ونعمل بها ظاهراً وباطناً؛ لأن العلم بلا عمل يؤدي إلى الهلاك والعقاب، وقد أشار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ذلك

ص: 67


1- معاني الأخبار: 252.
2- هو الشيخ علي بن الشيخ محمد إبراهيم بن محمد علي القمي فقيه بارع وعالم جليل وزاهد معروف كان والده من علماء عصره. ولد في طهران سنة (1273ه) عرف(رحمه اللّه) بالورع والتقى والزهد، توفي في النجف (1371ه).
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 531.

بقوله: «إن العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلّا ارتحل»(1).

«الهي، لو لا الواجب من قبول أمرك لنزهتك من ذكري إياك، على أن ذكري لك بقدري لا بقدرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أجعل محلاً لتقديسك ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك»(2).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

اشارة

الطريق إلى النزاهة

1- الأخلاق

قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(4).

وقال سبحانه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(5).

وقال جلّ وعلا: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(6).

2- الصدق

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(7).

ص: 68


1- عوالي اللئالي 4: 66.
2- بحار الأنوار 91: 151.
3- سورة القلم، الآية: 4.
4- سورة الأعراف، الآية: 199.
5- سورة الفرقان، الآية: 63.
6- سورة المائدة، الآية: 13.
7- سورة التوبة، الآية: 119.

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٖ فِي الْأخِرِينَ}(3).

3- محاسبة النفس

قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(5).

وقال سبحانه: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَقَالَ الشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}(7).

4- التواضع

قال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(8).

ص: 69


1- سورة الزمر، الآية: 33.
2- سورة الأحزاب، الآية: 70.
3- سورة الشعراء، الآية: 84.
4- سورة البقرة، الآية: 235.
5- سورة البقرة، الآية: 281.
6- سورة الشمس، الآية: 7-10.
7- سورة إبراهيم، الآية: 22.
8- سورة المائدة، الآية: 54.

وقال عزّ وجلّ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}(3).

5- الزهد

قال تعالى: {لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَٰبَكُمْ}(4).

وقال سبحانه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا فِي الْأخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٌ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(7).

وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْاْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٖ}(8).

وقال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَٰطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَٰمِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمََٔابِ}(9).

ص: 70


1- سورة الحجر، الآية: 88.
2- سورة الشعراء، الآية: 215.
3- سورة الفرقان، الآية: 63.
4- سورة آل عمران، الآية: 153.
5- سورة طه، الآية: 131.
6- سورة الرعد، الآية: 26.
7- سورة آل عمران، الآية: 185.
8- سورة البقرة، الآية: 212.
9- سورة آل عمران، الآية: 14.

من هدي السنّة المطهّرة

الطريق إلى النزاهة
1- الأخلاق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربع من كنّ فيه وكان من قرنه إلى قدمه ذنوباً بدلها اللّه حسنات: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسن الخلق يثبت المودة»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «نعم الإيمان جميل الخلق»(3).

وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ما يقدم المؤمن على اللّه عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض أحب إلى اللّه تعالى من أن يسع الناس بخلقه»(4).

2- الصدق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... زينة الحديث الصدق»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الصدق حياة التقوى»(6).

وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ لم يبعث نبياً إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر»(7).

وقال الإمام أبو جعفر(عليه السلام) للربيع بن سعد: «يا ربيع، إن الرجل ليصدق حتى

ص: 71


1- الكافي 2: 107.
2- تحف العقول: 45.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 718.
4- الكافي 2: 100.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 488.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 30.
7- الكافي 2: 104.

يكتبه اللّه صديقاً»(1).

3- محاسبة الصدق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... إن أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من حاسب نفسه وقف على عيوبه، وأحاط بذنوبه، واستقال الذنوب وأصلح العيوب»(3).

وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ألّا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»(4).

وقال(عليه السلام): «من لم يجعل للّه له من نفسه واعظاً فإن مواعظ الناس لن تغني عنه شيئاً»(5).

4- التواضع

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما تواضع أحد إلّا رفعه اللّه»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «بكثرة التواضع يتكامل الشرف»(7).

وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن في السماء ملكين موكّلين بالعباد، فمن تواضع للّه رفعاه ومن تكبر وضعاه»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «التواضع أصل كل شرف نفيس ومرتبة رفيعة، ولو

ص: 72


1- الكافي 2: 105.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 467.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 648.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 329.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 28.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 56.
7- عيون الحكم والمواعظ: 188.
8- الكافي 2: 122.

كان للتواضع لغة يفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما في مخفيات العواقب... ولأهل التواضع سيماء يعرفها أهل السموات من الملائكة... ولا يعرف ما في معنى حقيقة التواضع إلّا المقربون من عباده المتصلين بوحدانيته»(1).

5- الزهد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الزاهد في الدنيا يريح قلبه وبدنه»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا رأيتم الرجل قد أعطي الزهد في الدنيا فاقتربوا منه فإنه يلقى الحكمة»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزهد أصل الدين»(4).

وقال الإمام أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من زهد في الدنيا أثبت اللّه الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصره عيوب الدنيا داءها ودواءها وأخرجه من الدنيا سالماً إلى دار السلام»(5).

ص: 73


1- مصباح الشريعة: 72.
2- إرشاد القلوب 1: 18.
3- روضة الواعظين 2: 437.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 35.
5- الكافي 2: 128.

طريق التقدم

الحكمة والعلم

اشارة

قال تعالى: {فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ}(1). في هذه الآية الكريمة إطراء على النبي داود وعلى النبي سليمان بن داود(عليهما السلام) على أمرين:

1- على كفاءاتهما العلمية وما آتاهما اللّه من علم وحكمة.

2- وعلى كفاءاتهما العملية وما أبدياه من عمل وتسبيح.

مما يفيد: أن معيار التقدم، سواء التقدم الفردي، أم التقدم الاجتماعي، وسواء التقدم المعنوي أم التقدم المادي، فإنه إنما يتم بالعلم وبالعمل المتعقل وفق العلم. وقوله تعالى في آخر الآية {وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} هو أيضاً تأكيد لهذا المعنى، وذلك ببيان يأتي قريباً، إن شاء اللّه تعالى.

تفسير الآية الكريمة

جاء في تفسير الآية المباركة: {فَفَهَّمْنَٰهَا} أي: علّمنا {سُلَيْمَٰنَ} كيفية الحكومة (القضاء) بين الراعي والزارع {فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ} من داوود وسليمان(عليهما السلام) {ءَاتَيْنَا} أي أعطيناه {حُكْمًا} في الخصومات، أو حكماً على الناس {وَعِلْمًا} وكان تخصيص سليمان(عليه السلام) بقوله: {فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ} لأن المقصود كان إظهار فضل

ص: 74


1- سورة الأنبياء، الآية: 79.

سليمان(عليه السلام)،ليعرف بنو إسرائيل من هو وصي داود(عليه السلام)؟ كما في الأحاديث(1) {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ} ومعنى التسخير السير معه في التسبيح، فإنك إذا عوّدت طيراً أن يتكلم بما تكلمت به أنت، يقال: إنك سخرت ذلك الطير، فكأنه صار طوع إرادتك، يتكلم إذا تكلمت، ويسكت إذا سكت {يُسَبِّحْنَ} الجبال معه، والإتيان بضمير العاقل؛ لأن التسبيح فعل العاقل {وَالطَّيْرَ} عطف على الجبال، أي وسخرنا معه الطير، فإنها كانت تسبح بتسبيحه. قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن داود خرج ذات يوم يقرأ الزبور، وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر ولا سبع إلّا جاوبه»(2) {وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} لذلك، وكان المراد بذلك أن هذا الأمر ليس عجيباً من قدرتنا، وإن كان مستغرباً عندكم(3).

وفي مجمع البيان

وجاء في تفسير مجمع البيان: {فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ} أي: علّمناه الحكومة في ذلك. قيل: إن سليمان(عليه السلام) قضى بذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة. وروي عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنه - سليمان(عليه السلام) - قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلاً، وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهاراً» {وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} أي: وكل واحد من داود

ص: 75


1- فقد روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «كان في بني إسرائيل رجل كان له كَرْم (شجر العنب)، ونفشت فيه غنم لرجل آخر بالليل، وقضمته وأفسدته، فجاء صاحب الكَرْم إلى داود(عليه السلام) فاستعدى على صاحب الغنم، فقال داود(عليه السلام): اذهبا إلى سليمان(عليه السلام) ليحكم بينكما، فذهبا إليه، فقال سليمان(عليه السلام): إن كانت الغنم أكلت الأصل والفرع، فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكَرْم الغنم وما في بطنها، وإن كانت ذهبت بالفرع ولم تذهب بالأصل فإنه يدفع ولدها إلى صاحب الكَرْم، وكان هذا حكم داود(عليه السلام). وإنما أراد أن يعرف بني إسرائيل أن سليمان(عليه السلام) وصيه بعده، ولم يختلفا في الحكم، ولو اختلف حكمهما لقال: وكنا لحكمهما شاهدين». بحار الأنوار 14: 131.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 99.
3- انظر تفسير تقريب القرآن 3: 561.

وسليمان(عليهما السلام) أعطيناهحكمة. وقيل: معناه النبوة، وعلم الدين، والشرع. {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} قيل: معناه سيرَّنا الجبال مع داود(عليه السلام) حيث سار، فعبر عن ذلك بالتسبيح لما فيه من الآية العظيمة التي تدعو إلى تسبيح اللّه، وتعظيمه وتنزيهه عن كل ما لا يليق به. وكذلك تسخير الطير له تسبيح، يدل على أن مسخرها قادر لا يجوز عليه ما يجوز على العباد. وقيل: إن الجبال كانت تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير يسبح معه بالغداة والعشي، معجزةً له. {وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} أي: قادرين على فعل هذه الأشياء، ففعلناها دلالة على نبوته(1).

عودة إلى الآية الكريمة

وهناك معنى آخر للآية الكريمة، فإن قوله تعالى: {وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} جملة وجيزة من حيث مفرداتها وعدد حروفها، لكنها كبيرة واسعة، وعظيمة شاملة من حيث معانيها ودلالاتها، وكذلك هو شأن كل جملة في كل آية من آيات القرآن الحكيم، إنّ «كان» في {كُنَّا فَٰعِلِينَ} من الأفعال الناقصة وأسمها معها، وهو الضمير «نا»، وخبرها {فَٰعِلِينَ} فإن اللّه سبحانه وتعالى يبين في هذه الكلمة أن تسبيح الجبال وتسبيح الطير كان تجاوباً مع داود(عليه السلام) وتبعاً لتسبيحه ومسبباً عنه، وهذا مصداق من مصاديق قانون الأسباب والمسببات، فيشير عزّ وجلّ إلى أن الدنيا جعلها دار أسباب ومسبّبات، فتسبيح الجبال والطير هنا مسبّب من تسبيح داود(عليه السلام) مع أن اللّه قادر على كل شيء فيقول للشيء: كن فيكون. ويؤيده قوله سبحانه: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(2).

فقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: {لَّيْسَ} أمر الثواب والعقاب والسعادة

ص: 76


1- تفسير مجمع البيان 7: 104.
2- سورة النساء، الآية: 123.

والخسران {بِأَمَانِيِّكُمْ} وهو جمع أُمنية، بمعنى رغبة النفس، فلا ينال الإنسان خيراً بالأماني في ما إذا كان عمله خلاف ذلك، والخطاب للمسلمين {وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} ففي (المجمع):

قيل: تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى باللّه منكم. فقال المسلمون: نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب، وديننا الإسلام، فنزلت الآية، فقال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء. فأنزل اللّه الآية التي بعدها {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}(1) ففلح المسلمون، و{مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فإن الذي ينفع عند اللّه هو العمل الصالح، أما الأنساب والأحساب وما أشبه، فلا تنفع إلّا بقدر ما يرجع إلى العمل أيضاً، كما قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المرء يُحفظ في ولده»(2). ولذا من عمل عملاً سيئاً يجز به. ومما ذكرنا تبين أن حفظ نسب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما يرجع إلى عمل وأتعاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)(3).

لذا فإن الراغب إلى شيء يلزم أن يسعى لتحقيقه عبر أسبابه الطبيعية، التي أمر اللّه اللزوم بها، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شي ء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرحٍ علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 77


1- سورة النساء، الآية: 124.
2- الاحتجاج 1: 103 احتجاج فاطمة الزهراء(عليها السلام) على القوم لما منعوها فدك، وقد قالت(عليها السلام): «... يا معشر النقيبة، وأعضاد الملة، وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي، والسنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبي يقول: المرء يحفظ في ولده. سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة، ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول...».
3- انظر تفسير تقريب القرآن 1: 550.

ونحن»(1).

فالتقدم في هذه الدنيا لا يكون إلّا باتخاذ أسبابه، لأن سنة الكون سنة الأسباب والمسبّبات.

مقومات التقدم

اشارة

وهنا لا بأس بأن نشير إلى مقومات التقدم، وهي أمور عديدة، منها ما يلي:

المقوم الأول: العلم
اشارة

إن العلم في مقدمة العوامل التي تسبب تقدم الفرد، وبالتالي: تقدم المجتمع، ومتى ما تواجد العلماء في مجتمع، وألتف ذلك المجتمع حول علمائه واحتفوا بهم، إلّا وسجل ذلك المجتمع لنفسه تقدماً باهراً وزاهراً.

مثلاً: قوم نبي اللّه يونس(عليه السلام) الذين فازوا بالنجاة من العذاب والخزي في الدنيا - بحسب القرآن الحكيم - وكان ذلك أكبر تقدم حازوا عليه، إنما كان ذلك نتيجة إلتفافهم بالعالم الذي كان عندهم وباتباعهم له ولتعليمه(2).

ص: 78


1- الكافي 1: 183.
2- روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «ما رد اللّه العذاب إلّا عن قوم يونس، وكان يونس يدعوهم إلى الإسلام فيأبوا ذلك، فهمّ أن يدعو عليهم، وكان فيهم رجلان: عابد وعالم، وكان اسم أحدهما مليخا، والآخر اسمه روبيل، فكان العابد يشير على يونس(عليه السلام) بالدعاء عليهم، وكان العالم ينهاه؛ ويقول: لا تدع عليهم فإن اللّه يستجيب لك ولا يحب هلاك عباده. فقبل قول العابد ولم يقبل من العالم، فدعا عليهم فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: يأتيهم العذاب في سنة كذا وكذا، في شهر كذا وكذا، في يوم كذا وكذا، فلما قرب الوقت خرج يونس(عليه السلام) من بينهم مع العابد، وبقي العالم فيها، فلما كان في ذلك اليوم نزل العذاب فقال العالم لهم: يا قوم، افزعوا إلى اللّه فلعله يرحمكم، ويرد العذاب عنكم، فقالوا: كيف نصنع؟ قال: اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة، وفرقوا بين النساء والأولاد، وبين الإبل وأولادها، وبين البقر وأولادها، وبين الغنم وأولادها، ثم ابكوا وادعوا. فذهبوا وفعلوا ذلك، وضجوا وبكوا، فرحمهم اللّه وصرف عنهم العذاب، وفرق العذاب على الجبال، وقد كان نزل وقرب منهم، فأقبل يونس(عليه السلام) لينظر كيف أهلكهم اللّه، فرأى الزارعين يزرعون في أرضهم! قال لهم: ما فعل قوم يونس؟ فقالوا له، ولم يعرفوه: إن يونس دعا عليهم فاستجاب اللّه له ونزل العذاب عليهم، فاجتمعوا وبكوا ودعوا فرحمهم اللّه، وصرف ذلك عنهم، وفرق العذاب على الجبال...». تفسير القمي 1: 317.

ومثلاً: الشعب السويسري، فإنهم لا يملكون معادن الثروة تحت الأرض، ولكنهم يملكون علماء فوق أرضهم، يتقنون علم صنع الساعات اليدوية الممتازة وغيرها، فتقدمت بلادهم وتقدم مجتمعهم بعلمائهم، بينما تأخرت البلاد التي تملك معادن الثروة تحت الأرض ولايتبع أهلها علماءهم.

وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة الدالة على أن العلم والعلماء، والوعي والثقافة، هو المقوم الأول في طريق التقدم والرقي.

وهكذا تقدم الغرب بعلمائه في مختلف المجالات على بلاد المسلمين.

العلم في الآيات والروايات

للعلم والجد والاجتهاد منزلة عظيمة في القرآن الكريم والروايات الشريفة، وما أكثر الآيات والأحاديث في هذا الباب، وقد أشرنا إلى بعضها في العديد من كتبنا(1).

قال اللّه تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَلَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الصَّٰبِرُونَ}(2).

وقال جلّ أسمه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم مصباح العقل وينبوع الفضل»(5).

ص: 79


1- انظر كتاب (إلى الحوزات العلمية) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
2- سورة القصص، الآية: 80.
3- سورة المجادلة، الآية: 11.
4- سورة الحج، الآية: 54.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 85.

وقال(عليه السلام): «إن كنتم للنجاة طالبين فارفضوا الغفلة واللّهو وألزموا الاجتهاد والجد»(1).

وقال(عليه السلام): «العلم يدل على العقل، فمن علم عقل»(2).

وقال(عليه السلام): «أعون الأشياء على تزكية العقل التعليم»(3).

وقال الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام): «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال(عليه السلام): أنّ أمْقَت عبيدي إليّ الجاهل المستخف بحق أهل العلم، التارك للاقتداء بهم، وأن أحبّ عبيدي إليّ، التقيّ الطالب للثواب الجزيل، اللازم للعلماء، التابع للحلماء، القابل عن الحكماء»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن الذي يعلم العلم منكم له أجرٌ مثل أجر المتعلّم، وله الفضل عليه، فتعلموا العلم من حملة العلم، وعلّموه إخوانكم كما علمكموه العلماء»(5).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ... وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر»(6).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من تعلم العلم وعمل به، وعلَّم للّه، دعي في ملكوت

ص: 80


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 258.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 92.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 208.
4- الكافي 1: 35.
5- الكافي 1: 35.
6- الكافي 1: 34.

السماوات عظيماً، فقيل: تعلم للّه، وعمل للّه، وعلَّم للّه»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً:«اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولاتكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم»(2).

وقال(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(3) قال: «يعني بالعلماء، من صدق فعله قوله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم»(4).

من أسباب تأخر الأمم

ثم إن الجهل وعدم الوعي، وفقد العلم والعلماء، وقلة ثقافة الحياة، من أهم أسباب تأخر الفرد والمجتمع، ويؤدي إلى تقهقر الأمم وسقوطها، بل إلى موتها وفنائها.

قال تبارك وتعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُمْ}(5).

وقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالْإِيمَٰنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّٰدِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَٰكِنِّي أَرَىٰكُمْ قَوْمًا

ص: 81


1- الكافي 1: 35.
2- الكافي 1: 36.
3- سورة فاطر، الآية: 28.
4- الكافي 1: 36.
5- سورة محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، الآية: 16.
6- سورة الروم، الآية: 56.

تَجْهَلُونَ}(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الجهل في الإنسان أضر من الآكلة في البدن»(2).

وقال(عليه السلام): «لا غنى لجاهل»(3).

وقال(عليه السلام): «لا فقر أشد من الجهل»(4).

وقال(عليه السلام): «من أشد المصائب غلبة الجهل»(5).

المقوم الثاني: العمل
اشارة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما»(6).

إن العمل هو الركن الأساسي - بعد العلم - في تقدم الفرد والمجتمع.

بل يمكن أن يقال: إن العلم والعمل توأمان لا ينفصلان، ورضيعا لبان لا ينفك بعضهما عن البعض في تحقيق التقدم وتقومه، فإن كل فرد وكذلك كل مجتمع يريد الرقي والتقدم، لا بدّ له من توفير هذين العاملين معاً.

وربما يقال: إن العلم بنفسه لا يتحقق - عادةً - إلّا بالعمل لتحصيله، ولا يتحصّل العلم إلّا بالجد والاجتهاد، لأن أكثر المعلومات اكتسابية.

وسابقاً كانت الأمة الإسلامية مجدة في تحصيل العلوم وتربية العلماء

ص: 82


1- سورة الأحقاف، الآية: 22-23.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 73.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 73.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 73.
5- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 73.
6- عيون الحكم والمواعظ: 144.

والاحتفاف بهم والأخذ عنهم، ولذلك تطورت الأمة حتى سبقت جميع الأمم في مختلف مجالات الحياة فأصبح المسلمون آباء العلم الحديث.

ولكن للأسف نجد في يومنا هذا، أن كثيراً من المسلمين تخلوا عن العلم والعلماء، وهم يحبون أن تتحقق الأمور بالأماني.

فهل يعقل أن يصبح الإنسان طبيباً بدون دراسته للطب؟!

أو يطمح أن يكون عالماً مجتهداً بلا دراسة لمقدمات الاجتهاد؟!

أو يرجو أن يصبح بلده وفير الخير، قوي الاقتصاد، وتملؤه المعامل والمصانع، دون أن يقدم لذلك تخطيطاً وعملاً؟!

إن اللّه تبارك وتعالى يقول: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} أيها المسلمون، فإن تحقق الأمور ليست بالأماني والآمال، بل بالفكر والنظر، والعلم والعمل، والتخطيط والتطبيق، وبسلوك الأسباب والمقدمات للوصول إلى المسببات وذي المقدمات والنتائج {وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} فليس الأمر بأمانيهم أيضاً، أي: أماني أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس، ولا غيرهم، فليتمنوا الرقي والتقدم، ولكن هل يتحقق لهم شيء من ذلك؟

الجواب: كلا ثم كلا.

الأماني بضاعة النوكى

إن الاعتماد على التمني والاتكال على الأمنيات، ناتج من قلة الوعي، أو فقدانه؛ لأن الإنسان الذي يعقل ويعي الأمور يعرف أن لكل شيء سبباً، يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إياك والاتكال على المُنى فإنها بضائع النوكى»(1)(2).

ص: 83


1- النُوكى جمع الأنوك أي: الأحمق.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 169.

إن الأماني ليست بضاعة يمكن الاعتماد عليها، وإنما هي بضاعة الحمقى الذين لا يعقلون الأمور ولا يعونها. إن القرآن الحكيم يشير إلى قصة ذي القرنين بقوله: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}(1) ليعلّمنا بأن الدنيا دار أسباب ومسبّبات، وأنه يلزم التحرك على ضوء الأسباب والعلل، وفق القوانين والسنن الكونية، التي سنها الباري تعالى لهذا الكون، وجعلها في هذه الحياة، أما الإنسان غير المتعقل وغير الواعي، فإنه يريد أن يحقق آماله بالأمنيات المجردة وعبر الأساطير الفارغة التي يزعمها، أملاً منه على أنها يمكن أن تساوي يوماً مّا التحقق الواقعي الخارجي، ولكنه هيهات وهيهات.

الأماني والآمال في الروايات

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه سبحانه ليبغض الطويل الأمل السيئ العمل»(2).

وقال(عليه السلام): «الأماني بضائع النوكى» «الآمال غرور الحمقى»(3).

وقال(عليه السلام): «الأماني تخدعك وعند الحقائق تدعك»(4).

وقال(عليه السلام): «من اتكل على الأماني مات دون أمله»(5).

وقال(عليه السلام): «أكذبوا آمالكم واغتنموا آجالكم بأحسن أعمالكم، وبادروا مبادرة أولي النُهى والألباب»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «تجنبوا المُنى فإنها تذهب بهجة ما خوَّلتم،

ص: 84


1- سورة الكهف، الآية: 89.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 224.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 40.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 78.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 608.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 152.

وتستصغرون بها مواهب اللّه تعالى عندكم، وتعقبكم الحسرات في ما وهَّمتم به أنفسكم»(1).

عواقب الاعتماد على التمني

إن الاعتماد على التمني فحسب، يورث حالة التواكل عند الإنسان والتخلي عن مسؤولياته، فكثير من المسلمين يرون بأن الشخص الفلاني، أو الجيش، أو الحزب، أو النظام هو المكلف بإنقاذ بلده، أي: إنه ينتظر النتائج من غيره دون عمل ومقدمات من نفسه، وهذا خطأ فادح؛ لأن ابتعاد المسلمين عن العمل وإلقاء المسؤولية على الآخرين نوع من العيش في عالم الأساطير والأحلام، ففي الحديث الشريف: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألّا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته»(2).

وكما أن عالم الأساطير والأحلام لا يتمخّض عن نتيجة، فكذلك الاتكال على الأمنيات والآمال فإنه لا يمكن فيها الحصول على نتيجة واقعية في آخر الأمر، وذلك لأن اللّه تعالى جعل الحياة حياة هادفة جادّة، وقدّر لها أن تسير وفق الأسباب والعلل الكونية بدقة وانتظام؛ لذا علينا أن نكون هادفين وجادّين، وفي أعلى مستويات الوعي والإدراك لما يجري حولنا، ثم على ضوئها يلزم أن نفكر ونخطط، ثم نبدأ بالعمل الصحيح وفق ذلك وبالتحرك المخلص والجد والنشاط، إذ من الواضح أن الطموح والأماني مجردة عن التطبيق والعمل لا

ص: 85


1- الكافي 5: 85.
2- إرشاد القلوب 1: 184.

تحقق شيئاً من الرقي والتقدم، وإنما الذي يحقق الرقي هو الطموح والأماني المستتبعة للتطبيق والعمل.

الكسل عمل سوء

وهكذا يكون الكسل مذموماً عند العقلاء وفي الشريعة الإسلامية، وهو من مصاديق العمل السوء.

فإنه ليس المراد من (العمل السوء) في قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(1) هو: شرب الخمر فحسب، أو تعاطي القمار فقط، بل المراد منه: معناه الأعم الشامل حتى لمثل الكسل والغفلة. فقد جاء في الدعاء الوارد والمأثور عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام): «وأعذنا من السأمة والكسل والفترة»(2).

وفي دعاء آخر عن الإمام السجاد(عليه السلام): «اللّهم اقض لي في الأربعاء أربعاً: اجعل قوتي في طاعتك، ونشاطي في عبادتك، ورغبتي في ثوابك، وزهدي في ما يوجب لي أليم عقابك، إنك لطيف لما تشاء»(3).

هذه الآية الشريفة تتوعد بالجزاء لعمل السوء، والجزاء يكون دنيوياً وأخروياً، والجزاء الدنيوي لعمل السوء هو التأخر والفشل والحرمان وما أشبه.

فإذا عمل الإنسان سوءاً - بالمعنى الأعم الشامل للكسل أيضاً - فسيجزى به، ويتأخر في الحياة، وتنصب عليه المشاكل والويلات، وذلك كطالب مدرسة يذهب إلى قاعة الدرس ولكنه من دون تحمل للمسؤولية وجد واجتهاد، فيقضي وقته في فراغ وكسل، ولا يحفظ دروسه، ولم يقم بتحضيرها ولا بإعدادها، ولا

ص: 86


1- سورة النساء، الآية: 123.
2- مصباح المتهجد 1: 411.
3- مصباح للكفعمي: 124.

مراجعتها ولا المباحثة فيها، ولم يسهر لتدارك ما فاته من أمر حفظها وتحصيلها، فإن عمله هذا مندرج أيضاً في دائرة (عمل السوء) فإنه إذا كسل كان عاقبته أنه يتأخر ويفشل؛ لأن كل من عمل السوء يجزى به، والسوء - كما قلنا - لا يعني المعصية والعمل القبيح فقط، بل هو شامل لكل ما هو خارج عن دائرة الخير والفضيلة وداخل في دائرة الشر والرذيلة كالكسل والخمول.

الكسل والضجر في الروايات

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن الأشياء لما ازدوجت ازدوج الكسل والعجز، فنتجا بينهما الفقر»(1).

وقال الإمام أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «إني لأبغض للرجل أن يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عدو العمل الكسل»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من كسل عن طهوره وصلاته فليس فيه خيرٌ لأمر آخرته، ومن كسل عمّا يصلح به أمر معيشته فليس فيه خيرٌ لأمر دنياه»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «لا تستعن بكسلان، ولا تستشيرن عاجزاً»(5).

وكتب(عليه السلام) إلى رجل من أصحابه: «أما بعد، فلا تجادل العلماء، ولا تمار السفهاء فيبغضك العلماء، ويشتمك السفهاء، ولا تكسل عن معيشتك، فتكون كَلاً على غيرك، - أو قال - على أهلك»(6).

ص: 87


1- الكافي 5: 86.
2- الكافي 5: 85.
3- الكافي 5: 85.
4- الكافي 5: 85.
5- الكافي 5: 85.
6- الكافي 5: 86.

وقال(عليه السلام) أيضاً: «إياك والكسل والضجر، فإنهما مفتاح كل سوء، إنه من كسل لم يؤد حقاً، ومن ضجر لم يصبر على حق»(1).

وعن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم(عليه السلام) قال: «قال أبي(عليه السلام) لبعض ولده: إياك والكسل والضجر؛ فإنهما يمنعانك من حظك من الدنيا والآخرة»(2).

سفرة إلى دولتين

سافر أحد كبار التجار إلى دولتين أجنبيتين أحدهما أكثر تطوراً وتقدماً من الأخرى، وعندما عاد من السفر ذهبت لزيارته وسألته: ما هي أسباب التقدم والتأخر التي لمستها في هاتين الدولتين، وكيف تأخرت الأولى، وبماذا تقدمت الثانية، في حين أن الثانية كانت سابقاً دولة عادية وأدنى مرتبة وأقل تطوراً من الأولى؟

أجابني قائلاً: إنني رأيت بنفسي أسباب ذلك، فمن أهم أسباب تأخر الدولة الأولى هو: أن العامل فيها صار كسولاً، بحيث إنه يأتي إلى محل عمله في الساعة الثامنة صباحاً أو بعدها، ثم يعمل إلى الساعة الثانية عشرة من الظهر، ثم يذهب إلى داره لتناول طعامه، ثم يسترخي في فراشه، ثم يأتي الساعة الرابعة أو الخامسة عصراً، ويبقى إلى الساعة السابعة والثامنة مساءً في محل عمله، ثم يرجع ثانية إلى بيته، أو إلى أماكن اللّهو والفساد.

وبالنتيجة: فإن العامل في الدولة الأولى صار يشتغل يومياً ست إلى سبع ساعات فقط كحد أقصى، أما العامل في الدولة الثانية، فإنه يشتغل يومياً اثنتي عشرة ساعة بالضبط، وبكل جد ونشاط، يعني أنه يعمل من الساعة السابعة

ص: 88


1- من لا يحضره الفقيه 3: 168.
2- الكافي 5: 85.

صباحاً حتى الساعة السابعة مساءً - عادة - ومن الطبيعي أن الإنسان الذي يعمل اثنتي عشرة ساعة يتفوق في كل شيء على الذي يعمل ست ساعات فقط، ويتقدم عليه، بل ليس من المعقول أن يتساوى مهندس يعمل ست ساعات، ومهندس آخر يعمل اثنتي عشرة ساعة في الناتج النهائي للعمل، وهو واضح.

بعد الحرب العالمية الثانية

عندما انتهت الحرب العالمية الثانية - وأنا أتذكرها جيداً - وكنت أتابع أخبارها من الإذاعات واقرؤها في الصحف، كانت ألمانيا وكذلك اليابان قد تحوّلتا حينها إلى ركام وخرائب، فقرر العمال في كل منهما بعد أن رأوا من تدهور بلادهم الاقتصادي أن يعملوا يومياً أكثر من عشر ساعات، وربما وصل إلى اثنتي عشرة ساعة، ومن الواضح أن العمل في اليوم ثمان ساعات هي في ذاتها متعبة وخاصة بالنسبة لبعض الأعمال، مثل الأعمال الثقيلة والشاقة، التي تتطلب جهداً بدنيا كبيراً، فكيف بإضافة أربع ساعات أخرى من العمل إليها، ولكن رغم ذلك واصل رجال الأعمال في كل البلدين العمل وهم يقولون: إن هذه الأربع ساعات هي تبرع منا لبناء بلدنا.

ولو أردنا ضبط ما ينجزه هؤلاء الملايين من العمال وحسابه بمعدل عمل قدره 12 ساعة يومياً، لاتضح لنا الدور الكبير والمؤثر جداً في بناء البلد وتطويره، فكان هؤلاء يصرفون الزائد من عملهم المقرر في بناء المستشفيات والمستوصفات، والمصانع، والشركات، والمدارس والجامعات، والجسور والشوارع، والدور والبنوك، والثكنات العسكرية والمراكز الحكومية، وسائر الأماكن والمؤسسات الضرورية الأخرى. ومنذ سنة (1945 إلى سنة 1975م) أي: بعد أن مضت ثلاثون سنة من العمل، وإذا بألمانيا وكذلك اليابان، أصبح كل منهما من أقوى دول العالم صناعياً وأكثرها تطوراً.

ص: 89

جودة العمل وإتقانه

ثم بعد ثبوت أن العمل وكثرته، عامل من عوامل التقدم والرقي، نرى الإسلام يؤكّد على جودة العمل وإتقانه، وعلى الدقة فيه وإحكامه، فالتأكيد الإسلامي يشمل الجانب الكمّي والكيفي معاً.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «لما مات إبراهيم بن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قبره خللاً فسواه بيده، ثم قال: إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن، ثم قال: الحق بسلفك الصالح عثمان بن مضعون»(1).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قيمة كل امرئ ما يحسنه»(2).

وعنه(عليه السلام) قال: «تصفية العمل خير من العمل»(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «لا نقول درجة واحدة إن اللّه يقول: درجات بعضها فوق بعض، إنما تفاضل القوم بالأعمال»(4).

وعنه(عليه السلام) قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نزل حتى لحد سعد بن معاذ، وسوى اللبن عليه، وجعل يقول: ناولني حجراً، ناولني تراباً رطباً، يسد به ما بين اللبن، فلما أن فرغ وحثا التراب عليه وسوى قبره، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إني لأعلم أنه(5) سيُبلى ويصل إليه البلاء، ولكن اللّه يحب عبداً إذا عمل عملاً أحكمه»(6).

وفي البلاد الإسلامية

أما البلاد الإسلامية فقد تأخرت لأن الأمة والحكومة اشتغلت بالأماني

ص: 90


1- وسائل الشيعة 3: 229.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 447.
3- كنز الفوائد 1: 278.
4- تفسير العياشي 1: 388.
5- أي القبر.
6- وسائل الشيعة 3: 230.

والشهوات، وتخلت عن العلم والعمل.

فترى بلداً إسلامياً كبيراً قد يصل عدد نفوسه إلى أكثر من مائة مليون نسمة، وكذلك بلدان إسلامية أخرى خرجت من الحرب العالمية الثانية، كما خرجت ألمانيا واليابان وهما بحالة دمار شامل وإفلاس كامل، ولكن تقدمتا وتطورتا، إلّا أن البلاد الإسلامية لم تتقدم تقدماً محسوساً، ولم تغسل عن نفسها دمار وغبار الحرب غسلاً كاملاً، بل بقيت إلى يومناً هذا تعدّ من الدول المتخلفة، ومن بلدان العالم الثالث.

ونحن لا نريد الحط من شأن البلاد الإسلامية؛ وإنما الأمر من باب نقد الذات في طريق البناء والتقدم، فنتسائل لماذا هذا التأخر والتخلف، هل هو لأن العمال في البلاد الإسلامية لم يتبرّعوا بساعات إضافية من العمل، أو لأن رؤساءهم وملوكهم لم يكونوا ممن يفكّر بتقدّم البلاد والعباد بل كانوا عملاء للأجانب، أو لأن الراعي والرعية معاً قد أعرضوا عن تعاليم الإسلام، تلك التعاليم التي تحيي البلاد والعباد بالتقدم والرقي، والنمّو والازدهار؟

قال اللّه تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(1).

الإسلام يأمر بالعمل

قال اللّه تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ}(3).

ص: 91


1- سورة الأعراف، الآية: 96.
2- سورة التوبة، الآية: 105.
3- سورة النجم، الآية: 39-40.

فالإسلام يأمر بالعمل، وينهى عن الكسل والترّهل، وعن الركود والخمود،كما أنه يذكّرنا بهذه الحقيقة، ويوقفنا على مدى واقعيتها، ويقول: بقدر العمل يحصل الإنسان على النتائج، فلو فرضنا أن هناك دولة فيها من رجال الأعمال خمسون ألف عامل، وأن كل واحد منهم يعمل أربع ساعات، وفي دولة أخرى مجموع رجال أعمالها خمسون ألف عامل أيضاً، ولكن يعمل كل واحد منهم ست ساعات يومياً، فأيّ واحد منهما سوف يحصل على تقدم أكبر، ورقي أعظم؟

من البديهي أن رجال الأعمال في البلاد التي يعملون فيها ست ساعات هم الذين يحصلون على رقي أكبر وتقدم أعظم، هذا في الجانب الكمي، وكذلك الأمر في الجانب الكيفي أيضاً.

وإليك شاهد آخر على أن التقدم لمن يعمل والتأخر لمن لا يعمل، وذلك من واقع بلادنا الإسلامية، فالمسلمون على كثرتهم وثروتهم، وعلى ما يمتلكونه من طاقات فكرية وجسدية، متأخرون في كل شيء، سياسياً واقتصادياً، واجتماعياً وصناعياً، فلا يستطيعون حتى من صناعة إبرة للخياطة، وإن كانت عندهم بعض الصناعات فهي تقليدية أو تجميع أو ما أشبه، في حين كنا نحن المسلمين يوماً آباء العلم وروّاد الفكر، وما ذاك التقدم إلّا بالعمل، وما هذا التأخر إلّا بالكسل.

وصايا بليغة

كثير من الشباب وهم قوة المجتمع العملي، وعليهم يعتمد التطور والتقدم في مختلف ميادين الحياة، تراهم اليوم قد انخرطوا في المفساد واللّهو واللعب، وأقل ما يقال: إنهم كثيروا النوم قليلوا العمل.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما أنقض النوم لعزائم اليوم»(1).

ص: 92


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 440.

وكان المرحوم والدي (قدس اللّه روحه) يوصيني دائماً بقلة النوم، ويقول في ما يقول لي في هذا المجال: أخّر يا ولدي نومك إلى القبر، فإن الإنسان سوف ينام في القبر نوماً طويلاً، تتهشم منه أضلاعه، وتفسد على أثره جوانبه.

هكذا كان يوصيني والدي(رحمه اللّه) وكان يذكر لي بعض تجاربه الشخصية وخصوصيات حياته في شبابه فيقول: كنت في أيام شبابي وأنا واحد من الطلبة، لم أترك القراءة ليل نهار، فكنت أطالع في الليل على ضوء القمر، إذا لم يكن المصباح النفطي أو الشمعة أو نحو ذلك متوفراً عندنا. ثم كان سماحته(رحمه اللّه) يردف كلامه ويقول: بالعمل الدؤوب والسهر الدائم، يتمكن الإنسان أن يصل إلى بعض الدرجات الرفيعة، ويتقدم علمياً ومعنوياً. أما الإنسان الذي يكسل عن العمل، وينشغل ببعض الأمور الجانبية، وينام في اليوم عشر ساعات - مثلاً - وبعد ذلك يذهب للتنزه على شاطيء البحر، أو ضفاف النهر، أو أطراف البساتين، فإن من المعلوم: أن هذا الإنسان يتأخر ولا يصل إلى ما يصل إليه ذلك الإنسان المجد المجتهد، الذي يواصل سيره بجد ومثابرة.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من طلب شيئاً ناله أو بعضه»(1).

وصحيح ما قيل: (من جد وجد، ومن زرع حصد).

لذلك ينبغي للجميع: من رجل وامرأة، وتاجر وعامل، ومدّرس وطالب، ومهندس وطبيب، وغيرهم من أصناف الأمة، التحلي بالعلم والعمل الدؤوب، ونبذ الكسل والملل، وأن يضعوا جميعاً نصب أعينهم قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}(2) أي: من عمل حتى بمقدار وزن ذرة من الخير يرى جزاءه

ص: 93


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 386.
2- سورة الزلزلة، الآية: 7.

الدنيوي في الدنيا وثوابه الأخروي في الآخرة، وهكذا {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1) فإنه يرى ما يستحق عليه من العقاب في الآخرة فضلاً عن العواقب السيئة في الدنيا أيضاً.

كثرة النوم في الأحاديث الشريفة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم وكثرة النوم، فإن كثرة النوم يدع صاحبه فقيراً يوم القيامة»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قالت أم سليمان بن داود لسليمان(عليهما السلام): يابني، إياك وكثرة النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيراً يوم القيامة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من خاف البيات قل نومه»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من كثر في ليله نومه فاته من العمل ما لايستدركه في يومه»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال موسى(عليه السلام) - في مناجاته مع ربه - : أي عبادك أبغض إليك؟ قال: جيفة بالليل، بطال بالنهار»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) - في وصيته لعبد اللّه ابن جندب - : «يا ابن جندب! أقل النوم بالليل والكلام بالنهار، فما في الجسد شيء أقل شكراً من العين واللسان، فإن أم سليمان قالت لسليمان(عليه السلام): يابني إياك والنوم، فإنه يفقرك يوم يحتاج الناس إلى أعمالهم»(7). وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن اللّه عزّ وجلّ يبغض كثرة

ص: 94


1- سورة الزلزلة، الآية: 8.
2- الاختصاص: 218.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 556.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 394.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 640.
6- بحار الأنوار 13: 354.
7- تحف العقول: 302.

النوم، وكثرة الفراغ»(1).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «لاتعود عينيك كثرة النوم، فإنها أقل شيء في الجسد شكراً»(2).

وقال(عليه السلام): «إن اللّه جلّ وعزّ يبغض العبد النوام الفارغ»(3).

وقال الإمام العسكري(عليه السلام): «من أكثر المنام رأى الأحلام»(4).

المقوم الثالث: المال
اشارة

إن المال هو الركن الأساسي الآخر - بعد العلم والعمل - في تقدم الفرد والمجتمع، بل يمكن أن يقال: إن المال (الاقتصاد) هو العمود الفقري في هيكلية التقدم؛ والرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول رواية (سيف علي ومال خديجة): مّا قام ولا استقام ديني إلّا بشيئين: مال خديجة وسيف علي بن أبي طالب»(5)، والمراد بالسيف هو السيف الدفاعي لأن الأعداء أرادوا القضاء على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى الإسلام بسيوفهم حيث شنوا الحروب على المسلمين، فدافع أمير المؤمنين(عليه السلام) بسيفه وحافظ على الدين وقادته وأتباعه.

أجل: إن من الأمور اللازمة على المسلمين هو اهتمامهم غاية الاهتمام، بالمال والثروة (الاقتصاد) والسعي الدؤوب لأكتسابه من مصادره وموارده المشروعة، وصرفه في الحلال، حيث نجد أن الإسلام قد أوصى بذلك، أي بالكسب الحلال، والصرف الحلال.

ص: 95


1- الكافي 5: 84.
2- تفسير العياشي 2: 115.
3- الكافي 5: 84.
4- الدرة الباهرة: 46.
5- شجرة طوبى 2: 233.

قال اللّه العظيم في محكم كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {فَانتَشِرُواْ فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ}(2).

وقال سبحانه: {وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ}(3).

وفي الحديث الشريف قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تسعة أعشار الرزق في التجارة»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا خير في من لا يحب جمع المال من حلال؛ يكفّ به وجهه، ويقضي به دَينه، ويصل به رحمه»(6).

وقال(عليه السلام): «ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «سلوا اللّه الغنى في الدنيا والعافية، وفي الآخرة المغفرة والجنة»(8).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»(9).

ص: 96


1- سورة الملك، الآية: 15.
2- سورة الجمعة، الآية: 10.
3- سورة المزمل، الآية: 20.
4- الخصال 2: 445.
5- الكافي 5: 78.
6- الكافي 5: 72.
7- من لا يحضره الفقيه 3: 156.
8- الكافي 5: 71.
9- من لا يحضره الفقيه 3: 156.

وغير هذه الأحاديث كثير مما فيه حث المسلمين على السعي لتحصيل المال الحلال لعمارة الدنيا بما ينفعهم في الآخرة.

من مزايا المال

في المال مزايا كثيرة ويمكن عدّ مايلي منها:

أولاً: القوة الاقتصادية، فالمسلم إذا كان يملك مالاً أكثر كان أقوى من غير المسلم الذي يملك مالاً أقل، ومن المعروف: أن القوة الاقتصادية تورث القوة السياسية، وأن العزة الاقتصادية تجلب العزة السياسية أيضاً.

ثانياً: القوة الإنجازية، فإنه عندما تكون ثروة المسلمين أكثر، تكون قدرتهم على إنجاز المشاريع المفيدة، والمؤسسات الخيرية والاجتماعية النافعة أكثر، وهل من المعقول أن توجد هذه المشاريع وتنمو وتستمر بغير الأموال؟

ثالثاً: القوة السياسية، لأنها تعتمد على مجموعة مقومات منها المال، فإن الرواية الشريفة تقول: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(1)، والعلو في جميع الميادين حتى الأمور الاقتصادية(2). وبعبارة أخرى: أن تحقق هذه القضية، أي: علوّ الإسلام، لا يمكن إلّا إذا كان عالياً من جميع الجهات؛ ولو لا التفوق الاقتصادي لتخّلف معنى «لا يُعلى عليه» وهو باطل.

رابعاً: القوة المعنوية، فإن المال كما يكون عوناً على الأمور المادية، فكذلك يكون عوناً على الأمور المعنوية أيضاً، وفي الروايات الشريفة ما يؤكّد ذلك، فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): نعم العون على تقوى اللّه الغنى»(3).

ص: 97


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334.
2- للتفصيل راجع كتاب (انفقوا لكي تتقدموا) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
3- الكافي 5: 71.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نعم المال الصالح للرجل الصالح»(1).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «اقرءوا من لقيتم من أصحابكم السلام، وقولوا لهم: إن فلان بن فلان يقرئكم السلام، وقولوا لهم: عليكم بتقوى اللّه عزّ وجلّ، وما ينال به ما عند اللّه، إني واللّه ما آمركم إلّا بما نأمر به أنفسنا، فعليكم بالجد والاجتهاد، وإذا صليتم الصبح وانصرفتم فبكّروا في طلب الرزق واطلبوا الحلال؛ فإن اللّه عزّ وجلّ سيرزقكم ويعينكم عليه»(2).

وعنه(عليه السلام) قال: «إن ظننت أو بلغك أن هذا الأمر كائن في غد(3)، فلا تدعن طلب الرزق، وإن استطعت أن لا تكون كَلّاً فافعل»(4).

بين مدح المال والقناعة

وليس المراد من الاهتمام بالمال، والعمل من أجل تكثيره وتحصيل الغنى: التكاثر في الأموال من أي سبب كان، وبأي شكل اتفق؛ سواء كان مشروعاً أو غير مشروع، بل المراد الحصول على المال من الطرق الشرعية، وبذله في الموارد المشروعة، ليعيش صاحبه الحياة الكريمة، ويتمكن من توفير المستلزمات الضرورية لمتطلبات الحياة اليومية فردية واجتماعية، فيأكل ويشرب، ويلبس ويتزوج، ويزكّي ويحجّ، ويتصدق وينفق في سبيل الخير الفردي والاجتماعي، ولتتقدم الأمة وتتطور يوماً بعد يوم.

وهذا لا ينافي استحباب العفاف والكفاف والقناعة كما هو واضح.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألّا وإن أفضل الناس: عبد أخذ في الدنيا الكفاف،

ص: 98


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 158.
2- الكافي 5: 78.
3- أي: أمر ظهور الإمام الحجة المهدي المنتظر(عليه السلام)، كما ذكره العلامة المجلسي في مرآة العقول 19: 24.
4- الكافي 5: 79.

وصاحب فيها العفاف»(1).

وسيأتي معنى العفاف في الحديث التالي عن الإمام الباقر(عليه السلام)، فليس العفاف أو الكفاف بمعنى الفقر وعدم تحصيل المال، بل العكس لأن صاحب المال هو الذي يتمكن من الكفاف والعفاف.

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «من طلب الرزق في الدنيا استعفافاً عن الناس، وتوسيعاً على أهله، وتعطفاً على جاره، لقي اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر»(2).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن علي بن الحسين(عليهما السلام) يدع خلفاً أفضل منه، حتى رأيت ابنه محمد بن علي(عليهما السلام) فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيني أبو جعفر محمد بن علي(عليهما السلام) وكان رجلاً بادناً ثقيلاً، وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: سبحان اللّه! شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا؟! أما لأعظنه، فدنوت منه فسلمت عليه فرد عليّ السلام بنهر(3)، وهو يتصاب عرقاً فقلت: أصلحك اللّه، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟! فقال(عليه السلام): «لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعة اللّه عزّ وجلّ، أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي اللّه».

ص: 99


1- بحار الأنوار 74: 179.
2- الكافي 5: 78.
3- في الإرشاد 2: 161، (ببهر) وهو تتابع النفس، يعتري الإنسان عند السعي الشديد والعدو.

فقلت: صدقت يرحمك اللّه، أردت أن أعظك فوعظتني(1).

وقال رجل لأبي عبد اللّه(عليه السلام): واللّه، إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها. فقال(عليه السلام): «تحب أن تصنع بها ماذا؟». قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها وأتصدق بها، وأحج وأعتمر.

فقال(عليه السلام): «ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «غنى يحجزك عن الظلم خير من فقر يحملك على الإثم»(3).

لو لا مال خديجة(عليها السلام)

وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض النماذج التاريخية لأهمية المال وانفاقه في سبيل اللّه، مثل انفاق أم المؤمنين، السيدة الوفية، الطاهرة الزكية، خديجة بنت خويلد(عليها السلام) بجميع أموالها في سبيل اللّه تعالى، فإنها جعلت كل أموالها وجميع ثروتها في متناول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحت تصرّفه، وكان ذلك من أهم العوامل الرئيسية في مساعدة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تبليغ الإسلام، وكان لثروتها (رضوان اللّه تعالى عليها) المبذولة للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أثراً كبيراً في تعبيد الطريق لنشر الإسلام، وقد ورد عن الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة(عليها السلام)»(4) وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفك من مالها الغارم والعاني، ويحمل الكَل(5)، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه، إذ كان بمكة، ويحمل من أراد

ص: 100


1- الكافي 5: 73.
2- الكافي 5: 72.
3- الكافي 5: 72.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 468.
5- غرم في تجارته مثل خسر، خلاف ربح. والغارم: من يلتزم ما ضمنه وتكفل به. والعاني: الأسير، ومنه: أطعموا الجائع، وفكوا العاني. والكَل: الثقل والعيال ومنه نحن كل على آبائنا، أي: نحن ثقل وعيال على من يلي أمرنا ويعولنا. والكل: اليتيم.

منهم الهجرة، وكانتقريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين، يعني: رحلة الشتاء والصيف، كانت طائفة من العير لخديجة(عليها السلام) وكانت أكثر قريش مالاً، وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينفق منه ما شاء في حياتها(1).

الإسلام خير للبشرية جمعاء
اشارة

لقد أراد الإسلام الخير للبشرية جمعاء، ومن هنا أراد العزة للمسلمين، ولو كانت الدنيا بيد المسلمين وكانوا أقوياء أثرياء واعين سعدوا وفلحوا، وأسعدوا الآخرين وجعلوهم من المفلحين، ومن الواضح أنه إذا انسحب المصلحون والأتقياء عن مسرح الحياة سيحل بالتأكيد محلهم المفسدون، بمقتضى سنن الحياة.

ونظير ذلك: غياب رجال الأمن والشرطة عن التواجد في الشوارع والأزقة للمحافظة على الأمن للمحلات والبيوت من السرقة وما أشبه، فإنه سوف يحل محلّهم السراق واللصوص، وذلك كما حدث في إحدى البلاد الإسلامية، فإنه في ليلة واحدة، ونتيجة لغياب رجال الأمن والشرطة وضعفهم عن القيام بمهمتهم في الحفظ والحراسة، نهب السراق واللصوص عدداً كبيراً من بيوت الناس ومحلاتهم التجارية، وسرقوا أموالاً كثيرة، وسلبوا الناس الأمن والراحة؛ كل ذلك لأجل غياب رجال الأمن والشرطة عن الساحة، وحلول السراق واللصوص محلّهم، وهذه سنة من سنن الحياة والكون، إذ كل ما انسحب الحماة والحرّاس والمصلحون تقدم اللصوص والسراق والمفسدون.

وعليه: فلو أن ساحات العمل وميادينها على اختلاف أنواعها أصبحت بيد الخيّرين من الناس وفي حوزة المحسنين، لعاش المجتمع بكامله عيشة رغداً،

ص: 101


1- بحار الأنوار 19: 63.

ويحيا المجتمع بكله حياة السعادة، ولم ير الناس ما ينغص حياتهم، ولا ما يشقي عيشهم. أمّا لو انسحب أهل الخير والإحسان عن ميدان التجارة والصناعة، وعن ساحات العمل والاجتماع، وعن مزاولة الاقتصاد والسياسة، وعن ممارسة التنظيم والتخطيط، وعن مداولة الثقافة والتعليم، لجاء غيرهم ليشغل كل هذه الميادين، وجميع هذا الساحات بالباطل والمشاكل والظلم والاعتداء على حقوق الآخرين.

الإسلام والاكتفاء الذاتي

إن الإسلام يدعو المسلمين إلى الاكتفاء الذاتي في كل المجالات والأبعاد، الاقتصادية وغيرها، ومن كل الجوانب والجهات، ويوصيهم به، ويرغّبهم فيه، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تحت ظل العرش يوم القيامة يوم لا ظل إلّا ظله، رجل ضارب في الأرض، يطلب من فضل اللّه ما يكف به نفسه، ويعود به على عياله»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمّن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «ما غدوة أحدكم في سبيل اللّه بأعظم من غدوة يطلب لولده وعياله ما يصلحهم»(3).

وحكي عن النبي داود(عليه السلام): أنه كان يتوخّى من تلقّاه من بني إسرائيل فيسأله عن حاله؟ فيثني عليه، حتى لقي رجلاً فقال: نعم العبد لو لا خصلة فيه، فقال: «وما هي؟» قال: إنه يأكل من بيت المال.

ص: 102


1- عوالي اللئالي 3: 194.
2- الإرشاد 1: 303.
3- السرائر 2: 228.

فبكى داود(عليه السلام) وعلم أنه قد أتي، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى الحديد: «أن لِنلعبدي داود». فألان اللّه له الحديد، فكان(عليه السلام) يعمل كل يوم درعاً يبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة وستين درعاً فباعها بثلاث مائة وستين ألفاً، فاستغنى عن بيت المال(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة سلام اللّه عليها تطحن وتعجن وتخبز»(2).

وسأل هارون الواسطي الإمام الصادق(عليه السلام) عن الفلاحين؟ فقال(عليه السلام): «هم الزارعون كنوز اللّه في أرضه، وما في الأعمال شيء أحب إلى اللّه من الزراعة، وما بعث اللّه نبياً إلّا كان زارعاً، إلّا إدريس فإنه كان خياطاً»(3).

وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «للمسرف ثلاث علامات: يأكل ما ليس له، ويشتري ما ليس له، ويلبس ما ليس له»(4).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «من علامات المؤمن ثلاث: حسن التقدير في المعيشة، والصبر على النائبة، والتفقه في الدين» وقال: «ما خير في رجلٍ لا يقتصد في معيشته ما يصلح لا لدنياه ولا لآخرته»(5).

مع سلمان المحمدي

روي: أن سلمان المحمدي (رضوان اللّه عليه) كان يسف الخوص وهو أمير على المدائن، ويبيعه ويأكل منه، ويقول: لا أحب أن آكل إلّا من عمل يدي، وقد

ص: 103


1- عوالي اللئالي 3: 199.
2- الكافي 5: 86.
3- تهذيب الأحكام 6: 384.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 167.
5- تهذيب الأحكام 7: 236.

كان تعلم سف الخوص من المدينة(1).

وجاء في كتاب من سلمان إلى عمر بن الخطاب ما يلي: (... وأما ما ذكرت أني أقبلت على سف الخوص وأكل الشعير، فما هما مما يعيَّر به مؤمنٌ ويؤنب عليه، وأيم اللّه يا عمر، لأكل الشعير، وسف الخوص، والاستغناء عن رفيع المطعم والمشرب، وعن غصب مؤمنٍ حقه، وادعاء ما ليس له بحق، أفضل وأحب إلى اللّه عزّ وجلّ وأقرب للتقوى، ولقد رأيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا أصاب الشعير أكل وفرح ولم يسخطه...)(2).

عليك بالسوق

وذكر أن رجلاً جاء إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: ما طعمت طعاماً منذ يومين؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليك بالسوق».

فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول اللّه، أتيت السوق أمس فلم أصب شيئاً فبت بغير عشاء؟

قال: «فعليك بالسوق».

فأتى بعد ذلك أيضاً، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليك بالسوق» فانطلق إليها، فإذا عير قد جاءت وعليها متاع فباعوه بفضل دينار، فأخذه الرجل وجاء إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: ما أصبت شيئاً؟

قال: «هل أصبت من عير آل فلان شيئاً؟». قال: لا.

قال: «بلى ضرب لك فيها بسهم وخرجت منها بدينار». قال: نعم.

قال: «فما حملك على أن تكذب؟». قال: أشهد أنك صادق، ودعاني إلى

ص: 104


1- بحار الأنوار 22: 390.
2- الإحتجاج 1: 131.

ذلك إرادة أن أعلم أتعلم ما يعمل الناس، وأن أزداد خيراً إلى خير. فقال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «صدقت، من استغنى أغناه اللّه، ومن فتح على نفسه باب مسألة فتح اللّه عليه سبعين باباً من الفقر، لا يسد أدناها شي ء». فما رئي سائل بعد ذلك اليوم، ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الصدقة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي»(1).

من استغنى أغناه اللّه

وعن الإمام أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «اشتدت حال رجل من أصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالت له امرأته: لو أتيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسألتَه، فجاء إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما رآه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه.

فقال الرجل: ما يعني غيري، فرجع إلى امرأته فأعلمها، فقالت: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشرٌ، فأعلمه.

فأتاه، فلما رآه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه، حتى فعل الرجل ذلك ثلاثاً، ثم ذهب الرجل فاستعار معولاً، ثم أتى الجبل فصعده فقطع حطباً، ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق، فرجع به فأكله، ثم ذهب من الغد فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى معولاً، ثم جمع حتى اشترى بكرين وغلاماً، ثم أثرى حتى أيسر، فجاء إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قلت لك: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه»(2).

خذ حانوتاً

وعن عبد الرحمن بن الحجاج قال: كان رجل من أصحابنا بالمدينة، فضاق

ص: 105


1- الخرائج والجرائح 1: 89.
2- الكافي 2: 139.

ضيقاً شديداً، واشتدت حاله، فقال له أبو عبد اللّه(عليه السلام): «اذهب، فخذ حانوتاً في السوق، وابسط بساطاً، وليكن عندك جرة من ماء، والزم باب حانوتك». قال: ففعل الرجل، فمكث ما شاء اللّه، قال: ثم قدمت رفقة من مصر فألقوا متاعهم، كل رجل منهم عند معرفته وعند صديقه، حتى ملئوا الحوانيت، وبقي رجل منهم لم يصب حانوتاً يلقي فيه متاعه، فقال له أهل السوق: هاهنا رجل ليس به بأس، وليس في حانوته متاع، فلو ألقيت متاعك في حانوته؟ فذهب إليه فقال له: ألقي متاعي في حانوتك؟ فقال له: نعم، فألقى متاعه في حانوته، وجعل يبيع متاعه الأول فالأول، حتى إذا حضر خروج الرفقة بقي عند الرجل شي ء يسير من متاعه، فكره المقام عليه، فقال لصاحبنا: أخلف هذا المتاع عندك تبيعه، وتبعث إلي بثمنه، قال: فقال: نعم، فخرجت الرفقة، وخرج الرجل معهم، وخلف المتاع عنده، فباعه صاحبنا وبعث بثمنه إليه، قال: فلما أن تهيأ خروج رفقة مصر من مصر بعث إليه ببضاعة، فباعها ورد إليه ثمنها، فلما رأى ذلك الرجل أقام بمصر، وجعل يبعث إليه بالمتاع ويجهز عليه، قال: فأصاب وكثر ماله وأثرى»(1).

المسلمون: آباء العلم والعمل

لقد كنا نحن المسلمين - وبشهادة التاريخ - آباء العلم والعمل، وأصحاب الثروة والمال، ومن يوم تركنا تعاليم الإسلام في طلب العلم والعمل، ولجأنا إلى الكسل والخمول، فقدنا كل شيء، وخسرنا جميع الخير، مثلاً: إننا نمتلك في بلادنا الإسلامية، ومنذ مايزيد على خمسين سنة معادن البترول، وآبار النفط التي راحت تنير العالم وتضيئه، وتحرك عجلات صناعته واقتصاده. ومع ذلك بقينا إلى هذا اليوم نفتقد كثيراً من علوم النفظ وفنونه، وحتى أنه لو احترق بئر منها لاحتجنا

ص: 106


1- الكافي 5: 309.

إلى فريق أجنبي لاطفائه، أليس هذا من المؤسف؟ ألّا يكفي انقضاء ما يقارب من خمسين عاماً على عمر النفط وعلى اكتشاف البترول، لحصول الوقت اللازم كي نستطيع أن نربّي في بلداننا خبراء ومتخصصين لذلك.

وإني أذكر جيداً أنه قبل ما يربو عن ثلاثين سنة تقريباً، حينما كنا في كربلاء المقدسة، احترق أحد آبار النفط في إحدى البلدان الإسلامية، فاستقدموا - بسبب افتقادهم خبيراً في هذا المجال - شركة أجنبية مختصة لإطفائها، وقد تعجب الناس حينما سمعوا أن هذه الشركة كانت تتقاضى أجراً مقداره أربعة آلاف دينار لليوم الواحد، وكانت يومية العامل آنذاك في العراق مائة فلس تقريباً، أي: إن هذه الشركة الصغيرة كانت تأخذ ما يعادل أجرة أربعين ألف عامل في بلادنا.

هذا وقد جاء في كثير من الأحاديث الشريفة التأكيد على الخبرة والاستغناء والتقدم العلمي والعملي في كل المجالات لئلا نعتمد على الغير إلى هذه الدرجة، وأن لا نغفل عن العلم والعمل فنحتاج إلى غيرنا حتى هذه الدرجة، فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح»(1). ومن مصاديقه الاعتماد على الغير لأنه عمل بغير علم. وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «حسن التدبير ينمي قليل المال، وسوء التدبير يفني كثيره»(2). ومن الواضح أن الخبرة والإكتفاء الذاتي من حسن التدبير.

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «أما وجه العمارة فقوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}(3) فأعلمنا سبحانه أنه قد أمرهم بالعمارة ليكون ذلك سبباً لمعايشهم، بما يخرج من الأرض من الحب والثمرات وما شاكل ذلك، مما

ص: 107


1- الكافي 1: 44.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 345.
3- سورة هود، الآية: 61.

جعله اللّه معايش للخلق»(1). فقد أمر اللّه بالعمارة بيدهم لا بيد الغير. وفي دعاء الإمام السجاد(عليه السلام): «اللّهم فلك الحمد على ما فلقت لنا من الإصباح، ومتعتنا به من ضوء النهار، وبصّرتنا من مطالب الأقوات»(2).

حيث المطلوب بصيرة الإنسان نفسه، كما هو واضح.

المقوّم الرابع: التواضع والتفاهم
اشارة

إن التواضع والتفاهم هو من العوامل المهمة - بعد العلم والعمل والمال - في تقدم الفرد والمجتمع، بل يمكن أن يقال: إن كلاً من العلم والعمل والمال، لا يثمر ذلك الثمر النافع والمفيد، إلّا إذا كان إلى جانبه تواضع وتفاهم، لذلك فإن التواضع والتفاهم من الدعائم المقوّمة اللازمة للأمة التي تريد التقدم، وتطمح في الرقي إلى المعالي.

إن العلم وحده، والعمل بمفرده، والمال بانحصاره، ليس طريق التقدم، بل لا بد وأن يكون كل ذلك مقروناً بالتواضع والتفاهم.

وينبغي من أجل التقدم أن يتمتع العاملون بالأخلاق والمكارم والإخلاص، والخصال الحميدة، والصفات الحسنة، التي أمرنا بها القرآن الحكيم، والرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومون(عليهم السلام) لأن الإنسان العامل يحتاج في تقديم أهدافه من يساعده في أعماله، ويؤازره عليها، ولا يمكنه أن يعمل منفرداً، كما لا يمكنه أن يجذب المجتمع إليه ولا إلى مشروعه، إلّا بالخصال الطيبة، والصفات الحسنة، كالتواضع والإحسان والكرم وما شابه ذلك، وهو بحاجة إلى التفاهم مع الغير لكي يجتنب المنازعات والمصادمات وما أشبه.

ص: 108


1- وسائل الشيعة 19: 35.
2- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) عند الصباح والمساء.
التواضع والتفاهم في الروايات

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاثة لا يزيد اللّه بهن إلّا خيراً: التواضع لا يزيد اللّه به إلّا ارتفاعاً، وذلّ النفس لا يزيد اللّه به إلّا عزّاً، والتعفف لا يزيد اللّه به إلّا غنى»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «التواضع زينة الحسب»(2).

وقال(عليه السلام): «زينة الشريف التواضع»(3).

وقال(عليه السلام) - في صفة الملائكة ومدحهم - : «جعلهم اللّه في ما هنالك أهل الأمانة على وحيه، وحمَّلهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه... وأشعر قلوبهم تواضع إخبات(4) السكينة»(5).

وقال(عليه السلام) في ذكر الحج: «وجعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته»(6).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «لاحسب لقرشي ولا لعربي إلّا بتواضع ولا كرم إلّا بالتقوى»(7).

وقال الإمام العسكري(عليه السلام): «أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدهم قضاءً لها أعظمهم عند اللّه شأناً، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند اللّه من الصديقين، ومن شيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام) حقاً، ولقد ورد على أمير

ص: 109


1- مشكاة الأنوار: 224.
2- كنز الفوائد 1: 299.
3- كنز الفوائد 1: 320.
4- الإخبات: الخضوع والخشوع.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 91 من خطبة له(عليه السلام) تعرف بخطبة الأشباح.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم و... .
7- الكافي 8: 234.

المؤمنين(عليه السلام) أخوان له مؤمنان: أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه،وجلس بين أيديهما، ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل لليبس، وجاء ليصب على يد الرجل ماءً، فوثب أمير المؤمنين(عليه السلام) فأخذ الإبريق ليصب على يد الرجل! فتمرغ الرجل في التراب وقال: يا أمير المؤمنين! اللّه يراني وأنت تصب الماء على يدي؟!

قال(عليه السلام): اقعد واغسل يدك، فإن اللّه عزّ وجلّ يراك وأخاك الذي لا يتميز منك ولا يتفضل عنك ويزيد بذلك في خدمه في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلى حسب ذلك في ممالكه فيها.

فقعد الرجل فقال له علي(عليه السلام): أقسمت عليك بعظيم حقي الذي عرفته وبجلته وتواضعك للّه حتى جازاك عنه بأن ندبني لما شرفك به من خدمتي لك، لما غسلت مطمئناً كما كنت تغسل لوكان الصاب عليك قنبر، ففعل الرجل ذلك، فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية، وقال(عليه السلام): يابني، لو كان هذا الإبن حضرني دون أبيه لصببتُ على يده، ولكن اللّه عزّ وجلّ يأبى أن يسوي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، لكن قد صب الأب على الأب، فليصب الابن على الابن، فصب محمدبن الحنفية على الابن». ثم قال الإمام الحسن بن علي العسكري(عليه السلام): «فمن اتبع علياً(عليه السلام) على ذلك فهو الشيعي حقاً»(1).

نموذج من التواضع والتفاهم

عندما كنّا في الكويت، كتبت إحدى الجرائد الكويتية: أن في التاريخ الفلاني سيقام احتفال بإحدى المناسبات للفلسطينيين الموجودين في الكويت، وكان هذا النوع من الاحتفالات عندهم ترافقه بعض الأمور غير اللائقة بأيام الحزن من

ص: 110


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 325.

الموسيقى والغناء وما أشبه، فسألت أحد الأصدقاء - وكان تاريخ الاحتفال ميلادياً -متى يصادف الاحتفال وفق التاريخ الهجري القمري؟ فقال: إنه يصادف يوم عاشوراء.

فقلت له: إن هذا الأمر غريب ومدهش! ففي دولة الكويت المسلمة، وفي يوم مقتل سبط الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقام إلى جانب برامج عاشوراء، احتفال للفرح في مثل هذا اليوم الحزين المفجع؟!

فسألت عن اسم رئيس المنظمة المعدة الاحتفال؟ فقيل: إنه فلان.

عندها اخترنا ثلاثة من الأصدقاء وقلنا لهم: اذهبوا إليه، وتلّطفوا معه في الكلام، وانصحوه بلين ورفق، وقولوا له: إن هذا الاحتفال يصادف يوم عاشوراء، ويتزامن مع أيام الحزن والعزاء على سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام) سبط الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والناس يقيمون في هذا اليوم مجالس العزاء في الطرقات والشوارع، وفي المساجد والحسينيات، وأحياناً تقوم الحكومة بالحداد وحتى الإذاعة والتلفزيون يشتركان في ذلك الحداد، وإن الإمام الحسين(عليه السلام) لا يخص الشيعة فحسب؛ بل أهل السنة أيضاً يشتركون في إقامة العزاء والنياحة عليه... وذلك لكي يقوم بتغيير تاريخ الاحتفال.

ذهب أصدقاؤنا الثلاثة إليه وتحدثوا معه، وعندما عادوا قالوا: لقد وجدناه رجلاً متواضعاً متفاهماً، وحينما تكلمنا معه قال لنا: نحن لم نكن نعلم بهذا الموضوع، وإلّا فنحن من السائرين على طريق الإمام الحسين(عليه السلام) وسنقوم بإصدار بيان لإلغاء الاحتفال، رغم أننا دعونا الآلاف من الضيوف، وأرسلنا لهم تذاكر الدعوة.

وبالفعل، فقد عرضت إحدى الصحف الكويتية بعد يومين من تاريخ اللقاء المذكور مقابلة رئيس المنظمة المعدّ للاحتفال مع أصدقائنا له، وكتبت عنه أنه

ص: 111

يعلن عن إلغاء الاحتفال، ويقول: إن تاريخ الاحتفال يصادف يوم شهادة الإمامالحسين(عليه السلام) ولذلك فقد أجّل الاحتفال إلى إشعار آخر.

إن الشاهد من هذه القصة هو: إن هذا الرجل كان إنساناً متواضعاً ومتفاهماً، ولذلك استجاب للنصيحة، وعمل بما فيه تقدمه وتقدم مجتمعه، وإلّا فإنه كان بمقدوره، عناداً أو مكابرةً أن يقول: إننا وزعنا البطاقات وانتهى كل شيء، وكل من أراد أن يقيم العزاء فله أن يقيم ذلك، أما نحن فسنقيم الاحتفال، إنه كان يتمكن من ذلك، ولكنه عرف أنه بعمله هذا سوف يثير مشاعر أحباء الإمام الحسين(عليه السلام) وشيعته، وسيؤدّى إلى ما لا تحُمد عقباه، فأحجم بتعقل عمّا يسبب النزاع والتشاجر، المؤدي إلى التأخر والتقهقر، وبذلك تمكن من جلب ودّ الجميع في موقفه المتواضع والمتفهم هذا. ولم يكن بموقفه هذا قد احترم مشاعر الآخرين فقط؛ بل احترم شخصه ومجتمعه، وخدم نفسه وأحسن إليها، وقد قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}(1)، وقد رفعه عمله هذا في أعين الناس.

إذن: فالمطلوب منا جميعاً - بعد العلم والعمل الجاد وتوفير المال الحلال - : التواضع والتفاهم، والتحلي بالأخلاق الحسنة والخصال الحميدة، مسبوقاً بالتخطيط والتنظيم، فإن الذين وصلوا إلى القمر لم يصلوا إليه إلّا بعد التسلح بعلوم الفضاء، وبعد تطبيق العمل وفقه، وبعد جهد متواصل ودؤوب من التفكير والدراسة والتخطيط والتنسيق، وبعد التواضع الكبير والتفاهم المستمر، وبذل المال الكثير.

وهكذا نحن أيضاً، فإنه لا بدّ لنا - لو أردنا التقدم - أن نتسلّح أولاً بعلوم القرآن الحكيم وعلوم أهل البيت(عليهم السلام) ثم نطبّق ذلك عملياً، ثم نكتسب المال الحلال،

ص: 112


1- سورة الإسراء، الآية: 7.

ونصرفه في مجال الهدف، ثم نتجمّل بالتواضع والتفاهم من أجل تحقيق التقدم والرقي.

هذا وفي الحديث الشريف أنه سُئل النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أي كسب الرجل أطيب؟ قال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور»(1).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «في كل وقت عمل»(2).

خلاصة الكلام

خلاصة الكلام أن مقدمات التقدم أمور عديدة، أهمها:

أولاً: العلم والثقافة والوعي، فعلى المسلمين أن يتسلّحوا بعلوم القرآن الحكيم وعلوم الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام).

ثانياً: العمل المستمر الدؤوب من أجل تطبيق علوم القرآن الحكيم وعلوم أهل البيت(عليهم السلام)، وذلك من دون أن يصحبه كسل ولا ملل، ولا سأم ولا تعب.

ثالثاً: الاهتمام بالمال الحلال، فإن المال يكمّل العمل ومقوّم له، ولا يخفى أن أهمية المال لا لأجل نفسه؛ بل لأنه طريق للعمل في سبيل اللّه.

رابعاً: تحلي العاملين في هذا الطريق بالصفات الحميدة والأخلاق الحسنة، وفي مقدّمتها التواضع والتفاهم، فضلاً عن التوكل على اللّه، والإخلاص للّه، والتوسل بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وابنته فاطمة الزهراء(عليها السلام) والأئمة(عليهم السلام) إلى اللّه تعالى، فإنهم الوسيلة إلى اللّه سبحانه، والذريعة إلى رضوانه عزّ وجلّ، قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة له: «فاتقوا اللّه الذي أنتم بعينه، ونواصيكم بيده، وتقلبكم في قبضته، إن أسررتم علمه، وإن أعلنتم كتبه، وقد وكّل بذلك حفظة كراماً، لا

ص: 113


1- مستدرك الوسائل 13: 24.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 477.

يسقطون حقاً،ولا يثبتون باطلاً»(1).

نسأل اللّه عزّ وجلّ أن يوفقنا للعلم والعمل والتقدم والرقي، إنه قريب مجيب.

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وطهّر بطوننا من الحرام والشُبهة، واكفف أيدينا عن الظلم والسرقة، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدد أسماعنا عن اللغو والغيبة، وتفضّل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة»(2) آمين رب العالمين.

من هدي القرآن الحكيم

العلم من مقومات التقدم

قال اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3).

وقال اللّه سبحانه: {لَّٰكِنِ الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوٰةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ أُوْلَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}(4).

ص: 114


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 183 من خطبة له(عليه السلام) في قدرة اللّه، وفي فضل القرآن، وفي الوصية بالتقوى للّه تعالى.
2- المصباح للكفعمي: 280.
3- سورة آل عمران، الآية: 7.
4- سورة النساء، الآية: 162.

وقال اللّه عزّ وجلّ: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَوَعَمِلَ صَٰلِحًا وَلَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الصَّٰبِرُونَ}(1).

العمل من مقومات التقدم

قال اللّه جلّ وعلا: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(2).

وقال اللّه سبحانه: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ}(3).

وقال اللّه تبارك وتعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(4).

وقال سبحانه: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}(6).

وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}(7).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(8).

وقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ

ص: 115


1- سورة القصص، الآية: 80.
2- سورة التوبة، الآية: 105.
3- سورة النجم، الآية: 39-40.
4- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
5- سورة يونس، الآية: 41.
6- سورة طه، الآية: 112.
7- سورة النساء، الآية: 124.
8- سورة الأحقاف، الآية: 13.

بِالصَّبْرِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(2).

وقال سبحانه: {ثُمَّ رَدَدْنَٰهُ أَسْفَلَ سَٰفِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٖ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَمَا أَمْوَٰلُكُمْ وَلَا أَوْلَٰدُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا}(4).

التفكير والتخطيط من مقومات التقدم

قال اللّه تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَٰبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(6).

وقال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(7).

ص: 116


1- سورة العصر، الآية: 3.
2- سورة البينة، الآية: 7.
3- سورة التين، الآية: 5-6.
4- سورة سبأ، الآية: 37.
5- سورة الجاثية، الآية: 13.
6- سورة النحل، الآية: 10-11.
7- سورة آل عمران، الآية: 190-191.
المال والكسب الحلال من مقومات التقدم

قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِنكُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}(1).

وقال اللّه سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}(2).

وقال اللّه عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(3).

وقال اللّه جلّ وعلا: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}(4).

التواضع والتفاهم، والتشاور من مقومات التقدم

قال اللّه عزّ وجلّ: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(6).

وقال تبارك وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي

ص: 117


1- سورة البقرة، الآية: 172.
2- سورة المائدة، الآية: 87 -88.
3- سورة البقرة، الآية: 168.
4- سورة البقرة، الآية: 60.
5- سورة الزمر، الآية: 17-18.
6- سورة الحجرات، الآية: 13.

اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(1).وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

العلم طريق التقدم

قال الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألّا إن اللّه يحب بغاة العلم»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألّا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال؛ إن المال مقسوم مضمون لكم قد قسّمه عادل بينكم وضمنه، وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد اُمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه»(5).

العزم على العمل

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا استبنت فأعزم»(6).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «ضادّوا التواني بالعزم»(7).

ص: 118


1- سورة المائدة، الآية: 54.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة الشورى، الآية: 38.
4- الكافي 1: 30.
5- الكافي 1: 30.
6- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 476.
7- عيون الحكم والمواعظ: 310.

وعن الإمام السجاد(عليه السلام) قال حينما تلا هذه الآية: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(1): «اللّهم ارفعني في أعلى درجات هذه الندبة، وأعنيبعزم الإرادة»(2).

العمل شرط التقدم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عمل بما يعلم ورثه اللّه علم ما لم يعلم»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإيمان قول وعمل»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنما المرء مجزي بما أسلف، وقادم على ما قدم»(5).

وقال(عليه السلام): «الإيمان تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وهو عمل كله»(6).

وقال(عليه السلام): «لن يجزى جزاء الخير إلّا فاعله»(7).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إنا لا نغني عنكم من اللّه شيئاً إلّا بالورع، وإن ولايتنا لا تدرك إلّا بالعمل»(8).

وعن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن الإيمان؟

فقال: «شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه».

ص: 119


1- سورة التوبة، الآية: 119.
2- بحار الأنوار 75: 153.
3- الفصول المختارة: 107.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 228.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 21 من كتاب له(عليه السلام) إلى زياد ابن أبيه.
6- بحار الأنوار 66: 74.
7- عيون الحكم والمواعظ: 407.
8- أعلام الدين: 301.

قال: قلت: أليس هذا عمل؟

قال: «بلى». قلت: فالعمل من الإيمان؟قال: «لا يثبت له الإيمان إلّا بالعمل، والعمل منه»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الإيمان الإقرار والخضوع للّه بذل الإقرار والتقرب إليه به والأداء له»(2).

التفكير السليم والتخطيط المنهجي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ولا ينال منزلة التفكر إلّا من قد خصّه اللّه بنور المعرفة والتوحيد»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا قدّمت الفكر في أفعالك، حسنت عواقبك في كل أمر»(4).

وقال(عليه السلام): «الفكر في الأمر قبل ملابسته يؤمن الزلل»(5).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: بالعقل استخرج غور الحكمة، وبالحكمة استخرج غور العقل، وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح، وكان يقول: التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي الماشي في الظلمات بالنور بحسن التخلص، وقلة التربص»(6).

المال والكسب الحلال

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «تعرضوا للتجارات، فإن لكم فيها غنى عمّا في

ص: 120


1- الكافي 2: 38.
2- تحف العقول: 329.
3- مصباح الشريعة: 114.
4- عيون الحكم والمواعظ: 136.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 102.
6- الكافي 1: 28.

أيدي الناس، وإن اللّه عزّ وجلّ يحب المحترف الأمين...»(1).وعنه(عليه السلام) قال: «اتجروا بارك اللّه لكم، فإني سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إن الرزق عشرة أجزاء، تسعة في التجارة، وواحد في غيرها»(2).

وعن أبي عمارة الطيار قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إنه قد ذهب مالي، وتفرق ما في يدي وعيالي كثير؟

فقال له أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إذا قدمت الكوفة، فافتح باب حانوتك(3) وابسط بساطك، وضع ميزانك وتعرض لرزق ربك».

قال: فلما أن قدم فتح باب حانوته وبسط بساطه، ووضع ميزانه، - قال: - فتعجب من حوله؛ بأن ليس في بيته قليل ولا كثير من المتاع، ولا عنده شئ! قال: فجاءه رجل فقال: اشتر لي ثوباً، قال: فاشترى له، وأخذ ثمنه وصار الثمن إليه، ثم جاءه آخر فقال له: اشتر لي ثوباً، قال: فطلب له في السوق، ثم اشترى له ثوباً فأخذ ثمنه، فصار في يده، وكذلك يصنع التجار، يأخذ بعضهم من بعض.

ثم جاءه رجل آخر، فقال له: يا أبا عمارة، إن عندي عدلاً من كتّان، فهل تشتريه وأؤخرك بثمنه سنة؟

فقال: نعم، احمله وجئني به. قال: فحمله، فاشتراه منه بتأخير سنة، قال: فقام الرجل فذهب، ثم أتاه آت من أهل السوق، فقال له: يا أبا عمارة، ما هذا العدل؟ قال: هذا عدل اشتريته، قال: فبعني نصفه وأُعجل لك ثمنه؟ قال: نعم، فاشتراه منه، وأعطاه نصف المتاع، وأخذ نصف الثمن. قال: فصار في يده الباقي إلى سنة، فجعل يشتري بثمنه الثوب والثوبين، ويعرض ويشتري ويبيع، حتى أثرى

ص: 121


1- وسائل الشيعة 17: 11.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 192.
3- الحانوت: دكّان البائع.

وعرض وجهه، وأصاب معروفاً(1).

التواضع والتفاهم، والشورى والتشاور

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة، فتصدقوا يرحمكم اللّه، وإن التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم اللّه، وإن العفو يزيد صاحبه عزاً فاعفوا يعزكم اللّه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أشرف الخلائق، التواضع والحلم ولين الجانب»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع للّه رفعاه، ومن تكبر وضعاه»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «في ما أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى داود(عليه السلام): يا داود، كما أن أقرب الناس من اللّه المتواضعون، كذلك أبعد الناس من اللّه المتكبرون»(5).

وسُئل الإمام أبو الحسن الرضا(عليه السلام): ما حد التواضع، الذي إذا فعله العبد كان متواضعاً؟

فقال(عليه السلام): «التواضع درجات، منها: أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم، لا يحب أن يأتي إلى أحد إلّا مثل ما يؤتى إليه، إن رأى سيئة درأها بالحسنة، كاظم الغيظ، عاف عن الناس، واللّه يحب المحسنين»(6).

ص: 122


1- الكافي 5: 304.
2- الكافي 2: 121.
3- عيون الحكم والمواعظ: 115.
4- الكافي 2: 122.
5- الكافي 2: 123.
6- الكافي 2: 124.

وقال عيسى ابن مريم(عليه السلام): «يا معشر الحواريين، لي إليكم حاجةٌ اقضوها لي». قالوا: قُضيت حاجتك يا روح اللّه. فقام(عليه السلام) فغسل أقدامهم، فقالوا: كنا نحن أحق بهذا يا روح اللّه؟ فقال: «إن أحق الناس بالخدمة العالم، إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم»، ثم قال عيسى(عليه السلام): «بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل»(1).

ص: 123


1- الكافي 1: 37.

عيد الغدير أعظم الأعياد في الإسلام

العيد في الإسلام

اشارة

قال تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(1).

إنّ طبيعة الأعياد في الإسلام تختلف عن الأعياد في الأديان الأخرى، فالعيد في غير الإسلام هو غالباً للحصول على مكسب مادي بحت.

مثلاً، الشخص الذي يربح في تجارته ربحاً وفيراً يتخذ ذلك اليوم عيداً له، ومن يحقّق أمنية من أمانيه يعد ذلك اليوم عيداً له، وكذلك الشخص الذي يولد له مولود يتخذ هذا اليوم عيداً، وهكذا توجد نماذج كثيرة لهذه الأعياد في نظرهم، وخصوصاً في بعض المجتمعات الغربية ومن سار على شاكلتهم.

وبتوضيح أكثر نقول: إنّ أغلب الأعياد في غير الإسلام ترتكز على الماديات المحضة فحسب، وعلى إشباع الرغبات الجسدية فقط.

أما العيد في الإسلام فإنه يختلف اختلافاً كبيراً عن هذه الأعياد - من حيث المعنى والدلالة - فالإسلام الذي يرى الإنسان جسماً وروحاً ومادة ومعنى، ويحاول التعادل بينهما والتكافؤ فيهما، ينسّق في أعياده بين الماديات والمعنويات، ويؤكد على أنه كما يستفيد الإنسان من مظاهر العيد المادية،

ص: 124


1- سورة المائدة، الآية: 3.

يستفيد كذلك من الأمور الروحية والمعنوية أيضاً.

إن العيد في نظر الإسلام هو اليوم الذي يتنازل فيه الإنسان عن بعض الماديات لصالح أموره الروحية والمعنوية، خُذ مثلاً عيد الفطر: هذا العيد الذي يأتي بعد مرور شهر كامل على تنازل الإنسان عن أهم الحاجات الجسدية، والرغبات الشهوانية والجسمانية، وهي حاجته للطعام والشراب وما إلى ذلك من الأشياء التي يمتنع عنها الصائم في صيامه، فهو عيد قوة الروح وسلامته، والسيطرة على الشهوات والرغبات، لكسب معنوي، وهو التعادل بين الروح والجسم، إضافة إلى الثواب الآخروي، وامتلاك الإرادة الصلبة في مجال الطاعة للّه عزّ وجلّ واكتساب فضائل روحية عديدة، مثل الإحساس بالفقراء ومواساتهم، والنزوع عن هوى النفس وشهواتها، وغير ذلك.

فقد قال أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام): «إنما هو عيد لمن قبل اللّه صيامه وشكر قيامه، وكل يوم لا تعصي اللّه فيه فهو يوم عيد»(1).

ومن الواضح أنّ هذا العيد لا يخصّ إنساناً واحداً بعينه، وإنْ كان يعود عليه بالنفع والفائدة، بل إنّ هذا العيد يشمل كل المجتمع، فآثاره عندنا عامة لا خاصة فقط، واجتماعية لا شخصية فحسب.

أما العيد في غير الإسلام، فإنه مجرد حصول الشخص على رغبة مادية بحتة، وإن كان فيها شيء من المعنويات فهو يتغاضى عنها ولا يعبأ بها، خذ مثلاً عيد ميلاد الأشخاص العاديين، ماذا يعني ذلك عندهم؟

إنه يعني مجرد الحصول على هذا الجسم متغافلين عن الروح الذي هو جوهر الجسم وبه حياته، فهل الاحتفال بشق الإنسان وهو الجسم الأقل أهمية، ونسيان

ص: 125


1- وسائل الشيعة 15: 308.

الشق الآخر وهو الروح الأكبر أهمية، يعدّ احتفالاً كاملاً وشاملاً، ومفيداً ونافعاً!

كلاّ، ليس هذا الاحتفال احتفالاً كاملاً وشاملاً، لأنه لا يعود على جوهر الإنسان وهو روحه ومعنوياته بخير أبداً، بل يزيد في تضخيم الجسم والماديات على حساب الروح والمعنويات، ولا يكون مفيداً ولا نافعاً؛ لأنه يؤدي إلى عدم التوازن بينهما، وعدم التوازن بينهما يعني: القلق والاضطراب، والبؤس والمرض.

وربَّ سائل يسأل: لماذا يحتفل المسلمون وخصوصاً الشيعة بذكرى ولادة الأنبياء والأئمة والأولياء (عليهم الصلاة والسلام)؟

وللجواب نقول: إن احتفالنا بذكرى ولادة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) هو احتفالٌ كاملٌ وشاملٌ، لأنا إضافة إلى الاحتفاء بولادتهم الجسمانية، نهتم بفضائلهم الروحية والمعنوية، ونحتشد لإحياء ما قدموه للإنسانية من خدمات عظيمة تستحق الاحتفال والتذكر دوماً.

لذا فإن الاحتفال ب(عيد الغدير) هو باعتبار عظمة الذكرى(1) أولاً، وباعتبار أنّ الإمام(عليه السلام) علّمنا في هذا اليوم كيف نصل إلى الأمن والسلام، والسعادة والهناء وكيف نستعمل الأمور المادية لخير الإنسانية، وكيف نستفيد من الحياة لصالح الآخرة ونعيمها، وأن لا نبيع آخرتنا الباقية لدنيانا الفانية، ولا العكس بأن نترك دنيانا ونتناساها بالمرة من أجل الآخرة، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(2) وهذا هو الكسب الإنساني الصحيح؛ لأنّ في اتباع ذلك الفوز بحياة سعيدة في الدنيا، وبالجنة والنجاة من النار في الآخرة.

نعم، إن عيد الغدير هو إحياء للمعنويات إلى جانب الماديات، فهو يوم تعيين

ص: 126


1- عظمة نعمة الإمامة والولاية على البشرية التي صدع بها خاتم الرسل(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
2- من لا يحضره الفقيه 3: 156.

الخلافة لعلي(عليه السلام) بعد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مضافاً إلى أنه أمر معنوي سماوي نزل به جبرئيل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولهذا يعتبر هذا العيد من أهم وأعظم الأعياد عند المسلمين. وفي ذلك قال أحد أصحاب الأئمة(عليهم السلام): سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟

قال(عليه السلام): «نعم، أعظمها حرمة».

قلت: وأي عيد هو جعلت فداك؟!

قال(عليه السلام): «اليوم الذي نصب فيه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقال: من كُنت مولاه فعلي مولاه».

قلت: وأي يوم هو؟

قال(عليه السلام): «وما تصنع باليوم؟ إنّ السنة تدور، ولكنه يوم ثمانية عشر من ذي الحجة».

فقلت: ما ينبغي لنا أن نفعل في ذلك اليوم؟

قال: «تذكرون اللّه عزّ ذكره فيه بالصيام والعبادة، والذكر لمحمد وآل محمد، فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أوصى أمير المؤمنين(عليه السلام) أن يُتخذ ذلك اليوم عيداً، وكذلك كانت الأنبياء تفعل، كانوا يوصون أوصياءهم بذلك فيتخذونه عيداً»(1).

فعلى المسلمين اليوم أن يجعلوا هذا اليوم حافزاً لهم لعمل الخير والصلاح، والاتجاه إلى اللّه في كل عمل من أعمالهم، والوقوف بوجه الظالمين وأعداء الدين، ليزدادوا قرباً من العلي القدير.

يوم البشرى

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ

ص: 127


1- الكافي 4: 149.

رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(1).

نزلت هذه الآية الكريمة على النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تأمره أن يبلِّغ ما أمره اللّه سبحانه به.

وقد ذكر ثقاة المفسرين أنها نزلت على النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكي يبلِّغ ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الناس، وقد ذكر المفسرون والمؤرخون والمحدثون جميعاً في تفسير هذه الآية: أنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قرّر الذهاب إلى الحج في السنة الأخيرة من حياته، والذي عرف في ما بعد بحجة الوداع، فوجّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نداءه إلى المسلمين كافة يدعوهم فيه إلى أداء فريضة الحج وتعلّم مناسكه منه، فانتشر نبأ سفره، وصدى ندائه في المسلمين جميعاً، وتوافد الناس إلى المدينة المنورة، وانضمّوا إلى موكب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى بلغ عدد الذين خرجوا معه (120) ألفاً على أغلب الروايات، وفي بعض مصادر العامة (180) ألفاً، والتحق بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ناس كثيرون من اليمن ومكة وغيرهما، ولمّا أدى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مناسك الحج انصرف راجعاً إلى المدينة، وخرجت المسيرة التي كانت تربو على (120) ألفاً من المسلمين، حتى وصلت إلى أرض تسمى خُم(2) وفيها غدير اجتمع فيه ماء المطر يدعى (غدير خم) وكان وصولهم إليه في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة من عام حجة الوداع وفي سنة عشر من مهاجره(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وعندما وصلت المسيرة العظيمة إلى هذه المنطقة هبط الأمين جبرئيل من عند اللّه تعالى على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هاتفاً بالآية الكريمة: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(3) أي: في علي(عليه السلام) فأبلغ جبرئيل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رسالة اللّه

ص: 128


1- سورة المائدة، الآية: 67.
2- هي المنطقة التي تتشعّب منها الطرق إلى المدينة والعراق ومصر واليمن.
3- سورة المائدة، الآية: 67.

إليه: بأن يقيم علي بن أبي طالب(عليه السلام) إماماً على الناس وخليفة من بعده ووصياً له فيهم، وأن يبلغهم ما نزل في علي(عليه السلام) من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد.

فتوقف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن المسير وأمر أن يلحق به من تأخر عنه ويرجع من تقدم عليه، وكان الجو حاراً جداً حتى كان الرجل منهم يتصبب عرقاً من شدة الحر وبعضهم كان يضع بعض ردائه على رأسه والبعض الآخر تحت قدميه لإتقاء جمرة الحر وشدته.

وأدركتهم صلاة الظهر فصلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالناس ومدت له ظلال على شجرات ووضعت أحداج الإبل بعضها فوق بعض حتى صارت كالمنبر، فوقف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليها لكي يشاهده جميع الحاضرين ورفع صوته من الأعماق ملقياً فيهم خطبة بليغة مسهبة، ما زالت تصكُّ سمع الدهر، افتتحها بالحمد والثناء على اللّه سبحانه، وركّز حديثه وكلامه حول شخصية خليفته الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وذكر فضائله ومناقبه ومزاياه ومواقفه المشرّفة ومنزلته الرفيعة عند اللّه ورسوله، وأمر الناس بطاعته وطاعة أهل بيته الطاهرين، وأكّد أنهم حجج اللّه تعالى الكاملة، وأولياؤه المقرَّبون وأُمناؤه على دينه وشريعته، وأنّ طاعتهم طاعة اللّه تعالى ورسوله ومعصيتهم معصية للّه، وإنّ شيعتهم في الجنة ومخالفيهم في النار.

وكان مما قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعدما نزلت آية: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(1): «يا أيها الناس، إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلي إلّا وقد عمره اللّه ثم دعاه فأجابه، فأوشك أن أُدعى فأجيب، وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون،

ص: 129


1- سورة المائدة، الآية: 67.

فماذا أنتم قائلون؟» فقالوا: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحت وجهدت، فجزاك اللّه خيراً.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حقّ وناره حقّ، وأنّ الموت حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ اللّه يبعث من في القبور».

قالوا: بلى نشهد بذلك.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم اشهد»، ثم قال: «أيها الناس ألّا تسمعون؟».

قالوا: نعم.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فإني فرط على الحوض، وأنتم واردون عليّ الحوض، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبُصرى(1) فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».

فنادى منادٍ: وما الثقلان يا رسول اللّه؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الثقل الأكبر: كتاب اللّه، طرف بيد اللّه عزّ وجلّ وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا»! ثم أخذ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيد الإمام علي(عليه السلام) فرفعها حتى بان بياض إبطيهما وعرفه القوم أجمعون.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس مَن أولى الناس بالمؤمنين مِن أنفسهم؟».

فقالوا: اللّه ورسوله أعلم.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم،

ص: 130


1- منطقة في بلاد الشام، قصبة كورة حوران من أعمال دمشق.

فمن كنت مولاه فعلي مولاه - يقولها ثلاث مرات - ثم قال: اللّهم والِ من والاه وعادِمن عاداه، وأحب من أحبَّه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألّا فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب»(1).

ثم تابع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خطبته فقال:

«فاعلموا معاشر الناس ذلك، فإن اللّه قد نصبه لكم إماماً، وفرض طاعته على كل أحد، ماض حكمه جائز قوله، ملعون من خالفه، مرحوم من صدقه، اسمعوا وأطيعوا، فإن اللّه مولاكم وعلي إمامكم، ثم الإمامة في ولدي من صلبه إلى يوم القيامة، لا حلال إلّا ما حللّه اللّه وهم، ولا حرام إلّا ما حرمه اللّه وهم فصلوه، فما من علم إلّا وقد أحصاه اللّه في ونقلته إليه - في أمير المؤمنين(عليه السلام) - .

لا تضلوا عنه ولا تستنكفوا منه، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به، لن يتوب اللّه على أحد أنكره، ولن يغفر له، حتم على اللّه أن يفعل ذلك، وأن يعذبه عذاباً نكراً أبد الآبدين، فهو أفضل الناس بعدي ما نزل الرزق وبقي الخلق، ملعون من خالفه.

قولي عن جبرائيل عن اللّه {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖ}(2) افهموا محكم القرآن ولا تتبعوا متشابهه، ولن يفسر لكم ذلك إلّا من أنا آخذ بيده شائل بعضده. ألّا وقد أديت، ألّا وقد بلغت، ألّا وقد أسمعت، ألّا وقد أوضحت.

إن اللّه قال وأنا قلت عنه: لا تحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره».

ثم رفعه إلى السماء حتى صارت رجله مع ركبته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال:

«معاشر الناس، هذا أخي ووصيي، وواعي علمي، وخليفتي على من آمن بي

ص: 131


1- انظر بحار الأنوار 23: 141، 152 و 37: 108.
2- سورة الحشر، الآية: 18.

وعلى تفسير كتاب ربي، اللّهم إنك أنزلت عند تبيين ذلك في علي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُلَكُمْ دِينَكُمْ}(1) بإمامته، فمن لم يأتم به وبمن كان من ولدي من صلبه إلى القيامة ف{أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ}(2)...»(3).

ثم تابع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خطبته وحثَّ الناس على إتباع علي أمير المؤمنين(عليه السلام) وأهل بيته، وانتهت الخطبة النبوية المسهبة والتي تناولت أموراً كثيرة وحيوية بتعيين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) أميراً على المؤمنين ووصياً وخليفة لرسول ربِّ العالمين.

وقبل أن يتفرق الناس هبط جبرئيل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(4) وقد جاء في التفاسير: بأنّ هذه الآية جاءت بعد أنّ نصب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبأمر من اللّه تعالى علياً أمير المؤمنين(عليه السلام) إماماً على العالمين، وتسمى هذه الآية بآية الكمال أي كمال الدين، وهي - بحسب بعض الروايات - آخر فريضة أنزلها اللّه تعالى على رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(5).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لما نزل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل، فقال له: يا محمد، إنّ اللّه يقرؤك السلام ويقول لك: قل لأمتك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بولاية علي بن أبي طالب {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}، ولست أنزل عليكم بعد هذا، قد أنزلت عليكم

ص: 132


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- سورة التوبة، الآية: 17.
3- أنظر الصراط المستقيم 1: 302.
4- سورة المائدة، الآية: 3.
5- انظر تفسير العياشي 1: 293 وانظر تفسير القمي 1: 162، وتفسير فرات الكوفي: 120.

الصلاة والزكاةوالصوم والحج وهي الخامسة(1)، ولست أقبل هذه الأربعة إلّا بها»(2).

وقد رأينا هنا أن نورد الخطبة كاملة وكما ذكرها السيد ابن طاووس الحلي الحسني(3):

عن زيد بن أرقم قال: لما أقبل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من حجة الوداع جاء حتى نزل بغدير خم بالجحفة بين مكة والمدينة، ثم أمر بالدوحات بضم ما تحتهن من شوك، ثم نودي بالصلاة جامعة، فخرجنا إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في يوم شديد الحر، وإن منا من يضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر والرمضاء، ومنا من يضعه فوق رأسه، فصلى بنا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم التفت إلينا فقال:

«الحمد للّه الذي علا في توحيده ودنا في تفرده وجلّ في سلطانه وعظم في أركانه وأحاط بكل شيء وهو في مكانه وقهر جميع الخلق بقدرته وبرهانه، حميداً لم يزل ومحموداً لا يزال ومجيداً لا يزول، ومبدياً ومعيداً وكل أمر إليه يعود، بارئ الممسوكات وداحي المدحوات، متفضل على جميع من برأه متطول على كل من ذرأه، يلحظ كل نفس والعيون لا تراه، كريم حليم ذو أناة قد وسع كل شيء رحمته ومن عليهم بنعمته، لا يعجل بانتقامه ولا يبادر إليهم بما يستحقون من عذابه، قد فهم السرائر وعلم الضمائر ولم يخف عليه المكنونات ولا اشتبه عليه الخفيات، له الإحاطة بكل شيء والغلبة لكل شيء والقوة في كل شيء والقدرة على كل شيء، ليس كمثله شيء، وهو منشئ حي حين لا حي، ودائم حي وقائم بالقسط، لا إله إلّا هو العزيز الحكيم.

ص: 133


1- أي: الولاية لأمير المؤمنين(عليه السلام).
2- بحار الأنوار 37: 138.
3- التحصين: 578.

جل أن تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، لا يلحق وصفهأحد من معاينة، ولا يحده أحد كيف هو من سر وعلانية إلّا بما دل هو عزّ وجلّ على نفسه، أشهد له بأنه اللّه الذي ملأ الدهر قدسه والذي يغشى الأمد نوره وينفذ أمره بلا مشاورة ولا مع شريك في تقدير ولا يعاون في تدبيره، صور ما ابتدع على غير مثال، وخلق ما خلق بلا معونة من أحد ولا تكلف ولا اختبال، شاءها فكانت، وبرأها فبانت.

فهو اللّه لا إله إلّا هو المتقن الصنعة والحسن الصنيعة، العدل الذي لا يجور، والأكرم الذي إليه مرجع الأمور، أشهد أنه اللّه الذي تواضع كل شيء لعظمته، وذل كل شيء لهيبته، مالك الأملاك ومسخر الشمس والقمر، كل يجري لأجل مسمى، يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل يطلبه حثيثاً، قاصم كل جبار عنيد وكل شيطان مريد، لم يكن له ضد ولم يكن معه ند، أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، إلهاً واحداً ماجداً، شاء فيمضي ويريد ويقضي ويعلم ويحصي ويميت ويحيي ويفقر ويغني ويضحك ويبكي ويدني ويقصي ويمنع ويعطي، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

لا يولج لليل في نهار ولا مولج لنهار في ليل، إلّا هو مستجيب للدعاء، مجزل العطاء محصي الأنفاس رب الجنة والناس، الذي لا يشكل عليه لغة ولا يضجره مستصرخ لا يبرمه إلحاح الملحين، العاصم للصالحين والموفق للمفلحين مولى المؤمنين ورب العالمين، الذي استحق من كل خلق أن يشكره ويحمده على كل حال.

أحمده كثيراً وأشكره دائماً على السراء والضراء والشدة والرخاء، وأؤمن به وبملائكته وكتبه ورسله، أسمع لأمره وأطيع وأبادر إلى رضاه وأسلم لما قضاه، رغبة في طاعته وخوفاً من عقوبته؛ لأنه اللّه الذي لا يؤمن مكره ولا يخاف جوره،

ص: 134

أقر له على نفسي بالعبودية وأشهد له بالربوبية وأؤدي أن لا إله إلّا هو، لأنه قدأعلمني أني إذا لم أبلغ ما أنزل إلي لما بلغت رسالته، وقد ضمن لي العصمة وهو اللّه الكافي الكريم. أوحى إلي: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1) - إلى آخر الآية - .

معاشر الناس، وما قصرت في ما بلغت، ولا قعدت عن تبليغ ما أنزله، وأنا أبين لكم سبب هذه الآية: إن جبرئيل(عليه السلام) هبط إلي مراراً ثلاثاً، فأمرني عن السلام رب السلام، أن أقوم في هذا المشهد وأعلم كل أبيض وأسود: أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي، الذي محله مني محل هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي، ووليكم بعد اللّه ورسوله نزل بذلك آية هي: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(2). وعلي بن أبي طالب الذي أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع، يريد اللّه تعالى في كل حال.

فسألت جبرئيل(عليه السلام) أن يستعفي لي السلام من تبليغي ذلك إليكم أيها الناس؛ لعلمي بقلة المتقين وكثرة المنافقين ولأعذال الظالمين وأدغال الآثمين وحيلة المستشرين، الذين وصفهم اللّه تعالى في كتابه بأنهم: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}(3) ويحسبونه {هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}(4)، وكثرة أذاهم لي مرة بعد أخرى، حتى سموني أذناً، وزعموا أني هو لكثرة ملازمته إياي وإقبالي عليه وهواه

ص: 135


1- سورة المائدة، الآية: 67.
2- سورة المائدة، الآية: 55.
3- سورة الفتح، الآية: 11.
4- سورة النور، الآية: 15.

وقبوله مني، حتى أنزل اللّه تعالى في ذلك لا إله إلّا هو: {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّوَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ}(1) - إلى آخر الآية - ولو شئت أن أسمي القائلين بأسمائهم لأسمينهم، وأن أومي إليهم بأعيانهم لأومأت، وأن أدل عليهم لدللت، ولكني واللّه بسترهم قد تكرمت.

وكل ذلك لا يرضى اللّه مني إلّا أن أبلغ ما أنزل إلي {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(2) - إلى آخر الآية - واعلموا معاشر الناس ذلك وافهموه. واعلموا أن اللّه قد نصبه لكم ولياً وإماماً، فرض طاعته على المهاجرين والأنصار وعلى التابعين بإحسان، وعلى البادي والحاضر، وعلى العجمي والعربي، وعلى الحر والمملوك، والصغير والكبير، وعلى الأبيض والأسود، وعلى كل موجود، ماض حكمه وجاز قوله ونافذ أمره، ملعون من خالفه ومرحوم من صدقه، قد غفر اللّه لمن سمع وأطاع له.

معاشر الناس، إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد، فاسمعوا وأطيعوا وانقادوا لأمر اللّه ربكم، فإن اللّه هو مولاكم وإلهكم، ثم من دونه رسوله ونبيه محمد القائم المخاطب لكم، ومن بعده علي وليكم وإمامكم، ثم الإمامة في ولدي الذين من صلبه إلى يوم القيامة ويوم يلقون اللّه ورسوله، لا حلال إلّا ما أحله اللّه، ولا حرام إلّا ما حرمه اللّه عليكم، وهو واللّه عرفني الحلال والحرام، وأنا وصيت بعلمه إليه.

معاشر الناس، فصلوه ما من علم إلّا وقد أحصاه اللّه في، وكل علم علمته فقد علمته علياً، وهو المبين لكم بعدي.

ص: 136


1- سورة التوبة، الآية: 61.
2- سورة المائدة، الآية: 67.

معاشر الناس، فلا تضلوا عنه ولا تفروا منه، ولا تستنكفوا عن ولايته، فهوالذي يهدي إلى الحق ويعمل به، ويزهق الباطل وينهى عنه، لا تأخذه في اللّه لومة لائم، أول من آمن باللّه ورسوله، والذي فدى رسول اللّه بنفسه، والذي كان مع رسول اللّه، ولا يعبد اللّه مع رسوله غيره.

معاشر الناس، فضلوه فقد فضله اللّه، واقبلوه فقد نصبه اللّه.

معاشر الناس، إنه إمام من اللّه، ولن يتوب اللّه على أحد أنكره، ولن يغفر اللّه له حتماً على اللّه أن يفعل ذلك، وأن يعذبه عذاباً نكراً أبد الأبد، ودهر الدهر، واحذروا أن تخالفوا فتصلوا بنار {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ}(1).

معاشر الناس، لي واللّه بشرى لأكون من النبيين والمرسلين والحجة على جميع المخلوقين من أهل السماوات والأرضين، فمن شك في ذلك فقد كفر كفر الجاهلية الأولى، ومن شك في شيء من قولي فقد شك في الكل منه، والشاك في ذلك في النار.

معاشر الناس، حباني اللّه بهذه الفضيلة مناً منه عليّ وإحساناً منه إلي، لا إله إلّا هو، ألّا له الحمد مني أبد الأبد، ودهر الدهر على كل حال.

معاشر الناس، فضلوا علياً فهو أفضل الناس بعدي من ذكر وأنثى، مانزل الرزق وبقي الخلق، ملعون ملعون من خالفه مغضوب عليه، قولي عن جبرئيل، وقول جبرئيل عن اللّه عزّ وجلّ، فلتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا اللّه أن يخالفوه إن اللّه خبير بما تعملون.

معاشر الناس، تدبروا القرآن وافهموا آياته ومحكماته، ولا تبتغوا متشابهه؛ فواللّه لن يبين لكم زواجره، ولن يوضح لكم تفسيره، إلّا الذي أنا آخذ بيده،

ص: 137


1- سورة البقرة، الآية: 24.

ومصعده إلي، وشائل عضده ورافعها بيدي، ومعلمكم، من كنت مولاه فهو مولاه،وهو علي بن أبي طالب أخي ووصيي، أمر من اللّه نزله علي.

معاشر الناس، إن علياً والطيبين من ولدي من صلبه هم الثقل الأصغر والقرآن الثقل الأكبر، وكل واحد منهما مبني على صاحبه، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، أمر من اللّه في خلقه وحكمه في أرضه. ألّا وقد أديت، ألّا وقد بلغت، ألّا وقد أسمعت، ألّا وقد نصحت، ألّا إن اللّه تعالى قال، وأنا قلت عن اللّه، ألّا وإنه لا أمير للمؤمنين غير أخي هذا، ألّا ولا يحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره».

ثم ضرب بيده إلى عضده فرفعه، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) منذ أول ما صعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منبره على درجة دون مقامه، متيامناً عن وجه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كأنهما في مقام واحد، فرفعه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيده وبسطها إلى السماء، وشال علياً(عليه السلام) حتى صارت رجله مع ركبة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال:

«معاشر الناس، هذا علي أخي ووصيي، وواعي علمي، وخليفتي على من آمن بي، وعلى تفسير كتاب ربي، والدعاء إليه، والعمل بما يرضاه، والمحاربة لأعدائه، والدال على طاعته، والناهي عن معصيته، خليفة رسول اللّه، وأمير المؤمنين، والإمام والهادي من اللّه، بأمر اللّه، يقول اللّه عزّ وجلّ: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ}(1) بأمرك أقول: اللّهم، وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، والعن من أنكره، واغضب على من جحده، اللّهم، إنك أنزلت الآية في علي وليك عند تبين ذلك ونصبك إياه لهذا اليوم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(2)، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ

ص: 138


1- سورة ق، الآية: 29.
2- سورة المائدة، الآية: 3.

الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَنيُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(1)، اللّهم، إني أشهدك أني قد بلغت.

معاشر الناس، إنما أكمل اللّه لكم دينكم بإمامته، فمن لم يأتم به وبمن كان من ولدي من صلبه إلى يوم القيامة والعرض على اللّه، ف{أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ}(2) لا يخفف العذاب عنهم ولا هم ينظرون.

معاشر الناس، هذا أنصركم لي، وأحق الناس بي، واللّه عنه وأنا راضيان، وما أنزلت آية رضاً إلّا فيه، ولا خاطب اللّه الذين آمنوا إلّا بدأ به، وما أنزلت آية في مدح في القرآن إلّا فيه، ولا سأل اللّه بالجنة في {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَٰنِ}(3) إلّا له، ولا أنزلها في سواه، ولا مدح بها غيره.

معاشر الناس، هو يؤدي دين اللّه، والمجادل عن رسول اللّه، والتقي النقي الهادي المهدي نبيه، خير نبي، ووصيه خير وصي.

معاشر الناس، ذرية كل نبي من صلبه وذريتي من صلب أمير المؤمنين علي.

معاشر الناس، إن إبليس أخرج آدم من الجنة بالحسد فلا تحسدوه فتحبط أعمالكم وتزل أقدامكم، أهبط آدم بخطيئته وهو صفوة اللّه، فكيف أنتم؟ فإن أبيتم فأنتم أعداء اللّه. ما يبغض علياً إلّا شقي، ولا يوالي علياً إلّا تقي، ولا يؤمن به إلّا مؤمن مخلص، في علي واللّه نزل سورة والعصر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ}(4) إلّا علي، الذي آمن ورضي بالحق والصبر.

ص: 139


1- سورة آل عمران، الآية: 85.
2- سورة التوبة 17.
3- سورة الإنسان، الآية: 1.
4- سورة العصر، الآية: 1-2.

معاشر الناس، قد أشهدني اللّه وأبلغتكم، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُالْمُبِينُ}(1).

معاشر الناس، {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(2).

معاشر الناس، آمنوا باللّه ورسوله والنور الذي أنزلناه {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَٰبَ السَّبْتِ}(3).

معاشر الناس، النور من اللّه تعالى فيّ، ثم مسلوك في علي، ثم في النسل منه إلى القائم المهدي، الذي يأخذ بحق، وبكل حق هو لنا، بقتل المقصرين والغادرين والمخالفين والخائنين والآثمين والظالمين من جميع العالمين.

معاشر الناس، إني أنذر لكم أني رسول اللّه، قد خلت من قبلي الرسل، فإن مت أو قتلت {انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَئًْا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ}(4) ألّا إن علياً الموصوف بالصبر والشكر، ثم من بعده ولدي من صلبه.

معاشر الناس، على اللّه فينا ما لا يعطيكم اللّه ويسخط عليكم ويبتليكم بسوط عذاب، إن ربكم لبالمرصاد.

معاشر الناس، سيكون بعدي أئمة يدعون إلى النار، ويوم القيامة لا ينصرون.

معاشر الناس، إن اللّه تعالى وأنا بريئان منهم.

معاشر الناس، إنهم وأشياعهم وأنصارهم وأتباعهم {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}(5) و{فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}(6).

ص: 140


1- سورة النور، الآية: 54.
2- سورة آل عمران، الآية: 102
3- سورة النساء، الآية: 47.
4- سورة آل عمران، الآية: 144.
5- سورة النساء، الآية: 145.
6- سورة الزمر، الآية: 72.

معاشر الناس، إني أدعها إمامة ووراثة، وقد بلغت ما بلغت، حجة على كلحاضر وغائب، وعلى كل أحد ممن ولد وشهد، ولم يولد ولم يشهد، يبلغ الحاضر الغائب، والوالد الولد إلى يوم القيامة، وسيجعلونها ملكاً واغتصاباً، فعندها يفرغ لكم أيها الثقلان من يفرغ و{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٖ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ}(1).

معاشر الناس، إن اللّه تعالى لم يكن ليذركم على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب.

معاشر الناس، إنه ما من قرية إلّا واللّه مهلكها قبل يوم القيامة، ومملكها الإمام المهدي، واللّه مصدق وعده.

معاشر الناس، قد ضل قبلكم أكثر الأولين، واللّه فقد أهلك الأولين بمخالفة أنبيائهم، وهو مهلك الآخرين»، ثم تلا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الآية إلى آخرها.

ثم قال:

«معاشر الناس، إن اللّه أمرني ونهاني، وقد أمرت علياً ونهيته، وعلم الأمر والنهي لديه، فاسمعوا لأمره، وتنهوا لنهيه، ولا يفرق بكم السبل عن سبيله.

معاشر الناس، أنا صراط اللّه المستقيم الذي أمركم اللّه أن تسلكوا الهدى إليه، ثم علي من بعدي، ثم ولدي من صلبه أئمة الهدى، يهدون بالحق وبه يعدلون»، ثم قرأ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحمد(2).

وقال: «في من ذكرت ذكرت فيهم، واللّه فيهم نزلت، ولهم واللّه شملت، وآباءهم خصت وعمّت، أولئك أولياء اللّه الذين {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ

ص: 141


1- سورة الرحمن، الآية: 35.
2- أي سورة فاتحة الكتاب.

يَحْزَنُونَ}(1) و{حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَٰلِبُونَ}(2)، ألّا إن أعداءهم هم الشقاء والغاوون وإخوان الشياطين، الذين {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}(3)، ألّا إن أولياءهم الذين ذكر اللّه في كتابه، المؤمنين الذين وصف اللّه فقال: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَٰنَ}(4) - إلى آخر الآية - ، ألّا إن أولياءهم المؤمنون الذين وصفهم اللّه أنهم {لَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}(5) ألّا إن أولياءهم الذين آمنوا ولم يرتابوا، ألّا إن أولياءهم الذين يدخلون الجنة بسلام آمنين، وتتلقاهم الملائكة بالتسليم أن {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَٰلِدِينَ}(6) ألّا إن أولياءهم لهم {الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٖ}(7)، ألّا إن أعداءهم الذين {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(8)، ألّا إن أعداءهم الذين يسمعون لجهنم شهيقاً، ويرون لها زفيراً {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}(9) - إلى آخر الآية - ، ألّا إن أعداء اللّه الذين قال اللّه: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}(10) - إلى آخر الآية - ، ألّا {فَسُحْقًا لِّأَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(11)، ألّا وإن أولياءهم

ص: 142


1- سورة البقرة، الآية: 62.
2- سورة المائدة، الآية: 56.
3- سورة الأنعام، الآية: 112.
4- سورة المجادلة، الآية: 22.
5- سورة الأنعام، الآية: 82.
6- سورة الزمر، الآية: 73.
7- سورة غافر، الآية: 40.
8- سورة النساء، الآية: 10.
9- سورة الأعراف، الآية: 38.
10- سورة الملك، الآية: 8.
11- سورة الملك، الآية: 11.

{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}(1).

معاشر الناس، شتان ما بين السعير والأجر الكبير.

معاشر الناس عدونا كل من ذمه اللّه ولعنه وولينا كل من أحبه اللّه ومدحه. معاشر الناس ألّا إني النذير وعلي البشير. معاشر الناس إني منذر وعلي هاد.

معاشر الناس ألّا إني نبي وعلي وصي. معاشر الناس ألّا إني رسول وعلي الإمام والأئمة من بعده ولده والأئمة منه ومن ولده ألّا وإني والدهم وهم يخرجون من صلبه.

ألّا وإني والدهم وخاتم الأئمة منا القائم المهدي الظاهر على الدين. ألّا إنه المنتقم من الظالمين. ألّا إنه فاتح الحصون وهادمها. ألّا إنه غالب كل قبيلة من الترك وهاديها. ألّا إنه المدرك لكل ثار لأولياء اللّه. ألّا إنه ناصر دين اللّه. ألّا إنه المصباح من البحر العميق الواسم لكل ذي فضل بفضله وكل ذي جهل بجهله. ألّا إنه خيرة اللّه ومختاره. ألّا إنه وارث كل علم والمحيط بكل فهم ألّا إنه المخبر عن ربه والمشيد لأمر آياته. ألّا إنه الرشيد السديد. ألّا إنه المفوض إليه. ألّا إنه قد بشر به كل نبي سلف بين يديه. ألّا إنه الباقي في أرضه وحكمه في خلقه وأمينه في علانيته وسره.

معاشر الناس، إني قد بينت لكم وأفهمتكم وهذا علي يفهمكم بعدي. ألّا وعند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي على يدي ببيعته والإقرار له ثم مصافقته بعد يدي. ألّا إني قد بايعت اللّه وعلي قد بايع لي وأنا أمدكم بالبيعة له عن اللّه عزّ وجلّ: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ}(2) - إلى آخر الآية - معاشرالناس، ألّا وإن الحج والعمرة من شعائر اللّه {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ}(3) - إلى آخر الآية -

ص: 143


1- سورة الملك، الآية: 12.
2- سورة الفتح، الآية: 10.
3- سورة البقرة، الآية: 158.

معاشر الناس، حجوا البيت فما ورده أهل بيت إلّا تموا وأبشروا ولا تخلفوا عنه إلّا تُبرّوا(1) وافتقروا.

معاشر الناس، ما وقف بالموقف مؤمن إلّا غفر له ما سلف من ذنبه إلى وقته ذلك فإذا انقضت حجته استؤنف به معاشر الناس الحاج معانون ونفقاتهم مخلفة عليهم واللّه لا يضيع أجر المحسنين.

معاشر الناس، حجوا بكمال في الدين وتفقه ولا تنصرفوا عن المشاهد إلّا بتوبة إقلاع.

معاشر الناس أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة كما أمرتكم فإن طال عليكم الأمد فقصرتم أو نسيتم فَعَليٌّ وليكم الذي نصبه اللّه لكم ومن خلقه مني وأنا منه يخبركم بما تسألون ويبين لكم ما لا تعلمون. ألّا وإن الحلال والحرام أكثر من أن أحصيها وأعدها فآمر بالحلال وأنهى عن الحرام في مقام واحد، وأمرت فيه أن آخذ البيعة عليكم والصفقة لكم بقبول ما جئت به من اللّه عزّ وجلّ في علي أمير المؤمنين والأوصياء من بعده الذين هم مني ومنه إمامة فيهم قائمة خاتمها المهدي إلى يوم يلقى اللّه الذي يقدر ويقضي.

ألّا معاشر الناس وكل حلال دللتكم عليه وحرام نهيتكم عنه فإني لم أرجع عن ذلك ولم أبدل. ألّا فادرسوا ذلك واحفظوه وتواصوا به ولا تبدلوه. ألّا وإني أجدد القول. ألّا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. ألّا وإن رأس الأمر بالمعروف أن تنبهوا قولي إلى من يحضر ويأمروه بقبوله عني ونبهوه

ص: 144


1- تُبّروا: أي أُهكلوا.

عن مخالفته فإنه أمر من اللّه تعالى».

فهذه هي البشرى، بشرى ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) فمن تمسّك بها فاز بدنيا سعيدة، وآخرة حميدة بأعلى الجنان، ومن لا يؤمن بها فقد ضل ضلالاً مُبيناً وخسر دنياه وآخرته.

نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) والعاملين بها.

ولهذه المناسبة العظيمة نذكر قصيدة في مدح أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) أوردها الشيخ الكفعمي في مصباحه ذكر فيها من فضائله قليلاً من كثير مع الإشارة فيها إلى يسير من أسماء يوم الغدير(1):

هنيئاً هنيئاً ليوم الغدير *** ويوم النصوص ويوم السرور

ويوم الكمال لدين الإله *** وإتمام نعمة رب غفور

ويوم الدليل على المرتضى *** ويوم البيان لكشف الضمير

ويوم الرشاد وإبداء ما *** تجن به مضمرات الصدور

ويوم الأمان ويوم النجاة *** ويوم التعاطف ويوم الحبور

ويوم الصلاة ويوم الزكاة *** ويوم الصيام ويوم الفطور

يوم العقود ويوم الشهود *** ويوم العهود لصنو البشر

ويوم الطعام ويوم الشراب *** ويوم اللباس ويوم النحور

ويوم تواصل أرحامكم *** ويوم العطاء وبر الفقير

ويوم تفرج كرب الوصي *** بموت ابن عفان أهل الفجور

ص: 145


1- المصباح للكفعمي: 701.

ويوم لشيث ويوم لهود *** ويوم لإدريس ما من نكير

ويوم نجاة النبي الخليل *** من النار ذات الوقود السعير

ويوم الظهور على الساحرين *** وإغراق فرعون ماء البحور

ويوم لموسى وعيسى معاً *** ويوم سليمان من غير ضير

ويوم الوصية للأنبياء *** على الأوصياء بكل الدهور

ويوم انكشاف المقام الصراح *** وإيضاح برهان سر الأمور

ويوم الجزاء وحط الآثام *** ويوم الميارة للمستمير

ويوم البشارة يوم الدعاء *** وعيد الإله العلي الكبير

ويوم البياض ونزع السواد *** وموقف عزّ خلا من نظير

ويوم السباق ونفي الهموم *** وصفح الإله عن المستجير

ويوم اشتمام أريج المسوك *** وعنبرها وأريج العبير

ويوم مصافحة المؤمنين *** ويوم التخلص من كل ضير

ويوم الدليل على الرائدين *** ومحنة عبد ويوم الطهور

ويوم انعتاق رقاب جنت *** من النار يا صاح ذات السعير

ويوم الشروط ونشر النزاع *** وترك الكبائر بعد الغرور

ويوم النبي ويوم الوصي *** ويوم الأئمة من غير زور

ويوم الخطابة من جبرئيل *** بمنبر عزّ على السرير

ويوم الفلاح ويوم النجاح *** ويوم الصلاح لكل الأمور

ويوم يكف يراع الإله *** من المؤمنين بنسخ الشرور

ويوم التهاني ويوم الرضا *** ويوم استزادة رب شكور

ص: 146

ويوم استراحة أهل الولاء *** ويوم تجارة أهل الأجور

ويوم الزيارة للمؤمنين *** ويوم ابتسام ثنايا الثغور

ويوم التودد للأولياء *** وإلباس إبليس ثوب الدحور

ويوم انشراح أهيل الصلاح *** وحزن قلوب أهيل الفجور

ويوم ارتغام أنوف العداء *** ويوم القبول وجبر الكسير

ويوم العبادة يوم الوصول *** إلى رحمات العلي القدير

ويوم السلام على المصطفى *** وعترته الأطهرين البدور

ويوم الإمارة للمرتضى *** أبي الحسنين الإمام الأمير

ويوم اشتراط ولاء الوصي *** على المؤمنين بيوم الغدير

ويوم الولاية في عرضها *** على كل خلق السميع البصير

ويوم الزيادة ما ينفقون *** بمائة ألف خلت من نظير

ويوم المعارج في رفعها *** وأنباء فضل عظيم كبير

فهذا الإمام عديم النظير *** وأنى يكون له من نظير

وأين الصباب وأين السحاب *** وليس الكواكب مثل البدور

ومن يجعل الوجه مثل القفا *** ومن يجعل النور مثل[بدر] الدجور

ومن يجعل الأرض مثل السماء *** وليس الصحيح كمثل الكسير

وأين الثريا وأين الثرى *** وليس العناق كمثل النمير

ومن يجعل الضبع مثل الأسود *** ومن يجعل النهر مثل البحور

وليس العصي شبيه السيوف *** ومن يجعل الصعو مثل الصقور

وأين المعلى وأين السفيح *** وليس الوفاة كمثل النشور

ص: 147

وأين المجلى وأين اللطيم *** وليس البصير كمثل الضرير

ومن يجعل الدر مثل الحصى *** ودرهم زيف كمثل النضير

علي الوصي وصي النبي *** وغوث الولي وحتف الكفور

إمام الأنام ونور الظلام *** وغيث الغمام الهطول الغزير

سفين النجاة وعين الحياة *** ومردي الكماة بسيف مبير

حمام الطغاة وهادي الهداة *** مبيد الشراة بأرض الثبور

غياث المحول وزوج البتول *** وصنو الرسول السراج المنير

فصيح المقال مليح الفعال *** عظيم الجلال وصي البشير

أمير الثبات عظيم البيات *** بحرب العداة وفك الأسير

ثبيت الأساس زكي الغراس *** جميل النحاس وبدر البدور

نقي الجيوب شجاع الحروب *** ونافي الكروب ببأس مرير

ذكي البخار عظيم الفخار *** ومجدي النضار إلى المستجير [المستمير]

أمان البلاد وساقي العباد *** بيوم المعاد بعذب نمير

صلاح الزمان وغيث هتان *** قسيم الجنان قسيم السعير

همام الصفوف ومقري الضيوف *** وعند الزحوف كليث هصور

مزيل الشرور وصدر الصدور *** حياة الشكور وموت الكفور

علي العماد وواري الزناد *** دليل الرشاد إلى كل خير

أقام الصلاة وآتى الزكاة *** ومولى العفاة وجبر الكسير

هو الهاشمي هو الأبطحي *** هو الطالبي وبدر البدور

مكلم ذئب الفلا جهرة *** وقالع صخر قليب النمير

ص: 148

و من قد هوى النجم في داره *** ومن قاتل الجن في قعر بير

مزك بخاتمه راكعاً *** ومجدي الإجارة للمستجير

و جاء الحديث من المصطفى *** علي مع الحق في كل دور

حديث المحبة لا يختفي *** يضاهي الذكاء إذا في الظهور

رتاج مدينة علم النبي *** ويعسوب دين الإله المنير

مقام علي من المصطفى *** كموسى وهارون ما من نكير

فراش النبي علاه نيام *** بمكة يفديه من كل ضير

وسل عنه بدراً وأحداً ترى *** له سطوات شجاع جسور

وسل عنه عمراً وسل مرحباً *** وسل عنه صفين ليل الهرير

و كم نصر الطهر في معرك *** بسيف صقيل وعزم مرير

و في وقعة الجمل العائشي *** بنصف جمادى خلا من نظير

غزاة السلاسل لا تنسها *** وهضام أسكنه في القبور

و ست وعشرون حرب روي *** مع الهاشمي البشير النذير

و كم بذل النفس يوم النزال *** فيردي الكماة بقطع النحور

خفيف على صهوات الجياد *** ثقيل على سطوات الكفور

أمير السرايا بأمر النبي *** وما من عليه بها من أمير

إمام مكلم أهل الرقيم *** بعيد الممات قبيل النشور

و ثعبان مسجده جهرة *** أتاه وكلمه في الحضور

و سد النبي لأبوابهم *** سوى بابه فتحت للمرور

و في السطل والماء فخراً له *** بعثه الإله لأجل الطهور

ص: 149

همام قضى اللّه في عرشه *** ولادته في المكان الخطير

و ردت له الشمس في بابل *** وآثر بالقرص قبل الفطور

ترى ألف عبد له معتقاً *** ويختار في القوت قرص الشعير

و سار على الريح فوق البساط *** نقله المؤالف من غير مزور

إمام قد أنبأ بالغائبات *** بجمع عظيم وجم غفير

وغسل سلمان في ليلة *** وعاد إلى طيبة في الدجور

وداد أتاه من المؤمنين *** بسورة مريم ما من نكير

وفي سورة الرعد سماه هاد *** واسم النبي بمعنى النذير

وآية من يشتري نفسه *** ذكره الإله بطرس الزبور

وفي مدحه نزلت هل أتى *** وفي ولديه وبنت البشير

جزاهم بما صبروا جنة *** وملكاً كبيراً ولبس الحرير

و حلوا أساور من فضة *** ويسقيهم من شراب طهور

و كم آية نزلت فيهم *** بطرس الكتاب خلال السطور

كآي الولاية ثم التناجي *** وآي المودة ما من نكير

و آي التباهل دلت على *** مقام عظيم ومجد كبير

وآية {وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(1) *** وقد شركوا بالكتاب المنير

من الرجس قد عصموا في الكتاب *** وأعطى الإمامة [الأمانة] من غير زور

إمامي علي لسان البليغ *** قد أضحى بوصفكم في حسور

و كيف نقول لمن قال فيه *** رسول الإله اللطيف الخبير

ص: 150


1- سورة التوبة، الآية: 119.

بعجز الملائك والعالمين *** عن إحصاء مفخره المستنير

ولو أنهم جهدوا جهدهم *** لما وصفوه بعشر العشير

مفاخر تحكي أواذي البحار *** ومن ذا يعد أواذي البحور

ومن ذا يعد رمال الورى *** وقطر السحاب القوي الغزير

وأولاده الغر سفن النجاة *** هداة الأنام إلى كل نور

ومن كتب اللّه في عرشه *** لأسمائهم قبل خلق الدهور

وفي كتب موسى وعيسى ترى *** ومن قبلها أثبتت في الزبور

هم الطيبون هم الطاهرون *** هم الأكرمون ورفد الفقير

هم الزاهدون هم العابدون *** هم الحامدون لرب شكور

هم التائبون هم الراكعون *** هم الساجدون لمولى قدير

هم العالمون هم العاملون *** هم الصائمون نهار الهجير

إلى آخر القصيدة التي اخترنا منها هذه الأبيات.

أهل البيت(عليهم السلام) سفن النجاة

اشارة

تطرّقنا في بداية بحثنا حول يوم الغدير، وإلى أنّ عيد الغدير هو أعظم أعياد المسلمين؛ وذلك لأنّ في هذا اليوم نصب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) خليفة له، وأميراً للمؤمنين من قبل اللّه تعالى.

وسوف نركّز في بحثنا الآتي على بعض خصائص هذا الإمام العظيم وصفاته الكريمة، لتكون لنا درساً نقتدي بها في العمل والتطبيق؛ فهم(عليهم السلام) سفن النجاة لهذه الأمة، فمن تمسك بهم نجا، ومن تخلف عنهم هلك، وقد قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيهم: «...إنما مَثَلُ أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من

ص: 151

ركبها نجاومن تخلّف عنها غرق، ومثل باب حطة من دخله نجا ومن لم يدخله هلك»(1).

قطعات من سفينة نوح

وهنا ننقل كرامة من كرامات أمير المؤمنين وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام) الكثيرة، خصّهم اللّه تعالى بها فجعلهم آية للعالمين، حيث قال تعالى: {وَلَقَد تَّرَكْنَٰهَا ءَايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٖ}(2).

ففي تموز عام (1951م) حينما كان جماعة من العلماء السوفيت المختصين بالآثار القديمة ينقِّبون في إحدى المناطق، فعثروا على قطع متناثرة من أخشاب قديمة متسوسة وبالية، مما دعاهم إلى التنقيب والحفر أكثر وأعمق، فوقفوا على أخشاب أخرى متحجِّرة وكثيرة، كانت بعيدة في أعماق الأرض، ومن بين تلك الأخشاب التي توصلوا إليها خشبة على شكل مستطيل طولها (14) عقدة وعرضها (10) عقد سببت دهشتهم واستغرابهم، إذ أنها لم تتغير ولم تتسوَّس، ولم تتناثر كغيرها من الأخشاب الأخرى! وفي أواخر عام (1952م) أكمل التحقيق حول هذه الآثار، فظهر أنّ اللوحة المشار إليها كانت ضمن سفينة النبي نوح(عليه السلام)، وأنّ الأخشاب الأخرى هي حطام سفينة نوح، وشوهد أنّ هذه اللوحة قد نقشت عليها بعض الحروف التي تعود إلى أقدم لغة وبعد الانتهاء من الحفر عام (1953م)، شكلت الحكومة السوفيتية لجنة قوامها سبعة من علماء اللغات القديمة ومن أهم علماء الآثار، وبعد ثمانية أشهر من دراسة تلك اللوحة والحروف المنقوشة عليها اتفقوا على أنّ هذه اللوحة كانت مصنوعة من نفس

ص: 152


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 60.
2- سورة القمر، الآية: 15.

الخشب الذي صنعت منه سفينة نوح(عليه السلام)، وأنّ النبي نوحاً(عليه السلام) كان قد وضع هذهاللوحة في سفينته للتبرك والحفظ.

وكانت حروف هذه اللوحة باللغة السامانية وقد ترجمها إلى اللغة الإنكليزية العالم البريطاني (آيف ماكس) أستاذ الألسن القديمة في جامعة مانشستر وهذا نص ترجمتها بالعربية: (يا إلهي ويا معيني، برحمتك وكرمك ساعدني، ولأجل هذه النفوس المقدّسة محمّد، إيليا، شبر، شبير(1)، فاطمة، الذين هم جميعهم عظماء، ومكرّمون، العالم قائم لأجلهم، ساعدني لأجل أسمائهم، أنت فقط تستطيع أن توجه نحو الطريق المستقيم).

وبقي هؤلاء العلماء في دهشة وحيرة كبرى أمام عظمة هذه الأسماء الخمسة المقدسة ومنزلة أصحابها عند اللّه تعالى، حيث توسل بها نوح(عليه السلام).

واللغز الذي لم يستطع تفسيره أي واحد منهم هو عدم تفسخ هذه اللوحة بالذات رغم مرور آلاف السنين عليها.

أما نحن الشيعة فلا يخالطنا شك أو ريبة في ذلك، لأنّ أهل البيت(عليهم السلام)، هم الذين خلق اللّه تعالى العالم من أجلهم، ولأجلهم أنزل شرائعه وكتبه، ولأجلهم وبيان فضلهم بقيت هذه اللوحة رغم مرور آلاف السنوات سالمة حتى تكون آية للعالمين، ودلالة على فضل محمد وآله الطيبين الطاهرين (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين)(2).

أقل الناس مؤونة وأكثرهم معونة

قال عروة بن الزبير: كنّا في مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتذاكرنا أعمال أهل بدر

ص: 153


1- هذه الأسماء (إيليا، شبر، شبير) باللغة السامانية ومعناها بالعربية: علي، الحسن، الحسين(عليهم السلام).
2- اللوحة موجودة في متحف الآثار القديمة بموسكو.

وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم ألّا أخبركم بأقل القوم مالاً وأكثرهم ورعاًوأشدهم اجتهاداً في العبادة؟

قالوا: من؟

قال: علي بن أبي طالب(عليه السلام).

قال: فواللّه، إن كان في جماعة أهل المجلس إلّا معرض عنه بوجهه، ثم انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر، لقد تكلمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها، فقال أبو الدرداء: يا قوم، إني قائل ما رأيت، وليقل كل قوم منكم ما رأوا، شهدت علي بن أبي طالب(عليه السلام) بشويحطات النجار وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممن يليه واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبعد علي مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: «إلهي كم من موبقة حملت عني فقابلتها بنعمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي، إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك».

فشغلني الصوت واقتفيت الأثر فإذا هو علي بن أبي طالب(عليه السلام) بعينه، فاستترت له فأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فزع إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى، فكان مما به اللّه ناجى أن قال: «إلهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي». ثم قال: «آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولاتنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء - ثم قال: - آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى».

قال: ثم انغمر في البكاء فلم أسمع له حساً ولا حركة، فقلت: غلب عليه

ص: 154

النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر، قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبةالملقاة! فحركته فلم يتحرك وزويته فلم ينزو! فقلت: إنا للّه وإنا إليه راجعون، مات واللّه علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم فقالت فاطمة(عليها السلام): «يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه ومن قصته؟» فأخبرتها الخبر فقالت: «هي واللّه يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية اللّه»، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ونظر إلي وأنا أبكي فقال: «مما بكاؤك يا أبا الدرداء؟»

فقلت: مما أراه تنزله بنفسك.

فقال: «يا أبا الدرداء، ولو رأيتني ودعي بي إلى الحساب وأيقن أهل الجرائم بالعذاب واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد أسلمني الأحباء، ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية».

فقال أبو الدرداء: فواللّه، ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1).

نعم، إن أمير المؤمنين(عليه السلام)، هو العالم العابد، والتقي الزاهد، والأبي المجاهد في سبيل اللّه، وهو الضحّاك إذا اشتد الضراب، فتجده عندما يقبل على ساحة المعركة للجهاد في سبيل اللّه يقبل وهو مبتسم مبتهج، مشتاق إلى لقاء اللّه ورضوانه في حين كان الآخرون يرتجفون من دهشتها، ويهابون الموت ويكرهونه(2)، لأنه(عليه السلام) كان يعلم أنه قد أدّى ما عليه من واجبات وأنجز ما عليه من تكاليف، فهو لن يخشى الحرب وضراوتها، لأنه ما كان خائفاً من لقاء الموت

ص: 155


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 77.
2- انظر الأمالي للشيخ الصدوق: 77.

بل يرى في الموت لذة وسعادة لأنه لقاء اللّه تبارك وتعالى(1).

فإن الإمام(عليه السلام) عندما ضربه أشقى الأشقياء قال: «فزت وربّ الكعبة»(2)؛ لأنه(عليه السلام) كان مطمئناً بأنه قد أدى الواجب الشرعي الذي كُلِّف به على أتم صورة، وهذا ما نراه واضحاً من كلامه(عليه السلام) مع ابنته أم كلثوم، فانه(عليه السلام) لما رآها تبكيه عشية وفاته قال لها: «ما يبكيك يا بنية؟».

فقالت: «ذكرت يا أبة أنك تفارقنا الساعة فبكيت».

فقال لها: «يا بنية لا تبكين، فو اللّه لو ترين ما يرى أبوك ما بكيت»

قال حبيب(3): فقلت له: وما الذي ترى يا أمير المؤمنين؟

فقال: «يا حبيب، أرى ملائكة السماوات والنبيين بعضهم في أثر بعض وقوفاً إلى أن يتلقوني، وهذا أخي محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس عندي، يقول: أقدم، فإن أمامك خير لك مما أنت فيه»(4).

وقد قال في مكان آخر: «واللّه، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي

ص: 156


1- قال الناشئ الصغير: علي الدر والذهب المصفى *** وباقي الناس كلهم تراب إذا لم تبر من أعدا علي *** فما لك في محبته ثواب إذا نادت صوارمه نفوساً *** فليس لها سوا نعم جواب فبين سنانه والدرع سلم *** وبين البيض والبيض اصطحاب هو البكاء في المحراب ليلاً *** هو الضحاك إن جدَّ الضراب ومن في خفه طرح الأعادي *** حباباً كي يلسبه الحباب الغدير 4: 26 الناشئ الصغير (271-365ه).
2- شرح الأخبار 2: 442.
3- الرواية عن أبي حمزة الثمالي عن حبيب بن عمرو.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 319.

أمه»(1).

الشيعة وحُب أمير المؤمنين(عليه السلام)

إنّ المنقّب في التاريخ تنكشف له حقيقة ناصعة لا يمكن إخفاؤها، وهي: أنّ التاريخ يذكر العظماء في صفحة من نور، ويسجّل لهم فيها الإجلال والإكبار كلاً على قدر عظمته. ومهما حاول شخص أن يتلاعب في التاريخ ويشوّه الحقائق ويحرّفها، فإنّ مصيره الفشل عاجلاً أم آجلاً؛ لأنّ الزيف والتحريف يظهر من تضارب أقوال المزيفين وتناقضها.

ألّا ترى إلى معاوية بن أبي سفيان، الذي حاول أن يشوه الحقائق ويغسل أدمغة الناس، مما يعلمونه ويروونه في أمير المؤمنين(عليه السلام) من فضائل ومناقب كيف باءت بالفشل؟ حتى أنه جعل معاوية سبّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) سُنَّة أموية يشيب عليها الصغير ويهرم فيها الكبير، واستمرت محاولاته سنوات طويلة، وجنّد لهذه الفكرة الآلاف من عبيد الدنيا، وصرف أموالاً طائلة في سبيل ذلك، ولكن أين فكرته هذه الآن؟(2).

لقد بقى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ورغم أنوف أعدائه علماً من أعلام الدين وركناً من أركان الهدى والتقى، ليس عند شيعته فقط بل وحتى عند الآخرين، إنه(عليه السلام) بقي على ما عرّفه اللّه ورسوله مفخرة للإسلام والإنسانية على مرّ العصور وكرّ الدهور.

أما إذا قرأنا في التاريخ عن معاوية فماذا نلاحظ؟ سوف نجد أنّ التاريخ دوّن عنه مواقف مخزية ضدّ الإسلام والإنسانية، وحتى محبوه يدركون ذلك في قرارة

ص: 157


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 5 من خطبة له(عليه السلام) لما قبض رسول اللّه.
2- انظر نهج الحق: 310 سب معاوية علياً(عليه السلام).

أنفسهم، ويعلمون بسيرته، ويظهرون موالاتهم له بسبب الطائفية والتعصب وربماكان ذلك جهلاً منهم.

أمّا شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام) وموالوه، فإنهم لا ينسون إمامهم في الليل والنهار، وهم كل ما ذكروه افتخروا بمواقفه الإنسانية المشرفة، والتي مدحه القرآن الكريم بها.

إن الشيعة يحبون جميع أولياء اللّه ويقدرون مواقفهم، إلّا أن حبّهم لأمير المؤمنين(عليه السلام) وولاءهم له يأتي بعد حبهم وولاءهم لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وذلك لأن حب أمير المؤمنين(عليه السلام) وولاءه هو نصر لكل الأمم وفخر لهم، والأفراد الذين يريدون أن يحصلوا على أعلى درجات الكمال الإنساني عليهم أن يتبعوه(عليه السلام) ويسيروا على نهجه؛ إذ في متابعته(عليه السلام) متابعة الحق، وفي هذا نذكر ما روي عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «علي مع الحق والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، من أطاعك فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع اللّه، ومن عصاك فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى اللّه»(2).

التاريخ يتحدث

اشارة

إن الذاهب إلى بلاد الشام ومدينة دمشق تحديداً، يُلاحظ قبرين مثيرين للعبرة والعظة:

أحدهما: قبر لمعاوية(3) بن أبي سفيان وابن هند آكلة الأكباد الذي حكم بلاد الشام طويلاً الذي يقع في بقعة مملوءة بالمزابل وأنواع الحشرات، وفي نفس

ص: 158


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 62.
2- تقريب المعارف: 203.
3- الذي يقع في زقاق ضيق في منطقة القيمرية في دمشق القديمة.

الوقت ترى أصحابه ومحبيه يخفون قبره لكي لا يصل إليه أحد.ثانيهما: قبر السيدة رقية، وهو قبر لطفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها الثلاث سنوات، وهي بنت الإمام الحسين(عليه السلام) ويقع بالقرب من قبر معاوية، ولكنه في مقابل قبر معاوية، حيث إن الناس يذهبون لزيارتها ويتبركون بقبرها ويطلبون من اللّه قضاء حوائجهم ببركتها، كل هذا لأنّ هذه الطفلة وكذلك عمتها السيدة زينب(عليها السلام) التي يقع مرقدها في ريف دمشق منطقة راوية من الذرية الطاهرة الذين هم امتداد للحق الذي سار عليه أمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمة(عليهم السلام) وهم جميعاً سادة أهل الدنيا والآخرة.

كما أنّ تعامل الناس مع السادة من ذرية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يُعبّر عن احترام وقدسية خاصة، واتباع لوصايا الرسول الاعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أهل بيته(عليهم السلام) وذريته.

التأييد الغيبي لأهل الحق

إنّ صاحب البصيرة النافذة إذا أعطيت له حرية الاختيار بين الحق والباطل، ورفعت عنه جميع العقبات والحواجز، فإنه - وبلا شك - سوف يختار طريق الحق؛ لأنّ اتباع الحق يؤدي به إلى السعادة في الدنيا، وإلى الجنة والنعيم الدائم في الآخرة.

وطبيعة الإنسان العاقل أن يختار طريق الأمان والسلام، الذي هو طريق الحق، على طريق الهلكة والهوان، الذي هو طريق الباطل.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ اللّه عزّ وجلّ يحفظ الإنسان الذي يتبع الحق والحقيقة من النسيان والضمور، ويجعله في مأمن منها رغم تعاقب الأجيال، وتقلّبات الأيام، ويخلّد ذكره ليبقى قدوة للخير والفضيلة، والأمثلة على ذلك كثيرة. فهذا نبينا العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووصيه الكريم إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) وكذلك الأنبياء والمرسلون وأوصياؤهم الكرام(عليهم السلام) من قبل ومن سار على نهجهم، تراهم جميعاً

ص: 159

خالدين، فنبي اللّه نوح(عليه السلام) الذي مضى على نبوته آلاف السنين - حتى سمي شيخ المرسلين - بلآلاف القرون لقوله تعالى: {وَقُرُونَا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا}(1) قد ذكره اللّه في القرآن في مواطن عدّة، منها قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٖ وَالنَّبِيِّۧنَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيْمَٰنَ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بَِٔايَٰتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ}(3).

وقال تعالى: {قِيلَ يَٰنُوحُ اهْبِطْ بِسَلَٰمٖ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٖ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّۧنَ مِيثَٰقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا}(5).

وقال تبارك وتعالى: {سَلَٰمٌ عَلَىٰ نُوحٖ فِي الْعَٰلَمِينَ}(6).

نعم، لقد حصل شيخ المرسلين نوح(عليه السلام) على هذا الذكر الطيّب والخالد لأنه(عليه السلام) كان يعمل في طريق الحق ومن أجل إعلاء كلمة الحق خالصاً مخلصاً.

ص: 160


1- سورة الفرقان، الآية: 38.
2- سورة النساء، الآية: 163.
3- سورة يونس، الآية: 71.
4- سورة هود، الآية: 48.
5- سورة الأحزاب، الآية: 7.
6- سورة الصافات، الآية: 79.

فعلى الإنسان أن ينقطع إلى اللّه دائماً، وأن لا يأمل إلّا اللّه أبداً، وأن يعتمد على نصرته تعالى في أداء واجبه وتكليفه، وأن يطلب العون منه عزّ وجلّ لا من المخلوقين، فقد روي عن الحسين بن علوان قال: كنّا في مجلس نطلب فيه العلموقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار، فقال لي بعض أصحابنا: من تؤمل لما قد نزل بك؟ فقلت: فلاناً، فقال: واللّه، لا تسعف حاجتك، ولا يبلغك أملك، ولا تنجح طلبتك، قلت: وما علمك رحمك اللّه؟ قال: إن أبا عبد اللّه(عليه السلام) حدثني أنه قرأ في بعض الكتب: «أن اللّه تبارك وتعالى يقول:

وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي، لأقطعنّ أمل كل مؤمل غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس، ولأنحينّه من قربي، ولأبعدنه من فضلي. أيؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي! ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقةٌ وبابي مفتوحٌ لمن دعاني، فمن ذا الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها، ومن ذا الذي رجاني لعظيمةٍ فقطعت رجاءه مني. جعلت آمال عبادي عندي محفوظةً فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبةٌ من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدٌ غيري إلّا من بعد إذني، فما لي أراه لاهياً عني! أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده وسأل غيري، أ فيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي! أبخيلٌ أنا فيبخلني عبدي؟ أوليس الجود والكرم لي؟ أوليس العفو والرحمة بيدي؟ أوليس أنا محل الآمال فمن يقطعها دوني؟ أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟ فلو أن أهل سماواتي وأهل أرضي أملوا جميعاً، ثم أعطيت كل واحدٍ منهم مثل ما أمل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة، وكيف ينقص ملكٌ أنا قيمه؟! فيا بؤساً للقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لمن

ص: 161

عصاني ولم يراقبني»(1).

نعم، إذا اعتمد الإنسان على اللّه وتوكل عليه فإنه يوصله إلى أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٖ قَدْرًا}(2).

وقال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَٰنَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}(3).

أمير المؤمنين(عليه السلام) على لسان

الصادق الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

إن الفضائل والمناقب التي ذكرها خير خلق اللّه الرسول الحبيب(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حق وصيه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كثيرة ومتعددة، نذكر منها الروايات التالية:

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علي في السماء السابعة كالشمس بالنهار في الأرض، وفي السماء الدنيا كالقمر بالليل في الأرض، أعطى اللّه علياً من الفضل جُزءاً لو قُسِّم على أهل الأرض لوسعهم، وأعطاه اللّه من الفهم جُزءاً لو قسم على أهل الأرض لوسعهم، شُبّهت لينه بلين لوط، وخلقه بخلق يحيى، وزهده بزهد أيّوب، وسخاؤه بسخاء ابراهيم وبهجته ببهجة سليمان بن داود، وقوّته بقوّة داود. له اسم

ص: 162


1- الكافي 2: 66.
2- سورة الطلاق، الآية: 2-3.
3- سورة آل عمران، الآية: 172-174.

مكتوب على كلّ حجاب في الجنّة، بشّرني به ربي وكانت له البشارة عندي، عليٌّ محمود عند الحقّ، مزكّى عند الملائكة، وخاصتي وخالصتي، وظاهرتي ومصباحي، وجُنَّتي ورفيقي، آنسني به ربي فسألت ربّي أن لا يقبضه قبلي، وسألته أن يقبضهشهيداً بعدي. أُدخلت الجنة فرأيت حور علي أكثر من ورق الشجر، وقصور علي كعدد البشر. عليّ مني وأنا من علي، من تولى علياً فقد تولاّني، حبّ علي نعمة واتباعه فضيلة، دانت به الملائكة وحفت به الجنّ الصالحون، لم يمش على الأرض ماشٍ بعدي إلّا كان هو أكرم منه عزّاً وفخراً ومنهاجاً، لم يك فظّاً عجولاً، ولا مسترسلاً لفساد ولا متعنّداً، حملته الأرض فأكرمته، لم يخرج من بطن أنثى بعدي أحد كان أكرم خروجاً منه، ولم ينزل منزلاً إلّا كان ميموناً، أنزل اللّه عليه الحكمة، وردّاه بالفهم، تجالسه الملائكة ولا يراها. ولو أوحي إلى أحد بعدي لأوحي إليه، فزيّن اللّه به المحافل، وأكرم به العساكر، وأخصب به البلاد، وأعزّ به الأجناد. مثله كمثل بيت اللّه الحرام يزار ولا يزور، ومثله كمثل القمر إذا طلع أضاء الظلمة، ومثله كمثل الشمس إذا طلعت أنارت الدنيا، وصفه اللّه في كتابه، ومدحه بآياته، ووصف فيه آثاره، وأجرى منازله، فهو الكريم حيّاً والشهيد ميتاً»(1).

وعن عبد الرحمان بن سمرة قال: قلت: يا رسول اللّه، أرشدني إلى النجاة، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا ابن سمرة، إذا اختلفت الاهواء وتفرقت الآراء فعليك بعلي بن أبي طالب؛ فإنه إمام أمتي، وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يميز بين الحق والباطل، من سأله أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن طلب الحق من عنده وجده، ومن التمس الهدى لديه صادفه، ومن لجأ إليه أمنه، ومن استمسك به

ص: 163


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 8.

نجاه، ومن اقتدى به هداه.

يا ابن سمرة، سلم من سلم له ووالاه، وهلك من رد عليه وعاداه.

يا ابن سمرة، إن علياً مني، روحه من روحي، وطينته من طينتي، وهو أخي وأنا أخوه، وهو زوج ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين من الاولين والآخرين، وابنيهإماما أمتي، وسيدا شباب أهل الجنة: الحسن والحسين، وتسعة من ولد الحسين، تاسعهم قائم أمتي، يملا الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(1).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «أنه جاء إليه رجل فقال له: يا أبا الحسن، إنك تدّعى أمير المؤمنين، فمن أمرك عليهم؟

قال(عليه السلام): اللّه جلّ جلاله أمرني عليهم.

فجاء الرجل إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، أ يصدق علي في ما يقول إن اللّه أمّره على خلقه؟

فغضب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال: إن علياً أمير المؤمنين بولاية من اللّه عزّ وجلّ، عقدها له فوق عرشه، وأشهد على ذلك ملائكته، إن علياً خليفة اللّه، وحجة اللّه، وإنه لإمام المسلمين، طاعته مقرونة بطاعة اللّه، ومعصيته مقرونة بمعصية اللّه، فمن جهله فقد جهلني، ومن عرفه فقد عرفني، ومن أنكر إمامته فقد أنكر نبوتي، ومن جحد إمرته فقد جحد رسالتي، ومن دفع فضله فقد تنقصني، ومن قاتله فقد قاتلني، ومن سبه فقد سبني؛ لأنه مني خلق من طينتي، وهو زوج فاطمة ابنتي، وأبو ولدي الحسن والحسين - ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): - أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين حجج اللّه على خلقه، أعداؤنا أعداء اللّه، وأولياؤنا أولياء اللّه»(2).

ص: 164


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 26.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 131.

نعم، هذا هو أمير المؤمنين(عليه السلام) على لسان خير خلق اللّه تعالى الرسول الحبيب(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(1) كما قال اللّه عنه ذلك.ولهذا يعتبر يوم الغدير هو اليوم الذي تمت به النعمة واكتمل به الدين، فهو يوم عظيم ذو أهمية خاصة وقدسية كبيرة عند المسلمين وخصوصاً الشيعة منهم، وذلك هو بمثابة إعلاناً رسمياً في تعيين الإمام علي(عليه السلام) في هذا اليوم أميراً للمؤمنين من قبل اللّه تعالى.

أهل البيت(عليهم السلام) وعيد الغدير

كان الأئمة من أهل بيت رسول اللّه (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) يوصون شيعتهم بالاحتفال بهذا العيد العظيم واظهاره بأجلى المظاهر، فهم(عليهم السلام) كانوا يجعلونه يوماً فريداً ومشهوداً بين أهليهم وذويهم، فقد روي عن أحوالهم(عليهم السلام) من قال: أنه شهد أبا الحسن علي بن موسى الرضا(عليهما السلام) في يوم الغدير وبحضرته جماعة من خاصته، قد احتبسهم للإفطار وقد قدم إلى منازلهم الطعام والبر والصلات والكسوة حتى الخواتيم والنعال، وقد غير أحوالهم وأحوال حاشيته، وجددت له الآلة غير الآلة التي جرى الرسم بابتذالها قبل يومه، وهو يذكر فضل اليوم وقدمه.

فكان من قوله(عليه السلام): «حدثني الهادي أبي قال: حدثني جدي الصادق قال: حدثني الباقر قال: حدثني سيد العابدين قال: حدثني أبي الحسين قال: اتفق في بعض سني أمير المؤمنين(عليه السلام) الجمعة والغدير، فصعد المنبر على خمس ساعات من نهار ذلك اليوم، فحمد اللّه حمداً لا نسمع [لم يسمع] بمثله، وأثنى

ص: 165


1- سورة النجم، الآية: 3-4.

عليه بما لا يتوجه إلى غيره، فكان ما حفظ من ذلك:

الحمد للّه الذي جعل الحمد من غير حاجة منه إلى حامديه، طريقاً من طرق الاعتراف بلاهوتيته وصمدانيته وفردانيته، وسبباً إلى المزيد من رحمته، ومحجة للطالب من فضله، وكمن في إبطان حقيقة الاعتراف له: بأنه المنعم على كلحمد باللفظ وإن عظم.

وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، شهادة نزعت عن إخلاص الطوى، ونطق اللسان بها عبارة عن صدق خفي أنه الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى، ليس كمثله شيء، إذ كان [إذا كان] الشيء من مشيته، وكان لا يشبهه مكونه.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، استخلصه في القدم على سائر الأمم، على علم منه بأنه انفرد عن التشاكل والتماثل من أبناء الجنس، وانتجبه آمراً وناهياً عنه، أقامه في سائر عالمه في الأداء مقامه، إذ كان لا تدركه الأبصار، ولا تحويه خواطر الأفكار، ولا تمثله غوامض الظنون في الأسرار. لا إله إلّا هو الملك الجبار، قرن الاعتراف بنبوته بالاعتراف بلاهوتيته، واختصه من تكرِمته بما لم يلحقه فيه أحد من بريته، فهو أهل ذلك بخاصته وخلته، إذ لا يختص من يشوبه التغيير ولا يخالل من يلحقه التظنين. وأمر بالصلاة عليه مزيداً في تكرِمته، وطريقاً للداعي إلى إجابته، فصلى اللّه عليه وكرم وشرف وعظم مزيداً لا تلحقه التفنية، ولا ينقطع على التأبيد.

وأن اللّه تعالى اختص لنفسه بعد نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بريته خاصة، علاهم بتعليته، وسمى [سار] بهم إلى رتبته، وجعلهم الدعاة بالحق إليه، والأدلاء بالإرشاد عليه، لقرن قرن، وزمن زمن، أنشأهم في القدم على [قبل] كل مذرو ومبرو، أنواراً أنطقها بتحميده، وألهمها على شكره وتمجيده، وجعلها الحجج على كل معترف

ص: 166

له بملكوت الربوبية، وسلطان العبودية، واستنطق بها الخرسات بأنواع اللغات، بخوعاً له بأنه فاطر الأرضين والسماوات، واستشهدهم خلقه، وولاهم ما شاء من أمره، جعلهم تراجم مشيته، وألسن إرادته، عبيداً لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى، وهم منخشيته مشفقون، يحكمون بأحكامه، ويستنون بسنته، ويعتمدون حدوده، ويؤدون فرضه.

ولم يدع الخلق في بهم صماً، ولا في عمى بكماً، بل جعل لهم عقولاً مازجت شواهدهم، وتفرقت في هياكلهم، حققها في نفوسهم، واستعد لها حواسهم. فقرر بها على أسماع ونواظر، وأفكار وخواطر، ألزمهم بها حجته، وأراهم بها محجته، وأنطقهم عمّا شهدته بألسن ذربة، بما قام فيها من قدرته وحكمته، وبيّن عندهم بها، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن بينة، وإن اللّه لسميع عليم بصير، شاهد خبير.

وإن اللّه تعالى جمع لكم معشر المؤمنين في هذا اليوم عيدين عظيمين كبيرين، لا يقوم أحدهما إلّا بصاحبه؛ ليكمل لكم عندكم جميل صنعه، ويقفكم على طريق رشده، ويقفوا بكم آثار المستضيئين بنور هدايته، ويسلك بكم منهاج قصده، ويوفر عليكم هنيء رفده، فجعل الجمعة مجمعاً ندب إليه لتطهير ما كان قبله، وغسل ما أوقعته مكاسب السوء من مثله إلى مثله، وذكرى للمؤمنين وتبيان خشية المتقين، ووهب لأهل طاعته في الأيام قبله، وجعله لا يتم إلّا بالايتمار لما أمر به، والانتهاء عمّا نهى عنه، والبخوع بطاعته في ما حث عليه وندب إليه.

ولا يقبل توحيده إلّا بالاعتراف لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنبوته، ولا يقبل دينا إلّا بولاية من أمر بولايته، ولا ينتظم أسباب طاعته إلّا بالتمسك بعصمه وعصم أهل ولايته. فأنزل على نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في يوم الدَوح ما بيّن فيه عن إرادته في خلصائه وذوي

ص: 167

اجتبائه، وأمره بالبلاغ، وترك الحفل بأهل الزيغ والنفاق، وضمن له عصمته منهم، وكشف عن [من] خبايا أهل الريب وضمائر أهل الارتداد ما رمز فيه، فعقله المؤمن والمنافق،فأعن معن(1)، وثبت على الحق ثابت، وازدادت جهالة المنافق، وحمية المارق، ووقع العض على النواجذ، والغمز على السواعد، ونطق ناطق ونعق ناعق ونشق(2) ناشق، واستمر على مارقته مارق. ووقع الإذعان من طائفة باللسان دون حقائق الإيمان، ومن طائفة باللسان وصدق الإيمان، وأكمل اللّه دينه، وأقر عين نبيه، والمؤمنين والمتابعين.

وكان ما قد شهده بعضكم وبلغ بعضكم، وتمت كلمة اللّه الحسنى على الصابرين، ودمر اللّه ما صنع فرعون وهامان وقارون وجنوده وما كانوا يعرشون.

وتفتت [بقيت] حثالة من الضلال لا يألون الناس خبالاً، فيقصدهم اللّه في ديارهم، ويمحو آثارهم، ويبيد معالمهم، ويعقبهم عن قرب الحسرات، ويلحقهم عن بسط أكفهم، ومد أعناقهم، ومكنهم من دين اللّه حتى بدّلوه، ومن حكمه حتى غيروه، وسيأتي نصر اللّه على عدوه لحينه، واللّه لطيف خبير.

وفي دون ما سمعتم كفاية وبلاغ، فتأملوا رحمكم اللّه ما ندبكم اللّه إليه وحثكم عليه، واقصدوا شرعه، واسلكوا نهجه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.

هذا يوم عظيم الشأن، فيه وقع الفرج، ورفعت الدرج، وضحت الحجج، وهو يوم الإيضاح والإفصاح عن المقام الصراح، ويوم كمال الدين، ويوم العهد المعهود، ويوم الشاهد والمشهود، ويوم تبيان العقود عن النفاق والجحود، ويوم

ص: 168


1- أمعن الرجل: هرب وتباعد، لسان العرب 13: 409، مادة (معن).
2- نشق: النشق صب سعوط في الأنف، لسان العرب 10: 353، مادة (نشق).

البيان عن حقائق الإيمان، ويوم دحر الشيطان، ويوم البرهان.

هذا يوم الفصل الذي كنتم به توعدون، هذا يوم الملإ الأعلى الذي أنتم عنهمعرضون، هذا يوم الإرشاد ويوم محنة على العباد، ويوم الدليل على الرواد، هذا يوم إبداء خفايا الصدور، ومضمرات الأمور، هذا يوم النصوص على أهل الخصوص.

هذا يوم شيث، هذا يوم إدريس، هذا يوم يوشع، هذا يوم شمعون. هذا يوم الأمن المأمون، هذا يوم إظهار المصون من المكنون، هذا يوم إبلاء السرائر.

فلم يزل(عليه السلام) يقول هذا يوم هذا يوم، فراقبوا اللّه واتقوه، واسمعوا له وأطيعوه، واحذروا المكر ولا تخادعوه، فتّشوا ضمائركم ولا تواربوه، وتقربوا إلى اللّه بتوحيده وطاعة من أمركم أن تطيعوه، ولا تمسكوا بعصم الكوافر، ولا يجنح بكم الغي فتظلوا عن سبيل الرشاد باتباع أولئك الذين ضلوا وأضلوا، قال اللّه تعالى عزّ من قائل، في طائفة ذكرهم بالذم في كتابه: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا۠ * رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}(1).

وقال اللّه تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَٰؤُاْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا}(2).

وقال سبحانه: {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٖ قَالُواْ لَوْ هَدَىٰنَا اللَّهُ لَهَدَيْنَٰكُمْ}(3).

أفتدرون استكبار ما هو ترك الطاعة لمن أمر اللّه بطاعته والترفع عمّن ندبوا إلى متابعته؟ والقرآن ينطق من هذا عن كثير إن تدبره متدبر زجره ووعظه، واعلموا

ص: 169


1- سورة الأحزاب، الآية: 67- 68.
2- سورة غافر، الآية: 47.
3- سورة إبراهيم، الآية: 21.

أيها المؤمنون إن اللّه عزّ وجلّ قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}(1).

أتدرون ما سبيل اللّه؟ ومن سبيله؟ ومن صراط اللّه؟ ومن طريقه؟

أنا صراط اللّه الذي من لم [لا] يسلكه بطاعة اللّه فيه هوى به إلى النار، أنا سبيله الذي نصبني للاتباع بعد نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أنا قسيم النار، أنا حجة اللّه على الفجار، أنا نور الأنوار.

فانتبهوا من رقدة الغفلة، وبادروا بالعمل قبل حلول الأجل، وسابقوا إلى مغفرة من ربكم قبل أن يضرب بالسور بباطن الرحمة وظاهر العذاب، فتنادون فلا يسمع نداؤكم، وتضجون فلا يحفل بضجيجكم، وقبل أن تستغيثوا فلا تغاثوا.

سارعوا إلى الطاعات قبل فوات الأوقات، فكأن قد جاء هادم اللذات، فلا مناص نجاة ولا محيص تخليص.

عودوا رحمكم اللّه بعد انقضاء مجمعكم بالتوسعة على عيالكم، والبر بإخوانكم، والشكر للّه عزّ وجلّ على ما منحكم، وأجمعوا يجمع اللّه شملكم، وتباروا يصل اللّه ألفتكم، وتهانوا نعمة اللّه كما هنأكم، بالصواب فيه على أضعاف الأعياد قبله وبعده إلّا في مثله، والبر فيه يثمر المال، ويزيد في العمر، والتعاطف فيه يقتضي رحمة اللّه وعطفه، وهبوا لإخوانكم وعيالكم عن فضله بالجهد من جودكم، وبما تناله القدرة من استطاعتكم، وأظهروا البشرى في ما بينكم، والسرور في ملاقاتكم، والحمد للّه [واحمدوا اللّه] على ما منحكم، وعودوا بالمزيد على أهل التأميل لكم، وساووا بكم ضعفاءكم ومن ملككم، وما تناله القدرة من استطاعتكم، وعلى حسب إمكانكم، فالدرهم فيه بمائتي ألف

ص: 170


1- سورة الصف، الآية: 4.

درهم، والمزيد من اللّه عزّ وجلّ.

وصوم هذا اليوم مما ندب اللّه إليه، وجعل العظيم كفالة عنه، حتى لو تعبد له عبد من العبيد في التشبيه من ابتداء الدنيا إلى تقضيها صائماً نهارها قائماً ليلها، إذ أخلص المخلص في صومه، لقصرت أيام الدنيا من [عن] كفاية [كفايته]، ومن أضعف فيه أخاه مبتدئاً وبره راغباً، فله كأجر من صام هذا اليوم وقام ليله، ومن فطر مؤمناً في ليلته، فكأنما فطر فئاماً وفئاماً، - يعدها بيده عشرة - .

فنهض ناهض فقال: يا أمير المؤمنين، وما الفئام؟

قال: مأتي ألف نبي وصديق وشهيد، فكيف بمن يكفل عدداً من المؤمنين والمؤمنات، فأنا ضمينه على اللّه تعالى الأمان من الكفر والفقر، وإن مات في ليلته أو يومه أو بعده إلى مثله من غير ارتكاب كبيرة فأجره على اللّه، ومن استدان لإخوانه وأعانهم فأنا الضامن على اللّه إن أبقاه، وإن قبضه حمله عنه.

وإذا تلاقيتم فتصافحوا بألسنتكم وتهانوا بالنعمة في هذا اليوم، وليبلغ الحاضر الغائب، والشاهد البائن، وليعد الغني على الفقير، والقوي على الضعيف.

أمرني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك.

ثم أخذ (صلوات اللّه عليه) في خطبته الجمعة، وجعل صلاته جمعة صلاة عيد. وانصرف بولده وشيعته إلى منزل أبي محمد الحسن بن علي(عليهما السلام) بما أعد له من طعامه، وانصرف غنيهم وفقيرهم برفده إلى عياله»(1).

نعم، فأمير المؤمنين(عليه السلام) الذي تشرفت الدنيا به يوم ولد في جوف الكعبة(2)،

ص: 171


1- إقبال الأعمال 1: 461.
2- فقد روي عن يزيد بن قعنب أنه قال: كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزى بإزاء بيت اللّه الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين(عليه السلام) وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: «رب إني مؤمنة بك، وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وأنه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني، لما يسرت علي ولادتي». قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر اللّه عزّ وجلّ، ثم خرجت بعد الرابع، وبيدها أمير المؤمنين(عليه السلام) ثم قالت: «إني فضلت على من تقدمني من النساء؛ لأن آسية بنت مزاحم عبدت اللّه عزّ وجلّ سراً في موضع لا يحب أن يعبد اللّه فيه إلّا اضطراراً، وأن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنياً، وأني دخلت بيت اللّه الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأوراقها، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة، سميه علياً فهو علي، واللّه العلي الأعلى يقول: إني شققت اسمه من اسمي وأدبته بأدبي ووقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه» الأمالي للشيخ الصدوق: 132.

ويوم عاش في هذه الحياة، ومن خلال حياته الزاخرة بالجهاد والتضحية في سبيل اللّه، سطّر للعالم النموذج الفريد بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المكارم، والقدوة الحسنة في جميع الأعمال الحميدة، قد بكته السماء والأرض يوم وفاته(عليه السلام)، فمات شهيداً في سبيل اللّه تعالى، وختم حياته بأحسن ما يختم به الإنسان حياته.

فقد روي عن أبي حمزة الثمالي عن حبيب بن عمرو قال: دخلت على أمير المؤمنين(عليه السلام) في مرضه الذي قبض فيه فحل عن جراحته، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما جرحك هذا بشيء، وما بك من بأس! فقال لي: «يا حبيب، أنا واللّه مفارقكم الساعة».

قال: فبكيت عند ذلك، وبكت أم كلثوم وكانت قاعدة عنده، فقال لها: «ما يبكيك يا بنية؟».

فقالت: «ذكرت يا أبة أنك تفارقنا الساعة فبكيت».

فقال لها: «يا بنية لا تبكين، فو اللّه لو ترين ما يرى أبوك ما بكيت». قال حبيب: فقلت له: وما الذي ترى يا أمير المؤمنين؟

ص: 172

فقال: «يا حبيب، أرى ملائكة السماوات والنبيين [والأرضين] بعضهم في أثر بعض وقوفاً إلى أن يتلقوني، وهذا أخي محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس عندي، يقول: أقدم، فإن أمامك خير لك مما أنت فيه».

قال: فما خرجت من عنده حتى توفي(عليه السلام).

فلما كان من الغد وأصبح الحسن(عليه السلام) قام خطيباً على المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، في هذه الليلة نزل القرآن، وفي هذه الليلة رفع عيسى ابن مريم(عليه السلام)، وفي هذه الليلة قتل يوشع بن نون، وفي هذه الليلة مات أبي أمير المؤمنين(عليه السلام)، واللّه لا يسبق أبي أحد كان قبله من الأوصياء إلى الجنة، ولا من يكون بعده، وإن كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليبعثه في السرية فيقاتل جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وما ترك صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم فضلت من عطائه كان يجمعها ليشتري بها خادما لأهله»(1).

من هدي القرآن الحكيم

ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(3).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ

ص: 173


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 318.
2- سورة المائدة، الآية: 67.
3- سورة المائدة، الآية: 3.

وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(1).

صفات الإمام(عليه السلام)

قال سبحانه: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ}(2).

وقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَٰتِ وَإِقَامَ الصَّلَوٰةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوٰةِ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُنَ عِندَ اللَّهِ}(5).

ذكر أمير المؤمنين(عليه السلام) في القرآن

قال عزّ وجلّ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}(6).

وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}(7).

وقال جلّ وعلا: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(8).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(9).

ص: 174


1- سورة المائدة، الآية: 55.
2- سورة يونس، الآية: 35.
3- سورة البقرة، الآية: 124.
4- سورة الأنبياء، الآية: 73.
5- سورة التوبة، الآية: 19.
6- سورة النبأ، الآية: 1-3.
7- سورة البقرة، الآية: 207.
8- سورة الشورى، الآية: 23.
9- سورة البينة، الآية: 7.
متابعة أئمة الحق

وقال تعالى: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(1).

قال سبحانه: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

يوم الغدير

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي، وهو اليوم الذي أمرني اللّه تعالى ذكره فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب علماً لأمتي، يهتدون به من بعدي وهو اليوم الذي أكمل اللّه فيه الدين، وأتم على أمتي فيه النعمة ورضي لهم الإسلام ديناً - ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - معاشر الناس، إن علياً مني وأنا من علي خلق من طينتي وهو إمام الخلق بعدي، يبين لهم ما اختلفوا فيه من سنتي، وهو أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين ويعسوب المؤمنين وخير الوصيين وزوج سيدة نساء العالمين وأبو الأئمة المهديين.

معاشر الناس، من أحب علياً أحببته ومن أبغض علياً أبغضته، ومن وصل علياً وصلته ومن قطع علياً قطعته، ومن جفا علياً جفوته ومن والى علياً واليته، ومن عادى علياً عاديته.

معاشر الناس، أنا مدينة الحكمة وعلي بن أبي طالب بابها ولن تؤتى المدينة إلّا من قبل الباب، وكذب من زعم أنه يحبني ويبغض علياً.

معاشر الناس، والذي بعثني بالنبوة واصطفاني على جميع البرية، ما نصبت

ص: 175


1- سورة النساء، الآية: 59.
2- سورة الأنعام، الآية: 153.

علياً علماً لأمتي في الأرض حتى نوه اللّه باسمه في سماواته وأوجب ولايته علىملائكته»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في حديث - : «فأتاني جبرئيل فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام يقول لك: إن علي بن أبي طالب وصيك وخليفتك على أهلك وأمتك والذائد عن حوضك وهو صاحب لوائك يقدمك إلى الجنة...»(2).

صفات الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)

عن أبي إسحاق عن أبيه قال: بينما رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس في جماعة من أصحابه إذ أقبل علي بن أبي طالب(عليه السلام) نحوه فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أراد أن ينظر إلى آدم في خلقه، وإلى نوح في حكمته، وإلى إبراهيم في حلمه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أقضى أمتي وأعلم أمتي بعدي علي»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أوحي إليّ في عليّ ثلاث: أنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنا قسيم اللّه بين الجنة والنار لا يدخلها داخل إلّا على حدّ قسمي وأنا الفاروق الأكبر، وأنا الإمام لمن بعدي والمؤدي عمّن كان قبلي، لا يتقدمني أحد إلّا أحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإني وإياه لعلى سبيل واحد، إلّا أنه هو المدعو باسمه، ولقد أعطيت الست: علم المنايا والبلايا والوصايا

ص: 176


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 125.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 168.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 14.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 548.
5- اليقين: 476.

وفصل الخطاب وإني لصاحب الكرات ودولة الدول، وإني لصاحب العصا والميسم والدابة التي تكلم الناس»(1).

النبأ العظيم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، أنت حجة اللّه، وأنت باب اللّه، وأنت الطريق إلى اللّه، وأنت النبأ العظيم، وأنت الصراط المستقيم وأنت المثل الأعلى.

يا علي، أنت إمام المسلمين وأمير المؤمنين وخير الوصيين وسيد الصديقين. يا علي، أنت الفاروق الأعظم وأنت الصديق الأكبر. يا علي، أنت خليفتي على أمتي وأنت قاضي ديني وأنت منجز عداتي. يا علي، أنت المظلوم بعدي. يا علي، أنت المفارق بعدي، يا علي، أنت المحجور بعدي. أشهد اللّه تعالى ومن حضر من أمتي، إن حزبك حزبي وحزبي حزب اللّه، وإن حزب أعدائك حزب الشيطان»(2).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «أول من شرى نفسه للّه علي بن أبي طالب(عليه السلام)...»(3).

دخل أبان على الإمام الرضا(عليه السلام) فقال: سألته عن قول اللّه {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(4)؟ فقال: «ذلك علي بن أبي طالب(عليه السلام)...»(5).

وعن ابن عباس قال: لما نزلت {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي

ص: 177


1- الكافي 1: 198.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 6.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 64.
4- سورة النساء، الآية: 59.
5- تفسير العياشي 1: 251.

الْقُرْبَىٰ}(1) قالوا: يا رسول اللّه، من هؤلاء الذين يأمرنا اللّه بمودتهم؟ قال: «علي وفاطمة وأولادهما»(2).

من كلام للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في التمسك بالأئمة ومتابعة أثرهم(عليهم السلام): «من أطاع إمامه فقد أطاع ربّه»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «لا تزلوا عن الحق وأهله، فإنّه من استبدل بنا أهل البيت هلك وفاتته الدنيا والآخرة»(4).

وقال(عليه السلام): «عليكم بطاعة أئمتكم، فإنّهم الشهداء عليكم اليوم، والشفعاء لكم عند اللّه غداً»(5).

وقال(عليه السلام): «شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة...»(6).

وقال(عليه السلام): «أسعد الناس من عرف فضلنا وتقرب إلى اللّه بنا وأخلص حبنا وعمل بما إليه نَدَبنا وانتهى عمّا عنه نهينا، فذاك منا وهو في دار المقامة معنا»(7).

ص: 178


1- سورة الشورى، الآية: 23.
2- بحار الأنوار 36: 166.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 632.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 764.
5- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 116.
6- عيون الحكم والمواعظ: 298.
7- عيون الحكم والمواعظ: 124.

فلسفة الحج

فلسفة الحج

قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٖ مَّعْلُومَٰتٍ}(1).

الإنسان بفطرته مدنيّ الطبع، تميل نفسه إلى الاجتماعات والتآلف مع الآخرين، والركون إلى الجماعة والاختلاط بها، وهذا هو سبب تكون المدنية وإنشاء المدن والمجتمعات الكبيرة. وهذا الميل عبارة عن غريزة فطرية موجودة في الإنسان الساعي سعياً دائباً مستمراً لإشباع غرائزه. فميله نحو التوطّن ضمن مجموعة من الناس، والعيش معهم عبارة عن إشباع لغريزته هذه. وتكوين الأسرة أيضاً صورة أخرى من صور إشباع الغريزة الاجتماعية، وغريزة الاجتماع تؤمن للإنسان حسن الألفة والاختلاط البشري ومنافع أخرى سوف نتعرض لها.

ولهذا الأمر، نرى أن الشريعة أكّدت على الاجتماع، وخير نموذج لذلك هو شعائر الحج، وصلاة الجماعة، وروايات تبين استحباب السفر مع الآخرين، وغيرها من الموارد التي تحث على الاجتماع أو الاشتراك مع الجماعة المؤمنة. وليس هذا مقتصراً على الإنسان فحسب، بل يبدو واضحاً في السلوك الجمعي لدى الحيوانات أيضاً، إذ أن الهجرة الجماعيّة للطيور مثلاً، مسألة تمثل نموذجاً

ص: 179


1- سورة الحج، الآية: 27-28.

عالي الانسجام من نماذج الفعالية الجمعية. ونجد الأمر نفسه في تجمعات النمل والنحل وغيرها.

وكل ذلك برهان عقلي على أهمية الحياة الاجتماعية وضرورتها.

إذن، مسألة الاجتماع من أساسيات بقاء ودوام المخلوقات وعلى رأسها الإنسان.

والحج يمثل أرقى وأشرف تجمع للإنسانية لما يتضمنه من فوائد ومنافع روحية، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ}(1) هذا الذكر ينمّي في الإنسان روح التعاون والمحبة.

فائدة الحج

قال تعالى: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ} اللام هنا للتعليل، والمعنى: يأتون لشهادة منافع لهم، أو: يأتون فيشهدوا منافع لهم، وقد أطلقت كلمة المنافع، ولم تتقيد بالدنيوية أو الأخروية.

والمنافع نوعان:

الأولى: منافع دنيوية، وهي التي تتقدم بها حياة الإنسان الاجتماعية، ويصفو بها العيش، وترفع بها الحوائج المتنوعة، وتكمل بها النواقص المختلفة، من أنواع التجارة والسياسة والولاية والتدبير والتعاضدات الاجتماعية.

فإذا اجتمعت أقوام وشعوب المسلمين من مختلف بقاع الأرض وأصقاعها، على ما بينهم من اختلاف في الأنساب والألوان والسنن والآداب، ثم تعارفوا بينهم على كلمة واحدة هي كلمة الحق، وإله واحد هو اللّه سبحانه، ووجهتهم واحدة، وهي الكعبة المشرفة.

ص: 180


1- سورة الحج، الآية: 28.

حينئذ يكون أداء شعائر الحج يؤدي إلى حالة اتحاد المشاعر والأحاسيس الدينية؛ وبذلك تتحد القلوب، وتتوافق الأقوال والأفعال، ويعيش الكل حالة الأمة الواحدة، ويحملون همّاً واحداً، بعد أن تخمد النعرات، وتذوب الاختلافات في بحر من الانسجام والاجتماع.

فنرى أن الحج مثلاً، ينفع كثيراً من الناحية الاقتصادية والتبادل التجاري، بانتقال أنواع السلع، واكتساب تجارب الآخرين بعد الإطلاع عليها.

كما وينفع في إشباع غريزة حبّ الاستطلاع والسياحة والمشاهدة للبلاد الأخرى. فضلاً عن المنافع الأخلاقية والفوائد الروحية الناشئة من الأجواء المعنوية التي يسببها الحج.

والثانية: منافع أخروية، وهي وجوه التقرب إلى اللّه تعالى بما يمثل عبودية الإنسان من قول وفعل، وعمل الحج بما له من مناسك تتضمن أنواع العبادات، من التوجه إلى اللّه عزّ وجلّ، وترك لذائذ الحياة، وشواغل العيش، والسعي إليه عزّ وجلّ ، بتحمل المشاق والطواف حول بيته، والصلاة، والتضحية، والإنفاق، والصيام، وغير ذلك. والحج بما فيه من مناسك يمثل دورة كاملة في مسيرة التوحيد ونفي الشريك.

ومن المنافع الأخروية الثواب الإلهي العظيم، وقد وردت الأحاديث والمرويات عن ثواب الحج وعظيم الأجر للإنسان الحاج.

فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام): «أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لقيه أعرابي فقال له: يا رسول اللّه، إني خرجت أريد الحج ففاتني وأنا رجلٌ مميلٌ(1)، فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج، قال: فالتفت إليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 181


1- مميل: أي صاحب ثروة ومال كثير.

فقال له: «انظرإلى أبي قبيس، فلو أن أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل اللّه ما بلغت به ما يبلغ الحاج، ثم قال: إن الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلّا كتب اللّه له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفاً ولم يضعه إلّا كتب اللّه له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، قال: فعدد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذا وكذا موقفاً إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه، ثم قال: أنى لك أن تبلغ ما يبلغ الحاج؟!» قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «و لا تكتب عليه الذنوب أربعة أشهر، وتكتب له الحسنات إلّا أن يأتي بكبيرة»(1).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «للحاج والمعتمر إحدى ثلاث خصال: إما يقال له: قد غفر لك ما مضى وما بقي، وإما يقال له: قد غفر لك ما مضى، فاستأنف العمل، وإما يقال له: قد حفظت في أهلك وولدك، وهي أخسهن»(2).

وقيل للإمام أبي الحسن(عليه السلام): كيف صار الحاج لا يكتب عليه ذنب أربعة أشهر من يوم يحلق رأسه؟ فقال: «إن اللّه أباح للمشركين الحرم أربعة أشهر إذ يقول: {فَسِيحُواْ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٖ}(3) فأباح للمؤمنين إذا زاروه جلاء من الذنوب أربعة أشهر وكانوا أحق بذلك من المشركين»(4).

ص: 182


1- تهذيب الأحكام 5: 19.
2- وسائل الشيعة 11: 106.
3- سورة التوبة، الآية: 2.
4- المحاسن 2: 335.

كما ورد حثّ شديد في كثير من الأدعية لأن يلحّ الإنسان على ربّه في طلبالتوفيق للحج(1). كل ذلك لما للحج من أهمية عظمى في حياة الفرد الدنيوية والأخروية، ولما له من انعكاسات روحية على المجتمع.

ملاحظة مهمّة

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا ترون أن اللّه سبحانه، اختبر الأولين من لدن آدم صلوات اللّه عليه، إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع فجعلها بيته الحرام الذي جعله للنّاس قياماً(2)، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق(3) الدنيا مدراً(4)، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبال خشنة، ورمال دمثةٍ(5)...»(6).

نفهم من خلال هذه الكلمات الشريفة أن اللّه تعالى جعل الحج إلى بيته بمثابة امتحان واختبار للناس؛ لأن عادة الإنسان أنه يهوى الأماكن الجميلة، والأشياء البرّاقة، فجعل بيته في وسط الصحراء في منطقة وعرة، بعيدة عن ميل الإنسان، ليرى من يؤمن ومن يكفر.

الكعبة وبقاء الدين

اشارة

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»(7).

ص: 183


1- انظر: الأدعية اليومية لكل ليلة في شهر رمضان المبارك.
2- اشارة إلى قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ} سورة المائدة، الآية: 97.
3- النتائق: جمع نتيقة، وهي البقاع المرتفعة، ومكة مرتفعة بالنسبة لما انحط عنها من البلدان.
4- المدر: قطع الطين اليابس، وأقل الأرض مدراً لا ينبت إلّا قليلاً.
5- دمثة: لينة يصعب السير فيها والاستنبات منها.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192، من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.
7- الكافي 4: 271.

هذه الرواية تؤكد حالة التلازم والربط الوثيق بين الدين وبين بيت اللّه الحرام.وكلما بقيت الكعبة كلما كان الدين باقياً، لأنها تجذب المسلمين حولها حتى يفيقوا من سباتهم، وينفضوا غبار الجبت والطاغوت عنهم بالتلبية «لبيك اللّهم لبيك» حيث الولاء الحق؛ ولهذا نجد جميع الطواغيت وعلى مرّ العصور يحاولون طمس معالم بيت اللّه الحرام - الكعبة - واللّه يأبى ذلك.

فقد حاول أبرهة الحبشي ذلك، وقد حكى القرآن قصته في سورة الفيل فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَٰبِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٖ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٖ مِّن سِجِّيلٖ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٖ مَّأْكُولِ}(1). ثم حاول يزيد بن معاوية بعدما قتل الإمام الحسين(عليه السلام) فسيَّر في جيش الحرّة الذي كان يقوده مسلم بن عقبة وعقبه بعد هلاكه الحصين بن نمير إلى مكة لقتال عبد اللّه بن الزبير،وأتوا مكة، فحاصروا ابن الزبير وقاتلوه ورموه بالمنجنيق، وذلك في صفر سنة أربع وستين، واحترقت بشرار نيرانهم أستار الكعبة وسقفها وقرنا الكبش الذي فدى اللّه به إسماعيل(عليه السلام)، وكانا في السقف(2) فأدى ذلك إلى خراب أجزاء كثيرة من الكعبة المشرفة، فأهلك اللّه تعالى يزيد في نفس العام، وأراح الناس من شره.

ونفس الفعل قام به الحجّاج بن يوسف الثقفي بأمر من مولاه عبد الملك بن مروان(3).

كل هذه الحركات التي استهدفت الكعبة الشريفة كان، القصد من ورائها هو: ضرب الإسلام والقضاء على مهد الإسلام ورمزه الخالد بحجّة القضاء على

ص: 184


1- سورة الفيل، الآية: 1-5.
2- انظر تاريخ الخلفاء: 228.
3- انظر بحار الانوار 68: 123.

الحركة التي قامت ضد السلطة الحاكمة.

إذن، المسألة الأساسية لا تتعلق بالقضاء على الحركة المعارضة بقدر ما تتعلق بضرب الكعبة وهدمها ونسفها، وهذه هي المهمة الأولى والهدف الأساس، الذي يتربص له الاستعمار في كل فرصة يراها جيدة. إلّا أنّ اللّه عزّ وجلّ يحبط كل هذه الإرادات الضعيفة التي تريد أن تقضي على الدين الإسلامي، ومن هنا ندرك قول الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»(1).

السفر إلى بيت اللّه الحرام

في ظهيرة أحد الأيام، وفي مدينة كربلاء المقدّسة... كنّا جالسين في بيتنا حول مائدة الطعام، وفي الأثناء دخل أخي(رحمه اللّه)(2) وكان عائداً من الدرس والمباحثة. فجلس ثم بادر قائلاً لوالدي(رحمه اللّه): لقد نويت الذهاب إلى الحج هذا العام فأرجو أن تأذن لي؟ فأذن له والدي. وبالفعل فقد هيأ الحقائب ومستلزمات السفر، وسافر في عصر نفس اليوم... .

والشاهد هنا، أن السفر في تلك الأيام لأداء فريضة الحج كان بهذه السهولة والبساطة، أما اليوم فقد أدخلوا تعقيدات وقيود لها أول وليس لها آخر، من قبيل العمر والجوازات والعدد المعين، وليس هذا فحسب بل تدخلوا حتى في عبادات الحج الأخرى، والضغط على الحجاج في أماكن العبادة، وأخذوا يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بحياة الحاج اليومية، فهنا لا بد أن تقيم أيها الحاج، وغداً تذهب إلى زيارة أبي ذر (رضوان اللّه عليه)، وفي الساعة الكذائية عليك أن

ص: 185


1- الكافي 4: 271.
2- هو آية اللّه السيد حسن بن السيد مهدي الشيرازي.

تطوف. وهكذا فالحرية التي كان يتمتع بها الحاج سابقاً قد صودرت تحتحجج وأعذار وكلام مزيف ليس وراءه إلّا ما يريب، فلا يمكن بعد ذلك تطبيق الآية الكريمة: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ}(1) وقد روى الإمام الصادق(عليه السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: «سافروا تصحّوا، وجاهدوا تغنموا، وحجّوا تستغنوا»(2).

فإذا أردنا أن يكون الحج في يومنا هذا كما كان في زمن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أو على الأقل كما كان عليه في زمن آبائنا وأجدادنا، فيجب أن نعمل على نشر الأفكار المتحضرة بين المسلمين، وأن نوقظ بعض المسلمين من سباتهم، وذلك بتوعيتهم وتحريرهم من الأُصر والأغلال التي وضعتها أنظمة الحكم الجائرة على أعناقهم، ومن ثم نوضح لهم ونبيّن خطأ التصورات والمفاهيم التي تروج لها السلطات الجائرة، لتطبع الإسلام بصفات بعيدة عن روحه وأصالته، واصمةً إياه بطابع الحزبية الضيّق وطابع القومية البغيض.

فالعمل أولاً على تحرير إرادة المسلمين فرداً فرداً، لكي يكون اختيارهم سليماً، ولأجل أن يميزوا بين الحكومات الباطلة والحقة، فإن الاختيار من لوازم الإرادة، وكلما قويت الإرادة كان الاختيار صحيحاً وبالعكس.

فالحج أقوى مظهر إسلامي، ومن خلاله يوصل المسلمين أفكارهم وآراءهم حول الكون والحياة، وكل ما يتعلق بعقيدتهم إلى كل بقاع العالم. والحج من أعظم الوسائل التي يستطيع خلالها المسلمون إظهار القوة والعزة والمنعة؛ لأنّ إظهار القوة أمام العدو واجب شرعي، ليرى أعداء الإسلام قوة الإسلام وتماسك الأمة الإسلامية فيرتدعوا عن غيّهم وتآمرهم علينا، والعودة إلى الإسلام والإيمان

ص: 186


1- سورة الحج، الآية: 28.
2- المحاسن 2: 345.

الحقيقي هو الطريق الوحيد الذي يوصل المسلمين إلى منابع القوة والهيبة،ويجعلهم أمة عزيزة كريمة تستطيع مواجهة الأعداء وإفشال مؤامراتهم وكيدهم، فالحج عبادة تعبّئ المسلم وترفده وتزيده قوة فلا يخشى أية قوة مهما تجبرت وطغت، وكيف يخشى المسلم تلك القوى وهو مؤمن بأنها أمام قوة اللّه تعالى ليست شيئاً مذكوراً.

صلاة الجماعة بإمامة الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه)

والأمر الآخر: والذي يقوّي المسلمين هو اتصالهم بعضهم ببعض في الحج ومن كافة الدول والأقطار، فيؤدي ذلك إلى رفع مستوى الوعي السياسي عند المسلمين.

إن الحج قبل (36 عام)، والذي شاهدته أنا بعيني، كان عبارة عن محور لاتحاد عميق بين المسلمين، بمختلف الجنسيات واللغات، وكانوا متآلفين منسجمين متحدين مع بعضهم، وكان هذا عاملاً مهماً في اطّلاع البعض على أحوال البعض الآخر. وهناك مظاهر أخرى تكشف عن روح التلاحم، ومن المصاديق الواقعية التي تثبت وجود مثل هذه الروح التواقة للتوادّ والانسجام أنه حينما أقام والدي(رحمه اللّه) صلاة الجماعة في (باغ مرجان) في المدينة المنوّرة انضمّ إليه جمع غفير من السنّة والشيعة والأبيض والأسود من كل طوائف المسلمين على اختلاف ألوانهم وبلدانهم، وهم يقفون خلفه لأداء صلاة الجماعة، إلّا أنّ الأيادي المعادية للإسلام والتي تهددها وحدة المسلمين، وقفت أمام هذا الاتحاد العظيم، وعملت على تقليصه ثم تفتيته، وفرض برامج خاصة على الحجاج يجب أن يلتزموا بها.

وهناك روايات تؤكد أن الهدف من الحج هو ذكر اللّه أولاً، ثم التأسي برسول

ص: 187

اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فحينما يشاهد الناس آثاره(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومشاهده الكريمة، فإنهم يستذكرونويعيشون أيام اللّه، وبزوغ أنوار الرسالة الخاتمة، ويتذكرون أتعاب وتضحيات وجهود الرسول العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أجل تثبيت أسسها وأركانها. أما التبادل الثقافي والتعرف على مشاكل المسلمين وإيجاد الحلول المناسبة لها، فهي من ضروريات الاهتمام بأمور المسلمين. فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال:

«... فجعل فيه الاجتماع من المشرق والمغرب، ليتعارفوا وليتربح كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كل قوم إنما يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقط الجلب والأرباح وعميت الأخبار، ولم يقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج»(1).

ولعل أهم شيء هو قوله(عليه السلام): «وعميت الأخبار» فإنّ الحج نافذة واسعة تعطي فرصة عظيمة للمسلمين في تبادل الأخبار، لأن عادة السلطات الجائرة تمنع الأخبار المهمة التي تخصّ المسلمين عن شعبها المسلم فتحاول التكتم عليها فالحج يفتح هذه الفرصة، ولذلك يقول الإمام(عليه السلام) لولا الحج ل«عميت الأخبار»، أي لأصبح هناك مانع من انتشار الأخبار إلى المسلمين الباقين.

فهذه الأمور المستفادة من الحج إضافة إلى العبادة والغفران.

التأسي بالإمام الحسين(عليه السلام)

جاء عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «لما أمر اللّه تبارك وتعالى إبراهيم(عليه السلام) أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش، الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم(عليه السلام) أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل(عليه السلام) بيده، وأنه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه، ليرجع إلى قلبه ما

ص: 188


1- علل الشرائع 2: 405.

يرجع إلى قلب الوالد، الذي يذبح أعزّ ولده بيده، فيستحق بذلك أرفع درجات أهلالثواب على المصائب، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، من أحب خلقي إليك؟ فقال: يا رب ما خلقت خلقاً هو أحب إلي من حبيبك محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم). فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، أفهو أحب إليك أو نفسك؟ قال: بل هو أحب إلي من نفسي، قال: فولده أحب إليك أو ولدك؟ قال: بل ولده. قال: فذبح ولده ظلماً على أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟

قال: يا رب بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.

قال: يا إبراهيم فإن طائفة تزعم أنها من أمة محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ستقتل الحسين(عليه السلام) ابنه من بعده ظلماً وعدواناً، كما يذبح الكبش، فيستوجبون بذلك سخطي. فجزع إبراهيم(عليه السلام) لذلك وتوجع قلبه، وأقبل يبكي. فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، قد قبلت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك، بجزعك على الحسين(عليه السلام) وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، فذلك قول اللّه عزّ وجلّ: {وَفَدَيْنَٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٖ}(1) ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم»(2).

ولا شك من أن الامتحانات الصعبة التي جرت على إبراهيم(عليه السلام) كانت بأمر اللّه تعالى له بذبح ابنه إسماعيل الذي أعانه في ما بعد في بناء الكعبة المشرفة. واللّه تعالى كان دائماً يذكّر الأنبياء بمأساة الحسين(عليه السلام) ليكون شخصه وعمله دافعاً قوياً لحركتهم، وسبباً لبلوغهم أعلى مراتب الثواب، كما مرّ مع شيخ الأنبياء إبراهيم، وابنه(عليهما السلام)، فلقد حصل إبراهيم على أعلى درجات الثواب من خلال بكائه وحزنه على أبي عبد اللّه(عليه السلام).

ص: 189


1- سورة الصافات، الآية: 107.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 209.

إذن تبقى مأساة الحسين فريدةً من نوعها ولا يصل أحد إلى درجة الصبروالاحتساب التي وصل إليها الحسين(عليه السلام)، لذلك أعلم اللّه ذلك المعنى إلى إبراهيم(عليه السلام)، لكي لا يتصور إبراهيم الخليل أن عمله هذا هو أعظم مصاباً وأثقل امتحاناً، بل أن مصاب أبي عبد اللّه(عليه السلام) أعظم منه، لذلك فدى اللّه إسماعيل بكبش عظيم من جنّته. وأن الإمام الحسين(عليه السلام) أشرف بكثير من الكعبة، ولولا حركته وثورته العظيمة على الباطل لما بقيت الكعبة، ولما بقي الحج بصورته الصحيحة إلى يومنا هذا.

زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)

ونجد في الروايات أن زيارة الحسين(عليه السلام) تعدل كذا حجّة وكذا عمرة.

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «من زار الحسين فقد حجّ واعتمر» فقيل: تطرح عنه حجّة الإسلام؟ قال: «لا هي حجّة الضّعيف حتّى يقوى ويحجّ إلى بيت اللّه الحرام - إلى أن قال - وإنّ الحسين لأكرم على اللّه من البيت؛ فإنّه في وقت كلّ صلاةٍ لينزل عليه سبعون ألف ملك شعث غبر لا تقع عليهم النّوبة إلى يوم القيامة، وإنّ البيت يطوف به سبعون ألف ملك كلّ يوم»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «من زار الحسين(عليه السلام) يوم عرفة عارفاً بحقّه كتب اللّه له ألف حجّة مقبولة وألف عمرة مبرورة»(2).

وعن أبي سعيد المدائني قال: دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فقلت: جعلت فداك آتي قبر الحسين(عليه السلام)؟ قال: «نعم يا أبا سعيد، فائت قبر ابن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أطيب الطيبين وأطهر الطاهرين وأبر الأبرار، فإذا زرته كتب اللّه لك به خمساً

ص: 190


1- وسائل الشيعة 14: 453.
2- وسائل الشيعة 14: 463.

وعشرين حجة»(1).

وعن شهاب عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سألني فقال: «يا شهاب، كم حججت من حجة؟» فقلت: تسعة عشرة حجة فقال لي: «تممها عشرين حجة تحسب لك بزيارة الحسين(عليه السلام)»(2).

وعن صالح النيلي قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من أتى قبر الحسين(عليه السلام) عارفاً بحقه كان كمن حج مائة حجة مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(3).

وقال(عليه السلام): «من زار الحسين(عليه السلام) كتب اللّه له ثمانين حجة مبرورة»(4).

وعن موسى بن القاسم الحضرمي قال: قدم أبو عبد اللّه(عليه السلام) في أول ولاية أبي جعفر فنزل النجف فقال: «يا موسى اذهب إلى الطريق الأعظم فقف على الطريق فانظر، فإنه سيأتيك رجل من ناحية القادسية فإذا دنا منك فقل له: هاهنا رجل من ولد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدعوك فسيجي ء معك» قال: فذهبت حتى قمت على الطريق والحر شديد فلم أزل قائماً حتى كدت أعصي وأنصرف وأدعه، إذ نظرت إلى شيء يقبل شبه رجل على بعير، فلم أزل أنظر إليه حتى دنا مني فقلت: يا هذا، هاهنا رجل من ولد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدعوك وقد وصفك لي، قال: اذهب بنا إليه قال: فجئت به حتى أناخ بعيره ناحية قريباً من الخيمة فدعا به، فدخل الأعرابي إليه ودنوت أنا فصرت إلى باب الخيمة أسمع الكلام ولا أراهم.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من أين قدمت؟» قال: من أقصى اليمن قال: «أنت من موضع كذاو كذا؟» قال: نعم، أنا من موضع كذا وكذا قال: «فبما جئت

ص: 191


1- الكافي 4: 581.
2- كامل الزيارات: 162.
3- كامل الزيارات: 162.
4- كامل الزيارات: 162.

هاهنا؟»قال: جئت زائراً للحسين(عليه السلام)، فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «فجئت من غير حاجة ليس إلّا للزيارة؟» قال: جئت من غير حاجة إلّا أن أصلي عنده وأزوره فأسلم عليه وأرجع إلى أهلي، فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «وما ترون في زيارته؟» قال: نرى في زيارته البركة في أنفسنا وأهالينا وأولادنا وأموالنا ومعايشنا وقضاء حوائجنا قال: فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أ فلا أزيدك من فضله فضلاً يا أخا اليمن؟» قال: زدني يا ابن رسول اللّه قال: «إن زيارة الحسين(عليه السلام) تعدل حجة مقبولة زاكية مع رسول اللّه» فتعجب من ذلك قال: «إي واللّه وحجتين مبرورتين متقبلتين زاكيتين مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)» فتعجب، فلم يزل أبو عبد اللّه(عليه السلام) يزيد حتى قال: «ثلاثين حجة مبرورة متقبلة زاكية مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1).

وعن يزيد بن عبد الملك قال: كنت مع أبي عبد اللّه(عليه السلام) فمر قوم على حمير فقال لي: «أين يريدون هؤلاء؟» قلت: قبور الشهداء قال: «فما يمنعهم من زيارة الغريب الشهيد؟» فقال له: رجل من أهل العراق زيارته واجبة؟ فقال: «زيارته خير من حجة وعمرة وعمرة وحجة - حتى عد عشرين حجة وعشرين عمرة - مبرورات متقبلات» قال: فو اللّه ما قمت حتى أتاه رجل فقال: إني قد حججت تسع عشرة حجة فادع اللّه أن يرزقني تمام العشرين قال: «فهل زرت الحسين(عليه السلام)» قال: لا قال: «لزيارته خير من عشرين حجة»(2).

الاستعمار وشعائرنا الدينية

اشارة

تبين ممّا تقدم أنّ من الأهداف الأساسية للحج اتحاد وتعارف واختلاط المسلمين، وهذا الأمر يؤدي إلى قوة المسلمين، وانتشار أخبارهم في كل بقعة

ص: 192


1- كامل الزيارات: 162.
2- كامل الزيارات: 163.

معمورة يسكنونها مما يجعل التلاحم سريعاً والتوادد كبيراً في ما بينهم.

ومن هنا تحرك الاستعمار أمام هذه التظاهرة العبادية، فوقف رئيس الوزراء البريطاني أمام مجلس العموم وقال لهم: إذا أردتم أن يكون لكم في البلاد الإسلامية موطئ قدم، فيجب أن تعملوا على رفع القرآن منهم، وإيقافهم عن الحج(1).

فبدأوا بوضع العراقيل أمام هذه المسيرة الإلهية العظيمة وأمام هذه الشعائر الجليلة، لأنهم أدركوا المغزى البعيد من الحج، فبدأت القلوب ترتجف من هذا الزحف الإسلامي العظيم، متوقعين بين لحظة وأخرى أن هذه الجموع تزحف نحوهم، لتقضي على كل هياكل الظالمين. وعادة الاستعمار جارية على أن لا يتحرك هو بنفسه، بل يحرّك أذنابه، ومن يدور في فلكه، ومن نصّبه لأجل هذه الأهداف. فبدأوا بوضع مختلف العراقيل أمام فريضة الحج منها:

تقليص عدد الحجاج وفرض رقم خاص، بحجة أن الأماكن العبادية مثل عرفات لا تستوعب أكثر من هذا العدد. بينما تواترت الروايات الشريفة على أن عرفات لها نقطة مركزية خاصة ولكن إذا ضاق المكان بالناس فلا يكلفون فوق طاقتهم ووسعهم، فإن اللّه تعالى أعطى رخصة عامة ووسّع منطقة الوقوف فيها. إضافة إلى باقي التسهيلات الإلهية العظيمة، مثل: من لم يجد الهدي فبدله صيام عشرة أيام ومن لم يستطع رمي الجمرات نهاراً فليرمها ليلاً، وغيرها الكثير من التسهيلات فضلاً عن تسهيل مسألة الحج بصورة كلية من ناحية الرزق والتوفيق. وكل هذه التسهيلات والرخص الإلهية من قبل المولى جلّ وعلا؛ نظراً لأهمية الحج وفائدته الحضارية، في انتشار القيم وبناء هيكل إسلامي موحد وحصين،

ص: 193


1- القائل هو رئيس الوزراء البريطاني وليم غلادستون (1809-1898م).

إضافة إلى فوائده الروحية الكثيرة(1).

والاستعمار يدرك هذا المعنى فعمل على خلق وصياغة معوّقات أمام مسيرة الإسلام الظافرة، فخلقوا مذاهب وتيارات جديدة باسم الإسلام، ولكنها تعارض كل المسلمين في كل شي فكراً وعقيدة وسلوكاً مثل الوهابية ليكونوا حجر عثرة أمام الإسلام والمسلمين، إذ قاموا بهدم قبور أئمة البقيع (صلوات اللّه عليهم)، وقبور الصحابة والأعلام أمثال قبر عبد المطلب وأبي طالب وخديجة وآمنة بنت وهب وغيرهم (رضوان اللّه عليهم أجمعين) بغية خلق جوّ من التوتر والتشنّج بين المسلمين، وزيادة مظاهر التشاحن والطعن في ما بينهم. إضافة إلى الأفكار المغلّفة بأغلفة إسلامية وباطنها ليس من الإسلام في شيء. والهدف في صناعة هذه التيارات والاتجاهات المنحرفة هو القضاء على كل مظهر من مظاهر الوحدة الإسلامية، حتى وإن كان شكلياً فضلاً عن محاربة الحج الذي يعدّونه من أقوى مظاهر الاتحاد والتلاحم بين المسلمين.

ما هو المطلوب؟

إن الطريق الذي نستطيع به إزالة العراقيل التي وضعها الاستعمار الكافر لطمس وتشويه شعائرنا، هو القلم والبيان والخطاب حتى يصل صوتنا إلى كل بقاع المسلمين، جادين مخلصين في القضاء على حالات الجهل، وحالة عدم الوعي عند المسلمين، والتي يستغلها الاستعمار وأعداء الإسلام لتمرير مخططاته الخبيثة. وأن نهتم اهتماماً كبيراً بالمستوى الثقافي وزيادة الوعي. وأن يكون شعورنا بالمسؤولية شعوراً يتوازن مع خطورة الأحداث التي تجري في

ص: 194


1- انظر كتاب ليحج خمسون مليوناً كل عام، ولكي يستوعب الحج عشرة ملايين، وراجع الفقه كتاب الحج للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

الحج وعلى ساحتنا الإسلامية، إذ أن الاهتمام بأمور المسلمين وقضاياهم يعدّ ضرورة شرعية وواجباً إسلامياً تقع على عاتق جميع المسلمين، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(1).

وقال(عليه السلام) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2).

والمهم أن لا يستصغر المسلم نفسه، بل عليه أن يخرج من الحالة الانهزامية الداخلية، ويصبح ثورة على الواقع الخاوي. وأن يقف بوجه تحركات الاستعمار وأذنابه، لا سيّما في المناطق الإسلامية؛ لأن الاستعمار مهما عمل من عمل فهو على المستوى القريب والبعيد لا يخدم المسلمين ولا الإسلام، وإن كان في ظاهره يحمل طابعاً إسلامياً، ذلك لعدم وجود أي نقطة اشتراك والتقاء بين الإسلام والاستعمار، فالأول يدعو إلى اللّه عزّ وجلّ وتعبيد الناس له لأنه خالقهم وله حق الطاعة وتحريرهم من أي سيطرة استعبادية لغيره، بينما الاستعمار يدعو إلى القضاء على فكرة الدين والخالق والعبادة، ويسعى نحو استعباد الناس له، وامتصاص خيرات بلادهم.

«إلهي أغنني بتدبيرك لي عن تدبيري، وباختيارك عن اختياري وأوقفني على مراكز اضطراري، إلهي أخرجني من ذلّ نفسي، وطهّرني من شكي وشركي قبل حلول رمسي، بك أنتصر فانصرني وعليك أتوكل فلا تكلني وإيّاك أسأل فلا تخيّبني وفي فضلك أرغب فلا تحرمني»(3) بحق محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 195


1- الكافي 2: 164.
2- الكافي 2: 164.
3- بحار الأنوار 95: 226.

من هدي القرآن الحكيم

الشريعة تدعو إلى اللّه
1- الوحدة والاجتماع

قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

وقال سبحانه: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(4).

2- الحج

قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ}(5).

وقال سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ * فِيهِ ءَايَٰتُ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(6).

ص: 196


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة المؤمنون، الآية: 52.
3- سورة آل عمران، الآية: 103.
4- سورة آل عمران، الآية: 105.
5- سورة الحج، الآية: 27.
6- سورة آل عمران، الآية: 96-97.
3- إيقاظ الفكر

قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَاإِلَّا بِالْحَقِّ}(1).

وقال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

علة فريضة الحج

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وفرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه ولوه الحمام، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته، واختار من خلقه سُماعاً أجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علماً، وللعائذين حرماً، فرض حقه وأوجب حجه، وكتب عليكم وفادته، فقال سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}»(4)(5).

ص: 197


1- سورة الروم، الآية: 8.
2- سورة النحل، الآية: 44.
3- سورة الروم، الآية: 21.
4- سورة آل عمران، الآية: 97.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 1 في خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها بدء الخلق... .
ولتعرف آثار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره

سئل الإمام الصادق(عليه السلام): عن العلة التي من أجلها كلف اللّه العباد الحج والطواف بالبيت؟ فقال: «إن اللّه تعالى خلق الخلق - إلى أن قال - وأمرهمونهاهم ما يكون من أمر الطاعة في الدين ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من المشرق والمغرب ليتعارفوا، وليتربَّح كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كل قوم إنما يتكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح وعميت الأخبار، ولم يقفوا على ذلك، فذلك علة الحج»(1).

الوفادة إلى اللّه

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «إنما أمروا بالحج لعلّة الوفادة إلى اللّه عزّ وجلّ وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف العبد، تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد وحظر النفس عن اللذات، شاخصاً في الحر والبرد، ثابتاً على ذلك، دائماً مع الخضوع والاستكانة والتذلل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها ومن في البر والبحر، ممن يحج وممن لم يحج، من بين تاجر وجالب وبائع ومشتر وكاسب ومسكين ومكار وفقير وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع، الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه، ونقل أخبار الأئمة(عليه السلام) إلى كل صقع وناحية، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ

ص: 198


1- علل الشرائع 2: 405.

إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1) و: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ}»(2)(3).

نداء إبراهيم(عليه السلام)

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «إن اللّه لما أمر إبراهيم ينادي في الناس الحج قام على المقام فارتفع به حتى صار بإزاء أبي قبيس، فنادى في الناس بالحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أن تقوم الساعة»(4).

هذا بيت استعبد اللّه به خلقه

وعن الفضل بن يونس قال: أتى ابن أبي العوجاء الصادق(عليه السلام) فجلس إليه في جماعة من نظرائه ثم قال له: يا أبا عبد اللّه، إن المجالس أمانات ولا بد بكل من كان به سعال أن يسعل، فتأذن لي في الكلام؟

فقال الصادق(عليه السلام): «تكلم بما شئت».

قال ابن أبي العوجاء: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، من فكر في هذا أو قدر علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه ونظامه؟

فقال الصادق(عليه السلام): «إن من أضله اللّه وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذبه، وصار الشيطان وليه يورده مناهل الهلكة ثم لا يصدره، وهذا بيت استعبد اللّه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وقد

ص: 199


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة الحج، الآية: 28.
3- وسائل الشيعة 11: 13.
4- وسائل الشيعة 11: 15.

جعله محل الأنبياء، وقبلة المصلين له، وهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجتمع العظمة، خلقه اللّه قبل دحو الأرض بألفي عام، وأحق من أطيع في ما أمر وانتهى عمّا نهى عنه وزجر اللّه المنشئ للأرواحوالصور»(1).

لا تتركوا الحج

قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «لا تتركوا حج بيت ربكم، لا يخل منكم ما بقيتم، فإنكم إن تركتموه لم تنظروا، وإن أدنى ما يرجع به من أتاه أن يغفر له ما سلف»(2).

وقال(عليه السلام): «ولا تتركوا حجّ بيت ربّكم فتهلكوا - وقال(عليه السلام) - من ترك الحج لحاجة من حوائج الدنيا لم تقض حتى ينظر إلى المحلقين»(3).

ثواب الحاج

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلّا كتب اللّه له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفاً ولم يضعه إلّا كتب اللّه له مثل ذلك، وإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، وإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، وإذا وقف بالمشعر خرج من ذنوبه، وإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، فعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذا وكذا موطناً كلها تخرجه من ذنوبه، ثم قال: فأنى لك أن تبلغ ما بلغ الحاج»(4).

ص: 200


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 617.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 522.
3- وسائل الشيعة 11: 23.
4- ثواب الأعمال: 47.
تتسع أرزاقكم

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «حجوا واعتمروا، تصح أجسامكم وتتسع أرزاقكم، وينصلح إيمانكم، وتكفّوا مؤنة عيالكم»(1).قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «قال علي بن الحسين(عليهما السلام): حجوا واعتمروا تصح أبدانكم وتتسع أرزاقكم وتكفون مئونات عيالكم، وقال: الحاج مغفور له، وموجوب له الجنة، ومستأنف له العمل، ومحفوظ في أهله وماله»(2).

من أمّ هذا البيت

قال الإمام أبو جعفر الباقر(عليهما السلام): «من أَمّ هذا البيت حاجاً أو معتمراً مبرأً من الكبر، رجع من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، ثم قرأ: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ}»(3)(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «الحاج يصدرون على ثلاث أصناف: صنف يعتق من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وصنف يحفظه في أهله وماله، فذاك أدنى ما يرجع به الحاج»(5).

إذا أردت الحج

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك للّه عزّ وجلّ من قبل عزمك من كلّ شاغل وحجب كل حاجب، وفوّض أمورك كلها إلى خالقها، وتوكّل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكونك، وسلّم لقضائه وحكمه

ص: 201


1- ثواب الأعمال: 47.
2- الكافي 4: 252.
3- سورة البقرة، الآية: 203.
4- الكافي 4: 252.
5- ثواب الأعمال: 48.

وقدره، ودع الدّنيا والرّاحة والخلق، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوّتك وشبابك ومالك؛ مخافة أن تصير ذلك أعداءاً ووبالاً؛ ليعلم أنّه ليس له قوّة ولا حيلة، ولا حد إلّا بعصمة اللّه تعالى وتوفيقه. واستعدّ استعداد من لا يرجو الرّجوع، وأحسنالصّحبة، وراع أوقات فرائض اللّه تعالى وسنن نبيّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصّبر والشّكر والشّفقة والسّخاء وإيثار الرّاد على دوام الأوقات.ثمّ اغتسل بماء التّوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصّدق والصّفاء والخضوع والخشوع. وأحرم عن كلّ شيء يمنعك عن ذكر اللّه عزّ وجلّ ويحجبك عن طاعته. ولبّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية للّه عزّ وجلّ في دعوتك، له متمسّكاً بالعروة الوثقى. وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت. وهرول هرولة فرّاً من هواك، وتبرّياً من جميع حولك وقوّتك، واخرج من غفلتك وزلاتك بخروجك إلى منى. ولا تمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه. واعترف بالخطأ بالعرفات، وحدّد عهدك عند اللّه تعالى بوحدانيّته وتقرّب إليه واتّقه بمزدلفة. واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل. واذبح حنجرة الهوى والطّمع عند الذّبيحة. وارم الشّهوات والخساسة والدّناءة والأفعال الذّميمة عند رمي الجمارات. واحلق العيوب الظّاهرة والباطنة بحلق شعرك. وادخل في أمان اللّه تعالى وكنفه وستره وحفظه وكلائه من متابعة مرادك بدخول الحرم وزر البيت متحففاً لتعظيم صاحبه ومعرفته وجلاله وسلطانه. واستلم الحجر رضًى بقسمته وخضوعاً لعظمته. ودع ما سواه بطواف الوداع. وصف روحك وسرّك للقاء اللّه تعالى يوم تلقاه بوقوفك على الصّفا. وكن ذا مروة من اللّه بفناء اوصافك عند المروة. واستقم على شرط حجّك

ص: 202

ووفاء عهدك الّذي عاهدت ربّك، وأوجبته له يوم القيامة. واعلم بأنّ اللّه لم يفترض الحجّ ولم يخصّه من جميع الطّاعات بالإضافة إلى نفسه، بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَىالنَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}(1) ولا شرع نبيّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في خلال المناسك على ترتيب ما شرعه إلّا للاستعداد والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة، وفضل بيان السّبق من دخول الجنّة أهلها. ودخول النّار أهلها بمشاهدة مناسك الحجّ من أوّلها إلى آخرها لأولي الألباب وأولي النّهى»(2).

الحج على الجميع

عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): الحج على الغني والفقير؟ فقال: «الحج على الناس جميعاً، كبارهم وصغارهم فمن كان له عذر عَذَره اللّه»(3).

ترك الحج بغير عذر

وسئل جعفر بن محمد(عليهما السلام): عن الرجل يسوف الحج، لا تمنعه إلّا تجارة تشغله أو دين له؟ قال: «لا عذر له ليس ينبغي له أن يسوف الحج، وإن مات فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام»(4).

وعنه(عليه السلام) أنه قال: «من مات ولم يحج حجة الإسلام لم تمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه فليمت يهودياً أو نصرانياً»(5).

ص: 203


1- سورة آل عمران، الآية: 97.
2- مصباح الشريعة: 47.
3- الكافي 4: 265.
4- بحار الأنوار 96: 22.
5- الكافي 4: 269.
من أراد الحج

عن عبد اللّه بن الفضل قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إن علي ديناً كثيراً ولي عيالولا أقدر على الحج، فعلمني دعاءً أدعو به.

فقال: «قل في دبر كل صلاة مكتوبة: اللّهم صل على محمد وآل محمد، واقض عني دين الدنيا ودين الآخرة» فقلت له: أما دين الدنيا فقد عرفته، فما دين الآخرة؟ فقال: «دين الآخرة الحج»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «من قال ألف مرة: لا حول ولا قوة إلّا باللّه، رزقه اللّه تعالى الحج، فإن كان قد قرب أجله أخّره اللّه في أجله حتى يرزقه الحج»(2).

الشريعة تدعو إلى الوحدة والاجتماع

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وألزموا السواد الأعظم فإن يد اللّه مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب»(3).

وقال(عليه السلام): «...إن الشيطان يسني لكم طرقه، ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة، ويعطيكم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة الفتنة، فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته، واقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم واعقلوها(4)

على أنفسكم»(5).

إيقاظ الفكر والتنبه من الغفلة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وأغفل الناس من لم يتعظ بتغير الدنيا من حال إلى

ص: 204


1- معاني الأخبار: 175.
2- بحار الأنوار 96: 27.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 127، من كلام له(عليه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين.
4- يُسني: يُسهل، فاصدفوا: فأعرضوا، نزغاته: وساوسه، اعقلوها: احبسوها على أنفسكم لا تتركوها فتضيع منكم.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 121 قالها(عليه السلام) بعد ليلة الهرير.

حال»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فأفق أيها السامع من سكرتك، واستيقظ من غفلتك، واختصر من عجلتك، وأنعم الفكر في ما جاءك على لسان النبي الأمي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(2).

خشية اللّه

وقال(عليه السلام): «إن للّه عباداً كسرت قلوبهم خشية اللّه فاستنكفوا عن المنطق، وإنهم لفصحاء بلغاء ألباء نبلاء، يستبقون إليه بالأعمال الزاكية، لايستكثرون له الكثير ولا يرضون له القليل، يرون أنفسهم أنهم شرار وإنهم الأكياس الأبرار»(3).

الخير كله

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) أن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «جمع الخير كله في ثلاث خصال: النظر والسكوت والكلام، فكل نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكل سكوت ليس فيه فكرة فهو غفلة، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو لغو، فطوبى لمن كان نظره عبراً، وسكوته فكراً وكلامه ذكراً وبكى على خطيئته وأمن الناس شره»(4).

اتقوا اللّه

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) - في رسالة إلى أصحابه - : «فاتقوا اللّه وكفوا ألسنتكم إلّا من خير - إلى أن قال - وعليكم بالصمت إلّا في ما ينفعكم اللّه به من أمر آخرتكم، ويأجركم عليه، وأكثروا من التهليل والتقديس والتسبيح والثناء

ص: 205


1- معاني الأخبار: 195.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 153 وفيها يعظ الناس.
3- الزهد: 5.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 27.

على اللّه، والتضرع إليه، والرغبة في ما عنده من الخير، الذي لا يقدر قدره ولا يبلغ كنهه أحد، فاشغلوا ألسنتكم بذلك عمّا نهى اللّه عنه من أقاويل الباطل،التي تعقب أهلها خلوداً في النار من مات عليها ولم يتب إلى اللّه ولم ينزع عنها»(1).

الخصال الحسنة

قال أبو جعفر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لم يعبد اللّه عزّ وجلّ بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلا حتى تجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول والشر منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره، ويستقل كثير الخير من نفسه...»(2)

ص: 206


1- وسائل الشيعة 12: 196.
2- روضة الواعظين 1: 7.

في رحاب السيدة المعصومة(عليها السلام)

اشارة

في رحاب السيدة المعصومة(عليها السلام)(1)

ذكرى استشهاد السيدة المعصومة(عليها السلام)

العاشر من شهر ربيع الثاني يصادف - على قول - يوم استشهاد كريمة أهل البيت السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام) بنت الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام).

فبعض العلماء والأساتذة في الحوزة العلمية المباركة قد أعلن اليوم عطلة، والبعض الآخر استمر بالدراسة. ومن المناسب في هكذا أمور أن تنظم من قبل شورى الفقهاء المراجع، وأن تعين شؤون الحوزة بأكثرية الآراء، حتى يزول التشتت والاختلاف، وقد أشار القرآن الحكيم وفي ثلاثة مواضع إلى مسألة الاستشارة وبثلاث صيغ: {شُورَىٰ} و{شَاوِرْهُمْ} و{تَشَاوُرٖ}، والتي تعني أكثرية الآراء. وقد كتبنا حول هذا الموضوع كتاباً تحت عنوان: (الشورى في الإسلام)(2).

ص: 207


1- ألقيت المحاضره في عام (1414ه).
2- من تأليفات الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) تناول سماحته فيه إلى المواضيع التالية: الفصل الأول: توضيح جوانب من الشورى، المشير والمستشير، المشورة، هل تلزم المشورة، هل يلزم المستشار، كم قدر المشورة. الفصل الثاني: تفصيل الحزب وأقسامه، الأحزاب الدكتاتورية، فشل الأحزاب السياسية في العالم الثالث، الهيكلية العامة للأحزاب السياسية، العلاقات الداخلية في التنظيمات، أقسام التمركز، بدل العضوية، الأحزاب الديمقراطية والدكتاتورية، الأحزاب السياسية والمؤسسات الحكومية، النظام القائم على الحزبين، التجمعات الضاغطة، اللجوء إلى السرية، الفرق بين مجموعات النفوذ والأحزاب السياسية، الزعماء الحقيقيون للأحزاب السياسية، الرأي العام، النظام الحزبي، البرلمان، الحزب والانتخابات. الفصل الثالث: جملة من روايات المشورة.

وما لم يتحقق هذا الأمر؛ فإن الاختلافات ستبقى قائمة في الحوزة.قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(1).

وقال سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(2).

وقال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٖ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٖ}(3).

وعلى كل حال فقد رأينا اليوم القيام بعمل وسط بين البحث الفقهي وعدمه، حيث سنبحث بعون اللّه تعالى بحثاً أخلاقياً بالمعنى الأعم في ثلاثة مواضيع:

الموضوع الأول: نبذة عن حياة السيدة المعصومة(عليها السلام)

ولادتها ووفاتها

وُلدت السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام) بنت الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، في غرة ذي القعدة سنة (173ه.) ووردت قم المقدسة في سنة (201ه)، وتوفيت بها مسمومة شهيدة في العاشر من ربيع الثاني من نفس العام.

روي أنها خرجت في طلب أخيها الإمام الرضا(عليه السلام)، فلما وصلت إلى (ساوة) مرضت.

أقول: كان مرضها على أثر السم، على ما سيأتي.

فسألت: كم بيني وبين قم؟

قالوا: عشرة فراسخ.

فأمرت خادمها، فذهب بها إلى قم(4) وأنزلها في بيت موسى بن خزرج بن

ص: 208


1- سورة الشورى، الآية: 38.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة البقرة، الآية: 233.
4- دخلت السيدة المعصومة(عليها السلام) إلى قم المقدسة في تاريخ 23 ربيع الأول عام (201ه ) عن طريق مدينة (ساوة) وفي مثل هذا اليوم يحتفل القميون بقدومها ويزينون الشوارع والأزقة تكريماً لها.

سعد. فكانت فيها ستة عشر يوماً، ثم فارقت الحياة، فدفنها موسى بعد التغسيلوالتكفين في أرض له، وهي التي الآن مدفنها ومزارها، وبنى على قبرها سقفاً من البواري، ثم بنت زينب بنت الإمام الجواد(عليه السلام) عليها قبة، ثم دفنت بجوارها عدد من بنات الإمام الجواد(عليه السلام) وغيرهن من ذراري الأئمة المعصومين(عليهم السلام)(1).

واليوم روضتها المقدسة مزار وملاذ للمؤمنين من مختلف بقاع العالم.

من فضائلها(عليها السلام)

وردت في حق السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام) وفي فضل زيارتها أحاديث عديدة من الأئمة الطاهرين(عليهم السلام).

كما بشّر الإمام الصادق(عليه السلام) بولادتها، وقال بأنها سوف تدفن في قم ولها مقام الشفاعة.

حيث روي عنه(عليه السلام) أنه قال:

«إن للّه حرماً وهو مكة، ألّا إن لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حرماً وهو المدينة، ألّا وإن لأمير المؤمنين(عليه السلام) حرماً وهو الكوفة، ألّا وإن قم الكوفة الصغيرة، ألّا إن للجنة ثمانية أبواب، ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم»(2).

وفي رواية قال الإمام الصادق(عليه السلام): «مرحباً بإخواننا من أهل قم... إن لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة». قال الراوي: وكان هذا الكلام منه(عليه السلام) قبل أن يولد الكاظم(عليه السلام)(3).

ص: 209


1- انظر بحار الأنوار 48: 290.
2- بحار الأنوار 57: 228.
3- مستدرك الوسائل 10: 368.

وفي رواية أخرى قال(عليه السلام): «إن زيارتها تعادل الجنة»(1).

وروى المحدث الجليل صاحب الوسائل في باب استحباب زيارة قبر فاطمة بنت موسى بن جعفر(عليهم السلام) بقم، عن سعد بن سعد قال: سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفر(عليهم السلام) بقم، فقال(عليه السلام): «من زارها فله الجنة»(2).

وعن ابن الرضا (الإمام الجواد) (عليه السلام): «من زار قبر عمتي بقم فله الجنة»(3).

إلى غيرها من الروايات.

وتوفيت مسمومة شهيدة

الميرزا القمي(رحمه اللّه) صاحب القوانين المدفون بقرب الروضة المعصومية المباركة، له عدة مؤلفات قيمة، أشهرها (قوانين الأصول)، وله كتاب آخر على شكل السؤال والجواب تحت عنوان: (جامع الشتات) في ثلاث مجلدات، وهو كتاب فقهي كثير الفائدة وقد اشتمل على بعض الفوائد الأخرى. نقل المرحوم الميرزا في هذا الكتاب روايتين تدل على أن السيدة المعصومة(عليها السلام) قد فارقت الحياة قبل الإمام الرضا(عليه السلام).

حيث أرادت(عليها السلام) الالتقاء بالإمام الرضا(عليه السلام)، وأكبر ظني أنها توجهت بأمر الإمام(عليه السلام) نحو إيران، ثم ما أن وصلت إلى قم حتى فارقت الحياة.

فما كان السبب في وفاتها؟

في البحار: روى مشايخ قم أنه لما أخرج المأمون علي بن موسى الرضا(عليهما السلام) من المدينة إلى المرو في سنة مائتين خرجت فاطمة أخته في سنة إحدى ومائتين تطلبه فلما وصلت إلى ساوه مرضت، فسألت كم بيني وبين قم؟ قالوا عشرة فراسخ،

ص: 210


1- مستدرك الوسائل 10: 368.
2- وسائل الشيعة 14: 576.
3- وسائل الشيعة 14: 576.

فأمرت خادمها فذهب بها إلى قم وأنزلها في بيت موسى بن خزرج بن سعد.

ثم قال: والأصح أنه لما وصل الخبر إلى آل سعد اتفقوا وخرجوا إليها أن يطلبوا منها النزول في بلدة قم، فخرج من بينهم موسى بن خزرج فلما وصل إليها أخذ بزمام ناقتها وجرها إلى قم وأنزلها في داره فكانت فيها ستة عشر يوماً ثم مضت إلى رحمة اللّه ورضوانه، فدفنها موسى بعد التغسيل والتكفين في أرض له وهي التي الآن مدفنها وبنى على قبرها سقفاً من البواري، إلى أن بَنَت زينب بنت الجواد(عليه السلام) عليها قبة(1).

إذن توفيت(عليها السلام) على أثر مرض مفاجئ لم يذكر سبب لهذا المرض.

فما كان السبب في ذلك؟

عند ما كنا في العراق قرأت كتاباً تاريخياً يذكر بأن المأمون العباسي كما قام بقتل الإمام الرضا(عليه السلام) بالسم، كذلك دس السم إلى السيدة المعصومة(عليها السلام) وهي في طريقها لزيارة أخيها بخراسان، فقد استشهدت هي بالسم أيضاً.

وأتصور أن هذا الرأي هو الصحيح، فإن التاريخ لم يذكر سبباً خاصاً في وفاة السيدة المعصومة(عليها السلام) من مرض مسبق أو ما أشبه، في الوقت الذي كانت تلك المخدرة قد رحلت عن الدنيا وهي في شبابها حيث كان عمرها 18، أو 20، أو 28 سنة، من دون أن تكون مسبوقة بمرض أو علة.

وطبقاً لنقل ذلك الكتاب فإن المأمون كان قد سمها(عليها السلام)(2).

ص: 211


1- بحارالأنوار 57: 219.
2- انظر أيضاً كتاب (قم المقدسة رائدة الحضارة): 45، حيث يقول الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) فيه: فلما وصلت السيدة المعصومة(عليها السلام) إلى ساوة، تمرضت، وكان سبب مرضها(عليها السلام) كما في التاريخ أن المأمون كتب إلى عماله أن يدسوا لها السم الفتاك في طعامها، فأثر ذلك السم فيها، وضعفت عن مواصلة سفرها إلى خراسان، ولما أحست بالخطر، سألت(عليها السلام) من معها عن مقدار المسافة الباقية إلى قم...).

كما قام المأمون بقتل إخوتها - بالسيف أو بالسم - في طريقهم لزيارة الإمام الرضا(عليه السلام).

الاغتيالات سياسة الطغاة

وعلى كل، فإن الشيء الذي يملكه حكام الجور هو تلك الاغتيالات التي يقومون بها ضد المؤمنين الأبرياء إما بالسيف، وإما بالسم إن لم يمكنهم السيف، وكان أولهم معاوية الذي قام باغتيال مالك الأشتر (رضوان اللّه عليه) عن طريق سقيه السم بالعسل مما أدى إلى استشهاده، ولما وصل إليه خبر شهادة مالك قال مفتخراً: إن للّه جنوداً من عسل!(1). يعني أن ذلك العسل المسموم هو الذي قضى على مالك واعتبره معاوية أنه من جنود اللّه!

لكن العاقبة للمتقين، حيث ترى اليوم أن قبر مالك الأشتر في مصر أصبح مزاراً للمؤمنين، وقبر معاوية في سوريا عادي مزبلة، ولقد شاهدت بنفسي قبر معاوية وكيف أنها مزبلة.

وبعد معاوية فقد سلك حكام الجور من بني أمية وبني العباس وغيرهم نفس الطريقة لأنها طريقة سهلة ربما لا يفهم بها كل أحد، فقتلوا أكثر الأئمة وذراريهم وأصحابهم بالسم.

عند دفن السيدة المعصومة(عليها السلام)

ورد في التاريخ أنه حضر دفن السيدة المعصومة(عليها السلام) اثنان من الفرسان الملثمين وقاما بدفنها(2)، ولعل لأن السيدة لم يكن لها أقرباء في قم وكانت غريبة.

ص: 212


1- الإختصاص: 81.
2- انظر بحار الأنوار 48: 290؛ 57: 219.

وأحتمل أن يكون هذان الإثنان من إخوتها، فأحدهما الإمام الرضا(عليه السلام) والثانيأخوه، لأن الإمام الرضا(عليه السلام) كان له عدة إخوة، ويحتمل أن يكون الآخر هو الإمام الجواد(عليه السلام)(1).

روى العلامة المجلسي(رحمه اللّه) في البحار: أنه لما توفيت فاطمة(عليها السلام) وغسلوها وكفنوها ذهبوا بها إلى بابلان ووضعوها على سرداب حفروه لها، فاختلف آل سعد بينهم في من يدخل السرداب ويدفنها فيه فاتفقوا على خادم لهم شيخ كبير صالح يقال له قادر فلما بعثوا إليها رأوا راكبين سريعين متلثمين يأتيان من جانب الرملة، فلما قربا من الجنازة نزلا وصليا عليها ودخلا السرداب وأخذا الجنازة فدفناها ثم خرجا وركبا وذهبا ولم يعلم أحد من هما، والمحراب الذي كانت فاطمة(عليها السلام) تصلي إليها موجود إلى الآن في دار موسى بن الخزرج(2).

وعلى كل حال فقد ذكر البعض أن ذلك اليوم الذي استشهدت فيه السيدة المعصومة(عليها السلام)، هو هذا اليوم، ولا بأس بهذا القول، فإنها قد استشهدت في يوم ما، وهذا اليوم أحد محتملات العلم الإجمالي، وهو من تعظيم الشعائر حيث قال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(3).

المدفونون بجوارها

في التاريخ: أن بنات الإمام الجواد(عليه السلام) زينب وأم محمد وميمونة نزلن قم عند أخيهن موسى المبرقع، فلما متن دفنّ عند فاطمة بنت موسى(عليهما السلام)(4).

ص: 213


1- وقد يكون الاحتمال الأخير ضعيفا، وذلك لأن الإمام الجواد(عليه السلام) كان عمره الشريف حينذاك ست أو سبع سنوات. فإن ولادته في العاشر من شهر رجب عام (196ه) أو (195ه )، ووفاة السيدة المعصومة(عليها السلام) في 10 ربيع الثاني (201ه) ، فتأمل.
2- بحارالأنوار 57: 219.
3- سورة الحج، الآية: 32.
4- بحار الأنوار 50: 161 (بيان).

وفي البحار: ثم ماتت أم محمد بنت موسى بن محمد بن علي الرضا(عليه السلام)فدفنوها في جنب فاطمة (رضي اللّه عنها)، ثم توفيت ميمونة أختها فدفنوها هناك أيضاً، وبنوا عليهما أيضاً قبة، ودفن فيها أم إسحاق جارية محمد وأم حبيب جارية محمد بن أحمد الرضا وأخت محمد بن موسى(1).

من كراماتها

نقل لي المرجع الديني آية اللّه العظمى السيد المرعشي النجفي(رحمه اللّه)، أنه في قصة دخل السرداب التي دفنت السيدة المعصومة(عليها السلام) فيه، فرأى جثمانها الطاهر وكأنها دفنت في نفس اللحظة حيث كان البدن الشريف طرياً وذلك بعد أكثر من ألف سنة(2).

ص: 214


1- بحارالأنوار 57: 219.
2- للتفصيل انظر كتاب قم المقدسة رائدة الحضارة: 200، للإمام الشيرازي(رحمه اللّه)، وفيه: نقل لي آية اللّه السيد المرعشي النجفي(رحمه اللّه): أن شقوقاً حدثت في أسطوانات الروضة المباركة للسيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام)، تلك الأسطوانات التي تعتمد عليها القبة الذهبية المنورة، فاستدعي المعمارون لترميم الشقوق وإصلاح الأسطوانات، فقال المعمارون: لأجل الاطمئنان من أن هذه الشقوق الحادثة في الأسطوانات سطحية، وليست عميقة، لابد وأن ينزل أحد إلى السرداب المحيط بالقبر الشريف، ويستعلم حال السرداب والجدران والأعمدة التي تعتمد عليها الأسطوانات. فانتخبوا جماعة من السادة، ومن بينهم السيد المرعشي، للنزول إلى داخل السرداب حيث القبر الشريف، فنزل السيد المرعشي ومن معه من السادة، وإذا بهم يرون السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام) مسجاة باتجاه القبلة، وقد كُشف الكفن عن وجهها المنير، كما هو في مستحبات الدفن، حيث يستحب صنع وسادة من التراب وكشف وجه الميت ووضعه عليها. يقول السيد المرعشي(رحمه اللّه): وكانت كالنائمة أو كالميتة الآن طرية، ويفوح منها رائحة عطر الكافور، وكان كفنها طرياً جديداً أيضاً، وكأنها قد دفنت تواً، وكان لونها حنطاوياً مشبّعاً يميل إلى السمرة الشديدة، كما هو عليه أهل المدينة المنورة، وكانت من حيث السن كأنها في من أبناء العشرينات. هذا وكان إلى جانبها وحواليها نساء أخر، وكانت هي(عليها السلام) تتوسط امرأتين يميل لون وجههما إلى السواد الشديد، حتى كأنهما من وصائف السودان وجواريهما، وكن جميعاً حتى أكفانهن طريات جديدات كأنهن دفنّ اليوم أو البارحة.

وكيف لا يكون كذلك وقد رأي جثمان القطب الراوندي المدفون في صحن فاطمة المعصومة(عليها السلام) طرياً، وذلك عند بناء الصحن الشريف حيث انهدم قبره وظهر جسد الراوندي طرياً بعد سبعمائة عام.

الموضوع الثاني: تاريخ قم وتشيعها

اشارة

إن مدينة قم قد تم فتحها في عهد حكومة الثاني(1)،

حيث إن إيران قد تم فتحها في ذلك الزمان. والكلام يدور حول كيفية تشيعها؛ لأن الثاني كان بعيداً كل البعد عن التشيع والولاء لأهل البيت(عليهم السلام).

حسب التتبع الذي قمنا به فإن التشيع في إيران قد مر بخمسة أدوار:

الدور الأول

كان أول أدوار التشيع قد ظهر في زمن حكومة الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام)؛ لأن الإمام(عليه السلام) كان هو الحاكم المطلق للبلاد الإسلامية، وكما نعلم فإن الحكومة الإسلامية كانت واسعة جداً ومترامية الأطراف، من ليبيا إلى بلاد القوقاز في الإتحاد السوفيتي، وأن إيران كانت جزءاً من هذه الحكومة الكبيرة، وأن الإمام علي(عليه السلام) كان على عكس طريقة الثاني، إذ كان (صلوات اللّه وسلامه عليه) ينظر إلى الإيرانيين بنفس العين التي ينظر بها إلى باقي المسلمين، حيث لا فرق بين عربي وعجمي إلّا بالتقوى.

أما الثاني فقد ميّز بين العرب والعجم بشكل كبير على ما هو مذكور في التاريخ. وهذا ما يخالف القرآن الكريم وسيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجميع تعاليم الإسلام.

فعلى سبيل المثال: إن الثاني لم يسمح للإيرانيين بالدخول إلى المدينة

ص: 215


1- الثاني: كناية عن عمر بن الخطاب.

المنورة، والشيء الآخر أنه اعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية، وكان يقولبأفضلية العرب على غيرهم، ومنع العجم من التزويج من العرب، إلى غير ذلك مما ورد في التاريخ(1)، ونحن لانريد التعرض لهذا.

ص: 216


1- انظر بحار الأنوار 33: 262، وفيه: وفي كتاب معاوية إلى زياد: وانظر إلى الموالي ومن أسلم من الأعاجم فخذهم بسنة عمر بن الخطاب فإن في ذلك خزيهم وذلهم، أن ينكح العرب فيهم ولا ينكحونهم، وأن يرثوهم العرب ولا يرثوا العرب، وأن تقصر بهم في عطائهم وأرزاقهم، وأن يقدموا في المغازي، يصلحون الطريق ويقطعون الشجر، ولا يؤم أحد منهم العرب في صلاة، ولا يتقدم أحد منهم في الصف الأول إذا أحضرت العرب إلّا أن يتم الصف، ولا تول أحداً منهم ثغراً من ثغور المسلمين، ولا مصراً من أمصارهم، ولا يلي أحد منهم قضاء المسلمين ولا أحكامهم، فإن هذه سنة عمر فيهم وسيرته جزاه عن أمة محمد وعن بني أمية خاصة أفضل الجزاء، فلعمري لولا ما صنع هو وصاحبه وقوتهما وصلابتهما في دين اللّه لكنا وجميع هذه الأمة لبني هاشم الموالي ولتوارثوا الخلافة واحداً بعد واحد... إلى أن قال: يا أخي لو أن عمر سن دية الموالي على النصف من دية العربي فذلك أقرب للتقوى لما كان للعرب فضل على العجم فإذا جاءك كتابي هذا فأذل العجم وأهنهم وأقصهم ولا تستعن بأحد منهم ولا تقض لهم حاجة... إلى أن قال: وحدثني ابن أبي المعيط أنك أخبرته أنك قرأت كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري وبعث إليه بحبل طوله خمسة أشبار وقال له أعرض من قبلك من أهل البصرة فمن وجدت من الموالي ومن أسلم من الأعاجم قد بلغ خمسة أشبار فقدمه فاضرب عنقه فشاورك أبو موسى في ذلك فنهيته وأمرته أن يراجع فراجعه وذهبت أنت بالكتاب إلى عمر وإنما صنعت ما صنعت تعصباً للموالي وأنت يومئذ تحسب أنك ابن عبد ثقيف فلم تزل تلتمس حتى رددته عن رأيه وخوفته فرقة الناس فرجع وقلت له يومئذ وقد عاديت أهل هذا البيت أخاف أن يثوروا إلى علي فينهض بهم فيزيل ملكك فكف عن ذلك، وما أعلم يا أخي ولد مولود من أبي سفيان أعظم شؤما عليهم منك حين رددت عمر عن رأيه ونهيته عنه وخبرني أن الذي صرفت به عن رأيه في قتلهم أنك قلت إنك سمعت علي بن أبي طالب(عليه السلام) يقول: لتضربنكم الأعاجم على هذا الدين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً، وقال: ليملأن اللّه أيديكم من الأعاجم وليصيرن أسداً لا يفرون فليضربن أعناقكم وليغلبنكم على فيئكم، فقال لك وقد سمع ذلك من علي يرويه عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فذلك الذي دعاني إلى الكتاب إلى صاحبك في قتلهم وقد كنت عزمت على أن أكتب إلى عمالي في سائر الأمصار فقلت لعمر لا تفعل يا أمير المؤمنين! فإني لست آمن أن يدعوهم علي(عليه السلام) إلى نصرته وهم كثير وقد علمت شجاعة علي وأهل بيته وعداوته لك ولصاحبك فرددته عن ذلك... وحدثتني أنك ذكرت ذلك لعلي في إمارة عثمان فأخبرك أن أصحاب الرايات السود، وفي رواية أخرى وخبرتني أنك سمعت علياً في إمارة عثمان يقول إن أصحاب الرايات السود التي تقبل من خراسان هم الأعاجم وأنهم الذين يغلبون بني أمية على ملكهم ويقتلونهم تحت كل كوكب، فلو كنت يا أخي لم ترد عمر عن ذلك لجرت سنة ولاستأصلهم اللّه وقطع أصلهم وإذن لانتست به الخلفاء بعده حتى لا يبقى منهم شعر ولا ظفر ولا نافخ نار، فإنهم آفة الدين فما أكثر ما قد سن عمر في هذه الأمة بخلاف سنة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتابعه الناس عليها وأخذوا بها فتكون هذه مثل واحدة منهن.

وقد سار عثمان من بعده على هذا المنوال، إذ لم يكن للإيرانيين في زمان عثمان قيمة تذكر.

وأما أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) فقد كان قانونه نفس قانون القرآن إذ يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1)، ونفس كلام الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في اليوم الأول: «لا فضل لعربي على عجمي... إلّا بالتقوى»(2)، فمن كان الأتقى فهو الأفضل، سواء كان عربياً أم أعجمياً. وعليه فقد رأى الإيرانيون أن الإمام(عليه السلام) يقوم بتطبيق العدالة، ومن الطبيعي أن كل شخص يحب العدالة ويطلبها. وهذا كان من أسباب نمو الحركة الشيعية في إيران.

إن من مقومات العدالة هي المساواة بين الناس أمام القانون، مثلاً: لا يفرق بين أحد والآخر لأنه ولد في مدنية كذا، فهو أفضل من الشخص الذي ولد في مدينة أخرى، فهذا ما لا وجه له في الإسلام أبداً. أو مثلاً: لأن فلان لغته عربية أو فارسية فهو الأفضل من غيره، هذه معايير الجاهلية، بل الميزان في الإسلام هو قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(3) والميزان الصحيح، هو ميزان الكفاءة والقيم المعنوية، لا ميزان القومية والتبعية والحدود الجغرافية وأمثالها.

ص: 217


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- معدن الجواهر: 21.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.

لقد أعاد الإمام علي(عليه السلام) ومنذ ابتداء حكومته كافة القوانين التي أمر بها الإسلامونزل بها الذكر الحكيم، وجعلها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وعمل الخلفاء على خلافها، والشاهد على هذا المطلب قصص كثيرة مذكورة في التاريخ، وليس البحث الآن عن ذلك، بل الكلام حول قم المقدسة وتاريخ تشيعها.

إن أهم سبب في نشر التشيع هي السيرة العادلة للإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، فعندما جعل الإمام(عليه السلام) الكوفة عاصمة لحكومته، وعمّ العمران والازدهار والتطور والرخاء للجميع، حيث ازداد عدد سكانها حتى بلغت ستة ملايين نسمة، ومساحتها عشرة فراسخ، أي طول الكوفة كان في حدود ستين كيلومتراً، كان (صلوات اللّه وسلامه عليه) ينظر إلى العرب والعجم هناك بشكل واحد، فلهم شخصية واحدة، وحقوق متساوية، وكان يدفع لهم عطاءً واحداً، فكان من نتيجة هذا امتعاض بعض العرب الجاهليين وانزعاجهم من هذه السياسة العادلة؛ لأنهم يرون أن امتيازاتهم قد زالت.

أنا عربية وهذه عجمية

يروى أن امرأتين جاءتا إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وأظهرتا الفاقة، فأمر(عليه السلام) خادمه بأن يعطي كل واحدة منهن عشرين ديناراً، وكُراً من الحنطة، وهو مكيال أهل العراق. فاعترضت إحدى المرأتين، وقالت: أنا عربية وهذه عجمية، فكيف تساوي بالعطاء بيننا!

فقال الإمام(عليه السلام): «إني لم أجد في كتاب اللّه فضيلة لبني إسرائيل على بني إسحاق»(1)؛ لأن العجم من أولاد إسحاق، والعرب من أولاد إسماعيل.

وقال(عليه السلام): إني قد قرأت كتاب اللّه فلم أجد فضلاً للعرب على العجم.

ص: 218


1- انظر الإختصاص: 151.
المؤمن كفو المؤمنة

ومما ابتدعه الثاني في عهده حيث فرق بين العرب والعجم، أنه لم يرض بتزويج العجم من العرب، وفرق بينهم وبين العرب في الإرث، وفي صلاة الجماعة، وغيرها(1).

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «أتت الموالي أمير المؤمنين(عليه السلام) فقالوا: نشكو إليك هؤلاء العرب، إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية وزوج سلمان وبلالاً وصهيباً وأبوا علينا هؤلاء وقالوا: لا نفعل، فذهب إليهم أمير المؤمنين(عليه السلام) فكلمهم فيهم، فصاح الأعاريب أبينا ذلك يا أبا الحسن أبينا ذلك، فخرج وهو مغضب يجر رداؤه وهو يقول: يا معشر الموالي إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم ولا يعطونكم مثل ما يأخذون فاتّجروا، بارك اللّه لكم فإني قد سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: الرزق عشرة أجزاء تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في غيرها»(2).

ومنذ ذلك الوقت حيث رأى العجم أن الإمام(عليه السلام) هو التطبيق العملي الصحيح للإسلام والقرآن، وهو الحاكم بالعدل والمساواة بين الناس، أصبحوا من محبي أمير المؤمنين(عليه السلام) وهذه هي بذرة التشيع في إيران.

كانت هذه هي النواة والدور الأول لتشيع إيران ولكنها لم تتسم بالشمولية؛ لأن حكومة الإمام(عليه السلام) الظاهرية كانت قصيرة جداً.

الدور الثاني

الدور الثاني من التشيع في إيران والذي كان السبب في تشيع قم هو عهد الأشعريين اليمنيين.

ص: 219


1- انظر بحار الأنوار 33: 261-264.
2- الكافي 5: 318.

فقد كانت قم في بداية الأمر عبارة عن قلاع متفرقة وصغيرة تعود لبعضاليهود أو المجوس. وفي زمان بني أمية كانت اليمن شيعية؛ لأن أهل اليمن أسلموا على يد الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وقد كانوا شيعة منذ القدم وإلى يومنا هذا، فإن اليمن شيعة ولكنهم زيدية(1)، ويبلغ عدد سكان اليمن خمسة وعشرون مليون نسمة(2)، وهم يعتقدون بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأمير المؤمنين(عليه السلام)، والإمام الحسن والإمام الحسين(عليهما السلام)، والإمام زين العابدين(عليه السلام)، ولكنهم بعد الإمام زين العابدين(عليه السلام) يعتقدون بإمامة الشهيد زيد بن الإمام زين العابدين(عليه السلام).

وفي زمان بني أمية كانت اليمن تعتبر من مراكز الشيعة، وكان هذا التجمع يشكل خطراً على بني أمية أعداء علي(عليه السلام)، ولهذا فقد قاموا بإبعاد أعداد كبيرة منهم إلى مكان (بيغولة)(3) أي قم، وهو عبارة عن واد لا زرع فيه حتى لا يتمكنوا من النشاط والفعالية، ولا يتصل بهم الناس.

وهؤلاء الذين أبعدوا كانوا أشعريين(4)، ولا زال أولادهم وذريتهم موجودين

ص: 220


1- الزيدية: طائفة من الشيعة تقول بإمامة زيد بن علي بن الحسين السجاد(عليهما السلام)، وبإمامة كل فاطمي دعا إلى نفسه، وهو على ظاهر العدالة، ومن أهل العلم والشجاعة، وكانت بيعته على تجريد السيف للجهاد. والزيدية ثلاث فرق: الجارودية وهم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر، والسليمانية من أتباع سليمان بن حريز، والبترية ويسمون بالصالحية أيضاً لأن من رؤسائهم الحسن بن صالح.
2- تشير الإحصائيات الأخيرة إلى أن نفوس اليمن حوالي (29) مليون نسمة.
3- بيغولة: كلمة فارسية وتعني الناحية البعيدة عن الناس، كما تعني الأرض الخراب أيضاً.
4- الأشعريون: قبيلة مشهورة باليمن نسبة إلى أشعر، والأشعر هو نبت بن أدد، قال ابن الكلبي: إنما سمي نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ الأشعر؛ لأن أمه ولدته وهو أشعر، والشعر على كل شيء منه فسمي الأشعر. وأما الأشاعرة القميون: فهم يمانيون أيضاً والذين دعا لهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقال: «اللّهم اغفر للأشعريين صغيرهم وكبيرهم». وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الأشعريون مني وأنا منهم» انظر بحار الأنوار 57: 220.

في قم المقدسة.

ولعل قم هي أول المدن الإيرانية التي تشيعت، وبعدها كاشان، والسر فيذلك قربها من قم وتقبل أهلها للحق.

علماً بأن الشيعة الذين جاءوا إلى قم قد اشتغلوا بالزراعة ونشطوا، وبالنتيجة فقد تشيعت القرى التي كانت في أطراف قم وكذلك ساوة وكاشان.

إذن فإن قم وكاشان هما أولى المدن التي تشيعت.

الدور الثالث

الدور الثالث لتشيع إيران، أوجده البويهيون(1)، وهم في الأصل من أهل مازندران، وكان قسم من إيران مثل شيراز ونواحي فارس إلى خوزستان والعراق تحت سلطانهم، وكانوا شيعة. وقد كان في زمانهم كبار العلماء من أمثال:

الصدوقين...(2).

والمفيد...

والمرتضى...

والرضي...

وابن الجنيد(3) (رضوان اللّه عليهم أجمعين)، وقد مهدت الحكومة لنشر علوم آل محمد(عليهم السلام) فحدثت موجة من التشيع في إيران.

ص: 221


1- البويهيون: أسرة شيعية حكمت من سنة 334ه واستمر حكمها إلى سنة 447ه. تنسب إلى (أبي شجاع بويه)، ولكن مؤسسيها الحقيقيين هم أبناؤه الثلاثة: 1- علي (الملقب بعماد الدولة)، 2- الحسن (الملقب بركن الدولة)، 3- أحمد (الملقب بمعز الدولة).
2- وهما علي بن الحسين بن بابويه القمي، وابنه محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق.
3- أبو علي محمد بن أحمد بن الجنيد الكاتب الإسكافي.
الدور الرابع

أما الدور الرابع فقد أوجده العلامة الحلي، فقد جاء إلى إيران ومعه مجموعةكبيرة من تلامذته في زمان الملك خدا بندة(1)، وقد ألف عدة كتب في إيران، وقد عمل على نشر التشيع ما تمكن، فأحدث موجة من التشيع، ولكن بقيت إيران لحد كبير سنية إلى أن جاء الدور الخامس.

الدور الخامس

الدور الخامس هو تشيع إيران بالكامل فقد حدث ذلك بجهود مباركة من الصفويين(2)، فقد تمكنوا وبمساعدة مجموعة من العلماء مثل:

المجلسي الأول(3)...

والمجلسي الثاني(4)...

والمير فندرسكي(5)...

والشيخ البهائي(6)...

من نشر التشيع في كافة أنحاء إيران، حتى أصبحت إيران من أهم دول الشيعة

ص: 222


1- محمد بن أرغون بن أبغا بن هلاكو بن تولى بن جنكزخان المغولي، السلطان غياث الدين المعروف ب (خدا بنده)، ومعناه: عبد اللّه.
2- الصفويون أسرة شيعية علوية عريقة تنتسب إلى صفي الدين الأردبيلي المدفون بأردبيل في أذربيجان.
3- المولى محمد تقي المجلسي المعروف بالمجلسي الأول.
4- محمد باقر بن محمد تقي بن مقصود علي المجلسي، المعروف بالعلامة المجلسي وبالمجلسي الثاني.
5- السيد الأمير أبو القاسم الفندرسكي الحسيني الموسوي، والفندرسكي: بكسر الفاء والنون نسبة إلى فندرسك قصبة من ناحية أعمال أستراباد.
6- بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي الجعبي، المعروف بالشيخ البهائي، والحارثي نسبة إلى الحارث الهمداني.

في العالم.

وقد سعت السنة كثيراً للقضاء على التشيع في إيران ولكن باءوا بالفشل،والسر في ذلك هو أن المجلسيين والشيخ البهائي وسائر العلماء قاموا بتوعية وتثقيف الناس الذين تشيعوا، وذلك بواسطة الكتب والبحث العلمي والحوار الهادف، قد تمكنوا من تغيير ثقافتهم نحو أهل البيت(عليهم السلام)، حتى علم الناس بالدليل والبرهان أحقية مذهب أهل البيت(عليهم السلام).

من هنا ترى أن مجموعة من الغربيين والسنة يقولون بأن التشيع في إيران هو من إيجاد الصفويين.

وفي الواقع أن التشيع في إيران لم يكن من إيجاد الصفويين، بل إن الصفويين قاموا بنشر علوم الشيعة وهي علوم أهل البيت(عليهم السلام) وفي المقابل فإن علوم السنة لم تتمكن من المقاومة والبقاء أمام مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) فقد زالت جانباً. وأخذ هذا الدور الحق بالتقدم.

هذا ملخص عن أدوار إيران في تشيعها، أما مدينة قم المقدسة فقد تشيعت في الدور الثاني أي بجهود الأشعريين وهم شيعة اليمن.

كما أن أول مدينة في العراق تشيعت هي الكوفة، وذلك في زمان أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقد سعى بنو أمية كثيراً للقضاء على الكوفة فلم يتمكنوا وبقيت شيعية.

وهكذا بالنسبة إلى إيران حيث إن أول مدينة تشيعت منها - بعد الكوفة في العراق - هي قم.

وكانت قم المقدسة - ولا تزال بحمد اللّه تعالى - تضم عدداً من كبار علماء الإمامية المعروفين طول التاريخ، مثل:

ص: 223

الصدوقين...

وعلي بن إبراهيم(1)...

وسائر المحدثين والفقهاء.

أما سائر مدن إيران فكانت سنية، فمثلاً طهران كانت سنية بالكامل، وكانوا من أتباع المذهب الشافعي والحنفي، وكثيراً ما حدثت معارك شديدة بين هذين الطائفتين.

الموضوع الثالث: مستقبل قم ودورها في نشر علوم آل محمد(عليهم السلام)

المحور الأول: حرم السيدة المعصومة(عليها السلام)

إن أهم معالم قم المقدسة هو حرم السيدة المعصومة(عليها السلام)، فإن هذه السيدة الجليلة هي سبب الخير والبركة لمدينة قم وأهاليها، بل للعالم والعالمين بأجمعهم.

ولكن الحرم الشريف والأروقة وما أشبه لا تتناسب مع عظمة السيدة المعصومة(عليها السلام) ولا تناسب دور قم في إيصال معارف أهل البيت(عليهم السلام) إلى العالم.

فهذا الحرم وبهذا الأسلوب لا يناسب قم ولا التشيع، وأنا أتصور أنه يلزم العمل لتوسيع الحرم الشريف بدرجة يتسع مليون زائر.

فإن الناس حتى غير الملتزمين منهم يعتقدون بالدين وبالأئمة وذويهم، فحتى أولئك الذين لا يلتزمون بالأمور الشرعية، مثل الشخص الذي لا يصلي، أو الذي يشرب الخمر - والعياذ باللّه - أو المرأة السافرة، فإنهم يحترمون السيدة المعصومة(عليها السلام). فالدين يرتبط بروح الناس وهو أمر فطري لا يمكن القضاء عليه.

ص: 224


1- يعتبر علي بن إبراهيم القمي من أبرز وأوثق رواة الشيعة، ومن المعاصرين للإمام الحسن العسكري(عليه السلام).

من هنا فإن حرم السيدة المعصومة(عليها السلام) هي مأوى لجميع الناس، فينبغي أن يكون بحيث يسع أكبر عدد منهم.

إن الشيعي الذي يعيش في أقصى الباكستان أو أفغانستان أو الهند أو سوريا أو لبنان أو بلاد الغرب وأوروبا، فإنه متعلق بقلبه بالسيدة المعصومة(عليها السلام)، ومتعلق بأهل البيت(عليهم السلام) فرداً فرداً، ويود أن يوفق لزيارتهم والاستفادة من معين بركاتهم.

من هنا يلزم أن يكون الحرم الشريف يسع أكبر عدد من الزوار حتى من غير الإيرانيين ومن شيعة العالم بأجمعهم.

فإن الدين وحب الصالحين والأنبياء والأئمة(عليهم السلام) أمر فطري، فأنتم شاهدتم الإتحاد السوفيتي كان يقتّل الناس سبعين سنة ليتخلوا عن الدين.

سبعون سنة! إنها ليست يوما أو يومين، يعني أربعة أجيال؛ لأنه لو تحسبون أن بين جدكم الأعلى وبينكم سبعين سنة، فقد تغيرت أربعة أجيال في الإتحاد السوفيتي، وبالرغم من هذا لم يتمكنوا من القضاء على الدين وجذوره، فمع زوال الضغط قد عاد الجميع إلى دينهم الأول. المسيحيون واليهود عادوا إلى دينهم، والمسلمون والشيعة عادوا إلى دينهم ومذهبهم، لقد قابلت مجموعة منهم فوجدتهم شيعة مثلنا مع فارق بسيط وهو أنه وبسبب عدم وجود المبلغين فقد جهلوا بعض الأمور، وإلّا فإن الإسلام والتشيع في الإتحاد السوفيتي لم ينقص منه شيئاً.

وعلى كل حال فإن الكلام حول لزوم توسعة حرم السيدة المعصومة(عليها السلام) إلى درجة بحيث يتسع إلى مليون مصل وزائر على أقل التقادير.

ربما يقول البعض أن في توسيع الحرم خراب لبعض الأماكن الأثرية؟

ولكننا نقول: إنه يلزم ملاحظة الأهم والمهم، وربما أمكن الجمع بين التوسعة

ص: 225

وحفظ الآثار، فإن الدين هو المقدم دائماً على كل شيء، فإن مجموعة من المؤمنين كانوا يعيشون قبل مائة عام وبنوا ما يناسبهم من الحرم والقبة وحسبحاجة ذلك الوقت فجزاهم اللّه خيراً، ولكن اليوم تغيرت المعادلات، فإن الأصل والمعيار هو الدين والإنسان والروح والواقعيات.

لقد شاهد الكثير منكم المسجد الحرام، فقد كان في الماضي مسجداً صغيراً، وقد تشرفتُ بزيارته قبل ثمان وثلاثين عاماً فكان صغيراً، ولكنه توسع الآن بحيث يتسع لمليون مصلٍ، فهذا أفضل من أن يبقى المسجد كما كان في السابق.

إذن يلزمنا العمل لأجل توسعة الروضة المعصومية المباركة، بحيث يكون حرم السيدة المعصومة(عليها السلام) على الأقل يستوعب مليون زائر، وحتى يمكن حضور مليون مصلٍ في صلاة الجماعة، وبالطبع لا نريد بذلك توحيد صلوات الجماعة؛ فإنها من البدع التي ابتدعها السعوديون على خلاف الإسلام والإنسانية، وذلك بتوحيد الصلوات في جماعة واحدة وإجبار الناس عليها.

في الوقت الذي كان النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد بنى في المدينة المنورة وكانت صغيرة في يومه، سبعاً وأربعين مسجداً، فمن أراد الصلاة مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلى معه، ومن أراد الصلاة مع غيره صلى معهم.

إذن يلزم أن تكون صلوات الجماعة متعددة وحرة، حتى يختار الناس الإمام الذين يريدون الاقتداء به في الصلاة.

الحريات من أسباب انتشار الإسلام

وأساساً فإن الحريات التي منحها الإسلام للناس، هي أحد الأسباب الرئيسية في انتشار الإسلام، وفي اجتماع الناس حول الدين وقادته، فليس من الضروري أن يصلي الجميع بجماعة واحدة.

ص: 226

وبالطبع إلى ما قبل زمان آل سعود كان الوضع كذلك، بحيث كان كل شخص يتمكن من الصلاة جماعة في المسجد الحرام، حتى أنه زمانالمرحوم الحاج آقا حسين القمي، وكان من مراجع الشيعة الكبار، وقد توفي قبل خمسين عاماً، عندما ذهب إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة كان يقيم صلاة الجماعة في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف وكان يقتدي به الشيعة هناك.

فأي فخر في أن يكون جميع الناس يصلون خلف إمام واحد، أو يكونوا على شاكلة واحدة.

هذا أسلوب البهلوي(1) وأمثاله، الذي أمر الناس بتوحيد لباسهم.

فهل رأيتم أحد العقلاء يدعو الناس إلى أن يأكلوا نوعاً واحداً من الطعام.

فأي كلام هذا!

الكل أحرار في أعمالهم، ومنها ما يرتبط بمسألة اختيار إمام الجماعة للصلاة.

إذن من الخطأ ما نراه من البعض حيث يمدح آل سعود على هذا العمل المخالف للإسلام، وربما مدحوهم بأنه عندما يحل وقت الظهر، تغلق جميع المحال التجارية ويذهبون إلى الصلاة؛ فإن الناس يجتمعون خوفاً من عصا الآمرين بالمعروف!، وهذه ليست فضيلة، بل بالعكس، فإنها بدعة في الدين.

فلم يرد في التاريخ أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو أمير المؤمنين(عليه السلام) قد أجبرا بالعصا شخصاً على ترك عمله وحضور صلاة الجماعة، حتى عمر الذي يعتقدون به لم يفعل مثل هذا.

ص: 227


1- رضا خان المعروف بالبهلوي الأول.

علماً بأن هذا العمل الخاطئ من الجبر والإكراه لحضور الصلاة، وغير ذلك من الأخطاء الكثيرة التي قام بها حكام السعودية كان السبب في تشويه صورةالإسلام في العالم، في الوقت الذي يمنح الإسلام الكثير من الحريات للناس ويدعوهم الى اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة من دون جبر وإكراه.

قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1).

وقال عزّ وجلّ : {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(2).

نعم، الإسلام يمنع عن المحرمات من شرب الخمر وما أشبه والمحرمات قليلة جداً، ولكن في غير المحرمات فإن جميع الأشياء في الإسلام مطلقة وحرة حتى العبادة، فأنت حر في أن تصلي في بيتك أو في المسجد أو في غيرهما.

وخلاصة الكلام: يلزم أن يكون الحرم الشريف في قم المقدسة يتسع لمليون زائر، فنحن لسنا مثل اليابان نعاني من قلة الأرض، بحيث نجبر على إدغام الأعمال وبناء الطبقات. إن في قم مساحات شاسعة من كل ناحية، من قم إلى كاشان إلى أصفهان إلى طهران إلى غيرها. علماً بأن هذه الأراضي الواسعة من نعم اللّه علينا، ثم إن الناس على استعداد لدفع الأموال من أجل الأمور الدينية وفي سبيل أهل البيت(عليهم السلام) بشكل لا حدود له، وحتى النساء على استعداد لبذل حليهن وذهبهن في سبيل اللّه وأهل البيت(عليهم السلام).

فثقوا إذا ما حدث مثل هذه التوسعة من أجل مستقبل قم؛ فإن الناس سيدفعون المال اللازم خلال ثلاث سنوات، فالسيد البروجردي (رضوان اللّه

ص: 228


1- سورة البقرة، الآية: 256.
2- سورة الغاشية، الآية: 23.

عليه) بنى مسجد الأعظم بأموال الناس وبتبرعات من المؤمنين، وكانت التبرعات بكثرة حتى أن السيد أخبرهم بأنه لا حاجة بعد للمال، فقد جمعالمال الكافي.

المحور الثاني: نظافة مدينة قم المقدسة

الإسلام دين النظافة وأفضل نموذج فيها، وكلنا سمع وقرأ الحديث الشريف: «النظافة من الإيمان»(1).

علماً بأن للنظافة معنى شمولياً واسعاً(2)، لسنا بصدد بحثه الآن.

والكلام في مدينة قم المقدسة، حيث يلزم أن تكون في غاية النظافة والطهارة، حتى يشعر كل من يرد إليها بأنها نموذج ومثال من النظافة الإسلامية.

لقد أخذ المسيحيون - والغرب بشكل عام - عدة أشياء من الإسلام وعملوا بها، وبالنتيجة فقد تقدموا، كانت النظافة واحدة منها.

عندما كنا في الكويت وفي أحد الأيام كنت ماراً بالسيارة من حي يسمى بالشرق، فلاحظت تواجد أعداد كثيرة من الناس، وقد كانوا في غاية النظافة، حيث ارتدوا ملابس نظيفة وجميلة، وقد امتلئ الجو بعبق عطورهم.

فسألت من السائق وكان كويتياً - لأني لم أكن أملك السيارة، نعم أراد البعض أن يعطونا سيارة لكنني لم أقبل بذلك - : ما الخبر؟ فقال: هنا كنيسة وهؤلاء يجتمعون هنا كل يوم أحد للعبادة.

المسيحيون في الكويت قليلون جداً، وأكثرهم طلاب أو عمال أو ما أشبه، ولكن في أيام الأحد يرتدون أفضل ملابسهم، ويتعطرون بأفضل العطور، ثم

ص: 229


1- بحار الأنوار 59: 291.
2- انظر كتاب (فقه النظافة) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

يجتمعون في الكنيسة.

أما الكنيسة نفسها - فحسب ما قاله بعض أصدقائنا - فهي واسعة جداً، وهينظيفة مزينة بالورود، ويستقبل العاملون فيها الناس بتقديم الشرابت والحلوى والمرطبات. بحيث يرى الشخص أن هذه الأشياء من مظاهر الدين فينجذب إليهم.

ومن الطبيعي أن الإنسان إذا ذهب إلى مكان نظيف وتلقى أفضل الاحترام والاستقبال، فسوف يذهب إليه مرة أخرى وهكذا.

إن الغربيين تعلموا هذه الأمور من الإسلام فتقدموا، ولكننا قد أعرضنا عنها فتأخرنا.

إذن يلزم علينا أن نعمل لأن تكون مدينة قم المقدسة مثالاً عالياً للنظافة والجمال، يعني إذا أراد شخص أن يرى مكاناً نظيفاً وجميلاً فيه مظاهر الحضارة والتقدم، يُرشد إلى قم المقدسة.

وهذه مسؤولية الجميع، ويمكن لكل فرد منا أن يساهم في هذا الأمر؛ فقد قال النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(1).

المحور الثالث: الاستعداد لاستقبال شيعة العالم

إن مدينة قم المقدسة وكما في الروايات: «عش آل محمد ومأوى شيعتهم»(2).

وللسيدة المعصومة(عليها السلام) مئات الملايين من المحبين في جميع أنحاء العالم، حيث تواجد الشيعة، فيلزم أن تكون قم المقدسة بحيث تصبح مأوى للشيعة كما ورد في الحديث، فتستوعب الملايين من الزوار وتنشر بينهم ثقافة أهل البيت(عليهم السلام)، وخاصة من شيعة خارج إيران، فإن ذلك يوجب التماسك بين أتباع

ص: 230


1- جامع الأخبار: 119.
2- بحار الأنوار 57: 214.

أهل البيت(عليهم السلام) وارتباطهم بحوزاتهم العلمية والعلماء والمراجع، والتزود من علوم آل محمد(عليهم السلام)، مضافاً إلى الفوائد الاقتصادية الكبيرة للناس.

وهذا كله بفضل السيدة المعصومة(عليها السلام) وعظمتها وبركاتها، وإن كنا لا نعلم الكثير من سيرتها، لكن يكفيها فخراً أن ثلاثة من الأئمة المعصومين(عليهم السلام)(1) قالوا في حقها: «من زارها وجبت له الجنة»(2).

إن الشيعة يعتقدون بهذا الكلام، وأن كل ما يقوله المعصوم(عليه السلام) هو الواقع مائة في المائة، وعليه فإذا أراد شيعة العالم أن يزورا قم المقدسة فهل نحن مستعدون لذلك؟

علماً بأن الشيعة هم نصف المسلمين، وهذا ما اعترف به أنور السادات رئيس جمهورية مصر السابق، حيث قال إن الشيعة يشكلون نصف العالم الإسلامي، وطبقاً لإحصاءات الجامع الأزهر حيث ذكرت قبل مدة بأن عدد مسلمي العالم يبلغ ألف وستمائة مليون مسلم(3)، إذن نصفهم يعني ثمانمائة مليون، وهم الشيعة في العالم.

فعلى الجميع أن يهتم بتوسيع المدينة لكي تستعد لاستقبال الملايين من الزوار، وذلك ببناء الفنادق الفخمة والشوارع الواسعة والطرق السريعة والمرافق العامة وسائر الخدمات للزوار.

وهناك إحصائيات تقول بأنه في العام الماضي وفد إلى مشهد الإمام الرضا(عليه السلام) اثنا عشر مليون زائر.

وهكذا يلزم أن تكون قم المقدسة، بل أن يزداد عدد الزوار في مشهد وفي قم.

إذن يلزم بناء أماكن لاستقبال الزائرين، وتقديم الخدمات لهم، علماً بأن هذا

ص: 231


1- وهم الإمام الصادق(عليه السلام) والإمام الرضا(عليه السلام) والإمام الجواد(عليه السلام).
2- انظر بحار الأنوار 48: 317، 99: 267.
3- بلغ عدد المسلمين اليوم أكثر من ملياري مسلم.

العمل يمكن أن يقوم به الناس، إذا ما أعطينا الحريات الكفاية للشعب، وشجعنا رأس المال للاستثمار الصحيح، فإن الناس والمؤسسات الأهلية هم الذينيقومون ببناء الفنادق وأماكن استقبال الزائرين وما أشبه.

ونحن يلزم أن لا نكون أقل من الملحدين؛ ففي موسكو - على ما يقال - قام ستالين ببناء فندق ضخم يضم عشرة آلاف غرفة، هذا في حكم فندق الإلحاد والاستبداد والدكتاتورية والماديات، فكيف يلزم أن تكون الدول الإسلامية وخاصة التي تضم المزارات الشريفة.

المحور الرابع: التبليغ والإرشاد الديني

إن مختلف الناس بحاجة إلى التبليغ والإرشاد، ومعرفة معالم دينهم، وعليه يلزم أن يعود كل زائر أتى إلى قم المقدسة، سواء كان رجلاً أو امرأة أو طفلاً إلى وطنه بالزاد الروحي والمعنوي. والتبليغ الديني والاستفادة من علوم أهل البيت(عليهم السلام)، وهذه مسؤولية الجميع أيضاً، من المؤسسات التبليغية، وإدارة الروضة المعصومية، والحوزات العلمية، وغيرها، فإني أرى ضرورة أن يكون لكل مرجع من الفقهاء المراجع محطة إذاعية وتلفزيونية حتى يتم بواسطتها التبليغ والإرشاد الصحيح.

وعند ذلك يمكن أن نحافظ على الشباب وإيمانهم.

إن الأديان والمذاهب الباطلة تدعو إلى دينها ومذهبها باستمرار وبمختلف الوسائل والإمكانات الحديثة، أما نحن فأقل الناس عملاً، ألّا يلزم أن يكون لنا تبليغ بالمستوى العالمي.

لو فرضنا أن عدد الفقهاء المراجع في قم المقدسة المعترف بهم من قبل الحوزة عشرة، فيلزم أن يكون لكل منهم محطة إذاعية وتلفزيونية، حتى يشتغل كل واحد بالتبليغ والإرشاد وطبع وتوزيع الكتب والكراريس والملصقات

ص: 232

والنشرات وغيرها، حتى لانرى بعدها الشباب المنحرفين.

إذن يلزم أن يكون العمل التبليغي بحيث إن كل شخص يزور قم المقدسةيرجع منها بزاد روحي ومعنوي.

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين والأئمة المعصومين(عليهم السلام) تركوا لنا جميع الجوانب الدينية والدنيوية، وكذلك الجوانب الروحية والجسمية، وما يضمن للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، ولكن يلزم علينا الاستفادة من بركات هذه الأنوار الطاهرة.

هكذا يعملون

أحد الأصدقاء سافر قبل فترة إلى فرنسا، وقد نقل لي أنه في باريس وفي أحد الأيام قال له صاحب المنزل الذي يسكن عنده: يجرى اليوم في الكنيسة مراسم عقد زواج مسيحيين، فإن كنت ترغب بمشاهدة ذلك فتعال معي.

قال: فذهبت معه إلى الكنيسة للمشاهدة.

- وكم هو جميل أن نقوم نحن المسلمين بإجراء مراسم عقد زواجنا في المساجد والأضرحة المقدسة، حتى يكون هناك ارتباط واقتراب من اللّه أكثر، فقد انتبه هؤلاء المسيحيون إلى هذا الأمر وأوجدوا هذا الارتباط لأنفسهم - .

يقول الرجل: وما أن وصلت الكنيسة حتى وجدت النساء والرجال قد تجمعوا، بينما جلس القس الذي يجري العقد في صدر المجلس خلف الطاولة، وقد امتلأت القاعة بالطاولات والكراسي.

في البداية قام القس بفتح الكتاب المقدس - ونحن نعلم بأنه مليء بالتحريف - وقرأ عدة آيات منه، وقام بتفسيرها للحضور، بعدها وزعوا على الجميع منشوراً أخلاقياً دينيا، حتى عندما يعود كل واحد منهم إلى منزله قد أخذ لنفسه وعائلته

ص: 233

زاداً روحياً.

في المرة الثالثة قاموا بتوزيع الحلوى بين الناس، وبعد ذلك جاء شابوشابة وبيد كل واحد منهما سلة مليئة بالأزهار، فكانا يهديان زهرة لكل واحد من الحضور، ويقولان له: تبرع للكنيسة. والكل تبرع بما يرغب من المال، بحيث امتلأت السلة بالتبرعات، وفي النهاية أجريت صيغة العقد، وخرجوا من الكنيسة.

ألا ترون كيف يستغل هؤلاء حتى مراسم عقد الزواج، ليوجدوا فيه ارتباطاً بين الناس والكنيسة، ويقوموا بالتبليغ وجمع المال. إن الغربيين عندما تقدموا لم يكن ذلك بمعجزة، وإنما هو أخذ بالواقع وبسنن الحياة، فقد أخذوا قدراً من مناهج الإسلام وتمكنوا من صناعة الإبرة إلى الطائرة، ولكننا نحن المسلمين البالغ عددنا ألف وستمائة مليون لا نتمكن من صناعة أي شيء.

التمسك بالقرآن والعترة

لقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام) قبل ألف وأربعمائة عام: «اللّه اللّه في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(1).

إن غيرنا تمسك بالقرآن وبمناهجه وأصبح سادة الدنيا، أما نحن فقد تركنا القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) فأصبحنا نحتاج حتى اللحم والخبز لكي يستورد لنا من الخارج.

وفي الختام

وفي الختام نذكر بأنه يلزم أن تكون مدينة قم المقدسة مركزاً للتزود الروحي والمعنوي ومأوى لجميع الشيعة في العالم، وخاصة في مواسم الزيارة، كالأعياد،

ص: 234


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم 47، من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).

في مثل عيد الغدير، أو عيد النوروز، وكذا سائر المناسبات الدينية، حيث تأتي أعداد غفيرة إلى قم المقدسة، فهم يعطلون أعمالهم ويأتون مع عوائلهم إلى هنا، فيلزم عند عودتهم أن يكونوا قد تزودوا بالزاد الروحي، لا أن يأتوا لمشاهدةالأبواب والجدران وغاية الأمر التشرف بزيارة الحرم فحسب.

عاصمة الحوزة العلمية

إن قم المقدسة هي مدينة الحوزة العلمية وعاصمة العلماء والفضلاء وفيها أكثر من عشرين ألف رجل دين، وبهذا العدد يمكن تنوير العالم وإرشاد الناس إلى معارف أهل البيت(عليهم السلام). وذلك عن طريق الإرشاد والوعظ وتوزيع الكتب وكثرة المجالس الحسينية والمنابر التربوية، وعبر محطات البث التلفزيوني والإذاعي، مضافاً إلى المنشورات والملصقات المؤثرة، وهذا جزء من أداء الواجب بالنسبة إلى حق السيدة الجليلة فاطمة المعصومة(عليها السلام).

زيارة السيدة المعصومة(عليها السلام)

روي عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «يا سعد إن عندكم لنا قبر»، قلت: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى(عليهما السلام)؟ قال: «نعم، من زارها عارفاً بحقها فله الجنة، فإذا أتيت القبر فقم عند رأسها مستقبل القبلة وكبّر أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمد اللّه ثلاثاً وثلاثين تحميدة ثم قل:

السَّلامُ عَلى آدَمَ صَفْوَةِ اللّهِ، السَّلامُ عَلى نُوح نَبِيِّ اللّهِ، السَّلامُ عَلى إبْراهيمَ خَليلِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلى مُوسى كَليمِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلى عيسى رُوحِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا خَيْرَ خَلْقِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا صَفِيَّ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ خاتَمَ النَّبِيّينَ.

السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ عَلِيَّ بْنَ أَبي طالِب وَصِيَّ رَسُولِ اللّهِ، اَلسَّلامُ

ص: 235

عَلَيْكِ يا فاطِمَةُ سَيِّدَةَ نِساءِ الْعالَمينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكُما يا سِبْطَيْ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَسَيِّدَيْ شَبابِ أَهْلِ الْجَّنَةِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا عَليَّ بْنَ الْحُسَيْنِ سَيِّدَ الْعابِدينَ وَقُرَّةَ عَيْنِ النّاظِرينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ باقِرَ الْعِلْمِ بَعْدَ النَّبِيِّ،اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّد الصّادِقَ الْبارَّ الأَمينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مُوسَى بْنَ جَعْفَر الطّاهِرَ الطُّهْرَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضا الْمُرْتَضى، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ التَّقِيَّ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّد النَّقِيَّ النّاصِحَ الأَمينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا حَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، اَلسَّلامُ عَلَى الْوَصيِّ مِنْ بَعْدِهِ، اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى نُورِكَ وَسِراجِكَ وَوَلِيِّ وَلِيِّكَ وَوَصِيِّ وَصِيِّكَ، وَحُجَّتِكَ عَلى خَلْقِكَ.

اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ فاطِمَةَ وخَديجَةَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ أَميرِالْمُؤْمِنينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ وَلِيِّ اللّهِ اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا أُخْتَ وَلِيِّ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا عَمَّةَ وَلِيِّ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ مُوسَى بْنِ جَعْفَر وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكاتُهُ.

اَلسَّلامُ عَلَيْكِ عَرَّفَ اللّهُ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَحَشَرَنا في زُمْرَتِكُمْ وَاَوْرَدَنا حَوْضَ نَبِيِّكُمْ، وَسَقانا بِكَأسِ جَدِّكُمْ مِنْ يَدِ عَليِّ بْنِ أَبي طالِب صَلَواتُ اللّهِ عَلَيْكُمْ أَسْأَلُ اللّهَ أَنْ يُرِيَنا فيكُمُ السُّرُورَ وَالْفَرَجَ، وَأَنْ يَجْمَعَنا وإِيّاكُمْ في زُمْرَةِ جَدِّكُمْ مُحَمَّد صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَأَنْ لا يَسْلُبَنا مَعْرِفَتَكُمْ إِنَّهُ وِلِيٌّ قَديرٌ.

أَتَقَرَّبُ إِلَى اللّهِ بِحُبِّكُمْ وَالْبَرائَةِ مِنْ أَعْدائِكُمْ، وَالتَّسْليمِ اِلَى اللّهِ راضِياً بِهِ غَيْرَ مُنْكِر وَلا مُسْتَكْبِر وَعَلى يَقين ما أَتى بِهِ مُحَمَّدٌ وَبِهِ راض، نَطْلُبُ بِذلِكَ وَجْهَكَ يا سَيِّدي اَللّهُمَّ وَرِضاكَ وَالدّارَ الآخِرَةَ. يا فاطِمَةُ اشْفَعي لي في الْجَنَّةِ فَإِنَّ لَكِ عِنْدَ اللّهِ شَأناً مِنَ الشَّأنِ. اَللّهُمَّ إِنّى اَسْاَلُكَ أَنْ تَخْتِمَ لي بِالسَّعادَةِ فَلا تَسْلُبْ مِنّي ما أَنَا

ص: 236

فيهِ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلّا بِاللّهِ الْعَلِيِّ الْعَظيمِ، اَللّهُمَّ اسْتَجِبْ لَنا وَتَقَبَّلْهُ بِكَرَمِكَ وَعِزَّتِكَ وَبِرَحْمَتِكَ وَعافِيَتِكَ، وَصَلَّى اللّهُ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ أَجْمَعينَ وَسَلَّمَ تَسْليماً يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ».

ص: 237

في مولد الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف

ضرورة معرفة الإمام(عليه السلام)

اشارة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية»(1).

هذه الرواية الشريفة رواها أيضاً أبناء العامة عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(2)، يعني أن الرواية متفق عليها عند السنة والشيعة. فالذي يموت ولا يعرف إمام زمانه(عليه السلام) مات وكأنه في زمان الجاهلية وعلى هيئة الجاهليين، أي كأنه لم يكن مسلماً.

مفردات الحديث

(مِيتة) بالكسر: للحال والهيئة، أي مات على هيئة الجاهليين، وهناك فرق في لغة العرب بين (مَيتة) و(مِيتة). ف (مَيتة) بالفتح للذات، وتعني: الشاة الميتة أو الإنسان الميت. أما (مِيتة) بالكسر فتعني كيفية الموت. و«مات مِيتة جاهلية» يعني مات كما كان يموت الناس في الجاهلية، أي: كأنه مات على غير دين الإسلام.

وفي مجمع البحرين:

ص: 238


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 246.
2- مسند أحمد 4: 96 وفيه: (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية). ومسند أبي يعلى 13: 366 وفيه: (من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية). والمعجم الكبير للطبراني 19: 388 وفيه: (من مات بغير إمام مات ميتةً جاهلية) وغيرهم كثير.

و(الميتة) بالكسر للحال والهيئة، ومنه (مات ميتة حسنة).

و(مِيتة السوء) بفتح السين: هي الحالة التي يكون عليها الإنسان عند الموت،كالفقر المدقع والوصب الموجع والألم المغلق والأعلال التي تفضي به إلى كفران النعمة ونسيان الذكر، والأحوال التي تشغله عما له وعليه.

و(مات ميتة جاهلية): أي كموت أهل الجاهلية.

و(الميتة) بالفتح من الحيوان، وجمعها (ميتات)، وأصلها ميتة بالتشديد، قيل: والتزم التشديد في ميتة الأناسي، والتخفيف في غير الناس فرقاً بينهما.

و(الميتون) بالتشديد يختص بذكور العقلاء، والميتات لإناثهم، وبالتخفيف للحيوان، انتهى(1).

هذا بالنسبة إلى كلمة (ميتة).

المعرفة

أما قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الحديث الشريف: «ولم يعرف» فلا تعني المعرفة المجردة فقط، بل معناها: المعرفة المستلزمة للولاء والطاعة؛ لأن الكفار أيضاً كانوا يعرفون النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حق المعرفة، ولكن معرفتهم لم تستلزم الولاء والطاعة له(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، قال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}(2)، وفي آية أخرى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(3).

فأولئك الذين كانوا حول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وحول سائر الأنبياء(عليهم السلام)، وحول الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، كانوا يعرفونهم... وربما أفضل من الآخرين؛ لأنهم رأوهم بأم أعينهم، ولكن المال والمنصب والتعصب الأعمى وتقليد الآباء والدنيا وزخارفها

ص: 239


1- مجمع البحرين 2: 224.
2- سورة البقرة، الآية: 146.
3- سورة النمل، الآية: 14.

والشهوات هي التي حالت بينهم وبين الاعتراف بولايتهم، وهذا بحث مفصل ليس هنا موضعه.إذن فالمراد من: «لم يعرف» ليست معرفة إمام الزمان المجردة فقط، فالمتوكل العباسي كان يعرف إمام زمانه وربما أفضل منا، فنحن عرفنا الإمام(عليه السلام) بالسماع وهو عرفه بالرؤية، وكذلك المعتمد وسائر بني العباس، وكذلك بنو أمية ومن شابههم ممن جحدوا ولاية الأولياء الطاهرين المعصومين(عليهم السلام).

فالمعرفة تعني الطاعة، وتعني الولاء، ولهذا يطلق عليها (التولي) في مقابل (التبري) بالياء، أما ما اشتهر على بعض الألسن من قولهم (تولى) و(تبرى) بالألف فليس صحيحاً، بل الصحيح (تولي) و(تبري) بالكسر.

فلسفة الحديث

أما بالنسبة إلى فلسفة الحديث، أي لماذا أصبح «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية»؟

فالإنسان الذي يصلي ويصوم ويحج ويدفع الحقوق الشرعية ولا يكذب ولا يفعل الموبقات، هو إنسان صالح من هذه النواحي، فكيف إذا لم يعرف إمام الزمان(عليه السلام) لا يقبل اللّه تعالى منه، ويقول له: لقد مت ميتة الجاهليين أي كما مات أبو لهب، وكما مات أبو جهل وكما مات سائر من في الجاهلية.

في الجواب نقول:

إن هناك أشباهاً لهذا الحديث في العديد من المسائل الشريعة المقدسة، وفيها بحث مفصل، بحيث ترى أمراً واحداً يكون هو الأساس وبدونه لا تقبل الأشياء، أو أن أمراً واحداً يكون بمثابة جميع الأمور، ونحن لا نريد هنا إلّا الإشارة إلى ناحية منها وإن كانت الموارد متعددة.

ص: 240

قتل الناس جميعاً

من تلك الموارد المشابهة قوله تعالى في الآية المباركة: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِنَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(1)، حيث اعتبر الباري عزّ وجلّ قتل واحد من الناس كقتلهم جميعاً.

هذا في القتل المحرّم، أي في غير القصاص وفي غير الحدود الشرعية المقررة، فمرة يُقتل شخص قصاصاً، ومرة يُقتل بحكم الحاكم الشرعي الجامع للشرائط وفي الموارد المقررة، أما غير ذلك أي إذا كان {بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ} فقد جعله الشارع كقتل جميع الناس {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} وهذه ليست مبالغة، بل بيان للحكم الواقعي والأثر الحقيقي لقتل الإنسان الواحد، فالقرآن لا يبالغ بل يبين الحقائق كما هي، فيكون معنى الآية: إن من قتل شخصاً واحداً ظلماً، فكأنما قتل جميع البشر منذ أن وجد آدم(عليه السلام) وإلى آخر يوم من وجود بنيه في الدنيا.

منكر الضروري كافر

ومن تلك الموارد المشابهة هي ما ذكره الفقهاء في الحكم بالكفر على منكر الضرورة الدينية، هذا إذا لم يكن إنكاره عن شبهة، فإن هناك شروطاً كثيرة للحكم بالكفر ذكرناها في الفقه(2). فإن من حصلت لديه شبهة لا يحكم بكفره ولا يجوز قتله، بل يلزم البحث معه وفتح الحوار والنقاش الهادف لرفع الشبهة.

أما المعاند الذي ينكر ضرورياً من الضروريات فحكمه الكفر، حتى إذا كان يصلي ويصوم ويحج ويزكي إلى غيرها من الواجبات.

ص: 241


1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- انظر موسوعة الفقه: كتاب الحدود والتعزيرات.

فمثلاً من يعلم بأن السواك مستحب أكد عليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ثم أنكر ذلك لا عن شبهة، قال الفقهاء: يحكم بكفره حتى إذا كان ملتزماً بسائر الأمور من الصلاةوالصيام وما أشبه.

فالمنكر لضروري واحد كمنكر الجميع وذلك لاستلزامه تكذيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعياذ باللّه، فحينئذ يكون عند اللّه في حكم أبي جهل وسائر المشركين من هذه الحيثية.

وهذه المسألة أي أن منكر الضرورة كافر، يكون من أمثال ما نحن فيه، حيث قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية».

فلا يقال: كيف يكون كالجاهليين، مع صلاته وصومه والتزامه بسائر تكاليفه.

إن فلسفة الأمر واضحة بعد التدقيق والإمعان، فالسر في كافة الموارد المذكورة ربما ترجع إلى أمر واحد ولكنها جاءت في صور مختلفة.

إن معرفة الإمام(عليه السلام) هو الاعتراف بالقيادة الشرعية، التي هي الأساس في كل العبادات، وللتقريب نقول: إن مثلها مثل مقود السيارة. فالسيارة التي تضم جميع أجزائها وبنحو حسن، ماذا سيحدث لها إذا لم تشتمل على المقود؟ إنها تصطدم بالجبل وتسقط في الوادي فتتلف ويهلك جميع من كان فيها، وحينئذ لافائدة في جميع تلك الأجزاء.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى معرفة الإمام(عليه السلام) وسائر التكاليف الشرعية.

ثم إن المراد بالقيادة والمعرفة: هو الانقياد والامتثال، والطاعة والإتباع. فالذي لا يعرف إمام زمانه يكون بحكم الجاهليين، كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فإذا قال الإنسان: أنا لا أؤمن بالقيادة الشرعية، فهذا مثله مثل نصراني صالح في تصرفاته، فهل ينفعه ذلك؟ فالنصراني الذي يقوم بالأعمال الخيرية، ويعمل المبرات، ويواسي الأيتام، ويقوم بالآلاف من مثل هذه الأعمال الصالحة، ثم

ص: 242

يقول: أنا لا أؤمن بنبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم). هل تقبل منه تلك الأعمال؟ وما هو حكمه؟

إنه إنسان كافر، ولا قيمة لما يقوم به من تلك الأعمال، إذا عرف الرسولالأعظم محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يؤمن به؛ لأن اللّه سبحانه ليس بحاجة إلى أعمال البر التي يقوم بها الإنسان، ولا يتقبل اللّه إلّا من المتقين، كما قال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(1)، وقال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}(2).

إن اللّه أراد منا الطاعة لأوامره والاعتراف بأنبيائه وأوليائه(عليهم السلام) وأخذ الشريعة منهم، وإلّا فليس اللّه محتاجاً لأعمالنا، بل البشر بحاجة إلى ربه عزّ وجلّ وإلى فعل الخيرات والاعتقاد بما يجب الاعتقاد به كما بينه اللّه تعالى.

إذن فالشخص الذي يموت ولم يعرف إمام زمانه - سواء في زمن الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أم في زمن الإمام الصادق(عليه السلام)، أم في زمن الإمام الرضا(عليه السلام)، أم في زمن الإمام العسكري(عليه السلام)، وكذلك في زمن الغيبة في عهد مولانا الإمام الحجة المنتظر(عليه السلام) - يموت ميتة جاهلية. يعني: إنه أبو جهل آخر وإن كان إنساناً صالحاً في سائر أعماله.

أما من يمدح الجماعة الفلانية بأنها تصلي الصلوات في أول أوقاتها، أو أنها تراعي بعض التكاليف والأوامر الشرعية، وهم لا يعرفون ولا يعترفون بإمام زمانهم، فإنه لم يلتفت إلى ضرورة التمسك بكل الإسلام وأن البعض منه لا يكفي.

ص: 243


1- سورة المائدة، الآية: 27.
2- سورة آل عمران، الآية: 85.

قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٖ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) «لو أن عبداً عبد اللّه بين الصفا والمروة ألف عام، ثم ألف عام، ثم ألف عام، حتى يصير كالشن البالي، ثم لم يدرك محبتنا أكبه اللّه على منخريه في النار، ثم تلا: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}»(2)(3).

وفي هذا المعنى قال الشاعر(رحمه اللّه):

لو أن عبداً أتى بالصالحات غداً *** وود كل نبي مرسل وولي

وقام ما قام قواماً بلا كسل *** وصام ما صام صواماً بلا ملل

وحج ما حج من فرض ومن سنن *** وطاف بالبيت حاف غير منتعل

وطار في الجو لا يأوي إلى أحد *** وغاص في البحر لا يخشى من البلل

وعاش في الناس آلافاً مؤلفة *** خلواً من الذنب معصوماً من الزلل

يكسو اليتامى من الديباج كلهم *** ويطعم البائسين البر بالعسل

ما كان في الحشر عند اللّه منتفعاً *** إلّا بحب أمير المؤمنين علي(4)

فهذه حقيقة حيث يلزم على الإنسان أن يؤمن بجميع ما أمره اللّه عزّ وجلّ، ومن أهمها معرفة إمام الزمان(عليه السلام)، أما أن يقول: (قال اللّه وأقول) فهذا هو الكفر بعينه.

ص: 244


1- سورة البقرة، الآية: 85.
2- سورة الشورى، الآية: 23.
3- شواهد التنزيل 2: 203.
4- تنسب الأبيات للخواجة نصير الدين الطوسي.

أما ما يقال: من أنهم يصلون أفضل صلاة، ونصبوا حنفيات ماء جيدة للحجاج(1)، فهذه لا قيمة لها عند اللّه، فاللّه ليس بحاجة إلى حنفيات الماءهذه.

وهذا مثل ابن ملجم (لعنه اللّه) حيث قتل مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) من أجل الغريزة الجنسية الشيطانية(2) - بعد ما اتفق مع أصحابه على ذلك - فلو فرضنا أنه كان يصلي طيلة عمره أحسن صلاة، ويصوم في أشد الأيام حراً، فهل ينفعه ذلك وقد أقدم على أكبر جريمة؟

ولنفرض الآن أن البشر كافة ومنذ اليوم الأول لخلقهم وإلى اليوم الآخر قد

ص: 245


1- إشارة إلى بعض المظاهر التي أخذ بها الوهابيون التكفيريون من صلوات الجماعة وغلق المحلات جبراً لأدائها، وهم يكفّرون المسلمين ويبيحون دماءهم ولا يعتقدون بولاية أهل البيت(عليهم السلام) وقد أمر اللّه عزّ وجلّ ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بولايتهم واتباعهم.
2- وروي أن ابن ملجم المرادي لعنه اللّه أتى أمير المؤمنين(عليه السلام) يبايعه في من بايعه، ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين(عليه السلام) فتوثق منه، وتوكد عليه أن لا يغدر ولا ينكث ففعل فقال ابن ملجم: واللّه يا أمير المؤمنين ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيري، فقال(عليه السلام): (أريد حياته ويريد قتلي)... . قطام بنت الأخضر التميمية، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) قتل أباها وأخاها بالنهروان وكانت من أجمل نساء زمانها، فلما رآها ابن ملجم لعنه اللّه شغف بها واشتد اعجابه فسأل في نكاحها وخطبها، فقالت له: ما الذي تسمى لي من الصداق فقال لها: احكمي ما بدا لك قالت: أنا محكمة عليك بثلاثة آلاف درهم ووصيفاً وخادماً وقتل علي بن أبي طالب، فقال لها: جميع ما سألت وأما قتل علي بن أبي طالب فأنّى لي بذلك؟ فقالت: تلتمس غرته فإن أنت قتلته شفيت نفسي، وهناك العيش معي وإن قتلت فما عند اللّه خير وأبقى، فقال: وأيم اللّه ما أقدمني هذا المصر إلّا هذا، وقد كنت هارباً منه لامن مع أهله إلّا ما سألتني من قتل علي بن أبي طالب فلك ما سألت. قال الشاعر في أمر قطام التي استدعت ابن ملجم إلى قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة *** كمهر قطام من فصيح وأعجم ثلاثة آلاف وعبد وقينة *** وضرب علي بالحسام المصمصم فلا مهر أغلى من علي وإن غلى *** ولا فتك إلّا دون فتك ابن ملجم راجع روضة الواعظين 1: 132 و 133 و 137.

تجمعوا، وتأتي هذه التي تدعى قطام وتقول لابن ملجم: خذ هذه القنبلة الذرية وألقها عليهم حتى تحظى بمضاجعتي.

ماذا سيفعل هذا المجرم، إنه سيقدم على قتل الناس جميعاً، فالإنسان الذيأنزلته غريزته الجنسية إلى الوحل لا فرق عنده سواء قتل شخصاً واحداً أم قتل ملياراً من البشر.

وسواء قتل إنسانا عادياً أم قتل أمير المؤمنين(عليه السلام) خير البشر.

نعم يقول تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(1).

ألم يحدث ذلك في هيروشيما في الحرب العالمية الثانية، وأنا أتذكر الجريمة في حينها، فالضابط المجرم ومن أجل أن تدفع له حكومته مرتباً شهرياً مقداره كذا من الدولارات، ألقى قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي، فقتل مائتين وخمسين ألف شخص.

وكذلك ما قام به صدام خلال الحرب العراقية - الإيرانية من ضرب الأكراد في مدينة حلبجة بالأسلحة الكيميائية فقتل في الحال ستة آلاف شخص ما بين صغير وكبير ورجل وامرأة بالإضافة إلى آلاف الجرحى، حتى الحيوانات والنباتات لم تسلم من ذلك فماتت فوراً.

بالإضافة إلى الملايين الذين قتلهم من الشيعة في الجنوب والوسط وغيرهما وفي حرب إيران والكويت وخاصة في الانتفاضة الشعبانية.

فلا فرق في النفس المجرمة سواء أطلقت رصاصة واحدة فقتلت شخصاً واحداً أم ألقت قنبلة وقتلت ربع العالم، والآن إذا سولت له هذه النفس: بإلقاء

ص: 246


1- سورة المائدة، الآية: 32.

قنبلة وقتل مليون من البشر، سيقدم، فالنتيجة هي واحدة؛ لأنه عندما تحصل الرغبة عند الإنسان في قتل الإنسان، سواء كانت من أجل الغريزة الجنسية أم من أجل المنصب أم من أجل المال أم لأي سبب آخر، فلا فرق عنده سواء قتلشخصاً واحداً أم قتل مائة ألف شخص، يقول الباري عزّ وجلّ: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(1).

مع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)

ثم إن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) خاطب ابن ملجم حينما ضربه بالسيف، فقال: هل كنت إمام سوء لك؟ هل حبستك؟ هل ضربتك سوطاً؟ هل قتلت أحداً منك؟ هل غصبتك مالك؟ هل ظلمتك؟

وذلك ليتضح للعالم بأن هذه الجريمة دافعها خبث المجرم فقط وسوء سريرته واستحواذ الشيطان عليه.

قال ابن ملجم: لا، أفأنت تنقذ من في النار؟!

أي: إنني من أهل النار، وما أقدمتُ عليه هو ما يفعله أهل النار.

حيث من المعلوم أن أمير المؤمنين(عليه السلام) لم يسئ إلى ابن ملجم مطلقاً في أي حال من الأحوال، كما لم يسئ إلى غيره، بل كان مثالاً للعدل والإحسان والمحبة والغفران.

ولذلك قال ابن ملجم: أنا من أهل النار(2).

فالغريزة الجنسية لهذا الإنسان دفعته لأن يقتل علي بن أبي طالب(عليه السلام)، والآن ما الذي يمنع هذا الإنسان من قتل كافة البشر من أجل غريزته الجنسية.

ص: 247


1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- انظر بحار الأنوار 42: 287؛ مجمع الزوائد 9: 141.
وهكذا الأمر في منكر الضروري

وهكذا يكون الأمر في من ينكر ضرورياً من ضروريات الدين.

فهل يفرق عند إنسان يقول بكذب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعياذ باللّه، كما حكى القرآن عنلسان الكفار: {كَذَّابٌ أَشِرٌ}(1)، أو يقول: إن السواك لا فائدة فيه وليس بمستحب، وهو يعلم بأن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكد عليه، فالنتيجة واحدة لا فرق بينهما.

يعني: إن الإنسان عندما ينكر ضرورية من ضروريات الدين، فحكمه حكم إنكار الرسالة بأجمعها.

هذا بشرط أن لا يكون ذلك عن شبهة، فربما يقول: إن الحكم الفلاني كان خاصاً بزمان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثلاً، أو كان خاصاً بظرف مكاني معين، أو قضية في واقعة، أو ما أشبه، فهذا لا يترتب عليه حكم منكر الضروري.

ولكن المعاند الذي يقول: صحيح بأن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال كذا، ولكنني أقول في مقابله كذا، كما قال أتاتورك: إن القرآن الذي جاء به محمد ووضعه على البعير وأرسله إلى تركيا، يلزم أن نضعه على نفس البعير ونخرجه من تركيا.

فالمحور في هذه الأمور واحد، ولكل هذه المسائل فلسفة واحدة، وهي فلسفة نفسية وحالة ترتبط بإيمان الفرد، فالحالة النفسية هذه هي التي دعته لأن ينكر ضرورية من ضروريات الدين، أو يكون قاتلاً، أو «لم يعرف إمام زمانه» فيكون بلا قيادة شرعية، وهذه الحالة النفسية كما أقدمت على قتل واحد تقدم على قتل الكثيرين، وكما أنكرت ضرورية تنكر سائر الضروريات، وكما لا تقر بالإمام تهمل سائر الواجبات، فكل هذه مردها إلى أمر واحد.

ص: 248


1- سورة القمر، الآية: 25.
مع رأس المنافقين

كان عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين، وقد نزلت فيه سورة (المنافقون) وكان يعرف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معرفة تامة ربما أكثر من العديد من المسلمين الصحابة، لكن هذه المعرفة بوحدها لا تكفي إلّا إذا كان الإنسان معتقداً بولاية رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)واتباعها.

وكان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على معرفة تامة به أيضاً، ولكن اللّه أمره بمداراة الناس ووصفه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخُلق العظيم، حيث قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

فعندما مرض عبد اللّه بن أُبي وأشرف على الموت وأخذ يعالج سكراته، أرسل ابنه إلى الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكي يطلب منه الحضور عنده وكان ابنه من المؤمنين.

فلبى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دعوته وذهب لزيارته، مع أنه كان قد آذى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتجاسر عليه مراراً، وأفحش له في القول وأهانه، وكان يبث الأراجيف حوله، وقد كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حاكما ورئيساً للدولة الإسلامية ولم يكن نبياً فقط.

وفي التاريخ: إن عبد اللّه بن أبيّ عند ما كان يجلس مع أصدقائه المنافقين - وكانوا من الذين يتظاهرون بالإسلام - وكان يمر بهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، كان عبد اللّه يضع عباءته على أنفه(2)، يعني: حتى لا يشم رائحته الكريهة - والعياذ باللّه - ، هكذا كان يهين النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يُشم منه أحسن رائحة العطر.

وفي التاريخ أيضاً: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يحمر وجهه من شدة تأذيه من هذه الإساءة.

هذا الشخص عندما أخذ ينازع الموت قال لابنه: اذهب وادع لي محمداً - وذكر اسم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ليأتي لزيارتي.

ص: 249


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- انظر تفسير مجمع البيان 9: 220.

فذهب ابنه إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخبره بالأمر...

فوافق النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكل رحابة صدر على الذهاب لزيارته، وكان عبد اللّه في حال الاحتضار. فقال: يا رسول اللّه أنا خائف من القبر والقيامة!، وليس لي وسيلة نجاةإلّا أن تعطيني رداءك الذي ترتديه ليكفنونني به.

نعم، إنه كان يعرف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما كان يعرف القبر والقيامة.

فخلع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رداءه وأعطاه إياه في الحال، وأصبح بدنه الشريف عارياً(1).

ولكن عبد اللّه ابن أبي مات منافقاً، فلم يكن في قلبه يعترف بالرسالة النبوية.

إذن نستنتج مما سبق: أن المراد بالمعرفة في قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من لم يعرف إمام زمانه»، المعرفة التي تستلزم الاعتقاد بالولاية لا تلك المعرفة المجردة. ومن هنا ترى أن الروايات التي وردت في تفسير الإيمان تقول: «الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان»(2).

ولكن عبد اللّه بن أُبي كان يعرف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قطعاً وربما أفضل منا؛ لأنه قد رآه... وعند موته كان يتظاهر بحبه للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لكنه مات منافقاً وفارق الحياة على حال النفاق. فالمعرفة تعني العلم والاعتقاد والانضمام تحت اللواء، وإذا كانت المعرفة بدون الاعتقاد بالولاية والانضمام تحت اللواء فلا قيمة لها.

نعمة الاعتقاد بولاية إمام الزمان(عليه السلام)

إن من سعادتنا نحن الشيعة هو اعترافنا بإمام زماننا الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشريف، ومن نعم اللّه تعالى علينا أن خلقنا من أبوين شيعيين، وإلّا فطريق

ص: 250


1- انظر الطرائف 2: 443.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 268.

الاهتداء كان صعباً.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة: «ووضعهم من الدنيامواضعهم»(1).

وعليه يلزم شكر وتقدير هذه السعادة وهذه النعمة الكبيرة.

ومن أكبر النعم الإلهية وجود إمام زماننا وكونه حياً وإن كنا لا نراه، فهل رأينا السيد المسيح(عليه السلام)؟ أم هل رأينا النبي موسى(عليه السلام)؟ أم هل رأينا نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ أم هل رأينا الإمام الصادق(عليه السلام)؟ كلا، فالرؤية ليست هي المعيار بل المعرفة هي المعيار، إمام زماننا حي وحاضر بيننا ولكنه غائب عن الأنظار، ونحن نقرأ في دعاء الندبة: «أين السبب المتصل بين الأرض والسماء»(2)، فالفرد الوحيد الذي يربط آلاف الآلاف باللّه عزّ وجلّ هو بقية اللّه عجل الله تعالی فرجه الشريف في الأرض وهو يعيش بين ظهرانيهم.

وفي الروايات أنه عندما يظهر الإمام الحجة(عليه السلام) يقول كثير من الناس: لقد كنت رأيت هذا الشخص من قبل، ويقول آخر: كنت رأيته في المكان الفلاني، وثالث يقول: كنت شاهدته في اليوم الفلاني. فهو(عليه السلام) بيننا ومطلع على أحوالنا بإذن اللّه عزّ وجلّ .

ولا يخفى أن علم الإمام(عليه السلام) علم حضوري وليس كعلمنا، فإن له الإحاطة بالعالم بإذن اللّه تعالى. كما أن عزرائيل له الإحاطة بالخلق ومن هنا يقبض أرواحهم بكل سهولة.

وفي الحديث الشريف: إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سأل عزرائيل وقال: كيف تتمكن من

ص: 251


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 193، ومن خطبة له(عليه السلام) يصف فيها المتقين.
2- المزار الكبير: 579.

قبض أرواح البشر في شرق الأرض وغربها؟ قال: يا رسول اللّه، الدنيا في يدي مثل الدرهم في كف أحدكم، فهل يغيب هذا الدرهم عنه(1).فالأنبياء والأئمة(عليهم السلام) هكذا يطلعون على الأمور ليل نهار، فإنهم خلفاء اللّه، انتخبهم اللّه واجتباهم، وهناك روايات كثيرة في هذا الباب، فهم حاضرون وناظرون، يسمعون ويفهمون، هكذا خلقهم اللّه عزّ وجلّ وأراد لهم، والأمر بسيط جداً لتعلقه بقدرة اللّه وإرادته عزّ وجلّ.

ونحن نقرأ في إذن الدخول عند زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) وسائر المشاهد: «أشهد أنك تسمع كلامي وترى مقامي وترد سلامي»(2).

تعريف الإمام(عليه السلام) للعالم

ثم إنه لا يكفى أن يعرف الإنسان إمام زمانه(عليه السلام) ويعتقد بولايته فحسب، بل اللازم إرشاد الناس إلى معرفته(عليه السلام)، فهنالك الكثير من الناس لا يعرفون إمام زمانهم، وحينئذ يشملهم قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية».

فمن أهم ما يلزمنا تعريف إمام الزمان للناس، وهذا بحاجة إلى قدر كبير من العمل وتحمل المسؤولية والصبر في سبيل اللّه.

فقدر المعرفة تعريفه(عليه السلام)، مضافاً إلى طاعته والانضمام تحت لوائه، فهل نصدر عن رأيه أم لا؟

وقدر المعرفة أن نعرفه(عليه السلام) بأنه عالم بنا، وهو الحجة علينا، وهو سبب الفيض وواسطته.

ص: 252


1- انظر من لا يحضره الفقيه 1: 134.
2- انظر المزار الكبير: 211، ومستدرك الوسائل 10: 345.

وهذه المعرفة بحاجة إلى صفاء النفس وتصفية الروح من أوساخ الدنيا.

يقول الشاعر ما مضمونه(1):

إن رجال الحقيقة وطلابها هم الذين يشترونبضاعة لا رواج لها.

وقد رأيت في العراق بعض من كان كذلك، كانوا من الذين زهدوا في الدنيا واشتروا الآخرة، أحدهم السيد محمد الكوفي(رحمه اللّه)، والآخر السيد مرتضى الطالقاني(رحمه اللّه).

فإن اللّه لا ينظر إلى الظاهر بل ينظر إلى الباطن أولاً، إنه ينظر إلى القلب قبل كل شيء، ينظر إلى الجوارح ثم إلى الجوانح، فإن نظام اللّه قائم على الباطن قبل الظاهر. فقد ورد في وصية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر قوله: «يا أبا ذر، إن اللّه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. يا أبا ذر، إن التقوى هاهنا - وأشار بيده إلى صدره - ...»(2).

فهؤلاء الذين رأيتهم في العراق كانوا أناساً غير سائر الناس، فكانوا لا يحبون السمعة ولا المظاهر، فإن اللّه يطلب شيئاً آخر ولايحب هذه الأشياء الظاهرية، صحيح أن بعض هذه المظاهر لاإشكال فيها، ولكن طلاب الحق هم من يعملون من أجل اللّه لا من أجل السمعة والرياء، ففي كل وقت نفكر فيه بترويج بضاعتنا وهو ما يعرف بالسمعة والتفاضل والسيادة والفخر والكبر وأنا الأعلم وأنا الأفضل وأنا الرائد وأنا وأنا، عند ذلك يلزم أن نعلم بأننا قد أصبحنا من أصحاب الدنيا ولسنا من طلاب الحق.

ص: 253


1- أصل الشعر بالفارسية: خريدار بازار بی رونقند *** كسانی كه مردان راه حقند
2- مستدرك الوسائل 11: 264.
إخلاص النية شرط التشرف

هناك العديد ممن نال شرف التشرف بلقاء مولانا الإمام الحجة المنتظر(عليه السلام)،ومنهم صاحب القصة التالية:

كان أحد الأشخاص المؤمنين يعيش في طهران وعمله بيع الأقفال، والقصة تعود لخمسين سنة مضت وقد حكيت عن عدة من ثقاة طهران ممن رأوه، وأنا أنقلها عن بعض علماء طهران.

فقد كان في زمن البهلوي(1) بائع أقفال في طهران يجلس في زاوية من السوق ويرتزق منه، وكان إنساناً مستقيماً، حسن النية صافي القلب، وكان نظره على الأرض دائماً لا يرفعه؛ لأن النساء السافرات كانت تمر من أمامه، وكان يبسط أقفاله على الأرض وليس له دكان، كما كان صادقاً في معاملته وصحيحاً لا يغش الناس، وهذه خصلة مهمة جداً؛ لأنه جاء في الروايات المتعددة بأنه لا تغرنكم صلاتهم، ولا يغرنكم صومهم، ولكن انظروا إلى مدى أمانتهم وصدقهم(2)، فإن حفظ الأمانة والصدق في الحياة صعب جداً.

وكان الناس يتعجبون من صدق معاملة هذا الرجل، حيث كان يتعامل بالقيمة الحقيقية لا ينقص ولا يزيد عليها، ولا يحتال في البضاعة الجيدة وغير الجيدة؛ لأن كل بضاعة فيها جيد وغير جيد.

هذا من جانب، ومن جانب آخر كان أحد المشايخ في طهران في المدرسة الفلانية - لم أعد أتذكر اسم المدرسة - يدعى الشيخ حسين، وكان هذا الشيخ رجلاً صالحاً وزاهداً وعابداً، وقد خطر على باله أن يبحث عن إمام الزمان(عليه السلام)

ص: 254


1- رضا خان المعروف بالبهلوي الأول.
2- انظر الأمالي للشيخ الصدوق: 303، فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة».

لكي يتشرف بلقائه، ففكر بأن أفضل عمل يقوم به كي يحظى برؤية إمام الزمان(عليه السلام) هو أن يصوم النهار ويقوم الليل إلى أربعين يوماً، ففي رواية عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال:«من أخلص للّه أربعين يوماً فجر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(1)، فاشتغل هذا الشيخ بالصيام في النهار، واجتناب الشبهات والمحرمات، وقضاء أكثر الليل بالعبادات من الصلاة وقراءة القرآن وهكذا.

مرت ثلاثة أيام وربما أكثر والشيخ مشغول ببرنامجه العبادي الخاص ولم يعلم أحد بذلك، وفي أحد الأيام مر الشيخ من أمام بائع الأقفال، حيث كان طريقه من هناك عادة، وإذا به يرى أن البائع قد قام بعمل غير مألوف، حيث مر من أمامه شخص ذو هيبة فسلّم الشخص المار عليه، فلما رآه البائع ارتبك وقام من مكانه فوراً وأخذ يقبّل يدي هذا الذي سلّم عليه وانكب على رجليه!

فتعجب الشيخ من عمل هذا البائع، فمن هذا الرجل الذي يحترمه البائع إلى هذه الدرجة؟

فلما ذهب الرجل تقدم الشيخ إلى البائع وقال له: أي عمل هذا الذي فعلته، ومن كان هذا الشخص؟!

علماً بأنه لم تكن بين الشيخ والبائع معرفة سابقة، فلا الشيخ حسين كان يعرف البائع ولا البائع يعرف الشيخ حسين، وإنما مثله مثل كل شخص يمر من أمام شخص آخر.

فقال البائع له: هو من يتمنى الشيخ حسين رؤيته وذلك بصيام أربعين يوماً وقيام لياليها بالعبادة! إنه مولانا الإمام الحجة المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشريف.

فالشيخ حسين لم ينل رؤية الإمام(عليه السلام) إلّا في لحظات وهو لايعرفه، أما هذا

ص: 255


1- عدة الداعي: 232.

الإنسان المؤمن البائع للأقفال فقد سلّم الإمام عليه...

وفي هذه القصة دروس وعبر ينبغي علينا أن نلتف إليها.فماذا كان قد فعل بائع الأقفال حتى يسلم عليه إمام الزمان(عليه السلام)؟

هذا ما يلزم التفكر فيه دوماً.

فالإنسان المرتبط باللّه والذي يريد أن يعمل في سبيل اللّه وأن يكون على نهج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) يلزم أن يكون كذلك، فإن اللّه لايعترف بالظواهر ولا ينظر إليها، بل ينظر إلى القلوب وإلى النيات.

في الحديث الشريف: «إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما الأعمال بالنيات»(2).

وفي الآية المباركة: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(3).

فاللّه تعالى يتعامل مع القلوب، حتى إن أولئك الأشرار يحذرهم اللّه في القرآن ويقول: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفِْٔدَةِ}(4)، فالنار ترتبط بقلوبهم قبل جوارحهم، والأفئدة جمع فؤاد يعني: القلب، ذلك المكان الذي جعل من معاوية في النار، وجعل من سلمان في أعلى عليين، إنه القلب، من هنا ترى أن المحور في الآيتين هو القلب.

قصة من أفغانستان

أفغانستان كانت ولازالت تعيش بعض العصبية المذهبية الشديدة، وإن قلّت

ص: 256


1- جامع الأخبار: 100.
2- تهذيب الأحكام 4: 186.
3- سورة الشعراء، الآية: 89.
4- سورة الهمزة، الآية: 6- 7.

يوماً بعد يوم، وقد ظُلم الشيعة هناك كثيراً، فقتلوا منهم الكثير حتى أرادوا إبادتهمفي قضية عبد الرحمان خان وغيرها(1).

ص: 257


1- في العام 1880م وجدت بريطانيا نفسها مجبرة على الانسحاب من أفغانستان، لذا عمدت إلى تنصيب عميل لها على البلاد، يكون مطيعاً لها ومنفذاً لأوامرها ورغباتها وأهدافها. وكان الخيار البريطاني المناسب هو (عبد الرحمن خان) الذي كان معروفاً بقساوة القلب، وعديم العاطفة والرحمة، كما كان أنانياً ومستبداً وعنيداً وحقوداً، وكان يحتقر شعبه، ويشعر بعقدة الحقارة والضعف والدونية أمام الإنجليز، كما كان معروفاً بحقده وكراهيته وعدائه لجميع القوميات الأفغانية والقبائل البشتونية عدا قبيلته، وكان حقده وعداؤه للمسلمين الشيعة والهزارة أشد وأكثر. كما كان شديد العداء والكراهية للعلماء؛ ويكيل لهم السباب والشتائم والإهانات. وكان أول عمل يقوم به بعد الاستيلاء على منطقة ما، هو تخريب المدارس والمساجد والمراكز العلمية والثقافية، وزج العلماء والمثقفين والمفكرين والفنانين وأصحاب المهارات والمهن في السجون. وعندما استولى على مدينة هراة دمر أكثر من خمسين مدرسة ومسجداً وحسينية. كما هدم مصلى هراة الذي كان يعتبر نموذجاً رائعاً وفريداً من نوعه في الفن المعماري في آسيا الوسطى، وتراثاً إسلامياً وحضارياً متميزاً في أفغانستان. وبالرغم من الإرهاب الذي كان يمارسه عبد الرحمن خان، وسياسة البطش والاستبداد والقتل الذي اعتمده لإرساء قواعد نظامه الجائر، لم يستسلم الشعب الأفغاني، وبدأت أصوات المعارضة ترتفع من هنا وهناك، فانطلقت ثورات شعبية عديدة ضده، وكان الثائرون من السنة والشيعة والبشتون والأزبك والهزارة والطاجيك لديهم هدف واحد، هو القضاء على نظامه الجائر، وكانت أهم تلك الثورات: ثورة القبائل البشتوتية، وثورة التركستانيين، وثورة المسلمين الشيعة الهزارة. وقد سعى عبد الرحمن خان للحصول على مبرر ديني وشرعي للقضاء نهائياً على المسلمين الشيعة في هزارستان؛ لأنه كان يدرك بأن التوسل بالأساليب الدينية والمبررات الشرعية هو السبيل الوحيد لإثارة جميع القبائل الأفغانية السنية ضد المسلمين الشيعة. فاستغل جهل الناس وتخلفهم الكبير واعتقادهم الراسخ بالعلماء ورجال الدين، في سبيل تحقيق أهدافه المشؤومة. لذا فقد طلب من علماء البلاط إصدار فتوى بتكفير المسلمين الشيعة، باعتبارهم متمردين وخارجين على السلطان العادل! ومع الأسف أن عدداً من علماء السوء ووعاظ السلاطين استجابوا لطلبه وأصدروا فتوى بتكفير المسلمين الشيعة!! ويقال: إن عبد الرحمن كان قد حصل على فتوى تكفير المسلمين من علماء نجد والحجاز - كما يفعلون اليوم مع الشعب العراقي المظلوم - وإن العلماء الأفغان استندوا على ذلك، وفيما يلي نص الفتوى: (بسم اللّه الرحمن الرحيم، لا يخفى على المسلمين وأتباع المذهب الحنفي الحنيف، أن الأمير عبد الرحمن خان حفظه اللّه المنان، من شرور البدعة والطغيان، قام بتأديب الهزارة البغاة الأشرار، وبعد أن ظفر على بعضهم، حصل جنود الأمير المنصور على ورقتين من كتاب يسمى (تحفة المواج) في إحدى المناطق التابعة للهزارة الأشرار، وتتضمن الورقتين أبيات كلها سب وشتم وإهانات صارخة للخلفاء الراشدين الثلاثة، سيدنا أبي بكر الصديق، وسيدنا عمر الفاروق، وسيدنا عثمان ذي النورين (رضي اللّه عنهم جميعاً)، الذين هم أئمة وقدوة المسلمين. وقد قام ظل اللّه في الأرض الأمير عبد الرحمن خان، بإرسال الورقتين إلى محكمة الشريعة النبوية العليا في كابل للتحقيق والبت في الأمر، وإبداء رأيها وحكمها الشرعي في المسألة. وبعد أن اطلعت المحكمة على أبيات الكفر والضلال، ومن أجل أن تقطع الطريق على الروافض، وتسلب منهم فرصة الإنكار والتقية والبراءة من مضمون أبيات الرفض، حصلت المحكمة على كتاب (حياة القلوب) تأليف محمد باقر المجلسي ووجدنا نص مضامين تلك الأبيات في ذلك الكتاب المعتبر لدى الروافض. وبعد التحقيق والتحري ثبت لدى محكمة الشريعة النبوية العليا وبدون أدنى شك رفض وكفر وارتداد الهزارة، وبناءً على هذا نحكم نحن في محكمة الشريعة النبوية العليا في كابل بكفر وارتداد الهزارة ووجوب قتلهم قبل التوبة وبعدها. إننا واعتباراً من اليوم نعتبر الهزارة مرتدين وبغاة، ومفسدين في الأرض، وإن قتلهم وتمزيق صفوفهم، وهدم بيوتهم، وسبي نسائهم، هو عين الجهاد، وقوام للدين، ونصرة للإسلام والمسلمين. إن أمر الأمير العادل عبد الرحمن خان بوجوب محاربة الهزارة البغاة فرض واجب على كل من يمكنه القيام بذلك، وأن من قتل أحداً من الهزارة أو قُتل دون ذلك يعتبر شهيداً ومجاهداً وغازياً وناصراً للدين الحنيف ورسول الإسلام. كما أن قتلى الهزارة مخلدون في النار والجحيم. إننا نقدم هذا الحكم الشرعي إلى الأمير العادل عبد الرحمن خان ونرجو من جلالته ومقامه الكريم، إبلاغ هذا الحكم إلى كافة المسلمين في أفغانستان، ليعلم جميع المسلمين الأفغان بكفر وارتداد الهزارة، ووجوب القضاء عليهم في كل مكان). التوقيع: المولوي مير فضل اللّه، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي مير محمد، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي مير نظام الدين، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي عبد الملك، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي عمر عمران، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي مير سيد ظاهر، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي عبد الحميد، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي محمد إسلام، مستشار محكمة الشريعة النبوية في باميان. بعد حصول عبد الرحمن على فتاوى تكفير المسلمين الشيعة، وجد الظروف مناسبة أكثر من أي وقت آخر للانتقام من المسلمين الشيعة. فبادر إلى إرسال عدد من وعاظ السلاطين إلى أقاليم ومدن البلاد، لإبلاغ الناس فتوى التكفير، وحث الناس على التطوع والمشاركة في قتال الهزارة. وقد طبعت عشرات الآلاف النسخ من الفتوى لتوزيعها في مختلف المدن والقرى والأرياف. كما استدعى عبد الرحمن زعماء قبائل البشتون، ولا سيما الحدودية ودعاهم إلى إرسال مقاتليهم للمشاركة في الحرب، ووعدهم بتوزيع أراضي وأموال وممتلكات الهزارة عليهم، ويكون لهم ما غنموه من الأموال وما أسروه من النساء والغلمان. وبهذه الأساليب الخبيثة تمكن عبد الرحمن أن يجند عشرات الآلاف من أبناء القبائل البشتونية، لا سيما القبائل البدوية لمحاربة الهزارة، كما أرسل 125 ألفاً من قواته النظامية إلى هزارستان. وبدأت الحرب غير المتكافئة بين المسلمين الشيعة الذين كانوا يدافعون عن مقدساتهم ووجودهم وبين جيش مدجج بأحداث أنواع الأسلحة. وأمر عبد الرحمن بأسر المئات من أبناء الهزارة الذين كانوا في المناطق الواقعة تحت سيطرته، واستخدامهم كدروع بشرية في القتال. وبدأت المعارك بعد هجوم واسع شنته القوات الحكومية من جميع المحاور على مواقع المسلمين الشيعة الذين لم يكن أمامهم خيار سوى المقاومة المستميتة والتصدي بقوة للحملات الوحشية. ومع أن المسلمين الشيعة كانوا يعرفون عدم جدوى المقاومة، وأن المهاجمين لن يتركوهم وشأنهم حتى إذا انهزموا لمرات عديدة. لكنهم فضلوا المقاومة حتى الموت في ساحة القتال دفاعاً عن العقيدة والإيمان والكرامة على الاستسلام، كما أنهم كانوا على يقين بأنهم سيقتلون سواء قاوموا أم استسلموا. وفي ربيع عام 1892م بدأ الهجوم الواسع لقوات عبد الرحمن من خمسة محاور هي: كابل، وغزنة، وقندهار، وهرات، ومزار شريف. وكان السردار عبد القدوس خان المعروف بقساوة قلبه، وعدائه الشديد للمسلمين الشيعة يقود العمليات. وقد أصدر هذا المجرم وبناءً على تعليمات عبد الرحمن أمراً بقتل جميع الرجال الهزارة دون تمييز بين مسلح وغير مسلح، وحرق المزارع وإتلاف المواد الغذائية، كما أمر بفرض حصار اقتصادي محكم على هزارستان. وبالرغم من اتساع دائرة العمليات العسكرية والتفوق العددي والتكنولوجي لقوات عبد الرحمن إلّا أنها لم تتمكن من التقدم في المناطق الشيعية، إذ كانت تواجه مقاومة عنيفة في جميع المحاور. واستمر هذا الدفاع البطولي والمقاومة المستميتة أكثر من سنة كاملة. وفي صيف عام 1893م شددت قوات عبد الرحمن من هجماتها، واستخدمت المدافع الميدانية المتطورة لضرب مواقع المدافعين، كما أن الحصار الاقتصادي وانتشار المجاعة وأنواع الأمراض المعدية بين سكان المنطقة قد أثر في معنويات المدافعين، فتمكنت قوات عبد الرحمن من اختراق بعض المواقع، وإيجاد ثغرات في تحصينات الهزارة. واستولى على المناطق الشيعية بالتدريج واضطر المدافعون إلى الانسحاب إلى منطقة اورزكان القلعة الطبيعية الحصينة للمسلمين الشيعة. وقد ارتكبت قوات عبد الرحمن مجازر بشعة في المناطق الشيعية، وحولتها إلى مسالخ حقيقية، فقتلت عشرات الآلاف من الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ، وحفرت مقابر جماعية دفن الناس فيها وهم أحياء. وبعد انسحاب المقاتلين الشيعة إلى اورزكان فرضت القوات الحكومية طوقاً محكماً على المنطقة، وجرت أشد المعارك وأشرسها في تلك المنطقة واستمرت عدة أشهر ولكن أخيراً سقط ذلك الحصن المنيع بعد استشهاد المدافعين والمقاومين. واستولى عبد الرحمن على جميع مناطق هزارستان بعد قتال دام أكثر من عام ونصف. وقام عبد الرحمن بارتكاب جرائم ومجازر بشرية، ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل قام بمصادرة أفضل الأراضي الزراعية، وتوزيعها على القبائل البدوية الحدودية التي كانت تحت حماية الإنجليز، والمناطق المغتصبة هي: اجرستان، جورة، اورزكان خاص، كيزاب، تيري، دهراود، داي جوبلن. وهذه المناطق تعتبر من أفضل مناطق أفغانستان من الناحية الزراعية حيث خصوبة الأرض، ووفرة المياه، فضلاً عن الموقع الاستراتيجي. بعد سيطرة عبد الرحمن على المناطق الشيعية في هزارستان، بادرت مرتزقته الأشرار إلى ارتكاب مجازر بشعة وجرائم فظيعة في مختلف المناطق، ولم يتركوا جريمة إلا وارتكبوها. لقد كانت التعليمات المعطاة للجنود واضحة وهي القضاء الكامل على الهزارة. وقد استخدمت مرتزقة عبد الرحمن أبشع الأساليب في القتل والتعذيب والتنكيل، وكانت تقوم بحرق القرى، وهدم المساجد، وحرق المزارع والأشجار، وإبادة المواشي. كما أنها كانت تمنع الناس من دفن الموتى والقتلى، حتى أن أغلب الجثث كانت تتفسخ وسط البيوت. وقد انتشرت نتيجة ذلك مختلف الأوبئة والأمراض حتى أن بعض الجنود أصيبوا بأمراض خطيرة انتشرت في المنطقة. ومن أساليبهم الوحشية، قطع أطراف المعتقل وتركه ينزف حتى الموت. ومنها تسليط الكلاب المتوحشة على المعتقل وهو مقيد لتنهش من لحمه حتى يموت. ولعل من أبشع جرائمهم وأفظعها ذبح الأطفال والرضع أمام عيون أمهاتهم، واغتصاب الفتيات المسلمات، والاعتداء على النساء بحضور أرحامهن. ومنها تجريد الطاعنين في السن من النساء والرجال من ثيابهم وشد وثاقهم وتركهم في العراء دون طعام وشراب حتى الموت. وكان جنود عبد الرحمن يتلذذون من قتل الأطفال، وكانوا يعتبرونه لعبة مسلية ومثيرة. حيث كانوا يرمون الأطفال إلى الأعلى ثم يتلقونهم بسيوفهم ورماحهم ويقطعونهم إرباً إرباً. أما عن معاملتهم مع أسرى الحرب فحدث ولا حرج، حيث كانوا يقطعون أنف الأسير وأذنيه، ويدخلون سيخاً حديدياً ساخناً في عينيه، بعد ذلك كانوا يقطعون يديه ورجليه ويستمرون في طعنه وضربه بالسيوف والخناجر حتى الموت. وكان لدى كل واحد من الضباط عدد من الكلاب المدربة على أكل لحوم البشر، والفتك بالإنسان خلال لحظات. وكان يقدم إلى الكلاب في كل وجبة أسير شيعي مقيد، فكانت الكلاب تفتك به وتأكل من لحمه. وكانوا في أغلب الأحيان يعلقون الأسير في غصن شجرة، ويبقرون بطنه ويخرجون أحشاءه، ثم يتركون الكلاب المتوحشة لتأكل من أحشائه ولحمه. بعد عام كامل من القتل الوحشي والتصفية الجسدية أصدر عبد الرحمن أمراً بوقف قتل الهزارة، وأجاز بيع وشراء أسرى الهزارة، بشرط أن يدفع كل من يبتاع شيعياً 10% أي عُشر ثمنه للدولة. بعد هذا الأمر الجائر بدأت معاناة ومأساة جديدة للمسلمين الشيعة، وكان الجنود ومرتزقة النظام يغتصبون الفتيات ونساء الهزارة. وعندما كان أحد من ذوي وأقارب تلك الفتيات يقدم شكوى إلى أمراء الجيش، كان الجنود يدعون بأنهم ابتاعوها من شخص آخر. وكان الناس يفضلون الموت على الحياة والعيش الذليل، وعلى هذا كانوا يقدمون على الانتحار للتخلص من الأسر، ويقال: بأن مرتزقة عبد الرحمن اعتقلت 400 امرأة شيعية في منطقة داية بولاية غزنة، وكان من المقرر نقلهن إلى العاصمة لعرضهن في أسواق النخاسة، وعندما وصلن فوق جسر على نهر جاغوري رمين بأنفسهن في النهر وغرقن في أمواجه. ويقال: بأن 40 فتاة من منطقة اورزكان هربن إلى الجبال من مرتزقة عبد الرحمن، وعندما شعرن بأنهن أمام طريق مسدود، صعدن إلى قمة صخرة عالية ورمين بأنفسهن في وادي سحيق دفعة واحدة، فتقطعت أوصالهن والتحقن بالرفيق الأعلى. وكانت كبيرة الفتيات تدعى شيرين فصار اسمها رمزاً للبطولة والفداء في هزارستان. وبعد أن أصدر عبد الرحمن أمره بجواز بيع وشراء المسلمين الشيعة، نشطت أسواق النخاسة في كابول وقندهار وغزنة وهرات والمدن الأخرى. وكان الأسرى من النساء والرجال والأطفال يؤخذون إلى كابل والمدن ليباعوا في محلات خاصة. وكانت أنشط المراكز هي العاصمة كابل، حيث كان عبد الرحمن بنفسه يشرف على البيع. وقد حددت الحكومة أسعاراً للأسرى كالتالي: الفتاة الباكرة 10 روبيات، والفتاة الشابة 5 روبيات، والشاب البالغ 15 روبية، والصبي دون الخامسة عشر 5 روبيات. أما الأطفال وغيرهم فقد كان يتم بيعهم دون التقيد بسعر معين. وكان يتم إيقاف الأسرى بشكل استعراضي، وكل من كان يرغب بشراء أسير كان عليه أن يدفع المبلغ المحدد للأمير عبد الرحمن، ثم يقوم باختيار العبد أو الأمة من بين الأسرى. وما أن يتم اختيار العبد أو الأمة حتى كانت أصوات الطبول ترتفع فرحاً وابتهاجاً. ولا يعلم إلا اللّه وحده كم عدد المسلمين الشيعة الذين تم بيعهم في أسواق النخاسة في مختلف المدن، إلا أن هناك بعض الأرقام التي تبين جانباً بسيطاً من عدد الأسرى الهزارة الذين تم بيعهم، مع أن مصدر هذه الأرقام هو السلطة الظالمة، إلا أنها تكشف مدى ظلامة المسلمين الشيعة الهزارة، ومدى حقد وحقارة أعدائهم. فقد ورد في المستندات الحكومية: بأن القاضي ملا خواجه محمد قاضي المحكمة الشرعية في ارزكان، بعث إلى الأمير عبد الرحمن خان مبلغ 1940 روبية من الضرائب المأخوذة عن بيع 1293 امرأة وطفل شيعي في ارزكان. وفي مدينة قندهار تم بيع 46666 شخص ما بين امرأة وفتاة وشاب وطفل. وكان مسلسل إبادة المسلمين الشيعة مستمراً بكل وحشية وقساوة وبربرية إلى أن أخبر الشيخ الآخوند ملا كاظم الهروي صاحب كتاب كفاية الأصول، سماحة آية اللّه العظمى السيد ميرزا حسن الشيرازي(رحمه اللّه) عن الأوضاع المأساوية للشيعة في أفغانستان، فبعث رسالة شديدة اللّهجة إلى ناصر الدين شاه ملك إيران، وأمره أن يطلب من بريطانيا الإيعاز إلى عبد الرحمن بوقف مجازر المسلمين الشيعة، وهدد سماحته في حال استمرار المجازر فإنه سيتخذ قرارات حاسمة. وأبلغ ناصر الدين شاه رسالة الإمام الشيرازي إلى الإنجليز الذين طلبوا من عميلهم عبد الرحمن وقف المجازر فوراً. وبناء على أوامر الإنجليز فقد أوقف (عبد الرحمن) مسلسل إبادة المسلمين الشيعة، وأمر بانسحاب قوات الجيش من هزارستان. لقد كانت رسالة الإمام الشيرازي سبباً في وقف إبادة المسلمين الشيعة، ومن الغريب أن العديد من وسائل الإعلام والصحف الإسلامية التي تكتب عن حياة الإمام الشيرازي، لم تتطرق إلى هذه الرسالة التاريخية الهامة التي أنقذت حياة عدة ملايين من المسلمين الشيعة، ولا شك في أنها لا تقل في الأهمية عن فتوى التنباك وغيره. وبعد تحرك الميرزا الشيرازي خف أعمال القتل ومسلسل إبادة المسلمين الشيعة إلى حد كبير، إلّا أن عملية التجويع والقهر والإذلال استمرت في ما بعد، وقد حرم المسلمين الشيعة من جميع حقوقهم الاجتماعية والإنسانية، وأصبحت مناطقهم محرومة من كل الخدمات، وحتى الآن تعتبر المناطق الشيعية من اكثر المناطق حرماناً في أفغانستان. كما رأينا هذه الحالة في العراق أيام حكم المجرم صدام المخلوع.

ص: 258

ص: 259

ص: 260

ص: 261

ص: 262

وقد حدثني المرحوم المدرس الأفغاني(رحمه اللّه) وذلك عند ما كان يأتينا للزيارة بعد ما يُنهي تدريسه، قال: إن القبيلة الفلانية في أفغانستان - ولا أريد ذكر اسمها - كانت متعصبة ضدنا نحن الشيعة بصورة شديدة، يقول: وفي إحدى المرات جمعتني الصدفة مع أربعة منهم في السيارة وكنا نريد الذهاب من مدينة إلى أخرى، ومن أجل إضفاء جو المحبة والصداقة عندما وصلنا إلى محل الاستراحة فقد ذهبت إلى المقهى وطلبت من صاحب المقهى أن يعطيني شاياً بالإبريق مع الأقداح والصينية، لا أن يعطيني الشاي بيدي، فأعطاني إبريق الشاي ومعه الأقداح والسكر بعدما وضعها جميعاً في صينية، فأخذتها وقد وضعت يدي تحتها وجئت بها وكانوا أربعة وقلت: لهم تفضلوا. قالوا: لا نشرب، قلت: لماذا؟ قالوا: لأنك نجس. قلت: لو سلمنا بأنني نجس! ولكني لم ألمسه بيدي. قالوا:

ص: 263

كلا، ما أن لمست يدك الصينية فقد تنجس الشاي جميعاً.

الاستغاثة بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف

ذكر لي أحد المؤمنين من أفغانستان قبل أربعين عاماً وذلك عندما كنا في العراق، قال: في أحد الأيام وصلت إلى قبيلة متعصبة جداً، لذلك فقد أخفيت مذهبي خوفاً على نفسي. قال: وقد أُجبرت على البقاء هناك مدة، فرأيت في القبيلة شاباً من نفس القبيلة، أبوه فلان، وكان شاباً في الخامسة أو السادسة والعشرين من العمر، وكان شيعياً قوياً في اعتقاده. قال: فتعجبت كثيراً، فسألته يوماً: ألست ابن فلان؟ ألست شقيق فلان وفلان؟ وكلهم كانوا من أبناء العامة، فكيف تكون قبيلتك بهذا التعصب وأنت شيعي هكذا؟ وكيف لم ينزلوا بك بلاءً لحد الآن؟ قال: في الحقيقة أنهم لم ينزلوا عليَّ بلاءً؛ لأن القبيلة سابقاً قد اتفقت في ما بينها على أن لا يغدر أحد بأحد.

لقد كان أبو لهب ضد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكنه كان يقول: إن محمداً مني فلا أدعكم تهجمون على داره في قصة الهجرة المشهورة(1)، بالرغم أنه كان من أشد أعداء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقلت له: فكيف أصبحت شيعياً؟

قال: إن لي قصة عجيبة، فقد كانت لي (داية) - أي: مرضعة - شيعية وكانت من غير قبيلتنا، وكانت فقيرة، وبقيت عندها إلى أن أصبح عمري خمس أو ست سنوات، وكنت أحياناً أزورها في شبابي، وكانت قبيلتنا تقول عنها: إنها

ص: 264


1- فقد ورد في قصة الهجرة المباركة: أنه لما أمسى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، جاءت قريش ليدخلوا عليه. فقال أبو لهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل؛ فإن في الدار صبياناً ونساءً، ولا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة، فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه. فناموا حول حجرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم). انظر تفسير القمي 1: 275.

نجسة، فلا يأكلون معها، وكانت امرأة طيبة تصلي وتصوم وتقرأ القرآن. وفي أحد الأيام قلت لها: أنتِ امرأة طيبة، تصلين وتصومين وتقرئين القرآن، وأنتِطاهرة وأمينة ولا تكذبين، فلِمَ يقول عنكِ هؤلاء بأنكِ كافرة؟! قالت: دعك من هذا.

قال: فأصررت عليها.

فقالت: في الحقيقة نحن وهؤلاء مذهبان، ونحن على مذهب الشيعة.

قلت: وما الذي في مذهب الشيعة من زيادة أو نقصان؟

قالت: نحن إمامية اثنا عشرية ومن أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، ثم أخذت تذكر أسماء الأئمة(عليهم السلام) واحداً بعد واحد، وبعدما وصلت إلى الإمام الحجة(عليه السلام)، قالت: إن هذا الإمام حي وموجود، وسيأتي في يوم ما ليملأ الأرض بالقسط والعدل بعد ما ملئت بالظلم والجور.

قلت لها: وما الفائدة في أن يكون غائباً ثم يأتي بعد مائة أو مائتي سنة أو أكثر؟

قالت: من فوائده أنه إذا ما وقع إنسان في مشكلة فاستغاث به يغيثه، كأن ضل في الصحراء أو البحر أو ما أشبه.

انتهى حديثنا آنذاك، إلى أن عزمت على الحج، وكان السفر للحج بواسطة الجمال - لأنه وإلى خمسين سنة قبل لم تكن السيارات موجودة، وكان الناس يسافرون على الجمال وما أشبه - قال: ركبنا الجمال وذهبت مع القافلة إلى الحج، وفي أحد الأيام تعبنا جميعاً، فالطريق طويل، والصحراء والحر والبرد وقلة الطعام، وقد دخل الليل فنامت القافلة ونمت أنا أيضاً، وفجأة استيقظت من حرارة الشمس فلم أر أحداً في الصحراء، وولم يكن بعيري موجوداً، فقد ذهب الجميع وفقدت راحلتي، فاستوحشت وحشة شديدة من هذا الأمر ولم استوحش طول عمري مثل هذا، فالخوف من اللصوص - فاللصوص في

ص: 265

السابق كانوا يقتلون الإنسان في كثير من الأحيان، ولا يكتفون بسرقته، بل ربما كانوا يتعدون على عرضه سواء كان شاباً أم فتاة - والخوف من الحيوانات المفترسة في الصحراء، فماذا أفعل - فالإنسان الذي يقع في مأزق مثل هذا يفهم معنى هذا الكلام، وأي وحشة تسيطر عليه؛ لأنه هناك صفات لدى الإنسان يفهمها في وقتها، ولكن لا يمكنه فهمها من القصة - قال: لقد تملكني هكذا شعور، وفي هذا الأثناء تذكرت تلك الداية المرضعة وحديثها عن الإمام الحجة(عليه السلام)، فقررت الاستغاثة بالحجة(عليه السلام)، فاستغثت به وفجأة شاهدت فارساً قد قصدني وقال: ما تريد؟ قال: عندما جاء لم أعرفه وفكرت أنه شخص عادي، فقال: ما تريد؟ وقد تكلم معي باللغة الفارسية وباللّهجة الأفغانية.

قلت: لقد ظللت الطريق، وقد تركتني القافلة، وأنا قلق ومضطرب.

قال: لا عليك... اتبعني. وكان هو على الفرس وأنا راجل، فتحركنا خطوتين أو ثلاث خطوات، فقال: هذه قافلتك. وما أن قال: هذه قافلتك، حتى خطر ببالي من يكون هذا! فنظرت فلم أره وانتهى الأمر، فعرفت في وقتها أنه الإمام الحجة(عليه السلام)، وكانت ما قالته الداية لي حقاً، فتشيعت في الحال وقدمت إلى مكة، فالتقيت بعالم من علماء الشيعة وسألته عن آداب التشيع، فعلمني ذلك، ومنذ ذلك الحين أنا شيعي، ومهما حاولت القافلة والأقرباء والأصدقاء بأن أرجع عن التشيع لم يتغير رأيي لأنني عرفت الحق فاتبعته عن قناعة.

اعتراف شاعر النيل

هناك الكثير ممن يعرف الحق ولكن لا يعترف به ولا يتبعه، فالحديث النبوي الشريف الذي يصرح بأن: «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة

ص: 266

جاهلية»، أي لم يعترف به، و: إلّا فإن هذا الحديث رواه أبناء العامة أيضاً، كما أنهم ذكروا قول خليفتهم الثاني: (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1).وقوله: (لولا علي لهلك عمر)(2).

وكذلك بالنسبة إلى ما جرى من الظلم على الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام) وهجوم القوم على الباب.

ومع ذلك كله لم يعترفوا بولاية الأئمة الطاهرين من أهل البيت(عليهم السلام).

كان فاروق ملك مصر قبل عبد الناصر...

علماً بأن مصر كانت من بلاد الشيعة ولكن بعد ما قتل صلاح الدين الأيوبي جميع الشيعة هناك وأسقط الدولة الفاطمية تغيرت المعادلة.

وكان في عهد فاروق شاعر مصر المعروف حافظ إبراهيم والذي يسمى ب- : (شاعر النيل)، والنيل نهر مصر، فيعني شاعر البلاد، وله ديوان شعر وقد قرأت ديوانه أنا شخصياً ولا أنقل عن أحد، وديوانه موجود يباع. وقد أقام الملك فاروق احتفالاً عظيماً حضره كافة الوزراء والعسكر وعلماء الأزهر، فألقى حافظ إبراهيم قصيدته التي يقول في مطلعها:

حسبي وحسب القوافي حين أُلقيها *** إني إلى ساحة الفاروق أُهديها

يعني: يكفيني فخراً أن أُهدي قصيدتي هذه إلى الفاروق.

فقيل له: وأي فاروق تريد، هذا الفاروق، أم عمر؟

قال: أي منهما قصدتم فهو صحيح.

ثم ألقى قصيدته، إلى أن وصل إلى هذا البيت:

ص: 267


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 18، نظم درر السمطين: 132.
2- انظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 152، وغيره كثير.

وقولة لعلي قالها عمر *** أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرقت دارك لا أُبقي عليك بها *** إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

لاحظوا أنهم يعرفون كل شيء، ولكن مجرد هذه المعرفة لا تكفي، بل يلزم أن تكون المعرفة مستلزمة لما يترتب عليها.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى مولانا الإمام المهدي المنتظر(عليه السلام)، فإن أبناء العامة كتبوا ورووا حول الإمام المهدي(عليه السلام) الكثير من الكتب والروايات، ولكن هذا بوحده لا يكفي(1).

تعريف الناس بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف

اشارة

نحن أناس قد منّ اللّه علينا بمعرفة إمام زماننا الإمام الحجة(عليه السلام) والاعتقاد به، فعلينا أن نسعى لهداية الآخرين أيضاً إلى ذلك.

إن اللّه قد أعطانا شمساً مضيئة لكننا جعلناها منحصرة بمكان خاص، فلا يكفي مجرد الدعاء للإمام(عليه السلام) بالفرج والتوسل إليه، والقيام ببعض الوظائف المذكورة من التصدق وما أشبه، بل علينا مسؤولية هداية الآخرين لمعرفة هذا الإمام العظيم والاعتقاد بولايته.

فيلزم على كل واحد منا أن يسعى لنشر اسم الإمام(عليه السلام) وعلومه ومدرسته في العالم أجمع، عبر طبع ونشر الكتب وتقديم البرامج التلفزيونية في الفضائيات وغيرها، والاستفادة من الإنترنيت وما أشبه لتعريف العالم بالإمام(عليه السلام).

يوجد في قم المقدسة أحد العلماء - والذي لا يرغب في ذكر اسمه - وقد أتعب نفسه منذ سبع إلى عشر سنوات بجمع الكتب التي أُلفت حول الإمام

ص: 268


1- انظر كتاب: (المهدي(عليه السلام) في القرآن)، و(المهدي(عليه السلام) في السنة)، للمرجع الديني آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازيK.

الحجة(عليه السلام)، وقبل أسبوع أو عشرة أيام أخبرني بأنه تمكن من جمع اسم ألف وثلاثمائة كتاب دُوّنت حول الإمام(عليه السلام) بشكل مستقل باللغة العربية والفارسيةوغيرها.

فقلت له: أتعلم كم نحن مقصرون في حق امام الزمان(عليه السلام)، فإن الإمام(عليه السلام) موجود منذ اثني عشر قرناً تقريباً، إذ ولد عجل الله تعالی فرجه الشريف في سنة مائتين وخمسة وخمسين للهجرة ونحن الآن في سنة ألف وأربعمائة وعدة سنوات للهجرة، ولم يكتب حول الإمام(عليه السلام) سوى 1100إلى 1200كتاب، حسب البحث الطويل الذي دام عدة سنوات لاستقراء هذه الكتب، وهذا يعني أن معدل الكتابة هو كتاب واحد فقط لكل سنة. وإذا ما نظرنا إلى الأرقام العالمية فسنرى كم هذا الرقم ضئيل وقليل.

قاعة (إقبال) في المكتبة البريطانية

ثم نقلت له ما كتب حول إقبال اللاهوري(1):

فقلت: إن أربعة أشخاص قبل خمسين سنة - وأنا أتذكرهم جميعاً - قد أتعبوا أنفسهم من أجل استقلال باكستان، وهم:

1- محمد علي جناح(2).

2- خان عبد الغفار خان.

3- إقبال اللاهوري.

4- راجو محمود آباد.

وقد شاهدت هذا الأخير عندما جاء إلى العراق للزيارة، فهؤلاء الأربعة قد

ص: 269


1- شاعر وفيلسوف مسلم باكستاني.
2- سياسي هندي مسلم.

تحملوا المشاق والمتاعب الكبيرة وضحوا بأموالهم وأنفسهم فجعلوا من باكستان دولة مستقلة، وقد رحلوا كلهم عن الدنيا، أحد هؤلاء الأربعة اسمه إقبال، وإقبال توفي حديثاً يعني قبل ثلاثين أو خمس وثلاثين سنة، أما خان عبد الغفار خانفقبل عشر سنوات، لقد كانوا معاصرين لنا.

وكان إقبال أشهرهم، وقد كتب عنه أصدقاؤه كثيراً من الكتب في تاريخه وسيرته، فكم بلغ عدد الكتب التي كتبت عنه؟

إنها بلغت خمسة آلاف كتاب وكراس.

ينقل أحد المعاصرين له وهو من أصدقائنا المعممين، ويقول: لقد سافرت إلى بريطانيا، فذهبت إلى المكتبة الوطنية هناك، فسألت أمين المكتبة وقلت: هل عندكم كتاب حول إقبال؟

قال: ليس عندنا كتاباً فقط بل عندنا قاعة خاصة حول إقبال وتدعى: (قاعة إقبال)، وكان يتكلم بالفارسية.

فقلت: أتأذن لي بدخولها؟

قال: تفضل، وأرسل معي شخصاً ليرشدني، وكانت القاعة كبيرة، وكانت مملوءة بأقفاص الكتب من أرضها إلى سقفها، وكان جميعها حول إقبال.

قال: بما أني كنت أعرف أربع لغات هي: الفارسية والعربية والتركية والأُردية. قلت: وأين هي؟

قال: هناك، وأرشدني إليها بحيث كان مجموع هذه الكتب باللغات الأربعة يبلغ أربعمائة وعشرون كتاباً قد طبعت بهذه اللغات، بالإضافة إلى كتب أخرى بسائر اللغات كالصينية والهندية والإنجليزية وما أشبه فلم أحصها، ولكن الذي أحصيتها بهذه اللغات الأربعة فقط بلغ أربعمائة وعشرين كتاباً.

ص: 270

والآن كم نحن مقصرون وقاصرون في حق الإمام الحجة(عليه السلام).

فإقبال كان فرداً نشطاً وشاعراً معروفاً وله عدة قصائد، وقد قرأت بعض قصائده، وبيته موجود إلى الآن في باكستان وقد تحول إلى متحف، إنه يُكتب عنهخمسة آلاف عنوان بحيث تشكل مكتبة كاملة، عندها نحن وخلال اثني عشر قرناً لم نكتب حول الإمام الحجة(عليه السلام) سوى ألف وثلاثمائة كتاب.

إن قم وحدها تتمكن من تعريف إمام الزمان(عليه السلام) إلى العالم بأجمعه، ففي قم يوجد خمسة وعشرون ألف رجل دين، فإذا ما كتب كل واحد منهم كتاباً حول إمام الزمان(عليه السلام) خلال سنة واحدة، فكم يصبح العدد دفعة واحدة، يصبح خمسة أضعاف الكتب المؤلفة حول إقبال.

لكننا ومع الأسف أصبحنا أمة متأخرة ومتخلفة، فلا نعمل بمسؤولياتنا الدينية تجاه أئمتنا الطاهرين(عليهم السلام)، بالرغم من أننا كنا أصحاب الهمم والثقافة والتقدم في بدو الأمر، حيث كانت الهمة همتنا، والتقدم لعلومنا، فإن تطور الغرب وتقدمه كان ببركة علوم الإسلام وعلوم أهل البيت(عليهم السلام).

تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام

العلامة السيد حسن الصدر من علماء الشيعة المرموقين ألف كتاباً تحت عنوان: (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) يقول في هذا الكتاب: إن الشيعة هم الذين أسسوا كافة العلوم الإسلامية، ثم إن سائر المذاهب أخذوا منهم(1)، لقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة: إن كافة العلوم قد أخذت عن علي بن أبي طالب(عليه السلام)(2).

ص: 271


1- انظر مقدمة الكتاب.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 17.

لا حظوا بأن مثل ابن أبي الحديد والذي لم يكن شيعياً يعترف بأننا كنا في المقدمة.

ولكن ماذا حصل لنا حيث تأخرنا قليلاً قليلاً؟

نعم يلزم علينا أن نجدد نشاطنا في مختلف المجالات وخاصة في ما يرتبط بتعريف الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) إلى العالم، فنؤلف الكتب حول الإمام الحجة(عليه السلام) ليتعرف على وجوده المبارك جميع الناس ويعرفون أنه المنقذ الحقيقي الحي، فالأئمة(عليهم السلام) كلهم منقذون ولا شبهة في الموضوع، ولكن هذا العصر هو عصر الإمام المهدي(عليه السلام)، وهو المنقذ للبشرية بإذن اللّه تعالى، مضافاً إلى أن الأئمة(عليهم السلام) هم الذين أمرونا وأرشدونا نحو الإمام(عليه السلام).

كان أحد الأشخاص المؤمنين يزور الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء المقدسة لحاجة له وذلك لمدة غير قصيرة، فرأى الإمام الحسين(عليه السلام) في عالم الرؤيا وهو يقول له: اذهب إلى سامراء واطلب حاجتك من الإمام الحجة(عليه السلام)؛ لأنه إمامك الحي. وهذا لا ينافي ما ورد من أن الدعاء تحت قبة الإمام الحسين(عليه السلام) مستجاب حتماً(1).

كما أن الإمام الهادي(عليه السلام) في قصة أرسل شخصاً إلى قبر الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء ليدعو اللّه تعالى.

فعن سهل بن زياد، عن أبي هاشم الجعفري، قال: بعث إليّ أبو الحسن(عليه السلام) في مرضه وإلى محمد بن حمزة، فسبقني إليه محمد بن حمزة، وأخبرني محمد: ما زال يقول: «ابعثوا إلى الحَيْرِ، ابعثوا إلى الحَيْرِ»(2). فقلت لمحمد: ألّا قلت له:

ص: 272


1- انظر وسائل الشيعة 14: 537.
2- أي: ابعثوا رجلاً إلى حائر الحسين(عليه السلام) يدعو لي هناك.

أنا أذهب إلى الحَيْرِ.

ثم دخلت عليه، وقلت له: جعلت فداك، أنا أذهب إلى الحَيْرِ. فقال(عليه السلام):«انظروا في ذاك»(1)...

قال: فذكرت ذلك لعلي بن بلال، فقال: ما كان يصنع بالحَيْرِ، وهو الحَيْرُ(2)؟

فقدمت العسكر فدخلت عليه، فقال لي: «اجلس» حين أردت القيام، فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال. فقال لي: «ألا قلت له: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر، وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره اللّه عزّ وجلّ أن يقف بعرفة، وإنما هي مواطن يحب اللّه أن يذكر فيها، فأنا أحب أن يدعى اللّه لي حيث يحب اللّه أن يدعى فيها...»(3).

فإن ما قام به الإمام الهادي(عليه السلام) يدل على موضوعية الحائر الحسيني الشريف لاستجابة الدعاء، كما هو تعليم لنا، وكذلك قصة ذلك الزائر الذي أرسله الإمام الحسين(عليه السلام) إلى سامراء، فإنه للتعليم أيضاً بحيث نسعى وراء إمامنا الحي.

الخاتمة

وفي الختام ينبغي التأكيد على ضرورة النشاط الثقافي والتبليغي للتعريف بالإمام الحجة(عليه السلام) إلى العالم كافة، وذلك بتأليف كل واحد من طلبة العلوم

ص: 273


1- فإن الذهاب إلى كربلاء كان مظنة للأذى والضرر، فانظروا في ذلك، لأن المتوكل (لعنه اللّه) كان يمنع الناس من زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) أشد المنع.
2- أي: هو في الشرف مثل الحائر الحسيني الشريف، فأي حاجة له في أن يدعى له عند قبر الإمام الحسين(عليه السلام).
3- الكافي 4: 567.

الدينية وغيرهم من المؤمنين كتاباً حول الإمام(عليه السلام)، وترجمة هذه الكتب إلى مختلف اللغات العالمية.بالإضافة إلى ضرورة الاستفادة من التقنيات الحديثة لتعريف الناس بإمام زمانهم(عليه السلام) من الإذاعات والفضائيات والإنترنيت وغيرها.

ص: 274

قبس من شعاع الإمام الحسين(عليه السلام)

الشهادة والحياة الأبدية

اشارة

قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(1).

تشير الآية الكريمة إلى حال الذين يقتلون في سبيل اللّه، وتؤكد لنا استمرار حياتهم بعد القتل، وأنهم يبقون أحياءٌ، فإن من استشهد في سبيل اللّه لا تنتهي حياته، بل يبقى حياً يرزق، وهذا ما تؤكده الآية المباركة.

فكما أن هذه الحياة المادية ذات مراتب منها مرتبة كاملة نسبياً كمن كان سعيداً فرحاً، ومنها مرتبة ناقصة كمن كان شقياً حزيناً، كذلك من مات يكون على قسمين - بعد بقاء كليهما في حياة من لون آخر - قسم يكون حياً هناك أي سعيداً فرحاً وقسم يكون ميتاً هناك أي شقياً حزيناً(2).

وكيف لا؟ والشهداء هم الذين ضحّوا بأنفسهم في سبيل العقيدة، وفي سبيل إعلاء كلمة التوحيد والحق، وأناروا الحياة بدمائهم الزكية، كي يتسنى للأجيال التمسّك بعرى الإسلام.

وقد يكون المضحّي بنفسه بالإضافة إلى أنه شهيد وقد وعد اللّه بحياته، يكون

ص: 275


1- سورة آل عمران، الآية: 169.
2- انظر تفسير تقريب القرآن 1: 417.

عروة من عرى الإيمان والعقيدة وإماماً من أئمة المسلمين، كما هو الحال بالنسبة لسيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) فما أعظم هذا الشهيد وما أرفع مكانته وقد قال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «وأما الآخرة فبنور وجهك مشرقة»(1).

الإمام المعصوم

وإذا أردنا أن نتعرف قليلاً على هذه الشخصية العظيمة، فإنه ينبغي أن نقرأ بعض الأحاديث التي تبين مكانة الإمام المعصوم(عليه السلام) عند اللّه عزّ وجلّ ومقامه التكويني والتشريعي.

فقد جاء عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(2) قال(عليه السلام): «طاعة اللّه ومعرفة الإمام»(3).

وكذلك جاء عن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٖ مَّعِينِ}(4)، قال(عليه السلام): «إذا غاب عنكم إمامكم فمن يأتيكم بإمام جديد»(5).

وجاء عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره؟! هيهات هيهات! ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء... وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله وأقرت بالعجز والتقصير...»(6).

ص: 276


1- انظر مقتل الحسين(عليه السلام) للمقرم: 337.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- الكافي 1: 185.
4- سورة الملك، الآية: 30.
5- الكافي 1: 340.
6- الكافي 1: 201.

وقال(عليه السلام) أيضاً: «... الإمام أمين اللّه في خلقه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى اللّه والذاب عن حرم اللّه...»(1).

إذن، من خلال هذه الأحاديث الشريفة وكثير غيرها يمكن أن نعرف بعض مكانة الإمام الحسين(عليه السلام)، وقربه من اللّه عزّ وجلّ ودوره في قيادة المجتمع الإنساني وهدايته، فإذا أردنا أن نحلّ بساحة الرحمة الإلهية، ونحصل على السعادة الدنيوية والأخروية، فلا بد أن نتبع خطى الإمام الحسين(عليه السلام)، ونسير على طريقه الذي رسمه للأجيال بدمه الشريف، وهذا الأمر أيضاً يصدق على بقية الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، إلّا أن بحثنا الآن يدور حول أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام).

نعم، فقد امتاز الإمام الحسين(عليه السلام) عن سائر الشهداء والثائرين بخصائص تفوق كل الشهداء فأصبح سيد الشهداء من الأولين والآخرين، وهذا لا باعتباره إماماً معصوماً فقط، ولا لأنه سبط(2) رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وريحانته من الدنيا(3) فحسب، بل لجلالة الأهداف التي فجّر ثورته من أجلها، وعظمة التضحية التي قدّمها(عليه السلام)، وتكاملية الأبعاد فيها، ومن هنا جاء التأكيد الكبير على الشعائر الحسينية وزيارة الإمام الحسين(عليه السلام).

زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)

إن المتتبع للأحاديث التي جاءت حول فضل زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) يدرك عظمة هذا الشهيد الطاهر، وعلو مكانه، وارتفاع شأنه وشموخه في العالمين ومقامه عند اللّه عزّ وجلّ.

ص: 277


1- الكافي 1: 200.
2- انظر الإرشاد 2: 127.
3- انظر عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 27.

يقول معاوية بن وهب: استأذنت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فقيل لي: أدخل،فدخلت، فوجدته في مصلاه في بيته، فجلست حتى قضى صلاته، فسمعته يناجي ربه وهو يقول: «اللّهم يا من خصنا بالكرامة، ووعدنا بالشفاعة، وخصنا بالوصية، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولأخواني وزوار قبر أبي الحسين، الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم، رغبة في برنا، ورجاءاً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدونا، أرادوا بذلك رضاك، فكافهم عنا بالرضوان، وأكلأهم بالليل والنهار، وأخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف، واصحبهم واكفهم شر كل جبار عنيد، وكل ضعيف من خلقك وشديد، وشر شياطين الإنس والجن، واعطهم أفضل ما أملوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم.

اللّهم إن أعدائنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، خلافاً منهم على من خالفنا، فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلب على حضرة أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا.

اللّهم إني أستودعك تلك الأبدان، وتلك الأنفس حتى توفيهم على الحوض يوم العطش الأكبر».

- قال الراوي - : فما زال يدعو وهو ساجد بهذا الدعاء فلما انصرف قلت: جعلت فداك لو أن هذا الذي سمعت منك كان لمن لايعرف اللّه عزّ وجلّ لظننت أن النار لا تطعم منه شيئاً أبداً، واللّه لقد تمنيت أني كنت زرته ولم أحج.

ص: 278

فقال لي(عليه السلام): «ما أقربك منه فما الذي يمنعك من زيارته؟».ثم قال(عليه السلام): «يا معاوية لم تَدَعُ ذلك؟».

قلت: جعلت فداك لم أر أن الأمر يبلغ هذا كله.

فقال: «يا معاوية من يدعو لزواره في السماء أكثر ممن يدعو لهم في الأرض»(1).

روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه في أول ولاية أبي جعفر - المنصور - نزل النجف، وقال لأعرابي كان في الطريق: «من أين قدمت؟» قال: من أقصى اليمن... ثم قال له: «فبما جئت هيهنا؟».

قال: جئت زائراً للحسين(عليه السلام).

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «فجئت من غير حاجة ليس إلّا للزيارة؟».

قال: جئت من غير حاجة إلّا أن أصلي عنده وأزوره فأسلم عليه وأرجع إلى أهلي.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «وما ترون في زيارته؟».

قال: نرى في زيارته البركة في أنفسنا وأهالينا وأولادنا، وأموالنا، ومعايشنا وقضاء حوائجنا.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أفلا أزيدك من فضله فضلاً يا أخا اليمن؟».

قال: زدني يابن رسول اللّه.

قال: «إن زيارة الحسين(عليه السلام) تعدل حجة مقبولة زاكية مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»، فتعجب من ذلك.

قال(عليه السلام): «إي واللّه وحجتين مبرورتين متقبلتين زاكيتين مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)» فتعجب، فلم يزل أبو عبد اللّه(عليه السلام) يزيد حتى قال: «ثلاثين حجة مبرورة متقبلة

ص: 279


1- كامل الزيارات: 116.

زاكية مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(1).

وروي عن ابن عباس قول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) له والحسين(عليه السلام) على عاتقه يقبله: «من زاره عارفاً بحقه كتب اللّه له ثواب ألف حجة وألف عمرة، ومن زاره كمن زارني ومن زراني كمن زار اللّه في عرشه، وحق الزائر على المزور وهو اللّه تعالى أن لا يعذبه في النار ألّا أن الإجابة تحت قبته والشفاء في تربته، والأئمة من ذريته...»(2).

أحاديث في فضله(عليه السلام)

أما ما ورد من أحاديث في بيان مكانة الإمام أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) فكثير جداً، فقد جاء عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء، فلينظر إلى الحسين»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا وإن الحسين باب من أبواب الجنة، من عاداه حرّم اللّه عليه رائحة الجنة»(4).

ولعل هذا الحديث يكفي عن سرد بقية الأحاديث الواردة عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في فضله(عليه السلام)، ومكانته عند اللّه عزّ وجلّ.

أما ما ورد في فضله(عليه السلام) وفضل تعظيم شعائره عن أهل البيت(عليهم السلام) فهي كثيرة جداً فقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «من ذكرنا عنده ففاضت عيناه حرم اللّه وجهه على النار»(5).

ص: 280


1- كامل الزيارات: 162.
2- الصراط المستقيم 2: 145.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 73.
4- مائة منقبة: 22.
5- كامل الزيارات: 104.

فما حسبك في من بكى على الإمام الحسين(عليه السلام) الذي هو سيد الشهداء وقتيل العبرة؟ وقد قال الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف في زيارته للحسين(عليه السلام) المسماة بزيارة الناحية المقدسة: «السلام على من جعل الشفاء في تربته، السلام على من الإجابة تحت قبته، السلام على من الأئمة في ذريته...»(1).

ويكفي أن نقول: إن العبارة الأولى (الشفاء في تربته) كافية لبيان الإعجاز الإلهي في هذا الأمر، وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدل على مكانته(عليه السلام) وشرفه.

وقد ذكرنا في بعض كتبنا شيئاً من كرامات الإمام الحسين(عليه السلام)، مثل تكلّم رأسه الشريف، أو سطوع النور منه وهو مقطوع، وعلى الرمح مشروع.

التسبيح بتربته(عليه السلام)

روى عبد اللّه بن إبراهيم بن محمد الثقفي عن أبيه عن الإمام الصادق(عليه السلام): «أن فاطمة(عليها السلام) كانت مسبحتها من خيط صوف مفتل معقود عليه عدد التكبيرات، فكانت بيدها(عليها السلام) تديرها تكبر وتسبح إلى أن قتل حمزة بن عبد المطلب(عليه السلام)، فاستعملت تربته وعملت التسابيح، فاستعملها الناس، فلما قتل الحسين(عليه السلام) وجدد على قاتله العذاب عدل بالأمر عليه فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزية»(2).

وكذلك جاء عنهم(عليه السلام) بيان عظيم الفضل في التسبيح بتربة أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) أن الحور العين إذا أبصرن واحداً من الأملاك يهبط إلى الأرض لأمر ما، يستهدين التسبيح والتربة من قبر الحسين(عليه السلام)(3).

ص: 281


1- المزار الكبير: 497.
2- كتاب المزار: 150.
3- كتاب المزار: 151.
شهداء مع الإمام الحسين(عليه السلام)

ثم إنه من أهم ما جعل نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) تمتاز على سائر النهضات طول التاريخ هو عظيم فضل أصحابه الذين استشهدوا معه، حيث قال الإمام الحسين(عليه السلام): «فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولاخيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي»(1).

فهذا أبو الفضل العبّاس بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) أمه أم البنين بنت حزام بن خالد بن دارم الكلابية أحد أعظم شهداء الطف، وله الكثير من الكرامات والفضل، وهي تدل على علو منزلته ودرجة قربه من اللّه عزّ وجلّ، وفيه(عليه السلام) قال الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام): «رحم اللّه العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه، فأبدله اللّه عزّ وجلّ بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند اللّه تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة»(2). ثم إن العباس(عليه السلام) هو باب الحوائج إلى اللّه عزّ وجلّ وهذا من مصاديق كون الشهداء أحياء عند ربهم، حيث الناس يستفيدون من نورهم حتى بعد شهادتهم، ويتوسلون بهم وتقضى حوائجهم، ولا بأس بذكر قصة على سبيل المثال تبين مكانة الشهيد وكيف أن عطاءه لا ينتهي أبداً.

قصة من كرامات الشهيد

اشارة

قبل خمسة عشر عاماً كان هناك بائع للبلور في كربلاء المقدسة، وفي أحد الأيام وعندما رجع من عمله إلى المنزل فوجئ بعدد كبير من الأكراد الذين

ص: 282


1- الإرشاد 2: 91.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 462.

يقطنون شمال العراق في منزله، فتعجب هذا البائع، حيث أصابته الدهشة، فجاءإلى زوجته لتخبره بالخبر!

فهدأت الزوجة زوجها وحاولت أن تذكِّره، فقالت: ألّا تذكر قصة ذلك الرجل الكردي الذي جاء في العام المنصرم مع زوجته في بيتنا، وكانت زوجته قد أصابها العقم حوالي (20 سنة) وكانت قد ذهبت إلى العديد من الدول الأجنبية للمداواة لكنها لم تجنِ سوى اليأس، فقلت لها: نحن عندنا طبيب هو أفضل من كل طبيب، وبلا أي تكلفة.

فقالت المرأة الكردية: من هذا الطبيب وأين هو؟ لنذهب إليه الآن.

فقلت لها: ذاك هو أبو الفضل العباس(عليه السلام)، فأخذتها إلى حرم أبي الفضل، وقلت لها: إن مولانا أبا الفضل ما قدِمَ إليه أحد يطلب حاجة إلّا أعطاه اللّه تعالى ببركته(عليه السلام).

فأخذت المرأة بالتكلم مع أبي الفضل(عليه السلام) بقلب مهموم، وتئن وهي محزونة، وبعدها خرجنا وقد زرع اللّه تعالى في قلبها الأمل.

وبعد أيام حملت المرأة ثم وضعت طفلاً، ألّا تذكر هذه المرأة؟

فقال الرجل بائع البلور: نعم لقد تذكرت، ولكن هؤلاء ماذا يريدون الآن؟

فقالت زوجته: هؤلاء أيضاً ممن أصيبت زوجاتهم بالعقم وهم أيضاً من الأخوة الأكراد وتلك المرأة هي التي دلتهم علينا، ونصحتهم بالذهاب إلى كربلاء عند ضريح أبي الفضل العباس(عليه السلام) ليطلبوا عنده من اللّه أن يرزقهم الأطفال، كما رزق هذه المرأة.

وهذه القصة واحدة من آلاف القصص التي تتحدث عن عطاء الشهداء وعن قرب منزلتهم من اللّه تعالى حيث جعلهم أحياء عنده يرزقون(1).

ص: 283


1- انظر كتاب (العباس(عليه السلام) والعصمة الصغرى، للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
يوم عاشوراء

هناك أيام أثرت في تغيير مجرى الحياة، من أهمها يوم عاشوراء، فكما أن يوم السابع والعشرين من شهر رجب ذكرى المبعث النبوي الشريف أثر في تغيير مجرى الحياة، وكما أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عمل على زرع الإسلام والإيمان في نفوس الأفراد، كذلك يوم عاشوراء وتضحية أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) أثر على إعادة الإيمان إلى القلوب، وإرجاع صورة الإسلام التي حاولت الأيدي الآثمة طمسها وتغييرها.

فعندما طلب كفار قريش من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) التنازل عن دعوته مقابل مجموعة من الامتيازات الدنيوية الزائلة أجابهم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «واللّه لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره اللّه، أو أهلك»(1).

حيث أبدى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلابته في الدعوة إلى اللّه، كذلك كان أبو عبد اللّه الحسين(عليه السلام) حيث جسَّد صلابته في كربلاء المقدسة في عدة مواقف هي أقوى من أن يلفها النسيان ويطويها الزمان، ففي ظهيرة يوم عاشوراء عندما ذكّره أحد أصحابه بحلول وقت الصلاة قال(عليه السلام): نعم هذا أول وقتها، فقام(عليه السلام) وصلى صلاة الظهر جماعة بأصحابه(2)، رغم احتدام المعركة، وتكالب الأعداء على معسكره(عليه السلام) ولكنه لم يترك فرضاً من فرائض اللّه تعالى، باعتباره وقف هذه الوقفة؛ من أجل صيانة الفرائض وإقامة الدين وإحياء الإسلام وقوانينه.

وقد ورد في زيارة الإمام الحسين(عليه السلام): «أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت

ص: 284


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 54.
2- انظر بحار الأنوار 45: 21.

الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر»(1). فيوم عاشوراء هو اليوم الذي يعلمنا كيف نصحح سيرتنا في هذه الحياة، ونجعلها مطابقاً لسيرة الإمام الحسين(عليه السلام) وطريقته، الذي ضحى بكل ما يملك من أجل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الفرائض والعمل بالقرآن والتمسك بأهل البيت(عليهم السلام).

من كرامات سيد الشهداء(عليه السلام)

نعم، إن الإمام الحسين(عليه السلام) حيّ وسيبقى حياً كما وَعَد اللّه بذلك في كتابه الكريم(2)، وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»(3)، وقد ذكرنا أن من مصاديق حياتهم(عليهم السلام) هو استمرارية كراماتهم ومعاجزهم والتي يمكن للإنسان أن يدرك من خلالها عظمة أهل البيت(عليهم السلام) وعظمة سيد الشهداء(عليه السلام) ومقام الشهادة.

يذكر إن شخصاً سافر من إيران إلى كربلاء المقدسة لزيارة الإمام الحسين(عليه السلام)، ولم تكن آنذاك أية وسيلة للنقل من وسائل هذه الأيام، وحينما وصل ذلك الزائر الإيراني إلى قرب نهر الفرات في قضاء (المسيّب)(4). رآه أحد المزارعين وكان من النواصب، فضحك منه، وقال له: أنتم الشيعة إلى متى تصدّقون هذه الخرافات، وتظلّون تبكون، وتقرؤون التعازي، وتأتون لزيارة شخص مات قبل (1200) عام.

ص: 285


1- كامل الزيارات: 203.
2- حيث قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} سورة آل عمران، الآية: 169.
3- مستدرك الوسائل 10: 318.
4- يمر بهذا القضاء نهر الفرات الذي يفصل بين بغداد وكربلاء والحلة وهو قضاء تابع لمدينة بابل يبعد عن كربلاء المقدسة (42كم).

فلما سمع الزائر قول ذلك الناصبي تأثر كثيراً، وقال له سأشكوك عند أمير المؤمنين، فأخذ الرجل يستهزئ به، فلما وصل الزائر الإيراني إلى النجف الأشرف خاطب الإمام(عليه السلام) قائلاً: يا مولاي، يا ابن عمّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إني كنت قد جئتك بعشرات الحاجات، ولكني الآن لي حاجة واحدة فقط، وهي مجازاة ذلك المزارع الناصبي حيث أخذ يستهزأ بي وبعقيدتي.

وفي الليل وبينما كان الزائر نائماً، رأى في منامه أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) يكلمه، ويقول له: يا فلان إنك ومن أجل زيارتنا قطعت هذه المسافات الطويلة، فلك عندنا المنزلة والجاه والمقام، ولكنا لا نستطيع أن نجيبك إلى ما طلبت من معاقبة الرجل الناصبي، فإن لذلك الناصبي حقاً علينا: ففي أحد الأيام، وحينما كان يحرث الأرض بقرب الفرات، وقع بصره مرّة على الماء، فتذكر عطش أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)، وقال في نفسه: كم هم ظالمون أهل الكوفة، إذ لم يسقوا الحسين(عليه السلام) وعياله قطرة من هذا الماء الجاري، ثم سقطت من عينه قطرة من الدمع، لذا فإن له حقاً عندنا.

بعد ذلك وبعد أن قضى عدة أيام في النجف وكربلاء، عاد الزائر ومن نفس الطريق إلى إيران، فمر أثناء عودته بذلك المزارع، فقال له المزارع: أيها الإيراني هل اشتكيتني إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام)؟

فقال له الإيراني: نعم شكوتك، ولكن الإمام(عليه السلام) أجابني بكذا وكذا، ثم ذكر له جواب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) مفصّلاً، فبكى ذلك المزارع كثيراً، وتشيَّع من ساعته.

فسأله الإيراني: عن سبب بكائه وتشيعه؟

فقال له المزارع: إن ما قاله لك الإمام(عليه السلام) صحيح جداً، ولم يعلم بهذا الخبر إلّا اللّه وأنا. لذا فعرفت أن إمامكم على الحق، لأنه اطّلع على ما في باطني.

ص: 286

الحسين(عليه السلام) مصباح الهدى

ليس غريباً ولا عجيباً حينما تظهر الكرامات على يد الإمام الحسين(عليه السلام)، لأننا لو تتبعنا سيرة الإمام الحسين(عليه السلام)، من ولادته إلى لحظات استشهاده وعرفنا شيئاً عن عظيم شخصيته ومقامه عند اللّه عزّ وجلّ، لزال هذا الاستغراب عنا.

فقد روي أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يضع إبهامه في فم الحسين(عليه السلام) والحسين يمصّ منها ما يكفيه اليومين والثلاثة، ثم يقول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إيهاً حسين، إيهاً حسين، أبى اللّه إلّا ما يريد، هي فيك وفي ولدك»(1).

كما أخذت ملائكة اللّه تعالى بالنزول والسلام والتهنئة للرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، بمناسبة مولد الحسين(عليه السلام) وذلك بأمر من اللّه عزّ وجلّ، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «كان ملك بين المؤمنين يقال له صلصائيل بعثه اللّه في بعث فأبطأ فسلبه ريشه ودق جناحيه وأسكنه في جزيرة من جزائر البحر إلى ليلة ولد الحسين(عليه السلام) فنزلت الملائكة واستأذنت اللّه في تهنئة جدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتهنئة أمير المؤمنين(عليه السلام) وفاطمة(عليها السلام) فأذن اللّه لهم فنزلوا أفواجاً من العرش ومن سماء سماء، فمروا بصلصائيل وهو ملقى بالجزيرة فلما نظروا إليه وقفوا، فقال لهم: يا ملائكة ربي، إلى أين تريدون وفيم هبطتم؟

فقالت له الملائكة: يا صلصائيل قد ولد في هذه الليلة أكرم مولود ولد في الدنيا بعد جده رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبيه علي(عليه السلام) وأمه فاطمة(عليها السلام) وأخيه الحسن(عليه السلام) وهو الحسين(عليه السلام)، وقد استأذنا اللّه في تهنئة حبيبه محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لولده فأذن لنا.

فقال صلصائيل: يا ملائكة اللّه إني أسألكم باللّه ربنا وربكم وبحبيبه

ص: 287


1- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 50، وفيه فجعل لسانه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في فمه فجعل الحسين(عليه السلام) يمص، حتى قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إيهاً يا حسين إيهاً حسين، ثم قال: أبا اللّه إلا ما يريد هي فيك وفي ولدك، يعني الإمامة».

محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)وبهذا المولود أن تحملوني معكم إلى حبيب اللّه، وتسألونه وأسأله أن يسأل اللّه بحق هذا المولود الذي وهبه اللّه له أن يغفر لي خطيئتي ويجبر كسر جناحي ويردني إلى مقامي مع الملائكة المقربين، فحملوه وجاءوا به إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهنئوه بابنه الحسين(عليه السلام) وقصوا عليه قصة الملك وسألوه مسألة اللّه والإقسام عليه بحق الحسين(عليه السلام) أن يغفر له خطيئته، ويجبر كسر جناحه، ويرده إلى مقامه مع الملائكة المقربين.

فقام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدخل على فاطمة(عليها السلام) فقال لها: ناوليني ابني الحسين فأخرجته إليه مقموطاً يناغي جده رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فخرج به إلى الملائكة فحمله على بطن كفه فهللوا وكبروا وحمدوا اللّه تعالى وأثنوا عليه، فتوجه به إلى القبلة نحو السماء، فقال: اللّهم إني أسألك بحق ابني الحسين أن تغفر لصلصائيل خطيئته وتجبر كسر جناحه وترده إلى مقامه مع الملائكة المقربين، فتقبل اللّه تعالى من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما أقسم به عليه وغفر لصلصائيل خطيئته، وجبر كسر جناحه ورده إلى مقامه مع الملائكة المقربين»(1).

إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في فضل الإمام الحسين(عليه السلام) وعلو شأنه، ومكانته عند اللّه، وعند رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقد جاء عن أبيّ بن كعب أنه قال: دخل على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحسين(عليه السلام)، فقال له: «مرحباً بك يا أبا عبد اللّه، يا زين السماوات والأرضين».

فقال له أبيّ: وكيف يكون يا رسول اللّه زين السماوات والأرضين أحد غيرك؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبيّ، والذي بعثني بالحق نبياً، إن الحسين بن علي(عليهما السلام) في السماء أكبر منه في الأرضين، وإنه لمكتوب من يمين العرش، الحسين مصباح

ص: 288


1- بحار الأنوار 43: 259.

الهدى وسفينة النجاة» ثم أخذ بيده، وقال(عليه السلام): «أيها الناس هذا الحسين بن علي فاعرفوه وفضلوه، كما فضله اللّه، فوالذي نفسي بيده، إنه لفي الجنة، ومحبيه في الجنة، ومحبي محبيه في الجنة»(1).

وقال أبو عبد اللّه الإمام الصادق(عليه السلام): «... بأبي قتيل كل عبرة، قيل: وما قتيل كل عبرة يا بن رسول اللّه؟ قال: لا يذكره مؤمن إلّا بكى»(2).

وهناك حادثة تاريخية مشهورة تدل في ما تدل على عظمة الإمام الحسين(عليه السلام) وشدة محبة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) له حيث ذكروا أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يخطب على المنبر، إذ خرج الحسين(عليه السلام) فوطئ في ثوبه وسقط فبكى، فنزل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فضمه إليه، وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... والذي نفسي بيده، ما دريت أني نزلت عن منبري»(3).

هذا موقع الإمام الحسين(عليه السلام) من قلب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وهذا مقدار الحب الذي يكنه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) له، ولعل كل ما قاله الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الإمام الحسين(عليه السلام) هو مقدار من عظمته(عليه السلام)، ولعل الذي وصلنا هو أقل من ذلك بكثير.

هدف الإمام الحسين(عليه السلام)

إن الإمام أبا عبد اللّه الحسين(عليه السلام) كان يقول: «أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر أسير بسيرة جدي وسيرة أبي علي بن أبي طالب...»(4).

إنه كان يريد أن يُخرج الأمة من المنكر إلى المعروف، كان يريد أن يضع حداً للمنكر، وأن ينتشل الأمة من الحضيض الذي أركست فيه إلى العز، وذلك عندما

ص: 289


1- انظر مدينة المعاجز 4: 51؛ معالي السبطين 1: 86.
2- مستدرك الوسائل 10: 318.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 71.
4- مناقب آل أبي طالب 4: 89.

رضيت الأمة الإسلامية بواقعها المتردّي، المتمثل بالخمول، والركون إلى الدنيا،والسكوت على الظلم، وتسلط الظالمين من أمثال يزيد وأبيه وأضرابهم، فأراد الإمام الحسين(عليه السلام) أن يبث روح الإيمان والحق فيها لتنهض من جديد، كما كانت في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لأنه كان يرى أن الدين على وشك أن يُحرَّف، فأراد أن يعيد الدين غضاً طرياً.

هكذا صار الإمام الحسين(عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة النجاة، ومن هنا صار(عليه السلام) صفوة اللّه؛ فقد جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أدخلت الجنة فرأيت على بابها مكتوباً بالذهب: لا إله إلّا اللّه، محمد حبيب اللّه، علي ولي اللّه، فاطمة أَمة اللّه، الحسن والحسين صفوة اللّه، على مبغضيهم لعنة اللّه»(1).

إن التمسّك بصفوة اللّه، والاستنارة بهذا المصباح الإلهي يكون هداية في الدنيا، ونجاة في الآخرة، لأن حب الإمام الحسين(عليه السلام) يستتبع العمل الصالح، وذلك لأنه(عليه السلام) مصباح ينير طريق الحق لسالكيه، ولأنه(عليه السلام) فرّق بين طريق الحق وطريق الباطل بنهضته المباركة، ولسان حاله(عليه السلام):

إن كان دين محمد لم يستقم *** إلّا بقتلي فيا سيوف خذيني(2)

ومن المعلوم كما رواه الفريقان أن الإمام الحسين(عليه السلام) من أهل البيت، فهو خامس أصحاب الكساء، الذين نزلت فيهم آية التطهير في قوله تعالى:

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(3).

ص: 290


1- الخصال 1: 324.
2- من قصيدة للشيخ محسن أبو الحب الكبير(رحمه اللّه).
3- سورة الأحزاب، الآية: 33.

فهو(عليه السلام) بدليل القرآن من أهل البيت(عليهم السلام)، الذين حبهم نجاة وبغضهم هلكة، وقدقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ­«حبّي وحبّ أهل بيتي نافع في سبعة مواطن، أهوالهن عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط»(1).

حقاً إن الإمام الحسين(عليه السلام) مصباح الهدى، فما زال نوره وضياؤه يشرق علينا بالبركة والخير فهو يميز الحق من الباطل في جميع العصور والأزمان مضافاً إلى استمرارية نوره في ذريته الطاهرة، وذلك عبر الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف، فهو حفيد الإمام الحسين(عليه السلام)، لأن اللّه تعالى كرامة للحسين(عليه السلام) جعل الأئمة - وهم حفظة الدين - من صلبه(عليه السلام)، كما ورد في الحديث الشريف، وكان ذلك عوضاً عن شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) وعظيم ما لاقاه من المصائب التي جرت عليه يوم عاشوراء وما بعده.

مصائب الحسين(عليه السلام)

عندما يقع الشهيد بين يدي المسلمين فإن الواجب هو أن يحمل جسده بكل احترام حتى يُوارى في قبره، لكن هذا لم يجر أبداً مع جسد الإمام الحسين الطاهر(عليه السلام)، بل إن رأسه الشريف، بعدما فصل عن بدنه، حمل على الرماح من كربلاء إلى الشام(2).

وعندما جيء برأس الحسين(عليه السلام) إلى مجلس يزيد، فبدلاً من أن يوضع في محل محترم؛ وضع في طشت، وأخذ يزيد قضيباً من الخيزران ونكت به ثنايا أبي عبد اللّه(عليه السلام)(3).

ص: 291


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 10.
2- انظر مقتل الحسين(عليه السلام) للخوارزمي 2: 39.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 165.

وعندما كان الرأس الشريف لا يزال في قصر يزيد، انشغل يزيد مع من كانفي القصر بالقمار وشرب الخمر، وحينما انتهى من شربه سكب ما زاد عنده من الخمر على الرأس الشريف(1).

فما أعظمها من مصائب وما أثقلها على قلب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقلب فاطمة الزهراء(عليها السلام)، هذا مضافاً إلى ما جرى على الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه يوم عاشوراء من عظيم المصائب.

رأس الحسين(عليه السلام)

من الكرامات التي أعطاها اللّه سبحانه للإمام الحسين(عليه السلام)، هي تكلم رأسه الشريف، وما كان له من دورٍ في هداية الناس وإصلاحهم، بل دور في عملية البناء الإسلامي.

فأمّا إصلاح الناس وهدايتهم، فقد كان رأس أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) وهو على أسنة الرماح يتلو القرآن طيلة الطريق من كربلاء إلى الشام ثم إلى كربلاء، حيث دفن مع الجسد الشريف(2).

ولما أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم حيث أنكر عليه فعلته، نطق الرأس الشريف بصوت رفيع: «لا حول ولا قوة إلّا باللّه»(3).

فكان الناس عندما يسمعون ذلك من الرأس الشريف، يدركون أنها معجزة إلهية، وأنّ قضية هذا الرأس مرتبطة بالسماء، فكان عاملاً مؤثراً في هداية الناس، وكاشفاً للحقيقة لهم وعرفوا صحة كلام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال: «إني تارك

ص: 292


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 22.
2- انظر الإرشاد 2: 117.
3- انظر مثير الأحزان: 103.

فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»(1) وأدركوا أن الحق مع الإمام الحسين(عليه السلام)، لما رأوا المعجزات تظهر من رأسه المبارك.

وأما من ناحية البناء الإسلامي، فيذكر التاريخ لنا: أن مسجد (الحنانة)(2) أقيم بسبب رأس الحسين(عليه السلام)، حيث وضع الرأس الشريف هناك أثناء المسير إلى الشام، فأقيم على ذلك المكان مسجد الحنانة، وهكذا مسجد رأس الحسين(عليه السلام) في كربلاء المقدسة(3)، وكذلك (مشهد النقطة) في حلب و(مقام رأس الحسين(عليه السلام)) في دمشق إلى غيرها من الآثار الإسلامية التي أقيمت، وكان سبب إقامتها من بركات الرأس الشريف.

واجباتنا تجاه عاشوراء

هناك واجبات علينا تجاه قضية الإمام الحسين(عليه السلام) وشهادته، نذكر بعضها:

أولاً: يلزم علينا أن نعمل لكي نعرض قضية الإمام الحسين(عليه السلام) ومبادئه وأهدافه، من خلال أحدث الأجهزة العصرية، عن طريق محطات البث المرئية والمسموعة، والإنترنت، والكتاب والشريط المسجل، وكل ما يصدق عليه الإعلام وإيصالها إلى العالم بأجمعه، بشكلها الذي أراده الإمام الحسين(عليه السلام)، وأن نعظّم الشعائر التي تقدمها الهيئات الحسينية من ذكرٍ لأبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) والبكاء والعزاء ومختلف مواكب الحزن، كما يحسن أن تعطل الأسواق والمحلات ونشر مظاهر الحزن والعزاء خلال أيام عاشوراء، لا سيما يوم العاشر؛ إشعاراً بالحزن على أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)، فقد قال الإمام

ص: 293


1- كمال الدين وتمام النعمة 1: 64.
2- حنانة موضع بظهر النجف الأشرف بها مسجد رأس الحسين(عليه السلام).
3- من أقدم المساجد الأثرية في كربلاء، وكان يضم في وسطه مقام رأس الحسين(عليه السلام) فعرف بهذا الاسم، وموقعه بالقرب من باب السدرة، وقد طاله الهدم.

الرضا(عليه السلام): «إن المحرمشهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال، فاستحلت فيه دماؤنا، وهتك فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حرمة في أمرنا، إن يوم الحسين(عليه السلام) أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورثتنا يا أرض كرب وبلاء أورثتنا الكرب البلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء يحط الذنوب العظام، - ثم قال(عليه السلام): - كان أبي(عليه السلام) إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين(عليه السلام)»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى اللّه له حوائج الدنيا والآخرة، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه يجعل اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرت بنا في الجنان عينه، ومن سمى يوم عاشوراء يوم بركة، وادخر لمنزله شيئاً، لم يبارك له في ما ادخر، وحشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد اللّه بن زياد وعمر بن سعد لعنهم اللّه إلى أسفل درك من النار»(2).

ثانياً: مثلما سار الإمام الحسين(عليه السلام) في طريق تطبيق الإسلام والعمل بقوانين القرآن يتوجب علينا كذلك أن تكون خطانا إثر خطاه(عليه السلام)، وأن نسعى لتطبيق أحكام الإسلام في بلدان العالم الإسلامي.

ثالثاً: علينا أن نقيم - وأينما كنا - مجالس العزاء لأبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) على أفضل نحو ممكن، لأن بقاء الإسلام إلى آخر الزمان هو الهدف الذي من

ص: 294


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 128.
2- علل الشرائع 1: 227.

أجله استشهد الإمام الحسين(عليه السلام)، فإن الإسلام سيبقى حياً إلى الأبد بفضل دم سيد الشهداء(عليه السلام)، ودماء الشهداء الذين تربوا في مدرسته(عليه السلام) والذين يدافعون عن العقيدة الإسلامية المقدسة طول التاريخ.

وفي كلمة مختصرة: إن إقامة المآتم والعزاء والبكاء أيام عاشوراء على الإمام أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)، وإقامة المآدب لإطعام الناس في ذلك، وإحياء عاشوراء فهذه المراسيم وأمثالها هي التي حفظت لنا روح التشيّع والتمسك بالقرآن والعترة الطاهرة(عليه السلام).

الإمام السجاد(عليه السلام) وعاشوراء

وقد جسّد الإمام زين العابدين(عليه السلام) هذا المعنى في كثرة بكائه على أبيه الإمام الحسين(عليه السلام)، وندبه إياه.

فقد ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «ولقد كان بكى على أبيه الحسين(عليه السلام) عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلّا بكى، حتى قال له مولى: يا بن رسول اللّه، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له: ويحك إن يعقوب النبي(عليه السلام) كان له اثنا عشر ابنا فغيب اللّه عنه واحداً منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، وأحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني»(1).

وقد رووا إن الإمام السجاد(عليه السلام) بكى على مصيبة الحسين(عليه السلام) حتى خيف على عينيه، وكان(عليه السلام) إذا أخذ إناءاً يشرب ماء بكى حتى يملاءها دمعاً فقيل له في ذلك، فقال(عليه السلام): «كيف لا أبكي وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع

ص: 295


1- الخصال 1: 518.

والوحوش»(1).

أهل البيت(عليهم السلام) وإقامة العزاء

وقد أقام الأئمة المعصومون(عليهم السلام) مجالس العزاء يوم عاشوراء، فقد حثّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وعلى الدوام على إقامة العزاء وبكل أشكاله الواجبة والمستحبة والمباحة فهو يوم لا كسائر الأيام، فقد ورد عنهم(عليهم السلام) أحاديث كثيرة منها:

عن عبد اللّه الفضل الهاشمي قال: قلت لأبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام)، يا بن رسول اللّه، كيف صار يوم عاشوراء، يوم مصيبة وغم وجزع وبكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واليوم الذي ماتت فيه فاطمة(عليها السلام) واليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين(عليه السلام) واليوم الذي قتل فيه الحسن(عليه السلام) بالسم؟

فقال: «إن يوم الحسين أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام؛ وذلك أن أصحاب الكساء الذي كانوا أكرم الخلق على اللّه تعالى كانوا خمسة فلما مضى عنهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) فكان فيهم للناس عزاء وسلوة، فلما مضت فاطمة(عليها السلام) كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين(عليهم السلام) للناس عزاء وسلوة، فلما مضى الحسن(عليه السلام) كان للناس في الحسين(عليه السلام) عزاء وسلوة، فلما قتل الحسين(عليه السلام) لم يكن بقي من أهل الكساء أحد للناس فيه بعده عزاء وسلوة، فكان ذهابه كذهاب جميعهم كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم؛ فلذلك صار يومه أعظم مصيبة...»(2).

جزيل الثواب

ومن هنا ورد الثواب العظيم على هذه الشعائر الحسينية، فقد قال الإمام أبو

ص: 296


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 166.
2- علل الشرائع 1: 225.

جعفر الباقر(عليهما السلام): «كان علي بن الحسين(عليهما السلام) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين(عليه السلام) حتى تسيل على خده بوأه اللّه تعالى بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خديه في ما مسنا من الأذى من عدونا في الدنيا بوأه اللّه منزل صدق، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة أو أذى فينا صرف اللّه من وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخط النار»(1).

من أنشد شعراً

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) لأبي عمارة: «يا أبا عمارة أنشدني في الحسين بن علي(عليهما السلام)»، قال: فأنشدته فبكى، ثم أنشدته فبكى، قال: فواللّه ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار، قال: فقال: «يا أبا عمارة من أنشد في الحسين بن علي شعراً فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنة»(2).

ومن هنا جاء الطغاة وعلى مر التاريخ ليمنعوا هذه المراسيم المقدسة والشعائر الحسينية، كما هو الحال في نظام البعث الصدامي في العراق، إذ بدأ النظام بمنع العزاء الحسيني في مدينة بغداد أولاً، ثم منع إقامة التعازي في كافة مدن العراق، ثم منع أهل البصرة وغيرها من مدن العراق من المجيء إلى كربلاء

ص: 297


1- ثواب الأعمال: 83.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 141.

المقدسة في أيام المناسبات الدينية كالعاشر من المحرم وزيارة الأربعين في عشرين صفر.

ثم تجرأ واعتقل العلماء والخطباء وعذّبهم وأعدم العديد منهم، كل ذلك من أجل القضاء على الروح النابضة في الأمة، وهي التي تنبعث من الشعائر الإسلامية والحسينية.

هذه كانت إطلالة سريعة عن دور سيد الشهداء(عليه السلام)، في حفظ واستمرار الإسلام، وبيان شيء عن مكانته عند اللّه، وسمو مقامه، وخلود ذكراه، وجلالة شأنه في الدنيا والآخرة، وكيف لا يكون صاحب ذلك المقام؟ وهو القائل:

تركت الخلق طُراً في هَواكا *** وأيتمتُ العيال لكي أراكا

فلو قطّعتني في الحبّ إرباً *** لما مال الفؤاد إلى سواكا

وهي كلمات تظهر مدى إخلاص الإمام الحسين(عليه السلام) في حبه للّه، وإخلاصه في الدفاع عن الإسلام، نسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا لأداء ما يجب علينا تجاه الإمام الحسين(عليه السلام) وقضيته المباركة ونهضته المقدسة.

اللّهم صل على محمد وآل محمد، واجعل لنا مقام صدق مع الحسين(عليه السلام) وأصحاب الحسين(عليه السلام) الذين بذلوا مهجهم دون الحسين(عليه السلام)، وارزقنا شفاعة الحسين(عليه السلام) يوم الورود، إنك على كل شيء قدير.

من هدي القرآن الحكيم

من خصائص الإمام الحسين(عليه السلام)

قال تعالى: {يَٰأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}(1).

ص: 298


1- سورة الفجر، الآية: 27-30.
جزاء الشهيد عند اللّه سبحانه

قال عزّ وجلّ : {وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ}(1).

وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(2).

وقال سبحانه تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(3).

واجبنا تجاه القضية الحسينية

قال تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

من خصائص الإمام الحسين(عليه السلام)

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «اقرؤوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم فإنها سورة الحسين بن علي(عليهما السلام) وارغبوا فيها رحمكم اللّه، فقال له أبو أسامة وكان حاضر المجلس: كيف صارت هذه السورة للحسين(عليه السلام) خاصة؟ فقال(عليه السلام): ألّا تسمع إلى قوله تعالى: {يَٰأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}(5) إنما يعني الحسين بن علي(عليهما السلام) فهو ذو النفس المطمئنة الراضية المرضية...»(6).

ص: 299


1- سورة محمد، الآية: 4.
2- سورة آل عمران، الآية: 169.
3- سورة التوبة، الآية: 89.
4- سورة الحج، الآية: 32.
5- سورة الفجر، الآية: 27-30.
6- تأويل الآيات الظاهرة: 769.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن اللّه تعالى عوض الحسين(عليه السلام) من قتله أن جعلالإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تعد أيام زائره جائياً ولا راجعاً من عمره»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أتى جبرئيل(عليه السلام) إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: السلام عليك يا محمد ألّا أبشرك بغلام تقتله أمتك من بعدك؟ فقال: لا حاجة لي فيه، فانتهض إلى السماء ثم عاد إليه الثانية، فقال له مثل ذلك، فقال: لا حاجة لي فيه، فانعرج إلى السماء ثم انقض إليه الثالثة، فقال مثل ذلك، فقال: لا حاجة لي فيه، فقال: إن ربك جاعل الوصية في عقبه، فقال: نعم...»(2).

من كراماته(عليه السلام)

وقال الشيخ المفيد(رحمه اللّه): ولما اصبح عبيد اللّه بن زياد بعث برأس الحسين(عليه السلام) فدير به في سكك الكوفة كلها، وقبائلها، فروي عن زيد بن أرقم أنه قال: مر به عليّ وهو على رمح وأنا في غرفة، فلما حاذاني سمعته يقرأ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَٰبَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا}(3) فقفّ واللّه شعري عليّ وناديت: رأسك يا بن رسول اللّه أعجب وأعجب(4).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسين مني وأنا من حسين، أحب اللّه من أحب حسيناً حسين سبط من الأسباط»(5).

ص: 300


1- تأويل الآيات الظاهرة: 598.
2- كامل الزيارات: 56.
3- سورة الكهف، الآية: 9.
4- الإرشاد 2: 117.
5- الإرشاد 2: 127.
الشهيد عند اللّه سبحانه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاثة يشفعون إلى اللّه عزّ وجلّ فيُشَفَّعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للحسين(عليه السلام): «... وإن لك في الجنة درجات لن تنالها إلّا بالشهادة...»(2).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «... لا أرى الموت إلّا سعادة»(3).

التمسك بالحسين وأهل البيت(عليهم السلام) هداية ونجاة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا وأن الحسين باب من أبواب الجنة من عاداه حرم اللّه عليه رائحة الجنة»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «.. فإنما مثل أصحابي كمثل النجوم بأيها أخذ اهتدي وبأي أقاويل أصحابي أخذتم أهتديتم... فقيل يا رسول اللّه ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي»(5).

وقال أبو ذر الغفاري (رضوان اللّه عليه): سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «... إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»(6).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إني قد تركت فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن

ص: 301


1- الخصال 1: 156.
2- بحار الأنوار 44: 328.
3- شرح الأخبار 3: 150.
4- مائة منقبة: 22.
5- معاني الأخبار: 156.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 60.

تضلوا بعدي، وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض،وعترتي أهل بيتي، ألّا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(1).

واجبنا تجاه القضية الحسينية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل في كل سنة...»(2).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): في قوله تعالى: {مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ...}(3) قال: «مما علمناهم ينبؤون»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «تلاقوا وتحادثوا العلم، فإن بالحديث تجلى القلوب الرائنة، وبالحديث إحياء أمرنا، فرحم اللّه من أحيا أمرنا»(5).

ص: 302


1- الطرائف 1: 114.
2- بحار الأنوار 44: 293.
3- سورة البقرة، الآية: 3.
4- معاني الأخبار: 23.
5- عوالي اللئالي 4: 67.

قيمة المرء

المرء وما يحسنه

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «قيمة كل امرئ ما يحسنه»(1).

وقال(عليه السلام): «ما علم من لم يعمل بعلمه»(2).

إن هذه الكلمة على وجازتها وقصرها، ذات معنى عميق، حيث أراد الإمام(عليه السلام) أن يبين من خلالها: إن قيمة الإنسان هي بقدر ما يحسنه من العلم والعمل، وكما أن الإنسان في الآخرة سوف ينال إما الجنة أو النار، بقدر ما لديه من أعمال صالحة أو طالحة، كذلك الحال في الدنيا، فإن المرء يُقيّم بعمله وعلمه حتى عند الناس لا بنسبه وهيكله، والتقييم مرتبط بجهة المتعلّق - أي الفعل - فتارة يكون الفعل خيراً وصالحاً، فتكون آثاره خيّرة وسليمة، فيأتي الناس ليعطوا ذلك الإنسان ما يقابل عمله هذا، سواء كان عطاءً مادياً أو معنوياً، فعاقبة عمله الصالح هي قيمة رائعة لشخصه وعمله، وحينئذ يقولون: إن فلاناً رجل صالح، وهذه الصفة الأخيرة هي قيمة نتجت عن عمله.

وبالعكس تماماً عندما يكون عمل الإنسان غير ملائم للطبع الإنساني السليم، بل لعله يخالف الذوق والحس البشري الذي غرسه اللّه عزّ وجلّ في وجود

ص: 303


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 81.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 686.

الإنسان، فتكون النتيجة أيضاً تقييماً من نوع آخر؛ إذ يقال عند تقييم صاحب العمل السيئ بأنه غير خلوق، أو أنه إنسان سيئ وطالح.

وهكذا فإن قيمة المرء تكون من سنخية عمله وأدائه، ولا تأتي اعتباطاً أو صدفة.

مراقبة المرء لنفسه

فعلى هذا يجب أن يراقب المرء عمله وسلوكه، وأن يحسن عمله ويتقنه بشكل جيد؛ لأن عمله سوف يكون مرآة له تنعكس فيها صورته الحقيقية، فأما أن تكون صورة ناصعة، أو تكون صورة مشوشة ومشوهة، ونستطيع أن نمثل لذلك بمثال متواضع: فالذي يحمل شهادة المرحلة الابتدائية تكون قيمته غير الذي يحمل الشهادة الجامعية، وهكذا اطراداً.

دروس وعبر

وإن هذه الكلمات القصار للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بقيت وستظل حية على طول التأريخ الإنساني، وتشكل دروساً تربوية قيّمة لا يستغني عنها الإنسان.

فالإمام(عليه السلام) بيّن أن قيمة الإنسان هي بقدر علمه، وبقدر ما يحسنه من عمل، فالتاجر الذي يحسن فن الشراء والبيع هو ذو علم بالتجارة، ويقاس بين التجار وفقاً لهذه الموازين.

والإنسان دائماً يعيش حالة الطموح والأمل، ولكل فرد أهداف يرسمها لنفسه، ويسعى دوماً نحو تحقيقها. فالإنسان المتعلم والعالم الذين يحسنان استخدام الوسائل من خلال ما يحملانه من علم وخبرة سيصلان إلى أهدافهما وطموحاتهما، وغالباً ما يكون الناجحون في حياتهم من أهل الخبرة والعلم؛ لأنهم يستخدمون المقدمات والوسائل الصحيحة للوصول إلى تحقيق آمالهم،

ص: 304

بينما الذين لا يحسنون في عملهم ولا يعرفون وسائل النجاح وهم كثيرون تراهم يتخبّطون يميناً وشمالاً، فهم وإن كانوا أحياناً يعلمون شيئاً، إلّا أنهم يمتازون بعدم المعرفة في كيفية استخدام هذا العلم عادة، فيفقدون نتيجة لذلك مكانتهم الاجتماعية، فإنه «علم لاينفع كدواء لا ينجع»(1).

فإن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يؤكد على من يحمل علماً أو خبرة أن يعرف كيف يتصرّف به، وأن يتحمل الشدائد والعراقيل التي تلاقيه في سبيل الوصول إلى هدفه. فقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «بالتعب الشديد تدرك الدرجات الرفيعة والراحة الدائمة»(2).

الفكر وأثره على السلوك

مصادر الثقافة في هذا العالم كثيرة ومتنوعة، سواء في السياسة أو في الاقتصاد أو في العلوم الأخرى، وكل هذه المصادر تحاول أن تحتوي المصدر الآخر للانفراد في الساحة، ونلاحظ أنه كلما جاء فكر جديد كثيراً ما يلعن من كان قبله، وهكذا الحال في القوانين الوضعية السائدة في هذا العالم المتلاطم بالأفكار، وفي الأغلب تكون أفكاراً تسلطية مبتنية على الخداع والغش؛ لذلك يأتي الفكر مرة باسم الشيوعية، ومرة باسم الرأسمالية، وأخرى باسم القومية... وفي ظل هذه العناوين والاتجاهات ينخدع بعض الناس وينجرف في دوامتها، ومقابل هذه التيارات التضليلية يقف الفكر الإسلامي شامخاً، بما يحتويه من مبادئ رصينة وثابتة، تهدي الناس إلى الخير والصلاح، فالقرآن الكريم وهو مصدر الهداية والرحمة، يهدي الناس إلى التكامل المادي والمعنوي، ويحررهم من العبودية

ص: 305


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 463.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 305.

التي قيدتهم نتيجة الأفكار والنظريات التضليلية، فالقرآن الكريم يحتوي على أعلى قيمة في الفكر، وأرقى أسلوب في الحركة والسير الذاتي نحو التطور والسعادة، ومن ثم اعتضد هذا الفكر بشخصية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي أخرج هذا الفكر إلى النور، بأعماله وأفعاله الواقعية، في مجتمع صعب التغيير، متعصب لفكرته المترسخة لفترة طويلة، مع وجود شخصيات متمرسة في التضليل والخداع، ذات مصالح شخصية، ولها جذور عميقة في التأثير على المجتمع. وبرغم هذا كله نجح هذا الفكر في الاجتياز لكل العقبات نتيجة لتكامله وصحة دعوته، وقوة منشئه وعظمته، وصدق وأمانة والمبلّغ به.

مقارنة

لو أجرينا مقارنة سريعة بين الفكر الإسلامي والأفكار الأخرى. لاتضح لنا الفارق الجلي بين ما يحمله القرآن من مبادئ سامية، وأخلاق فاضلة، تسمو بالإنسان نحو الفضيلة والسعادة، بعكس الأفكار والمبادئ الوضعية، علماً بأن الفكر هو الأساس في العمل كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»(1) فالفكر أيضاً هو مما تعرف به قيمة المرء كما لايخفى.

فالإسلام ينطلق من القرآن، والقرآن فيه من التعاليم والأفكار التي لا يستطيع فكر أو نظرية أن يصل إليها، أو يطرح بديلاً مناسباً عنها وللمثال على ذلك:

المفاضلة بين الناس في الإسلام مبنية على أساس التقوى؛ قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2) والتقوى إحدى الصفات الحميدة وهي صفة

ص: 306


1- نهج الحق وكشف الصدق: 411.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.

روحية تربط الإنسان بخالقه، وبإمكان الإنسان أن ينميها حتى يتدرج إلى أعلى القممالروحية، أما القومية فترى أن التفاضل بين الناس يكون على أساس اللغة والدم والجنس، لاالتقوى والالتزام الخلقي والعقائدي.

وكذلك الفكر الإسلامي يدعو إلى التوحيد وإلى عبادة إله واحد أزلي، في حين أن الأفكار الوضعية تدعو إلى الصنمية والآلهة المتعددة الباطلة.

وأيضاً الفكر الإسلامي يدعو إلى احترام حقوق الفرد والمجتمع، أما غيره فيدعو إلى ضرب حقوق الفرد بحجة حقوق المجتمع.

والفكر الإسلامي يدعو إلى التأكيد على الأخلاق وجعل المفاهيم الأخلاقية أساساً في التعامل والتعايش، أما غيره من الأفكار فأغلبها يدعو إلى التحلل الخلقي، والانحراف الفكري.

والإسلام يدعو إلى أمة واحدة، بينما غير الإسلام عادة ما يحاول زرع الفتن وتفريق الأمم، وذلك بإثارة النعرات الطائفية، والحروب بين الدول والأمم، كما نشاهده اليوم بأم أعيننا.

الشباب وتحصيل العلم

اشارة

ومن أهم ما يؤكد عليه الإسلام هو العلم مصحوباً بالعمل، ثم إن سبل تحصيل العلم ميسرة اليوم من ناحية وجود المدارس ووفرة المناهج والخدمات العامة والتطور العالمي، فلماذا يتوانى شبابنا المسلم المؤمن في هذه المسألة؟ وهي من أهم المسائل وأرفعها، وفيها يكمن سر تقدم الأمة وتطورها ونيلها الأسباب الموصلة إلى عزتها وكرامتها وقوتها، ولطالما شدد وأكد القرآن الكريم على هذا الجانب - جانب العلم والمعرفة - . حيث ترى أن أول سورة نزلت على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي سورة (العلق) وما فيها من المفردات المهمة والضرورية،

ص: 307

من قبيل: {اقْرَأْ * الْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ...}(1) فكلها ذات محور واحد وهو العلم، وفي سورة الرحمن قوله تعالى: {الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ}(2)، ثم يقول عزّ وجلّ: {خَلَقَ الْإِنسَٰنَ}(3)، ثم يردفها تعالى ب- : {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(4).

لماذا قدّم تعالى العلم على خلق الإنسان؟ والحال أن الأمر عكس ذلك، حيث إن الخلق مقدم زماناً على العلم؟ والجواب على ذلك: إن اللّه تعالى أخرّ خلق الإنسان عن العلم مع أنه مقدم زماناً للدلالة على جلالة العلم وأهميته؛ لأنه لولا العلم لما كانت هناك فائدة من خلق الإنسان. فالآيات التي تؤكد على مسألة العلم وتحصيله كثيرة، والسنة المطهرة أشارت كذلك إلى هذا الجانب، فالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) أوصوا بالعلم وأشادوا بالعلماء، وفضلهم ومنزلتهم، وعظيم الثواب لهم.

فقد روى الإمام الصادق(عليه السلام) عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «المؤمن العالم أعظم أجراً من الصائم القائم الغازي في سبيل اللّه وإذا مات ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة»(5).

العلم زينة وفريضة

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم»(6).

ص: 308


1- سورة العلق، الآية: 1-5.
2- سورة الرحمن، الآية: 1-2.
3- سورة الرحمن، الآية: 3.
4- سورة الرحمن، الآية: 4.
5- بصائر الدرجات 1: 5.
6- الكافي 1: 36.

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وهو عند اللّه لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، وسالك بطالبه سبيل الجنة، وهو أنيس في الوحشة، وصاحب في الوحدة، وسلاح على الأعداء، وزين الأخلاء، يرفع اللّه به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم، ترمق أعمالهم وتقبتس آثارهم»(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «طلب العلم فريضة على كل حال»(2). إلى غيرها من الروايات الواردة في فضل العلم، وأهمية تحصيله.

نعم، لا شك أن الطريق الأفضل لرقي الإنسان هو العلم، فبالعلم يصل المرء إلى الدرجات العلى في الإيمان، إذ حتى الإيمان لا بد وأن يكون إيماناً واعياً ويقينياً كاملاً، لا أن يكون إيماناً ناتجاً عن جهل وسطحية وتمسك بالقشور، بل الإيمان الحقيقي هو الناتج عن علم ومعرفة، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «المتعبد بغير علم كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح من مكانه»(3).

وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(4). فحصر سبحانه الخشية في أعلى مراتبها بالعلماء؛ لأنهم العارفون بأصول العبادة وأنواعها الصحيحة الموصلة للّه عزّ وجلّ، فعلمهم هو الذي زادهم خشية من اللّه تعالى.

ومن هنا ندرك أن العلم الذي لا يوصل صاحبه إلى خشية اللّه تعالى لا يكون نافعاً نفعاً حقيقياً، هذا إذا لم يكن ضاراً، وعلى ذلك يمكن فهم قول الإمام أمير

ص: 309


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 615.
2- بصائر الدرجات 1: 3.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 116.
4- سورة فاطر، الآية: 28.

المؤمنين(عليه السلام): «قيمة كل امرء ما يحسنه»(1) أي ما يحسنه من العلم والمعرفة والعمل.

فيجب أن لا يتوانى شبابنا في هذا المجال، ليعرفوا أن سر انتصارهم على أعدائهم، وتقدمهم في جميع مجالات الحياة؛ مرهون بالعلم وتحصيل المعرفة، ونحن نلاحظ اليوم كيف أن أوربا وبعض الدول الأخرى تطورت وحصلت على مكاسب كبيرة، عندما تمسكت بالعلم، رغم أن العلم الذي سعت إلى تحصيله كان علماً دنيوياً، فكيف الحال إذا كان علماً يجمع بين الدنيا والآخرة؟ فلا شك ولا ريب أن نتيجة ذلك سوف تكون عظيمة، فنحن متى ما هيّأنا المقدمات الصحيحة، وتمسكنا بالعلم، تطورنا وبدت علينا علامات الرقي والسعادة، وتمكنا حينئذ من جلب الناس إلى الإسلام وتعاليمه النيرة، واستطعنا زرع بذور الخير فيهم. وإلّا فاننا - مع تخلفنا وتأخرنا - لا نستطيع أن نكسب الآخرين إلينا، بل في هذه الحالة سيعمل الآخرون على حرفنا وجرفنا عن طريق الحق - من حيث لا نعلم ولا نشعر - كما هو حاصل لدى الكثير اليوم ؛ لأن الدنيا دار الأسباب والمسببات، ولا يمكن الحصول على المكاسب المادية والمعنوية التي أودعها اللّه تعالى في الحياة الدنيا، دون تهيئة الأسباب الموصلة إليها، ومن أهم الأسباب العلم والعمل معاً.

أهمية الوقت

إن أغلب علمائنا كانوا يواصلون البحث والتدريس ويهتمون بقضايا الناس وحل مشاكلهم، رغم تقدمهم في السن، وكانوا لا يسافرون عادة إلّا للضرورات، حتى لا يحول السفر بينهم وبين تحصيلهم العلم، فمثلاً: يذكر أن آية اللّه

ص: 310


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 81.

العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي(رحمه اللّه) لم يسافر لمدة خمسين سنة إلّا مرة واحدة إلى طهران لغرض العلاج من ألم شديد في عينه.

نعم، هكذا كان علماؤنا لا يسمحون لأنفسهم بإضاعة الوقت في السفر وغيره، فقادهم وأوصلهم ذلك إلى مراكز رفيعة، فالسيد عبد الهادي الشيرازي(رحمه اللّه) أصبح المرجع الأعلى للتقليد حيث رجعت إليه الأمة بعد وفاة آية اللّه العظمى السيد البروجردي(رحمه اللّه).

وكذلك السيد الحكيم(رحمه اللّه) لم يسافر إلّا مرة واحدة للحج، ومرة أخرى إلى خارج العراق لغرض المعالجة، وكذلك كان والدي(رحمه اللّه) فلم يسافر طوال عمره إلّا ثلاث مرات، مرة إلى الحج الواجب وكنت بصحبته، وسفرة أخرى إلى مشهد المقدسة، وكان ذلك متعلقاً بجهاد السيد القمي(1)، والسفرة الأخيرة إلى مشهد أيضاً.

فالعلماء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلّا بعد أن ضحّوا بالراحة، وتحملوا الكثير من أجل العلم، واهتموا بالوقت فقد قال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام): «لقد أخطأ العاقل اللاهي الرشدَ، وأصابه ذو الاجتهاد والجد»(2).

وقال (صلوات اللّه عليه): «إن كنتم للنجاة طالبين فارفضوا الغفلة واللّهو والزموا الاجتهاد والجد»(3)، فعلينا أن نتعلم من أولئك العلماء العظام كيف نستثمر وقتنا في العلم والعمل الصالح.

ولا يخفى إنّا لا نريد أن نقول: إن السفر أمر غير جيد وغير نافع، بل على العكس فإن السفر من المستحبات كما فصلناه في الفقه، وإنما مقصودنا هو عدم تضييع

ص: 311


1- هو السيد آغا حسين بن السيد محمود بن محمد الطباطبائي القمي.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 550.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 258.

الوقت بالسفر من دون رعاية الأهم والمهم، أما السفر النافع فقد حرضت عليه الشريعة، فقد ورد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «سافروا تصحوا، سافروا تغنموا»(1).

وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «سافروا تصحوا، وجاهدوا تغنموا، وحجوا تستغنوا»(2). وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سافروا فإنكم إن لم تغنموا مالاً أفدتم عقلاً»(3).

وحينما سُئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن الأيام المباركة للسفر قال: «سافروا يوم الثلاثاء، واطلبوا الحوائج فيه، فإنه اليوم الذي ألان اللّه فيه الحديد لداود(عليه السلام)»(4).

ومن هذه الأحاديث الشريفة، يظهر أن الشريعة لم تنف السفر مطلقاً، وإن علماءنا حرصاً منهم على متابعة الأهم كانت أسفارهم قليلة، فإن هناك تزاحماً بين الأهم والمهم، والعالم يأخذ بالأهم إلّا في حالة الاضطرار، وما ذكرناه كله من أسباب تكوّن قيمة المرء.

القرآن والحقائق العلمية

لقد ذكر القرآن الكريم العديد من الحقائق العلمية على شكل إشارات، ليجعل للإنسان الدور الكبير في استكشافها والانطلاق منها. وواحدة من تلك الأمور هي قوله تعالى: {وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}(5).

لماذا هذا التأكيد على وقت الفجر؟ فإن بعد التحقيق يتبين للإنسان أن اللّه عزّ وجلّ يريد بذلك أن يكسب المرء قيمته الذاتية فالبعض يتساءل: لماذا

ص: 312


1- المحاسن 2: 345.
2- المحاسن 2: 345.
3- مكارم الأخلاق: 240.
4- المصباح للكفعمي: 183.
5- سورة الإسراء، الآية: 78.

جعلت ركعتان عند الفجر يستيقظ المرء لأدائهما؟

يؤكد العلم الحديث على أن الفوائد الصحية التي يجنيها الإنسان بيقظة الفجر كثيرة منها:

أولاً: تكون أعلى نسبة لغاز الأوزون في الجو عند الفجر، وتقل تدريجياً حتى تضمحل عند طلوع الشمس، ولهذا الغاز تأثير مفيد على الجهاز العصبي، فهو منشط للعمل الفكري والعضلي، بحيث يجعل ذروة نشاط الإنسان الفكري والعضلي في الصباح الباكر.

ثانياً: إن أشعة الشمس عند شروقها قريبة إلى اللون الأحمر، وهذا اللون منبّه للأعصاب وباعث على اليقظة والحركة، كما أن نسبة الأشعة فوق البنفسجية يمكن أن تكون أكبرها عند الشروق، وهذه الأشعة تحرض الجلد على صنع فيتامين (د).

ثالثاً: الاستيقاظ المبكر يقطع النوم الطويل، وقد تبيّن أن الإنسان الذي ينام ساعات طويلة، وعلى وتيرة واحدة يتعرض للإصابة بأمراض القلب، وهنا تبرز واحدة من ثمار الاستيقاظ في وسط الليل لأداء صلاة الليل.

رابعاً: إن أعلى نسبة للكورتزون في الدم هي وقت الصباح، وأدنى نسبة تكون عند المساء، وهذه المادة هي التي تزيد فاعلية الجسم وتنشّط استقبالاته.

وهذه بعض الفوائد من الناحية الطبية، ناهيك عن الفوائد المعنوية التي يحصل عليها الإنسان(1).

الأئمة(عليهم السلام) والحقائق العلمية

اشارة

وهناك روايات كثيرة تدل على أهمية الجانب العلمي في الإسلام، فقد جاء

ص: 313


1- انظر كتاب مع الطب في القرآن.

عن العالم(عليه السلام)(1): «في العسل شفاء من كل داء، من لعق لعقة عسل على الريق يقطع البلغم، ويكسر الصفراء، ويقطع المرة السوداء ويصفي الذهن ويجوّد الحفظ إذا كان مع اللبان الذكر»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لعقة العسل فيه شفاء، قال: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ}»(3)(4).

وعنه(عليه السلام) أيضاً قال: «ما استشفى الناس بمثل العسل»(5).

وهناك أحاديث وروايات أخرى تذكر فوائد العسل، وأنه الدواء المفضل، ثم جاء اليوم العلم الحديث ليكشف سر هذه الكلمات التي مضى عليها مئات السنين.

لقد تعرض علم الطب لمادة العسل، الذي كان وما يزال مادة للاستشفاء من أمراض الجلد، حيث يسرِّع في التئام الجروح وينظفها، وكذلك ينفع لتقرحات الجلد المزمنة، وغيرها من الأمراض الجلدية، واكتشفوا أن بالعسل يمكن علاج أمراض الجهاز الهضمي، فهو يساعد على الهضم بفعالية الأنزيمات الهاضمة التي يحويها، وكذلك يخفض الحموضة المعدية الزائدة، ويفيد في معظم أمراض الكبد والصفراء، وقد أشار الإمام (صلوات اللّه عليه) إلى ذلك في الحديث الشريف. وينصح الاستشفاء بالعسل في أمراض التنفس، مثل مرض السل، فإن للعسل تأثيراً جيداً على المصاب بالسل؛ لأنه يزيد من مقاومة الجسم للالتهاب السلّي، وكذلك يفيد للسعال الديكي، والتهاب الحنجرة والبلعوم

ص: 314


1- هو الإمام الكاظم(عليه السلام).
2- مستدرك الوسائل 16: 366.
3- سورة النحل، الآية: 69.
4- تفسير العياشي 2: 263.
5- الكافي 6: 332.

والتهاب القصبات، ويمكن بواسطة العسل علاج العديد من أمراض العين من الالتهابات أو الحروق، والاستشفاء به من أمراض الأنف والأذن والحنجرة، وأمراض النساء وحالات الولادة، وغيرها من الأمراض العديدة، التي يمكن أن يدخل العسل كعلاج رئيسي فيها، وهذا على نحو الإيجاز والاختصار والتفصيل في محله، فإن أئمتنا(عليهم السلام) ذكروا الكثير من الروايات العلمية والتي منها ما يرتبط بالأمراض وكيفية علاجها(1).

التأسي بأئمتنا الهداة(عليهم السلام)

ومن أهم ما يضمن للمرء قيمته هو التمسك بالأئمة الهداة من آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتأسي بهم، فإنهم(عليهم السلام) أهل العلم وأصله، وقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «إن داود ورث علم الأنبياء، وإن سليمان ورث داود، وإن محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورث سليمان، وإنّا ورثنا محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى» فقال أبو بصير: إن هذا لهو العلم، فقال(عليه السلام): «يا أبا محمد ليس هذا هو العلم، إنما العلم ما يحدث بالليل والنهار يوماً بيوم وساعة بساعة»(2).

وهناك مرويات كثيرة جداً، يظهر من خلالها شأن أهل البيت(عليهم السلام)، وعلميتهم ومكانتهم بما يعجز اللسان عن وصفه، ويقصر التعبير عن أدائه. فكان أئمتنا(عليهم السلام) معدن العلم وورثته عن الأنبياء، والسباقين في كل علم، ولهم مواقف مشرفة سجّلها التاريخ بحروف من نور، يظهر من خلالها سبقهم الأولين والآخرين، في تثبيت معدن العلوم، وذكر الخطوط العريضة لكثير من العلوم؛ مثل الطب والفلك والفلسفة والفقه والرياضيات، وغيرها من العلوم الأخرى(3). فإذا كان حال قادتنا

ص: 315


1- انظر كتاب مع الطب في القرآن الكريم وبحار الأنوار المجلد 59.
2- الكافي 1: 225.
3- أنظر بحار الأنوار 10: 1-392.

هذا، فلماذا لايتأسى شبابنا المؤمن بهم(عليهم السلام)، في اتباع إرشاداتهم(عليهم السلام) والمواظبة على تحصيل العلم واتخاذ العلم وسيلة نحو التقدم والرقي، وتذليل الوسائل والمقدمات التي تكون مستصعبة عليهم أحياناً بسبب عدم المعرفة بها وجهلها؟!

العلم الحقيقي

إن أكثر المعضلات والمشاكل تنتج بسبب التخلف وقلة العلم، وعلى العكس فإن زيادة المعرفة وسعة العلم عند المرء تسهّل عليه كثيراً من الصعوبات، وتقربه من اللّه تعالى ومن الناس، وتكشف له الكثير من الحقائق المهمة، والتي من أهمها معرفة أصول الدين فقد ورد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك اللّه به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاَ به، وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض، حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر...»(1)، فإذا كان الإنسان يمتلك العلمية الجيدة فإنه سيستطيع بواسطة ذلك اتباع الحق، المتمثل بمعرفة الخالق تعالى، وما فرض عليه من واجبات، والتي من ضمنها اتباع الأئمة(عليهم السلام)، فهم الهداة إلى الحق، وبواسطتهم يفوز الإنسان بأعلى المراتب في الدنيا والآخرة. فالأئمة(عليهم السلام) لا يقاس بهم أحد، على حدّ قول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا يقاس بآل محمد(عليهم السلام) من هذه الأمة أحد»(2).

فمثلاً: إن مقولة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «قيمة كل امرئ ما يحسنه» تشير إلى أن المرء إذا كان يحسن جيداً معرفة الإمام المعصوم، ويعلم عن يقين طاعة

ص: 316


1- الكافي 1: 34.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 2، من خطبة له(عليه السلام) بعد انصرافه من صفين.

الإمام عليه، واتباعه واحترامه حياً أو ميتاً، فهذه المعرفة العظيمة تكون قيمة له، ومن خلال هذه المعرفة يمكن تقييمه بين الناس، وكذلك عند اللّه عزّ وجلّ.

فعلينا - إذن - أن نطلب العلم من موارده الحقيقية، وهم الأئمة الأطهار(عليهم السلام)؛ لأنهم قطب الرحى في كل مجال، وهم العارفون في كل العلوم، والأدلاء على طرق ومسالك هذه العلوم، فقد ورد عن الإمام أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «كل شيء لم يخرج من هذا البيت فهو وبال»(1).

وهنالك مسألة يجدر الالتفات إليها هنا، وهي: إن بالعلم أيضاً يستطيع المرء أن يعرف قدر نفسه، ومقدار قيمته في المجتمع، لا أنه يكتشف مقام الأئمة(عليهم السلام) فحسب. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الناس أبناء ما يحسنون»(2). وهذه الكلمة الشريفة تبين للإنسان مقياساً من خلاله يعرف المرء قدر نفسه، ويقيّم ذاته، ثم قيل عن هذه الكلمة إنه: (لم يسبقه إليها أحد)، وقالوا: (ليس كلمة أحض على طلب العلم منها)، وقد نظم جماعة من الشعراء إعجاباً بهذه الكلمة أبياتاً، منها ما يعزى إلى الخليل بن أحمد:

لا يكون العلي مثل الدني *** لا ولا ذو الذكاء مثل الغبيّ

قيمة المرء ما يحسن المرء *** قضاءٌ من الإمام عليّ(3)

وقالوا:

قول علي بن أبي طالب *** وهو الإمام العالم المتقنُ

كل امرئ قيمته عندنا *** وعند أهل الفضل ما يحسن(4)

ص: 317


1- الإختصاص: 31.
2- الكافي 1: 51.
3- جواهر المطاب: 156.
4- انظر تذكرة الخواص 1: 578.

وفي الختام نسأل اللّه عزّ وجلّ أن يوفقنا للعلم والمعرفة والعمل الصالح فإنها قيمة المرء.

«اللّهم صل على محمد وآله، وأطلق بدعائك لساني، وأنجح به طلبتي، وأعطني به حاجتي، وبلّغني فيه أملي، وقني به رهبتي، وأسبغ به نعماي، واستجب به دعاي، وزك به عملي، تزكية ترحم بها تضرعي وشكواي، وأسألك أن ترحمني وأن ترضى عني، وتستجيب لي، آمين رب العالمين»(1)

وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

العمل الصالح وأهميته

قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ...}(2).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِن فَضْلِهِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}(5).

القرآن يدعو إلى التقوى

قال سبحانه: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(6).

ص: 318


1- الدروع الواقية: 173.
2- سورة غافر، الآية: 58.
3- سورة الشورى، الآية: 22.
4- سورة الروم، الآية: 45.
5- سورة الجاثية، الآية: 30.
6- سورة البقرة، الآية: 197.

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ...}(2).

وقال عزّ من قائل: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ}(3).

القرآن يدعو إلى العلم

قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَٰلِمُونَ}(4).

وقال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّلْعَٰلِمِينَ}(5).

وقال عزّ من قائل: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(6).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(7).

أهل البيت(عليهم السلام) قدوة وأسوة

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ

ص: 319


1- سورة آل عمران، الآية: 102.
2- سورة النساء، الآية: 1.
3- سورة الحشر، الآية: 18.
4- سورة العنكبوت، الآية: 43.
5- سورة الروم، الآية: 22.
6- سورة طه، الآية: 114.
7- سورة الزمر، الآية: 9.

مِنكُمْ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

العمل الصالح وأهميته

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أخلصوا أعمالكم للّه فإن اللّه لا يقبل إلّا ما خلص له»(5).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنك لن يغني عنك بعد الموت إلّا صالح عمل قدمته فتزود من صالح العمل»(6).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «بالأعمال الصالحات ترفع الدرجات»(7).

القرآن الحكيم والتدبر

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما مثل القرآن مثل صاحب الإبل إن عقلها صاحبها

ص: 320


1- سورة النساء، الآية: 59.
2- سورة المائدة، الآية: 55.
3- سورة التوبة، الآية: 119.
4- سورة الأحزاب، الآية: 21.
5- نهج الفصاحة: 174.
6- عيون الحكم والمواعظ: 172.
7- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 154.

حبسها وإن أطلقها ذهبت»(1).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى... فإنالتفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور»(2).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر»(3).

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بدمه ولحمه، وجعله اللّه مع السفرة الكرام البررة...»(4).

السنة تدعو إلى التقوى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا إن الناس من آدم وآدم من تراب وأكرمهم عند اللّه أتقاهم»(5).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليكم بالتقوى فإنه خير زاد وأحرز عتاد»(6).

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «اتقوا اللّه وصونوا دينكم بالورع»(7).

السنة تدعو إلى العلم

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «العلم خليل المؤمن»(8).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بالعلم فإنه وراثة كريمة»(9).

ص: 321


1- عوالي اللئالي 1: 147.
2- الكافي 2: 600.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 318.
4- ثواب الأعمال: 100.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 363.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 450.
7- الكافي 2: 76.
8- الكافي 2: 47.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 442.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(1).

أهل البيت(عليهم السلام) قدوة وأسوة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به وأهل بيتي...»(2).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألا وإنّا أهل البيت أبواب الحكمة وأنوار الظلم وضياء الأمم»(3).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أحب أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويدخل جنة عدن التي وعدني ربي، قضيب من قضبانه غرسه بيده ثم قال له: كن فكان، فليتول علي بن أبي طالب(عليه السلام) والأوصياء من بعده فإنهم لا يخرجونكم من الهدى ولا يدخلونكم في ضلالة»(4).

ص: 322


1- كنز الفوائد 2: 107.
2- نهج الفصاحة: 261.
3- عيون الحكم والمواعظ: 107.
4- بصائر الدرجات 1: 51.

محنة العراق

تاريخ العراق الحديث

قال اللّه العظيم في محكم كتابه الكريم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

بحثنا يدور حول بعدين:

البعد الأول: لمحة عن تاريخ العراق.

والبعد الثاني: حول كيفية رفع المعاناة عن العراق.

كان احتلال العراق وسقوط بغداد على يد القوات البريطانية في عام (1917م) يعتبر رمزاً لسقوط الحضارة الإسلامية في نظر الاستعمار، (وكان احتلال العراق يشكل النهاية والغاية لثلاثة قرون من النشاط البريطاني في الشرق الأوسط).

إن سيطرة الاستعمار كانت تعني فرض الهيمنة على كل المنطقة الممتدة من القفقاس إلى البحر الأبيض المتوسط، وإلى الخليج وجنوب الجزيرة العربية؛ لأن العراق يشكّل مفتاح الشرق الأوسط وقلبه النابض، وكان احتلال العراق بالذات يعني للاستعمار حصوله على سوق تجارية لتصريف منتجاته الصناعية، وحصوله على أرض غنية بالبترول والمعادن والثروات الزراعية الأخرى، بل كان يعني لديه أكثر من ذلك وهو حصوله على ممر بري يصل البحر الأبيض

ص: 323


1- سورة الذاريات، الآية: 55.

المتوسط بخليج البصرة(1)، ويؤمِّن بذلك طريق مواصلات الهند أو يحمي آبار النفط في عبّادان.

وقد اعترف بذلك أحدهم(2) حيث قال: إن المناطق الاستراتيجية في الشرق الأوسط تقع في بغداد، وقد استطعنا باحتلال العراق أن نركّز أنفسنا في العالم الإسلامي، وبذلك منعنا تجمّع المسلمين ضدنا في الشرق الأوسط.

إذن، هذا هو جانب من أهمية العراق الاستراتيجية، ولكن سؤالاً قد يطرح: هل كان باستطاعة بريطانيا أن تستولي عليه بموافقة الشعب؟

والجواب على ذلك نقول: إن بريطانيا لو لم تلجأ إلى أساليب المكر والخداع، وتقضي على روح المقاومة الإسلامية باستغلال المشاعر والقهر والعذاب والألم، لم تستطع ذلك، حيث إنهم حتى في الساعات الأخيرة لم يتوقفوا عن التنكيل بالشعب والاعتداء على حرماته ومقدساته، ومارسوا العنف والإرهاب حتى مع بعض رجال القبائل الذين جاؤوا لنصرتهم، فتقدمت بريطانيا لترفع شعار (التحرير) و(انقاذ الشعب العراقي)، حيث قال أحد قادتهم(3): (لقد جئنا محررين لا فاتحين).

إن الشعب العراقي لم يلقِ السلاح إلّا بفعل هذه الوعود المخادعة.

ونقول: إن الاستعمار لو احتل بلادنا عسكرياً فقط، لكان من السهل إخراجه، ولكنه ووفق خطّة محكمة دخل إلى بعض النفوس الضعيفة وذوي العقول المريضة، بل وإلى بعض القادة أيضاً، فأصبح جزءاً من الوجود

ص: 324


1- الخليج العربي.
2- وهو (آرنولد ويلسن) الذي كان آنذاك وكيل الحاكم الملكي، ويشغل منصب المندوب السامي البريطاني في العراق.
3- القائل هو (الجنرال ستانلي موند) قائد الجيوش البريطانية التي احتلت بغداد.

الفكري والاجتماعي لبعض المسلمين، فاستقرّ به المقام وصار من الصعب إخراجه.

لقد استخدم الاستعمار الغربي كل وسيلة ممكنة لإلغاء شخصية الأمة الإسلامية؛ كي تتحول إلى (أمة لا وزن لها)، فتدور في فلكه بلا إرادة ولا اختيار، وهو - بدوره - يعامل الجميع بلا رحمة ولا شفقة ويستخدم هذه الشخصية وهذه الأمة لتحقيق مآربه وأطماعه وبشكل مستمر.

ولولا الغفلة والجمود الطويل - التي مرت على الأمة الإسلامية في العهد العثماني - لم يكن الاستعمار قادراً على أن يفعل ما يريد، ولكنه استطاع - بدهاء ومكر وخبث - أن يجرّد الأمة من أسلحتها الواحد تلو الآخر ثم يقودها بهدوء وبكل طواعية وقيادة سهلة نحو المسلخ.

إذ أنه في البداية سلب الأمة سلاح الفكر والعقيدة حيث غزا الأمة ثقافياً، ثم سلبها سلاح الاقتصاد، حيث جعلها أمة تأكل أكثر مما تنتج بل وأمة مستهلكة، ثم سيطر عليها سياسياً، حيث بث فيها حكام جور وطغاة ظلمة، واغتصب منها حتى قطعة الأرض التي تسكن عليها، فاحتل المواقع الاستراتيجية في المنطقة؛ كي يسهل عليه ضربها متى أراد، ومتى ما طالبته الأمة بحقوقها المشروعة، كالحرية والاستقلال وما أشبه.

المقاومة الإسلامية

بالرغم من كل الركائز التي جعلها الاستعمار البريطاني كمحور أساسي يرتكز عليه للبقاء في بلادنا الإسلامية، فإن المسلمين قاوموا الاحتلال الإنكليزي، وكان على رأس القوات المناهضة للاستعمار العشائر العراقية، بقيادة علمائها الأعلام في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وبغداد وسامراء.

ص: 325

وأما بعد سيطرة بريطانيا على العراق، حيث لم تستقر الأوضاع السياسية، استمرت مقاومة الحكم الإنكليزي المباشر، فانطلقت ثورة العشرين بقيادة العلماء المراجع من كربلاء المقدسة والنجف الأشرف والكاظمية، إلّا أن دهاء الإنكليز إضافة إلى قوتهم العسكرية مكّنهم من تهدئة الأوضاع بالاستعانة بعملائهم من بعض أهل البلاد المتعاونين مع الاستعمار.

الصراع بين أميركا وبريطانيا

بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، اندفعت أمريكا لتصفية المستعمرات البريطانية، فحاولت الدخول إلى العراق، إلّا أن النفوذ البريطاني المتعدد الوجوه جعل طريق أمريكا صعب المسالك، فقد كان نوري السعيد(1)

- أحد رموز بريطانيا في العراق وفي العالم العربي - إحدى العقبات الكبرى أمام التسلل الأمريكي، ولذا حاولت أمريكا اغتياله.

ولم تنجح محاولات أمريكا لدخول العراق إلّا بشكل جزئي، ثم كان انقلاب عبد الكريم قاسم الذي اكتشفت بريطانيا بعد مدة من ممارسة السلطة أنها لم تعثر فيه على العميل الذي تريد، فسحبت تأييدها له.

ونجح الإنكليز بتقوية مركزهم بانقلاب (1963م) الذي حمل تناقضاً في طياته إذ حاول حزب البعث الاستفادة من اسم (عبد السلام عارف) فشاركه في الحكم، ولكنه انقلب عليهم إذ كان مرتبطاً بعملاء أمريكا في المنطقة حسب بعض التحاليل السياسية. وجاء بعده أخوه عبد الرحمن عارف. ثم تمكنت بريطانيا من التخلص من عملاء أمريكا في الانقلاب العسكري في الثلاثين من تموز سنة (1968م) الذي جاء بالبعثيين إلى الحكم ثانية.

ص: 326


1- نوري سعيد صالح السعيد رئيس الوزراء العراقي بين عام (1930م- 1958م).

من البكر إلى صدام

اشارة

قال تبارك وتعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(1).

خشي الاستعمار الأمريكي والبريطاني من ميوعة الأوضاع السياسية أيام حكم عبد الرحمن عارف وطاهر يحيى(2) في العراق، فاتفقا على التخلّص منهما والمجيء بحكّام لهم من مظاهر التأييد ما يكفي لتمرير المخطّطات الاستعمارية، فجاء إلى السلطة خليط من العملاء أمثال عبد الرزاق النايف(3) وكان موالياً لأمريكا ويمثل امتداد العهد السابق، والبكر(4) الذي كان عميلاً لبريطانيا.

وقد أراد الاستعمار أن يستعمل واجهتين: (القوميين العرب) و(حزب البعث) ليبدوان كقاعدة شعبية لإسناد السلطة الجديدة، وسرعان ما تخلّص عملاء بريطانيا من عملاء الأمريكان خلال ثلاثة عشر يوماً(5).

وكان من أهم المهمات الاستعمارية التي جاء بها العهد الجديد: ضرب الحركة الإسلامية الشيعية في العراق التي بدأت تظهر على الساحة السياسية بشكل جادّ ورزين وهادئ تحت توجيهات بعض المراجع الأعلام في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وبدءوا بالتضييق على المرحوم السيد الحكيم(رحمه اللّه)، وسار الحكم الجديد في تطبيق السياسة الاستعمارية، وتفرّد بهذا الحكم أحمد حسن البكر الذي هو أكبر عملاء بريطانيا في العراق يعاونه حردان التكريتي

ص: 327


1- سورة الأنعام، الآية: 129.
2- طاهر يحيى التكريتي: رئيس وزراء العراق في أربع دورات منها في حكومة عبد السلام عارف.
3- عبد الرزاق النايف: أحد قادة انقلاب (1968م) ثم اعتقل مع مجموعة أخرى من قبل صدام والبكر وذلك في (30 تموز 1968م) أي بعد أيام قلائل من اشتراكه بالانقلاب الأول.
4- أحمد حسن البكر.
5- إشارة إلى ما يسمى ثورة 30 تموز 1968م.

وصالح مهدي عماش واستعانوا بأجهزة حزب البعث وبأشخاص يحملون الولاء للبكر ولديهم ارتباطات مع أجهزة المخابرات البريطانية لملء المراكز الحساسة في الدولة.

وكان يغلب على أحمد حسن البكر الحس العشائري حيث لم يكن يثق إلّا بأقاربه، ومن هذا المدخل اقتحم صدام السلطة من بابها الواسع.

لمحة عن البكر

أحمد حسن البكر كان له جدّ يهودي يعمل في التجارة في أحد أكبر أسواق بغداد (سوق الشورجة)، وكان الاسم الأصلي لجدّه هو (ساسون حسقيل)، وبما أن الاستعمار دائماً بصدد توجيه ضربة للمسلمين في العالم، لذا فقد أعد خطة ماهرة فقام بنقل (ساسون حسقيل) من مقر عمله إلى إحدى قرى مدينة تكريت، فذهب (ساسون حسقيل) إلى شخص يدعى (تنج عبد اللّه) والذي قام بدوره بتبديل اسم حسقيل إلى (أبو بكر) وبعد ذلك ولد له ولد أسماه (حسن) وهو والد (أحمد)، وهذا (أحمد حسن البكر) هو الذي وضعه الاستعمار كواجهة لتنفيذ مآربه وأطماعه في العراق بشكل خاص وفي المنطقة بشكل عام.

وجرت صراعات عنيفة داخل السلطة، وداخل الحزب، قام البكر خلالها بتصفية عدد من أزلام مجلس قيادة الثورة بواسطة أجهزة القمع التي كان على رأسها صدام التكريتي وناظم كزار(1)، فتمت تصفية العديد منهم الواحد بعد الآخر، أمثال: حردان التكريتي، وصالح مهدي عمّاش، وعبد اللّه سلوم السامرائي، وعبد الخالق السامرائي، وعلي عليان، وعبد الكريم الشيخلي، وكثير غيرهم ممن ظهرت أسماؤهم فترة وجيزة ثم خبا ذكرهم وقبعوا إما في القبور أو

ص: 328


1- ناظم كزار المشهور بأبي حرب، مدير الأمن العام عام (1968-1973م).

في السجون، إلى أن وصل صدام إلى مرتبة المشارك الصغير للبكر، بحيث نما وتضخم دوره ليصبح في ما بعد الرئيس المطلق للعراق بعد عملية انقلابية مقنَّعة على البكر.

ميشيل عفلق

ميشيل عفلق(1)

قال اللّه العظيم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(2).

لنا وقفة هنا مع (حزب البعث) العراقي وبالأخص مؤسسه ميشيل عفلق القائد المؤسس والأب الروحي لحزب البعث وأمينه العام - كما يزعمون - .

فقد كشفت ملفّات حياته الفكرية والسياسية عن شبهات عديدة من خلال أرقام وأدلة صارخة، لعل أبرز هذه الشبهات هو ما عرف عن ارتباطاته المشبوهة وعلاقاته المريبة التي أخرجت منه رجلاً نموذجياً لممارسة الدور الفعال في سلخ الأمة عن تاريخها الحقيقي وعقيدتها الإسلامية الأصلية.

فقد تتلمذ ميشيل عفلق في سنوات دراسته الجامعية في فرنسا، وفيها تعهّده بالتربية والإعداد أحد المستشرقين الفرنسيين(3)، وهذا ما قاله الصحفي اللبناني (علي بلوط) على صفحات مجلة الدستور اللبنانية وهو يدافع عن عفلق ضد حكم الإعدام الذي أصدره بحقه أحد الرؤساء العرب، حيث ذكر بلوط وهو يمتدح عفلق قائلاً:

إن المستشرق الأب ماسينون قال عن مؤسس البعث عفلق: بأنه أنبغ وأعز

ص: 329


1- ميشيل عفلق (1910-1989م) مسيحي ولد في دمشق ومات في بغداد، أحد مؤسسي حزب البعث، تخرج من فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية.
2- سورة الأنعام، الآية: 33.
3- هو لويس ماسينون (1883-1962م) مستشرق فرنسي من أشد المهتمين بمؤلفات الحلاج الصوفية.

تلميذ في حياتي(1).

هذه الكلمة جاءت على لسان مستشرق يحتل موقعاً مركزياً في الحركة الصليبية الاستعمارية في العالم، فقد جاء في أحد الكتب(2): (إن الأب ماسينوس، هو المستشرق الروحي لكنائس المسيحية البروتستانتية الفرنسية لما وراء البحار، ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسية)، وقد أظهرت بوضوح آراء ميشيل عفلق الفلسفية ومواقفه الخاصة مدى انتمائه للفكر الصليبي، إذن هذا مؤسس حزب البعث وقائده وأمينه العام!!

وقد عرّف البعث نفسه على لسان شاعره(3)

في هذه الأبيات التي نشرتها الإذاعات والصحف وهي:

آمنت بالبعث ربّاً لا شريك له *** وبالميشيل نبياً ماله ثانِ

و«في سبيل» كتابي عزّ منزله *** ضربت بالذكر- عمداً - عرض حيطان(4)

وفي شعر آخر لهم:

إن تَسَل عنّي لتعرف مذهبي *** أنا بعثي اشتراكي عربي

وقد اتخذ حزب البعث في العراق شعار العنف والتعدّي على الإنسان وسحق حقوقه، بل تحطيم الأديان وتحطيم كل شيء خير في الحياة.

وكانوا قد رفعوا لافتة في كربلاء المقدسة بهذا النص: مزيداً من العنف الثوري. ولافته رفعوها في بغداد قرب أحد الجسور:

ص: 330


1- مجلة الدستور اللبنانية تحت عنوان (دمشق... إعدام البعث) الكاتب علي بلوط.
2- كتاب (الفكر الإسلامي الحديث): 556.
3- صالح مهدي عمّاش أحد أعضاء الحزب في أوّل حكومة لحزب البعث في العراق.
4- (ميشيل) هو ميشيل عفلق و(في سبيل) كتاب ألفه عفلق أسماه (في سبيل البعث) و(الذكر) يريد به القرآن الكريم.

إذا كان للإسلام دور قد انقضى *** فهيا لدور البعث في الأزمات

وكانوا قد علّموا الشخص الحزبي وفرضوا عليه إهانة الدين ومقدساته، فكان أحدهم يقول: عفلق أعظم من محمد(1) لأن عفلق أنقذنا من الاستعمار و(محمد) جاء بالاستعمار. كما يزعم!!

وكان آخر يتمثل بشعرٍ قديم قاله شاعر ملحد:

إننا معشر الشبيبة قوم *** قد رفضنا الشريعة الأحمدية

وقد أنشد أحدهم قائلاً:

دع الجمود وادّرع بملبس التحرر *** إذا رأيت عالماً فصكه بالحجر

ويقصد بالعالم (علماء الدين الأبرار) الذين يقول اللّه تعالى عنهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر وإن العلماء ورثة الأنبياء...»(4).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «محادثة العالم على المزابل خير من محادثة الجاهل على الزرابي»(5).

محاربة الدين والمتدينين

اشارة

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ

ص: 331


1- ويقصد به سيد الكائنات الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
2- سورة فاطر، الآية: 28.
3- عوالي اللئالي 4: 77.
4- الكافي 1: 34.
5- الكافي 1: 39.

وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... واللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم...»(2).

لقد كان البعثيون في العراق إذا رأوا القرآن المجيد بيد أحد الطلاب، سخروا منه واستهزئوا به.

وإذا كان الشاب يذهب إلى مجالس الوعظ والإرشاد أو إلى حرم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أو حرم الإمام الحسين(عليه السلام) عدّوه رجعياً، وكانوا يشجّعون على (الشذوذ الجنسي) وعلى (الزنا) وعلى (شرب الخمر) وعلى (لعب القمار) وكل الرذائل ومنافيات العفّة والشرف.

وذات مرة رأوا كتاباً دينياً، في يد أحد الطلاب وهو يرجع من بيت أحد العلماء، فأخذه (رجل الأمن) وأراد أن يأخذ الكتاب من يده لكن الطالب أبى إعطاء الكتاب، فجرت بينهما مشادة كلامية انتهت بهما إلى (دائرة الأمن) فالتوقيف والإلقاء في السجن.

هكذا حاربوا الدين والعلم والعلماء!

من جرائم الطغاة

من المشاكل الأخرى التي طوّقت رقاب شعبنا المظلوم هو أن (رجل الأمن) كان يقف على أبواب البيوت التي فيها تقام مجالس العزاء على الإمام الحسين(عليه السلام) أو فيها مجالس الوعظ، ليصرف الشباب عن المجلس أولاً بالتظاهر بالكلام اللين، كأن يقول له: (أنت شاب مثقف، لماذا ترتاد هذه المجالس

ص: 332


1- سورة الإسراء، الآية: 9.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).

الرجعية؟)وأمثال هذا الكلام الفارغ، وإذا لم يرجع كان يسجّل اسمه ويتوعده بالملاحقة وأحياناً يدخل معه في حوار ثم مشادة مصطنعة لسوقه إلى (دائرة الأمن) ومن ثم إلى السجن!

وكانوا قد عمّموا على الحزب قراراً يأمرهم بحرق كل كتاب ديني وجدوه في المساجد أو غيرها.

وكانوا يحرقون الكتب الدينية التي تأتي من الخارج بحجة أن فيها أغلاط مطبعية أو ما شابه ذلك.

وكانوا يجعلون أعضاء الحزب في القطارات، في أيام الزيارات ليستهزئوا باللّه والنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) ويسبوهم أمام الزوار. وإذا تعرّض لهم أحد الغيارى بالرد دخلوا معه في مشادة كلامية فيستدرج إلى إحدى دوائر الأمن ثم يشهدون عليه هناك بأنه سبّ الحكومة، مما يكون مصيره السجن وأحياناً يصل الحكم إلى الإعدام.

هذا غيض من فيض من المشاكل التي خلقتها تلك الواجهة الاستعمارية المتمثّلة بتسليط هذه المجموعة الظالمة الكافرة على رقاب شعبنا المظلوم في العراق، والآن يجري عليه ما هو أشد وأنكى.

الحقد على الشيعة

لقد أظهر نظام البعث الحاكم في العراق الحقد على الشيعة - بشكل خاص - حقداً لم نجد مثيله في التأريخ إلّا عند الظالمين من أعداء أهل البيت(عليهم السلام) من أمثال معاوية ويزيد وهارون العباسي والمتوكل، وغيرهم من عبيد الشيطان.

وهذا يتوضح في أقوالهم وأفعالهم مرة بعد أخرى.

فقد قال صدام ذات مرة: (أفعل بالشيعة بحيث أجعلهم يتبرّءون من التشيع، كما كان الشيوعيون في أيام نوري السعيد يتبرّءون من الشيوعية)!

ص: 333

وقال البكر يوماً: (لا يهمني إلّا تصفية جهاز الحكم من الشيعة)!

وقال شبلي العيسمي(1) ذات يوم: (بايعوا الشيطان لأجل القضاء على الشيعة)!

وقال طلفاح(2) وهو يشير إلى قبة مرقد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): (هذا رئيس المنافقين)! العياذ باللّه.

وقد شكلت الحكومة في بغداد جمعية أسموها (جمعية الأمويين) مهمتها الإشادة ببني أمية والدفاع عنهم وإرجاع الاعتبار إليهم.

كما أن أحد قضاتهم ألف كتاباً حول (شُريح)(3) باعتباره أول قاض في الإسلام ومدحه، ولم يكن ذلك إلّا لأجل أنه أفتى بقتل الإمام الحسين(عليه السلام).

وكان صدام يقول: (إني من المعجبين بزياد بن أبيه وبالحجاج، فقد تمكنا من القضاء على الزمرة الماردة) يقصد بهم الشيعة والعلويين.

وكان حزب السلطة في العراق، أسند كل المراتب العالية في الجيش إلى بعض المتعصّبين من السنة.

وذات مرة دخل رجال الأمن دار أحد العلماء للتحري (كما يدّعون) واذا بهم يجدون في مكتبته كتاب (وسائل الشيعة) للشيخ الحر العاملي(رحمه اللّه)، فقالوا للعالم باللغة الدارجة: (متستحي، بعدك شيعي؟ ومنو هُمّ الشيعة؟ غير جماعة استعمارية عملاء ورجعيين، رئيسكم(4) طلع جاسوس، وكلكم جواسيس)! هذا أسلوبهم في التعامل مع علماء الشيعة.

ص: 334


1- مواليد عام 1930م مسيحي أحد أعضاء القيادة القومية لحزب البعث تقلد عدة وزارات في سوريا ومنصب نائب أمين عام حزب البعث عام 1965م.
2- خير اللّه خال صدام ووالد ساجدة زوجة صدام.
3- أي: شريح القاضي.
4- ويقصدون بالرئيس الإمام السيد محسن الحكيم(رحمه اللّه).

وأكثر من هذا، فإنهم وصلت بهم الحالة إلى أن أحد أعضاء ما يسمى بالقيادة القطرية مرّ على مرقد الإمامين الجوادين(عليهما السلام) في الكاظمية وأشار إلى القبة الشريفة قائلاً بالحرف الواحد: (ما دامت هذه الأصنام في بلادنا...)! والعياذ باللّه.

أما مظاهر حقدهم في السجون فشيء لمسه كل سجين، ومنهم الأخ الشهيد الذي لاقى ما لاقى من ألوان التعذيب الروحي والجسدي.

بالإضافة إلى أن سبّهم الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) وفاطمة الزهراء(عليها السلام) وكل مقدّسات الشيعة، كان منهجاً يلزم على المشرفين على السجن أن يطبقوه على كل سجين شيعي.

هذا ما يرتبط بالأمر الأول وبعض ما يجري من المآسي والويلات التي تصب على إخواننا في العراق تحت سلطة الحزب الحاكم.

أما الأمر الثاني وهو كيف يمكن رفع هذه المآسي والويلات عن أبناءنا داخل العراق ورفع المشكلات خارجه؟ فهذا ما يحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى أن تتوحد قدراتنا ونسير خلف قوانين القرآن الكريم والدين الحنيف و(المرجعية الدينية الرشيدة)(1) مضافاً إلى لزوم إيجاد التعددية السياسية وتشكيل الأحزاب الحرة وشورى الفقهاء المراجع.

السير خلف المرجعية

قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا».

ص: 335


1- انظر كتاب: (السبيل إلى إنهاض المسلمين)، (وإذا قام الإسلام في العراق)، (والصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، و(كفاحنا)، وغيرها للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
2- سورة فاطر، الآية: 28.

قيل: يا رسول اللّه، ما دخولهم في الدنيا؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إتباع السلطان، فإذا فعلواذلك فاحذروهم على دينكم»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقهاء أمناء الرسل»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء»(4).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد اللّه عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء؛ لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها»(5).

إنّ أغلب الذين يعيشون في المنفى هم من أبناء الطائفة الشيعية وبمرور الزمن نلاحظ مشاكلنا تكبر شيئاً فشيئاً، فبدل أن نلجأ إلى الاتحاد والتعاون وتشكيل جبهة واحدة تحت لواء الإسلام الذي ضحّى من أجله سيد شباب أهل الجنة الإمام أبو عبد اللّه الحسين(عليه السلام) وأريقت من أجله تلك الدماء الطاهرة التي روت كربلاء، فقد قال(عليه السلام): «... أني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب(عليه السلام)...»(6)، نرى السبّ

ص: 336


1- الكافي 1: 46.
2- عوالي اللئالي 4: 77.
3- الكافي 1: 46.
4- الكافي 1: 38.
5- الكافي 1: 38.
6- بحار الأنوار 44: 329.

واللعن هنا وهناك أصبح شغلاً شاغلاً لبعض أبناءنا في المنفى، والفرقة الموحشةالموجودة بين بعضنا.

نحن نعلم علماً يقينياً أن وراء أكثر تلك المشاكل والمظالم التي تحيط بنا، وراءها من يحرّكها وينظّمها من الأيادي الخفية الاستعمارية التي لا تراعي للمسلم إلّاً ولا ذمة، وبعضها مارست الجناية حتى أصبحت ملازمة للجرم والخطيئة والعمالة الاستعمارية.

ولذا يلزم شرعاً إنقاذ المسلمين من تلك المشاكل؛ وذلك بنبذ الخلافات وطرحها جانباً، والسير خلف (المرجعية الدينية) والقيادة الشرعية، وبأن نبذل في سبيل قيام الحكم الإسلامي كل ما نملك من طاقات وإمكانات، فقد قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إياكم والتدابر والتقاطع لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(2).

وقال(عليه السلام): «الزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة»(3).

مسؤولية الجميع

اشارة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو المسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في مال أبيه راع وهو مسئول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول

ص: 337


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.

عن رعيته»(1).

فعلى كل مسلم سواء أكان داخل العراق أم خارجه أن يعمل كل ما بوسعه من أجل إسقاط ذلك النظام الطاغي المتسلط بالعنف والقوة وكل وسائل الإرهاب ضد الشعب المظلوم.

وصايا

قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2).

لذا نوصي جميع الأخوة المؤمنين أن يبتدئوا سيرهم بتربية النفس على الخصال الحميدة، فعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث سريّة فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس. وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(3).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «الذنوب التي تغيّر النعم: البغي على الناس، والزوال عن العادة في الخير، واصطناع المعروف، وكفران النعم، وترك الشكر؛ قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} - إلى أن قال(عليه السلام): - والذنوب التي تنزل البلاء: ترك إغاثة الملهوف، وترك معاونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والذنوب التي تديل الأعداء: المجاهرة بالظلم، وإعلان الفجور، وإباحة المحظور، وعصيان الأخيار، والانطباع(4) للأشرار...»(5).

ص: 338


1- عوالي اللئالي 1: 129.
2- سورة الرعد، الآية: 11.
3- معاني الأخبار: 160.
4- الانطباع: الانقياد.
5- معاني الأخبار: 270.

لأن هذا الطريق - طريق تربية النفس على الخصال الحميدة والعادات الحسنة، وشكر النعمة - هو أسرع الطرق التي توصلنا إلى ذلك الهدف النبيل الذي يسعى من أجله الجميع، وبذلك وردت بعض الأحاديث عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنه سمّى تربية النفس وتهذيبها (بالجهاد الأكبر) (1) وفضلهُ على غيره أكبر من أن يوضح.

فمن أجل إنقاذ المسلمين جميعاً وخصوصاً في العراق، يجب (قبل كل شيء) أن نجاهد النفس وذلك بتربيتها، ومن خلال هذا الطريق سوف نصل إلى الهدف في أسرع وقت وأقل طاقة إن شاء اللّه تعالى.

وقد ورد الكثير من الروايات التي تحث على جهاد النفس، فعن الإمام الكاظم(عليه السلام) أنه قال: «... وجاهد نفسك لتردّها عن هواها، فإنه واجب عليك، كجهاد عدوّك...»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «حاربوا هذه القلوب فإنها سريعة العثار»(3).

وعنه(عليه السلام) قال: «ردّ عن نفسك عند الشهوات، وأقمها على كتاب اللّه عند الشبهات»(4).

كما يجب التمسك بالقيادة المرجعية لتتوحد الطاقات وتصب جميعها في هذا الطريق.

ونبتهل إلى اللّه جلّ اسمه أن ينقّي أرواحنا ويطهر قلوبنا، ونسأله تعالى أن يفرّج عنّا فرجاً عاجلاً قريباً بإزالة هذا الكابوس المرعب المتسلط بقوة الحديد

ص: 339


1- كما مرّ في رواية أمير المؤمنين(عليه السلام).
2- تحف العقول: 399.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 67.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 242.

والنار على رقاب شعبنا المظلوم في العراق.

«اللّهم صل على محمد وآله وبلغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيّتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال، اللّهم وفر بلطفك نيتي، وصحح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد مني»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الشيطان يزيِّن لأوليائه

قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَٰنِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَٰنِ هُمُ الْخَٰسِرُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {الشَّيْطَٰنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا}(3).

وقال سبحانه: {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَٰنُ لَهُ قَرِينًا}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}(5).

في مخالب الفتن والمحن

قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٖ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ}(7).

ص: 340


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة المجادلة، الآية: 19.
3- سورة البقرة، الآية: 268.
4- سورة النساء، الآية: 38.
5- سورة النساء، الآية: 119.
6- سورة الأنعام، الآية: 53.
7- سورة الدخان، الآية: 17.

وقال سبحانه: {وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَأَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَىٰكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَىٰكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(1).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}(2).

في مواجهة الجبابرة والمستبدين

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَٰهِۧمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَىٰهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحْيِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ : {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَٰمَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ}(4).

وقال سبحانه: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بَِٔايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ}(5).

وقال جلّ وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}(6).

ص: 341


1- سورة الحديد، الآية: 14-15.
2- سورة البروج، الآية: 10.
3- سورة البقرة، الآية: 258.
4- سورة الأنبياء، الآية: 57.
5- سورة طه، الآية: 42-43.
6- سورة الممتحنة، الآية: 4.
الحكومات الجائرة وآثارها

قال تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}(1).

وقال عزّ وجلّ : {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلَٰدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(3).

عاقبة الظالمين

قال اللّه تعالى: {وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ الْجَنَّةِ أَصْحَٰبَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّٰلِمِينَ}(4).

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَٰبُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٖ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّٰلِمِينَ}(5).

حال الظالمين في الدنيا

قال سبحانه: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا وَمَأْوَىٰهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّٰلِمِينَ}(6).

ص: 342


1- سورة النمل، الآية: 34.
2- سورة الفجر، الآية: 10-14.
3- سورة القصص، الآية: 4.
4- سورة الأعراف، الآية: 44.
5- سورة الأعراف، الآية: 40-41.
6- سورة آل عمران، الآية: 151.

وقال سبحانه: {وَقَٰرُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَٰتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَٰبِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

أئمة الجور

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان»(2).

وقال(عليه السلام): «...وعدلُ السلطان خيرٌ من خصب الزمان»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) - في حديث - : «...واعلم يا محمد! أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين اللّه، قد ضلوا وأضلوا، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دوس الحق كله، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد، وابطال الكتب، وقتل الأنبياء والمؤمنين، وهدم المساجد، وتبديل سنة اللّه وشرائعه؛ فلذلك حُرِّم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم، إلّا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة»(5).

ص: 343


1- سورة العنكبوت، الآية: 39-40.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
3- بحار الأنوار 75: 10.
4- الكافي 1: 183.
5- تحف العقول: 332.
الجهاد باب من أبواب الجنة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاثة من قالهن دخل الجنة: من رضي باللّه رباً، وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً والرابعة لها من الفضل كما بين السماء والأرض هي الجهاد في سبيل اللّه عزّ وجلّ»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المجاهدون تفتح لهم أبواب السماء»(2).وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أتى رجل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: إني راغب نشيط في الجهاد، قال: فجاهد في سبيل اللّه فإنك إن تقتل كنت حيّاً عند اللّه ترزق، وإن مت وقع أجرك على اللّه، وإن رجعت خرجت من الذنوب إلى اللّه هذا تفسير {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَا}»(3)(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض في وقت الجهاد»(5).

الجهاد الأكبر

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل الجهاد جهاد النفس عن الهوى وفطامها عن لذات الدنيا»(6).

وقال(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول اللّه وما الجهاد الأكبر؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): جهاد النفس، وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن أفضل الجهاد من جاهد نفسه

ص: 344


1- نهج الفصاحة: 409.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 72.
3- سورة آل عمران، الآية: 169.
4- تفسير العياشي 1: 206.
5- كامل الزيارات: 335.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 207.

التي بين جنبيه»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها فمرّة يقيم أودها ويخالف هواها في محبّة اللّه، ومرّة تصرعه نفسه فيتّبع هواها فينعشه اللّه فينتعش، ويقيل اللّه عثرته فيتذكر»(2).

المؤمن مبتلى

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان لهمثل أجر ألف شهيد»(3).

وذكر عند أبي عبد اللّه(عليه السلام) البلاء وما يخص اللّه عزّ وجلّ به المؤمن، فقال: «سئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أشد الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال: النبيون ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه»(4).

وقال(عليه السلام): «نعم الجرعة الغيظ لمن صبر عليها فإن عظيم الأجر لَمِنْ عظيم البلاء وما أحب اللّه قوماً إلّا ابتلاهم»(5).

الصبر من الإيمان

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «دخل أمير المؤمنين(عليه السلام) المسجد فإذا هو برجل على باب المسجد كئيب حزين، فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): ما لك؟

قال: يا أمير المؤمنين أصبت بأبي وأخي، وأخشى أن أكون قد وجلت(6).

ص: 345


1- معاني الأخبار: 160.
2- تحف العقول: 284.
3- الكافي 2: 92.
4- الكافي 2: 252.
5- الكافي 2: 109.
6- لعل المراد بخشية الوجل خوفه أن يكون قد انشق مرارته من شدة ما أصابه من الألم، أو المعنى: أخشى أن يكون حزني بلغ حداً مذموماً شرعاً، فعبر عنه بالوجل.

فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): عليك بتقوى اللّه والصبر، تقدم عليه غداً، والصبر في الأمور بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد، وإذا فارق الصبر الأمور فسدت الأمور»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «مروة الصبر في حال الحاجة والفاقة والتعفف والغنى أكثر من مروة الإعطاء»(2).وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن الصبر والبلاء يستبقان إلى المؤمن فيأتيه البلاء وهو صبور، وإن الجزع والبلاء يستبقان إلى الكافر فيأتيه البلاء وهو جزوع»(3).

وقال(عليه السلام): «إن الحرّ حرّ على جميع أحواله، إن نابته نائبةٌ صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر، واستبدل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق الأمين(عليه السلام) لم يضرر حريته أن استعبد وقهر وأسر، ولم تضرره ظلمة الجب ووحشته، وما ناله أن مَنّ اللّه عليه فجعل الجبار العاتي له عبداً بعد إذ كان له مالكاً، فأرسله ورحم به أمةً، وكذلك الصبر يعقب خيراً، فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا»(4).

وقال(عليه السلام): «لا تكونون مؤمنين حتى تكونوا مؤتمنين، وحتى تعدوا النعمة والرخاء مصيبةً، وذلك أن الصبر على البلاء أفضل من العافية عند الرخاء»(5).

ثمار الصبر

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في حديث - فمن صبر

ص: 346


1- الكافي 2: 90.
2- الكافي 2: 93.
3- الكافي 3: 223.
4- الكافي 2: 89.
5- وسائل الشيعة 3: 260.

على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب اللّه له ثلاثمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض»(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر مطل عليه، ويتنحى الصبر ناحيةً، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنهفأنا دونه»(2).

وعن أبي الحسن(عليه السلام) - في حديث - قال: «إن تصبر تغتبط، وإلّا تصبر ينفذ اللّه مقاديره، راضياً كنت أم كارهاً»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «... من بلي من شيعتنا ببلاء فصبر كتب اللّه له أجر ألف شهيد»(4).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن الصبر والبر والحلم وحسن الخلق من أخلاق الأنبياء»(5).

بيانات

اشارة

لقد أصدر الإمام الراحل(رحمه اللّه) عدة بيانات في مناسبات عديدة تخص العراق ومعاناة العراقيين من جور النظام الحاكم، وتفضح المنهج الاستعماري الذي ينتهجه النظام العميل والأساليب الوحشية التي يعامل بها الشعب العراقي المظلوم؛ لذا ارتأينا إعادة نشر بعض هذه البيانات التي هي على صلة بموضوع

ص: 347


1- الكافي 2: 91.
2- الكافي 2: 90.
3- الكافي 2: 90.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 221.
5- الخصال 1: 251.

الكتاب ورجاء الفائدة للباحثين عن حقيقة ما جرى ويجري على الشعب العراقي المسلم في ظل حكم العفالقة الظالمين.

إعلان الحداد بمناسبة (17 تموز)

أصدر الإمام الراحل(رحمه اللّه) هذا البيان معلنا الحداد بمناسبة الكارثة التي نابت العراق خاصة والأمة الإسلامية عامة بعد ما يسمى بثورة (17 تموز 1968م) في العراق التي قام بها مجموعة من عملاء بريطانيا وأمريكا، ثم تمت تصفية البعضمنهم بأوامر أسيادهم، وذلك في ما يسمى بثورة (30 تموز)، وقد بين الإمام الراحل(رحمه اللّه) بعض المآسي والجرائم التي قام بها هذا النظام العميل، فقال (أعلى اللّه درجاته) فيه ما يلي:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

«الحمد للّه قاصم الجبارين، مبير الظالمين، مدرك الهاربين، نكال الظالمين صريخ المستصرخين، موضع حاجات الطالبين، معتمد المؤمنين»(1).

نقدم التعازي الحارة إلى الأمة الإسلامية عامة، والشعب العراق المسلم خاصة، بحلول ما يسمى ب(أعياد 17 تموز) حيث تتجدد مأساة العراق بحلول هذه الأيام الميشومة، فتزيد سلطة البعث من أساليب القمع والإرهاب، والكبت والإذلال، والتشريد والتبعيد للشعب العراقي الغيور، بعد أن تسلط عليه منذ إحدى عشرة سنة، بالمعاونة مع الدوائر الاستعمارية المفضوحة لأجل نهب خيراته وسلب حرياته وتحطيم اقتصاده، وتمزيق وحدته وجعله في مؤخرة القافلة.

والشعب العراقي الغيور لم يشاهد منذ تولي هذا الحزب السلطة بالحديد والنار حتى ساعة واحدة من الراحة والخير، فقد أحكم البعث ربط عجلة العراق

ص: 348


1- إقبال الأعمال 1: 59.

بالدوائر الاستعمارية في ثوب مزيف مهلهل يسمى ب- (الوحدة والحرية والاشتراكية) فتحت شعار (الوحدة) حاربوا الوحدة الإسلامية التي هي آمال كل مسلمي العالم، وتحت شعار (الحرية) سلبوا كل الحريات، فلا تجد في عراق البعث لا حرية الكتابة ولا حرية الرأي ولا حرية الخطابة ولا حرية الزراعة ولا حرية الصناعة ولا حرية البناء ولا حرية الحركة،بل كبت وإرهاب وإملاء السجون والمعتقلات بالأحرار والمثقفين والعمال والفلاحين والشبان والفتياتوالخطباء وأصحاب الفكر والعلم، حتى إنهم لم يكتفوا بالسجون السابقة ولا ببناء سجون جديدة، وإنما جعلوا قسماً من الدوائر والمدارس والبيوت - المغصوبة - سجوناً أيضاً.

وتحت شعار (الاشتراكية) جعلوا الشعب العراقي من أفقر الشعوب.

وفي هذه الأيام يتذكر الشعب العراقي المسلم مأساته من جديد، فقد قتل حزب البعث في سنواته السيئة الماضية خيرة رجاله وعلمائه ومثقفيه، وحتى أصدقاء حزبه (مثل حردان التكريتي ورشيد مصلح وناصر الحاني).

ألم يقتلوا العلامة الجليل الشيخ عارف البصري وصحبه العلماء؟

ألم يقتلوا العلامة الجليل الشيخ عبد العزيز البدري وأصدقائه الكرام؟

ألم يقتلوا المحامي حسين الدلال وثلاثة وأربعين من أصدقائه في وجبة واحدة؟

ألم يقتلوا الرجال والنساء والأطفال في بغداد وضواحيها تحت شعار (أبو طبرة)(1)؟

ص: 349


1- اسم لعصابة اشتهرت في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، نشرت الرعب في أوساط المجتمع العراقي وعلى الأخص في مدينة بغداد، انتهجت أبشع الأساليب وحشية في الاعتداء على الناس الآمنين، وهي مجموعة إرهابية منظمة من قبل النظام الحاكم لغرض تصفية المعارضين وبث الرعب بين الناس الآمنين!!

ألم يقتلوا ثمانية من خيرة الشباب المثقف في انتفاضة العشرين؟(1)

ألم يقتلوا مئات من الأكراد الأبرياء، وحرقوا قراهم وشردوا الألوف منهم ونهبوا أموالهم؟

ألم يقتلوا خيرة شباب فلسطين أمثال سعيد الحمامي وعلي ياسين؟ألم يسببوا في مأساة تشريد الإيرانيين من الأطفال والنساء والعجزة بأساليبه الوحشية الخارجة عن كل عرف وقانون؟(2)

ألم يقتلوا في هذه الأيام الأخيرة أكثر من مائة من خيرة أبناء العراق إما إعداماً بالكراسي الكهربائية أو رمياً بالرصاص أو على أعواد المشانق؟

أما تنازل أحمد حسن البكر عن صلاحياته، لصدام، فليس ذلك إلّا مهزلة استعمارية قديمة، لإخماد الثورات، فقد كان الاستعمار البريطاني العجوز يفعل مثل ذلك بعملائه كلما رأى هياج الشعوب المستعمرة، كما فعل ذلك الاستعمار الأمريكي بأعوان الشاه في إيران، لكن هذه الأساليب لا تخدع الشعوب الواعية ولن تخدع الشعب العراقي الذكي، الذي لا يرضى إلّا بإقصاء حزب البعث عن الحكم، وجعل الحكم حسب شورى الفقهاء المراجع وانتخابهم في إطار رضى اللّه تعالى وتنفيذ قوانينه، وسوف يأتي ذلك اليوم القريب الذي نرى فيه حكم الإسلام التطبيقي يرفرف على ربوع العراق، ويكون انتخاب الحاكم بيد الشعب في إطار الشروط المحددة له في الإسلام، وهو بإذن اللّه تعالى يوم قريب.

ص: 350


1- إشارة إلى انتفاضة العشرين من صفر في زيارة الأربعين للإمام الحسين(عليه السلام) التي استشهد فيها الكثير من المؤمنين.
2- وذلك عبر جريمة التهجير الوحشي لمئات الآلاف من المسلمين الشيعة بحجة أنهم من أصول غير عربية، راجع مؤلفات الإمام الشيرازي(رحمه اللّه): (كيف ولماذا أخرجنا من العراق)، وكتاب (التهجير جناية العصر)، وكتاب (النازحون من العراق).

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

قم المشرفة 22 / شعبان / 1399ه-

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

بيان بمناسبة الأوضاع الأخيرة في العراق

اشارة

وفي بيان له(رحمه اللّه) بين سماحته بعض ما جرى على العراق والأمة العربية من ويلات أتى بها هذا النظام خلال مدة تسلطه على سدة الحكم، بدءاً من انتهاكات حقوق الإنسان الصارخة، من قمع الحريات والقتل والتشريد والاعتقال والإعدام والتهجير، مروراً بنهب ثروات العراق، وانتهاءً بمسلسل الاستسلام للصهاينة المعتدين على الإسلام والأمة العربية، فقال (أعلى اللّه درجاته):

بسم اللّه الرحمن الرحيم

«الحمد للّه قاصم الجبارين، مبير الظالمين، مدرك الهاربين، نكال الظالمين صريخ المستصرخين، موضع حاجات الطالبين، معتمد المؤمنين»(2).

وهكذا تستمر أعمال العنف في العراق، ويساق العلماء والخطباء والمثقفون والضباط والعمال والفلاحون والطلاب والطالبات بالعشرات والمئات، إلى السجون والمعتقلات حيث أبشع أنواع التعذيب التي لا توجد حتى في سجون إسرائيل. وهكذا تستمر المحاكمات الصورية والإعدامات الجماعية لأبناء العراق، كل يوم تحت شعار.

ص: 351


1- إقبال الأعمال 1: 60.
2- إقبال الأعمال 1: 59.

فيوماً يساق علماء الدين والخطباء من النجف وكربلاء وبغداد والبصرة وبعض المدن الأخرى إلى ساحات الإعدام، باسم الرجعية الدينية!

ويوماً يساق العمال والفلاحون والصناع إلى ساحات الإعدام باسم الغش والخيانة في الإنتاج.

ويوماً يساق المدرسون والمثقفون والطلاب والطالبات إلى ساحات الإعدام باسم دخولهم في المنظمات والأحزاب المحظورة.ويوماً يساق الأكراد إلى ساحات الإعدام باسم أنهم من أنصار الحركة الانفصالية.

ويوماً تساق جماعات من مختلف الاتجاهات والثقافات إلى ساحات الإعدام باسم العمالة والعداء للثورة.

ويوماً يساق الضباط الأحرار إلى ساحات الإعدام باسم التآمر...وهكذا.

والمهم هو الإعدام بين كل فترة وفترة لإلهاء الشعب العراقي المسلم عن المطالبة بحكم اللّه، وعن المطالبة بالانتخابات الحرة لاختيار الحاكم الكفء المرضي للّه وللأمة، وعن بناء وطنه واقتصاده، وعن أن يملك زمام نفسه، ويزحزح كابوس الاستعمار الغربي والعمالة لإسرائيل وأسياده، عن صدر العراق.

واليوم يأتي الاستعمار بمهزلة جديدة، هي تنحي (البكر) بالسلاح والقوة ليقوم مقامه (صدام)، لأنه أوفى للأسياد، وأقدر على تحطيم العراق من البكر وزمرته، ومن الطبيعي بعد ذلك (التصفيات الجماهيرية) و(الإعدامات الجماعية) لكل من لا يرغب فيهم (الرئيس الجديد).

إن المستعمر العجوز بريطانيا، وبمساعدة أميركا وإسرائيل، صنفوا العراق تحت عشرات الأسماء ليسهل عليهم القضاء على الشعب العراقي البطل، في كل يوم تحت شعار، فهذا (رجعي) وهذا (عميل) وهذا (خائن) وهذا (إقطاعي)

ص: 352

وهذا (برجوازي) وهذا (شيوعي) وهذا (قومي) وهذا (إخواني) وهذا (تحريري) وهذا (كردي) وهذا (شيعي) وهذا (سني) وهكذا. ولم يشذ نفس حزب البعث عن هذا التصنيف فهذا (بعثي بكري) وهذا (بعثي صدامي) وهذا (بعثي يميني) وهذا (بعثي يساري).

وفي هذه التصفية الأخيرة، لم يبق حتى مما يسمى ب(مجلس قيادة الثورة) إلّا شخص واحد فقط، وإلّا فالبقية أخرجوا من المجلس، وأعدم أكثرهم، ولماذا كلهذه التصفيات والإعدامات طيلة إحدى عشرة سنة؟

إنها لأجل تصفية العراق وتقديم ثرواته إلى المستعمرين، وإخراجه عن قافلة المسلمين المطالبين بالقضية الفلسطينية.

والآن وقد سقط (البكر) كما سقط قبله (حردان) و(عمّاش) و(الأسود) وغيرهم، يتساءل الشعب العراقي الكريم: ما هي منجزات ثورة (17تموز)؟

كما يتساءل: ما هي منجزات (14 تموز)؟

وهل حصل العراق من هاتين الثورتين حتى على أتفه إنجاز؟

إن ما يسمى ب(الإصلاح الزراعي) على الأسلوب الأجنبي، حطم الزراعة، وإن (الاشتراكية) حطمت الاقتصاد، وإن (الانقلابات المضادة للثورة الإسلامية الحقيقية ولتطلعات الشعب العراقي) كبتت كل الحريات، وخنقت كل الأنفاس، وإن الشعارات المستوردة (الديمقراطية: أيام الملكيين) و(الشيوعية: أيام قاسم) و(القومية: أيام عبد السلام) و(البعثية: أيام البكر وصدام) كانت كلها خلاف الإسلام، ولتحطيم الأمة، ولسلب خيرات البلاد ووضعها لقمة سائغة في أفواه المستعمرين، ولتفتيت العراق، ولإشعال نار الفتنة بين الأخوة (الأكراد والعرب وسائر الأقليات) ولإملاء السجون والمعتقلات، ولسوق مئات الأبرياء إلى ساحات الإعدام.

ص: 353

وهل حصلتم أيها العراقيون الكرام على غير ذلك؟

فهل حصل العراق على الحرية؟

وهل عمّرت أراضي العراق بالبناء والزراعة؟

وهل صار العراق بلداً صناعياً ذا كفاءة ذاتية؟

وهل للعراق اقتصاد يكفي للقمة الخبز بله الثروة والغنى؟

وهل تقدم العراق في ميدان (الوحدة الإسلامية) حتى بمقدار أنملة؟وهل يحكم شعب العراق نفسه بنفسه في انتخابات حرة ويكون له برلمان حر، وصحف حرة وإذاعة حرة؟

وهل تقدم العراق لإنقاذ (فلسطين) ولو مقدار (شبر)؟

نعم، في زمان (الملكيين) اغتصبت (فلسطين) وأضاف الملكيون الحطب على النار فأخرجوا اليهود (بإشارة أسيادهم المستعمرين) ليملئوا فلسطين بجيش من أثرياء اليهود، وخبرائهم، وفي زمان (الانقلابيين) توسعت (إسرائيل) إلى أضعافاً مضاعفة، وحكومة (بغداد) لا شغل لها إلّا المساعدة سراً على التوسع الصهيوني، بضرب الشعب والتآمر مع الحكومات الاستعمارية، للمزيد من نهب اليهود للأراضي الإسلامية، فهل حصل غير ذلك أيها الشعب العراقي الكريم؟

أما الجيش فقد مزقته (الانقلابات) شرّ ممزق، حتى تحطمت كل كفاءاته، وقد سلط عليه (البعثيون) أطفالاً من حزبهم؛ للمزيد من كبتهم وإذلالهم، وصار الجيش لا شأن له منذ أيام الملكيين إلّا حفظ (التيجان) وبدل أن يكون الجيش سوراً للأمة، صار سوراً للمستعمر ولإسرائيل (ضد الأمة) شأنه حفظ (تاج الملوك) يوماً وحفظ (تاج قاسم وعارف والبكر وصدام) يوماً، فهل غير هذا حصل؟

فيوماً تضرب القوى الحكومية (الحوزات العلمية في النجف وكربلاء) ويوماً (جامعة بغداد) ويوماً (الأكراد في شمال العراق) وهكذا وهلم جرا...

ص: 354

والكل يعلم أن الإسلام والمنطق بريئان من كل (انقلاب عسكري) مهما كان لونه ومبرره.

إن اختيار الحاكم يجب أن يتوفر فيه شرطان:

1- رضا اللّه بالحاكم.

2- وانتخاب الأمة له. أما أن تقفز (زمرة مجهولة من العسكر) على الحكم عبرالدبابات، فهو خلاف الإسلام وخلاف المنطق، فهل رأيتم أيها الشعب العراقي الكريم، انقلاباً عسكرياً في (أمريكا وفرنسا) أو في (ألمانيا وبريطانيا) أو في (اليابان وسويسرا) أو في (إسرائيل)؟ فلماذا تكون الانقلابات العسكرية في بلادنا؟

إن المسلمين وسائر عقلاء العالم يشجبون كل انقلاب عسكري، كما يشجب الشعب العراقي المسلم (ما مضى من الانقلابات العسكرية) ولا يرضون في المستقبل بالانقلاب العسكرية أيضاً، وحيث إن شهر رمضان المبارك شهر الانطلاق، وشهر العمل والحركة، وفيه حدثت انتصارات إسلامية رائعة كغزوة بدر الكبرى وغيرها؛ فالواجب على الأمة الإسلامية عامة والشعب العراقي المسلم خاصة أن ينتهزوا هذا الشهر فرصة الشروع في إسقاط حكم البعث وذلك ب(مقاطعة الحكومة) و(الإضرابات) و(المظاهرات) وغير ذلك.

فإذا سقطت حكومة البعث (وسقوطها قريب بإذن اللّه تعالى) يتوحد الشعب تحت لواء الإسلام والأخوة الإسلامية الصادقة، بنبذ كل الألوان المستوردة وكل الطائفيات وكل القوميات، وينتخب الناس حاكمهم بالأكثرية، كما قال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(1) وبعد ذلك ينبذون كل القوانين المستوردة، ليجعلوا مكانها (قانون الإسلام فقط).

ص: 355


1- سورة الشورى، الآية: 38.

وحينذاك يكون للجيش كرامته، ويكون سوراً للوطن ضد أعدائه، وعند ذاك يتقدم العراق بخطى سريعة في ميادين الصناعة والعمارة والزراعة والثقافة، ويكون العراق مساهماً في إنقاذ فلسطين كل فلسطين، لا الأراضي المغتصبة في (عام 1967م) فقط.

فمزيداً أيها الشعب العراقي المسلم من العمل في سبيل الإطاحة بحكمالبعث الخائن، واللّه نصير المستضعفين.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيه من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

6 / رمضان المبارك/ 1399ه

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

خطاب إلى الشعب العراقي استعداداً للحكومة الإسلامية المرتقبة في العراق بإذن اللّه تعالى

وفي خطاب له(رحمه اللّه) إلى أبناءه من الشعب العراقي أوضح فيه بعض الخطوط العريضة التي من اللازم على المسلمين الالتزام بها في سبيل تأسيس الحكومة العراقية المرتقبة، والتي ينبغي السعي لإقامتها كما ينبغي السعي لإقامة الحكومة الإسلامية الكبرى التي هي قرة عين المؤمنين، كما كان الإمام الراحل وباستمرار يحث المؤمنين في السعي الجاد لإقامتها وفق القوانين الإسلامية الصحيحة التي أمر بها اللّه جلّ وعلا ورسوله الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة من أهل بيته الطاهرين(2).

ص: 356


1- إقبال الأعمال 1: 60.
2- انظر في هذا الصدد كتاب (في سبيل إنهاض المسلمين) و (فقه السياسة ج1 و2) و(الحكومة العالمية الواحدة) و(الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين(عليه السلام)) و(إلى حكومة ألف مليون مسلم) و(إلى حكم الإسلام) و(الصياغة الجديدة) و(كيف نوحد البلاد الإسلامية)، للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

فقال(رحمه اللّه):

بسم اللّه الرحمن الرحيم

«الحمد للّه قاصم الجبارين، مبير الظالمين، مدرك الهاربين، نكال الظالمين، صريخ المستصرخين، موضع حاجات الطالبين، معتمد المؤمنين»(1).

يلزم على الأخوة العراقيين المجاهدين أن يعرفوا ثلاثة أمور:

1- إن الحكومة العراقية المرتقبة يلزم أن تعرف أنها جزء من الحكومة الإسلامية العالمية ذات ألف مليون(2)؛ إذ في الإسلام الحكومة واحدة، والمسلمون كلهم أخوة، لا فضل لعربيهم على عجميهم إلّا بالتقوى، وكما قال سبحانه: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(3) فاللازم أن تؤسس الحكومة على هذا الأساس، وإلّا لم تكن حكومة إسلامية. وعلى المسلمين أن لايؤيدوا أية حكومة لا تجعل الوحدة الإسلامية جزءاً من كيانها، ولا يفيد الاكتفاء بالشعارات أو ما أشبه.

2- إنه لا يصح أن يجعل للدولة الإسلامية المرتقبة قانوناً أساسياً؛ فإن القانون الأساسي للدولة الإسلامية: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، كما لم تكن لكل الدول الإسلامية في طول التاريخ ابتداءً من حكومة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وانتهاءً بآخر حكومة إسلامية قبل قرن قانوناً أساسياً؛ فإن ذلك لا يزيد الأمر إلّا إعضالاً، ولا يمكن أن يقال القانون الأساسي سبب لجعل الإطار للحكم؛ إذ يرد ذلك بأن اللازم جعل إطار الحكم الأدلة الأربعة والذي يستنبط منها هم الفقهاء في شورى المرجعية.

ص: 357


1- إقبال الأعمال 1: 59.
2- تشير الإحصاءات الأخيرة أن عدد نفوس المسلمين بلغ الملياري مسلم.
3- سورة الأنبياء، الآية: 92.

3- إن كيفية الحكومة الإسلامية هي:

أ. شورى الفقهاء وهم مراجع تقليد الأمة، وإذا مات أحدهم انتخب أكثرية الباقين مرجعاً للأمة مكانه، تتوفر فيه الشروط الشرعية ورضى الأمة به، وكونه مرشحاً للتقليد بدوره.

ب. الأحزاب الإسلامية الحرة المنتهية إلى الفقهاء المراجع في الشورى مما بيد جميعهم الإذاعة والتلفزيون، ولهم المراكز في كل البلاد، والصحف الحرة، وإلى غير ذلك، بحيث تكون القدرات موزعة بينهم؛ إذ الحزب الواحد لازمه الاستبداد وذلك غير جائز شرعاً، ويسبب تحطيم الكفاءات وأخيراً سيطرة الأجنبي، وقد قال الإمام علي(عليه السلام): «من استبد برأيه هلك»(1)، وفي القرآن الحكيم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(2).

ج. وبعد هذين الأمرين تصل النوبة إلى اختيار الأمة (نوّاب المجلس) حيث إنهم بمنزلة أهل الحل والعقد، وبالتعاون بين الثلاثة (أ، ب، ج) تنبثق السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، كما ذكرنا تفاصيل هذه الأمور وأدلتها الفقهية في (الفقه: السياسة).

وحيث إن الشكل للحكم الإسلامي هو هذا، فاللازم أن يجتمع الشعب العراقي الكريم، سواء كانوا في إيران أو غيرها، في المساجد والحسينيات ونحوهما؛ لانتخاب مجلس أعلى لهم، مثلاً ينتخب كل خمسة آلاف ممثلاً عنهم، وهؤلاء الممثلون وهم (الهيئة العليا) يخططون ويعملون لإسقاط حكومة البعث وللحكومة المرتقبة، كما فعل قريباً من ذلك الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في ثورة

ص: 358


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 161.
2- سورة الشورى، الآية: 38.

العشرين واللّه المستعان.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامةالدنيا والآخرة»(1).

ص: 359


1- إقبال الأعمال 1: 60.

مساوئ الفرقة

اشارة

مساوئ الفرقة(1)

من أساليب الاستعمار

قال اللّه تعالى: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2).

لقد خرج العراق من أيدي المسلمين الذين يشكل الشيعة (85%)(3) منهم ووقع - بسبب الحوادث الأخيرة التي حدثت في الشرق الأوسط - بيد الغربيين وهم الآن يديرونه ويحكمون قبضتهم عليه، ولكن بواسطة أذنابهم البعثيين المتسلطين على الحكم.

ومن المعلوم أن مخطط الغربيين يبتنى دائماً على فرض الحاكم المتجبر حتى إذا لم يرضه الشعب المسلم؛ لأن المستعمرين يريدون من الحاكم في البلاد الإسلامية أن يكون لهم كالبقرة الحلوب؛ لذلك فإنهم إذا ما شعروا يوماً بأن صداماً - كمثال - لم يستطيع تنفيذ ما يخططون له فإنهم امّا أن يقتلوه ويأتون بغيره، أو يقومون بواسطة أذنابهم الآخرين بانقلاب عسكري يقتلون من خلاله الحاكم العميل ويأتون بحكومة تغاير حكومته ولو كانت مائلة إلى الاعتدال

ص: 360


1- ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ: 27/ج2/ 1405ه.
2- سورة آل عمران، الآية: 105.
3- هذه النسبة خرجت بها الإحصائية التي قام بها السيد محمد الصدر الذي كان رئيساً للوزراء في العهد الملكي وقد نشرت في حينها في الصحف العراقية.

نسبياً، كما قاموا بذلك في تركيا.

ومشاكل البلاد الإسلامية حالياً ازدادت بدرجة كبيرة، بحيث أصبحت القوانين والمقررات التي تحدد مسير الدولة داخلياً وخارجياً تأتي من الغرب، وبعض السبب في ذلك يقع على عاتق المسلمين أنفسهم؛ لأنهم لا يهتمون بالتوعية والتثقيف وتنظيم أمورهم لكي يأخذوا بزمام إدارة بلادهم بأيديهم. ومن الواضح إذا لم يهتم الإنسان لحل مشاكله ويبدي جانب العجز في إدارة أموره سيعطي للآخرين الفرصة للتدخل في شؤونه وأخذ زمام الأمر من يده.

السقوط والانحطاط

اشارة

هناك صفتان إذا اتصف بهما أي مجتمع فانه سيؤول إلى السقوط والانحطاط، وهاتان الصفتان قد اجتمعتا عند بعض المسلمين أخيراً.

الأولى: النزاع

لقد استفحلت هذه الظاهرة في بعض المجتمعات الإسلامية بشكل عجيب، بحيث لا تراهم إلّا في نزاع دائم في ما بينهم، مما أدى ذلك إلى اتحاد الشرق والغرب ضد المسلمين، وصاروا يتلاعبون بهم ويحركونهم ذات اليمين وذات الشمال كسحاب الربيع الذي تتقاذفه الرياح وتفرقه هنا وهناك ويعملون في بلادهم ما شاؤوا من دون أي مانع أو رادع.

بذور التفرقة

ذات يوم كنا بصحبة المرحوم الشيخ عبد الزهراء الكعبي(رحمه اللّه) ذاهبين لزيارة مرقد الشهيد الحر الرياحي (رضوان اللّه عليه) مشياً على الأقدام، وذلك في الفترة التي كان زوار العتبات المقدسة يتوافدون بشكل مكثف من إيران وغيرها إلى العراق للزيارة، وفي أثناء ذلك مرت بجوارنا عربة يجرها اثنان من الخيول

ص: 361

تحمل مجموعة من البدو، فصاح أطفال تلك المنطقة بصوت واحد (حاج عرب موش ميخورد) ومضمونها (العرب يأكلون الفئران) ثم مشينا مقدار من الطريق فمرت عربة أخرى فيها مجموعة من الزائرين الإيرانيين، فصاح أطفال تلك المنطقة وأطلقوا كلاماً أيضاً مخالف وغير صحيح لإهانة الزائرين.

أنظر في هذه المسافة القصيرة كم تتحسس بذور التفرقة والنزاع بين المسلمين، إنها سياسة استعمارية لإثارة النعرات فقد بذرت بهذا الشكل في بلادنا وصار بعض أبناءنا وأطفالنا وسيلة لتنفيذها بسبب عدم الوعي والثقافة، ومن الواضح أن هذا الكلام السيئ وإن كان قد صدر من أطفال إلّا أنه من شأنه أن يثير حفيظة الآخرين وبسبب عدم الوعي أيضاً، وهكذا يبعثهم للمقابلة بالمثل وتستمر هذه التصرفات السيئة وتنعكس في جوانب أخرى من الحياة حتى تتحول الأمة الواحدة التي رفع الإسلام الحواجز النفسية والأرضية منها إلى أمم مشتتة متفرقة البعض يتهجم على البعض الآخر ويسخر منه وقد قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَٰبِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَٰنِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(1) ومعلوم أن هذا السلوك يؤدي إلى ضعف الأمة وانهيارها، ويوقعها لقمة سائغة في فم الاستعمار الذي ما فتئ يخطط لتنفيذ هذه الأساليب والخطط.

وقد قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(2).

ص: 362


1- سورة الحجرات، الآية: 11.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.
الثانية: العنف والتهور

الناس بطبيعتهم لا يميلون إلى الأفراد العنيفين وسيئي الأخلاق ولا يجلّونهم بملء اختيارهم، وإذا حدث وأن استطاع بعض أصحاب القدرة والعنف استغفال وخداع مجموعة من الناس لفترة. فإن أوراقهم سرعان ما تنكشف وينقلب الأمر عليهم وينفضّ الناس من حولهم إن لم ينقلبوا عليهم.

ونحن نرى الإسلام الذي بقي لحد الآن، وسيبقى إلى أبد الدهر إنما هو بسبب مجموعة من الخصائص والسمات الفريدة، منها دعوته السليمة حيث استطاع النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) أن يدخلوا الإسلام في قلوب الناس عن طريق الكلام اللين، ومكارم الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام حيث يقول تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(1).

وقد جاء في بعض التفاسير عن لين وحسن خلق الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

معناه إن لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين لأنك تأتيهم مع سماحة أخلاقك وكرم سجيتك بالحجج والبراهين {وَلَوْ كُنتَ} يا محمد {فَظًّا} أي جافياً سيئ الخلق {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي قاسي الفؤاد وغير ذي رحمة ولا رأفة {لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} أي لتفرق أصحابك عنك ونفروا منك...(2).

ويقول اللّه تعالى في آية أخرى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(3).

فيأمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يلين جانبه ويتواضع لهم ويحسن معاملتهم، لأن تواضع

ص: 363


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- تفسير مجمع البيان 2: 428.
3- سورة الشعراء، الآية: 215.

القادة وحسن معاملتهم من شأنها أن تزيد محبة الناس وتشدّهم إليهم أكثر.

من سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «إن يهودياً كان له على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دنانيرفتقاضاه. فقال له: يا يهودي ما عندي ما أعطيك.

فقال: فاني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني.

فقال: إذاً أجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتهدّدونه ويتواعدونه، فنظر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟

فقالوا: يا رسول اللّه يهودي يحبسك؟!

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لم يبعثني ربي عزّ وجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره، فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل اللّه، أما واللّه ما فعلت بك الذي فعلت إلّا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت في التوراة: محمد بن عبد اللّه مولده بمكة ومهاجره بطيبة وليس بفظّ ولا غليظ ولا سخاب ولا متزيّن بالفحش...»(1).

هذا الحديث يعكس لمحة موجزة عن أخلاق وسيرة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في اتباعه سياسة اللاعنف وعدم التهور في مواقفه الظاهرية والباطنية، وهذا اللين وانشراح الصدر هو أحد العوامل التي جذبت الناس إلى الإسلام من أهل الكتاب وغيرهم، وجعلت المسلمين أيضاً يتمسكون بالدين الإسلامي أكثر بإيمان عال ويعملون لنشره بين الناس بإخلاص وتفان، على العكس من الذين يتبعون مبدأ العنف والتهور فعقائدهم تحجمت بل واندثرت وإن كان البعض

ص: 364


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 465.

يستبطن العنف ويظهر العطف واللين في بعض الأحيان فإنه سرعان ما ينكشف وينتهي به المطاف ولا تبقى له نائرة فقد قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبيطالب(عليه السلام): «ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»(1) لذا نحن نرى الإسلام باقياً بقاء الدهر؛ لأن مبادئه تعتمد على أساس اللين وسعة الصدر واللاعنف وقادته الكرام النبي وأهل بيته (عليهم الصلاة والسلام) جسّدوا هذه المبادئ السليمة بصدق وإخلاص الأمر الذي زاد من قوته وانتشاره في الأرجاء وخلوده.

من سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام)

ابن الكوّاء هذا المنافق الخارجي، كان مشاكساً لأمير المؤمنين(عليه السلام) وهو في أوج حكومته الواسعة التي كانت ذلك اليوم أوسع حكومة على وجه الأرض مساحة وعدداً، إضافة إلى أنه(عليه السلام) مفروض الطاعة من اللّه ورسوله، فقد كان ابن الكوّاء يؤذي الإمام بعناده واعتراضاته المتكررة في السوق والمسجد وبأسلوب خال من اللياقة، وفي رواية عن كتاب البحار للمجلسي(رحمه اللّه): كان علي(عليه السلام) في صلاة الصبح فقال ابن الكوّاء من خلفه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(2) فأنصت علي(عليه السلام) تعظيماً للقرآن حتى فرغ من الآية ثم عاد في قراءته، ثم أعاد ابن الكوّاء الآية فأنصت علي(عليه السلام) أيضاً، ثم قرأ فأعاد ابن الكوّاء فأنصت علي(عليه السلام) ثم قال(عليه السلام): {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}(3) ثم أتم السورة وركع(4).

ص: 365


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 26.
2- سورة الزمر، الآية: 65.
3- سورة الروم، الآية: 60.
4- بحار الأنوار 41: 48.

أنظر مع أن الإمام(عليه السلام) كان الرئيس الأعلى للدولة، ويتمكن أن يتخذ موقفاً صارماً ضد ابن الكوّاء - الذي كان مواطناً عادياً - ولنفاقه ومشاكسته المتكررةللإمام(عليه السلام) أصبح منبوذاً في المجتمع، ومع استحقاقه للعقوبة الرادعة إلّا أن الإمام(عليه السلام) لم يبد أي موقف صارم أو شديد تجاهه. وهذا جانب بسيط من معاملة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) والحاكم الأعلى للبلاد الإسلامية آنذاك، فقد تمتع(عليه السلام) بالحكمة والصبر وسعة الصدر ولين الجانب مع أعداءه من المشركين والمنافقين.

واستطاع (صلوات اللّه وسلامه عليه) بذلك أن يديم هذه العقيدة الإسلامية ويرسخها في القلوب والضمائر التي أثبت ركائزها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخاتم الأنبياء(عليهم السلام) بفعل أخلاقه وسيرته الكريمة وتعامله مع الناس باللين واللاعنف.

أسلوب القرآن

قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(1).

نزلت هذه الآيات على الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حول مسجد ضرار الذي بناه المنافقون في مقابل مسجد الرسول ومسجد قباء، ومع ذلك فإن أسلوب القرآن الحكيم لم يتصف بالعنف فقد جاء الأمر هكذا بقوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}(2) وفي سبب نزول هذه الآيات وتفسيرها قال الطبرسي(رحمه اللّه): «قال المفسرون: إن بني عمرو بن عوف

ص: 366


1- سورة التوبة، الآية: 107.
2- سورة التوبة، الآية: 108.

اتخذوا مسجد قباء وبعثوا إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يأتيهم فآتاهم وصلى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا: نبني مسجداً فنصلّي فيه ولا نحضرجماعة محمّد وكانوا اثني عشر رجلاً، وقيل خمسة عشر رجلاً، منهم ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير ونبتل بن الحرث، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء، فلما فرغوا منه أتوا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول اللّه إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحب أن تأتينا فتصلّي فيه لنا، وتدعو بالبركة. فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إني على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء اللّه فصلينا لكم فيه»، فلما انصرف رسول اللّه من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد. وفي معنى الآية قال الطبرسي: ثم ذكر اللّه سبحانه جماعة أخرى من المنافقين بنوا مسجداً للتفريق بين المسلمين وطلب الغوائل للمؤمنين فقال - تعالى - : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا} والمسجد موضع السجود في الأصل وصار بالعرف اسماً لبقعة مخصوصة بنيت للصلاة فالاسم عرفي فيه معنى اللغة {ضِرَارًا} أي مضارة يعني الضرر بأهل مسجد قباء أو مسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليقلّ الجمع فيه {وَكُفْرًا} أي ولإقامة الكفر فيه...، {وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي لاختلاف الكلمة وإبطال الإلفة وتفريق الناس عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} أي أرصدوا ذلك المسجد واتخذوه وأعدّوه لأبي عامر الراهب. وهو الذي حارب اللّه ورسوله من قبل. وكان من قصته أنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، فلما قدم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة حسده وحزب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكة إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصر... ، {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ} معناه أن هؤلاء يحلفون كاذبين ما أردنا ببناء هذا

ص: 367

المسجد إلّا الفعلة الحسنى من التوسعة على أهل الضعف والعلة من المسلمين فأطلع اللّه نبيه على فساد طويتهم وخبث سريرتهم فقال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ} وكفى لمن يشهد اللّه سبحانه بكذبهخزياً(1).

والخلاصة: إن أسلوب القرآن مع المنافقين والمتآمرين لم يكن بدرجة من العنف، وإنما هو أسلوب فضح وخزي للمتآمرين، وأما الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يقم بالانتقام من القائمين على بناء المسجد والمنافقين ولم يرسل إلى جلبهم لمحاكمتهم أو عقابهم، وحتّى أبو عامر الراهب الذي تقدمت قصته وهو رئيس المنافقين والمتآمر مع الروم لم يوجّه له الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حكماً أو من يقتصّ منه وإنما اكتفى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتهديم المسجد وفضح من بناه عن طريق الآيات القرآنية وامتناعه من الصلاة فيه.

والذي أثر في هؤلاء المنافقين أكثر أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عاملهم بلين وعطف دون أي عنف يذكر.

واقعنا المعاصر

في منطق القرآن الكريم جميع المسلمين بلغاتهم وقومياتهم وألوانهم المختلفة أمة واحدة حيث يقول تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(2).

وقال تعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(3).

كما أن البلاد الإسلامية كلها بلد واحد، وقانون واحد، وحكومة واحدة في

ص: 368


1- تفسير مجمع البيان 5: 125.
2- سورة الأنبياء، الآية: 92.
3- سورة المؤمنون، الآية: 52.

نظر الإسلام، وهذه الوحدة كانت متجسدة في حياة المسلمين لقرون عديدة، حتى إذا دخل الاستعمار بلادنا وأثار النعرات والتفريقات بين المسلمين فساقهمإلى التشتت لكي يعيش عليه.

حرمة التفرقة

إن أي تفريق بين المسلمين يعتبر من أشد المحرمات في الإسلام لأنه معاونة على الإثم والعدوان الذي يهدفه الاستعمار هذا أولاً.

وثانياً: إنه تشتيت للأمة الواحدة وتسهيل لسيطرة الكفار على بلاد الإسلام، سواءً كان التفريق بالأراضي ووضع الحدود الجغرافية بين بلاد المسلمين أو بالجنسيات المتعددة أو ما أشبه ذلك.

إننا نجد الآن العراقي خارج حدود العراق في البلاد الإسلامية الأخرى يعتبر أجنبياً، ويعامل معاملة الأجانب، وكذلك المسلمون الآخرون يعتبرون داخل العراق من الأجانب، وهذا الأمر لا يختص بالعراقي بل ينطبق على المصري والإيراني والأفغاني وسائر المسلمين، وهذا عمل لا يرتضيه الإسلام ولا ينطبق مع مبادئه الوحدوية.

فهذه الحدود الأرضية بين المسلمين وضعها الاستعمار من أجل تشتيتهم، والقضاء على رابطة الأخوة والأمة الواحدة التي تجمعهم، لتسهل السيطرة عليهم ويكونوا مغنماً لبلد الكفر.

والأنكى من ذلك أن المستعمر الذي وضع هذه الحدود لم يكتف بترسيمها وتفريق جسد الأمة الواحدة، بل عمد إلى ترك مناطق حدودية محايدة ومساحة يكتنفها الغموض بين أغلب البلاد الإسلامية، حتى تكون هذه المناطق مادة للنزاع والخلاف وبؤرة للتوتر بين البلدان الإسلامية دائماً ليتمكن ساسة الغرب

ص: 369

من إثارتها في أي وقت شاءوا، بل أحياناً نفس الدول الإسلامية متى ما أحسّت بشيء من القوة فإنها سرعان ما تترجم هذه القوة إلى نزاع حدودي وحرب طاحنةبينها وبين جارتها المسلمة، وتتوزع بقية الدول الإسلامية بين مناصر لهذا الطرف وذاك، ويكون الهم الأكبر لحكام أغلب الدول الإسلامية هو بناء القوة العسكرية على حساب حتى رغيف الخبز لا لمواجهة الأعداء الحقيقيين للأمة، وإنما لانتزاع بعض الأشبار من أرض البلد المسلم الجار ودون أي حساب للخسائر الحقيقية التي يتكبّدها الطرفان، والآثار القريبة والبعيدة المترتبة على ذلك من امتصاص كل الطاقات المادية وتحطيم القيم المعنوية للمسلمين، فضلاً عن إيقاع المزيد من الخلاف والتشتت بينهم.

واجب المجتمع

وبسبب هذه المظاهر نحن مدعوون جميعاً لأن نسعى بكل جهودنا وطاقاتنا، بألسنتنا وأقلامنا للقضاء على كل أسباب الخلاف ومظاهر العنف والفحش والتفرقة، والهمز واللمز في المجتمعات الإسلامية، وعلينا أن نهتم بأنفسنا فنهذبها، ونتمسك باللين والرفق ليكون هذا منطلقاً لما نأمل أن نحققه من التغيير في العالم الإسلامي، وهذا الطريق وإن كانت تحفّه المشاكل والصعاب والموانع الطبيعية والمصطنعة، إلّا أنه الطريق الناجح للنجاة وبلوغ النصر والقضاء على أسباب التأخر والانحطاط الذي أصاب المسلمين وإلّا سنبقى نئن من وطأة ذلك (والعياذ باللّه).

«اللّهم صل على محمد وآله، وحلني بحلية الصالحين، وألبسني زينة المتقين في بسط العدل، وكظم الغيظ، واطفاء النائرة وضم أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين، وافشاء العارفة، وستر العائبة، ولين العريكة، وخفض الجناح، وحسن

ص: 370

السيرة... وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة ولزوم الجماعة...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

في ذم التفرقة

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(2).

وقال سبحانه: {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(5).

جزاء المنافقين

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}(6).

وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْمُنَٰفِقَٰتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}(7).

ص: 371


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.
3- سورة الشورى، الآية: 13.
4- سورة الأنعام، الآية: 159.
5- سورة آل عمران، الآية: 105.
6- سورة النساء، الآية: 140.
7- سورة التوبة، الآية: 68.

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}(1).

اللين من محاسن الأخلاق

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(2).

وقال سبحانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

من كلمات لأمير المؤمنين(عليه السلام) في اللين والرفق

1- «ألن كنفك فإن من يلن كنفه يستدم من قومه المحبة»(5).

2- «من لانت كلمته وجبت محبته»(6).

3- «أكبر البر الرّفق»(7).

4- «من تلن حاشيته يستدم من قومه المحبّة»(8).

5- «من لم يلن لمن دونه لم ينل حاجته»(9).

ص: 372


1- سورة النساء، الآية: 145.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة طه، الآية: 44.
4- سورة المائدة، الآية: 54.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 139.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 587.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 186.
8- عيون الحكم والمواعظ: 441.
9- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 250.

6- «الرفق لقاح الصلاح وعنوان النجاح»(1).

ومن كلماته(عليه السلام) في ذم التفرقة والعدوان

1- «من زرع العدوان حصد الخسران»(2).

2- «المؤمن منزه من الزيغ والشقاق»(3).

3- «المخاصمة تبدي سفه الرجل ولا تزيد في حقه»(4).

4- «شر الناس من يبتغي الغوائل للناس»(5).

5- «من بالغ في الخصام أثم ومن قصر عنه خصم»(6).

6- «رأس الجهل معاداة الناس»(7).

اللين من صفات المؤمن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا أنبئكم لم سمي المؤمن مؤمناً، لإيمانه الناس على أنفسهم وأموالهم، ألّا أنبئكم من المسلم، من سلم الناس من يده ولسانه، ألّا أنبئكم بالمهاجر، من هجر السيئات، وما حرّم اللّه عليه، ومن دفع مؤمناً دفعة ليذلّه بها، أو لطمه لطمة، أو أتى إليه أمراً يكرهه لعنته الملائكة حتى يرضيه من حقه، ويتوب ويستغفر، فإياكم والعجلة إلى أحد فلعلّه مؤمن وأنتم لا تعلمون، وعليكم بالأناة واللين، والتسرع من سلاح الشياطين وما من شيء أحب إلى اللّه

ص: 373


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 127.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 592
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 67.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 83.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 412.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 669.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 377.

من الأناة واللين»(1).

من مناهي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا ومن لطم خد مسلم أو وجهه بدد اللّه عظامه يوم القيامة، وحشر مغلولاً حتى يدخل جهنم إلّا أن يتوب»(2).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من آذى مؤمناً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه، ومن آذى اللّه فهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وفي خبر آخر: فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين»(3).

ص: 374


1- علل الشرائع 2: 523.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 430.
3- جامع الأخبار: 147.

مستقبل العراق بين الدعاء والعمل

الأمل القاطع

قال اللّه تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(1).

إذا توجه الإنسان إلى اللّه تعالى بأمل قاطع لا يشوبه الشك أو التردد فإن اللّه سوف لن يرده عن رحمته الواسعة بل يستجيب له ويعطيه سؤله، كما قال تعالى في القرآن الكريم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(2).

قال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) لمعاوية بن وهب:

«يا معاوية، من أعطي ثلاثة لم يحرم ثلاثة، من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية، فإن اللّه عزّ وجلّ يقول في كتابه: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(3) ويقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}(4) ويقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}»(5)(6).

ص: 375


1- سورة غافر، الآية: 60.
2- سورة غافر، الآية: 60.
3- سورة الطلاق، الآية: 3.
4- سورة إبراهيم، الآية: 7.
5- سورة غافر، الآية: 60.
6- الخصال 1: 101.

الشيخ البهائي والدعاء المستجاب

اشارة

نقل الشيخ البهائي(رحمه اللّه) دعاءً وذكر أنه ما من شخص دعا به أربعين مرة إلّا واستجيب له، فأخذ شخص هذا الدعاء وقرأه أربعين مرة فلم يستجب له، فأخذ يتكلم بكلام سيء على الشيخ البهائي، وذات ليلة رأى ذلك الرجل الشيخ البهائي(رحمه اللّه) في المنام فقال له الشيخ: إن الذنب ذنبك حيث لم تقرأ الدعاء بالشكل الصحيح وبالشروط اللازمة لذلك لم يستجب لك.

نعم، هناك بعض الخصوصيات يجب أن تراعى في الدعاء حتى تتنزل الرحمة الإلهية بحيث إذا دعى الإنسان ووفر الشروط الكاملة فسوف يستجاب دعاؤه.

فقد ورد عن عثمان بن عيسى عمن حدثه عن أَبي عبد اللَّه(عليه السلام) قال: قلت: آيتان في كتاب اللّه عزّ وجلّ أطلبهما فلا أجدهما، قال(عليه السلام): «وما هما؟» قلت: قول اللّه عزّ وجلّ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(1) فندعوه ولا نرى إجابة، قال(عليه السلام): «أفترى اللّه عزّ وجلّ أخلف وعده؟» قلت: لا، قال: «فمم ذلك؟» قلت: لا أدري، قال: «لكني أخبرك، من أطاع اللّه عزّ وجلّ في ما أمره ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه» قلت: وما جهة الدعاء؟ قال(عليه السلام): «تبدأ فتحمد اللّه وتذكر نعمه عندك ثم تشكره ثم تصلي على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم تذكر ذنوبك فتقر بها ثم تستعيذ منها، فهذا جهة الدعاء»، ثم قال: «وما الآية الأخرى؟» قلت: قول اللّه عزّ وجلّ: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٖ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ}(2) وإني أنفق ولا أرى خلفا، قال: «أفترى اللّه عزّ وجلّ أخلف وعده؟» قلت: لا، قال: «فمم ذلك؟» قلت: لا أدري، قال: «لو أن أحدكماكتسب المال من حله وأنفقه في حله لم ينفق درهما

ص: 376


1- سورة غافر، الآية: 60.
2- سورة سبأ، الآية: 39.

إلّا أخلف عليه»(1).

حول العراق

لذا فإن همّنا بتغيير الوضع المأساوي لشعبنا المسلم في العراق يجب أن يقترن بسعينا نحو تغيير أنفسنا ومجتمعنا أولاً وهذا يتم بالعمل الجاد والمتواصل، وأن نحقق شروط الدعاء المتعلقة بنا، ونتوكل على اللّه تعالى، عند ذلك يستجيب سبحانه دعاءنا ويمدنا بنصره، أما أن ندعو بلا عمل ولا همة، ونتوقع أن يستجاب دعاؤنا ويتغيّر نظام الحكم المتسلط على الرقاب، ويأتي الأكثرية وهم الشيعة إلى الحكم لتقود البلاد فليس صحيحاً؛ فإن اللّه سبحانه يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2).

وبعون اللّه تعالى ومن خلال العمل الجاد والجهود المخلصة المتواصلة للمؤمنين وببركات دعائهم سيتم القضاء على نظام صدام وحزب البعث الحاكم، سواء بقيام ثورة جماهيرية موحدة قوية ضده أم بغير ذلك، لأن هذا مصير كل الطغاة وقتلة الشعوب على مرّ العصور.

ووظيفتنا نحن بعد التوسل باللّه تعالى والتوكل عليه السعي لإيجاد حكومة شيعية في العراق تلبي مطاليب الغالبية العظمى من الشعب مع الحفاظ على حقوق باقي الأقليات، حيث يجب أن تكون حكومة العراق القادمة شيعية إن شاء اللّه تعالى.

سؤال؟

ما هو الداعي إلى تأييد الشعب المسلم لأية حكومة تأتي أو أي شخص

ص: 377


1- الكافي 2: 486.
2- سورة الرعد، الآية: 11.

يجلس على كرسي الحكم في العراق؟!

ولماذا يصفق الشعب المسلم لكل رئيس يحكم العراق؟!

وهل نسي بعض أبناء الشعب الذي صفقوا بأيديهم لهذا الحاكم أو ذاك بأنهم ذاقوا الأمرَّين من نفس الحاكم؟ وهم مع ذلك لم يعتبروا بل يكررون ذلك باستمرار وتتنزل عليهم الويلات باستمرار من كل حكومة أو حاكم صفقوا لها أو له.

نعم، لقد صدق الحديث القائل: «ما أكثر العبر وأقل الاعتبار»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال اللّه تبارك وتعالى لأعذبن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام جائر ليس من اللّه وإن كانت الرعية في أعمالها برة تقية، ولأعفون عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام عادل من اللّه وإن كانت الرعية في أنفسها ظالمة مسيئة»(2).

ومن المعلوم أن الحكومة لا تكون شرعية إلّا إذا مثلت الشيعة أصدق تمثيل، وذلك لأن الأغلبية في العراق هم الشيعة ونسبتهم حسب الإحصاءات المنصفة تشكل حوالي 85% من كل الشعب العراقي، طبعاً مع تقسيم القدرات في الحكومة وإجراء الانتخابات الصحيحة النزيهة الخالية من التزوير وشراء الذمم. عندها ستمثل الحكومة الشعب وتستمد قوتها منه ويتخلص الشعب من ارتباطاته بالغرب والشرق كما يتخلص من ربقة الحكام المستبدين.

من منافع تعدد القوى

طبع العلامة الأميني(رحمه اللّه) كتابه الغدير في العراق ونشره على صعيد واسع، مما أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة، وقام بعض أبناء العامة يهرجون ضده، ثم أخذ

ص: 378


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 297.
2- الكافي 1: 376.

بعضهم هذا الكتاب وذهبوا به إلى نوري السعيد لتقديم دعوى ضد الكتاب ومؤلفه، فقال نوري السعيد لهم وهو يقلب صفحات الكتاب: المصادر التي اعتمد عليها ونقل منها هل هي شيعية أم سنية؟ قالوا له: لو كانت المصادر شيعية لكان الأمر هيناً لكن المصادر كلها سنية وهي ضدنا.

فقال نوري السعيد: إذن اذهبوا وأصلحوا مصادركم ومبانيكم.

هنا قد يخطر في الذهن سؤال، إنه لماذا أجابهم نوري السعيد هكذا؟

الجواب: لأن القوة لم تكن متمركزة بيد نوري السعيد وحده بل كانت شبه متعددة وموزعة. لذلك لم يكن باستطاعته أن يفعل شيئاً ضد هذا الكتاب أو مؤلفه.

عندما تكون القوة محصورة ومتمركزة لدى شخص معين أو فئة معينة فنتيجة ذلك سيكون الاستبداد بالرأي والاستئثار بالسلطة ويستمر كم الأفواه، وخنق الأصوات الأخرى المعارضة لتوفر الإمكانية في ذلك.

أما تعدد مراكز القوة ومصادرها فهو صمام الأمان لمواجهة انحراف الحاكم أو الفئة المتسلطة.

قوة الشعب

في إحدى السنين عندما كان العراق يرزخ تحت نير إحدى الفئات قمنا بطبع خمسة وسبعين ألف نسخة من كتاب (هكذا الشيعة)(1) لغرض توزيعها في الحجاز في موسم الحج. وهكذا فعلنا حيث وزعناها جميعاً في ما بين الحجيج.

وذات يوم جاءني الشيخ عبد الزهراء الكعبي(رحمه اللّه) وقال لي: إن وزير العدل

ص: 379


1- من مؤلفات الإمام الشيرازي(رحمه اللّه)، وهو كراس يتضمن تعريف موجز حول الشيعة والتشيع، ألفه سماحته عام (1383ه).

كاظم الرواف يريد أن يرفع شكوى ضدكم بإدعائه أنكم تثيرون النزاعات الطائفية بين المسلمين، وتعمقون البغضاء والشحناء بينهم بنشركم الكتب الشيعية، بعد ذلك بأيام جاءنا وكيل الحاكم وأخذ يعترض ويتباحث معنا، فقلنا له: إنه لا يحق لكم الاعتراض والتضييق علينا في أمور مذهبنا، قال: نحن حكومة قوية وبإمكاننا أن نتخذ الإجراءات ضدكم، فكان جوابنا: إذا فعلتم شيئاً من تهديداتكم فإن الشيعة ستضج ضدكم وتثور عليكم! وأنتم تعلمون بالتفاف الشيعة حول العلماء ومراجع التقليد، فخاف من ذلك واضطرب وانصرف عن هذا الأمر نهائياً.

بعد ذلك رفع حاكم النجف الأشرف شكوى ضدنا وقلنا له ما قلناه للأول فخاف هذا الآخر من إثارة الرأي العام ضدهم وأفحم أيضاً.

وزير العدل أيضاً

وفي المرة الثالثة نزل إلى الميدان نفس وزير العدل وأراد أن يشتكي ضدنا، فأرسل له بعض الأصدقاء رسالة قال له فيها: بأنك إذا أردت أن تقيم هذه الشكوى فإني سأفضحك أمام الرأي العام وأثبت لهم بأنك لست بوزير شرعي والآن إذا لم تخف من ذلك فامض في شكايتك هذه! فخاف هذا الثالث من ذلك وتراجع.

الهدف المهم

من الممكن أن يدَّعى بأنه إذا جاء حاكم آخر بعد صدام ورجعت الحوزات العلمية في النجف وكربلاء والكاظمين وسامراء إلى نشاطها ومكانتها واستعادت المجالس الحسينية والمساجد والحسينيات والتجمعات الدينية رونقها فلا حاجة بعد ذلك إلى جعل الحكومة حكومة شيعية!

نقول: إن عودة الأنشطة الدينية والبرامج الحسينية ضروري وهو مهم إلّا أن المهم أيضاً هو استعادة الإنسان الشيعي في العراق حق تقرير مصيره ومصير

ص: 380

بلاده وإخراجها من أيدي المستعمرين، ومباشرة ذلك بنفسه لا بتدخل الآخرين من الشرق والغرب؛ لذلك يجب جعل هذا الأمر من الأهداف المهمة والعمل من أجل إيجاد الحكومة الشيعية في العراق المهضوم.

موقف السيد الحكيم الصارم

وقف السيد الحكيم(رحمه اللّه) ضد عبد السلام عارف بقوة لأنه كان سنياً متعصباً يسعى لتحطيم الأكثرية في العراق، خصوصاً وإنه أخذ يجمع بعض الشيعة حوله ليستفيد منهم، ومن هنا طلب زيارة السيد الحكيم(رحمه اللّه) إلّا أن السيد الحكيم رفضه ولم يقبل زيارته، فأرسل عبد السلام شخصاً إلى السيد الحكيم ليتوسط عنده ويهيئ له مقدمات زيارته، إلّا أن السيد الحكيم رفض ذلك أيضاً، بعد ذلك طلب عبد السلام من السيد سعيد زيني(1) الذي كان له بعض الارتباط بالسيد الحكيم ليصلح الأمر في ما بينه وبين السيد الحكيم، ويعين وقتاً لزيارة وفد من الدولة للسيد الحكيم(رحمه اللّه)، فاتصل السيد زيني بالسيد الحكيم(رحمه اللّه) تلفونياً فلم يوافق السيد الحكيم(رحمه اللّه) على الزيارة إلّا مشروطة بعدم وجود شخص عبد السلام عارف مع الوفد، فجاء الوفد ودخلوا عند السيد الحكيم(رحمه اللّه) واظهروا احترامهم البالغ له وقالوا: نحن مستعدون لأن نفعل أي شيء تأمرون به ولكن اسمحوا لعبد السلام عارف أن يزوركم، ولكنهم قوبلوا برفض السيد الحكيم(رحمه اللّه) القاطع. وكان أحد أفراد هذا الوفد مدير جهاز الأمن فقال للسيد الحكيم: إن رئيس الجمهورية رجل ثوري ومن الممكن أن يقوم ضدكم بأعمال لا تحمد عقباها - وكان يقصد من ذلك إخافة السيد الحكيم وتهديده علّه يقبل زيارة عبد

ص: 381


1- السيد سعيد أحمد بن السيد جعفر السيد حسين زيني، ينتمي إلى أسرة معروفة بالفضل، كان سياسياً واعياً وله علاقات مع بعض السياسيين وكان في نفس الوقت وكيلاً للسيد الحكيم(رحمه اللّه) في مدينة كربلاء المقدسة.

السلام له - فقاطع السيدالحكيم كلامه وقال: أنت لا تحدث طفلاً حتى تخيفه بكلماتك الجوفاء هذه، إنني لا ولن أسمح باللقاء ب(عبد السلام عارف) أبداً، ومهما كانت عاقبة ذلك سيئة فإني صامد، وكان هذا الأمر هو السبب الذي أثار غضب شيعة العراق ضد عبد السلام آنذاك وأحدثوا اضطراباً واسعاً في كل البلاد، وقد أدرك الاستعمار بأن منافعه قد أصبحت معرضة للخطر الحتمي في العراق مما جعلهم يرسمون لعبد السلام خطة فجّروا خلالها طائرته وهو فيها، ثم جاءوا بغيره إلى سدة الحكم.

الإلحاد وأسياده

هذا هو ديدن الاستعمار والقوى الكبرى أسياد الحكام الطواغيت فمتى ما وجدوا أن الحاكم لا يمكن أن يستمر أكثر، ويقدم خدمات أخرى لهم سعوا إلى تنحيته والإتيان بحاكم جديد؛ لأنهم لا يمكنهم أن يستمروا في دعمهم لحاكم فقدَ مقومات البقاء والاستمرار وأعلن الشعب مناهضته له.

من كل الذي تقدم نستخلص أن من واجب المجتمع المسلم في العراق التوجه بالعمل المستمر والمنظم وبالدعاء والتوسل إلى اللّه تعالى بالنصرة للقضاء على الحكم الفاسد، وأن لا يغفلوا دور تعددية القوى لأنها تشكل ورقة ضاغطة على الحاكم. كما أن إعلان المناهضة والمقاومة تقوم بنفس الدور في مواجهة الحاكم وأسياده الذين نصبوه وأوصلوه إلى سدة الحكم.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

ص: 382


1- إقبال الأعمال 1: 51.

من هدي القرآن الكريم

الدعاء المستجاب

قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(1).

وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ : {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَٰنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ}(3).

وقال جلّ وعلا: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}(4).

وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(5).

الدعاء في كل الأحوال

قال سبحانه: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ}(7).

وقال جلّ وعلا: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}(8).

وقال تعالى: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا}(9).

ص: 383


1- سورة الفرقان، الآية: 77.
2- سورة غافر، الآية: 60.
3- سورة الزمر، الآية: 8.
4- سورة النمل، الآية: 62.
5- سورة البقرة، الآية: 186.
6- سورة إبراهيم، الآية: 40.
7- سورة الدخان، الآية: 22.
8- سورة القمر، الآية: 10.
9- سورة الكهف، الآية: 14.

وقال سبحانه: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}(1).وقال عزّ وجلّ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).

الدعوة إلى العمل الرسالي

قال جلّ وعلا: {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(3).

وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(4).

وقال سبحانه: {هَٰذَا كِتَٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}(6).

وقال جلّ وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(7).

العبرة بالأمم السالفة

قال جلّ وعلا: {وَقَوْمَ نُوحٖ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَٰهُمْ وَجَعَلْنَٰهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَاْ وَأَصْحَٰبَ الرَّسِّ وَقُرُونَا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَٰلَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا}(8).

ص: 384


1- سورة الطور، الآية: 28.
2- سورة الفاتحة، الآية: 5.
3- سورة الأعراف، الآية: 129.
4- سورة هود، الآية: 123.
5- سورة الجاثية، الآية: 29.
6- سورة الأحزاب، الآية: 2.
7- سورة المجادلة، الآية: 11.
8- سورة الفرقان، الآية: 37-39.
صفات الفائزين

قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَٰمًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْعَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

الدعاء هو أفضل العبادة

قال زرارة للإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(2) قال: هو الدعاء وأفضل العبادة الدعاء»، قلت: {إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٌ}(3)؟ قال: «الأوّاه هو الدعَّاء»(4).

عن حنان بن سدير عن أبيه قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام) أي العبادة أفضل؟ فقال: «ما من شيء أفضل عند اللّه عزّ وجلّ من أن يُسئل ويطلب مما عنده، وما أحد أبغض إلى اللّه عزّ وجلّ ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده»(5).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «الدعاء هو العبادة التي قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية(6) ادع اللّه عزّ وجلّ ولا تقل: إن الأمر قد فرغ

ص: 385


1- سورة الفرقان، الآية: 63-68.
2- سورة غافر، الآية: 60.
3- سورة التوبة، الآية: 114.
4- الكافي 2: 466.
5- الكافي 2: 466.
6- سورة غافر، الآية: 60.

منه»(1).

وقال(عليه السلام): «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): أحب الأعمال إلى اللّه عزّ وجلّ في الأرضالدعاء وأفضل العبادة العفاف»، قال: وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) رجلاً دعّاءً»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الدعاء مخ العبادة ولا يهلك مع الدعاء أحد»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «افزعوا إلى اللّه في حوائجكم والجئوا إليه في ملماتكم وتضرعوا إليه، وادعوه فإن الدعاء مخ العبادة، وما من مؤمن يدعو اللّه بدعاء إلّا استجاب له فإما أن يكون يعجّل له في الدنيا أو يؤجّل له في الآخرة، وإما أن يكفر به عن ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم»(4).

الدعاء سلاح المؤمن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي، وفي المناجاة سبب النجاة وبالإخلاص يكون الخلاص فإذا اشتد الفزع فإلى اللّه المفزع»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «نعم السلاح الدعاء»(7).

ص: 386


1- الكافي 2: 467.
2- الكافي 2: 467.
3- الدعوات للراوندي: 18.
4- أعلام الدين: 278.
5- الكافي 2: 468.
6- الكافي 2: 468.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 718.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الدعاء أنفذ من السنان الحديد»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم؟ قالوا: بلى، قال: تدعون ربكم بالليل والنهار فإن سلاحالمؤمن الدعاء»(2).

عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه كان يقول لأصحابه: «عليكم بسلاح الأنبياء»، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: «الدعاء»(3).

الدعاء المستجاب

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في موجبات الدعاء:

1- «من قرع باب اللّه فتح له»(4).

2- «عليك بإخلاص الدعاء فإنه أخلق بالإجابة»(5).

3- «إذا كانت لك إلى اللّه سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ثم سأل حاجتك، فإن اللّه أكرم من أن يسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى»(6).

4- «ان دعوة المظلوم مجابة عند اللّه سبحانه؛ لأنه يطلب حقه، واللّه تعالى أعدل من أن يمنع ذا حقٍ حقه»(7).

ص: 387


1- الكافي 2: 469.
2- الكافي 2: 468.
3- الكافي 2: 468.
4- عيون الحكم والمواعظ: 447.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 442.
6- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 361.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 228.

5- «أنفذ السهام دعوة المظلوم»(1).

الدعوة إلى العمل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا ذر، مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغيروتر»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... رحم اللّه قوماً كانوا سراجاً ومناراً كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود طاقتهم...»(3).

وقال(عليه السلام): «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير فإن ذلك داعية»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «دعا اللّه الناس في الدنيا بآبائهم ليتعارفوا وفي الآخرة بأعمالهم ليجازوا فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ}(5)، {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ}»(6)(7).

العمل مع العلم

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لا قول إلّا بعمل ولا قول وعمل إلّا بنية ولا قول وعمل ونية إلّا بإصابة السنة»(8).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من عمل على غير

ص: 388


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 192.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 534.
3- تحف العقول: 301.
4- الكافي 2: 78.
5- سورة البقرة، الآية: 104.
6- سورة التحريم، الآية: 7.
7- كشف الغمة 2: 207.
8- الأمالي للشيخ الطوسي: 337.

علم كان ما يفسده أكثر مما يصلح»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العلماء رجلان رجلٌ عالم آخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإنأشدّ أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى اللّه فاستجاب له وقبل منه فأطاع اللّه فأدخله اللّه الجنة وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق وطول الأمل ينسي الآخرة»(2).

الحاكم الظالم

عن عبد اللّه بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إني أخالط الناس فيكثر عجبي من أقوام لا يتولّونكم ويتولون فلاناً وفلاناً لهم أمانة وصدقٌ ووفاء، وأقوام يتولونكم ليس لهم تلك الأمانة ولا الوفاء والصدق؟! قال: فاستوى أبو عبد اللّه(عليه السلام) جالساً فأقبل عليّ كالغضبان ثم قال: «لا دين لمن دان اللّه بولاية إمام جائر ليس من اللّه، ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من اللّه». قلت: لا دين لأولئك ولا عتب على هؤلاء؟ قال(عليه السلام): «نعم، لا دين لأولئك ولا عتب على هؤلاء»، ثم قال: «ألّا تسمع لقول اللّه عزّ وجلّ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(3) يعني من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كل إمام عادل من اللّه. وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَٰتِ}(4).

ص: 389


1- المحاسن 1: 198.
2- الكافي 1: 44.
3- سورة البقرة، الآية: 257.
4- سورة البقرة، الآية: 257.

إنما عنى بهذا أنهم كانوا على نور الإسلام فلما أن تولوا كل إمام جائر ليس من اللّه عزّ وجلّ خرجوا بولايتهم إيّاه من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب اللّه لهم النار مع الكفار، ف- : {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}»(1)(2).

من القائد

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «... قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقول أمير المؤمنين(عليه السلام) وقول زين العابدين(عليه السلام)، أما قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فما حدثنيه أبي، عن جدي، عن أبيه، عن جده، عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أن اللّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء. فإذا لم ينزل عالم إلى عالم يصرف عنه طلاب حطام الدنيا وحرامها، ويمنعون الحق أهله، ويجعلونه لغير أهله، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.

وأما قول أمير المؤمنين(عليه السلام) فهو قوله: يا معشر شيعتنا والمنتحلين مودتنا إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، تفلّتت منهم الأحاديث أن يحفظوها وأعيتهم السنة أن يعوها، فاتخذوا عباد اللّه خولاً، وماله دولاً، فذلت لهم الرقاب وأطاعهم الخلق أشباه الكلاب، ونازعوا الحق أهله، وتمثلوا بالأئمة الصادقين وهم من الجهال والكفار والملاعين، فسئلوا عمّا لا يعلمون، فأَنِفوا أن يعترفوا بأنهم لا يعلمون، فعارضوا الدين بآرائهم فضلوا وأضلوا. أما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين أولى بالمسح من ظاهرهما.

وأما قول علي بن الحسين(عليهما السلام) فإنه قال: إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه

ص: 390


1- سورة البقرة، الآية: 257.
2- الكافي 1: 375.

تناول الدنيا، وركوب المحارم منها، لضعف بنيته ومهانته وجبن قلبه فنصب الدين فخاً لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره، فإن تمكن من حرام اقتحمه. فإذا وجدتموه يعف من المال الحرام فرويداً لا يغرنكم، فإن شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة، فيأتي منها محرماً. فإذا وجدتموه يعف عن ذلك، فرويداً لا يغرنكم حتى تنظرواما عقدة عقله فما أكثر من يترك ذلك أجمع، ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله. فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرنكم حتى تنظروا مع هواه يكون على عقله أو يكون مع عقله على هواه وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة، حتى إذا قيل له {اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(1) فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمد يده بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم اللّه، ويحرم ما أحل اللّه لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد شقي من أجلها. فأولئك مع الذين غضب اللّه عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً مهيناً. ولكن الرجل كل الرجل، نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر اللّه، وقواه مبذولة في رضاء اللّه تعالى، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عزّ الأبد من العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعم في دار لا تبيد ولا تنفد، وإن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال. فذلكم الرجل نعم الرجل، فبه فتمسكوا،

ص: 391


1- سورة البقرة، الآية: 206.

وبسنته فاقتدوا، وإلى ربكم فبه فتوسلوا، فإنه لا ترد له دعوة، ولا تخيب له طلبة(1).

أهمية العمل

من كلمات للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في أهمية العمل:1- «العمل شعار المؤمن»(2).

2- «العاقل يعتمد على عمله، الجاهل يعتمد على أمله»(3).

3- «الإيمان والعمل أخوان توأمان ورفيقان لا يفترقان لا يقبل اللّه أحدهما إلّا بصاحبه»(4).

4- «اعملوا والعمل ينفع والدعاء يسمع والتوبة ترفع»(5).

5- «إن ماضي يومك منتقل وباقيه متهم فاغتنم وقتك بالعمل»(6).

6- «إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما ويأخذان منك فخذ منهما»(7).

7- «من يعمل يزدد قوة»(8).

ص: 392


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 52.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 32.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 66.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 119.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 155.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 224.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 254.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 590.

مع الحرس والشرطة

اشارة

مع الحرس والشرطة(1)

الاستخلاف في الأرض

قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَٰرِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ}(2).

في الآيتين المباركتين يشير الباري عزّ وجلّ إلى سنة كونية جعلها تبارك وتعالى: وهي (أنه يرفع المستضعفين دائماً، ويضع المستكبرين كذلك) وهذه سنة الحياة، فإن «للحق دولة» و«للباطل جولة»(3)، كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام).

ومن الواضح أن هذه هي سنة الحياة ولا تتخلف في مصداق دون مصداق، فإذا انقلب المستضعف مستكبراً كان مصيره الذل والهوان.

من هنا يلزم على المستضعف بعد أن منَّ اللّه عليه ورفعه أن لا يتحول شيئاً فشيئاً الى مستكبر - لا سمح اللّه - ولا ينحرف عن سبيل اللّه، ولا يأخذ بالسير في سبيل الطاغوت والراحة والرفاه - على حساب الآخرين - دون خدمة الناس، فعندئذ تتجلى هذه الرواية: «ويهلك ملوكاً ويستخلف آخرين»(4).

ص: 393


1- ألقيت هذه المحاضره بتاريخ 21/ج2/1399ه- ق.
2- سورة القصص، الآية: 5-6.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 544.
4- تهذيب الأحكام 3: 110.

ونأمل أن لا يحدث ذلك بكم وقد منّ اللّه عليكم بالخلاص من الطاغوت(1).

ضمان عدم الطغيان

اشارة

ومما يضمن عدم الانقلاب إلى الاستكبار والطغيان، الأمور الأربعة التالية(2):

وهي: ذكر اللّه، وذكر الموت، والمزيد من الثقافة والوعي، وخدمة الناس.

من هنا يلزم على كل من تَسلّم زمام الأمور من القيادة العليا فما دونها، وكذلك الشرطة والحرس أن لا تغيب عنهم هذه الأمور:

1- ذكر اللّه دائماً

الأول: اللّه تعالى، فعلى الكل - وخاصة من يعمل في الدولة، ومنهم الشرطة والحرس - أن يتذكروا اللّه دائماً، قال تعالى: {هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}(3)، ففي أي مكان كان الإنسان، في الدائرة، في السيارة، في وسط الناس، في الحسينية، في الدكان، في المنزل، في مقرات الحرس والشرطة، عند التصدي وأداء الواجب، فإن اللّه معه، وينظر إليه، ويحاسبه في يوم القيامة أشد الحساب.

نظرك، سمعك، يدك، رجلك، وحتى النفس التي تتنفسها، فإنك محاسب عليها، بل حتى ما يخطر ببال الشخص وفكره، سواء كان فكراً حسناً أم سيئاً، فإنه محاسب عليه، نعم قد لا يُعاقب على الفكرة ولكنه يُحاسب عليها.

ص: 394


1- إشارة إلى زوال الطاغوت البهلوي في إيران.
2- هذا بالإضافة إلى العوامل السياسية من التعددية وحرية المعارضة و المؤسسات الدستورية واستقلالية القضاء وما أشبه مما أشار إليها بالتفصيل الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في العديد من مؤلفاته القيمة، مثل: (فقه السياسة) و(فقه القانون) و(السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين) و(الصياغة الجديدة) و(طريق النجاة) و... .
3- سورة الحديد، الآية: 4.
شدة الحساب في يوم القيامة

توفي أحد علماء كربلاء المقدسة، فرأوه في المنام بعد سنتين من وفاته، فقالوا له: كيف أنت؟

قال: نجوت بحمد اللّه تعالى، ولكن اللّه قد حاسبني حساباً عسيراً، حتى أنه في أحد الأيام كانوا يعبرون بحمل حطب في الشارع، فسقط بعض العود من الحمل، فأخذت ذلك العود لأتخلل به، فحوسبت عليه: لماذا أخذت ذلك العود من حمل الناس؟

إلى هذه الدرجة يكون الحساب دقيقاً وعسيراً في يوم القيامة.

فكل كلمة ينطق بها الشخص فإنه محاسب عليها، وكل كلام يصغي إليه فإنه محاسب عليه، بل كل حركة يقوم بها يحاسب عليها.

فاللّه، اللّه... بذكر اللّه.

لا تنسوا ذكر اللّه أبداً، وفي كل الأحوال.

لقّنوا أنفسكم عند صباح كل يوم: اللّه، اللّه، اللّه.

وكذلك عند المساء: اللّه، اللّه، اللّه.

واعلموا بأن الإنسان الذي مع اللّه، فإن اللّه معه.

لقد شاهدتم بأنفسكم كيف أسقط اللّه الطغاة في إيران؛ لأنهم لم يكونوا مع اللّه، فلم يكن اللّه معهم.

وكيف أن اللّه قد ملَّك القدرات الضعيفة؛ والمستضعفين من الناس، لأن اللّه كان معها.

فالذي يكون مع اللّه ينتصر ويرتفع، والذي لم يكن مع اللّه يزول ويخسر.

فالأمر الأول: هو ذكر اللّه دائماً، في كل حال وفي كل مكان، في الشارع وفي السوق، في الدكان وفي المدرسة، في مقر العمل، في أثناء الدوام، في الكلام

ص: 395

والخطابة، في المحراب والمنزل، وفي كل مكان ومكان، لا يغيب ذكر اللّه عنكم.

آيات وروايات في ذكر اللّه

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَا أَوْلَٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}(2).

وقال جلّ جلاله: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(3).

وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}(4).

وعن السكوني، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى(عليه السلام): يا موسى لا تفرح بكثرة المال، ولا تدع ذكري على كل حال؛ فإن كثرة المال تنسي الذنوب، وإن ترك ذكري يقسي القلوب»(5).

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «يا علي، سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومواساة الأخ في اللّه عزّ وجلّ، وذكر اللّه تبارك وتعالى على كل حال»(6).

وفيما أوصى به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) علياً(عليه السلام) قال: «يا علي، ثلاث لا تطيقها هذه

ص: 396


1- سورة المنافقون، الآية: 9.
2- سورة الأحزاب، الآية: 41.
3- سورة الرعد، الآية: 28.
4- سورة البقرة، الآية: 152.
5- الكافي 2: 497.
6- الخصال 1: 125.

الأمة:المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر اللّه على كل حال، وليس هو: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلّا اللّه واللّه أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف اللّه عزّ وجلّ عنده وتركه»(1).

وعن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إن في التوراة مكتوباً: يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب، أذكرك عند غضبي، فلا أمحقك في من أمحق، وإذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك؛ فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك»(2).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(عليهما السلام)، قال: «لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر اللّه عزّ وجلّ، قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً، إن اللّه تعالى يقول: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}»(3)(4).

امرأة من بني إسرائيل

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «خرجت امرأة بغي على شباب من بني إسرائيل فأفتنتهم، فقال بعضهم: لو كان العابد فلاناً لو رآها أفتنته، وسمعت مقالتهم. فقالت: واللّه لا أنصرف إلى منزلي حتى أفتنه، فمضت نحوه في الليل فدقت عليه، فقالت: آوي عندك. فأبى عليها، فقالت: إن بعض شباب بني إسرائيل راودوني عن نفسي؛ فإن أدخلتني وإلّا لحقوني وفضحوني.

ص: 397


1- من لا يحضره الفقيه 4: 358.
2- الكافي 2: 304.
3- سورة آل عمران، الآية: 191.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 310.

فلما سمع مقالتها فتح لها، فلما دخلت عليه رمت بثيابها، فلما رأى جمالهاوهيئتها وقعت في نفسه، فضرب يده عليها ثم رجعت إليه نفسه، وقد كان يوقد تحت قدر له، فأقبل حتى وضع يده على النار.

فقالت: أي شي ء تصنع؟

فقال: أحرقها؛ لأنها عملت العمل.

فخرجت حتى أتت جماعة من بني إسرائيل، فقالت: الحقوا فلاناً فقد وضع يده على النار.

فأقبلوا فلحقوه وقد احترقت يده»(1).

هكذا يكون ذكر اللّه سبباً للتوبة وللردع عن الحرام.

من بركات ذكر اللّه دائماً

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلى على سعد بن معاذ، فقال: لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه تسعون ألف ملك، وفيهم جبرئيل يصلون عليه. فقلت: يا جبرئيل، بما استحق صلاتكم عليه؟ قال: بقراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قائماً وقاعداً، وراكباً وماشياً، وذاهباً وجائياً»(2).

ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً

عن أمير المؤمنين(عليه السلام): إن «ثلاثة نفر كانوا يمشون في صحراء إلى جبل، فأخذتهم السماء فألجأتهم إلى غار كانوا يعرفون، فدخلوه يتوقون به من المطر، وكان فوق الغار صخرة عظيمة تحتها مدرة هي راكبتها، فابتلت المدرة فتدحرجت الصخرة، فصارت في باب الغار فسدت وأظلمت عليهم المكان.

ص: 398


1- قصص الأنبياء(عليهم السلام) للراوندي: 183.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 396.

وقال بعضهم لبعض: قد عفا الأثر ودرس الخبر، ولا يعلم بنا أهلونا، ولوعلموا ما أغنوا عنّا شيئاً؛ لأنه لا طاقة للآدميين بقلب هذه الصخرة عن هذا الموضع، هذا واللّه قبرنا الذي فيه نموت ومنه نحشر.

ثم قال بعضهم لبعض: أوليس موسى بن عمران ومن بعده من الأنبياء(عليهم السلام) أمروا أنه إذا دهمتنا داهية أن ندعو اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله الطيبين(عليهم السلام)؟

قالوا: بلى.

قالوا: فلا نعرف داهية أعظم من هذه.

فقالوا: ندعو اللّه بمحمد وآله الطيبين، ويذكر كل واحد منا حسنة من حسناته التي أراد اللّه بها، فلعل اللّه أن يفرج عنّا.

فقال أحدهم: اللّهم إن كنت تعلم أني كنت رجلاً كثير المال حسن الحال، أبني القصور والمساكن والدور، وكان لي أجراء، وكان فيهم رجل يعمل عمل رجلين، فلما كان عند المساء عرضت عليه أجرة واحدة فامتنع. وقال: إنما عملت عمل رجلين، فأنا أبغي أجرة رجلين. فقلت له: إنما شرطت عليك عمل رجل، والثاني فأنت به متطوع لا أجرة لك. فذهب وسخط ذلك وتركه عليَّ، فاشتريت بتلك الأجرة حنطة، فبذرتها فزكت ونمت، ثم أعدت بعد ما ارتفع من الأرض، فعظم زكاؤها ونماؤها، ثم أعدت بعد مرتفع من الثاني في الأرض، فعظم الزكاء والنماء، ثم ما زالت هكذا حتى عقدت به الضياع والقصور، والقرى والدور، والمنازل والمساكن، وقطعان الإبل والغنم، وصُوّار(1) العنز والدواب، والأثاث والأمتعة، والعبيد والإماء، والفراش والآلات، والنعم الجليلة، والدراهم والدنانير الكثيرة، فلما كان بعد سنين مر بي الأجير، وقد ساءت حاله وتضعضعت،

ص: 399


1- الصُوّار: قطيع البقر.

واستولى عليه الفقر وضعف بصره. فقال لي: يا عبد اللّه، أما تعرفني أنا أجيركالذي سخطت أجرة واحدة ذلك اليوم، وتركتها لغنائي عنها، وأنا اليوم فقير، وقد رضيت بها فأعطنيها. فقلت له: دونك هذا الضياع، والقرى والدور، والقصور والمساكن، وقطعان الإبل والبقر والغنم، وصُوّار العنز والدواب، والأثاث والأمتعة، والعبيد والإماء، والفراش والآلات، والنعم الجليلة، والدراهم والدنانير الكثيرة، فتناولها إليك أجمع، مباركة لك فهي لك. فبكى وقال: يا عبد اللّه، سوفت حقي ثم الآن تهزأ بي. فقلت: ما أهزأ بك وما أنا إلّا جاد مجد، فهذه كلها نتائج أجرتك تلك تولدت عنها، فالأصل كان لك فهذه الفروع كلها تابعة للأصل فهي لك، فسلمتها أجمع.

اللّهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت هذا رجاء ثوابك، وخوف عقابك، فافرج عنّا بمحمد الأفضل الأكرم، سيد الأولين والآخرين، الذي شرفته بآله أفضل آل النبيين، وأصحابه أكرم أصحاب المرسلين، وأمته خير الأمم أجمعين.

قال(عليه السلام): فزال ثلث الحجر، ودخل عليهم الضوء.

وقال الثاني: اللّهم إن كنت تعلم أنه كان لي بقرة أحتلبها، ثم أروح بلبنها على أمي، ثم أروح بسؤرها على أهلي وولدي، فأخرني عائق ذات ليلة، فصادفت أمي نائمة، فوقفت عند رأسها لتنتبه لا أنتبهها من طيب وسادها، وأهلي وولدي يتضاغون من الجوع والعطش، فما زلت واقفاً لا أحفل بأهلي وولدي، حتى انتبهت هي من ذات نفسها، وسقيتها حتى رويت، ثم عطفت بسؤرها على أهلي وولدي.

اللّهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك رجاء ثوابك وخوف عقابك، فافرج عنّا بحق محمد الأفضل الأكرم، سيد الأولين والآخرين، الذي شرفته بآله أفضل

ص: 400

آل النبيين، وأصحابه أكرم صحابة المرسلين، وأمته خير الأمم أجمعين.

قال(عليه السلام): فزال ثلث آخر من الحجر، وقوي طمعهم في النجاة.

وقال الثالث: اللّهم إن كنت تعلم أني هويتُ امرأة في بني إسرائيل فراودتها عن نفسها، فأبت عليَّ إلّا بمائة دينار ولم أكن أملك شيئاً، فما زلت أسلك براً وبحراً، وسهلاً وجبلاً، وأباشر الأخطار، وأسلك الفيافي والقفار، وأتعرض للمهالك والمتالف، أربع سنين حتى جمعتها وأعطيتها إياها، وأمكنتني من نفسها، فلما قعدت منها مقعد الرجل من أهله، ارتعدت فرائصها، وقالت لي: يا عبد اللّه، إني جارية عذراء فلا تفض خاتم اللّه إلّا بأمر اللّه عزّ وجلّ، وإنما حملني على أن أمكنك من نفسي الحاجة والشدة.

فقمت عنها وتركتها وتركت المائة الدينار عليها، اللّهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك رجاء ثوابك وخوف عقابك، فافرج عنّا بحق محمد الأفضل الأكرم، سيد الأولين والآخرين، الذي شرفته بآله أفضل آل النبيين، وأصحابه أكرم أصحاب المرسلين، وأمته خير الأمم أجمعين.

قال: فزال الحجر كله وتدحرج، وهو ينادي بصوت فصيح بيِّنٍ يعقلونه ويفهمونه: بحسن نياتكم نجوتم، وبمحمد الأفضل الأكرم، سيد الأولين والآخرين، المخصوص بآله أفضل آل النبيين، وبخير أمته سعدتم ونلتم أفضل الدرجات»(1).

2- ذكر الموت

الأمر الثاني: ذكر الموت دائماً، إذا أردنا أن نعرف من هو أذكى الناس، فهل هو الذي يملك مالاً كثيرا؟ أم صاحب العلم الكثير؟ أم الخطيب الذي يجلس

ص: 401


1- بحار الأنوار 91: 13.

تحت منبره آلاف الناس؟

ليس هؤلاء بأذكى الناس، بل الأذكى ما عرّفه لنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال: «أكيس الناس من كان أشد ذكراً للموت»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أكثروا من ذكر هادم اللذات».

فقيل: يا رسول اللّه، وما هادم اللذات؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الموت؛ فإن أكيس المؤمنين أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم للموت استعداداً»(2).

علينا أن لا نغفل عن الموت أبداً، ففي يوم ما كل واحد منا يموت، وكلنا نصبح تحت الأرض، فلا تبقى أنت، ولا أبقى أنا، ولا يبقى أحد ممن يعرفنا أو يقربنا.

فيلزم على الإنسان أن يفكر بالموت في كل يوم، ويعلم بأنه سيموت، ويتذكر ذلك في كل عمل يقوم به.

سُئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): كم مرة يلزم على الإنسان أن يتذكر الموت في اليوم؟ قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لا أقل ثلاثين مرة.

وسأله بعضهم فقال: يا رسول اللّه، هل يحشر مع الشهداء أحد؟

قال: «نعم، من يذكر الموت في اليوم والليلة عشرين مرة»(3).

وهذا يعني: أن يتذكر الإنسان الموت من الصباح إلى الليل، ومن الليل إلى الصباح: عند ما ينهض من النوم صباحاً يتذكر أنه يموت، وكذلك عند ما يصلي، وعند ما يخرج من البيت، وعندما يذهب الى السوق، وعند ما يكون في الوظيفة،

ص: 402


1- من لا يحضره الفقيه 4: 395.
2- مستدرك الوسائل 2: 100.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 268.

وعند ما يخرج للواجب، وعندما، وعندما... إلى عشرين مرة أو ثلاثين أو أكثر،عند ذلك يمكنه أن يكون في الخط الصحيح، المرضي عند اللّه عزّ وجلّ.

والإنسان الذي هو دائماً في ذكر اللّه سبحانه، ولا ينسى الموت، يكون من الذين لا يقدر عليهم الشيطان عادة.

قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَٰتًا فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(1).

وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(2).

وعن أبي عبيدة الحذاء، قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): حدثني بما أنتفع به؟ فقال: «يا أبا عبيدة، أكثر ذكر الموت؛ فإنه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلّا زهد في الدنيا»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في حديث أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من أكثر ذكر الموت أحبه اللّه»(4).

وعن أبي بصير قال: شكوت إلى أبي عبد اللّه(عليه السلام) الوسواس(5). فقال: «يا أبا محمد، اذكر تقطع أوصالك في قبرك، ورجوع أحبابك عنك إذا دفنوك في حفرتك، وخروج بنات الماء(6) من منخريك، وأكل الدود لحمك؛ فإن ذلك

ص: 403


1- سورة البقرة، الآية: 28.
2- سورة آل عمران، الآية: 185.
3- الكافي 2: 131.
4- الكافي 2: 122.
5- لعل المراد بالوسواس هنا هموم الدنيا وغمومها، كما احتمله العلامة المجلسي(رحمه اللّه) في مرآة العقول 14: 251.
6- بنات الماء: الديدان التي تتولد من الرطوبات.

يسلي عنك ما أنت فيه».

قال أبو بصير: فو اللّه ما ذكرته إلّا سلّى عني ما أنا فيه من هم الدنيا(1).

وعن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال: «رأى الصادق(عليه السلام) رجلاً قد اشتد جزعه على ولده، فقال: يا هذا جزعت للمصيبة الصغرى وغفلت عن المصيبة الكبرى، لو كنت لما صار إليه ولدك مستعداً لما اشتد عليه جزعك، فمصابك بتركك الاستعداد له أعظم من مصابك بولدك»(2).

وفي كتاب أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر، قال: «... فأكثروا ذكر الموت عندما تنازعكم أنفسكم إليه من الشهوات فكفى بالموت واعظاً، وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت، فيقول: أكثروا ذكر الموت؛ فإنه هادم اللذات، حائل بينكم وبين الشهوات»(3).

إخلاص العبودية

ومن ثمار ذكر اللّه دائماً وذكر الموت دائماً هو الحصول على درجة الإخلاص، ومن أخلص للّه العبودية، فإنه يصل إلى مراحل عالية تفوق درجات الملائكة.

يذكر أن سفينة قد أشرفت على الغرق في البحر، فكان كل واحد من أهلها مضطرباً بين باك ومتضرع وداع، إلّا عبداً أسود ذا شفاه غليظة، فقد جلس لا يقول شيئاً، فقالوا له: يا عبد اللّه، لم لا تقول شيئاً؟

ولما كرروا عليه القول، رفع رأسه نحو السماء، وقال: إلهي إذا عملت بشرطك فاعمل أنت بشرطي أيضاً.

ص: 404


1- الكافي 3: 255.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 5.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 264.

وإذا بالسفينة استقرت، وأخذت تسير بكل هدوء في الماء، فأقبلوا نحوه،وقالوا له: من أنت؟

قال: أنا عبد أسود، عاهدت اللّه على أن أسمع كلامه وفي المقابل أن يستجيب لي ويسمع كلامي أيضا، وقد سمعت كلام اللّه إلى الآن، ثم عندما خاطبت اللّه قائلاً: إلهي اسمع كلامي واستجب لي، سمع كلامي واستجاب دعائي.

إذن كونوا مع اللّه دائماً. ولا تغفلوا عن ذكر الموت.

هذان موضوعان يلزم على كل إنسان أن يتحلى بهما، وخاصة من كان في سلك الشرطة والحرس وما أشبه.

قال سبحانه: {بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(1).

وقال جلّ جلاله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(2).

وقال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}(3).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أيها الناس، إنما هو اللّه والشيطان، والحق والباطل، والهدى والضلالة، والرشد والغي، والعاجلة والآجلة، والعاقبة والحسنات والسيئات، فما كان من حسنات فللّه، وما كان من

ص: 405


1- سورة البقرة، الآية: 112.
2- سورة الأنعام، الآية: 162- 163.
3- سورة الكهف، الآية: 110.

سيئات فللشيطان لعنه اللّه»(1).

وعن أبي الحسن الرضا(عليه السلام): «أن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يقول: طوبى لمن أخلص للّه العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينس ذكر اللّه بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أعطي غيره»(2).

وعن السندي، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «ما أخلص عبد الإيمان باللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً - أو قال: ما أجمل عبد ذكر اللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً - إلّا زهده اللّه عزّ وجلّ في الدنيا، وبصّره داءها ودواءها، فأثبت الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، ثم تلا:

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(3)، فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلاً، أو مفترياً على اللّه عزّ وجلّ وعلى رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى أهل بيته(عليهم السلام) إلّا ذليلاً»(4).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام)، في حديث: «وبالإخلاص يكون الخلاص»(5).

وعن سفيان بن عيينة، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في حديث قال: «الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ»(6).

ص: 406


1- الكافي 2: 16.
2- الكافي 2: 16.
3- سورة الأعراف، الآية: 152.
4- الكافي 2: 16.
5- الكافي 2: 468.
6- الكافي 2: 16.
3- الثقافة الإسلامية

الأمر الثالث مما يلزم الاهتمام به: الثقافة الإسلامية، فهناك الكثير من الأعداء الذين يتربصون بالأمة ويريدون تغيير ثقافتها لإزالة هذا النظام، فإننا اليوم بحاجة أكثر إلى الإعلام والتبليغ، للدفاع عن أنفسنا وعن أمتنا المظلومة.

وعلى أقل التقادير يلزم توزيع عشرات الملايين من الكتب التوعوية في شتى المجالات على شعوبنا وعلى الأمة الإسلامية فرداً فرداً، حتى تكون حصة كل واحد من أفراد الأمة كتاباً واحداً. فإذا كان تعداد النفوس أربعين مليوناً يلزم طباعة أربعين مليون كتاب، حول نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وحول أمير المؤمنين(عليه السلام)، وحول فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وحول الإمام الحسن والإمام الحسين(عليهما السلام)، وسائر الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، وكذلك حول الثقافة الإسلامية، والسياسة الإسلامية، والاقتصاد الإسلامي، وعلم الاجتماع في الإسلام، و... .

ثورة الإمام الحسن(عليه السلام)

فإن هناك شبهات عديدة ينبغي التصدي لها، فربما يسمع الإنسان من البعض بأن الإمام الحسن(عليه السلام) لم يكن ثورياً - على سبيل المثال - يريدون بذلك أن يثبطوا من عزم الأمة.

ولكن هذا الكلام كذب محض، وقد تناولنا الموضوع في كتاب تحت عنوان: (ثورة الإمام الحسن(عليه السلام)).

إن الإمام الحسن(عليه السلام) كان ثورياً أكثر من الإمام الحسين(عليه السلام) - إن صح التعبير - على تفصيل ذكرناه في الكتاب المذكور.

إذن يلزم نشر ثقافة الإسلام والقرآن وسيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) في أوساط الأمة، وخاصة بين الشرطة والحرس حتى يكونوا على بصيرة وثقافة إسلامية عالية.

ص: 407

نحن وأهل البيت(عليهم السلام)

نحن بحمد اللّه تعالى من أتباع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وكذلك الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، والإمام الحسن والإمام الحسين(عليهما السلام)، والإمام زين العابدين، والإمام الباقر، والإمام الصادق، والإمام الكاظم، والإمام الرضا، والإمام الجواد، والإمام الهادي، والإمام العسكري، والإمام المهدي المنتظر(عليهم السلام).

فعلينا أن لا نحيد عن طريقهم وهديهم ولو بقدر شعرة، فإن في مخالفتهم الضلال والنار، وفي التمسك بهم والسير على نهجهم السعادة والفوز بالجنة والرضوان.

وباتباع أهل البيت(عليهم السلام) يمكننا أن نهدي العالم إلى الصراط المستقيم، حتى يكون العالم تحت لواء هؤلاء الطاهرين. وهذا اليوم قريب جداً إن شاء اللّه تعالى.

إذن الأمر الثالث هو نشر الثقافة الإسلامية، فينبغي أن يسعى كل واحد منا بالسعي الحثيث من أجل نشر الثقافة الإسلامية الصحيحة وهي تعاليم القرآن والعترة، في كافة المدن وبين جميع الناس، وهذه مسؤولية ملقاة على عاتقكم وعاتقنا.

قال سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال جلّ جلاله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2).

ص: 408


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة آل عمران، الآية: 18.

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألّا إن اللّه يحب بغاة العلم»(1).

وعن أبي إسحاق السبيعي عمّن حدثه، قال: سمعت أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: «أيها الناس، اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألّا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسوم مضمون لكم، قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه»(2).

وعن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «عليكم بالتفقه في دين اللّه ولا تكونوا أعراباً؛ فإنه من لم يتفقه في دين اللّه لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة، ولم يزك له عملاً»(3).

وعن ابن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)، قال: «دخل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المسجد، فإذا جماعة قد أطافوا برجل، فقال: ما هذا؟ فقيل: علاّمة. قال: وما العلاّمة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيام الجاهلية، والأشعار العربية. فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه»(4).

وعن أبي البختري، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهِم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه؛ فإن فينا أهل

ص: 409


1- الكافي 1: 30.
2- الكافي 1: 30.
3- الكافي 1: 31.
4- الكافي 1: 32.

البيت(عليهم السلام) في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»(1).

4- خدمة الناس ومساعدة الفقراء

الأمر الرابع مما يلزم الاهتمام به: خدمة الناس وقضاء حوائجهم، ومساعدة الفقراء والمستضعفين، فلا تقولوا: لا نملك شيئاً، وإن راتبنا الشهري قليل ولا يكفينا، بل على الإنسان أن يجعل حصة في أمواله للسائل والمحروم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(2).

فإذا كان يملك ألفاً ودفع - مثلاً - مائة منه في سبيل اللّه، فهذا (الإنفاق)، وإذا تصدق بنصفه تسمى هذه (المواساة) وهي من مكارم أخلاق المؤمنين، وإذا دفع تسعمائة وأبقى لنفسه مائة فقط، فهذا هو (الإيثار) وهو من أخلاق المخلصين، أما إذا لم يبق لنفسه شيئاً فهي الدرجة العالية من الإيثار، كما قال عزّ وجلّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ}(3).

يعني إذا ملكتَ قرصاً واحداً من الخبز وكنتَ جائعاً، وإذا بفقير سألك هذا القرص، فعند ما تتصدق به وتقدّمه على نفسك فإنه الإيثار بعينه، والأئمة الطاهرون(عليهم السلام) هم خير أسوة في كل هذه الفضائل، حتى نزلت في حقهم السور والآيات القرآنية العديدة، كما ورد في شأن نزول سورة الدهر المباركة:

روى الشيخ الصدوق(رحمه اللّه) في أماليه عن الإمام الصادق(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}(4):

ص: 410


1- الكافي 1: 32.
2- سورة المعارج، الآية: 24- 25.
3- سورة الحشر، الآية: 9.
4- سورة الإنسان، الآية: 7.

قال: «مرض الحسن والحسين(عليهما السلام) وهما صبيان صغيران، فعادهما رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومعه رجلان، فقال أحدهما: يا أبا الحسن لو نذرت في ابنيك نذراً إن اللّه عافاهما.

فقال: أصوم ثلاثة أيام شكراً للّه عزّ وجلّ.

وكذلك قالت فاطمة(عليها السلام).

وقال الصبيان: ونحن أيضاً نصوم ثلاثة أيام.

وكذلك قالت جاريتهم فضة.

فألبسهما اللّه عافية، فأصبحوا صياماً وليس عندهم طعام، فانطلق علي(عليه السلام) إلى جار له من اليهود يقال له: شمعون، يعالج الصوف، فقال: هل لك أن تعطيني جزة من صوف تغزلها لك ابنة محمد بثلاثة أصوع(1) من شعير؟

قال: نعم، فأعطاه، فجاء(عليه السلام) بالصوف والشعير، وأخبر فاطمة(عليها السلام) فقبلت وأطاعت.

ثم عمدت فغزلت ثُلث الصوف، ثم أخذت صاعاً من الشعير فطحنته وعجنته وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد قرصاً. وصلى علي(عليه السلام) مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المغرب، ثم أتى منزله، فوضع الخوان وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي(عليه السلام) إذا مسكين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني مما تأكلون أطعمكم اللّه على موائد الجنة. فوضع(عليه السلام) اللقمة من يده ثم قال:

فاطم ذات المجد واليقين *** يا بنت خير الناس أجمعين

أما ترين البائس المسكين *** جاء إلى الباب له حنين

ص: 411


1- الصاع: ما يقارب ثلاثة كيلوات.

يشكو إلى اللّه ويستكين *** يشكو إلينا جائعاً حزين

كل امرئ بكسبه رهين *** من يفعل الخير يقف سمين

موعده في جنة رهين *** حرمها اللّه على الضنين

وصاحب البخل يقف حزين *** تهوي به النار إلى سجين

شرابه الحميم والغسلين

فأقبلت فاطمة(عليها السلام) تقول:

أمرك سمع يا بن عم وطاعة *** ما بيَ من لؤم ولا وضاعة(1)

غذيت باللب وبالبراعة *** أرجو إذا أشبعت من مجاعة

أن ألحق الأخيار والجماعة *** وأدخل الجنة في شفاعة

وعمدت(عليها السلام) إلى ما كان على الخوان فدفعته إلى المسكين، وباتوا جياعاً وأصبحوا صياماً لم يذوقوا إلّا الماء القراح.

ثم عمدت(عليها السلام) إلى الثلث الثاني من الصوف فغزلته، ثم أخذت صاعاً من الشعير فطحنته وعجنته وخبزت منه خمسة أقرصة لكل واحد قرصاً.

وصلّى علي(عليه السلام) المغرب مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم أتى منزله، فلما وضع الخوان بين يديه وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي(عليه السلام) إذا يتيم من يتامى المسلمين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا يتيم من يتامى المسلمين أطعموني مما تأكلون، أطعمكم اللّه على موائد الجنة.

فوضع علي(عليه السلام) اللقمة من يده ثم قال:

فاطم بنت السيد الكريم *** بنت نبي ليس بالزنيم

قد جاءنا اللّه بذا اليتيم *** من يرحم اليوم فهو رحيم

ص: 412


1- في بعض النسخ: ولا ضراعة.

موعده في جنة النعيم *** حرمها اللّه على اللئيم

وصاحب البخل يقف ذميم *** تهوي به النار إلى الجحيم

شرابها الصديد والحميم

فأقبلت فاطمة(عليها السلام) وهي تقول:

فسوف أعطيه ولا أبالي *** و أؤثر اللّه على عيالي

أمسوا جياعاً وهم أشبالي *** أصغرهم يقتل في القتال

بكربلا يقتل باغتيال *** لقاتليه الويل مع وبال

يهوي في النار إلى سفال *** كُبُوله زادت على الأكبال

ثم عمدت(عليها السلام) فأعطته جميع ما على الخوان، وباتوا جياعاً لم يذوقوا إلّا الماء القراح(1)، وأصبحوا صياماً.

وعمدت فاطمة(عليها السلام) فغزلت الثلث الباقي من الصوف، وطحنت الصاع الباقي وعجنته وخبزت منه خمسة أقراص لكل واحد قرصاً.

وصلّى علي(عليه السلام) المغرب مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم أتى منزله، فقرب إليه الخوان وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي(عليه السلام) إذا أسير من أسراء المشركين قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا؟

فوضع علي(عليه السلام) اللقمة من يده ثم قال:

فاطم يا بنت النبي أحمد *** بنت النبي سيد مسود

قد جاءكِ الأسير ليس يهتدي *** مكبلاً في غله مقيد

يشكو إلينا الجوع قد تقدد *** من يطعم اليوم يجده في غد

ص: 413


1- القراح، بفتح القاف: الماء الخالص.

عند العلي الواحد الموحد *** ما يزرع الزارع سوف يحصد

فأعطي(1)

ولا تجعليه ينكد

فأقبلت فاطمة(عليها السلام) وهي تقول:

لم يبق مما كان غير صاع *** قد دبرت كفي مع الذراع

شبلاي واللّه هما جياع *** يا رب لا تتركهما ضياع(2)

أبوهما للخير ذو اصطناع *** عبل الذراعين طويل الباع(3)

وما على رأسي من قناع *** إلّا عباً نسجتها بصاع

وعمدوا إلى ما كان على الخوان فأتوه وباتوا جياعاً، وأصبحوا مفطرين وليس عندهم شيء.

قال شعيب في حديثه: وأقبل علي(عليه السلام) بالحسن والحسين(عليهما السلام) نحو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع، فلما بصر بهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: يا أبا الحسن شد ما يسوؤني ما أرى بكم، انطلق إلى ابنتي فاطمة(عليها السلام).

فانطلقوا إليها(عليها السلام) وهي في محرابها، قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها(4)، فلما رآها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ضمها إليه وقال: واغوثاه باللّه، أنتم منذ ثلاث في ما أرى.

فهبط جبرائيل(عليه السلام) فقال: يا محمد خذ ما هيأ اللّه لك في أهل بيتك.

قال: وما آخذ يا جبرائيل؟

قال: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَٰنِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} حتى إذا بلغ {إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ

ص: 414


1- وفي بعض النسخ: (فاعطنه).
2- الضَياع: الهلاك.
3- الباع: قدر مد اليدين. ويقال: فلان طويل الباع ورحب الباع: أي كريم وواسع الخلق ومقتدر.
4- غارت عينه: دخلت في الرأس وانخسفت.

جَزَاءًوَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا}(1).

فوثب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى دخل منزل فاطمة(عليها السلام) فرأى ما بهم، فجمعهم ثم انكب عليهم يبكي ويقول: أنتم منذ ثلاث أيام في ما أرى... .

فهبط عليه جبرائيل(عليه السلام) بهذه الآيات:

{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٖ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}(2).

قال: هي عين في دار النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين.

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) وجاريتهم.

{وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} يقولون عابساً كلوحاً(3).

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ} يقول: على شهوتهم للطعام وإيثارهم له.

{مِسْكِينًا} من مساكين المسلمين {وَيَتِيمًا} من يتامى المسلمين {وَأَسِيرًا} من أسارى المشركين.

ويقولون إذا أطعموهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} قال: واللّه ما قالوا هذا لهم ولكنهم أضمروه في أنفسهم فأخبر اللّه بإضمارهم، يقولون: لا نريد جزاءً تكلِّفوننا(4) به ولا شكوراً تثنون علينا به، ولكنا إنما أطعمناكم لوجه اللّه وطلب ثوابه.

قال اللّه تعالى ذكره: {فَوَقَىٰهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّىٰهُمْ نَضْرَةً} في الوجوه {وَسُرُورًا} في القلوب {وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً} يسكنونها {وَحَرِيرًا}يفترشونه

ص: 415


1- سورة الإنسان، الآية: 1-22.
2- سورة الإنسان، الآية: 5-6.
3- كَلح وجهه: عبس فأفرط في تعبسه.
4- في بحار الأنوار: تكافوننا.

ويلبسونه{مُّتَّكِِٔينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} والأريكة: السرير عليه الحجلة {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا}(1).

قال ابن عباس: فبينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا مثل الشمس قد أشرقت لها الجنان، فيقول أهل الجنة: يا رب إنك قلت في كتابك: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا}؟

فيرسل اللّه جلّ اسمه إليهم جبرئيل فيقول: ليس هذه بشمس ولكن علياً وفاطمة(عليهما السلام) ضحكا فأشرقت الجنان من نور ضحكهما، ونزلت {هَلْ أَتَىٰ} فيهم إلى قوله تعالى: {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا}(2).

إذن الموضوع الرابع، قضاء حوائج الناس ومساعدة المحتاجين، كالذين لا منزل ولا مأوى لهم، والشباب العزاب، والفتيات العازبات، والمرضى، ومن لا تصل يده إلى أحد.

فلا يقول الإنسان: ليست هذه مسؤوليتي، بل على اللجان المختصة أن تهتم بأمر هؤلاء المساكين، نعم يلزم على اللجان ذلك، كما يلزم على كل شخص أن يساهم في قضاء حوائج الناس. عند ذلك يعم الخير والبركة، كما في الحديث الشريف:

«الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»(3).

أما إذا قال الإنسان: هذه من مسؤولية الدولة، أو التجار، أو المراجع والحوزات العلمية، أو من أشبه، فإنه يخالف ما ورد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم

ص: 416


1- سورة الإنسان، الآية: 5-13.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 257.
3- عوالي اللئالي 1: 361.

مسؤول عن رعيته»(1).

نعم، ينبغي للمسؤولين أن يقللوا من مصارفهم ويساعدوا الناس بذلك، كما ينبغي إلغاء الدوائر الزائدة التي لا فائدة فيها إلّا عرقلة أمور الناس، فإن الدوائر في الإسلام قليلة جداً، والأصل هو حرية الإنسان في التصرف إلّا في ما كان يخالف الشرع ويضر بالناس.

فأنت أيها المسؤول، حبذا لو أقللت من الموظفين ومن المصروفات غير الضرورية وساعدت الناس.

وهذا لا يعني عدم مسؤولية كل فرد فرد منا.

روايات في قضاء الحوائج

عن المفضل، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: قال لي: «يا مفضل، اسمع ما أقول لك، واعلم أنه الحق وافعله، وأخبر به عِلْية(2) إخوانك». قلت: جعلت فداك، وما عِلْية إخواني؟ قال: «الراغبون في قضاء حوائج إخوانهم». قال: ثم قال: «ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى اللّه عزّ وجلّ له يوم القيامة مائة ألف حاجة من ذلك أولها الجنة، ومن ذلك أن يدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنة بعد أن لا يكونوا نُصّاباً»(3). وكان المفضل إذا سأل الحاجة أخاً من إخوانه، قال له: أما تشتهي أن تكون من علية الإخوان(4).

وعن المفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «إن اللّه عزّ وجلّ خلق خلقاً

ص: 417


1- جامع الأخبار: 119.
2- عِلْية إخوانك: أي شريفهم ورفيعهم.
3- المراد بالنُصّاب في عرف أصحاب الأئمة(عليهم السلام): المخالفون المتعصبون في مذهبهم، فغير النُصّاب هم المستضعفون.
4- الكافي 2: 192.

من خلقه انتجبهم لقضاء حوائج فقراء شيعتنا ليثيبهم على ذلك الجنة؛ فإن استطعت أن تكون منهم فكن» ثم قال: «لنا واللّه رب نعبده لا نشرك به شيئاً»(1).

وعن صدقة الأحدب، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «قضاء حاجة المؤمن خير من عتق ألف رقبة، وخير من حملان ألف فرس في سبيل اللّه»(2).

وعن جابر، عن الإمام محمد بن علي(عليهما السلام)، قال: «لقضاء حاجة مسلم أفضل من عتق عشر نسمات، واعتكاف شهر في المسجد»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلّا ناداه اللّه تبارك وتعالى عليَّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنة»(4).

المسلمون الأوائل

في واحدة من غزوات النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي غزوة تبوك، كان المسلمون في مضيقة اقتصادية، فكانوا يقسمون التمرة الواحدة نصفين، فالنصف الأول يأكله الشخص الأول، والنصف الثاني حصة الشخص الآخر(5)، فكان المقاتلون وحتى في ميدان الحرب يساعدون المحتاجين ويواسونهم في صعوبة العيش.

مساعدة عموم الناس

كما يلزم أن تكون المساعدة لعموم الناس، لا لفئة دون فئة، بل تشمل الجميع الصغار والكبار، الرجال والنساء، السليم وذا العاهة وهكذا؛ لأن ديننا الحنيف أكد على الرحمة والتراحم بين جميع الأفراد، فقد ورد في الحديث الشريف عن

ص: 418


1- الكافي 2: 193.
2- الكافي 2: 193.
3- مستدرك الوسائل 7: 569.
4- الكافي 2: 194.
5- انظر تفسير جوامع الجامع 2: 101.

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة»(1)، وأن من لا يرحم لا يُرحم.

إن صفة الرحمة والتحلي بها ضرورية جداً للكل، بما فيهم الحرس والشرطة، حتى يتمكنوا بذلك من كسب ود ومحبة الناس لهم، وبذلك يتعاونون معهم في القضاء على المجرمين ويقتلعون جذور الجريمة من المجتمع، وبدون ذلك فسوف لن يتمكنوا من أداء واجبهم بصورة مرضية عند اللّه والمجتمع.

كما أن التعامل الفظ والسيء مع الناس، وعلى أنهم متهمين حتى يثبتوا براءتهم، يسلبهم المحبة من القلوب ويوجب عدم التعاون معهم؛ لأن النفس الإنسانية جبلت على حب من أحسن إليها، وهذا ما أثبتته التجارب أيضا.

لذا يلزم على الحرس والشرطة اتباع تعاليم الإسلام وأهل البيت(عليهم السلام) في كيفية التعامل مع الناس بالحسنى وترك الإساءة إليهم، وقضاء حوائجهم، ونبذ الأساليب الفظة التي تحط من كرامة الإنسان وتهدر حقوقه، وأما المجرم فينبغي التعامل معه على أساس الشريعة والقانون، وعدم التهاون في أمره حتى لا يطمع ضعاف النفس في التفكير بالجريمة.

خلاصة الأمور الأربعة

وخلاصة ما ذكرنا من الأمور الأربعة والتي يلزم خاصة على الحرس والشرطة الالتزام بها، هي: (ذكر اللّه) و(ذكر الموت) و(الثقافة العالية) و(خدمة الناس).

السلاح للخدمة

وهناك موضوع آخر يخص الشرطة والحرس ومن أشبه، وهو السلاح، إن السلاح من الأمور المهمة حتى قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجنة تحت ظلال

ص: 419


1- بحار الأنوار 74: 167.

السيوف»(1)، فالمسلح الذي يخدم بسلاحة الأمة هو من أهل الجنة، على عكس المسلح الإرهابي الذي يخيف الناس ويرعب الآمنين فإنه من أهل النار.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها، أخافه اللّه عزّ وجلّ يوم لا ظل إلّا ظله»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أشار على أخيه المسلم بسلاحه، لعنته الملائكة حتى ينحيه عنه»(3).

فيلزم على الشرطة والحرس حفظ أمن الناس وخدمتهم بما أمر به الإسلام، أما إذا أخافوا أحداً من غير استحقاق، أو - لا سمح اللّه - قتلوا مظلوماً، فهو من أكبر الكبائر، قال تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(4).

أصناف الناس في القيامة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يحشر الناس على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدواب، وثلث ينسلون على أقدامهم نسلاً، وثلث على وجوههم»(5).

أيها الإخوة المسلحون، يأتي كل شخص يوم القيامة ومعه علامة تميزه، فالتجار لهم علامة خاصة، والعلماء لهم علامة خاصة، والشرطة ومن أشبه لهم علامة خاصة، فإياكم إياكم! أن تأتوا يوم القيامة وفي عنقكم ظلم أحد، أو قطرة دم ظلماً أو عدواناً.

ص: 420


1- جامع الأخبار: 83.
2- الكافي 2: 368.
3- النوادر للراوندي: 33.
4- سورة المائدة، الآية: 32.
5- روضة الواعظين 2: 353.

في الأحاديث أنه: يحشر يوم القيامة فوج وقد كتب على جباههم: آيسون من رحمة اللّه!

فهذا يكون مصيره إلى النار وبئس المصير.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة اللّه»(1).

وشطر الكلمة أي جزء الكلمة، يعني أقل من الكلمة الواحدة.

فالسلاح قد يذهب بصاحبه إلى الجنة، والسلاح نفسه قد يذهب بصاحبه إلى النار. وهذا كما لو أعطي شخص سكيناً، فإنه يمكنه أن يقطع به اللحم في المطبخ، ويساعد أهله في تهيئة الطعام، حيث يثاب على ذلك، ويمكنه أن يطعن به شخصاً ويرديه قتيلاً، فيأخذ إلى حبل المشنقة قبل عذاب الآخرة.

عن أبي خالد القماط، عن حمران، قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): ما معنى قول اللّه عزّ وجلّ: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(2)، قال: قلت: وكيف فكأنما قتل الناس جميعاً، فإنما قتل واحداً؟ فقال: «يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدة عذاب أهلها، لو قتل الناس جميعاً إنما كان يدخل ذلك المكان». قلت: فإنه قتل آخر؟ قال: «يضاعف عليه»(3).

وروى جابر، عن أبي جعفر(عليه السلام)، قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أول ما يحكم اللّه عزّ وجلّ فيه يوم القيامة الدماء، فيوقف ابنا آدم(عليه السلام) فيفصل بينهما، ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء، حتى لا يبقى منهم أحد من الناس بعد ذلك، حتى

ص: 421


1- عوالي اللئالي 2: 333.
2- سورة المائدة، الآية: 32.
3- الكافي 7: 271.

يأتي المقتول بقاتله فيشخب دمه في وجهه، فيقول: أنت قتلته؟ فلا يستطيع أن يكتم اللّه حديثاً»(1).

وعن أبي الجارود، عن محمد بن علي(عليهما السلام)، قال: «ما من نفس تقتل برة ولا فاجرة إلّا وهي تحشر يوم القيامة متعلقةً بقاتله بيده اليمنى، ورأسه بيده اليسرى، وأوداجه تشخب دماً، يقول: يا رب سل هذا فيهم قتلني؟ فإن كان قتله في طاعة اللّه عزّ وجلّ أثيب القاتل الجنة، وأذهب بالمقتول إلى النار. وإن قال: في طاعة فلان. قيل له: اقتله كما قتلك. ثم يفعل اللّه عزّ وجلّ فيهما بعد مشيته»(2).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين(عليهما السلام)، قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لا يغرنكم رحب الذراعين بالدم؛ فإن له عند اللّه عزّ وجلّ قاتلاً لا يموت». قالوا: يا رسول اللّه، وما قاتل لا يموت؟ فقال: النار»(3).

وعن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «لايزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، وقال: لا يوفق قاتل المؤمن متعمداً للتوبة»(4).

روايات حول الجند والشرطة
جنود اللّه

يصف أمير المؤمنين علي(عليه السلام) - في نهج البلاغة(5) - الجند والشرطة بأنهم جنود اللّه، ثم يبيّن صفاتهم وما يجب عليهم:

قال(عليه السلام): «واعلم أنّ الرّعيّة طبقاتٌ، لا يصلح بعضها إلّا ببعضٍ، ولا غنى

ص: 422


1- من لا يحضره الفقيه 4: 96.
2- الكافي 7: 272.
3- الكافي 7: 272.
4- تفسير العياشي 1: 267.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 ومن كتاب كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.

ببعضها عن بعضٍ، فمنها جنود اللّه، ومنها كتّاب العامّة والخاصّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرّفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذّمّة ومسلمة النّاس، ومنها التّجّار وأهل الصّناعات، ومنها الطّبقة السّفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلٌّ قد سمّى اللّه له سهمه، ووضع على حدّه فريضةً في كتابه، أو سنّة نبيّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عهداً منه عندنا محفوظاً».

لا قوام للرعية إلّا بالجنود

ثم قال(عليه السلام): «فالجنود بإذن اللّه، حصون الرّعيّة، وزين الولاة، وعزّ الدّين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرّعيّة إلّا بهم.

ثمّ لا قوام للجنود إلّا بما يخرج اللّه لهم من الخراج، الّذي يقوون به على جهاد عدوّهم، ويعتمدون عليه في ما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم.

ثمّ لا قوام لهذين الصّنفين إلّا بالصّنف الثّالث: من القضاة والعمّال والكتّاب لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصّ الأمور وعوامّها.

ولا قوام لهم جميعاً إلّا بالتّجّار وذوي الصّناعات في ما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من التّرفّق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم.

ثمّ الطّبقة السّفلى من أهل الحاجة والمسكنة، الّذين يحقّ رفدهم ومعونتهم».

ولّ من جنودك أنصحهم للّه

«فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممّن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضّعفاء، وينبو على الأقوياء، وممّن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضّعف».

ص: 423

الجند وذوي المروءات

«ثمّ الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصّالحة، والسّوابق الحسنة، ثمّ أهل النّجدة والشّجاعة، والسّخاء والسّماحة، فإنّهم جماعٌ من الكرم، وشعبٌ من العرف».

تفقّد أُمور الجند

«ثمّ تفقّد من أمورهم ما يتفقّد الوالدان من ولدهما، ولايتفاقمنّ في نفسك شيءٌ قوّيتهم به، ولا تحقرنّ لطفاً تعاهدتهم به وإن قلّ، فإنّه داعيةٌ لهم إلى بذل النّصيحة لك، وحسن الظّنّ بك، ولا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتّكالاً على جسيمها، فإنّ لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه».

المواسي للجنود

«وليكن آثر رءوس جندك عندك: من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته، بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتّى يكون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدوّ.

فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، وإنّ أفضل قرّة عين الولاة: استقامة العدل في البلاد، وظهور مودّة الرّعيّة، وإنّه لا تظهر مودّتهم إلّا بسلامة صدورهم، ولا تصحّ نصيحتهم إلّا بحيطتهم على ولاة الأمور، وقلّة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدّتهم. فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثّناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإنّ كثرة الذّكر لحسن أفعالهم تهزّ الشّجاع، وتحرّض النّاكل إن شاء اللّه.

ثمّ اعرف لكلّ امرئٍ منهم ما أبلى، ولا تضمّنّ بلاء امرئٍ إلى غيره، ولا تقصّرنّ به دون غاية بلائه، ولا يدعونّك شرف امرئٍ إلى أن تعظم من بلائه ما كان

ص: 424

صغيراً، ولا ضعة امرئٍ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً».

ويؤكد أمير المؤمنين(عليه السلام) على أن الشرطة والحرس ينبغي أن لا يمنعوا الناس من الوصول إلى القادة، حتى يمكنهم التكلم مع الولاة وبث الشكوى إليهم.

استماع شكوى الناس

وقال(عليه السلام): «واجعل لذوي الحاجات منك قسماً، تفرّغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عامّاً، فتتواضع فيه للّه الّذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتعٍ، فإنّي سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول في غير موطنٍ: لن تقدّس أمّةٌ لا يؤخذ للضّعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتعٍ»(1).

أهمية الجند
اشارة

في كتاب (تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم)(2) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال:

«الجنود حصون الرعية».

وقال(عليه السلام): «الجنود عزّ الدين، وحصون الولاة».

وقال(عليه السلام): «من خذل جنده نصر أضداده».

آفة الجند

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الجبن آفة العجز سخافة».

وقال(عليه السلام): «آفة الجند مخالفة القادة».

وقال(عليه السلام): «الفرار أحد الذلين».

ص: 425


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53، ومن كتاب كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 333-335.

وقال(عليه السلام): «استحيوا من الفرار؛ فإنه عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب».

وقال(عليه السلام): «عاودوا الكرّ واستحيوا من الفرّ؛ فإنه عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب».

وقال(عليه السلام): «إن في الفرار موجدة(1) اللّه سبحانه، والذل اللازم، والعار الدائم. وإن الفارّ غير مزيد في عمره، ولا مؤخر عن يومه».

وقال(عليه السلام): «وايم اللّه، لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من سيوف الآخرة، وأنتم لهاميم(2) العرب، والسنام الأعظم، فاستحيوا من الفرار؛ فإن فيه ادراع العار، وولوج النار».

نكات حربية

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الأخذ على العدو بالفضل أحد الظفرين».

وقال(عليه السلام): «الاستصلاح للأعداء بحسن المقال وجميل الأفعال، أهون من ملاقاتهم ومغالبتهم بمضيض القتال».

وقال(عليه السلام): «زكاة الظفر الإحسان».

وقال(عليه السلام): «الرأي بتحصين الأسرار».

وقال(عليه السلام): «أنجح الأمور ما أحاط به الكتمان».

وقال(عليه السلام): «عثرة الاسترسال لا تستقال».

وقال(عليه السلام): «قد يخدع الأعداء».

وقال(عليه السلام): «من نام عن عدوه أنبهته [ نبهته ] المكايد».

وقال(عليه السلام): «من أبغضك أغراك».

ص: 426


1- موجدة اللّه: غضبه.
2- اللّهاميم، جمع لُهوم: الجواد من الناس والخيل.

وقال(عليه السلام): «لا تغترن بمجاملة العدو؛ فإنه كالماء وإن أطيل إسخانه بالنار، لايمتنع [لم يمنع] من إطفائها».

وقال(عليه السلام): «استعمل مع عدوك مراقبة الإمكان، وانتهاز الفرصة تظفر».

وقال(عليه السلام): «كافل النصر الصبر».

وقال(عليه السلام): «لا تغالب من لا تقدر على دفعه».

وقال(عليه السلام): «لا توقع بالعدو قبل القدرة».

وقال(عليه السلام): «إن وقعت بينك وبين عدوك قصة عقدت بها صلحاً وألبسته بها ذمة، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة بينك وبين ما أعطيت من عهدك».

وقال(عليه السلام): «رد الحجر من حيث جاءك؛ فإنه لا يرد الشر إلّا بالشر».

وقال(عليه السلام): «من أظهر عداوته قل كيده».

وقال(عليه السلام): «من دارى أضداده أمن المحارب».

وقال(عليه السلام): «لا تستصغرن عدواً وإن ضعف».

وقال(عليه السلام): «لا تحارب من يعتصم بالدين؛ فإن مغالب الدين محروب».

وقال(عليه السلام): «لا تغالب من يستظهر بالحق؛ فإن مغالب الحق مغلوب».

وقال(عليه السلام): «لا تعرض لعدوك وهو مقبل؛ فإن إقباله يعينه عليك، ولا تعرض له وهو مدبر؛ فإن إدباره يكفيك أمره».

وقال(عليه السلام): «الفرار في أوانه يعدل الظفر في زمانه».

وقال(عليه السلام): «عضوا على النواجذ؛ فإنه أنبا للسيوف عن الهام».

وقال(عليه السلام): «غضوا الأبصار في الحروب؛ فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب».

وقال(عليه السلام): «قدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس؛ فإنه أنبا

ص: 427

للسيوف عن الهام».

وقال(عليه السلام): «نافحوا بالظبى، وصلوا السيوف بالخطى، وطيبوا عن أنفسكم نفساًوامشوا إلى الموت مشياً سجحاً».

وقال(عليه السلام): «لا تدعون إلى مبارزة، وإن دعيت إليها فأجب؛ فإن الداعي إليها باغ، والباغي مصروع».

وقال(عليه السلام): «لا تشتدن عليكم فرّة بعدها كرة، ولا جولة بعدها صولة، وأعطوا السيوف حقوقها، وقصوا للحرب مصارعها، واذمروا أنفسكم على الطعن الدعسي، والضرب الطلخفي، وأميتوا الأصوات؛ فإنه أطرد للفشل».

وقال(عليه السلام): «التووا في أطراف الرماح؛ فإنه أَمْوَر للأسنة»(1).

شُرطة الخَميس لغة

الشُرْطَة بالضم والسكون والفتح: الجند، والجمع شُرَط مثل رُطَب.

والشُرَط على لفظ الجمع أعوان السلطان والولاة، وأول كتيبة تشهد الحرب وتتهيأ للموت، سموا بذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها للأعداء، الواحدة شُرطة كغرف وغُرفة.

وصاحب الشُرطة: يعني الحاكم.

وإذا نسب إلى هذا قيل: شُرْطي بالسكون رداً إلى واحدة كتركي.

والخميس: الجيش(2).

وإذا أعجل إنسان رسولاً إلى أمر قيل: أشرطه وأفرطه، كأنه اشتق من الأشراط التي هي أوائل الأشياء.

ص: 428


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 333-335.
2- مجمع البحرين 4: 257، مادة (شرط).

والشرطي منسوب إلى الشرطة، والجمع: شُرَط، وبعض يقول: شرطي ينسبه إلى الجماعة. والشرط سُمُّوا شُرطاً؛ لأن شرطة كل شي ء خياره، وهم نخبةالسلطان من جنده(1).

وأَشْرَط فلان نفسه لكذا وكذا: أَعْلَمها له وأَعَدَّها؛ ومنه سمي الشُّرَطُ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يُعْرفون بها، الواحد شُرَطةٌ وشُرَطِيٌّ(2).

الخميس: الجيش، سمي به لأنه يقسم بخمسة أقسام: المقدمة، والساقة، والميمنة، والميسرة، والقلب. وقيل: لأنه تخمس فيه الغنائم(3).

شُرطة الخَميس اصطلاحاً

كانت شرطة الخميس هي النخبة من قوات أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهي أول كتيبة في مقدمة الجيش تلقى العدو.

جاء في كتاب (قواميس الرجال والدراية) للعلامة فاضل الدربندي(رحمه اللّه) المتوفى عام 1286ه- :

إن الأخبار الواردة في شأن المتصفين بكونهم من شرطة الخميس مما يفيد عدالتهم، بل شيئاً فوق العدالة كما لا يخفى على المتدبر في فقه تلك الأخبار، بل يمكن أن يقال: إن شأن هؤلاء لاينقص عن شأن جمع من الوكلاء والسفراء. وجاء أيضاً: إن الأخبار الواردة في شرطة الخميس في غاية الاستفاضة، بل في حد التواتر المعنوي(4).

بلغ عدد أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) الذين كانوا في شرطة الخميس كما في

ص: 429


1- كتاب العين 6: 235، مادة (شرط).
2- لسان العرب 7: 329، مادة (شرط).
3- مرآة العقول 4: 79.
4- انظر مجلة تراثنا 24: 200، حيث ذكر فيها مقتطفاً من كتاب الفاضل الدربندي.

الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) ستة آلاف رجل(1)، أو خمسة آلاف رجل(2).

وقالابن عساكر في تاريخه: بايع أهل العراق الحسن بن علي(عليه السلام)، فسار حتى نزل المدائن، وبعث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على المقدمات وهم اثنا عشر آلفاً، وكانوا يسمون شرطة الخميس(3).

سبب التسمية

هناك عدة أقوال حول تسميتهم بشرطة الخميس نذكر منها:

1- خاطب أمير المؤمنين علي(عليه السلام) عبد اللّه بن يحيى الحضرمي يوم الجمل، فقال: «أبشر يا ابن يحيى، فإنك وأباك من شرطة الخميس حقاً، لقد أخبرني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس، واللّه سماكم في السماء شرطة الخميس على لسان نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(4).

2- قال علي بن الحكم: أصحاب أمير المؤمنين الذين(عليه السلام) قال لهم: «تشرطوا، إنما أشارطكم على الجنة، ولست أشارطكم على ذهب ولا فضة، إن نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لأصحابه في ما مضى: تشرطوا؛ فإني لست أشارطكم إلّا على الجنة»(5).

3- عن جعفر بن محمد بن مسعود، عن أبيه، قال: حدثني علي بن الحسين، عن مروك بن عبيد، قال: حدثني إبراهيم بن أبي البلاد، عن رجل، عن الأصبغ، قال: قلت له: كيف سميتم شرطة الخميس يا أصبغ؟ فقال: إنا ضمنا له الذبح،

ص: 430


1- انظر الإختصاص: 2.
2- رجال الكشي: 6.
3- تاريخ مدينة دمشق 13: 262.
4- رجال العلامة الحلي: 104.
5- الرجال للبرقي: 3.

وضمن لنا الفتح(1).

أي ضمنوا له أن يفدوه بأنفسهم، وضمن هو(عليه السلام) لهم الجنة على اللّه.

أسماء شرطة الخميس

لقد مر أن عدد شرطة الخميس ما بين خمسة آلاف إلى اثني عشر ألف رجل، وأنهم بعد استشهاد أمير المؤمنين(عليه السلام) تفرقوا في البلدان نتيجة متابعة معاوية (لعنه اللّه) لهم وإلقاء القبض عليهم وقتلهم، فربما تنكروا وغيروا أسماءهم، لذا لم يحفظ لنا التاريخ من أسمائهم إلّا القليل، ومنهم:

1- سلمان الفارسي.

2- أبوذر الغفاري.

3- أبو عمرو الأنصاري.

4- أبو ساسان الأنصاري.

5- جابر بن عبد اللّه الأنصاري.

6- عمار بن ياسر.

7- سهل بن حنيف بن واهب الأنصاري الأوسي.

8- عثمان بن حنيف بن واهب الأنصاري الأوسي.

9- ميثم بن يحيى التمار.

10- عمرو بن الحمق الخزاعي.

11- حبيب بن مظاهر الأسدي.

12- سليم بن قيس الهلالي.

13- مالك الأشتر.

ص: 431


1- الإختصاص: 65.

14- الأصبغ بن نباتة.

15- عبد اللّه بن يحيى الحضرمي.

16- قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري.

17- أبو الرضي عبد اللّه بن يحيى الحضرمي.

18- عبيدة السلماني المرادي.

19- عبد اللّه بن نجي.

20- نعيم بن دجاجة.

21- عبد اللّه بن أسيد الكندي.

22- أبو يحيى حكيم بن سعيد الحنفي.

23- محمد بن أبي بكر.

24- الحصين بن المنذر يكنى أبا ساسان الرقاشي.

25- بشر بن عمر الهمداني.

26- بشر بن عمار الخثعمي الكوفي.

27- سعد بن حارث - الحرث - الخزاعي.

قصص من شرطة الخميس
مع حبابة الوالبية

عن حبابة الوالبية قالت: رأيت أمير المؤمنين(عليه السلام) في شرطة الخميس، ومعه درة لها سبابتان يضرب بها بياعي الجري والمارماهي والزمار، ويقول لهم: «يا بياعي مسوخ بني إسرائيل وجند بني مروان». فقام إليه فرات بن أحنف فقال: يا أمير المؤمنين، وما جند بني مروان؟

قال: فقال له: «أقوام حلقوا اللحى وفتلوا الشوارب فمسخوا».

فلم أر ناطقاً أحسن نطقاً منه، ثم اتبعته فلم أزل أقفو أثره حتى قعد في رحبة

ص: 432

المسجد. فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما دلالة الإمامة يرحمك اللّه؟

قالت: فقال: «ائتيني بتلك الحصاة»، وأشار بيده إلى حصاة فأتيته بها، فطبعلي فيها بخاتمه، ثم قال لي: «يا حبابة، إذا ادعى مدع الإمامة فقدر أن يطبع كما رأيتِ، فاعلمي أنه إمام مفترض الطاعة، والإمام لا يعزب عنه شي ء يريده»(1).

الإفطار العمدي في شهر رمضان

عن محمد بن عمران، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: «أُتي أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو جالس في المسجد بالكوفة بقوم وجدوهم يأكلون بالنهار في شهر رمضان. فقال لهم أمير المؤمنين(عليه السلام): أكلتم وأنتم مفطرون؟

قالوا: نعم.

قال: أيهود أنتم؟

قالوا: لا.

قال: فنصارى؟

قالوا: لا.

قال: فعلى شي ء من هذه الأديان المخالفين للإسلام؟

قالوا: بل مسلمون.

قال: فسفر أنتم؟

قالوا: لا.

قال: فيكم علة استوجبتم الإفطار ولا نشعر بها، فإنكم أبصر بأنفسكم؛ لأن اللّه عزّ وجلّ يقول: {بَلِ الْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}(2)؟

ص: 433


1- الكافي 1: 346.
2- سورة القيامة، الآية: 14.

قالوا: بل أصبحنا ما بنا من علة!

قال: فضحك أمير المؤمنين(عليه السلام)، ثم قال: تشهدون أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمداًرسول اللّه؟

قالوا: نشهد أن لا إله إلّا اللّه ولا نعرف محمداً، قال: فإنه رسول اللّه، قالوا: لا نعرفه بذلك، إنما هو أعرابي دعا إلى نفسه.

فقال: إن أقررتم وإلّا لأقتلنكم.

قالوا: وإن فعلت.

فوكل(عليه السلام) بهم شرطة الخميس، وخرج بهم إلى الظهر ظهر الكوفة، وأمر أن يحفر حفرتين، وحفر إحداهما إلى جنب الأخرى، ثم خرق في ما بينهما كوة ضخمة شبه الخَوْخَة(1).

فقال لهم: إني واضعكم في أحد هذين القليبين، وأوقد في الأخرى النار، فأقتلكم بالدخان.

قالوا: وإن فعلت فإنما تقضي هذه الحياة الدنيا.

فوضعهم في أحد الجبين وضعاً رفيقاً، ثم أمر بالنار فأوقدت في الجب الآخر، ثم جعل يناديهم مرة بعد مرة: ما تقولون؟

فيجيبون: فاقض ما أنت قاض حتى ماتوا.

قال: ثم انصرف فسار بفعله الركبان، وتحدث به الناس، فبينما هو ذات يوم في المسجد، إذ قدم عليه يهودي من أهل يثرب، قد أقر له من في يثرب من اليهود أنه أعلمهم، وكذلك كانت آباؤه من قبل.

قال: وقدم على أمير المؤمنين(عليه السلام) في عدة من أهل بيته، فلما انتهوا إلى المسجد الأعظم بالكوفة أناخوا رواحلهم، ثم وقفوا على باب المسجد، وأرسلوا

ص: 434


1- الخَوْخَة: كوة تؤدي الضوء إلى البيت ومخترق ما بين كل دارين.

إلى أمير المؤمنين(عليه السلام): إنا قوم من اليهود قدمنا من الحجاز، ولنا إليك حاجة، فهل تخرج إلينا أم ندخل إليك؟

قال: فخرج إليهم وهو يقول: سيدخلون ويستأنفون باليمين، فما حاجتكم؟

فقال له عظيمهم: يا ابن أبي طالب، ما هذه البدعة التي أحدثت في دين محمد؟

فقال له: وأية بدعة!

فقال له اليهودي: زعم قوم من أهل الحجاز أنك عمدت إلى قوم شهدوا أن لا إله إلّا اللّه، ولم يقروا أن محمداً رسوله فقتلتهم بالدخان.

فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): فنشدتك بالتسع الآيات التي أنزلت على موسى(عليه السلام) بطور سيناء، وبحق الكنائس الخمس القدس، وبحق السمت الديان، هل تعلم أن يوشع بن نون أُتي بقوم بعد وفاة موسى شهدوا أن لا إله إلّا اللّه، ولم يقروا أن موسى(عليه السلام) رسول اللّه فقتلهم بمثل هذه القتلة؟

فقال له اليهودي: نعم، أشهد أنك ناموس موسى.

قال: ثم أخرج من قبائه كتاباً فدفعه إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، ففضه ونظر فيه وبكى.

فقال له اليهودي: ما يبكيك يا ابن أبي طالب، إنما نظرت في هذا الكتاب، وهو كتاب سرياني وأنت رجل عربي، فهل تدري ما هو؟

فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): نعم، هذا اسمي مثبت.

فقال له اليهودي: فأرني اسمك في هذا الكتاب، وأخبرني ما اسمك بالسريانية؟

قال: فأراه أمير المؤمنين اسمه في الصحيفة، وقال: اسمي إليا.

فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أن محمداً رسول اللّه، وأشهد

ص: 435

أنك وصي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأشهد أنك أولى الناس بالناس من بعد محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم). وبايعوا أمير المؤمنين، ودخل المسجد. فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): الحمد للّه الذي لم أكنعنده منسياً، الحمد للّه الذي أثبتني عنده في صحيفة الأبرار الحمد للّه ذي الجلال والإكرام»(1).

ما يكبيك؟

عن أبي بصير، عن أبي جعفر(عليه السلام)، أنه قال: «دخل علي(عليه السلام) المسجد، فاستقبله شاب وهو يبكي، وحوله قوم يسكتونه. فقال علي(عليه السلام): ما يبكيك؟

فقال: يا أمير المؤمنين، إن شريحاً قضى عليَّ بقضية ما أدري ما هي، إن هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في سفر، فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عنه، فقالوا: مات. فسألتهم عن ماله، فقالوا: ما ترك مالاً. فقدمتهم إلى شريح فاستحلفهم، وقد علمت يا أمير المؤمنين أن أبي خرج ومعه مال كثير.

فقال لهم: أمير المؤمنين(عليه السلام): ارجعوا فردهم جميعاً والفتى معهم إلى شريح. فقال له: يا شريح، كيف قضيت بين هؤلاء؟

فقال: يا أمير المؤمنين، ادعى هذا الفتى على هؤلاء النفر أنهم خرجوا في سفر وأبوه معهم، فرجعوا ولم يرجع أبوه، فسألهم عنه فقالوا: مات. فسألهم عن ماله، فقالوا: ما خلف مالاً. فقلت للفتى: هل لك بينة على ما تدعي؟ فقال: لا. فاستحلفتهم.

فقال علي(عليه السلام): يا شريح، هكذا تحكم في مثل هذا؟

فقال: كيف كان هذا يا أمير المؤمنين؟

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): لأحكمن فيهم بحكم ما حكم به إلّا داود

ص: 436


1- الكافي 4: 181.

النبي(عليه السلام)... يا قنبر، ادع لي شرطة الخميس. فدعاهم فوكل بكل واحد منهم رجلاً من الشرطة، ثم نظر أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى وجوههم. فقال: ما ذا تقولون، أ تقولون: إني لا أعلمما صنعتم بأب هذا الفتى، إني إذا لجاهل. ثم قال: فرقوهم وغطوا رؤوسهم. قال: ففرق بينهم وأقيم كل واحد منهم إلى أسطوانة من أساطين المسجد، ورؤوسهم مغطاة بثيابهم. ثم دعا عبيد اللّه بن أبي رافعٍ كاتبه، فقال: هات صحيفة ودواة، وجلس علي(عليه السلام) في مجلس القضاء، واجتمع الناس. فقال: إذا كبرت فكبروا، ثم قال للناس: أفرجوا. ثم دعا بواحد منهم فأجلسه بين يديه، وكشف عن وجهه، ثم قال لعبيد اللّه: اكتب إقراره وما يقول. ثم أقبل عليه بالسؤال، فقال: في أي يوم خرجتم من منازلكم، وأبو هذا الفتى معكم؟

فقال الرجل: في يوم كذا وكذا.

فقال: في أي شهر؟

فقال: في شهر كذا وكذا؟

فقال: في أي سنة؟

قال: في سنة كذا وكذا.

قال: وأين بلغتم من سفركم حين مات أبو هذا الفتى؟

فقال: إلى موضع كذا وكذا.

قال: في منزل من مات؟

قال: في منزل فلان بن فلان.

فقال: ما كان مرضه؟

قال: كذا وكذا.

قال: كم يوماً مرض؟

فقال: يكون في كذا وكذا يوماً.

ص: 437

قال: فمن كان يمرضه، وفي أي يوم مات، ومن غسله، وأين غسله، ومن كفنه، وبما كفنتموه، ومن صلى عليه، ومن نزل في قبره؟

فلما سأله عن جميع ما يريد كبّر علي(عليه السلام) وكبر الناس، فارتاب أولئك الباقون، ولم يشكوا أن صاحبهم قد أقر عليهم وعلى نفسه. فأمر أن يغطى رأسه، وأن ينطلق به إلى الحبس، ثم دعا بالآخر فأجلسه بين يديه، وكشف عن وجهه، ثم قال: كلا، زعمت أني لا أعلم ما صنعتم؟

فقال: يا أمير المؤمنين، ما أنا إلّا واحد من القوم، ولقد كنت كارهاً لقتله، فأقر.

ثم دعا(عليه السلام) بواحد بعد واحد فكلهم يقر بالقتل وأخذ المال، ثم رد الذي كان أمر به إلى السجن فأقر أيضاً، فألزمهم المال والدم.

فقال شريح: فكيف كان حكم داود(عليه السلام)؟

فقال: إن داود(عليه السلام) مر بغلمة يلعبون وينادون بعضهم مات الدين، فدعا منهم غلاماً، فقال: يا غلام، ما اسمك؟

فقال: اسمي مات الدين.

فقال له داود(عليه السلام): من سماك بهذا الاسم؟

فقال: أمي.

فانطلق إلى أمه، فقال لها: يا امرأة، ما اسم ابنك هذا؟

فقالت: مات الدين.

فقال لها: ومن سماه بهذا الاسم؟

قالت: أبوه.

قال: وكيف كان ذلك؟

قالت: إن أباه خرج في سفر له ومعه قومه، وهذا الصبي حمل في بطني، فانصرف القوم ولم ينصرف زوجي، فسألتهم عنه فقالوا: مات.

ص: 438

قلت: فأين ما ترك؟

قالوا: لم يخلف مالاً.فقلت: أوصاكم بوصية؟

فقالوا: نعم، زعم أنك حبلى، فما ولدتِ من ولد ذكر أو أنثى فسميه مات الدين، فسميته.

فقال: وتعرفين القوم الذين كانوا خرجوا مع زوجك؟

قالت: نعم.

قال: فأحياء هم أم أموات؟

فقالت: بل أحياء.

قال: فانطلقي بنا إليهم.

ثم مضى معها فاستخرجهم من منازلهم، فحكم بينهم بهذا الحكم، فثبت عليهم المال والدم. ثم قال للمرأة: سمي ابنكِ عاش الدين.

ثم إن الفتى والقوم اختلفوا في مال أبي الفتى كم كان، فأخذ علي(عليه السلام) خاتمه وجمع خواتيم عدة، ثم قال: أجيلوا هذه السهام، فأيكم أخرج خاتمي فهو الصادق في دعواه؛ لأنه سهم اللّه عزّ وجلّ وهو لا يخيب»(1).

هذا أخي خضر(عليه السلام)

عن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن أمير المؤمنين(عليهما السلام): «كان في مسجد الكوفة يوماً فلما جنه الليل أقبل رجل من باب الفيل عليه ثياب بيض، فجاء الحرس وشرطة الخميس. فقال لهم أمير المؤمنين: ما تريدون؟

ص: 439


1- تهذيب الأحكام 6: 316.

فقالوا: رأينا هذا الرجل أقبل إلينا، فخشينا أن يغتالك.

فقال: كلا، انصرفوا رحمكم اللّه، أتحفظوني من أهل الأرض، فمن يحفظني من أهل السماء.ومكث الرجل عنده ملياً يسأله، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد ألبستَ الخلافة بهاء وزينة وكمالاً ولم تلبسك! ولقد افتقرت إليك أمة محمد وما افتقرت إليها! ولقد تقدمك قوم وجلسوا مجلسك فعذابهم على اللّه! وإنك لزاهد في الدنيا وعظيم في السماوات والأرض، وإن لك في الآخرة لمواقف كثيرة تقر بها عيون شيعتك، وإنك لسيد الأوصياء، وأخوك سيد الأنبياء، ثم ذكر الأئمة الاثني عشر. فانصرف، وأقبل أمير المؤمنين على الحسن والحسين(عليهما السلام)، فقال: تعرفانه؟

قالا: ومن هو يا أمير المؤمنين؟

قال: هذا أخي الخضر(عليه السلام)»(1).

ابن معز وابن نعج

عن عبد اللّه بن أسيد الكندي، وكان من شرطة الخميس، عن أبيه، قال: إني لجالس مع الناس عند علي(عليه السلام) إذ جاء ابن معز وابن نعج معهما عبد اللّه بن وهب، قد جعلا في حلقه ثوباً يجرانه. فقالا: يا أمير المؤمنين، اقتله ولا تداهن الكذابين.

قال: «ادنه».

فدنا، فقال لهما: «فما يقول؟».

قالا: يزعم أنك دابة الأرض، وأنك تُضرب على هذا قُبيل هذا - يعنون رأسه إلى لحيته - .

ص: 440


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 247.

فقال: «ما يقول هؤلاء؟».

قال: يا أمير المؤمنين، حدثتهم حديثاً حدثنيه عمار بن ياسر.

قال: «اتركوه فقد روى عن غيره، يا ابن أم السوداء إنك تبقر الحديث بقراً خلواسبيل الرجل؛ فإن يك كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصيبني الذي يقول»(1).

وفي الختام

وفي الختام أسأل اللّه عزّ وجلّ أن يوفقكم لمرضاته، ويجنبكم ما يسخطه، ويجعلكم سببا لأمن البلاد، وخدمة العباد.

وأذكر بضرورة الالتزام بما تقدم من الأمور الأربعة: (ذكر اللّه عزّ وجلّ دائماً، وذكر الموت دائماً، ومزيد من التوعية والثقافة، وخدمة الناس).

كما عليكم أيضاً أن تبينوا هذا الأمور لسائر زملائكم، فإن مسؤوليتكم كبيرة، وهذا السلاح الذي هو اليوم بأيدكم أمانة اللّه لأجل خدمة الناس، لأجل العدالة والإيمان، لأجل الفضيلة والخير، لأجل التقوى والعمل الصالح، لأجل الحفاظ على الأمن والاستقرار، لا لأجل الظلم والتكبر.

ص: 441


1- بحار الأنوار 53: 108.

مع الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) والتغيير في العراق

مظلومية أهل البيت(عليهم السلام)

اشارة

إن أهل البيت المعصومين(عليهم السلام) هم أكثر من وقع عليهم الظلم بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، قال الإمام الباقر(عليه السلام): «لما نزلت هذه الآية {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِ بِإِمَٰمِهِمْ}(1) قال المسلمون: يا رسول اللّه، ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟

قال: فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنا رسول اللّه إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من اللّه من أهل بيتي يقومون في الناس فيُكَذَّبون ويَظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني، ألّا ومن ظلمهم وكذَّبهم فليس مني ولا معي وأنا منه بريء»(2).

ومن هؤلاء العترة الطاهرة المظلومة مولانا الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) حيث قضى أكثر من عشر سنوات(3) في سجون بني العباس المظلمة، وتحت التعذيب القاسي حتى قضى نحبه مسموماً في سجن هارون ببغداد.

وقد ورد في زيارته(عليه السلام):

ص: 442


1- سورة الإسراء، الآية: 71.
2- الكافي 1: 215.
3- انظر بحار الأنوار 48: 206.

«اللّهم صلّ على محمد وأهل بيته، وصلّ على موسى بن جعفر وصي الأبرار، وإمام الأخيار، وعيبة الأنوار، ووارث السكينة والوقار، والحكم والآثار... المضطهد بالظُلم، والمقبور بالجور، والمعذَّب في قعر السجون وظُلَم المطامير، ذي الساق المرضوض بحلق القيود، والجنازة المنادى عليها بذُل الاستخفاف، والوارد على جده المصطفى وأبيه المرتضى وأمه سيدة النساء، بإرث مغصوب، وولاء مسلوب، وأمر مغلوب، ودم مطلوب، وسم مشروب. اللّهم وكما صبر على غيظ المحن، وتجرع فيك غصص الكرب، واستسلم لرضاك، وأخلص الطاعة لك، ومحض الخشوع، واستشعر الخضوع، وعادى البدعة وأهلها، ولم يلحقه في شيء من أوامرك ونواهيك لومة لائم، صلّ عليه صلاة نامية منيفة زاكية، توجب له بها شفاعة أمم من خلقك، وقرون من براياك...»(1).

والسؤال هو: لماذا جرى هذا الظلم الكبير على الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، مع أن الكل كانوا يعرفون ويعترفون بفضله وعلمه وزهده وتقواه وورعه، وأنه ابن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مضافاً إلى كونه حجة اللّه على الخلق، وأنه من أئمة المسلمين بنص رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد كان الشيعة آنذاك بكثرة في بغداد، وسائر المسلمين من غير الشيعة أيضاً كانوا يعلمون بعظيم منزلة الإمام(عليه السلام)، فلماذا هذه الظلامات؟

في الجواب نقول: إن أبناء الأمة الإسلامية سكتوا على ظلم الظلمة، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخذ كل واحد منهم يفكر في مصلحته الشخصية، مضافاً إلى أن البعض منهم تركوا عترة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذين وصى بهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فاجترأ طغاة العصر على ظلمهم وسفك دمائهم بالسيف والسم،

ص: 443


1- بحار الأنوار 99: 17.

ومنهم الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) الذي بقي مسجوناً حتى قضى نحبه مسموماً شهيداً فيسجن هارون العباسي.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الأئمة الطاهرين(عليهم السلام).

وهكذا الأمر بالنسبة إلى شيعتهم المظلومين إلى يومنا هذا.

علماء السنة يعترفون بفضل الإمام(عليه السلام)

قال الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد):

(كان موسى بن جعفر(عليهما السلام) يُدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده، روى أصحابنا أنه(عليه السلام) دخل مسجد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسجد سجدة في أول الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: «عظم الذنب عندي فليحسن العفو عندك، يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة»، فجعل يردّدها حتّى أصبح)(1).

وقال محمد بن طلحة الشافعي في كتابه (مطالب السؤول):

(أبو الحسن موسى بن جعفر الكاظم(عليهما السلام) هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، المجتهد الجاد في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهور بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار مُتصدقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دُعي كاظماً، كان يجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته كان يسمّى بالعبد الصالح، ويعرف في العراق باب الحوائج إلى اللّه، لنجح مطالب المتوسّلين إلى اللّه تعالى به، كرامته تحار منها العقول، وتقضي بأن له عند اللّه تعالى قدم صدق لا تزلّ ولا تزول... وكان له ألقاب كثيرة: الكاظم وهو أشهرها، والصابر، والصالح، والأمين...

ص: 444


1- تاريخ بغداد 13: 29.

ثم يذكر بعض كراماته ويقول: فهذه الكرامات العالية الأقدار، الخارقة العوائدهي على التحقيق جلّية المناقب، وزينة المزايا، وغرر الصفات، ولا يؤتاها إلّا من فاضت عليه العناية الربّانية، وأنوار التأييد، ومرّت له أخلاف التوفيق، وأزلفته من مقام التقديس والتطهير، وما يلقّاها إلّا ذو حظّ عظيم)(1).

وقال ابن الصباغ المالكي في (الفصول المهمة):

(الكاظم هو الإمام الكبير القدر، والأوحد الحجة الحبر، الساهر ليله قائماً، القاطع نهاره صائماً، المسمّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظماً، وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج إلى اللّه، وذلك لنجح قضاء حوائج المسلمين... وكان موسى الكاظم(عليه السلام) أعبد أهل زمانه، وأعلمهم، وأسخاهم كفّاً، وأكرمهم نفساً، وكان يتفقّد فقراء المدينة في الليل ويحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم والنفقات، ولا يعلمون من أيّ جهة وصلهم ذلك، ولم يعلموا بذلكَ إلّا بعد موته(عليه السلام)، وكان كثيراً ما يدعو: «اللّهمَّ إنّي أسْألُكَ الراحة عنْدَ الموْت، والعفْوَ عندَ الحِساب»)(2).

وقال الرشدي الدمشقي في (الروضة الندية):

(الإمام موسى الكاظم أبو إبراهيم، كان يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدّقاً وصائماً، حليماً يتجاوز عن المعتدين عليه، كريماً يقابل المسيء بالإحسان إليه ولذا لقّب بالكاظم، ولكثرة عبادته سمّي بالعبد الصالح، ويعرف في العراق بباب الحوائج إلى اللّه تعالى لنجح المتوسّلين به إليه سبحانه، عباداته مشهورة، تقضي بأن له قدم صدق عند اللّه لا يزول، وكراماته مشهورة تحار منها

ص: 445


1- مطالب السؤول: 446-451.
2- الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 931-949.

العقول)(1).

هارون العباسي يعترف بإمامته(عليه السلام)

روى الشيخ سليمان القندوزي في (ينابيع المودّة)(2)

عن (فصل الخطاب) لخواجة بارسا البخاري، قال:

(روى المأمون، عن أبيه الرشيد، أنّه قال لبنيه في حقّ موسى الكاظم(عليه السلام): هذا إمام الناس، وحجّة اللّه على خلقه، وخليفته على عباده، أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وإنه واللّه لأحقّ بمقام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مني ومن الخلق جميعاً، وواللّه لو نازعني في هذا الأمر لآخذنّ بالذي فيه عيناه، فإنّ الملك عقيم.

وقال الرشيد للمأمون: يا بُنيّ، هذا وارث علم النبيين، هذا موسى بن جعفر(عليهما السلام) إن أردت العلم الصحيح تجده عند هذا).

إلى غير ذلك مما هو كثير.

قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(3).

الدنيا دار العمل

قال مولانا الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام): «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة»(4).

إن الدنيا كانت وما زالت محلاً للعمل، يعني إن اللّه تبارك وتعالى خلق الدنيا

ص: 446


1- الروضة الندية: 11 طبع مصر نقلاً عن شرح إحقاق الحق 12: 305.
2- ينابيع المودة: 3: 165.
3- سورة النمل، الآية: 14.
4- كشف الغمة 2: 252.

هكذا، فكل من يعمل ويسعى فيها يتقدم، وكل من لا يعمل ولا يسعى فيها لا يتقدم بل يتأخر، وهذه هي السنة الكونية والقاعدة العامة للدنيا.

قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ}(1).

وفي آية أخرى: {إِنَّا عَٰمِلُونَ}(2).

وهذا من الضروريات والبديهيات التي يجدها الإنسان من نفسه، حيث يرى مكانة العامل وتقدمه في الحياة، بخلاف الكسول والذي لا يعمل.

فكل فرد يعمل ويسعى أكثر، يكون هو المتقدم أكثر، وكل جماعة تعمل وتسعى أكثر تكون هي المتقدمة أكثر، وكذلك كل أمة تعمل وتسعى أكثر تكون هي المتقدمة أكثر.

ولا فرق في متعلق سعي الإنسان سواء كان عملياً أم علمياً من هذه الناحية.

تقدم المسلمين الأوائل

في يوم ما كان المسلمون يعملون بجدّ فأصبحوا حينذاك سادة الدنيا، وفي يوم آخر أصبح الآخرون يعملون بجدّ فغدوا سادة الدنيا، أما المسلمون اليوم فليسوا سادة لأنهم تركوا العمل، وواقع الحال يشهد بأن سادة الدنيا الآن هم الآخرون.

والسر في ذلك هو: العمل واللاعمل، فيوم كان المسلمون يعملون أصبحوا السادة في الدنيا، ويوم أخذ الآخرون يعملون أصبحوا هم السادة في الدنيا.

السكوت القاتل

نحن نعلم جميعاً بأن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) قد فارق الدنيا مسموماً

ص: 447


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- سورة هود، الآية: 121.

شهيداً في سجون بني العباس، وقد كان هارون العباسي أمر شخصاً يدعى السندي بن شاهك(1) - وكان يهودياً على القول المشهور - أن يسجن الإمام(عليه السلام) ويضيق عليه ويعذبه إلى أن أمره بقتل الإمام(عليه السلام) بالسم.

وهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا تمكن هارون من هذا الظلم الكبير؟

الجواب: لأن قسماً كبيراً من الناس تركوا أهل البيت(عليهم السلام) ولم يعملوا بوصية النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أهل بيته الطاهرين.

وكذلك الشيعة في بغداد، فإن بغداد كانت معروفة بالتشيع ومليئة بالشيعة، ولكن الشيعة أنفسهم كانوا متقاعسين ولا يعملون.

فلم نسمع أو نقرأ بأن الشيعة في بغداد أو غيرهم من المسلمين اجتمعوا يوماً لإنقاذ الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، كما لم يردنا أنهم ذهبوا إلى هارون أو السندي بن شاهك ليكلموه ويضغطوا عليه لصده عن ظلم الإمام(عليه السلام).

نعم، إن الظالم إنما يتسلط على الأبرياء وعلى الأخيار بتقاعس الناس وترك العمل، فإذا ترك الناس العمل الصالح سُلطت عليهم الظلمة والأشرار ثم يدعون فلا يُستجاب لهم، كما تذكر الرواية الشريفة الواردة عن أمير المؤمنين(عليه السلام)(2).

فقد كان الجميع آنذاك مشغولاً بكسبه وتجارته، يخرج من بيته ويذهب إلى محل عمله أو مزرعته ثم يعود إليه، من دون أن يفكر في موضوع الإمامة وظلم الحكام وقضايا الأمة.

نادِ في القوم

ربما يقول البعض - فراراً عن العمل - : ما قيمتي وما أثر عملي، أنا فرد واحد

ص: 448


1- هو الجلاد وصاحب شرطة وحرس هارون العباسي.
2- انظر تهذيب الأحكام 6: 177.

لا أتمكن من التغيير والتأثير... لا قدرة لي... لا يوجد عندي المال الكافي، وما أشبه من الأعذار.

إن هذه الكلمات كلمات غير منطقية، فكل إنسان يستطيع القيام بأعمال كثيرة وكبيرة ومؤثرة، كل بحسبه.

في قصة حنين حيث ورد ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}(1) دروس وعبر كثيرة.

فحنين اسمُ وادٍ تحيط به الجبال وهو قريب من (أوطاس) وكان به وقعة حنين، وهو موجود الآن، ومن المناسب أن يزوره الإنسان وخاصة عندما يتشرف بالحج، ليرى كيف كانت معركة حنين وفرار المسلمين وموقف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

لقد بقي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في يوم حنين وحيداً بعدما فرّ المسلمون عنه والقصة مشهورة مذكورة في التواريخ، حيث انهزم المسلمون بالرغم من تعدادهم البالغ اثني عشر ألف مقاتل، ولم يبق مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلّا العباس وأمير المؤمنين(عليه السلام) وتسعة من أبناء العباس وشخص آخر، يعني لم يصمد مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سوى اثني عشر شخصاً فقط، بينما هرب الجميع، ولما شاهد الكفار هروب المسلمين هجموا على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليقتلوه وكان تعدادهم ثلاثين ألفاً، فقال الكفار: لنقض عليه الآن. ولهذا ورد اسم حنين في القرآن؛ لأن القصة مهمة جداً.

فنظر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حوله فرأى أمير المؤمنين(عليه السلام) منهمكاً بالمبارزة والدفاع عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قصة مفصلة مذكورة في محلها، كما أحاط أبناء العباس بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهم عبد اللّه وعبيد اللّه والفضل وقثم و...، وكان العباس عم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجلاً جهورياًصيتاً، فنظر إليه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وناداه: «نادِ في القوم

ص: 449


1- سورة التوبة، الآية: 25.

وذكرهم العهد»(1).

وقد ورد في كُتب الزيارة: في زيارات أمير المؤمنين(عليه السلام): «وَعَمُّكَ الْعَبّاسُ يُنادِي الْمُنْهَزِمينَ: يا أَصْحابَ سورَةِ الْبُقَرَةِ، يا أَهْلَ بَيْعَةِ الشَّجَرَةِ»(2).

فأخذ العباس ينادي فيهم، فاجتمع المسلمون مرة أخرى وتمكن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من لمِّهم والانتصار بهم على المشركين، والقصة مفصلة(3).

إن «نادِ في القوم» تعتبر مسألة مهمة. فليس من الصحيح أن يقول الشخص: أنا لا أقدر على أي شيء، فيترك العمل، ربما يمكن أن يساهم بصوته، كما أن العباس(عليه السلام) أخذ ينصر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بصوته.

إذن، الدنيا دار عمل ولكل عمل أثر، فللصوت، للكلام، للكتابة، للدعاء، للبكاء، ولكل شيء أثر.

ومن هنا تكون المسؤولية الملقاة على عواتقنا كبيرة.

وخاصة بالنسبة إلى واجباتنا تجاه أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ومنهم مولانا الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام). وهذا الظلم الكبير الذي وقع على أهل البيت(عليهم السلام) كان من أهم أسبابه تخاذل الناس وعدم تحملهم وأدائهم للمسؤولية. واليوم يلزم على كل واحد منا أن يساهم في نشر علوم أهل البيت(عليهم السلام) في العالم.

العراق وحكومة الأكثرية

ما ذكرناه كان كالمقدمة للبحث.

والحديث حول العراق ودور الشيعة فيه.

إن الأكثرية من سكان العراق هم الشيعة، وقد قال مدير عام نفوس العراق قبل

ص: 450


1- الإرشاد 1: 142.
2- المزار الكبير: 274.
3- انظر تفسير القمي 1: 285؛ والإرشاد 1: 142.

خمس وعشرين سنة: إن (80%) من سكان العراق هم الشيعة، وأن (15%) سنة، وأن (5%) ما بين يهودي ومسيحي وصابئي وعلي اللّهي ويزيدي وغيرهم.

ولكن الشيعة ليس بيدهم أي شيء، بل هم المظلومون المستضعفون في العراق، والحكم الدكتاتوري الطائفي يفعل فيهم ما يشاء من التهجير والتشريد والسجن ومصادرة الأموال والقتل...

ومن أسباب ذلك أن الشيعة لم يعملوا.

أما السنة فقبل سبعين سنة تعلموا كيف يترأسون على الناس، عندها طبّعوا البلد كله بطابع السنة.

والآن كما هو المشهور بين الساسة بأن صدام وجماعته قد آلوا على الزوال، وأن نفس الغربيين الذين جاءوا بهم يريدون تغييرهم.

وعلينا أن نعمل بكل طاقاتنا لإرجاع حقوق الشيعة في العراق، فيلزم أن تكون الإذاعة إذاعة شيعية، والأذان أذاناً شيعياً، والتلفزيون تلفزيوناً شيعياً، والمحافظون محافظين شيعة، والكتب المدرسية كتباً شيعية، والمدراء العامون شيعة، وهكذا في كل مجالات الحياة السياسية وغيرها، وهذا معناه أن يكون العراق شيعياً، وذلك لأنه الحق الطبيعي للأكثرية التي تشكل (80%) من السكان.

فإن قال البعض: بأن الشيعة أقل من ذلك.

نقول، لو سلمنا بأنهم (70%) من الشعب العراقي، فأيضاً هم الأكثرية ويلزم أن تكون الحكومة شيعية، حسب قانون الإسلام، وقانون الدول المسماة بالديمقراطية.

فإن الدنيا والقوانين الديمقراطية تقر بأن الرأي هو رأي الأكثرية، فإذا ما حصل خلاف في مجلس الشورى فيعمل بما تقول به الأكثرية، فالقاعدة هذه وقوانين

ص: 451

الدنيا كذلك. وبما أن أكثرية العراق هم الشيعة فيلزم أن تكون حكومة العراق حكومة شيعية.

مسؤولية الجميع

فالكل يمكن أن يساهم في إحقاق حقوق الشيعة في العراق، أقل شيء هو صوتك ونطقك وكلامك، فإن العراق عندما يكون بأيدي السنة فإنه يعني تضييع حقوق الشيعة الأكثيرة، وخاصة مع الأسلوب الاستبدادي الطائفي الذي يواجهون به الشعب الشيعي المسلم.

فلا يقولن أحدكم: إنني الآن خرجت من العراق وسكنت في قم أو في بلدة أخرى من البلاد الإسلامة وغيرها ولا أريد العودة إلى وطني. فهذا لا يكون عذراً، فإن الذي يقبع الآن في قعر السجون أما ابن عمك أو ابن عمي، والآن يوجد مائتان وخمسون عالماً بارزاً من علماء العراق في سجون صدام.

لماذا تُحرم الأكثرية من حقوقها، ومن المسلّم الذي يعترف به الجميع أن أكثرية العراق هم الشيعة، ونحن لدينا الأرقام الواضحة الدالة على ذلك، فإن أكثر مدن العراق يقطنها الشيعة. فالنجف الأشرف سكانها شيعة، وكربلاء المقدسة سكانها شيعة، والحلة سكانها شيعة، والبصرة سكانها شيعة، والعمارة سكانها شيعة، وهكذا أغلب سكان المدن هم الشيعة، وحتى أن سكان بغداد أكثرهم شيعة، أي أكثر من (80%) منهم.

مزارات السنة في بغداد

في بغداد يوجد مزاران للسنة:

الأول: مزار إمامهم الأعظم أبي حنيفة وهو عبارة عن مدرسة ملتصقة بقبر أبي حنيفة.

ص: 452

الثاني: مزار الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو رئيس المتصوفين، ويسمونه ب(شال اللّه)، وقد كتبوا على قبره شعراً قرأته بنفسي، بأن والده من نسل الإمام الحسن(عليه السلام)، ووالدته من نسل الإمام الحسين(عليه السلام)، وأنه صحيح النسبين!

أما وجه تسميته ب(شال اللّه)، فإنهم يقولون: بأن عبد القادر كان يمشي في أحد الأيام على النهر فرأى اللّه - والعياذ باللّه - قد سقط في النهر ولم يتمكن من الخروج، فمد عبد القادر يده وأخرج اللّه من النهر، ولهذا يقال له: شال اللّه.

عقيدة التجسيم عند السنة

ويأتي إعتقاد السنة بمثل هذا الكلام؛ لأنهم يعتقدون بالتجسيم، يعني أن السنة يعتقدون بأن اللّه جسم، له يد ورجل و... كما أن النصارى أيضاً يعتقدون بمثل هذا. فقد جاء في كتبهم المقدسة - كما قرأته بنفسي - بأن نبي اللّه يعقوب(عليه السلام) كان في خيمته فقصده شخص، فقال له: أ تصارعني؟ فقال: نعم. فتصارعا إلى الصباح فلم يتمكن يعقوب من إلقائه أرضاً ولا هو تمكن من إلقاء يعقوب أرضاً. وعند طلوع الفجر قال ذلك الشخص ليعقوب: دعني، فأنا أريد أن أذهب لإدارة السماوات والأرض. فقال له يعقوب: ومن أنت؟ قال: أنا اللّه. فتعلق به يعقوب وقال له: لن أدعك حتى تجعلني نبياً. فأعطاه النبوة(1)!

وسنذكر بعض الشواهد مما يدل على اعتقاد السنة بالتجسيم:

قال النووي في شرح مسلم(2):

(باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربهم... إن مذهب أهل السنة أن رؤية اللّه ممكنة... وزعمت طائفة من أهل البدع المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن اللّه تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن

ص: 453


1- انظر العهد القديم والجديد 1: 54 سفر التكوين الإصحاح: 32، الآيات: 22-30، مجمع الكنائس الشرقية، الطبعة الثانية، بيروت - لبنان.
2- شرح صحيح مسلم 3: 15.

رؤيته مستحيلة عقلاً).

وقال الشاطبي في الإعتصام(1): (ومنها ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم... كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية اللّه عزّ وجلّ في الآخرة، وكذلك حديث الذباب وقتله، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء!).

وحكى الذهبي في سيره(2) قال: (من لم يقر بأن اللّه تعالى يعجب ويضحك وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: من يسألني فأعطيه، فهو زنديق كافر، يستتاب فإن تاب وإلّا ضربت عنقه!، ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين! قلت: لا يكفر إلّا إن علم أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قاله، فإن جحد بعد ذلك فهذا معاند، نسأل اللّه الهدى، وإن اعترف أن هذا حق ولكن قال: أخوض في معانيه فقد أحسن، وإن آمن وأول ذلك كله أو تأول بعضه، فهو طريقة معروفة).

وقال الذهبي في سيره(3):

(قال حفص بن عبد اللّه: سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: واللّه الذي لا إله إلّا هو لقد رأى محمد ربه... وقال أبوحاتم: شيخان بخراسان مرجئان: أبوحمزة السكري وإبراهيم بن طهمان وهما ثقتان. وقال أبو زرعة: كنت عند أحمد بن حنبل فذكر إبراهيم بن طهمان وكان متكئاً من علة فجلس وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فيتكأ. وقال أحمد: كان مرجئاً شديداً على الجهمية).

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ(4):(وقال أحمد بن سلمة: سمعت إسحاق بن

ص: 454


1- الإعتصام 1: 168.
2- سير أعلام النبلاء 14: 396.
3- سير أعلام النبلاء 7: 381.
4- تذكرة الحفاظ 2: 435.

راهويه يقول: جمعني وهذا المبتدع ابن أبي صالح مجلس الأمير عبد اللّه بن طاهر فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها، فقال ابن أبي صالح: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء! فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء. هذه حكاية صحيحة رواها البيهقي في الأسماء والصفات. قال البخاري: مات ليلة نصف شعبان سنة ثمان وثلاثين ومائتين وله سبع وسبعون سنة).

وقال الدميري في حياة الحيوان(1):

(واختلف في جواز الرؤية فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة، وأكثر أهل السنة والسلف على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة).

إلى غيرها مما هو مذكور في كتب الكلام.

بغداد مدينة الشيعة

إن بغداد هي مدينة الشيعة، والشيعة هم سكانها، ونحن على علم بمناطق بغداد كافة، فواحدة منها هي (الثورة)(2) جميع سكانها شيعة، ومنطقة أخرى تدعى (الشُعلة) جميع سكانها شيعة، ومنطقة أخرى تدعى (قناة الجيش) جميع سكانها شيعة، ومنطقة أخرى تدعى (بغداد الجديدة) جميع سكانها شيعة، ومنطقة أخرى تدعى (الكرادة الشرقية) جميع سكانها شيعة، إلى غيرها من المناطق الكثيرة. ولكن بعض المناطق القليلة في بغداد سكانها سنة مثل منطقة (الأعظمية) مع العلم بأن الكثير من سكانها شيعة أيضاً.

مع ذلك فإن السنة الأقلية في العراق وهم (15%) فقط، تسلطوا على الأكثري، وأخذوا يديرون البلاد بالظلم والجور والاستبداد وأبشع أنواع الطائفيةوصورها،

ص: 455


1- حياة الحيوان 2: 206.
2- وتسمى اليوم بمدينة الصدر بعد زوال النظام الصدامي البائد.

فيقتلون ويعذبون ويطردون العالم والجاهل، والكبير والصغير، والرجل والمرأة.

التغيير المترقب

حسب ما يبدو أن هناك تغييراً سيحصل في العراق، فيلزم على الشيعة المطالبة الجادة بحقوقهم لأنهم الأكثرية، فإذا كانت الحكومة بيد الشيعة فمعنى ذلك حرية العتبات المقدسة، والحوزات العلمية، وحرية الزيارة، وحرية العلماء، وحرية صلة الأرحام، وحرية الشعائر الحسينية وما إلى ذلك.

أما إذا لم تصبح الحكومة بأيدي الشيعة فإن أل- (15%) من السنة هم الذين سيتسلطون مرة أخرى وتعاد المأساة من جديد.

إبعاد المراجع من العراق

إن حكومة الأقلية وهضمها لحقوق الشيعة في العراق لم تكن في زمن صدام فقط، نعم الضغوط كانت في زمنه أشد، وإلّا فإن أول حكومة السنة عندما تشكلت في العراق قبل سبعين عاماً كانت حكومة فيصل(1)، وأول عمل قامت به هو إبعاد مراجع الشيعة إلى إيران، وكان منهم السيد أبو الحسن، والميرزا النائيني، والسيد عبد الحسين حجت، والسيد علي الطباطبائي (رضوان اللّه عليهم).

وقد استأجر الشيخ عبد الكريم اليزدي(رحمه اللّه)، نفس المنزل الذي نزل فيه السيد البروجردي(رحمه اللّه) في ما بعد، فجاء مراجع التقليد من العراق وسكنوا هذا البيت.

فالضغوط على الشيعة وحوزاتها العلمية ومراجعها بدأت من أول حكومة للأقلية في العراق إلى أن وصل الأمر إلى صدام.

لا تنخدعوا

ربما يقولون: نحن إخوة ولا فرق بين الشيعي والسني، وذلك في محاولة منهم

ص: 456


1- أبو غازي، فيصل بن الحسين بن علي الحسني الهاشمي، ملك العراق.

لإعطاء الحكم إلى الأقلية من جديد.

ولكن علينا أن لا ننخدع بذلك، نعم نحن لا ندعو إلى النزاع والطائفية، ولكن الأخوّة لا تعني أن الأخ يهضم حق أخيه، وخاصة ما يرتبط بحق الأكثرية.

العراق يلزم أن تحكمه الأكثرية الشيعية، وفي نفس الوقت نحن لا نقول بتضييع أي حق من حقوق الأقلية السنية، فالعراق فيه بعض المدن الصغيرة السنية كتكريت وغيرها - مع وجود الشيعة فيها أيضاً بنسبة ملحوظة - فليكن المحافظ ومن أشبه في هذه المدن سنياً. وهكذا بالنسبة إلى سائر أمور هذه المدن، كالتعليم والتربية والقضاء وغيرها.

وقد ذهبت أنا شخصياً إلى تكريت، وذلك عندما أبعدوا إليها أحد أصدقائنا قبل ثلاثين عاماً فذهبت لزيارته هناك، يومها لم تكن تكريت سوى قرية صغيرة، كما لم تكن شوارعها مبلطة، ولم تصلها خدمات الماء ولا الكهرباء، كما لم تعرف خدمة الهاتف مطلقاً، وكانت أزقتها ترابية. حتى عندما ذهبت إلى هناك في منزل صديقنا، وبالرغم من نزوله في بيت شخص قد أبعد أيضاً فقد جاءوا لنا بمدفأة نفطية مما يظهر فقرهم وفاقتهم المادية.

وهكذا يكون حال سائر القرى والمدن السنية: هيت، عانة، كبيسة، جبة.

فالمعيار {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}(1) كما في الآية الكريمة.

رعاية حقوق الأقلية

إن السنة في العراق هم الأقلية، ولكن إذا كانت الحكومة بأيدي الشيعة الأكثرية فهذا لا يعني أن تُهضم حق السنة، بل يُضمن لهم كامل حقوقهم،فترسل إلى تكريت وهيت وعانة وما أشبه محافظ وقائم مقام من السنة، وكذلك

ص: 457


1- سورة البقرة، الآية: 279.

بالنسبة إلى قضاتهم وكتبهم المدرسية، وإذاعتهم وكلامهم وحرياتهم فلا مانع لدينا من ذلك. فإنا لا نريد أن نهضم حقهم.

فيلزم أن يراعى حق الأكثرية، وهذا هو قانون الإسلام، وقانون الديمقراطية اليوم، حيث تعطي الحق للأكثرية في تشكيل الحكومة.

يبقى الكلام في مسؤولية كل واحد منا تجاه هذه المسألة وهي ضرورة حكومة الأكثرية في العراق.

فما هو دورنا في هذا المجال؟

فعلى كل واحد أن يعمل بقدر طاقته، حتى من لا يقدر إلّا على الكلام؛ عليه أن يؤدي دوره بالكلام، فإن قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعمه العباس: «نادِ في القوم وذكرهم العهد»(1) يدل على ضرورة الاستفادة حتى من الصوت والكلام.

فلو أن شيعة بغداد في زمان الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) قاموا بواجبهم في الدفاع عن الإمام(عليه السلام)، وقاموا بتظاهرات وضغوط على الحكومة الظالمة، لم يتمكن هارون من حبس الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، وإذا ما حبسه فكان يطلق سراحه من السجن بسرعة، ولكن أحداً لم يتكلم أبداً.

محاربة الحجاب في إيران

إن للكلام أثراً بالغاً في المجتمع، سواء كان حقاً أم باطلاً.

أحد شعراء إيران ويدعى إيرج ميرزا(2) كان بذيء اللسان فاحشاً، له شعر في ترويج السفور والاختلاط وعدم الحجاب، يقول ما معناه:

علينا أن نحث الناس على عدم الحجاب، فنطرح هنا وهناك فكرة السفور،

ص: 458


1- الإرشاد 1: 142.
2- جلال الممالك ابن غلام حسين المولود بتبريز في شهر رمضان 1291ه، والمتوفى بطهران في شهر شعبان 1344ه .

وشيئاً فشيئاً يسري هذا الكلام في الناس، وبذلك ينكشف وجوه الفتيات(1).

وكان هذا قبل زمان البهلوي(2).

فعندما يطرح في المجتمع فكرة السفور، ترى المؤمنين يحاربونها ويخالفونها، أما الفساق فيرحبون بها، ثم البعض يخالف والبعض يؤيد، فتتهيأ الأرضية لتلك الفكرة.

نعم، إن للكلام والشعار والكلمة تأثيراً كبيراً في المجتمع. سواء أريد بها الحق أم الباطل. ومن هنا نرى تأثير الدعايات البالغ في المجتمع.

أهمية القلم والبيان

إن للكلمة والكلام أهمية خاصة، وكذلك الكتابة، وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية أيضاً.

لقد طالعت الكتب الموجودة الآن والتي يدعى بأنها سماوية، وهي التوراة والإنجيل - وقد أصبحت محرّفة، وبقي القرآن فقط كما أنزله اللّه تعالى من غير تغيير ولا زيادة ولا نقصان وسيبقى كذلك إلى يوم القيامة - كما قرأت كتاب كونفوشيوس(3) والذي كان حكيماً ويبلغ عدد أتباعه خمسمائة مليون شخص في العالم.

ص: 459


1- وأصل الشعر بالفارسية: كم كم اين زمزمة آغاز شود *** بهمين زمزمه روي زنان باز شود
2- رضا خان المعروف بالبهلوي الأول.
3- وهو عبارة عن مجموعة من الأخلاقيات أكدت على المحبة واللياقة والفضيلة والطاعة البنوية والولاء العائلي ونادت بالعدالة والسلام العالمي، تكلم بها كونفوشيوس إلى أتباعه، والتي أصبحت في ما ديناً وفلسفة ونهج حياة عرفت بالكونفوشيوسية، والتي ظلت ألفي عام مصدر هداية ومعرفة للشعب الصيني، وأساس البنية الاجتماعية والتربوية والإدارية التي ميزته عبر العصور. وقد تركت الكونفوشيوسية أثرها العميق في ثقافة الطاويين والبوذيين والمسيحيين الصينيين.

وكذلك طالعت كتاب بوذا، فالبوذيون لديهم كتاب. وكل هذه الكتب تؤكد على أهمية القلم والبيان بشكل أو آخر.

طبعاً لا يكون التأكيد فيها بمثل ما ورد في قرآننا، حيث يحتوي على سورة باسم (القلم) قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}(1)، وهناك سورة أخرى تؤكد على القراءة والكلمة والكلام، حيث قال تعالى في سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}(2) وهي أول آية نزلت بعد {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} على القول المشهور، و{اقْرَأْ} يعني الكلام.

وقال سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ}(3)، {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}(4).

وهكذا نجد في التوراة عبارة: (في البدء كانت الكلمة)(5)، يعني أن الكلام كان قبل كل شيء.

الكلمة مسؤولية الجميع

الكلمة هي أول ما يطلقها الشخص الذي يريد الخير كالذي يريد أن يبني مسجداً. كما أن الكلمة هي أول ما يطلقها الشخص الذي يريد الشر كمن يريد أن ينشر الخمور.

ومن هنا يلزم على كل واحد منا أن يساهم - على أقل التقادير - بكلمته، حيثيؤكد دائماً وفي كل مكان، على ضرورة أن تكون الحكومة المستقبلية في العراق

ص: 460


1- سورة القلم، الآية: 1.
2- سورة العلق، الآية: 1.
3- سورة إبراهيم، الآية: 24.
4- سورة إبراهيم، الآية: 26.
5- العهد القديم والجديد 2: 145 إنجيل يوحنا، الإصحاح: 1، الآية: 1، مجمع الكنائس الشرقية، بيروت - لبنان.

بيد الشيعة الأكثرية.

فلا يشترط أن يكون الإنسان ذا قوة أو مكانة أو مال أو جيش، بل الكل مسؤول عن الكلمة الحسنة. فعلينا جميعاً أن ننطق بكلمة وكلمة، فهي سهلة يسيرة وخفيفة على اللسان، من على المنبر أو تحت المنبر وفي وسط المجتمع وفي البيت وفي السوق ولكل أحد.

ربما يقول أحدهم: ما فائدة الكلمة وماذا يترتب عليها؟

فنقول: إننا نشاهد جموع السيول تتشكل من القطرات، قطرة واثنتين وثلاث وأربع وخمس قطرات وهكذا... حتى يجتمع السيل. فأنا أتكلم بألف كلمة حول هذا الموضوع مثلاً، وأنت تتكلم بمئات الكلمات، والثالث بألف وخمسمائة كلمة، والرابع بثلاثة آلاف كلمة، وهكذا يتشكل السيل.

نعم، يلزم على الجميع وخاصة العراقيين أن يطالبوا دائماً بتشكيل الحكومة الشيعية في العراق لأنهم الأكثرية.

إدارة الأقلية إدارة ظالمة

إن العراق بلد الشيعة، وفيه كبار علماء التشيع وكبرى الحوزات العلمية، مضافاً إلى تلك الأضرحة الشريفة للأئمة الطاهرين(عليهم السلام). والناس موالون لأهل البيت(عليهم السلام) حيث كانت تقام في مختلف أرجاء العراق أكبر مجالس العزاء واللطم وكذلك الاحتفالات الدينية العطرة، ولكن بعض الأقلية سيطروا على البلاد وعلى الشعب المؤمن بالقوة والسلاح، وعرفوا كيف يديرون الناس بالكبت والإرهاب، تلك الإدارة الظالمة، ويا ليتهم كانوا يكتفون بإدارة البلاد ونهب ثرواتها، ولكنهم يضربون ويسجنون ويقتلون ويبعدون ويصادرون الأموال ويسحقون الأمة بأجمعها.

ص: 461

وكل هذا الظلم الذي يسمع ويرى لم يكن صدام البادئ به أولاً، بل البادئ الأول هو فيصل قبل سبعين عاماً. وهذه المصائب كلها نتيجة حكم الأقلية وإبعاد الشيعة عن الحكم، فكان أول عمل قام فيصل به هو الضغط على الحوزات العلمية وإبعاد الفقهاء والمراجع، وهكذا في الحكومات التي تلتها، وأنا أتذكر كيف كانت تتعامل مختلف الحكومات في العراق مع الشيعة حيث الظلم والاستبداد والكبت والجور.

نعش الإمام الكاظم(عليه السلام)

يوجد مكان في بغداد يدعى (المنطقة) إن شاء اللّه عند ما يزول صدام ستذهبون إلى العراق وتشاهدونها، وقد ذهبت إليها شخصياً. وكان يوم ذكرى شهادة الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، حيث يجتمع من الشيعة مليونان إلى ثلاثة ملايين، فيأتون مشياً على الأقدام من (المنطقة) في بغداد إلى الكاظمية المقدسة وربما تكون المسافة بينهما أكثر من فرسخ، وهم يحملون النعش الرمزي للإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) بكل إجلال واحترام، ولم أر مراسم مثلها تقام إلّا في كربلاء وأيام عاشوراء.

وهذا نوع وفاء للإمام(عليه السلام) حيث لم يأت آنذاك من يشيّع جثمان الإمام فحمله أربعة حمالين!

فلماذا لم يهتم الناس بأمر الإمام(عليه السلام) في ذلك الوقت ولم يفعلوا شيئاً، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أي مضت، {لَهَا مَا كَسَبَتْ}(1). ولكن ما هي مسؤوليتنا اليوم حيث يقول تعالى: {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ}(2).

ص: 462


1- سورة البقرة، الآية: 134.
2- سورة البقرة، الآية: 134.
لا رأي لمن لا يطاع

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا رأي لمن لا يطاع»(1).

إن العراق تحرر من الاستعمار البريطاني في ثورة العشرين الشهيرة، وكان التحرير بقيادة المرجع الكبير الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه)، وهو خال والدنا(رحمه اللّه)، وقد نقل لنا الوالد(رحمه اللّه) الكثير من قصصه، فقد كان الوالد من تلامذته.

فالشيخ الشيرازي(رحمه اللّه) هو الذي أنقذ العراق من أيدي الإنجليز، في حرب دموية راح ضحيتها ثمانون ألف قتيل من الجيش الإنجليزي ومائتا ألف شهيد من العراقيين، وكانت العشائر العراقية تأتمر بأمر المراجع والعلماء، فتمكنوا من تحرير العراق.

وبعد التحرير ومن أجل تشكيل الحكومة فقد اجتمع الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) بالوجهاء ورؤساء العشائر وقال: الآن وقد تمكنا من تحرير العراق، فأنا لا أريد أن أكون حاكماً عليكم، بل أنا عالم أدعمكم وأحميكم، فانتخبوا واحداً منكم ليكون ملكاً على العراق.

فقالوا: لا نقبل بأن يتأمر علينا أحدنا، وكيف يتأمر رئيس عشيرة على عشيرة أخرى، فالعراق بلد عشائري.

فقال: إذن اجعلوا الحكم دورياً والملكية دورية، يعني يحكم أحدكم سنتين والآخر سنتين... وهكذا.

قالوا: نفس النتيجة فكيف يحكمنا منافسنا... لا نفعل ذلك.

قال: إذن القرعة فهي لكل أمر مشكل، وهو حل عقلي وشرعي، فلنقترع ونجعل واحداً منكم ملكاً؟

ص: 463


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 27 ومن خطبة له(عليه السلام) وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا.

قالوا: نفس النتيجة وهي أن تظهر القرعة باسم فلان، ومعناها أن يصبح فلان حاكماً علينا.

قال: إذن شكلوا حكومة جماعية وقيادة مشتركة - وهذا كلام قاله الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) قبل سبعين سنة لرؤساء العراق - فكم هو عددكم ولنفرض خمسين نفراً، فشكلوا مجلساً رئاسياً، وما تقرره الأكثرية يجرى في العراق.

قالوا: لا نرضى بذلك، كيف نجتمع وكيف وكيف؟

قال: إذن هناك حل آخر - فقد كان يوجد شخصية مرموقة في العراق آنذاك اسمه (فرمانفرما)، وكان من وجهاء الشيعة وكان رجلاً كبيراً ومحترماً وصاحب ثروة وأملاك كثيرة في بغداد وأملاكه موجودة إلى الآن - قال الشيخ: اجعلوه رئيساً عليكم.

قالوا: لا نفعل ذلك؛ لأنه ليس من عنصرنا، وأصله من إيران.

قال الشيخ: الآن إذ لم تقبلوا أي رأي من هذه المقترحات، فاذهبوا واعملوا ما شئتم، وكما يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا رأي لمن لا يُطاع».

وبعد ذلك حكمت الأقلية السنية في العراق وجرى ما جرى من الظلم على شيعة أهل البيت(عليهم السلام) إلى يومنا هذا.

نعم إن «حب الدنيا رأس كل خطيئة»(1)، فعند ما يترك الناس نصيحة القادة الأتقياء الحكماء فلا تكون النتيجة إلّا الخسارة في الدنيا والآخرة.

وفي تاريخ النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نرى عندما لم يعملوا بما أمر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) به أصحابه في غزوةأحد حيث قال لهم: «ابقوا هنا قَتَلنا أو قُتِلنا، غَنَمنا أو غُنِمنا»(2)، لكنهم

ص: 464


1- الكافي 2: 131.
2- انظر تفسير القمي 1: 111-112، حيث قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تخرجوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم».

لم يبقوا وجاءوا لجمع الغنائم والقصة مشهورة. عند ذلك قُتِل سبعون مسلماً من خيرة المسلمين وعلى رأسهم سيد الشهداء حمزة(عليه السلام).

وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى العراق بعد ثورة العشرين، حيث لم يسمعوا كلام القائد، وأخذوا يتنازعون في ما بينهم، حتى جاءوا بسني حكمهم، وأصبح من يومذاك الطائفية والظلم والاستبداد والجور والإرهاب مخيماً على العراقيين.

وإلّا فالعراق أكثره شيعة، وأكثر مدنه شيعية، وحوزاته العلمية حوزات شيعية، وعشائره عشائر الشيعة، ومثقفوه - أي: الجامعيون والأساتذة والمهندسون - أكثرهم من الشيعة، و(99%) من الجيش العراقي من الشيعة، وأعظم التجارة بأيدي الشيعة، ولكن أربعة تعلموا كيف يديرون هؤلاء فسيطروا عليهم وفعلوا بهم ما فعلوا من الظلم والاستبداد، والسر في ذلك أن الشيعة لم يتبعوا قائدهم بعد ثورة العشرين فابتلوا إلى هذا اليوم.

كيف نساهم في تشكيل حكومة الأكثرية؟

نحن يمكننا المساهمة في أن يكون حكم العراق بأيدي الشيعة بعد زوال صدام إن شاء اللّه، وأقل ذلك بالكلمة والكلام.

يقول اللّه تعالى في القرآن: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ}(1).

فعلى كل إنسان أن يقول، حتى لو تصور بأنه لا فائدة في ذلك، فإن أقلالتقادير تكون له المعذرة إلى اللّه عزّ وجلّ، فيوم القيامة نقول: إلهنا نحن قلنا، أنا قلت، وأنت قلت، وهو قال، وهي قالت، وهكذا الآخرون قالوا، من على المنبر وتحت المنبر، وفي كل مكان ولكل أحد: بأنه يلزم أن تكون حكومة العراق بأيدي

ص: 465


1- سورة الأعراف، الآية: 164.

الشيعة.

لقد دعا نوح النبي(عليه السلام) الناس إلى اللّه تسعمائة وخمسين عاماً فلم يؤثر فيهم، قال تعالى: {وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}(1)، قال المفسرون: القليل هو سبعة أشخاص فقط خلال تسعمائة وخمسين عاماً، وأكثر ما قيل في ذلك، قالوا: آمن به ثمانون شخصاً(2).

فإذا ما تحدّث كل واحد منا حول حكومة الأكثرية في العراق، وانتشر ذلك في المجتمع فإنه سوف يؤثر بشكل أو آخر إن شاء اللّه.

أسلوب التحريض

عمرو بن العاص كان حاكم مصر، فطرده عثمان فذهب إلى فلسطين واشتغل بأموره الشخصية وأصبح فرداً عادياً هناك.

وفي أحد الأيام جاء إلى عمرو بن العاص ابنه عبد اللّه، فقال له: أما علمت الخبر؟ قال: كلا، فما الذي حدث؟ قال: قتلوا عثمان. فقال عمرو بن العاص لابنه: قد كنت أُحرض عليه حتى الراعي في الصحراء(3).

أي إنه كان من الذين ساهم في قتل عثمان بتحريضه، فقال: كل من كنت أراه سواء كان رجلاً أم امرأة، طفلاً أم شيخاً، عالماً أم جاهلاً، كنت أتكلم معه ضد عثمان، لقد كنت أحرض عليه حتى الراعي في الصحراء.

فإن أسلوب الكلمة والكلمة تؤثر، سواء في الحق أم الباطل.

ونحن بحمد اللّه نملك القلم ولنا القدرة على البيان، فعلينا أن نؤكد في كل مكان ولكل شخص على ضرورة أن يكون الحكم في العراق بيد الشيعة لأنهم

ص: 466


1- سورة هود، الآية: 40.
2- انظر تفسير مجمع البيان 5: 279.
3- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 144.

الأكثرية.

الكلمة المؤثرة

ورد أن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) في يوم من الأيام كان يمرّ على دار بشر(1) في بغداد، فسمع أصوات الغناء والطرب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة البيت فرمت بها في جانب الدرب، فقال(عليه السلام) لها: يا جارية صاحب هذا الدار حرّ أم عبد؟

فقالت: بل حرّ.

فقال(عليه السلام): صدقتِ، لو كان عبداً لخاف من مولاه.

فلما دخلت قال مولاها وهو على مائدة السكر: ما أبطأكِ علينا؟

فقالت: حدثني رجل بكذا.

فأثر كلام الإمام(عليه السلام) في بشر وغيره تغييراً جوهرياً. فخرج بشر حافياً حتى لقي مولانا الكاظم(عليه السلام) فتاب على يديه(2).

فنرى كيف تؤثر كلمة واحدة وتغير من واقع الشخص وتهديه من الضلال إلى الهدى.

دور اللسان وأهميته

في أحد الأيام دخل على معاوية واحد من شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام) وكان سيداًفي عشيرته، فشتمه معاوية، فخرج مغضباً من الباب وقال شعراً:

أيشتمني معاوية بن حرب *** وسيفي صارم ومعي لساني

وحولي من ذوي يمن ليوث *** ضراغمة تهش إلى الطعان

ص: 467


1- أبو نصر المروزي، بشر بن الحارث بن عبدالرحمن بن عطاء البغدادي المشهور بالحافي.
2- منهاج الكرامة: 59.

فخشي معاوية من لسانه، فاستدعاه وأرضاه، حيث دفع له مالاً كبيراً حتى رضي(1).

نعم، إن اللسان مهم جداً، وأنتم أصحاب لسان وقلم، فعليكم بشحذ الهمة أينما ذهبتم وأينما جلستم، حتى في محل الحلاقة، حيث يمكن للإنسان أن يقول للحلاق: ما هو الوضع في العراق؟ فيقول: لقد بقي هذا اللعين صدام. فيقول له: سيُزال بإذن اللّه تعالى، ولكن يلزم أن يكون مستقبل العراق بأيدي الشيعة وإلّا إذا جاء شخص آخر بعد صدام أسمه هدام مثلاً سيعيد البلاء مرة أخرى على رؤوس الشيعة.

الناس على دين ملوكهم

كان في النجف الأشرف أحد كبار المراجع وهو المرحوم السيد عبد الأعلى السبزواري(رحمه اللّه) وهو من أقاربنا، وقد كان محسناً بغض النظر عن علمه وتقواه، وكانت تربطنا به صداقة منذ خمسين سنة في العراق.

كان هذا السيد الجليل من الذين يساعدون الفقراء ويهتم بالجيران ويحسن إليهم، وكان يعيش عيشة الزهاد، لقد كان رجلاً واقعياً.

عندما أخرج الطغاة جمعاً كبيراً من شيعة العراق بحجة أنهم من أصول إيرانية، كان بعض جيران السيد يسألون أهله: متى يخرجونكم حتى نأخذ منزلكم؟

لماذا أصبح الأمر هكذا؛ لأن الناس على دين ملوكهم كما في الروايات(2).

وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا تغير السلطان تغير الزمان»(3).

ص: 468


1- انظر المستطرف 1: 109، الغدير 10: 171.
2- انظر كشف الغمة 2: 21.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 ومن وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
وفي الختام

إن شاء اللّه سيزول صدام، ولكن من الضروري أن تكون الحكومة بعده بأيدي الشيعة لأنهم الأكثرية، وعلى كل واحد منا مسؤولية بيان ذلك، فالكل يؤكد على ضرورة هذا الأمر بكل ما يمكنه حتى بكلمة واحدة، من على المنبر وتحت المنبر، وفي التجمعات، وعلى انفراد، سواء كان فيه فائدة أم لا، يلزم التأكيد على ضرورة أن تكون حكومة العراق بأيدي الشيعة، يعني أن يكون رئيس الجمهورية من الشيعة، والوزراء من الشيعة، وقادة الجيش من الشيعة، والدوائر من الشيعة، والإعلام بيد الشيعة وهكذا في كل الأمور، وهذا لا يعنى عدم إعطاء الأقلية حقها، بل يضمن لهم كافة حقوقهم.

إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً.

ص: 469

معالجة الأمراض النفسية

نعمة الابتلاء

اشارة

قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَٰذِبِينَ}(1).

هناك ارتباط وثيق بين أعمال الإنسان وبين النظام الكوني، فلو اتجه الإنسان إلى ما تقتضيه الفطرة من طاعة اللّه سبحانه وتعالى لنزلت الخيرات، وانفتحت أبواب البركات، بخلاف ما لو انحرف عن طريق العبودية، وتمادى في غيّه فإنه يستوجب ظهور الفساد، ونشوب الحروب، وحدوث الكوارث الكونية كالزلازل والصواعق، فهذه الأمور كلها ترجع إلى أعمال الإنسان، فقد قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2).

إلّا إذا كان الأمر بحسب ما تقتضيه السنة الإلهية من الاستدراج والابتلاء، فإذا نزلت بلية أو مصيبة من مرض وغيره على فرد من الأفراد، فإن كان صالحاً كانت تلك فتنة ومحنة يمتحنه اللّه بها، فقد قال سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ

ص: 470


1- سورة العنكبوت، الآية: 2-3.
2- سورة الأعراف، الآية: 96.

صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَٰذِبِينَ}(1) وواضح أن ذلك هو الآخر مكمّل للإنسان ومقوّملوجوده وغايته.

وإن كان المبتلى غير صالح كان ذلك تنبيهاً له وعقاباً على أعماله ليرجع إلى صوابه ورشده، فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٖ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}(2).

إذن فالبلايا والمصائب من الأمراض وغيرها، هي نعم من اللّه على بني الإنسان، ليتعظوا ويتذكروا بها، ويتركوا المعاصي، فهذا مقتضى الحكمة الربانية في تمييز الطيب من الخبيث.

عيِّنة من الابتلاء

فلو أخذنا جانباً من جوانب الابتلاء، كالأمراض التي تصيب بني الإنسان فهي على قسمين:

القسم الأول: الأمراض الجسمانية - البدنية - ، وهي ما تختص بجسد الإنسان وتمتاز بكون تأثيرها مباشراً.

وكما يقول الأطباء بأن الأمراض التي تؤلم الإنسان تدفعه للبحث عن علاج لها.

القسم الثاني: الأمراض النفسية، اذ لا يحس صاحبها فيها بالألم المباشر، بل هي تتولد وتنمو وتتفاقم أحياناً دون أن يلتفت الإنسان إلى خطرها وعندما لا

ص: 471


1- سورة العنكبوت، الآية: 2-3.
2- سورة الأنعام، الآية: 42-44.

يستشعر الإنسان بآلام الأمراض النفسية بصورة مباشرة فإنه لا يندفع للبحث عن سبل العلاج، وبالنهاية يكون تأثيرها أكبر وأخطر من الأمراض البدنية. فالأمراضالنفسية أشد صعوبة في العلاج من الأمراض الجسمية، إذ كثيراً ما لا يجد الإنسان علاجاً ناجحاً لها، وعندما تستفحل مثل هذه الأمراض على المبتلى بها ينعدم عنده صفاء وسلامة القلب؛ فيعيش في أوهام وتخيلات بعيدة عن الواقع، أو يعيش حالات الأمراض الحاجبة والمانعة عن رؤية الحقائق الغيبية الإلهية، وقد يموت قلبه بسبب هذه الأمراض الخطيرة، مثل مرض حب الدنيا وغفلة القلب وقساوته، وطغيان الغضب والحسد والتكبر والعجب وغيرها، وهذه الأمراض أخطر من الأمراض البدنية - التي منشؤها نتيجة اختلالات عصبية - لأن هذه الأمراض لا تتعدى آثارها وخطورتها عن هذه الحياة الدنيا بينما الأمراض النفسية كالرياء والنفاق تبقى آثارها وتبعاتها ملازمة للإنسان في حياته الأخروية.

لقد ذكر الأطباء أموراً عديدة في مجال الأمراض النفسية، والمعاناة التي ترافقها، نذكر لكم بعضاً منها على سبيل المثال:

يحسب نفسه بقرة!!

نقل بعض الأطباء أن شخصاً قبل ألف سنة كان يتصور بأنه بقرة، وكان يصرّ على الآخرين بذبحه.

بعض الأطباء كانوا يضحكون عليه، والبعض الآخر كانوا ينصحونه ليقنعوه بأنه ليس بقرة، ولكن كان إصراره يزداد يوماً بعد يوم، وكان يقول اذبحوني لتنتفعوا من لحمي.

آخر الأمر نقلوا الخبر إلى (ابن سينا) الذي كان قد دخل تلك المدينة حديثاً بعد غياب طويل، فقالوا له ما علاج هذا المرض؟

ص: 472

قال: أنا سوف أعالجه بشرط أن لا يتدخل أحد في عملي فقال (والكلام لابن سينا): ادعوني في أحد الأيام لوجبة غذاء، واحضروا ذلك المريض، فإذا أعطانيالسكينة لأذبحه اقبلوا ذلك، ولا تأخذوا من يده السكين، وبعدها بأي أمر آمركم أطيعوني.

فجاء ابن سينا بعدما وجهوا له الدعوة، وجيء بالمريض إليه، وهو يحمل سكينة حادة بيده، وقال له: إذبحني إني بقرة.

فقال (ابن سينا): نعم، إنك بقرة ولا شك في ذلك.

- ففرح المريض كثيراً عندما وجد من يصدقه بأنه بقرة - بعدها قال ابن سينا لمن حوله: اربطوا رجليه ويديه وأتوني بطشت أو قدح كبير أضع لحمه فيه بعد أن أقطعه.

بعدها جاء ابن سينا وأخذ السكينة بيده ووضعها أمام رقبته، وكان المريض مسروراً جداً، ثم ضرب ابن سينا قليلاً على بطنه، ثم قال للأسف إنك بقرة ضعيفة وليس في بدنك اللحم الكافي والجيد، فلا بد أن نعطيك العلف الكثير، وبعد شهر سوف نذبحك بعد أن تسمن، فقال المريض: لا بأس سوف أأكل العلف لكي أسمن. عندها أمر ابن سينا بأن يأتوا إليه بالحشائش الطبية التي كانت تنفع لمثل هذا المرض وتقضي عليه، ووضعوها أمامه، فأخذ المريض بالتناول منها بالشكل الكثير والمنتظم، وبعد شهر عادت إليه صحته بالكامل، بعدما كان يرفض تناول الأدوية ويصر على ذبحه.

الجرة الوهمية

نقل المرحوم الوالد(رحمه اللّه)، بأن شخصاً في سامراء أصيب بالجنون، وكان جنونه أنه عندما كان يمشي أو يريد الجلوس كان يهدأ ويتباطأ جداً، بحيث لا يهتز جسده، ولا يتحرك يميناً ولا شمالاً أبداً، وكان يقضي ليلة كاملة بالجلوس حتى الصباح وبصورة

ص: 473

واحدة، وكان يقول بأن على رأسي جرة ماء فإذا اصطدمت الجرة بشيء فسوف تنكسر على رأسي وعندها سوف تنتهي حياتي، فلهذا كان لا يحرك رأسه ولا جسده أبداً،وإذا جلس في مجلس كان لا يلتفت يميناً ولا شمالاً خوفاً من الموت.

فجاءوا به إلى الطبيب، فقال الطبيب: أنا أعالجه.

فأجلس المريض أمامه، وقال له: إن ما تتصوره وتقوله صحيح بالكامل، وهذا المرض مكتوب في طب (جالينوس) وإذا ما سقطت الجرة من على رأسك انكسرت ومت بعدها، ولكن عندي الدواء الصالح لمرضك هذا.

ففرح المريض كثيراً، وأخذ يتناول الأدوية التي وضعها له الطبيب، وبعد مدة من العلاج، قال الطبيب: الجرة التي على رأسك يمكن رفعها شيئاً فشيئاً، فإن حالة الالتصاق برأسك بدأت تزول.

فقال المريض: لا بأس بذلك.

وبعد أيام هيأ الطبيب جرة بنفس تلك المواصفات التي وصفها المريض، وعلّقها بالسقف بالشكل الذي يمكن الوقوف تحتها، ثم قال للمريض: قف في هذا المكان (وهو المكان الذي فوقه الجرة) دون أن ينظر إليها، وعندما وقف بالقرب من الجرة أمر الطبيب بالقاء الجرة التي هيأها، فسقطت على الأرض وانكسرت وأريق الماء الذي كان فيها، ثم قال للمريض: بأن هذه هي الجرة التي كانت على رأسك فسقطت الآن، وانكسرت وأُريق ماؤها، ولكن بقيت أنت سالماً على قيد الحياة، ففرح المريض كثيراً من قول الطبيب وعادت إليه حالته الطبيعية.

الملوكية الوهمية

نقل أحد الخطباء هذه القصة: بأنه كان في طهران مريض مصاب بكثرة التخيلات، فكان يتصور بأنه ملك، وكان ينتظر من الناس أن يحترموه كثيراً، كما

ص: 474

يحترم العبيد أسيادهم، ولا بد أن ينادوه أو يلقبوه بصاحب الجلالة (الملك المعظم)، وكلما كانوا يراجعون الأطباء لم يرون له تحسناً ولا شفاءً لحالته، فكان البعض يضحكون عليه، والبعض الآخر ينصحونه، دون أن ينفعه ذلك.

قال أحد الأطباء: أنا أعالجه، ولكن بشرط أن تهيّؤا لي بيتاً جيداً، وبعض الخدم، لكي أستطيع القيام ببعض الأعمال التي تناسب مقام الملوك والأمراء، وبهذه الطريقة أعالجه من مرضه. فلما هيّئوا له ما طلب، دخل الطبيب البيت، فأخذ ينحني للمريض معظماً له، وقام الخدم بالأفعال والأعمال التي يؤديها حاشية الملوك عادة.

وبعد مدة من ذلك العمل الذي قام به الطبيب، أخذ المريض بالاعتقاد بأن هؤلاء يتصورون بأنه ملك، وأنهم مصدقون لما في نفسه، وفي تلك الفترة كان الطبيب يعطيه الأدوية المفيدة لعلاج حالته، ووصف له دواءً لا بد أن يوضع على رأسه، ويبقى ذلك لمدة أسبوع كامل لكي يشفى تماماً، ولكن المريض (الملك الخيالي) رفض أن يضعوا له ذلك الدواء، والذي كان فيه مواد صمغية على رأسه، فابتكر الطبيب الحاذق طريقة ذكية لاستعمال الدواء، فقال الطبيب (مخاطباً المريض): يا صاحب الجلالة المعظم، لا بد أن يوضع على رأسك بعد أسبوع تاج الملوكية، ونحن سوف نهيّئ لك ذلك، ولكن قبل أن نضع التاج الذهبي على رأسك، لا بد أن نضع هذا الدواء لكي لا يتألم رأسك من التاج.

فوافق المريض بوضع الدواء على رأسه، ومن ثم صنعوا له تاجاً من الورق السميك (الكارتون) وفيه شيء من المواد الطبية، وبعدها حلقوا رأسه كاملاً فوضع الطبيب التاج الورقي على رأس الملك - المريض - ، وقال له: لا بد أن تبقي التاج على رأسك لمدة أسبوع كامل، حتى عند ذهابك إلى النوم، لكي يعلم الجميع بأنك ملك حقاً. (وهذا الكلام قاله الطبيب بعد ان أنتهت مراسيم

ص: 475

الاحتفال البهيج الذي أقامه الطبيب لهذا الأمر).

وبعد أن قدموا التهاني والتبريك، وبعد أسبوع كامل، أثّر ذلك الدواء الذيوضعه على رأسه بواسطة التاج الورقي، وذهب الجنون من رأسه كاملاً.

الطبيب الحاذق

ان هذا النوع من البلايا التي تصيب البعض قد تصيب الأمة بأجمعها، فتكون الأمة مبتلاة إلى أن يتهيأ لها من ينقذها، كما هو شأن الطبيب الحاذق الذي يعالج هذه الحالات المرضية الصعبة لينقذ أصحابها مما كانوا مبتلين.

وخير مثال لنا الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إبلاغ رسالته السمحاء إلى الأمة أجمع، فقد ابتلي بأناس سيطر الجهل والكفر عليهم، وسيطرت عليهم الأمراض القلبية والنفسية بحيث قست قلوبهم، وماتت أرواحهم، فلم تكن لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(1).

ونبينا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الطبيب الدوار كما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يحمل أدويته ومياسمه ومراهمه ليداوي أمراض القلوب ويحيى ميّت النفوس ويعالج جميع الآفات والأدران التي أصابت قلوب الناس(2).

علاج القلوب

وهذه هي مهمة الأنبياء(عليهم السلام) بل هي أشرف وأعظم المهام التي يضطلع بها

ص: 476


1- سورة الحج، الآية: 46.
2- أنظر نهج البلاغة، الخطب الرقم: 108، وفيها قوله(عليه السلام): «طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة، لم يستضيئوا بأضواء الحكمة، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة، فهم في ذلك كالأنعام السائمة والصخور القاسية...»

الأنبياء (صلوات اللّه عليهم)، فأول مهمة شرع بها رسولنا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي المهمة المتعلقة بعلاج القلوب وشفائها؛ لتكون مستعدة لتقبّل مبادئ الوحي وأحكامالشريعة السمحاء، فإن القلب المريض بأمراض الزيغ والرين وحجاب الظلمات لا يستطيع أن يبصر أنوار الحق ومصابيح الهداية الإلهية، ولذلك فإن رسولنا الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ابتدأ أولاً بتطهير القلوب وتزكيتها وتصفيتها عمّا علق بها من آفات وأدران الجاهلية الجهلاء، فقد عالج أمراض القلوب بأسلوب إعجازي تظهر فيه حكمة النبوّة وألطاف الوحي ليشفي الصدور بأصدق عاطفة، وأرق رحمة، ليخرجهم من ظلمات الجهل وأمراض القلب إلى نور العلم وشفاء الصدور وراحة الضمير وطمأنينة النفس وطهارة الروح، وفي سبيل ذلك تعرض لأقسى الشدائد وأجلّها من الضرب والإدماء حتى قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(1)، وفي مقابل ذلك لم يقل فيهم إلّا خيراً، حيث قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»(2).

لأن الطبيب غايته ابراء المرضى وشفائهم؛ فلذلك يتحمل كل المشاق، فمنذ بداية الدعوة تجسدت شخصية الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي استطاع أن يكسب الكثير من الذين وقفوا معه صفاً واحداً لإعلاء كلمة اللّه، وتوسيع نطاق الدعوة الإسلامية، حتى قال عنه تعالى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}(3) وذلك لتحقيق الهدف الذي جاء من أجله، وهو تجسيد الإنسانية، وإظهار كنوزها، والارتفاع بالإنسان إلى مستوى الجدارة الحقيقية بتمثيل خلافة اللّه على

ص: 477


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 247.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 99.
3- سورة النصر، الآية: 2.

الأرض، كما أشار في قوله تعالى إلى ذلك، حيث يقول: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِإِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}(1) وذلك ذروة العلاج ومنتهاه وأسمى منزلة ولا شيء فوقها، وهي الغاية فبالإضافة إلى تبليغ رسالة اللّه لهم، وقد أشار إلى هذا أيضاً في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2).

وقد ذكرنا في تفسير هذه الآية الكريمة أن: {هُوَ} اللّه {الَّذِي بَعَثَ} أي أرسل {فِي الْأُمِّيِّۧنَ} الأمي المنسوب إلى الأم المراد بهم العرب، سموا بذلك إما لأنهم من (أم القرى) أي مكة المكرمة - المسماة بذلك لأن القرى دحيت من تحتها - وإما لأن الغالب منهم لم يكونوا يعرفون القراءة والكتابة فهم - في جهلهم - كالذي خلق من الأم لا يعرف شيئاً، والبعث في الأميين لا يلازم أن يكون لهم وحدهم، حتى تدل الآية على خصوص نبوته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {رَسُولًا} لأجل هدايتهم {مِّنْهُمْ} أي من أنفسهم ومن أهل بلدهم. {يَتْلُواْ} أي يقرأ {عَلَيْهِمْ} أي على أولئك الأميين {ءَايَٰتِهِ} أي أدلته. أو آيات القرآن {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم تطهيراً علمياً، فإن المعلّم الرقيب يطهر تلاميذه عن أدران القلوب والجوارح بحفظهم عن الرذائل والأعمال المنكرة. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ} أي أحكامه وشرائعه {وَالْحِكْمَةَ} بأن يعرفوا وضع الأشياء مواضعها، فإن الحكمة هي وضع الشيء موضعه. {وَإِن كَانُواْ} أي هؤلاء الأميون. {مِن قَبْلُ} أي قبل أن يأتيهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} أي في إنحراف ظاهر، فلا عقائد صحيحة، ولا أعمال صالحة، ولا عادات طيبة، ولا أخلاق فاضلة، يعني أنه يوصلهم إلى أرقى

ص: 478


1- سورة البقرة، الآية: 30.
2- سورة الجمعة، الآية: 2.

مراقي الكمال،وإن كانوا قبل ذلك في أبعد متاهات الضلالة(1).

فقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدعوهم إلى العلم والعمل، لانقاذهم من الضلالة، ونقلهم إلى عالم النور والفضيلة.

التمويه والكذب
اشارة

إن التاريخ البشري احتوى على نماذج من الأنظمة والسلطات الداعية إلى العيش الهانئ والسعادة الشاملة، وكل من هؤلاء الدعاة يريد أن يصل إلى مبتغاه بالطريقة التي يراها مناسبة له، وعن طريقها يمكنه السيطرة على المجتمع، الفئة الأولى من تلكم الأنظمة والسلطات هي فئة كاذبة في دعواها، وقد تغلبت على البشرية في أكثر الأدوار، واستخدمت التمويه والكذب والخداع، ولم تفكر ولو للحظة في مصلحة الفرد والأمة، أو في الحقوق الشخصية الإنسانية، وأفراد تلكم الفئة ما يزالون مقبلين على الظلم والتسلط على رقاب الشعوب المسلمة خاصة، بشتى وسائل الجناية والعدوان، وحتى إذا بدر منهم ما يدل على عدالتهم فهو مجرد تمويه وسلوك عرضي للوصول إلى غايتهم المنشودة ومآربهم الخبيثة.

وهؤلاء هم السلاطين، الذين يسعون وراء مصالحهم الشخصية، ضاربين عرض الجدار جميع المصالح الإنسانية للمجتمع، كابحين جماح التطلع للعيش السليم لدى الجماهير صيانة لمنافعهم غير المشروعة.

يقولون ما لا يفعلون

فعلى سبيل المثال في مجتمعنا هذا؛ البعض يقول: نحن أتباع الدين الإسلامي، ولا نريد الميل إلى الأفكار الخارجية المريضة، مع أنهم في نفس الوقت يطبقون القوانين الغربية في بلادهم. نحن لسنا ضد التقدم والتطور ولكن

ص: 479


1- تفسير تقريب القرآن 5: 411.

ضمن حدود القوانين الإسلامية، والرسالة السماوية السمحاء، فالعقل والشرع لا يمنعان الاستفادة من التقدم، ولو من أهل الكفر والفسوق،فقد نقل عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «الحكمة ضالة المؤمن، فالتقفها ولو من أفواه المشركين»(1).

ولكن ذلك ضمن ضوابط وأطر معينة، حيث وضع الإسلام شروطاً واضحة لا يمكن تجاوزها، ولا يمكن تعليق الأمل على هؤلاء في إصلاح حال المجتمع، وحل الكثير من قضايا المسلمين المستعصية على بعض القوى المهيمنة على مقدرات الشعوب الإسلامية وطموحاتها، فقد جاء في الحديث القدسي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال أوحى اللّه تعالى إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه إليه: «وعزتي وجلالي وعظمتي وارتفاعي لأقطعن رجاء أمل كل مؤمل يأمل غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلة في الناس، ولأبعدنه من فرجي وفضلي، أيؤمل عبدي غيري في الشدائد والشدائد بيدي، ويرجو سواي وأنا الغني الجواد، أبواب الحوائج عندي وبيدي مفاتيحها، وهي مغلقة» الحديث(2).

المعرفة بالإنسان طريق الإصلاح

أما الفئة الثانية من تلكم الأنظمة والسلطات فهي فئة غير كاذبة، ولكنها لم تأت بما كان كافياً لتحقيق أهدافها، وهم بعض المصلحين، أو الذين ادعوا الاصلاح، فهم رغم طرحهم الصادق في الغالب لدعواهم وأهدافهم، إلّا أنهم لم يستطيعوا تحقيق أهدافهم من خدمة المجتمع البشري وتلبية حاجاته المادية والمعنوية؛ وذلك لأنهم لم يعرفوا حقيقة المتطلبات والحاجات الفطرية

ص: 480


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 81.
2- إرشاد القلوب 1: 122.

والروحية لهذا الإنسان، حيث إنهم - غالباً - يبحثون جانباً واحداً من هذه الحاجات، ويقتصرون على تلبية الجانب المادي للإنسان ويتركون الجوانب الأصلية والأساسية؛ ولهذا تبقى البشرية تعيش حالة من الفراغ الروحي، فهم لم يسدوا هذا الفراغ الحاصل، ولم يأتوا بالتعاليم الكافية لحل مشاكل المجتمع البشري. ولا فرق في ذلك بين المجتمع القديم والمجتمع الحديث، إلّا أن مجتمعنا اليوم أصبح لديه نظرة واسعة، وبات أكثر تفتحاً وتحفزاً نحو الإصلاح.

أما المجتمع القديم فإنه رغم الجهل الشديد، إلّا أن خاتم الأنبياء والمرسلين(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استطاع أن يأخذ بيد الإنسانية ويهديها إلى الصراط القويم، رغم الآلام والمصاعب التي تعرض لها من المجتمع، فضلاً عن الأذى والمشاكل التي كان يواجهها من الأعداء.

العلاج الناجع لمشكلاتنا المعاصرة

أما مجتمعنا اليوم فقد ابتلى بحالة من اليأس، والسؤال هنا هو كيف يتم علاج هذه الحالة؟

والجواب على ذلك: إن العلاج لا يتم إلّا بإيجاد ذلك الطبيب الماهر المطيع للّه ولرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حتى يتسنى له استئصال ذلك المرض من أساسه، وبالتالي يسهل عليه قيادة الأمة إلى بر الأمان.

وهذا العمل ليس بالأمر الهيّن، حيث يتطلب منه أن يوجد أسلوب معالجة دقيقة وفعّالة للفرد الإنساني من خلال اتباع العقيدة الألهية، والشريعة الإسلامية، التي فرضت على الإنسان أن ينظر إلى الحياة نظرة تفاؤلية إيجابية، بأن يراها مثمرة باعتبار أنها مزرعة الآخرة، فعليه أن يستغلها أحسن استغلال، ويخلص نفسه من الكسل واليأس والتشاؤم، ويسعى للاستفادة من جميع أوقاته ولحظاته، ومواهبه وقواه وإمكاناته، ويسخرها لتطوير ذاته من النواحي الفكرية والروحية

ص: 481

والثقافية؛ ليساهم بعد ذلك بتطوير مجتمعه، وإلى هذا المعنى أشار الإمام السجاد(عليه السلام) في بعض أدعيته وهو يدعو ربه، حيث يقول: «ولا تؤيسني من الأمل فيك، فيغلب عليّ القنوط من رحمتك»(1).

وحيث قال اللّه تعالى في كتابه العزيز: {لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(2). فما دام الإنسان بطبيعته لدية ملكة حب الاستطلاع والتفحص، فإنه لا بد أن يعلم أن اللّه قد خلق كل ما في العالم بعضه لبعض، وخلق الكل للإنسان «عبدي! خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي»(3)، وأن كل ما في الوجود منقاد للّه تعالى، فعندما يحس بانجذابه إلى الطبيعة التي غدت ساجدة للّه سبحانه وتعالى، فإنه حينئذ يتجاوب معها ويستفيد منها للوصول إلى الغاية المثلى التي من أجلها خلق، وبذا تكون نظرته إلى الحياة نظرة إيجابية واقعية، وهذا لا يحصل إلّا لمن يحرز الاعتقاد الإيماني الإلهي، وبعكسه فإنه لا يرى غاية ولا حكمة ولا واجباً ولا تجاوباً، فنراه استولى على نفسه اليأس، وعندما يستولي اليأس على النفس الإنسانية يجعلها خائرة القوى ضعيفة الإرادة متشائمة لا ترى في هذه الحياة الدنيا أملاً أو بريقاً من التفاؤل.

فعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل...، يُعجَب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلي،... إن استغنى بطر وفُتن، وان افتقر قَنِط ووهن»(4).

ص: 482


1- الصحيفة السجادية، دعاءه(عليه السلام) يوم عرفة.
2- سورة الزمر، الآية: 53.
3- مشارق أنوار اليقين: 283.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 150.

اللّهم بحق محمد وآل محمد اصرف عني الآفات والعاهات واقض بالحسنى في أموري كلها ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً واصلح لي في سريرتي. اللّهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك واعصمني من همزات الشياطين يا أرحم الراحمين بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

النفس الإنسانية

قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}(1).

وقال سبحانه: {وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفْسِهِ}(3).

وقال جلّ وعلا: {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}(4).

معرفة النفس

قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ ءَايَٰتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(5).

وقال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِي الْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}(7).

ص: 483


1- سورة يوسف، الآية: 53.
2- سورة طه، الآية: 96.
3- سورة العنكبوت، الآية: 6.
4- سورة إبراهيم، الآية: 22.
5- سورة الذاريات، الآية: 20-21.
6- سورة فصلت، الآية: 53.
7- سورة الفجر، الآية: 27-30.

وقال جلّ وعلا: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(1).

آثار الاستغفار

قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}(2).

وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}(4).

قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٖ فَضْلَهُ}(5).

عوامل انحراف النفس

وقال سبحانه: {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَٰوَةً}(6).

وقال عزّ وجلّ: {كَلَّا بَلْۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(7).

قال تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَٰسِقِينَ}(8).

ص: 484


1- سورة الشمس، الآية: 7-10.
2- سورة النساء، الآية: 110.
3- سورة الأنفال، الآية: 33.
4- سورة النساء، الآية: 64.
5- سورة هود، الآية: 3.
6- سورة الجاثية، الآية: 23.
7- سورة المطففين، الآية: 14.
8- سورة البقرة، الآية: 26.

وقال سبحانه: {كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ}(1).

عوامل صلاح النفس

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(2).

قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ}(3).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

النفس الإنسانية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن النفس لجوهرة ثمينة من صانها رفعها ومن ابتذلها وضعها»(7).

وقال(عليه السلام): «أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض عمّا تبذل من نفسك عوضاً»(8).

ص: 485


1- سورة غافر، الآية: 34.
2- سورة الرعد، الآية: 28.
3- سورة الأنعام، الآية: 125.
4- سورة يونس، الآية: 57.
5- سورة العنكبوت، الآية: 69.
6- عدة الداعي: 314.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 227.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 144.

وقال الإمام الجواد(عليه السلام): «من أطاع هواه أعطى عدوه مناه»(1).وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أكرم نفسك ما أعانتك على طاعة اللّه»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم»(3).

معرفة النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عرف نفسه فقد عرف ربه»(4).

سئل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): كيف الطريق إلى معرفة الحق؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «معرفة النفس».

فقال: يا رسول اللّه، كيف الطريق إلى موافقة الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مخالفة النفس»، قال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى رضاء الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سخط النفس»، فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى وصل الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هجر النفس»، فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى طاعة الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عصيان النفس»، فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى ذكر الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نسيان النفس»، فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى قرب الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «التباعد عن النفس»، فقال: يا رسول اللّه، فكيف الطريق إلى أنس الحق؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الوحشة من النفس»، فقال: يا رسول اللّه، كيف الطريق إلى ذلك؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الاستعانة بالحق على النفس»(5).

ص: 486


1- أعلام الدين: 309.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 135.
3- الكافي 2: 335.
4- بحار الأنوار 2: 32.
5- عوالي اللئالي 1: 246.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم»(1).

وقال(عليه السلام): «أفضل الحكمة معرفة الإنسان نفسه ووقوفه عند قدره»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «سد سبيل العجب بمعرفة النفس»(3).

آثار الاستغفار

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أكثر الاستغفار جعل اللّه له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لكل داء دواء ودواء الذنوب الاستغفار»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «استغفر ترزق»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا أكثر العبد من الاستغفار رفعت صحيفته وهي تتلألأ»(7).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كثرت همومه فعليه بالاستغفار»(8).

عوامل انحراف النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حبك للشيء يعمي ويصم»(9).

ص: 487


1- عيون الحكم والمواعظ: 434.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 199.
3- تحف العقول: 285.
4- عدة الداعي: 265.
5- ثواب الأعمال: 164.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 130.
7- الكافي 2: 504.
8- الكافي 8: 93.
9- من لا يحضره الفقيه 4: 380.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ومن عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة»(1).

وقال الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، وسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك... كثيرة العلل طويلة الأمل إن مسها الشر تجزع وإن مسها الخير تمنع ميالة إلى اللعب واللّهو، مملوءة بالغفلة والسهو تسرع بي إلى الحوبة وتسوفني بالتوبة»(2).

وعن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «من لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى»(3).

عوامل صلاح النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وعودوا قلوبكم الرقة، وأكثروا من التفكر والبكاء من خشية اللّه»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا أحب اللّه تعالى عبداً نصب في قلبه نائحة من الخوف، وإذا أبغض عبداً جعل في قلبه مزماراً من الضحك»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «غالبوا أنفسكم على ترك العادات تغلبوها وجاهدوا أهواءكم تملكوها»(6).

ص: 488


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 109، من خطبة له(عليه السلام) في بيان قدرة اللّه.
2- زاد المعاد: 407.
3- معاني الأخبار: 198.
4- أعلام الدين: 146.
5- أعلام الدين: 146.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 473.

وقال(عليه السلام): «دواء النفس الصوم عن الهوى والحمية عن لذات الدنيا»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليهاوالأخذ من فنائها لبقائها، وتزودوا وتأهبوا قبل أن تبعثوا»(2).

وقال(عليه السلام): «طوبى لمن غلب نفسه ولم تغلبه، وملك هواه ولم يملكه»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «كفاك في مجاهدة نفسك أن لا تزال أبداً لها مغالباً وعلى أهويتها محارباً»(4).

ص: 489


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 819.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 352.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 820.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 523.

مكانة القرآن الكريم في المجتمع الإسلامي

أهمية اتباع القرآن

اشارة

قال تبارك وتعالى: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن هذا القرآن هو النور المبين، والحبل المتين، والعروة الوثقى - إلى أن قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): - من استضاء به نوّره اللّه، ومن اعتقد به في أموره عصمه اللّه، ومن تمسك به أنقذه اللّه، ومن لم يفارق أحكامه رفعه اللّه، ومن استشفى به شفاه اللّه، ومن آثره على ما سواه هداه اللّه، ومن طلب الهدى في غيره أضله اللّه، ومن جعله شعاره ودثاره أسعده اللّه، ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعوّله الذي ينتهي إليه، أداه اللّه إلى جنات النعيم، والعيش السليم؛ فلذلك قال: {هُدًى} يعني: هذا القرآن هُدىً و{بُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ}(2) يعني بشارةً لهم في الآخرة...»(3).

وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب

ص: 490


1- سورة الإسراء، الآية: 9.
2- سورة البقرة، الآية: 97.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 449.

آراءهم جميعاً، وإلههم واحد، وكتابهم واحد! أ فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن تبليغه وأدائه، واللّه سبحانه يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ}(1)وفيه تبيان كل شي ء، وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً، وأنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}(2) وإن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لاتفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلّا به»(3).

وروي عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «من قرأ القرآن وهو شابٌ مؤمن، اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله اللّه عزّ وجلّ مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة، يقول: يا رب، إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي، فبلِّغ به أكرم عطاياك، قال: فيكسوه اللّه العزيز الجبار حلّتين من حلل الجنة، ويوضع على رأسه تاج الكرامة، ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب، قد كنت أرغب له في ما هو أفضل من هذا، فيعطي الأمن

ص: 491


1- سورة الأنعام، الآية: 38.
2- سورة النساء، الآية: 82.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 18، ومن كلام له(عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا. وفي بيان العلامة المجلسي(رحمه اللّه) لهذا الحديث قال: «هذا تشنيع على من يحكم برأيه وعقله، من غير رجوع إلى الكتاب والسنة وإلى أئمة الهدى(عليهم السلام)؛ فإن حقية هذا إنما يكون إما بإله آخر بعثهم أنبياء وأمرهم بعدم الرجوع إلى هذا النبي المبعوث وأوصيائه(عليهم السلام)، أو بأن يكون اللّه شرك بينهم وبين النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في النبوة، أو بأن لا يكون اللّه عزّ وجلّ بين لرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جميع ما تحتاج إليه الأمة، أو بأن بينه له لكن النبي - حاشاه - قصر في تبليغ ذلك ولم يترك بين الأمة أحداً يعلم جميع ذلك، وقد أشار(عليه السلام) إلى بطلان جميع تلك الصور، فلم يبق إلّا أن يكون بين الأمة من يعرف جميع ذلك ويلزمهم الرجوع إليه في جميع أحكامهم»، انظر بحار الأنوار 2: 284.

بيمينه والخلد بيساره، ثم يدخل الجنة، فيقال له: اقرأ واصعد درجة، ثم يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول: نعم، قال: ومن قرأه كثيراً، وتعاهده بمشقة من شدة حفظه، أعطاه اللّه عزّ وجلّ أجر هذا مرتين»(1).

لذا يجب تطبيق الفكر والعمل وفق تعليمات وإرشادات القرآن الكريم في كافة مجالات الحياة، مضافاً إلى التمسك بأهل البيت(عليهم السلام) فإنهم عِدل القرآن. ولا يصح العمل بالقياس(2) - مثلاً - كما كان يصنع أبو حنيفة، وهو مؤسس المذهب الحنفي القائل بالرأي والقياس، وكان هذا الرجل يدعو الناس ضد المنصور الدوانيقي وقد قيل أنه بسبب ذلك قتل على يد المنصور؛ ولهذا يعتبره أتباعه شهيداً، وأبو حنيفة هذا درس سنتين من عمره عند الإمام الصادق(عليه السلام) حتى روي عنه قوله: «لولا السنتان لهلك النعمان»(3)، وكان عندما يأتي إلى المدينة يذهب إلى زيارة الإمام الصادق(عليه السلام) مراراً وتكراراً.

الراسخون في العلم

قال تبارك وتعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٖ}(4).

وقال سبحانه: {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُم}(5).

ص: 492


1- الكافي 2: 603.
2- القياس: هو أن ينتقل الذهن من حكم أحد الشيئين إلى الحكم على الآخر لجهة مشتركة بينهما، وبعبارة أخرى هو: إثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر مشابه له، وهو المسمى في عرف المناطقة بالتمثيل. وفي عرف الفقهاء بالقياس، الذي يجعله أهل السنة من أدلة الأحكام الشرعية، والإمامية ينفون حجيته، ويعتبرون العمل به محقاً للدين وتضييعاً للشريعة.
3- انظر شرح إحقاق الحق 28: 467.
4- سورة الروم، الآية: 29.
5- سورة محمد، الآية: 14.

وعن بريد بن معاوية عن أحدهما(عليهما السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(1): «فرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل الراسخين في العلم، قد علمه اللّه عزّ وجلّ جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان اللّه لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم فأجابهم اللّه بقوله: {يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}(2) والقرآن خاص وعام، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه»(3).

ودخل قتادة بن دعامة(4) على أبي جعفر(عليه السلام) فقال له: «يا قتادة، أنت فقيه أهل البصرة؟».

فقال: هكذا يزعمون.

فقال أبو جعفر(عليه السلام): «بلغني أنك تفسر القرآن؟».

فقال له قتادة: نعم.

فقال له أبو جعفر(عليه السلام): «بعلم تفسره أم بجهل؟».

قال: لا بعلم.

فقال له أبو جعفر(عليه السلام): «فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت وأنا أسألك - إلى أن قال أبو جعفر(عليه السلام) - ويحك يا قتادة، إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ... ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به»(5).

ص: 493


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة آل عمران، الآية: 7.
3- الكافي 1: 213.
4- هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي البصري التابعي، من علماء العامة وحفاظهم.
5- الكافي 8: 311.
احتجاج الإمام الصادق(عليه السلام)

وفي رواية أن الإمام الصادق(عليه السلام) قال لأبي حنيفة لما دخل عليه: «من أنت؟».

قال: أبو حنيفة.

قال(عليه السلام): «مفتي أهل العراق؟».

قال: نعم.

قال(عليه السلام): «بما تفتيهم؟».

قال: بكتاب اللّه.

قال(عليه السلام): «وإنك لعالم بكتاب اللّه، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه؟».

قال: نعم.

قال: «فأخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ}(1)، أي موضع هو؟».

قال أبو حنيفة: هو ما بين مكة والمدينة.

فالتفت أبو عبد اللّه(عليه السلام)إلى جلسائه وقال: «نشدتكم باللّه، هل تسيرون بين مكة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل، وعلى أموالكم من السرق؟».

فقالوا: اللّهم نعم.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ويحك يا أبا حنيفة، إن اللّه لا يقول إلّا حقاً، أخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا}(2) أي موضع هو؟».

قال: ذلك بيت اللّه الحرام.

فالتفت أبو عبد اللّه(عليه السلام) إلى جلسائه وقال: «نشدتكم باللّه، هل تعلمون أن

ص: 494


1- سورة سبأ، الآية: 18.
2- سورة آل عمران، الآية: 97.

عبداللّه بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل؟».

قالوا: اللّهم نعم.

فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ويحك يا أبا حنيفة! إن اللّه لا يقول إلّا حقاً».

فقال أبو حنيفة: ليس لي علم بكتاب اللّه، إنما أنا صاحب قياس.

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «فانظر في قياسك إن كنت مقيساً، أيما أعظم عند اللّه القتل أو الزنا؟».

قال: بل القتل.

قال(عليه السلام): «فكيف رضي في القتل بشاهدين، ولم يرض في الزنا إلّا بأربعة؟».

ثم قال له: «الصلاة أفضل أم الصيام؟».

قال: بل الصلاة أفضل.

قال(عليه السلام): «فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب اللّه تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة».

قال له(عليه السلام): «البول أقذر أم المني؟».

قال: البول أقذر.

قال(عليه السلام): «يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب اللّه تعالى الغسل من المني دون البول».

قال: إنما أنا صاحب رأي.

قال(عليه السلام): «فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة، فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة، ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين، فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان، أيهما في رأيك المالك وأيهما المملوك؟ وأيهما الوارث وأيهما الموروث؟».

ص: 495

قال: إنما أنا صاحب حدود.

قال(عليه السلام): «فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح، وأقطع قطع يد رجل، كيف يقام عليهما الحد؟».

قال: إنما أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء.

قال: «فأخبرني عن قول اللّه لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(1)و(لعل) منك شك؟».

قال: نعم.

قال: «وكذلك من اللّه شك إذ قال: {لَّعَلَّهُ}؟».

قال أبو حنيفة: لا علم لي.

قال: «تزعم أنك تفتي بكتاب اللّه ولست ممن ورثه، وتزعم أنك صاحب قياس وأول من قاس إبليس لعنه اللّه، ولم يبن دين الإسلام على القياس، وتزعم أنك صاحب رأي، وكان الرأي من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صواباً ومن دونه خطأ؛ لأن اللّه تعالى قال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ}(2)، ولم يقل ذلك لغيره، وتزعم أنك صاحب حدود ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك، وتزعم أنك عالم بمباعث الأنبياء ولخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك، ولولا أن يقال: دخل على ابن رسول اللّه فلم يسأله عن شي ء، ما سألتك عن شي ء، فقس إن كنت مقيساً».

قال أبو حنيفة: لا أتكلم بالرأي والقياس في دين اللّه بعد هذا المجلس.

قال: «كلا؛ إن حب الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك»(3).

وروي - في حديث آخر - عن بعض أصحاب أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: كنت عند

ص: 496


1- سورة طه، الآية: 44.
2- سورة النساء، الآية: 105.
3- الاحتجاج 2: 360.

أبي عبد اللّه(عليه السلام) إذ دخل عليه غلام كندة، فاستفتاه في مسألة فأفتاه فيها، فعرفت الغلام والمسألة، فقدمت الكوفة، فدخلت على أبي حنيفة فإذا ذاك الغلام بعينه يستفتيه في تلك المسألة بعينها، فأفتاه فيها بخلاف ما أفتاه أبو عبد اللّه(عليه السلام)، فقمت إليه فقلت: ويلك يا أبا حنيفة، إني كنت العام حاجاً فأتيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) مسلماً عليه فوجدت هذا الغلام يستفتيه في هذه المسألة بعينها، فأفتاه بخلاف ما أفتيته؟!

فقال: وما يعلم جعفر بن محمد! أنا أعلم منه؛ أنا لقيت الرجال وسمعت من أفواههم، وجعفر بن محمد صحفي.

فقلت في نفسي: واللّه، لأحجن ولو حبواً. قال: فكنت في طلب حجة فجاءتني حجة، فحججت، فأتيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) فحكيت له الكلام فضحك، ثم قال: «... أما في قوله: إني رجل صحفي فقد صدق، قرأت صحف إبراهيم وموسى».

فقلت له: ومن له بمثل تلك الصحف؟ قال: فما لبثت أن طرق الباب طارق وكان عنده جماعة من أصحابه، فقال للغلام: «انظر من ذا».

فرجع الغلام، فقال: أبو حنيفة.

قال: «أدخله» فدخل فسلم على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فرد عليه السلام، ثم قال - أبو حنيفة - : أصلحك اللّه، أتأذن لي في القعود، فأقبل على أصحابه يحدثهم ولم يلتفت إليه، ثم قال الثانية والثالثة، فلم يلتفت إليه، فجلس أبو حنيفة من غير إذنه، فلما علم أنه قد جلس التفت إليه فقال: «أين أبو حنيفة؟».

فقال: هو ذا أصلحك اللّه.

فقال: «أنت فقيه أهل العراق؟».

قال: نعم.

ص: 497

قال: «فبما تفتيهم؟».

قال: بكتاب اللّه وسنة نبيه.

قال: «يا أبا حنيفة، تعرف كتاب اللّه حق معرفته، وتعرف الناسخ والمنسوخ؟».

قال: نعم.

قال: «يا أبا حنيفة، ولقد ادعيت علماً، ويلك، ما جعل اللّه ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك، ولا هو إلّا عند الخاص من ذرية نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما ورثك اللّه من كتابه حرفاً؛ فإن كنت كما تقول ولست كما تقول، فأخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ ...» - فسأله(عليه السلام) مسائل عجز عن جوابها، إلى أن قال الراوي - : فقنَّع رأسه - أبو حنيفة - وخرج وهو يقول: أعلم الناس ولم نره عند عالم. الحديث(1).

إذن، لعل مراد الإمام(عليه السلام) من هذا الحوار أن يظهر لأبي حنيفة - وغيره - بأنه لا يملك تلك المعرفة والإحاطة الكاملة بكتاب اللّه عزّ وجلّ، وأن القياس باطل لا يجوز الاعتماد عليه في الشريعة الإسلامية وأراد(عليه السلام) أن يبين أيضاً: أن وارث العلم بكتاب اللّه هو النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن بعده هم أهل بيت النبوة(عليهم السلام) الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. وهم الأولى بالاتباع من غيرهم حيث قال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(2). وقال تعالى: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(3) فإنه تجب مودة أهل البيت(عليهم السلام) واتباعهم بنص القرآن الكريم. والمراد

ص: 498


1- بحار الأنوار 2: 292.
2- سورة المائدة، الآية: 55.
3- سورة الشورى، الآية: 23.

من قول الإمام الصادق(عليه السلام) لأبي حنيفة بأنك لم ترث حرفاً من القرآن، أي أنك لم تعرفجانباً واحداً من القرآن الكريم.

أما قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٖ}(1).

فقد جاء في تفسير الآية: أي: على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف، أي: طرف حبل أو نحوه، عن علي بن عيسى قال: وذلك من اضطرابه في طريق العلم إذا لم يتمكن من الدلائل المؤدية إلى الحق، فينقاد لأدنى شبهة لا يمكنه حلّها، وقيل: {عَلَىٰ حَرْفٖ}، أي: على شك، عن مجاهد. وقيل: معناه إنه يعبد اللّه بلسانه دون قلبه.(2)

فالجانب الواحد أوقع أبا حنيفة في الشبهة، في حين أن للقرآن الحكيم جوانب متعددة.

شمولية القرآن الكريم

اشارة

إن القرآن الكريم له جوانب متعددة، فمن جانب: يتحدث القرآن الكريم عن أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد، حيث قال تعالى في التوحيد: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُ}(3).

وفي عدله عزّ وجلّ قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}(4).

وفي إرسال الرسل والأنبياء(عليهم السلام) قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَٰفِرِينَ * إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى

ص: 499


1- سورة الحج، الآية: 11.
2- تفسير مجمع البيان 7: 135.
3- سورة الإخلاص، الآية: 1-4.
4- سورة النساء، الآية:40.

الْعَٰلَمِينَ * ذُرِّيَّةَ بَعْضُهَا مِن بَعْضٖ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1).

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}(2).

وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(3).

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَٰتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(4).

وفي الإمامة قال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}(5).

وقال عزّ وجلّ في تنصيب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(6).

وقال سبحانه في المعاد: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}(7).

ص: 500


1- سورة آل عمران، الآية: 32-34.
2- سورة النساء، الآية: 64.
3- سورة الحديد، الآية: 25.
4- سورة النحل، الآية: 43-44.
5- سورة الرعد، الآية: 7.
6- سورة المائدة، الآية: 67.
7- سورة يونس، الآية: 3-4.

ومن جانب آخر: يتحدث عن فروع الدين فيبحث أهمية الصلاة والصوم والحج وأمثالها من الأعمال العبادية، فقال تبارك وتعالى في الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ السَّئَِّاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰلِلذَّٰكِرِينَ}(1).

وقال سبحانه: {أَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}(2).

وقال عزّ وجلّ في الصيام: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَٰتٖ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(3).

وقال تبارك وتعالى في الحج: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ * فِيهِ ءَايَٰتُ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(4).

ومن جانب ثالث: يبحث عن موضوع السياسة والاقتصاد والاجتماع.

ومن جانب آخر: يبحث عن الحرب والصلح.

ومن جانب: يتحدث عن شؤون الفرد والمجتمع والأسرة وهكذا.

ص: 501


1- سورة هود، الآية: 114.
2- سورة الإسراء، الآية: 78.
3- سورة البقرة، الآية: 183-185.
4- سورة آل عمران، الآية: 96-97.

حتى يستوعب في بحثه كل جوانب حياة الإنسان المادية والمعنوية.

ثم إن هذه المواضيع التي تضمنها القرآن الكريم إنما يتحدث عنها بشكل مجمل مفيد. أما تفسيرها وتأوليها فعلمه عند رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام).

وهذا من حقائق الإعجاز القرآني كونه جامعاً كل شيء، ومبيناً بياناً بليغاًموجزاً كل ما تحتاجه البشرية في كل عصر ومصر، فلو فصلت آية واحدة تفصيلاً كاملاً لنفدت البحار مداداً والأشجار أقلاماً وما نفدت كلمات اللّه. قال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}(1).

قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى واللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد؛ حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن إلّا وقد أنزله اللّه فيه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، إن اللّه تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنزل إليه الكتاب بالحق، وأنتم أميون عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول ومن أرسله، على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانبساط من الجهل، واعتراض من الفتنة، وانتقاض من المبرم وعمى عن الحق، واعتساف من الجور، وامتحاق(3) من الدين، وتلظ من الحروب(4)، على حين اصفرار من

ص: 502


1- سورة الكهف، الآية: 109.
2- الكافي 1: 59.
3- الاعتساف: الأخذ على غير الطريق، والامتحاق: البطلان.
4- التلظي: اشتعال النار وقوله(عليه السلام): «على حين اصفرار» إلى قوله: «أيامها» استعارات وترشيحات لبيان خلو الدنيا حينئذ عن آثار العلم والهداية وما يوجب السعادات الأخروية.

رياض جنات الدنيا، ويبس من أغصانها، وانتثار من ورقها، ويأس من ثمرها، واغورار(1) من مائها، قد درست أعلام الهدى، فظهرت أعلام الردى، فالدنيا متهجمة في وجوه أهلها، مكفهرة مدبرة غير مقبلة، ثمرتها الفتنة وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف ودثارها السيف، مزقتم كل ممزق، وقد أعمت عيون أهلها،وأظلمت عليها أيامها، قد قطعوا أرحامهم، وسفكوا دماءهم، ودفنوا في التراب الموءودة بينهم من أولادهم، يجتاز دونهم طيب العيش ورفاهية خفوض(2) الدنيا، لا يرجون من اللّه ثواباً، ولا يخافون واللّه منه عقاباً، حيهم أعمى نجس، وميتهم في النار مبلس، فجاءهم بنسخة ما في الصحف الأولى، وتصديق الذي بين يديه، وتفصيل الحلال من ريب الحرام، ذلك القرآن، فاستنطقوه، ولن ينطق لكم، أخبركم عنه: إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلمتكم»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قد ولدني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنا أعلم كتاب اللّه، وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر الجنة وخبر النار، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي، إن اللّه يقول: فيه تبيان كل شيء»(4).

القرآن الناطق

جعل اللّه (سبحانه وتعالى) الأئمة الأطهار(عليهم السلام) القرآن الناطق الذين فسّروا لنا القرآن وبيّنوا تأويله، الواحد تلو الآخر؛ فمثلاً: لم يتطرق أحد إلى تفصيل قصص

ص: 503


1- اغورار الماء: ذهابه في باطن الأرض.
2- الخفوض: جمع الخفض وهو الدعة والراحة والسكون.
3- الكافي 1: 60.
4- الكافي 1: 61.

أنبياء اللّه نوح وإبراهيم ويعقوب وسائر الأنبياء الآخرين(عليهم السلام) كما تطرق أئمتنا الأطهار(عليهم السلام)، وليس بمقدور أحد غيرهم البحث في تفصيل حياة هؤلاء المعصومين(عليهم السلام) وهذا التوضيح والتفسير لقصص الأنبياء أخذوه هم(عليهم السلام) من الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتوارثوه الواحد تلو الآخر حتى وصل الأمر إلى الإمام صاحب العصر الحجة بن الحسن (روحي لمقدمه الفداء).

وهكذا بالنسبة إلى سائر علوم القرآن.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه، وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله»(2).

إذن، لا يمكن لأبي حنيفة وقتادة وغيرهما أن يعرفوا شيئاً من علوم القرآن ما لم يرجعوا إلى العترة الطاهرة أهل البيت(عليهم السلام) الذين هم العدل الثاني للقرآن وإنهم لا يفترقون عن القرآن حتى يردا الحوض معاً، وهذا ما جاء عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: «إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا:كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(3).

النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتلاوة القرآن

ذكر المؤرخون أن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يقرأ القرآن في وقت السحر غالباً حيث الناس نيام لم يستيقظوا بعد، وكان أيضاً يقرأ القرآن لأصحابه بصوت حزين وجذاب تميل إليه القلوب وتقشعر له الأجساد، ويبعث الروح الإيمانية في

ص: 504


1- الكافي 1: 191.
2- الكافي 1: 213.
3- حديث الثقلين حديث متواتر متفق عليه من طرق أهل السنة والشيعة. بصائر الدرجات 1: 413.

نفوسهم، فكان يسمعهم الآيات الإلهية، وكان يدعو أيضاً إلى تعلم القرآن وتعليمه، فهناك آيات وروايات كثيرة تؤكد على أهمية تلاوة القرآن والسعي إلى تعلمه وفهم معانيه(1).

سئل أبو عبد اللّه(عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا}(2) قال:«قال أمير المؤمنين(عليه السلام): بينه تبياناً، ولا تهذّه(3) هذّ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل؛ ولكن افزعوا به قلوبكم القاسية، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة»(4).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لقاح الإيمان تلاوة القرآن»(5).

وقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا سلمان عليك بقراءة القرآن فإن قراءته كفارة الذنوب ... وتنزل على صاحبه الرحمة...»(6).

ولهذا عندما سألوا من ابن هشام مؤلف كتاب (مغني اللبيب)(7) الذي يضم في طياته ثمانية أجزاء من القرآن الكريم تقريباً على بعض الأقوال: لماذا لم تكتب أرقام الآيات والسور التي ذكرتها في كتابك؟ فأجاب متعجباً: وهل هناك من يقرأ كتاب (مغني اللبيب) ولم يحفظ القرآن الكريم؟!

نبذ الكتاب

قال تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}(8).

ص: 505


1- انظر وسائل الشيعة 6: 165.
2- سورة المزمل، الآية: 4.
3- الهذ: سرعة القراءة، أي: لا يتسرع فيه كما يتسرع في قراءة الشعر، ولا تفرق كلماته بحيث لا تكاد تجتمع كذرات الرمل.
4- الكافي 2: 614.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 572.
6- جامع الأخبار: 39.
7- كتاب: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب.
8- سورة آل عمران، الآية: 187.

النبذ بمعنى الطرح، وهنا يراد به الترك وعدم الاعتناء، قال ابن عباس: نبذوه أي: رموا به ولم يعملوا به، وإن كانوا مقرين به(1). فعندما ترك المسلمون القرآن قراءة وعملاً أصبحوا أسارى بيد القوى الأجنبية والاستعمارية، فنرى المسلمين اليوم لا يتعاملون مع القرآن بالشكل المطلوب وتركوا العمل بمنهجه القويم،والبعض وضع القرآن في بيته للزينة والتبرك ولا يفتحه إلّا للاستخارة أو للفاتحة على أرواح الموتى، في حين أن القرآن الكريم أرسل إلى الأحياء أولاً، لا لكي يُحصر بالقراءة على الأموات فقط.

وقد جاء عن الإمام الجواد(عليه السلام) أنه قال: «وكل أمة قد رفع اللّه عنهم علم الكتاب حين نبذوه، وولاهم عدوهم حين تولوه، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية...»(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «من قرأ القرآن فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات اللّه هزواً»(3).

وأمير المؤمنين(عليه السلام) أشار في خطبه إلى حالة المسلمين هذه، والمصير الذي سينتهون إليه نتيجة تركهم لكتاب اللّه عزّ وجلّ، وهذا ما نراه في المسلمين اليوم؛ إذ أنهم قد تأخروا وسيطر الأعداء والقوى الظالمة عليهم وهذا هو جزاء من عمل بغير كتاب اللّه سبحانه وتعالى، وإذا ما رجع المسلمون إلى القرآن الكريم، وعملوا به وفق أوامره ونواهيه وتعاليمه ومناهجه، فسوف تعود إليهم عزتهم ومكانتهم السامية بين الأمم مرة أخرى.

ص: 506


1- انظر التبيان في تفسير القرآن 3: 74.
2- الكافي 8: 53.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 228.

قال اللّه سبحانه وتعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1).

فإننا برجوعنا إلى القرآن الحكيم سوف نستلهم الدروس والعبر التي من خلالها يمكن أن نأخذ بأيدي الأمة نحو التقدم والسعادة كما يكن بذلك كسر شوكة المستعمرين، إن القرآن الكريم يصف لنا أخلاق صاحب الرسالة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتي يجب التمسك بها رغم الفاصلة الزمنية البعيدة التي تفصلنا عنه.

فالمسلمون بهذه الطريقة يشعرون أن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حي بتعاليمه وأخلاقه ونهجه وسيدحرون القوى الباطلة الظالمة ويلبسونهم لباس الذل والهوان بإذن اللّه سبحانه وتعالى.

ربيع القرآن

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان»(2).

ومع حلول شهر رمضان شهر اللّه العظيم الذي دعينا فيه إلى ضيافة اللّه العزيز، يجب علينا أن نجدد النظر في أعمالنا وأفعالنا ومحاسبة أنفسنا، وهكذا نجدد علاقتنا بالقرآن الكريم من حيث السعي إلى معرفة المعاني وتفسير القرآن وتلاوته ومعرفة تجويده وتحسين قراءته مضافاً إلى الالتزام بالعمل بقوانينه.

قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ الْهُدَىٰ

ص: 507


1- سورة المائدة، الآية: 15-16.
2- الكافي 2: 630.

وَالْفُرْقَانِ}(1).

القرآن الكريم ودرس التفسير

بحلول شهر رمضان المبارك على الناس كانت تقام مجالس تعليم القرآن وتلاوته في أكثر مدن العراق وخاصة في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، حيث يشرع العلماء والخطباء وأهل الفضل بدروس يومية يفسرون فيها القرآنالكريم ويبيّنون مفاهيمه إلى الناس... وقد وفقت لذلك في كربلاء حيث كان لي درس في تفسير القرآن الكريم في (مدرسة بادكوبة) وكان التفسير بشكل مجمل وسريع من باب التلميح والإشارة؛ وذلك لأجل أن يعرف بعض طلاب العلوم الدينية - الذين هم دعاة ومرشدون وأدلاء على طريق الإسلام - شيئاً من معاني القرآن الكريم ولو بصورة إجمالية، فالقرآن هو مقوم أساسي لشخصية كل رجل دين.

وكانت تقام أنشطة جيدة لتشجيع الشباب والمتدينين لقراءة القرآن وتعلمه، حيث يتولى الحاج محمد حسن الكاتب (وهو أحد الأساتذة المقرئين للقرآن) تقديم الهدايا في شهر رمضان الكريم، وكانت هداياه عبارة عن نسخة نفيسة من كلام اللّه المجيد، وهذا عامل مشجع ومهم في هداية الناس إلى الارتباط بالقرآن الكريم أكثر، وعن هذا الطريق أيضاً كان ينشر كتاب اللّه بين المؤمنين ويرشدهم إليه.

القرآن وضرورة تعلمه

نقل أن أحد الطلاب وصل إلى مرحلة دراسيّة جيدة، ومن جملة ما قرأه كتاب (المطوّل) في الأدب العربي والبلاغة، ولكن مع هذا لم يكن يدرس عن القرآن

ص: 508


1- سورة البقرة، الآية: 185.

الكريم ولم يكن يعرف عنه إلّا القليل جداً، وفي أحد الأيام وهو في طريقه إلى بيته رأى ورقة ساقطة على الأرض رفعها ثم قرأها، فوجد الكلمات جميلة وفي قمة البلاغة والنظم، ولكنه لم يكن يعرف أنها آية من القرآن الكريم، فسأل أستاذه عن مضمون تلك الكلمات وفي أي كتاب هي؟

فأجابه الأستاذ: ويحك! إنها آيات من كتاب اللّه الحكيم وأنت عنها غافل؟!

نعم، هذه المأساة يجب أن تعالج حيث إن المسلمين ابتعدوا عن القرآنالكريم تلاوة وفهماً وتطبيقاً، وحتى أن بعض الحوزات العلمية تراهم يصرفون أوقاتاً كثيرة في دراسة علوم شتى دون أن يجعلوا وقتاً خاصاً لدراسة وقراءة القرآن الكريم، وهو أمر خطير ولا تحمد عقباه؛ ولذا يلزم على طلاب العلوم الدينية في مختلف مراحلهم الدراسية أن يجدّوا ويجتهدوا في تعلم القرآن الكريم والتدبر فيه، كما أن من الضروري جداً وضع دراسات القرآن ضمن المناهج الحوزوية الأصلية إلى جانب الفقه والأصول؛ لأن القرآن إمام ورحمة، ولأنه غني لا غنى بعده، ولأن في القرآن علم الأولين والآخرين، فقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام):

«وفي القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال:

«ما من أمر يختلف فيه إثنان إلّا وله أصل في كتاب اللّه عزّ وجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(2).

عمق القرآن الكريم

إن القرآن الكريم بحر لا ينضب وقد جعله اللّه تعالى لكل الأزمنة والعصور،

ص: 509


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 313.
2- الكافي 1: 60.

ودعا الناس إلى الاغتراف منه والتفكر فيه بقوله عزّ وجلّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(1).

أي يتفكرون فيه ويعتبرون به، وقيل أفلا يتدبرون القرآن فيقضوا ما عليهم من الحق. و{أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} معنى تنكير القلوب إرادة قلوب هؤلاء ومن كان مثلهم من غيرهم(2).وقال الإمام الرضا(عليه السلام) يوماً في القرآن فعظم الحجة فيه والآية والمعجزة في نظمه فقال: «هو حبل اللّه المتين وعروته الوثقى، وطريقته المثلى، المؤدي إلى الجنة والمنجي من النار، لا يخلق على الأزمنة، ولا يغث على الألسنة؛ لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، والحجة على كل إنسان، {لَّا يَأْتِيهِ الْبَٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٖ}»(3)(4).

فالقرآن بحر لا ينتهي أو ينفد، فهو كما كان العلاج الصحيح لمشاكل الإنسانية في العصور المتقدمة كذلك هو العلاج الناجح والحل الواقعي لمشاكل الإنسانية في العصر الحاضر وكذلك المستقبل، لأنه برنامج متكامل صاغه الباري عزّ وجلّ وهو العالم باحتياجات الإنسان إلى يوم القيامة.

في رحاب سورة يوسف(عليه السلام)

كان أحد الخطباء الماهرين(5) يرتقي المنبر في مسجد الهندي في النجف الأشرف، وذلك في أيام شهر رمضان المبارك، وكانت مجالسه تتضمن علوم

ص: 510


1- سورة محمد، الآية: 24.
2- انظر تفسير مجمع البيان 9: 174.
3- سورة فصلت، الآية: 42.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 130.
5- وهو الخطيب الشيخ مهدي الواعظي الخراساني(رحمه اللّه).

التفسير غالباً، وكان تفسيره آنذاك في سورة يوسف(عليه السلام) بشكل مفصل ودقيق، ولم ينته من تفسير هذه السورة المباركة رغم الوقت الطويل الذي قضاه في البحث فيها؛ وما ذلك إلّا لعظمة هذه السورة - كما باقي السور - حتى أنه في إحدى السنين وفي آخر ليلة من شهر رمضان المبارك، قال هذه الكلمة على المنبر عند ختمه المجلس: (بأننا وصلنا إلى الآية: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(1). وهي الآيةالمباركة التي تتحدث حول إدخال يوسف(عليه السلام) في البئر، وفي السنة القادمة سيكون الكلام بإذن اللّه عزّ وجلّ في الآية التي تليها: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ قَالَ يَٰبُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةً وَاللَّهُ عَلِيمُ بِمَا يَعْمَلُونَ}(2) التي تتحدث عن كيفية خروج يوسف(عليه السلام) من البئر).

فهذا العالم قضى شهراً كاملاً بالتحدث حول جانب واحد من قصة نبي اللّه يوسف(عليه السلام)، وفي مجلس يحضره العلماء والفضلاء من طلبة العلوم الدينية.

من معاجز القرآن

يذكر أن أحد المشايخ الفضلاء كان يعاني ضعفاً شديداً في النظر، فراجع طبيباً للعيون فشخّص له الطبيب درجة ضعف نظره وحذّره من أن عينه تتجه نحو المزيد من الضعف، فلا بد له من الانتباه لهذا الأمر قبل فوات الأوان.

وبعد سنة قضاها في تدوين وترتيب تفسير القرآن الكريم راجع ذلك الطبيب نفسه مرة ثانية، فلما أجرى الفحوص اللازمة على عينه وجدها متحسّنة عمّا كانت عليه العام الماضي! فاندهش الطبيب وسأله: ماذا صنعت خلال العام

ص: 511


1- سورة يوسف، الآية: 15.
2- سورة يوسف، الآية: 19.

الماضي؟ هل راجعت طبيباً آخر، أو استعملت أدوية معينة؟

قال الشيخ: نعم راجعت القرآن الكريم، فقد صرت أقرأ في آيات وكلمات هذا الكتاب العظيم وأنا أعمل في كتاب تفسير للقرآن الكريم، وعندنا في الأحاديث المشرفة أن النظر إلى كتاب اللّه الحكيم يوجب جلاء البصر وقوة النظر وشفاء العين.

فأخذ الطبيب بيد الشيخ وجاء به إلى غرفة الانتظار وشرح للحاضرين هذه القصة وقال: إنها معجزة القرآن. هذا مضافاً إلى أن القرآن الكريم وقراءته يؤثرإيجاباً حتى على صحة الإنسان وسلامته.

التوفيق الإلهي

سئل طالب علم ذات يوم عن سبب تركه لتلاوة القرآن الكريم؟ حيث إن عادة بعض طلاب العلوم الدينية جرت على تلاوة القرآن صباحاً في كل يوم، فقال: قد سلب مني التوفيق الإلهي بسوء تصرفي؛ والسبب في ذلك أنني كنت أملك قرآناً جميلاً - من حيث الخط والتجليد - وكان معي دائماً، وفي إحدى السنين سافرت إلى مكة المكرمة وفي يوم كنت مشغولاً بتلاوة القرآن في المسجد الحرام، وفجأة وقع نظري على كتاب جميل ملون لفت انتباهي كثيراً، فقلت لصاحب الكتاب: ما هذا الكتاب الذي عندك؟

فقال: ديوان شعر ليزيد بن معاوية.

فقلت له: هل تبيع ذلك الكتاب؟

قال: كلا.

وبعد إصراري الشديد عليه، قال: إذا شئت ذلك، أبدله مع القرآن الذي عندك.

في بداية الأمر ترددت في ذلك، ولكن جاءتني الوساوس الشيطانية من كل

ص: 512

جانب وأخيراً غلبتني، فأعطيت القرآن مقابل ديوان شعر يزيد! فبعد أن فرطت بكتاب اللّه عزّ وجلّ بهذه الصورة سلب مني التوفيق الإلهي لقراءة القرآن، وكلما أردت أن أقرأ القرآن كنت أتصور كأن شخصاً يأتي إليّ ويمنعني عن ذلك، ولهذا السبب لم أوفق لقراءة القرآن من ذلك اليوم إلى الآن.

وفي ظل الظروف العصيبة والمحن التي تمر بنا والفتن التي تكالبت علينا من كل جانب يتوجب علينا أن نكرس جهودنا لكتاب اللّه المجيد، قراءة وتعلماً وفهماً لمعانيه؛ لأنه إمام ورحمة للعالمين، وإذا سلب منا التوفيق لذلك فإن فيذلك خسارتنا وخيبتنا، وسوف يتسلط على رقابنا الظالمون ونخسر الدارين، نعوذ باللّه من ذلك.

عظمة آيات اللّه عزّ وجلّ

قال الإمام السجاد علي بن الحسين(عليهما السلام): «عليك بالقرآن؛ فإن اللّه خلق الجنة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصاها اللؤلؤ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن، فمن قرأ القرآن قال له: اقرأ وارق، ومن دخل منهم الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه ما خلا النبيين والصديقين»(1).

أي: أن منزلتك ورقيك في الجنة بمقدار ما قرأت وحفظت من كتاب اللّه المجيد.

والفاصلة الموجودة بين درجة ودرجة في الجنة كما تنقل إلينا الروايات هي ما بين السماء والأرض، حتى أن الشخص يرى الذي أعلى مرتبة منه كرؤية أحدنا إلى نجوم السماء. فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجنة مائة درجة ما بين كل درجة

ص: 513


1- تفسير القمي 2: 259.

منها كما بين السماء والأرض...»(1).

من هنا نعرف عظمة الثواب والمنزلة التي يحصل عليها قارئ القرآن.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اقرءوا القرآن واستظهروه فإن اللّه تعالى لا يعذب قلباً وعى القرآن»(2).

لذا يلزم على كافة المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي وخاصة طلبة العلومالدينية، الذين بهم يقتدى إلى طريق الحق، الاهتمام بالقرآن وقراءته وتعلمه؛ لأنه نورٌ من العمى، وهدى من الضلال، وانتصار في كل جوانب الحياة، وفي نبذه الخيبة والخسران المبين.

«اللّهم ارحمني بترك معاصيك أبداً ما أبقيتني، وارحمني من تكلف ما لا يعنيني، وارزقني حسن المنظر في ما يرضيك عني، وألزم قلبي حفظ كتابك كما علمتني، وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني. اللّهم نوِّر بكتابك بصري، واشرح به صدري، وفرِّح به قلبي، وأطلق به لساني، واستعمل به بدني، وقوني على ذلك وأعني عليه، إنه لا معين عليه إلّا أنت، لا إله إلّا أنت»(3).

من هدي القرآن الحكيم

القرآن هدى وشفاء

قال تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}(4).

ص: 514


1- بحار الأنوار 8: 196.
2- جامع الأخبار: 41.
3- الكافي 2: 577.
4- سورة فصلت، الآية: 44.

وقال عزّ وجلّ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}(2).

التدبر في القرآن

قال عزّ وجلّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(3).وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ}(4).

وقال تعالى: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

لا يفسر القرآن بالرّأي

قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}(6).

القرآن الناطق

قال جلّ وعلا: {قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَٰبِ}(7).

ص: 515


1- سورة الاسراء، الآية: 82.
2- سورة يونس، الآية: 57.
3- سورة محمد، الآية: 24.
4- سورة النساء، الآية: 82.
5- سورة ص، الآية: 29.
6- سورة آل عمران، الآية: 7.
7- سورة الرعد، الآية: 43.
العلماء بالقرآن

قال عزّ وجلّ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(1).

وقال عزّ من قائل: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(2).

تعليم القرآن وتعلمه

قال تعالى: {كُونُواْ رَبَّٰنِيِّۧنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}(3).

آثار قراءة القرآن

قال عزّ وجلّ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(4).

وقال سبحانه: {إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا}(5).

وقال تعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ}(6).

إبداع القرآن

قال تبارك اسمه: {كِتَٰبٌ فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٖ يَعْلَمُونَ}(7).

وقال جلّ شأنه: {كِتَٰبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(8).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(9).

ص: 516


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة النحل، الآية: 43.
3- سورة آل عمران، الآية: 79.
4- سورة الأنفال، الآية: 2.
5- سورة مريم، الآية: 58.
6- سورة المائدة، الآية: 15.
7- سورة فصلت، الآية: 3.
8- سورة هود، الآية: 1.
9- سورة يوسف، الآية: 2.
القرآن إعجاز وتحد

وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٖ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا}(2).

قال سبحانه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ}(3).

وقال عزّ من قائل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٖ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٖ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(4).

من هدي السنّة المطهّرة

القرآن شفاء نافع

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا سلمان، عليك بقراءة القرآن؛ فإن قراءته كفارة للذنوب، وستر من النار، وأمان من العذاب، ويكتب لمن يقرأ بكل آية ثواب مائة شهيد، ويعطى بكل سورة ثواب نبي مرسل، وتنزل على صاحبه الرحمة، وتستغفر له الملائكة، واشتاقت إليه الجنة ورضي عنه المولى. وإن المؤمن إذا قرأ القرآن نظر اللّه إليه بالرحمة، وأعطاه بكل آية ألف حور، وأعطاه بكل حرف نوراً على الصراط. فإذا ختم القرآن أعطاه اللّه ثواب ثلاثمائة وثلاثة عشر نبياً بلّغوا رسالات ربهم، وكأنما قرأ كل كتاب أنزل اللّه على أنبيائه، وحرم اللّه جسده على النار، ولا يقوم من مقامه حتى يغفر اللّه له ولأبويه، وأعطاه بكل سورة في القرآن مدينةً في جنة

ص: 517


1- سورة الطور، الآية: 33-34.
2- سورة الاسراء، الآية: 88.
3- سورة البقرة، الآية: 23.
4- سورة هود، الآية: 13.

الفردوس، كل مدينة من درة خضراء، في جوف كل مدينة ألف دار، في كل دار مائة ألف حجرة، في كل حجرة مائة ألف بيت من نور، على كل بيت مائة ألف باب من الرحمة، على كل باب مائة ألف بواب، بيد كل بواب هدية من لون آخر، وعلى رأس كل بواب منديل من إستبرق خير من الدنيا وما فيها، وفي كل بيت مائة ألف دكان من العنبر، سعة كل دكان ما بين المشرق والمغرب، وفوق كل دكان مائة ألف سرير، وعلى كل سرير مائة ألف فراش، من الفراش إلى الفراش ألف ذراع، وفوق كل فراش حوراء عيناء استدارة عَجِيزَتَها ألف ذراع، وعليها مائة ألف حلة، يرى مخ ساقيها من وراء تلك الحلل، وعلى رأسها تاج من العنبر مكلل بالدر والياقوت، وعلى رأسها ستون ألف ذؤابة من المسك والغالية، وفي أذنيها قرطان وشنفان، وفي عنقها ألف قلادة من الجوهر، بين كل قلادة ألف ذراع، وبين يدي كل حوراء ألف خادم، بيد كل خادم كأس من ذهب، في كل كأس مائة ألف لون من الشراب، لا يشبه بعضه بعضاً، وفي كل بيت ألف مائدة، وفي كل مائدة ألف قصعة، وفي كلقصعة ألف لون من الطعام، لايشبه بعضه بعضاً، يجد ولي اللّه من كل لون مائة ألف لذة، يا سلمان، المؤمن إذا قرأ القرآن فتح اللّه عليه أبواب الرحمة، وخلق اللّه بكل حرف يخرج من فمه ملكاً يسبح له إلى يوم القيامة»(1) الخبر.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «القرآن عهد اللّه إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية»(2).

آداب قراءة

قال الإمام الرضا عن أبيه عن جده(عليهم السلام)، في تفسير قوله تعالى: «{فَاقْرَءُواْ مَا

ص: 518


1- مستدرك الوسائل 4: 257.
2- الكافي 2: 609.

تَيَسَّرَ مِنْهُ}(1): «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(2).

إبداع القرآن

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وإن القرآن ظاهره أنيق(3)

وباطنه عميق، لا تفني عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولاتكشف الظلمات إلّا به...»(4).

وفي دعاء للإمام السجاد(عليه السلام) قال: «اللّهم، فإذ أفدتنا المعونة على تلاوته، وسهّلت جواسي ألسنتنا بحسن عبارته فاجعلنا ممن يرعاه حق رعايته ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته، ويفزع إلى الإقرار بمتشابهه ومُوضَحَاتِ بيِّناته»(5).

إعجاز القرآن

قال الإمام الباقر(عليه السلام) في بيان قول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أعطيت جوامع الكلم» قال:«القرآن»(6).

فضل القرآن وعظمته

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «القرآن أفضل من كل شيء دون اللّه عزّ وجلّ، فمن وقّر القرآن فقد وقّر اللّه، ومن لم يوقّر القرآن، فقد استخف بحرمة اللّه، وحرمة القرآن على اللّه كحرمة الوالد على ولده»(7).

حافظ القرآن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عدد درج الجنة عدد آي القرآن، فإذا دخل صاحب

ص: 519


1- سورة المزمل، الآية: 20.
2- تفسير مجمع البيان 10: 169.
3- أنيق: حسن معجب وآنقني الشيء: أعجبني.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 18، من كتاب له(عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا.
5- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) عند ختم القرآن.
6- انظر الأمالي للشيخ الطوسي: 484.
7- جامع الأخبار: 40.

القرآن الجنة قيل له: ارقأ واقرأ، لكل آية درجة، فلا تكون فوق حافظ القرآن درجة»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الحافظ للقرآن، العامل به، مع السفرة الكرام البررة»(2).

مستمع القرآن

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من استمع آية من القرآن، خير له من ثبيرٍ(3)

ذهب»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من استمع حرفاً من كتاب اللّه عزّ وجلّ من غير قراءة، كتب اللّه له حسنة، ومحا عنه سيئة، ورفع له درجة»(5).

تعليم القرآن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اقرءوا القرآن واستظهروه؛ فإن اللّه تعالى لا يعذب قلباً وعى القرآن»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خياركم من تعلّم القرآن وعلّمه»(7).

ترتيل القرآن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد

ص: 520


1- بحار الأنوار 89: 22.
2- الكافي 2: 603.
3- ثَبير: جبل عظيم بمكة.
4- جامع الأخبار: 41.
5- الكافي 2: 612.
6- جامع الأخبار: 41.
7- الأمالي للشيخ الطوسي: 357.

القرآن حسناً، وقرأ واللّه {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}»(1)(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا}(3) قال: «هو أن تتمكث فيه، وتحسن به صوتك»(4).

لا يفسر القرآن بالرأي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما أتخوف على أمتي من بعدي ثلاث خلال: أن يتأوّلوا القرآن على غير تأويله، أو يتّبعوا زلة العالم أو يظهر فيهم المال حتى يطغوا ويبطروا، وسأنبئكم المخرج من ذلك: أما القرآن فأعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وأما العالم فانتظروا فيئته ولا تتبعوا زلته، وأما المال فإن المخرج منه شكر النعمة وأداء حقه»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فإياك أن تفسّر القرآن برأيك حتى تفقهه عنالعلماء»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من فسر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر وإن أخطأ كان إثمه عليه»(7).

القرآن الناطق

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين(8) لا

ص: 521


1- سورة فاطر، الآية: 1.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 69.
3- سورة المزمل، الآية: 4.
4- وسائل الشيعة 6: 207.
5- الخصال 1: 164.
6- التوحيد: 264.
7- تفسير العياشي 1: 17.
8- دفتا المصحف: جانباه اللذان يكنفانه.

ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال... فإذا حكم بالصدق في كتاب اللّه فنحن أحق الناس به، وإن حكم بسنة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فنحن أحق الناس وأولاهم بها»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن وقطب جميع الكتب، عليها يستدير محكم القرآن، وبها نوّهت الكتب ويستبين الإيمان...»(2).

العلماء بالقرآن

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن من علم ما أوتينا، تفسير القرآن وأحكامه»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنا أهل البيت لم يزل اللّه يبعث فينا من يعلم كتابه من أوّله إلى آخره»(4).

ص: 522


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 125، من كلام له(عليه السلام) في التحكيم.
2- تفسير العياشي 1: 5.
3- الكافي 1: 229.
4- بصائر الدرجات 1: 194.

محاسبة النفس ومحكمة الضمير

النَّفس هي المَحكمة الأولى في عالم الدّنيا

قال اللّه تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَىٰهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}(1).

إذا عمل الإنسان عملاً سيئاً أو قبيحاً، فإن أول شيء يلومه هو نفسه، وكذلك بالنسبة للعمل الصالح فإن أول من يرتضيه منه هي نفسه. لأن من كمال النفس الإنسانية أنها فطرت على الإيمان باللّه تعالى والدين، وأُلهمت - بحسب الفطرة - التمييز بين العمل السييء (الفجور)، والعمل الصالح (التقوى)؛ قال تعالى: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(2).

فإذا استقر الإيمان باللّه وبالدين الذي هو الإسلام في النفس الإنسانية فإن تحلية النفس بالتقوى هو نوع تزكية، وتزويدها بما يمدّها في بقائها وينميها نماءً صالحاً.

وعلى العكس من ذلك، لو استقر فيها الفجور، فالنفس تستنكر العمل السيء؛ لأنه لا ينميها وهي تتزكى بالعمل الصالح وتتزود به. إضافة إلى ما فطرت

ص: 523


1- سورة النجم، الآية: 39-41.
2- سورة الشمس، الآية: 7-10.

عليه من الإيمان؛ قال تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَٰأُوْلِيالْأَلْبَٰبِ}(1). هذا في الحياة الدنيا، أما في الآخرة؛ فالنفس تقف أمام محكمة العدل الإلهي، فإن كانت عملت خيراً فهي مطمئنة، وإن كانت متأرجحة بين الخير والشر فهي تلوم صاحبها على عمل الشر، وتتمنى أنها استزادت من عمل الخير، وإن كانت عملت الشر دون توبةٍ فهي حليفة الحسرات؛ لأنها لم تلتفت إلى عملها في الدنيا، ولم تحاسب نفسها قبل أن تقف بين يدي اللّه تعالى؛ قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَٰزِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَئًْا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٖ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ}(2)، وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٖ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٖ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٖ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}(3)، فقد عرف أهل البصيرة والإيمان أن اللّه تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيحاسبون في محكمة العدل الإلهي حتى على الأعمال التي تساوي مثقال ذرة، وهي أصغر شيء في عالم المحسوس، ولا ينجي من هذه المحكمة الكبرى إلّا محاسبة النفس دائماً ومراقبتها، وذلك بجعل محكمة مصغرة في النفس تراقب أعمال الإنسان اليومية وجوارحه، من عين وأُذن ولسان وبطن وفرج ويد ورجل، فيحفظهم عن كل محرم وسيء، عن طريق التدبر في عاقبة الأمور. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر»(4). وعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) أنه قال: «ألّا فحاسبوا أنفسكم قبل أن

ص: 524


1- سورة البقرة، الآية: 197.
2- سورة الأنبياء، الآية: 47.
3- سورة آل عمران، الآية: 30.
4- محاسبة النفس: 13.

تحاسبوا، فإن في القيامة خمسين موقفاً كلموقف مقام ألف سنة»(1).

وما دامت أعماله رهينة بيده، فهو قادر على أن يكتب لنفسه خاتمة سعيدة في الجنة، فإذا انقضت الدنيا انقطع عمله وبقيت سيئاته على حالها حتى يعاقب عليها، فالإنسان ما دام في عالم التغيير وهو قادر على تغيير مصيره وخاتمته باختياره فليجهد نفسه من أجل أن يكون له وجه مشرّف أمام ربه تبارك وتعالى. وهذا المعنى هو ما يدعو إليه الحديث الشريف.

وإضافة إلى هذا المعنى هناك أمر آخر بجانبه، وقد ذكره أكثر كتب الأخلاق، وهو محاسبة النفس، بمعنى توبيخها كل ليلة، وتأنيب الضمير ولوم النفس، والعزم على عدم تكرار السيئات، والثبات على هذا العزم وهذه النية.

بعض آثار الزهد

اشارة

كان أحد الشخصيات المعروفة في العراق إماماً لصلاة الجماعة، وفي مرة جاء أحد الزهاد وحضر الصلاة خلفه، لكنّه لم يواصل تلك الصلاة، بل قطعها وأتمها منفرداً، وحينما عرف إمام الجماعة ذلك أظهر عدم ارتياحه، وسأل الرجل الزاهد عن سبب تركه صلاة الجماعة قائلاً له، أرأيت مني ما ينافي الصلاة؟ فأجابه الزاهد، كلا، ولكنك لم تكن حاضراً في الصلاة، بل كنت منشغلاً بشراء اللحم. فقال له إمام الجماعة: لقد صدقت، فإني فعلاً كنت أُفكر بشراء اللحم، فكلا النفسين كانت تسعى وتعمل، ولكن سعي الأول كان في الفضائل التي نال بها جزاءه الأوفى بانكشاف الحقائق أمام وجدانه، والثاني سعى، ولكن سعيه مخلوط بالهوى ومتعلقات الدنيا، ففقد خاصيّة الانكشاف، وهذا كان جزاءً له.

ص: 525


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 111.

إن كمال الأعمال ومقياس قبولها وتفضيلها هو لأجل رضا اللّه تعالى وفيسبيله، ولا يتحقق هذا الأساس إلّا بترويض النفس على حب الخير، ونبذ الشر، بإخراج حب الدنيا وما يتعلق بها من الماديات الفانية من القلب، وهذا يتم كذلك بالتفكير المستقيم، وجهاد النفس. وإن القلب إذا تروّض على العمل الصالح سوف يتبعه سائر الجوارح، ولقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) في فضيلة ترويض النفس وإصلاحها أنه قال(عليه السلام): «طوبى لعبد جاهد في اللّه نفسه وهواه، ومن هزم جند هواه ظفر برضا اللّه، ومن جاوز عقله نفسه الأمارة بالسوء، بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة اللّه تعالى من النفس والهوى، وليس لقتلهما وقطعهما سلاحٌ وآلة إلى اللّه سبحانه والخشوع، والجوع والظمأ بالنهار، والسهر بالليل، فإن مات صاحبه مات شهيداً، وإن عاش واستقام أدّاه عاقبته إلى الرضوان الأكبر؛ قال اللّه عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(1)»(2).

الوجدان أفضل المحاكم

الاتزان والاعتدال في الشخصية من الأمور التي تكسب الشخصية قوتها ومقومات ثباتها. كما أنهما يُعدّان من الصفات الأساسيه والرئيسية للنفس البشرية، فقد أودعها اللّه تعالى في فطرة الإنسان لغرض المحافظة على الصواب في جميع شؤون الحياة. ولكن عند ما يعيش الإنسان صراعاً مع نفسه، فإن ذلك كفيل بتدمير حياته، وقبل ذلك عذاب الوجدان والضمير، لأنه سوف ينظر إلى الدنيا وقد أظلمت في عينيه فلا يعرف كيف يدبر أبسط الأشياء وعند ذلك قد

ص: 526


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.
2- مصباح الشريعة: 169.

يلجأ إلى أعمال لا تتناسب مع شخصيته كوسيلة يتصور بها استقرار النفس وراحتها.

ذات مرة جاء شخص إلى أحد العلماء، وقال: إنني قد ارتكبت جريمة، ومع علمي بأن اللّه سيتوب عليّ؛ لأنه هو التواب الرحيم، لكن هناك إحساس في داخلي يؤذيني كثيراً. بحيث إني ومنذ ساعة الجريمة، ولحد الآن، لم أرَ النوم، وجريمتي هي أن لي طفلاً صغيراً، وفي أحد الأيام، أزعجني كثيراً، فغضبت وأخذته إلى الحمام وفتحت عليه الماء الحار حتى قتلته، ومع إني أعرف جيداً أن اللّه يغفر الذنوب جميعاً، وبعد التوبة والندم، لكن وجداني يؤنبني ولم يتركني لأرتاح حتى لحظة واحدة، والآن ماذا ترى أن أفعل غير التوبة والصدقة والكفارة، لكي يرتاح وجداني؟

هذه القصة أُنموذج على محاكمات الوجدان، لذا علينا أن نغرس في نفوس أبناء المجتمع هذه الفكرة، وهي أن أي ذنب كبيراً كان أو صغيراً، فإن وراءه مسؤولية عظيمة، وأن صاحبه لن يفلت من محكمة الوجدان، ومحكمة العدل الإلهي. فأحياناً لكثرة الذنوب والمعاصي والسلوك المنحرف تتكون كدورة على الضمير الإنساني فتحجبه عن التأثير، وعندها يمكن أن يفلت الإنسان من محكمة الضمير؛ لأنه سيكون أشبه بالضمير الميّت، الذي لا يؤنّب صاحبه على كل خطيئة. ولكن ليعلم الإنسان أنه إذا استطاع أن يُلوث ضميره، ويهرب من محاسبته فأين يهرب من المحكمة الإلهية في يوم القيامة التي لا تُغادر صغيرة ولا كبيرة. فعلى الإنسان قبل أن يصل إلى تلك المشاهد الأخروية أن يقدم لحياته ولموقفه ذاك مقدمات إيمانية تنقذه من الوقوع في النار، فعليه أن يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، وأن لا يقصّر بها لكي لا يقع في التقصير

ص: 527

والذنوب. فإن هذا الشعور هو الذي يدفع بالإنسان نحو العمل والمثابرةوالإخلاص؛ لأنه سوف ينظر إلى الحياة نظرة مسؤولة، ولأنه مسؤول عن كل أعماله ولا مفرّ من الإجابة عليها.

النّفس والوجدان كفيلان بكشف الحقائق

ينقل أن رجلاً قتل امرأة، ثم رماها في بئر في بستان من البساتين، وبعد مضي شهر واحد تم العثور على ذلك الجسد، وقد تعرفت الشرطة على القاتل عن طريق سجن عدد من الذين يشتبه بهم، ووضعوا عليهم حراسات مشددة، وبدأوا بالتحقيق معهم، وفي إحدى الليالي سمع أحد الحراس صوت أحد هؤلاء السجناء يصيح، وهو في حالة النوم: (اربطوا يدها ثم اسحبوها، والقوها في البئر). وبعد أن أيقظوه وبدأوا التحقيق معه، اعترف بارتكابه تلك الجريمة، وأدانته المحكمة بعد أن اعترف وجدانه قبل أن يعترف لسانه؛ لأن النفس هي المحكمة الأولى للإنسان فتستنكر العمل السيء، وتحاول أن تعيد الإنسان إلى فطرته الصحيحة، فتظهر الإدانة منها قبل إدانة الآخرين لها. وهنا من الممكن أن يكون هناك قاتل ولم يتمكن المعنيون من القبض عليه، لكنه لن يفلت من تأنيب الضمير والوجدان في الدنيا، وفي الآخرة ويوم القيامة الذي لا يخفى فيه عن اللّه شيء ستلوم هذه النفس صاحبها إن كانت عملت خيراً قليلاً قائلة: هلاّ ازددت، وإن كانت عملت سوءاً قالت ياليتني لم أفعل، قال تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}(1).

الضمير رقيب سريّ مُضْمَر

اشارة

هنالك عوامل عديدة تؤدي إلى صلاح المجتمع وتكامله. ومن أهم هذه العوامل مراعاة القوانين الإلهية، والعمل على وفقها، وهذا الأمر يتكامل إذا كان

ص: 528


1- سورة القيامة، الآية: 2.

هناك شعور بالمسؤولية وإيمان راسخ نابع من اليقين الهادف، فهذا الشعوريشترط تواجده في جميع مجالات الحياة، سواء في المعمل أو المدرسة أو البيت أو السوق أو المزرعة، أو في أي مجال آخر. ومن الأمور البديهية أن المسؤولية التي يبديها الإنسان تجاه هذه الأعمال نابعة من نفس الإنسان، ومن أعماقه، ولذلك نستطيع أن نميّز بين الإنسان المسؤول وبين غير المسؤول، وذلك من خلال الصورة التي يرسمها الإنسان في الواقع، والمعبرة عن حقيقته واتجاهه.

إننا نرى ومن خلال واقعنا اليومي كثيراً من الأعمال، ونقول: هذا العمل صحيح، وهذا العمل غير صحيح، أو ذلك العمل جاد أو غير جاد، والسبب في الصدق والجدية والمسؤولية هو الضمير المستكنّ في داخل كل إنسان؛ لأنه يؤنب على عدم الصدق وعدم الجدّية وعدم المسؤولية، وإن هناك أجهزة تدوّن أفعاله خيرها وشرها، بل حتى خاطراته الذهنية. ولو فكّر الإنسان بهذه المحاكمة الدنيوية والأُخروية، فإنه سوف يغير ما بنفسه، بل سيغير حتى أفكاره التي لم يجسدها في الخارج وبالنتيجة تكون أقواله وأفعاله وفق ميزان معين محسوب ومدروس، مراعياً أنظمة المراقبة الذاتية والإلهية؛ قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(1).

المراقبة

حكي أن عالماً كان له جماعه يترددون عليه، ويديمون مجالسته للاستفادة، فكان يكرم من بينهم شاباً ويقدّمه عليهم. فقال له بعض أصحابه: كيف تكرم هذا، وهو شاب ونحن شيوخ؟ فدعا بعدّة طيور وناول كل واحد منهم طائراً وسكيناً، وقال: ليذبح كل واحد منكم طائره في موضع لا يراه أحد ودفع إلى

ص: 529


1- سورة النساء، الآية: 1.

الشاب مثل ذلك، وقال له: كما قال لهم. فرجع كل واحد منهم بطائره مذبوحاً،ورجع الشاب وطائره حيّ في يده. فقال: مالك لم تذبح كما ذبح أصحابك؟ فقال: لم أجد موضعاً لا يراني فيه أحد إذ أن اللّه مطلع عليّ في كل مكان، فاستحسنوا منه هذه المراقبة(1). وإذا كانت أفعال الإنسان تحت الرقابة الإلهية دائماً، ومحسوبة بشكل دقيق، فعلى الإنسان أيضاً أن يراقب نفسه وجوارحه دائماً، أي: يشكل جهاز مراقبة ذاتية، وقد أشرنا سابقاً إلى تشكيل محكمة مصغرة لمحاكمة النفس على أفعالها، ولتكن الرقابة نابعة من هذه المحكمة، لتوصّل إلى محكمة النفس مجريات الأمور، ويتم وفقها معالجة الأعمال ومحاسبتها في الدنيا، قبل الانتقال إلى المحكمة الكبرى التي لا يمكن عندها معالجة الأخطاء والسيئات. وفي الحديث القدسي: «انما يسكن جنات عدن الذين إذا همّوا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني، والذين انحنت أصلابهم من خشيتي، وعزّتي وجلالي! إني لأهمّ بعذاب أهل الأرض، فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب»(2).

لذا فإن المراقبة الذاتية والإلهية والعلم بالوقوف للحساب يوم القيامة يجعل الإنسان مسؤولاً أمام كل تحرك وفعل ونطق ونظر، وما شابه من أعمال الجوارح.

المسؤولية

اشارة

المسؤولية ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة الإنسان، وتدفعه نحو الاستقامة، والإحساس بالمسؤولية ضرورة من ضروريات الحياة، وتلك الضرورة مستندة على أساس طبيعة وخصائص نوع المجتمع والفرد. وهنالك عوامل عديدة لها

ص: 530


1- انظر تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 235.
2- جامع السعادات 3: 76.

تأثير على المسؤولية، منها الدين والعقيدة والعواطف والعادات، فمن هنا أصبحالشعور بالمسؤولية واجباً عقلياً، وذلك من أجل الإصلاح والبناء.

وهنالك عوامل عديدة تثير فينا حس المسؤولية كما قلنا، منها الدين الذي يحث على المسؤولية ولا يستثني أحداً من البشر، لذلك جعل الكُلّ محاسبين في حالة التقصير، وكذلك الأخلاق التي تعتبر من المرتكزات القوية لدفع الإنسان نحو المسؤولية، والعوامل الأخرى من استقرار النفس، وإحكام الضمير والوجدان. قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسُْٔولًا}(1)، ولو استقام الإنسان بفعل المحاكمة والمسؤولية فستكون أفعاله ذات غاية شريفة وهدف نبيل، ويحصل على السعادة الدنيوية والأخروية.

نموذج مِن الشعور بالمسؤولية

كان في العراق معمار. ذو أخلاق عالية، وأغلب الناس ترجع إليه في بناء بيوتهم، وفي مدة لاحظوا أن العمال وبعد أن انتهوا من عملهم راحوا إلى الجصّ الموجود هناك وأخذوا ينفضون ملابسهم التي كانوا يرتدونها أثناء العمل، وقد استمروا على هذه الحالة في كل يوم عند نهاية عملهم، ولما سألوهم عن سبب ذلك؟ قالوا: إن الحاج (جواد المعمار) هو الذي أراد منّا أن نفعل ذلك، ويقول: إن المقدار الذي يعلق بملابسكم من الجص أثناء العمل هو ملك للناس (أي: صاحب البناية) وإن كان قليلاً، وإن التصرف بأموال الناس يعدّ حراماً، لذا عليكم حينما تنقضي ساعات العمل وتريدون الانصراف نفض ملابسكم مما علق بها من الجص. وهذا نموذج آخر من الشعور بالمسؤولية ومراقبة النفس والوجدان للأفعال الظاهرية. ولو قام كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي بمراقبة نفسه،

ص: 531


1- سورة الإسراء، الآية: 36.

والتفكر بعاقبة الأمور، والشعور بالمسؤولية، فإن ذلك سينعكس إيجابياً علىتقدم المجتمع وتآلفه، وخلق مجتمع متكامل خلقياً، ومؤمن برسالته وعقيدته السمحاء، ويعود على النفس بالنفع الأخروي كذلك؛ لأن الدنيا وسيلة لربح الآخرة، ولا يتم ذلك إلّا بمحاسبة النفس يومياً، ومراقبتها بشدة ومعاتبتها على ما اقترفت من سيئة، وتبديلها إلى الخير والفضيلة.

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، ومتّعني بالإقتصاد، واجعلني من أهل السداد، ومن أدلة الرشاد، ومن صالحي العباد، وارزقني فوز المعاد، وسلامة المرصاد، اللّهم خذ لنفسك من نفسي ما يُخلصُها، وأبق لنفسي من نفسي ما يصلحها، فإن نفسي هالكة أو تعصمها»(1).

من هدي القرآن الحكيم

مراتب النفس

قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ...}(2).

وقال سبحانه: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}(4).

جزاء تهذيب النفس

قال جلّ وعلا: {يَٰأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}(5).

ص: 532


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة يوسف، الآية: 53.
3- سورة القيامة، الآية: 2.
4- سورة الفجر، الآية: 27.
5- سورة الفجر، الآية: 27-28.

وقال عزّ اسمه: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِيهَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْأخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}(1).

وقال جلّ شأنه: {... فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَٰتِ ءَامِنُونَ}(2).

وقال عزّ من قائل: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(3).

الزهد

قال جلّ ثناؤه: {...لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَٰبَكُمْ...}(4).

وقال تعالى: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ}(5).

وقال سبحانه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(6).

المسؤولية

قال عزّ وجلّ: {فَلَنَسَْٔلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}(7).

وقال جلّ وعلا: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ}(8).

ص: 533


1- سورة النحل، الآية: 30.
2- سورة سبأ، الآية: 37.
3- سورة العنكبوت، الآية: 69.
4- سورة آل عمران، الآية: 153.
5- سورة الحديد، الآية: 23.
6- سورة طه، الآية: 131.
7- سورة الأعراف، الآية: 6.
8- سورة الصافات، الآية: 24.

وقال عزّ اسمه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسَْٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا عدو أعدى على المرء من نفسه»(3).

ومن مناجات الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، وبسخطك متعرضة، تسلكُ بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسها الشر تجزع، وإن مسها الخير تمنع، ميالةً إلى اللعب واللّهو، مملوّةً بالغفلة والسهو...»(4).

تهذيب النفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «جاهدوا أهواءَكم تملكوا أنفسكم»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «اجعل من نفسك على نفسك رقيباً واجعل لآخرتك في دنياك نصيباً»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) لرجل: «اجعل قلبك قريناً براً، أو ولداً واصلاً، واجعل عملك والداً تتبعه، واجعل نفسك عدواً تجاهدها...»(7).

ص: 534


1- سورة الحجر، الآية: 92.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 59.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 782.
4- بحار الأنوار 91: 143.
5- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 122.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 144.
7- الكافي 2: 454.

وقال(عليه السلام): «احمل نفسك لنفسك فإن لم تفعل لم يحملك غيرك»(1).

الزهد وآثاره

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «جُلساء اللّه غداً أهل الورع والزهد في الدنيا»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إزهد في الدنيا يحبك اللّه وأزهد في ما في أيدي الناس يحبك الناس»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنكم إن زهدتم خلصتم من شقاء الدنيا وفزتم بدار البقاء»(4).

وعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا»(5).

المسؤولية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... فإني مسئول وإنكم مسئولون...»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... أُوصيكم بتقوى في ما أنتم عنه مسؤولون وإليه تصيرون فإن اللّه تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(7)...»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان في ما وعظ به لقمان ابنه: ... واعلم أنك ستسأل غداً إذا وقفت بين يدي اللّه عزّ وجلّ من أربع: شبابك في ما أبليته، وعن

ص: 535


1- الكافي 2: 454.
2- نهج الفصاحة: 431.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 140.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 270.
5- الكافي 2: 128.
6- الكافي 2: 606.
7- سورة المدثر، الآية: 38.
8- الأمالي للشيخ المفيد: 261.

عمرك في ما أفنيته، ومالك مما اكتسبته وفي ما أنفقته، فتأهب لذلك وأعدّ له جواباً...»(1).

ص: 536


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 194.

فهرس المحتويات

صلاح الدين والتعصب الطائفي

القرآن يأمر بالاتحاد والتآخي... 5

زرّاع العداوة بين المسلمين... 8

لماذا التفرقة؟... 8

صلاح الدين ومحكمة التاريخ... 11

مقابلة الإحسان بالإساءة... 12

الفاطميون والفقيه المالكي... 13

استنجاد الفاطميين بالزنكيين... 14

أول مرسوم ديني للفاطميين... 14

الفرق بين السيرتين... 16

التكريتيان: صلاح وصدام... 18

قصة من الواقع العراقي... 18

قصة أخرى... 19

من نتائج التعصب الأعمى... 20

عبد الناصر وصلاح الدين... 21

معاونا الحاكم العباسي: وصيف وبغا... 22

نموذج من الانصياع... 22

بعض ما سجله التاريخ عن صلاح الدين... 24

ص: 537

التكريتيان ينّفذان مخّططاً واحداً... 26

سياسة ترويج الطغاة... 26

الطغاة ومصيرهم الأسود... 27

فضح الظالمين... 28

من هدي القرآن الحكيم... 30

المسلمون أمة واحدة... 30

تداول الأيام... 30

التعصب ليس من أخلاق الإسلام... 30

رفعة العلم والعلماء... 31

القرآن يأمر بالتآخي... 31

هزيمة الباطل أمام الحق... 31

من هدي السنّة المطهّرة... 32

المؤمنون أخوة... 32

التعقل والتعرف على الزمان... 32

التعصب منفي في الإسلام... 33

فضل العلم ورفعة العلماء... 33

التآخي بين المسلمين... 34

انتصار الحق وهزيمة الباطل... 34

ضرورة التفرغ للعمل في سبيل اللّه

التفرغ للعمل... 36

وجوب الجهاد... 37

من نصائح الوالد... 38

في ليلة شديدة البرد... 38

ص: 538

الاقتداء بالعظماء... 39

صاحب ثورة العشرين... 40

حب الدنيا من موانع العمل... 41

مع أمير المؤمنين(عليه السلام)... 41

أبو العتاهية ومجلس هارون... 42

الدنيا في القرآن... 44

الدنيا في الروايات... 44

الإنسان رهين عمله... 46

مما يجب على الشباب... 46

مقومات الإنهاض... 46

ما هو الأمل... 47

طريق النزاهة

في البدء... 50

المعنويات وأثرها على الماديات... 50

الروايات تؤكد ذلك... 51

صفات العلماء العاملين... 52

النزاهة دروس وعبر... 54

النزاهة عند النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)... 54

القول مع العمل... 59

ابن ميثم البحراني(رحمه اللّه)... 60

الحرام الفاضح... 62

الطلاب وبساطة العيش... 62

ص: 539

النزاهة والمراتب العليا... 64

البساطة في العيش... 65

نزاهة الشيخ علي القمي(رحمه اللّه)... 67

من هدي القرآن الحكيم... 68

1- الأخلاق... 68

2- الصدق... 68

3- محاسبة النفس... 69

4- التواضع... 69

5- الزهد... 70

من هدي السنّة المطهّرة... 71

الطريق إلى النزاهة... 71

1- الأخلاق... 71

2- الصدق... 71

3- محاسبة الصدق... 72

4- التواضع... 72

5- الزهد... 73

طريق التقدم

الحكمة والعلم... 74

تفسير الآية الكريمة... 74

وفي مجمع البيان... 75

عودة إلى الآية الكريمة... 76

مقومات التقدم... 78

المقوم الأول: العلم... 78

ص: 540

العلم في الآيات والروايات... 79

من أسباب تأخر الأمم... 81

المقوم الثاني: العمل... 82

الأماني بضاعة النوكى... 83

الأماني والآمال في الروايات... 84

عواقب الاعتماد على التمني... 85

الكسل عمل سوء... 86

الكسل والضجر في الروايات... 87

سفرة إلى دولتين... 88

بعد الحرب العالمية الثانية... 89

جودة العمل وإتقانه... 90

وفي البلاد الإسلامية... 90

الإسلام يأمر بالعمل... 91

وصايا بليغة... 92

كثرة النوم في الأحاديث الشريفة... 94

المقوم الثالث: المال... 95

من مزايا المال... 97

بين مدح المال والقناعة... 98

لو لا مال خديجة(عليها السلام)... 100

الإسلام خير للبشرية جمعاء... 101

الإسلام والاكتفاء الذاتي... 102

مع سلمان المحمدي... 103

عليك بالسوق... 104

ص: 541

من استغنى أغناه اللّه... 105

خذ حانوتاً... 105

المسلمون: آباء العلم والعمل... 106

المقوّم الرابع: التواضع والتفاهم... 108

التواضع والتفاهم في الروايات... 109

نموذج من التواضع والتفاهم... 110

خلاصة الكلام... 113

من هدي القرآن الحكيم... 114

العلم من مقومات التقدم... 114

العمل من مقومات التقدم... 115

التفكير والتخطيط من مقومات التقدم... 116

المال والكسب الحلال من مقومات التقدم... 117

التواضع والتفاهم، والتشاور من مقومات التقدم... 117

من هدي السنّة المطهّرة... 118

العلم طريق التقدم... 118

العزم على العمل... 118

العمل شرط التقدم... 119

التفكير السليم والتخطيط المنهجي... 120

المال والكسب الحلال... 120

التواضع والتفاهم، والشورى والتشاور... 122

عيد الغدير أعظم الأعياد في الإسلام

العيد في الإسلام... 124

يوم البشرى... 127

ص: 542

أهل البيت(عليهم السلام) سفن النجاة... 151

قطعات من سفينة نوح... 152

أقل الناس مؤونة وأكثرهم معونة... 153

الشيعة وحُب أمير المؤمنين(عليه السلام)... 157

التاريخ يتحدث... 158

التأييد الغيبي لأهل الحق... 159

أمير المؤمنين(عليه السلام) على لسان... 162

الصادق الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 162

أهل البيت(عليهم السلام) وعيد الغدير... 165

من هدي القرآن الحكيم... 173

ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)... 173

صفات الإمام(عليه السلام)... 174

ذكر أمير المؤمنين(عليه السلام) في القرآن... 174

متابعة أئمة الحق... 175

من هدي السنّة المطهّرة... 175

يوم الغدير... 175

صفات الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)... 176

النبأ العظيم... 177

فلسفة الحج

فلسفة الحج... 179

فائدة الحج... 180

ملاحظة مهمّة... 183

ص: 543

الكعبة وبقاء الدين... 183

السفر إلى بيت اللّه الحرام... 185

صلاة الجماعة بإمامة الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه)... 187

التأسي بالإمام الحسين(عليه السلام)... 188

زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)... 190

الاستعمار وشعائرنا الدينية... 192

ما هو المطلوب؟... 194

من هدي القرآن الحكيم... 196

الشريعة تدعو إلى اللّه... 196

1- الوحدة والاجتماع... 196

2- الحج... 196

3- إيقاظ الفكر... 197

من هدي السنّة المطهّرة... 197

علة فريضة الحج... 197

ولتعرف آثار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره... 198

الوفادة إلى اللّه... 198

نداء إبراهيم(عليه السلام)... 199

هذا بيت استعبد اللّه به خلقه... 199

لا تتركوا الحج... 200

ثواب الحاج... 200

تتسع أرزاقكم... 201

من أمّ هذا البيت... 201

إذا أردت الحج... 201

ص: 544

الحج على الجميع... 203

ترك الحج بغير عذر... 203

من أراد الحج... 204

الشريعة تدعو إلى الوحدة والاجتماع... 204

إيقاظ الفكر والتنبه من الغفلة... 204

خشية اللّه... 205

الخير كله... 205

اتقوا اللّه... 205

الخصال الحسنة... 206

في رحاب السيدة المعصومة(عليها السلام)

ذكرى استشهاد السيدة المعصومة(عليها السلام)... 207

الموضوع الأول: نبذة عن حياة السيدة المعصومة(عليها السلام)... 208

ولادتها ووفاتها... 208

من فضائلها(عليها السلام)... 209

وتوفيت مسمومة شهيدة... 210

الاغتيالات سياسة الطغاة... 212

عند دفن السيدة المعصومة(عليها السلام)... 212

المدفونون بجوارها... 213

من كراماتها... 214

الموضوع الثاني: تاريخ قم وتشيعها... 215

الدور الأول... 215

أنا عربية وهذه عجمية... 218

ص: 545

المؤمن كفو المؤمنة... 219

الدور الثاني... 219

الدور الثالث... 221

الدور الرابع... 222

الدور الخامس... 222

الموضوع الثالث: مستقبل قم ودورها في نشر علوم آل محمد(عليهم السلام)... 224

المحور الأول: حرم السيدة المعصومة(عليها السلام)... 224

الحريات من أسباب انتشار الإسلام... 226

المحور الثاني: نظافة مدينة قم المقدسة... 229

المحور الثالث: الاستعداد لاستقبال شيعة العالم... 230

المحور الرابع: التبليغ والإرشاد الديني... 232

هكذا يعملون... 233

التمسك بالقرآن والعترة... 234

وفي الختام... 234

عاصمة الحوزة العلمية... 235

زيارة السيدة المعصومة(عليها السلام)... 235

في مولد الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف

ضرورة معرفة الإمام(عليه السلام)... 238

مفردات الحديث... 238

المعرفة... 239

فلسفة الحديث... 240

قتل الناس جميعاً... 241

ص: 546

منكر الضروري كافر... 241

مع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)... 247

وهكذا الأمر في منكر الضروري... 248

مع رأس المنافقين... 249

نعمة الاعتقاد بولاية إمام الزمان(عليه السلام)... 250

تعريف الإمام(عليه السلام) للعالم... 252

إخلاص النية شرط التشرف... 254

قصة من أفغانستان... 256

الاستغاثة بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف... 264

اعتراف شاعر النيل... 266

تعريف الناس بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف... 268

قاعة (إقبال) في المكتبة البريطانية... 269

تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام... 271

الخاتمة... 273

قبس من شعاع الإمام الحسين(عليه السلام)

الشهادة والحياة الأبدية... 275

الإمام المعصوم... 276

زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)... 277

أحاديث في فضله(عليه السلام)... 280

التسبيح بتربته(عليه السلام)... 281

شهداء مع الإمام الحسين(عليه السلام)... 282

قصة من كرامات الشهيد... 282

ص: 547

يوم عاشوراء... 284

من كرامات سيد الشهداء(عليه السلام)... 285

الحسين(عليه السلام) مصباح الهدى... 287

هدف الإمام الحسين(عليه السلام)... 289

مصائب الحسين(عليه السلام)... 291

رأس الحسين(عليه السلام)... 292

واجباتنا تجاه عاشوراء... 293

الإمام السجاد(عليه السلام) وعاشوراء... 295

أهل البيت(عليهم السلام) وإقامة العزاء... 296

جزيل الثواب... 296

من أنشد شعراً... 297

من هدي القرآن الحكيم... 298

من خصائص الإمام الحسين(عليه السلام)... 298

جزاء الشهيد عند اللّه سبحانه... 299

واجبنا تجاه القضية الحسينية... 299

من هدي السنّة المطهّرة... 299

من خصائص الإمام الحسين(عليه السلام)... 299

من كراماته(عليه السلام)... 300

الشهيد عند اللّه سبحانه... 301

التمسك بالحسين وأهل البيت(عليهم السلام) هداية ونجاة... 301

واجبنا تجاه القضية الحسينية... 302

ص: 548

قيمة المرء

المرء وما يحسنه... 303

مراقبة المرء لنفسه... 304

دروس وعبر... 304

الفكر وأثره على السلوك... 305

مقارنة... 306

الشباب وتحصيل العلم... 307

العلم زينة وفريضة... 308

أهمية الوقت... 310

القرآن والحقائق العلمية... 312

الأئمة(عليهم السلام) والحقائق العلمية... 313

التأسي بأئمتنا الهداة(عليهم السلام)... 315

العلم الحقيقي... 316

من هدي القرآن الحكيم... 318

العمل الصالح وأهميته... 318

القرآن يدعو إلى التقوى... 318

القرآن يدعو إلى العلم... 319

أهل البيت(عليهم السلام) قدوة وأسوة... 319

من هدي السنّة المطهّرة... 320

العمل الصالح وأهميته... 320

القرآن الحكيم والتدبر... 320

السنة تدعو إلى التقوى... 321

السنة تدعو إلى العلم... 321

ص: 549

أهل البيت(عليهم السلام) قدوة وأسوة... 322

محنة العراق

تاريخ العراق الحديث... 323

المقاومة الإسلامية... 325

الصراع بين أميركا وبريطانيا... 326

من البكر إلى صدام... 327

لمحة عن البكر... 328

ميشيل عفلق... 329

محاربة الدين والمتدينين... 331

من جرائم الطغاة... 332

الحقد على الشيعة... 333

السير خلف المرجعية... 335

مسؤولية الجميع... 337

وصايا... 338

من هدي القرآن الحكيم... 340

الشيطان يزيِّن لأوليائه... 340

في مخالب الفتن والمحن... 340

في مواجهة الجبابرة والمستبدين... 341

الحكومات الجائرة وآثارها... 342

عاقبة الظالمين... 342

حال الظالمين في الدنيا... 342

من هدي السنّة المطهّرة... 343

أئمة الجور... 343

ص: 550

الجهاد باب من أبواب الجنة... 344

الجهاد الأكبر... 344

المؤمن مبتلى... 345

الصبر من الإيمان... 345

ثمار الصبر... 346

بيانات... 347

إعلان الحداد بمناسبة (17 تموز)... 348

بيان بمناسبة الأوضاع الأخيرة في العراق... 351

خطاب إلى الشعب العراقي استعداداً للحكومة الإسلامية المرتقبة في العراق بإذن اللّه تعالى 356

مساوئ الفرقة

من أساليب الاستعمار... 360

السقوط والانحطاط... 361

الأولى: النزاع... 361

بذور التفرقة... 361

الثانية: العنف والتهور... 363

من سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 364

من سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام)... 365

أسلوب القرآن... 366

واقعنا المعاصر... 368

حرمة التفرقة... 369

واجب المجتمع... 370

من هدي القرآن الحكيم... 371

ص: 551

في ذم التفرقة... 371

جزاء المنافقين... 371

اللين من محاسن الأخلاق... 372

من هدي السنّة المطهّرة... 372

من كلمات لأمير المؤمنين(عليه السلام) في اللين والرفق... 372

ومن كلماته(عليه السلام) في ذم التفرقة والعدوان... 373

اللين من صفات المؤمن... 373

من مناهي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 374

مستقبل العراق بين الدعاء والعمل

الأمل القاطع... 375

الشيخ البهائي والدعاء المستجاب... 376

حول العراق... 377

من منافع تعدد القوى... 378

قوة الشعب... 379

وزير العدل أيضاً... 380

الهدف المهم... 380

موقف السيد الحكيم الصارم... 381

الإلحاد وأسياده... 382

من هدي القرآن الكريم... 383

الدعاء المستجاب... 383

الدعاء في كل الأحوال... 383

الدعوة إلى العمل الرسالي... 384

ص: 552

العبرة بالأمم السالفة... 384

صفات الفائزين... 385

من هدي السنّة المطهّرة... 385

الدعاء هو أفضل العبادة... 385

الدعاء سلاح المؤمن... 386

الدعاء المستجاب... 387

الدعوة إلى العمل... 388

العمل مع العلم... 388

الحاكم الظالم... 389

من القائد... 390

أهمية العمل... 392

مع الحرس والشرطة

الاستخلاف في الأرض... 393

ضمان عدم الطغيان... 394

1- ذكر اللّه دائماً... 394

شدة الحساب في يوم القيامة... 395

آيات وروايات في ذكر اللّه... 396

امرأة من بني إسرائيل... 397

من بركات ذكر اللّه دائماً... 398

ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً... 398

2- ذكر الموت... 401

إخلاص العبودية... 404

3- الثقافة الإسلامية... 407

ص: 553

ثورة الإمام الحسن(عليه السلام)... 407

نحن وأهل البيت(عليهم السلام)... 408

4- خدمة الناس ومساعدة الفقراء... 410

روايات في قضاء الحوائج... 417

المسلمون الأوائل... 418

مساعدة عموم الناس... 418

خلاصة الأمور الأربعة... 419

السلاح للخدمة... 419

أصناف الناس في القيامة... 420

روايات حول الجند والشرطة... 422

جنود اللّه... 422

لا قوام للرعية إلّا بالجنود... 423

ولّ من جنودك أنصحهم للّه... 423

الجند وذوي المروءات... 424

تفقّد أُمور الجند... 424

المواسي للجنود... 424

استماع شكوى الناس... 425

أهمية الجند... 425

آفة الجند... 425

نكات حربية... 426

شُرطة الخَميس لغة... 428

شُرطة الخَميس اصطلاحاً... 429

سبب التسمية... 430

ص: 554

أسماء شرطة الخميس... 431

قصص من شرطة الخميس... 432

مع حبابة الوالبية... 432

الإفطار العمدي في شهر رمضان... 433

ما يكبيك؟... 436

هذا أخي خضر(عليه السلام)... 439

ابن معز وابن نعج... 440

وفي الختام... 441

مع الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) والتغيير في العراق

مظلومية أهل البيت(عليهم السلام)... 442

علماء السنة يعترفون بفضل الإمام(عليه السلام)... 444

هارون العباسي يعترف بإمامته(عليه السلام)... 446

الدنيا دار العمل... 446

تقدم المسلمين الأوائل... 447

السكوت القاتل... 447

نادِ في القوم... 448

العراق وحكومة الأكثرية... 450

مسؤولية الجميع... 452

مزارات السنة في بغداد... 452

عقيدة التجسيم عند السنة... 453

بغداد مدينة الشيعة... 455

التغيير المترقب... 456

ص: 555

إبعاد المراجع من العراق... 456

لا تنخدعوا... 456

رعاية حقوق الأقلية... 457

محاربة الحجاب في إيران... 458

أهمية القلم والبيان... 459

الكلمة مسؤولية الجميع... 460

إدارة الأقلية إدارة ظالمة... 461

نعش الإمام الكاظم(عليه السلام)... 462

لا رأي لمن لا يطاع... 463

كيف نساهم في تشكيل حكومة الأكثرية؟... 465

أسلوب التحريض... 466

الكلمة المؤثرة... 467

دور اللسان وأهميته... 467

الناس على دين ملوكهم... 468

وفي الختام... 469

معالجة الأمراض النفسية

نعمة الابتلاء... 470

عيِّنة من الابتلاء... 471

يحسب نفسه بقرة!!... 472

الجرة الوهمية... 473

الملوكية الوهمية... 474

الطبيب الحاذق... 476

علاج القلوب... 476

ص: 556

التمويه والكذب... 479

يقولون ما لا يفعلون... 479

المعرفة بالإنسان طريق الإصلاح... 480

العلاج الناجع لمشكلاتنا المعاصرة... 481

من هدي القرآن الحكيم... 483

النفس الإنسانية... 483

معرفة النفس... 483

آثار الاستغفار... 484

عوامل انحراف النفس... 484

عوامل صلاح النفس... 485

من هدي السنّة المطهّرة... 485

النفس الإنسانية... 485

معرفة النفس... 486

آثار الاستغفار... 487

عوامل انحراف النفس... 487

عوامل صلاح النفس... 488

مكانة القرآن الكريم في المجتمع الإسلامي

أهمية اتباع القرآن... 490

الراسخون في العلم... 492

احتجاج الإمام الصادق(عليه السلام)... 494

شمولية القرآن الكريم... 499

القرآن الناطق... 503

النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتلاوة القرآن... 504

ص: 557

نبذ الكتاب... 505

ربيع القرآن... 507

القرآن الكريم ودرس التفسير... 508

القرآن وضرورة تعلمه... 508

عمق القرآن الكريم... 509

في رحاب سورة يوسف(عليه السلام)... 510

من معاجز القرآن... 511

التوفيق الإلهي... 512

عظمة آيات اللّه عزّ وجلّ... 513

من هدي القرآن الحكيم... 514

القرآن هدى وشفاء... 514

التدبر في القرآن... 515

لا يفسر القرآن بالرّأي... 515

القرآن الناطق... 515

العلماء بالقرآن... 516

تعليم القرآن وتعلمه... 516

آثار قراءة القرآن... 516

إبداع القرآن... 516

القرآن إعجاز وتحد... 517

من هدي السنّة المطهّرة... 517

القرآن شفاء نافع... 517

آداب قراءة... 518

إبداع القرآن... 519

ص: 558

إعجاز القرآن... 519

فضل القرآن وعظمته... 519

حافظ القرآن... 519

مستمع القرآن... 520

تعليم القرآن... 520

ترتيل القرآن... 520

لا يفسر القرآن بالرأي... 521

القرآن الناطق... 521

العلماء بالقرآن... 522

محاسبة النفس ومحكمة الضمير

النَّفس هي المَحكمة الأولى في عالم الدّنيا... 523

بعض آثار الزهد... 525

الوجدان أفضل المحاكم... 526

النّفس والوجدان كفيلان بكشف الحقائق... 528

الضمير رقيب سريّ مُضْمَر... 528

المراقبة... 529

المسؤولية... 530

نموذج مِن الشعور بالمسؤولية... 531

من هدي القرآن الحكيم... 532

مراتب النفس... 532

جزاء تهذيب النفس... 532

الزهد... 533

المسؤولية... 533

ص: 559

من هدي السنّة المطهّرة... 534

النفس... 534

تهذيب النفس... 534

الزهد وآثاره... 535

المسؤولية... 535

فهرس المحتويات... 537

ص: 560

المجلد 7

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 7/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

-----------------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

-----------------

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الأوّل): 6-204539-964-978

-----------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

من خطى الأولياء

كدح الإنسان في الدنيا

اشارة

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَٰقِيهِ}(1).

الإنسان في هذه الحياة الدنيا يسعى بجد ليصل إلى هدفه الأخير وهو الكمال، ولذلك يصف اللّه عزّ وجلّ سير الإنسان في الحياة بالكدح وهو العمل الشاق المتعب؛ {يَٰأَيُّهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَٰقِيهِ} أي إن نهاية الأمر هو الرجوع إلى اللّه تعالى، ولكن غايات البشر متباينة، فالمؤمن يكدح ليحصل على رضا اللّه، والملحد يكدح ليلتذ بالدنيا، ويتمتع بزخارفها. وكلامنا يخص الإنسان المؤمن وسيرته، وهذه المسيرة الإيمانية عادة تمر بمراحل عديدة، حتى يصل المرء إلى الشوط الأخير. فيبدأ الإنسان يفتش عن خبايا نفسه العجيبة وأسرارها، وهي المرحلة المسماة ب(معرفة النفس)، أي الاطلاع على حقيقة فقر الذات الإنسانية، وكيف أنها لا تستغني عن خالقها في كل آن. وهو الأمر الذي يدعو الإنسان إلى (معرفة اللّه)، وهي المرحلة الثانية من مراحل مسيرة الكمال، فيبدأ يبحث عن صفات اللّه عزّ وجلّ ويستشعرها، أما المرحلة الأخرى فهي العيش في الأجواء النورانية التي تفيض عليه نوراً ومعرفة، وهي مرحلة العبور من الإيمان السطحي المتمثل بأداء الواجبات عن خوف وطمع إلى اليقين وأداء

ص: 5


1- سورة الانشقاق، الآية: 6.

الواجبات حباً وطاعة وشكراً، عندها يتهذب السلوك؛ لأنه سوف يتنوّر بالمشارق النورانية الإلهية، وتتبدل أعماله من إشباع للغريزة إلى صفة التقوى وملازمة الطاعة والشكر والقرب إلى اللّه تعالى. فهذا حال المؤمنين، تراهم يأكلون ويشربون لأجل الكدح المُوصل إلى اللّه عزّ وجلّ، لا لأجل الملذات نفسها، أو لنداء الغرائز الشهويّة، وبذلك يرتفع هؤلاء إلى المستوى الذي يفضلون منه على ملائكة اللّه عزّ وجلّ.

ومنها تبدأ مرحلة الكدح الأخيرة، وهي محاولة الاندكاك والفناء في اللّه، وهي التي يصلها الأنبياء والأوصياء، ولكن بمراتب متباينة، وقد فاز الرسول الأعظم وأهل بيته (عليهم أفضل الصلوات) بهذه المرتبة العظمى، ولذلك كانت الخلائق كلها في الدنيا والآخرة تنهل من النورانية المحمّدية، والقدسية الشريفة التي يفيضها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على الخلائق.

أما سائر الناس فإنهم يتسافلون إلى حد البهيمة، لأنهم دائموا الطاعة لنداء الغرائز الشهوية، وهكذا هي المسيرة، فهو صراع حادّ بين الإيمان والهوى، وبين حب اللّه وحب الدنيا، وبين الكدح واللامبالاة، إلى أن يصلوا إلى اليقين الذي يقربهم من ربهم، فتتسدّد خطاهم، وتنشرح صدورهم لاستقبال الفيض القدسي، الذي ينشر على جوارح وجوانح الإنسان رحمةً وقراراً وسكينة.

درجات اليقين

إن اليقين صفة ذات مراتب ودرجات، وليس كل المؤمنين الموقنين على درجة واحدة من اليقين، فاليقين عند الأنبياء(عليهم السلام) غير اليقين عند الأوصياء، ويقين الأوصياء غير يقين العلماء، ويقين الشهداء غير يقين الآخرين، وهكذا الأمثل فالأمثل؛ ولذلك كانت الجنة مراتب مختلفة، فمناصب الأنبياء غير

ص: 6

مناصب الناس العاديين، ومنصب الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفوق كل مناصب أهل الجنة، فاليقين الذي تحلّى به الإمام علي(عليه السلام)، ويصفه بقوله: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً»(1)، ذلك اليقين باللّه هو قطعاً غير يقين همّام، الذي ما إن سمع كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصف المتقين(2)، حتى زهقت روحه، فكيف الحال به لو انكشف له الغطاء؟ إن يقين أمير المؤمنين(عليه السلام) يمتاز بأن ذاته القدسية قد وصلت إلى مقام الاستغراق في اللّه فأصبح بعيداً عن فكرة الجنة والنار، بل إنه يرى اللّه في كل آن، أما يقين همّام فقد كان عبارة عن الخشية من عذاب اللّه، فهذا فرق واضح، وأعظم من ذلك يقين الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلولا عظمة درجة يقينه لما تحمّل رحلة الإسراء والمعراج، فليس كل قلب يستطيع أن يتحمل ذلك.

بل الكثيرين في عصرنا الحاضر ممن يشكك في مسألة الإسراء والمعراج؛ لأنه يراها ثقيلة على فكره الصغير.

ثم إنه لا بد من الإشارة إلى أن اليقين قابل للضعف والشدة، وذلك مرتبط بمقدار المعرفة التي يحملها الإنسان عن ربه، فكلما ازدادت معرفته به فقد ارتفع يقينه، وازداد عمله الخيّر، وكلما ضعفت معرفته بربه فقد قلّ يقينه، وخفّت أعماله في الميزان؛ فلذلك ذكر العلماء درجات اليقين، استلهاماً من القرآن الكريم، وهي: عين اليقين، وحق اليقين، وعلم اليقين.

الموقنون وخرق العادة

إن الركون والإيمان بالتوحيد يلهم الإنسان المؤمن قوة روحية عظيمة جداً، لأنه عندما ينظر إلى ربه في تحركه، ويفكر بربه في كل فكرة، ويذكر ربه في كل

ص: 7


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 38.
2- أنظر نهج البلاغة، الخطب الرقم: 193، من خطبة يصف(عليه السلام) فيها المتقين.

قول، ويستشعر عظمة الرب في قلبه، فإن ذلك يكون مدعاة لانشراح الصدر، واستقبال الفيض الرباني الذي يفيض على الروح قوة، ويجعلها تذلل الصعاب، بل تنقاد لها الأمور.

يروى عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «إن عيسى بن مريم(عليه السلام) كان من شرائعه السيح في البلاد، فخرج في بعض سيحه ومعه رجل من أصحابه قصير، وكان كثير اللزوم لعيسى(عليه السلام)، فلما انتهى عيسى إلى البحر، قال: بسم اللّه، بصحة يقين منه، فمشى على ظهر الماء، فقال الرجل القصير، حين نظر إلى عيسى جازه: بسم اللّه، بصحة يقين منه، فمشى على الماء ولحق بعيسى»(1). لأنه كان على معرفة يقينية تامة بالنبي عيسى(عليه السلام)، وعلى أساس هذه المعرفة مشى على الماء، فالوصول إلى هذه الدرجات ليس خيالاً ولا أمراً مستحيلاً، بل هو واقع لا يمكن إنكاره. ولذلك جاء في الحديث القدسي المشهور: «يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني في ما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون»(2).

وهكذا يمكن تفسير قلع باب خيبر من قبل أمير المؤمنين(عليه السلام)، والتي لم يكن يقدر على فتحها وإغلاقها إلّا أربعون رجلاً، بينما تقدم أمير المؤمنين(عليه السلام) وأخذه بيده، وقلعه من الحصن، ليجعل منه جسراً على الخندق، تعبر عليه جيوش الإسلام، فقد روي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال في رسالته إلى سهل بن حنيف(رحمه اللّه): «واللّه، ما قلعت باب خيبر ورميت به خلف ظهري أربعين ذراعاً بقوة جسدية ولا حركة غذائية لكن أيدت بقوة ملكوتية، ونفسٌ بنور ربها مضيئة وأنا من أحمد كالضوء من الضوء» الحديث(3).

ص: 8


1- الكافي 2: 306.
2- عدة الداعي: 310.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 514.

فهذه الأمور يقف أمامها العقل المادي حائراً مذهولاً لأنه لا يجد لها تفسيراً، بعد أن حجّم الناس أنفسهم، وقيّدوا أفكارهم بالمادة، وابتعدوا عن الغيب والروح، التي لا تعرف لها حدود معينة، فيحاولون أن يكذبوا هذه الأخبار، ويصفوها بالخرافة، ولكن هيهات فإن اللّه يأبى إلّا أن يتم نوره، فقد تحدثت الأخبار لدى عامة المسلمين بفضائل أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأكدت على هذه الأمور عين الواقع، ولكن حال بين هؤلاء وبين تصديق ذلك، الغشاوات والحجب التي راكموها على قلوبهم. وصاروا كما قال تعالى عنهم: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبْصِرُونَ * صُمُّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}(1).

ثمرات اليقين

اشارة

اليقين - كما مرّ - صفة كمالية يصل بها الإنسان إلى كماله الروحي المطلق، وهو الأُنس والاكتفاء والاعتماد على اللّه عزّ وجلّ فقط، ولهذه الصفة ثمرات عظيمة جداً في الحياة الدنيا.

السعادة العظمى

منها: إن المتقي يرى السعادة العظمى في خدمة الآخرين للّه، حيث يسعد ويفرح عندما يقدّم خدمة أو عملاً ما لشخص من أجل اللّه، يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «كان علي بن الحسين(عليهما السلام) لا يسافر إلّا مع رفقة لا يعرفونه ويشترط عليهم أن يكون من خدم الرفقة، في ما يحتاجون إليه، فسافر مرة مع قوم، فرآه رجل فعرفه، فقال لهم: أتدرون من هذا؟ قالوا: لا. قال: هذا علي بن الحسين(عليهما السلام). فوثبوا، فقبلوا يده ورجله، وقالوا: يا ابن رسول اللّه، أردت أن تصلينا نار جهنم لو

ص: 9


1- سورة البقرة، الآية: 17-18.

بدرت منا إليك يد أو لسان، أما كنّا قد هلكنا آخر الدهر فما الذي يحملك على هذا؟ فقال: إني كنت سافرت مرة مع قوم يعرفونني، فأعطوني، برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ما لا أستحق به، فإني أخاف أن تعطوني مثل ذلك، فصار كتمان أمري أحب لي»(1). هذه صورة وانموذج من أحوال المتقين، الذين تجاوزت أرواحهم وأفكارهم هذه الدنيا وتجاوزت حب الذات، إلى أن صارت تنظر إلى الآخرين وكأنها تنظر إلى نفسها، ويقوم الإنسان الموقن بخدمة الناس، ويشعر بأنه يخدم نفسه، ويقدم الخير إليها، فيسعد حينما يسعد الناس، وكذلك الشهيد، فهو ذلك الإنسان الذي وصل إلى حالة من اليقين بربه، وانقطع عن الدنيا تماماً، وتجاوز أفق الدنيا إلى الآخرة، فهو يجاهد ويخرج مقاسياً الألم ونزف الدماء، من أجل أن يعيش الآخرون؛ إذ أنه يعي تماماً بأنه يموت من أجل أن يعيش الآخرون.

فهذه كلها من ثمرات اليقين، وهي أعمال تخدم البشرية وتؤمّن عيشها الرغيد، وتحافظ عليها.

الرصيد الروحي

ومن الثمرات الأخرى، أن الموقن لا ينفك يقدّم صالح الأعمال، لأنه يشعر أنها الرصيد الروحي له في الدنيا، وانها رصيده في الآخرة، فتراه يقدّم الخدمات الاجتماعية للناس على اختلافها.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة يبين فيها صفة المتقين: «عباد اللّه إنّ من أحبّ عباد اللّه إليه عبداً أعانه اللّه على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعدّ القرى ليومه النّازل به، فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشّديد، نظر فأبصر، وذكر فاستكثر، وارتوى من عذبٍ فراتٍ سهّلت له

ص: 10


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 145.

موارده،فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً جدداً، قد خلع سرابيل الشّهوات، وتخلّى من الهموم إلّا همّاً واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى، ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الرّدى، قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشّمس، قد نصب نفسه للّه - سبحانه - في أرفع الأمور من إصدار كلّ واردٍ عليه، وتصيير كلّ فرعٍ إلى أصله. مصباح ظلماتٍ كشّاف عشواتٍ، مفتاح مبهماتٍ، دفّاع معضلاتٍ، دليل فلواتٍ، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص للّه فاستخلصه، فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه، قد ألزم نفسه العدل، فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه. يصف الحقّ ويعمل به، لا يدع للخير غايةً إلّا أمّها. ولا مظنّةً إلّا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده وإمامه، يحلّ حيث حلّ ثقله، وينزل حيث كان منزله»(1).

الشخصية الطاهرة

يذكر أن أحد العلماء ذهب إلى الشيخ مرتضى الأنصاري(رحمه اللّه)، فشكى إليه أوضاع أحد الطلبة، وأنه يعاني من أزمة مالية، إضافة إلى مرضه، وبعض الضغوط الأخرى، فقال الشيخ: ليس عندي سوى (ثمانية توامين)(2)، وهي متعلقة بسنتي صوم وصلاة استئجارييّن، فقال ذلك العالم: إنه يعاني من المرض، ولا يقدر على ذلك، ففكر الشيخ برهة من الزمن، ثم قال: حسناً أعطه المبلغ، وأنا سأقوم بالصلاة والصوم عنه. إن هذا المستوى من الإيمان لا يأتي اعتباطاً، ولا يتولد في النفس منذ الطفولة، بل هو مجموعة ضخمة جداً من المجاهدات، ومكافحة

ص: 11


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 87، ومن خطبة له(عليه السلام) في بيان صفات المتقين.
2- توامين: جمع (تومان) وهي العملة النقدية المتداولة في إيران اليوم.

الهوى، والهروب من كل موقف فيه شبهة، لكي تبقى النفس نظيفة طاهرة نقية، عندها تكون مستعدة لأن تحصل على اليقين، الذي هو أعلى مراتب الإيمان.

الوصول إلى الأهداف

ومن ثمرات اليقين، إضافة إلى ما مرّ، وصول الإنسان إلى أهدافه وتحقيقها؛ قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «باليقين تدرك الغاية القصوى»(1). وبلا شك فإن الغاية القصوى هي الجنة؛ إذ لا يوجد أشرف من الجنة، إلّا أمر واحد، وهو حب اللّه عزّ وجلّ، بغض النظر عن الجنة والنار، وهذا ما اختص به الأنبياء والأئمة (صلوات اللّه عليهم)، ومضافاً إلى ذلك فإن الإنسان المتيقن يدرك حتى أهدافه الدنيوية؛ لأنه دائماً تسيطر عليه فكرة الإيمان والتقوى، ودائماً يعيش حب اللّه، والنظر إليه بعين انقطعت عن جميع العلل والأسباب، فالمتيقن يستشعر التوحيد أكثر من غيره، ويدرك جيداً أنه لا مؤثر في الوجود إلّا اللّه، فهو متمسك به في جميع أموره، ومن تمسك واعتمد على اللّه بدرجة عالية كان اللّه تعالى يده وعينه وقلبه: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(2).

وبذلك يكون نظر الإنسان دائماً إلى العلة البعيدة، وهو اللّه، إلّا إنه يراها قريبة جداً بنور إيمانه، واطمئنانه باللّه عزّ وجلّ، ولا يعني هذا ترك الأسباب والعلل، بل هي أمور لا بد منها، ولكن الموقن يهيئ السبب ويعمل به ونظره إلى اللّه عزّ وجلّ، لا إلى السبب.

خليل الرحمن(عليه السلام)

ولذلك نرى إبراهيم الخليل(عليه السلام)، عندما يخاطب قومه، وينكل بالأصنام

ص: 12


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 157، ومن خطبة له(عليه السلام) يحثّ الناس على التقوى.
2- سورة الطلاق، الآية: 3.

والآلهة،يقول: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَٰلَمِينَ}(1). ثم يعرض لنا صوراً من يقينه الشريف: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}(2).

فكان(عليه السلام) لا يرى علّة حقيقية غيره، حتى سيطر على لبّه الذوبان في اللّه، والانقطاع التام إليه عن كل شيء، توجّه إلى اللّه تعالى بكل إخلاص، وكذا الحال مع السحرة الذين تحدّوا موسى(عليه السلام)، لكنهم عندما أيقنوا بأن المسألة ليست سحراً أو تضليلاً، فإن نظرتهم قد انقلبت رأساً على عقب، إلى درجة أنهم حين هددهم فرعون بالقتل وتقطيع الأوصال، فقال لهم: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَٰفٖ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}(3) أجابوه بجواب المتيقن بربه، الذي لا يرهبه التقطيع أو الموت، {قَالُواْ لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ}(4).ولعل أقرب مثال للموقنين هم أصحاب الحسين (صلوات اللّه عليهم)، الذين لم يكونوا ليشعروا بحرّ السيوف ووقعها.

الاستغناء

والاستغناء عن الناس ثمرة من ثمرات اليقين، فقد قال مولى المتقين أمير المؤمنين(عليه السلام): «استغن باللّه عمّن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، وأفضل على من شئت تكن أميره»(5).

فالموقن هو الذي لا يتوسط إلّا باللّه، ولا يطلب أمره إلّا من عند اللّه، لأنه لم

ص: 13


1- سورة الشعراء، الآية: 77.
2- سورة الشعراء، الآية: 78-81.
3- سورة الشعراء، الآية: 49.
4- سورة الشعراء، الآية: 50.
5- كنز الفوائد 2: 194.

يكن يرى العلّة غيره سبحانه، بعد أن عظم الخالق في عينه فصغر ما دونه في نظره، فهذا نزر يسير من فوائد وثمار اليقين.

بُعد النظر

ومن ثمرات اليقين هو كون الموقن لديه بُعد نظر في الحوادث والأمور الأخرى؛ لأنه شديد التمسك والتوكل على اللّه عزّ وجلّ، إلى درجة تصاغر ذاته (الأنا) وانعدامها أمام اللّه عزّ وجلّ، فلا يرى الموقن لنفسه وجوداً حقيقياً إلّا باللّه تعالى، وعندما يصل إلى هذه المرحلة، فان اللّه سوف يسدده في كل حياته.

هذا هو منهج الأئمة(عليهم السلام): «وما أنا يا سيِّدي وما خطري؟ ... سيِّدي، أنا الصغير الذي ربيته، وأنا الجاهل الذي علمته، وأنا الضال الذي هديته، وأنا الوضيع الذي رفعته...»(1). وهذا المنهج هو الذي يجعل الرب تبارك وتعالى يفيض على عبده الرحمة والنعمة، والفضل وسعة الصدر، وازدياد العلم وقوة الإيمان واليقين، وبهذا الشكل نرى أن هذا السلوك سوف يجعل من الإنسان الموقن ذا نظر بعيد، فهو حسب منهجيته يتجاوز ذاته دائماً، ليصل بالخير والودّ والحب إلى الآخرين؛ لأنه يشعر بأن ذلك يقربه من اللّه، فهو دائماً يفكر في المصلحة العامة، ويتخطى المصلحة الخاصة، وينعدم الطمع والحرص في ذاته، ويرى مصلحته ومصيره مع الآخرين، وكأنه يرى نفسه أباً ومسؤولاً عن الأمة ومصالحها، فتراه يلح في العبادة والتقرب ويتعب نفسه في الفروض والمستحبات، ثم يدعو اللّه، وعندما يدعو تراه يقدم الغير وحاجات الغير، أمام دعائه لنفسه أو حاجاته، فإن هذا الإحساس يمثل النفس الطاهرة التي ارتقت سلّم الكمال، وحلّقت في أعلى مراتبه، كما يروي الإمام الحسن(عليه السلام) عن مولاتنا الزهراء(عليها السلام) أنها «قامت في محرابها ليلة جمعتها،

ص: 14


1- المصباح للكفعمي: 594.

فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت(عليها السلام): يا بني الجار ثم الدار»(1). فهذا هو الأساس في العبادة، وهو الأسلوب الصحيح، حيث يذكر الإنسان الآخرين، وهو الإيثار وعلوّ النفس.

وجاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من دعا للمؤمنين والمؤمنات في كل يوم خمساً وعشرين مرة نزع اللّه الغل من صدره وكتبه من الأبدال إن شاء اللّه»(2).

كيف نحصل على اليقين؟
اشارة

إذا كانت درجة اليقين بهذا المستوى من الشرافة والقدسية والقرب من اللّه عزّ وجلّ، فحريّ بالإنسان أن يسعى للوصول بإيمانه إلى اليقين، ليضمن رضا اللّه عزّ وجلّ، والخطوات الواجب اتباعها من أجل ذلك هي كما يلي:

الذكر المتواصل

أي أن يذكر اللّه على كل حال، وفي كل موطن وموقف، وعدم التجاهل في ذلك، فإن للذكر أثراً عظيماً على القلب، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «ذكر اللّه جلاء الصدور وطمأنينة القلوب»(3).

وقال(عليه السلام): «الذكر جلاء البصائر ونور السرائر»(4).

وقال(عليه السلام): «إن اللّه سبحانه جعل الذكر جلاء القلوب، تبصر به بعد العشوة

ص: 15


1- علل الشرائع 1: 182.
2- الجعفريات: 223.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 369.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 74.

وتسمع به بعد الوقرة وتنقاد به بعد المعاندة»(1).

فالذكر يجلي القلوب وينظفها، ويجعلها مهيأة لاستقبال الفيض الإلهي؛ إذ لو بقيت القلوب على كدورتها، لما كانت لها القابلية على استقبال الفيض من اللّه عزّ وجلّ، والقرآن الكريم يؤكد على مسألة الذكر، فيقول تبارك وتعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}(2).

ويقول سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا}(3).

ويقول جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}(4).

ثم أن الفائدة الثانية للذكر هي الاطمئنان، أي سكون القلب بذكر اللّه، والاطمئنان وذهاب القلق عنه كما يقول اللّه سبحانه: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(5). فإذا اطمأن القلب كان مستعداً لنيل واستيعاب واستقبال النعم والفيوض الإلهية العظيمة.

وقد جاء في مجمع البيان(6) للطبرسي(رحمه اللّه) في تفسير هذه الآية المباركة: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ} معناه الذين اعترفوا بتوحيد اللّه على جميع صفاته ونبوة نبيه وقبول ما جاء به من عند اللّه، وتسكن قلوبهم بذكر اللّه، وتأنس إليه... ، وقد وصف اللّه المؤمن ههنا بأنه يطمئن قلبه إلى ذكر اللّه، ووصفه في موضع آخر بأنه إذا ذكر اللّه وجلّ قلبه، لأنه المراد بالأول أنه يذكر

ص: 16


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 235.
2- سورة الأعراف، الآية: 205.
3- سورة الشعراء، الآية: 227.
4- سورة الأحزاب، الآية: 41.
5- سورة الرعد، الآية: 28.
6- تفسير مجمع البيان 6: 36.

ثوابه وأنعامه وآلاءه التي لا تحصى وأياديه التي لا تجازى فيسكن إليه وبالثاني أنه ليذكر عقابه وانتقامه فيخافه ويوجل قلبه.

العناية التامة بالنوافل والمستحبات

أي أن مرحلة المحافظة على الفروض في أوقاتها تكون عنده من المسلمات، ومن الأمور العادية التي تصبح جزء من سلوكه اليومي، ثم العناية بالنوافل، فإنها تقرّب الإنسان المؤمن من ربه أكثر وتجعله يلتصق بالحب الإلهي، فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «قال اللّه: ما تحبب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وإنه ليتحبب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، إذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في موت مؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته»(1).

صلاة الليل

ومن أفضل النوافل هي صلاة الليل لما لها من آثار عظيمة تنعكس على روح الإنسان، وازدياد إيمانه، وارتفاع شأنه في الدنيا والآخرة.

فقد نزل جبرئيل(عليه السلام) على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له: «يا جبرئيل عظني» فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، شرف المؤمن صلاته بالليل وعزه كف الأذى عن الناس(2).

وقال أبو عبداللّه(عليه السلام): «إن من روح اللّه عزّ وجلّ ثلاثة، التهجد بالليل وإفطار الصائم ولقاء الإخوان»(3).

ص: 17


1- المحاسن 1: 291.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 471.
3- من لا يحضره الفقيه 1: 472.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عليكم بصلاة الليل فإنها سنة نبيكم ودأب الصالحين قبلكم ومطردة الداء عن أجسادكم»(1).

وعنه(عليه السلام) قال في قول عزّ وجلّ: {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطًْٔا وَأَقْوَمُ قِيلًا}(2) قال(عليه السلام): «يعني بقوله {وَأَقْوَمُ قِيلًا} قيام الرجل عن فراشه يريد به اللّه لا يريد به غيره»(3).

و روى جابر بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه(عليهما السلام): «أن رجلا سأل علي بن أبي طالب(عليه السلام) عن قيام الليل بالقراءة فقال له: أبشر، من صلى من الليل عشر ليلة للّه مخلصا ابتغاء ثواب اللّه قال اللّه تبارك وتعالى لملائكته: اكتبوا لعبدي هذا من الحسنات عدد ما أنبت في الليل من حبة وورقة وشجرة، وعدد كل قصبة وخوص ومرعى، ومن صلى تسع ليلة أعطاه اللّه عشر دعوات مستجابات وأعطاه اللّه كتابه بيمينه، ومن صلى ثمن ليلة أعطاه اللّه أجر شهيد صابر صادق النية وشفع في أهل بيته، ومن صلى سبع ليلة خرج من قبره يوم يبعث ووجهه كالقمر ليلة البدر حتى يمر على الصراط مع الآمنين، ومن صلى سدس ليلة كتب في الأوابين وغفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صلى خمس ليلة زاحم إبراهيم خليل الرحمن في قبته، ومن صلى ربع ليلة كان في أول الفائزين حتى يمر على الصراط كالريح العاصف ويدخل الجنة بغير حساب، ومن صلى ثلث ليلة لم يبق ملك إلّا غبطه بمنزلته من اللّه عزّ وجلّ، وقيل له ادخل من أي أبواب الجنة الثمانية شئت، ومن صلى نصف ليلة فلو أعطي مل ء الأرض ذهبا سبعين ألف مرة لم يعدل جزاءه وكان له بذلك عند اللّه عزّ وجلّ أفضل من

ص: 18


1- ثواب الأعمال: 41.
2- سورة المزمل، الآية: 6.
3- الكافي 3: 446.

سبعين رقبة يعتقها من ولد إسماعيل، ومن صلى ثلثي ليلة كان له من الحسنات قدر رمل عالج أدناها حسنة أثقل من جبل أحد عشر مرات، ومن صلى ليلة تامة تاليا لكتاب اللّه عزّ وجلّ راكعا وساجدا وذاكرا أعطي من الثواب ما أدناه يخرج من الذنوب كما ولدته أمه، ويكتب له عدد ما خلق اللّه عز، وجلّ من الحسنات ومثلها درجات، ويثبت النور في قبره، وينزع الإثم والحسد من قلبه، ويجار من عذاب القبر، ويعطى براءة من النار، ويبعث من الآمنين، ويقول الرب تبارك وتعالى لملائكته: يا ملائكتي، انظروا إلى عبدي أحيا ليلة ابتغاء مرضاتي أسكنوه الفردوس وله فيها مائة ألف مدينة في كل مدينة جميع ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ولم يخطر على بال سوى ما أعددت له من الكرامة والمزيد والقربة»(1).

العيش مع القرآن

وكذلك العيش المتواصل مع القرآن قراءة وتدبراً وتأملاً، فقد روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قوله: «قال من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بدمه ولحمه، وجعله اللّه مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيجاً عنه يوم القيامة، ويقول: يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله إلّا عاملي فبلّغ به كريم عطاياك، فيكسوه اللّه عزّ وجلّ حلتين من حلل الجنة، ويوضع على رأسه تاج الكرامة، ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب، قد كنت أرغب له في ما هو أفضل من هذا، قال: فيعطي الأمن بيمينه والخلد بيساره ثم يدخل الجنة، فيقال له: إقرأ آية واصعد درجة، ثم يقال له: بلغنا به وأرضيناك فيه؟ فيقول: اللّهم نعم، قال: ومن قرأ كثيراً وتعاهده من شدة حفظه أعطاه اللّه أجر هذا مرتين»(2). فإن القرآن يعطي أهم صفة للموقنين، وهي عدم نسيانهم الآخرة، مما يدعوهم دوماً إلى العمل

ص: 19


1- من لا يحضره الفقيه 1: 475.
2- ثواب الأعمال: 100.

والجد والاجتهاد وعدم التقصير، لأنهم يرون ما لا يراه الآخرون: {وَبِالْأخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}(1). فالاستمرار بالنوافل، سواء كانت (أدعية أو صلوات) تقرّب العبد من ربه، وتجعله على يقين بربه، وللنوافل آثار عديدة، منها: الابتعاد عن الماديات، والقرب من الغيب عبر المناجاة والصلوات، والعيش بالقرب من الغيب أو الاستشعار به دائماً يلهم المؤمن يقيناً ثابتاً، وذكراً متواصلاً للّه عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}(2).

خطبة المتقين

وهنا نذكر أروع ما قيل في صفة المتقين على لسان مولى المتقين وإمام الموحدين أمير المؤمنين(عليه السلام) فقد جاء في نهج البلاغة(3):

رُوِيَ أَنَّ صَاحِباً لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ(عليه السلام) يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ كَانَ رَجُلاً عَابِداً فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فَتَثَاقَلَ(عليه السلام) عَنْ جَوَابِهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا هَمَّامُ، اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثُمَّ قَالَ(عليه السلام):

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّهُ لا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ. فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، ووَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ. فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ. مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاقْتِصَادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ووَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاءِ

ص: 20


1- سورة البقرة، الآية: 4.
2- سورة الأنبياء، الآية: 49.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 193، ومن خطبة له(عليه السلام) يصف فيها المتقين.

كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ، وَلَوْ لا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ، عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ، قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ أَرَاَدتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَيَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ لا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَلا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ فَهُمْ لأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اللَّهُمَّ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ، فَمِنْ عَلامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَحَزْماً فِي لِينٍ وَإِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ وَعِلْماً فِي حِلْمٍ وَقَصْداً فِي غِنًى وَخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ وَتَجَمُّلاً فِي فَاقَةٍ وَصَبْراً فِي شِدَّةٍ وَطَلَباً فِي حَلالٍ وَنَشَاطاً فِي هُدًى وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِراً وَيُصْبِحُ فَرِحاً حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي مَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِي مَا تُحِبُّ،

ص: 21

قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي مَا لا يَزُولُ وَزَهَادَتُهُ فِي مَا لا يَبْقَى، يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ، تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلاً زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلاً أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ، فِي الزَّلازِلِ وَقُورٌ وَفِيالْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَلا يَأْثَمُ فِي مَنْ يُحِبُّ يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَلا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ وَلا يُنَابِزُ بِالأَلْقَابِ وَلا يُضَارُّ بِالْجَارِ وَلا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَلا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ وَلا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لآخِرَتِهِ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ ونَزَاهَةٌ وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَعَظَمَةٍ وَلا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ».

قَالَ: فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ(عليه السلام):

«أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَهَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا؟ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ(عليه السلام): وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لا يَعْدُوهُ وَسَبَباً لا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلاً لا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ».

الاهتداء بنور أهل البيت(عليهم السلام)

من أهم الأمور الموصلة إلى اليقين التام والانقطاع إلى اللّه تعالى هو ملازمة أهل البيت(عليهم السلام) - وهم أولياء اللّه عزّ وجلّ - في حياتهم، والسير على خطاهم بعد مماتهم. والابتعاد عن أعداء اللّه، الذين لا تكون خطواتهم معبرة عن الإيمان الأصيل، ولا يكون تحركهم ضمن الإطار الإسلامي والمذهب الحق، فإن الابتعاد عن مواطن الشبهة والشك، والركون كلياً إلى آل اللّه، وهم آل محمد (صلوات اللّه

ص: 22

وسلامه عليهم) يزيل كل اضطراب وقلق نفسي، ويرفع كل وساوس الشيطان.

نعم، الولاء لهم(عليهم السلام) أيضاً متفاوت، فليس كل الناس في ولائهم متساوين، بل هناك درجات ومراتب في حب أولياء اللّه، كما هو الحال في الإيمان، فهناك من يحبهم على حرف واحد، فإن أصابه شرٌّ مال عنهم إلى غيرهم، وهناك من يحبهم لأنهم شفعاؤه، وهناك من يحبهم لأنهم أنوار اللّه وأصفياؤه، ولأنهم ظُلموا أو عذبوا، فحبه لهم ليس في مقابل شيء.

وهناك مرحلة من الحب والولاء رفيعة وهي حبهم(عليهم السلام) لأنهم مصدر الفيض، وإن جميع الممكنات في هذا العالم تستمد فيضها ونعمها ووجودها من أصل أنوارهم الطاهرة(عليهم السلام)، وهذا القدر من الحب والولاء هو الذي يحدد تحرك الإنسان، وكذلك تطابق عمله وسلوكه مع أولياء اللّه، فكلما ازداد المرء حباً لهم عن وعي وعلم، كلما ازداد يقيناً؛ لأن روحه سوف تكون مستعدة لقبول فيوض الإمام(عليه السلام) عليه، ومهيأة للتحلي بدعاء الإمام لها بالخير والفضيلة.

المرتابون

كلما ازداد المؤمن إيماناً بهم ازداد ثباتاً ورسوخاً في إيمانه ويقينه؛ لأنهم باب اللّه، فمن شك فيهم، أو ارتاب في ولايتهم، ظل قلبه غير مستقر، وتذبذب إيمانه، لأنهم كانوا يمثلون أعلى درجات اليقين فمن تبعهم لا بد أن يكون في تابعيته لهم على يقين أيضاً.

فعن زرارة أنه قال: دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام)، وعن يمينه سيد ولده موسى(عليه السلام) وقدامه مرقد مغطى، فقال(عليه السلام) لي: «يا زرارة، جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضل بن عمر، فخرجت وأحضرته من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتى صرنا في البيت ثلاثين رجلاً، فلما حشد المجلس، قال: «يا داود، اكشف لي عن وجه

ص: 23

إسماعيل»فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا داود، أحي هو أم ميت؟»، قال داود: يا مولاي، هو ميت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتى أتى على آخر من في المجلس وانتهى عليهم بأسرهم كل يقول: هو ميت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد»، ثم أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه، فلما فرغ منه قال للمفضل: «يا مفضل، إحسر عن وجهه» فحسر عن وجهه، فقال(عليه السلام): «أحي هو أم ميت؟»، فقال: ميت، قال: «اللّهم اشهد عليهم» ثم حمل إلى قبره فلما وضع في لحده، قال: «يا مفضل، اكشف عن وجهه» وقال للجماعة: «أحي هو أم ميت؟» قلنا له: ميت. فقال: «اللّهم اشهد واشهدوا فإنه سيرتاب المبطلون يريدون إطفاء نور اللّه بأفواههم - ثم أومأ إلى موسى(عليه السلام) - واللّه متم نوره ولو كره المشركون»، ثم حثونا عليه التراب ثم أعاد علينا القول، فقال: «الميت المحنط المكفن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد» ثم أخذ بيد موسى(عليه السلام) وقال: «هو حق والحق منه إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها»(1).

ولكن بعد وفاة الإمام الصادق(عليه السلام) نرى أن طائفة كبيرة تدعي أن الإمامة في إسماعيل، وإنه غائب، وليس بميّت، وهذا الأمر يدلل على عدم الإخلاص في الولاء، مما يؤدي إلى الانحراف في العقيدة والسلوك؛ إذ أن الانضباط والإخلاص في اتباع الأولياء(عليهم السلام) من العوامل المهمة والرئيسية في مسيرة الكمال الإنساني، لأنهم يضعون لنا الخطوط العريضة، والقواعد الرئيسية، والخطوات المطلوبة في المسيرة، وأيضاً يضعون الإشارات الحمراء، ويشخصون مناطق الخطر، فإذا زاغ الإنسان عن متابعتهم اختلطت عليه المراحل، وانعدمت عنده

ص: 24


1- الغيبة للنعماني: 327.

الرؤية الصافية، فتبدأ مرحلة الانحراف، وبالتالي الخروج من جادة الحق والصواب، وعدم الوصول إلى الهدف المنشود.

اللّهم صل على محمد وآل محمد، «وتفضّل علي اللّهم وأنطقني بالهدى، وألهمني التقوى، ووفقني للتي هي أزكى، واستعملني بما هو أرضى، اللّهم أسلك بي الطريقة المثلى، وأجعلني على ملتك أموت وأحيا»(1).

من هدي القرآن الحكيم

العمل مع الإيمان

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ}(3).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّٰلِحِينَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٖ}(5).

اليقين في الدين

قال سبحانه: {وَبِالْأخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}(7).

وقال تعالى: {يُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}(8).

ص: 25


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة مريم، الآية: 96.
3- سورة العنكبوت، الآية: 7.
4- سورة العنكبوت، الآية: 9.
5- سورة فصلت، الآية: 8.
6- سورة البقرة، الآية: 4.
7- سورة الأنعام، الآية: 75.
8- سورة الرعد، الآية: 2.

وقال جلّ وعلا: {قَدْ بَيَّنَّا الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(1).

ثمرات اليقين

قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(2).

وقال سبحانه: {هَٰذَا بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(3).

الطاعة

قال تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ}(5).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(6).

وقال جلّ وعلا: {فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

العمل والإيمان

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه تعالى لا يقبل من العمل إلّا ما كان له خالصاً

ص: 26


1- سورة البقرة، الآية: 118.
2- سورة السجدة، الآية: 24.
3- سورة الجاثية، الآية: 20.
4- سورة النور، الآية: 54.
5- سورة الأنفال، الآية: 20.
6- سورة النساء، الآية: 59.
7- سورة المجادلة، الآية: 13.

وابتغي به وجهه»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «بالصالحات يستدل على الإيمان»(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «... الإيمان لا يكون إلّا بعمل والعمل منه ولا يثبت الإيمان إلّا بعمل»(3).

اليقين

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خير ما ألقي في القلب اليقين»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «باليقين تتم العبادة»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كفى باليقين غنى وبالعبادة شغلاً»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «كن موقناً تكن قوياً»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اليقين يثمر الزهد»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اليقين يوصل العبد إلى كل حال سني ومقام عجيب، كذلك أخبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن عظم شأن اليقين حين ذكر عنده أن عيسى بن مريم(عليه السلام) كان يمشي على الماء، فقال: لو زاد يقينه لمشى في الهواء»(9).

عن يونس قال: سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن الإيمان والإسلام، فقال: «قال أبو

ص: 27


1- نهج الفصاحة: 300.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 301.
3- الكافي 2: 38.
4- من لا يحضره الفقيه 4: 376.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 297.
6- المحاسن 1: 247.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 528.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 48.
9- بحار الأنوار 67: 179.

جعفر(عليه السلام): إنما هو الإسلام والإيمان فوقه بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التقوى بدرجة، ولم يقسم بين الناس شيء أقل من اليقين» قال - يونس - : فأيشيء اليقين؟ قال(عليه السلام): «التوكل على اللّه والتسليم للّه والرضا بقضاء اللّه والتفويض إلى اللّه» قلت: فما تفسير ذلك؟ قال(عليه السلام): «هكذا قال أبو جعفر(عليه السلام)»(1).

الطاعة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... ولا يحمل أحدكم استبطاء شيء من الرزق أن يطلبه بغير حله فإنه لا يدرك ما عند اللّه إلّا بطاعته»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «نعم الوسيلة الطاعة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «طاعة اللّه مفتاح كل سداد وصلاح كل فساد»(4).

الأولياء والمؤمنون

قال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من عرف اللّه وعظمه منع فاه من الكلام وبطنه من الطعام وعفا نفسه بالصيام والقيام. قالوا: بآبائنا وأمهاتنا يا رسول اللّه هؤلاء أولياء اللّه؟ قال: إن أولياء اللّه سكتوا فكان سكوتهم ذكرا ونظروا فكان نظرهم عبرة ونطقوا فكان نطقهم حكمة ومشوا فكان مشيهم بين الناس بركة لولا الآجال التي قد كتبت عليهم لم تقر أرواحهم في أجسادهم خوفا من العذاب وشوقا إلى الثواب»(5).

وخطب الناس الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام) فقال: «أيها الناس، أنا أخبركم عن

ص: 28


1- الكافي 2: 52.
2- الكافي 2: 74.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 718.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 436.
5- الكافي 2: 237.

أخ لي كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجا من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، كانخارجا من سلطان فرجه فلا يستخف له عقله ولا رأيه، كان خارجا من سلطان الجهالة فلا يمد يده إلّا على ثقة لمنفعة، كان لا يتشهى ولا يتسخط ولا يتبرم، كان أكثر دهره صماتا، فإذا قال بذ القائلين، كان لا يدخل في مراء، ولا يشارك في دعوى ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضيا، وكان لا يغفل عن إخوانه، ولا يخص نفسه بشي ء دونهم، كان ضعيفا مستضعفا فإذا جاء الجد كان ليثا عاديا، كان لا يلوم أحدا في ما يقع العذر في مثله حتى يرى اعتذارا، كان يفعل ما يقول ويفعل ما لا يقول، كان إذا ابتزه أمران لا يدري أيهما أفضل نظر إلى أقربهما إلى الهوى فخالفه، كان لا يشكو وجعا إلّا عند من يرجو عنده البرء، ولا يستشير إلّا من يرجو عنده النصيحة، كان لا يتبرم، ولا يتسخط، ولا يتشكى، ولا يتشهى ولا ينتقمُ ولا يغفل عن العدو، فعليكم بمثل هذه الأخلاق الكريمة إن أطقتموها، فإن لم تطيقوها كلها فأخذ القليل خير من ترك الكثير، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه(1).

عن مهزم الأسدي قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا مهزم، شيعتنا من لا يعدو صوته سمعه، ولا شحناؤه بدنه، ولا يمتدح بنا معلنا، ولا يجالس لنا عائبا، ولا يخاصم لنا قاليا، إن لقي مؤمنا أكرمه، وإن لقي جاهلا هجره» قلت: جعلت فداك، فكيف أصنع بهؤلاء المتشيعة؟ قال: «فيهم التمييز وفيهم التبديل وفيهم التمحيص، تأتي عليهم سنون تفنيهم، وطاعون يقتلهم، واختلاف يبددهم، شيعتنا من لا يهر هرير الكلب، ولا يطمع طمع الغراب، ولا يسأل عدونا، وإن مات جوعا» قلت: جعلت فداك، فأين أطلب هؤلاء؟ قال: «في أطراف الأرض،

ص: 29


1- الكافي 2: 237.

أولئك الخفيض عيشهم المنتقلة ديارهم، إن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، ومن الموت لا يجزعون وفي القبور يتزاورون، وإن لجأ إليهم ذو حاجة منهم رحموه، لن تختلفقلوبهم وإن اختلف بهم الدار»(1).

وقال أبو جعفر(عليه السلام): «إنما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق، والذي إذا قدر لم تخرجه قدرته إلى التعدي إلى ما ليس له بحق»(2)

وقال(عليه السلام): «المؤمنون هينون لينون، كالجمل الأنف إذا قيد انقاد وإن أنيخ على صخرة استناخ»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المؤمن كمثل شجرة لا يتحات ورقها في شتاء ولا صيف» قالوا: يا رسول اللّه، وما هي؟ قال: «النخلة»(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «المؤمن حليم لا يجهل، وإن جهل عليه يحلم، ولا يظلم وإن ظلم غفر، ولا يبخل وإن بخل عليه صبر»(5).

وقال(عليه السلام): «المؤمن من طاب مكسبه وحسنت خليقته وصحت سريرته وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من كلامه وكفى الناس شره وأنصف الناس من نفسه»(6).

ص: 30


1- الكافي 2: 238.
2- الكافي 2: 234.
3- الكافي 2: 234.
4- الكافي 2: 235.
5- الكافي 2: 235.
6- الكافي 2: 235.

من معاناة الإسلام والمسلمين

الإسلام وأزمة العاملين له

اشارة

جاء في الحديث الشريف: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء»(1).

لقد بدأ الإسلام يتنفس أنفاسه الأولى يوم ولد على يد الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) غريباً، ففي بداية الأمر لم يكن المؤمنين بهذا الدين الجديد سوى الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والسيدة خديجة(عليها السلام) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام).

فقد ورد عن ابن عباس قال: أول من آمن برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الرجال علي(عليه السلام)، ومن النساء خديجة(عليها السلام)(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «اكتتم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة مختفياً خائفاً خمس سنين ليس يظهر أمره، وعلي(عليه السلام) معه وخديجة(عليها السلام) ثم أمره اللّه عزّ وجلّ أن يصدع بما أمر به، فظهر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأظهر أمره».(3)

وروي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) - أيضاً - قال: «مكث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة بعد ما جاءه الوحي عن اللّه تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة، منها ثلاث سنين مختفياً خائفاً لا يظهر، حتى أمره اللّه عزّ وجلّ أن يصدع بما أمر به فأظهر حينئذ

ص: 31


1- كمال الدين 1: 66.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 259.
3- كمال الدين 2: 334.

الدعوة»(1).

ثم بدأ الأفراد بالتفاعل مع هؤلاء الأطهار والدخول إلى الإسلام.

فالدعوة إذن مكية - نسبة إلى مكة - النشوء، والذين دخلوا إلى الإسلام كانوا مكيِّين، ولكنهم كانوا غرباء في مدينتهم وبين أهليهم حيث كانوا مهدَّدين بالقتل والاضطهاد والكره والعداوة من قبل طواغيت قريش وأعوانهم.

فكانت - في البداية - مظاهر التخفّي والسريّة غالبة على أتباع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ وبما أن الإسلام رفض الشرك وعبادة الأصنام؛ لذلك جوبه بأنواع عديدة من الأساليب الوحشية التي لاتعرف الرحمة. وهكذا بدأت المعركة بين المسلمين من جانب والكفّار والمنافقين من جانب آخر. ولكن الحق دائماً يعلو ولا يُعلى عليه، حيث قال تبارك وتعالى: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}(2).

وقال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(3).

فوصل الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها، وظلّ كصخرة صمّاء تتكسر عليها معاول الطغاة إلى أن رحل صاحب الرسالة إلى الرفيق الأعلى، وبموته بدأ البعض باقتناص الفرص، وتبديل معالم ومفاهيم الإسلام.

خلفاء الجور

لقد واجه الإسلام مشكلتين كبيرتين منذ رحلة الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلى يومنا هذا، وعلى الذين يريدون عودة الإسلام ثانية إلى حياة المسلمين أن يرفعوا هاتين المعضلتين من البلاد الإسلامية.

المشكلة الأولى: هي خلفاء الجور، أو الحكام الظالمون الذين تسلَّطوا على

ص: 32


1- كمال الدين 2: 344.
2- سورة التوبة، الآية: 40.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 334.

رقاب المسلمين وبلادهم بمساعدة الأيادي الاستعمارية، ولهؤلاء الحكام من مظاهر الاستبداد والطغيان ما شمل كل مظاهر الحياة في البلاد الإسلامية، مضافاًإلى ذلك استئثارهم بثروات وأموال الشعوب، وهتك أعراض الناس وسفك دمائهم.

وهؤلاء الحكام على قسمين:

القسم الأول: الحكام الذين يتصورون ويصورون أنفسهم خلفاء لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وهم يعرّفون الإسلام إلى الآخرين وفق ما يشتهون؛ لذا لا بد من فضح مثل هؤلاء الحكام الظالمين، فالحكومة التي تدّعي الحرية والديمقراطية دون أن تطبق شيئاً من الحرية في تفاعلها مع الشعب يلزم فضحها. حتى لا يتصور بعض الناس بأن الحرية هي هذه وحسب، أي إنها تعني الاستبداد والدكتاتورية المعمول بها في أغلب البلاد الإسلامية والمبطنة بشعارات وتطبيقات ما أنزل اللّه بها من سلطان.

من هنا كان على المسلمين الذين يريدون عودة نور الإسلام الساطع إلى حياة المسلمين مرة أخرى أن يُفشوا وينشروا حقيقة هؤلاء الحكام الظالمين وإعلام العالم كلّه بأنهم لا يمثلون المسلمين، ولا يطبقون شيئاً من الإسلام الحقيقي أبداً، وهؤلاء ليسوا إلّا عصابات قفزت على كرسي الحكم. ويتم تمويه الأمور عبر الدعاية والإعلام المغرض وعبر تأليف الكتب وطبع الكثير منها ونشرها في كافة مناطق العالم أو عبر بعض المشاريع الخيرية التي يغلب عليها الطابع الدعائي وباطنها هدّام.

والقسم الثاني: هم الحكام الذين عملوا وما زالوا يعملون على محو الإسلام وإخماد ذكر الرسول الأعظم وأهل بيته(عليهم السلام)، وهم متكاتفون مع الغرب والشرق من أجل تشويه الإسلام، وإثارة الشكوك حول صاحب الرسالة وحول التشريع

ص: 33

الإسلامي، وإثارة الشبهات حول الإسلام ورجاله المخلصين.

وهذا الأمر لم يغب عن بال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ ولذلك نراه كان يركز علىمسألة الولاية من بعده وقيادة الأمة الإسلامية، فكان يكرّر ويقول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فإني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإن اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(1).

وورد عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِ بِإِمَٰمِهِمْ}(2) قال المسلمون: يا رسول اللّه، ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟

قال: فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنا رسول اللّه إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من اللّه من أهل بيتي يقومون في الناس، فيُكذَّبون، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتبعهم وصدَّقهم فهو مني ومعي وسيلقاني، ألّا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي وأنا منه بريء»(3).

وهؤلاء الحكام الظلمة بقسمَيْهم لم يطبقوا شيئاً مما أمر به الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبداً؛ لهذا دخل المسلمون بسبب انحراف قياداتهم في متاهات كثيرة، وضلالات واضحة في العقيدة.

فنرى الكثير من المسلمين اليوم يعتقدون بخلافة يزيد بن معاوية، والوليد بن عبد الملك بن مروان، وهارون العباسي، والمأمون العباسي، وغيرهم من خلفاء الجور ويتصورون بأنهم خلفاء شرعيّون.

ص: 34


1- معاني الأخبار: 90.
2- سورة الإسراء، الآية: 71.
3- الكافي 1: 215.

جاء عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «من حكم في الدرهمين بحكم جور ثم أجبرعليه كان من أهل هذه الآية: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ}»(1).

قلت: فكيف يجبر عليه؟

قال: «يكون له سوط وسجن فيحكم عليه، فإن رضي بحكومته، وإلّا ضربه بسوطه وحبسه في سجنه»(2).

وعن سعيد بن أبي الخضيب البجلي قال: كنت مع ابن أبي ليلى مزامله حتى جئنا إلى المدينة، فبينا نحن في مسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ دخل جعفر بن محمد(عليهما السلام) فقلت لابن أبي ليلى: تقوم بنا إليه؟

فقال: وما نصنع عنده؟

فقلت: نسائله ونحدثه.

فقال: قم.

فقمنا إليه، فسألني عن نفسي وأهلي، ثم قال: «من هذا معك؟».

فقلت: ابن أبي ليلى قاضي المسلمين.

فقال: «أنت ابن أبي ليلى قاضي المسلمين؟».

فقال: نعم.

فقال: «تأخذ مال هذا فتعطيه هذا، وتقتل، وتفرق بين المرء وزوجه، ولا تخاف في ذلك أحداً؟».

قال: نعم.

ص: 35


1- سورة المائدة، الآية: 44.
2- تهذيب الأحكام 6: 221.

قال: «فبأي شيء تقضي؟».

قال: بما بلغني عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعن علي(عليه السلام) وعن أبي بكر وعمر.

قال: «فبلغك عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: إن علياً(عليه السلام) أقضاكم؟».

قال: نعم.

قال: «فكيف تقضي بغير قضاء علي(عليه السلام) وقد بلغك هذا، فما تقول إذا جيء بأرض من فضة وسماوات من فضة، ثم أخذ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيدك فأوقفك بين يدي ربك وقال: يا رب، إن هذا قضى بغير ما قضيت؟».

قال: فاصفر وجه ابن أبي ليلى حتى عاد مثل الزعفران، ثم قال لي: التمس لنفسك زميلاً، واللّه لا أكلمك من رأسي كلمة أبداً(1).

نعم، إن الانحرافات والضلالات إنّما جاءت نتيجة بذر الأفكار الضالة في المجتمع من قبل الحكام الظالمين، وتحريف أقوال الرسول والمعصومين(عليهم السلام). وليت الأمر قد توقف عند هذا الحد، ولم يتعدَّه إلى أصول الدين والأمور الخطيرة في العقيدة، فنرى البعض يتصور بأن اللّه سبحانه وتعالى جسم، أو ظالم (والعياذ باللّه)، مما حدا ببعض علمائنا رضوان اللّه عليهم بمواجهة مثل هذه الانحرافات والضلالات، أمثال المحقق الطوسي، وشيخ الطائفة والعلامة الحلي وغيرهم (رحمة اللّه عليهم) قولاً وفعلاً.

ترك القوانين الإلهية

المشكلة الثانية: وهي متفرِّعة عن المشكلة الأولى؛ إذ أن حكام الجور هم الذين مهدوا لها، هي مشكلة سنّ القوانين الغربية والاستعمارية وتطبيقها في كافة مجالات الحياة. وقد جاءت هذه القوانين إلى المسلمين بعد احتلال البلاد

ص: 36


1- تهذيب الأحكام 6: 220.

الإسلامية وغزوها عسكرياً وفكرياً، وبقاء المستعمر فيها سنين طويلة، ثم وَضْعِه للعُمَلاء من بعد خروجه منها.

كل هذه الأمور أدّت إلى تلاشي وضياع القوانين والأحكام الإسلامية وهكذا ضاعت النداءات التي يصرّح بها القرآن الكريم دوماً في سبيل بناء الأمة الإسلامية الواحدة، وغرس الأخوة الإسلامية، ومن أجل تحقق الحرية الإسلامية في المجتمع وعمارة الأرض، وغيرها من الأحكام التي بيّناها في كتبنا(1).

وإذا ما نظر الآخرون إلى ديننا، وهو بهذه الصورة التي رسمها الحكام الجائرون وعملاء المستعمرين، وبهذه الصورة الخالية من المحتوى والمضمون والمملوءة بالجور والاستبداد والدكتاتورية. فهم يرون أن الكفر الذي عندهم أفضل من الدين الذي عندنا؛ فالحرية والأخوة الموجودة في البلاد الغربية أكثر بكثير من الحرية الموجودة في البلاد الإسلامية التي انسلخت عن حقيقة الإسلام، وهكذا الوحدة والرأفة والشفقة الموجودة في ما بينهم أكثر من الرأفة والرحمة الموجودة لدينا، لقد أدت هذه الظاهرة إلى تأخر الأمة الإسلامية، فإن بروز هاتين المشكلتين الكبيرتين وقف بوجه انتشار الإسلام وهما كما أشرنا سابقاً:

1- سيطرة خلفاء السوء وحكام الجور في المجتمعات الإسلامية.

2- تطبيق القوانين الغربية في البلاد الإسلامية المخالفة للموازين والأحكام الإلهية.

ولن ترتفع هاتان المشكلتان عن كاهل المسلمين وبلادهم، إلّا بهمة رجال

ص: 37


1- انظر كتاب (الصياغة الجديدة) و(السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(ممارسة التغيير) وغيرها من المؤلفات للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

مخلصين، عاملين للإسلام والمسلمين بكل إخلاص وتفان، انطلاقاً من شعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم.

فالإسلام لا يعاني من أزمة في الأفكار أو المفاهيم أو التشريع، بل من أزمة المخلصين الذين يدافعون عن حريمه بكل صدق، ولانعني أن الساحة قد خلت منهم، ولكن نسبة العاملين المخلصين للإسلام مقارنة مع الاتجاهات الإلحادية والمشركة وإعلامهم وإضلالهم تعتبر أقل بكثير، والمطلوب مضاعفة الكم والكيف. ولعل القسم الأكبر من ذلك يقع على عاتق طلبة الحوزات العلمية والعلماء والمفكرين والكتّاب؛ إذ أنهم الحصن الحصين للدفاع عن ثغور الإسلام ومبادئه، ومن ثم يأتي دور سائر الناس وباقي أفراد المجتمع؛ لأنّهم أيضاً مسؤولون عن الرسالة المحمدية.

ولذا ورد في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو المسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(1).

وبذلك يخرج الإسلام من الغربة التي هو فيها الآن. فالمطلوب أن تصل كل مبادئ الإسلام إلى كل إنسان في العالم، وفي حالة عدم تحقق ذلك فإن الإسلام يبقى غريباً، كما في الحديث الشريف - المذكور سابقاً - .

العمل الإسلامي

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «لا شرف كبعد الهمة»(2).

ص: 38


1- عوالي اللئالي 1: 129.
2- تحف العقول: 286.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند اللّهمن العمل الكثير على غير يقين»(1).

إن الإسلام يؤكد دائماً على العمل والإخلاص فيه وبعد الهمة. فعلى العاملين للإسلام، ومن أجل إعادة المجتمعات الإسلامية إلى التمسك بدينها وحمل مبادئه، أن يلتفتوا إلى هذه النقطة المهمة، وطالما أكد عليها النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحث المسلمين على عدم اليأس، وعدم التوقف؛ فالإسلام دائماً وأبداً يؤمن بالحركة، ويؤكد على العناصر الفعّالة؛ لذلك فهو يعتبر العمل عبادة، لأن العلم يعني تقدّم عجلة المجتمع الإسلامي، وبالتالي تكون الفائدة لكافة البشر.

فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألّا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال؛ إن المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه»(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلّا ارتحل عنه»(3).

والرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في اللحظات الحرجة الصعبة كان يؤكد على المسلمين بعدم اليأس، ويبعث فيهم روح الأمل والنصر، فنراه في موقف الأحزاب وقد أحاطه الأعداء وتكاتفوا عليه، وحاول بعض المسلمين الهروب من الساحة، حيث قال تعالى: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ}(4). وبعض آخر

ص: 39


1- الكافي 2: 57.
2- الكافي 1: 30.
3- الكافي 1: 44.
4- سورة الأحزاب، الآية: 13.

منهم حاول أن يجد طريقاً للتوسل إلى المشركين، والحصول منهم على أمان خاصله(1)، إضافة إلى الظروف المناخيّة القاسية التي كانوا يمرون بها... والحالة النفسية التي يمر بها الجيش الإسلامي، إلى درجة أن عمرو بن عبد ود العامري عندما دعا المسلمين إلى البراز لم يجبه أحد، وتراجع الجميع إلّا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، مع كل ذلك نرى أن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يبشرهم بالفتوحات العظيمة كفتح بلاد كسرى وبلاد الروم(2)، ليرفع من الروح المعنويّة فيهم، وليهدم الحاجز النفسي الذي لفّهم باليأس والخيبة.

قصة الأحزاب

روي أن قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَٰرُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا۠ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(3) نزل في قصة الأحزاب من قريش والعرب، الذين تحزبوا على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وذلك أن قريشاً تجمعت في سنة خمس من الهجرة وساروا في العرب وجلبوا، واستفزوهم لحرب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوافوا في عشرة آلاف، ومعهم كنانة وسليم وفزارة، وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين أجلى بني النضير وهم بطن من اليهود من المدينة وكان رئيسهم حيي بن أخطب، وهم يهود من بني هارون(عليه السلام) فلما أجلاهم من المدينة صاروا

ص: 40


1- انظر تفسير القمي 2: 188، وفيه: ونزلت هذه الآية في فلان لما قال لعبد الرحمن بن عوف: هلم ندفع محمداً إلى قريش ونلحق نحن بقومنا.
2- انظر بحار الأنوار 20: 189.
3- سورة الأحزاب، الآية: 9-12.

إلى خيبر وخرج حيي بن أخطب وهم إلى قريش بمكة، وقال لهم: إن محمداً قد وتركم ووترنا، وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا، وأجلى بني عمنا بني قينقاع، فسيروا فيالأرض واجمعوا حلفاءكم وغيرهم، حتى نسير إليهم؛ فإنه قد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة، وبينهم وبين محمد عهد وميثاق، وأنا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويكونون معنا عليهم، فتأتونه أنتم من فوق، وهم من أسفل.

وكان موضع بني قريظة من المدينة على قدر ميلين، وهو الموضع الذي يسمى بئر المطلب، فلم يزل يسير معهم حيي بن أخطب في قبائل العرب حتى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش وكنانة، والأقرع بن حابس في قومه، وعباس بن مرداس في بني سليم، فبلغ ذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاستشار أصحابه وكانوا سبعمائة رجل، فقال سلمان الفارسي: يا رسول اللّه، إن القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة.

قال: «فما نصنع؟».

قال: نحفر خندقاً يكون بيننا وبينهم حجاباً فيمكنك منعهم في المطاولة، ولا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه؛ فإنا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق، فيكون الحرب من مواضع معروفة.

فنزل جبرئيل(عليه السلام) على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «أشار سلمان بصواب».

فأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بحفره من ناحية أحد إلى رائح، وجعل على كل عشرين خطوة وثلاثين خطوة قوماً من المهاجرين والأنصار يحفرونه، فأمر فحملت المساحي والمعاول، وبدأ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين بنفسه، وأمير المؤمنين(عليه السلام) ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعيي، وقال: «لا عيش إلّا عيش الآخرة، اللّهم اغفر للأنصار

ص: 41

والمهاجرين».

فلما نظر الناس إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحفر اجتهدوا في الحفر ونقلوا التراب، فلما كان في اليوم الثاني بكروا إلى الحفر، وقعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مسجد الفتح، فبيناالمهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه، فبعثوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعلمه بذلك، قال جابر: فجئت إلى المسجد ورسول اللّه مستلق على قفاه ورداؤه تحت رأسه، وقد شد على بطنه حجراً، فقلت: يا رسول اللّه، إنه قد عرض لنا جبل لم تعمل المعاول فيه.

فقام مسرعاً حتى جاءه، ثم دعا بماء في إناء، فغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه، ثم شرب ومج من ذلك الماء في فيه ثم صبه على الحجر، ثم أخذ معولاً فضرب ضربة، فبرقت برقة، فنظرنا فيها إلى قصور الشام، ثم ضرب أخرى فبرقت برقة، نظرنا فيها إلى قصور المدائن، ثم ضرب أخرى فبرقت برقة أخرى نظرنا فيها إلى قصور اليمن.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أما إنه سيفتح اللّه عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق» ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل.

فقال جابر: فعلمت أن رسول اللّه مقوي، أي جائع؛ لما رأيت على بطنه الحجر، فقلت: يا رسول اللّه، هل لك في الغذاء؟

قال: «ما عندك يا جابر؟».

فقلت: عناق وصاع من شعير.

فقال: «تقدم وأصلح ما عندك».

قال: فجئت إلى أهلي، فأمرتها فطحنت الشعير وذبحت العنز وسلختها، وأمرتها أن تخبز وتطبخ وتشوي، فلما فرغت من ذلك جئت إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 42

فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، قد فرغنا فاحضر مع من أحببت.

فقام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى شفير الخندق ثم قال: «معاشر المهاجرين والأنصار، أجيبوا جابراً».

قال جابر: وكان في الخندق سبعمائة رجل فخرجوا كلهم، ثم لم يمر بأحد منالمهاجرين والأنصار إلّا قال: «أجيبوا جابراً».

قال جابر: فتقدمت وقلت لأهلي: واللّه قد أتاك محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بما لا قبل لك به.

فقالت: أعلمته أنت بما عندنا؟

قال: نعم.

قالت: هو أعلم بما أتى.

قال جابر: فدخل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فنظر في القدر، ثم قال: «اغرفي وأبقي»، ثم نظر في التنور، ثم قال: «أخرجي وأبقي» ثم دعا بصحفة فثرد فيها وغرف، فقال: «يا جابر، أدخل علي عشرة».

فأدخلت عشرة فأكلوا حتى نهلوا وما يرى في القصعة إلّا آثار أصابعهم.

ثم قال: «يا جابر، علي بالذراع»، فأتيته بالذراع فأكلوه.

ثم قال: «أدخل علي عشرة» فدخلوا فأكلوا حتى نهلوا وما يرى في القصعة إلّا آثار أصابعهم.

ثم قال: «عليَّ بالذراع»، فأكلوا وخرجوا.

ثم قال: «أدخل علي عشرة»، فأدخلتهم فأكلوا حتى نهلواً ولم ير في القصعة إلّا آثار أصابعهم.

ثم قال: «يا جابر، علي بالذراع» فأتيته، فقلت: يا رسول اللّه، كم للشاة من ذراع؟

ص: 43

قال: «ذراعان».

فقلت: والذي بعثك بالحق نبياً لقد أتيتك بثلاثة!؟

فقال: «أما لو سكت يا جابر لأكلوا الناس كلهم من الذراع».

قال جابر: فأقبلت أدخل عشرة عشرة، فدخلوا فيأكلون حتى أكلوا كلهم وبقيواللّه لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أياماً.

قال: وحفر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الخندق وجعل له ثمانية أبواب، وجعل على كل باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار مع جماعة يحفظونه، وقدمت قريش وكنانة وسليم وهلال فنزلوا الرغابة.

ففرغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيام، فأقبلت قريش ومعهم حيي بن أخطب فلما نزلوا العقيق جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في جوف الليل، وكانوا في حصنهم قد تمسكوا بعهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، - إلى أن قال - فقال - أي حيي بن أخطب - : ويلك يا كعب، انقض العهد الذي بينك وبين محمد ولاترد رأيي؛ فإن محمداً لا يفلت من هذا الجمع أبداً، فإن فاتك هذا الوقت لا تدرك مثله أبداً.

قال: واجتمع كل من كان في الحصن من رؤساء اليهود، مثل: غزال بن شمول وياسر بن قيس ورفاعة بن زيد والزبير بن ياطا، فقال لهم كعب: ما ترون؟

قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا وأنت صاحب عهدنا، فإن نقضت نقضنا وإن أقمت أقمنا معك، وإن خرجت خرجنا معك.

فقال الزبير بن ياطا، وكان شيخاً كبيراً مجرباً قد ذهب بصره: قد قرأت التوراة التي أنزلها اللّه في سفرنا، بأنه يبعث نبياً في آخر الزمان يكون مخرجه بمكة، ومهاجرته بالمدينة إلى البحيرة، يركب الحمار العربي ويلبس الشملة، ويجتزي بالكسيرات والتميرات، وهو الضحوك القتال، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم

ص: 44

النبوة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقاه، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر، فإن كان هذا هو فلا يهولنه هؤلاء وجمعهم، ولو ناوته هذه الجبال الرواسي لغلبها.

فقال حيي: ليس هذا ذلك، وذلك النبي من بني إسرائيل وهذا من العرب منولد إسماعيل، ولا يكون بنو إسرائيل أتباعاً لولد إسماعيل أبداً؛ لأن اللّه قد فضلهم على الناس جميعاً وجعل منهم النبوة والملك، وقد عهد إلينا موسى ألّا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، وليس مع محمد آية، وإنما جمعهم جمعاً وسحرهم، ويريد أن يغلبهم بذلك، فلم يزل يقلبهم عن رأيهم حتى أجابوه، فقال لهم: أخرجوا الكتاب الذي بينكم وبين محمد، فأخرجوه فأخذه حيي بن أخطب ومزقه، وقال: قد وقع الأمر، فتجهزوا وتهيئوا للقتال.

وبلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك فغمه غماً شديداً وفزع أصحابه، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لسعد بن معاذ وأسيد بن حصين، وكانا من الأوس، وكانت بنو قريظة حلفاء الأوس، فقال لهما: «ائتيا بني قريظة فانظروا ما صنعوا، فإن كانوا نقضوا العهد فلا تعلما أحداً إذا رجعتما إلي، وقولا عضل والفارة».

فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حصين إلى باب الحصن، فأشرف عليهما كعب من الحصن فشتم سعداً وشتم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له سعد: إنما أنت ثعلب في جحر، لنولين قريشاً وليحاصرنك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولينزلنك على الصغر والقماع وليضربن عنقك.

ثم رجعا إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالا: عضل والفارة.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لعناء، نحن أمرناهم بذلك» وذلك أنه كان على عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عيون لقريش يتجسسون خبره، وكانت عضل والفارة قبيلتان من العرب دخلا في الإسلام، ثم غدرا، فكان إذا غدر أحد ضرب بهذا المثل، فيقال:

ص: 45

عضل والفارة.

ورجع حيي بن أخطب إلى أبي سفيان وقريش فأخبرهم بنقض بني قريظة العهد بينهم وبين رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ففرحت قريش بذلك، فلما كان في جوف الليل جاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد كان أسلم قبل قدوم قريشبثلاثة أيام، فقال: يارسول اللّه، قد آمنت باللّه وصدقتك وكتمت إيماني عن الكفرة، فإن أمرتني أن آتيك بنفسي وأنصرك بنفسي فعلت، وإن أمرت أن أخذِّل بين اليهود وبين قريش فعلت؛ حتى لا يخرجوا من حصنهم؟

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اخذل بين اليهود وقريش، فإنه أوقع عندي».

قال: فتأذن لي أن أقول فيك ما أريد؟

قال: «قل ما بدا لك».

فجاء إلى أبي سفيان فقال له: تعرف مودتي لكم ونصحي ومحبتي أن ينصركم اللّه على عدوكم، وقد بلغني أن محمداً قد وافق اليهود، أن يدخلوا بين عسكركم ويميلوا عليكم، ووعدهم إذا فعلوا ذلك أن يرد عليهم جناحهم الذي قطعه لبني النضير وقينقاع، فلا أرى لكم أن تدعوهم يدخلوا في عسكركم حتى تأخذوا منهم رهناً تبعثوا بهم إلى مكة، فتأمنوا مكرهم وغدرهم.

فقال أبو سفيان: وفقك اللّه وأحسن جزاك، مثلك أهدى النصائح، ولم يعلم أبو سفيان بإسلام نعيم، ولا أحد من اليهود.

ثم جاء من فوره ذلك إلى بني قريظة فقال: يا كعب، تعلم مودتي لكم، وقد بلغني أن أبا سفيان قال: تخرج هؤلاء اليهود فنضعهم في نحر محمد، فإن ظفروا كان الذكر لنا دونهم، وإن كانت علينا كانوا هؤلاء مقاديم الحرب، فلا أرى لكم أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم عشرة من أشرافهم يكونون في حصنكم، إنهم إن لم يظفروا بمحمد لم يبرحوا حتى يردوا عليكم عهدكم

ص: 46

وعقدكم بين محمد وبينكم؛ لأنه إن ولت قريش ولم يظفروا بمحمد غزاكم محمد فيقتلكم.

فقالوا: أحسنت وأبلغت في النصيحة، لا نخرج من حصننا حتى نأخذ منهم رهنا يكونون في حصننا.وأقبلت قريش، فلما نظروا إلى الخندق قالوا: هذه مكيدة، ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك!

فقيل لهم: هذا من تدبير الفارسي الذي معه، فوافى عمرو بن عبد ود وهبيرة بن وهب وضرار بن الخطاب إلى الخندق، وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد صف أصحابه بين يديه، فصاحوا بخيلهم حتى طفروا الخندق إلى جانب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فصاروا أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كلهم خلف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقدموا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين أيديهم، وقال رجل من المهاجرين وهو فلان لرجل بجنبه من إخوانه: أما ترى هذا الشيطان عمرو، لا واللّه ما يفلت من يديه أحد، فهلموا ندفع إليه محمداً ليقتله ونلحق نحن بقومنا، فأنزل اللّه على نبيه في ذلك الوقت قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَٰنِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ - إلى قوله - وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}(1) وركز عمرو بن عبد ود رمحه في الأرض، وأقبل يجول حوله ويرتجز ويقول:

ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن الشجاع *** مواقف القرن المناجز

إني كذلك لم أزل *** متسرعاً نحو الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى *** والجود من خير الغرائز

ص: 47


1- سورة الأحزاب، الآية: 18-19.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من لهذا...؟».

فلم يجبه أحد.

فقام إليه أمير المؤمنين(عليه السلام) وقال: «أنا له يا رسول اللّه» فقال: «يا علي، هذا عمرو بن عبد ود فارس يليل».

قال: «أنا علي بن أبي طالب».

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ادن مني».

فدنا منه، فعممه بيده، ودفع إليه سيفه ذا الفقار، فقال له: «اذهب وقاتل بهذا»، وقال: «اللّهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته».

فمر أمير المؤمنين(عليه السلام) يهرول في مشيه وهو يقول:

لا تعجلن فقد أتاك *** مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية وبصيرة *** والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقيم *** عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى *** صوتها بعد الهزاهز

فقال له عمرو: من أنت؟

قال: «أنا علي بن أبي طالب، ابن عم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وختنه».

فقال: واللّه، إن أباك كان لي صديقاً قديماً، وإني أكره أن أقتلك، ما آمن ابن عمك حين بعثك إلي أن أختطفك برمحي هذا، فأتركك شائلاً بين السماء والأرض لا حي ولا ميت؟

فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): «قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلتُ الجنة وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة».

ص: 48

فقال عمرو: وكلتاهما لك يا علي، تلك إذا قسمة ضيزى!

قال علي(عليه السلام): «دع هذا يا عمرو، إني سمعت منك وأنت متعلق بأستار الكعبة، تقول: لا يعرضن علي أحد في الحرب ثلاث خصال إلّا أجبته إلى واحدة منها، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة».

قال: هات يا علي.

قال: «أحدها تشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه».

قال: نح عني هذه فاسأل الثانية.

فقال: «أن ترجع وترد هذا الجيش عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره».

فقال: إذن لا تتحدث نساء قريش بذلك، ولا تنشد الشعراء في أشعارها أني جبنت ورجعت على عقبي من الحرب وخذلت قوماً رأسوني عليهم.

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «فالثالثة أن تنزل إلي فإنك راكب وأنا راجل حتى أنابذك».

فوثب عن فرسه وعرقبه وقال: هذه خصلة ما ظننت أن أحداً من العرب يسومني عليها.

ثم بدأ فضرب أمير المؤمنين(عليه السلام) بالسيف على رأسه فاتقاه أمير المؤمنين بدرقته فقطعها وثبت السيف على رأسه.

فقال له علي(عليه السلام): «يا عمرو أما كفاك أني بارزتك وأنت فارس العرب حتى استعنت علي بظهير». فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين(عليه السلام) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً وارتفعت بينهما عجاجة، فقال المنافقون: قتل علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ثم انكشف العجاجة، فنظروا فإذا أمير المؤمنين(عليه السلام) على صدره قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه، فذبحه ثم أخذ رأسه، وأقبل إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 49

والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو، وسيفه يقطر منه الدم وهو يقول - والرأس بيده - :

«أنا علي وابن عبد المطلب *** الموت خير للفتى من الهرب»

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، ماكرته؟».

قال: «نعم يا رسول اللّه؛ الحرب خديعة».

وبعث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الزبير إلى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلق هامته، وأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عمر بن الخطاب أن يبارز ضرار بن الخطاب، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهماً، فقال ضرار: ويحك يا ابن صهاك أترميني في مبارزة! واللّه لئن رميتني لا تركت عدويا بمكة إلّا قتلته، فانهزم عنه عمر ومر نحوه ضرار وضربه على رأسه بالقناة، ثم قال: احفظها يا عمر، فإني آليت أن لا أقتل قرشياً ما قدرت عليه، فكان عمر يحفظ له ذلك بعد ما ولي، فولاه.

فبقي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحاربهم في الخندق خمسة عشر يوماً - إلى أن قال - فلما طال على أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأمر واشتد عليهم الحصار، وكانوا في وقت برد شديد وأصابتهم مجاعة وخافوا من اليهود خوفاً شديداً، وتكلم المنافقون بما حكى اللّه عنهم ولم يبق أحد من أصحاب رسول اللّه إلّا نافق إلّا القليل، وقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخبر أصحابه أن العرب تتحزب ويجيئون من فوق وتغدر اليهود ونخافهم من أسفل، وأنه ليصيبهم جهد شديد، ولكن تكون العاقبة لي عليهم، فلما جاءت قريش وغدرت اليهود قال المنافقون: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(1).

وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة فقالوا: يا رسول اللّه تأذن لنا أن نرجع

ص: 50


1- سورة الأحزاب، الآية: 12.

إلى دورنا؛ فإنها في أطراف المدينة وهي عورة ونخاف اليهود أن يغيروا عليها؟

وقال قوم: هلموا فنهرب ونصير في البادية ونستجير بالأعراب؛ فإن الذي كان يعدنا محمد كان باطلاً كله. وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) على العسكر كله بالليل يحرسهم، فإن تحرك أحدمن قريش نابذهم، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يجوز الخندق ويصير إلى قرب قريش حيث يراهم، فلا يزال الليل كله قائماً وحده يصلي، فإذا أصبح رجع إلى مركزه، ومسجد أمير المؤمنين هناك معروف يأتيه من يعرفه فيصلي فيه، وهو من مسجد الفتح إلى العقيق أكثر من غلوة نشابة، فلما رأى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أصحابه الجزع لطول الحصار صعد إلى مسجد الفتح وهو الجبل الذي عليه مسجد الفتح اليوم، فدعا اللّه وناجاه في ما وعده وكان مما دعاه أن قال:

«يا صريخ المكروبين ويا مجيب المضطرين ويا كاشف الكرب العظيم، أنت مولاي ووليي وولي آبائي الأولين، اكشف عنا غمنا وهمنا وكربنا، واكشف عنا شر هؤلاء القوم بقوتك وحولك وقدرتك».

فنزل عليه جبرئيل فقال: «يا محمد، إن اللّه قد سمع مقالتك وأجاب دعوتك، وأمر الدَّبور وهي الريح مع الملائكة أن تهزم قريشاً والأحزاب».

وبعث اللّه على قريش الدَبور فانهزموا وقلعت أخبيتهم، ونزل جبرئيل فأخبره بذلك.

فنادى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حذيفة بن اليمان، وكان قريباً منه فلم يجبه، ثم ناداه فلم يجبه، ثم ناداه الثالثة، فقال: لبيك يا رسول اللّه.

قال: «أدعوك فلا تجيبني؟».

قال: يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمي من الخوف والبرد والجوع.

فقال: «ادخل في القوم وائتني بأخبارهم، ولا تحدثن حدثاً حتى ترجع إلي؛

ص: 51

فإن اللّه قد أخبرني أنه قد أرسل الرياح على قريش فهزمهم».

قال حذيفة: فمضيت وأنا انتفض من البرد، فواللّه ما كان إلّا بقدر ما جزت الخندق حتى كأني في حمام، فقصدت خباء عظيماً فإذا نار تخبو وتوقد، وإذا خيمة فيها أبو سفيان قد دلى خصيتيه على النار وهو ينتفض من شدة البرد،ويقول: يا معشر قريش، إن كنا نقاتل أهل السماء، بزعم محمد، فلا طاقة لنا بأهل السماء، وإن كنا نقاتل أهل الأرض فنقدر عليهم، ثم قال: لينظر كل رجل منكم إلى جليسه لا يكون لمحمد عين في ما بيننا، قال حذيفة: فبادرت أنا فقلت للذي عن يميني: من أنت؟

فقال: أنا عمرو بن العاص.

ثم قلت للذي عن يساري من أنت.

قال: أنا معاوية.

وإنما بادرت إلى ذلك لئلا يسألني أحد من أنت، ثم ركب أبوسفيان راحلته وهي معقولة، ولولا أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «لا تحدث حدثاً حتى ترجع إلي» لقدرت أن أقتله.

ثم قال أبو سفيان لخالد بن الوليد يا أبا سليمان، لا بد من أن أقيم أنا وأنت على ضعفاء الناس، ثم قال: ارتحلوا إنا مرتحلون، ففروا منهزمين.

فلما أصبح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لأصحابه: «لا تبرحوا»، فلما طلعت الشمس دخلوا المدينة وبقي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نفر يسير.

وكان ابن فرقد الكناني رمى سعد بن معاذ رحمه اللّه بسهم في الخندق فقطع أكحله، فنزفه الدم، فقبض سعد على أكحله بيده، ثم قال: اللّهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فلا أحد أحب إلي محاربتهم من قوم حادوا اللّه ورسوله، وإن كانت الحرب قد وضعت أوزارها بين رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبين قريش

ص: 52

فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، فأمسك الدم وتورمت يده. وضرب رسول اللّه له في المسجد خيمة وكان يتعاهده بنفسه، فأنزل اللّه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَمِنكُمْ} يعني بني قريظة حين غدروا وخافوهم أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَٰرُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} إلى قوله: {إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}(1) وهم الذين قالوا لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): تأذن لنا نرجع إلى منازلنا؛ فإنها في أطراف المدينة ونخاف اليهود عليها؟

فأنزل اللّه فيهم: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا - إلى قوله - وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}(2) ونزلت هذه الآية في فلان لما قال لعبد الرحمن بن عوف: هلم ندفع محمداً إلى قريش، ونلحق نحن بقومنا.

ثم وصف اللّه المؤمنين المصدقين بما أخبرهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يصيبهم في الخندق من الجهد، فقال:

{وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ... وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَٰنًا}(3) يعني: ذلك البلاء والجهد والخوف(4).

إذن، على من يعمل للإسلام أن يتذكر هذه المواقف جيداً ويعتبر بها، ولا يركن إلى اليأس، بل عليه أن لا يعطي لنفسه مجالاً كي يفكر باليأس والتراجع والفشل، وعليه أن يُقدم متأسياً بأمير المؤمنين(عليه السلام) حينما أحجم القوم وقام بها،

ص: 53


1- سورة الأحزاب، الآية: 9-13.
2- سورة الأحزاب، الآية: 13-19.
3- سورة الأحزاب، الآية: 22.
4- تفسير القمي 2: 176-188.

حتى قال فيه الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أبشر يا علي، فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لرجح عملك بعملهم وذلك أنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلّا وقد دخله وهن بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلّا وقد دخله عزّ بقتلعمرو»(1).

وروي عن عبد اللّه بن مسعود قال: وكفى اللّه المؤمنين القتال بعلي(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «لضربة علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة»(3).

فالعاملون يجب أن يكونوا مصداقاً للآية الشريفة: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا}(4) أي ثبتوا على المبدأ، واستقاموا من أجل نشره والحفاظ عليه.

فقد روي عن حذيفة بن اليمان قال: لما دعا عمرو إلى المبارزة أحجم المسلمون كافة ما خلا علياً، فإنه برز إليه فقتله اللّه على يديه، والذي نفس حذيفة بيده، لعمله في ذلك اليوم أعظم أجراً من عمل أصحاب محمد إلى يوم القيامة، وكان الفتح في ذلك اليوم على يد علي(عليه السلام)، وقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لضربة علي خير من عبادة الثقلين»(5).

مقارعة الطاغوت

وليعلم العاملون، أن مقارعة الطاغوت ليس بالأمر الهيّن، ولكنها في الوقت

ص: 54


1- شواهد التنزيل 2: 12.
2- الإرشاد 1: 106.
3- إقبال الأعمال 1: 467.
4- سورة الأحزاب، الآية: 23.
5- بحار الأنوار 39: 1.

نفسه ليست بالأمر المستحيل، غاية الأمر أن مسالة التغلب عليه تتوقف على مجموعة من الأسباب التي يجب أن تكون سابقة على تحقق النصر، وإلّا فالنصر لا يُعطى لطالبيه بارزاً جاهزاً على طبق من ذهب وفضة.

فالنبي موسى(عليه السلام) قبل أن يخوض الصراع الفعلي مع فرعون أعطاه اللّه آيتين، العصا ويده البيضاء، لتكونا برهاناً على صدقه، لعل فرعون يرجع عن غيه وعساه أن يذعن للأمر، ولكننا نرى موسى(عليه السلام) مع ذلك يطلب من اللّه أمراً آخر، وهو السند والوزير، فقال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَٰرُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِۦ أَزْرِي}(1) وذلك كما قال هو: لكي يتقوى أكثر على مقارعة فرعون. فهو هنا يعمل على تهيئة سبب ماديّ ومعنوي ضروري، وهنا تظهر كفاءته في الطلب وفي الاختبار، وإلى جانب ذلك يطلب أموراً أخرى أيضاً، أي يعمل على تهيئة أسباب بعضها مادي والآخر معنوي: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي}(2).

تهيئة أسباب النصر

وهكذا، فالعاملون لا بدّ أن يعملوا على محورين:

أولهما: الثبات.

وثانيهما: تهيئة أسباب النصر.

وكلاهما يتخللهما العنصر الغيبي الذي لا بدّ منه، ولكن حتى هذا العنصر الغيبي يتطلب سبباً أيضاً، وهو الدعاء والتوجه إلى اللّه بقلب سليم مطمئن، فقد

ص: 55


1- سورة طه، الآية: 25-31.
2- سورة طه، الآية: 25-28، انظر تفسير القرآن 3: 474.

قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(1).

وهذا العنصر هو الفارق الرئيسي والجوهري بين العمل الإسلامي والعمل غير الإسلامي، ذلك لأن العمل الإسلامي دائماً يكون مؤطّراً به، وأما عملالطواغيت فيكون عملاً مادّياً بحتاً، فتراه عندما يفشل ويسقط تتبدّد كل أعماله: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٖ}(2)، فلا يبقى من القصور والامبراطوريات إلّا رسمها، وشيء من الذكريات المرّة. بينما العمل الإسلامي الخالص للّه تبارك وتعالى فإنه يبقى خالداً في الدنيا إلى آخر الدهر؛ لأن يد الغيب هي التي تحافظ عليه وتجعله مناراً وأُسوة حسنة يُقتدى به.

ثم إنه ليس هناك فرق بين طواغيت الأمس واليوم إلّا في الصورة، ولازم ذلك أن تختلف بعض الأساليب التي استخدمها العاملون بالأمس. فالحكام سابقاً على الرغم من سيطرتهم الفعلية على دفّة الحكم وبطشهم وظلمهم ووضع الشرطة والجواسيس على الناس، إلّا أن ظاهرة اللا نظام كانت سائدة، أما حكام اليوم فحيلهم منظمة ومرتبة، ومواجهة ذلك يقتضي أن ينتظم العاملون ويكون عملهم منظماً أيضاً، لكي يصمد أمام المواجهات والتحديات المنظمة.

من واقع الطواغيت

قال تبارك وتعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِۦ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(3).

إن عادة الطغاة إشاعة الفساد في الأرض بحرق النسل والحرث وما أشبه،

ص: 56


1- سورة الفرقان، الآية: 77.
2- سورة إبراهيم، الآية: 18.
3- سورة القصص، الآية: 4.

وذلك من خلال قناتين:

1- الإرهاب، المتمثل بالقتل والسجن والتعذيب وبثّ الجواسيس وشراء الضمائر ومحاربة الدين.

2- التفرّد بالأموال وثروات الشعب وصرفها على ما تشتهي أنفسهم، وحرمانالناس منها.

وبكلمة أخرى: إنّهم يسيطرون على الناس من خلال الجهاز السياسي والاقتصادي، أما الجانب الاجتماعي فهو مرتبط بذينك العاملين السابقين، فكلما فسد اقتصاد البلد وصودرت الثروات، عاش الناس في فقر مُدقع، وتكون عاقبة ذلك الفساد - بالطبع - الانحراف الأخلاقي.

وهكذا بالنسبة للجانب السياسي وتأثيره على الوحدة الاجتماعية للناس، ومن أشد الأمور التي تجعل المجتمع متأثراً، وتسوده الفوضى، هو تلاعب الطغاة بالأموال يميناً وشمالاً، وحرق الملايين على شهواتهم وملذاتهم وحرمان الشعب من ثرواته، فإن هذا النوع من السلوك يخلق لدى الجماهير سخطاً عاماً ربما يتبعه تصادم عنيف؛ لأن الجماهير تشعر بأن السلطة تسرق أموالها وخيراتها وتتمتع بها، وهم يعيشون في أحوال تعيسة وظروف صعبة، وهذا من أسباب خلق المعارضة مما يضطر الطاغية لأن يجابه تحرك الجماهير بكل قوة وعنف وإرهاب، خوفاً على كرسيه، فيكافح كل من يعترض على سلوكه وتصرفاته بكل قساوة.

حكّام لا حكمة لهم

نقل عن خلافة الأمين بن هارون العباسي أنه عند ما ملك، وجّه إلى البلدان في طلب الملهين وأجرى لهم الأرزاق، واقتنى الوحوش والسباع والطيور واحتجب عن أهل بيته وأمرائه، واستخفّ بهم، ومحق ما في بيوت الأموال،

ص: 57

وضيّع الجواهر والنفائس، وبنى عدّة قصور للَّهو في أماكن مختلفة، وأجاز مرة أحد المغنين بأن ملأ له زورقه ذهباً. بينما كان الكثير من الجماهير في حكمهيعيش أسوء حالات الفقر(1).

وهكذا الحال مع الطاغية صدام في العراق، فإنه يتمتع بمعيشة بذخ وإسراف، ويقضي كل شهواته الحيوانية، وملذاته الطائشة هو وأعوانه، بينما يعيش العراقيون في أوضاع مأساوية وظروف قاسية، فمئات الآلاف من المهجّرين والمهاجرين، ومئات الآلاف يقبعون في قعر السجون، فضلاً عن الحالة التي يعيشها الملايين من الشعب العراقي المظلوم، وكثرة الصعوبات والمضايقات. وعندما يثور الشعب ويغضب ضد هذه الأساليب اللاإنسانية ترى الطغاة كيف يقمعونها بوحشية نادرة قلّما نجد لها مثيلاً، وأساليبهم معروفة للعالم كله.

وهكذا الحال في غيره من الرؤساء، الذين لا تراهم الشمس، ولا يعرفون للحر والبرد والجوع والفقر معنى، بينما تعيش الملايين من شعوبهم حالة البطالة والفقر والانزلاق الأخلاقي، وتفشي كل أنواع الفاحشة والجريمة.

فهذا واقع الطغاة، وهذه أساليبهم، وهذا طراز حياتهم، لايختلف الواحد عن الآخر إلّا في بعض الشكليات، وإلّا فالمضمون والجوهر واحد، أي: إن الروح العدائية للجماهير موجودة في قلب كل منهم، ولكن كل يعرفها بشكل أو بآخر وهؤلاء الطغاة هم من أكثر مشاكل المسلمين ومعانة الأمة.

طغيان الحجّاج

كان الحجاج بن يوسف الثقفي من الطغاة الذين استولوا على الحكم الإسلامي فإنه، الذي يعتبر واحد من أشهر طغاة التاريخ كان والياً لبني أمية

ص: 58


1- انظر تاريخ الخلفاء: 331.

الذين حكموا البلاد بالظلم والجور والاستبداد، عُرف الحجاج بأسلوبه البشع في تعذيب السجناء؛ حيث ذكر في كتب السيرة والتاريخ أنه كان قد صنع سجناًمكشوفاً يضم بداخله ما لا يقلّ عن مائة ألف سجين من الرجال والنساء بصورة مختلطة، يلاقون أشدَّ وأقسى الظروف المناخية كالحرِّ والبرد، ويعانون من صنوف التعذيب الجسدي والنفسي.

وفي التاريخ: أنه قد أحصي من قتله صبراً سوى من قتل في عساكره وحروبه، فوجد مائة وعشرين ألفاً، مات وفي حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألفاً مجردة، وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد(1).

وكان الحاكم الأموي عبد الملك بن مروان يؤيِّد كل أعمال الحجاج، ويُمدّه بما يحتاج إليه؛ وكيف لا، وهو القائل حينما استلم مقاليد الخلافة: واللّه لا يأمرني أحد بتقوى اللّه بعد مقامي هذا إلّا ضربت عنقه(2).

وهو الذي حين أفضى الأمر إليه، وكان المصحف في حجره فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك(3)، وليس هذا فحسب، بل إنه عندما حضرته الوفاة جعل يوصي ابنه الوليد بالحَجاج خيراً، رغم علمه بوحشيته وولعه بالدماء، فيقول لابنه: وانظر الحجاج فأكرمه، فإنه هو الذي وطَّأ لكم المنابر، وهو سيفك، يا وليد، ويدك على من ناواك، فلا تسمعنَّ فيه قول أحد، وأنت إليه أحوج منه إليك، وادع الناس إذا متُّ إلى البيعة؛ فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا(4).

ص: 59


1- مروج الذهب 3: 166.
2- تاريخ الخلفاء للسيوطي: 239.
3- تاريخ بغداد 10: 389، وفي خبر آخر قالوا: لما سلم على عبد الملك بن مروان بالخلافة كان في حجره مصحف فأطبقه وقال: هذا فراق بيني وبينك.
4- تاريخ الخلفاء: 220.

ثم يعلِّق السيوطي فيقول: لو لم يكن من مساويء عبد الملك إلّا الحجّاج، وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة، يهينهم ويُذِلُّهم قتلاً وضرباً وشتماًوحبساً، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين مالا يحصى، فضلاً عن غيرهم، وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختماً، يريد بذلك ذُلّهم فلا رحمه اللّه ولا عفا عنه(1).

وسئل شريح عن الحجاج: أكان الحجاج مؤمناً؟

قال: نعم بالطاغوت! كافراً باللّه تعالى(2).

وقال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أُمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم(3). ومما ينقل أن الحجاج كان في صغره لا يقبل الثدي، وأعياهم أمره، فيقال: إن الشيطان تصوّر له في صورة الحرث بن كلدة حكيم العرب، فسألهم عن ذلك، فأخبره مخبر من أهله، فقال لهم: إذبحوا له تيساً وألعقوه من دمه، وأولغوه فيه، ثم اطلوا به وجهه، ففعلوا ذلك، فقبل الثدي؛ فلأجل ذلك كان لا يصبر على سفك الدماء، وكان يخبر عن نفسه أن أكبر لذَّاته سفك الدماء، وارتكاب أمور لا يقدر غيره عليها(4).

ومن ذلك ما روي: أن الحجاج بن يوسف الثقفي قال ذات يوم: أحب أن أصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب فأتقرب إلى اللّه بدمه! فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه.

فبعث في طلبه، فأتي به، فقال له: أنت قنبر؟

ص: 60


1- تاريخ الخلفاء: 220.
2- وفيات الأعيان 2: 463.
3- تهذيب التهذيب 2: 185.
4- المستطرف 1: 100.

قال: نعم.

قال: أبو همدان؟

قال: نعم.

قال: مولى علي بن أبي طالب؟

قال: اللّه مولاي وأمير المؤمنين علي ولي نعمتي.

قال: ابرأ من دينه؟

قال: فإذا برئت من دينه تدلني على دين غيره أفضل منه.

قال: إني قاتلك، فاختر أي قتلة أحب إليك؟

قال: قد صيرت ذلك إليك.

قال: ولم؟

قال: لأنك لا تقتلني قتلة إلّا قتلتك مثلها، وقد أخبرني أمير المؤمنين(عليه السلام) أن ميتتي تكون ذبحاً ظلماً بغير حق.

قال: فأمر به فذبح(1).

ولكن مع كبريائه وجبروته وبطشه الشديد، نراه ذليلاً لشهوته، منقاداً لهواه، تعيس الحظِّ حتى مع النساء.

الحجّاج على لسان إحدى زوجاته

فقد حكي أن هنداً إبنة النعمان كانت أحسن أهل زمانها. فوصِف للحجاج حسنها، فأنفذ إليها يخطبها، وبذل لها مالاً وافراً، وتزوج بها، وشرط لها عليه بعد الصداق مائتي ألف درهم، ودخل بها، ثم دخل عليها في بعض الأيام وهي تنظر في المرآة وتقول:

ص: 61


1- الإرشاد 1: 328.

وما هند إلّا مهرةٌ عربيةٌ *** سليلة أفراسٍ تحلَّلَها بغل

فإن وَلَدت فحلاً فللّه درُّها *** وإن ولدت بغلاً فجاء به البغل

فسمعها الحجاج فانصرف ولم يدخل عليها، ثم بعث عبد اللّه بن طاهر ليطلِّقها فأعطاها المائتي ألف درهم، فقالت: هذه المائتا ألف درهم التي جئت بها بشارة لك بخلاصي من كلب بني ثقيف. ثم بعد ذلك بلغ عبد الملك بن مروان خبرها، فأرسل إليها يخطبها، فاشترطت عليه: أن يقود الحجاج محملي إلى بلدك التي أنت فيها، ويكون ماشياً حافياً، فلما علم عبد الملك شرطها ضحك وأنفذ إلى الحجاج وأمره بذلك، فامتثل الحجاج لذلك. فهذا هو الحجاج(1).

وكذلك هو واقع الظلمة والطغاة، الذين ينقضّون بكل قواهم على المستضعفين، في حين أن قوتهم وجبروتهم هذه تذوب أمام النساء والملَذّات الأخرى.

إن السلوك الذي يمارسه الجبابرة على الأمم والشعوب، وإن أخضعها حيناً إلّا أنها ما تلبث أن تفلت وتتمرد على الطاغوت وتخرج من ربقته؛ لأن القوة والبطش والرعب والسجون كل ذلك لا يكون نظاماً للناس، أو منهاجاً لحياتهم، بل إنها تخلق جوّاً إرهابياً يخشاه الناس حيناً، ثم ينقلب الأمر على الطاغوت.

نعم، إن من معاناة الإسلام والمسلمين هؤلاء الطغاة وسياستهم المنحرفة واللاعقلائية، فإنها تبعث في كثير من الأحيان في نفوس الأمة الخوف والهزيمة، وذوبان القيم الأخلاقية وانصهارها في اللاشعور، وتظهر أساليب وسلوكيات أخرى تعكس واقعهم المزري، وضحالة الحالة الاجتماعية، أمثال المكر والرشوة

ص: 62


1- انظر المستطرف 1: 102.

والوشاية والتجسس، وغيرها.

الأسباب والمسببات

فعلى الأفراد والأمم أن يسألوا أنفسهم: لماذا يتسلط هؤلاء الطغاة عليهم؟

وما هي الأسباب التي دعت لذلك؟

ثم ما هي الأساليب التي بها يمكن إزالة حكم هؤلاء الظلمة؟

يقول اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1).

إذن هناك منهج ربّاني تحكمه قوانين إلهية دقيقة لا بد أن يلتفت إليها الإنسان؛ ولهذا جاء التأكيد على التدبر في آيات القرآن؛ لأن فيها بيان سنن اللّه في الحياة، ولكن الإنسان هو الذي لا يلتفت إليها.

إن قانون الأسباب والمسببات هو الذي يحكم الكون بنظامه الصارم، فلكل معلول علّة، ولكل فعل ردّ فعل، ولكل عمل نتيجة أو نتائج.

قال الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام): «الذنوب التي تغير النعم: البغي على الناس والزوال عن العادة في الخير واصطناع المعروف، وكفران النعم وترك الشكر، قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2).

والذنوب التي تورث الندم: قتل النفس التي حرم اللّه، قال اللّه تعالى في قصة قابيل حين قتل أخاه هابيل فعجز عن دفنه: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّٰدِمِينَ}(3).

وترك صلة القرابة حتى يستغنوا، وترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وترك الوصية ورد المظالم، ومنع الزكاة حتى يحضر الموت وينغلق اللسان.

ص: 63


1- سورة الرعد، الآية: 11
2- سورة الرعد، الآية: 11.
3- سورة المائدة، الآية: 31.

والذنوب التي تنزل النقم: عصيان العارف بالبغي، والتطاول على الناس، والاستهزاء بهم، والسخرية منهم.

والذنوب التي تدفع القسم: إظهار الافتقار، والنوم عن العتمة، وعن صلاة الغداة، واستحقار النعم، وشكوى المعبود عزّ وجلّ.

والذنوب التي تهتك العصم: شرب الخمر، واللعب بالقمار، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح، وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب.

والذنوب التي تنزل البلاء: ترك إغاثة الملهوف، وترك معاونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والذنوب التي تديل الأعداء: المجاهرة بالظلم، وإعلان الفجور، وإباحة المحظور، وعصيان الأخيار، والانطياع للأشرار.

والذنوب التي تعجل الفناء: قطيعة الرحم، واليمين الفاجرة، والأقوال الكاذبة، والزنا، وسد طريق المسلمين، وادعاء الإمامة بغير حق.

والذنوب التي تقطع الرجاء: اليأس من روح اللّه، والقنوط من رحمة اللّه، والثقة بغير اللّه، والتكذيب بوعد اللّه عزّ وجلّ.

والذنوب التي تظلم الهواء: السحر، والكهانة، والإيمان بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وعقوق الوالدين.

والذنوب التي تكشف الغطاء: الاستدانة بغير نية الأداء، والإسراف في النفقة على الباطل، والبخل على الأهل والولد وذوي الأرحام، وسوء الخلق، وقلة الصبر، واستعمال الضجر والكسل، والاستهانة بأهل الدين.

والذنوب التي ترد الدعاء: سوء النية، وخبث السريرة، والنفاق مع الإخوان، وترك التصديق بالإجابة، وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها، وترك التقرب إلى اللّه عزّ وجلّ بالبر والصدقة، واستعمال البذاء والفحش في

ص: 64

القول.

والذنوب التي تحبس غيث السماء: جور الحكام في القضاء، وشهادة الزور،وكتمان الشهادة، ومنع الزكاة والقرض والماعون، وقساوة القلب على أهل الفقر والفاقة، وظلم اليتيم والأرملة، وانتهار السائل ورده بالليل»(1).

الفضائل ازدهار الحياة

في المقابل عندما تكون هناك أمة صالحة يعيش أفرادها بوئام وسلام وتراحم، ستكون أعمالهم هذه أسباباً لازدهار الحياة وسعادتها؛ وهذا كله بحاجة إلى الإخلاص في العمل، فإن هكذا الإخلاص يزيد في العلم والحكمة، وفقاً لقول الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أخلص للّه أربعين يوماً فجر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «ما أخلص العبد الإيمان باللّه عزّ وجلّ أربعين يوماً، ... إلّا زهده اللّه عزّ وجلّ في الدنيا، وبصره داءها ودواءها، فأثبت الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، ثم تلا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(3) فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلاً، أو مفترياً على اللّه عزّ وجلّ وعلى رسوله وأهل بيته (صلى اللّه عليهم أجمعين) إلّا ذليلاً»(4).

ومن المعلوم أنه بواسطة العلم والحكمة تزدهر الحياة العامة، وينتفع الناس بذلك، وكذلك تعدّ صلة الرحم من الصفات المحببة التي يحثنا عليها أئمتنا(عليهم السلام)

ص: 65


1- وسائل الشيعة 16: 281.
2- عدة الداعي: 232.
3- سورة الأعراف، الآية: 152.
4- الكافي 2: 16.

وهي من أسباب الزيادة في العمر؛ فعن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيّرها اللّه ثلاثين سنة، ويفعل اللّهما يشاء»(1).

وكلما ازداد العمر أمكن للإنسان أن ينتفع من ذلك.

وهكذا بقية الأعمال الصالحة، فالصدقة تدفع البلاء، قال الإمام الباقر(عليه السلام): «الصدقة تدفع البلاء المبرم فداووا مرضاكم بالصدقة»(2).

وحسن الخلق يزيد في الرزق، حيث ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «حسن الخلق يزيد في الرزق»(3).

وغير ذلك كثير من الأسباب والفضائل التي إذا هيّأها أبناء المجتمع فإنهم يكونون قد هيّأوا لأنفسهم أسباب العيش الهنيء والحياة الآمنة، البعيدة عن الحوادث والكوارث وغضب اللّه. ومن خلال هؤلاء الناس أنفسهم يظهر من فيه كفاءة القيادة، فيسوسهم بالرحمة والعطف والعدل وهذا يسبب نجاة المسلمين من معاناتهم.

الرذائل وهلاك المجتمع

ومن أسباب معاناة المسلمين ما نراه اليوم من تفش المحرمات والرذائل فإنها توجب هلاك المجتمع.

عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «وجدنا في كتاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا ظهر الزّنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طفّف المكيال والميزان أخذهم اللّه بالسّنين والنّقص، وإذا منعوا الزّكاة منعت الأرض بركتها من الزّرع والثّمار والمعادن كلّها،

ص: 66


1- الكافي 2: 150.
2- وسائل الشيعة 2: 433.
3- الزهد: 30.

وإذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظّلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلّط اللّه عليهم عدوّهم، وإذا قطّعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لميأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ولم يتّبعوا الأخيار من أهل بيتي سلّط اللّه عليهم شرارهم فيدعوا خيارهم فلا يستجاب لهم»(1).

نعم، إذا اتصف أبناء المجتمع بالرذائل والصفات غير الأخلاقية فإن هذه الصفات نفسها تكون كافية لإهلاكهم وتسليط الجبابرة عليهم، لأن طبيعة الإنسان العاصي أن يكون مستغرقاً في الملذّات والهوى، ولا يعلم كيف تجري الأمور السياسية والاقتصادية أو غيرها، فهو يجهل حتى هدفه في الحياة، فمثلاً عندما تستشري ظاهرة الزنا - والعياذ باللّه في المجتمع - فالزنا فعل لا بدّ له من نتائج، ومن نتائجه المعنوية قصر العمر، ومن نتائجه الماديّة شيوع الأمراض الجنسية الزهرية الخطيرة وهكذا الإيدز وغيره، وتفشي الانحلال الأخلاقي.

ثم إن بعض هذه الذنوب تكون نتائجها السيئة سريعة، أي أن ما يتبعها من مساوي تظهر مباشرة فتنعكس سلبياتها في المجتمع.

فمثلاً، الزنا ينشر الأمراض، وفساد السوق والميزان يوجب الجدب والقحط. وإذا منع الناس الزكاة أو الخمس منعت السماء ماءها.

وهكذا في المقابل، فإن اللّه قد جعل لكل صفةٍ أخلاقية حسنة نتائج معنوية إيجابية، ونتائج مادية إيجابية ينتفع الناس منها.

كما جعل اللّه لكل صفة لا أخلاقية، ولكل ذنب أو معصية نتائج سلبية تنعكس على روح الإنسان، فتضعف إيمانه، ونتائج سلبية مادية تنعكس أضرارها في المجتمع، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خمس إن أدركتموهنَّ فتعوذوا باللّه منهنَّ:

ص: 67


1- الكافي 2: 374.

لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوها إلّا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلّا أُخذوا بالسنينوشدة المؤونة وجور السلطان، ولم يمنعوا الزكاة إلّا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد اللّه وعهد رسوله إلّا سلّط اللّه عليهم عدوّهم وأخذوا بعض ما في أيديهم، ولم يحكموا بغير ما أنزل اللّه عزّ وجلّ إلّا جعل اللّه عزّ وجلّ بأسهم بينهم»(1).

وهذا الحديث الشريف يكشف لنا عن نظام العليّة وقانون الأسباب والمسببات وبعض أسرار تسلط الظلمة على الناس، لكنه يؤكد على أن ذلك التسليط ليس من قبل اللّه (والعياذ باللّه)، بل هو من جزاء أيدي الناس وأعمالهم.

قال عزّ وجلّ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(2).

الخروج من المأزق

ثم إن اللازم للخروج من هذا المأزق والتخلص من هذه المعاناة ولكي نصل إلى الحياة الطيبة والقيادة العادلة لا بد لنا من أن نأخذ بعين الاعتبار قانون الأسباب والمسببات والسنن الكونية، ونعمل كل ما بوسعنا لكي تكون أعمالنا صالحة، حتى تأتي النتائج صالحة فتنعكس إيجابياتها على مختلف الناس، كما إن من الضروري إيجاد التعددية السياسية لكي لا يكون مجال لتسلُّط الطغاة والجبابرة. فإذا استطعنا أن نبني ونُربّي أولادنا على الفضيلة والأدب الإسلامي

ص: 68


1- الكافي 2: 373.
2- سورة الروم، الآية: 41.

وسلوك أهل البيت(عليهم السلام)، نكون قد ضمنّا قيادة عادلة حكيمة في المستقبل؛ إذ عندما نجهل هذا الكون وما أودع اللّه فيه من السنن، ونهجر القرآن الذي فيه علم كلشيء، ولم نتبع سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام) نكون قد تخلّينا عن حياتنا السعيدة وعن مصيرنا الموعود، فنذوب في العمل اليومي والقضايا الجانبية والثانوية، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(1).

وكلما ازداد ابتعادنا عن القرآن وعن منهج أهل البيت(عليهم السلام) ازداد استغراقنا في المتاهات، لنفاجأ مَدهوشين بالطغاة واحداً تلو الآخر كدهشتنا بحاكم كالحجاج أو صدام وقد تسلط علينا.

وعندها نقول: لماذا سلّطه اللّه علينا؟ ونبتهل إلى اللّه بالدعاء والفرج، ولكن دون جدوى فعملنا هو - في الواقع - الذي فسح المجال لأن يأتي أمثال هؤلاء الطغاة، وبالعمل والسلوك أيضاً نستطيع أن نبدّل الواقع السيئ إلى واقع حسنٍ ومُرْضٍ، حيث قال تعالى: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(2). فإذا كان الإنسان دائماً في طاعة اللّه، مقيماً لشعائره ومجداً في سبيله، ومدافعاً عن الدين والمؤمنين، وباذلاً روحه وأمواله في سبيل شريعة اللّه عزّ وجل، فإن هذا بحدّ ذاته نصر لدين اللّه، وسيكون سبباً لغلق الأبواب التي منها يتسلّل الانتهازيون وأشباههم ممّن يريدون الكيد بالإسلام العظيم، وكلما ازداد الدفاع عن الإسلام قويت قاعدة المسلمين التي تنتهي برسوخ وثبات الحكم الإسلامي.

ص: 69


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47، من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).
2- سورة محمد، الآية: 7.

حكومة أمير المؤمنين(عليه السلام)

إن لنا تجربة رائعة في الحكم وقدوة عظيمة نتأسى بها دوماً وهي دولة أميرالمؤمنين(عليه السلام)، حيث جسَّد أروع صور العدل الإنساني فيقول(عليه السلام): «إن هذا المال ليس لي ولالك، وإنما هو فيء للمسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، وإلّا فجناة أيديهم لا يكون لغير أفواههم»(1).

ويقول(عليه السلام): «إن السلطان لأمين اللّه في الأرض، ومقيم العدل في البلاد والعباد ووزعته في الأرض»(2).

وكتب(عليه السلام) للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به عبد اللّه علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر، جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها:

أمره بتقوى اللّه وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلّا باتباعها ولا يشقى إلّا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر اللّه سبحانه بقلبه ويده ولسانه؛ فإنه جلّ اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه، وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات(3)؛ فإن النفس أمارة بالسوء إلّا ما رحم اللّه.

ثم اعلم يا مالك، أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من

ص: 70


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 232، من كلام له(عليه السلام) كلم به عبد اللّه بن زمعة وهو من شيعته، وذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالاً.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 242.
3- الجَمَحات: منازعات النفس إلى شهواتها ومآربها.

عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بمايجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشح بنفسك عمّا لا يحل لك؛ فإن الشح بالنفس الإنصاف منها في ما أحبت أو كرهت، وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه؛ فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، واللّه فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم. ولا تنصبن نفسك لحرب اللّه؛ فإنه لا يد لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحةً ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع؛ فإن ذلك إدغال(1) في القلب ومنهكة للدين وتقرب من الغير. وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهةً أو مخيلةً فانظر إلى عظم ملك اللّه فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك.

إياك ومساماة اللّه في عظمته والتشبه به في جبروته؛ فإن اللّه يذل كل جبار ويهين كل مختال، أنصف اللّه وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوًى من رعيتك؛ فإنك إلّا تفعل تظلم ومن ظلم عباد اللّه كان اللّه

ص: 71


1- الإدغال: إدخال الفساد.

خصمه دون عباده ومن خاصمه اللّه أدحض حجته، وكان للّه حرباً حتى ينزع أو يتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم،فإن اللّه سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية؛ فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مئونةً في الرخاء وأقل معونةً له في البلاء وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف وأقل شكراً عند الإعطاء وأبطأ عذراً عند المنع وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم، وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس؛ فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عمّا غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك واللّه يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر اللّه منك ما تحب ستره من رعيتك. أطلق عن الناس عقدة كل حقد واقطع عنك سبب كل وتر وتغاب عن كل ما لايضح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساع؛ فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين، ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن باللّه.

إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانةً؛ فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثماً على إثمه، أولئك أخف عليك مئونةً وأحسن لك معونةً وأحنى عليك عطفاً وأقل لغيرك إلفاً، فاتخذ أولئك خاصةً لخلواتك

ص: 72

وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك وأقلهم مساعدةً في ما يكون منك، مما كره اللّه لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع. والصق بأهلالورع والصدق ثم رُضهم(1) على ألّا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله؛ فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة. ولا يكونن المحسن والمسي ء عندك بمنزلة سواء؛ فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه.

واعلم أنه ليس شي ء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المئونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك؛ فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده. ولا تنقض سنةً صالحةً عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنةً تضر بشي ء من ماضي تلك السنن؛ فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها. وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك.

واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلّا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود اللّه ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى اللّه له سهمه، ووضع على حده فريضةً في كتابه أو سنة

ص: 73


1- رُضهم: أي عودهم على ألا يطروك، أي يزيدوا في مدحك.

نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عهداً منه عندنا محفوظاً، فالجنود بإذن اللّه حصون الرعية، وزين الولاة وعزّ الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلّا بهم، ثم لا قوام للجنود إلّا بمايخرج اللّه لهم من الخراج؛ الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه في ما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلّا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتّاب؛ لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جميعاً إلّا بالتجار وذوي الصناعات، في ما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي اللّه لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه اللّه من ذلك إلّا بالاهتمام والاستعانة باللّه، وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه، في ما خفّ عليه أو ثقل، فول من جنودك أنصحهم في نفسك للّه ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف، ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة؛ فإنهم جماع من الكرم وشعب من العُرُف(1)، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولايتفاقمن في نفسك شي ء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل؛ فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك، ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها؛ فإن لليسير من لطفك موضعاً

ص: 74


1- العُرُف: المعروف.

ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه، وليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم، منخلوف أهليهم؛ حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك. وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلّا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلّا بحيطتهم على ولاة الأمور، وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم؛ فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء اللّه.

ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضمن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً، واردد إلى اللّه ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور؛ فقد قال اللّه تعالى لقوم أحب إرشادهم: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(1) فالرد إلى اللّه الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة. ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم، ولايتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفي ء إلى الحق إذا عرفه، ولاتشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل. ثم

ص: 75


1- سوره النساء، الآية: 59.

أكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك؛ ليأمن بذلكاغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظراً بليغاً؛ فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا.

ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباةً وأثرةً؛ فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة؛ فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً وأقل في المطامع إشراقاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثم أسبغ عليهم الأرزاق؛ فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك، ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم؛ فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم(1) على استعمال الأمانة والرفق بالرعية وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة. وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله؛ فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلّا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علةً أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف

ص: 76


1- حَدْوَة: أي سوق لهم وحثّ.

بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شي ء خففت به المئونة عنهم؛ فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيينولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم؛ فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبةً أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر، ثم انظر في حال كتّابك، فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكايدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق، ممن لاتبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ولاتقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك في ما يأخذ لك ويعطي منك، ولايضعف عقداً اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور؛ فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل، ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك؛ فإن الرجال يتعرضون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شي ء، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً؛ فإن ذلك دليل على نصيحتك للّه ولمن وليت أمره، واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم، لا يقهره كبيرها ولا يتشتت عليه كثيرها، ومهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته. ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق

ص: 77

ببدنه؛ فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترءونعليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته. وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك. واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار؛ فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع؛ فمن قارف حكرةً بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه في غير إسراف.

ثم اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين، وأهل البؤسى والزَمنى(1)؛ فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ للّه ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام(2) في كل بلد؛ فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه. ولا يشغلنك عنهم بطر؛ فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم. وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى اللّه يوم تلقاه؛ فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى اللّه في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل، وقد

ص: 78


1- الزَمنى - جمع زمين - : وهو المصاب بالزَمانه أي العاهة، يريد عليه السلام أرباب العاهات المانعة لهم عن الإكتساب.
2- صوافي الإسلام - جمع صافية - : وهي أرض الغنيمة.

يخففه اللّه على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود اللّه لهم. واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساًعاماً، فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك؛ حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: لن تقدس أمة لايؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع، ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق والأنف، يبسط اللّه عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً وامنع في إجمال وإعذار.

ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها، منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتّابك، ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك، وأمض لكل يوم عمله؛ فإن لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك في ما بينك وبين اللّه أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها للّه إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية، وليكن في خاصة ما تخلص به للّه دينك إقامة فرائضه، التي هي له خاصةً، فأعط اللّه من بدنك في ليلك ونهارك، ووفِّ ما تقربت به إلى اللّه من ذلك، كاملاً غير مثلوم ولامنقوص، بالغاً من بدنك ما بلغ. وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً؛ فإن في الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيماً.

وأما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك؛ فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به

ص: 79

من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب؛ وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابكمن واجب حق تعطيه؟ أو فعل كريم تسديه، أو مبتلًى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بَذْلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لامئونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة. ثم إن للوالي خاصةً وبطانةً، فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولاتقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعةً، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس، في شرب أو عمل مشترك، يحملون مئونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة.

وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودة. وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك(1)، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك؛ فإن في ذلك رياضةً منك لنفسك ورفقاً برعيتك وإعذاراً، تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق. ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك وللّه فيه رضًا؛ فإن في الصلح دعةً لجنودك، وراحةً من همومك، وأمناً لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه؛ فإن العدو ربما قارب ليتغفّل، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن. وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدةً أو ألبسته منك ذمةً، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنةً دون ما أعطيت؛ فإنه ليس من فرائض اللّه شي ء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق

ص: 80


1- أصحر لهم بعذرك: أي أبرز لهم وبيّن عذرك فيه، وهو من الإصحار: الظهور وأصله البروز في الصحراء.

أهوائهم، وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون في ما بينهم دون المسلمين؛ لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتكولاتخيسن بعهدك ولا تختلن عدوك؛ فإنه لا يجترئ على اللّه إلّا جاهل شقي، وقد جعل اللّه عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحق؛ فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من اللّه فيه طلبة لا تستقبل فيها دنياك ولا آخرتك.

إياك والدماء وسفكها بغير حلها؛ فإنه ليس شي ء أدعى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، واللّه سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد في ما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام؛ فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند اللّه، ولا عندي في قتل العمد لأن فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلةً، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم. وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء؛ فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد في ما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك؛ فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند اللّه والناس، قال اللّه تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا

ص: 81

تَفْعَلُونَ}(1).

وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع كل أمر موضعه، وأوقع كل أمر موقعه. وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عمّا تعنى به، مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم، املك حمية أنفك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك، واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك، فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك، والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو فريضة في كتاب اللّه، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك؛ لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها، وأنا أسأل اللّه بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه، من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إليه راجعون والسلام على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً كثيراً والسلام»(2).

والآن وقد فقد العدل في أغلب صوره في الدول التي أعقبت حكم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)؛ ولذا عاد الإسلام غريباً كما بدأ، وأصبحت مبادئه غريبة في أغلب

ص: 82


1- سورة الصف، الآية: 3.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53، كتابه(عليه السلام) للأشتر النخعي.

بلاد الإسلام، من جرّاء اللّهاث وراء القوانين الوضعية الجائرة وقد استولى الطغاةعلى البلاد وهذا من أكبر معاناة الإسلام والمسلمين.

اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد «ولا تبتليني بالكسل عن عبادتك، ولا العمى عن سبيلك، ولا بالتعرض لخلاف محبتك، ولا مجامعة من تفرّق عنك، ولا مفارقة من اجتمع إليك. اللّهم اجعلني أصول بك عند الضرورة، وأسألك عند الحاجة، وأتضرع إليك عند المسكنة، ولا تفتنّي بالإستعانة بغيرك إذا اضطررت. ولابالخضوع لسؤال غيرك إذا افتقرت»(1) بحق محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

من صفات الحاكم الإسلامي

قال تعالى: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَئًْا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا}(3).

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَٰنِ وَإِيتَايِٕ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ

ص: 83


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة المائدة، الآية: 42.
3- سورة النساء، الآية: 58.
4- سورة النحل، الآية: 90

وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(1).

الثبات على المبدأ

قال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ}(2).

وقال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَفِي الْأخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(5).

لا للخوف، فإنه أحد أسباب تسلط الطغاة

قال تعالى: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(6).

وقال سبحانه: {... فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُواْ بَِٔايَٰتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ}(7).

ص: 84


1- سورة الحديد، الآية: 25.
2- سورة آل عمران، الآية: 147.
3- سورة إبراهيم، الآية: 27.
4- سورة النحل، الآية: 102.
5- سورة الأنفال، الآية: 45.
6- سورة آل عمران، الآية: 175.
7- سورة المائدة، الآية: 44.

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَايَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(1).

وقال سبحانه: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ}(2).

الإخلاص في العمل

قال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا * إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(3).

وقال عزّ من قائل: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَٰذِبٌ كَفَّارٌ}(5).

وقال سبحانه: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي * فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِۦ قُلْ إِنَّ الْخَٰسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(6).

ص: 85


1- سورة المائدة، الآية: 54.
2- سورة طه، الآية: 46.
3- سورة النساء، الآية: 144-146.
4- سورة الأعراف، الآية: 29.
5- سورة الزمر، الآية: 3.
6- سورة الزمر، الآية: 14-15.

من هدي السنّة المطهّرة

من صفات الحاكم الإسلامي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من ولي عشرة فلم يعدل فيهم جاء يوم القيامة ويداهورجلاه ورأسه في ثقب فأس»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أول من يدخل النار أمير متسلط لم يعدل...»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من تولى أمراً من أُمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع ستره ونظر في أمور الناس كان حقاً على اللّه عزّ وجلّ أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة»(3).

الثبات والاستمرارية في العمل

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال أبونا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن وإن قلَّ أرضى للّه وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتباع الأهواء»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته للإمام الحسين(عليه السلام): «يا بني، أوصيك بتقوى اللّه في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وبالعدل على الصديق والعدو، وبالعمل في النشاط والكسل، والرضا عن اللّه في الشدة والرخاء»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أحب الأعمال إلى اللّه عزّ وجلّ ما داوم عليه العبد

ص: 86


1- ثواب الأعمال: 260.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 28.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 245.
4- الكافي 8: 8.
5- تحف العقول: 88.

وإن قل»(1).

التحذير من مؤازرة الحكّام الظالمين

قال الإمام الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه(عليهم السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في حديث المناهي - : «أنه نهى عن المدح وقال: احثوا في وجوه المداحين التراب» قال: وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تولى خصومة ظالم أو أعان عليها، ثم نزل به ملك الموت قال له: أبشر بلعنة اللّه ونار جهنم وبئس المصير»، قال: وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من مدح سلطاناً جائراً وتحفف وتضعضع له طمعاً فيه كان قرينه في النار».

قال: «وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): قال اللّه عزّ وجلّ: {وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(2) وقال(عليه السلام): من ولي جائراً على جور كان قرين هامان في جهنم»(3).

وقال(عليه السلام): «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة وأعوانهم، من لاط لهم دواة، أو ربط لهم كيساً، أو مد لهم مرة قلم فاحشروهم معهم»(5).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «من أحب عاصياً فهو عاص، ومن أحب مطيعاً فهو مطيع، ومن أعان ظالماً فهو ظالم، ومن خذل عادلاً فهو ظالم»(6).

الإخلاص في العمل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أخلص قلبك يكفك القليل من العمل»(7).

ص: 87


1- الكافي 2: 82.
2- سورة هود، الآية: 113.
3- وسائل الشيعة 17: 183.
4- الكافي 2: 333.
5- ثواب الأعمال: 260.
6- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 235.
7- بحار الأنوار 70: 175.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يستدل على اليقين بقصر الأمل وإخلاص العمل والزهد في الدنيا»(1).

وقال(عليه السلام): «فضيلة العمل الإخلاص فيه»(2).

وقال(عليه السلام): «للمتقي ثلاث علامات: إخلاص العمل، وقصر الأمل، واغتنام المهل»(3)

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(4)؟ قال: «ليس يعني أكثر عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية اللّه والنية الصادقة والحسنة» ثم قال: «الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ، والنية أفضل من العمل ألّا وإن النية هي العمل - ثم تلا قوله عزّ وجلّ - {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ}(5) يعني على نيته»(6).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما أخلص عبد للّه عزّ وجلّ أربعين صباحاً إلّا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(7).

ص: 88


1- مستدرك الوسائل 11: 201.
2- عيون الحكم والمواعظ: 358.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 548.
4- سورة الملك، الآية: 2.
5- سورة الإسراء، الآية: 84.
6- الكافي 2: 16.
7- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 69.

من مكارم الأخلاق

حسن الخلق

اشارة

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(2).

وقال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «جاء أعرابي أحد بني عامر فسأل عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يجده، فقالوا: هو يفرج(3)، فطلبه فلم يجده.

قالوا: هو بمنى، قال: فطلبه فلم يجده.

فقالوا: هو بعرفة، فطلبه فلم يجده.

قالوا: هو بالمشعر، قال: فوجده في الموقف.

قال: حلوا(4) لي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقال الناس: يا أعرابي، ما أنكرك (ما أنكرت) إذا وجدت النبي وسط القوم وجدته مفخماً.

قال: بل حلوه لي حتى لا أسأل عنه أحداً.

ص: 89


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- مكارم الأخلاق: 8.
3- كذا في الأصل وفي البحار 16: 184: «بقزح» وهو الظاهر، وقُزَح اسم موضع بالمزدلفة.
4- حلّوا: أي اذكروا أوصافه.

قالوا: فإن نبي اللّه أطول من الربعة(1)، وأقصر من الطويل الفاحش، كأن لونه فضة وذهب، أرجل الناس جمة، وأوسع الناس جبهة، بين عينيه غرة، أقنى الأنف، واسع الجبين، كث اللحية، مفلج الأسنان، على شفته السفلى خال، كأن رقبته إبريق فضة، بعيد ما بين مشاشة(2) المنكبين، كأن بطنه وصدره سواء، سبط البنان، عظيم البراثن(3)، إذا مشى مشى متكفياً(4)، وإذا التفت التفت بأجمعه، كأن يده من لينها متن أرنب، إذا قام مع إنسان لم ينفتل حتى ينفتل صاحبه، وإذا جلس لم يحلل حبوته حتى يقوم جليسه.

فجاء الأعرابي فلما نظر إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عرفه، قام بمحجنه على رأس ناقة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عند ذنب ناقته، فأقبل الناس تقول: ما أجرأك يا أعرابي؟!

قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): دعوه فإنه أديب [إرب](5)، ثم قال: ما حاجتك؟

قال: جاءتنا رسلك أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتحجوا البيت وتغتسلوا من الجنابة، وبعثني قومي إليك رائداً، أبغي أن أستحلفك وأخشى أن تغضب.

قال: لا أغضب، إني أنا الذي سماني اللّه في التوراة والإنجيل: محمد رسول اللّه، المجتبى المصطفى ليس بفاحش ولا سخاب في الأسواق، ولا يتبع السيئة السيئة، ولكن يتبع السيئة الحسنة، فسلني عمّا شئت، وأنا الذي سماني اللّه في القرآن: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(6) فسل عمّا شئت.

قال: إن اللّه الذي رفع السماوات بغير عمد هو أرسلك؟

ص: 90


1- الربعة: الوسيط القامة.
2- المشاشة: رأس عظم اللين.
3- السبْط: الممتد الذي ليس فيه تعقد، والبراثن - جمع برثن كقنفذ - : الكف مع الأصابع.
4- متكفياً: تمايلاً إلى القدام.
5- الإرب الحاجة المهمة، يقال: ما إربك إلى هذا الأمر، أي: ما حاجتك إليه.
6- سورة آل عمران، الآية: 159.

قال: نعم هو أرسلني.

قال: باللّه الذي قامت السماوات بأمره، هو الذي أنزل عليك الكتاب وأرسلك بالصلاة المفروضة والزكاة المعقولة؟

قال: نعم.

قال: وهو أمرك بالاغتسال من الجنابة وبالحدود كلها؟

قال: نعم.

قال: فإنا آمنا باللّه ورسله وكتابه واليوم الآخر والبعث والميزان والموقف والحلال والحرام، صغيره وكبيره.

قال: فاستغفر له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودعا له»(1).

من أخلاق الأنبياء(عليهم السلام)

إنَّ من أهم صفات الأنبياء(عليهم السلام) المميزة هي معاشرة الناس ومعايشتهم بالحسنى وحسن الظن والأخلاق الرفيعة في سبيل هداية الناس. فقد قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم والظن فإنه أكذب الحديث»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن في المؤمن ثلاث خصال ليس منها خصلة إلّا وله منها مخرج: الظن والطيرة والحسد، فمن سلم من الظن سلم من الغيبة، ومن سلم من الغيبة سلم من الزور، ومن سلم من الزور سلم من البهتان»(3).

إنّ حسن الظن والمقابلة بالإحسان والخلق العالي من أهم الأمور التي توجب التفاف الناس حول صاحبها، فتعطيه جاذبية خاصة لكل القلوب والأرواح حتى للقلوب المعادية والأرواح الشريرة.

ص: 91


1- تفسير العياشي 1: 203.
2- مستدرك الوسائل 9: 147.
3- مستدرك الوسائل 9: 147.

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شر الناس الظانون، وشر الظانين المتجسسون، وشر المتجسسين القوالون، وشر القوالين الهتاكون»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «حسن الظن أصله من حسن إيمان المرء وسلامة صدره، وعلامته أن يرى كلما نظر إليه بعين الطهارة والفضل، من حيث ركب فيه وقذف في قلبه من الحياء والأمانة والصيانة والصدق. قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أحسنوا ظنونكم بإخوانكم تغتنموا بها صفاء القلب وإثاء الطبع»(2).

وعن السنبسي عن الإمام الحسن بن علي العسكري(عليهما السلام): «أحسن ظنك ولو بحجر يطرح اللّه سره فيه فتناول نصيبك منه».

فقلت: يابن رسول اللّه ولو بحجر؟!

فقال(عليه السلام): «ألا تنظرون إلى الحجر الأسود»(3).

إنَّ الأنبياء(عليهم السلام) لم يسيئوا الظن بأي أحد، بل كانوا يعاملون الجميع بالإحسان والنية الحسنة، بينما بعض الناس لا يحسنون الظن بالآخرين، بل يحملون الجميع على محمل السوء ويشككون في دوافعهم وأغراضهم وأعمالهم، وإنّما يبرؤون أنفسهم فقط ولايثقون بأحد إلّا بأنفسهم، ولا ينظرون إلى محاسن الناس وإيجابياتهم، وأحياناً لا يبصرون إلّا السلبيات؛ ولهذا السبب نجد أن الناس ينفضون عنهم ولا يحترمونهم، ولا ينضوون تحت لوائهم؛ لأن الإنسان الذي ينظر إلى الجميع بعدسة سوداء واحدة ويغتاب الناس، ويتهمهم دائماً دون أي مبرر يعامله الناس بنفس معاملته لهم، فقد قيل:

ص: 92


1- مستدرك الوسائل 9: 147.
2- مصباح الشريعة: 173.
3- عوالي اللئالي 1: 25.

ومن هاب الرجال تهيبوه *** ومن يهن الرجال فلن يهابا(1)

والروايات تحذرنا من هذه الصفات السلبية في تقويم الآخرين ومعاشرتهم، فقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس»(2).

وورد عنه(عليه السلام): «ضع أَمر أَخيك على أَحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً»(3).

لذا فإن من اللازم على المصلحين والأخيار في المجتمع الاشتغال بتهذيب نفوسهم والستر على عيوب الناس إلّا في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقد قال أبو عبد اللّه الصادق: «... ومن ستر على مؤمن عورة يخافها ستر اللّه عليه سبعين عورة من عورات الدنيا والآخرة».

وقال(عليه السلام): «واللّه في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أَخيه، فانتفعوا بالعظة وارغبوا في الخير»(4).

وهؤلاء هم الذين يكسبون المحبوبية بين المجتمع ويرتقون إلى المكانة اللائقة بهم بين الناس.

التنزه عن سوء الظن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس إلى ما يعمى عنه من نفسه، أو يعير الناس بما لا يستطيع تركه، أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه»(5).

ص: 93


1- ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 69.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 176، ومن خطبة له(عليه السلام) وفيها يعظ ويبيّن فضل القرآن وينهى عن البدعة.
3- الكافي 2: 362.
4- الكافي 2: 200.
5- الكافي 2: 460.

وقريب من هذا المعنى، قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر»(1).

إذن، فليكن فكر الإنسان ونظرته إلى الأمور وأعماله أيضاً وعلى جميع المستويات منزهة من سوء الظن وسيئاته.

وإذا وفق الإنسان لهذا فسيرضى اللّه عنه ويجعله موضع تقدير واحترام الناس كما قال عزّ وجلّ: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ}(2).

فإن اللّه سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة يثير في النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عاطفته الكامنة نحو المؤمنين حتى يعفو عن عملهم في معركة أحد؛ حيث تخلوا عن مواقعهم التي عينهم الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيها حتى سيطر المشركون على المعركة وفعلوا تلك الأفاعيل بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه من جرح وقتل وتمثيل، فيقول اللّه عزّ وجلّ: يا أيها النبي إن لينك ومداراتك الناس هي رحمة من رب العالمين وهبها لك لكي يلتف الناس حولك ويهتدوا بهديك {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ}(3) أي كنت جاف اللسان، قاسي القلب لتناثر الناس من حولك وابتعدوا عنك، وغلظة القلب هو الذي لا يلين ولا يحنو، وإنما جمعت الفظاظة مع الغلظة مع أنهما متقاربتان؛ لأن الفظاظة تكون في الكلام والغلظة في القلب والآية الكريمة نفت الجفاء عن لسان النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقسوة عن قلبه(4).

ص: 94


1- مكارم الأخلاق: 17.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة آل عمران، الآية: 159.
4- انظر تفسير تقريب القرآن 1: 410.

لا تكن متكبراً

اشارة

كما يلزم على الإنسان أن لا يكون متكبراً ومتفاخراً على الآخرين؛ لأن ذلك من أسوأ الأخلاق التي تحطم الإنسان في الدنيا والآخرة، إذ أن التكبر على الناس يصغر الإنسان في أنظار الآخرين ويبتعد بذلك عن رحمة اللّه عزّ وجلّ، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أمقت الناس المتكبر»(1).

قال الإمام الكاظم(عليه السلام): «طوبى للمتواضعين في الدنيا، أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة - وقال(عليه السلام) - إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبر الجبار؛ لأن اللّه تعالى جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبر من آلة الجهل، ألم تعلم أن من شمخ إلى السقف برأسه شجه، ومن خفض رأسه استظل تحته وأكنه، فكذلك من لم يتواضع للّه خفضه اللّه، ومن تواضع للّه رفعه - إلى أن قال(عليه السلام) - واعلم أن اللّه لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم، ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده»(2).

ويعد التكبر من الرذائل الأخلاقية ذي الأضرار النفسية والاجتماعية الخطيرة؛ وقد وردت الآيات والروايات متشددة في ذمه، فقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إياك والكبر؛ فإنه أعظم الذنوب وألأم العيوب، وهو حلية إبليس»(3).

وقال(عليه السلام): «عجبت للمتكبر الذي كان بالأمس نطفة ويكون غداً جيفة»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «فاللّه اللّه عباد اللّه، أن تتردوا رداء الكبر؛ فإن الكبر مصيدة

ص: 95


1- من لا يحضره الفقيه 4: 395.
2- مستدرك الوسائل 11: 299.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 166.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 126.

إبليس العظمى التي يساور بها القلوب مساورة السموم القاتلة»(1).

وقال شخص لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنا فلان بن فلان إلى أن عدّ تسعة، فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أما إنك عاشرهم في النار»(2).

لأنه كان يتفاخر ويتكبر على الناس بحسبه ونسبه.

ومن هذا يبدو أن التفاخر والتكبر على الآخرين من الخصال المهلكة للإنسان التي رفضها الإسلام بشدة، فقال تبارك وتعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٖ فَخُورٖ}(3).

وقال عزّ وجلّ في آية أخرى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}(4).

أي: لا تمش في الناس مشي الاشر والبطر والخيلاء والتكبر... فإنت لن تخرق الأرض، وهذا مثل ضربه اللّه تعالى، قال: إنك أيها الإنسان لن تشق الأرض من تحت قدمك بكبرك، ولن تبلغ الجبال بتطاولك،... فعلام التكبر والتعالي على الناس؟

وإنما قال ذلك لأن من الناس من يمشي في الأرض بطراً يدق قدميه عليها؛ ليري بذلك قدرته وقوته، ويرفع رأسه وعنقه، فبيّن سبحانه أنّه ضعيف مهين لا يقدر أن يخرق الأرض بدق قدميه عليها حتى ينتهي إلى آخرها، وأن طوله لا يبلغ طول الجبال وإن كان طويلاً، يريد اللّه سبحانه أن يعلم عباده التواضع والمروءة والوقار في كل سلوكهم وأعمالهم لا في المشي فقط؛ وإنما ضرب مثلاً في

ص: 96


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 486.
2- الكافي 2: 329.
3- سورة لقمان، الآية: 18.
4- سورة الاسراء، الآية: 37.

المشي لأنه من المصاديق البارزة التي يستدل بها على الإنسان المتكبر والمتواضع(1).

وإذا ظهر الكبر في أي عمل من أعمال الإنسان يكون مهلكاً، ومن هنا جاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في الغرر: «إياك والتجبر على عباد اللّه فإن كل متجبر يقصمه اللّه»(2).

وقال(عليه السلام): «الكبر خليقة مردية من تكثر بها قل»(3).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «ما دخل قلب أحد شيء من الكبر إلّا نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك قل ذلك أو كثر»(4).

التواضع كرامة

من هنا يلزم أن يكون الإنسان ذا أخلاق رفيعة وسلوك لين وقلب عطوف وجوارح متواضعة، وقد ورد في بعض الأدعية الواردة عن الأئمة(عليهم السلام): «اللّهم ارزقني فيه رحمة الأيتام واطعام الطعام وافشاء السلام»(5).

لأنها جميعاً من صفات المتواضعين العطوفين الذين يحبون الخير للجميع.

إن من صفات المتواضعين السبق بالسلام، فقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «للسلام سبعون حسنة، تسعة وستون للمبتدئ وواحدة للرادّ»(6).

وهذه من صفات النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فإنه كان يسبق الآخرين بالسلام، وكان

ص: 97


1- انظر تقريب القرآن 3: 309.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 170.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 109.
4- كشف الغمة 2: 132.
5- اقبال الأعمال 1: 134.
6- بحار الأنوار 75: 120.

يسلم حتى على الأطفال، مما يدل على شدة تواضعه، فقد قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً(1)، وحلبي العنز بيدي، ولبُسُ الصوف، والتسليم على الصبيان؛ لتكون سنة من بعدي»(2).

وروي عن أنس بن مالك قال: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مرّ على صبيان فسلم عليهم وهو مغذّ(3)(4).

وروي: أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يأكل كل الأصناف من الطعام، وكان يأكل ما أحلّ اللّه له مع أهله وخدمه إذا أكلوا، ومع من يدعوه من المسلمين على الأرض، وعلى ما أكلوا عليه وما أكلوا، إلّا أن ينزل بهم ضيف فيأكل مع ضيفه(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أحبكم إلي وأقربكم مني يوم القيامة مجلساً أحسنكم خلقاً وأشدكم تواضعاً، وإن أبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون وهم المستكبرون»(6).

المصافحة عند أهل البيت(عليهم السلام)

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في أخلاقيات الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما صافح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجلاً قط فنزع يده حتى يكون هو الذي ينزع يده منه»(7).

وروي في ثواب المصافحة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن المؤمنين إذا التقيا

ص: 98


1- الحضيض: قرار الأرض وأسفل الجبل، والإكاف والوكاف: البرذعة، وهي كساء تلقى على ظهر الدابة.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 72.
3- مغذّ: أي مسرع في السير.
4- مكارم الأخلاق: 16.
5- وسائل الشيعة 24: 264.
6- قرب الإسناد: 46.
7- الكافي 2: 182.

وتصافحا أدخل اللّه يده بين أيديهما فصافح أشهدهما حباً لصاحبه»(1).

وهذا كناية عن كثرة ثواب اللّه ورحمته.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه وليصافحه؛ فإن اللّه عزّ وجلّ أكرم بذلك الملائكة، فاصنعوا صنع الملائكة»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا التقيتم فتلاقوا بالتسليم والتصافح وإذا تفارقتم فتفرقوا بالاستغفار»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لقي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حذيفة فمد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يده، فكف حذيفة يده! فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا حذيفة، بسطت يدي إليك فكففت يدك عني؟!

فقال حذيفة: يا رسول اللّه، بيدك الرغبة، ولكني كنت جنباً فلم أحب أن تمس يدي يدك وأنا جنب.

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أما تعلم أن المسلمين إذا التقيا فتصافحا تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر»(4).

وقال أبو عبيدة: كنت زميل أبي جعفر(عليه السلام) وكنت أبدأ بالركوب ثم يركب هو، فإذا استوينا سلم وساءل مساءلة رجل لا عهد له بصاحبه وصافح.

قال: وكان إذا نزل نزل قبلي، فإذا استويت أنا وهو على الأرض سلم وساءل مساءلة من لا عهد له بصاحبه.

فقلت: يا ابن رسول اللّه، إنك لتفعل شيئاً ما يفعله أحد من قبلنا، وإن فعل مرة فكثير؟!

ص: 99


1- الكافي 2: 179.
2- الكافي 2: 181.
3- الكافي 2: 181.
4- الكافي 2: 183.

فقال(عليه السلام): «أما علمت ما في المصافحة، إن المؤمنين يلتقيان فيصافح أحدهما صاحبه فلا تزال الذنوب تتحات عنهما كما يتحات الورق عن الشجر، واللّه ينظر إليها حتى يفترقا»(1).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) أيضاً قال: «إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أدخل اللّه عزّ وجلّ يده بين أيديهما، وأقبل بوجهه على أشدهما حباً لصاحبه، فإذا أقبل اللّه عزّ وجلّ بوجهه عليهما تحاتت عنهما الذنوب كما يتحات الورق من الشجر»(2).

وعن أبي عبيدة الحذاء قال: زاملت أبا جعفر(عليه السلام) في شق محمل من المدينة إلى مكة فنزل في بعض الطريق، - إلى أن قال - عاد وقال(عليه السلام): «هات يدك يا أبا عبيدة».

فناولته يدي، فغمزها حتى وجدت الأذى في أصابعي، ثم قال: «يا أبا عبيدة، ما من مسلم لقي أخاه المسلم فصافحه وشبك أصابعه في أصابعه إلّا تناثرت عنهما ذنوبهما كما يتناثر الورق من الشجر في اليوم الشاتي»(3).

وفي رواية أخرى عن أبي حمزة قال: زاملت أبا جعفر(عليه السلام) فحططنا الرحل ثم مشى قليلاً، ثم جاء فأخذ بيدي فغمزها غمزةً شديدةً، فقلت: جعلت فداك، أو ما كنت معك في المحمل؟!

فقال: «أما علمت أن المؤمن إذا جال جولةً، ثم أخذ بيد أخيه نظر اللّه إليهما بوجهه، فلم يزل مقبلاً عليهما بوجهه، ويقول للذنوب: تحات عنهما، فتتحات يا أبا حمزة كما يتحات الورق عن الشجر، فيفترقان وما عليهما من ذنب»(4).

ص: 100


1- الكافي 2: 179.
2- الكافي 2: 179.
3- الكافي 2: 180.
4- الكافي 2: 180.

وسئل أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) عن حد المصافحة؟فقال: «دَوْر نخلة»(1).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «ينبغي للمؤمنين إذا توارى أحدهما عن صاحبه بشجرة ثم التقيا أن يتصافحا»(2).

وكان المسلمون يحافظون على هذه الآداب والأخلاق حتى في حالة الحرب، فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «كان المسلمون إذا غزوا مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومروا بمكان كثير الشجر ثم خرجوا إلى الفضاء نظر بعضهم إلى بعض فتصافحوا»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «تصافحوا فإنها تذهب بالسخيمة»(4).

بل كانوا ينهون عن كل ما يعارض الأخلاق الكريمة، فقد روي عن إسحاق بن عمار قال: دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فنظر إلي بوجه قاطب، فقلت: ما الذي غيرك لي؟

قال: «الذي غيرك لإخوانك، بلغني يا إسحاق أنك أقعدت ببابك بواباً يرد عنك فقراء الشيعة».

فقلت: جعلت فداك، إني خفت الشهرة.

فقال: «أفلا خفت البلية، أو ما علمت أن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أنزل اللّه عزّ وجلّ الرحمة عليهما، فكانت تسعة وتسعون لأشدهما حباً لصاحبه، فإذا تواقفا غمرتهما الرحمة، وإذا قعدا يتحدثان قالت الحفظة بعضها لبعض: اعتزلوا بنا فلعل لهما سراً، وقد ستر اللّه عليهما».

ص: 101


1- وسائل الشيعة 12: 223.
2- الكافي 2: 181.
3- وسائل الشيعة 12: 225.
4- الكافي 2: 183.

فقلت: أليس اللّه عزّ وجلّ يقول: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(1).

فقال: «يا إسحاق، إن كانت الحفظة لا تسمع فإن عالم السر يسمع ويرى»(2).

هذا مضافاً إلى أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يقدم كلتا يديه للمصافحة، بينما نجد أن المتكبرين يتثاقلون حتى من مد يد واحدة للمصافحة.

نعم، إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) كانوا رحمة متجسدة للعالمين في أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين). تطبيقاً لما قاله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(3).

فهذه السيرة العظيمة التي أدت إلى أن يؤمن به وسيؤمن به ويلتزم بدينه ويلتف حوله الملايين بل المليارات من البشر مع مرور حوالي أكثر من (15) قرناً على بعثته المباركة، بل ويجعله موضع إعجاب واحترام وتقدير حتى من غير المسلمين.

أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

سأل رجل الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أن يصف له أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقال له الإمام(عليه السلام): «إن أحصيت لي نعم الدنيا سأعدد لك الأخلاق الحسنة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)!».

فقال الرجل: كيف يمكن احصاء نعم اللّه في الدنيا وقد قال سبحانه وتعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}(4)؟

ص: 102


1- سورة ق، الآية: 18.
2- الكافي 2: 181.
3- مكارم الأخلاق: 8.
4- سورة إبراهيم، الآية: 34.

فقال له الإمام(عليه السلام): «أنت لا تستطيع احصاء نعم اللّه في الدنيا مع أنها قليلة عند اللّه، وقد قال سبحانه وتعالى: {قُلْ مَتَٰعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}(1) فكيف تريد أن أحصي لك أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحسنة وقد قال عزّ وجلّ : {إِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(2)؟!

وقد ورد في تفسير: {إِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كلما آذاه الكفار من قومه قال: «اللّهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون»(3).

نعم، إنَّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان مثالاً للأخلاق الحسنة وقد اجتمعت عنده كل خصال الخير والرحمة الإنسانية.

تواضع سيد الشهداء(عليه السلام)

وكما كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قمة وقدوة في كل الفضائل والكمالات كذلك كان أهل البيت(عليهم السلام) الأفضل في كل الكمالات والفضائل فقد كانوا جميعاً أفضل قدوة وأسوة في التواضع والخلق العظيم.

فقد روي عن مسعدة قال: مر الحسين بن علي(عليهما السلام) بمساكين قد بسطوا كساءاً لهم، فألقوا عليه كسراً، فقالوا: هلم يا ابن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فثنى وركه فأكل معهم ثم تلا: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}(4) ثم قال: «قد أجبتكم فأجيبوني».

قالوا: نعم يا ابن رسول اللّه، فقاموا معه(عليه السلام) حتى أتوا منزله.

فقال للجارية: «أخرجي ما كنت تدخرين»(5).

ص: 103


1- سورة النساء، الآية: 77.
2- سورة القلم، الآية: 4.
3- نهج الحق: 308.
4- سورة النحل، الآية: 23.
5- بحار الأنوار 44: 189.
تواضع سلمان الفارسي

لما جُعل سلمان الفارسي والياً على المدائن، ركب حماره وعزم على السفر إليها لوحده. ولما وصل الخبر لأهل المدائن، هرعوا لاستقباله خارج المدينة، وبعد أن طوى المسافة وهو شيخ كبير وكان يمتطي حماراً له، أصبح وجهاً لوجه مع مستقبليه من أهل المدائن.

فسألوه: أيها الشيخ! أين وجدت أميرنا؟

قال: من هو أميركم؟

قالوا: سلمان الفارسي من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

قال: أنا سلمان ولست بأمير.

فارتجل الناس إكراما وإجلالاً له، وقدموا له من الخيول الأصيلة لركوبه.

فقال: ركوب هذا الحمار افضل عندي ومناسب لشأني.

ولما وصل المدينة أرادوا أن يأخذوه إلى دار الإمارة.

فقال لهم: أنا لست بأمير حتى اذهب لدار الإمارة، فاستأجر دكانا في السوق، يدير أمور الدين والدنيا منه، وكان ما يملكه من الأثاث: وسادة، وإناء ماء، وعصا(1).

التواضع الاجتماعي

اشارة

ينبغي لجميع أفراد المجتمع أن يتصفوا بالتواضع أخذاً من الكاسب والفلاح والمهندس والدكتور والساسة والعلماء وجميع طبقات المجتمع. فإذا ارتسمت هذه الصفة بين أصناف المجتمع سيسمى ذلك المجتمع بالمجتمع الصالح.

وعن معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إن في السماء

ص: 104


1- انظر كتاب: نفس الرحمن في فضائل سلمان: 551.

ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع للّه رفعاه، ومن تكبر وضعاه»(1).

والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: «التواضع يرفع، التكبر يضع»(2).

وقال(عليه السلام): «أعظم الناس رفعة من وضع نفسه»(3).

التواضع في التعليم

من الآداب والأخلاق التي يؤكد عليها الدين الإسلامي الحنيف تواضع التلميذ المتعلم لأستاذه والأستاذ بالنسبة إلى تلميذه، فعن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم»(4).

وسبب ذلك واضح؛ إذ أن التلميذ يقتدي بأستاذه ويتلقى صفاته عادة، فإذا كان الأستاذ متواضعاً وحسن الخلق فإن التلميذ يحذو حذوه في تواضعه وستنعكس فيه خصاله وطبائعه.

روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أيضاً قال: «قال عيسى بن مريم(عليه السلام): يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة، اقضوها لي.

فقالوا: قضيت حاجتك يا روح اللّه. فقام فغسل أقدامهم.

فقالوا: كنا أحق بهذا يا روح اللّه؟

فقال: إن أحق الناس بالخدمة العالم؛ إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم، ثم قال عيسى(عليه السلام): بالتواضع تعمر الحكمة لا

ص: 105


1- الكافي 2: 122.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 17.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 204.
4- الكافي 1: 36.

بالتكبر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل»(1).

نماذج من المتواضعين

تواضع الإمام الرضا(عليه السلام)

روي عن البزنطي - في حديث - فقال: ثم قلت له: يا ابن رسول اللّه، أشتهي أن تدعوني إلى دارك في أوقات تعلم أنه لا مفسدة لنا من الدخول عليكم من أيدي الأعداء.

قال: ثم بعث(عليه السلام) إلي مركوباً في آخر يوم، فخرجت إليه وصليت معه العشاءين، وقعد يملي علي من العلوم ابتداءً، وأسأله فيجيبني، إلى أن مضى كثير من الليل، ثم قال للغلام: «هات الثياب التي أنام فيها لينام أحمد البزنطي فيها».

قال: فخطر ببالي أن ليس في الدنيا من هو أحسن حالاً مني، بعث الإمام(عليه السلام) مركوبه إلي، وقعد إليّ، ثم أمر لي بهذا الإكرام، وكان(عليه السلام) قد اتكأ على يديه لينهض فجلس وقال: «يا أحمد، لاتفخر على أصحابك بذلك، فإن صعصعة بن صوحان مرض فعاده أمير المؤمنين(عليه السلام) وأكرمه ووضع يده على جبهته، وجعل يلاطفه، فلما أراد النهوض قال: يا صعصعة، لا تفخر على إخوانك بما فعلت؛ فإني إنما فعلت جميع ذلك لأنّه كان تكليفاً لي»(2).

أي لا تقل لهم: إنّ الإمام(عليه السلام) هو بنفسه هيأ لي وسائل المنام؛ فإني قمت بهذا العمل لأخدم أخاً في الدين، وفي الوقت نفسه يحذره (صلوات اللّه وسلامه عليه) من التكبر والتفاخر على إخوانه.

ص: 106


1- الكافي 1: 37.
2- الخرائج والجرائح 2: 162.
الطبيب المتواضع

كان في النجف الأشرف طبيبان: أحدهما اسمه الميرزا محمد حسن شفائي، والآخر الحاج ميرزا علي، وكانا متدينين ومتواضعين جداً، وقنوعين أيضاً، لحد أنه لو كان المريض المراجع لهما لا يملك المال كانا لا يطالبانه به، ولو كان مريضهما مبتلى بمرض شديد كانا يصليان ركعتين للّه سبحانه، ويسألان اللّه سبحانه وتعالى أن يشفيه من مرضه، ثم يشرعان في التطبيب.

وإذا لم يشخّصا المرض كانا يخبران المريض بذلك؛ ولهذا كانا محبوبين جداً عند عامة الناس.

تواضع السيد عبد الحسين شرف الدين(رحمه اللّه)

نقل عن أحد أصدقائنا، أنه زار المرحوم المقدس السيد عبد الحسين شرف الدين(رحمه اللّه) صاحب كتاب (المراجعات) في لبنان، وقد لمس منه(رحمه اللّه) خلقاً رفيعاً وتواضعاً عجيباً، وقد كان السيد آنذاك طاعناً في السن ويشكو من آلام جسدية، ومع ذلك كان يقوم بخدمة الضيوف بنفسه، فقال - صديقنا - : إنه بات في إحدى الليالي في بيت المرحوم، وعند الصباح حينما قرب موعد صلاة الفجر أيقظنا السيد لإقامة صلاة الصبح، ولما جلسنا رأينا السجادة مفروشة على الأرض، وإناء الماء مهيأ للوضوء منه.

فقلت في نفسي: لعل خادم السيد هيأ لنا الماء وفرش السجادة، ولكني بعد ذلك عرفت أن السيد هو الذي قام بهذا العمل، وذلك على الرغم من مرضه وكبر سنّه.

وهذه الصفة الحسنة - التواضع - التي تجدها متجسدة أكثر الأحيان في العلماء والعظماء وإنهم قد اكتسبوها عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) حيث كان خلقهم التواضع دائماً.

ص: 107

الناس يطلبون الإسلام

إذا تمكن المسلمون من نشر الإسلام الواقعي في جميع أنحاء العالم ذلك الإسلام الذي أتى به الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونشر تعاليمه للناس وظهرت حقائقه وبينها أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، لأسلم أغلب الناس؛ لأن مفاهيم الإسلام من أعظم المفاهيم الانسانية التي تنسجم مع الفطرة البشرية وتلائم الميول الإنسانية، ولكن وللأسف نشر بعض المسلمين صورة سيئة للإسلام، تظهره دين شدة وعنف، وقتال واعتداء، وتزوير وكذب، وهذا ما سبب عند بعض الناس تقبلاً ضعيفاً للإسلام، بل محاولة المواجهة والمحاربة، ولكن مع كل ذلك فإن حقيقة القرآن والإسلام والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) هو الذي حفظ الإسلام وسبب انتشاره يوماً بعد يوم على رغم محاولات الأعداء.

نقل عن أحد الخطباء المرموقين أنه صعد المنبر الحسيني في أمريكا وقد حضر مجلسه آلاف المستمعين، وكانوا جميعهم مشدودين إلى ما يبيّنه من قضايا عن الإسلام، وقد اعجبوا بما ينقله لهم خلال الخطاب، حتى إنهم طلبوا منه أن يبث خطاباته عبر الإذاعة والتلفزيون في أميركا؛ لتحصل الفائدة لأكبر عدد ممكن من الناس، لما للإذاعة والتلفزيون من ميزة في النشر والتبليغ. نعم طلبوا ذلك لما وجدوا في هذه المحاضرات والمجالس من مفاهيم رفيعة وسامية يميل إليها كل إنسان سوي طيب الفطرة، فضلاً عن المسلم.

نعم، إن العالم متعطش لمعارف الإسلام وأحكامه ومناهجه، ولكن مع الأسف نحن لم نهتم كثيراً لإيصال صورته الناصعة الحقيقية التي نشرها الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتابعه عليها الأئمة من أهل بيته(عليهم السلام) إلى العالم وتنويرهم بمعارفه من أجل أن نعرِّف الإسلام الحقيقي للناس.

على أننا قبل هذا وذاك يجب علينا أن نتحلى بالاخلاص في أهدافنا وأعمالنا

ص: 108

أولاً، كي يطمئن الناس إلينا ولكي يوفقنا اللّه عزّ وجلّ ويسدد خطانا، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «جماع الدين في اخلاص العمل، وتقصير الأمل، وبذل الإحسان، والكف عن القبيح»(1).

فلو لم يكن الإخلاص لم يثمر العمل، لأن الإنسان المخلص هو الذي يستهوي الآخرين ويتمكن من التأثير فيهم وهو الذي ينصره الباري تعالى، فإنه وكما قال(عليه السلام): «عند تحقق الاخلاص تستنير البصائر»(2).

إخلاص الإمام الحسين(عليه السلام)

من الذين ثاروا في وجه الطاغية يزيد نفران، أحدهما عبد اللّه بن الزبير، والآخر الإمام الحسين(عليه السلام)، وكلاهما قتلا على يد جلاوزة بني أمية، ولكنا نجد فرقاً شاسعاً بين قيام عبد اللّه بن الزبير، وبين نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) حيث إن ثورة ابن الزبير كانت من أجل الرئاسة والحكم ولم تتسم بالاخلاص إلى اللّه والإسلام والمسلمين لذا نجد أنّها لم تخلد وقد ضاعت بين طيات التأريخ.

ولكن ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) لاتصافها بالاخلاص بقيت متأججة وستبقى هكذا طوال السنين، تتناقلها القلوب والألسن ويجدد ذكراها الناس في كل عام بلا أن يملوا أو يفتروا عن ذلك أبداً؛ لأنها كانت للّه وفي سبيل اللّه، والشيء الذي يبذل في سبيل اللّه يحييه اللّه تبارك وتعالى وينميه، فإن ما كان للّه ينمو وما كان للدنيا يخبو..

قال الإمام الحسين(عليه السلام): «لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن

ص: 109


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 339.
2- عيون الحكم والمواعظ: 338.

المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب(عليهم السلام) فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق، ومن رد عليَّ هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين»(1).

هذا وفي الآية الشريفة: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا}(2) والمضارع تدل على الثبات والدوام، و{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا} أي سيحيطهم بالمودة والحب، ففي الدنيا يحبهم الناس، وفي الآخرة يحاطون بودّ اللّه سبحانه لهم، وودّ الملائكة إياهم، وودّ الشفعاء والأنبياء والأئمة لهم، وهل يستوحش من يحاط بمثل هذا الودّ؟

وما ورد في أن المراد من {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} هو الإمام المرتضى(3) فهو من باب بيان المصداق البارز، وإلّا فالرسول، والأئمة والصديقة الطاهرة(عليهم السلام) والمؤمنون كلهم داخلون في هذا العموم(4).

إخلاص المسلمين الأوائل

إن من أهم العوامل التي سببت انتشار الإسلام بسرعة في صدر الرسالة هو ما

ص: 110


1- بحار الأنوار 44: 329.
2- سورة مريم، الآية: 96.
3- فقد جاء في تفسير فرات الكوفي: 250 و 253 عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): «يا أبا الحسن، قل: اللّهم اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي عندك وداً، واجعل لي في قلوب المؤمنين مودة» فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا} قال: لا تلقى رجلاً إلّا وفي قلبه حب لعلي بن أبي طالب». وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب: يا علي، قل: اللّهم اجعل لي عندك عهداً وفي صدور المؤمنين وداً، قال: فأنزل اللّه عزّ وجلّ ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا}».
4- تفسير تقريب القرآن 3: 464.

كان يتمتع به المسلمون الأوائل من إخلاص وحب لدينهم وعقيدتهم؛ لأنهم وبما كانوا يتمتعون به من اخلاص، وتوجه إلى اللّه والدين، كانوا يؤثرون في قلوب الناس مباشرة ويدخلون في نفوسهم الإيمان.

حيث ينقل أنهم في الوقت الذي كانوا يتعاملون في الأسواق ويبيعون ويشترون فما أن يؤذن المؤذن للصلاة تراهم يتركون التعامل ويتراكضون نحو المسجد ليحضروا صلاة الجماعة، حباً للّه ولرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وفي إحدى حروب المسلمين حينما انتصروا على أعدائهم عادوا بالأسرى والغنائم إلى ديارهم بواسطة السفن فاستفسر أحد الأسرى من أحد المسلمين قائلاً: ما هو الإسلام وماذا يقول؟

فأجابه المسلم: إنّ الإسلام يقول: إنَّ هناك خالقاً للكون هو اللّه سبحانه وتعالى، الذي {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}(1) وهو يعلم كل شيء ثم تلا عليه هذه الآية: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَٰمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ}(2) وفسرها له، فسكت الأسير.

وفي الليل شاهدوا الأسير راقداً ولم ينم فدنا منه أحد المسلمين وسأله: لمَ لا تنام؟

فقال الأسير: كيف أنام واللّه يقظ ويراني وينظر إلى أعمالي.

واستمر هذا الأسير ثلاثة أيام على تلك الحالة ولم ينم لحظة واحدة حتى مات من شدة خوفه من اللّه عزّ وجلّ بعد أن تلقى درس الإيمان والاخلاص، وقد أصبح بعمله هذا من مصاديق الآية الشريفة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ

ص: 111


1- سورة البقرة، الآية: 255.
2- سورة الحشر، الآية: 23.

وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(1).

وأخيراً نؤكد على ضرورة التحلي بمكارم الأخلاق والتأسي برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين في ذلك، وإذا جعلنا أعمالنا متصفة بالاخلاص وأصبحنا نخاف اللّه عزّ وجلّ، وعرفنا أنه تعالى ينظر إلى جميع ما يصدر عنا من عمل وقول وحتى نية، آنذاك سنتمكن من أن نعرض الإسلام للعالم بصورته الحقيقية اللامعة، ونتمكن من إخراج الملايين من الناس إلى عالم النور والهدى.

«اللّهم صل على محمد وآله، وبلغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيتي إلى أحسن النيات، وبعملي إلى أحسن الأعمال. اللّهم وفر بلطفك نيتي، وصحح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد مني. اللّهم صل على محمد وآله،... وأعزني ولا تبتليني بالكبر، وعبّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب، وأجر للناس على يدي الخير ولا تمحقه بالمن، وهب لي معالي الأخلاق، واعصمني من الفخر. اللّهم صل على محمد وآله، ولا ترفعني في الناس درجة إلّا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلّا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها»(2).

من هدي القرآن الحكيم

حسن الخلق

قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(3).

وقال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(4).

ص: 112


1- سورة الأنفال، الآية: 2.
2- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
3- سورة القلم، الآية: 4.
4- سورة الأعراف، الآية: 199.

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(2).

ثمرة مكارم الأخلاق

قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٖ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(3).

وقال سبحانه: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٖ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٖ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٖ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٖ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٖ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا}(6).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(7).

صفات الأخيار

قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَٰقَ * وَالَّذِينَ

ص: 113


1- سورة الحجرات، الآية: 10.
2- سورة الحجر، الآية: 85.
3- سورة البقرة، الآية: 110.
4- سورة البقرة، الآية: 272.
5- سورة الأنفال، الآية: 60.
6- سورة آل عمران، الآية: 30.
7- سورة فصلت، الآية: 30.

يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِۦ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَصَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّٰتُ عَدْنٖ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَٰجِهِمْ وَذُرِّيَّٰتِهِمْ وَالْمَلَٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٖ * سَلَٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(1).

وقال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ الْأُمُورِ}(2).

وقال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَٰمًا}(3).

وقال جلّ وعلا: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}(4).

مساوئ الأخلاق

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِۦ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

ماذا يعني حسن الخلق؟

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا أنبئكم بخياركم»؟

ص: 114


1- سورة الرعد، الآية: 20-24.
2- سورة الحج، الآية: 41.
3- سورة الفرقان، الآية: 63-64.
4- سورة الإنسان، الآية: 7-8.
5- سورة الرعد، الآية: 25.

قالوا: بلى يا رسول اللّه.

قال: «أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أحبكم إليّ وأقربكم مني يوم القيامة مجلساً أحسنكم خلقاً، وأشدكم تواضعاً، وان أبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون وهم المستكبرون»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أطهر الناس أعراقاً أحسنهم أخلاقاً»(3).

وسئل الإمام الصادق(عليه السلام): ما حد حسن الخلق؟ قال(عليه السلام): «تلين جانبك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى اللّه وحسن الخلق»(5).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «ما يقدم المؤمن على اللّه عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض أحب إلى اللّه تعالى من أن يسع الناس بخلقه»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق»(7).

ثمرة الأخلاق الحسنة

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال له: «يا علي، أوصيك بوصيةٍ فاحفظها فلا تزال بخير ما حفظت وصيتي» إلى أن قال: «ألا أخبركم بأشبهكم بي خلقاً؟

ص: 115


1- بحار الأنوار 68: 396.
2- قرب الإسناد: 46.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 195.
4- من لا يحضره الفقيه 4: 412.
5- الكافي 2: 100.
6- الكافي 2: 100.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 346.

قال: بلى يا رسول اللّه.

قال: أحسنكم خلقاً وأعظمكم حلماً وأبرَّكم بقرابته وأشدكم من نفسه انصافاً»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «الأخلاق منائح من اللّه عزّ وجلّ، فإذا أحبّ عبداً منحه خلقاًحسناً، وإذا أبغض عبداً منحه خلقاً سيئاً»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «روّضوا أنفسكم على الأخلاق الحسنة، فإن العبد المسلم يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم»(3).

وقال(عليه السلام): «لو كنا لا نرجو جنة ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق فإنها مما تدل على سبيل النجاح» فقال رجل: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين، سمعتَه من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ قال: «نعم وما هو خير منه، لما أتانا سبايا طيٍّ فإذا فيها جارية - إلى أن قال(عليه السلام): - فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب؛ فإني ابنة سيد قومي، كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضيف ويشبع الجائع ويكسي المعدوم ويفرّج عن المكروب، أنا ابنة حاتم طي.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق.

فقام أبو بردة فقال: يا رسول اللّه، اللّه يحب مكارم الأخلاق؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا أبا بردة، لا يدخل الجنة أحداً إلّا بحسن الخلق»(4).

وقال(عليه السلام): «اصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، واستشعروا الحمد يؤنس بكم

ص: 116


1- من لا يحضره الفقيه 4: 352-370.
2- الإختصاص: 225.
3- الخصال 2: 621.
4- مستدرك الوسائل 11: 193.

العقلاء، ودعوا الفضول يجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس تعمر ناديكم، وحاموا عن الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا الناس من أنفسكم يوثق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنية فإنها تضع الشريف وتهدم المجد»(1).

وقال(عليه السلام): «حسن الخلق خير قرين، وعنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه»(2).

وقال(عليه السلام): «حسن الأخلاق يدر الأرزاق ويؤنس الرفاق»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «البر وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار»(4).

وقال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسن الخلق يثبت المودة»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من حسن خلقه كثر محبوه وآنست النفوس به»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال لقمان(عليه السلام) لابنه: يا بني إياك والضجر وسوء الخلق... وحسّن مع جميع الناس خلقك، يا بني إن عدمك ما تصل به قرابتك، وتتفضل به على إخوتك فلا يعدمنك حسن الخلق وبسط البشر؛ فإنه من أحسن خلقه أحبّه الأخيار وجانبه الفجار...»(7).

ص: 117


1- تحف العقول: 215.
2- تحف العقول: 200.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 346.
4- الكافي 2: 100.
5- تحف العقول: 45.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 663.
7- قصص الأنبياء(عليهم السلام) للراوندي: 195.
نحو مكارم الأخلاق

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليكم بمكارم الأخلاق؛ فإن اللّه عزّ وجلّ بعثني بها، وإنَّ من مكارم الأخلاق: أن يعفو الرجل عمَّن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وأن يعود من لا يعوده»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «جعل اللّه سبحانه مكارم الأخلاق صلة بينه وبين عباده، فَحَسْبأحدكم أن يتمسك بخلق متصل باللّه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا كميل، مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم؛ فوالذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلباً سروراً إلّا وخلق اللّه من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه، كما تطرد غريبة الإبل»(3).

وقال(عليه السلام): «أحسن الأخلاق ما حملك على المكارم»(4).

مساوئ سوء الخلق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أبى اللّه لصاحب الخلق السيئ بالتوبة».

فقيل: يا رسول اللّه، وكيف ذلك؟

قال: «... فإنه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم من الذنب الذي تاب منه»(6).

ص: 118


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 478.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 122.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 257.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 212.
5- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 37.
6- النوادر للراوندي: 18.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «سوء الخلق نكد العيش وعذاب النفس»(1).

وقال(عليه السلام): «سوء الخلق يوحش النفس ويرفع الأنس»(2).

وقال(عليه السلام): «سوء الخلق يوحش القريب وينفر البعيد»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال لقمان لابنه: يا بني إياك والضجر وسوء الخلق وقلة الصبر؛ فلا يستقيم على هذه الخصال صاحب، والزم نفسك التؤدة في أمورك، وصبّر على مؤونات الإخوان نفسك، وحسّن مع جميع الناس خلقك»(4).

وسئل النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن الشؤم؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سوء الخلق»(5).

وسئل أمير المؤمنين(عليه السلام) عن أدون الناس غماً؟ قال(عليه السلام): «أسوؤهم خلقاً»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الخلق السيئ أحد العذابين»(7).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خصلتان لا تجتمعان في مسلم: البخل وسوء الخلق»(8).

وقيل لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل، وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا خير فيها، هي من أهل النار»(9).

ص: 119


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 404.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 404.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 400.
4- قصص الأنبياء(عليهم السلام) للراوندي: 195.
5- إرشاد القلوب 1: 134.
6- مستدرك الوسائل 12: 76.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 89.
8- الخصال 1: 75.
9- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 90.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من ساء خلقه عذّب نفسه»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من ساء خلقه ملَّه أهله»(2).

وقال(عليه السلام): «من ساء خلقه أعوزه الصديق والرفيق»(3).

وعنه(عليه السلام) أيضاً: «السيئ الخلق كثير الطيش منغص العيش»(4).

وقال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا أخبركم بأبعدكم مني شبهاً»؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه.

قال: «الفاحش المتفحش، البذيء البخيل، المختال الحقود، الحسود القاسي القلب، البعيد من كل خير يرجى، غير المأمون من كل شر يتقى»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... وسوء الخلق زمام من عذاب اللّه في أنف صاحبه، والزمام بيد الشيطان يجره إلى الشر، والشر يجره إلى النار»(6).

ص: 120


1- الكافي 2: 321.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 588.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 667.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 86.
5- الكافي 2: 291.
6- جامع الأخبار: 107.

من أسباب الفقر والحرمان في العالم

مصالح الأحكام والأسباب الغيبية

قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1).

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٖ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ}(2).

وخطب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «أما بعد أيها الناس، اتقوا خمساً من قبل أن يحللن بكم: ما نكث قوم العهد إلّا سلط اللّه عزّ وجلّ عليهم عدوهم، ولا بخس قوم الكيل والميزان إلّا أخذهم اللّه تعالى بالسنين ونقص من الثمرات، وما منع قوم الزكاة إلّا حبس اللّه عنهم قطر السماء، وما ظهرت الفاحشة في قوم إلّا سلط اللّه تبارك وتعالى عليهم الظالمين، ولا فشا في قوم الربا إلّا وُلّي عليهم شرارهم»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الذنوب تغير النعم: البغي يوجب الندم، القتل ينزل النقم، الظلم يهتك العصم، شرب الخمر يحبس الرزق، الزنا يعجل الفناء، قطيعة الرحم

ص: 121


1- سورة الأنفال، الآية: 53.
2- سورة الرعد، الآية: 11.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 37.

تحجب الدعاء، عقوق الوالدين يبتر العمر، ترك الصلاة يورث الذل، ترك الأمربالمعروف والنهى عن المنكر يورث الخرس»(1).

وقال الإمام زين العابدين علي السجاد(عليه السلام): «الذنوب التي تغير النعم: البغي على الناس، والزوال عن العادة في الخير واصطناع المعروف، وكفران النعم، وترك الشكر، قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2).

والذنوب التي تورث الندم: قتل النفس التي حرم اللّه، قال اللّه تعالى في قصة قابيل حين قتل أخاه هابيل فعجز عن دفنه: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّٰدِمِينَ}(3)، وترك صلة القرابة حتى يستغنوا، وترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وترك الوصية وردّ المظالم ومنع الزكاة حتى يحضر الموت وينغلق اللسان.

والذنوب التي تنزل النقم: عصيان العارف بالبغي، والتطاول على الناس، والاستهزاء بهم، والسخرية منهم.

والذنوب التي تدفع القسم: إظهار الافتقار، والنوم عن العتمة وعن صلاة الغداة، واستحقار النعم، وشكوى المعبود عزّ وجلّ.

والذنوب التي تهتك العصم: شرب الخمر واللعب بالقمار، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح، وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب.

والذنوب التي تنزل البلاء: ترك إغاثة الملهوف، وترك معاونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والذنوب التي تديل الأعداء: المجاهرة بالظلم، وإعلان الفجور، وإباحة المحظور، وعصيان الأخيار، والانطياع للأشرار.

ص: 122


1- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 37
2- سورة الرعد، الآية: 11.
3- سورة المائدة، الآية: 31.

والذنوب التي تعجل الفناء: قطيعة الرحم، واليمين الفاجرة، والأقوال الكاذبة،والزنا، وسد طريق المسلمين، وادعاء الإمامة بغير حق.

والذنوب التي تقطع الرجاء: اليأس من روح اللّه، والقنوط من رحمة اللّه، والثقة بغير اللّه، والتكذيب بوعد اللّه عزّ وجلّ.

والذنوب التي تظلم الهواء: السحر، والكهانة، والإيمان بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وعقوق الوالدين.

والذنوب التي تكشف الغطاء: الاستدانة بغير نية الأداء، والإسراف في النفقة على الباطل، والبخل على الأهل والولد وذوي الأرحام، وسوء الخلق، وقلة الصبر، واستعمال الضجر والكسل، والاستهانة بأهل الدين.

والذنوب التي ترد الدعاء: سوء النية، وخبث السريرة، والنفاق مع الإخوان، وترك التصديق بالإجابة، وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها، وترك التقرب إلى اللّه عزّ وجلّ بالبر والصدقة، واستعمال البذاء والفحش في القول.

والذنوب التي تحبس غيث السماء: جور الحكام في القضاء، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، ومنع الزكاة والقرض والماعون، وقساوة القلب على أهل الفقر والفاقة، وظلم اليتيم والأرملة، وانتهار السائل وردّه بالليل»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «وجدنا في كتاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طفف المكيال والميزان أخذهم اللّه بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها، وإذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلط اللّه

ص: 123


1- وسائل الشيعة 16: 281.

عليهم عدوهم، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لميأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي سلط اللّه عليهم شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم»(1).

نعم، هناك مصالح ومنافع لا تكون إلّا بأسبابها ومؤثراتها في هذا الكون الذي جعله اللّه سبحانه وتعالى تابعاً لنظام العلية وقانون الأسباب والمسببات؛ حيث قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرح علماً...»(2).

وإن كان الصانع هو الموجد والمؤثر التام والأول لهذا الصنع، ولكنه بلطيف حكمته جعل الأسباب الناقصة في التأثير مؤثرة بفيضه القدسي، وقائمة به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي - إن صح التعبير -(3)؛ وذلك مثل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}(4)، وقد اتضح بالأبحاث العلمية الحديثة والأدلة القاطعة، ارتباط الحياة والموجودات ارتباطاً وثيقاً بالماء وعناصره فإن الماء يصبح سحاباً، فيسقي الأرض والزرع، وينبت به الثمر، ويستمد الحيوان بقاءه الحيوي منه، وما نحسّه - نحن البشر - من خلال احتياجنا إلى الماء غني عن التعريف.

السنن الكونية وتأثيراتها

اشارة

وعليه فهناك مصالح ومنافع تتدلى من وجود الأشياء، التي وضعها الحكيم

ص: 124


1- الكافي 2: 374.
2- الكافي 1: 183.
3- فكما أن المعنى الحرفي معنى غير مستقل يربط بين الكلمات فهو محتاج في وجوده إلى المعنى الاسمي الذي هو معنى استقلالي، فكذلك الحال عند الموجد فهو الصانع وباقي الأشياء محتاجة إلى وجوده وفيضه دواماً واستمراراً.
4- سورة الأنبياء، الآية: 30.

تعالى في مواضعها. فإذا فقدت مكانها المناسب، ولم تؤت من بابها، فلا تكونمنفعة واقعية للبشر. وقد تكون المنفعة منفعة وقتية غير حقيقية وسريعة الزوال. وهذه هي من أسباب الفقر والحرمان، فإذا قام الإنسان بما يخالف السنن الإلهية الكونية فهذا يعني معيشة ضنكا، وفقراً وحرماناً.

الغرب وإفقار البلاد

من جانب آخر فقد استغل الغرب اليوم طاقات الضعفاء، كما استغل مواردهم لأجل منافعه، فنتج عن ذلك الفقر والحرمان في أغلب بقاع الأرض، وفي مقابله الغنى الفاحش والترف الباذخ في بعض بقاع الأرض. هذا ما نحسّه بالوجدان وتشهد بذلك الأرقام.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلّا بما مُتع به غني، واللّه تعالى سائلهم عن ذلك»(1).

الأسباب المعنوية

وهناك أسباب معنوية في موضوع الفقر الحرمان؛ لأن نظام الكون قائم على سلسلة من الأسباب المادية والمعنوية المؤثرة بعضها في بعض، ومن هنا جاء حديث النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام السجاد(عليه السلام) حيث أرجع سبب الفقر والحرمان في أوساط هذه الطبقة المحرومة إلى الابتعاد عن أحكام اللّه سبحانه والخروج على تعاليمه النيرة، وهو قول الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلّا فشا فيهم الفقر»(2).

وقول الإمام السجاد(عليه السلام): «إظهار الافتقار، والنوم عن العتمة وعن صلاة

ص: 125


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 328.
2- بحار الأنوار 70: 370.

الغداة، واستحقار النعم، وشكوى المعبود عزّ وجلّ»(1).

وقوله(عليه السلام): «الاستدانة بغير نية الأداء، والإسراف في النفقة على الباطل، والبخل على الأهل والولد وذوي الأرحام، وسوء الخلق، وقلة الصبر، واستعمال الضجر والكسل، والاستهانة بأهل الدين»(2).

إذن، فهو قانون نتيجته محسومة، وإذا كان القانون الفيزيائي يقول: (إن لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه)، فإن ذلك قد يصح في شؤون الحركة ونظائرها من الحوادث الطبيعية. أما دائرة شؤون الإنسان وحسناته وسيئاته، وطاعاته ومعاصيه، فلها قانون آخر أقوى وأكبر يحكمها {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}(3)، ومثل المعصية قد تكون كمثل عود ثقاب يشعل في خزان مملوء بالوقود. إنها حركة لا تساوي شيئاً بالحساب الفيزيائي، لكنها قد تأتي على بلد بأكمله، فتجعله قاعاً صفصفاً خالياً من الشجر والحيوان والبشر.

ثم إن للفقر والحرمان أسباب فرعية عديدة، نابعة من الابتعاد عن حكم اللّه تعالى، سنأتي على ذكرها في ما بعد إن شاء اللّه تعالى.

المشاكل الاقتصادية

من عوامل انعدام التوازن في التوزيع الاقتصادي لهذا العالم، وسبب الحرمان كماً وكيفاً على أرض الواقع، هي نشوء النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي (الشيوعية)، حيث إن الشيوعية هي انحراف عن الرأسمالية. ففي النظام

ص: 126


1- معاني الأخبار: 271.
2- معاني الأخبار: 271.
3- سورة إبراهيم، الآية: 24.

الرأسمالي هناك آلاف التجار الذين يتحكمون في قطاع واسع من الناس، ويكونون سبباً لفقرهم.

أما في النظام الشيوعي فإن الحزب الحاكم هو الذي يتسلط على رقاب الناس وثرواتهم. وهكذا يشترك الاثنان في سلب الناس حقوقهم وجعلهم فقراء.

أما الإسلام وتبعاً للقوانين الإلهية، فإنه لم يقر حالة الإفراط والغلو في الاستثمار المالي واحتكار رؤوس الأموال، كما يسلكه الرأسماليون، ولا حالة التفريط في فرض نظام الحزب الواحد، المتسلط على رؤوس الأموال، بفكرته الباطلة التي غلفت بجانب دِعائي وسُمِّيت بتسميات براقة منها (الاشتراكية)، ويبقى العامل تحت رحمة المبادئ، فيصل إلى يده أقل مما يستحقه من ثمرة عمله، بحجة ضمان مستقبله وما شابه.

وإنما التزم الإسلام حداً وسطاً بين هذا وذاك. فجعل يشجع على رؤوس الأموال والاستزادة منها بشكل مشروع، مع فرض الحقوق الشرعية للفقراء وما أشبه، وذلك بفرض الزكاة والخمس بالتفاصيل الفقهية المعروفة، حيث يسد بذلك احتياجات المعوزين والفقراء. وقد حرم الربا في الأموال ونهى عن الاحتكار الذي يؤدي إلى الضرر بالآخرين. كما رسم طريقاً واضحاً لاستغلال الثروات والمساحات الشاسعة من الأراضي عبر قانون: (الأرض للّه ولمن عمرها). مضافاً إلى قانون (بيت المال) وما تصرف من العوائد في الصالح العام، كما يعرف اليوم بالضمان الاجتماعي.

يقول الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من أحيا مواتاً فهو له»(1).

ويقول الإمام الصادق(عليه السلام): «أيما رجل أتى خربةً بائرةً فاستخرجها، وكرى

ص: 127


1- الكافي 5: 279.

أنهارها(1) وعمرها؛ فإن عليه فيها الصدقة. وإن كانت أرض لرجل قبله، فغابعنها وتركها فأخربها، ثم جاء بعد يطلبها؛ فإن الأرض للّه ولمن عمرها»(2).

وعنه(عليه السلام) «قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من غرس شجراً، أو حفر وادياً، بدءاً لم يسبقه إليه أحد، وأحيا أرضاً ميتةً، فهي له قضاءً من اللّه ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(3).

والملاحظ أن الرأسماليين أخذوا من القانون الإسلامي جانب الأصالة في استغلال الأموال وتنميتها، وفرعوا عليها مسائل تتيح لهم السيطرة على العالم، دون ملاحظة الجانب المعنوي للنظرية الإسلامية، ورعاية قانون {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}(4).

والشيوعيون أخذوا الجانب الآخر، وفرعوا عليه المبادئ الشيوعية، وغرضهم لا يتعدى غرض الرأسماليين حيث حكروا الأموال في السلطة دون الناس، وهذا أسوء من حكر الأموال في يد مجموعات متعددة من الأثرياء، فربما عليك أن تشكو في النظام الرأسمالي إلى الحكومة، أما في حكومة الشيوعيين فإلى من تشكو من الحكومة؟!

ولكن الإسلام يقول كما في الذكر الحكيم: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَوٰاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٖ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}(5).

فإن في قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} السر في

ص: 128


1- كرى النهر: استحدث حفرها.
2- الكافي 5: 279.
3- الكافي 5: 280.
4- سورة البقرة، الآية: 279.
5- سورة البقرة، الآية: 278- 279.

العدالة الاقتصادية للإسلام، وفيه دلالة على تقرير عدة أمور:

أولاً: أصل ملكية الفرد؛ فإنه مباح شرعاً.ثانياً: أخذ الربا حرام، وهو ظلم.

ثالثاً: إمضاء أصناف المعاملات، حيث عبر بقوله: {رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ}. والمال إنما يكون رأساً إذا صرف في وجوه المعاملات وأصناف الكسب.

رابعاً: رعاية قانون (لا تَظلِمون) لا كما يفعله المرابون (الرأسماليون)، وقانون (لا تُظلَمون) بأن يتعدى أحد على رؤوس أموالكم لا كما يفعله الاشتراكيون.

هذه صورة واحدة، من صور التدبير والإصلاح للمال في المجتمع الإسلامي، نستفيدها من قانون الإسلام في الملكية الفردية. نعم المالك الحقيقي للمال هو اللّه سبحانه، ولكنه جعله قياماً ومعاشاً للناس، وملّكه إياهم بالملك الاعتباري، من دون أن يوقفه على شخص دون شخص وقفاً لا يتبدل ولا يتغير، بل أذن في الاختصاص الفردية والملكية على طبق العناوين المعروفة؛ كالحيازة، والتجارة، والوراثة وما أشبه. وشرط في التصرف أموراً كالعقل والبلوغ والاختيار ونحو ذلك؛ لذلك يقول تعالى: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَٰلَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}(1).

فالأصل الأصيل في الإسلام أن اللّه عزّ وجلّ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(2). ويتفرع على ذلك مسائل الإنفاق والزكاة وما شابه، مما يقوم به عضد المجتمع الإنساني، ولا يتيح مجالاً لانتشار الفقر والحرمان، أما لو بقيت القوانين الرأسمالية والاشتراكية هي الحاكمة دون حكم اللّه تعالى، فلا مجال إلى

ص: 129


1- سورة النساء، الآية: 5.
2- سورة البقرة، الآية: 29.

رفع الفقر والحرمان من هذا العالم(1).

ص: 130


1- ذكر الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في كتاب (مباحثات مع الشيوعيين): أنه في عهد عبد السلام عارف هيئنا وفداً كبيراً من علماء كربلاء المقدسة، وذهبنا إلى المرجع سماحة السيد محسن الحكيم(رحمه اللّه) في النجف الأشرف، لنرى رأيه في الاشتراكية التي نادى بها (عبد السلام عارف) وطبقها بالحديد والنار. وأفتى السيد الحكيم هناك بوجوب محاربة الاشتراكية، ومقاطعة البضائع التي وضعت الحكومة اليد عليها، وانتشر نبأ ذهاب الوفد، وفتوى السيد الحكيم في كل العراق كالبرق الخاطف،وبعد رجوعنا، وإعلان خطباء كربلاء عن ذلك، انهمرت عليَّ سيل من الأسئلة والاعتراضات، وحتى التهديد، كما تم اعتقل جماعة من أصدقائنا - منهم العلامة المجاهد السيد مرتضى القزويني - وأودعوا السجن، أو نفوا إلى خارج كربلاء. جاءني في تلك الأثناء وفد من المثقفين، عرفوا أنفسهم أنهم من بلاد مختلفة، وأنهم شيوعيون اشتراكيون يريدون مناقشتي في الاشتراكية، فرحبت بهم. فقالوا: لماذا تحارب الاشتراكية؟ قلت: لأن الإسلام حاربها. قالوا: ليس في القرآن محاربة الاشتراكية. قلت: وهل أنتم تقرؤون القرآن؟ قالوا: نعم. قلت: رجاءً ليقرأ واحد منكم سورة من سور القرآن من غير الجزء الأخير ولا سورة الفاتحة. فلم يقدروا على ذلك. قلت: هذا دليل على أنكم لا تقرؤون القرآن ولا تعرفونه، فكيف تقولون: ليس في القرآن محاربة الاشتراكية. فنكسوا رؤوسهم. ثم قالوا: حسناً أنت الذي تعرف القرآن علمنا في أية آية محاربة الاشتراكية؟ قلت: في آيات متعددة، منها قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَٰطِلِ} سورة البقرة، الآية: 188، ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ فِي الرِّزْقِ} سورة النحل، الآية: 71، ومنها قوله تعالى: {كُلُّ امْرِيِٕ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} سورة الطور، الآية: 21، إلى غيرها... قالوا: وهل اللّه راض بأن يملك إنسان الملايين، ويموت أناس جوعاً؟ قلت: لا. قالوا: إذا لم تكن اشتراكية كان معناه ذلك. قلت: بالعكس إذا كانت الاشتراكية كان معناه ذلك. قالوا: وكيف؟ قلت: في الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية يملك القادة الشيوعيون الاشتراكيون كل الحياة، بينما لا يملك الشعب حتى القوت. قالوا: هذه دعاية. قلت: هنا يوجد أناس رأوا بأعينهم ذلك، وثم تصريحات (خروتشوف) وتصريحات (ماو تسي تونغ) تدلان على ذلك. قالوا: إذن فما هو العلاج؟ قلت: العمل بنظام الإسلام. قالوا: وما هو نظام الإسلام؟ قلت: إباحة الملكية الفردية إلى حد عدم الفساد والإفساد، مع ضمان عيش الفقراء عيشاً متوسطاً بلا إسراف ولا تقتير. قالوا: إذن أنت تحبذ النظام الرأسمالي؟ قلت: كلا؛ فالنظام الرأسمالي الغربي، والاشتراكي الشرقي كلاهما باطلان، وإنما النظام الإسلامي هو النظام الصحيح. قالوا: إنا لم نسمع بهذا من قبل؟ قلت: لأن المدارس والإذاعات ومحطات التلفزيون والصحف خلت من أي ذكر لهذا النظام، وأنتم لا تطالعون الكتب الإسلامية، ولا تحضرون محضر العلماء الذين يتكلمون حول أمثال هذه الأمور، ولذا لا تعرفون الإسلام. قالوا: الذي سمعناه من الخطباء أن الإسلام عبارة عن: صلاة وصيام وخمس حج وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومسائل شرعية وأمور أخلاقية، ونحو ذلك. قلت: هناك خطباء يتكلمون حول الاقتصاد الإسلامي لكنهم قليلون، والكثير منهم يراعي مستويات المستمعين، فلا يتكلم إلّا عن أمور هم يطلبونها من جوانب الإسلام. قال أحدهم: ولماذا لا تطلبون من السلطة تطبيق النظام الإسلامي؟ قلت: طلبنا، ولكنها لم تلب. قال: من طلبها من السلطة؟ قلت: أنا شخصياً؛ فقد طلبت من عبد الكريم قاسم عند مقابلتي له، وكان معي جمع آخرون. قال: الآن اطلبوا من عبد السلام عارف. قلت: الواقع أن بناء السلطات على أن لا تسمع الكلام من العلماء، وقد جربنا ذلك من عهد الملكيين إلى هذا العهد. قال أحدهم: وكيف يحدد الإسلام رأس المال لدى الأغنياء؟ قلت: أولاً: يأخذ منه الخمس والزكاة. وثانياً: لا يتركه يحتكر ويرابي ويمتص دماء الناس بالوسائل غير المشروعة. قال: وأية فائدة، وبعد ذلك يبقى المال عنده كثيراً؟ قلت: وما المانع من أن يبقى عنده مال كثير؟ قال: المانع هو أن الفقير يعاني الجوع والحرمان؟ قلت: كلا؛ فإن الدولة كفيلة بعيش الفقير الذي لا يجد عملاً. قال: ومن أين للدولة المال؟ قلت: من الخمس والزكاة ومن أرباح استثمارات الدولة، ومن المعادن ونحوها، التي تحصل عليها الدولة بالطرق المشروعة. قال: إذا كان هناك أغنياء وفقراء تحكمت الطبقية في الناس؟ قلت: وما هو ضرر الطبقية؟ قال: إن طبقة يرون أنفسهم دون طبقة فتولد فيهم عقد نفسية. قلت: والآن في البلاد الشيوعية هذه موجودة، فإن طبقة الحزب طبقة رفيعة، وطبقة الشعب طبقة دون ذلك، ودائماً هذا موجود في المجتمع، فإن طبقة الأذكياء والدارسين فوق طبقة الذين لا ذكاء ولم يدرسوا أو لم يتابعوا دراساتهم إلى المراحل العالية، والعقد النفسية عالجها الإسلام بالإيمان والفضيلة ورجاء ثواب اللّه في الآخرة لمن عمل صالحاً. قالوا: وماذا تقول حول الرئيس عبد السلام عارف؟ قلت: إني أتحدث حول المبادئ لا حول الأشخاص.

ص: 131

أسباب الفقر

اشارة

ثم إن من أهم أسباب الفقر في عالم اليوم ما يلي:

1- سرقة ثروات الشعوب

ربما أهم سبب للفقر والحرمان المتفشي في مجتمعاتنا هو سرقة الحكام للثروات التي وهبها اللّه لبني الإنسان كافة، حيث قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(1).

وهذا ديدن الحكومات الديكتاتورية المتسلطة على رقاب الشعوب بالباطل،

ص: 132


1- سورة الجاثية، الآية: 13.

مضافاً إلى فرض قوانين تجمع بموجبها الضرائب الباهضة التي ما أنزل اللّه بها من سلطان، وإكثار موظفي الدولة من خلال زيادة تعقيد حياة الناس والمجتمع،كذلك السرقة عن طريق أخذ الرشوة لإنجاز أعمال المواطنين، وأساليب أخرى.

فالحكم الدكتاتوري من أهم أسباب الفقر والحرمان في هذا العالم؛ وذلك لأنه يصادر حقوق الآخرين في الانتخاب والتمثيل الحقيقي، ومن أجل إحكام سيطرته يقوم بسرقة ثروات الشعب ويعمل على فرض الضرائب التي تضعف من إرادة المجتمع، وتنصب في تقوية الحكم، بتفريق رؤوس الأموال العامة عبر الإكثار من الأجهزة الأمنية والوظائف غير الضرورية التي تضمن تسلط الطاغية على الحكم. وبهذا الحال يصبح التاجر أمام مطرقتين؛ مطرقة الحاكم ومطرقة الربح، فالأول يمثل حالة القوة والسيطرة، فيلتجئ إلى الطريق الثاني لتعويض ما فاته، وهكذا الموظف إذ يرى أسياده في نهب وسلب، فيتغلغل الشيطان إلى داخل البعض من أصحاب النفوس الضعيفة، ويستمرئ حياة التكفف والاختلاس والارتشاء، وبالتالي يفسد الجهاز الإداري للمجتمع، ويرتفع مؤشر الضغط على الطبقة المسحوقة من الشعب، بل حتى على أنصاف التجار.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب اللّه عنه يوم القيامة وعن حوائجه، وإن أخذ هدية كان غلولاً، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك»(1).

وعن عمار قال: قال الإمام الصادق(عليه السلام): «كل شيء غل من الإمام فهو سحت، والسحت أنواع كثيرة منها: ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة... فأما الرشا يا عمار في الأحكام، فإن ذلك الكفر باللّه العظيم وبرسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(2).

ص: 133


1- ثواب الأعمال: 261.
2- وسائل الشيعة 17: 95.

هذا فضلاً عن إن الرشا والسرقة أكل للمال بالباطل، وسلب لحقوق الآخرينبلا مبرر، ومخالف لحكم اللّه تعالى، فلا شيء في هذا السلوك موافق للنظام الإسلامي؛ ولذا جاءت مفسدته واضحة في إيجاد الفقر.

التنزه عن السرقة

أما لو كان العمل وفق ما أراده الإسلام في الحكم، بعيداً عن سرقة الثروات، والمناصب التي لا تليق بمعتليها، مع احترام آراء المجتمع وتوفير الحريات (في غير المحرمات) التي تفسح المجال للناس أن يعملوا ويتاجروا برؤوس أموالهم بحرية وأمان، ولا تثقل كاهلهم بالضرائب والرشاوى وما أشبه. فإن الحال - حينئذٍ - سيختلف عمّا عليه العالم اليوم من فقر وحرمان... لأن التاجر والمزارع والصانع ومن يدور في حلقة الترابط الاجتماعي والاقتصادي، لا يجدون الداعي إلى فرض أرباح باهضة ينوء بها كاهل الآخر، بغياب الضريبة والرشوة، وإن وجدت فسيجدون الرادع من قبل المؤمنين وولاة العدل، وهذا الرادع ليس المراد منه السجن أو الإعدام أو مصادرة أمواله، وإنما اجتناب تجارته وعدم تعامل الناس معه، حتى يرعوي إلى طريق الصواب مضافاً إلى قانون التعددية الاقتصادية.

كتب أمير المؤمنين(عليه السلام) للأشتر النخعي لما ولاه مصر: «... ثم استوصِ بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه؛ فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجُلّابها من المباعد والمطارح... وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك. واعلم مع ذلك، أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار، فإن

ص: 134

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائعوالمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه في غير إسراف»(1).

وأما الإجحاف في الربح من غير موازين عقلائية فيضر بعامة الناس، وهو الداعي عند الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لفرض العقوبة تغليباً لمصلحة حفظ النظام العام، ورعاية لحال المجتمع لئلا تتولد الطبقات المسحوقة أو الفقيرة.

ومن أجل ذلك عمل الأئمة الأطهار(عليهم السلام) في الكسب أو التجارة أيضاً، ليعلموا الناس كيفية العمل والكسب وطرقه الصحيحة.

2- الربا

الثاني من عوامل الفقر والحرمان: تفشي الربا في المجتمع، فإن الربا يوجب سحق الطبقة الفقيرة وجعلها أفقر يوماً بعد يوم، وهكذا بالنسبة إلى الدول الفقيرة حيث يصل الأمر إلى حد لو أنفقت جميع وارداتها على أرباح القروض لم يمكنها ذلك من تسديد الأرباح، فكيف بأصل المبلغ. نعم الإسلام حرم الربا وأحل البيع والمضاربة، فإن المضاربة شكل من أشكال التجارة. وقد روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال في المتضاربين - وهما الرجلان يدفع أحدهما مالاً من ماله إلى الآخر يتجر به، على أنه ما كان فيه من فضل كان بينهما على ما تراضيا عليه - قال: «الربح بينهما على ما اتفقا عليه، والوضيعة على المال»(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «وكذلك لو كان لأحدهما من المال أكثر من مال صاحبه، فالربح على ما اشترطاه، والوضيعة على كل واحد منهما بقدر رأس

ص: 135


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53، من كتاب له(عليه السلام) كتبه لمالك الأشتر لما ولاه على مصر وأعمالها.
2- دعائم الإسلام 2: 86.

ماله»(1).

وروي أن الإمام الصادق(عليه السلام) عمل بالمضاربة، وبالتجارة، والبيع والشراء.

فقد جاء عن أبي جعفر الفزاري قال: دعا أبو عبد اللّه - الإمام الصادق - (عليه السلام) مولى له يقال له: مصادف، فأعطاه ألف دينار، وقال له: «تجهز حتى تخرج إلى مصر، فإن عيالي قد كثروا».

قال: فتجهز بمتاع وخرج مع التجار إلى مصر، فلما دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر، فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامة(2) فأخبروهم أنه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار ديناراً. فلما قبضوا أموالهم وانصرفوا إلى المدينة، فدخل مصادف على أبي عبد اللّه(عليه السلام)، ومعه كيسان في كل واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداك، هذا رأس المال وهذا الآخر ربح. فقال(عليه السلام): «إن هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم بالمتاع؟!».

فحدثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا. فقال(عليه السلام): «سبحان اللّه، تحلفون على قوم مسلمين ألّا تبيعوهم إلّا ربح الدينار ديناراً!». ثم أخذ أحد الكيسين، فقال: «هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في هذا الربح - ثم قال - يا مصادف، مجادلة السيوف أهون من طلب الحلال»(3).

ومعنى ذلك: أن الإجحاف شرعاً حرام، وأن عملاً كهذا هو إجحاف بحق الناس. وإذا كان القياس هو هذا، فلننظر إلى ما يفعله أصحاب رؤوس الأموال في العالم، وكيف يحملون على البضائع الأرباح الفاحشة؟ وكيف يقتلون الناس

ص: 136


1- دعائم الإسلام 2: 86.
2- متاع العامة: أي الذي يحتاج إليه عامة الناس.
3- الكافي 5: 161.

بأموالهم، ويجعلون من الناس فقراء قهراً؟

3- منع الناس من العملالثالث من أسباب الفقر والحرمان: المنع من العمل، فإن الحكومات تضع شروطاً لممارسة التجارة وحيازة المباحات، ولا تدع للناس مجالاً حراً للاستفادة منها؛ فلو دخلنا أي بلد لوجدنا أن هناك حالتين هما الفقر والغنى.

فإذا أردت - مثلاً - أن تعمر قسماً من أرض اللّه وتعمل عليها، لوجدت أن الدولة تمنع من ذلك حيث وضعت قوانين وعراقيل عديدة لها أول وليس لها آخر. ولو أردت الذهاب من هذا البلد إلى البلد الثاني للتجارة ستجد أن الدولة تمنع من ذلك. ولو أردت الصيد في مياه فجرها اللّه لعباده، ستجد أن الدولة تمنع من ذلك. فإن هذه الظواهر هي التي تحول بين الناس وممارسة حرياتهم الاقتصادية مما يورث الفقر قهراً، علماً بأن إحياء الموات وإعمار الأرض هي من الموارد التي أباحها الإسلام، بشرط عدم الإحجاف بحق الآخرين، وقد وردت في ذلك روايات عديدة اتفقت عليها العامة والخاصة.

فعن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: سُئل(عليه السلام) وأنا حاضر عن رجل أحيا أرضاً مواتاً، فكرى فيها نهراً، وبنى بيوتاً، وغرس نخلاً وشجراً؟ فقال: «هي له وله أجر بيوتها...»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من غرس شجراً، أو حفر وادياً بدءاً لم يسبقه إليه أحد، وأحيا أرضاً ميتة فهي له قضاءً من اللّه ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(2).

ص: 137


1- من لا يحضره الفقيه 3: 241.
2- الكافي 5: 280.

وعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن الشراء من أرض اليهود والنصارى؟

فقال: «ليس به بأس، قد ظهر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أهل خيبر، فخارجهم على أنيترك الأرض بأيديهم يعملونها ويعمرونها، فلا أرى بها بأساً لو أنك اشتريت منها شيئاً، وأيما قوم أحيوا شيئاً من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم»(1).

فلاحظ هذه الروايات وغيرها التي تعطي الأرض لمن أحياها لا للدولة أو الحاكم المستبد، وكذلك كانت سيرة المسلمين في الزراعة، وبناء الدور، وحفر الآبار وشق الأنهار، وغيرها. إلّا أن القوانين الوضعية المراعى بها حال مصلحة واضعيها، هي التي سلبت الناس حقوقهم وحرياتهم، وأدت إلى نشوء حالة الحرمان والفقر بهذه الصورة المفجعة في الكم والكيف، وفي جميع بقاع العالم.

وإذا أردنا إزالة صور الفقر والحرمان من العالم فعلينا بتطبيق القوانين الإسلامية والتي منها توفير الحريات الاقتصادية التي أقرها الإسلام للشعوب في الاستفادة التامة المشروعة من المباحات والثروات ورؤوس الأموال.

4- شراء الأسلحة

السبب الرابع من أسباب تفشي الفقر والحرمان: هو هدر الأموال الطائلة للشعوب بشراء الأسلحة وصنعها.

لقد كان السيف والدرع والرمح هو السلاح التقليدي السائد في العصور السابقة، ولا يحتاج تصنيعها إلى مبالغ باهضة كما هو حال السلاح اليوم؛ فإن صاروخاً واحداً ربما يكلف الملايين؛ ولذا تذوب مجموعة ضخمة من أموال الشعب في المشاريع العسكرية، والتي تأتي أحياناً من مجرد احتمالات وهمية

ص: 138


1- تهذيب الأحكام 4: 146.

يفرضها المتاجرون بالرعب والدمار، حتى تتسابق الدول إلى اقتنائها. فتظهر نتيجة ذلك في صور من المآسي والحرمان والفقر تولدها هذه الأسلحة سواء باستخدامها أم باستنفاذها لثروات الأمة.

لذلك على عقلاء العالم أن يجتمعوا من أجل نزع السلاح الحديث بمختلف أشكاله حتى البندقية، والرجوع إلى ما كان عليه الحال سابقاً، حيث إن ذلك أقرب للعدالة ولحفظ الاقتصاد، وأيضاً لدفع ضرر تلك الأسلحة عن البشرية من القتل والدمار الواسع، ولذا جاء في رواية أن الإمام المهدي(عليه السلام) حينما يظهر، يظهر وسلاحه السيف، وربما يكون ذلك لأجل السبب الذي ذكرناه(1). وهذه الرواية ليست من باب الكناية، بل هي عين الحقيقة وعين العدالة؛ إذ أن إطلاق صاروخ واحد يقع على رؤوس الأبرياء هو من أبشع الظلم، والذي وقع العالم فيه اليوم.

ولو أن السلاح الحديث الذي يهدد البشرية يزول عن العالم لزال معه واحد من أهم أسباب الفقر، لأن مصاريف الأسلحة هي مما يسلبه الحكام من الشعوب بأشكال عدة، في حين أن من الواجب على أولئك الحكام أن يوظفوا هذه المبالغ لرفع المستوى المعيشي لشعوبهم ولبناء المدارس والمراكز الصحية والثقافية ولتطوير مختلف مرافق الحياة الاقتصادية وغيرها مما يلزم في حياة الإنسان الكريمة.

ولا عجب

ولا عجب إذن أن ينتشر الفقر والمرض والحرمان في هذا العالم، بعدما أخذت الحكومات في التسابق التسليحي والعسكري، مشفوعاً بالتقنين

ص: 139


1- انظر الكافي 8: 225؛ وبحار الأنوار 52: 311.

اللاشرعي والديكتاتوري، حتى أن بعض الإحصاءات أشارت إلى أن نصف سكان العالم هم من الفقراء، فضلاً عن انتشار الفساد الاجتماعي والإداري والتفسخ الملازم لبعض حالات الفقر. وقد ذكرت عدة تقارير أن مئات الملايين من الناس يعانون من الجوع والمرض والحرمان وسوء التغذية في العالم، وربمامات الملايين منهم بهذه الأسباب.

وكل هذه المؤشرات من مصاديق الحديث الشريف الوارد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال: «خمس بخمس». قيل: ما خمس بخمس؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما نقض العهد قومٌ إلّا سلط اللّه عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلّا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلّا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر»(1).

فإذا أردنا الرجوع إلى عالم يحكمه العدل والخير والرفاه، ونخرج من عالم الفقر والحرمان إلى عالم الغنى والسعادة، فلا بد من دراسة هذه الظواهر التي مرت - من السرقة، ومنع الناس من العمل، وشراء الأسلحة، وغيرها - وإجراء الحلول الإسلامية المناسبة لها حتى يعيش العالم في سعادة ورفاه، وما ذلك على اللّه بعزيز.

«اللّهم صل على محمد وآله، ومتعني بالاقتصاد، واجعلني من أهل السداد، ومن أدلة الرشاد، ومن صالح العباد، وارزقني فوز المعاد، وسلامة المرصاد. اللّهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها، وأبق لنفسي من نفسي ما يصلحها، فإن نفسي هالكة أو تعصمها»(2) بحق محمد وآله الطاهرين.

ص: 140


1- ذكرى الشيعة 4: 247 وانظر بحار الأنوار 70: 370.
2- الصحيفة السجادية: وكان ومن دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

من هدي القرآن الحكيم

اشارة

حتى لا تبتلى الأمة بالفقر عليها:

1- أن لا تحيد عن العبودية للّه تعالى

قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْتَتَّقُونَ}(1).

وقال سبحانه: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَئًْا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ هَٰذِهِۦ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(4).

2- وتزكي أموالها

قال اللّه تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ}(5).

وقال سبحانه: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوٰةَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ}(7).

وقال جلّ وعلا: {وَأَوْصَٰنِي بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}(8).

ص: 141


1- سورة البقرة، الآية: 21.
2- سورة النساء، الآية: 36.
3- سورة الأنبياء، الآية: 92.
4- سورة البينة، الآية: 5.
5- سورة البقرة، الآية، الآية: 43.
6- سورة المائدة، الآية: 12.
7- سورة الأعراف، الآية: 156.
8- سورة مريم، الآية: 31.
3- وتنفق في مرضاة اللّه

قال اللّه تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1).

وقال سبحانه: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَسَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٖ مِّاْئَةُ حَبَّةٖ وَاللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٖ فَلِأَنفُسِكُمْ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٖ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ}(4).

4- ترسيخ معالم الحرية الإسلامية

قال اللّه تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(5).

وقال سبحانه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

اشارة

حتى لا تبتلي الأمة بالفقر عليها:

1- أن لا تحيد عن العبودية للّه تعالى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قال اللّه عزّ وجلّ: إن من أغبط أوليائي عندي رجلاً خفيف الحال، ذا حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه بالغيب، وكان غامضاً

ص: 142


1- سورة البقرة، الآية: 195.
2- سورة البقرة، الآية: 261.
3- سورة البقرة، الآية: 272.
4- سورة سبأ، الآية: 39.
5- سورة البقرة، الآية: 256.
6- سورة الكهف، الآية: 29.
7- سورة الأعراف، الآية: 157.

في الناس، جعل رزقه كفافاً فصبر عليه، عجلت منيته فقل تراثه، وقلت بواكيه»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «دوام العبادة برهان الظفر بالسعادة»(2).

قال سبط رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام): «إن من طلب العبادة تزكىلها»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أعبد الناس من أقام الفرائض»(4).

2- وتزكي أموالها

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «حصنوا أموالكم بالزكاة»(6).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «والزكاة تزيد في الرزق»(7).

وقال الإمام موسى الكاظم(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ وضع الزكاة قوتاً للفقراء وتوفيراً لأموالكم»(8).

3- وتنق في مرضاة اللّه

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما نقص مال من صدقة قط فأعطوا ولا تجبنوا»(9).

ص: 143


1- الكافي 2: 140.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 819.
3- تحف العقول: 236.
4- من لا يحضره الفقيه 4: 394.
5- الكافي 2: 374.
6- ثواب الأعمال: 46.
7- الأمالي للشيخ الطوسي: 296.
8- الكافي 3: 498.
9- النوادر للراوندي: 3.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنكم إلى إنفاق ما اكتسبتم أحوج منكم إلى اكتساب ما تجمعون»(1).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إن من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدرالإقتار»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن الصدقة تقضي الدين، وتخلف بالبركة»(3).

4- ترسيخ معالم الحرية الإسلامية

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً»(4).

وقال(عليه السلام): «لا يسترقنك الطمع وقد جعلك اللّه حراً»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثير مستمتع:

أولها: الوفاء.

والثانية: التدبير.

والثالثة: الحياء.

والرابعة: حسن الخلق.

والخامسة: - وهي تجمع هذه الخصال - الحرية»(6).

ص: 144


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 268.
2- تحف العقول: 282.
3- الكافي 4: 9.
4- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 753.
6- الخصال 1: 284.

مواصفات القيادة الإسلامية

الأسوة الحسنة

قال اللّه تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(1).

الأسوة: هي القدوة الصالحة للاقتداء والاتباع، يقال: لي في فلان أسوة، أي: لي به اقتداء. والأسو ة من الإتساء، كما أن القدوة من الاقتداء اسم وضع موضع المصدر(2).

فإن من شأن القيادة الصحيحة أن تهدي الناس إلى ما يوجب سعادتهم في الدنيا والآخرة، وتسوق الناس نحو التكامل الإنساني والأهداف الإنسانية المنشودة والتي تتلاءم مع الفطرة النقية، وهي مرحلة الكمال الروحي.

ومن هذا المنطلق أكد اللّه عزّ وجلّ على وجوب إتباع الرسل واتخاذهم قادة؛ فإنهم المهديون والهادون إلى سبيل الرشاد، والعاملون على بناء المجتمع الفاضل، فهم أفضل من يُقتدى به.

فالقيادة الصحيحة الشرعية التي توجب السعادة تتمثل برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) من بعده، أما إذا انقلب الناس على أعقابهم وتركوا التأسي

ص: 145


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- تفسير مجمع البيان 8: 144.

بالقيادة الصحيحة التي عينها اللّه، فتركوا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتركوا أمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) فمصيرهم الضنك في الحياة والعذاب في الآخرة.

وهكذا أصبحت الأمة الإسلامية حيث تركت القيادة الشرعية التي عينها اللّه سبحانه.

قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ}(1).

الحاجة إلى القيادة

اشارة

ثم إن الحاجة إلى القيادة يكاد يكون أمراً مفروغاً منه، حيث ذلك واضح من خلال تأريخ الإنسانية وكيفية نشوء الأمم والحضارات، وهي حاجة ضرورية للمجتمع الإنساني، فالمجتمع لا بد له من قيادة تمتلك من الصفات الكمالية ما يؤهلها لإدارة العباد والبلاد وتطوير المجتمع الإنساني.

ولم يترك اللّه عزّ وجلّ أول أسرة كانت على وجه الأرض وهي عائلة آدم(عليه السلام) إلّا ونصب لهم قائداً، يتبعون خطواته وأقواله وهو النبي آدم(عليه السلام)، فكان خليفة من قبل اللّه تعالى في الأرض، وهكذا أخذ يشغل هذا المنصب الأنبياء(عليهم السلام) وأوصياؤهم المكرمون(عليهم السلام) تباعاً، إلى أن وصل الدور إلى نبينا الخاتم محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصيائه الأئمة الطاهرين المعصومين(عليهم السلام).

فكانت سلسلة الأنبياء والرسل تمثل قيادة الهدى، قال اللّه تعالى: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(2).

ص: 146


1- سورة طه، الآية: 124.
2- سورة البقرة، الآية: 38.

وقال سبحانه: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ}(1).

وقال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦ أَوْلِيَاءَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {قَالَ يَٰقَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ}(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... ومن مات لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. واللّه، ما ترك اللّه الأرض منذ قبض آدم إلّا وفيها إمام يُهتدى به حجة على العباد، من تركه هلك ومن لزمه نجا»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قال اللّه تعالى في بعض كتبه(5):

لأعذبن كل رعية أطاعت إماماً جائراً وإن كانت برة تقية، ولأعفون عن كل رعية أطاعت إماماً هادياً وإن كانت ظالمة مسيئة، ومن أَمَّ قوماً وفيهم أعلم منه لم يزل أمرهم في سفال إلى يوم القيامة، ومن صلى ولم يذكر الصلاة عليَّ وعلى آلي سلك به غير طريق الجنة، وكذلك من ذكرت عنده ولم يصل عليَّ، ومن ادعى الإمامة وليس بإمام فقد افترى على اللّه وعلى رسوله»(6).

وعن أبي اليسع قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): حدثني عن دعائم الإسلام التي بني عليها، ولا يسع أحداً من الناس تقصير عن شي ء منها، الذي من قصر عن معرفة شي ء منها كبت عليه دينه ولم يقبل منه عمله، ومن عرفها وعمل بها صلح دينه وقبل منه عمله، ولم يضق به ما فيه بجهل شيء من الأمور جهله؟

ص: 147


1- سورة آل عمران، الآية: 68.
2- سورة الأعراف، الآية: 3.
3- سورة يس، الآية: 20.
4- أعلام الدين: 400.
5- أي الكتب السماوية التي أنزلها اللّه على الأنبياء(عليهم السلام).
6- أعلام الدين: 400.

قال: فقال: «شهادة أن لا إله إلّا اللّه، والإيمان برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والإقرار بما جاء به من عند اللّه - ثم قال: - الزكاة والولاية شي ء دون شي ء، فضل يعرف لمن أخذ به، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية، وقال اللّه عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(1) وكان علي(عليه السلام)، وقال الآخرون: لا، بل معاوية، وكان حسن(عليه السلام) ثم كان حسين(عليه السلام)، وقال الآخرون: هو يزيد بن معاوية لا سواه». ثم قال: «أزيدك؟».

قال بعض القوم: زده جعلت فداك، قال: «ثم كان علي بن الحسين(عليهما السلام) ثم كان أبو جعفر(عليه السلام)، وكانت الشيعة قبله لا يعرفون ما يحتاجون إليه من حلال ولا حرام إلّا ما تعلموا من الناس، حتى كان أبو جعفر(عليه السلام) فتح لهم وبيّن لهم وعلمهم، فصاروا يعلمون الناس بعد ما كانوا يتعلمون منهم، والأمر هكذا يكون، والأرض لا تصلح إلّا بإمام، ومن مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية، وأحوج ما تكون إلى هذا إذا بلغت نفسك هذا المكان - وأهوى بيده إلى حلقه - وانقطعت من الدنيا تقول: لقد كنت على رأي حسن...»(2).

وعن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه(عليهما السلام) قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لأبي ذر وسلمان والمقداد: أشهدوني على أنفسكم بشهادة أن لا إله إلّا اللّه - إلى أن قال - وأن علي بن أبي طالب وصي محمد وأمير المؤمنين، وأن طاعته طاعة اللّه ورسوله والأئمة من ولده، وأن مودة أهل بيته مفروضة واجبة على كل مؤمن ومؤمنة...»(3).

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة والروايات الشريفة التي تؤكد على ضرورة

ص: 148


1- سورة النساء، الآية: 59.
2- رجال الكشي: 424.
3- وسائل الشيعة 9: 553.

قيادة الأنبياء وأوصيائهم(عليهم السلام). وأن الناس لو تركوا لأهوائهم لاتبعوا خطوات الشيطان، لا سيما وأن القيادة هي التي تبين للناس سبيل الحق وطريق الباطل، وعلى ضوء ذلك تسير الأمم.

وفي عصرنا الحاضر حيث انقطع وحي السماء؛ لأن النبوة ختمت بالرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعده كانت قيادة الأئمة المعصومين من أهل البيت(عليهم السلام) للأمة الإسلامية، بالرغم من أن الخلافة الظاهرية قد اغتصبت من قبل الأمويين والعباسيين، ولكن الأئمة(عليهم السلام) كانوا حجج اللّه على الخلق، وكانوا يعملون على حفظ الأمة من الانحراف، وبيان الطريق الأمثل لهم، وبث المبادئ الإسلامية الحقة التي سعت بعض الاتجاهات لمحوها، فكانت قيادة الأئمة(عليهم السلام) بالمرصاد لكل انحراف وبدعة وشبهة وضلالة.

وفي عصرنا الحاضر (عصر الغيبة) حيث تعددت الحكومات وتنوعت، كان لا بد من السعي لإيجاد قيادة حكيمة ومخلصة وعادلة تتمثل بالفقهاء المراجع وهم نواب الإمام(عليه السلام) لكي تقود ركب الإنسانية نحو الأهداف السامية، وأن تتأسى بقيادة أهل البيت(عليهم السلام)، الذين مهما اختلفت أدوارهم وأزمانهم، إلّا أنهم ساروا على نهج واحد، وهو خط الرسالات الإلهية... خط الأنبياء وإسعاد الناس، فالقيادة التي تهدي بهذا الهدى تكون حقاً قيادة إسلامية نقية واعية، قادرة على الوصول إلى الأهداف السامية.

ثم إن للقيادة الإسلامية مواصفات ومقومات وشروط، بالإضافة إلى لزوم تحليها بالعلم والتقوى، نشير إلى بعضها:

الكفاءة

من أهم ما يلزم اتصاف القيادة به هي: الكفاءة. حيث يلزم أن يكون القائد في أي مجال من المجالات التي يقودها كفءً.

ص: 149

فإن الكفاءة سرّ كبير من أسرار النجاح في مختلف الميادين، السياسي وغيره؛ وعدمها من أسرار الفشل، ومن أجل ذلك نرى أن أعداء الإسلام من مستعمرين وغيرهم،حاولوا وما يزالوا يعملون على إبعاد الأشخاص الكفوئين عن التصدي للحكم في الدول الإسلامية، ويركزون على تجريد القيادات في منطقة الشرق الأوسط - بشكل خاص - عن كل مظهر من شأنه أن يحكي ويدلل على موضوع الكفاءة.

فتارة يحاول المستعمرون أن يجعلوا الحكم قبلياً، وأخرى ملكياً، وثالثة وراثياً، ليس على أساس الكفاءة، ومرة يأتون بالحكام عبر الانقلابات العسكرية بعد أن يختاروا الشخصيات التي تقوم بالدور المطلوب لهم، إلى غير ذلك من الصور المتعددة التي تلغي موضوع القائد الكفء الذي يستحق - فعلاً - أن يتصدى للحكم والحكومة، بل إنهم يجعلون القادة العملاء لتنفيذ مطامعهم وخدمة مصالحهم وتمرير مؤامراتهم في بلادنا الإسلامية.

لذا نحن اليوم نعاني من أزمة الكفاءات، ومن مشكلة عدم صلاحية الحكام، وذلك ليس في أصل وجود الكفاءات، بل في تمكنها من التواجد في مواقعها الحقيقية التي من المفروض أن تحتلها، وهذا يؤدي إلى ظهور الدكتاتوريات في أكثر البلدان الإسلامية.

إذن، الكفاءة واحدة من تلك الصفات المهمة التي يجب أن يتحلى بها القائد المسلم، حيث لا بد أن يكون في مستوى المنصب الذي يشغله، وفي مستوى القرار السياسي، لكي لا تتخبط سياسته، فيتمكن أن يقود الشعب والمجتمع نحو التقدم والرقي والتطور من خلال تهيئة أجواء الحرية والكرامة الإنسانية والتقدم العصري.

ص: 150

الإتقان في العمل

ولا يخفى، أن من أهم ثمار الكفاءة هي مسألة الإتقان، فإنه عندما يقال: إن فلاناً كفء، فهذا يعني أنه قادر على الرعاية والتخطيط والتنفيذ لما يقوم به بكل دقة.

والإتقان من الأمور التي تثمر النجاح في المستقبل، وتدل على الإخلاص في العمل، ولهذا نجد أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما وارى ابنه إبراهيم(عليه السلام) في القبر رأى خللاً فسواه بيده، ثم قال: «إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن»(1).

وفي حديث عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نزل حتى لحد سعد بن معاذ وسوى اللبن عليه وجعل يقول: ناولني حجراً، ناولني تراباً رطباً، يسد به ما بين اللبن، فلما أن فرغ وحثا التراب عليه وسوى قبره قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إني لأعلم أنه سيبلى ويصل إليه البلاء، ولكن اللّه يحب عبداً إذا عمل عملاً أحكمه»(2).

فإن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يريد أن يعطي بذلك درساً للإنسانية عامة وللمسلمين خاصة، بأن الإتقان ضروري في كل عمل، حتى في صف لبن القبر وشد بعضها إلى بعض... وهو يريد أن يعلمنا الإتقان في كل صغيرة وكبيرة، فكيف الحال بالنسبة لمنصب القيادة وإدارة البلاد والعباد.

لذا يلزم أن تكون عملية اختيار القائد بإتقان وتمحيص ودقة، وكذلك عمل القائد نفسه يجب أن يكون متقناً ودقيقاً في الأمور،وعليه أن يعتني بكل ما تحت تصرفه فإنه مسئول أمام اللّه وأمام الشعب، وبهذا يكون أسوة تتأسى به الأجيال.

أما الإنسان الذي لا يرى في نفسه الكفاءة لإدارة الأمور، فالأفضل له وللأمة

ص: 151


1- الكافي 3: 262.
2- وسائل الشيعة 3: 230.

التي يقودها، أن ينسحب ويفسح المجال لمن هو أكفأ منه، فبهذا تتقدم الشعوب والأمم نحو الكمال والرقي.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلف»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أمَّ قوماً وفيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم إلى السفال إلى يوم القيامة»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من صلى بقوم وفيهم من هو أعلم منه، لم يزل أمرهم إلى سفال إلى يوم القيامة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنّ أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان:

رجلٌ وكله اللّه إلى نفسه، فهو جائرٌ عن قصد السّبيل، مشغوفٌ بكلام بدعةٍ ودعاء ضلالةٍ، فهو فتنةٌ لمن افتتن به، ضالٌّ عن هدي من كان قبله، مضلٌّ لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمّالٌ خطايا غيره، رهنٌ بخطيئته.

ورجلٌ قمش جهلاً(4)، موضعٌ في جهّال الأمّة، عادٍ في أغباش(5) الفتنة، عمٍ بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه النّاس عالماً وليس به، بكّر فاستكثر من جمعٍ، ما قلّ منه خيرٌ ممّا كثر، حتّى إذا ارتوى من ماءٍ آجنٍ، واكتثر من غير طائلٍ، جلس بين النّاس قاضياً، ضامناً لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات، هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ثمّ قطع به، فهو من لبس الشّبهات في مثل

ص: 152


1- الكافي 5: 27.
2- تهذيب الأحكام 3: 56.
3- من لا يحضره الفقيه 1: 378.
4- قمش جهلاً: أي جمعه، وأصل القمش جمع المتفرق.
5- أغباش: جمع غبش، وأغباش الليل: بقايا ظلمته.

نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهلٌ خبّاط جهالاتٍ، عاشٍ ركّاب عشواتٍ، لم يعضّ على العلم بضرسٍ قاطعٍ، يذرو الرّوايات ذرو الرّيح الهشيم، لا مليٌّ واللّه بإصدار ما ورد عليه، ولا أهلٌ لما قرّظ به، لا يحسب العلم في شيءٍ ممّا أنكره، ولا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهباً لغيره، وإن أظلم عليه أمرٌ اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدّماء، وتعجّ منه المواريث.

إلى اللّه أشكو من معشرٍ يعيشون جهّالاً، ويموتون ضلالاً، ليس فيهم سلعةٌ أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته، ولا سلعةٌ أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف، ولا أعرف من المُنكر»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إمام القوم وافدهم، فقدموا أفضلكم»(2).

ما ضلَّ من استشار

اشارة

إن من أهم الصفات التي يلزم على القائد التمتع بها: هي صفة المشاورة والاستشارة وتقليب الآراء المختلفة.

إذ الاستشارة في الرأي وطلب آراء الآخرين والاستفادة من تجاربهم وعقولهم، دليل على حنكة القائد وذكائه واتساع أفقه الفكري، إذ أن المشورة وجمع وجوه الآراء والعمل بأصحها وأقومها يؤدي بالإنسان إلى التقدم نحو الأفضل، والتقليل من الأخطاء، وهي إشارة إلى صحة السياسة، عبر الابتعاد عن حالات الاستبداد والدكتاتورية التي يتبعها معظم الساسة المنحرفين. فعلى القائد الإسلامي أن لا يستبد بقراراته، لأنه غير معصوم من الخطأ.

ص: 153


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 17 من كلام له(عليه السلام) في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 377.

هذا وقد أمر اللّه تعالى القادة المعصومين(عليهم السلام) بالاستشارة فكيف بغيرهم، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(1).

وهكذا ورد الحث الكبير عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) على الاستشارة، حيث ورد عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «الاستشارة عين الهداية»(2).

وعنه(عليه السلام) أيضا: «المستشير على طرف النجاح»(3).

مع المعارضة

بل ربما يكون على القائد أن يستشير الأعداء لاستكشاف ما في قلوبهم وما يراودهم من تفكير؛ فمن دلائل صلاح النظام والسياسة وعدالة القيادة، هو إعطاء الحرية للمعارضة، وإبداء رأيها، وعدم خنقها وتصفيتها.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «استشر أعداءك تعرف من رأيهم مقدار عداوتهم ومواضع مقاصدهم»(4).

ومن خلال سيرة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام) يتعلم القائد الإسلامي السير الصحيح والمنهج القويم في سياسته مع المعارضة، والاستفادة منهم، وعدم قهرهم، فقد كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يصلي صلاة الصبح، فقال ابن الكواء - وكان من المنافقين - من خلفه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(5)، فأنصت علي(عليه السلام) تعظيماً للقرآن حتى فرغ من الآية، ثم عاد في قراءته...

ص: 154


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 211.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 65.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 148.
5- سورة الزمر، الآية: 65.

ثم أعاد ابن الكواء الآية فأنصت علي(عليه السلام) أيضاً ثم قرأ.

فأعاد ابن الكواء، فأنصت علي(عليه السلام)، ثم قال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}(1) ثم أتم السورة وركع(2).

أما الابتعاد عن منهج الاستشارة وتعدد الآراء واحترام الرأي الآخر وتحمله، فإنه يعني الركون إلى الاستبداد بالرأي، ومصادرة آراء الآخرين، وقمع الحريات. وهذا ما لا ينسجم مع روح وتعاليم الإسلام الحنيف، الذي أرسى قواعده النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام)، حيث إن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام علي(عليه السلام) - كما يذكر التاريخ - كانا دائمي الاستشارة.

فاستشارة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه في حفر الخندق مشهورة وقد ذكرتها أغلب كتب التاريخ.

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَٰرُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا۠ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالًا شَدِيدًا...}(3).

هذه الآيات المباركات نزلت في قصة الأحزاب من قريش والعرب الذين تحزبوا على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وذلك أن قريشاً قد تجمعت في سنة خمس من الهجرة وساروا في العرب، واستنفروهم لحرب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوافوا في عشرة آلاف، ومعهم كنانة وسليم وفزارة... فبلغ ذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واستشار أصحابه وكانوا سبعمائة رجل، فقال سلمان: يا رسول اللّه، إن القليل لا يقاوم الكثير في

ص: 155


1- سورة الروم، الآية: 60.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 113.
3- سورة الأحزاب، الآية: 9-27.

المطاولة.

قال: «فما نصنع؟».

قال: نحفر خندقاً يكون بيننا وبينهم حجاباً، فيمكنك منعهم في المطاولة ولا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه، فإنا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق، فيكون الحرب من مواضع معروفة.

فنزل جبرئيل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: أشار سلمان بصواب.

فأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بحفره من ناحية أحد إلى راتج، وجعل على كل عشرين خطوة وثلاثين خطوة قوماً من المهاجرين والأنصار يحفرونه، فأمر فحملت المساحي والمعاول، وبدأ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين بنفسه وأمير المؤمنين(عليه السلام) ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعيّ، وقال: «لا عيش إلّا عيش الآخرة، اللّهم اغفر للأنصار والمهاجرين».

فلما نظر الناس إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحفر اجتهدوا في الحفر ونقلوا التراب، فلما كان في اليوم الثاني بكروا إلى الحفر...» القصة(1).

فإذا كان المعصوم(عليه السلام) الذي عصمه اللّه تعالى عن الوقوع في الخطأ يعمل بالاستشارة، فكيف حال من هو معرض للوقوع في الخطأ في كل عمل يعمله؟ أليس الأجدر والأصح له أن يجمع آراء الآخرين إلى رأيه، ويخرج بنتيجة، وإن لم تكن صحيحة فهي أقرب إلى الصحة؟

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من لزم المشاورة لم يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطاء عاذراً»(2).

ص: 156


1- تفسير القمي 2: 177.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 650.
التواضع

ومن أهم ما يلزم اتصاف القيادة به: التواضع وعدم الغرور والتكبر.

قال تبارك وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن من التواضع أن يجلس الرجل دون شرفه»(2).

فعلى القائد أن يترك كل أمر من شأنه أن يبعده عن الناس، ويجعله يعيش العزلة والجو الخاص، ويتنازل قليلاً عمّا بيده ليكون مع الناس، مع الفقراء، مع المؤمنين، لاسيما القائد الإسلامي، إذ يلزم عليه أن يربي نفسه وأفراده على التواضع للّه عزّ وجلّ ولعباد اللّه؛ لأن ذلك من أسباب التقدم والتفاف الجماهير حوله، والوقوف معه في الشدائد والتأسي به.

ويكون مثل القائد المتواضع كمثل البحر الذي يأتيه الماء من مئات الأنهار، لأن البحر تواضع وجعل نفسه دون مستوى الأنهار، والأنهار رفعت نفسها، بينما لو كان البحر أرفع مستوى وكان النهر أخفض لانصبت المياه من البحر في النهر.

وكم في التاريخ الإسلامي من شواهد عظيمة تبين مدى تواضع النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للناس جميعاً، فعن جابر بن عبد اللّه قال: غزا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إحدى وعشرين غزوة بنفسه، شاهدت منها تسع عشرة غزوة، وغبت عن اثنتين، فبينا أنا معه في بعض غزواته إذ أعيا ناضحي(3) تحت الليل فبرك، وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أخريات الناس يزجي الضعيف ويردفه(4) ويدعو لهم، فانتهى إليَّ

ص: 157


1- سورة القصص، الآية: 83.
2- الكافي 2: 123.
3- الناضح: البعير أو الثور أو الحمار الذي يستقى عليه الماء، والأنثى بالهاء ناضحة.
4- الردف: ما تبع الشيء، والراكب خلفك، وردفته إذا ركبت خلفه.

وأنا أقول: يالهف أماه، ما زال لنا ناضح سوء.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من هذا؟».

فقلت: أنا جابر، بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه.

قال: «وما شأنك؟».

قلت: أعيا ناضحي.

فقال: «أمعك عصا؟».

فقلت: نعم.

فضربه ثم بعثه، ثم أناخه ووطئ على ذراعه، وقال: «اركب» فركبت وسايرته، فجعل جملي يسبقه، فاستغفر لي تلك الليلة خمساً وعشرين مرة، فقال لي: «ما ترك عبد اللّه من الولد؟» يعني: أباه.

قلت: سبع نسوة.

قال: «أبوك عليه دَين؟».

قلت: نعم.

قال: «فإذا قدمت المدينة فقاطعهم، فإن أبوا فإذا حضر جداد نخلكم فآذني»(1).

فقال: «هل تزوجتَ؟».

قلت: نعم.

قال: «بمن؟».

قلت: بفلانة بنت فلان، بأَيِّم(2) كانت بالمدينة.

ص: 158


1- أجد النخل: حان وقت جداده أعني قطعه.
2- أَيِّم وزان كيِّس: المرأة التي لا زوج لها وهي مع ذلك لا يرغب أحد في تزويجها.

قال: «فهلا فتاة تلاعبها وتلاعبك؟».

قلت: يا رسول اللّه، كن عندي نسوة خرق - يعني: أخواته - فكرهت أن آتيهن بامرأة خرقاء، فقلت: هذه أجمع لأمري.

قال: «أصبت ورشدت».

فقال: «بكم اشتريت جملك؟».

فقلت: بخمس أواق من ذهب.

قال: «بعنيه ولك ظهره إلى المدينة».

فلما قدم المدينة أتيته بالجمل، فقال: «يا بلال، أعطه خمس أواق من ذهب يستعين بها في دَين عبد اللّه وزده ثلاثاً، ورد عليه جمله».

قال: «هل قاطعت غرماء عبد اللّه؟».

قلت: لا، يا رسول اللّه.

قال: «أ ترك وفاءً؟».

قلت: لا.

قال:«لا عليك فإذا حضر جداد نخلكم فآذني».

فآذنته، فجاء فدعا لنا فَجَدَدْنا، واستوفى كل غريم ما كان يطلب تمراً وفاءً، وبقي لنا ما كنا نَجُدّ وأكثر.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ارفعوا ولا تكيلوا، فرفعناه وأكلنا منه زماناً»(1).

هذه القصة تعطينا أكثر من درس، فهي بهيكلها العام تدل على التواضع العظيم الذي كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتحلى به، حيث كان مع آخر مقاتل من جيشه، ليتفقد رعيته ويرعى القافلة بأكملها، فيعين ضعيفها ومحتاجها، ويأخذ

ص: 159


1- مكارم الأخلاق: 20.

بأطراف الحديث مع جابر، فيسأله عن وضعه الاجتماعي والاقتصادي، ويقوم بإعانته على قضاء حوائجه.

والدرس الآخر الذي نستلهمه من القصة هو أن القائد الإسلامي مع مسؤولياته الجسام وكثرة انشغاله بكبريات الأمور، أمثال: الحرب والسياسة، فإنه يلزم عليه أن لا يترك الأمور الجزئية تحت ذريعة الانشغال بالأمور الكبيرة.

فالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يريد أن يعلّم كل واحد منا، فضلاً عن الذين يتصدون للقيادة، أنه لا بد من الاهتمام بالأمور الصغيرة أيضاً، كالسؤال عن حال الأخ المؤمن، وهل هو في ضائقة مالية أو معيشية أم لا، والاهتمام بالأخلاقيات والاجتماعيات فضلاً عن بعض العبادات المستحبة مع الفرائض والواجبات؛ إذ أن البعض يتصور أن قيامه بالأمور الكبيرة يغنيه عن الاهتمام ببعض التفاصيل ومراعاة الجزئيات.

ولكن ترك بعض الأمور الصغيرة وعدم الاهتمام بها ربما يوجب أن تصبح هذه الأمور الصغيرة أمراً كبيراً لا يمكن معالجته، فبعض القياديين وبحجة الانشغال بالعلاقات العامة مع أقرانه من السياسيين، أو انشغاله بأمور الدولة المهمة، فإنهم - وللأسف - تراهم يعرضون عن طلبات الجماهير، ويصفونها بالأمور الصغيرة، بل في بعض الأحيان ينصبون من لا يكون كفءً ليقوم مقامهم، وربما يكون سلوك الأخير غير سلوك القائد، وتأثيره غير تأثير القائد، مما يؤدي إلى اتساع الهوة بين القيادة والقاعدة.

ورد في ما كتب أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر حين ولاه مصر، وهو أطول عهد وأجمعه للمحاسن:

«... ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالد من ولده، ولا يعظمن في نفسك شيء أعطيتهم إياه، ولا تحقرن لهم لطفاً تلطفهم به؛ فإنه يرفق بهم كل ما كان

ص: 160

منك إليهم وإن قل، ولا تدعن تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على نظرك في جسيمها؛ فإن للطيف موضعاً ينتفع به، وللجسيم موضعاً لا يستغنى فيه عنه... واخصص أهل الشجاعة والنجدة بكل عارفةٍ، وامدد لهم أعينهم إلى صور عميقات ما عندهم، بالبذل في حسن الثناء وكثرة المسألة عنهم رجلاً رجلاً، وما أبلي في كل مشهدٍ، وإظهار ذلك منك عنه؛ فإن ذلك يهز الشجاع ويحرض غيره... ولا تفسدن أحداً منهم عندك علةٌ عرضت له أو نَبوَةٌ كانت منه قد كان له قبلها حسن بلاءٍ؛ فإن العز بيد اللّه يعطيه إذا شاء ويكفه إذا شاء، ولو كانت الشجاعة تفتعل لافتعلها أكثر الناس، ولكنها طبائع بيد اللّه ملكها وتقدير ما أحب منها، وإن أصيب أحدٌ من فرسانك وأهل النكاية المعروفة في أعدائك فاخلفه في أهله بأحسن ما يخلف به الوصي الموثوق به، في اللطف بهم وحسن الولاية لهم؛ حتى لا يرى عليهم أثر فقده ولا يجدوا لمصابه، فإن ذلك يعطف عليك قلوب فرسانك ويزدادون به تعظيماً لطاعتك، وتطيب النفوس بالركوب لمعاريض التلف في تسديد أمرك، ولا قوة إلّا باللّه»(1).

الجماهيرية

ومن أهم ما يلزم اتصاف القيادة به: الجماهيرية.

الجماهير هم الذين يشكلون مجموع الأمة وسدها المنيع، ودرعها الحصين، والدولة تعتمد في أصل وجودها على الجماهير، فلا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزهم وتجاهلهم وعدم الاهتمام بهم، فالقائد لا بد أن يكون جماهيرياً، وأن يلاحظ الجماهير على طول الخط، فإنهم هم الذين ينقذون بلاد الإسلام

ص: 161


1- مستدرك الوسائل 13: 150 وشبهه في نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.

والمسلمين، وليس فقط الجماعة الخاصة المحيطة بالقائد أو الأقارب أو العشيرة أو النخب من المجتمع كالمثقفين أو أصحاب الكفاءات الخاصة فحسب، ولا يخفى أن لهؤلاء مهاماً وأهمية خاصة في حياة القائد ومسيرته ولكنهم ليسوا هم كل شيء.

إن مثل الجماهير كمثل الماء، إذا انعدم لم يبق شيء حي على الإطلاق، فالقائد والدولة مثلهم كمثل السمكة. فعلى القائد أن يكون في خدمة الجماهير، وأن لا يغيب عنهم فترات طويلة، وأن يلهمهم المعنويات، ويبث فيهم الأمل وروح التعاون.

أما أصحاب النفسيات السلبية الذين يتصورون أنهم الأفضل ويقولون: نحن أكثر فهماً، وأن الجماهير لا تفهم، وهي غير واعية، إلى غير ذلك من العبارات التي تصدر عن القادة المستبدة والتي تدل على ابتعادهم عن الجماهير والساحة، فإن النتيجة تكون انفضاض الجماهير من حولهم، وبالتالي لا يستطيع هكذا قائد أن يكون ناجحاً، وكثيراً ما تكون الجماهير سبباً لإسقاط حكمه، لأنه ليس لديه أي نقطة يشترك فيها مع الأمة، فلا يشاركهم آلامهم، ولا يعاني بمعاناتهم.

التحلي بوصايا أمير المؤمنين(عليه السلام)

ومن أهم ما يلزم اتصاف القيادة الإسلامية به: التحلي بما أمر به أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في وصاياه لولاته وعماله.

لقد كان أمير المؤمنين(عليه السلام) كثيراً ما يوصي الولاة والأمراء بالتعاليم الإسلامية، إبان خلافته وحكومته، حيث كان يوجههم بالتوجيهات المحمدية والعلوية، مبيناً صفات الوالي والأمير الذي يرضاه اللّه ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فمما جاء في كتابه(عليه السلام) لمالك الأشتر النخعي لما ولاه مصر:

ص: 162

«... وإن الناس ينظرون من أمورك مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشح بنفسك عمّا لا يحل لك؛ فإنَّ الشح بالنفس الإنصاف منها في ما أحبت أو كرهت، وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم؛ فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين وإما نظيرٌ لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه؛ فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، واللّه فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم...».

إلى أن قال(عليه السلام):

«وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية؛ فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة، وليس أحدٌ من الرعية أثقل على الوالي مئونةً في الرخاء، وأقل معونةً له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صِغوك(1) لهم وميلك معهم... وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس؛ فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها، ولا تكشفن عمّا غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، واللّه يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر

ص: 163


1- صِغوك إليه: ميلك إليه.

اللّه منك ما تحب ستره من رعيتك أطلق عن الناس عقدة كل حقدٍ واقطع عنك سبب كل وترٍ، وتغاب(1) عن كل ما لا يضح(2) لك...»(3).

وفيه أيضاً:

«.. وأما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك؛ فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبةٌ من الضيق وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشرٌ لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سماتٌ تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤٌ سَخَتْ نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مئونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة، ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثارٌ وتطاولٌ وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك، يحملون مئونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة، وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودةٌ، وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك

ص: 164


1- تغاب: تغافل.
2- يضح: يظهر.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.

ظنونهم بإصحارك؛ فإن في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقاً برعيتك، وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق»(1).

ومن كتاب له(عليه السلام) إلى قثم بن العباس وكان عامله على مكة:

«أما بعد، فأقم للناس الحج {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّىٰمِ اللَّهِ}(2)، واجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي وعلم الجاهل وذاكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفيرٌ إلّا لسانك، ولا حاجبٌ إلّا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجةٍ عن لقائك بها، فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد في ما بعد على قضائها، وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيباً به مواضع الفاقة والخَلّات، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه في من قبلنا، ومر أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكنٍ أجراً؛ فإن اللّه سبحانه يقول: {سَوَاءً الْعَٰكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}(3)، فالعاكف المقيم به، والبادي الذي يحج إليه من غير أهله، وفقنا اللّه وإياكم لمحابه والسلام»(4).

وقال(عليه السلام): «واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية؛ حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك، والسلام»(5).

قائد ثورة العشرين

نقل لي أحد المراجع: إن قائد ثورة العشرين الإمام الشيخ محمد تقي

ص: 165


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.
2- سورة إبراهيم، الآية: 5.
3- سورة الحج، الآية: 25.
4- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 67 من كتاب له(عليه السلام) إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 46 من كتاب له(عليه السلام) إلى بعض عماله.

الشيرازي(رحمه اللّه) التفت حوله الجماهير بصورة واسعة، من شيوخ وأفراد العشائر، كباراً وصغاراً، سنة وشيعة، ضد بريطانيا، وكان الازدحام كبيراً حول الميرزا، ورغم تصديه لأمور الثورة والمرحلة الحساسة في تاريخ العراق والأمة الإسلامية، لم يكن ينسى طلبته وروّاد درسه، ونظراً لضيق وقته نتيجة مسؤولياته الجسام حيث كان لا يجد الوقت الكافي لمداراتهم ومعرفة شؤونهم ومعالجة مشاكلهم التي كانت تعترضهم، قال لهم مرة: أيها الطلبة، إني قبل الثورة كنت أتمكن من قضاء حوائجكم وألتقي بكم على انفراد، ولكنكم الآن لا تتمكنون أن تصلوا إليَّ للزحام الذي حولي، فإذا كانت لأحدكم حاجة فإني أخرج في كل يوم بعد صلاة الصبح إلى الشارع الممتد بامتداد النهر(1) في أطراف كربلاء، فيتمكن كل طالب علم، أو أي شخص آخر يريد لقائي على انفراد أن يأتي في ذلك الوقت.

وأضاف هذا العالم - الراوي للقصة - فقال: إني شخصياً ذهبت إليه مراراً وتكراراً وعندي حاجة، فكنت أرى الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) يمشي وحده على ضفاف ذلك النهر في الشارع الممتد بامتداده، فأعرض حاجتي وكنت أطلب من الإمام الشيرازي قضاءها.

نعم، هكذا يلزم أن يكون القائد الإسلامي، ذا روح جماهيرية، يحتوي قلبه كل الطبقات في الأمة. ويستوعب كل الآراء والتوجهات. هذا هو خط وسلوك ومنهج أهل البيت(عليهم السلام) فالرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو صاحب دولة عالمية كبيرة آنذاك، كان يمشي في الأسواق ويتفقد أحوال الناس، وكذلك الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث كانت دولته أكبر دولة في العالم، كان يوصي عماله بهذا الأمر، وعدم الظلم وعدم الاحتجاب عن الجماهير، كما مر.

ص: 166


1- نهر الحسينية المتفرع من نهر الفرات وهو النهر الذي يسقي كربلاء المقدسة.
الدراهم المباركة

قال الإمام الصادق(عليه السلام) في حديث: «.. فنظر - رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وما شأنكِ؟

قالت: يا رسول اللّه، إن أهلي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم حاجة فضاعت، فلا أجسر أن أرجع إليهم.

فأعطاها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أربعة دراهم، وقال: ارجعي إلى أهلكِ.

ومضى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى السوق فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه، وحمد اللّه عزّ وجلّ، فرأى رجلاً عرياناً يقول: من كساني كساه اللّه من ثياب الجنة، فخلع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قميصه الذي اشتراه وكساه السائل، ثم رجع(عليه السلام) إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر فلبسه وحمد اللّه عزّ وجلّ، ورجع إلى منزله، فإذا الجارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما لكِ لا تأتين أهلك؟! قالت: يا رسول اللّه، إني قد أبطأت عليهم أخاف أن يضربوني.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): مري بين يدي ودليني على أهلك، وجاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى وقف على باب دارهم، ثم قال: السلام عليكم يا أهل الدار، فلم يجيبوه! فأعاد السلام فلم يجيبوه! فأعاد السلام، فقالوا: وعليك السلام يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته.

فقال(عليه السلام): ما لكم تركتم إجابتي في أول السلام والثاني؟!

فقالوا: يا رسول اللّه، سمعنا كلامك فأحببنا أن نستكثر منه.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤذوها. فقالوا: يا رسول اللّه، هي حرة لممشاك.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الحمد للّه ما رأيت اثني عشر درهماً أعظم بركة من

ص: 167

هذه،كسا اللّه بها عاريين وأعتق نسمة»(1).

وفي وقت القيظ

عن الإمام الباقر(عليه السلام) في خبر: «أنه رجع علي(عليه السلام) إلى داره في وقت القيظ، فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدى علي وحلف ليضربني. فقال(عليه السلام): يا أمة اللّه، اصبري حتى يبرد النهار، ثم أذهب معكِ إن شاء اللّه؟

فقالت: يشتد غضبه وحرده عليَّ. فطأطأ رأسه ثم رفعه، وهو يقول: لا واللّه، أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلكِ؟

فمضى(عليه السلام) إلى بابه، فقال: السلام عليكم. فخرج شاب، فقال علي(عليه السلام): يا عبد اللّه اتق اللّه؛ فإنك قد أخفتها وأخرجتها.

فقال الفتى: وما أنت وذاك، واللّه لأحرقنها لكلامك.

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف؟! قال: فأقبل الناس من الطرق، ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين. فسقط الرجل في يديه، فقال: يا أمير المؤمنين أقلني عثرتي؛ فو اللّه لأكونن لها أرضاً تطؤني، فأغمد علي(عليه السلام) سيفه، وقال: يا أمة اللّه ادخلي منزلكِ، ولا تلجئي زوجكِ إلى مثل هذا»(2).

أصلح أمرك

روي: أن أمير المؤمنين(عليه السلام) مر بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي، فقال: «يا جارية، ما يبكيكِ؟».

فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً، فأتيتهم به فلم يرضوه، فلما

ص: 168


1- الخصال 2: 490.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 106.

أتيته به أبى أن يقبله.

قال(عليه السلام): «يا عبد اللّه، إنها خادم وليس لها أمر فاردد إليها درهمها، وخذ التمر».

فقام إليه الرجل فلكزه(1)، فقال الناس: هذا أمير المؤمنين، فربا الرجل واصفر وأخذ التمر وردّ إليها درهمها.

ثم قال: يا أمير المؤمنين، ارض عني.

فقال: «ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك»(2).

الإصلاح

ومن أهم ما يلزم اتصاف القيادة به: روح الإصلاح الدائم.

مما لاشك فيه أن كل مظاهر الحياة معرضة للهدم والفساد والتلف، ما لم تراع بعناية وحرص من قبل الإنسان.

والأمة هي الأخرى معرضة لأن يصيبها الانحلال والانحراف والابتعاد عن القيم، والانقسام على نفسها إلى عدة انقسامات، وهنا يبرز دور القائد الإسلامي المحنك، والمعبأ بالثقافة الإسلامية الحقيقية المستلهمة من سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام)، والمتنور بنور الإيمان حيث يبدأ في سد الثغور، وردم المواقع التي تستقطب الفساد، وتسعى نحوه، فيعمل على إصلاح الوضع الاجتماعي، وأخذ الاحتياطات اللازمة والواقية للأمة، من أن يصيبها مرض اجتماعي ما.

ص: 169


1- اللكز: الضرب بالجمع على الصدر، يقال: ضربه بجمع كفه في صدره، ويقال أيضاً: اللكز الضرب بجميع الجسد.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 112.

وللإصلاح صور وأشكال متعددة، كل حسب مجاله، فيعمل القائد أولاً على إصلاح جهاز الدولة من كل عطب، وتنظيف كافة فروع الدولة من المفاسدوالمحسوبيات والمرتشين، لكي تكون حكومته منتجة وإيجابية، ومن ثم يعمد إلى إصلاح أحوال الرعية، أي الجماهير الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل الأرض والدين والعرض والتراث... ويسير معهم بسيرة الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته (صلوات اللّه عليهم) الذين كانوا يعملون على سد حاجات الرعية، وإيجاد فرص العمل لهم، وإلغاء حالة الطبقية التي تعشعش في الأمة، وتريد أن تفرض نفسها على الجماهير، لتمتص أتعابها، وتصادر جهودها.

كما يلزم على القائد الإسلامي أن لا يستمع إلى الوشاة، فإنهم أداة التخريب في المجتمع، وهم الذين يوسعون الهوة بين القائد والأمة، ويعملون على إيجاد الكتل والكيانات السلبية داخل جهاز الدولة، وهم أول من يتآمر على نظام الحكم مع الأعداء؛ لأن عادتهم التلون والميل مع المصالح والأهواء.

فقد كتب أمير المؤمنين(عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر: «... وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس؛ فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها، ولا تكشفن عمّا غاب عنك منها؛ فإنما عليك تطهير ما ظهر لك واللّه يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر اللّه منك ما تحب ستره من رعيتك، أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يَضِح(1) لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين، ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور،

ص: 170


1- تَغاب: تغافل، يَضِح: يظهر.

فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن باللّه»(1).

العلاقات الدولية

وهكذا يتوجه القائد إلى إصلاح بقية الأجهزة في الدولة وغيرها، ولعل من أهمها هي مسألة العلاقات الدولية، أي إعلان الرغبة بإصلاح العلاقات المتوترة مع جميع الدول، وإرساء السلم والسلام والود مع الدول الجارة والصديقة وغيرها، لاسيما المسلمة منها، وخلق جو إقليمي ودولي مفعم بالأمن والأمان، لكي تعيش الرعية في استقرار، وتأخذ حقها من الحريات، لكي تكون أمة منتجة ومتطورة ومحافظة على نفسها وحضارتها.

وقد كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) السبّاق لإشاعة المحبة والألفة بين القبائل التي كانت في مكة وما جاورها حتى قبل إعلان الرسالة الإسلامية، كما حدث في مسألة تجديد بناء الكعبة ونزاع القبائل على من ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه، فعمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على حل النزاع، وإصلاح الأمر، والمحافظة على الحجر المقدس، وعلى دماء القبائل، فقد ورد في قصة تجديد بناء الكعبة المشرفة:

لما بلغ البناء إلى موضع الحجر الأسود تشاجرت قريش في وضعه، فقال كل قبيلة: نحن أولى به، نحن نضعه، فلما كثر بينهم تراضوا بقضاء من يدخل من باب بني شيبة، فطلع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: هذا الأمين قد جاء فحكموه، فبسط رداءه وقال بعضهم: كساء طاروني(2) كان له، ووضع الحجر فيه ثم قال: «يأتي من كل ربع من قريش رجل»، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم، وقيس بن

ص: 171


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.
2- الطُرن: الخز والطاروني ضرب منه.

عدي من بني سهم، فرفعوه ووضعه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في موضعه»(1).

وكذا قام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالإصلاح بين قبيلتي الأوس والخزرج في المدينة بعدما كان بينهم من شديد الحرب والعدواة والبغضاء وطولها، حيث زرع(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كل واحدة من القبيلتين بذور الخير والسلام والصلاح.

محاسبة القائد نفسه

ومن أهم ما يلزم اتصاف القيادة به: محاسبة النفس.

أحياناً يتصور بعض القادة أنهم أصبحوا مسئولين فوق الآخرين، ولا مسئول فوقهم، أي إنهم يحاسبون ويعاقبون الأفراد، بينما هم لا يُحاسَبون ولا يُعاتبون، فلا يقبلون حتى بنصائح الأصدقاء، فضلاً عن محاسبتهم.

وهذا في الواقع مرض عضال يصيب الإنسان الذي يشعر بالتفوق ويتصور أنه في كل الأحوال والأدوار أعلى من الآخرين ولا مسئول عليه، فيبدأ يتسرب إليه الكبر والتعالي، إلى أن تصبح حكومته دكتاتورية في كل معالمها، فهي توجه العقوبة إلى أي شخص تشاء دون أن تقبل من الآخرين رداً أو رأياً.

قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَىٰ}(2).

لذا فعلى القائد الإسلامي - ولكي لا يقع في هذا المرض النفسي الخطير - أن يراقب نفسه، ويحاسبها قبل أن يحاسب الآخرين، ويبدأ بمراقبة كل حركاته وأقواله، ويعنّف نفسه ويعاقبها في موضع التقصير، ويركن إلى إتمام ما قصر عنه أو قصر فيه.

وهذا مبدأ رسمه ووضع خطوطه أئمتنا الهداة (صلوات اللّه عليهم) فقد جاء

ص: 172


1- الكافي 4: 218.
2- سورة العلق، الآية: 6-7.

في الحديث المروي عن أبي الحسن(عليه السلام) الماضي - الإمام الكاظم(عليه السلام) - قال: «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد اللّه، وإن عمل سيئاًاستغفر اللّه منه وتاب إليه»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «اجعل قلبك قريناً براً أو ولداً واصلاً، واجعل عملك والداً تتبعه، واجعل نفسك عدواً تجاهدها، واجعل مالك عارية تردها»(2).

نعم، هكذا يريد أهل البيت(عليهم السلام) من كل واحد منا وإن لم يكن في موقع القيادة، فكيف بقائد المسلمين الذي يدير شؤون الآلاف أو الملايين من الجماهير التي تسلمه أمرها وتنقاد لأمره، فكيف لا يحاسب نفسه ويؤدبها ويحرص على تربيتها؟

كيف يتكلم نيابة عن الأمة ولا يكون معبراً عنها وعن أهدافها؟

فإن العقل - لاشك - يستقبح هذه الظاهرة، ظاهرة استغلال المنصب للتمرد والتعالي على الضعفاء والمساكين.

وقد أكد أهل البيت(عليهم السلام) على مبدأ المحاسبة والمراقبة للنفس، كي لا يطلق لها العنان، وبذلك يكون القائد الإسلامي المحاسب لنفسه أسوة حسنة للآخرين، فينتشر مبدأ الشعور بالمسؤولية ومحاسبة الأفراد أنفسهم، قبل أن تحاسبهم الدولة أو القيادة، وهذا المنهج القويم يقرب الفرد والأمة من اللّه عزّ وجلّ، ويهدم الحواجز التي تحول بين الفرد وبين التقرب من ربه أو مجتمعه.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئاً إلّا أعطاه،

ص: 173


1- الكافي 2: 453.
2- الكافي 2: 454.

فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلّا من عند اللّه عزّ وجلّ، فإذا علم اللّه ذلك من قلبه، لم يسأله شيئاً إلّا أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها، فإن للقيامة خمسين موقفاً، كل موقف مقام ألف سنة - ثم تلا - : {فِي يَوْمٖ كَانَ مِقْدَارُهُخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٖ}»(1)(2).

ومما يلزم على القائد الإسلامي أن يراقب نفسه فيه أمران:

الأول: أن يراقب ما يقوله وما يعد به الجماهير، وأن لا تختلف أفعاله عن أقواله، حتى لا يصبح هناك تضاد بين الأمرين، فتتصور الجماهير أنه مخادع أو كذاب، أو أن أقواله مجرد وعود لتهدئة الوضع العام، فتصبح العلاقة بين القائد والأمة علاقة سيئة قائمة على الجدل والمغالطة وانعدام الثقة.

الثاني: أن يراقب نفسه ويوطنها على الحلم وسعة الصدر والتحلي باللاعنف، ويظل يتابعها ويحرص على هذه الأمور، لكي يستوعب الجماهير، ويتحمل المتاعب والصعوبات وما يجري على البلاد من بلاء أو حروب، أو ما شابه ذلك.

اللاعنف

ومن أهم ما يلزم اتصاف القيادة به التحلي باللاعنف في التعامل مع الشعب وسائر الحكومات، وفي جميع مجالات الحياة.

أما إذا اتخذ القائد سياسة خشنة بعيدة عن الرحمة الإسلامية فهذا معناه السقوط، كما نرى في حكام البلاد الإسلامية حيث الاعتقالات والسجون والتعذيب والنفي ومصادرة الأموال وقتل الأبرياء، والسب والشتائم، وإثارة الدول المجاورة وغير المجاورة وما أشبه من مصاديق العنف وعدم التعقل.

ص: 174


1- سورة المعارج، الآية: 4.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 145.

قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا}(1).

وعن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) في سؤال محمد بن أبي عمير حول هذه الآيةقال: «أما قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} أي كنّياه وقولا له: يا أبا مصعب، وكان اسم فرعون أبا مصعب الوليد بن مصعب»(2).

وقال عيسى بن مريم(عليه السلام) لبعض أصحابه: «ما لا تحب أن يفعل بك فلا تفعله بأحد، وإن لطم خدك الأيمن فأعط الأيسر»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر: «وإياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، واللّه سبحانه وتعالى مبتدئ بالحكم بين العباد في ما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوِّين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه ويزيله وينقله ولا عذر لك عند اللّه ولا عندي في قتل العمد لأن فيه قَوَدَ(4) البدن، وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو يدك بالعقوبة فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم»(5).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أول ما يحكم اللّه عزّ وجلّ فيه يوم القيامة الدماء، فيوقف إبنا آدم فيفصل بينهما، ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد، ثم الناس بعد ذلك حتى يأتي المقتول

ص: 175


1- سورة طه، الآية: 44.
2- علل الشرائع 1: 67.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 366.
4- القَوَد: القصاص.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.

بقاتله فيتشخب في دمه وجهه، فيقول: أنت قتلته؟ فلا يستطيع أن يكتم اللّه حديثاً»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «لا يدخل الجنة سافك للدم، ولا شارب الخمر، ولامشاء بنميم»(2).

وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(3).

وكتب أمير المؤمنين الإمام(عليه السلام) إلى حذيفة بن اليمان بعد مقتل عثمان: «بسم اللّه الرحمن الرحيم من عبد اللّه علي أمير المؤمنين إلى حذيفة بن اليمان، سلام عليك، فإني وليتك ما كنت تليه لمن كان قبل حرف المدائن - إلى أن قال - وإني آمرك بتقوى اللّه وطاعته في السر والعلانية فاحذر عقابه في المغيب والمشهد، وأتقدم إليك بالإحسان إلى المحسن والشدة على المعاند، وآمرك بالرفق في أُمورك واللين والعدل في رعيتك فإنك مسئول عن ذلك، وإنصاف المظلوم والعفو عن الناس وحسن السيرة ما استطعت فاللّه يجزي المحسنين»(4).

وقال(عليه السلام) لطلحة والزبير حين استأذناه في الخروج إلى العمرة: «لا واللّه ما تريدان العمرة وإنما تريدان البصرة»(5).

وفي بعض الروايات: «إنما تريدان الغدرة»(6).

ص: 176


1- من لا يحضره الفقيه 4: 96.
2- وسائل الشيعة 29: 13.
3- سورة المائدة، الآية: 32.
4- بحار الأنوار 28: 87.
5- الإرشاد 1: 315.
6- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 232.

وقال(عليه السلام) لابن عباس وهو يخبره عن استئذانهما له في العمرة: «إنني أذنت لهما مع علمي بما قد انطويا عليه من الغدر واستظهرت باللّه عليهما، وإن اللّه تعالى سيرد كيدهما ويظفرني بهما»(1).

وقال(عليه السلام) في خطبة له في ذي قار: «وبايعني طلحة والزبير وأنا أعرف الغدر فيوجهيهما والنكث في عينيهما، ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان، فسارا إلى مكة واستخفا عائشة وخدعاها وشخص معها أبناء الطلقاء فقدموا البصرة وقتلوا بها المسلمين وفعلوا المنكر، ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما عليَّ وهما يعلمان أني لست دون أحدهما ولو شئت أن أقول لقلت، ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتاباً يخدعهما فيه فكتما عني وخرجا يوهمان الطَّغام(2)

أنهما يطلبان بدم عثمان»(3).

وقالت صفية بنت الحارث زوجة عبد اللّه بن خلف الخزاعي للإمام علي(عليه السلام) بعد واقعة الجمل: يا قاتل الأحبة، يا مفرق الجماعة. فقال الإمام(عليه السلام): «إني لا ألومك أن تبغضيني يا صفية، وقد قتلت جدك يوم بدر، وعمك يوم اُحد، وزوجك الآن، ولو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه البيوت»، ففتش فكان فيها مروان وعبد اللّه بن الزبير(4).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول: سيروا بسم اللّه وباللّه، وفي سبيل اللّه، وعلى ملة رسول اللّه. لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا. ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا

ص: 177


1- الإرشاد 1: 315.
2- الطَّغام: أراذل الناس وأوغادهم.
3- الجمل والنصرة: 268.
4- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 262.

صبياً، ولا امرأة. ولا تقطعوا شجراً إلّا أن تضطروا إليها. وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار(1) حتى يسمع كلام اللّه، فإنتبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا باللّه عليه»(2).

وفي وصية لأمير المؤمنين(عليه السلام) أوصى بها عسكره قبل لقاء العدو فقال: «لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم، فإنكم بحمد اللّه على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أُخرى لكم عليهم. فإذا كانت الهزيمة بإذن اللّه فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا مُعْوراً، ولا تَجْهِزوا(3) على جريح. ولا تهيجوا النساء بأذى، وإن شتمن أعراضكم، وسببن اُمراءكم، فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول. إن كنّا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن مشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفِهْر أو الهِراوَة(4) فيعير بها وعقبه من بعده»(5).

وعن الشعبي قال: أسر علي(عليه السلام) أسرى يوم صفين فخلى سبيلهم فأتوا معاوية، وقد كان عمرو بن العاص يقول لأسرى أسرهم معاوية: اقتلهم. فما شعروا إلّا بأسراهم قد خلى سبيلهم علي(عليه السلام)، فقال معاوية: يا عمرو، لو أطعناك في هؤلاء الأسرى لوقعنا في قبيح من الأمر، ألّا تراه قد خلى سبيل أسرانا. فأمر بتخلية من في يديه من أسرى علي(عليه السلام)، وكان علي(عليه السلام) إذا أخذ أسيراً من أهل الشام خلى

ص: 178


1- «نظر إلى رجل من المشركين» أي: نظر إشفاق ومرحمة، والجِوار: أن تعطي الرجل ذمة فيكون بها جارك فتجيره أي تنقذه وتعيذه.
2- الكافي 5: 27.
3- المُعْوِر - كمجرم - : الذي أمكن من نفسه وعجز عن حمايتها وأصله أعور أبدى عورته، أجهز على الجريح: تمم أسباب موته.
4- الفِهْر: الحجر على مقدار ما يدق به الجوز أو يملأ الكف، الهِراوَة: العصا أو شبه المقمعة من الخشب.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 14 من وصية له(عليه السلام) لعسكره قبل لقاء العدو بصفين.

سبيله إلّا أن يكون قد قتل أحداً من أصحابه(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لما وجهني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى اليمن، قال: يا علي، لا تقاتل أحداً حتى تدعوه، وايم اللّه لئن يهدي اللّه عزّ وجلّ على يديك رجلاً خيرلك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي»(2).

وعن الزهري أنه قال: دخل رجال من قريش على علي بن الحسين(عليهما السلام) فسألوه كيف الدعوة إلى الدين؟ قال: «تقول: بسم اللّه الرحمن الرحيم، أدعوكم إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى دينه، وجماعه أمران: أحدهما معرفة اللّه عزّ وجلّ، والآخر العمل برضوانه. وإن معرفة اللّه عزّ وجلّ أن يعرف: بالوحدانية والرأفة والرحمة، والعزة والعلم والقدرة، والعلو على كل شيء، وأنه النافع الضار، القاهر لكل شيء، الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير. وأن محمداً عبده ورسوله، وأن ما جاء به هو الحق من عند اللّه عزّ وجلّ وما سواه هو الباطل، فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»(3).

مدرسة الدعاء

«اللّهم صل على محمد وآله، ولا ترفعني في الناس درجة إلّا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلّا أحدثت لي ذلةً باطنة عند نفسي بقدرها، اللّهم صل على محمد وآل محمد، ومتعني بهدى صالح لا أستبدل به، وطريقة حق لا أزيغ عنها، ونية رشد لا أشك فيها»(4).

ص: 179


1- وقعة صفين: 518.
2- الكافي 5: 36.
3- الكافي 5: 36.
4- الصحيفة السجادية: وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

خاتمة: روايات في باب القيادة والحكومة

اشارة

أخذنا هذه المجموعة المباركة من روايات أمير المؤمنين(عليه السلام) من كتاب (تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم) للآمدي.

الباب الأول: في الشؤون السياسية والنظامية
في الرئاسة والسياسة

في الرئاسة والسياسة(1)

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الجود رئاسة، الملك سياسة».

وقال(عليه السلام): «الرئاسة عطب».

وقال(عليه السلام): «الاحتمال زين السياسة».

وقال(عليه السلام): «حسن السياسة قوام الرعية».

وقال(عليه السلام): «حسن السياسة يستديم الرئاسة».

وقال(عليه السلام): «حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة».

وقال(عليه السلام): «فضيلة الرئاسة حسن السياسة».

وقال(عليه السلام): «من حسنت سياسته وجبت طاعته».

وقال(عليه السلام): «من حسنت سياسته دامت رئاسته».

وقال(عليه السلام): «من ساس نفسه أدرك السياسة».

وقال(عليه السلام): «من بذل معروفه استحق الرئاسة».

وقال(عليه السلام): «من سما إلى الرئاسة صبر على مضض السياسة».

وقال(عليه السلام): «من قصر عن السياسة صغر عن الرئاسة».

وقال(عليه السلام): «من اتخذ الحق لجاماً اتخذه الناس إماماً».

وقال(عليه السلام): «ملاك السياسة العدل».

ص: 180


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 331.

وقال(عليه السلام): «لا رئاسة كالعدل في السياسة».

وقال(عليه السلام): «نعم السياسة الرفق».

وقال(عليه السلام): «أصعب السياسات نقل العادات».

الباب الثاني: في الحكومة
الفصل الأول: في الحاكم والحكومة العادلة
اشارة

الفصل الأول: في الحاكم والحكومة العادلة(1)

الحكومة العادلة وفضيلتها

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العدل فضيلة السلطان».

وقال(عليه السلام): «الملوك حماة الدين».

وقال(عليه السلام): «إمام عادل خير من مطر وابل».

وقال(عليه السلام): «العدل أفضل السياستين».

وقال(عليه السلام): «أفضل الملوك العادل».

وقال(عليه السلام): «أجل الملوك من ملك نفسه وبسط العدل».

وقال(عليه السلام): «إن الزهد في ولاية الظالم بقدر الرغبة في ولاية العادل».

وقال(عليه السلام): «تاج الملك عدله».

وقال(عليه السلام): «جمال السياسة العدل في الإمرة، والعفو مع القدرة».

وقال(عليه السلام): «خير السياسات العدل».

وقال(عليه السلام): «دولة العادل من الواجبات».

وقال(عليه السلام): «دولة الأكابر (الأكارم) من أفضل المغانم».

وقال(عليه السلام): «دولة العاقل كالنسيب يحن إلى الوصلة».

وقال(عليه السلام): «زين الملك العدل».

ص: 181


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 339.

وقال(عليه السلام): «زمان العادل خير الأزمنة».

وقال(عليه السلام): «غريزة العقل تحدو على استعمال العدل».

وقال(عليه السلام): «ليس ثواب عند اللّه سبحانه أعظم من ثواب السلطان العادل والرجل المحسن».وقال(عليه السلام): «من أعود الغنائم دولة الأكارم (المكارم)».

وقال(عليه السلام): «سياسة العدل ثلاث: لين في حزم، واستقصاء في عدل، وإفضال في قصد».

آثارها وفوائدها

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العدل يصلح البرية».

وقال(عليه السلام): «العدل نظام الإمرة».

وقال(عليه السلام): «العدل قوام الرعية».

وقال(عليه السلام): «العدل قوام البرية».

وقال(عليه السلام): «الإمامة نظام الأمة».

وقال(عليه السلام): «الطاعة تعظيم الإمامة».

وقال(عليه السلام): «الرعية لا يصلحها إلّا العدل».

وقال(عليه السلام): «العادل راع ينتظر أحد الجزاءين».

وقال(عليه السلام): «الطاعة جنة الرعية، والعدل جنة الدول».

وقال(عليه السلام): «العدل قوام الرعية، وجمال الولاة».

وقال(عليه السلام): «إذا بنى الملك على قواعد العدل ودعم بدعائم العقل، نصر اللّه مواليه وخذل معاديه».

وقال(عليه السلام): «بالعدل تصلح الرعية».

وقال(عليه السلام): «اعدل تدم لك القدرة».

ص: 182

وقال(عليه السلام): «ثبات الدول بإقامة سنن العدل».

وقال(عليه السلام): «سلطان العاقل ينشر مناقبه».

وقال(عليه السلام): «صلاح الرعية العدل».

وقال(عليه السلام): «عدل السلطان حياة الرعية وصلاح البرية».وقال(عليه السلام): «في العدل الإقتداء بسنة اللّه وثبات الدول».

وقال(عليه السلام): «كل مستسلم موقّى».

وقال(عليه السلام): «ليكن مركبك العدل فمن ركبه ملك».

وقال(عليه السلام): «لن تنقطع سلسلة الهذيان حتى يدرك الثأر من الزمان».

وقال(عليه السلام): «لن تحصن الدول بمثل استعمال العدل فيها».

وقال(عليه السلام): «من عدل تمكن».

وقال(عليه السلام): «من عدل نفذ حكمه».

وقال(عليه السلام): «من كثر عدله حمدت أيامه».

وقال(عليه السلام): «من عدل في البلاد نشر اللّه عليه الرحمة».

وقال(عليه السلام): «من عدل في سلطانه استغنى عن أعوانه».

وقال(عليه السلام): «من عمل بالعدل حصن اللّه ملكه».

وقال(عليه السلام): «من عدل في سلطانه، وبذل إحسانه، أعلى اللّه شأنه، وأعز أعوانه».

وقال(عليه السلام): «من أحسن إلى رعيته نشر اللّه عليه جناح رحمته وأدخله في مغفرته».

وقال(عليه السلام): «ما عمرت البلدان بمثل العدل».

وقال(عليه السلام): «ما حصن الدول بمثل العدل».

ص: 183

الفصل الثاني: شرائط الحاكم

الفصل الثاني: شرائط الحاكم(1)

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يحتاج الإمام إلى قلب عقول، ولسان قئول، وجنان على إقامة الحق صئول».

وقال(عليه السلام): «أفضل الملوك سجيةً من عمَّ الناس بعدله».وقال(عليه السلام): «أجل الأمراء من لم يكن الهوى عليه أميراً».

وقال(عليه السلام): «أفضل الملوك من حسن فعله ونيته، وعدل في جنده ورعيته».

وقال(عليه السلام): «أحسن الملوك حالاً من حسن عيش الناس في عيشه، وعمَّ رعيته بعدله».

وقال(عليه السلام): «أعقل الملوك من ساس نفسه للرعية بما يسقط عنه حجتها، وساس الرعية بما تثبت به حجته عليها».

وقال(عليه السلام): «حق على الملك أن يسوس نفسه قبل جنده».

وقال(عليه السلام): «خير الأمراء من كان على نفسه أميراً».

وقال(عليه السلام): «خور السلطان أشد على الرعية من جور السلطان».

وقال(عليه السلام): «فليصدق رائد أهله وليحضر عقله، وليكن من أبناء الآخرة فمنها قدم وإليها ينقلب».

وقال(عليه السلام): «من أحسن الكفاية استحق الولاية».

وقال(عليه السلام): «من أمارات الدولة اليقظة (التيقظ) لحراسة الأمور».

وقال(عليه السلام): «من دلائل الدولة قلة الغفلة».

وقال(عليه السلام): «السيد: من لا يصانع، ولا يخادع، ولا تغره المطامع».

ص: 184


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 340.
الفصل الثالث: وظائف الحكام

الفصل الثالث: وظائف الحكام(1)

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «استعن على العدل بحسن النية في الرعية، وقلة الطمع، وكثرة الورع».

وقال(عليه السلام): «أقم الناس على سنتهم ودينهم، وليأمنك بَرِئُهم، وليخفك مريبهم،وتعاهد ثغورهم وأطرافهم (أطراف بلادهم)».

وقال(عليه السلام): «إن السلطان لأمين اللّه في الأرض، ومقيم العدل في البلاد والعباد، ووزعته (و زرعته) في الأرض».

وقال(عليه السلام): «إن هذا المال ليس لي ولك، وإنما هو للمسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم شركتهم فيه، وإلّا فجنا أيديهم لا يكون لغير أفواههم».

وقال(عليه السلام): «إذا وليت فاعدل».

وقال(عليه السلام): «إذا أردت أن تطاع فاسأل ما يستطاع».

وقال(عليه السلام): «خير الملوك من أمات الجور وأحيا العدل».

وقال(عليه السلام): «ذد عن (ذر عن) شرائع الدين، وحط ثغور المسلمين، وأحرز دينك، وأمانتك بإنصافك من نفسك والعمل بالعدل في رعيتك».

وقال(عليه السلام): «زكاة السلطان إغاثة الملهوف».

وقال(عليه السلام): «من لم ينصف المظلوم من الظالم عظمت آثامه».

وقال(عليه السلام):«من لم ينصف المظلوم من الظالم سلبه اللّه قدرته».

وقال(عليه السلام): «لا تؤيس الضعفاء من عدلك».

وقال(عليه السلام): «عليكم بالإحسان إلى العباد، والعدل في البلاد، تأمنوا عند قيام

ص: 185


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 341.

الأشهاد».

وقال(عليه السلام): «على الإمام أن يعلم أهل ولايته حدود الإسلام والإيمان».

وقال(عليه السلام): «في حمل عباد اللّه على أحكام اللّه استيفاء الحقوق وكل الرفق».

وقال(عليه السلام): «فضيلة السلطان عمارة البلدان».

وقال(عليه السلام): «كما تُدين تُدان».

وقال(عليه السلام): «لو استوت قدماي من هذه المداحض لغيرت أشياء».وقال(عليه السلام): «من النبل أن تتيقظ لإيجاب حق الرعية إليك، وتتغابى عن الجناية عليك».

الفصل الرابع: أخلاق الحاكم

الفصل الرابع: أخلاق الحاكم(1)

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحلم رأس الرئاسة».

وقال(عليه السلام): «العفو زين القدرة».

وقال(عليه السلام): «الإنصاف زين الإمرة».

وقال(عليه السلام): «اضرب خادمك إذا عصى اللّه، واعف عنه إذا عصاك».

وقال(عليه السلام): «تجاوز مع القدرة، وأحسن مع الدولة، تكمل لك السيادة».

وقال(عليه السلام): «ذو الشرف لا تبطره منزلة نالها وإن عظمت، كالجبل الذي لا تزعزعه الرياح، والدني تبطره أدنى منزلة (نزلة) كالكلأ الذي يحركه مر النسيم».

وقال(عليه السلام): «ذاك ينفع سلمه، ولا يخاف ظلمه، إذا قال فعل، وإذا ولي عدل».

وقال(عليه السلام): «زكاة القدرة الإنصاف».

وقال(عليه السلام): «العفو زكاة القدرة».

وقال(عليه السلام): «الظفر شافع المذنب».

ص: 186


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 342.

وقال(عليه السلام): «الطمع يذل الأمير».

وقال(عليه السلام): «آلة الرئاسة سعة الصدر».

وقال(عليه السلام): «العفو مع القدرة جُنة من عذاب اللّه سبحانه».

وقال(عليه السلام): «أفضل الملوك أعفهم نفساً».

وقال(عليه السلام): «دولة اللئيم تكشف مساويه ومعايبه».

وقال(عليه السلام): «دولة الكريم تظهر مناقبه».وقال(عليه السلام): «رأس السياسة استعمال الرفق».

وقال(عليه السلام): «زين الرئاسة الإفضال».

وقال(عليه السلام): «عند كمال القدرة تظهر فضيلة العفو».

وقال(عليه السلام): «من تجبر على من دونه كسر».

وقال(عليه السلام): «من استطال على الناس بقدرته سلب القدرة».

الفصل الخامس: مواعظ للحكام

الفصل الخامس: مواعظ للحكام(1)

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يستدل على إدبار الدول بأربع: تضييع الأصول، والتمسك بالغرور، وتقديم الأراذل، وتأخير الأفاضل».

وقال(عليه السلام): «ولئن أمهل اللّه تعالى الظالم فلن يفوته أخذه، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه، وموضع الشجا من مجاز ريقه».

وقال(عليه السلام): «القدرة تنسي الحفيظة».

وقال(عليه السلام): «الولايات مضامير الرجال».

وقال(عليه السلام): «الملك المنتقل الزائل حقير يسير».

وقال(عليه السلام): «القدرة تظهر محمود الخصال ومذمومها».

ص: 187


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 342.

وقال(عليه السلام): «الدولة كما تقبل تدبر».

وقال(عليه السلام): «المحاسن في الإقبال هي المساوي في الإدبار».

وقال(عليه السلام): «الشركة في الملك تؤدي إلى الاضطراب».

وقال(عليه السلام): «الذل بعد العزل (العز) يوازي عزّ الولاية».

وقال(عليه السلام): «المرء يتغير في ثلاث: القرب من الملوك، والولايات، والغناء من (بعد) الفقر. فمن لم يتغير في هذه فهو ذو عقل قويم وخلق مستقيم».وقال(عليه السلام): «التسلط على الضعيف والمملوك من لزوم (لؤم) القدرة».

وقال(عليه السلام): «اجعل لكل إنسان من خدمك عملاً تأخذه به، فإن ذلك أحرى أن لا يتواكلوا في خدمتك».

وقال(عليه السلام): «إذا تغيرت نية السلطان تغير (فسد) الزمان».

وقال(عليه السلام): «إذا رأيت اللّه سبحانه يتابع عليك النعم مع المعاصي فهو استدراج لك».

وقال(عليه السلام): «إذا نفذ حكمك في نفسك تداعت أنفس الناس إلى عدلك».

وقال(عليه السلام): «تكبرك في الولاية ذل في العزل».

وقال(عليه السلام): «جود الولاة بفيء المسلمين جور وختر».

وقال(عليه السلام): «حسن الشهرة حصن القدرة».

وقال(عليه السلام): «داووا الجور بالعدل، وداووا الفقر بالصدقة والبذل».

وقال(عليه السلام): «رب عادل جائر».

وقال(عليه السلام): «رحمة من لا يرحم تمنع الرحمة، واستبقاء من لا يبقى يهلك (تهلك) الأمة».

وقال(عليه السلام): «زلة الرأي تأتي على الملك وتؤذن بالهلك».

وقال(عليه السلام): «زوال الدول باصطناع السفل».

ص: 188

وقال(عليه السلام): «سلطان الدنيا ذل، وعلوها سفل».

وقال(عليه السلام): «ستة تختبر بها عقول الرجال (الناس) المصاحبة والمعاملة والولاية والعزل والغنى والفقر».

وقال(عليه السلام): «ساهل الدهر ما ذل لك قعوده، ولا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه».

وقال(عليه السلام): «صواب الرأي بالدول، ويذهب بذهابها».

وقال(عليه السلام): «صير الدين حصن دولتك، والشكر حرز نعمتك، فكل دولة يحوطهاالدين لا تُغلب، وكل نعمة يحرزها الشكر لا تُسلب».

وقال(عليه السلام): «ظلم المستسلم أعظم الجرم».

وقال(عليه السلام): «ظلم الضعيف أفحش الظلم».

وقال(عليه السلام): «قد يعذر المتحير المبهوت».

وقال(عليه السلام): «ظلامة المظلومين يمهلها اللّه سبحانه ولا يهملها».

وقال(عليه السلام): «قلما يعود الإدبار إقبالاً».

وقال(عليه السلام):«قوة سلطان الحجة أعظم من قوة سلطان القدرة».

وقال(عليه السلام): «كيف يهتدي الضليل مع غفلة الدليل».

وقال(عليه السلام): «لكل دولة برهة».

وقال(عليه السلام): «لكل كبد حرقة (حرمة)».

وقال(عليه السلام): «لئن آمر الباطل لقديماً فعل، لئن قل الحق لربما ولعل، لقلما أدبر شيء فأقبل».

وقال(عليه السلام): «لن يتمكن العدل حتى يزل البخس».

وقال(عليه السلام): «لن يهلك من اقتصد».

وقال(عليه السلام): «من بذل جاهه استحمد».

وقال(عليه السلام): «من أحسن الملكة أمن الهلكة».

ص: 189

وقال(عليه السلام): «من ضعفت آراؤه قويت أعداؤه».

وقال(عليه السلام): «من وثق بإحسانك أشفق على سلطانك».

وقال(عليه السلام): «من خاف سوطك تمنى موتك».

وقال(عليه السلام): «من حمد على الظلم مكر به».

وقال(عليه السلام): «من شكر على الإساءة سخر به».

وقال(عليه السلام): «من أطاع أمرك أجل قدرك».وقال(عليه السلام): «من أساء إلى رعيته سر حساده».

وقال(عليه السلام): «من رفع بلا كفاية وضع بلا جناية».

وقال(عليه السلام): «من أشفق على سلطانه قصر عن عدوانه».

وقال(عليه السلام): «من لم يستظهر باليقظة لم ينتفع بالحفظة».

وقال(عليه السلام):«من جعل ملكه خادماً لدينه انقاد له كل سلطان».

وقال(عليه السلام): «من جعل دينه خادماً لملكه طمع فيه كل إنسان».

وقال(عليه السلام): «من رباه الهوان أبطرته الكرامة».

وقال(عليه السلام): «من لم يحسن في دولته خذل في نكبته».

وقال(عليه السلام): «من حق الراعي أن يختار لرعيته ما يختاره لنفسه».

وقال(عليه السلام): «لا تظلمن من لا يجد ناصراً إلّا اللّه».

وقال(عليه السلام): «لا تبسطن يدك على من لا يقدر على دفعها عنه».

وقال(عليه السلام): «لا تحارب من يعتصم بالدين فإن مغالب الدين محروب».

وقال(عليه السلام): «لا تنقضن سنة صالحة عمل بها، واجتمعت الألفة لها، وصلحت الرعية عليها».

وقال(عليه السلام): «لا ينجع تدبير من لا يطاع».

وقال(عليه السلام): «أين العمالقة وأبناء العمالقة».

ص: 190

وقال(عليه السلام): «أين الجبابرة وأبناء الجبابرة».

وقال(عليه السلام): «أين أهل مدائن الرس الذين قتلوا النبيين وأطفئوا نور المرسلين».

وقال(عليه السلام): «أين الذين كانوا أحسن آثاراً، وأعدل أفعالاً، وأكبر (أكثر) ملكاً».

وقال(عليه السلام): «أين الذين قالوا: من أشد منا قوة وأعظم جمعاً».

وقال(عليه السلام): «أين الذين عسكروا العساكر ومدنوا المدائن».

وقال(عليه السلام): «أين الذين هزموا الجيوش وساروا بالألوف».وقال(عليه السلام): «أين الذين شيدوا الممالك ومهدوا المسالك وأغاثوا الملهوف وقروا الضيوف».

وقال(عليه السلام): «أين من سعى واجتهد وأعد واحتشد».

وقال(عليه السلام): «أين من حصن وأكد وزخرف ونجد».

وقال(عليه السلام): «أين من جمع فأكثر، واحتقب واعتقد، ونظر بزعمه للولد».

وقال(عليه السلام): «أين من ادخر واعتقد، وجمع المال على المال فأكثر».

وقال(عليه السلام): «أين كسرى وقيصر، وتبع وحمير».

وقال(عليه السلام): «أين من بنى وشيد، وفرش ومهد، وجمع وعدّد».

وقال(عليه السلام): «أين من كان منكم أطول أعماراً أو أعظم آثاراً».

وقال(عليه السلام): «أين من كان أعد عديداً وأكنف جنوداً وأعظم آثاراً».

وقال(عليه السلام): «أين الملوك والأكاسرة».

وقال(عليه السلام): «أين بنو الأصفر (الأصغر) والفراعنة».

وقال(عليه السلام): «أين الذين استذلوا الأعداء وملكوا نواصيها».

وقال(عليه السلام): «أين الذين بلغوا من الدنيا أقاصي الهمم».

وقال(عليه السلام): «أين الذين دانت لهم الأمم».

وقال(عليه السلام): «أين الذين ملكوا من الدنيا أقاصيها».

ص: 191

الفصل السادس: عمال الدولة

الفصل السادس: عمال الدولة(1)

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الأعمال تستقيم بالعمال».

وقال(عليه السلام): «احرس منزلتك عند سلطانك، واحذر أن يحطك عنها التهاون عن حفظ ما رقاك إليه».وقال(عليه السلام): «الق دواتك، وأطل جلفة قلمك، وفرق بين سطورك، وقرمط بين حروفك؛ فإن ذلك أجدر بصباحة الخط».

وقال(عليه السلام): «أطع من فوقك يطعك من دونك، وأصلح سريرتك يصلح اللّه علانيتك».

وقال(عليه السلام): «آفة الأعمال عجز العمال».

وقال(عليه السلام): «تولي الأراذل والأحداث الدول دليل انحلالها وإدبارها».

وقال(عليه السلام): «شر الولاة من يخافه البري ء».

وقال(عليه السلام): «شر الوزراء من كان للأشرار وزيراً».

وقال(عليه السلام): «كذب السفير يولد الفساد، ويفوت المراد، ويبطل الحزم، وينقض العزم».

وقال(عليه السلام): «من خانه وزيره فسد تدبيره».

وقال(عليه السلام): «وزراء السوء أعوان الظلمة وإخوان الأثمة».

وقال(عليه السلام): «طلب السلطان من خداع الشيطان».

الفصل السابع: آفات الحكومة
البغي

الفصل السابع: آفات الحكومة(2)

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «آفة الاقتدار البغي والعتو».

ص: 192


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 345.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 345.

وقال(عليه السلام): «ألأم البغي عند القدرة».

وقال(عليه السلام): «الأمل يخدع، البغي يصرع».

وقال(عليه السلام): «البغي يسلب النعمة».

وقال(عليه السلام): «البغي يوجب الدمار».

وقال(عليه السلام): «البغي يصرع الرجال ويدني الآجال».

وقال(عليه السلام): «إياكم وصرعات البغي، وفضحات الغدر، وإثارة كامن الشر المذمِّم».

وقال(عليه السلام): «إذا استشاط السلطان تسلط الشيطان».

وقال(عليه السلام): «للباغي صرعة».

وقال(عليه السلام): «من نال استطال».

وقال(عليه السلام): «من بغى كسر».

وقال(عليه السلام): «من بغى عجلت هلكته».

وقال(عليه السلام): «من سل سيف البغي غمد في رأسه».

وقال(عليه السلام): «ما أعظم عقاب الباغي».

وقال(عليه السلام): «ما أسرع صرعة الطاغي».

وقال(عليه السلام): «ما أعظم وزر من ظلم واعتدى، وتجبر وطغى».

وقال(عليه السلام): «ما أقرب النقمة من أهل البغي والعدوان».

وقال(عليه السلام): «ويل للباغين من أحكم الحاكمين وعالم ضمائر المضمرين».

وقال(عليه السلام): «لا ظفر مع بغي».

الانتقام

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «دع الانتقام فإنه من أسوء أفعال المقتدر، ولقد أخذ بجوامع الفضل من رفع نفسه عن سوء المجازاة».

ص: 193

وقال(عليه السلام): «أقبح أفعال المقتدر الانتقام».

وقال(عليه السلام): «المبادرة إلى الانتقام من شيم اللئام».

وقال(عليه السلام): «سوء العقوبة من لؤم الظفر».

وقال(عليه السلام): «من انتقم من الجاني أبطل فضله في الدنيا وفاته ثواب الآخرة».

وقال(عليه السلام): «لا سؤدد مع انتقام».

التكبر

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «آفة الرئاسة الفخر».

وقال(عليه السلام): «الهيبة مقرونة بالخيبة».

وقال(عليه السلام): «قرنت الهيبة بالخيبة».

وقال(عليه السلام): «التكبر في الولاية ذل في العزل».

وقال(عليه السلام): «من تكبر في سلطانه صغره».

وقال(عليه السلام): «من تكبر في ولايته كثر عند عزله (غزله) ذلته».

وقال(عليه السلام): «من اختال في ولايته أبان عن حماقته».

الظلم والجور

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «آفة العمران جور السلطان».

وقال(عليه السلام): «بئس السياسة الجور».

وقال(عليه السلام): «القدرة يزيلها العدوان».

وقال(عليه السلام): «في احتقاب المظالم زوال القدرة».

وقال(عليه السلام): «من جارت أقضيته (قضيته) زالت قدرته».

وقال(عليه السلام): «من طال عدوانه زال سلطانه».

وقال(عليه السلام): «من جارت ولايته زالت دولته».

وقال(عليه السلام): «من عامل رعيته بالظلم أزال اللّه ملكه وعجل بواره وهلكه

ص: 194

(هلاكه)».

وقال(عليه السلام): «الظلم بوار الرعية».

وقال(عليه السلام): «في الجور هلاك الرعية».

وقال(عليه السلام): «راكب الظلم يدركه البوار».

وقال(عليه السلام): «ليس شيء أفسد للأمور ولا أبلغ في هلاك الجمهور من الشر».

وقال(عليه السلام): «من جار ملكه عظم هلكه».

وقال(عليه السلام): «من جار في سلطانه وأكثر عدوانه، هدم اللّه بنيانه وهدّ أركانه».

وقال(عليه السلام): «من جار في سلطانه عُدّ من عوادي زمانه».

وقال(عليه السلام): «للظالم انتقام».

وقال(عليه السلام): «السلطان الجائر يخيف البريء».

وقال(عليه السلام): «بئس الظلم ظلم المستسلم».

وقال(عليه السلام): «قلوب الرعية خزائن راعيها فما أودعها من عدل أو جور وجده».

وقال(عليه السلام): «من ظلم رعيته نصر أضداده».

وقال(عليه السلام): «ما جار شريف».

الاستبداد

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «بئس الاستعداد الاستبداد».

وقال(عليه السلام): «للّه سبحانه حكم بيّن في المستأثر والجازع».

وقال(عليه السلام): «من ملك استأثر».

وقال(عليه السلام): «من قنع برأيه فقد هلك».

وقال(عليه السلام): «من استغنى بعقله ضل».

وقال(عليه السلام): «من استبد برأيه زل».

وقال(عليه السلام): «من استبد برأيه خفت وطأته على أعدائه».

ص: 195

وقال(عليه السلام): «من استبد برأيه (فقد) خاطر وغرر».

آفات متفرقة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «آفة الملك سوء السيرة».

وقال(عليه السلام): «آفة الوزراء خبث السريرة».

وقال(عليه السلام): «آفة الزعماء ضعف السياسة».وقال(عليه السلام): «آفة الرعية مخالفة الطاعة».

وقال(عليه السلام): «آفة القوي استضعاف الخصم».

وقال(عليه السلام): «آفة العدول قلة الورع».

وقال(عليه السلام): «آفة المُلك ضعف الحماية».

وقال(عليه السلام): «آفة القدرة منع الإحسان».

وقال(عليه السلام): «الدولة ترد خطأ صاحبها صواباً، وصواب ضده خطاء».

وقال(عليه السلام): «إذا زادك السلطان تقريباً فزده إجلالاً».

وقال(عليه السلام): «ثلاثة مهلكة: الجرأة على السلطان، وائتمان الخوان، وشرب السم للتجربة».

الفصل الثامن: في الحاكم والحكومة الجائرة
اشارة

الفصل الثامن: في الحاكم والحكومة الجائرة(1)

ذم الحكومة الجائرة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أقبح شيء جور الولاة».

وقال(عليه السلام):«السلطان الجائر والعالم الفاجر أشد الناس نكاية».

وقال(عليه السلام): «الجائر ممقوت مذموم وإن لم يصل من جوره إلى ذامه شيء، والعادل ضد ذلك».

ص: 196


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 347.

وقال(عليه السلام): «أحق الناس أن يحذر السلطان الجائر، والعدو القادر، والصديق الغادر».

وقال(عليه السلام): «آفة العدل الظالم القادر».

وقال(عليه السلام): «إذا فسد الزمان ساد اللئام».

وقال(عليه السلام): «دولة الجاهل كالغريب المتحرك إلى النقلة».وقال(عليه السلام): «دولة الجائر من الممكنات».

وقال(عليه السلام): «دولة الأوغاد مبنية على الجور والفساد».

وقال(عليه السلام): «دول اللئام من نوائب الأيام».

وقال(عليه السلام): «زمان الجائر شر الأزمنة».

وقال(عليه السلام): «سبع أكول حطوم خير من وال ظلوم غشوم».

وقال(عليه السلام): «شر الملوك من خالف العدل».

وقال(عليه السلام): «شر الأمراء من كان الهوى عليه أميراً».

وقال(عليه السلام): «شر الأمراء من ظلم رعيته».

وقال(عليه السلام): «غضب الملوك رسول الموت».

وقال(عليه السلام): «فقدان الرؤساء أهون من رئاسة السفل».

وقال(عليه السلام): «ويل لمن ساءت سيرته، وجارت مَلَكَته، وتجبر واعتدى».

وقال(عليه السلام): «ولاة الجور شرار الأمة وأضداد الأئمة».

وقال(عليه السلام): «لا جور أفظع (أقطع) من جور حاكم».

وقال(عليه السلام): «لا خير في حكم جائر».

وقال(عليه السلام): «مجاملة أعداء اللّه في دولتهم تقية (تقاة) من عذاب اللّه وحذر من معارك البلاء في الدنيا».

وقال(عليه السلام): «مجاهدة الأعداء في دولتهم ومناضلتهم مع قدرتهم ترك لأمر اللّه

ص: 197

وتعرص لبلاء الدنيا».

وقال(عليه السلام): «لئن أمر الباطل لقديماً فعل، لئن قل الحق لربما ولعل، لقلما أدبر شيء فأقبل».

وقال(عليه السلام): «أمارات الدول إنشاء (إنساء) الحيل».

وقال(عليه السلام): «من آثر رضا رب قادر فليتكلم بكلمة عدل عند سلطان جائر».

آثار الحكومة الجائرة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يأتي على الناس زمان لا يُقرّب فيه إلّا الماحل، ولا يستظرف فيه إلّا الفاجر، ولا يضعف فيه إلّا المنصف، يعدون الصدقة غرماً، وصلة الرحم مناً، والعبادة استطالة على الناس، ويظهر عليهم الهوى ويخفى بينهم الهدى».

وقال(عليه السلام): «الملوك (الملول) لا مودة له».

وقال(عليه السلام): «الأمير السوء يصطنع البذي».

وقال(عليه السلام): «المتجبر (المتجر) الظالم توبقه آثامه».

وقال(عليه السلام): «الظالم طاغ ينتظر (ينظر) إحدى النقمتين».

وقال(عليه السلام): «استكانة الرجل في العزل بقدر شره (أثره) في الولاية».

وقال(عليه السلام): «إذا ملك الأراذل هلك الأفاضل».

وقال(عليه السلام): «إذا استولى اللئام اضطهد الكرام».

وقال(عليه السلام): «إذا ساد السفل خاب الأمل».

وقال(عليه السلام): «دولة اللئام مذلة الكرام».

وقال(عليه السلام): «دول الفجار مذلة الأبرار».

وقال(عليه السلام): «دول الأشرار محن الأخيار».

وقال(عليه السلام): «راكب الظلم يكبو به مركبه».

ص: 198

وقال(عليه السلام): «سلطان الجاهل يبدي معايبه».

وقال(عليه السلام): «طاعة الجور توجب الهلك وتأتي على الملك».

وقال(عليه السلام): «ظلم المرء يوبقه ويصرعه».

وقال(عليه السلام): «للظالم بكفه عضة».

وقال(عليه السلام): «من عمل بالجور عجل اللّه هلكه».وقال(عليه السلام): «من جار ملكه تمن الناس هلكه».

وقال(عليه السلام): «من سل سيف العدوان سلب عزّ السلطان».

وقال(عليه السلام): «لا يكون العمران حيث يجور السلطان».

انتهى ما رويناه من كتاب (تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم) عن مولانا أمير المؤمنين علي(عليه السلام).

من هدي القرآن الحكيم

على القائد أن يكون عادلاً قبل كل شيء

قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا}(1).

وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَٰنِ وَإِيتَايِٕ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}(3).

ص: 199


1- سورة النساء، الآية: 58.
2- سورة المائدة، الآية: 8.
3- سورة النحل، الآية: 90.

وقال جلّ وعلا: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}(1).

القائد من الناس وإليهم ومعهم

قال اللّه تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ}(2).

وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(5).

وقال اللّه تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٖ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}(6).

مؤهلات القائد
1- الإيمان

قال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(7).

ص: 200


1- سورة الشورى، الآية: 15.
2- سورة آل عمران، الآية: 164.
3- سورة آل عمران، الآية: 159.
4- سورة التوبة، الآية: 61.
5- سورة الشعراء، الآية: 215.
6- سورة ق، الآية: 45.
7- سورة المائدة، الآية: 55.
2- الكمال في العلم والجسم

قال عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}(1).

3- الأمانة

قال جلّ وعلا: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(2).

4- هداية الناس إلى النجاة

قال اللّه تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِيٓ ءَامَنَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُونِ أَهۡدِكُمۡ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ}(3).

5- الصبر الكبير

قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(4).

من صفات القيادة الباطلة
1- حب النفس

قال عزّ وجلّ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(5).

2- إضلال الناس

قال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَٰتِ أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(6).

ص: 201


1- سورة البقرة، الآية: 247.
2- سورة يوسف، الآية: 55.
3- سورة غافر، الآية: 38.
4- سورة السجدة، الآية: 24.
5- سورة البقرة، الآية: 206.
6- سورة البقرة، الآية: 257.
3- الإفساد وإذلال الناس وسفك دمائهم بغير حق

قال اللّه تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِۦ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(1).

4- الاستبداد بالرأي

قال سبحانه: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(2).

5- اتخاذ عباد اللّه خولاً وما اللّه دولاً

قال اللّه سبحانه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَٰرُ تَجْرِي مِن تَحْتِي}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

على القائد أن يكون عادلاً قبل كل شيء

قال النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها، وجور ساعة في حكم أشد وأعظم عند اللّه من معاصي ستين سنة»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ستة أشياء حسن ولكن من ستة أحسن: العدل حسن وهو من الأمراء أحسن...»(5).

وقال الإمام الصادق(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اتقوا اللّه واعدلوا؛ فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون»(6).

ص: 202


1- سورة القصص، الآية: 4.
2- سورة غافر، الآية: 29.
3- سورة الزخرف، الآية: 51.
4- جامع الأخبار: 154.
5- إرشاد القلوب 1: 193.
6- الكافي 2: 147.
القائد من الناس وإليهم ومعهم

عن أبي ذر قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجئ الغريب فلا يدري أيهم هو، حتى يسأل، فطلبنا إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكاناً من طين، فكان يجلس عليه، ونجلس بجانبيه(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكبادٌ تحن إلى القد

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش...»(2).

وقال(عليه السلام) في كتابه إلى الأشتر النخعي (رضوان اللّه عليه):

«.. واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك! وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك، وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع؛ فإني سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع...»(3).

ص: 203


1- مكارم الأخلاق: 16.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 45 من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.
من صفات القائد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في وصيته لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: «... وأوصيك بتقوى اللّه، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، ولين الكلام، وبذل السلام، وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، وحسن العمل، وقصر الأمل، وحب الآخرة، والجزع من الحساب، ولزوم الإيمان، والفقه في القرآن...»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في كتابه إلى أهل مصر، لما ولى عليهم الأشتر: «... أما بعد فقد بعثت إليكم عبداً من عباد اللّه، لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع...»(2).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «... وأقم به كتابك وحدودك وشرائعك وسننرسولك صلواتك اللّهم عليه وآله وأحي به ما أماته الظالمون من معالم دينك.. وأمحق به بغاة قصدك عوجاً، وألن جانبه لأوليائك، وابسط يده على أعدائك...»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... يحقن اللّه عزّ وجلّ به الدماء، ويصلح به ذات البين، ويلم به الشعث، ويشعب به الصدع، ويكسو به العاري، ويشبع به الجائع، ويؤمن به الخائف...»(4).

ما يجب على القائد أن يتجنبه

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في كتابه للأشتر النخعي لما ولاه مصر: «إياك ومساماة

ص: 204


1- تحف العقول: 26.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 38 من كتاب له(عليه السلام) إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر.
3- الصحيفة السجادية: وكان من دعائه(عليه السلام) في يوم عرفة.
4- الكافي 1: 314.

اللّه في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن اللّه يذل كل جبار، ويهين كل مختال»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً في الكتاب المذكور: «وإياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه»(2).

وقال أيضاً في الكتاب المذكور: «.. وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم... أنصف اللّه وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك ومن لك هوى من رعيتك... وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية... إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة، ولا أعظملتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها...»(3).

ص: 205


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.

نحن والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)

مقاييس تقييم العظماء

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام):

«إنما مثلي بينكم كمثل السراج في الظلمة يستضيء به من ولجها»(1).

إن التاريخ يعرض لنا نماذج من مختلف الأفراد هم يمثلون مدارس ومناهل معطاءة في الحق أو الباطل، إذ تكون حركاتهم وسكناتهم وكلماتهم ووجودهم تعليماً وتربية للإنسان في البعدين، فنماذج الشر تكون أسوة سيئة كقابيل وفرعون ومن أشبه، ونماذج الخير أسوة حسنة... فهم يفيضون خيراً وفائدة في كل مجالات الحياة، ولكن أبرز المجالات التي يُمكن اعتبارها للاستفادة من أولئك العظماء هي:

1- الدين.

2- الدنيا.

3- العلم.

4- القيادة.

وقد أشار الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى صفة الإيمان أيضاً بقوله: «فلقد كنا مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات، فما

ص: 206


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 187 من خطبة له(عليه السلام) وهي في ذكر الملاحم.

نزداد على كل معصية وشدة إلّا إيماناً»(1).

وعلى رأس هؤلاء النماذج الطيبة هم الأنبياء والأولياء خاصة رسول الإسلام وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام) كما قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(2).

وقال الإمام علي(عليه السلام): «ألّا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه»(3).

مولد النور

ولد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في الكعبة المشرفة، وروي أن فاطمة بنت أسد(عليها السلام) كانت تطوف بالبيت العتيق وهي حامل بعلي(عليه السلام) فضربها الطلق فلاذت ببعض جوانب البيت وتمسكت بأستار الكعبة وأنشأت تقول:

«رب إني مؤمنة بك، وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل، وإنه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت وبحق المولود الذي في بطني لما يسّرت علي ولادتي».

يقول الراوي: فرأينا البيت وقد انفتح(4) عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا(5).

وكانت ولادته(عليه السلام) في أسعد يوم من أشرف شهر في اشرف بقعة وأقدسها، وذلك في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب المرجب (شهر اللّه) داخل

ص: 207


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 122 من كلام له(عليه السلام) قاله للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 45 من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان واليه على البصرة.
4- وهذا الشق موجود آثاره إلى يومنا هذا، وهو من معجزاته التي ظهرت حين ولادته، ولكن الوهابيين أرادوا محو ذلك الأثر بحجة تعمير مبنى الكعبة.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 132.

البيت الحرام، علماً أن أحداً لم يولد في البيت الحرام لا قبله ولا بعده، فقد تفرد(عليه السلام) بهذه المنقبة الباهرة.

ولذا فإن أبا طالب(عليه السلام) حينما سمع بخبر ولادة علي(عليه السلام) في الكعبة ذهب مسرعاً مهرولاً نحو البيت وهو ينادي: أيها الناس ولد في الكعبة ولي اللّه عزّ وجلّ وكان مسروراً به؛ لمعرفته بعظمته ومحبّته ونصرته للّه ورسوله.

وتبعه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخذ عليا(عليه السلام) فكبر وأقام في أذنيه وضمّه إلى صدره(1).

هذا وأمير المؤمنين علي(عليه السلام) كان ينتقل بين الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، فلم يكن في آبائه وأمهاته كافر أو مشرك من آدم(عليه السلام) فمن دونه، فعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: سألت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن ميلاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «آه آه لقد سألتني عن خير مولد ولد بعدي على سنة المسيح(عليه السلام) إن اللّه تبارك وتعالى خلقني وعلياً من نور واحد، ... ثم نقلنا من صلبه - آدم - في الأصلاب الطاهرات إلى الأرحام الطيبة، فلم نزل كذلك حتى أطلعني اللّه تعالى من ظهر طاهر وهو عبد اللّه بن عبد المطلب فاستودعني خير رحم وهي آمنة، ثم أطلع اللّه تبارك وتعالى علياً من ظهر طاهر وهو أبو طالب واستودعه خير رحم وهي فاطمة بنت أسد»(2).

ولقد كان ميلاده(عليه السلام) خيراً ورحمة للبشرية جمعاء، وقيل إن من بوادر هذه الرحمة أن اصبح الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يسمع الهتاف من الأحجار والأشجار وكشف عن بصره أكثر من ذي قبل، فإذا به يشاهد أنواراً وأشخاصاً ربما ما كان يسمع أو يرى مثل ذلك قبل هذا الميلاد السعيد وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتيمن بتلك السنة

ص: 208


1- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 174.
2- روضة الواعظين 1: 77.

وبولادة علي(عليه السلام) فيها ويسميها سنة الخير والبركة(1).

ولعل الحكمة هي أن ولد للدين ناصر وولي، وللرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخ ووصي، وللمسلمين كهف وإمام يضيء لهم السبيل ويهديهم الصراط المستقيم.

الاسم الشريف والكنية المباركة

الاسم الشريف والكنية المباركة(2)

أشهر أسمائه(عليه السلام): علي، وقد اختار اللّه له هذا الاسم، كما ورد: (علي اشتق من العلي)(3).

ورسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كناه ب- :أبي تراب في قصة معروفة(4).

ومن أشهر كناه: أبو الحسن وأبو الحسين، وأبو السبطين.

وهناك رواية تقول: بأن أمه سمّته(عليه السلام) عند ولادته (حيدرة)(5)

ويؤيده قوله(عليه السلام) يوم خيبر: (أنا الذي سمتني أمي حيدرة)(6).

وقالوا في وجه تسميته بعلي(عليه السلام): إنه(عليه السلام) (علي) من العلو والرفعة والشرف، والظاهر لأنه(عليه السلام) كان علياً في جميع الكمالات والمجالات الدينية والدنيوية وغيرها سماه الباري عزّ وجلّ بهذا الاسم المبارك.

أما حيدرة فإنها اسمٌ من أسماء الأسد(7).. وكذلك كان أمير المؤمنين(عليه السلام) فهو

ص: 209


1- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 115.
2- المراد بالاسم هنا ما يعم اللقب حسب المصطلح العرفي.
3- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 174.
4- علل الشرائع 1: 156.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 12، والإحتجاج 1: 206.
6- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 129 برز الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) إلى مرحب ارتجز وقال: أنا الذي سمتني أمي حيدرة *** ضرغام آجام ليث قسورة على الأعادي مثل ريح صرصرة *** أكيلكم بالسيف كيل السندرة اضرب بالسيف رقاب الكفرة
7- انظر لسان العرب 4: 174 مادة (جدر).

أسد اللّه الغالب(1).

ومن أسمائه وألقابه أيضاً: (البطين) لأنه كان بطيناً من العلم.

وسُمّي (بالأنزع) لأنه أنزع من الشرك(2).

ويسمى أيضاً (بأسد اللّه وأسد رسوله).

وسمي (بيعسوب الدين والمؤمنين)(3)، و(قائد الغر المحجلين)(4) كذلك.

وقد سبق أن علياً مشتق من اسم اللّه الأعلى سبحانه، قال أبوطالب(عليه السلام):

سميته بعلي كي يدوم له *** عز العلو وفخر العز أدومه(5)

وفي المناقب(6):

أنه لما ولد علي(عليه السلام) أخذ أبو طالب(عليه السلام) بيد فاطمة وعلي(عليه السلام) على صدره وخرج إلى الأبطح ونادى:

يا ربّ يا ذا الغسق الدجي *** والقمر المبتلج المضي

بين لنا من حكمك المقضي *** ماذا ترى في إسم ذا الصبي

قال:... وإذا بلوح أخضر كتب فيه:

خصصتما بالولد الزكي *** والطاهر المنتجب الرضي

فإسمه من شامخ علي *** علي اشتق من العليّ

ص: 210


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 259.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 47، وفيه قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): (يا علي إن اللّه تعالى قد غفر لك ولأهلك ولشيعتك ومحبي شيعتك فأبشر فإنك الأنزع البطين منزوع من الشرك بطينٌ من العلم).
3- اليعسوب: أمير النحل وهو أحزمهم يقف على باب الكوارة كلما مرت به نحلة شم فاها، فإن وجد منها رائحة منكرة علم أنها رعت حشيشة خبيثة فيقطعها نصفين، وكذلك أمير المؤمنين(عليه السلام) فهو يقف على باب الجنة فيشم أفواه الناس فمن وجد منه رائحة بغضة ألقاه في النار. (انظر تذكرة الخواص 1: 119. لابن الجوزي: ص4).
4- انظر بشارة المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم): 24.
5- كشف الغمة 1: 87.
6- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 174.

قال: فعلقوا اللوح في الكعبة، وما زال هناك حتى أخذه هشام ابن عبد الملك.

فيا له من مولود طاهر، من نسل طاهر، في موضع طاهر! فأني لغيره أن يحوز هذه الكرامة.

ولا عجب من تعدد الأسماء، في هذه الروايات، فإنه دليل على كمال المسمى.

من فضائله(عليه السلام)

وقد امتاز أمير المؤمنين علي(عليه السلام) بصفات عديدة لا يسع المقام لبيانها ولو اجمالاً.

ونكتفي هنا بما أشار إليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قوله: «من أراد أن ينظر إلى آدم في خلقه، وإلى نوح في حكمته وإلى إبراهيم في حلمه فلينظر إلى علي بن أبي طالب»(1).

الإيمان بأمير المؤمنين(عليه السلام)

لماذا نؤمن بالإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) ونعتقد بولايته؟

وما هي فوائد الإيمان بذلك؟

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «حب علي إيمان وبغضه نفاق لا يحب علياً إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا كافر»(2).

فأول فائدة في معرفة الإمام(عليه السلام) والاعتقاد به يعود للإنسان نفسه، فإن أمير المؤمنين(عليه السلام) كلما تعرف عليه المجتمع البشري بشكل عام والمجتمع الإسلامي بشكل خاص كلما كان يعود بالنفع عليهم وإن لم يكتسب هو(عليه السلام) من ذلك أية

ص: 211


1- الأمالي للشيخ المفيد: 14.
2- الروضة في فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام): 94.

منفعة لنفسه، كما أنه(عليه السلام) لايضره شيء حتى لو أساءت كل الدنيا إليه وهجرته.

فمعاوية عندما اخذ يسب ويلعن علياً(عليه السلام) على المنابر وأمر بذلك جميع ولاته، لم يتضرر به الإمام(1) أي ضرر، حيث أنه(عليه السلام) مستغنٍ عن مدحنا له على المنابر أو في المحافل العامة وإنما تضرر معاوية وتضرر المسلمون وتضررت البشرية جمعاء وحتى الأجيال القادمة.

فالمسألة بالعكس تماماً، فنحن الذين ننتفع بمدحه(عليه السلام) ونستفيد من فضائله ومناقبه(عليه السلام)، ونتضرر إذا ابتعدنا عن نهجه وتكبّرنا عن الاقتداء به، ومن هنا قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ذكر علي عبادة»(2)، فإن العبادة توجب التقرب إلى اللّه وتكامل الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، وهكذا يكون ذكر علي(عليه السلام) فإنه يوجب السعادة الدنيوية والاخروية.

علماً بأن الذكر يشمل الذكر العملي أيضاً كما لا يخفى.

وقد أشار الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى ذلك بقوله: «وان ههنا لعلماً جماً - وأشار إلى صدره - ولكن طلابه يسير، وعن قليل يندمون لو فقدوني»(3).

ويمكن تقريب الصورة إلى الذهن بمثالٍ: فلو أن الناس احترموا الطبيب الذي يعيش بينهم والتفوا حوله، سوف تقل مرضاهم ولصدّ نوعاً ما عن أمراضهم، وحافظوا على سلامتهم وصحتهم.

أما إذا تركوا الطبيب ولم يلتفوا حوله بل أهانوه و... فستزداد أمراضهم، وتسلب راحتهم وتصبح سلامتهم وحالتهم البدنية معرضة للآفات والأمراض، أما الطبيب نفسه فلا ينتفع بنفعهم ولايتضرّر بضررهم بشكل أساسي، بل هم

ص: 212


1- انظر كشف الغمة1: 109، والاحتجاج 2: 293.
2- الإختصاص: 224.
3- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 205.

المنتفعون إذا اهتموا بطبيبهم وأصغوا إلى نصائحه وتوجيهاته، وهم المتضررون إذا تخلوا عنه.

وأين الطبيب من أمير المؤمنين علي(عليه السلام) الذي لا يمكن الاستغناء عنه في جميع مرافق الحياة، وكل مراحل العمر، وما ذكرناه - آنفاً - ليس إلّا مثالاً لتقريب الصورة لا أكثر.

ومع كل هذا، رأينا كيف ظلم بعض الناس أنفسهم وانفضوا من حول الإمام علي(عليه السلام)، ففروا من نوره الشعشاع إلى ظلماتهم الدامسة.

لقد كان(عليه السلام) يناديهم بين الحين والآخر بقوله: «أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم، وأديت إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم... للّه انتم! أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم السبيل؟»(1).

في حين أن على الناس أن يختاروا الأفضل دائماً وقد عين رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأئمة من بعده حيث قال: «الخلفاء بعدي اثنا عشر»(2).

وقال: «أولهم أنت يا علي وآخرهم القائم»(3)، ولكن الناس أخّروا علياً فأخروا حظهم بذلك.

ولذلك نرى المسلمين تخلفوا باتباعهم أمثال معاوية... .

وكذلك المسلمون اليوم إذا لم يرجعوا إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) سيكون مصيرهم السقوط والتخلف، لأن أمير المؤمنين(عليه السلام) نور الهي يضيء الدرب لكل المجتمعات الإنسانية إذا ما علمت بقوله وآمنت به واقتدت بسيرته، فهو الذي يعطي العلماء علماً، وللمجاهدين قوةً، وللصابرين صبراً، وللمتقين روحاً وتقوى،

ص: 213


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 182، وكان من خطبة له(عليه السلام) بالكوفة... .
2- الخصال 2: 468.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 111.

وللمضحّين إخلاصاً، وللسياسيين درساً، وللاقتصاديين منهجاً، وللحكام برنامجاً، وللشعب تقدماً، وحتى لغير المسلمين رحمة وعطفاً... .

وهو الذي يعطي جميع ما يحتاجه الناس في الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر(1):

من ذا بخاتمه تصدق راكعاً *** وأسره في نفسه إسراراً

من كان بات على فراش محمد *** ومحمد أسرى يؤم الغارا

من كان في القرآن سمي مؤمناً(2) *** في تسع آيات تلين غزارا(3)

في حين أننا نرى غيرنا يقتدون بأنبيائهم وأئمتهم - ولو بنسبة - رغم عقائدهم المنحرفة، فالمسيح(عليه السلام) نبي من أولي العزم، لكن المسيحيين عرفوه بشكل غير صحيح ودون مستواه الرفيع لا بواقعه الذي نعرفه نحن المسلمون، إنهم عرفوه باعتقادات منحرفة، ومع ذلك يعملون بتعاليمه التي أرادوها ويطبقونها ويسعون إلى التبشير بها، ويقولون: بأنه المنقذ لهم في الدنيا والآخرة.

قال القرآن الحكيم: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُنَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَٰبِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(4).

فلو عملنا - نحن المسلمون - أصحاب الاعتقاد الصحيح والرسالة المحمدية مثل ما يعمل المسيحيون أو غيرهم سنصل بأسرع وقت إلى قمة الحضارة من جديد وتأسيس حكومة المليار ونصف مليار مسلم(5)، التي دعا إليها الإسلام

ص: 214


1- حسان بن ثابت.
2- انظر تفسير القمي 1: 255.
3- تذكرة الخواص 1: 181، وذكر بعضهم: في تسع آيات جعلن كباراً.
4- سورة آل عمران، الآية: 78.
5- بلغ عدد المسلمين المليارين حسب آخر الإحصاءات.

وأئمة أهل البيت(عليه السلام) فقال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِۦ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(3).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «من قصر في العمل ابتلى بالهم»(4).

ميلاد المسيح(عليه السلام)

قبل عدة أيام مرت علينا مناسبة ذكرى ميلاد المسيح(عليه السلام)، وفي هذه المناسبة ترى أنه كيف يهتم المسيحيون بذلك كباراً وصغاراً، نساءاً ورجالاً، دولاً وشعباً، رجال دين وغيرهم، وفي مختلف أنحاء العالم، ويقومون بأشياء عجيبة حقاً، ولو أردنا مقايستها ببعض أعمالنا وأنشطتنا التي نقيمها في مناسباتنا الدينية فقد لا تقبل المقايسة، فإن إحدى البلدان المسيحية(5)، صرفت بهذه المناسبة عشرة مليارات دولار، وهذا في دولة واحدة.

علماً بأن هؤلاء المسيحيين ما عرفوا المسيح(عليه السلام) حق معرفته كما عرفه الإسلام، ولم يدركوا حقيقة المسيح(عليه السلام) في صورته الصحيحة، لكنهم يهتمون بذلك كثيراً، لأنهم عرفوا أن المسيح(عليه السلام) الذي بُعث لهم نبياً قبل حوالي ألفي سنة كان لهم منقذاً ومحرراً، ويعتقدون بأنه(عليه السلام) ينقذهم ويحررهم في الدنيا والآخرة.

هذا وعلينا أن نهتم بقادتنا وأئمتنا(عليهم السلام) وخاصة أمير المؤمنين(عليه السلام) وأقل الواجب الاهتمام بمناسباتهم من المواليد والوفيات وما أشبه.

ص: 215


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.
3- سورة التوبة، الآية: 105.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 127.
5- وهي اسبانيا.

من بركاتهم(عليهم السلام)

اشارة

إن العالم قبل بعثة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان غارقاً في الجهل والظلمات وكان مشرفاً على الهلاك والفساد المطلق... فلما بعث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنجى البشرية من ذلك، ومن بعده أمير المؤمنين(عليه السلام) استمر في نفس النهج القويم وبيّن للعالم بأجمعه طرق العدالة والتقدم.

فما نراه اليوم من بعض الرفاه والتقدم العلمي وما أشبه فهو من بركات رجال اللّه وأوليائه ووجودهم، ومن نعم وجود الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين علي(عليه السلام) ومن قبلهم ومن بعدهم من السيد المسيح والأئمة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام جميعاً.

هؤلاء هم الذين جاءوا للدنيا بالنهج المستقيم، وهم الذين علّموا الناس كيف يعملون وكيف يتخلقون وكيف يعاشرون وكيف يتزوجون وكيف يتحلون بالآداب وغير ذلك، لأنهم (عليهم الصلاة والسلام) كانوا مدارس ومصانع إنسانية ضخمة تصنع الإنسان القويم، كما تصنع المعامل الدواء واللباس والأواني وما شابه، قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في بعثة الرسل وفضل أهل البيت(عليهم السلام):

«بعث اللّه رسله بما خصّهم به من وحيه، وجعلهم حجّة له على خلقه: لئلا تجب الحجة لهم بترك الإعذار إليهم، فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحق... أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا، أن رفعنا اللّه ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى...»(1).

لذا يجب أكبر الاهتمام بهم(عليهم السلام) والاحتفال بذكراهم والاقتداء بسيرتهم؛ لأنهم

ص: 216


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 144 من خطبة له(عليه السلام).

قناديل الحياة ومشاعل الدروب ومصابيح الهدى وسفن النجاة والقادة إلى سعادة الدين والدنيا، فإن الرسل(عليهم السلام) كانوا صادقين في أعمالهم وكلماتهم وملاحظين للواقع البشري وما يحتاجه، لأن الذي بعثهم هو اللّه تعالى العالم بكل شيء، ولأنه أرسلهم بعد الإختيار والتعليم، فلم يكن هناك تقصير أو مخالفة من الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، ولكن الاختلاف والتقصير كان من المسلمين أنفسهم.

وأول الواجبات التي يجب علينا أن نرجع إليهم(عليهم السلام) ونعمل بما بينوه في هذا السبيل ونحيي معالمهم وذكراهم فإنه إحياء معالم الدين.

وفي إحياء ذكرى ولادة الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام) إحياء للاسلام وللقيم السامية التي جاء بها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فعلينا أن نقوم بأعمال كثيرة منها الأعمال التالية:

أولاً: دراسة نهج البلاغة
اشارة

يلزم علينا أن نتناول كتاب (نهج البلاغة) بالدرس والتحليل مثلما نولي اهتمامنا بشرح كتاب (المكاسب) و(الكفاية) وأمثالهما من كتبنا العلمية المهمة، ونجعل دراسته ضمن المنهج اليومي للحوزة العلمية المباركة، بل كل مدارسنا الأكاديمية والجامعية أيضاً.

فلا يمكن القول: - ولا أتصور من يزعم ذلك - بأن نهج البلاغة أقل من كتاب المكاسب أو كتب الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة التي تدرس في الجامعات العلمية.

فكما يجلس خمسمائة من الطلبة كل يوم ينهلون من كتاب المكاسب مثلاً عند أحد الأساتذة الأفاضل، يجب أن يجلس عدد أكبر بكثير لدراسة نهج البلاغة عند أستاذ عالم أيضاً، فإن نهج البلاغة أكبر وأهم في المحتوى والتأثير من أي كتاب

ص: 217

آخر سوى القرآن الحكيم، وقد وصفه السيد الرضي (قدس اللّه سره): ب(الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي)(1).

ووصفه الشيخ محمد عبده في مقدمته لشرح نهج البلاغة بقوله: (... وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً فصل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد النور الأجلى...)(2).

فكلام أمير المؤمنين(عليه السلام) يمثل قمة البلاغة وقمة التقدم في مختلف مجالات الحياة، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد: «انظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها وتملكه زمامها، وأعجب لهذه الألفاظ المنصوبة يتلو بعضها بعضاً كيف تواتيه وتطاوعه سلسة سهلة تتدفق من غير تعسف ولا تكلّف...»(3).

ومن كلام للشيخ الكليني (قدس اللّه سره) في الكافي: (فلو اجتمع ألسنة الجن والإنس - ليس فيها لسان نبيّ - على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتى به (علي(عليه السلام)) بأبي وأمي ما قدروا عليه)(4).

وهناك أقوال كثيرة وعديدة لعلماء كبار من مختلف المذاهب والقوميات، مسلمين وغير مسلمين، في بيان موقع نهج البلاغة من حياتنا.

ولكن من المؤسف جداً: أن الأمّة الإسلامية لم تستفد منه تمام الاستفادة، فاقتصرت معرفته على طبقة معينة من المجتمع الاسلامي، في حين أن عامة الناس قد حرموا من هذا المنهل المبارك الذي هو أصل كل حركة فكرية وتقدمية

ص: 218


1- انظر مقدمة السيد شريف الرضي(رحمه اللّه) لنهج البلاغة تحقيق الدكتور صبحي صالح.
2- مقدمة نهج البلاغة لمحمد عبده.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 146.
4- الكافي 1: 136، قريناً منه.

ومصدر صاف لأفكار الإسلام واشعاعاته.

فلذلك يجب أن يدرّس نهج البلاغة في حوزاتنا العلمية وكذلك المدارس الأكاديمية، وتنشر مفاهيمه من خلال المنابر الحسينية، وفي مختلف الكتب وعبر الإذاعات والصحف والأقمار الصناعية وما أشبه كي يكون نهج البلاغة نهج الفلاح ونهج النجاح والتقدم للأمة الإسلامية بل البشرية جمعاء كما هو الواقع في ذلك.

كتاب الحقائق الكونية والإنسانية

حينما كنا في الكويت كان هناك شخص(1) على مستوى جيد من العلم وكان أستاذاً في جامعة كامبرج في إنجلترا، وقد تسنّم منصباً حكومياً جيداً في الدولة، وله عدة مؤلفات منها: (في بيت فاطمة(عليها السلام)).

وقد نقل لبعض أصدقائنا: أنه حينما كنا ندرس بجامعة كامبرج دار هناك حديث أستاذنا حول نهج البلاغة، فقال الأستاذ: كتاب نهج البلاغة هو كتاب لو أن الدنيا عملت به لساد السلام فيها.

يعني أن هذه الحروب التي نشهدها اليوم ستزول من الدنيا، ويعم الرفاه وتتحقق السعادة بما لها من معنى.

ثم أخذ يمدح ذلك الأستاذ نهج البلاغة كثيراً.

يقول الدكتور: فقلت لأستاذنا يا أستاذ، إذا كان الأمر هكذا فاللازم دعوة المسلمين للعمل بنهج البلاغة قبل غيرهم.

فقال بامتعاض: اتركهم!

قلت له: لماذا؟

ص: 219


1- وهو الدكتور عبد الصمد التركي.

قال: إنهم لو عملوا بنهج البلاغة فستنتهي سيادتنا، فنحن أسياد العالم ما لم يعمل المسلمون بنهج البلاغة، ولو عمل المسلمون يوماً بنهج البلاغة سيكون ذلك اليوم هو النهاية المحتومة لسيادتنا على العالم.

هذا هو الواقع لأن نهج البلاغة ليس كتاباً عادياً قام بتدوينه شخص عادي، فهو كتاب حقائق كونية تبدأ من معرفة الباري عزّ وجلّ وتنتهي بالجنة وما بينهما تشع مشاعل الحياة الحرة الكريمة.

فنهج البلاغة يحث الناس على العدالة والمساواة والصبر والحكمة والتقدم وعدم الخضوع تحت الظلم و...

ويصلح أن يكون كتاباً للحياة.

ونهج البلاغة يقول: لا يسبقكم إلى صناعة الطائرة والصعود إلى القمر غيركم. حيث أشار إلى ذلك أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: «أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض...»(1).

والمراد بطرق السماء أعم من التي تنزل منها الملائكة، وتصعد فيها أعمال العبد، فتشملّ ما يمكن للإنسان أن يصعد منها إلى السماء، أو يسير فيها من مكان إلى مكان، كما اكتشف أخيراً أن هناك في طبقات الجو تيارات هوائية وفراغات ممتدة إذا سارت الطائرة في بعضها أصابها العطب.

إن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يعلم بطرق السماء جيداً فكيف بالأرض؟

فإن العالم بطرق السماء لا بد وأن يعلم بكل شيء في الأرض، وذلك لأن الذي أطلعه على غيوب السماوات وأسرارها أطلعه أيضاً على حقائق الأرض وأسرارها {عَٰلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِۦ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ فَإِنَّهُ

ص: 220


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 189 من كلام له(عليه السلام) في الإيمان ووجوب الهجرة.

يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦ رَصَدًا}(1).

فاللّه تعالى هو عالم بكل الغيوب وعلّمها إلى رسله وعلى رأسهم النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو الذي علّمها لأمير المؤمنين(عليه السلام) وأمير المؤمنين علمها للأئمة من بعده... .

فعلي(عليه السلام) بيّن الكثير من العلوم للناس بخطبه وأحاديثه ومواعظه التي جمعت في كتابه نهج البلاغة.

فنهج البلاغة لم يدع شيئاً في الأرض ولا في السماء إلّا وقد بيّنه لنا ولو بنسبة أو أخرى.

ثانياً: التبليغ ونشر التعاليم الإسلامية
اشارة

الواجب الثاني في احياء ذكرى أمير المؤمنين(عليه السلام) هو الاهتمام بالتبليغ ونشر التعاليم الإسلامية، فإننا حينما كنا يوماً مرتبطين بالاسلام عملاً لا انتساباً فقط، قمنا بفتح الدنيا فضمها الإسلام بين ذراعيه، وكان ذلك على ضوء المنطق لا السيف، نعم كان السيف للدفاع فقط.

لأن الإسلام حينما جاء قام بعمل مهم وهو تحكيم المنطق في الأمور، وفرض العدل كقانون عملي يتحكم بين الناس، وما كان حكم السيف إلّا للمجرمين. وبهذا العمل انتشر الإسلام في الحجاز وإلى أقصى نقطة في العالم.

أما المسلمون اليوم فلم يبرحوا أماكنهم، ولم يعملوا شيئاً لنشر الإسلام، وذلك لابتعادهم عن اللّه سبحانه وتعالى ورسوله والأئمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)، وانشغالهم بقضايا جانبية وبخلافات مفتعلة بينهم هنا وهناك.

ص: 221


1- سورة الجن، الآية: 26-27.
الشيعة والآخرون

اليوم هناك فئات دينية ودنيوية كثيرة تتسابق على الساحة العالمية نذكر منها:

1- المسيحيين.

2- الوهابيين.

3- الشيعة.

ولا بأس بالمقايسة الإجمالية بين ما نعمله وما يعمله الآخرون رغم انحراف آرائهم ومذاهبهم، لكي نعرف إلى أي حدٍّ سبقونا في هذا المجال ولنشعر بالمسؤولية أكثر فأكثر.

انتشار الوهابية

في السنة الماضية(1)

دعا الوهابيون إلى مؤتمر عقد في إحدى الدول الغربية(2)،

لمدة عشرة أيام، وكان الغرض منه هو معرفة الطرق الكفيلة بترويج مذهب الوهابية ونشره في العالم، وكان عدد الذين حضروا المؤتمر من كافة أقطار العالم مائة وخمسون ألف شخص.

وقد عقدوا مؤتمراً آخر في (اسلام آباد) في الباكستان، حضره مائتا ألف شخص.

انظر كيف يتحرك الوهابيون؟

ونحن ماذا فعلنا؟

فكم عقدنا من مؤتمرات للبحث عن الشيعة وسبل تقدمها، بل لحلّ مشاكلها؟

والوهابية الآن أخذت تلتهم الدنيا بمبادئ خرافية فاسدة تصطدم بالعقل

ص: 222


1- عام (1412ه) المصادف (1991م).
2- وهي بلجيكا.

والمنطق والدين، ولكن؛ لأنهم يعملون - وإن كان على باطلهم - يتقدمون، لأن اللّه تعالى وضع في الكون قوانين للتقدم والتأخر فمن سلك قوانين التقدم تقدم ومن تخلى عنها تأخّر، وأولها العمل والهمة والإصرار على تحقيق الهدف وما أشبه. نعم الموازين الإلهية في الآخرة لا ترجح فيها إلّا كفة الصالحين والمؤمنين {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}(1). فإن اللّه سبحانه في عالم الدنيا يمد المؤمن والكافر معاً، اختباراً وامتحاناً لهما ولغيرهما، قال عزّ وجلّ: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ}(2).

واللّه تعالى قادر على أن يجعل يد شمر اللعين حينما تجرأ على قتل الإمام الحسين(عليه السلام) كالخشبة اليابسة لكيلا يستطيع قطع رأس الحسين(عليه السلام) ولكنه سبحانه لم يفعل ذلك لحكم ومصالح أولها الاختبار.

والقاعدة أن اللّه سبحانه يمتحن ويبتلي الإنسان ويضع أمامه أسباب عمل الخير وأسباب عمل الشر ولو لم يخلقه قادر على الشر، لأصبح الإنسان مجبراً وبطل فيه امتحان الدينا والحساب في الآخرة.

فيجب العمل بأحكام الإسلام بجد وهمة لنتقدم على الآخرين الذين يتمتعون بنفس المواهب الإلهية ولكنهم بعملهم يتقدمون علينا، هذا وقد وعدنا اللّه بالنصر حيث قال: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(3).

انتشار المسيحية

لقد قرأت قبل سنتين في جريدة عربية(4)، خبراً مفاده أن البابا في الفاتيكان

ص: 223


1- سورة النساء، الآية: 124.
2- سورة الإسراء، الآية: 20.
3- سورة محمد، الآية: 7.
4- جريدة القبس الكويتية.

استطاع في مدة سنة واحدة، طبقاً للتقارير اليومية، أن يدخل ستين ألفاً من الناس في المسيحية.

تصوروا كم يمتلك هؤلاء من القدرة والقوة.

وفي الهند حيث يعيش (800) مليون كافر استطاعت المسيحية أن تجعل من بينهم عشرين مليوناً نصارى. ولقد شاهدت بنفسي حينما كنت في الكويت، أن تعداد الشيعة كان (330) ألف نسمة، أي ما يقارب ثلث المليون، وما كانوا يمتلكون أكثر من (15) مسجداً في كل البلد(1)، أما المسيحيون فكان عددهم في ذلك البلد حوالي مائة نفر فقط في حين أن كنائسهم كانت (21) كنيسة، كما كانت لهم عدة مدارس، وقد ذهب بعض الأصدقاء إلى إحداها، وهي مدرسة (فجر الصباح) في منطقة الفحيحيل وشاهدها عن قرب(2)، واطلع على محتواها وبرامجها.

كما كتبت الجريدة أن ما جمع هذه السنة من التبرعات لغرض العمل التبشيري يصل إلى (140) مليار دولار، وإن البابا لديه من الكادر المخصص للتبشير أربعة ملايين مبشر، وقد وفرت لهم كل المستلزمات المطلوبة من وسائط النقل والتمويل والرواتب الكافية.

هذا ما يعمله الآخرون.

فما هو واجبنا وكيف ننشر الإسلام؟

كيف ننشر الإسلام؟

إذا أردنا أن ننشر الإسلام بالشكل المناسب يلزم وضع برنامج عالمي لغرض

ص: 224


1- وقد عمل سماحة الإمام السيد الشيرازي(رحمه اللّه) حينها جاداً حتى صار تعداد المساجد (24) مسجداً تقريباً كما تأسست الحسينيات هناك وازدادت أيضاً في ما بعده أيضاً.
2- مدرسة فجر الصباح مدرسة مسيحية في منطقة الفحيحيل في الكويت، وكان يدرس فيها ثلاثة آلاف طالب مسلم.

التبليغ ودعوة الناس إلى الإسلام؛ لأن العالم اليوم - وبشكل عام - صار يتقبل الحجة والدليل، والإسلام هو الحجة والدليل بكل معانيه المنطقية، إلّا أن قسماً من الحكومات المسلمة تحول دون وصول الإسلام إلى الشعوب.

علماً بأن تقبل الشعوب للإسلام كبير جداً فكما يلتف الناس هنا في بلادنا حول العلماء ويتأثرون بتوجيهاتهم وإرشاداتهم فكذلك الأمر في كندا وبلجيكا وإفريقيا واليابان و...، وهناك كثير من أصدقائنا في أماكن عديدة من العالم كلهم يؤيدون هذا الكلام ويؤكدونه، والناس يلتفون حولهم، لأن المذهب والدين والمبادئ التي يدعون إليها منسجم تماماً مع الفطرة. وكلما اقترب الناس من الدين الإسلامي والمذهب الشيعي واطلعوا على آرائه ونظرياته يجدونه يتلاءم وينسجم مع فطرتهم {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(1).

وجاء في بعض التفاسير: أن فطرة اللّه التي فطر الناس عليها هي الإيمان بشهادة «لا اله إلّا اللّه محمد رسول اللّه علي أمير المؤمنين ولي اللّه»(2).

فلذلك تجد الإسلام والتشيع يلائم الفطرة لأنه دين اللّه الذي أراده للبشر.

وقد اعتاد البعض المهتمين بنشر الإسلام أن يرسل المبلغين إلى المدن القريبة فقط، في حين أن المسيحيين أخذوا يرسلون المبشرين حتى إلى المناطق البعيدة والنائية أيضاً. وكذلك الوهابيون فهم ذهبوا إلى نقاط مختلفة من فرنسا وأخذوا يديرون مائة مسجد للمسلمين هناك.

لماذا نهج البلاغة والتبليغ؟

وبعد الإشارة إلى هذين النقطتين عن أسباب دراسة نهج البلاغة، والعمل من

ص: 225


1- سورة الروم، الآية: 30.
2- تفسير القمي 2: 255.

أجل وصول المبلغين المسلمين إلى جميع أنحاء العالم، وبعد بيان الهمة والنشاط التي يبديها المسيحيون والوهابيون في مجال التبليغ، رغم انحراف عقائدهم ومذاهبهم، أقول:

لا شك أن هذا العمل التبليغي فيه كثير من التعب والمشقة ولكن يلزم علينا أن نتحملها برحابة صدر، وهذا أمر طبيعي، فإنه حتى النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لاقى أكثر التعب أثناء التبليغ الرسالة الإسلامية حتى قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(1)، لأن كل هدف سام في الحياة بحاجة إلى طاقات وجهود وتحمل مشاق ومتاعب في سبيله، ولا تعتقدوا أن العمل التبليغي فقط هو العمل المتعب، بل إن الحياة بشكل عام متعبة حتى أن الحج فيه تعب، والذهاب إلى خراسان للزيارة فيه تعب ونصب لكن على الإنسان أن يتحمله.

والحقيقة أننا حينما نعتقد بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فإن ذلك معناه أن بأيدينا شمساً تضيء لكل العالم وتزيح كل ظلام الوجود لكن علينا أن لا نحرم العالم من معرفة هذا النور.

عهد أمير المؤمنين(عليه السلام)

لقد كان في عهد الدولة القاجارية رئيس للوزراء يدعى (عين الدولة) وقد حكم خمسين سنة، وفي عيد من أعياد النيروز بينما كان جالساً والناس يأتون إليه ويقدمون له الهدايا الثمينة، جاءه أحد طلاب العلوم الإسلامية وقدم لعين الدولة نسخة من (عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر)، وكان العهد مخطوطاً بخط جميل جداً فرحب به عين الدولة وشكره كثيراً متظاهراً باعتزازه بهذه الهدية وقال له: إنك جئت بأفضل الهدايا، فإن الهدايا الأخرى هي هدايا مادية، لكن هديتك

ص: 226


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 3: 247.

هذه هي هدية معنوية.

فقال الطالب لعين الدولة: لقد جئت لك بهذه الهدية لكي تتخذ منها اسلوباً للعمل في حكومتك.

فلما أراد الطالب أن ينصرف، قال له عين الدولة: اجلس، وأخّره حتى الظهر ليتناول معه طعام الغداء، ولما ذهب جميع من في المجلس قال عين الدولة لخادمه: أن يغلق الأبواب ولا يسمح لأحد بالدخول.

ولما ذهب خادمه نظر عين الدولة مغضباً للطالب وقال: ما هذه الهدية التي جئتني بها؟

فقال له الطالب: وماذا فيها؟ فإنك قد امتدحتها قبل قليل.

فقال عين الدولة مستهزءاً: إن علي بن أبي طالب في حياته لم يكن قادراً على فعل شيء مما فيها (يريد الانتقاص بالإمام(عليه السلام))، وأنت الآن بعد (1300سنة) جئتني بهذا (العهد) وتريد مني أن اعمل على ضوئه!!

فقال له الطالب: لقد كنت أتصور أنك تليق بمنصب رئيس الوزراء حقاً، لكني الآن عرفت أن فهمك أقل من فهم السُّذَّج من الناس وأنك غير لائق لهذه الهدية العظيمة، ولكن لتعرف أنه كيف حكم الإمام(عليه السلام) وسيطر على العالم يكفيك موقفك هذا فإنك الآن رئيس الوزراء وبينك وبين الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ألف وثلاثمائة عام، إلّا أنك تخاف من الإمام(عليه السلام) ومن محبيه فتمدحه في مجلسك أمام الملأ، ثم تأتي في هذه الغرفة بعيداً عن الناس وتغلق الباب لتورد على الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) هذا الأشكال السخيف، لقد ظننت أنك تدرك الأمور لكن اتضح لي غير ذلك، ومن أين لنا برجل كعلي بن أبي طالب(عليه السلام)؟، صار سيد الدنيا قبل أن يكون سيد الآخرة هذا، بالإضافة إلى أن أمير المؤمنين(عليه السلام) جلب العزة لنفسه، وصار من أسياد الدنيا وسار على نهجه

ص: 227

الملايين، وبقي اسمه خالداً تذكرهبالعظمة المآذن والمنابر عبر العصور والأزمان، بل وجعل أعداءه وهؤلاء الذين لا ينتمون إليه بل ولا يؤمنون بدينه يمجدونه ويمدحونه بأعظم المدح.

كما أن علي بن أبي طالب(عليه السلام)خلف لذريته المكانة بين الناس، بحيث إنهم حينما يدخلون المجالس فإن الناس يرفعون أصواتهم بالصلاة على محمد وآل محمد ترحيباً بهم.

كما أنهم وحباً لعلي بن طالب(عليه السلام)، يعمرون قبور كل من ذريته(عليه السلام). ويقيمون لهم الأضرحة والمراقد الشامخة المنيرة، ويجعلونها مزاراً ومحلاً للعبادة.

فخجل عين الدولة كثيراً واعتذر له وأعطاه الهدية.

وهذه قم المقدسة فإنها لم تكن بهذا الشكل الذي هي عليه الآن لولا وجود قبر السيدة المعصومة(عليها السلام) وهي من ذرية الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وتم دفنها بعد وفاتها بالسم وهي بعمر (18 عام) وقد نقل المرجع الديني المرحوم السيد المرعشي(رحمه اللّه) قائلاً:

إن قبر السيدة معصومة(عليها السلام) قد تهدم قبل خمسين عاماً، ولما أرادوا اعماره وحفروا قرب جسدها الشريف، رأيت جسدها لا يزال هو هو ولم يمسه شيء وإلى جانبه جسدان لاثنتين من النساء اللاتي كن يخدمن السيدة المعصومة وكأنهما نائمتان!

فاستدل هذا الطالب بآثار من عظمة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ليعيد الحاكم إلى صوابه ويفهمه أن الإمام(عليه السلام) كيف بقي حياً إلى اليوم وسيبقى إلى يوم القيامة.

قوة المنطق

نعم حجتنا نحن المسلمون والشيعة قوية جداً وليس علينا إلّا بيان ذلك للعالم فإنها توافق المنطق وتدعمها أدلة كثيرة نلمسها مادياً ومعنوياً في حياتنا

ص: 228

اليومية...

لو خطب علي(عليه السلام)

ثم إنه لا يقاس بالامام علي بن أبي طالب(عليه السلام) أحد، فإنك حينما تصعد المنبر وتريد أن تتحدث عن أرسطو وأفلاطون وسقراط وابن سينا وعن الرازي وغيرهم من العظماء، تجد أن هؤلاء لا شيء أمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وقد لا يرغب الكثير بالسماع عنهم ولكنك لو جئت بكلام عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) من نهج البلاغة تجد أن جميع الناس يستمعون إليك.

وهذه حادثة رواها أحد المتصرفين(1) في مدينة كربلاء، قال: عندما سافرت إلى دمشق دار حديث بيننا هناك، فقال البعض: لماذا تقدّس الشيعة علي بن أبي طالب إلى هذا الحد دون غيره من الصحابة؟

فقلت لذلك السائل: إني لست من الشيعة، وإني أعمل حاكماً في إحدى المدن ومن أصحاب الشهادات، وجواب هذا السؤال واضح وبأبسط دليل علمي ومنطقي، ففي دمشق - الآن - لو فرضنا أن هناك مسجدين، أحدهما مسجد كبير كالمسجد الأموي، والثاني مسجد صغير جداً، وقالوا: إن علي بن أبي طالب(عليه السلام) وغيره من الخلفاء، أو معاوية، أو هارون، أو المأمون عادوا أحياءً، وعلي بن أبي طالب(عليه السلام) هو الآن يقف خطيباً في ذلك المسجد الصغير، ومعاوية مثلاً، يتحدث من على منبر المسجد الأموي الكبير، فأين سنذهب أنا وأنتم؟ إلى هذا المسجد الذي فيه علي(عليه السلام) أم الى ذلك المسجد الآخر؟

فقالوا: إننا سنذهب حتماً لنستمع إلى علي بن أبي طالب.

فقلت لهم: فإن تقديس الشيعة نابع من أفضلية علي(عليه السلام) على غيره، فمع إنك

ص: 229


1- وهو المتصرف (أحمد حامد الصراف).

لست بشيعي وربما تحمل في نفسك شيئاً عليهم،رجحت الحضور إلى علي(عليه السلام)وإن كان بعد مرور (1350) عام من شهادة الإمام(عليه السلام)، فكيف بالشيعة لا يقدسونه وهم يعرفونه تمام المعرفة ويرتبطون به ارتباطاً وثيقاً!!

وفي الحقيقة لم تكن كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة أمراً عادياً، ولم تكن بعيدة عن الواقع المعاصر، بل كانت منهجاً لكل المجتمعات. وواقع الحال يشير إلى ذلك، لأن الغرب عمل ببعضها وأبعدنا عنها فوصل إلى قمة تقدّمه الحضاري والتكنولوجي دوننا، فإن أمير المؤمنين علياً(عليه السلام) كالشمس بيننا يضيء للعالم أجمع، لكننا جئنا وحصرناه في مدينة واحدة واحتجبنا عنه وعن أنواره. فليس لنا بعد ذلك أن نتساءل بتعجب: لماذا صار العراق هكذا؟ أو أصبح أفغانستان كذا؟ ولماذا هدم مسجد بابري وقتل بسببه (23) ألف مسلم؟(1)

فإن الجواب هو: أن هذه المآسي كلها من تركنا للإسلام ولمنهج أمير المؤمنين(عليه السلام) وبتخطيط من الاستعمار فإنهم عملوا على استغلال أشعة الشمس كلها ووجهوا لنا أشعة كاذبة، أعدت كل ذلك بدراسة ودراية وأبعدتنا عن الشمس الحقيقة وأشعتها المضيئة أي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، والحقيقة أن الشمس ملك لكل العالم، ليست للعراق وحده ولا لأفغانستان أو إيران أو الباكستان، فعلينا أولاً أن نتمسك بهذا النور الطاهر ثم نبينه للعالم أجمع.

كتمان الحقيقة

أما كتمان الحقيقة فمن أشد المحرمات وهذه الخصوصية ذكرها اللّه تعالى حيث قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ

ص: 230


1- مسجد بابري الواقع في مدينة آيوديا في ولاية أوتار براديش الهندية، أحد أكبر المساجد هناك، والذي هُدم من قبل الهندوس في سنة (1992م) بعد نزاع طال أكثر من. (140) عاماً وأسفر النزاع إلى قتل الكثير من المسلمين وفي النهاية إلى هدم المسجد.

فَنَبَذُوهُوَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}(1).

حيث إنه بعد ما كذبت اليهود والنصارى الرسل أخبرنا اللّه تعالى بنقضهم الميثاق والعهود المأخوذة منهم.

والآية تشمل أيضاً من لديهم علم بشي من الكتب السماوية والعهد الذي أخذ عليهم بتبيان الحق، وهو نبوة الرسول الأعظم محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والدين الإسلامي، حيث ألزمهم أن لا يخفوه، ولكنهم ضيعوه وتركوه وراء ظهورهم فلم يعملوا به.

وإن ما نراه اليوم هو استمرار لذلك النقض والتكذيب بكتمان حقيقة أمير المؤمنين(عليه السلام)، فترى كثيراً منهم يعرفون الحقيقة في قلوبهم ولا يبينونها، فعلينا أن نبين هذه الحقائق وعلى رأسها حقيقة أمير المؤمنين(عليه السلام) للعالم بأسره حتى يستضيئوا بنوره.

ص: 231


1- سورة آل عمران، الآية: 187.

نحو إدارة ناجحة

الإدارة والمداراة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن في كل شيء موعظة وعبرة لذوي اللبّ والاعتبار»(1).

الإدارة تنقسم إلى قسمين: إدارة ناجحة، وإدارة فاشلة، ولكل منهما أسباب، فالإدارة الناجحة لا تكون إلّا بمقوماتها، من شروط ومقتضيات وعدم المانع إلى غير ذلك مما هو مذكور في محله. وإلّا ستكون فاشلة.

ومن أهم مقومات الإدارة الناجحة: هي المداراة.

وقد ورد في اللغة: مداراة الناس: المداجاة والملاينة، ومنه الحديث: «رأس العقل بعد الإيمان باللّه مداراة الناس»(2) أي ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا عنك(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث آخر: «رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس، واصطناع الخير إلى كل بر وفاجر»(4). وهذا مصداق من مصاديق المداراة كما لا يخفى.

ص: 232


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 224.
2- تحف العقول: 42.
3- لسان العرب 14: 255.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 35.

إن من أهم ما يلزم الاهتمام به من قبل الجميع: المداراة، التي هي من حُسن الإدارة، وكذلك معرفة الأسس التي سار عليها الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام) في إدارة شؤون المجتمع والتعامل مع الناس مما يُعبّر عنه بفن التعايش، وكذلك معرفة أنه كيف استطاع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)أن يجمع تحت راية الإسلام تلك الأقوام المتناحرة التي كانت تعاني من التفرق والتشتت والجهل والعداوة والبغضاء، وأن يضع لهم برنامجاً متكاملاً لتهذيب النفس، وأن يجعلهم رحماء بينهم، وأن يجنّد الطاقات في سبيل الخير والفضيلة، ويحقق بهؤلاء القوم النصر والغلبة على باقي الأمم المعاصرة لهم في ذلك الزمان وفي كل الميادين؟

وعلى رغم هذه الجهود العظيمة التي بذلها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وضرورة معرفتها والتأسي بها، فإننا لم نشاهد بالمقدار الكافي كتباً وبحوثاً قد تناولت سيرة وحياة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشكل تحليلي متكامل، بحيث يستوفي تلك السيرة العظيمة العطرة المعطاء، ولا يخفى أن هذا العمل صعب للغاية، إلّا أنه لو تحقق ذلك لكان عملاً كبيراً نافعاً جداً.

ونحن لا نريد التنكر لما كتب عن سيرة وتاريخ الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الكتب المهمة الموجودة بأيدينا - وإن كانت قليلة - ، لكن ذلك لم يكن بشكل تفصيلي وتحليلي متكامل ولم يستوف الغرض.

لذا يلزم أن يسعى الجميع ولفائدة الأمة الإسلامية ولكل بني الإنسان، في أن تُكتب سيرة النبي وأهل بيته(عليهم السلام) بشكل مفصّل ومبوّب ووافٍ وبلسان العصر، وذلك بالشكل الذي يكتب فيه الفقهاء الروايات المختلفة التي تبوب في الأبواب المتعددة الفقهية، ويتناولونها بالدرس والتحليل والجمع بين المتعارضين، كما

ص: 233

هو المشاهد من باب الطهارة إلى باب الديات.

فمثلاً، عن كيفية الإدارة يستطيع الكاتب أن يتناول الأساليب التي اتبعها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أثناء إدارته لشؤون بلاد المسلمين، وكذلك في الجانب الاقتصادي والعمراني يكتب عن كيفية تعامل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع هذا الحقل المهم من حياة الناس، وكذلك عن تلك الأخلاقية التي تعامل بها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله(عليهم السلام) في هذه الميادين، لأن المعصومين(عليهم السلام) كانوا في تعاملهم أسوة وقدوة ليس للمسلمين فحسب، بل لكل البشرية على الإطلاق، ولو تم تدوين تاريخهم وأساليبهم في الحياة لأصبح لدى الإنسانية منهجاً كاملاً متكاملاً وأسلوباً ناجحاً بلا شك ولا ريب، تسير عليه الأمم في الحياة الدنيا وتضمن السعادة في الحياة الأخرى.

والحقيقة أن ما يقارب (90%) من خصوصيات وسلوك النبي والأئمة(عليهم السلام) وسيرتهم الطاهرة في مجالات الحياة المختلفة غير مسجلة أو غير متوفرة بأيدينا اليوم، ولو راجعنا التاريخ واستخرجنا بعض ذلك منه متخذين من الدراسة والتحقيق العميق وسيلة إلى ذلك، لاستطعنا أن نفهم بعض تلك الحقائق الحيوية، ولاتخذناها منهجاً نموذجياً حياً نسير عليه في حياتنا.

الخطب اليومية للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ومما يدل على ما ذكرناه من أن الكثير من أساليب الإدارة الناجحة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) لم تصلنا، وأنه قد ذكر في كتب التاريخ أن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يخطب بعد كل صلاة من الصلوات اليومية الواجبة، فكل يوم خمسة خطب، فكم خطبة تكون في حياته الرسالية المباركة؟ هذا بالإضافة إلى سائر خطبه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مختلف المستجدات.

ص: 234

ولكن كم هي الخطب التي وصلتنا؟(1).

فن إدارة المعارضة

اشارة

وكذلك الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) فله مناظرات عديدة مع الخوارج، وهي تبين بدورها أسلوب التعامل مع المعارضة وفن إدارة الأعداء الداخليين، وبعض هذه المناظرات والبحوث والنقاشات كان يطول أكثر من ثمان ساعات أحياناً، ولكنه لم يصلنا منها إلّا الشيء القليل.

روي أن رجلاً من أصحابه قام إليه فقال: إنك نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فما ندري أي الأمرين أرشد؟!

فصفَّق(عليه السلام) إحدى يديه على الأخرى، ثم قال: «هذا جزاء من ترك العقدة، أما واللّه، لو أني حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي جعل اللّه فيه خيراً كثيراً، فإن استقمتم هديتكم، وإن اعوججتم قومتكم، وإن أبيتم تداركتكم لكانت الوثقى، ولكن بمن وإلى من أريد أن أداوي بكم، وأنتم دائي كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أن ضلعها معها. اللّهم قد ملَّت أطباء هذا الداء الدوي، وكلَّت النزعة بأشطان الركي».

فقال(عليه السلام) وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة بعد كلام طويل: «ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة ومكراً وخديعة: إخواننا وأهل دعوتنا استقالونا واستراحوا إلى كتاب اللّه سبحانه، فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم! فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان، وأوله

ص: 235


1- بذل بعض العلماء والمؤرخين جهودهم لجمع خطب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، نذكر منهم: عبد العزيز بن يحيى الجلودي في كتاب الخطب، ذكره النجاشي في رجاله، ومنهم: أبو الحسن المدائني، والشيخ موسى الزنجاني في كتاب مدينة البلاغة في خطب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكتبه ووصاياه، في مجلدين، والسيد محمد سعيد بن السيد ناصر حسين الموسوي اللكهنوي في كتاب معراج البلاغة، وغيرها.

رحمة وآخره ندامة، فأقيموا على شأنكم والزموا طريقتكم وعضوا على الجهاد بنواجذكم، ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق إن أجيب أضل وإن ترك ذل، فلقد كنا مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن القتل ليدور بين الآباء والأبناء والإخوان والقرابات، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلّا إيماناً ومضياً على الحق وتسليماً للأمر وصبراً على مضض الجراح، ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل، فإذا طمعنا في خصلة يلم اللّه بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقية في ما بيننا رغبنا فيها وأمسكنا عمّا سواها».

وقال(عليه السلام) في التحكيم: «إنا لم نحكم الرجال؛ وإنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال، ولما أن دعانا القوم إلى أن يحكم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب اللّه عزّ وجلّ وقد قال اللّه سبحانه: {فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ}(1) فرده إلى اللّه أن نحكم بكتابه، ورده إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن نأخذ بسنته، فإذا حكم بالصدق في كتاب اللّه فنحن أحق الناس به، وإذا حكم سنة رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فنحن أولاهم به، وأما قولكم: لم جعلت بينك وبينهم أجلاً في التحكيم؛ فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل ويتثبت العالم، ولعل اللّه أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة ولا تؤخذ بأكظامها فتعجل عن تبين الحق وتنقاد لأول الغي».

وروي: أن أمير المؤمنين(عليه السلام) أرسل عبد اللّه بن العباس إلى الخوارج، وكان بمرأى منهم ومسمع، قالوا له في الجواب: إنا نقمنا يا ابن عباس على صاحبك خصالاً كلها مكفرة موبقة؛ تدعو إلى النار!

ص: 236


1- سورة النساء، الآية: 59.

أما أولها: فإنه محا اسمه من إمرة المؤمنين ثم كتب بينه وبين معاوية، فإذا لم يكن أمير المؤمنين ونحن المؤمنون لسنا نرضى بأن يكون أميرنا.

وأما الثانية: فإنه شك في نفسه حين قال للحَكَمين: انظرا، فإن كان معاوية أحق بها فأثبتاه وإن كنت أولى بها فأثبتاني، فإذا هو شك في نفسه ولم يدر أهو المحق أم معاوية فنحن فيه أشد شكاً.

والثالثة: أنه جعل الحكم إلى غيره، وقد كان عندنا أحكم الناس.

والرابعة: أنه حَكم الرجال في دين اللّه ولم يكن ذلك إليه.

والخامسة: أنه قسم بيننا الكراع والسلاح يوم البصرة، ومنعنا النساء والذرية.

والسادسة: أنه كان وصياً فضيَّع الوصية.

قال ابن عباس: قد سمعت يا أمير المؤمنين مقالة القوم، وأنت أحق بجوابهم؟

فقال(عليه السلام): «نعم»، ثم قال: «يا ابن عباس قل لهم: ألستم ترضون بحكم اللّه وحكم رسوله؟».

قالوا: نعم.

قال: «أبدأ على ما بدأتم به في بدء الأمر»، ثم قال: «كنت أكتب لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الوحي والقضايا والشروط والأمان يوم صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو، فكتبت بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما اصطلح عليه محمد رسول اللّه وأبو سفيان صخر بن حرب وسهيل بن عمرو، فقال سهيل: لا نعرف الرحمن الرحيم، ولا نقرّ أنك رسول اللّه، ولكنا نحسب ذلك شرفاً لك أن تقدم اسمك على أسمائنا، وإن كنا أسن منك وأبي أسن من أبيك، فأمرني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: اكتب مكان بسم اللّه الرحمن الرحيم، باسمك اللّهم، فمحوت ذلك وكتبت باسمك اللّهم، ومحوت رسول اللّه وكتبت محمد بن عبد اللّه، فقال لي: إنك تدعى إلى مثلها فتجيب وأنت مكره، وهكذا كتبت بيني وبين معاوية وعمرو

ص: 237

بن العاص: هذا مااصطلح عليه أمير المؤمنين ومعاوية وعمرو بن العاص، فقالا: لقد ظلمناك بأن أقررنا بأنك أمير المؤمنين وقاتلناك، ولكن اكتب: علي بن أبي طالب، فمحوت كما محا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن أبيتم ذلك فقد جحدتم؟!»

فقالوا: هذه لك خرجت منها!

قال: «وأما قولكم: إني شككت في نفسي حيث قلت للحَكَمين: انظرا فإن كان معاوية أحق بها مني فأثبتاه؛ فإن ذلك لم يكن شكاً مني ولكن أنصفت في القول، قال اللّه تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(1) ولم يكن ذلك شكاً، وقد علم اللّه أن نبيه على الحق».

قالوا: وهذه لك!

قال: «وأما قولكم: إني جعلت الحكم إلى غيري، وقد كنت عندكم أحكم الناس، فهذا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد جعل الحكم إلى سعد يوم بني قريظة، وقد كان من أحكم الناس، وقد قال اللّه تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(2) فتأسيت برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)».

قالوا: وهذه لك بحجتنا!

قال: «وأما قولكم: إني حكَّمت في دين اللّه الرجال، فما حكَّمت الرجال؛ وإنما حكمت كلام ربي الذي جعله اللّه حكماً بين أهله، وقد حكم اللّه الرجال في طائر، فقال: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ}(3) فدماء المسلمين أعظم من دم طائر».

ص: 238


1- سورة سبأ، الآية: 24.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- سورة المائدة، الآية: 95.

قالوا: وهذه لك بحجتنا!

قال: «وأما قولكم: إني قسمت يوم البصرة لما ظفرني اللّه بأصحاب الجمل الكراع والسلاح، ومنعتكم النساء والذرية؛ فإني مننت على أهل البصرة كما من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أهل مكة، فإن عدوا علينا أخذناهم بذنوبهم، ولم نأخذ صغيراً بكبير، فأيكم كان يأخذ عائشة في سهمه؟!».

قالوا: وهذه لك بحجتنا!

قال: «وأما قولكم: إني كنت وصياً فضيَّعت الوصية، فأنتم كفرتم وقدمتم علي وأزلتم الأمر عني، وليس على الأوصياء الدعاء إلى أنفسهم، إنما يبعث اللّه الأنبياء(عليهم السلام) فيدعون إلى أنفسهم، وأما الوصي فمدلول عليه مستغن عن الدعاء إلى نفسه، وذلك لمن آمن باللّه ورسوله، ولقد قال اللّه جلّ ذكره: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}(1) فلو ترك الناس الحج لم يكن البيت ليكفر بتركهم إياه، ولكن كانوا يكفرون بتركهم؛ لأن اللّه تعالى قد نصبه لهم عَلَماً، وكذلك نصبني علماً، حيث قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا علي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأنت مني بمنزلة الكعبة تُؤتى ولا تأتي».

فقالوا: وهذه لك بحجتنا! فأذعنوا، فرجع بعضهم وبقي منهم أربعة آلاف لم يرجعوا ممن كانوا قعدوا عنه، فقاتلهم وقتلهم»(2).

علماً بأنهم هم الذين بدؤوا بالقتال ولم يبدأهم الإمام(عليه السلام).

ومن هذه المناظرة يعلم مدى تلك الحريات التي كانت تتمتع بها المعارضة، وأن الإمام(عليه السلام) أخذ يجيب على شبهاتهم بالحكمة والموعظة الحسنة وبشكل

ص: 239


1- سورة آل عمران، الآية: 97.
2- الاحتجاج 1: 185.

يوجب الإقناع.

وهذه كلها دروس في فن إدارة المعارضة. وهي بعيدة كل البعد عمّا نراه اليوم في حكوماتنا حيث لا يمكن للمعارضة أن تتنفس.

ومما يؤسف له أن السيرة العطرة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمة الطاهرين من ذريته(عليهم السلام) لم يصلنا بالشكل الكامل، وإن كان في ما بأيدينا ما يكفي للتأسي بهم والاقتداء بهديهم.

إن التاريخ قد نقل لنا عن المتعلمين في مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام) وسائر الأئمة(عليهم السلام) أنهم تعلّموا ورروا عشرات الآلاف من الأحاديث، حتى قال بعضهم: تعلّمت من جعفر الصادق(عليه السلام) مائة وخمسين ألف حديث(1).

لكننا - وللأسف - لم يصلنا من كل تلك الأحاديث إلّا بعضها، كما أن ما جاء في كتاب (وسائل الشيعة) لا يبلغ ثلث هذا الرقم(2)،

فإن سيرته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة أهل بيته(عليهم السلام) لم تصل إلينا كاملة، فسيرته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل البعثة لم يصلنا منها إلّا القليل، من قبيل لقائه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع بحيرا الراهب(3)، ووضع الحجر الأسود(4)، وبعض القصص والحوادث التاريخية الأخرى.

ص: 240


1- عن محمد بن مسلم قال: (ما شجر في قلبي شيء إلّا سألت عنه أبا جعفر(عليه السلام) حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث، وسألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن ستة عشر ألف حديث) بحار الأنوار 46: 328. وعن جابر قال: (عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر محمد الباقر(عليه السلام) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)) بحار الأنوار 53: 139. وعن جابر الجعفي قال: (حدثني أبو جعفر(عليه السلام) تسعين ألف حديث) بحار الأنوار 2: 69. وأبان بن تغلب (روى عن الصادق(عليه السلام) ثلاثين ألف حديث). انظر وسائل الشيعة 30: 200.
2- إن الأحاديث التي وردت في كتاب (وسائل الشيعة) هي 35868 حديثاً.
3- انظر بحار الأنوار 15: 174.
4- انظر الكافي 4: 217.
قصة وضع الحجر

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن قريشاً في الجاهلية هدموا البيت، فلما أرادوا بناءه حيل بينهم وبينه وألقي في روعهم الرعب، حتى قال قائل منهم: ليأتي كل رجلٍ منكم بأطيب ماله، ولا تأتوا بمال اكتسبتموه من قطيعة رحمٍ أو حرامٍ، ففعلوا، فخلي بينهم وبين بنائه، فبنوه حتى انتهوا إلى موضع الحجر الأسود، فتشاجروا فيه أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه، حتى كاد أن يكون بينهم شرّ، فحكموا أول من يدخل من باب المسجد، فدخل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما أتاهم أمر بثوبٍ فبسط، ثم وضع الحجر في وسطه، ثم أخذت القبائل بجوانب الثوب فرفعوه، ثم تناوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوضعه في موضعه فخصه اللّه به»(1).

وقالوا: إنما هدمت قريش الكعبة لأن السيل كان يأتيهم من أعلى مكة فيدخلها فانصدعت، وسرق من الكعبة غزال من ذهبٍ رجلاه من جوهرٍ، وكان حائطها قصيراً، وكان ذلك قبل مبعث النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بثلاثين سنة، فأرادت قريش أن يهدموا الكعبة ويبنوها ويزيدوا في عرصتها، ثم أشفقوا من ذلك وخافوا إن وضعوا فيها المعاول أن تنزل عليهم عقوبة.

فقال الوليد بن المغيرة: دعوني أبدأ فإن كان للّه رضًا لم يصبني شيء، وإن كان غير ذلك كففنا، فصعد على الكعبة وحرك منه حجراً فخرجت عليه حية وانكسفت الشمس.

فلما رأوا ذلك بكوا وتضرعوا، وقالوا: اللّهم إنا لا نريد إلّا الإصلاح، فغابت عنهم الحية، فهدموه ونحوا حجارته حوله، حتى بلغوا القواعد التي وضعها إبراهيم(عليه السلام)، فلما أرادوا أن يزيدوا في عرصته وحركوا القواعد التي وضعها إبراهيم(عليه السلام) أصابتهم

ص: 241


1- الكافي 4: 217.

زلزلة شديدة وظلمة، فكفوا عنه، وكان بنيان إبراهيم(عليه السلام) الطول ثلاثون ذراعاً والعرض اثنان وعشرون ذراعاً والسمك تسعة أذرعٍ، فقالت قريش: نزيد في سمكها، فبنوها، فلما بلغ البناء إلى موضع الحجر الأسود تشاجرت قريش في وضعه، فقال كل قبيلةٍ: نحن أولى به، نحن نضعه، فلما كثر بينهم تراضوا بقضاء من يدخل من باب بني شيبة، فطلع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: هذا الأمين قد جاء، فحكّموه، فبسط رداءه، وقال بعضهم: كساء طاروني كان له، ووضع الحجر فيه، ثم قال: «يأتي من كل ربعٍ من قريشٍ رجل، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمسٍ، والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزومٍ، وقيس بن عدي من بني سهمٍ، فرفعوه، ووضعه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في موضعه(1).

إلى بعض القصص الأخرى المختصرة جداً التي وردتنا عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل البعثة النبوية الشريفة، ولو دوّن التاريخ خلال الأربعين سنة التي سبقت البعثة كل سيرته العطرة لكانت عشرات المجلدات.

معنى الإدارة وتقسيماتها

الإدارة(2) هي فن ممارسة سلطة الإنسان على أفراد جنسه أو على الطبيعة، ولكن هذه السلطة تختلف من شخص إلى آخر، فبعض يستحقها وبعض تقمّصها، وعند البعض تكون الإدارة هي السلطة المطلقة، فالشخص الذي يمارس الإدارة حتى وإن لم يكن مؤهلاً لها شرعاً، لكنه يمتلك صلاحية كاملة في توجيه ما يريد وكيفما يريد وأينما يريد، وهذه الفكرة عادة تترسخ عند الاستبداديين ومن يدور في فلكهم.

ص: 242


1- الكافي 4: 217.
2- للتفصيل راجع مؤلفات الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في هذا المجال، وهي: (الفقه: الإدارة المجلد 1و2). و(تنمية القدرات الإدارية) و(كيف تدير الأمور؟).

أما الإسلاميون فلا يرون هذه الإدارة المطلقة للإنسان العادي، بل الإدارة المطلقة والولاية المطلقة تكون من خصائص الباري عزّ وجلّ وهو عادل لايظلم أحداً، وكذلك من خوّله اللّه تعالى لها، وهوالنبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام المعصوم(عليه السلام)، أما الإنسان العادي فلا يحق أن يقوم بهذه السلطة المطلقة.

نعم هناك سلطة محدودة وولاية مشروطة يمارسها بعض الأشخاص الذين يخولهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو الإمام المعصوم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو من ينوب عنهم(عليهم السلام) في زمن الغيبة، من الفقهاء المراجع العدول، فهؤلاء سلطتهم الإدارية محدودة بالشرع المقدس وتكون خاضعة لولاية شورى الفقهاء المراجع في المسائل العامة.

السلطات وأقسامها

قسموا السلطة إلى ثلاثة أقسام:

أولاً: السلطة التشريعية.

وثانياً: السلطة التنفيذية.

وثالثاً: السلطة القضائية(1).

ص: 243


1- لقد عرّفت هذه السلطات في الوقت الحاضر ووفق القوانين الوضعية حسب ما يلي: أولاً: السلطة التشريعية: وهي التي تملك حق سنّ القوانين ومناقشتها ومراقبة تنفيذها وسلامتها. وتمثل السلطة التشريعية عادةً في مجلس نيابي يشترط في أعضائه المواطنة وخلو السجل العدلي من الجناية وسلامة العقل واكتمال الأهلية، ومن أهم واجباتها منع استبداد الهيئة التنفيذية. ثانياً: السلطة التنفيذية: وهي أحدى السلطات الثلاث التي تشمل المؤسسات والوظائف المختصة بتنفيذ القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، وعلى هذا الأساس تشمل رئيس الجمهورية والمجالس المحلية وموظفي الدولة كافة باستثناء القضاة. ولها أعمال تتصل بالاستقرار الداخلي والدفاع والعلاقات مع دول العالم وتنظيم مالية الدولة، وتنظيم القضاة، وتقديم الخدمات للمواطنين، وتنشيط الاقتصاد. وثالثاً: السلطة القضائية: وهي المناط بها وظيفة تفسير القانون وتطبيقه على الوقائع المعنية التي تعرض على هيئاتها كالمحاكم، ولا بد من توافر حسن العدالة ومعرفة القانون والاستقلال والنزاهة في القضاة، ويعتبر استقلاليتها في الأنظمة الديمقرطية مبدأ لا يجوز المساس به.

وهذه السلطات جميعها كانت للنبي والإمام المعصوم (عليهما أفضل الصلاة والسلام). وذلك بنصوص من القرآن والسنة الشريفة دلت على ذلك، منها قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(1). وقوله سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ}(2). وقوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(3). إلى غيرها من النصوص الدالة على ذلك.

أما السلطات المحدودة فليس لها الحق في التشريع، وإنما تقتصر مهمتها في السلطة التنفيذية والقضائية كما هو حال علمائنا اليوم، فمهمتهم استنباط وتنفيذ الأحكام التي أقرتها الشريعة، وكذلك القضاء بين الناس، وخصوصاً في الأمور المستحدثة حسب الرواية المشهورة: «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا»(4).

وهذه السلطات نوع من الإدارة بالمعنى الأعم كما لايخفى.

مراحل الإدارة في صدر الإسلام

اشارة

ربما يمكن تقسيم الإدارة في عصر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى خمس مراحل، علماً بأن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد واجه في تلك الإدارة وترسيخها الكثير من الصعوبات التي لم يواجهها أحد من القادة ولا شخص من الأنبياء(عليهم السلام) وذلك في سبيل نشر الإسلام، وتركيز دعائمه عبر الإدارة الناجحة في البلاد الإسلامية.

المرحلة الأولى

من المعلوم، أن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدأ بنشر رسالته الإلهية في مجتمع

ص: 244


1- سورة الأحزاب، الآية: 6.
2- سورة المائدة، الآية: 55.
3- سورة النساء، الآية: 59.
4- كمال الدين 2: 484.

مكة،وكان هذا المجتمع جاهلياً بتمام معنى الكلمة، حيث تكثر فيه الخرافات والعادات السلبية السيئة، ومن البديهي أن يصعب العمل الإصلاحي والتنظيمي لأي شخص في مثل هذا المجتمع، وكذلك من الصعب جداً إدارة مجتمع من هذا النوع بإدارة ناجحة في سبيل تغييرها والتركيز على المبادئ الإسلامية الفاضلة.

وقد عمل الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في سبيل إرساء قاعدته وخططه الإدارية الناجحة في ذلك المجتمع بحذر شديد، وبصورة محدودة، وبشكل تدريجي، وقد واجه من المشركين أكبر المشاكل، فاقتصر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في باديء الأمر على إدارة من آمن من الناس، ونشر الرسالة الإسلامية بين من تقبله من المؤمنين، حيث لم يتقبل منه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أول الأمر إلّا أفراد معدودون كما هو المشهور في التاريخ، وكان على رأسهم وأولهم إيماناً به(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ابن عمه أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وكذلك أم المؤمنين خديجة بنت خويلد(عليها السلام)، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنا عبد اللّه وأخو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلّا كذّاب مفتر، ولقد صلّيت قبل الناس سبع سنين»(1).

وعن ابن عباس قال: أول من آمن برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الرجال علي(عليه السلام)، ومن النساء خديجة(عليها السلام)(2).

وتعد هذه الفترة هي المرحلة الأولى التي نشأت فيها الإدارة الإسلامية الناجحة، وكان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذه الفترة يوزع الأعمال الإدارية في ما بين المؤمنين لنشر الرسالة الإسلامية وترسيخ دعائمها، واستمرت هذه الفترة من

ص: 245


1- إعلام الورى 1: 360.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 259.

البعثة النبويةالشريفة إلى دخول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه شعب أبي طالب(عليه السلام)، ودخل في هذه الفترة مجموعة من الناس في الإسلام.

المرحلة الثانية

أما المرحلة الثانية، فقد بدأت عند ما أرسلت الأوس والخزرج وفودها إلى الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لتبايعه، فأمر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من بين الوفود التي وفدت عليه من الأوس والخزرج اثني عشر نقيباً ليقوموا بتنظيم الأمور وإدارتها بين قومهم.

روي أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعرض نفسه على قبائل العرب في الموسم، فلقي رهطاً من الخزرج، فقال: «ألا تجلسون أحدثكم؟».

قالوا: بلى.

فجلسوا إليه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدعاهم إلى اللّه وتلا عليهم القرآن.

فقال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون واللّه إنه النبي الذي كان يوعدكم به اليهود، فلا يسبقنكم إليه أحد، فأجابوه، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم، وعسى أن يجمع اللّه بينهم بك، فستقدم عليهم وتدعوهم إلى أمرك، وكانوا ستة نفر.

قال - الراوي - : فلما قدموا المدينة فأخبروا قومهم بالخبر، فما دار حول إلّا وفيها حديث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى إذا كان العام المقبل أتى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فبايعوه على بيعة النساء أن لا يشركوا باللّه شيئاً ولا يسرقوا، إلى آخرها، ثم انصرفوا، وبعث معهم مصعب بن عمير يصلّي بهم، وكان بينهم بالمدينة يُسمى المقرئ، فلم يبق دار في المدينة إلّا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلّا دار أمية وحطيمة ووائل وهم من الأوس، ثم عاد مصعب إلى مكة.

وخرج من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم، فاجتمعوا في الشعب عند العقبة ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان في أيام التشريق بالليل، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أبايعكم

ص: 246

على الإسلام؟».

فقال له بعضهم: نريد أن تعرفنا يا رسول اللّه، ما للّه علينا وما لك علينا وما لنا على اللّه؟

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أما ما للّه عليكم فأن تعبدوه ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وأما ما لي عليكم فتنصرونني مثل نسائكم وأبنائكم، وأن تصبروا على عضّ السيف وإن يقتل خياركم».

قالوا: فإذا فعلنا ذلك ما لنا على اللّه؟

قال: «أما في الدنيا فالظهور على من عاداكم، وفي الآخرة رضوانه والجنة».

فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق، لنمنعك بما نمنع به أزرنا، فبايعنا يا رسول اللّه؛ فنحن واللّه أهل الحروب وأهل الحلفة ورثناها كباراً عن كبار.

فقال أبو الهيثم: إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا إن قطعناها أو قطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

فتبسم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم». ثم قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً»، فاختاروا ثم قال: «أبايعكم كبيعة عيسى بن مريم(عليه السلام) للحواريين، كُفلاء على قومهم بما فيهم، وعلى أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم».

فبايعوه على ذلك، فصرخ الشيطان في العقبة: يا أهل الجباجب، هل لكم في محمد والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم، ثم نفر الناس من منى وفشا الخبر فخرجوا في الطلب، فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، فأما المنذر فأعجز القوم وأما سعد فأخذوه وربطوه بنسع رحله، وأدخلوه مكة يضربونه فبلغ خبره إلى جبير بن مطعم والحارث بن حرب بن أمية فأتياه وخلصاه.

ص: 247

وكان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يؤمر إلّا بالدعاء والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل، فطالت قريش على المسلمين، فلما كثر عتوهم أمر بالهجرة، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه قد جعل لكم داراً وإخوانا تأمنون بها» فخرجوا أرسالاً حتى لم يبق مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلّا علي وأبو بكر فحذرت قريش خروجه، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب يتشاورون في أمره...(1).

المرحلة الثالثة
اشارة

ثم بدأت المرحلة الثالثة في إدارة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي من بداية هجرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة حتى السنة الرابعة من الهجرة، وتميزت هذه الفترة بأن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مارس الإدارة بنفسه الشريفة، أي قاد الأمة قيادة مباشرة، وكانت أيضاً محدودة؛ وذلك لاقتصارها على المدينة المنورة فقط.

قام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذه الفترة بمهمات إدارية كبيرة تكشفت فيها عن عبقريته الإدارية العظيمة، وحسن تخطيطه، كان منها: قيامه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين. وكانت هذه المؤاخاة هي الثانية من نوعها، فالأولى كانت في مكة بين أصحابه، أما هذه فكانت بين المسلمين الذين هاجروا من مكة وبين المسلمين من أهل المدينة (الأنصار)(2).

روي: أنه لما آخى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين عبد الرحمن وبين سعد بن الربيع قال سعد: قد علمت الأنصار أني أكثرهم مالاً، فأقاسمك مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها، فإذا انقضت عدتها تزوجتها(3).

وروي: أن المهاجرين أتوا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قالوا: ما رأينا قوماً قط أبذل لكثير ولا

ص: 248


1- بحار الأنوار 19: 25.
2- انظر الغدير 3: 112.
3- الآحاد والمثاني 3: 388.

أحسن مواساة من قليل من الأنصار، لقد قدمنا المدينة فكفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ(1).

وكانت لهذه المؤاخاة نتائج طيبة، منها: زيادة أواصر المحبة والأخوة بين المهاجرين والأنصار، ومنها: تهيئة أمور السكن والمعيشة للمهاجرين عبر الاشتراك مع الأنصار، إلى غير ذلك مما هو مذكور في التاريخ.

نعم هذه الفترة لم تخل من الصعوبات، حيث واجهت الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مشاكل إدارية كثيرة، مثل: إسكان المهاجرين الذين كان يزيد عددهم يوماً بعد آخر، وكذلك إطعامهم وتوفير العمل لهم، وغيرها من الصعوبات التي اجتازها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنجاح، نتيجة حسن تخطيطه وإدارته الناجحة للأمور.

معاهدة المدينة المنورة

وقد قام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في السنة الأولى من الهجرة بوضع (صحيفة) لتنظيم حياة المسلمين في كافة جوانبها السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وهذا العمل هو من الأعمال الإدارية المهمة التي قام به الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعتبر اللبنة الأولى لدستور الدولة الإسلامية، فبعدما آخى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين المهاجرين والأنصار وضع هذه الصحيفة، التي توضحت فيها العلاقات في ما بين المسلمين أنفسهم، ووضّح(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شكل العلاقة ومكانة اليهود وغير المسلمين في المدينة وما جاورها، فوادع اليهود في هذا الكتاب وأقرهم على دينهم وأموالهم، وفق الشروط والضوابط المبينة في الصحيفة والمتفق عليها بين الطرفين، وقد جاء فيها:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذه كتاب من محمد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب

ص: 249


1- الآحاد والمثاني 3: 389.

ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، والمهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين... وإن المؤمنين لايتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. ولايحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً لو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافر على مؤمن، وإن ذمة اللّه واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من اتبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم. وأن سلم المؤمنين واحدة. ولا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلّا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً، وإن المؤمنين يبئ بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش، ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلّا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولايحل لهم إلّا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن باللّه واليوم الآخر أن ينصر محدثاً، ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة اللّه وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم وللمسلمين

ص: 250

دينهم،مواليهم وأنفسهم، إلّا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلّا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحرث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلّا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلّا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلّا بإذن محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإنه لاينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلّا من ظلم، وإن اللّه على من أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلّا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإن اللّه على من اتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلّا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر الحسن من أهل هذه الصحيفة. وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب على نفسه، وإن اللّه على من أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا

ص: 251

الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلّا من ظلم وأثم، وإن اللّه جار لمن بر واتقى ومحمد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).(1)

المرحلة الرابعة

ثم بدأت المرحلة الرابعة مع حلول السنة الرابعة للهجرة، واستمرت هذه المرحلة إلى السنة التي تم فيها فتح مكة. ومن المعلوم أن كل يوم كان يمر على المسلمين كانت تزداد فيه حاجتهم إلى تنظيم أمورهم وإدارة مجتمعهم؛ وذلك لزيادتهم العددية يوماً بعد يوم، وظهور أمة الإسلام بين الأمم كمنافس شديد المراس، مما سبب كثرة الحروب عليهم وانتصاراتهم، وزيادة الأموال التي كانت تجبى من الغنائم ومن الأخماس والزكوات، الأمر الذي استوجب كثرة المؤسسات والمشاريع.

المرحلة الخامسة

ثم بدأت المرحلة الخامسة وهي ما بعد فتح مكة إلى رحلة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي من أهم المراحل وأوسعها، حيث فتحت مكة وبعض المناطق المجاورة لها، وأصبحت الأراضي التي تقع تحت الإدارة الإسلامية واسعة شاسعة مترامية الأطراف، مما يتطلب توسيع نطاق الإدارة الإسلامية، ففي المرحلة الثالثة والرابعة كانت الإدارة مباشرة، أي إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يمارس ويباشر إدارة أمور المسلمين بنفسه؛ لأن الإسلام كان في بقعة جغرافية محدودة هي المدينة وحواليها فقط، أما في المرحلة الأخيرة فقد انتشر الإسلام وتوسعت البلاد الإسلامية مما تطلب من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إرسال مبعوثين لإدارة كل البلاد

ص: 252


1- لقد وردت هذه الصحيفة في مصادر عديدة وبنصوص مختلفة اختلافاً يسيراً، وقد نقلنا هذا النص من كتاب النظام السياسي في الإسلام: 152.

الداخلة في الإسلام لكي يشرفواعلى إدارتها، فمثلاً أرسل الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى اليمن، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لما وجهني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى اليمن، قال: يا علي لا تقاتل أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام ، وايم اللّه، لأن يهدي اللّه عزّ وجلّ على يديك رجلاً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه»(1). وأرسل آخرين إلى مناطق أخرى. حيث روي أنه: في السنة العاشرة بعث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمراءه على الصدقات، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء فخرج عليه العبسي وهو بها، وبعث زياد بن أسد الأنصاري إلى حضرموت على صدقاتها، وبعث عدي بن حاتم الطائي على صدقة طي وأسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات حنظلة، وجعل الزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم على صدقات زيد بن مناة بن تميم، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وبعث علي بن أبي طالب(عليه السلام) إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ففعل وعاد(2).

إدارة الوفود

وأخذت تتقاطر على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مختلف الوفود، وكان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتعامل معهم بأفضل ما يمكن ويديرهم بإدارة ناجحة، على تفصيل مذكور في التاريخ(3) نشير إلى قسم منه.

روى العلامة المجلسي في البحار باب قدوم الوفود على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

عن إعلام الورى(4) قال بعد ذكر نزول براءة: ثم قدم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 253


1- الكافي 5: 36.
2- بحار الأنوار 21: 373.
3- انظر كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) المجلد 2 للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
4- إعلام الورى: 125.

عروة بن مسعود الثقفي مسلماً واستأذن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الرجوع إلى قومه! فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنيأخاف أن يقتلوك» قال: إن وجدوني نائماً ما أيقظوني، فأذن له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرجع إلى الطائف ودعاهم إلى الإسلام ونصح لهم، فعصوه وأسمعوه الأذى حتى إذا طلع الفجر قام في غرفة من داره فأذّن وتشهد، فرماه رجل بسهم فقتله.

وأقبل بعد قتله من وفد ثقيف بضعة عشر رجلاً هم أشراف ثقيف فأسلموا، فأكرمهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحيّاهم وأمر عليهم عثمان بن أبي العاص بن بشر وقد كان تعلم سوراً من القرآن... .

فلما أسلمت ثقيف ضربت إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفود العرب، فدخلوا في دين اللّه أفواجاً، كما قال اللّه سبحانه(1) فقدم عليه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عطارد بن حاجب بن زرارة في أشراف من بني تميم منهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم وعيينة بن حصن الفزاري وعمرو بن الأهتم، وكان الأقرع وعيينة شهدا مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتح مكة وحنيناً والطائف، فلما قدم وفد تميم دخلا معهم، فأجارهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأحسن جوارهم.

وممن قدم عليه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفد بني عامر، فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس أخو لبيد بن ربيعة لأمه، وكان عامر قد قال لأربد: إني شاغل عنك وجهه فإذا فعلته فأعله بالسيف، فلما قدموا عليه قال عامر: يا محمد خالّني، فقال: لا حتى تؤمن باللّه وحده، قالها مرتين، فلما أبى عليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: واللّه لأملأنها عليك خيلاً حمراً ورجالاً، فلما ولى قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اللّهم اكفني عامر بن الطفيل»، فلما خرجوا قال عامر لأربد: أين ما كنت أمرتك به؟ قال: واللّه ما

ص: 254


1- سورة النصر، الآية: 1-3.

هممت بالذي أمرتني به إلّا دخلت بيني وبين الرجل أفأضربك بالسيف!

وبعث اللّه على عامر بن الطفيل في طريقه ذلك الطاعون في عنقه فقتله فيبيت امرأة من سلول، وخرج أصحابه حين واروه إلى بلادهم، وأرسل اللّه تعالى على أربد وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما.

وفي كتاب أبان بن عثمان: أنهما قدما على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد غزوة بني النضير قال: وجعل يقول عامر عند موته: أغدة كغدة البكر وموت في بيت سلولية، قال: وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال في عامر وأربد: «اللّهم أبدلني بهما فارسي العرب»، فقدم عليه زيد بن مهلهل الطائي وهو زيد الخيل وعمرو بن معديكرب.

وممن قدم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفد طيٍ فيهم زيد الخيل وعدي بن حاتم، فعرض(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليهم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم وسماه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) زيد الخير وقطع له فيداً وأرضين معه وكتب له كتاباً، فلما خرج زيد من عند رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) راجعاً إلى قومه، قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن ينج زيد من حمى المدينة أو من أم ملدم»، فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء يقال له فردة أصابته الحمى فمات بها وعمدت امرأته إلى ما كان معه من الكتب فأحرقتها.

وذكر محمد بن إسحاق أن عدي بن حاتم فرّ، وأن خيل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أخذوا أخته فقدموا بها على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنه منّ عليها وكساها وأعطاها نفقة، فخرجت مع ركب حتى قدمت الشام وأشارت على أخيها بالقدوم، فقدم وأسلم وأكرمه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأجلسه على وسادة رمى بها إليه بيده.

الإدارة النموذجية

اشارة

وخلاصة البحث: إن الإدارة في الإسلام كانت نموذجية وواضحة المعالم منذ

ص: 255

بزوغ فجر الإسلام على المعمورة، نعم ربما كانت تختلف في بعض الصيغ والأساليب الإدارية من عصر لآخر؛ وإلّا فالجوهر فيها واحد، وهي إدارة سماوية مبتنية على السلم والسلام، والمحبة والإخاء، والعطف والحنان، وحفظ كرامةالإنسان.

من هنا يلزم التأسي برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إدارته الناجحة حتى في مثل هذا اليوم.

لا يقال: إن الإدارة في عصر ما قبل الإسلام، وفي بداية البعثة إلى زمن طويل، وفي حكومة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة والتي أدارها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مباشرة، وكذلك في عصر أمير المؤمنين(عليه السلام) وعصور الأئمة المعصومين(عليهم السلام) كانت إدارة ذات أشكال بسيطة وذات مؤسسات قليلة، مقارنة بأشكالها اليوم، بعد أن دخلت في الإكتشافات العلمية، من أجهزة وحواسيب وفضائيات وما أشبه، فأصبحت تتطلب آلاف المدراء والعمال وآلاف المؤسسات الإدارية الضخمة، فكيف يمكن التأسي مع اختلاف العصور والمتطلبات.

لأنه يقال: الأسس في الإدارة والقيم والمبادئ والخطوط العامة لم تتغير، نعم ربما تغير بعض الأساليب والأشكال والصور فقط.

أين الإدارة الإسلامية؟

إن المسلمين في هذا اليوم قد تركوا الإسلام وتمسكوا بالقوانين الوضعية من قبل الشرق والغرب، ومن أهم ما تركوه الإدارة الإسلامية والتي أثبتت نجاحها في الفترات السابقة.

فأين إدارتنا الإسلامية المميزة اليوم، ونحن نعيش عصر الحاسوب، والتحديات الكبيرة من غير المسلمين؟ هل موقعنا في القمة، كما كان أسلافنا؟ حيث كانوا يملكون إدارة تفوق كل من عاصرهم، رغم بساطة مواردهم في ذلك الزمن قياساً إلى معاصريهم من الدولتين الرومية والفارسية، أين نحن الآن؟

ص: 256

للأسف الشديد، نحن على عكس ما نتمنى ونطمح، وعلى عكس ما أرادهالإسلام لنا من التقدم والعلو حيث ورد: «الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه»(1).

فنحن اليوم في آخر القائمة، بعد أن كنا في رأسها؛ والسبب في ذلك يرجع إلى غياب تلك العناصر الأساسية في النجاح ومنها الأسلوب الإداري الناجح الذي أمر به القرآن الكريم وأهل البيت(عليهم السلام).

عوامل نجاح الإدارة

اشارة

إن كل مؤسسة مهما كان مجالها وشكلها، ينبغي أن توفر شرطين أساسيين فيها إلى جانب توفير جملة من الشروط الأخرى؛ لكي تكون مؤسسة ناجحة، والشرطان الأساسيان هما:

العلم

أولاً: العلم، فإن الشخص المدير للمؤسسة يلزم أن يتمتع بخلفية علمية واسعة في ما يتعلق بشؤون مؤسسته وكيفية إدارتها، فمثلاً: المدرّس الذي لم يصل للمستوى العلمي المطلوب، لا يمكنه أن يدير حلقة الدرس، فتلاحظ أن تدريسه يفشل، ويدخل في إحراجات مختلفة، وكذلك السائق الذي يقود السيارة يجب أن يملك مهارة كافية في فن السياقة وعوامل الصيانة والإدامة فيها، وإلّا فإدارته للسيارة فاشلة، وهكذا في سائر الأمور.

فالشخص الذي يدير مؤسسة علمية أو سياسية أو اجتماعية أو غيرها، يجب أن تتوفر عنده الخبرة الكاملة في مجال عمله وبمؤسسته، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم رشد لمن عمل به»(2).

ص: 257


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 68.

وقال(عليه السلام): «وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة إن زكاها بالعلم والعمل فقد شابهتجواهر أوائل عللها»(1).

الإخلاص

ثانياً: الإخلاص في العمل، حيث يلزم توفره في شخص المدير لضمان إتقان واستمرار العمل، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «خير العمل ما صحبه الاخلاص»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «آفة العمل ترك الاخلاص فيه»(3).

وهذان الشرطان(4)

كل واحد منهما يكمل الآخر، ولا يمكن الإستغناء عن أحدهما؛ فالعلم بدون الإخلاص لا ينتج منه إدارة ناجحة، وكذلك الإخلاص بدون العلم. إذن، يلزم توفر هذين الشرطين في كل إدارة، إذا أريد لها النجاح.

سائر الشروط

وأما الشروط الأخرى المطلوبة في الإدارة الناجحة فهي كثيرة، أشرنا إلى بعضها في كتاب (كيف تدير الأمور).

منها: توفر التنظيم الجيد، واستقبال الكوادر الفاعلة، والتطور الذي يواكب العصر، والعمل المنسّق في ما بين أفراد المؤسسة، والنسيق مع سائر المؤسسات، كما يلزم أن يكون هنالك ترابط اجتماعي بين أفراد المؤسسة وذلك بالأخوة والمحبة القائمة في ما بينهم، وكذلك بين الأفراد ورب العمل. وأن يكون لأفراد هذه المؤسسة ما يؤمّن لهم مستوى عيش كريم وخاصة عند تعرضهم للأزمات.

ص: 258


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 423.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 355.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 280.
4- العلم والإخلاص.

كما يلزم أن تكون الإستشارية محكمة في الإدارة لا الاستبداد والفردية، وأن يكون الجميع حراً في إبداء الرأي، وكذلك في توجيه النقد البناء لما فيه مصلحةالعمل. وأن يكون هناك شورى منتخبة لإدارة العمل، إلى غير ذلك من مقومات نجاح الإدارة(1).

وهذا الكلام ينطبق على كل المؤسسات، صغيرة كانت أم كبيرة، بل كلما توسعت المؤسسة، احتجنا إلى هذه العوامل أكثر، كما ينطبق بشكل أولى على إدارة الدولة؛ لأن الدولة من أكثر المؤسسات احتياجاً للإدارة الناجحة، والدولة ما هي إلّا مجموعة مؤسسات تتعاضد في ما بينها لخدمة المجتمع.

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإدارة

اشارة

لو طالعنا إدارة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) والبرامج التي رسموها للمجتمع، لكي تخطو الأمة إلى الأمام وتفوز بسعادة الدنيا والآخرة، لوجدنا أن هناك ترابطاً قوياً في القوانين المعنوية والمادية في الإدارة الشرعية، فليست الإدارة الناجحة تعتمد على الماديات فحسب ولا على المعنويات فقط.

فترى الحالة المعنوية العالية التي تولدت بين المسلمين في عصر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي شوقهم الشديد إلى اللّه عزّ وجلّ والخوف منه، وأداء الصلاة والصيام، والتزامهم بالصدق والوفاء، وغير ذلك من الفضائل الروحية، وما هذه الحالة إلّا نتيجة للجهود التي بذلها الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) في هذا الطريق.

وكذلك ما يرتبط بالماديات وإدارة الحياة المادية، فعندما جاء النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة رأى أن اليهود هم الذين يسيطرون على عصب الحياة في البلاد، من

ص: 259


1- للتفصيل انظر موسوعة الفقه: المجلد 103-104 كتاب الإدارة / وكذلك كتاب (كيف تدير الأمور؟) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

اقتصاد وسلاح وغيرهما، وكانوا يستخدمونها في إثارة النزاعات والحروب والعداوات بين أهل المدينة؛ لذا شجّع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المسلمين في سبيل أنيكونوا هم أصحاب القرار، وهم الذين يتولون إدارة أمورهم بأنفسهم بدل أن يديرها غيرهم، فرسم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم الخطوط الكفيلة بذلك، فتمتع المسلمون بالاستقلال الاقتصادي والعسكري نتيجة الإدارة الناجحة الفذة للرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحسن تخطيطه.

الإدارة ونشر الوعي

قام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إدارته الناجحة بتوعية الأمة، فبذل جهوداً كبيرة في سبيل نشر الوعي بكافة أقسامه بين أفراد المجتمع، فبث الوعي الديني والسياسي والإقتصادي والصحي والثقافي وغيرها، بين أوساط ذلك المجتمع الجاهلي، الذي كانت صفة الجهل والعادات الجاهلية المقيتة منتشرة ومستمكنة منه، ولكن عبقرية الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإدارية أخرجت هذا المجتمع من مصاف الشعوب المتأخرة، إلى قيادة الشعوب المتطورة.

ولو راجعنا التاريخ ودققنا فيه وتأملنا في الأعمال التي قام بها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لنشر الوعي والثقافة بين أوساط المجتمع، وكيف تغلب على المعوقات الكثيرة، التي كانت في طريقه، لساعدنا ذلك كثيراً في سبيل النهوض بالأمة، بعد الكساد والخمول الفكري، الذي عمّ بلادنا اليوم.

رفع الحواجز الوهمية

قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ

ص: 260

بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).

إن من أهم الأعمال والمنجزات المهمة التي قام بها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إدارته الناجحة: رفع الحواجز التي وضعتها الجاهلية التي كانت تحد من حرية الناس الطبيعية، وتقيّدهم، حيث كان الإنسان قبل الإسلام، عندما يريد أن يذهب إلى بلد آخر للتجارة أو غيرها، يجد أمامه مجموعة من الصعوبات والعراقيل، منها: تعرضه للأخطار من سلب ونهب وقتل، من خلال ما كان بين القبائل من غزو وأسر وتجاوز.

ومنها: الضرائب اللاشرعية الكثيرة، من أخذ أموال على التجارة والقوافل حتى يؤذن للإنسان العمل بالمتاجرة، والذي يسمى بتعبير اليوم ب(الجمارك) وهو من أشد المحرمات في الشريعة الإسلامية.

ومنها: الحواجز الجغرافية، وهي شبه الحدود المصطنعة اليوم والموجودة في عصرنا هذا بين الدول الإسلامية، ومثل هذه الحواجز كانت موجودة في عصر ما قبل الإسلام بين القبائل، ولكن بشكل مبسط، كما هو مذكور في التاريخ.

إلى غير ذلك من الأمور المعرقلة والمعطلة لحرية الإنسان.

ولكن الإسلام رفض جميع هذه القيودات حيث قال تبارك وتعالى: {إِنَّ هَٰذِهِۦ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(2).

بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك حواجز ومعرقلات نفسية مخيمة على طبيعة المجتمع الجاهلي، حيث كان التفاخر بالأنساب والألقاب والأموات هو السائد في ذلك الوقت بين الناس، فهذا من تميم، وذلك من طي، وثالث من بني عبس،

ص: 261


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة الأنبياء، الآية: 92.

وهكذا، وكان التزاوج والعلاقات الاجتماعية الأخرى مبنية على هذا الأساس،فالقبيلة التي ترى نفسها قوية وكبيرة تستهين بالقبائل الأخرى المجاورة لها، التي تقل عنها قوة وعدداً، ولا يمكن عادة أن تزوج إحدى بناتها أو بنيها إلى القبيلة الأقل قوة منها.

إضافة إلى الحواجز والمعرقلات النفسية الأخرى.

وقد ألغى الشرع الإسلامي جميع ذلك حيث قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(1).

وقال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا حسب إلّا بالتواضع، ولا كرم إلّا بالتقوى، ولا عمل إلّا بالنية»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسب المرء ماله، ومروته عقله، وحلمه شرفه، وكرمه تقواه»(4).

فعندما بزغ نور الإسلام، ونتيجة لجهود الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعبقريته الإدارية، تمكن من تحطيم جميع هذه الحواجز، سواء كانت جغرافية أم نفسية، وشيّد مكانها أواصر المحبة والتآلف والأخوة بين المسلمين جميعاً، بحيث زالت الملاكات المزيفة للتفوق والرجحان بسبب القوة والضعف، أو العُدّة والعدد، أو سواد البشرة وبياضها، أو اللغة والعرق، أو القومية والثروة، فأصبح المسلمون

ص: 262


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الإختصاص: 341.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 590.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 590.

أخوة في ما بينهم، ولا مائز بين الناس إلّا الإسلام والتقوى. وأصبح بلال الحبشي وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري (رضوان اللّه تعالى عليهم) سواء في ما بينهم،ولا فرق بينهم إلّا بالتقوى والإيمان والارتباط باللّه تعالى. كما جعل صفية اليهودية وسودة المشركة ومارية القبطية - بعد إسلامهن - أخوات في الإسلام.

نعم، هذه هي الإدارة الناجحة للإسلام، حيث بدّل العداوة إلى المحبة والمصالحة، وبدّل العادات التي تبعد الإنسان عن أفراد جنسه ومجتمعه بقوانين وأنظمة تقرّب بين الناس وتجعلهم يتعارفون في ما بينهم كما قال عزّ وجلّ: {لِتَعَارَفُواْ}(1).

فعندما قام النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذه الإدارة الناجحة استطاع أن يبدل حال الناس إلى أفضل حال، وأوصل المسلمين إلى الاعتماد على أنفسهم في كل شيء، بحيث أوصلهم إلى الاكتفاء الذاتي في أغلب جوانب الحياة الاقتصادية والعسكرية والسياسية وغيرها.

المسلمون اليوم

قال تبارك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}(2).

إن حال أغلب المسلمين اليوم غير ما كانوا عليه في الصدر الأول، فنتيجة لابتعادهم عن نهج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) القويم أصبحوا فرقاً مشتتة ضعيفة متناحرة في ما بينها، وبدلاً من الاتحاد حلت التفرقة، وبدل المحبة والأخوة الإسلامية التي كانت سائدة في ذلك العصر، أصبحت العداوة والبغضاء هي السائدة بين

ص: 263


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- سورة إبراهيم، الآية: 28-29.

كثير من أفراد المجتمع الإسلامي اليوم، وبدلاً من رفع الحواجز الجغرافية والحدود المصطنعة التي ألغاها الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سنّت اليوم حواجز وعراقيل أكثر تعقيداً حتىمن أيام الجاهلية الأولى، فأصبح المسلم الذي يريد أن يسافر من بلد إسلامي إلى آخر مقيداً بشروط وعراقيل كثيرة، من الجواز والتأشيرة والضريبة والإجازة وغيرها، مما يجر عليه ضياع الكثير من الوقت والمال لكي يسافر فقط، هذا إذا سمح له بعد التحقيق والتدقيق المشدد، والذي يزيد عن حده المقرر.

وكذلك الحواجز النفسية التي رفعت في زمن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعيدت وبأشد مما كانت، فأصبح المسلم اليوم أجنبياً بالقياس إلى سائر المسلمين، فالمسلم العربي أصبح غريباً في البلاد الإسلامية الأخرى، والمسلم الهندي أجنبياً في البلاد الإسلامية العربية وهكذا، مما حدا بهم إلى التناحر والتصارع، فمكنوا الاستعمار من أنفسهم للسيطرة عليهم، وأصبح حالهم مثل حال الناس قبل البعثة، إن لم نقل أشد؛ حيث إن سياستهم واقتصادهم وثقافتهم ووسائلهم الحربية هي اليوم بيد غيرهم، وهذا الغير هو الذي يخطط لهم ويوجههم ويجرهم إلى الحروب الداخلية - أي في داخل الأمة الإسلامية - للقضاء عليهم وعلى ثرواتهم، وهم لا يفكرون بجدية في سبيل نيل استقلالهم الحقيقي، وفي الاستقلال الثقافي والاقتصادي والعسكري وما أشبه، واسترداد حقوقهم الضائعة والمغتصبة، ومكانتهم الحقيقية بين الأمم، بل ينتظرون أن تتبدل أحوالهم إلى أحسن من هذا وهم قاعدون دون أن يحركوا ساكناً، إلّا القليل منهم. فصاروا مصداقاً عملياً حقيقياً لقوله تعالى: {كَبَٰسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَٰلِغِهِۦ}(1)، وكأن المطالب تُنال بالتمني والرغبات.

ص: 264


1- سورة الرعد، الآية: 14.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن قلوب الجهال تستفزها الأطماع، وترتهنها المُنى،وتستعلقها الخدائع»(1).

وقال(عليه السلام): «الأماني تخدعك، وعند الحقائق تخذلك»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «تجنبوا المُنى؛ فإنها تذهب بهجة ما خولتم، وتستصغرون بها مواهب اللّه تعالى عندكم، وتعقبكم الحسرات في ما وهمتم به أنفسكم».(3) إن بعض المسلمين اليوم يريدون - وبدون تقديم أي عمل - أن يغرفوا السعادة من بحر الحظ، وهذا لا يكون كما هو واضح.

المطلوب لإنجاح الإدارة

قال تبارك وتعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(4).

إن على المسلمين أن يغيروا مسيرهم الحالي، ويرجعوا إلى الطريق الذي يوصلهم نحو هدفهم، وهذا يتطلب دراسة شاملة لكل شؤون حياتهم، منذ البداية وحتى الآن، ثم إعادة تصرفاتهم وطراز تعاملهم ليتطابق مع سيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) في إدارتهم الناجحة، ليسترجعوا بذلك عزّهم الذي ضاع منهم قبل قرن تقريباً، ويعودوا مرة أخرى سادات الدنيا، حينذاك يتمكنون من هداية الناس نحو الحق والحقيقة ونحو خير الدنيا والآخرة، أما إذا بقيت الأمة الإسلامية على هذا الحال - لا سامح اللّه - فلا يمكن لها أن تحقق النصر،

ص: 265


1- الكافي 1: 23.
2- مستدرك الوسائل 13: 47.
3- الكافي 5: 85.
4- سورة الأنفال، الآية: 53.

وستظل تتحمل المصائب والويلات يوماً بعد يوم.

حكمة اللّه تعالى

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرح علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحن»(1).

وفي الحديث: أن النبي موسى(عليه السلام) كان قد مرض، وامتنع عن مراجعة الطبيب فظل مريضاً مدة، ولم يحصل على الشفاء، ولما سأل اللّه تعالى في شفائه أمره بالمراجعة إلى الطبيب، فقال: يا إلهي أليس الداء منك؟ فقال له ربه: نعم.

فقال موسى(عليه السلام): يا إلهي أليس الدواء منك؟

قال له اللّه: نعم. حينذاك قال موسى(عليه السلام): يا رب، إذن لا حاجة للطبيب، وطلب من ربه أن يشفيه؟ لكن اللّه تعالى لم يفعل ذلك إلّا بعد مراجعته الطبيب(2).

وذلك لأن اللّه عزّ وجلّ خلق الدنيا دار الأسباب والمسببات وقوانين وسنن محكمة، ولا يمكن الفرار من هذا القانون الطبيعي، وعلى هذا الأساس لم يبق مجال لمن يقول: لماذا نرى المسلمين - اليوم - كلما دعوا اللّه ليغير حالهم لم يروا من اللّه استجابة. إذ لا بد للإنسان المسلم من توفير المقدمات لتلك الإجابة، ومن ثَم ينتظر الإستجابة، ومن تلك المقدمات: العمل، والجد، والمثابرة، والإخلاص، والنية الصادقة، وعدم ارتكاب الذنوب والمعاصي التي

ص: 266


1- الكافي 1: 183.
2- انظر الكافي 8: 88 وفيه عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال موسى(عليه السلام): يا رب من أين الداء؟ قال: مني، قال: فالشفاء؟ قال: مني، قال: فما يصنع عبادك بالمعالج؟ قال: يطيب بأنفسهم، فيومئذ سمي المعالج الطبيب».

تحجب وتصد الدعاء، وغيرها، كما نقرأ في دعاء كميل بن زياد (رضوان اللّه عليه):

«اللّهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء»(1).

لذا، ومن خلال ما سبق نصل إلى هذه النتيجة وهي: أن المسلمين إذا لم يوفروا لأنفسهم - اليوم - إدارة صحيحة فإنهم لن يعثروا على طريق نجاتهم ونجاحهم، بل بقوا هكذا في دوامة التخلف والاستعمار.

مداراة الناس

قال النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض»(2).

إن مداراة الناس هي من الشروط الرئيسية للإدارة الناجحة، وقد أولاها الإسلام أهتماماً كبيراً، فالإدارة - كما سبق - تحتاج إلى مقدمات ومقومات يحب توفرها حتى تكون إدارة جيدة رصينة ناجحة، ومن هذه المقدمات: مداراة الناس. قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مداراة الناس نصف الإيمان»(3).

فالشخص الذي يتعين قائداً أو مسؤولاً على مجموعة من الناس، يجب عليه مداراة هذه المجموعة، والسهر على خدمتهم، حتى يعد قائداً ناجحاً، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «جاء جبرئيل إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، ربك يقرؤك السلام ويقول لك: دارِ خلقي»(4).

ولا تختص المداراة بالجماعة التي بينك وبينهم مودة، أو نوع من العلاقة

ص: 267


1- مصباح المتهجد 2: 844.
2- الكافي 2: 117.
3- الكافي 2: 117.
4- الكافي 2: 116.

الطيبة، بل حتى الأعداء عليك بمداراتهم. قال الإمام أمير المؤمنين(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من استصلح الأضداد بلغ المراد»(1).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «مداراة الرجال من أفضل الأعمال»(2).

نسأل اللّه عزّ وجلّ أن يوفق الأمة وقياديها للتمسك بالإدارة الناجحة التي قام بها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعترته الطاهرة(عليهم السلام).

«اللّهم يا من يملك التدبير، وهو على كل شيء قدير، يا من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتُجن الضمير، وهو اللطيف الخبير، اللّهم اجعلنا ممن نوى فعمل، ولا تجعلنا ممن شقي فكسل، ولا ممن هو على غير عمل يتكل»(3).

من هدي القرآن الحكيم

أهمية الإدارة

قال تعالى: {كِتَٰبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(4).

وقال سبحانه: {يَٰدَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَٰبَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٖ مِّن لِّقَائِهِۦ

ص: 268


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 593.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 706.
3- إقبال الأعمال 1: 22.
4- سورة هود، الآية: 1.
5- سورة ص، الآية: 26.
6- سورة الجاثية، الآية: 18.

وَجَعَلْنَٰهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(1).

التنظم سنة كونية

قال عزّ وجلّ: {وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ}(2).

وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٖ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}(4).

وقال سبحانه: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّٖ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٖ يَسْبَحُونَ}(5).

مداراة الناس وآثارها

قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا}(6).

وقال سبحانه: {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(8).

ص: 269


1- سورة السجدة، الآية: 23-24.
2- سورة الذاريات، الآية: 49.
3- سورة الرعد، الآية: 8.
4- سورة الفرقان، الآية: 2.
5- سورة يس، الآية: 38-40.
6- سورة الأنعام، الآية: 34.
7- سورة النحل، الآية: 125.
8- سورة آل عمران، الآية: 159.

وقال جلّ وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).

التدبير أساس في كل شيء

قال عزّ وجلّ: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٖ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٖ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِرَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَٰوِرَٰتٌ وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٖ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٖ}(3).

وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٖ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ * ذَٰلِكَ عَٰلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَٰنِ مِن طِينٖ}(4).

قال جلّ وعلا: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَٰرَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

الإدارة منهاج عمل

كتب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر(رحمه اللّه): «... ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة... وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثم

ص: 270


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- سورة الرعد، الآية: 2.
3- سورة الرعد، الآية: 4.
4- سورة السجدة، الآية: 5-7.
5- سورة يونس، الآية: 31.

أسبغ عليهم الأرزاق... ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم... وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله».

وفيه أيضاً: «ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة فأحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال».

وفيه أيضاً: «انصف اللّه وانصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى... وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل».

وفيه أيضاً: «واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه للّه الذي خلقك... ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها: منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك...»(1).

التنظيم سنة كونية

قال الإمام أمير المؤمنين(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصنها من الأود والاعوجاج، ومنعها من التهافت والانفراج، أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وجبل جلاميدها(3) ونشوز متونها وأطوادها(4)،

ص: 271


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاّه مصر وأعمالها.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 186 من خطبة له(عليه السلام) في التوحيد.
3- جَبَلَ: خلق، الجَلاميد: الصخور الصلبة.
4- النُشوز - جمع نشز - : ما ارتفع من الأرض، المُتون - جمع متن - : ما صلب منها وارتفع، الأطواد: عطف على المتون وهي الجبال العظيمة.

فأرساها في مراسيها(1) وألزمها قراراتها، فمضت رؤوسها في الهواء، ورست أصولها في الماء، فأنهد جبالها عن سهولها، وأساخ قواعدها(2) في متون أقطارها... وجعلها للأرض عماداً، وأرّزها(3) فيها أوتاداً»(4).وقال(عليه السلام) في صفة القرآن: «ألّا إن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي...ونظم ما بينكم»(5).

وفي قول اللّه عزّ وجلّ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَٰشًا}(6) قال الامام السجاد(عليه السلام): «جعلها ملائمة لطبائعكم، موافقة لأجسادكم، لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرد فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم... ولكنه عزّ وجلّ جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به، وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم وقبوركم...»(7).

مداراة الناس وآثارها

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض»(8).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الأنبياء إنما فضلهم اللّه على خلقه بشدة مداراتهم لأعداء

ص: 272


1- مراسيها: ما رَسَت أي: رَسَخت فيه.
2- أساخ قواعدها: أي جعلها غائصة.
3- أرّزها: ثبّتها.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 211 من خطبة له(عليه السلام) في عجيب صنعة الكون.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 158 من خطبة له(عليه السلام) ينبه فيها على فضل الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفضل القرآن.
6- سورة البقرة، الآية: 22.
7- التوحيد: 404.
8- الكافي 2: 117.

دين اللّه، وحسن تقيتهم لأجل إخوانهم في اللّه»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «دارِ الناس تستمتع بإخائهم، والقهم بالبشر تمت أضغانهم»(2).

وفي قوله عزّ وجلّ: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(3) قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أي: وقولوا للناس كلهم حُسنا مؤمنهم ومخالفهم، أما المؤمنون فيبسط لهم وجههوبشره، وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان»(4).

سوء التدبير سبب التدمير

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «آفة المعاش سوء التدبير»(5).

وقال(عليه السلام): «من تأخر تدبيره تقدم تدميره»(6).

وقال(عليه السلام): «من ساء تدبيره كان هلاكه في تدبيره»(7).

وقال(عليه السلام): «يستدل على الأدبار بأربع: بسوء التدبير، وقبح التبذير، وقلة الاعتبار، وكثرة الاغترار»(8).

ص: 273


1- بحار الأنوار 72: 401.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 818.
3- سورة البقرة، الآية: 83.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري: 353.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 280.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 593.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 636.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 799.

نحو التغيير

أسس التغيير

اشارة

قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1).

وقال سبحانه: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «إن أبي كان يقول: إن اللّه قضى قضاءً حتماً لا ينعم على عبده بنعمة فيسلبها إياه قبل أن يحدث العبد ذنباً يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النعمة، وذلك قول اللّه {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}»(3)(4).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما من سلطان آتاه اللّه قوةً ونعمةً فاستعان بها على ظلم عباده إلّا كان حقاً على اللّه أن ينزعها منه، ألم تر إلى قول اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}»(5)(6).

ص: 274


1- سورة الرعد، الآية: 11.
2- سورة الأنفال، الآية: 53.
3- سورة الرعد، الآية: 11.
4- تفسير العياشي 2: 206.
5- سورة الرعد، الآية: 11.
6- إرشاد القلوب 1: 68.

المجتمع وما فيه عادةً نحو التغيير، فربما كان من حسن إلى أحسن، وربمامن سيء إلى حسن، وربما من حسن إلى سيء، وربما من سيء إلى أسوء، وربما غير ذلك، كما لو تغير من أسوء إلى حسن أو أحسن، والعكس أيضاً. فالحالات الأربعة: الحسن والأحسن والسيء والأسوء تنتج اثنتي عشرة صورة.

ومن أهم أسس التغيير: هو التغيير في النفس، فإذا تغير الإنسان أو تغيرت الأمة، غيّر اللّه ما بهم.

والتغيير قد يكون فردياً، وقد يكون جمعياً، أي على مستوى الأمة. وربما كان تغيير الفرد سبباً أو مؤثراً في تغيير المجتمع، وربما كان العكس. على تفصيل مذكور في علم الاجتماع.

والأنبياء(عليهم السلام) بعثهم اللّه لتغيير الفرد والمجتمع نحو الخير والفضيلة والتقوى، ولإنقاذه من الشر والرذيلة والعصيان.

النذير العريان

في البحار: «أنا النذير العريان(1)، فالنجا النجا»، أي انجوا بأنفسكم(2).

فما معنى (العريان) هنا؟

للجواب على هذا السؤال لا بُدّ مِنَ الرجوع والاطلاع على تاريخ ما قبل الإسلام، لكي نستوعب جوانب الحديث.

فقبل مجيء الإسلام، كانت الحرب بين القبائل أمراً عاديّاً ومألوفاً، حتى أنها كانت القبائل ولأتفه الأسباب تقف ضد بعضها، ويحتدم بينها النزاع ويطول،

ص: 275


1- (أنا النذير العريان) مثل قديم في العرب، وقد نسبه العامة إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، كما في كنز العمال 1: 180.
2- بحار الأنوار 81: 129.

وربما يمتد عشرات السنين، كما حصل في حرب البسوس(1)، وحرب داحس والغبراء(2)، وما أشبه.

وكانت القبائل تُغير إحداها على الأخرى، فتقتل الرجال بكل قساوة، وتأسر النساء والأطفال، وتسلب الأموال.

وكان هناك شخص نذير، يخرج عرياناً لإنذار قومه، على ما سيأتي تفصيله.

فقوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كناية عن أهمية إنذاره.

قالوا: إن الرجل إذا أراد إنذار قومه وإعلامهم بما يحدق بهم من الخطر، نزع ثوبه وأشار به إليهم إذا كان بعيداً منهم ليخبرهم بوقوع الخطر وليحذرهم بما دهمهم، وأكثر من يفعل هذا هو رئيس القوم ورقيبهم، وقالوا: وإنما يفعل ذلك

ص: 276


1- حرب البسوس: وهو حرب وقعت بين بكر وتغلب، ودامت أربعين سنة وجرت خطوب وصار شؤم البسوس مثلاً، ونسبت الحرب إليها - البسوس بنت مفقذ - ، وهي من أشهر حروب العرب.
2- إن داحسا فرس كان لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو بن زيد بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عدى بن فزارة بن ذبيان، يقال لها: الغبراء. فدس حذيفة قوما وأمرهم أن يضربوا وجه داحس إن رأوه قد جاء سابقا، فجاء داحس سابقا فضربوا وجهه، وجاءت الغبراء. فلما جاء فارس داحس أخبر قيسا الخبر، فوثب أخوه مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء، فقام حمل بن بدر فلطم مالكا. ثم إن أبا الجنيدب العبسي لقى عوف بن حذيفة فقتله، ثم لقى رجل من بني فزارة مالكا فقتله، فقال حمل بن بدر أخو حذيفة بن بدر: قتلنا بعوف مالكا وهو ثأرنا *** فإن تطلبوا منا سوى الحق تندموا وقال الربيع بن زياد العبسي: أفبعد مقتل مالك بن زهير *** ترجو النساء عواقب الاطهار فوقعت الحرب بين عبس وفزارة، فقتل حذيفة بن بدر وأخوه حمل بن بدر، فقال قيس بن زهير بن جذيمة يرثي حذيفة، وجزع عليه: كم فارس يدعى وليس بفارس *** وعلى الهباءة فارس ذو مصدق فابكوا حذيفة لن ترثوا مثله *** حتى تبيد قبائل لم تخلق حرب داحس: قيل أن الداحس اسم فرس مشهور لقيس بن زهير بن جذيمة العبسي وهو الحرب بين عبس وذبيان والتي استمرت أربعين سنة.

لأنه أبين للناظر وأغرب وأشنع منظراً فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهب للعدو.

وقيل: معناه أنا النذير الذي أدركني العدو فأخذ ثيابي فأنذركم عرياناً(1).

وقيل: إن العريان بمعنى فصيح اللسان، فهو مأخوذ من أعرب الرجل عن حاجته إذا أفصح عنها.

التعصبات الباطلة

كما أن هناك أسباباً للتغيير، هناك موانع عن التغيير أيضاً، فالعديد من أفراد المجتمع الجاهلي لم يقبلوا التغيير نحو الحسن لوجود التعصبات فيهم، فالتعصب مانع من التغيير.

وقد كانت الروحية السائدة آنذاك تندفع وراء النزاعات المادية، وتقف مدافعة عن الاعتقادات الباطلة والعادات الساذجة، وكان الجهل والعصبية المحرك الرئيسي لها. وإنَّ الاختلافات كانت في أغلب الأحيان تصل إلى الإبادة والتدمير، دون أن تقيم وزناً للأخلاق والقيم الإنسانية.

وما نراه - اليوم - من حروب بين الناس، فإنه يرجع في كثير من الأحيان، إلى تلك النعرات القبلية الجاهلية، أو إلى النزعات القومية التي توارثها الناس، جيلاً عن جيل. وبدأوا يحكمونها على المنطق والعقل والقيم الصحيحة، فكانت مانعة عن التغيير نحو الحسن.

ولذا فإنّ العصبية المذمومة المتوارثة من العصر الجاهلي، هي التي توجب الإعانة على الظلم، وإثبات الباطل، والتفاخر بالأمور التافهة، التي توجب المنقصة، وبث الخلاف بين الناس.

ص: 277


1- قيل: الأصل فيه أن رجلاً لقي جيشاً فسلبوه وأسروه فانفلت إلى قومه فقال: إني رأيت الجيش فسلبوني، فرأوه عرياناً فتحققوا صدقه.

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من عصبية، بعثه اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة مع أعراب الجاهلية»(1).

وسُئل الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام) عن العصبية فقال: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها: أنْ يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أنْ يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أنْ يُعين قومه على الظلم»(2).

وقال أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه): «وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لآثار مواقع النعم ف- : {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَٰلًا وَأَوْلَٰدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(3) فإن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء(4) والنجداء(5) من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل(6)، بالأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة والأخطار الجليلة والآثار المحمودة، فتعصبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض.

واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال. فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم، فإذا تفكرتم في

ص: 278


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 607.
2- الكافي 2: 308.
3- سورة سبأ، الآية: 35.
4- المجداء: الشرفاء والكرماء من القوم.
5- النجداء: أهل الإعانة والاستغاثة.
6- اليعاسيب - جمع يعسوب - : وهو أمير النحل، ويستعمل مجازاً في رئيس القوم.

تفاوت حاليهم، فالزموا كل أمرٍ لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها، والتواصي بها، واجتنبوا كل أمرٍ كسر فقرتهم، وأوهن منتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي.

وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء؛ ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً وأجهد العباد بلاءً، وأضيق أهل الدنيا حالاً، اتخذتهم الفراعنة عبيداً، فساموهم سوء العذاب وجرعوهم المرار، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة، لا يجدون حيلةً في امتناعٍ، ولا سبيلاً إلى دفاعٍ، حتى إذا رأى اللّه سبحانه جدّ الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً وأئمةً أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم.

فانظروا كيف كانوا، حيث كانت الأملاء مجتمعةً، والأهواء مؤتلفةً، والقلوب معتدلةً، والأيدي مترادفةً، والسيوف متناصرةً، والبصائر نافذةً، والعزائم واحدةً، ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين، فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة وتشتتت الألفة واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين وتفرقوا متحاربين، وقد خلع اللّه عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين.

فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل فما أشد اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال، تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم، ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق، وبحر العراق،

ص: 279

وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح(1)، ومهافي(2) الريح، ونكد المعاش، فتركوهم عالةً مساكين، إخوان دبرٍ(3) ووبرٍ(4)، أذل الأمم داراً، وأجدبهم قراراً، لا يأوون إلى جناح دعوةٍ يعتصمون بها، ولا إلى ظل ألفةٍ يعتمدون على عزها، فالأحوال مضطربةٌ والأيدي مختلفةٌ والكثرة متفرقةٌ، في بلاء أزلٍ وأطباق جهلٍ، من بناتٍ موؤودةٍ(5) وأصنامٍ معبودةٍ وأرحامٍ مقطوعةٍ وغاراتٍ مشنونةٍ.

فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولاً(6) فعقد بملته طاعتهم، وجمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين، وفي خضرة عيشها فكهين، قد تربعت الأمور بهم في ظل سلطانٍ قاهرٍ، وآوتهم الحال إلى كنف عزّ غالبٍ، وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملكٍ ثابتٍ، فهم حكامٌ على العالمين، وملوكٌ في أطراف الأرضين، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم، ويمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم، لا تغمز لهم قناةٌ ولا تقرع لهم صفاةٌ.

ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة، وثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهلية، فإن اللّه سبحانه قد امتن على جماعة هذه الأمة، في ما عقد بينهم من حبل هذه الألفة، التي ينتقلون في ظلها ويأوون إلى كنفها، بنعمةٍ لا يعرف أحدٌ من المخلوقين لها قيمةً؛ لأنها أرجح من كل ثمنٍ،وأجل من كل خطرٍ.

ص: 280


1- الشيح: نبات معروف ينبت في البادية.
2- المهافي: المواضع التي تهفو فيها الرياح أي تهب.
3- الدَبَر: القرحة في ظهر الدابة.
4- الوَبَر: شعر الجِمال والمراد أنهم رعاة.
5- من (وأد بنته) أي: دفنها وهي حية.
6- وهو سيد الكائنات المبعوث رحمة للعالمين الرسول الأعظم محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً، وبعد الموالاة أحزاباً، ما تتعلقون من الإسلام إلّا باسمه، ولا تعرفون من الإيمان إلّا رسمه، تقولون: النار ولا العار، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه، انتهاكاً لحريمه، ونقضاً لميثاقه، الذي وضعه اللّه لكم حرماً في أرضه، وأمناً بين خلقه، وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصارٌ ينصرونكم، إلّا المقارعة بالسيف، حتى يحكم اللّه بينكم.

وإن عندكم الأمثال من بأس اللّه وقوارعه وأيامه ووقائعه، فلا تستبطئوا وعيده جهلاً بأخذه، وتهاوناً ببطشه، ويأساً من بأسه، فإن اللّه سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن اللّه السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي. ألّا وقد قطعتم قيد الإسلام وعطلتم حدوده وأمتم أحكامه»(1).

وهذه الخطبة الشريفة تبين العديد من أسباب وموانع التغيير، سواء كان التغيير من السيء إلى الحسن، أو العكس.

الحروب القبلية

لقد كانت حروب العرب في الجاهلية - غالباً - تتخذ طابعين وأسلوبين في القتال:

الأول منهما: وهي الحروب القصيرة الأمد، التي لا تكاد تستمر ساعات أو أياماً قلائل على الأكثر، وتكون بشكل غارة تشنها قبيلة على أخرى، وتنتهي بعد أن يكون الطرفان، أو أحدهما قد تشتت شمله، وانتهب رحله، ولعبت السيوف في رقاب أهله، ثم اقتيد الباقون، أسارى وسبايا.

ص: 281


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.

وأمّا النوع الثاني من الحروب، فهي: الحرب الطويلة الأمد، والتي كانت تظل أحياناً مستعرة إلى عشرات السنين، من قبيل حرب الأوس والخزرج، التي بقيت مائة عام كما في بعض التواريخ.

روى علي بن إبراهيم القمي(رحمه اللّه): قدم أسعد بن زرارة، وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب، وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بغاث(1)، وكانت الأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا من داركم ولنا شغل لانتفرغ لشيء. قال: وما شغلتكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟

قال له عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول اللّه، سفه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شباننا، وفرق جماعتنا!

فقال له أسعد: من هو منكم؟

قال: ابن عبد اللّه بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم - النظير وقريظة وقينقاع - أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب.

فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود، قال: فأين هو؟

ص: 282


1- يوم بغاث أو بعاث، بضم الباء: يوم معروف، كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، هو من مشاهير أيام العرب، وبعاث: اسم حصن للأوس، انظر لسان العرب: ج2 ص117 مادة (بعث).

قال: جالس في الحِجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم، فلا تسمع منه ولاتكلّمه؛ فإنه ساحر يسحرك بكلامه. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر، لا بد لي أن أطوف بالبيت؟

فقال: ضع في أذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشا أذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني، أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا نعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم؟ ثم أخذ القطن من أذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنعم صباحاً.

فرفع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأسه إليه، وقال: «قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم».

فقال له أسعد: إن عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمد؟

قال: «إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأني رسول اللّه، وأدعوكم {أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(1).

فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأنك

ص: 283


1- سورة الأنعام، الآية: 151-152.

رسول اللّه، يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبينناوبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها اللّه بك فلا أجد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم اللّه لنا أمرنا فيك، واللّه يا رسول اللّه، لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد للّه الذي ساقني إليك، واللّه ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا، وقد أتانا اللّه بأفضل مما أتيت له.

ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد: هذا رسول اللّه الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلمَّ وأسلم، فأسلم ذكوان، ثم قالا: يارسول اللّه، ابعث معنا رجلاً يعلمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمصعب بن عمير، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم ولم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، وكان مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد، فأمره رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخروج مع أسعد، وقد كان تعلم من القرآن كثيراً.

فخرج هو مع أسعد إلى المدينة ومعهما مصعب بن عمير، وقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخبره، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان، وكان مصعب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كل يوم ويطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الإسلام فيجيبه الأحداث.

وكان عبد اللّه بن أُبيّ شريفاً في الخزرج، وقد كان الأوس والخزرج اجتمعت على أن يملكوه عليهم لشرفه وسخائه، وقد كانوا اتخذوا له إكليلاً احتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها، وذلك أنه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بغاث ولم يعن على الأوس، وقال: هذا ظلم منكم للأوس ولا أعين على الظلم، فرضيت به

ص: 284

الأوس والخزرج، فلما قدم أسعد كره عبد اللّه ما جاء به أسعد وذكوان وفتر أمره.

فقال أسعد لمصعب: إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس، وهو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف، فإن دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا، فهلمَّ نأتي محلتهم.

فجاء مصعب مع أسعد إلى محلة سعد بن معاذ فقعد على بئر من آبارهم واجتمع إليه قوم من أحداثهم وهو يقرأ عليهم القرآن، فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فقال لأسيد بن حضير وكان من أشرافهم: بلغني أن أبا أمامة أسعد بن زرارة قد جاء إلى محلتنا مع هذا القرشي يفسد شباننا، فأته وانهه عن ذلك.

فجاء أسيد بن حضير، فنظر إليه أسعد فقال لمصعب بن عمير: إن هذا الرجل شريف، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا، فأصدق اللّه فيه. فلما قرب أسيد منهم قال: يا أبا أمامة، يقول لك خالك: لا تأتنا في نادينا، ولا تفسد شباننا، واحذر الأوس على نفسك.

فقال مصعب: أو تجلس فنعرض عليك أمراً، فإن أحببته دخلت فيه، وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه.

فجلس، فقرأ عليه سورة من القرآن.

فقال: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟

قال: نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلي ركعتين. فرمى بنفسه مع ثيابه في البئر، ثم خرج وعصر ثوبه، ثم قال: أعرض عليّ، فعرض عليه شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فقالها، ثم صلى ركعتين، ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا أبعث إليك الآن خالك وأحتال عليه في أن يجيئك.

فرجع أسيد إلى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: اقسم أن أسيداً قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا، فأتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب:

ص: 285

{حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}(1) فلما سمعها، قال مصعب: واللّه، لقد رأينا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، فبعث إلى منزله وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلى ركعتين، ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه وقال: أظهر أمرك ولا تهابن أحداً.

ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح: يا بني عمرو بن عوف لايبقين رجل ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبي إلّا أن يخرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب. فلما اجتمعوا قال: كيف حالي عندكم؟

قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا، ولا نرد لك أمراً، فمرنا بما شئت.

فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم علي حرام حتى تشهدوا أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، والحمد للّه الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به. فما بقي دار من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلّا وفيها مسلم أو مسلمة، وحول مصعب بن عمير إليه وقال له: أظهر أمرك وادع الناس علانية. وشاع الإسلام بالمدينة وكثر، ودخل فيه من البطنين جميعاً أشرافهم، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود.

وبلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام، وكتب إليه مصعب بذلك، وكان كل من دخل في الإسلام من قريش ضربه قومه وعذبوه، فكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأمرهم بالخروج إلى المدينة، وكانوا يتسللون رجلاً فرجلاً فيصيرون إلى المدينة فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم...(2).

ويُذكر أنّه قبل اندلاع هذه الحرب، وقبل إعداد الجيوش لها، وقف شخص

ص: 286


1- سورة فصلت، الآية: 1-2.
2- إعلام الورى: 55.

يعود إلى إحدى القبيلتين، وصعد إلى مكان عال، وصاح بأعلى صوته: لا تبقوا لهم عامِرَ دار، ولا نافخ نار، ولا طالب ثأر!!

وهذا يعني تدمير بيت الخصم وعياله بالكامل، حتى الطفل الرضيع، فعمّار الدور هم الرجال، ونافخ النار هنَّ النساء، وطالب الثأر هو الطفل الرضيع، الذي يكبر فيقوم للطلب بثأر أبيه..

وكان من العرف الجاري حينذاك قبل شروع بعض الحروب، هو استكشاف رغبة الخصم فيها، لذا جرت العادة أنْ يرسلوا إليهم شخصاً عرياناً، يركب أحسن الجياد وينذرهم، فإمّا أنْ يظعنوا عن الديار إلى مكان آخر - ويكون نائياً بالطبع - أو يرضوا بالحرب حلاً. وكان هذا الشخص الذي يأتي بالإنذار عرياناً. ولذلك سُمّي بين العرب (بالنذير العريان) أي: إنّ إنذاره هو الإنذار الأخير. والرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد خاطب الناس في بداية الدعوة إلى الإسلام، بقدر عقولهم، والأعراف الخاصّة بهم. وفي الحديث الشريف عنه: ­«إنا معاشر الأنبياء أُمرنا أنْ نُكَلِّمْ الناس على قَدرِ عقولهم»(1).

وعلى هذا فإطلاقه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لفظة (العريان) على شخصِه الكريم، لكون القبائل كلها يومئذٍ، ستفهم المراد من كلامه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... لأنه يريد أنْ يوصل لهم هذا المعنى، وهو: يا أيها الناس، إني آخر نذير إليكم، فإن لم تستجيبوا لأمر اللّه فإن حياتكم وأموالكم سوف تكون هدفاً للمشاكل، ومحلاً لنزول العذاب من بعد ما صدر الإنذار والتهديد، وتكون الخسارة ما بعدها خسارة، وهو معنى ما جاء في الآية الكريمة: {إِنَّ الْخَٰسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ}(2) أي أنّ

ص: 287


1- الكافي 1: 23.
2- سورة الزمر، الآية: 15.

الخاسرين خسراناًحقيقياً هم الذين خسروا أنفسهم بحرمانها من النجاة، وخسروا أهليهم بعدم الانتفاع بهم يوم القيامة.

وبعبارة أخرى: خسران النفس هو إيرادها مورد الهلكة والشقاء، بحيث يبطل منها استعداد الكمال، ولا تحصل على السعادة، وخسران الأهل كذلك يكون بحملهم على الكفر والشرك. وذلك هو الخسران المبين.

لذا ولأجل أن نفوز بالآخرة - بعد العزم والتوجّه - علينا أنْ نهيأ الأسباب بالابتعاد عن الجاهلية، والنزعات الطائفية، والحروب القبلية، وأنْ نعرف الواجبات الملقاة على عاتقنا، بعد الإنذار الأخير، الذي وُجّه من قبل الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بترك التعصب، والتخلي عن العصبيات الجاهلية، والدخول تحت لواء المبادىء الحقة، مبادىء الإسلام الحنيف.

وبعبارة أخرى علينا أن نخطو نحو التغيير إلى الخير والفضيلة والتقوى.

ولا يكون التغيير إلّا بعد توفر أسبابه ورفع موانعه.

واجب المسلمين

اشارة

نعم قد تغير المجتمع الجاهلي ببركة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعد أن غيرّوا أنفسهم، فأصبح مجتمعاً مثالياً متطوراً، ولكن اليوم رجعت الأمة إلى الجاهلية، حيث غيّرت تلك الأسس الأخلاقية والقيم الإلهية التي أمر بها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وإذا أردنا التغيير مرة ثانية علينا بالبدء بأنفسنا، ف- {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1).

ويلزم على المسلمين - فرداً فرداً - في عصرنا هذا، أن يضعوا هذه الرواية (أنا النذير العريان) نصب أعينهم، لماذا؟

ص: 288


1- سورة الرعد، الآية: 11.

لأن الأئمة(عليهم السلام) كل واحد منهم هو نذير، وإنّ الأرض لا تخلو منهم أبداً، ولو أراد أحد أنْ يتخلى عن الأئمة المعصومين(عليهم السلام) فستشمله هذه الآية المباركة: {إِنَّ الْخَٰسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ}(1). ولأن الشرق والغرب هم دائماً في حالة رقابة تامة على كل تحركات المسلمين. ولو أنّ المسلمين ضعفوا مرة واحدة وتقاعسوا فجأةً، فسيأتي الشرق والغرب ليسلبوا منهم المال والجاه، وحتى الأرواح، كما نرى الآن في أكثر البلاد الإسلامية، كأفغانستان والعراق ولبنان وإندونيسيا، وغيرها.

فإذا أردنا النجاة والتحرر والوقوف بوجه الشرق والغرب، فعلينا أنْ نعتبر بكلام الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعترته الطاهرة(عليهم السلام)، ولأن الأئمة الأطهار(عليهم السلام) من بعده(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هم أيضاً النذر، والإمام الحجة صاحب العصر والزمان(عليه السلام) هو النذير في وقتنا هذا،وقد أُشير إلى ذلك في الاحاديث الشريفة الواردة عنهم(عليهم السلام).

فعن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «دعا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بطهور، فلما فرغ أخذ بيد علي(عليه السلام) فألزمها يده ثم قال: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ}(2) ثم ضم يده إلى صدره، وقال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}(3) ثم قال: يا علي أنت أصل الدين، ومنار الإيمان، وغاية الهدى، وقائد الغر المحجلين، أشهد لك بذلك»(4).

وفي رواية عن أبي برزة الأسلمي قال: دعا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالطهور وعنده علي بن أبي طالب(عليه السلام) فأخذ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيد علي(عليه السلام) بعد ما تطهر فألزقها بصدره، ثم قال: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ}(5) ثم ردها إلى صدر علي(عليه السلام)، ثم قال: {وَلِكُلِّ

ص: 289


1- سورة الزمر، الآية: 15.
2- سورة الرعد، الآية: 7.
3- سورة الرعد، الآية: 7.
4- بصائر الدرجات 1: 30.
5- سورة الرعد، الآية: 7.

قَوْمٍ هَادٍ}(1) ثمقال: «إنك منارة الأنام، وغاية الهدى، وأمير القُراء، أشهد على ذلك، أنك كذلك».(2)

وعن أبي جعفر(عليه السلام) في قول اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}(3) فقال(عليه السلام): «رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المنذر، وعلي(عليه السلام) الهادي، واللّه ما ذهبت منا وما زالت فينا إلى الساعة»(4).

وعن أبي بصير عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}؟ فقال(عليه السلام): «رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المنذر وعلي(عليه السلام) الهادي. يا أبا محمد، فهل منا هاد اليوم؟» قلت: بلى جعلت فداك، ما زال فيكم هاد من بعد هاد، حتى رفعت إليك. فقال(عليه السلام): «رحمك اللّه يا أبا محمد، ولو كانت إذا نزلت آية على رجل، ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب، ولكنه حي جرى في من بقي كما جرى في من مضى»(5).

وعن سليمان بن مهران الأعمش، عن الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام) عن أبيه(عليه السلام) عن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «نحن أئمة المسلمين، وحجج اللّه على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك اللّه السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزلالغيث، وبنا يُنشر الرحمة، ويخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منا

ص: 290


1- سورة الرعد، الآية: 7.
2- شواهد التنزيل 1: 393.
3- سورة الرعد، الآية: 7.
4- بصائر الدرجات 1: 30.
5- بصائر الدرجات 1: 31.

لساخت بأهلها» ثم قال(عليه السلام): «ولم تخل الأرض منذ خلق اللّه آدم من حجة للّه فيها ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة اللّه فيها، ولولا ذلك لم يعبد اللّه». قال سليمان: فقلت للصادق(عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟

قال(عليه السلام): «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»(1).

وباتخاذنا الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشريف نذيراً وهادياً، عندها ستكون ظلمتنا نوراً، وضعفنا قوة، وتفرقنا اتحاداً، ونفوز برضا اللّه تعالى، ويتحقق نصرنا الأكيد. ونكون قد أدّينا الواجب الملقى على عاتقنا، تجاه الدين والأمّة، وأصبحنا من القوة بحيث لا يرعبنا اسم الشرق أو الغرب، بل سنكون في الموقع الأمامي، الذي أراده اللّه تعالى للأمة الإسلامية، حيث قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنّ هذا الإسلام دين اللّه الذي اصطفاه لنفسه، واصطنعه على عينه، وأصفاه خيرة خلقه، وأقام دعائمه على محبته، أذلّ الأديان بعزته، ووضع الملل برفعه، وأهان أعداءه بكرامته، وخذل محادّيه بنصره...»(3).

المذابح والاستهانة بالإنسان

يذكر أن رئيس فيتنام قال في زمن الحرب التي شنتها أمريكا ضدهم: قد قُتل خمسمائة ألف إنسان واختلطت دماؤهم بالتراب(4). علماً بأن هذه الإحصائية لم

ص: 291


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 186.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 334.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 198 من خطبة له(عليه السلام) ينبه على إحاطة علم اللّه بالجزئيات ثم يحث على التقوى... .
4- لقد ذكروا أن إجمالي الخسائر البشرية من الفيتناميين خلال سنوات الحرب الثمانية، بلغت مليونا قتيل، و3 ملايين جريح، وما يزيد على 12 مليون لاجئ. أما خسائر الأميركيين فقدرت ب- : 57 ألف قتيل، وما يزيد على مائة ألف جريح.

تكن النهائية. فإنه لما انتهت الحرب تجاوز القتلى المليونين.

وقال زعماء السوفيت: إنهم لا يحتاجون من شعب أفغانستان إلّا مليونين فقط من مجموع السكان! وهذا يعني أنهم لا يحسبون للباقي وهم (18) مليوناً أي حساب، ولو أرادوا لشردوهم أو قتلوهم.

وفي إحدى البلاد الإسلامية، قال رئيسها: إنّ من يفكر في استلام السلطة مكاني، فعليه أنْ يستلم أرضاً جرداء بلا شعب، بمعنى أنه مستعد لإبادة كل الشعب في سبيل البقاء على سلطته(1).

وكذلك فرنسا، فقد قامت بقتل أكثر من مليون جزائري وقيل مليونين، حينما أرادت الجزائر أنْ تحصل على استقلالها، علماً بأنّ نفوس الجزائر كانت آنذاك تسعة ملايين نسمة(2).

وأيضاً كَتَبَ نِهرو(3) في بعض كتبه: إنّ الإنكليز افتعلوا حرباً في الصين، راح ضحيتها عشرون مليوناً تحت اسم حرب الافيون(4).

ص: 292


1- يشير الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في هذا المقطع من الكتاب إلى صدام طاغوت العراق في العصر الحديث.
2- تعرف الثورة الجزائرية باسم: ثورة المليون شهيد، وهي حرب تحرير وطنية ثورية ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي قام بها الشعب الجزائري، وكانت نتيجتها انتزاع الجزائر لاستقلالها بعد استعمار شرس وطويل استمرّ أكثر من 130 عاماً. وقد انطلقت الرصاصة الأولى للثورة في تشرين الثاني عام (1954م).
3- جواهر لال نهرو زعيم هندي (1889م-1964م).
4- اهتمت بريطانيا في نهاية القرن (18 الميلادي)، بفتح أبواب الصين أمام تجارتها العالمية، فطلب الملك جورج الثالث من الإمبراطور الصيني شيان لونج توسيع العلاقات التجارية بين البلدين..إلا أن الإمبراطور رفض ذلك، وفي المقابل كان على التجار البريطانيين دفع قيمة مشترياتهم من الصين من الشاي والحرير والبورسلين نقدا بالفضة، مما تسبب في استنزاف مواردهم منها؛ لذلك لجأت بريطانيا إلى دفع إحدى شركاتها..وهي شركة الهند الشرقية البريطانية (East India Company) التي كانت تحتكر التجارة مع الصين إلى زرع الأفيون في المناطق الوسطى والشمالية من الهند وتصديره إلى الصين، كوسيلة لدفع قيمة وارداتها للصين. تم تصدير أول شحنة كبيرة من الأفيون إلى الصين في عام (1781م) وقد لاقت تجارة الأفيون رواجاً كبيراً في الصين، وازداد حجم التبادل التجاري بين البلدين، وبدأت بشائر نجاح الخطة البريطانية في الظهور؛ إذ بدأ الشعب الصيني في إدمان الأفيون، وبدأ نزوح الفضة من الصين لدفع قيمة ذلك الافيون. وبدأت مشاكل الادمان تظهر على الشعب الصيني مما دفع بالإمبراطور يونغ تيكينج في عام (1729م) بإصدار أول مرسوم بتحريم استيراد المخدرات. غير أن شركة الهند الشرقية البريطانية لم تلتفت لهذا المنع واستمرت في تهريب الأفيون إلى الصين. وتصاعدت حركة التهريب للأفيون إلى الصين بصورة تدريجية، حيث لم يُهرَّب إليها في عام (1729م) سوى (608 كغم) من الأفيون قدرت تكلفتها بخمسة عشر مليون دولار. ثم في عام (1792م) وصلت المهربات الى (272 طناً). انزعجت الصين لهذه الظاهرة، وللخطر الذي يمثله تعاطي الأفيون الواسع على صحة المواطنين، والذي يسبب تدمير المجتمع الصيني، لذلك أصدر الإمبراطور الصيني قرارا آخر، عندما أجبر التجار البريطانيين والأمريكيين على تسليم مخدراتهم من الأفيون الذي بلغ ألف طن، وقام بإحراقه في احتفالية كبيرة شهدها المناوئون لهذا المخدر. عندها قررت بريطانيا وكانت في أوج قوتها في ذلك الوقت إعلان الحرب على الصين لفتح الأبواب من جديد أمام تجارة الأفيون للعودة من جديد، وبحث البريطانيون عن ذريعة بحجة (تطبيق مبدأ حرية التجارة) وكان النظام العالمي في ذلك الوقت يقوم على مبدأين هما حرية التجارة ودبلوماسية السفن المسلحة. فأرسلت بريطانيا في عام (1840 م) سفنها وجنودها إلى الصين لإجبارها على فتح أبوابها للتجارة بالقوة. استمرت حرب الأفيون الأولى إلى عام (1842 م) واستطاعت بريطانيا بعد مقاومة عنيفة من الصينيين، احتلال مدينة دينج هاي في مقاطعة شين جيانج، واقترب الأسطول البريطاني من البوابة البحرية لبكين، دفع ذلك الإمبراطور الصيني للتفاوض مع بريطانيا وتوقيع اتفاقية نان جنج في (1842م). لم تحقق هذه المعاهدة ماكانت تصبوا إليه بريطانيا والقوى الغربية، فلم يرتفع حجم التجارة مع الصين كما كانوا يتوقعون؛ لذلك قررت بريطانيا وفرنسا استخدام القوة مرة أخرى ضد الصين، واتخذوا ذريعة جديدة هذه المرة. فاستطاعت فيها القوات البريطانية والفرنسية احتلال بعض الأراضي والموانيء الصينية مما جعل الإمبراطور يقبل مراجعة الاتفاقات وتوقيع اتفاقية (تيان جين) في عام (1858 م) بين الصين وكل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا والتي تعطي لهم مزيداً من الامتيازات. نصت اتفاقية (بتان جن)، على التصديق عليها خلال عام من توقيعها. وحين تأخرت الصين في التصديق استخدمت بريطانيا وفرنسا القوة مرة أخرى لتحقيق ذلك واستطاعت قواتهما دخول (تيان جن) في ربيع عام (1860 م) ثم تقدمت نحو (بكين) ودخلوها في اكتوبر (1860 م) وتوجهوا إلى القصر الصيفي للإمبراطور الذي يبعد بضعة أميال عن بكين، وهذا القصر يعتبر أعظم وأفخم قصور العالم، ويحتوي على آثار تاريخية وتحف وذهب لايقدر بثمن. وقام الضباط البريطانيون والفرنسيون بنهب محتوياته لمدة أربعة أيام، وأضرموا فيه النار بعد ذلك. رضخ الإمبراطور لمطالبهم ووقع الاتفاقيات مع كل من فرنسا وبريطانيا، وكذلك روسيا والولايات المتحدة التي منحت امتيازات أكثر. وارتفع عدد المدمنين في الصين من مليوني مدمن عام (1850م) ليصل إلى (120 مليوناً سنة 1878م)، ولكن حروب الأفيون لم تنته نهائياً إلّا باتفاقية (8 أيار 1911م). وتضل حربي الأفيون الشهيرتين بمثابة فضيحة لا مثيل لها في الحياة السياسية والاقتصادية في التاريخ، فضيحة تدل على استبداد القوى الغربية الاستعمارية وتقديمها لمصالحها المالية على حساب كل القيم والمبادئ والاخلاقيات.

ص: 293

ومن هنا يعلم مدى وحشية أعداءالإسلام، وأعداء الإنسانية، ولكن يمكن الوقوف أمامهم بقوة الإيمان، والاعتقاد الراسخ، وبتغيير واقعنا اليوم إلى ما أمر به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعترة الطاهرة(عليهم السلام).

وبذلك يكون الوقوف بوجه الكفار، والتحصن من مخططاتهم، المضادة للإنسان والإسلام، والكفر ملّة واحدة.

ومن أجل تحقيق التغيير نحو الأفضل، يلزم أن نبدأ بنشر العقيدة الإسلامية في قلوب الناس، ابتداءً من التوحيد والنبوة، وانتهاءً ببقية أصول ومعتقدات الإسلام، وبعد ذلك نعمل على ترويج الأعمال الصالحة التي ترضي اللّه ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حتى يحصل النصر والفلاح إن شاء اللّه تعالى.

قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}(1) والفلاح هو الظفر بالسعادة، أي فازوا بخير الدنيا وسعادة الآخرة، فقد شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الآخرة في آخرتهم، والمؤمن هو المصدق برسالات اللّه، وإطلاقه في الشريعة منصرف الى المصدق بوحدانية اللّه، وبالرسالة، وبالمعاد، وبلوازمها. والظفر

ص: 294


1- سورة المؤمنون، الآية: 1.

الأخروي هو الفوز بالجنة وبما وعدنا به اللّه تعالى في الآخرة.

وإذا كنّا من المؤمنين باللّه تعالى ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم الصلاة والسلام)، وعملنا بقولهم، فلن نكون من الخاسرين، إن شاء اللّه، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «كان قد زالت عنكم الدنيا كما زالت عمن كان قبلكم، فأكثروا عباد اللّه اجتهادكم فيها، بالتزود من يومها القصير ليوم الآخرة الطويل؛ فإنها دار العمل والدار الآخرة دار القرار والجزاء، فتجافوا عنها، فإن المغتر من اغتر بها، لن تعد الدنيا إذا تناهت إليها أمنية أهل الرغبة فيها، المطمئنين إليها المغترين بها، أن تكون كما قال اللّه تعالى: {كَمَاءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَٰمُ}(1). ألّا إنه لم يصب امرؤ منكم من هذه الدنيا حبرة إلّا أعقبتها عبرة، ولا يصبح امرؤ في حياة إلّا وهو خائف منها أن تئول جائحة، أو تغير نعمه، أو زوال عافيته، والموت من وراء ذلكم وهول المطلع والوقوف بين يدي الحكم العدل، {لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ}(2) ويجزي {الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى}»(3)(4).

محمد الفاتح وفتح تركيا

كانت (القسطنطينية) عاصمة الدولة الرومانية، ففي الزمن الذي قام فيهالمسلمون بالهجوم على إيران، وذلك لأن طغاة الفرس قد استعدوا لغزو المسلمين، فبادرهم المسلمون ودخلوا إيران دون مقاومة تذكر، وكانت السلطة

ص: 295


1- سورة يونس، الآية: 24.
2- سورة الجاثية، الآية: 22.
3- سورة النجم، الآية: 31.
4- بحار الأنوار 75: 19.

قبل ذلك لرؤساء تعاقبوا على الحكم منهم: قباذ وماني(1)، وكانوا قد جرّوا البلاد إلى الفساد.

وكان الشعب الإيراني آنذاك، متعباً من كثرة ظلم حكامه، وهو ينتظر دخول المسلمين، للخلاص من الجور والاستبداد وأوضاع التحلل والفساد، وجرائم الحكام بحق أبنائه.

فالناس آنذاك، عملوا كل ما في وسعهم لتذليل العقبات أمام انتصار المسلمين، ليتم إنقاذهم من عبث هذين الطاغيتين وفسادهما.

ومن هنا يمكن أن يقال: إن إيران لم تؤخذ بالحرب بالمعنى المصطلح لها، لأن التحكم السيء برقاب الناس والسلطة الظالمة والعنف الحاكم، قد مهّد الطريق لأنْ يتخلى الناس عن حكومتهم، ويرضوا بأيّ حكومة بديلة تخلّصهم من الاستبداد والقمع والجور، وخاصة إذا كان البديل هو الإسلام العادل، وكان الشعب قد سمع بقيم الإسلام واحترامه وتقديره للإنسان، ولهذه الأسباب دخل المسلمون إلى إيران بكل سهولة.

أما من جهة الشمال، أي الرومان، فالمسألة كانت أصعب بكثير، فحينما وصل المسلمون إلى حدود القسطنطينية خرج بعض الناس وقاوموهم مقاومة شديدة، وكانوا يصرون على عدم فسح المجال أمام تقدم المسلمين؛ إذ أنّ السلطة والكنيسة في الدولة الرومانية كانتا تشعران بخطر الإسلام عليهما وعلى مصالحهما، فاتجهتا إلى الناس وعملتا على كسب تأييدهم من ناحية، ومن ناحية أخرى عملتا على رفع القدرات العسكرية لبلادهم من توفير السلاح

ص: 296


1- قباذ بن فيروز بن يزدجرد ملك الفرس سنة (488م) ملك وهو ابن خمس عشرة سنة. أما ماني: فهو المولود حوالي (240 م) وادعى أنه النبي الموعود الذي جاء اسمه في الانجيل: ياراقليت، ودعا الناس إلى مذهب جديد بين المسيحية والزردشت، قتله الملك بهرام سنة (274م) ويطلق عليه اسم ماني النقاش.

وتجنيد الناس؛ فكانت للروم أساليب عسكرية، تعتبر في وقتها، منيعة ومتطورة، مثل الأسوار والمنجنيق وأمثالهما.

وقد دامت مقاومة العاصمة بالذات زمناً طويلاً، وبعد ذلك قام بنو أمية بهجوم آخر لاحتلال القسطنطينية، إلّا أنهم خسروا المعركة آنذاك. وكذلك قام بنو العباس بمحاولة احتلالها بمعركة مشابهة ولم يفلحوا أيضاً.

أمّا المرة الثالثة فكانت على يد السلطان محمد الفاتح(1) وذلك في أيام العثمانيين، وكان محمد الفاتح من علمائهم وبعد أن صار حاكماً، فكّر بفتح القسطنطينية على أيدي المسلمين، وحدّد مقومات النصر وقام بإعدادها من قوة الجيش وتقوية معنوياته، فوضع لذلك برنامجاً خاصاً، وما إنْ رتب وضع الجيش عسكرياً، حتى أمر العلماء أنْ يرفعوا من معنويات الناس إلى أعلى درجة ممكنة، وأن يذكّروا الناس بثواب الجهاد في سبيل اللّه، وثواب قتال الكفار الذين يخططون ضد المسلمين.

ثم أمر في يوم جمعة إلى الصلاة جماعة، ودعا إلى البكاء أثناء الصلاة، إيماناً منه بأنّ للبكاء تأثيراً على القلوب أكثر من تأثير أي عمل عاطفي آخر.

ومن جهة أخرى، فإن السلطان محمد الفاتح أمر عدداً من رجاله أن يتغلغلوا في بلاد الروم لتقصي أخبارهم، وبعد مدة قصيرة عادوا، وجاءوا بخبر مفادُه أنّ علماءهم منشغلون بالبحث حول أنّه لما أصيب عيسى(عليه السلام) هل أصيب في ناسوتيتهأم لاهوتيته؟!

وأما البقية فمنشغلون بالتجارة والبيع والشراء، وملذاتهم، ولم يوجد هناك أي

ص: 297


1- هو السلطان محمد الثاني (431ه-1481م)، هو السابع في سلسلة الحكام العثمانيين لقب بالفاتح وأبي الخيرات. حكم ما يقرب من ثلاثين عاماً.

مؤشر يدل على أنّ الروم متأهبون للقتال.

كما أن الظلم قد تفشى في حكامهم، والشعب قد تعب من جور طغاتهم.

عند ما عرف محمد الفاتح ذلك، أمر الجيش بشنّ هجوم مفاجئ على دولة الروم، ومع أنّ جيش الروم كان يملك عدداً كافياً من المنجنيقات والأسلحة القوية، وكان قادراً في أية لحظة على أنْ يصب النار على رؤوس أفراد جيش محمد الفاتح ويفتك بهم، ولكن المفاجأة التي استعملها محمد الفاتح، حالت دون ذلك. مضافاً إلى أن الشعب لم يساند الحكومة لتصدي المسلمين.

وبالنتيجة وصل المسلمون إلى أبواب المدينة، ودخلوها وسقطت عاصمة الروم القسطنطينية على يد محمد الفاتح، الذي ما أن سجل نصره على الروم، حتى صلّى هناك ركعتين شكراً للّه.

وبالرغم من أنّ محمد الفاتح كأغلب الحكام لم يكن ملتزماً بمبادىء الإسلام، ولم يتبّع أصول الدين بحذافيرها، ولكنّ عزمه الراسخ على تحقيق الهدف، ورفع معنويات المسلمين آنذاك، كان له الدور الفاعل في فتح القسطنطينية.

لأنّ المعنوية العالية عادة تأتي بالنصر، من دون فرق في هذه القاعدة بين المسلمين وغيرهم، أي وإنْ كانت أهداف المحاربين من وراء الحرب غير نبيلة أو غير مخلصة لكنهم إذا تمتعوا بمعنويات عالية، فإنها تعد من مقومات النصر.

إذن، الشيء الذي حاز على أهمية عظيمة وكان مؤثراً في هذه المعركة هو الإيمان القوي الذي يحل في القلوب.

ومن هنا نرى التأكيد الكبير في الروايات الشريفة على ضرورة التحليبالإيمان القوي الذي لا يزعزعه شيء.

قال الإمام الرضا(عليه السلام): «الإيمان عقد بالقلب ولفظ باللسان وعمل

ص: 298

بالجوارح»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «المؤمن أصلب من الجبل، الجبل يُستقل منه، والمؤمن لا يستقلّ من دينه شيء»(2).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن الحديد إذا دخل النار تغير، وإن المؤمن لو قُتل، ثم نُشر ثم قُتل، لم يتغير قلبه»(3).

والإيمان هو عزم راسخ، وتصديق بالشيء، والتزام به، وتهيئة أسبابه. والإيمان باللّه هو التصديق بوحدانيته، وبرسله، واليوم الآخر، وبما جاء به الأئمة الأطهار(عليهم السلام).

لذا ذكرنا في ما سبق: إنّ قوة الإيمان ترتكز على قوة المعرفة والعقيدة من توحيد اللّه والعدل والنبوة والإمامة والمعاد، ويتبعه باقي الأعمال الصالحة.

قال اللّه تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً}(4)، إلى غير ذلك من الآيات التي تشير إلى العمل الصالح، فإنه السبب إلى الفوز الأخروي والنصر الدنيوي.

والعمل الصالح هو شرط في التغيير نحو الأفضل كما لا يخفى.

المسلمون في صقلية

كان المسلمون قد وصلوا إلى القسم الجنوبي من صقلية(5)، ولم يبدأ إخضاع الجزيرة بصورة نظامية تامة، إلّا في عهد المأمون العباسي بقيادة الأمير زيادة اللّه

ص: 299


1- معاني الأخبار: 186.
2- الكافي 2: 241.
3- صفات الشيعة: 32.
4- سورة النحل، الآية: 97.
5- صقلية: جزيرة وأقليم متمتع بالحكم الذاتي تتبع إيطاليا حالياً.

الأغلبي ففي سنة (212ه) أرسل إلى صقلية جيشاً كبيراً بقيادة أسد بن الفرات قاضي القيروان، وكان سبب إرسال الجيش، هو أنّ ملك الروم بالقسطنطينية، استعمل على جزيرة صقلية، بطريركاً اسمه (قسطنطين) عام (211ه). فلما وصل إليها عُيِّّن رومياً اسمه (فيمي) قائداً على الأسطول، وقد كان حازماً فغزا أفريقيا، وأعمل فيها يد النهب والتخريب، وشقّ عصا الطاعة عن أمير الجزيرة (قسطنطين) فالتقى الطرفان في معركة كبيرة حتى حلت الهزيمة بقسطنطين، وفرّ إلى مدينة قطانية، فزحف (فيمي) بجيشه على الجزيرة، وأمسك به فقتل (قسطنطين)، ثم أعلن نفسه ملكاً على تلك الجزيرة. وحدث أيضاً نفس الأمر، بأنْ شق عصا الطاعة اثنان من حكام مدنه، فتقاتلا مع (فيمي) وألحقا به هزيمة منكرة، فهنا طلب (فيمي) المساعدة والنجدة من (زيادة اللّه) ووعده بملك جزيرة صقلية، فسير معه جيشاً في ربيع الأول عام (212ه)، فوصلا إلى مدينة مازر، حيث تقابلا مع جيش حاشد من الروم، ودارت بين الفريقين معركة رهيبة، أسفرت عن هزيمة الروم، واستيلاء المسلمين على أموالهم ودوابّهم، وتمكّن المسلمون من أنْ يخضعوا سريعاً لسلطانهم عدداً كبيراً من قلاع الجزيرة، وحاصروا سرقوسة، واستمر زحف المسلمين، حتى تم فتح جزيرة صقلية بأكملها. وكان أول حاكم لها هو (أبو الأغلب إبراهيم بن عبد اللّه) ومنها أيضاً انتشر الإسلام إلى المدن المجاورة، حتى وصل إلى ساحل كلابريا في جنوبي إيطاليا(1).

وقد تم هذا النصر الإسلامي بفضل المعنويات العالية التي كان يتمتع بها المسلمون آنذاك.

ومن الواضح تأثير المعنويات العالية في تحقق الانتصارات في الحروب

ص: 300


1- للتفصيل انظر كتاب (موجز تاريخ الإسلام) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه) وهو تلخيص لكتاب (حضارة العرب) للدكتور غوستاف لوبون.

والمعارك وسائر شؤون الحياة.

المسلمون اليوم

أما اليوم وبعد أن تغير واقع المسلمين وضعفت معنوياتهم، وتخلوا عن الإسلام وأحكامه العظيمة - في الأعم الأغلب - واتجهوا إلى القوانين الوضعية الشرقية والغربية، وأصبحوا في دويلات ومناطق متفرقة وصغيرة، يطلق عليها اسم العالم الثالث، حسب تصنيفهم. في حين أنّ الإسلام كان أساس الحضارات والتطور والتقدم لشعوب العالم أجمع، وما نراه في الوقت الحاضر من تكنولوجيا متطورة، فأصولها كانت بيد المسلمين ولكن استفاد منها الغرب، ونحن تركنا مقومات التقدم واتجهنا إلى مشاكل جانبية، ونزاعات طائفية وجاهلية، قد نهى عنها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: «أنا النذير العريان» لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم. لذا يلزم السعي والجد والاجتهاد، في تغيير المجتمع الإسلامي وتحويله من الجهل والظلم الحاصل في وقتنا الحاضر إلى العلم والنور، لننال رضى اللّه تعالى ورسوله والأئمة الأطهار(عليهم السلام) ونفوز بسعادة الدنيا والآخرة وما ذلك على اللّه بعزيز.

«اللّهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به من رضوانك، ومن اليقين ما يهون علينا به مصيبات الدنيا. اللّهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثارنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

ص: 301


1- إقبال الأعمال 2: 699.

من هدي القرآن الحكيم

العزم والصبر

قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}(1).

وقال سبحانه: {رَّبُّ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَٰدَتِهِۦ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوٰةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسَْٔلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}(3).

وقال سبحانه: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِۦ وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}(5).

وقال سبحانه: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {يَٰبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(7).

العصبية والجاهلية

قال جلّ اسمه: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنيَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَٰتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَُٔوهُمْ فَتُصِيبَكُم

ص: 302


1- سورة طه، الآية: 115.
2- سورة مريم، الآية: 65.
3- سورة طه، الآية: 132.
4- سورة الأعراف، الآية: 128.
5- سورة الأحقاف، الآية: 35.
6- سورة آل عمران، الآية: 159.
7- سورة لقمان، الآية: 17.

مِّنْهُم مَّعَرَّةُ بِغَيْرِ عِلْمٖ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِۦ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَٰهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}(1).

وقال تبارك وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَٰبٖ وَحَفَفْنَٰهُمَا بِنَخْلٖ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَئًْا وَفَجَّرْنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا۠ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}(2).

وقال عزّ ذكره: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}(3).

وقال سبحانه: {وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِۦ قَالَ يَٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَٰرُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}(4).

وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَئًْا وَلَايَهْتَدُونَ}(5).

الإمام خليفة اللّه

قال عزّ وجلّ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا

ص: 303


1- سورة الفتح، الآية: 25-26.
2- سورة الكهف، الآية: 32-34.
3- سورة الشعراء، الآية: 106- 111.
4- سورة الزخرف، الآية: 51-52.
5- سورة البقرة، الآية: 170.

يُوقِنُونَ}(1).

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}(2).

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}(3).

وقال جلّ وعلا: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(4).

وقال تعالى: {يَٰدَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ}(5).

وقال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

العزم والحزم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأحزم الناس أكظمهم للغيظ»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا اقترن العزم بالحزم كملت السعادة»(8).

ص: 304


1- سورة السجدة، الآية: 24.
2- سورة البقرة، الآية: 247.
3- سورة الرعد، الآية: 7.
4- سورة النساء، الآية: 59.
5- سورة ص، الآية: 26.
6- سورة النمل، الآية: 62.
7- بحار الأنوار 68: 421.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 285.

وقال(عليه السلام): «أصل العزم الحزم، وثمرته الظفر»(1).

وقال(عليه السلام): «ثمرة الحزم السلامة»(2).

وقال(عليه السلام): «كذب السفير يولد الفساد ويفوت المراد ويبطل الحزم وينقض العزم»(3).

وقال(عليه السلام): «الحزم حفظ ما كلفت وترك ما كفيت»(4).

وقال(عليه السلام): «الحزم النظر في العواقب ومشاورة ذوي العقول»(5).

العصبية والجاهلية

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من كان في قبله حبة من خردل من عصبية، بعثه اللّه تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من تعصب أو تُعصب له، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه»(7).

وقال(عليه السلام): «إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم، وكان في علم اللّه أنه ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحمية والغضب وقال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٖ}»(8)(9).

ص: 305


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 199.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 326.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 539.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 79.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 105.
6- الكافي 2: 308.
7- الكافي 2: 307.
8- سورة الأعراف، الآية: 12.
9- الكافي 2: 308.

وقال(عليه السلام): «من تعصب عصّبه اللّه بعصابة من نار»(1).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين...»(2).

أهمية التخطيط والحكمة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس، لا خير في دين لا تفقه فيه، ولا خير في دنيا لا تدبر فيها، ولا خير في نسك لا ورع فيه»(3).

وقال(عليه السلام): «قدّر ثم اقطع، وفكر ثم انطق، وتبيّن ثم اعمل»(4).

وقال النبي عيسى بن مريم(عليه السلام): «بحق أقول لكم: إن النفس نور كل شيء، وإن الحكمة نور كل قلب، والتقوى رأس كل حكمة، والحق باب كل خير، ورحمة اللّه باب كل حق، ومفاتيح ذلك الدعاء والتضرع والعمل، وكيف يفتح باب بغير مفتاح؟»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الهيبة خيبة، والفرصة خلسة، والحكمة ضالة المؤمن، فاطلبوها ولو عند المشرك، تكونوا أحَقَّ بها وأهْلَها»(6).

الإمامة خلافة اللّه

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنما الأئمة قوام اللّه على خلقه، وعرفاؤه على عباده، ولا يدخل الجنة إلّا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلّا من أنكرهم

ص: 306


1- الكافي 2: 308.
2- الكافي 2: 308.
3- المحاسن 1: 5.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 500.
5- بحار الأنوار 14: 316.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 625.

وأنكروه»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «الأئمة خلفاء اللّه عزّ وجلّ في أرضه»(2).

وقال(عليه السلام): «الإمامة خلافة اللّه، وخلافة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ومقام أمير المؤمنين، وميراث الحسن والحسين(عليهم السلام)»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه اللّه الأمر، فإنه نظام الإسلام»(4).

ص: 307


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 152، من خطبة له(عليه السلام) في صفات اللّه جل جلاله وصفات أئمة الدين.
2- الكافي 1: 193.
3- الكافي 1: 200.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 14.

وإلى الشباب نقول...

المقدمة

اشارة

من وصية للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى ابنه الحسن(عليه السلام):

«وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عليك بالأحداث؛ فإنهم أسرع إلى كل خير»(2).

ما هي مكانة الشباب في الشريعة الإسلامية؟

وهل اهتم الإسلام بالشباب؟

وهل هناك مكان للشباب في فكر أهل البيت(عليهم السلام)؟

إن أمثال هذه الأسئلة تزدحم - عادة - في أذهان بعض الشباب وهي جميعاً ذات محور واحد وهو: الشباب ومكانتهم ودورهم في هذه الحياة.

وقد يزعم البعض من الناس أن الإسلام لم يعط للشباب تلك الأهمية التي توليها لهم الدول الأوربية والغربية، بل إنه ضيّق الخناق على كثير من المظاهر الاجتماعية، فكيف الحال بالشباب؟ وما إلى غير ذلك من الشائعات غير الصحيحة، التي يشيعها أعداء الإسلام على الإسلام ورجالاته.

ومن أجل ما سبق سوف نشير إلى الإجابة على هذه الاعتراضات ونبين موارد

ص: 308


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) لولده الحسن(عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
2- الكافي 8: 93.

الشبهة فيها، ومن ثم نذكر برنامجاً مبسطاً للشباب المسلم.

الشباب ذخائر الأمم

ينظر الإسلام إلى الشباب على أنهم ذخائر الأمة، وخط الطاقة المتنامية فيها، وبناة الحضارة، وروّاد الفتح الإسلامي، ولقد اهتم الإسلام بدور الشباب كثيراً.

ويعود السبب إلى أمرين:

أولاً: يمتاز الشباب بفطرة سليمة نقية لم تتلوث بعد بالذنوب وباقي الانحرافات الأخرى، مما يساعد على تنظيم وتعميق علاقتهم مع اللّه عزّ وجلّ، وبالتالي سوف يكونون عناصر مخلصة وفعالة في الأمة.

ثانياً: إن مرحلة الشباب مرحلة جديدة مفعمة بطاقات هائلة، وهي بداية تنامي الآمال والأهداف، يرافقها حماس وفعاليات ونشاطات ذهنية وجسدية عظيمة، لا يمكن الاستهانة بها، فيأتي الإسلام لينظم الفعاليات والنشاطات، ويجعلها تصب في خدمة الأهداف، ومن ثم يقرر الإسلام الأهداف الجيدة والنافعة من غيرها، وهكذا يأخذ بيد الشباب إلى طريق نجاحه في الدنيا والآخرة.

ولقد شهد التاريخ الإسلامي مشاهد كثيرة التي تدل على الاهتمام البالغ من رجال الإسلام بالشباب، من قبل الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، والصحابة المنتجبين. نذكر في المقام ما فعله رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من تأمير الشاب (أسامة بن زيد) على جيش المسلمين، وهو في سن الثامنة عشر، مع وجود كبراء الصحابة آنذاك، وأمر أبا بكر وعمر بأن يكونا تحت إمرة أسامة، وأن لا يعصيا له أمراً، وروي أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعن من تخلّف عن جيش أسامة ثلاث مرات(1).

ص: 309


1- انظر بحار الأنوار 30: 427 وفيه: قال المجلسي(رحمه اللّه): قال أصحابنا رضوان اللّه عليهم: كان أبو بكر وعمر وعثمان من جيش أسامة، وقد كرّر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمّا اشتدّ مرضه الأمر بتجهيز جيش أسامة ولعن المتخلّف عنه، فتأخّروا عنه واشتغلوا بعقد البيعة في سقيفة بني ساعدة. - إلى أن قال - روى البلاذري في تاريخه وهو معروف ثقة كثير الضبط بريء من ممالأة الشيعة: أنّ أبا بكر وعمر كانا معاً في جيش أسامة. وروى سعيد بن محمد بن مسعود الكازراني من متعصّبي الجمهور في تاريخه: أنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة، فلمّا كان من الغد دعا أسامة بن زيد، فقال له: «سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم مدّ الخيل، فقد وليتك هذا الجيش» فلمّا كان يوم الأربعاء بدأ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فحمّ وصدع، فلمّا أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده، ثم قال: «أغز بسم اللّه في سبيل اللّه، فقاتل من كفر باللّه». فخرج وعسكر بالجرف، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلّا انتدب في تلك الغزاة، فيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقّاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة وقتادة بن النعمان، فتكلّم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين؟!، فغضب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) غضباً شديداً، فخرج وقد عصّب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: «أمّا بعد، أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وأيم اللّه، إنّه كان للإمارة لخليقاً، وإنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ فاستوصوا به خيراً فإنّه من خياركم». ثم نزل فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودّعون رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويمضون إلى العسكر بالجرف، وثقل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلمّا كان يوم الأحد اشتدّ برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجعه، فدخل أسامة من معسكره والنبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مغمى عليه، وفي رواية: قد أصمت وهو لا يتكلّم، فطأطأ رأسه فقبّله رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة. قال: فعرفت أنّه يدعو لي، ورجع أسامة إلى معسكره، فأمر الناس بالرحيل، فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمّه أمّ أيمن قد جاءه يقول: إنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يموت... إلى آخر القصّة. وروى ابن أبي الحديد في شرح النهج، عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن أحمد بن سيّار، عن سعيد بن كثير، عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن عبد الرحمن: أنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مرض موته أمّر أسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه جلّة المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير، وأمره أن يغير على مؤتة حيث قتل أبوه زيد، وأن يغزو وادي فلسطين، فتثاقل أسامة وتثاقل الجيش بتثاقله، وجعل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مرضه يثقل ويخف ويؤكّد القول في تنفيذ ذلك البعث، حتّى قال له أسامة: بأبي أنت وأمّي، أ تأذن لي أن أمكث أيّاما حتّى يشفيك اللّه تعالى؟ فقال: «اخرج وسر على بركة اللّه». فقال: يارسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إن أنا خرجت وأنت على هذه الحال خرجت وفي قلبي قرحة منك. فقال: «سر على النصر والعافية». فقال: يا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّي أكره أن أسأل عنك الركبان؟ فقال: «أنفذ لما أمرتك به». ثم أغمي على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وقام أسامة فتجهز للخروج، فلمّا أفاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سأل عن أسامة والبعث، فأخبر أنّهم يتجهّزون، فجعل يقول: «أنفذوا بعث أسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه». وكرّر ذلك، فخرج أسامة واللواء على رأسه والصحابة بين يديه، حتّى إذا كان بالجرف نزل ومعه أبو بكر وعمر وأكثر المهاجرين، ومن الأنصار أسيد بن حضير وبشير بن سعد وغيرهم من الوجوه، فجاءه رسول أمّ أيمن يقول له ادخل فإنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يموت، فقام من فوره فدخل المدينة واللواء معه، فجاء به حتى ركزه بباب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد مات في تلك الساعة، قال: فما كان أبو بكر وعمر يخاطبان أسامة إلى أن ماتا إلّا بالأمير. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 6: 52.

ص: 310

وكذلك ما كان يفعله في كافة حروبه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد كان يعطي الراية بيد علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وقد كان ما يزال شاباً(1)، ونصّبه وصيّاً له، وقد كان في عمر الشباب أيضاً، كما جاء في الحديث الدار.

روي عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(2) دعاني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا علي، إن اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين - إلى أن قال - فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن، واجمع لي بني عبد المطلب حتى أعلمهم وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجل أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعت لهم، فجئنا به، فلما وضعته تناول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جذبة لحم فشقها فنتفها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال: كلوا بسم اللّه، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة ولا أرى إلّا

ص: 311


1- انظر الإرشاد 1: 78.
2- سورة الشعراء، الآية: 214.

مواضع أيديهم، مواضع أيديهم،وايم اللّه الذي نفس علي بيده، إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم.

ثم قال: اسق القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً، وايم اللّه، إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.

فلما أراد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يكلمهم تذرب أبو لهب إلى الكلام، فقال: لَهَدَّ ما سحركم صاحبكم.

فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: الغد يا علي، إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فأعد لنا من الطعام مثل ما صنعت، ثم اجمعهم لي ففعلت، ثم جمعتهم له، ثم دعا بالطعام فقربه لهم، ففعل كما فعل بالأمس، وأكلوا حتى ما لهم بشيء من حاجة، ثم قال: اسقهم، فأتيتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا بني عبد المطلب، إني واللّه ما أعلم شباباً في العرب جاء قومه بأفضل - من - ما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه تبارك وتعالى أن أدعوكم، فأيكم يوازرني على أمري على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟

فأحجم القوم عنها جميعاً، قال: قلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً(1)، قلت: أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه.

فأخذ برقبتي ثم قال: هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع»(2).

ص: 312


1- الرمص في العين: كالغمص، وهو قذى تلفظ به، كناية عن صغر سنه، وحمش الساقين: رفيعهما.
2- تفسير فرات الكوفي: 301.

وهكذا تكرر التأكيد على خلافة علي أمير المؤمنين(عليه السلام) حتى كان يوم الغديرفخطب النبي في أصحابه وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله»(1).

مصعب بن عمير

اشارة

وكذلك نرى الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في موضع التبليغ للإسلام كان يعتمد على الشباب أيضاً، فقد أرسل إلى المدينة المنورة مصعب بن عمير ليعلّم الناس أصول الدين والقرآن.

وقد جاء في بعض الروايات أن أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس - وهما من الخزرج - عندما أسلما على يد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكة قالا: يا رسول اللّه، ابعث معنا رجلاً يعلمنا القرآن، ويدعو الناس إلى أمرك، فقال رسول اللّه لمصعب بن عمير، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم ولم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، وكان مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الشِعب حتى تغير وأصابه الجهد، فأمره رسول اللّه بالخروج مع أسعد، وقد كان تعلم من القرآن كثيراً، فخرج هو مع أسعد إلى المدينة ومعهما مصعب بن عمير وقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخبره، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان، وكان مصعباً نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كل يوم ويطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الإسلام فيجيبه الأحداث...(2).

واستطاع مصعب أن يتوغل بالإسلام إلى قلوب الأوس وبني عمرو بن عوف، حتى شاع الإسلام بالمدينة وكثر، ولما بلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دخول الأوس

ص: 313


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 47.
2- إعلام الورى: 57.

والخزرج في الإسلام ونشوء قاعدة أمينة لنشر الدعوة الإسلامية أمر أصحابه أن يخرجواإلى المدينة، ومن هناك انطلقت رايات الإسلام ومفاهيمه الوضّاءة لتخفق على أرجاء المعمورة، وكان للشباب دوراً فعالاً في تلك الأحداث.

إلى غيرها من الشواهد التاريخية الكثيرة التي تؤكد على الاهتمام بالشباب، وهذا الأمر ليس محصوراً بالذكور، بل إننا نرى الفقه الإسلامي يحرض على الاهتمام بكلا الجنسين، ويشجعهما على طلب العلم والاجتهاد فيه، والسعي لبناء مستقبل أفضل. ولا يمنعهم من ممارسة حاجاتهم المشروعة، أو ممارسة بعض الهوايات غير المحرمة، ولكن العنوان العام لكل ذلك هو أن لا تؤدي هذه الأمور إلى الفساد والانحلال الخلقي، وانعدام الحواجز الروحية، والتمرد على أحكام اللّه عزّ وجلّ، والاستهزاء بالشريعة المقدسة، والإخلال بالواجبات؛ فالإسلام يؤكد على الحفاظ على الفطرة والقلب والذهن وسلامة كل منها، لأن الذنوب تعيق الإنسان من الكمال وتؤخره؛ ولذلك فإنه لا تجوز ممارسة الأمور التي تكون سبباً للحرام أو مستلزمة له، حفاظاً على مسيرة الإنسان التكاملية.

سلوك الشباب

قال تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1).

لا يخفى أن سلوك الشباب يختلف عادة عن سلوك الكبار، فلا بد أن ننظر لهذا الأمر من زاويتين:

الأولى: كيف نتعامل معهم، وأي طريق نسلك للدخول في عالمهم؟

الثانية: أن نلاحظ سلوك الشباب في ما بينهم، ثم نقوم بسد الثغرات عندهم

ص: 314


1- سورة النحل، الآية: 125.

على الصعيد الفكري وغيره، وتصحيح ما هو خطأ في حياتهم.

بالنسبة للزاوية الأولى: يقول مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام): «لاتقسِروا أولادكم على آدابكم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»(1).

حيث يؤكد إمامنا على نوع المعاملة مع أبنائنا الشباب؛ لأنهم يعيشون في فترة زمانية غير التي عاش فيها الآباء، حيث التغير طرأ على كل شيء بدءً من الزي والمأكل وشكل المسكن، مروراً بوسائل العلم والعمل، وانتهاءً بتغير الألفاظ وظهور العادات والتقاليد الجديدة، والتي لا تنافي - بالطبع - الخط الإسلامي العام. وعلى ضوء ذلك، فلا بد أن يتغير أسلوب الحوار معهم أيضاً، وإلّا فلا معنى أن تتغير كل مظاهر الحياة ثم لا نغيّر حوارنا مع الشباب.

وعليه فينبغي أن نفتح آفاقاً رحبة مع أبنائنا الشباب، ونكثر من بناء الجسور التي تربطنا بهم فنلتقي معهم عبرها في كل آن، ونبتعد عن كل حالة أو أسلوب من شأنه أن يشنّج العلاقات معهم، وينفرهم عنّا، لاسيما بعض الأساليب الديكتاتورية، حيث يمارس الأب أو غير الأب دور التسلط على الشباب، انطلاقاً من قاعدة احترام الكبير، فيسيء إلى الشباب من خلال ما يتمتع به من مقام الأبوة أو غيره، فنلاحظ في أجواء الديكتاتورية مظاهر الضرب، أو الصياح، أو كمّ الأفواه، أو التحجيم لشخصيات الشباب، وإلغاء دورهم في الحياة، وغير ذلك مما هو بعيد كل البعد عن الإسلام. وحينئذ سوف نتوقع أحد الأمرين من الشباب: إما أن يصبحوا ديكتاتوريين في حياتهم، فيمارسون ظاهرة التسلط متى ما سنحت لهم الفرصة، فينعكس ذلك حتى في علاقاتهم مع الناس، مما يجعلهم أفراداً غير مرغوب فيهم، ولا ينسجم معهم أحد.

ص: 315


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20: 267.

أو يفلت الشباب من هذه القبضة الحديدية، فيكون له ردّ فعل معاكس، ممايؤدي بهم إلى ممارسة كل ما حرموا منه على جميع الأصعدة، فقد كانوا يعانون من سحق لشخصياتهم، فيبدؤون بإظهار شخصياتهم عبر مختلف الوسائل والطرق. وعندها تبدو عليهم ظاهرة (حب الظهور)، والرغبة في الشهرة، فتدب في نفوسهم أمراض الكبر والعجب والهوى.

إذن، نحن أمام هاتين الظاهرتين اللتين يقعان نتيجة للأسلوب اللاشعوري مع الشباب. فماذا نعمل؟ وكيف نتحرك معهم لكيلا نقع في هذه المحاذير؟

في رحاب الأنبياء(عليهم السلام)

اشارة

قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(2).

يجدر بنا أن ننقل ما ذكره القرآن الكريم عندما يتعرض لشخصية لقمان الحكيم وهو يحاور ولده الشاب، يقول اللّه تعالى - حكاية عن لقمان وهو يربي ويوجّه ابنه - : {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٖ فَخُورٖ}(3).

وكذلك عندما يتعرض القرآن إلى ذكر إبراهيم الخليل(عليه السلام)، وهو يسأل ولده إسماعيل(عليه السلام) عن رأيه: {يَٰبُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ}(4).

ص: 316


1- سورة يوسف، الآية: 111.
2- سورة الأعراف، الآية: 176.
3- سورة لقمان، الآية: 18.
4- سورة الصافات، الآية: 102.

نلاحظ من خلال هاتين الآيتين كيف كان الحكماء والأنبياء(عليهم السلام) يتعاملون معأولادهم، فلقد كانوا يختارون مضافاً إلى أسلوب الحوار والإقناع الفكري، أساليب العاطفة وتنمية هذا الجانب في روح الشاب للحفاظ على سلامة الفطرة، فلقمان الحكيم لم يطرح حكمه وتوصياته لابنه على نحو الإلزام والجبر، بل نلمس فيه إشعاراً بالمرونة، ويحاول أن يربط كلامه بجهة أخرى وهو اللّه عزّ وجلّ، لكيلا تتبادر إلى ذهن ولده فكرة التسلط، وأنه لو خالف توجيهات والده لحصل على نتائج غير مرضية، وقساوة من قبل لقمان، بل حاول لقمان بحواره مع ابنه، أن يفهمه أن هذه الصفات لا يحبها اللّه ولو تركتها ستكون من المقربين منه تعالى، ولكن لو خالفت فلا تحصل إلّا على البعد من اللّه عزّ وجلّ، والحرمان من الفيض الإلهي.

وكذا الأمر في حوار إبراهيم الخليل(عليه السلام) مع ولده، مع العلم أن رؤيا الأنبياء(عليهم السلام) حق، وهي أوامر لهم، ولكن مع ذلك يبين إبراهيم الخليل(عليه السلام) أوامر اللّه لولده على نحو الاستفهام؛ ليثير فيه جوانب حب الكمال؛ لأن طاعة اللّه على كل حال تزيد الإنسان إشراقاً وكمالاً وقرباً منه تعالى. وكم هو الفرق بين ما قاله إبراهيم(عليه السلام) لابنه، وبين ما لو قال له - مثلاً - : (يجب أن أذبحك، ويجب عليك أن تنصاع لهذا الأمر)، فالأسلوب الثاني غير ناجح دائماً، بل لعله يخلق حاجزاً في قلب الشاب فلا ينطلق مع أبيه إلّا وهو مكره على هذا الفعل، أما في الخطاب الأول فترى إسماعيل(عليه السلام) يتكلم مع أبيه بروحه وكمالاته وإيمانه، وقبل أن ينطق لسانه نطق إيمانه وحبه للّه عزّ وجلّ، وطاعته لأبيه: {قَالَ يَٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّٰبِرِينَ}(1).

ص: 317


1- سورة الصافات، الآية: 102.

فقد روي عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير أنه سمع أبا جعفر وأبا عبد اللّه(عليهما السلام)يذكران: «أنه لما كان يوم التروية قال جبرئيل لإبراهيم(عليه السلام): تروه من الماء، فسميت التروية، ثم أتى منى فأباته بها، ثم غدا به إلى عرفات فضرب خباه بنمرة دون عرفة، فبنى مسجداً بأحجار بيض، وكان يعرف أثر مسجد إبراهيم(عليه السلام) حتى أدخل في هذا المسجد الذي بنمرة حيث يصلي الإمام يوم عرفة، فصلى بها الظهر والعصر، ثم عمد به إلى عرفات، فقال: هذه عرفات فاعرف بها مناسكك واعترف بذنبك، فسمي عرفات، ثم أفاض إلى المزدلفة فسميت المزدلفة؛ لأنه ازدلف إليها، ثم قام على المشعر الحرام فأمره اللّه أن يذبح ابنه، وقد رأى فيه شمائله وخلائقه وأنس ما كان إليه، فلما أصبح أفاض من المشعر إلى منى، فقال لأمه: زوري البيت أنت، وأحتبس الغلام، فقال: يا بني هات الحمار والسكين حتى أقرب القربان».

فقال أبان: فقلت لأبي بصير: ما أراد بالحمار والسكين؟

قال: أراد أن يذبحه، ثم يحمله فيجهزه ويدفنه، قال - الإمام(عليه السلام) - : «فجاء الغلام بالحمار والسكين، فقال: يا أبت أين القربان؟ قال: ربك يعلم أين هو يا بني، أنت واللّه هو، إن اللّه قد أمرني بذبحك، فانظر ما ذا ترى؟ {قَالَ يَٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّٰبِرِينَ}(1) قال: فلما عزم على الذبح قال: يا أبت خمر وجهي وشد وثاقي، قال: يا بني الوثاق مع الذبح! واللّه، لا أجمعهما عليك اليوم...»(2).

روح الشباب

إذن، هناك أساليب لطيفة وجذابة تتلاءم مع روح الشباب، وتنسجم مع

ص: 318


1- سورة الصافات، الآية: 102.
2- الكافي 4: 207.

منطقهم وعواطفهم، فهذه هي الأساليب التي يلزم أن نتعامل بها معهم... وعليناأن نخلق أجواءً للحوار تنفتح فيه قلوب الشباب معنا، وتنمو قدراتهم، ونعلّمهم على أسلوب الإصغاء، وإعطاء الجواب، والتفكير بتأمل، واحترام الآراء والأشخاص؛ لكي يصبح رصيدهم الروحي أكبر من كل رصيد آخر، فيتعاملوا مع الناس من منطلق المعنويات الإنسانية، فنحافظ بذلك على سيرهم الاجتماعي وتفكيرهم.

ثم علينا أن نوضح لهم معنى الأهداف، والآمال، وما هو دور المبادئ في حياة الإنسان، وكيف يجب أن تكون الأهداف والمبادئ شريفة ومقدسة؛ لكي تكون حركة الإنسان نحوها حركة لها معنى، وعندها يضحي الإنسان بروحه من أجل مبادئه فيكون لتضحيته رصيد عند اللّه، ولا تذهب سدى، إلى غير ذلك مما ينظم توازن الشباب بين أفكارهم وحركاتهم في الحياة على صعيد الأهداف ومقدماتها.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): رحم اللّه من أعان ولده على بره.

قال قلت: كيف يعينه على بره؟

قال: يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه، ولا يخرق به؛ فليس بينه وبين أن يصير في حد من حدود الكفر إلّا أن يدخل في عقوق أو قطيعة رحم - ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - الجنة طيبةٌ، طيّبها اللّه، وطيب ريحها يوجد ريحها من مسيرة ألفي عام، ولا يجد ريح الجنة عاق ولا قاطع رحم، ولا مرخي الإزار خيلاء»(1).

ص: 319


1- الكافي 6: 50.

مع الشباب في عالمهم

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من كان له ولدٌ صبا»(1).

الزاوية الثانية التي ينبغي النظر إليها في دراسة شخصية الشباب هي: أن نلاحظ سلوك الشباب في ما بينهم، ثم نرسم تلك البرامج المناسبة لشخصيتهم ونقوم بسد الثغرات عندهم، وهنا يجب علينا أن نتحرك على مستويين أيضاً:

الأول: التعايش مع الشباب وعدم الابتعاد عن عالمهم المرح.

والثاني: وضع الحلول العملية الميدانية والبرامج التي تطورهم وتوجب سعادتهم الدنيوية والأخروية.

فعندما يريد أحد الأشخاص باعتباره أباً روحياً أو أباً نسبياً أن ينظر للشباب، أو يثقفهم، وبعبارة ثانية: إن من يريد أن يربيهم تربية روحية وثقافية واعية، عليه أولاً أن لا يكون شخصاً غريباً عن عالمهم، ولا عن تفاصيله؛ فعالم الشباب عالم خاص ولهم نمط خاص في الحياة، ولون خاص، ومنطق خاص، وحركة خاصة، وآمال عجيبة، وتصرفات تحتاج إلى موازنة، وإلى غير ذلك. فعلينا أن لا نهمل هذه الجوانب، مع الالتفات إلى مختصات الذكور ومختصات الإناث.

كما يلزم الالتفات إلى مسألة هامة، وهي: عندما ننطلق مع الشباب علينا أن لا ننطلق من بعض التقاليد الاجتماعية غير الصحيحة، كالذي ينظر إلى الحرية باعتبارها حقاً من حقوق الشباب الذكور فقط، أما بالنسبة إلى الإناث فيعتبرها محرّمة عليهن، وكأن الفتيات لا يسمح لهن بمزاولة حقوقهن المشروعة من التعلم والزواج وما أشبه. فبعض الأعراف ينظر إلى المرأة لا سيما الشابات البواكر على أنهن متهمات في كل سلوك وكلام وفكر، فيحظر عليهن الخروج

ص: 320


1- الكافي 6: 50.

والدخول والكلام، بل حتى إبداء وجهات نظرهن، حتى في أمر زواجهن، إلى غير ذلك من التقييدات التي ما أنزل اللّه بها من سلطان، نعم، لا يجوز الاختلاط المحرم، وكلما يوجب الفساد والإفساد.

إذن، من أراد أن يهدي الشباب إلى الطريق الصحيح عليه أن يدخل إلى عالمهم ويجالسهم ويشاركهم، ويأخذ برأيهم، ويعطيهم فرصة جديدة مع كل خطأ.

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أ لا أخبركم بشراركم؟».

قالوا: بلى يا رسول اللّه؟

قال: «الذين لا يقيلون العثرة، ولا يقبلون المعذرة، ولا يغفرون الزلة»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا عاتبت الحدث فاترك له موضعاً من ذنبه؛ لئلا يحمله الإخراج على المكابرة»(2).

الفتيات المؤمنات نماذج وعبر

اشارة

في التاريخ الإسلامي هناك الكثير من الفتيات المؤمنات حيث قمن بأدوار مهمة، فإننا نلاحظ من خلال سيرة أئمتنا الهداة(عليهم السلام) أنهم كانوا يهتمون بإعداد النساء كما يهتمون بإعداد الرجال تماماً لا فرق بينهما.

العقيلة الحوراء زينب(عليها السلام)
اشارة

فمثلاً، كانت مولاتنا السيدة زينب(عليها السلام) شريكة الإمام الحسين(عليه السلام) في ثورته ونهضته المباركة، وقد كانت عالمة وفقيهة، وتصدت لبيان أحكام اللّه في الفترة التي كان إمامنا السجاد(عليه السلام) تحت المراقبة الشديدة حتى قال(عليه السلام) في حقها:

ص: 321


1- مستدرك الوسائل 9: 57.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20: 333.

«أنت بحمد اللّه عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة...»(1).

ومما روي في فضلها(عليها السلام) أن يحيى المازني قال: كنت في جوار أمير المؤمنين(عليه السلام) مدة مديدة وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا واللّه ما رأيت لهاشخصاً ولا سمعت لها صوتاً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تخرج ليلاً والحسن عن يمينها والحسين عن شمالها وأمير المؤمنين(عليهم السلام) أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين(عليه السلام) فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن مرة عن ذلك؛ فقال: «أخشى أن ينظر أحدٌ إلى شخص أختك زينب». وهذا قمة العفاف والوقار.

وورد: أن الإمام الحسن(عليه السلام) لما وضع الطشت بين يديه وصار يقذف كبده سمع بأن أخته زينب تريد الدخول عليه، أمر - وهو في تلك الحال - برفع الطشت إشفاقاً عليها.

وورد: أن الإمام الحسين(عليه السلام) كان إذا زارته زينب يقوم إجلالاً لها، وكان يجلسها في مكانه(2).

وأشهر ما روي عنها(عليها السلام) من الأخبار روايتها لخطبة والدتها الزهراء(عليها السلام) التي احتجت بها في موضوع فدك وحق أمير المؤمنين(عليه السلام) في الخلافة. حيث روى ذلك عنها(عليها السلام) ابن أبي الحديد في شرح النهج(3) والمجلسي في البحار(4) والصدوق في علل الشرايع(5)، وأبي الفرج الأصفهاني(6) وغيرهم.

ص: 322


1- الإحتجاج 2: 305.
2- انظر عوالم العلوم 11: 955.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 211.
4- بحار الأنوار 29: 218.
5- علل الشرائع 1: 248.
6- مقاتل الطالبيين: 60.

وروى قدامة بن زائدة عن أبيه قال: قال علي بن الحسين(عليهما السلام): «بلغني يا زائدة أنك تزور قبر أبي عبد اللّه الحسين(عليه السلام) أحيانا؟».

فقلت: إن ذلك لكما بلغك.فقال لي: «فلماذا تفعل ذلك؛ ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأمة من حقنا؟».

فقلت: واللّه، ما أريد بذلك إلّا اللّه ورسوله، ولا أحفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه.

فقال: «واللّه، إن ذلك لكذلك؟».

فقلت: واللّه، إن ذلك لكذلك، يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً.

فقال: «أبشر، ثم أبشر، ثم أبشر، فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب - البحر - المخزون، فإنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا وقتل أبي(عليه السلام) وقتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب، يراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يواروا، فعظم ذلك في صدري واشتد لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي(عليهما السلام) فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي؟

فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي، مصرعين بدمائهم مرملين بالعراء، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر؟!

فقالت: لا يجزعنك ما ترى؛ فواللّه إن ذلك لعهد من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى جدك وأبيك وعمك، ولقد أخذ اللّه ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة، وهم معروفون في أهل السماوات، إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر

ص: 323

أبيك سيد الشهداء، لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً وأمره إلّا علواً.

فقلت: وما هذا العهد، وما هذا الخبر؟

فقالت: نعم، حدثتني أم أيمن أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) زار منزل فاطمة(عليها السلام) في يوم من الأيام، فعملت له حريرة وأتاه علي(عليه السلام) بطبق فيه تمر، ثم قالت أم أيمن: فأتيتهم بعس فيه لبن وزبد، فأكل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) من تلك الحريرة، وشرب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشربوا من ذلك اللبن، ثم أكل وأكلوا من ذلك التمر والزبد، ثم غسل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يده وعلي يصب عليه الماء، فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه، ثم نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، نظراً عرفنا به السرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً، ثم إنه وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا، ثم خر ساجداً وهو ينشج، فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه، ثم رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنها صوب المطر، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين(عليهم السلام) وحزنت معهم؛ لما رأينا من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهبناه أن نسأله، حتى إذا طال ذلك، قال له علي، وقالت له فاطمة: ما يبكيك يا رسول اللّه، لا أبكى اللّه عينيك؛ فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك؟

فقال: يا أخي سررت بكم سروراً ما سررت مثله قط، وإني لأنظر إليكم وأحمد اللّه على نعمته علي فيكم، إذ هبط علي جبرئيل(عليه السلام) فقال: يا محمد، إن اللّه تبارك وتعالى اطلع على ما في نفسك وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك، فأكمل لك النعمة وهنأك العطية، بأن جعلهم وذرياتهم ومحبيهم وشيعتهم معك في الجنة لا يفرق بينك وبينهم، يحبون كما تحب، ويعطون كما

ص: 324

تعطي حتى ترضى وفوق الرضا، على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا، ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملتك ويزعمون أنهم من أمتك، براء من اللّه ومنك، خبطاً خبطاً وقتلاً قتلاً شتى مصارعهم نائية، قبورهم خيرة من اللّه لهم ولك فيهم، فاحمد اللّه عزّ وجلّ على خيرته وارض بقضائه، فحمدت اللّه ورضيت بقضائه بما اختارهلكم.

ثم قال لي جبرئيل: يا محمد إن أخاك مضطهد بعدك مغلوب على أمتك متعوب من أعدائك، ثم مقتول بعدك، يقتله أشر الخلق والخليقة وأشقى البرية، يكون نظير عاقر الناقة ببلد تكون إليه هجرته، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده، وفيه على كل حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم، وإن سبطك هذا، وأومأ بيده إلى الحسين(عليه السلام)، مقتول في عصابة من ذريتك وأهل بيتك وأخيار من أمتك، بضفة الفرات بأرض يقال لها: كربلاء، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريتك، في اليوم الذي لا ينقضي كربه ولا تفنى حسرته، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة، يُقتل فيها سبطك وأهله، وأنها من بطحاء الجنة، فإذا كان ذلك اليوم الذي يقتل فيه سبطك وأهله، وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة، تزعزعت الأرض من أقطارها ومادت الجبال وكثر اضطرابها واصطفقت البحار بأمواجها وماجت السماوات بأهلها؛ غضباً لك يا محمد ولذريتك، واستعظاماً لما ينتهك من حرمتك، ولشر ما تكافى به في ذريتك وعترتك، ولا يبقى شيء من ذلك إلّا استأذن اللّه عزّ وجلّ في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين، الذين هم حجة اللّه على خلقه بعدك.

فيوحي اللّه إلى السماوات والأرض والجبال والبحار، ومن فيهن: إني أنا اللّه الملك القادر، الذي لا يفوته هارب ولا يعجزه ممتنع، وأنا أقدر فيه على الانتصار والانتقام، وعزتي وجلالي لأعذبن من وتر رسولي وصفيي، وانتهك حرمته وقتل

ص: 325

عترته ونبذ عهده وظلم أهل بيته، عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، فعند ذلك يضج كل شيء في السماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتك واستحل حرمتك، فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولى اللّه عزّ وجلّ قبض أرواحها بيده، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة، معهم آنية من الياقوت والزمرد،مملوة من ماء الحياة وحلل من حلل الجنة، وطيب من طيب الجنة، فغسلوا جثثهم بذلك الماء وألبسوها الحلل، وحنطوها بذلك الطيب، وصلت الملائكة صفاً صفاً عليهم.

ثم يبعث اللّه قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار، لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نية، فيوارون أجسامهم، ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء(عليه السلام) بتلك البطحاء، يكون علماً لأهل الحق وسبباً للمؤمنين إلى الفوز، وتحفه ملائكة من كل سماء مائة ألف ملك في كل يوم وليلة، ويصلون عليه ويطوفون عليه، ويسبحون اللّه عنده ويستغفرون اللّه لمن زاره، ويكتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمتك، متقرباً إلى اللّه تعالى وإليك بذلك وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم، ويوسمون في وجوههم بميسم نور عرش اللّه: هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء. فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نور تغشى منه الأبصار يدل عليهم ويعرفون به. وكأني بك يا محمد بيني وبين ميكائيل وعلي أمامنا، ومعنا من ملائكة اللّه ما لا يحصى عددهم، ونحن نلتقط مَن ذلك الميسم في وجهه من بين الخلائق، حتى ينجيهم اللّه من هول ذلك اليوم وشدائده، وذلك حكم اللّه وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمد، أو قبر أخيك، أو قبر سبطيك، لا يريد به غير اللّه عزّ وجلّ. وسيجتهد أناس ممن حقت عليهم اللعنة من اللّه والسخط، أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره، فلا يجعل اللّه تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً.

ص: 326

ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): فهذا أبكاني وأحزنني.

قالت زينب: فلما ضرب ابن ملجم (لعنه اللّه) أبي(عليه السلام) ورأيت عليه أثر الموت منه، قلت له: يا أبة، حدثتني أم أيمن بكذا وكذا، وقد أحببت أن أسمعه منك.

فقال: يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك سبايابهذا البلد، أذلاء خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما للّه على ظهر الأرض يومئذ ولي غيركم، وغير محبيكم وشيعتكم، ولقد قال لنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين أخبرنا بهذا الخبر: إن إبليس (لعنه اللّه) في ذلك اليوم يطير فرحاً، فيجول الأرض كلها بشياطينه وعفاريته، فيقول: يا معاشر الشياطين، قد أدركنا من ذرية آدم الطلبة، وبلغنا في هلاكهم الغاية، وأورثناهم النار، إلّا من اعتصم بهذه العصابة، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم، وحملهم على عداوتهم وإغرائهم بهم وأوليائهم، حتى تستحكموا ضلالة الخلق وكفرهم، ولا ينجو منهم ناج، ولقد صدق عليهم إبليس وهو كذوب، أنه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح، ولا يضر مع محبتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر».

قال زائدة: ثم قال علي بن الحسين(عليهما السلام) بعد أن حدثني بهذا الحديث: «خذه إليك ما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولاً لكان قليلاً»(1)(2).

خطبتها(عليها السلام) في أهل الكوفة

عن حذيم بن شريك الأسدي قال: لما أتى علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام) بالنسوة من كربلاء وكان مريضاً، وإذا نساء أهل الكوفة ينتدبن مشققات الجيوب،

ص: 327


1- قال المجلسي(رحمه اللّه) في البحار 28: 61 ضرب آباط الإبل: كناية عن الركض والاستعجال.
2- كامل الزيارات: 260.

والرجال معهن يبكون، فقال زين العابدين(عليه السلام) بصوت ضئيل، وقد نهكته العلة: «إن هؤلاء يبكون علينا، فمن قتلنا غيرهم؟!».

فأومأت زينب بنت علي بن أبي طالب(عليهم السلام) إلى الناس بالسكوت.قال حذيم الأسدي: لم أر واللّه خفرة(1) قط أنطق منها، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي(عليه السلام) وقد أشارت إلى الناس بأن أنصتوا، فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثم قالت بعد حمد اللّه تعالى والصلاة على رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر والخذل، ألّا فلا رقأت(2)

العبرة ولا هدأت الزفرة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، هل فيكم إلّا الصلف والعجب والشنف(3) والكذب وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة(4)، أو كفضة على ملحودة(5)، ألّا بئس ما قدمت لكم أنفسكم، أن سخط اللّه عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون أخي؟ أجل واللّه، فابكوا، فإنكم أحرى بالبكاء، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فقد أبليتم بعارها ومنيتم بشنارها، ولن ترحضوها أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حربكم ومعاذ حزبكم، ومقر سلمكم، وآسي كلمكم(6)، ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقاتلتكم، ومدرة(7) حججكم، ومنار محجتكم، ألّا ساء ما قدمت لكم أنفسكم،

ص: 328


1- الخفر: شدة الحياء، وامرأة خفرة: حيية، متخفرة.
2- الختل: الخداع، رقأت: جفت.
3- الصلف: الذي يمتدح بما ليس عنده، والشنف: البغض بغير حق.
4- الغمز: الطعن والعيب، والدمنة: المزبلة.
5- الفضة: الجص، والملحودة: القبر.
6- آسى كلمكم: أي دواء جرحكم.
7- المدرة: زعيم القوم ولسانهم المتكلم عنهم.

وساء ما تزرون ليوم بعثكم. فتعساً تعساً، ونكساً نكساً، لقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من اللّه، وضربت عليكم الذلة والمسكنة، أ تدرون ويلكم أي كبد لمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرثتم، وأي عهد نكثتم، وأي كريمةله أبرزتم، وأي حرمة له هتكتم، وأي دم له سفكتم، لقد جئتم شيئا إدّا(1) تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا، لقد جئتم بها شوهاء صلعاء عنقاء سوداء فقماء خرقاء(2)، كطلاع الأرض أو ملء السماء، أفعجبتم أن تمطر السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، فلا يستخفنكم المهل؛ فإنه عزّ وجلّ لا يحفزه(3) البدار ولا يخشى عليه فوت النار، كلا إن ربك لنا ولهم لبالمرصاد.

ثم أنشأت تقول(عليها السلام):

ماذا تقولون إذ قال النبي لكم *** ماذا صنعتم وأنتم آخر الأمم

بأهل بيتي وأولادي وتكرمتي *** منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم *** أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

إني لأخشى عليكم أن يحل بكم *** مثل العذاب الذي أودى على إرم

ثم ولت عنهم.

قال حذيم: فرأيت الناس حيارى قد ردوا أيديهم في أفواههم، فالتفت إلي شيخ في جانبي يبكي، وقد اخضلت لحيته بالبكاء ويده مرفوعة إلى السماء، وهو يقول: بأبي وأمي، كهولهم خير كهول، ونساؤهم خير نساء، وشبابهم خير شباب،

ص: 329


1- أي: أمراً فظيعاً.
2- الشوهاء: القبيحة، والفقماء: إذا كانت ثناياها العليا إلى الخارج فلا تقع على السفلى، والخرقاء: الحمقاء.
3- يحفزه: يدفعه.

ونسلهم نسل كريم، وفضلهم فضل عظيم، ثم أنشد:

كهولكم خير الكهول ونسلكم *** إذا عد نسل لا يبور ولا يخزى

فقال علي بن الحسين(عليهما السلام): «يا عمة اسكتي؛ ففي الباقي من الماضي اعتبار،وأنت بحمد اللّه عالمة غير معلمة، فهمة غير مفهمة، إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر».

فسكتت، ثم نزل(عليه السلام) وضرب فسطاطه وأنزل نساءه ودخل الفسطاط(1).

السيدة حميدة المصفاة(عليها السلام)

وكذلك السيدة حميدة زوجة إمامنا الصادق(عليه السلام)، هي من تلك النماذج الأسوة للشباب فقد كانت عالمة وفقيهة، حيث روي عن أحوالها(عليها السلام) أنها كانت من أشراف الأعاجم، وكان أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) يأمر النساء بالرجوع إليها في أخذ الأحكام.

فقد روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) - حينما سئل(عليه السلام) عن مولود ما يفعل به يوم التروية - فقيل: إن معنا صبياً مولوداً فكيف نصنع به؟

قال(عليه السلام): «مر أمّه تلقى حميدة فتسألها كيف تصنع بصبيانها».

فأتتها فسألتها كيف تصنع؟

فقالت: «إذا كان يوم التّروية فأحرموا عنه، وجرّدوه وغسّلوه، كما يجرّد المحرم، وقفوا به المواقف، فإذا كان يوم النّحر فارموا عنه واحلقوا رأسه، ثمّ زوروا به البيت ومري الجارية أن تطوف به بين الصّفا والمروة»(2).

وفي حديث قال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما اسمك؟».

ص: 330


1- الاحتجاج 2: 303.
2- وسائل الشيعة 11: 286.

قالت: حميدة.

فقال: «حميدةٌ في الدنيا محمودةٌ في الآخرة» - إلى أن قال - فقال: «يا جعفر،خذها إليك» فولدت خير أهل الأرض موسى بن جعفر(عليهما السلام)(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام) عنها: «حميدة مصفاة من الأدناس، كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إلي، كرامة من اللّه لي، والحجة من بعدي»(2).

السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام)

أما السيدة فاطمة المعصومة فهي أيضاً من تلك النماذج الأسوة للشباب في إيمانها وفضلها، فهي أخت الإمام الرضا(عليه السلام) بنت الإمام الكاظم(عليه السلام)، وفي فضلها وفضل زيارتها(عليها السلام) روى سعد بن سعد، قال: سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفر(عليها السلام) بقم؟

فقال: «من زارها فله الجنة»(3).

وعن الإمام محمد الجواد(عليه السلام) قال: «من زار قبر عمتي بقم فله الجنة»(4).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام) لسعد: «يا سعد، عندكم لنا قبر».

قلت: جعلت فداك، قبر فاطمة بنت موسى(عليهما السلام)؟

قال: «نعم من زارها عارفاً بحقها فله الجنة، فإذا أتيت القبر فقم عند رأسها مستقبل القبلة، وكبر أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمد اللّه ثلاثاً وثلاثين تحميدة» ثم ذكر(عليه السلام) زيارتها(5).

ص: 331


1- الكافي 1: 477.
2- الكافي 1: 477.
3- وسائل الشيعة 14: 576.
4- كامل الزيارات: 324.
5- بحار الأنوار 99: 266.
سكينة بنت الحسين(عليها السلام)

أما السيدة سكينة بنت الإمام الحسين(عليه السلام) وعزيزته، فقد كانت مشهورة بالعلموالمعرفة والميل الروحي العميق نحو الباري تعالى، كيف لا وهي تربت في بيت الطهر والعفة ومنبع الإيمان وبرعاية خامس أصحاب الكساء(عليهم السلام) وكان أبوها يوليها رعاية خاصة، ووصفها بقوله(عليه السلام): «وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع اللّه تعالى...»(1).

روي: إن اسمها الأصلي آمنة أو أمينة أو أُمامة، وأمها الرباب هي التي لقّبتها بلقب سكينة لسكونها، وهي شقيقة علي الأصغر(عليه السلام) وحضرت كربلاء وهي في سن العاشرة أو الثالثة عشر. وروي: أن الإمام الحسين(عليه السلام) لقبها يوم الطف بلقب خيرة النسوان؛ فحينما كان الإمام الحسين(عليه السلام) يودّع عياله وأطفاله يوم عاشوراء رآها قد اعتزلت النساء جانباً وهي تبكي، فقال لها:

سيطول بعدي يا سكينة فأعلمي *** منك البكاء إذا الحمام دهاني

لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة *** مادام مني الروح في جثماني

وإذا قُتلتُ فأنت أولى بالذي *** تأتينه يا خيرة النسوان(2)

وأحبها الإمام الحسين(عليه السلام) وأمها الرباب حباً شديداً، وقال فيهما شعراً، جاء فيه:

لعمرك إنني لاُحب داراً *** تحل بها سكينة والرباب

أحبهما وأبذل جلّ مالي *** وليس لعاتب عندي عتاب(3)

ص: 332


1- الكنى والألقاب 2: 465.
2- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 109.
3- بحار الأنوار 45: 47.

وهي الشريفة الطاهرة المطهرة، والزهرة الباسمة الناظرة، كانت من سيدات نساء عصرها، ومن أحسنهن أخلاقاً، ذات بيان وفصاحة، ولها السيرة الجميلة.

وروي عنها(عليها السلام): أنها رأت في منامها وهي بدمشق كأن خمسة نجب من نور قدأقبلت وعلى كل نجيب شيخ، والملائكة محدقة بهم ومعهم وصيف يمشي، فمضى النجب وأقبل الوصيف إلي وقرب مني، وقال: يا سكينة إن جدك يسلم عليك.

فقلت: وعلى رسول اللّه السلام، يا رسول رسول اللّه من أنت؟

قال: وصيف من وصائف الجنة.

فقلت: من هؤلاء المشيخة الذين جاؤوا على النجب؟

قال: الأول آدم صفوة اللّه، والثاني إبراهيم خليل اللّه، والثالث موسى كليم اللّه، والرابع عيسى روح اللّه(عليهم السلام).

فقلت: من هذا القابض على لحيته يسقط مرة ويقوم أخرى؟

فقال: جدك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقلت: وأين هم قاصدون؟

قال: إلى أبيك الحسين.

فأقبلت أسعى في طلبه؛ لأعرّفه ما صنع بنا الظالمون بعده، فبينما أنا كذلك إذ أقبلت خمسة هوادج من نور، في كل هودج امرأة، فقلت: من هذه النسوة المقبلات؟

قال: الأولى حواء أم البشر، والثانية آسية بنت مزاحم، والثالثة مريم بنت عمران، والرابعة خديجة بنت خويلد، والخامسة الواضعة يدها على رأسها تسقط مرة وتقوم مرة وتقوم أخرى.

فقلت: من؟

ص: 333

فقال: جدتك فاطمة بنت محمد أم أبيك.

فقلت: واللّه لأخبرنَّها ما صنع بنا.

فلحقتها ووقفت بين يديها أبكي وأقول: يا أمتاه جحدوا واللّه حقنا، يا أمتاهبددوا واللّه شملنا، يا أمتاه استباحوا واللّه حريمنا، يا أمتاه قتلوا واللّه الحسين أبانا.

فقالت: «كفي صوتك يا سكينة، فقد أقرحت كبدي وقطعت نياط قلبي، هذا قميص أبيك الحسين معي لا يفارقني حتى ألقى اللّه به»، ثم انتبهت وأردت كتمان ذلك المنام، وحدثت به أهلي فشاع بين الناس(1).

وعاشت السيدة سكينة(عليها السلام) بعد عودتها من واقعة الطف في كنف الإمام السجاد(عليه السلام). وقد عاصرت ثلاثة من الأئمة وهم: الإمام الحسين والإمام السجاد والإمام الباقر(عليهم السلام).

توفيت(عليها السلام) عام (117ه) في المدينة المنورة.

السيدة نفيسة(عليها السلام)
اشارة

وكذلك السيدة نفيسة(عليها السلام) فهي نموذج للعلم والعمل الصالح ومثال التقوى، وأسوة صالحة للشباب، فإنها من تلك الشخصيات العظيمة التي نمت وترعرعت في بيوت آل الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وهي السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام). لقبت ب- : نفيسة العلم، ولدت بمكة سنة (154ه) ونشأت بالمدينة، زوّجها أبوها من إسحاق بن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) وكان يقال له: إسحاق المؤتمن، وكان إسحاق من أهل الفضل والاجتهاد، والورع والصلاح، كيف لا، وهو ابن الإمام الصادق(عليه السلام)، وقد أخذ عن أبيه الكثير من علومه وآدابه وأخلاقه، حتى أصبح له شأن ومقام ووثاقة لا

ص: 334


1- مثير الأحزان: 104.

تخدش.

وهكذا كان في هذا الزواج المبارك انسجام يتوافق مع ما نشأت عليه السيدة نفيسة من حب اللّه والانصراف إلى طاعته جلّ جلاله. وقد ولدت له (أبا القاسم) و(أم كلثوم)، فاجتمع في هذا البيت نور الحسن ونور الحسين(عليهما السلام)، رويَ عنهالحديث، وكان الراوي إذا حدّث عنه يقول: حدّثني الثقة الرضي إسحاق بن جعفر، وكان له عقب بمصر منهم بنو الرقي، وبحلب بنو زهرة.

وكانت(عليها السلام) وهي في المدينة لا تفارق حرم جدّها المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قارئة ذاكرة باكية، راكعة ساجدة، ضارعة داعية، وقد حجت بيت اللّه الحرام ثلاثين حجّة، أكثرها مشياً على الأقدام تقرّباً إلى اللّه وزلفاً إليه.

شُغف حبّاً أهالي مصر بالسيدة نفيسة، وزاد شوقهم فيها ورغبتهم إليها عندما علموا أنها في الطريق إلى مصر. فخرج لاستقبالها أهالي القاهرة وأعيانها، وكانت بصحبة زوجها (إسحاق المؤتمن)، ونزلت في دار كبير التجار، وبعد فترة استقرت في الدار التي أعدت لها.

وراح الناس بمختلف فئاتهم يترددون عليها وعلى زوجها، يأخذون عنهما العلم والفقه والحديث، فحصلوا بذلك على الكثير من الثقافة الصحيحة. حتى أصبحت رمزاً للطهارة والقداسة في تلك الديار.

وكان لأخيها يحيى (المتوّج) بنت واحدة اسمها (زينب) انقطعت لخدمة عمتها، تقول: لقد خدمت عمتي نفيسة أربعين سنة، فما رأيتها نامت بليل، أو أفطرت بنهار، إلّا في العيد وأيام التشريق، وتقول: كانت عمتي تحفظ القرآن وتفسّره وتقرأه وتبكي... وهكذا عاشت في مصر معزّزة مكرّمة، ينتهل من نمير علومها أهالي مصر. وكانت مثال الحديث الشريف الوارد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا بَني، عاشروا الناس بالمعروف معاشرة إن عشتم حنّوا إليكم، وإن متّم بكوا

ص: 335

عليكم»(1).

وكانت السيدة تحسن وتنفق من مالها على المرضى والزمنى والجذماء،فكانت تجود بما عندها وتؤثر غيرها؛ فتداوي المرضى وتخدمهم، وكان يقصدها العلماء يبتغون عندها العلم النافع.

ورثت السيدة نفيسة عن جدها علي بن أبي طالب(عليه السلام) الجرأة والشجاعة وعدم الخوف إلّا من اللّه، مهما كان الجبروت والبطش والطغيان، مراعية أدب النصيحة وحسن القول وأدب مخاطبة السلاطين، فقد ذكر: أنه لما ظلم أحمد بن طولون استغاث الناس من ظلمه بالسيدة نفيسة يشكونه إليها، فقالت سائلة: متى يخرج موكب الأمير؟ ثم كتبت رسالة ووقفت بها في طريقه ونادته، فنزل عن فرسه لما عرفها، وأخذ الرسالة ثم قرأ فيها: ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وحملتم أمانة الحكم فظلمتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة، لا سيما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبق الظالم. اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا باللّه مستجيرون، واظلموا فإنا إلى اللّه متظلمون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٖ يَنقَلِبُونَ}(2) فعدل لوقته عن ظلمه(3).

أحبها أهل مصر الذين عايشوها ورأوا فيها مكارم الأخلاق فهي سليلة الطهر والعفاف ومحاسن الأخلاق التي تحلى بها أهل بيت النبوة(عليهم السلام) فكانوا يحبونها حباً شديداً، وقد تعاطفوا معها لما كان يصيب أهل البيت من ظلم وجور على أيدي الطغاة من حكام ذلك الزمان، وتحركت عواطفهم بالمواساة والاحترام لآل

ص: 336


1- بحار الأنوار 75: 77.
2- سورة الشعراء، الآية: 227.
3- انظر المستطرف 1: 192.

البيت(عليهم السلام).

من كراماتها

رويت للسيدة نفيسة(عليها السلام) كرامات لا تمحى من ذاكرة المصريين، منها قصة تلكالصبية المشلولة التي كانت من بيت يهودي، إذ أنها لا قدرة لها على الحراك، وكانت أمها تريد الذهاب خارج البيت لقضاء بعض شؤونها، ولم يكن أحد عندها يرعى طفلتها المشلولة، فحملتها إلى منزل السيدة نفيسة، وكان المنزل إلى جوارهم، وطلبت منها أن ترعاها لحين عودتها، فرحّبت بذلك. وأرادت السيدة الجليلة أن تتوضأ وبعد أن توضأت جعلت تبلّ يدها من ماء الوضوء وتمرّ به على أعضاء تلك الطفلة المشلولة، فزال عنها ما كان بها، بإذن اللّه وببركة السيدة نفيسة، وهبّت الطفلة تمشي على رجليها وكأن شيئاً لم يكن بها.

فجاءت أمها، فرأت ابنتها وقد خرجت إليها ماشية، فسألتها فأخبرتها الخبر، فعجبت لذلك وفرحت فرحاً عظيماً، وأسلمت وأسرتها على يد السيدة نفيسة، وأسلم كثير ممن سمع بالخبر.

وروي أن ابناً لامرأة ذمّية أسر في بلاد الروم، فأتت إلى السيدة نفيسة وسألتها الدعاء أن يردّ اللّه ابنها عليها، فلما كان الليل لم تشعر الذمّية إلّا بابنها وقد هجم عليها دارها، فسألته عن خبره فقال: يا أمّاه لم أشعر إلّا ويد قد وقعت على القيد الذي كان في رجلي وقائل يقول: أطلقوه؛ قد شفعت فيه نفيسة بنت الحسن، فوالذي يُحلَفُ به يا أمّاه، لقد كُسر قيدي وما شعرت بنفسي إلّا وأنا واقف بباب هذه الدار.

فلما أصبحت الذمّية أتت إلى السيدة نفيسة وقصت عليها الخبر وأسلمت هي وابنها وحسن إسلامهما.

ص: 337

وفاتها

توفيت السيدة نفيسة(عليها السلام) في شهر رمضان سنة (208ه) ودفنت في منزلها وهو الموضع الذي به قبرها الآن، ويعرف بخط درب السباع. وكان الموت لا يغادر لحظة فكرها حتى أنها حفرت قبراً لها في بيتها وكانت تنزله وتقرأ فيه القرآن،وختمت القرآن مائة وتسعين مرة فيه، وتبكي بكاءً عظيماً. ولما أحست بدنو أجلها، كتبت إلى زوجها تطلب حضوره، فاشتدت بها العلة، حتى حلّت عليها أول جمعة من شهر رمضان، فزاد عليها الألم، وهي صائمة، فأشار الأطباء عليها بالإفطار لحفظ قوتها، ولتتغلب على مرضها فرفضت.

فانصرف الأطباء، معجبين بقوة يقينها وثبات دينها، فسألوها الدعاء، فقالت لهم خيراً ودعت لهم.

وشاءت السيدة نفيسة أن تختم حياتها بتلاوة القرآن الحكيم، وبينما كانت تتلو سورة الأنعام، حتى إذا بلغت قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1) غشي عليها. تقول زينب بنت أخيها: ضممتها إلى صدري، فتشهدت شهادة الحق، وصعدت روحها إلى باريها في السماء.

وما إن ذاع خبر وفاتها حتى عج الناس بالبكاء والنحيب، ودخل الحزن بيت كل محب وعارف لفضل هذا البيت الطاهر. ووصل زوجها (إسحاق المؤتمن) القاهرة بعد أن كانت قد فارقت روحها الطاهرة البدن المسجّى. ووصل زوجها إلى مصر وأراد نقلها، إلّا أنّ أهالي القرية استجاروا بالأمير عند إسحاق ليردّه عمّا أراد، فأبى، فجمعوا له مالاً جزيلاً حتى وسق بعيره(2) الذي أتى عليه، وسألوه أن يدفنها عندهم فأبى، فباتوا منه في ألم عظيم، فلمّا أصبحوا اجتمعوا إليه فوجدوا

ص: 338


1- سورة الأنعام، الآية: 127.
2- وسق: الوَسْقُ والوِسْقُ: مِكْيَلَة معلومة، وقيل: هو حمل بعير.

منه غير ما عهدوه بالأمس، فقالوا له: إن لك لشأناً عظيماً؟!

قال: نعم رأيتُ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يقول لي: «رُدّ عليهم أموالهم، وادفنها عندهم. فدفنها في المنزل الذي كانت تسكنه في محلة كانت تعرف قديماً بدربالسباع، وقد بادت هذه المنطقة ولم يبق سوى قبرها. ولأهل مصر اعتقاد بها عظيم، فإنّ الدعاء يستجاب عند قبرها، وقد زار قبرها من العلماء والصالحين خلق لا يُحصى عددهم، وهكذا أصبح قبرها علماً ومزاراً يزوره المحبّون، ويتذاكرون بركات هذه السيدة الجليلة على أهالي مصر، وما منحتهم من علوم وآداب وما أتحفتهم به من فقه وحديث نبوي. ويتذاكرون تلك الكرامات التي بقيت ذكراها بينهم.

نعم، هكذا يجب أن تكون نساء المسلمين وفتياتهم، فضلاً عن رجالهم وشبابهم. فعلى المتصدين الذين يتابعون أمور الشباب أن يتأملوا في تأريخ أهل البيت(عليهم السلام)، ويبينوا للشباب تلك النماذج الطاهرة والأسوة الحسنة ويعملوا بتلك الخطوات التي رسمها أئمتنا العظام(عليهم السلام).

الشيخ البلاغي

كما برز من مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) عدد كبير من العلماء الأعاظم والأجلاء، وقد كان من جهادهم وسيرتهم خلال أيام شبابهم ما يصلح أن يكون عبرة للشباب. ومن هؤلاء العلماء الذين بزغ نجمهم في القرن الرابع عشر الهجري، فأناروا ما حولهم بعلمهم وتأليفاتهم، الشيخ جواد البلاغي(رحمه اللّه)، فإنه كان من العلماء الأوتاد الذين خدموا الإنسانية بجهدهم العلمي، وتقواهم العملي، فقد نقل لي والدي(رحمه اللّه) قصة ذكر فيها هذا الشيخ الجليل، فقال: إن الشيخ البلاغي قبل انتقاله إلى حوزة النجف الأشرف كان يواصل دراسته الدينية في حوزة سامراء المقدسة، وكان الراتب الشهري للطلبة في حوزة سامراء قليلاً جداً، كما

ص: 339

هي العادة في قلة الراتب الشهري بالنسبة إلى طلاب العلوم الدينية في كل الحوزات العلمية حتى يومنا هذا، وكان الشيخ البلاغي يصبر على قلة راتبه، ويقتنع بالشيء القليل من المأكل والملبس، ويجعل لذلك نصف مرتّبه،ويدخر النصف الآخر ليقدمه إلى يهودي كان يتعلم منه اللغة العبرية، لغة التوراة القديمة؛ ليرى ما هي النسبة بين التوراة المترجمة بالعربية، وبين التوراة الموجودة عند اليهود باللغة العبرية، ويعرف مدى صحة الترجمة وأمانتها من زيفها وبطلانها.

نعم، هكذا قضى الشيخ خيرة عمره، وريعان شبابه في هذا السبيل، حتى تعلم تلك اللغة الصعبة، واكتشف بالفعل الفرق بين الترجمة والأصل، ونص على موارد الخيانة في الترجمة، وإني شاهدت بعض تلك الموارد في تأليفاته القيمة، حيث يقول - مثلاً - : إن في اللغة القديمة تزيد كلمة، أو تنقص كلمة، مما يغير المعنى بالكامل، وربما يقلب النفي إلى إثبات، والإثبات إلى نفي.

ثم إن الشيخ البلاغي بقي في بغداد مدة كان يتعلم فيها العلوم الرياضية الحديثة: من حساب وجبر وهندسة عند بعض المدرسين، الذين كانوا يدرّسون في المدارس الحكومية، وقد اشتغل بتعلم الرياضيات لملاحظة بعض الأمور الدينية والأهداف الإنسانية، وقد ظهرت آثار هذا العلم في بعض كتبه أيضاً، ولا أعلم هل كان الشيخ يقدم بعض راتبه الشهري إلى هذا المعلم أيضاً أم لا؟

وعلى كل حال: فقد ألّف الشيخ في النجف الأشرف تأليفات مفيدة للغاية، وجميلة جداً، رأيت جملة منها، كالرحلة المدرسية، والهدى إلى دين المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، والتوحيد، والتثليث، وغير ذلك، وهو - حسب ما أعلم - كان فريداً في هذه العلوم، وحيداً بين أقرانه.

ص: 340

الجانب العملي

اشارة

هناك بعض الجوانب العملية التي لا بد منها للحفاظ على شبابنا وعلى مسيرتهم في الحياة، نذكر بعض هذه الجوانب:

1- يلزم الاهتمام بالتجمعات الجماهيرية الشبابية، فإنها وسيلة من الوسائل التي يميل إليها الشباب، وبنفس الوقت تكون وسيلة لنشر الثقافة، حيث تتداول فيها الأقوال والأخبار، وهذه التجمعات تارة تكون موجودة، وأخرى نحث على إيجادها؛ لكي نجمع أكبر قدر ممكن من الشباب المشتت الضائع، ولا بد أن نصنع برامج بواسطتها يتقدم الشباب خطوات إلى الأمام على الصعيد الاجتماعي والفكري، فعلينا أن نعمل على تشكيل مؤسسات أو مجمعات تحتضن وتحتوي الشباب، وتقدم لهم كل ما يحتاجون إليه.

أما إذا كان دورنا سلبياً تجاه الشباب، فمما لا شك فيه أن الأعداء يتحركون ويجعلون تلك الشريحة الكبيرة والمهمة من المجتمع تصب في صالحهم، فيبدؤون بنشر أفكارهم ومبادئهم المنحرفة كالشيوعية(1) التي جاءت واستوعبت كثيراً من الشباب، وجعلت منهم مبلغين للشيوعية، ثم جاءت الأفكار القومية وغيرها مما هو بعيد عن الإسلام. وجاءت الجهات المروجة للأفكار الغربية وثقافتها؛ لذا علينا أن نعمل في الواقع الخارجي عملاً يحافظ على إيمان الشباب ويصب هذا التجمع في خدمة الإسلام.

2- مما يلزم ملاحظته في أمر الشباب وحياتهم تهيئة وسائل الترفيه الجسدية والفكرية المشروعة والممدوحة كالسباحة والفروسية والرماية وما أشبه.

ص: 341


1- انظر كتاب: تلك الأيام، للإمام الشيرازي(رحمه اللّه) لمعرفة الشيوعية والقومية وما قام به(رحمه اللّه) وجمع من العلماء في العراق في مقابلة هذه الأفكار والحركات.

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علّموا أولادكم السباحة والرماية»(1).

وكذلك إنشاء مكتبات خاصة لقراءة الكتب والمجلات المفيدة و...

3- الاهتمام بنشر الفكر الإسلامي الأصيل في أوساطهم، لا سيما المحور العقائدي، لما يشكل أهمية في حياة الشباب، ونكون بذلك قد ضربنا الأسس الفكرية التي تعقد عليها الثقافة والفكر غير الإسلامي، وبنفس الوقت بينا المفاهيم الإسلامية لأبنائنا الشباب بكل وضوح.

أذكر عندما كنا في العراق كانت هناك عشيرة من العشائر العراقية(2) وبعض أفرادها يمتهن التجارة بين العراق والحجاز، فأحد العلماء كان يشتري كتاب المراجعات(3) بسعر (100 فلس)، ويعطي أجرة (250 فلساً) لهؤلاء التجار لكي ينقلوا الكتاب إلى الحجاز فيوزع على الشباب وعلى العلماء هناك، فكانت تعقد حلقات ومجاميع من الشباب المؤمن الواعي يتداول فيها مفردات ذلك الكتاب.

ولا يخفى أن الكتاب يؤثر تأثيراً كبيراً على حياة الأشخاص، ويغير مسيرة الإنسان على المستوى الفكري والقلبي العقائدي، ويترك الأثر الواضح في سلوك الإنسان.

ثم إن مسألة الاهتمام بأبنائنا الشباب من المسائل المهمة التي قد تعرض لها أئمتنا(عليهم السلام).

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «علموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم اللّه به لا تغلب عليهم المرجئة برأيها»(4).

ص: 342


1- الكافي 6: 47.
2- عشيرة الخوالف.
3- للسيد شرف الدين الموسوي العاملي(رحمه اللّه).
4- وسائل الشيعة 21: 478.

ويقول الإمام الصادق(عليه السلام): «بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة»(1).

فالإمام يطلب من القواعد الشيعية أن تبادر إلى تغذية الأبناء بالفكر الصحيح والعقائد الحقة قبل أن يسبق أصحاب العقائد والأفكار الفاسدة إليهم.

الكتاب يغيّر

لا ينحصر تأثير الكتاب والقلم على جيل الشباب فحسب، بل ويتعداه إلى الجميع بما فيهم حتى المحسوبين على الثقافة والإطلاع، يذكر أحد الأصدقاء عن شخص سوداني كان يعرفه بالولاء المفرط لجمال عبد الناصر ثم فوجئ بهذا الشخص قد تغير رأيه بحيث اخذ يتهجم عليه وينتقده، فاستحثه ذلك لمعرفة السبب، فسأله عن ذلك؟

فقال: حينما فتحت عيني على مجريات هذه الدنيا وجدت عبد الناصر حاكماً على مصر فأعجبني كثيراً؛ لما كان يبث عنه ويشاع ويمجد له، فاعتقدت بآرائه، بل كنت أقدسه واعتبره أفضل رجل على وجه البسيطة، حتى وقع في يدي كتاب لسيدة مصرية(2)، كانت معتقلة في بعض سجون عبد الناصر، وروت فيه المعاناة التي كانت تتعرض لها في السجن من تعذيب جسدي ومحاربات نفسية، ويقول - الشخص السوداني - : عندما اطلعت على هذه الجرائم تغيّر اعتقادي بجمال، وأخذت أنظر إليه على أنه من أسوأ الدكتاتوريين، إنه كان الداعية الكبير للقومية، وإذا كانت سجونه وما يجري فيها من تعذيب على المظلومين إحدى مقدمات هذه القومية التي يدعو لها فكيف الحال بالنتائج؟!

ص: 343


1- تهذيب الأحكام 8: 111.
2- هي زينب محمد الغزالي الجبيلي.

فكان كل من يخالف أفكاره السياسية يحكم عليه بالسجن، مضافاً إلى صور التعذيب الوحشي والأعمال الشاقة التي يندى لها جبين البشرية.

نعم، كذلك كان جمال ومن أشبه، أو أكثر، كما كان غيره من السابقين عليهواللاحقين، وما ذلك إلّا لأنهم انحرفوا عن الجادة والطريقة، ولكن مع ذلك كله نجد بعض الناس إلى اليوم تنادي باسم جمال، وتؤسس الأحزاب في سبيل ذلك، وترى أفواج الشباب تتناثر من هنا وهناك على تلك المحافل لتسمع شيئاً من بطولته وأفكاره. ولعل لهم بعض العذر في ذلك التوجه والاندفاع وراء هذه الشخصيات وأصحاب الشعارات؛ وهذا لأننا أخلينا الساحة لهم، فنزلها الناصريون والبعثيون والقوميون وكل يفلسف خطته، ويزين بضاعته، في ما نقبع نحن منعزلين، ثم نلوم هؤلاء الشباب على انخراطهم في الفئات الضالة!!

إذن، علينا أن نستوعب الشباب أولاً ونحتضنهم، ثم نحثهم ونثير فيهم ظاهرة التأليف والكتابة والتدوين ونشر الأفكار الواضحة للناس. ولا شك أن في كل أمة جيلاً يتحمل حضارة هذه الأمة وميراثها ومسؤولية تطويرها، وهذا الجيل هم الشباب عادة.

اللّهم صل على محمد وآل محمد، «وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة. وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة. وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة. وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة. وعلى موتاهم بالرأفة والرحمة. وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة. وعلى الشباب بالإنابة والتوبة. بحق محمد وآل محمد»(1).

من هدي القرآن الحكيم

اشارة

ينبغي على كل شاب أن يربي نفسه على:

ص: 344


1- البلد الأمين: 349.
1- طاعة اللّه عزّ وجلّ

قال اللّه تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُخَٰلِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1).

وقال سبحانه: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(2).

2- عبادته تعالى

قال عزّ وجلّ: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي}(3).

وقال جلّ وعلا: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّٰكِرِينَ}(4).

3- الاقتداء بالقرآن

قال اللّه تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِۦ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(5).

وقال سبحانه: {وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(7).

وقال جلّ وعلا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ

ص: 345


1- سورة النساء، الآية: 13.
2- سورة النور، الآية: 52.
3- سورة الزمر، الآية: 14.
4- سورة الزمر، الآية: 66.
5- سورة المائدة، الآية: 15-16.
6- سورة الأنعام، الآية: 155.
7- سورة الأعراف، الآية: 157.

لِلْمُسْلِمِينَ}(1).

4- التأسي والولاية لرسول اللّه وأهل بيته(عليهم السلام)

قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِمِنكُمْ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(4).

5- تعلم العلم

قال جلّ وعلا: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(5).

وقال اللّه تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6).

6- العمل الصالح

قال سبحانه: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحًا تَرْضَىٰهُ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}(8).

ص: 346


1- سورة النحل، الآية: 89.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- سورة المائدة، الآية: 55.
4- سورة التوبة، الآية: 119.
5- سورة طه، الآية: 114.
6- سورة الزمر، الآية: 9.
7- سورة النمل، الآية: 19.
8- سورة البروج، الآية: 11.

من هدي السنّة المطهّرة

أبلغ الوصايا

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام) في وصية كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين:«من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدنيا، الساكن مساكن الموتى، والظاعن عنها غداً، إلى المولود المؤمل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام، ورهينة الأيام، ورمية المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، وأسير الموت وحليف الهموم، وقرين الأحزان، ونصب الآفات، وصريع الشهوات، وخليفة الأموات.

أما بعد، فإن في ما تبينت من إدبار الدنيا عني، وجموح الدهر علي، وإقبال الآخرة إلي، ما يزعني عن ذكر من سواي، والاهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي، فصدفني رأيي وصرفني عن هواي وصرح لي محض أمري، فأفضى بي إلى جد لا يكون فيه لعب، وصدق لا يشوبه كذب، ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي. فكتبت إليك كتابي مستظهراً به إن أنا بقيت لك أو فنيت، فإني أوصيك بتقوى اللّه، أي بني، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين اللّه، إن أنت أخذت به. أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة، وذللِّه بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر، وفحش تقلب الليالي والأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر في

ص: 347

ما فعلوا، وعمّا انتقلوا، وأين حلوا ونزلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة، وحلوا ديار الغربة، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم، فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول في ما لا تعرف، والخطاب في ما لم تكلف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته؛ فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوبالأهوال، وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك، وباين من فعله بجهدك، وجاهد في اللّه حق جهاده ولا تأخذك في اللّه لومة لائم، وخض الغمرات للحق حيث كان، وتفقه في الدين، وعود نفسك التصبر على المكروه، ونعم الخلق التصبر في الحق، وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز، وأخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان، وأكثر الاستخارة، وتفهم وصيتي، ولا تذهبن عنك صفحاً؛ فإن خير القول ما نفع. واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه.

أي بني، إني لما رأيتني قد بلغت سناً ورأيتني أزداد وهناً، بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا، فتكون كالصعب النفور، وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كفيت مئونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه.

أي بني، إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما

ص: 348

انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نيةسليمة، ونفس صافية. وأن أبتدئك بتعليم كتاب اللّه عزّ وجلّ وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره، ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم، مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة، ورجوت أن يوفقك اللّه فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إليك وصيتي هذه.

واعلم يا بني، أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى اللّه، والاقتصار على ما فرضه اللّه عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عمّا لم يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات وعلق الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هماً واحداً، فانظر في ما فسرت لك، وإن لم يجتمع لك ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك، فاعلم أنك إنما تخبط العشواء، وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل.

ص: 349

فتفهم يا بني وصيتي، واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة، وأن الخالق هو المميت، وأن المفني هو المعيد، وأن المبتلي هو المعافي، وأن الدنيا لم تكن لتستقر إلّا على ما جعلها اللّه عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد، أو ما شاء مما لا تعلم. فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك، فإنكأول ما خلقت به جاهلاً، ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك، فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسواك، وليكن له تعبدك، وإليه رغبتك، ومنه شفقتك.

واعلم يا بني، أن أحداً لم ينبئ عن اللّه سبحانه كما أنبأ عنه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فارض به رائداً، وإلى النجاة قائدا، فإني لم آلك نصيحة، وإنك لن تبلغ في النظر لنفسك وإن اجتهدت مبلغ نظري لك.

واعلم يا بني، أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه، لا يضاده في ملكه أحد، ولا يزول أبداً ولم يزل، أول قبل الأشياء بلا أولية، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية، عظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله، في صغر خطره وقلة مقدرته وكثرة عجزه، وعظيم حاجته إلى ربه في طلب طاعته والخشية من عقوبته والشفقة من سخطه؛ فإنه لم يأمرك إلّا بحسن، ولم ينهك إلّا عن قبيح.

يا بني، إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها، وأنبأتك عن الآخرة وما أعد لأهلها فيها، وضربت لك فيهما الأمثال؛ لتعتبر بها وتحذو عليها، إنما مثل من خبر الدنيا كمثل قوم سفر، نبا بهم منزل جديب، فأموا منزلاً خصيباً وجناباً مريعاً، فاحتملوا وعثاء الطريق، وفراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم؛ ليأتوا سعة دارهم، ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشيء من ذلك ألماً،

ص: 350

ولا يرون نفقةً فيه مغرماً، ولا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم وأدناهم من محلتهم، ومثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب، فنبا بهم إلى منزل جديب، فليس شيء أكره إليهم، ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه.

يا بني، اجعل نفسك ميزاناً في ما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك. ولا تقل ما لا تعلم، وإن قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك. واعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب، فاسع في كدحك، ولا تكن خازناً لغيرك، وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك. واعلم أن أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة، ومشقة شديدة، وأنه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد، وقدر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك؛ فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة، فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه، وحمله إياه، وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه، فلعلك تطلبه فلا تجده، واغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك. واعلم أن أمامك عقبةً كئوداً، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع، وأن مهبطك بها لا محالة، إما على جنة أو على نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطئ المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتب ولا إلى الدنيا منصرف.

واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء، وتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك

ص: 351

وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيرك بالإنابة، ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدد عليك في قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنةً، وحسب سيئتك واحدةًوحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب، وباب الاستعتاب، فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، وربما أخرت عنك الإجابة؛ ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه، وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك في ما يبقى لك جماله، وينفي عنك وباله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له.

واعلم يا بني، أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنك في قلعة ودار بلغة وطريق إلى الآخرة، وأنك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه، ولا يفوته طالبه، ولا بد أنه مدركه، فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة، فيحول بينك وبين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك.

يا بني، أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتةً فيبهرك.

ص: 352

وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها، وتكالبهم عليها، فقد نبأك اللّه عنها، ونعت هي لك عن نفسها، وتكشفت لك عن مساويها، فإنما أهلها كلاب عاوية، وسباع ضارية، يهر بعضها على بعض، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهركبيرها صغيرها. نعم معقلة، وأخرى مهملة، قد أضلت عقولها، وركبت مجهولها، سروح عاهة بواد وعث(1)، ليس لها راع يقيمها، ولا مسيم يسيمها، سلكت بهم الدنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها، وغرقوا في نعمتها، واتخذوها رباً، فلعبت بهم ولعبوا بها، ونسوا ما وراءها. رويداً يسفر الظلام كأن قد وردت الأظعان، يوشك من أسرع أن يلحق.

واعلم يا بني، أن من كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يسار به وإن كان واقفاً، ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً. واعلم يقيناً، أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وأنك في سبيل من كان قبلك، فخفض في الطلب، وأجمل في المكتسب، فإنه رب طلب قد جر إلى حرب، وليس كل طالب بمرزوق، ولا كل مجمل بمحروم، وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب؛ فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً، وما خيرُ خيرٍ لا ينال إلّا بشر، ويسر لا ينال إلّا بعسر. وإياك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل الهلكة، وإن استطعت ألّا يكون بينك وبين اللّه ذو نعمة فافعل؛ فإنك مدرك قسمك وآخذ سهمك، وإن اليسير من اللّه سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه، وإن كان كل منه. وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك، وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء. وحفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يدي غيرك، ومرارة اليأس خير من الطلب إلى

ص: 353


1- السروح - جمع سَرْح - : وهو المال السارح السائم من الإبل ونحوها، الوَعْث: الرخو يصعب السير فيه.

الناس، والحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور، والمرء أحفظ لسره، ورب ساع في ما يضره، من أكثر أهجر، ومن تفكر أبصر، قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم، بئس الطعام الحرام، وظلم الضعيف أفحش الظلم،إذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً، ربما كان الدواء داءً والداء دواءً، وربما نصح غير الناصح وغش المستنصح.

وإياك والاتكال على المنى؛ فإنها بضائع النوكى، والعقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك، بادر الفرصة قبل أن تكون غصةً، ليس كل طالب يصيب، ولا كل غائب يئوب، ومن الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد، ولكل أمر عاقبة، سوف يأتيك ما قدر لك، التاجر مخاطر، ورب يسير أنمى من كثير، لا خير في معين مهين ولا في صديق ظنين، ساهل الدهر ما ذل لك قعوده، ولا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه، وإياك أن تجمح بك مطية اللجاج. احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على العذر، حتى كأنك له عبد، وكأنه ذو نعمة عليك، وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله. لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحةً، وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعةً أحلى منها عاقبةً، ولا ألذ مغبة. ولن لمن غالظك؛ فإنه يوشك أن يلين لك، وخذ على عدوك بالفضل؛ فإنه أحلى الظفرين، وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيةً يرجع إليها، إن بدا له ذلك يوماً ما. ومن ظن بك خيراً فصدق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه؛ فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك، ولا ترغبن في من زهد عنك، ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن على الإساءة

ص: 354

أقوى منك على الإحسان، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك؛ فإنه يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرك أن تسوءه.

واعلم يا بني، أن الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك، فإن أنت لم تأتهأتاك، ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى، إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، وإن كنت جازعاً على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك، استدل على ما لم يكن بما قد كان؛ فإن الأمور أشباه. ولا تكونن ممن لاتنفعه العظة إلّا إذا بالغت في إيلامه؛ فإن العاقل يتعظ بالآداب، والبهائم لا تتعظ إلّا بالضرب. اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين، من ترك القصد جار، والصاحب مناسب، والصديق من صدق غيبه، والهوى شريك العمى. ورب بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من بعيد، والغريب من لم يكن له حبيب، من تعدى الحق ضاق مذهبه، ومن اقتصر على قدره كان أبقى له، وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين اللّه سبحانه، ومن لم يبالك فهو عدوك، قد يكون اليأس إدراكاً إذا كان الطمع هلاكاً، ليس كل عورة تظهر، ولا كل فرصة تصاب، وربما أخطأ البصير قصده، وأصاب الأعمى رشده، أخّر الشر؛ فإنك إذا شئت تعجلته، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل، من أمن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه، ليس كل من رمى أصاب، إذا تغير السلطان تغير الزمان، سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار، إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكاً، وإن حكيت ذلك عن غيرك.

وإياك ومشاورة النساء؛ فإن رأيهن إلى أفن(1)، وعزمهن إلى وهن، واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن؛ فإن شدة الحجاب أبقى عليهن، وليس

ص: 355


1- الأَفْن: النقص.

خروجهن بأشد من إدخالك من لايوثق به عليهن، وإن استطعت ألّا يعرفن غيرك فافعل.

ولا تُمَلِّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها؛ فإن المرأة ريحانة وليستبقهرمانة، ولا تعد بكرامتها نفسها، ولا تطمعها في أن تشفع لغيرها.

وإياك والتغاير في غير موضع غيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم، والبريئة إلى الريب.

واجعل لكل إنسان من خدمك عملاً تأخذه به؛ فإنه أحرى ألّا يتواكلوا في خدمتك، وأكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول.

استودع اللّه دينك ودنياك، واسأله خير القضاء لك في العاجلة والآجلة، والدنيا والآخرة، والسلام»(1).

ما ينبغي للشباب

ينبغي لكل شاب أن يربي نفسه على:

1- طاعة اللّه عزّ وجلّ

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في وصيته لأبي ذر (رضوان اللّه عليه):

«ما من شاب ترك الدنيا وأفنى شبابه في طاعة اللّه إلّا أعطاه اللّه أجر اثنين وسبعين صديقاً»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «باكر الطاعة تسعد»(3).

ص: 356


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
2- مكارم الأخلاق: 466.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 312.
2- عبادته تعالى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سبعة يظلهم اللّه عزّ وجلّ في ظله يوم لا ظل إلّا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة اللّه عزّ وجلّ...»(1).وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «في التوراة مكتوب: يا ابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، ولا أكلك إلى طلبك، وعليَّ أن أسد فاقتك، وأملأ قلبك خوفاً مني...»(2).

3- الاقتداء بالقرآن

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... وأصدق القول وأبلغ الموعظة وأحسن القصص كتاب اللّه...»(3).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله اللّه عزّ وجلّ مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة، يقول: يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي، فبلّغ به أكرم عطاياك، قال: فيكسوه اللّه العزيز الجبار حلّتين من حلل الجنة، ويوضع على رأسه تاج الكرامة، ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب، قد كنت أرغب له في ما هو أفضل من هذا؟ فيعطى الأمن بيمينه، والخلد بيساره ثم يدخل الجنة، فيقال له: اقرأ واصعد درجة؟ ثم يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك فيقول: نعم - قال - ومن قرأه كثيراً وتعاهده بمشقة من شدة حفظه أعطاه اللّه عزّ وجلّ أجر هذا مرتين»(4).

ص: 357


1- الخصال 2: 343.
2- الكافي 2: 83.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 488.
4- الكافي 2: 603.
4- التأسي والولاية لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)

قال المصطفى الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن أهوالهن عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعندالحساب، وعند الميزان، وعند الصراط»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... فتأسّ بنبيك الأطهر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن فيه أسوة لمن تأسّى وعزاء لمن تعزى، وأحب العباد إلى اللّه المتأسي بنبيه، والمقتصُّ لأثره...»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في قوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ}(3) قال: «مودتنا أهل البيت»(4).

5- تعلم العلم

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تعلموا العلم؛ فإن تعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لايعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، وسالك بطالبه سبل الجنة، ومؤنس في الوحدة، وصاحب في الغربة، ودليل على السراء، وسلاح على الأعداء، وزين الأخلاء، يرفع اللّه به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم، ترمق أعمالهم وتقتبس آثارهم، وترغب الملائكة في خلتهم؛ لأن العلم حياة القلوب، ونور الأبصار من العمى، وقوة الأبدان من الضعف، وينزل اللّه حامله منازل الأحباء، ويمنحه مجالسة الأبرار في الدنيا والآخرة، بالعلم يطاع اللّه ويعبد، وبالعلم يعرف اللّه ويوحد، وبه توصل

ص: 358


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 10.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 160 ومن خطبة له(عليه السلام).
3- سورة البقرة، الآية: 256.
4- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 2.

الأرحام ويعرف الحلال والحرام، والعلم إمام العقل، والعقل يلهمه اللّه السعداء ويحرمه الأشقياء.

وصفة العاقل أن يحلم عمن جهل عليه، ويتجاوز عمن ظلمه، ويتواضع لمنهو دونه، ويسابق من فوقه في طلب البر، وإذا أراد أن يتكلم تدبر، فإن كان خيراً تكلم فغنم، وإن كان شراً سكت فسلم، وإذا عرضت له فتنة استعصم باللّه وأمسك يده ولسانه، وإذا رأى فضيلة انتهز بها، لا يفارقه الحياء ولا يبدو منه الحرص، فتلك عشر خصال يعرف بها العاقل.

وصفة الجاهل: أن يظلم من خالطه، ويتعدى على من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه، كلامه بغير تدبر، إن تكلم أثم، وإن سكت سها، وإن عرضت له فتنة سارع إليها فأردته، وإن رأى فضيلة أعرض وأبطأ عنها، لا يخاف ذنوبه القديمة، ولا يرتدع في ما بقي من عمره من الذنوب، يتوانى عن البر ويبطئ عنه، غير مكترث لما فاته من ذلك أو ضيعه، فتلك عشر خصال من صفة الجاهل الذي حرم العقل»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لست أحب أن أرى الشاب منكم إلّا غادياً في حالين: إما عالماً أو متعلماً، فإن لم يفعل فرط، فإن فرط ضيع، وإن ضيع أثم، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق»(2).

6- العمل الصالح

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بصالح العمل فإنه الزاد إلى الجنة»(3).

ص: 359


1- تحف العقول: 28.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 303.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 443.

وقال(عليه السلام): «طوبى لمن بادر صالح العمل قبل أن تنقطع أسبابه»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإسلام عريان فلباسه الحياء، وزينته الوقار، ومروءتهالعمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شيء أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما من شيء أحب إلى اللّه من الإيمان والعمل الصالح وترك ما أمر أن يترك»(3).

وفي نهج البلاغة(عليه السلام): «إن المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة»(4).

وقال(عليه السلام): «لا ذخر أنفع من صالح العمل»(5).

ص: 360


1- عيون الحكم والمواعظ: 314.
2- الكافي 2: 46.
3- بحار الأنوار 64: 71.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 23، من خطبة له(عليه السلام) وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد و... .
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 774.

وصايا إلى الشباب المسلم

الدنيا والآخرة

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْأخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(1).

أي أن من الناس من يسأل نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، ويتعوذ باللّه تعالى من النار، وقد روي عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) في معنى الآية الكريمة أنه قال: «رضوان اللّه والجنة في الآخرة، والسعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا»(2).

كلنا نقرأ هذه الآية مرات عديدة، نطلب بها من اللّه عزّ وجلّ الخير في الدنيا والآخرة، وأن يبعد عنا الأذى والسوء وعذاب جهنم في الآخرة - أعاذنا اللّه وإياكم منها - .

ولما كانت الدنيا هي دار العمل والآخرة دار الجزاء، كما يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل»(3) فإن حسنة الدنيا والآخرة هي حصيلة العمل في الدنيا.

ومن هنا لا بد لنا من أن نعمل في مسيرين: عمل يرتبط بالدنيا، وآخر يرتبط

ص: 361


1- سورة البقرة، الآية: 201.
2- معاني الأخبار: 175.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 42، من كلام له(عليه السلام) وفيه يحذر من اتباع الهوى وطول الأمل في الدنيا.

بالآخرة، وليس المقصود فصل عمل الدنيا عن الآخرة، ليطغى حب الدنيا وزخارفها على حياتنا أو أن نبيع الآجلة بالعاجلة، بل علينا أن نعمل لما يصلح عيشنا في الدنيا في الوقت الذي لا يفسد آخرتنا أيضاً.

يروى عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إنا لنحب الدنيا، فقال لي: «تصنع بها ماذا؟» قال: قلت: أتزوج منها وأحج وأنفق على عيالي وأنيل إخواني وأتصدق، قال لي: «ليس هذا من الدنيا، هذا من الآخرة»(1).

وأنتم أيها الاخوة الأعزاء، تمثلون شريحة من الشباب المسلم الواعي في المجتمع؛ ولهذا نرى أن من الضروري أن نلفت انتباهكم ونذكركم ببعض الأمور والمجالات التي تهمكم وتهم مجتمعكم، والتي ينبغي لكم أن تضعوها نصب أعينكم؛ لأن فيها صلاح دينكم ودنياكم، يقول تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(2)، وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(3).

الشباب والثقافة الدينية

اشارة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لطالب العلم عزّ الدنيا وفوز الآخرة»(4).

وقال(عليه السلام): «ليس الخير أن يكثر مالك وولدك إنما الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك»(5).

إن طلاب العلوم الذين يدرسون في المدارس الحديثة أو الجامعات أو

ص: 362


1- السرائر 3: 564.
2- سورة الذاريات، الآية: 55.
3- سورة ق، الآية: 37.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 546.
5- عيون الحكم والمواعظ: 411.

الدراسات العليا نراهم يبذلون جهودهم وطاقاتهم ويصرفون الوقت الكثير لمواصلة دراساتهم وأبحاثهم الأكاديمية، ومعلوم أن الذي يدفعهم إلى ذلك تحقيق مكانتهم وبناء مستقبلهم وخدمة مجتمعهم، وهذا الأمر جيد وينبغي تشجيعه، ولكن المطلوب منهم أن لا يغفلوا عن الجوانب الأخرى أيضاً من الحياة، فعليهم أن يخصصوا جزءاً من وقتهم لممارسة شعائرهم الدينية، ولا بد أن يفتشوا عن مجالاتها كالهيئات والمجالس التي تدرس فيها العلوم الدينية ويحضروا فيها، وأن يتناولوا الجوانب المختلفة التي تخص دينهم وشعائرهم كأن تكون لهم دروس في تفسير القرآن الحكيم أو في التأريخ، أو العقائد، أو ما شاكل ذلك.

الطموح

والذي نطمح إليه هو أن تكون هذه الدروس - الدروس الدينية - ضمن الدروس المنهجية في مختلف المستويات الدراسية، حتى يكون أبناؤنا وإخواننا على اتصال دائم بمعالم دينهم، وأن تكون مستوياتهم في ثقافتهم الدينية لا تقل شأناً عن مستواهم العلمي إن لم تكن أكثر، وبذلك سنضمن حصانتهم الروحية والفكرية وإشباع الجانب الفطري الذي يدفع الإنسان إلى الدين.

قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «كل ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل»(1).

إن دافع الإنسان إلى الدين والعقيدة هو دافع فطري غريزي وقد سلم به حتى الذين لا يؤمنون بالدين. فإننا إذا لم نغذ إخواننا وأبنائنا من ثقافتنا الإسلامية الصحيحة فسوف نترك فراغاً كبيراً في حياتهم، يفسح المجال للمنحرفين للقيام بإشباعه بما يسوغ لهم من أفكار وأعمال منحرفة، وهكذا ترون أن الأنظمة

ص: 363


1- بصائر الدرجات 1: 511.

الشيوعية مثلاً حرصت على إدخال الثقافة المادية والنظريات الوجودية في المناهج الدراسية المقررة لكافة الفروع والمستويات العلمية، خاصة الجامعية ضمن ما أسموه (الثقافة الأممية).

وفي بعض الدول الإسلامية التي تحكمها أنظمة تدّعي القومية نراهم يدخلون مبادئهم المنحرفة عن الإسلام الحنيف في المناهج الدراسية بعنوان درس الثقافة القومية، وهكذا بقية الأنظمة.

فنحن - حتى نجابه هذه الأفكار ولأننا نقول: {رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْأخِرَةِ حَسَنَةً}(1) لا بد لنا أن نعمل باتجاهين: اتجاه لصلاح دنيانا في كافة المجالات ولمواكبة تطور الأمم المتقدمة، واتجاه آخر للفوز برضوان اللّه تعالى، ولكن أن نعمل للدنيا فقط ثم نطلب من اللّه عزّ وجلّ الدار الآخرة الحسنة فهكذا تصرف ليس صحيحاً، بل الفوز بالآخرة يتأتى من خلال عملنا وما نقدمه في الدنيا، من أعمال الخير يقول الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «بالدنيا تحرز الآخرة»(2).

وقال(عليه السلام): «من رزق الدين فقد رزق خير الدنيا والآخرة»(3).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «حصنوا الدين بالدنيا ولا تحصنوا الدنيا بالدين»(4).

فالذي نريده هنا هو أن الدروس التي تقرر في المناهج الدراسية، يجب أن تبحث في دنيا المسلم وفي آخرته معاً، لتفي بمتطلبات الإنسان والمجتمع وتسد

ص: 364


1- سورة البقرة، الآية: 201.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 156 من كلام له(عليه السلام) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 620.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 350.

كلا حاجتيه المادية والمعنوية، وتبعده عن طريق الانحراف وحتى يأخذ الشاب المسلم الدور اللائق به في المجتمع.

التدريب على استخدام الأسلحة

قال اللّه تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ}(1). مما ورد في تفسير الآية الكريمة أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «الرمي»(2)

وبعبارة أخرى: إنه يلزم تعلم استخدام الأسلحة وخصائصها، وقال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إركبوا وارموا، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا...»(3). وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الرمي سهم من سهام الإسلام»(4).

وعن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «صهل فرسي وعندي جبرئيل فتبسم، فقلت له: لم تبسمت يا جبرئيل؟ قال: وما يمنعني أن أتبسم والكفار ترتاع قلوبهم وترعد كلاهم عند صهيل خيل المسلمين»(5).

وعنه(عليه السلام) قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: كل لهو في الدنيا فهو باطل إلّا ما كان من رميك عن قوسك وتأديبك فرسك وملاعبتك أهلك فإنه من السنة»(6).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه ليدخل بالسهم الواحد الثلاثة الجنة: عامل الخشب والمقوي به في سبيل اللّه والرامي به في سبيل اللّه»(7).

من خلال الآية الكريمة والأحاديث الشريفة نستخلص الأمر الذي ينبغي أن

ص: 365


1- سورة الأنفال، الآية: 60.
2- الكافي 5: 50.
3- الكافي 5: 50.
4- الكافي 5: 49.
5- دعائم الإسلام 1: 345.
6- دعائم الإسلام 1: 345.
7- تهذيب الأحكام 6: 175.

يلتفت إليه الشباب المسلم وهو: أهمية تعلّم استخدام الأسلحة والتدرب علىطريقة استخدامها ومعرفة مواصفاتها وخصائصها، وأن يلموا بالمعلومات التي تتعلق بها مما يراه الاختصاصيون ضرورياً في هذا المجال، حتى يكون شبابنا على استعداد دائم للدفاع عن حرمة الأمة الإسلامية، ودفع الأعداء الذين يريدون سلب الدين والدنيا من المسلمين متى اقتضى الداعي إلى ذلك.

السلام أصل دائم

إن الدعوة التي نوجهها إلى الشباب المسلم بضرورة التدرب على السلاح لا تتنافى مطلقاً مع الطريق السلمي الذي أمر به الإسلام، فليس هناك أي اعتداء أو أطماع توسعية في الإسلام، وإنما الذي يقصد أن يبقى السلام كسياسة وأصل دائم نتعامل به مع الأصدقاء والأقرباء والخصوم في نفس الوقت الذي ننطلق فيه من مواقع القوة، وإذا اقتضت الضرورة لاستخدامه كما لو داهمنا عدو نكون جديرين به، لأن الحروب حالات استثنائية شاذة في الإسلام، والسلام هو الأصل.

من هنا، فالذي يتوجب علينا هو أن نكون على استعداد لمواجهة العدو، فأعداؤنا يتربصون بنا دائماً، وحتى نردعهم علينا أن نكون مهيئين لمواجهة الأخطار، وهذا التهيؤ تجري ترتيباته في وقت السلم حتى لا يفاجئنا الأعداء في عقر دارنا، ومن ضمن هذه الترتيبات التدريب على استخدام الأسلحة للذين تشملهم أحكام الجهاد، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الجنة تحت ظلال السيوف»(1).

هذا يعني أن المجاهدين الذين يطلق عليهم مجازاً (إخوة السلاح) هم الأقرب إلى اللّه تعالى؛ لأنهم أعدوا العدة للدفاع عن الإسلام والجهاد في سبيل اللّه عزّ وجلّ، وبالنتيجة فهم الذين ينالون مرضاته تعالى وجنته.

ص: 366


1- جامع الأخبار: 83.
استغلال أوقات الفراغ

قال أبو جعفر الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لا يزول قدم عبد يوم القيامة من بين يدي اللّه حتى يسأله عن أربع خصال: عمرك في ما أفنيته وجسدك في ما أبليته ومالك من أين اكتسبته وأين وضعته وعن حبنا أهل البيت»(1).

الأمر الثالث الذي نود الإشارة إليه هو أن الطلاب بصورة عامة يمتلكون أوقات فراغ أكثر من غيرهم عادة، فمثلاً لديهم ثلاثة أشهر متواصلة من العطلة الصيفية إضافة إلى أيام التعطيل العديدة التي تتخلل الأيام الدراسية، إذن فلا بد للشباب أن يستغلّوا أوقات فراغهم هذه ويستثمروها، لما فيه الخير لهم وللآخرين.

فلا بد أن يسعى الشاب مثلاً في إعانة والده، سواء كان كاسباً أم مزارعاً أم تاجراً أم غير ذلك، وسواء في مجال عمله أم في الواجبات الأخرى التي كان بإمكانه تأديتها نيابة عن والده، وهكذا بالنسبة إلى إعانة أمهاتهم وعوائلهم في الأمور المنزلية، إذ أن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو خير الخلق يقول: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلّا كريم ولا أهانهن إلّا لئيم»(2). فكان ينقل العجين إلى خادمه ويشتغل أحياناً في البيت، ويطحن مع الخادم إذا أعيى ويفتح الباب ويحلب الشاة ويعقل البعير ويحلبها... ويخدم مهنة أهله ويقطع اللحم(3)، وهكذا كان الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) فقد كان يساعد فاطمة الزهراء(عليها السلام) في الطحن، فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «كان أمير المؤمنين(عليه السلام)

ص: 367


1- تفسير القمي 2: 20.
2- نهج الفصاحة: 472.
3- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 146.

يحطب ويستسقي ويكنس وكانت فاطمة(عليها السلام) تطحن وتعجن وتخبز»(1)

وغير هذا من الشواهد.

ثمار استغلال الفراغ

فممارسة هذه الأعمال في أوقات الفراغ تنطوي على مدلولات وفوائد كثيرة: فهي استغلال للوقت الذي لا يمكن أن تفرط به الأمة التي تريد لنفسها التقدم والازدهار، ثم إنه يعني رفع العبء الذي يثقل كاهل آبائكم وأمهاتكم وإخوانكم، وبالتالي تشعرون أنكم قدمتم شيئاً لخدمة عوائلكم وذويكم، خاصة لو كانت المساعدة في مجتمع زراعي كالقرى والأرياف. أما في المجتمع الصناعي فإنه يوفر وقتاً ثميناً للإنتاج كماً وكيفاً في المصانع والمعامل؛ لذا نرى أن حصيلته تظهر في رفع مستوى البلاد الإسلامية في الجوانب الزراعية والصناعية والحقول الأخرى، وبالتالي الاقتراب من تحقيق الاكتفاء الذاتي للأمة، وهذه المسألة مهمة جداً إذ تعني أننا نستطيع أن نقترب من مستوى الاستغناء عن واردات وخبرات الأجنبي الذي يكبلنا بمختلف القيود والشروط جراء استمراره في تأديتها لنا، رغم ما ندفعه من أموال وثروات مقابل ذلك. يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «احتج إلى من شئت تكن أسيره واستغن عمن شئت تكن نظيره وأفضل على من شئت تكن أميره»(2).

نحن نرى اليوم أكثر الوسائل والأدوات التي نستخدمها في مصانعنا أو في بيوتنا من صنع أجنبي، في حين أن عقولنا وطاقاتنا ليست أقل من عقول وطاقات الآخرين، والفرق أنهم استغلوا جهودهم ووقتهم ووظّفوه من أجل تطور بلدانهم

ص: 368


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 104.
2- الإرشاد 1: 303.

في حين اعتاد بعضنا على الاستهلاك والتلقي من الغير دون مبادرة أو إبداع.

المحصلة

هذه الوصايا التي تكلمنا بها تخص حياتكم وحياة مجتمعكم والتي لها علاقةبتطور المجتمع والأفراد في الحياة الدنيا، وهي في النتيجة النهائية تصب في الآخرة لنلقى ثواب أعمالنا عندما تكون نابعة من إطاعة اللّه سبحانه وتعالى وهدفها مرضاته ورفعة وتقدم الأمة الإسلامية.

الارتباط المباشر بالآخرة

حتى تكون أعمالنا الدنيوية مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالآخرة، يلزمنا أولاً وقبل كل شيء أن نضع الآخرة والموت نصب أعيننا، فلا بد لنا من أن نُحمل في يوم من الأيام إلى القبور ونقدم بين يدي الجبار.

فعلينا أن لا نغفل عن زيارة القبور لأنها تذكرنا وتجسد أمامنا النهاية والمصير المحتوم لكل البشر، فإذا ما ذهبنا إلى مقبرة البقيع في قم المقدسة مثلاً، فإننا نرى آلاف القبور تضم أناساً كانوا مثلنا في الحياة، فكان منهم البقال والفلاح والعامل والمعلم وطالب العلم والكاسب والنجار والغني والفقير والعالم والجاهل والرئيس والمرؤوس و... ولكن انتهى دورهم في هذه الدنيا وانتقلوا إلى دار الآخرة، وهذا ما سوف نصير إليه جميعاً شئنا أم أبينا، ولهذا السبب يدعونا اللّه سبحانه وتعالى إلى الاستعداد لهذا اليوم وما سيعقبه من يوم الحساب، حيث يقول اللّه عزّ وجلّ: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}(1) فربنا سوف يحاسبنا على جميع الأعمال التي قمنا بها في هذه الحياة إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

جاء في تفسير القمي عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «خرج داود يمشي

ص: 369


1- سورة البقرة، الآية: 281.

على قدميه ويقرأ الزبور وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى حجر ولا شجر ولا جبل ولا طائر ولا سبع إلّا يجاوبه حتى انتهى إلى جبل - إلى قوله(عليه السلام) - فقال له داود: يا حزقيل هل هممت بخطيئة قط؟ قال: لا، قال: فهل دخلك العجب مما أنت فيه من عبادةاللّه عزّ وجلّ؟ قال: لا، قال: فهل ركنت إلى الدنيا فأحببت أن تأخذ من شهواتها ولذاتها؟ قال: بلى، ربما عرض ذلك بقلبي، قال: فما تصنع؟ قال: أدخل هذا الشعب فأعتبر بما فيه، قال: فدخل داود(عليه السلام) الشعب فإذا بسرير من حديد عليه جمجمة بالية وعظام نخرة، وإذا لوح من حديد وفيه مكتوب، فقرأه داود(عليه السلام) فإذا فيه: أنا أروى بن سلمة ملكت ألف سنة وبنيت ألف مدينة وافتضضت ألف جارية، وكان آخر أمري أن صار التراب فراشي والحجار وسادي والحيات والديدان جيراني، فمن رآني فلا يغتر بالدنيا...»(1).

جزاء الأعمال

اشارة

جاء في رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «أقعد رجلٌ من الأحبار في قبره، فقيل له: إنا جالدوك مائة جلدة من عذاب اللّه، فقال: لا أطيقها، فلم يزالوا يقولون حتى انتهى إلى واحدة فقالوا: ليس منها بد، قال: فبم تجلدونني؟ قالوا: نجلدك لأنك صليت صلاة يوماً بغير وضوء، ومررت على ضعيف فلم تنصره، فجلدوه جلدة من عذاب اللّه فامتلأ قبره ناراً»(2).

فنحن أيضاً قد نواجه مثل هذا اليوم، فإذا لم نعتن بصلاتنا وصيامنا الواجب، ونحاول أن نتخلص منه بأعذار مختلفة أو نتغافل عن أداء الواجبات الأخرى ولا ننصر الضعيف والمظلوم فإننا سنلاقي الجزاء أيضاً فيجب أن نعلم سلفاً بأننا لا

ص: 370


1- تفسير القمي 2: 231.
2- المحاسن 1: 78.

بد أن نواجه يوماً عسيراً وشديداً نحاسب فيه على كل ذنب اقترفناه كما يقول تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا يَرَهُ}(1).

فقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: {فَمَن يَعْمَلْ} في الدنيا {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي بمقدار ثقل ذرة - وهي الهباءة التي ترى في الشمس إذا دخلت من الكوة في المحل المظلم - {خَيْرًا يَرَهُ} أي يرى جزاء ذلك الخير في ذلك اليوم. {وَمَن يَعْمَلْ} في الدنيا {مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرًّا} من الكفر والعصيان {يَرَهُ} في ذلك اليوم، ولا يظلم أحد شيئاً، إلّا أن يدرك عامل الشر شفاعة، إن كان من أهلها، أو عامل الخير إحباطاً؛لأنه أتى بسيئة تحبط أعماله(2).

وسوف تعرض علينا أعمالنا كلها كشريط الفيلم في الآخرة ليرى الإنسان جميع أعماله، يقول تعالى: {أَحْصَىٰهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ}(3).

أنواع العذاب

ولكم أن تتصوروا كيف ستكون العقوبة في الآخرة للمسيئين الذين يعصون اللّه جلّ وعلا، وهناك رواية تقول بأن الشاب الذي ينظر إلى أعراض الناس سوف يدق في عينيه مسماران كبيران من النار جزاء نظره المحرم هذا، وذلك في ما إذا لم يستغفر اللّه عزّ وجلّ ويتوب عن هذا العمل المحرم، والشخص الذي يسمع الغناء والموسيقى سوف تملأ أذناه من صهير الرصاص.

وأما الشخص الذي يغرس في قلبه النيات الفاسدة للآخرين، وينوي العدوان في قلبه، ويملؤه الحسد والحقد والأنانية فسوف تسلط النار على قلبه، يقول اللّه

ص: 371


1- سورة الزلزلة، الآية: 7-8.
2- تفسير تقريب القرآن 5: 717.
3- سورة المجادلة، الآية: 6.

تعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفِْٔدَةِ}(1).

وهكذا المنافق الذي يمدحك في حضورك، وعند غيابك يتناولك بفاحشالكلام، فهذا الشخص سوف يخرج من فمه لسانان أحدهما إلى الأمام والآخر من قفاه، وهما لسانان من نار يحترق بهما ويعذب عذاباً شديداً على سوء عمله في الدنيا.

لهذا يجب على كل إنسان أن يسعى في أداء الصالحات ويجتنب المحرمات، وعليه أن يتذكر دائماً أن مصيره إلى القبر يوماً ما ويبدأ حسابه وعقابه منذ ذلك اليوم.

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يطرح الحجاب»(2).

ويقول(عليه السلام): «يا ذوي الحيل والآراء والفقه والأنباء، اذكروا مصارع الآباء فكأنكم بالنفوس قد سلبت وبالأبدان قد عريت، وبالمواريث قد قسمت، فتصير ياذا الدَّلال(3) والهيبة والجمال، إلى منزلة شعثاء ومحلة غبراء، فتنوم على خدك في لحدك، في منزل قل زواره ومل عماله، حتى تشق عن القبور، وتبعث إلى النشور»(4).

ويقول(عليه السلام): «يا عباد اللّه، ما بعد الموت لمن لا يغفر له أشد من الموت: القبر، فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته، وغربته،إن القبر يقول كل يوم: أنا بيت الغربة أنا بيت التراب أنا بيت الوحشة أنا بيت الدود والهوام... وإن المعيشة

ص: 372


1- سورة الهمزة، الآية: 6.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 20 ومن كلام له(عليه السلام) وفيه ينفر من الغفلة وينبه إلى الفرار للّه.
3- الدَلال: الوقار والتغنج.
4- بحار الأنوار 74: 371.

الضنك التي حذر اللّه منها عدوه عذاب القبر»(1).

وحتى نتذكر دائماً ثواب وعقاب الأعمال ونتذكر يوم الجزاء، علينا أن نطيلالنظر والإمعان إلى كتاب اللّه عزّ وجلّ فنقرأه ونفكر فيه بتدبر آياته، لنعرف أنفسنا بشكل أكثر، ونعد العدة لما بعد الحياة الدنيا لنفوز بمرضاة اللّه، ونتجنب عقوبته تعالى في ذلك اليوم الذي قال عنه تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَئًْا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).

خلاصة الكلام

إذن خلاصة الكلام أن هناك أمرين أمام الإنسان المسلم وهما: إصلاح دنياه بالعلم والعمل والجهاد والسعي المستمر لتحقيق مكانته المرموقة اللائقة، وخدمة مجتمعه بما يصبّ في تطور الأمة وازدهارها لتحتل مكانها المناسب لها بين الأمم.

والأمر الثاني: إصلاح آخرته بالعمل الصالح، وأداء الواجبات والطاعات التي فرضها اللّه تعالى على المؤمنين من صلاة وصيام، وذهاب إلى محافل القرآن الكريم، والتحلي بالصفات والأخلاق الحسنة من الصدق والأمانة وما إلى ذلك... .

فإذا ما أصلحنا دنيانا وأُخرانا فسوف يشملنا اللّه تعالى بواسع رحمته ومغفرته وتوفيقه، ويقبل أعمالنا بأحسن قبوله، فإنه تعالى قال: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}(3).

ص: 373


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 28.
2- سورة يس، الآية: 54.
3- سورة آل عمران، الآية: 195.

وأنتم أيها الأخوة الشباب المؤمنون قد خصكم اللّه عزّ وجلّ بعظيم الأجر والثواب كما جاء على لسان رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

حيث يقول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سبعة في ظل عرش اللّه عزّ وجلّ يوم لا ظل إلّا ظله: إمامعادل، وشاب نشأ في عبادة اللّه عزّ وجلّ...»(1).

ويقول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما من شاب يدع للّه الدنيا ولهوها، وأهرم شبابه في طاعة اللّه إلّا أعطاه اللّه أجر اثنين وسبعين صديقاً»(2).

«اللّهم... أسألك أن تصلي على محمد عبدك ورسولك، وأن توزعني من شكر نعمائك ما تبلغ بي في غاية رضاك، وأن تعينني على طاعتك ولزوم عبادتك واستحقاق مثوبتك بلطف عنايتك، وترحمني بصدّي عن معاصيك ما أحييتني وتوفقني لما ينفعني ما أبقيتني، وأن تشرح بكتابك صدري، وتحطّ بتلاوته وزري، وتمنحني السلامة في ديني ونفسي، ولا توحش بي أهل أنسي وتمم إحسانك في ما بقي من عمري كما أحسنت في ما مضى منه يا أرحم الراحمين»(3).

من هدي القرآن الحكيم

حب الدنيا رأس كل خطيئة

قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}(4).

وقال سبحانه: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(5).

ص: 374


1- الخصال 2: 343.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 535.
3- المصباح للكفعمي: 101.
4- سورة البقرة، الآية: 204.
5- سورة آل عمران، الآية: 185.

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {فَمَا مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فِي الْأخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}(2).

عند اللّه ثواب الدنيا والآخرة

قال تعالى: {فََٔاتَىٰهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْأخِرَةِ}(3).

وقال سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَءَاتَيْنَٰهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْأخِرَةِ لَمِنَ الصَّٰلِحِينَ}(6).

القبر: المصير المحتوم

قال تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ}(7).

وقال سبحانه: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}(8).

وقال عزّ وجلّ: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}(9).

وقال جلّ وعلا: {قُتِلَ الْإِنسَٰنُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ

ص: 375


1- سورة الأنعام، الآية: 32.
2- سورة التوبة، الآية: 38.
3- سورة آل عمران، الآية: 148.
4- سورة النساء، الآية: 134.
5- سورة النحل، الآية: 97.
6- سورة العنكبوت، الآية: 27.
7- سورة الحج، الآية: 7.
8- سورة الانفطار، الآية: 4-5.
9- سورة العاديات، الآية: 9-10.

خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

مزرعة الآخرة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلّا ما ابتغي به وجه اللّه عزّ وجلّ»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة»(3).

وقال(عليه السلام): «أزهد في الدنيا يبصرك اللّه عوراتها ولا تغفل فلست بمغفول عنك!»(4).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «لا خير في الدنيا إلّا لأحد رجلين، رجل يزداد كل يوم إحساناً ورجل يتدارك سيئته بالتوبة، وأنى له التوبة؟ واللّه، لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل اللّه منه إلّا بولايتنا أهل البيت»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن أول ما عصي اللّه عزّ وجلّ به ست: حب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الطعام، وحب النوم، وحب الراحة، وحب النساء»(6).

ص: 376


1- سورة عبس، الآية: 17-21.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 531.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 23 من خطبة له(عليه السلام) تشتمل على تهذيب الفقراء... .
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 391.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 668.
6- الكافي 2: 289.
العبرة لمن اعتبر

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ان القبر أول منازل الآخر، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده ليس أقل منه»(1).

عن علي أمير المؤمنين(عليه السلام): «كان ضحك النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) التبسم فاجتاز ذات يوم بفئة من الأنصار وإذا هم يتحدثون ويضحكون بملء أفواههم، فقال: يا هؤلاء، من غرّه منكم أمله وقصر به في الخير عمله فليطلع في القبور وليعتبر بالنشور واذكروا الموت فإنه هادم اللذات»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن للقبر كلاماً في كل يوم يقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود، أنا القبر، أنا روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران»(3).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «... كأن قد أوفيت أجلك، وقبض الملك روحك وصرت إلى قبرك وحيداً فرد إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكان: ناكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك.

ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده وعن نبيك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولاه.

ثم عن عمرك في ما كنت أفنيته، ومالك من أين اكتسبته وفي ما أنت أنفقته، فخذ حذرك وانظر لنفسك، وأعد الجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار...»(4).

ص: 377


1- جامع الأخبار: 169.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 522.
3- الكافي 3: 242.
4- الكافي 8: 73.
حجاب القلب

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن المرء إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع فاستغفر صقل قلبه منها، وإن زاد فذلك الرَّين الذي ذكره اللّه تعالى فيكتابه {كَلَّا بَلْۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}»(1)(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... ومن لج وتمادى فهو الراكس الذي ران اللّه على قلبه، وصارت دائرة السوء على رأسه»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربع خصال من الشقاء: جمود العين وقساوة القلب وبعد الأمل وحب البقاء»(4).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «أوحى اللّه تعالى إلى داود(عليه السلام): يا داود حذّر، وأنذر أصحابك عن كل الشهوات، فإن المتعلقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبة عني»(5).

الشباب وعلو شأنه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سبعة يظلهم اللّه عزّ وجلّ في ظله يوم لا ظل إلّا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة اللّه عزّ وجلّ...»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته»(7).

ص: 378


1- سورة المطففين، الآية: 14.
2- مشكاة الأنوار: 256.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 58 كتبه(عليه السلام) إلى أهل الأمصار.
4- الخصال 1: 243.
5- تحف العقول: 397.
6- الخصال 2: 343.
7- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام) كتبها اليه.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لست أحب أن أرى الشاب منكم إلّا غادياً في حالين: إما عالماً أو متعلماً فإن لم يفعل فرط، فإن فرط ضيع، وان ضيع أثم، وإنأثم سكن النار والذي بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «أصبح إبراهيم(عليه السلام) فرأى في لحيته شيباً شعرة بيضاء فقال: الحمد للّه رب العالمين الذي بلغني هذا المبلغ ولم أعص اللّه طرفة عين»(2).

ص: 379


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 303.
2- علل الشرائع 1: 104.

وصايا إلى الكوادر العراقية

جزاء الصابرين

قال اللّه تعالى: {كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(1).

إن الأخوة والأخوات المؤمنين الصابرين الذين هجروا من ديارهم وأوطانهم فصبروا... وتشرفوا بزيارة مدينة قم المقدسة والسيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام) ثم نزلوا ضيوفاً كراماً أحبة علينا، فأهلاً وسهلاً بكم.

لقد جئتم إلى بيتكم الأول، وليس بيتكم الثاني، وهذا ما نعتز به ونفخر فيه، خصوصاً وأن هنالك علائق ودّ وقربى وصداقات تربطنا بمن ابتلى بطغاة العراق، الذين ذاقوا مرارة التهجير والحقد الطائفي والعنصري البغيض.

والأمل باللّه العظيم كبير جداً في العودة إلى الأوطان سالمين غانمين إن شاء اللّه تعالى، بعد أن تنجلي ظلمة حزب الطغاة الحاكم في العراق عن أرض المقدسات؛ فإن اللّه سبحانه وتعالى وعد بالنصر، واللّه لا يخلف الميعاد، فقد قال تبارك وتعالى: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(2).

وقال تبارك وتعالى في كتابه الكريم حاكياً كلام النبي موسى(عليه السلام) لقومه:

ص: 380


1- سورة البقرة، الآية: 249.
2- سورة محمد، الآية: 7.

{عَسَىٰرَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}(1).

لكن نصرة اللّه تعالى لنا تتوقف على مقومات وشروط، من أهمها مقدار سيرنا في الطريق الذي رسمه اللّه تعالى، وهو طريق الإسلام الحنيف بقوانينه الحيوية.

ومن الواضح أن باتباعنا لهذا الطريق فإن اللّه تعالى سيمن علينا بالنصر والظفر، فقد قال سبحانه وتعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ}(2).

إن المشاكل والصعوبات التي واجهت الأمة بتسلط هكذا حكم طاغٍ على الشعب، وبالرغم مما فيها من المعاناة والآلام، إلّا أن اللّه عزّ وجلّ لا يضيع أجر العاملين ويمنحهم الثواب العظيم؛ وذلك لحسن صبرهم وجهادهم، ثم إن الأتعاب والمشاكل والابتلاءات، إضافة إلى ما تعود به على الإنسان من نتائج من الجزاء الأخروي للصابرين عليها، فإنها - أيضاً - تنضج تجربته وخبرته، بل وتقوي عزيمته في الجهاد والنصر.

كما قال أحد الشعراء:

جزى اللّه الشدائد كل خير *** وإن جرعتني غصصاً بريقي

وما مدحي لها حباً ولكن *** عرفت بها عدوي من صديقي

صحيح أن بعض المشاكل والصعوبات تسبب ردود فعل سلبية وإحباطات لذوي الإيمان الضعيف، ولكنها بالنسبة إلى أهل الفضل والمعرفة تبني الإنسان وتعزز قدراته أكثر وأكثر في مواجهة صعوبات وابتلاءات هذه الحياة، وقد جاء

ص: 381


1- سورة الأعراف، الآية: 129.
2- سورة طه، الآية: 123-124.

في القرآن الكريم: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}(1) يعني: أن ما تلاقونه من الأذى والصعوبات هو خير، وليس هو خيراً للآخرة فقط، وإنما هو خير للدنيا والآخرة معاً؛ فإن الأمة التي لم تواجه المشاكل والصعوبات، لا تتمكن من تحمل المسؤوليات الكبيرة عادة، أمّا الأمم التي تعيش حالة المعاناة والتناقضات فإنها تمر بمرحلة مخاض وستتجاوز الصعوبات، وتخرج أكثر عافية وتفاؤلاً، وقدرة على النهوض بأعباء المسؤولية بإذن اللّه تعالى.

المؤمن مبتلى

عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد اللّه الصادق(عليه السلام) يقول: «المؤمن لا يمضي عليه أربعون ليلة، إلّا عرض له أمر يحزنه يُذكّر به»(2).

وقال(عليه السلام): «إن اللّه جعل المؤمنين في دار الدنيا غرضاً لعدوهم»(3).

وقال(عليه السلام) - في حديث آخر - : «لو يعلم المؤمن ما له في المصائب من الأجر لتمنى أن يقرض بالمقاريض»(4).

إن الأخوة الذين تعرضوا للسجون والتهجير من العراق، أو من أي بلد كان، وهجّروا قسراً إلى بلاد أخرى، قد ابتلوا بالامتحان ونجح الكثير منهم في هذا الامتحان، فأصبحت مأساة التهجير خيراً لهم، وهنالك روايات كثيرة تشير إلى أن المؤمن مبتلى ومعرّض للمشاكل والامتحان دائماً، لكن اللّه عزّ وجلّ سيعطيه الأجر الجزيل والثواب الكثير، في مقابل صبره وجلده وجهاده.

عن الإمام الكاظم(عليه السلام) قال: «مثل المؤمن مثل كفتي الميزان، كلما زيد في

ص: 382


1- سورة النور، الآية: 11.
2- الكافي 2: 254.
3- التمحيص: 32.
4- المؤمن: 15.

إيمانه زيد في بلائه؛ ليلقى اللّه عزّ وجلّ ولا خطيئة له»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «نِعم جرعة الغيظ لمن صبر عليها، فإن عظيم الأجر لمن عظيم البلاء، وما أحب اللّه قوماً إلّا ابتلاهم»(2).

إن العراق ومنذ دخول الاستعمار البريطاني أراضيه، بشكل الاحتلال غير المباشر أولاً، ثم الاحتلال المباشر ثانياً(3).

وبعد ذلك في أيام فيصل(4).

ثم غازي(5).

ثم فيصل الثاني(6).

وعبد الكريم قاسم(7).

وعبد السلام(8).

وعبد الرحمن(9).

والبكر(10).

ص: 383


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 631.
2- الكافي 2: 109.
3- وذلك بدخول الجيوش البريطانية الأراضي العراقية في (7 /تشرين الثاني/1914م).
4- فيصل الأول (1883-1933م).
5- غازي الأول (1912-1939م) ملك العراق (1933م) خلفاً لوالده فيصل الأول، قتل بحادث سيارة مدبر.
6- فيصل الثاني (1935-1958م) ابن غازي الأول، ملك العراق (1953م)، كان تحت وصاية خاله عبد الإله، قتل مع أغلب أفراد العائلة المالكة عقب انقلاب (14 تموز 1958م).
7- عبد الكريم قاسم محمد بكر الزبيدي من مواليد بغداد عام (1914م) التحق بالكلية العسكرية في (1932م) وتدرَّج في الرتب العسكرية، انتمى لتنظيم الضباط الأحرار عام (1956م)، قام بانقلاب عسكري عام (1958م) وأطاح بالحكم الملكي.
8- عبد السلام محمد عارف (1921م-1966م).
9- عبد الرحمن محمد عارف (1916م-1968).
10- أحمد حسن البكر، (1914م-1982م).

وصدام التكريتي(1).

وإلى هذا اليوم يخرج من مأساةٍ، ويدخل في أخرى. وقبل ذلك العثمانيون، الذين حكموا العراق ما يقارب (500) سنة، وكانوا طغاة ظلمة واستعماريين بشكل أو بآخر، حيث اتبعوا سياسة التتريك في العراق وفي غيره من البلدان التي كانت تحت سيطرتهم، فقد كان من شروط الوالي أن يكون تركياً، أما أن يكون عربياً فلا، وكذلك القاضي.

وعلى أي حال، خرج العراق من الاحتلال التركي إلى الاحتلال البريطاني، وهكذا استمر الوضع أيام حكم الملكيين، فكان الوضع أكثر سوءاً، حيث ظل يتحكم الإنكليز بالشعب عن طريق تحريك الملك كيفما يشاءون، وإلى ذلك يشير أحد الشعراء وهو العالم الجليل السيد صالح الحلي(رحمه اللّه) مخاطباً فيصل الأول:

قل للمليك المفدى *** عش في رفاه ونعمى

فأنت للحكم أسمٌ *** والإنجليز المسمى

طريق الخلاص

إن الاستعمار، ومنذ خمسمائة سنة، قد عشعش في بلادنا، وتشعبت خطوطه في أكثر المجالات؛ لذا لا بد من التخلّص منه، والمؤمنون المجاهدون هم طلائع هذا الهدف، فإذا وفروا شرائط النصر فسيكون الخلاص على أيديهم إن شاء اللّه تعالى، وما ذلك على اللّه بعزيز.

إن مسألة إنقاذ الشعب العراقي من الاستبداد والظلم، والتحرك في الساحة السياسية، يحتاج إلى إعداد العدّة، ويحتاج إلى الكادر الواعي المثقف لقيادة

ص: 384


1- ابتلى العراق بأقسى نظام وأشرس طاغية ألّا وهو نظام العفالقة بقيادة صدام التكريتي، (1939م-2006م).

جماهير الأمة؛ لأن عملية بث الوعي والإرشاد الفكري للأمة، من الأسس الرئيسية الكفيلة بالنهوض بمستوى الأمة وتحقيق شخصيتها وإدراكها لمكانتها ومسؤوليتها، وكل منا مسؤول في هذا الباب، إن اللّه تعالى يصف النبي إبراهيم(عليه السلام) بأنه كان أمّة، فقال تبارك وتبارك: {إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَىٰهُ وَهَدَىٰهُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1) فقد كان(عليه السلام) معلماً للخير والسبب في ذلك هو رشده ووعيه، كما قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَٰهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ}(2) وهذا يدل على أهمية الوعي والرشد.

الوعي والرشد

فاليوم نحن بحاجة إلى المستويات العالية من الوعي والرشد الفكري، لنواجه طواغيت العصر والمفسدين في الأرض وننهض بأمتنا نحو الحرية والاستقلال.

ولكي نبلغ مستوى الرشد هذا، علينا أن نعرف ما يجري في الساحة الدولية؟

وماذا يجري في العراق؟

وبمن يرتبط صدام وغيره؟

ولماذا تشريد الناس من بيوتهم؟

وهل حصل هذا من منطلق طائفي،أم هو من منطلق استعماري، أم هو من منطلق اقتصادي أو قومي؟

وعلى الإنسان أن يكون فطناً، لا يصفق لكل من جاء، فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المؤمن كيّس فطن حذر»(3).

ص: 385


1- سورة النحل، الآية: 120-121.
2- سورة الأنبياء، الآية: 51.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 297.

ففي الأيام الأولى لانقلاب البعثيين في العراق - كما نتذكر - كان قسم من الناس يصفقون لمجيء هؤلاء، وإن قسماً قليلاً من الذين يحملون وعياً سياسياً كانوا يقولون إن هؤلاء عملاء بريطانيا وإسرائيل، فلم يُخدعوا بأكاذيبهم.

وهذا هو الفرق بين الجهل والوعي، وبين الرشد والضياع.

وقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا يصلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجب من يفهم، ويظفر من يحلم، والعلم جنة والصدق عز، والجهل ذل والفهم مجد، والجود نجح وحسن الخلق مجلبة للمودة، والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس - إلى أن قال(عليه السلام): - ومن خاف العاقبة تثبت في ما لا يعلم، ومن هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه، ومن لم يعلم لم يفهم، ومن لم يفهم لم يسلم، ومن لم يسلم لم يكرم»(1) فالإنسان الواعي غالباً ما يدرك جذور القضايا، ولا ينخدع بالمظاهر؛ ولذا فإنه يكتشف بدايات خيوط المؤامرة ثم يسعى لإسقاطها أو اجتنابها.

لا بديل عن الإسلام

اشارة

قال اللّه العظيم: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).

لقد بات واضحاً أن ذلك العلاج - علاج الأوضاع المنحرفة والمأساوية للأمة الإسلامية عامة وللعراق خاصة - لا يكمن في الأطروحات القومية، أو في الديمقراطية على الطريقة الغربية، أو في الشيوعية، أو ما أشبه، بل في الإسلام العظيم؛ قال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٖ

ص: 386


1- تحف العقول: 356.
2- سورة آل عمران، الآية: 85.

يُوقِنُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(2) فاللازم التسليم لعبادة اللّه ودينه الذي ارتضاه لعباده، والحكم السياسي يتم تنفيذه بيد الأمة عن طريق شورى المرجعية والتعددية السياسية.

أما الأطروحات البديلة الأخرى غير الإسلام، فإن كلها مرتبطة بالاستعمار، أو تصب في مجراه. فكانت نتيجة هذه الأفكار المنحرفة التفرقة بين الناس والسيطرة عليهم، ثم سلب خيراتهم وثرواتهم، وهذا هو الانحراف عن سبيل اللّه الذي أمر به، ولا يمكن أن نقف بوجه هذه الأفكار والمبادئ غير الصحيحة إلّا إذا كنا نمتلك رشداً فكرياً ووعياً لما يدور حولنا. ومن هنا ورد التأكيد على أهمية الفكر.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس...»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الفكر يوجب الاعتبار ويؤمن العثار ويثمر الاستظهار»(4).

وقال(عليه السلام): «الفكر في العواقب ينجي من المعاطب»(5).

وحدة الصف

ويلزم على المسلمين الواعين أن يكونوا يقظين دائماً، ولايسمحوا للآخرين بأن يندسوا في ما بينهم فيشقّوا صفوفهم أو يفرقوهم، كما أن عليهم أن لاينجرّوا

ص: 387


1- سورة المائدة، الآية: 50.
2- سورة فصلت، الآية: 33.
3- الكافي 1: 27.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 121.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 78.

لقتال بعضهم البعض؛ لأنهم يدركون أنهم الضحية، وهم المستهدفون لتعميق خلافاتهم.

كما أن القتال الذي دار ويدور بين البلاد الإسلامية بعضها مع بعض كلها تصب في مصلحة الأعداء والاستعمار.

ثم إن اللازم على المتعاونين مع الطغاة أن يعرفوا عظيم ذنبهم، فإن رجال الأمن في نظام صدام ماذا فعلوا مع أبناء شعبهم؟ وهؤلاء في الحقيقة لا يعملون على تحقيق الأمن - كما قد يتوهمون أو يدعون - بل على العكس من ذلك، ولو كان لهم وعي، وكانوا راشدين، لما كانوا يضطهدون الشعب العراقي المسلم، فيعذبون الشباب الأبرياء في السجون؛ إذ لا معنى لسلب أمن الشعب مقابل أن يعيش الظالم آمناً بعيداً عن الناس.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من عامل رعيته بالظلم أزال اللّه دولته وعجل بواره وهلكه»(1).

وكذلك الذين يقومون بإعدام الناس على المشانق من أجل بقاء صدام وزمرته الظالمة، فهل هؤلاء رشيدون؟

كلا؛ فإنهم لو كانوا يملكون شيئاً من الرشد لما فعلوا هذا الإجرام بإخوانهم المؤمنين من أبناء بلدهم.

فقد قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة وأعوانهم، من لاق لهم دواة، وربط كيساً، أو مد لهم مدة قلم، فاحشروهم معهم»(2).

ص: 388


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 634.
2- ثواب الأعمال: 260.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا ومن علق سوطاً بين يدي سلطان جائر جعل اللّه ذلك السوط يومالقيامة ثعباناً من نار طوله سبعون ذراعاً يسلطه اللّه عليه في نار جهنم وبئس المصير»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاث»(2).

قصة من القرآن الكريم

قصة قابيل وهابيل هي المثال الحي الآخر لموضوع الوعي والرشد الفكري. فقابيل الأخ المنحرف وهابيل أخوه المؤمن، قال قابيل لهابيل: (لأقتلنك) فكان جواب هابيل: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ}(3) وذلك لأن هابيل كان رشيداً وواعياً. وقابيل لم يكن له رشد فلم يعرف عواقب الجريمة؛ لذلك قتل أخاه ودخل النار(4).

وقد أجاب الإمام أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام)، حينما سأله أحد أصحابه قائلاً: ما العقل؟

فقال(عليه السلام): «ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان».

قال: فالذي كان في معاوية؟

قال: «تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بعقل»(5).

نعم، إن معاوية وقابيل وكل أعداء اللّه لا يملكون رشداً ولا وعياً، بل إنهم وضعوا

ص: 389


1- من لا يحضره الفقيه 4: 17.
2- الكافي 2: 333.
3- سورة المائدة، الآية: 28.
4- انظر تفسير القمي 1: 165.
5- الكافي 1: 11.

عقولهم تحت أرجلهم، وتصرفوا وفق ما تمليه عليهم رغباتهم الشيطانية وغرائزهمغير الشرعية؛ ولذلك لاقت الأمة منهم ومن أمثالهم، أنواع الظلم والهوان.

بث الوعي في الأمة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلّموا»(1).

إذن، من أولويات العمل للنهوض بحالة الأمة الضائعة إلى المستوى الذي يليق بها، هو أن تجعل عيونها مفتوحة لتبصر كل ما يجري حولها من الدسائس والمؤامرات التي تهدف إلى النيل منها وإبقائها تحت التبعية، ولكي نتمكن من ذلك لا بد من بث الوعي والرشد الثقافي والسياسي بين الناس. وعندها ستقوى حصانة الأمة ضد كل المؤامرات التي تحاك ضدها.

ومن الطبيعي أن الذي يقوم بهذا الدور المهم، هم الطليعة المثقفة الواعية.

فعلى المؤمنين المجاهدين تعميق الوعي في نفوسهم أولاً، ونشر الوعي بين صفوف جماهير الأمة ثانياً، وبكل الوسائل الإعلامية المتاحة في عصرنا من تبليغ ونشر في المجلات والصحف، والنشرات والإذاعات وغيرها، فعندما يتعمق الوعي في نفوس أبناء الأمة ويدركون جيداً ما يدور حولهم، فإنهم سينهضون للمطالبة بحقوقهم والإطاحة بهؤلاء اللصوص الذين تربعوا وجثموا على صدر العراق والعراقيين ناهبين ومضيعين ثرواته، بلا حساب ولارقيب.

أما إذا أصبحت الأمة فاقدة للوعي، فلا يستبعد أن يتحكم بمصيرها، أمثال قابيل، أو معاوية، أو صدام، أو غيرهم من الطغاة.

وفي الختام نسأل اللّه عزّ وجلّ أن يمن علينا بدولة كريمة، وأن يخلصنا من

ص: 390


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 478.

هؤلاء الطغاة.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

كتاب يرشد إلى العقل

قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(2).

وقال سبحانه: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَٰبًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(5).

وقال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(6).

الدنيا دار تمحيص وابتلاء للمؤمن

قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَٰفِرِينَ}(7).

وقال سبحانه: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٖ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي

ص: 391


1- الكافي 3: 424.
2- سورة يوسف، الآية: 2.
3- سورة البقرة، الآية: 219.
4- سورة الأنبياء، الآية: 10.
5- سورة النحل، الآية: 44.
6- سورة الزخرف، الآية: 3.
7- سورة آل عمران، الآية: 141.

أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْوَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(1).

وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(3).

كتاب الوعي والإرشاد

قال جلّ وعلا: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(4).

و قال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(5).

وقال سبحانه: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}(7).

لا بديل عن الإسلام

قال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا

ص: 392


1- سورة آل عمران، الآية: 154.
2- سورة الملك، الآية: 2.
3- سورة الأنبياء، الآية: 35.
4- سورة العلق، الآية: 3-5.
5- سورة النحل، الآية: 64.
6- سورة البقرة، الآية: 1-2.
7- سورة آل عمران، الآية: 138.

يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِۦ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(1).

وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُسُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِۦ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(2).

وقال سبحانه: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِۦ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(4).

وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(5).

بث الوعي في الأمة

قال سبحانه: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(7).

ص: 393


1- سورة الأنفال، الآية: 24.
2- سورة المائدة، الآية: 15-16.
3- سورة الأعراف، الآية: 157.
4- سورة الأنعام، الآية: 153.
5- سورة آل عمران، الآية: 103.
6- سور النحل، الآية: 125.
7- سورة إبراهيم، الآية: 5.

قال جلّ وعلا: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1).

وقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَاتَكْتُمُونَهُ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

القرآن كتاب يرشد إلى العقل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن هذا القرآن هو النور المبين والحبل المتين والعروة الوثقى والدرجة العليا والشفاء الأشفى والفضيلة الكبرى، والسعادة العظمى، من استضاء به نوره اللّه، ومن اعتقد به في أموره عصمه اللّه، ومن تمسك به أنقذه اللّه، ومن لم يفارق أحكامه رفعه اللّه، ومن استشفى به شفاه اللّه، ومن آثره على ما سواه هداه اللّه، ومن طلب الهدى في غيره أضلّه اللّه، ومن جعله شعاره ودثاره أسعده اللّه، ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعوله الذي ينتهي إليه أداه اللّه إلى جنات النعيم والعيش السليم»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثم أنزل عليه الكتاب، نوراً لا تطفأ مصابيحه وسراجاً لا يخبو توقَّدُه وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يخمد برهانه وتبياناً لا تهدم أركانه...»(4).

وقالت فاطمة الزهراء(عليها السلام): «كتاب اللّه، بينةٌ بصائره وآي منكشفة سرائره،

ص: 394


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة آل عمران، الآية: 187.
3- تفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 449.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 198 من خطبة له(عليه السلام) يبين فضل الإسلام والقرآن.

وبرهان متجلية ظواهره، مديم للبرية استماعه، وقائد إلى الرضوان أتباعه، مؤدياً إلى النجاة أشياعه، فيه تبيان حجج اللّه المنورة، ومحارمه المحدودة، وفضائله المندوبة، وجمله الكافية ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، وبيناتهالخالية..»(1).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام) في دعائه عند ختم القرآن: «اللَّهم، إنك أعنتني على ختم كتابك الذي أنزلته نوراً، وجعلته مهيمناً على كل كتابٍ أنزلته، وفضلته على كل حديثٍ قصصته.

وفرقاناً فرقت به بين حلالك وحرامك، وقرآناً أعربت به عن شرائع أحكامك وكتاباً فصلته لعبادك تفصيلاً، ووحياً أنزلته على نبيك محمدٍ صلواتك عليه وآله تنزيلاً.

وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه، وشفاءً لمن أنصت بفهم التصديق إلى استماعه، وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه، ونور هدى لا يطفأ عن الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أمَّ قصد سنته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته.

اللّهم، فإذ أفدتنا المعونة على تلاوته، وسهلت جواسي ألسنتنا بحسن عبارته، فاجعلنا ممن يرعاه حق رعايته، ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته، ويفزع إلى الإقرار بمتشابهه، وموضحات بيناته.

اللّهم، إنك أنزلته على نبيك محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مجملاً، وألهمته علم عجائبه مكملاً، وورثتنا علمه مفسراً، وفضلتنا على من جهل علمه، وقويتنا عليه لترفعنا فوق من لم يطق حمله.

ص: 395


1- من لا يحضره الفقيه 3: 567.

اللّهم، فكما جعلت قلوبنا له حملة، وعرفتنا برحمتك شرفه وفضله، فصل على محمد الخطيب به، وعلى آله الخزان له، واجعلنا ممن يعترف بأنه من عندك حتى لا يعارضنا الشك في تصديقه، ولا يختلجنا الزيغ عن قصد طريقه.

اللّهم، صل على محمد وآله، واجعلنا ممن يعتصم بحبله، ويأوي من المتشابهات إلى حرز معقله، ويسكن في ظل جناحه، ويهتدي بضوء صباحه، ويقتدي بتبلج أسفاره، ويستصبح بمصباحه، ولا يلتمس الهدى في غيره.

اللّهم، وكما نصبت به محمداً علماً للدلالة عليك، وأنهجت بآله سبل الرضا إليك، فصل على محمد وآله، واجعل القرآن وسيلة لنا إلى أشرف منازل الكرامة، وسُلماً نعرج فيه إلى محل السلامة، وسبباً نجزى به النجاة في عرصة القيامة، وذريعة نقدم بها على نعيم دار المقامة.

اللّهم، صل على محمد وآله، واحطط بالقرآن عنا ثقل الأوزار، وهب لنا حسن شمائل الأبرار، واقف بنا آثار الذين قاموا لك به آناء الليل وأطراف النهار، حتى تطهرنا من كل دنس بتطهيره، وتقفو بنا آثار الذين استضاءوا بنوره، ولم يلههم الأمل عن العمل فيقطعهم بخدع غروره.

اللّهم، صل على محمد وآله، واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مونساً، ومن نزغات الشيطان وخطرات الوساوس حارساً، ولأقدامنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً، ولألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً، ولما طوت الغفلة عنا من تصفح الاعتبار ناشراً، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه، وزواجر أمثاله التي ضعفت الجبال الرواسي على صلابتها عن احتماله.

اللّهم، صل على محمد وآله، وأدم بالقرآن صلاح ظاهرنا، واحجب به خطرات الوساوس عن صحة ضمائرنا، واغسل به درن قلوبنا وعلائق أوزارنا،

ص: 396

واجمع به منتشر أمورنا، وأرو به في موقف العرض عليك ظمأ هواجرنا، واكسنا بهحلل الأمان يوم الفزع الأكبر في نشورنا...»(1).

الدنيا دار تمحيص وابتلاء للمؤمن

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) موصياً أصحابه: «اعلموا أن القرآن هدى الليل والنهار، ونور الليل المظلم، على ما كان من جهد وفاقة، فإذا حضرت بليّة فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم، وإذا نزلت نازلة فاجعلوا أنفسكم دون دينكم، واعلموا أن الهالك من هلك دينه والحريب من حرب دينه، ألّا وإنه لا فقر بعد الجنة، ألّا وإنه لا غنى بعد النار، لا يفك أسيرها ولا يبرأ ضريرها»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لفاطمة الزهراء(عليها السلام) عندما رآها تطحن بيديها وترضع ولدها: «يا بنتاه، تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «الدنيا سجن المؤمن، والقبر حصنه والجنة مأواه، والدنيا جنة الكافر والقبر سجنه والنار مأواه»(4).

وقال(عليه السلام): «ما كان ولا يكون وليس بكائن مؤمن إلّا وله جار يؤذيه، ولو أن مؤمناً في جزيرة من جزائر البحر لابتعث اللّه له من يؤذيه»(5).

الوعي والرشد الفكري

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربعة تلزم كل ذي حجى وعقل من أمتي».

قيل: يا رسول اللّه وما هنَّ؟

ص: 397


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) عند ختم القرآن.
2- الكافي 2: 216.
3- مكارم الأخلاق: 117.
4- الخصال 1: 108.
5- الكافي 2: 251.

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «استماع العلم وحفظه ونشره والعمل به»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن معلم الخير يستغفر له دواب الأرض وحيتان البحر وكل ذي روح في الهواء وجميع أهل السماء والأرض، وإن العالم والمتعلم في الأجر سواء يأتيان يوم القيامة كفرسي رهان يزدحمان»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي، ثلاث من حقائق الإيمان: الإنفاق من الاقتار وإنصافك الناس من نفسك، وبذل العلم للمتعلم»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «رحم اللّه عبداً أحيا العلم».

فقيل: وما إحياؤه؟

قال: «أن يذاكر به أهل الدين وأهل الورع»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن اللّه عزّ وجلّ يقول: تذاكر العلم بين عبادي مما تحيا عليه القلوب الميتة إذا هم انتهوا فيه إلى أمري»(5).

لا بديل عن الإسلام

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه...»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع،

ص: 398


1- تحف العقول: 57.
2- بصائر الدرجات 1: 3.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 360.
4- الكافي 1: 41.
5- الكافي 1: 41.
6- الهداية الكبرى: 47.

والأمر الصادع، إزاحة للشبهات، واحتجاجاً بالبينات، وتحذيراً بالآيات وتخويفاً بالمثلات(1)، والناس في فتن انجذم(2) فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري(3) اليقين، واختلف النجْر(4)، وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل والعمى شامل...»(5).

وقال(عليه السلام): «إن اللّه تعالى خصكم بالإسلام واستخلصكم له؛ وذلك لأنه اسم سلامة وجماع كرامة... فيه شفاء المستشفي وكفاية المكتفي»(6).

بث الوعي في الأمة

قال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): «جاء رجل من الأنصار إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه ما حق العلم؟

قال: الإنصات له.

قال: ثم مه؟

قال: الاستماع له.

قال: ثم مه؟

قال: ثم الحفظ.

قال: ثم مه يا نبي اللّه؟

قال: العمل به.

ص: 399


1- المَثُلات: العقوبات.
2- انجذم: انقطع.
3- السواري - جمع سارية - : العمود والدعامة.
4- النَجْر: الأصل.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 2 من خطبة له(عليه السلام) بعد انصرافه من صفين... .
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 152 من خطبة له(عليه السلام) في صفات اللّه جل جلاله وصفات أئمة الدين.

قال: ثم مه؟

قال: ثم نشره»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رحم اللّه خلفائي»

فقيل: يا رسول اللّه ومن خلفاؤك؟

قال: «الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد اللّه»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رحم اللّه خلفائي».

قيل: ومن خلفاؤك يا رسول اللّه؟

قال: «الذين يأتون بعدي ويروون سنتي ويحفظون حديثي على أمتي، أولئك رفقائي في الجنة»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما أخذ اللّه ميثاقاً من أهل الجهل بطلب تبيان العلم حتى أخذ ميثاقاً من أهل العلم ببيان العلم للجهال؛ لأن العلم كان قبل الجهل»(4).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «... من أوجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئاً ينفعه لا من دنياه ولا من آخرته»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما تصدق الناس بصدقة مثل علم ينشر»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «زكاة العلم تعليمه من لا يعلمه»(7).

ص: 400


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 603.
2- منية المريد: 101.
3- عوالي اللئالي 4: 64.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 66.
5- بحار الأنوار 2: 75.
6- منية المريد: 105.
7- عدة الداعي: 72.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «تصدقوا على أخيكم بعلم يرشده ورأي يسدده»(1).

ملحق

الصورة المستقبلية للعراق

أدناه نص جواب الإمام الراحل(رحمه اللّه) على سؤال جماعة من المؤمنين عن آرائه حول الصورة المستقبلية للعراق:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

السلام على الأخوة المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته.

لقد سألتم عن العراق والصورة التي ينبغي أن يكون عليها في المستقبل بعد سقوط النظام الحالي بإذن اللّه تعالى، وسنشير ههنا إلى بعض البنود حسب ما يستفاد من الموازين الإسلامية المطابقة للموازين الإنسانية الفطرية، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(2).

1- يجب أن تكون الأكثرية هي الحاكمة كما يجب إعطاء الأقلية حقوقها، فإن الأكثرية كان لها الدور الأكبر في إنقاذ العراق مراراً عديدة في هذا القرن: مرة في ثورة العشرين، ومرة أخرى في الحرب العالمية الثانية، حيث أفتى العلماء بوجوب إخراج المستعمرين من قاعدة (الحبانية) فتحرك الشعب العراقي بأسره حتى أخرجهم، ومرة ثالثة: إبان المد الأحمر- الشيوعي - وقد سجلت الكتب التاريخية تلك الحوادث بتفاصيلها.

وقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(3) وقال جلّ وعلا:

ص: 401


1- عدة الداعي: 72.
2- سورة الروم، الآية: 30.
3- سورة الشورى، الآية: 38.

{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(1) وورد في الحديث الشريف: «لئلا يتوى حق امرئ مسلم».

2- من الضروري استناد الدولة إلى المؤسسات الدستورية حيث يلزم منح الحرية لمختلف التجمعات والتكتلات والفئات والأحزاب غير المعادية للإسلام في إطار مصالح الأمة، كما يلزم أن تكون الانتخابات حرة بمعنى الكلمة، وأن توفر الحرية للنقابات والجمعيات ونحوها، كما يلزم أن تعطى الحرية للصحف وغيرها من وسائل الإعلام، ويلزم أن تمنح الحرية لمختلف أصناف المجتمع من المثقفين والعمال والفلاحين و... كما تعطى المرأة كرامتها وحريتها. كل ذلك في إطار الحدود الإسلامية الإنسانية، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(2) وقال تعالى: {يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(3) وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً»(4).

3- اللاعنف هو المنهج العام في الداخل والخارج، كما قال تعالى: {ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(5) فإنه هو الأصل ونقيضه استثناء.

4- يجب أن تراعى حقوق الإنسان بكل دقة حسب ما قرره الدين الإسلامي الذي يتفوق على قانون حقوق الإنسان المتداول في جملة من بلاد العالم اليوم، فلا إعدام مطلقاً إلّا إذا حكم - في كلية أو جزئية - مجلس (شورى الفقهاء المراجع) إذ في صورة الاختلاف بينهم يكون من الشبهة و(الحدود تدرأ

ص: 402


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- سورة البقرة، الآية: 256.
3- سورة الأعراف، الآية: 157.
4- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) للحسن بن علي(عليهما السلام)... .
5- سورة البقرة، الآية: 208.

بالشبهات)(1)، كما ينبغي تقليص عدد السجناء إلى أدنى حد، حتى من الحد المقرر في العالم اليوم، كما لا تعذيب مطلقاً، وكذلك لا مصادرة للأموال مطلقاً.

5- وبالنسبة إلى ما سبق يتمسك ب- : {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ}(2)، كما عفا الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أهل مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(3)، وعن غير أهل مكة، وكما صنع ذلك الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ويؤيده ما ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام)، إن حديث (الجب)(4) أولى بالجريان بالنسبة إلى المسلمين من جريانه في حق غيرهم.

6- للأكراد والتركمان وأمثالهم كامل الحق في المشاركة في الحكومة القادمة وفي كافة مجالات الدولة والأمة فقد قال اللّه سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(5) وقال الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى...»(6).

7- ينبغي أن تتخذ الدولة القادمة سياسة (المعاهدة) أو (المصادقة) مع سائر الدول في إطار مصلحة الأمة، كما قام بذلك الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع مختلف الفئات غير الإسلامية حتى المشركين، ويستثنى من ذلك عدة صور، منها: صورة احتلال الكفار والمشركين لبلاد المسلمين، كما حدث في فلسطين وأفغانستان،

ص: 403


1- إشارة إلى حديث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال: «ادرءوا الحدود بالشبهات...» من لا يحضره الفقيه 4: 74.
2- سورة المائدة، الآية: 95.
3- الكافي 3: 513.
4- إشارة إلى قاعدة (الجَب) المأخوذة من كلام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله» تفسير القمي 2: 27.
5- سورة الحجرات، الآية: 13.
6- الإختصاص: 341.

حيث يجب على جميع المسلمين عندئذ الدفاع إذ «المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى»(1).

8- المرجع الأخير في دستور الدولة الإسلامية القادمة في العراق، وفي رسم السياسة العامة والخطوط العريضة هو (شورى الفقهاء المراجع) حسب ما قرره الإسلام، قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المتقون سادة والفقهاء قادة»(2).

ومن الواضح أن الفقهاء المراجع يتعاونون مع الحوزات العلمية ومع المثقفين والأخصائيين في كافة الحقول الاختصاصية؛ فإن ذلك هو مقتضى المشورة والشورى، كما قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(3) و{أَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(4).

9- يجب على كافة المسلمين السعي لكي تتوحد بلاد الإسلام وتنصهر في دولة واحدة إسلامية ذلك لأن المسلمين أمة واحدة، كما قال تعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِۦ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(5) وقد أسس الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أساس الدولة العالمية الواحدة حيث توحدت في حياته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تسع دول تحت راية الإسلام - على ما ذكره المؤرخون - وفي هذا القرن كانت الهند مثالاً لذلك، كما أن أوربا تحاول التوصل إلى ذلك. ومن الواضح أن تفكك الدول الإسلامية ووجود الحدود الجغرافية بينها من الأسباب الرئيسية في تخلف المسلمين من جهة وفي تناحرهم وتحاربهم من جهة أخرى، وفي تفوق المستعمرين عليهم واستعمارهم من جهة ثالثة.

ص: 404


1- انظر المؤمن: 38 و39.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 225.
3- سورة آل عمران، الآية: 159.
4- سورة الشورى، الآية: 38.
5- سورة المؤمنون، الآية: 52.

10- يلزم حث المجاميع الدولية كي تقوم بالضغوط الشديدة على كل حكومة تريد ظلم شعبها؛ ذلك أن الإنسان من حيث هو إنسان لا يرى فرقاً بين ظلم أهل الدار بعضهم لبعض وبين ظلم الجيران بعضهم لبعض. وهذا هو ما يحكم به العقل أيضاً، ولا يجوز في حكم العقل والشرع أن ندع أمثال موسيليني وهتلر وستالين يفعلون ما يشاؤون بشعوبهم تشريداً ومطاردة ومصادرة للأموال وقتلا للأنفس، بحجة أنها شؤون داخلية... فإذا اشتكى أبناء بلد عند سائر الأمم كان عليهم أن يرسلوا المحامين والقضاة، فإذا رأوا صحة الشكوى أنقذوا المظلوم من براثن الظالم.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

محمد الشيرازي

العراق ما بعد صدام

العراق ما بعد صدام(2)

العراق والتغيير المرتقب

قال اللّه تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(3).

إلى إخواننا العراقيين الأعزاء في شتى أنحاء العالم.

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

لا يخفى عليكم أن العراق معروف بالتبدل، والأوضاع الأخيرة في عراقنا

ص: 405


1- الكافي 3: 424.
2- ألقيت هذه المحاضرة في ليلة (27/ شهر رمضان/ 1422ه).
3- سورة آل عمران، الآية: 178.

الجريح توعز إلى أن الغرب يريد تبديل النظام الحاكم في العراق إلى نظام آخر، فصدام كان عبداً لهم وهم الذين جاءوا به واليوم يريدون تبديله بعميل آخر؛ إذ أن هذه سنتهم ودأبهم في إدارة سياسة العراق - وغيره - .

فعندما كنا في العراق(1) وفي بداية مجيء البعثيين إلى الحكم قال وزير الداخلية (علي صالح السعدي) في خطاب له: جئنا إلى العراق بقطار أنكلوأمريكي، وإثر سماعي لكلامه قلت لمن كان حولي من الأصدقاء: إنه لم يذكر الحقيقة بكاملها، وأردفت معلقاً على كلامه فقلت: بل أنهم جاءوا بقطار انكلوا أمريكي إسرائيلي.

ففي الواقع إن صدام ليس إلّا عبداً للغرب جاءوا به لأمرين:

الأول: إذلال العراقيين لأنهم حاربوا بريطانيا في ثورة العشرين المعروفة.

الثاني: الاستيلاء على خيرات العراق.

فقد كان أحمد حسن البكر هو الحاكم سابقاً، ثم جاء صدام، وفي المستقبل غير معلوم من سيكون حاكماً على العراق.

وعلى كل حال، فالغرب - كما تدل القرائن الكثيرة - يريد تبديل النظام الحاكم في العراق إذ أن عمالة صدام أصبحت معروفة عند الجميع وهم يريدون وجوهاً غير معروفة.

فإذا حصل التغيير، فاللازم تطبيق خمسة أمور في العراق وإلّا سيبقى العراق كما كان عليه، يتحكم بمصيره الظلمة والطغاة من عملاء الغرب.

أمور خمسة

اشارة

أما الأمور الخمسة فهي:

ص: 406


1- هاجر الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) من العراق عام (1391ه) مكرهاً. انظر كتاب كيف ولماذا أخرجنا من العراق.
حكم الإسلام
اشارة

الأول: حكم الإسلام، والمراد بذلك أن تكون القوانين الإسلامية هي الحاكمة والسائدة في العراق كما كان ذلك محققاً قبل نحو ستين عاماً تقريباً - ولو نسبياً - فقد شاهدت شخصياً بعض تلك القوانين الإسلامية كقانون إحياء الأرض المستفاد من قوله(عليه السلام): «الأرض للّه ولمن عمرها»(1).

وهذا القانون ليس من عند البشر بل هو قانون إلهي، وطلبة العلوم الدينية يقرؤونه في الكتب الفقهية كالشرائع، وشرح اللمعة، والحدائق، والجواهر، ومصباح الفقيه، وغيرها من كتب الفقه الأخرى التي تنص على هذا القانون.

وكما جاء في التاريخ الصحيح أن في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان كل شيء مباحاً، الماء، المعادن، الأرض، وغيرها.

والملفت للانتباه إنه قبل مجيء الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن هذا القانون، بل كانت الأرض كما نحن عليه اليوم، ملكاً لأفراد معينين، ولكن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ارتقى المنبر ذات يوم وخطب في الناس قائلاً: «الأرض للّه ولمن عمرها» وأضاف إليه: «ثم إنها مني إليكم أيها المسلمون...»(2).

والناس عندما سمعوا ذلك غمرهم السرور بهذا القانون، فأخذوا يعمّرون أطراف المدينة المنورة، فكل منهم جعل يحيي قسماً من الأرض، فهذا صنع داراً، وذاك أحيى لنفسه بستاناً، والآخر أعدّ لنفسه رحىً، وغير ذلك، حتى عمرت أطراف المدينة المنورة.

نعم، يلزم أن يعود هذا القانون إلى العراق، وإنّني أتذكر جيداً التطبيق النسبي

ص: 407


1- الكافي 5: 279.
2- انظر عوالي اللئالي 1: 44.

لهذا القانون قبل نحو ستين عاماً في العراق(1).

فهذا القانون كان موجوداً في إيران والعراق، وقد ألغاه البهلوي الأول في إيران، ثم فعلوا نفس ذلك تماماً قبل نحو خمسين عاماً تقريباً في العراق.

بالإسلام تعمر البلاد

ومن آثار هذا القانون الإسلامي هو ما شاهدته شخصياً عبر القصة التالية:

فقد دعاني في تلك الأيام شيخ جليل أسمه (الشيخ فرج) إلى منزله للمشاركة في مجلس العزاء الذي عقده آنذاك، وقد كان منزله كبيراً ربما بلغت مساحته (800 متر)، وأتذكر أنّني سألته آنذاك قائلاً: كم كلفك بناء هذا المنزل.

فقال: 800 فلس: أي ما يعادل قيمته الشرائية آنذاك (800 رغيف) من الخبز، إذ أن رغيف الخبز كان حينذاك يباع بفلس واحد. ولما سألته كيف يمكن ذلك؟

أجاب: لأن الأرض أخذتها مجاناً، فقلت له: إذا كانت الأرض مجانية فلماذا الثمانمائة فلس؟

فأجاب: لقد أعددت شخصياً اللبن - بكسر اللام - وأعطيت للبنّاء حتى يرصف هذا اللبن.

هكذا كان عراقنا، فالمنزل الكامل البالغة مساحته (800 متر) قيمته ثمانمائة فلس، ولذا كان الجميع يمتلكون البيت.

وهناك قصة أخرى تدل على نفس المطلب، وهي: أن أحد أصدقائنا الفضلاء وهو الشيخ إبراهيم الحائري(رحمه اللّه)(2) صنع منزلاً كاملاً بنفسه ودون مساعدة أي شخص آخر، وقد دعاني شخصياً مع سماحة الأخ السيد صادق(3) إلى منزله،

ص: 408


1- انظر كتاب: (حياتنا قبل نصف قرن) لسماحته(رحمه اللّه) وكتاب (تلك الأيام).
2- الشيخ محمد إبراهيم بن حسن بن علي بن حسين الكشميري الحائري.
3- المرجع الديني آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي حفظه اللّه.

فذهبنا آنذاك فشاهدت جدار داره غير مستقيم وحينما سألته عن ذلك أجاب قائلاً: أنا لا أجيد البناء وإنما شيّدت هذا المنزل بنفسي...!!

هكذا كانت الأرض للّه ولمن عمّرها.

أما الآن فأكثر الشباب لما نسألهم: هل أنت متزوج؟

يجيبون: لا.

ولما نسألهم: لماذا؟

يجيبون: لأننا لا نملك بيتاً.

فعلى الأخوة الأعزاء إذا ذهبوا إلى العراق - إن شاء اللّه تعالى - أن يسعى كل واحد منهم لتطبيق هذا القانون الإلهي عبر اللسان والقلم.

قانون من سبق

وهناك قانون إسلامي آخر ضيّعه العملاء في العراق، فعلينا أن نسعى جاهدين من أجل إعادته، ألّا وهو قانون السبق، ففي الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له»(1).

فمثلاً الإنسان الذي يسبق الآخرين إلى حيازة السمك يكون له(2)، وكذا من يسبقهم إلى حيازة الملح أو المعدن أو النخيل وغيرها فهي كذلك تكون له. وهذا غير مقتصر على ذلك الزمان، بل يشمل زماننا الراهن أيضاً، فحلال محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة(3).

ولا يخفى أن كل تغيير في قانون اللّه فهو يسبب الضنك في المعيشة، كما

ص: 409


1- عوالي اللئالي 3: 480.
2- لا يخفى أن ذلك في المباحات العامة ولا يجري هذا القانون في الممتلكات الشخصية.
3- إشارة إلى حديث الإمام الصادق(عليه السلام) حيث قال: «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجيء غيره»، الكافي 1: 58.

ينص على ذلك القرآن الكريم، حيث قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1).

فمثلاً في العراق كانت هناك منطقتان يجلب منهما الملح، إحداهما: بحيرة الرزازة، والأخرى قريب حصن الأخيضر، وقد شاهدتها شخصياً، وقد كنا نشتري منها الملح الذي يجلب من تلك المناطق وبكميات كبيرة بعشرة أفلس، أي ما يعادل قوته الشرائية عشرة أرغفة من الخبز. وإثر مجيء عبد الكريم قاسم أصبحت نفس هذه الكمية بدينار! أي ازدادت القيمة عمّا كانت عليه مائة ضعف.

وكذلك الحال بالنسبة إلى اصطياد السمك فقد كان مباحاً، فعلى سبيل المثال كربلاء المقدسة كانت لها ثلاثة أطراف يصطاد فيها السمك، أحدها: في قضاء طويريج، والآخر في السدّة، والثالث في الرزازة.

وقد كان الناس يصطادون الأسماك ويبيعونه للآخرين، فكنا نشتري السمك في يوم الأربعاء لعائلتنا المكونة آنذاك من عشرة أفراد من خان المخضر بعشرة فلوس، وعند مجيء عبد الكريم قاسم - المدعي للوطنية - منع صيد الأسماك، وفي الأسبوع الثاني اشترينا نفس السمك ونفس المقدار بمائتين وخمسين فلساً، أي ما يعادل خمسة وعشرين ضعفاً، ومع مضي الأيام وبعد أن أصبح عبد الكريم لا يخدم مصالح الغرب بشكل كامل قتلوه، حيث أنهم جاءوا به أمام الملأ العام وأردوه صريعاً برصاصاتهم.

الإسلام هو الحل

ولكي لا تتكرر هكذا تجارب مرة أخرى في العراق ينبغي أن تحكم قوانين الإسلام، وإلّا فانه إذا سادت القوانين غير الإسلامية فإن مصيرنا في المستقبل ربما

ص: 410


1- سورة طه، الآية: 124.

سيكون أشد مما نحن عليه اليوم، الأمر الذي يعود علينا بالويل، وعلى نفس الحكام الذين لا يحكمون بهذه القوانين الإسلامية بالضياع كما حصل للماضين منهم.

فهذا عبد الكريم قاسم تضرّر وأضرّ ضرراً جسيماً حتى قتلوه، كل ذلك لأنه لم يحكم بالقوانين الإسلامية، وكذلك بالنسبة إلى (أحمد حسن البكر)، و(عبد السلام عارف) و(عبد الرحمن عارف).

وكذلك الحال في إيران، فقد نفي (البهلوي الأول) إلى (موريس) ولما أراد البريطانيون إبعاده عبر البحر رمى بنفسه على الشاطئ وأخذ يبكي ويتضرع إليهم إلّا أن ذلك لم يجده شيئاً، فأركبوه السفينة ونفوه عن إيران، وكذا الشاه الثاني فقد نفوه ومات بمرض السرطان.

الحكومة الشيعية

الأمر الثاني: فالذي يلزم تطبيقه في مستقبل العراق هو: الحكومة الشيعية، أي يلزم أن تحكم العراق حكومة شيعية، إذ أن غالبية الشعب العراقي من الشيعة. وكما هو معلوم لدينا أن شيعة العراق هم 80 % من تعداد السكان، والبقية 11% من العامة و9% من المسيحيين واليهود واليزيديين وغيرهم(1).

فإذا كانت أكثرية العراق من الشيعة، فلماذا لا تكون لهم حكومة شيعية؛ لذلك فاللازم السعي الجاد والتبليغ لقيام حكومة شيعية في العراق، فإن تبليغكم القوي سيكون مؤثراً.

الأحزاب الحرة

الأمر الثالث: اللازم مراعاته في العراق هو: الأحزاب الحرة، فماذا يعني أن

ص: 411


1- أجرى السيد محمد الصدر رئيس وزراء العراق إحصاءً في أواخر الأربعينات جاء فيه: إن نسبة الشيعة في العراق (80%) انظر كتاب (تلك الأيام) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

العراق حتى عصرنا الراهن يحكمه حزب واحد وديكتاتور مستبد، فأغلب بلاد العالم اليوم تسودها الحرية والديمقراطية - ولو نسبياً - أما العراق فيحكمه مستبد اسمه صدام، ويا ترى من هو صدام حتى يستولي على البلاد ويتحكم في مصير العباد؟ إنه رجل ريفي من قرية في أطراف تكريت تدعى العوجة. وهو رجل جاهل، غير مثقف، ولا يعرف من الحياة سوى القوة والبطش اللذين يتحكم من خلالهما بمصير الناس في العراق.

وإنني أدركت - شخصياً - عهد تعدد الأحزاب في العراق، ورأيت بعض آثاره الإيجابية، ولعل القصة التالية هي خير شاهد على ذلك، فقد ذهبنا في بعض الأيام مع السيد محمد علي الطباطبائي(1) إلى رئيس الوزراء السيد محمد الصدر في منزله الواقع في بغداد، وقد كان المنزل متواضعاً جداً حيث لم يكن فيه سوى حصير قديم وسرير كان السيد ينام عليه، وكان السيد عندما زرناه مريضاً، وبعد أن جلسنا عنده وقد كان الجو بارداً في الشتاء، قال له السيد محمد علي الطباطبائي: لماذا تترك الباب مفتوحاً يا سيدنا؟ فأجاب: هناك هرّة قد أنجبت صغارها في هذه الدار وأنا أترك الباب مفتوحاً رأفة بها.

هكذا كانت حياة الحكّام بسيطة لما كانت الأحزاب الحرة هي الحاكمة في العراق، أما عراقنا اليوم، فصدام قد شيّد لنفسه العشرات من القصور كل واحد منها تقدّر تكاليف بنائه بالمليارات، كل ذلك من أجل إشباع نهمه وإرضاء شهواته.

أجل، فالغرب لا يروق له أن تحكم العراق الأحزاب الحرة، وخير دليل على ذلك هي القصة التي نقلها فؤاد عارف(2) وزير عبد الكريم قاسم حيث قال:

ص: 412


1- السيد محمد علي ابن السيد مهدي الطباطبائي الحائري (1302ه-1381ه).
2- كان متصرفاً للواء كربلاء عام (1958م).

ذهبت إلى لندن والتقيت بوزير الخارجية البريطاني وسألته: ماذا كانت مشكلة العراق حتى جعلتم عبد الكريم قاسم حاكماً عليه؟

فأجابني بكل صراحة: عندما كان الملكيون يحكمون العراق كنّا لأجل إصدار قانون بسيط ننتظر مدة طويلة، حيث كان النواب يتداولونه أولاً في المجلس، ثم يذهب بعد مدة طويلة إلى المجلس الأعلى، وبعد فترة ينشر في الإذاعة والصحف، فيبقى القانون ما يقارب ستة أشهر يتداول هنا وهناك، حتى يصل إلى الملك فيعدّله وتحصل فيه تغييرات كثيرة ثم يُقرر.

وبعد مجيء عبد الكريم قاسم أصبحنا في راحة من ذلك، فإننا بمجرد أن نتصل به ونخبره بالقانون الذي نريده، فإنه يمتثل مباشرة ويقرّ القانون دون أي تغيير أو تعديل.

ولا يخفى أنهم من أجل ذات القضية جاءوا بصدام.

ولكي يتخلص العراق من هكذا حكّام لا بد أن تكون الأحزاب الحرة كما كانت في عهد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جعل المهاجرين والأنصار أحزاباً، وهذا موجود بالنص في كتاب (السبق والرماية) وقد تطرق إليه الفقهاء في كتبهم الفقهية كالجواهر، والمسالك، وجامع المقاصد، وغيرها.

حرية الحوزات العلمية

الأمر الرابع: حرية الحوزات العلمية واستقلاليتها، ولكي يسترجع العراق عزته الأولى لا بدّ أن تعود الحرية إلى الحوزات العلمية كما كانت عليه في السابق، حيث كان بوسع الجميع أن يأتي ويلتحق بالحوزات العلمية دون أية مضايقات وكان للعلماء والطلبة دورهم في إرشاد الناس وبيان الحكم الشرعي من دون مضايقة من الحكومات، ولا يخفى أن للحوزات العلمية فوائد جمة،

ص: 413

منها الفائدة العلمية، والدينية، والاقتصادية، وغيرها.

وقد كان في الحوزة العلمية في عهد السيد الحكيم(رحمه اللّه) إثنا عشر ألفاً من الطلبة، ولم يكن لأية حوزة أخرى آنذاك هذا العدد الهائل، ومع الأسف الشديد جاء صدام وشتّت هذه الحوزة وشرد طلبتها، وسجن وقتل منهم الكثير، كل ذلك حتى يستبد بالحكم في العراق دون أن يتساءل منه أحد لماذا هكذا؟ والجدير بالذكر أن الاستعمار البريطاني يحمل حقداً كبيراً على الحوزة العلمية، ويعمل ليل نهار من أجل تحطيمها؛ وذلك لأن رجالات الحوزة أخرجت الاستعمار البريطاني من العراق في ثورة العشرين وألحقت به الخسائر الفادحة.

وهنا ينبغي أن نذكر أن وجود الحوزات العلمية ليس نافعاً للمجتمع فقط، بل هو نافع حتى للسلطة أحياناً في قبال بعض الضغوطات الأجنبية.

فقد نقل لي أحد الأصدقاء: أن الشاه كان ينزعج كثيراً من السيد البروجردي، فشكى ذلك في أحد الأيام إلى بعض وزرائه، فقال له الوزير: حلّ هذه المشكلة سهل جداً.

فتساءل الشاه قائلاً: وكيف؟ فأجاب الوزير: إن السيد البروجردي يحب أن يذهب إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة، وأنت تمنعه، فافسح له المجال ليذهب إلى هناك، وإذا ذهب امنعه عن الرجوع إلى إيران.

فقال الشاه: إنك لا تعرف ماذا يفيدنا البروجردي: فأي قانون يطلبه منّي البريطانيون ولا أريد تنفيذه أتذرع بأن السيد البروجردي(رحمه اللّه) لا يقبل ذلك.

العتبات المقدسة

الأمر الخامس: والأمر الخامس اللازم مراعاته في مستقبل العراق: حرية العتبات المقدسة والاهتمام بها، فيلزم أن يفسح المجال للجميع لزيارة العتبات

ص: 414

المقدسة بكل سهولة واختيار، وحرية وأمان... ففي السابق كان بوسع كل واحد أن يزور العتبات المقدسة في العراق دون أية مزاحمة من السلطات.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة، اللّهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه»(1).

ص: 415


1- مصباح المتهجد 2: 581.

وصايا لمجاوري المراقد المقدسة

أهمية المراقد المطهرة

قال الإمام الرضا(عليه السلام): (إن لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة)(1).

إن لتناثر قبور أهل البيت(عليهم السلام) فائدة دنيوية كبيرة للشيعة، كما لهم فائدة أُخروية وهي نيل الشفاعة، وقد مرت الشيعة بظروف سياسية مختلفة نتيجة تجمعها حول قبور أئمتها، وصعوبات عديدة فرضها الحاكمون وغيرهم من الدخلاء الأجانب، وكانت الهيئات الحسينية تتحمل مسؤوليات عديدة على عاتقها لتنظيم وإحياء المراسيم والشعائر ومنها هيئاتكم المباركة والتي تحمل تاريخاً مشرقاً لخدمة أهل البيت(عليهم السلام)، سواء في العراق أو في غيره، وها أنتم اليوم تتحملون عناء السفر من مشهد الإمام الرضا(عليه السلام) إلى قم المقدسة حيث قبر فاطمة المعصومة بنت الإمام الكاظم(عليهما السلام)، ومن جملة الفوائد التي ترتبت على انتشار قبور الأئمة(عليهم السلام) في مشارق الأرض ومغاربها هي توطيد وصل العلاقة والتآخي والتعارف بين أبناء الشيعة، وذلك عند تلاقيهم في المناسبات والزيارات الخاصة أو العامة لهذه القبور، وهذا الحشد كان يمثل ثقلاً سياسياً وعقائدياً في المجتمع العالمي، وهناك فوائد

ص: 416


1- الكافي 4: 567.

اجتماعية واقتصاديةوغيرها من هذا التناثر، فضلاً عن أن وجود قبور الأئمة(عليهم السلام) في هذه البلدان رحمةً لأهلها ونيلهم الأجر والثواب لخدمة الناس والزوار، كما أنّ المناطق التي توجد فيها القبور جذبت الشيعة والمؤمنين حولها وهذا الاجتماع مصدر قوة لا يستهان به، لا سيما أن الشيعة تمر أحياناً بحالات من الضعف نتيجة ضغط الحكام وتدخل الاستعمار وما أشبه سمحت للكثير من المنحرفين وأصاحب الشبهات والبدع من الجهلة بالتجاوز على هذه المناطق والمعتقدات، فالوهابيون(1) مثلاً قاموا بتخريب قبور أئمة البقيع سنة (1343ه) حين انتزعوا الحجاز من الشريف حسين واستولوا عليه.

وظلت هذه القبور على حالها إلى الآن، ومن المعلوم أنّ قبوراً أخرى كثيرة كانت هناك. فبالإضافة إلى القبور الأربعة للائمة المعصومين(عليهم السلام)، فهناك رواية تقول بأنّ الزهراء(عليها السلام) قد دفنت هي الأخرى في البقيع مع اختلاف بين المؤرخين حول مكان دفنها(عليها السلام)(2) وهناك في البقيع قبر أُم البنين وقبور أخرى لذرية آل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(3).

ولئن جرت الأقدار بأن تكون هذه القبور تحت إشراف الوهابية فهذه هي المحصّلة، مزيد من الظلم والتعسف وعدم معرفة حقها وعدم الاهتمام بها كما

ص: 417


1- لمزيد من الاطلاع على جرائم الوهابيين واعتدائهم على القيم والعقائد الإسلامية راجع كتاب «هذه هي الوهابية» محمد جواد مغنية.
2- هناك ثلاث احتمالات في المقام كلها مبنية على الروايات وتوجد هذه الروايات في بحار الأنوار 43: 180. الاحتمال الأول أنها في البقيع، الاحتمال الثاني أنها في بيتها، الاحتمال الثالث أنها بين قبر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومنبره.
3- منهم الإمام الحسن المجتبى والإمام علي بن الحسين والإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق(عليهم السلام) وكذلك دفن في البقيع العباس بن عبد المطلب عم النبي وعاتكة وصفية بنات عبد المطلب وفاطمة بنت أسد وزينب وأم كلثوم ورقية ربائب الرسول وإبراهيم ابن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعبد اللّه بن جعفر الطيار وعقيل بن أبي طالب وإسماعيل بن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) إضافة إلى عدة من شهداء أحد وشهداء واقعة الحرة.

ينبغي. على عكس المراقد المقدسة التي هي تحت إشراف الشيعة، كما هو الحال بالنسبة إلى الضريح الشريف للإمام الرضا(عليه السلام) أو المرقد المقدس في مدينة قم للسيدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) إذ يحف الشيعة بهذه القبور الطاهرة، ويتوسلون بها إلى اللّه، وقد جاء عن الإمام الرضا(عليه السلام) عندما سُئل عن زيارة فاطمة بنت موسى(عليهما السلام) قال: (من زارها فله الجنة)(1).

ولا بد من القول هنا أن مدينة قم ما صارت بهذا الشكل لولا وجود قبر السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام)، إذ كانت قم قبل ذلك عبارة عن مجموعة من القرى تصل إلى سبع قرى ولا يصل تعداد سكانها إلى أكثر من ثلاثة آلاف نفر وكان بعض سكانها في السابق هم من اليهود والمجوس وعبدة النار(2).

أما اليوم فإنّ قم هي مدينة كبيرة مترامية الأطراف، وسكانها من الشيعة. وما ذلك إلّا بفضل فاطمة المعصومة(عليها السلام).

وصايا تخص الهيئات المقيمة في مدينة مشهد المقدسة

مدينة مشهد المقدسة

الموضوع الأول: لا بد من معرفة الإمام الرضا(عليه السلام) معرفة حقيقية والعمل بما أراد، من الدفاع عن الإسلام ونشر مفاهيمه، وكما هو واضح أن الأئمة جميعاً لا يمنعهم الموت من سماع الأحياء أو رؤيتهم كما نقرأ ذلك في الزيارات، قال الكفعمي(رحمه اللّه) في زيارة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو أحد الأئمة(عليهم السلام): «... وأعلم أن رسولك وخلفائك(عليهم السلام) أحياء عندك يرزقون، يرون مقامي ويسمعون كلامي ويردّون

ص: 418


1- كامل الزيارات: 324.
2- انظر يوم الخلاص: 480.

سلامي...»(1). فهم يسمعون الأحياء ويردون جوابهم، وإن الإنسان حينما يرتفع عن الدنيا والمادياتسوف يسمع ردّ الإمام الرضا(عليه السلام). وعلى الإنسان هنا أن يشكر اللّه على هذه النعمة وهي مجاورته للإمام(عليه السلام)، لذا عليكم أن تقدّروا هذه النعمة وتذكروها دائماً، وإن الإنسان إذا لم يشكر نعمة اللّه عليه فلربما يأتي يوم يرفع اللّه هذه النعمة منه. كما قال تعالى في القرآن الكريم: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(2)، وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «نحن واللّه نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده، وبنا فاز من فاز»(3).

ومن الأمور التي يتوجب عليكم الاهتمام بها، هي إيجاد حوزة واسعة وشاملة، إذ الحوزة اليوم في مشهد تضم حوالي ثمانية آلاف من الطلبة وأهل العلم في حين أن المطلوب أن تكون الحوزة أوسع من هذا، أي تضم على أقل تقدير من (20-30) ألفاً، وأن هذا ممكن وبأيديكم فإن كل عائلة قادرة على إرسال أحد أبنائها إلى الحوزة، ولو أن هذه الخطوة ستواجه بعض المشاكل، إلّا أنكم لا بد أن تتحملوا ذلك، وأن ترسلوا أحد أبنائكم والذي يتميز بالذكاء والفطنة والرغبة إلى الدرس، وهذا الابن لو وُفِّقَ وصار من طلاب العلوم الإسلامية، فأنه سوف يصبح أحد خدام وجنود الإمام صاحب الزمان(عليه السلام)، وسوف يصبح الحامي لحرم الإمام الرضا(عليه السلام) والمدافع عنه في كل حين. بل المدافع عن بيضة الإسلام كله، وفي الحقيقة أن عدد طلاب العلوم الدينية قليل جداً قياساً إلى تعداد الشيعة وحاجة الإسلام اليوم إلى أكبر قدر ممكن من الدعوة إليه، ففي قم يوجد هنا حوالي ثلاثون ألف طالب وفي مشهد حوالي ثمانية آلاف، في حين أن

ص: 419


1- المصباح للكفعمي: 473.
2- سورة إبراهيم: الآية 7.
3- تفسير القمي 1: 388.

السعوديين الوهابيين صار عدد طلاب مدارسهم في مكة لوحدها أضعافاًمضاعفة لهذا العدد(1) ولذا إنكم تسمعون أن الوهابيين يملكون منافذ كثيرة في العالم لترويج أفكارهم، وإن الوهابيين في السعودية لديهم مراكز كثيرة لاستقبال الطلبة، فهناك مركز في مكة وآخر في المدينة، وثالث في الرياض، وفي بعض المدن الأخرى. ومن الطبيعي حينما يكون عدد الطلبة والمبلّغين عند الوهابية أكثر منّا، فإن أولئك يسبقوننا لنشر أفكارهم ويصبح لهم النفوذ الأعظم. ألم تكن مكة في السابق مدينة من مدن المسلمين يزورها كل من يرغب إليها، نعم، كان المرء يسافر إلى مكة كما يسافر الإنسان اليوم من اصفهان إلى شيراز. أما ما نراه اليوم فهو من ألاعيب السعوديين حيث وضعوا هذه العراقيل أمام ذهاب المسلمين إلى مكة والمدينة.

المجالس الحسينية

الموضوع الثاني: هو أن يقيم كل واحد منكم مجلساً حسينياً في بيته في كل أسبوع مرة، أو كل أسبوعين مرة، أو كل شهر مرة، وإنّ لإقامة هذه المجالس فوائد كثيرة منها: ذكر أهل البيت(عليهم السلام)، وإقامة المجالس لذكرهم(عليهم السلام) يدفع البلاء والمشكلات، وتنزل الملائكة على ذلك المكان، وهذا الذكر المتواصل يؤكد حبّنا لهم ويشدنا نحوهم ويربطنا بهم، فقد جاء عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «تجلسون وتتحدثون؟» قال: قلت جعلت فداك نعم، قال: «إن تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا أنه من ذكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذبابة غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(2). وهذه المجالس كم سوف

ص: 420


1- تشير بعض الإحصائيات إلى أن عدد الطلاب الوهابيين في مكة المكرمة وحدها يبلغ (150) ألف طالب.
2- ثواب الأعمال: 187.

يذكر فيها الصلاة على محمد وآل محمد. وهذه الصلوات مثقلة للميزان فقد وردعن الإمام جعفر بن محمد عن آبائه(عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أنا عند الميزان يوم القيامة فمن ثقلت سيئاته على حسناته جئت بالصلاة عليّ حتى أثقل بها حسناته»(1).

والفائدة الأخرى: هي ما قاله أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن حبّنا أهل البيت ليحط الذنوب عن العباد كما تحط الريح الشديدة الورق عن الشجر»(2)، ومازالت تلك المجالس تزيد من حبّنا لهم، إذن لا بد من المحافظة والحرص الشديد على إقامتها وإن هذه المجالس لو حضرها أهل الدار ومن يجاورهم وكان عدد الحاضرين خمسة أو عشرة وصعد الخطيب المنبر وتحدث لهم عن الأخلاق أو التفسير أو عن التاريخ الاسلامي أو عن الأحكام والواجبات والمحرمات فإنكم ستستفيدون ويستفيد أبناؤكم ذكوراً وإناثاً.

فالمرأة لها حقوق كثيرة في دين الإسلام، أ لم يكن النساء يأتين لمسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأداء فريضة الصلاة وإن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما كان يخرج للحرب كان يأخذ معه النساء، فإذا لم يحضر النساء فمن أين يتعلمن الأحكام الشرعية.

إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يستثن النساء من التكليف، وإنما جعل التكليف على الرجال والنساء، وقد جاء في القرآن الكريم: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ...}(3).

وهنا لا بد لنا من توصية لنسائنا المؤمنات بالالتزام الكامل لأوامر الشريعة السمحاء واحترامها ومراعاة توصيات أهل البيت(عليه السلام) في مسألة غض البصر وترك

ص: 421


1- ثواب الأعمال: 155.
2- قرب الإسناد: 39.
3- سورة النحل، الآية: 97.

الزينة في الأماكن العامة، لاسيما زيارة الأئمة وأولادهم(عليهم السلام)، ومراعاة الحجابالاسلامي الكامل. وعدم التهاون في الصلاة، وبالأخص إذا أقيمت صلاة جماعة وعقد محافل القرآن ومجالس التعزية. وأن لا تكون مجالس النساء عبارة عن اجتماع للتحدث في الأمور الدنيوية والقضايا التي لا نفع من ورائها، بل يجب أن تكون نساؤنا متأسيات بالحوراء زينب(عليها السلام) كيف كانت في نفس الوقت إنسانة عالمة وفاضلة وشجاعة وعابدة ومجاهدة؟ هكذا يجب أن تكون المرأة الشيعية تنطلق من العفاف إلى العلم والعبادة وطاعة المولى وتعظيم الشعائر بشكل صحيح غير مناف للأحكام.

معرفة المعصوم(عليه السلام)

الموضوع الثالث: إن علينا معرفة الإمام المعصوم(عليه السلام) فالإمام له قدرة غير محدودة في المعرفة. جاء عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «أني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار وأعلم ما كان وما يكون» قال: ثم مكث هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه فقال: «علمت ذلك من كتاب اللّه عزّ وجلّ، إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: {فيه تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ}»(1)(2).

فقدرة الإنسان العادي ما هي إلّا وعاء ماء مقابل قدرة الإمام التي هي أشبه بسعة البحر الهادر.

هؤلاء الأئمة(عليهم السلام) ليسوا خلقاً عادياً بل هم أوتاد الأرض وأركان الكون وعماد الدين. عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: «فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه

ص: 422


1- إشارة إلى سورة النحل، الآية: 89 {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ}.
2- الكافي 1: 261.

اختياره هيهات هيهات ضلّت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب وخسأت العيونوتصاغرت العظماء وتحيرت الحكماء وتقاصرت الحلماء...»(1) ولذا فإن اللّه أبقاهم مناراً للبشر رغم مرور أكثر من (1400) عام على دعوتهم والرسالة التي حملوها، بل لو قدر اللّه أن تبقى الأرض ومن فيها أربعين مليار سنة لأبقاهم اللّه رغم طمع الأعداء في تهديم قبورهم وإزالتها لأنهم ملجأ المؤمنين وقبلة المخلصين كما في قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٖ}(2).

أي أن الذي عندكم في الحياة الدنيا من الماديات ينفذ لأنها قائمة على أساس التبدل والتحول. وما عند اللّه سبحانه مما يعد المتقين باقٍ لا يزول، ولما كانوا الأئمة يمثلون إرادة اللّه ولما كانوا أقرب الخلق إلى اللّه عزّ وجلّ فهم يستمدون كل شيء من اللّه، واللّه جعل مصدر فيوضاته هم محمد وآل محمد، فلذلك لا ينفذ ما عندهم.

إلى الهيئات عامة

وعلى الهيئات كافة بالإضافة إلى ما تقدم من الوصايا الأربع أن تعمل على:

أولاً: أن تضع برامجاً تؤكد وتعمق من خلالها حب أهل البيت(عليهم السلام) في قلب كل فرد، وهذا الحب يجب أن يكون عن وعي وفهم فأنّ الحب الساذج (اللاوعي)، لعله يتصدع في المواقف الحرجة. إن صياغة الحب وترسيخه في القلوب يقع على عاتق الهيئات الحسينية بما تقيمه من مجالس، وإحياء المراسم الإسلامية ودعوة الخطباء وغيرها من الأمور التي تحيي القلوب وتقلل من انشداد الإنسان بالدنيا، بل تدعوه إلى العروج بالروح عالياً مع فكر أهل البيت(عليهم السلام).

ص: 423


1- الكافي 1: 201.
2- سورة النحل، الآية: 96.

ثانياً: لا بد من الاهتمام بالقرآن الكريم وإقامة المحافل لقراءة القرآن وتعليمهوحفظه وخاصة الأطفال لأنهم قوة الإسلام في المستقبل وكذلك الشباب والنساء، فعلى الجميع أن ينهل من هذا المنهل العذب وإنشاء أحكامه وتعاليمه في المجتمع.

ثالثاً: لا بد من إقامة مجالس تذكر بعض الأحكام الشرعية وتعليمها الناس وتدريس بعض الأمور العقائدية المهمة التي تجب على كل أحد معرفتها، من قبيل أصول الإسلام وفروعه، وأصول المذهب وفروعه، وتأريخ المذهب وحياة الأئمة وتصديهم الخالد للطواغيت والمسائل الفقهية المبتلى فيها معظم الناس.

رابعاً: لتكن مراكز الهيئات ملتقى للأخوة، ومكان للتآخي والتحابب والصدق وذكر اللّه، والإخلاص في جميع علاقاتنا مع الأصدقاء، مع الناس، مع الأسرة، مع الأولاد، وفي الدرجة الأولى علاقتنا مع اللّه عزّ وجلّ ثم علاقتنا مع الأئمة الأطهار(عليهم السلام) ثم مع شيعتهم ومحبيهم.

اللّهم صل على محمد وآل محمد، «اللّهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع»(1)، وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

اشارة

وصايا إلى الهيئات الحسينية، ينبغي القيام بها

1- تعريف الإسلام للناس أكثر وأكثر

قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ...}(2).

ص: 424


1- المصباح للكفعمي: 299.
2- سورة فصلت، الآية: 33.
2- إقامة مجالس الوعظ والإرشاد

قال سبحانه: {ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ...}(1).

3- إقامة مجالس التفقّه في الدين

قال عزّ وجلّ: {... فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(2).

4­- الاهتمام بالأعمال الخيرية

قال جلّ شأنه: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ...}(3).

5- لزوم اتباع الأئمة المعصومين(عليهم السلام)

قال عزّ اسمه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(5).

وقال عزّ من قائل: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}(6).

ضرورة إقامة المجالس الحسينية دائماً

قال جلّ ثناؤه: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(7).

ص: 425


1- سورة النحل، الآية: 125.
2- سورة التوبة، الآية: 122.
3- سورة المائدة، الآية: 2.
4- سورة النساء، الآية: 59.
5- سورة المائدة، الآية: 55.
6- سورة التوبة، الآية: 119.
7- سورة الحج، الآية: 32.

وقال تعالى: {... أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ...}(1).

الاهتمام كثيراً بتعليم القرآن الكريم

قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ...}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(3).

وقال جلّ شأنه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَاْ الْقُرْءَانَ ...}(4).

وقال عزّ اسمه: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

اشارة

وصايا إلى الهيئات الحسينية

1- ينبغي نشر حب أهل البيت(عليهم السلام)

قال الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن أهوالهن عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب وعند الميزان، وعند الصراط»(6).

2- ينبغي الاهتمام بالقرآن وتعليمه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خياركم من تعلم القرآن وعلّمه»(7).

ص: 426


1- سورة الشورى، الآية: 13.
2- سورة النساء، الآية: 82.
3- سورة الأنعام، الآية: 155.
4- سورة النمل، الآية: 91-92.
5- سورة ص، الآية: 29.
6- الأمالي للشيخ الصدوق: 10.
7- الأمالي للشيخ الطوسي: 357.
3- ينبغي إقامة مجالس التفقه في الدين

قال الإمام الكاظم(عليه السلام): «تفقهوا في الدين فان الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادةوالسبب إلى المنازل الرفيعة والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقّه في دينه لم يرض اللّه له عملاً»(1).

لزوم معرفة الإمام المعصوم

قال الإمام الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(2) فقال: «طاعة اللّه ومعرفة الإمام»(3).

وعن أحدهما(عليهما السلام) أنه قال:

«لا يكون العبد مؤمناً حتى يعرف اللّه ورسوله والأئمة كلّهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له» ثم قال: «كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأول؟»(4).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}(5) قال: من أتخذ دينه رأيه بغير إمام من أئمة الهدى(6).

وفي ما كتب الإمام الرضا(عليه السلام) للمأمون من شرائع الدين: «من مات ولم يعرفهم - الأئمة(عليهم السلام) - مات ميتة جاهلية»(7).

ص: 427


1- تحف العقول: 410.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- الكافي 1: 185.
4- الكافي 1: 180.
5- سورة القصص، الآية: 50.
6- الكافي 1: 374.
7- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 122.
ضرورة إقامة المجالس دائماً

قال الإمام الصادق(عليه السلام) لأبي عمارة المنشد:«يا أبا عمارة أنشدني في الحسين بن علي(عليهما السلام)». قال: فأنشدته فبكى ثم أنشدته فبكى. قال: فواللّه مازلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار(1).

أخبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين وما يجري عليه من المحن؛ بكت فاطمة بكاءً شديداً... وقالت: «يا أبت فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل، في كل سنة...»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام):

«من تذكر مصابنا وبكى لما ارتُكِب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكى العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب...»(3).

فضائل زيارة قبور المعصومين الأربعة عشر(عليهم السلام)

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من زارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي، وكنت له شهيداً وشافعاً يوم القيامة»(4).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام) لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبت ما جزاء من زارك؟ فقال: من زارني أو زار أباك أو زارك أو زار أخاك كان حقاً عليّ أن أزوره يوم القيامة حتى

ص: 428


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 141.
2- بحار الأنوار 44: 292.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 73.
4- كامل الزيارات: 13.

أخلّصه من ذنوبه»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أتى قبر الحسين(عليه السلام) عارفاً بحقه كتبه اللّه في أعلى علّييّن»(2).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام) في كتاب له إلى البزنطي - أحد أصحابه - : «أبلغ شيعتي أن زيارتي تعدل عند اللّه عزّ وجلّ ألف حجة» قال - البزنطي - : قلت لأبي جعفر(عليه السلام): ألف حجة؟ قال(عليه السلام): «إي واللّه وألف ألف حجة لمن زاره عارفاً بحقه»(3).

ص: 429


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 59.
2- كامل الزيارات: 147.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 64.

وصولاً إلى حكومة إسلامية واحدة

الحكومة الإسلامية الواحدة

قال سبحانه وتعالى في القرآن الحكيم: {إِنَّ هَٰذِهِۦ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

يُستفاد من هذه الآية الكريمة ضرورة أن تكون الحكومة الإسلامية حكومةً واحدةً تعمّ جميع المسلمين وبلادهم، أما الدويلات الصغيرة فهو على خلاف القانون الإسلامي، فإن هذه الآية جعلت المسلمين بجميع أصنافهم أمةً واحدة.

وهكذا كانت الحكومة الإسلامية واحدة في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام).

لكن الطغاة والمستعمرين فرّقوا الأمة الواحدة، وجعلوا الدولة الواحدة عدة دول ضعيفة، كما في الآية اللاحقة: {وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ}(2)، أي: فرقوا في ما بينهم.

وهل انتهى الأمر عند ذلك، فلا حساب ولا جزاء لما اقترفوه، من تقطيع الأمة الواحدة إلى ألوان وأشكال وأمم؟

كلا! {كُلٌّ إِلَيْنَا رَٰجِعُونَ} فنجازيهم بما فعلوا من التقطيع والتفرقة، ومعنى الرجوع إلى اللّه سبحانه الرجوع إلى حسابه وجزائه، تشبيه بمن يرجع إلى

ص: 430


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة الأنبياء، الآية: 93.

المحكمة بعد الذهاب عنها(1).

وفي مجمع البيان: {إِنَّ هَٰذِهِۦ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(2) أي: هذا دينكم دين واحد.. وأصل (الأمة) الجماعة التي على مقصد واحد، فجُعلت الشريعة أمة واحدة لاجتماعهم بها على مقصد واحد، وقيل: معناه جماعة واحدة في أنها مخلوقة مملوكة للّه تعالى، أي: لا تكونوا إلّا على دين واحد، وقيل: معناه هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء(عليهم السلام) فريقكم الذي يلزمكم الاقتداء بهم في حال اجتماعهم على الحق، كما يقال: هؤلاء أمتنا، أي: فريقنا وموافقونا على مذهبنا {وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ} الذي خلقكم {فَاعْبُدُونِ} ولا تشركوا بي شيئاً(3).

وورد في تفسير وتأويل الآية الشريفة عن أهل البيت(عليهم السلام) معاني عديدة، فعن الإمام الباقر(عليه السلام) في قوله تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِۦ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً}(4)، قال: «آل محمد(عليهم السلام)»(5).

وقالت الصديقة الطاهرة(عليها السلام): «وإمامتنا أماناً للفرقة»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وليردعكم الإسلام ووقاره، عن التباغي والتهاوي، ولتجتمع كلمتكم، والزموا دين اللّه الذي لايقبل من أحد غيره»(7).

وقال(عليه السلام): «اجتنبوا الفرقة»(8).

ص: 431


1- تفسير تقريب القرآن 3: 569.
2- سورة الأنبياء، الآية: 92.
3- تفسير مجمع البيان 7: 111.
4- سورة الأنبياء، الآية: 92.
5- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 130.
6- الاحتجاج 1: 99.
7- بحار الأنوار 34: 36.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.

ما هو الطريق للحكومة الواحدة؟

اشارة

يدور البحث في هذا الكتاب حول الطريق إلى تأسيس الحكومة الإسلامية الواحدة؛ إذ أن من الواجب علينا أن نعيد الحكومة الإسلامية الواحدة التي أسسها وأرسى دعائمها الرسولُ الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد ذكر المؤرخون أن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استطاع وفي فترة قصيرة أن يوحّد بين حكومات الجزيرة العربية وأطرافها، فجعل الدولة الإسلامية دولة واحدة تضم جميع المسلمين وبلادهم.

وهكذا سار عدد من الحكام بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على هذا المسير نفسه، فكانت الدولة الإسلامية في الصدر الأول، وبالخصوص في أيام خلافة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) حكومة واحدة. وقد كان تحت نفوذ حكومة الإمام(عليه السلام) أكثر من خمسين دولة حسب خريطة دول اليوم.

أما هذه الحدود الجغرافية الموجودة بين الدول الإسلامية فهي مصطنعة أوجدها الاستعمار شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت اليوم سداً منيعاً تفصل بلاد المسلمين بعضها عن البعض الآخر، وجعلت الأمة الإسلامية متفرقة متشتّة؛ فترى الإنسان المسلم لا يستطيع الانتقال بين بلده الإسلامي وبلاد الإسلام الأخرى إلّا بشق الأنفس، وأحياناً قد يعرّض حياته للمخاطر والمهالك من أجل الوصول إلى دولة أخرى يرغب العيش فيها(1)، وإذا وصلها فإنه يعتبر أجنبياً!! وهذا خلاف لقوله تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِۦ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(2).

ص: 432


1- وما أكثر مصاديق هذا الكلام في الواقع الذي يعيشه المسلمون في بلاد الإسلام، حتى صار البلد المسيحي، أو الكافر يستقبل المسلم المهاجر أو اللاجيء، ويكفل له بعض الحقوق الانسانية التي لايجدها المسلم حتى في وطنه الأصلي، في الوقت الذي يطارد ويعاقب ويسجن المسلم الذي ينتقل من بلد إسلامي إلى بلد إسلامي آخر؛ مما أدى إلى خيبة كبيرة لدى الشعوب المسلمة.
2- سورة الأنبياء، الآية: 92.

إذن، من الضروري أن تتظافر الجهود لأجل إسقاط هذه الحدود المصطنعة وهذه القوانين الجائرة التي تفرق المسلمين بعضهم عن البعض الآخر، في سبيل توحيد البلاد الإسلامية كما كانت بالأمس في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتكون دولة واحدة قوية تشمل الأمة الإسلامية بأجمعها من مختلف قومياتها وأعراقها وألسنتها ومذاهبها.

إنه ليس بمستحيل

وليست الحكومة الواحدة أمراً مستغرباً أو مستحيلاً، ولكن العجب والمستغرب أن البعض هكذا يفكر!

فاليوم كم من دولةٍ كبيرة كانت سابقاً عدة دول مبعثرة فاجتمعت واتحدت، وكم من دول تسعى اليوم للتتحد في دولة واحدة قوية، فتخطط وتبرمج حتى لتوحيد عُملتها، كما يُرى ذلك في دول أوروبا وغيرها.

أذكر قبل أكثر من ثلاثين سنة كان لنا بعض الدروس في المدرسة العلمية الهندية(1) بكربلاء المقدسة، وكان أحد الطلبة يريد الذهاب إلى الحج، فودعته وقلت له: أسألك الدعاء، وحينما تصل يدك إلى أستار الكعبة، ليكن دعاؤك أن ينصر اللّه المسلمين ويسهل عليهم قيام حكومة إسلامية واحدة، فضحك الطالب وباستغراب قال لي: سيدنا أنت إلى الآن تبقى تحمل أفكار قديمة وخيالية!

نعم، كان يتصور أن هذا العمل مستحيل، بينما نرى أن التجارب في سبيل توحيد الأمم تحت راية واحدة وحكومة واحدة غير نادرة ولا مستحيلة كما يزعم البعض، والشواهد على ذلك عديدة:

ص: 433


1- المدرسة الهندية: من المدارس المشهورة في كربلاء المقدسة.

فقد استطاع ماو(1) - وهو أحد الملحدين - أن يوحد الصين تحت راية الكفر ولو بنسبة، ونفوسها اليوم تزيد على المليار نسمة(2) وهي اليوم دولة واحدة، فأين وجه الغرابة في ذلك؟!

وكذلك استطاع غاندي(3) توحيد الهنود الذين بلغوا على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ونفوسهم في ذلك الوقت مئات الملايين، أما اليوم فهم قرابة المليار، وهي دولة واحدة(4).

فكيف لا يستطيع المسلمون توحيد كيانهم في دولة واحدة، وهم الذين يحملون كل عناصر الوحدة ومقومات الاتحاد من: العقيدة الواحدة والرب الواحد والنبي الواحد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن الواحد والقبلة الواحدة، وكلها تؤكد على الوحدة والإخاء.

كما يمتلكون أيضاً تجارب عملية سابقة في تأريخهم الحافل، حيث تمتعوا بدولة واحدة في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعده.

دولة المسلمين والنصر الإلهي

إن اللّه سبحانه وتعالى وعد المسلمين بالنصر، فإذا وعت الشعوب وطالبت بالدولة الإسلامية العالمية الواحدة، وتوكلت على اللّه في أهدافها، تحقق ذلك.

يقول تعالى: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(5) قالها للمسلمين، ولم يقلها لغير المسلمين، فأين نحن من ذلك؟!

ص: 434


1- ماو تسي تونغ: رجل دولة صيني وأحد أبرز الوجوه السياسية التي عرفها الصينيون في القرن العشرين.
2- حسب بعض الإحصائيات الأخيرة فإن نفوس الصين تزيد على مليار و 400 مليون نسمة.
3- اسمه: موهانداس كرامشاند، زعيم وفيلسوف هندي.
4- بعض الإحصائيات الأخيرة تشير إلى أن نفوس الهند تجاوزت المليار و 300 مليون نسمة.
5- سورة محمد، الآية: 7.

إننا - وبعون اللّه تعالى - نريد ونطالب ونسعى لتوحيد البلاد الإسلامية، تحت ظل القوانين الإلهية العادلة، حتى تكون بلداً واحداً، فيسير المسلم من بلد إلى آخر دون أن يعترضه أحد، أو يطالب بتأشيرة أو جواز أو دفع رسوم أو ما أشبه، حتى يشعر بأن هذه الأخرى بلده أيضاً، وهو بين أهله وإخوانه، ولا توضع أمامه في جميع البلاد الإسلامية حدود استعمارية، وقوانين جاهلية وضعية أخذناها من الكفار، والكفار بأنفسهم حرروا أنفسهم منها.

وهناك في الشرع الإسلامي مصاديق عديدة تركز على الأمة الواحدة.

وقد خطب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مسجد الخيف فقال: «رحم اللّه امرأ سمع مقالتي فوعاها، وبلغها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقهٍ وليس بفقيهٍ، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه - إلى أن قال - ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرئٍ مسلمٍ: إخلاص العمل للّه، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم؛ فإن دعوتهم محيطةٌ من ورائهم، والمسلمون إخوةٌ تكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، فإذا أمن أحدٌ من المسلمين أحداً من المشركين لم يجب أن تخفر ذمته»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا أومأ أحدٌ من المسلمين، أو أشار بالأمان إلى أحدٍ من المشركين، فنزل على ذلك فهو في أمان»(2).

وعن السكوني عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: ما معنى قول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يسعى بذمتهم أدناهم؟». قال: «لو أن جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين، فأشرف رجلٌ فقال: أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم وأناظره، فأعطاه أدناهم الأمان، وجب على أفضلهم الوفاء به»(3).

ص: 435


1- مستدرك الوسائل 11: 45.
2- مستدرك الوسائل 11: 45.
3- الكافي 5: 30.

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «أن علياً(عليه السلام) أجاز أمان عبدٍ مملوكٍ لأهل حصنٍ من الحصون؛ وقال: هو من المؤمنين»(1).

فالمسلمون كلهم أمة واحدة في منطق القرآن والإسلام، حيث قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة:

«يا أيها الناس، إن اللّه قد أذهب عنكم بالإسلام نخوة الجاهلية، وتفاخرها بآبائها، إن العربية ليست بأب ووالدة، وإنما هو لسان ناطق، فمن تكلم به فهو عربي، ألّا إنكم من آدم، وآدم من تراب، وأكرمكم عند اللّه أتقاكم»(2).

وفي حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «كان سلمان(رحمه اللّه) جالساً مع نفر من قريش في المسجد، فأقبلوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم حتى بلغوا سلمان، فقال له عمر بن الخطاب: أخبرني من أنت، ومن أبوك، وما أصلك؟

فقال: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه عزّ وجلّ بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً فاعتقني اللّه بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا نسبي، وهذا حسبي.

قال: فخرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسلمان (رضي اللّه عنه) يكلمهم، فقال له سلمان: يا رسول اللّه، ما لقيت من هؤلاء؛ جلست معهم فأخذوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم حتى إذا بلغوا إليّ قال عمر بن الخطاب: من أنت، وما أصلك، وما حسبك؟

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فما قلت له يا سلمان؟

قال: قلت له: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت عائلاً فأغناني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكنت مملوكاً

ص: 436


1- الكافي 5: 31.
2- تفسير القمي 2: 322.

فاعتقني اللّه عزّ ذكره بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا نسبي، وهذا حسبي.

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا معشر قريش، إن حسب الرجل دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، وقال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).

ثم قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لسلمان: ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلّا بتقوى اللّه عزّ وجلّ، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل»(2).

فأين مكان القوميات والأعراق والألسن والقبليات والألوان في الإسلام؟

إن البلاد الإسلامية في نظر الإسلام كلها بلد واحد، وقانون واحد، وأمة واحدة، بلغاتهم المختلفة وقومياتهم المختلفة، وألوانهم المختلفة يعبدون إلهاً واحداً ويتبعون نبياً واحداً وقرآناً واحداً.

ولذا فإن التفريق بين المسلمين وجعل الدولة الإسلامية عدة دول متفرقة يعتبر من أشد المحرمات في الإسلام؛ إذ يكون تشتيتاً للأمة الواحدة، وتضعيفاً للشعب الإسلامي، وتسهيلاً لسيطرة الكفّار على بلاد الإسلام وعلى نفوس المسلمين وثرواتهم، سواء كان ذلك تفريقاً بالقوميات أو تفريقاً بالأراضي أم تفريقاً بالجنسيات، وكل ذلك مرفوض في الإسلام رفضاً شديداً.

مقومات الحكومة الواحدة

اشارة

قد ذكرنا في بعض كتبنا(3) العديد من مقومات توحيد المسلمين، وتشكيل حكومة عالمية واحدة، منها:

ص: 437


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الكافي 8: 181.
3- انظر: (الصياغة الجديدة لعالم الايمان والحرية) و(طريق النجاة) و(السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(ممارسة التغيير) و(إلى حكومة إلف مليون مسلم) و(الفقه: الحكومة العالمية الواحدة) وغيرها.

1- العمل الجاد لتوحيد ما يمكن من البلاد الإسلامية، برفع الحدود بينها وإتاحة الفرصة للشعبين بالسفر والإقامة والعمل وسائر الحريات من دون حاجة إلى جواز أو تأشيرة أو ما أشبه.

لتكون هذه بمثابة القدوة والنموذج من أجل توحيد كل البلاد الإسلامية، فإذا توحدت بلدان المسلمين وتقدموا وتطوروا كان ذلك أفضل دعوة عملية للعالم كله لقبول الإسلام والانضمام تحت لوائه العادل واتخاذه نظاماً شاملاً للحياة.

2- كما يلزم لتشكيل الحكومة الواحدة اتخاذ الحذر التام لكي لا يوجه أي عدو ضربته للإسلام والمسلمين، ولا يعمل على إزالة الحكومة عن مسرح الحياة، وهذا لا يكون إلّا بعد قوة المسلمين في جميع المجالات، وبعد أن يقتنع الغرب وغيره بأن الإسلام لا يشكل خطراً على مصالحه، كما أن الدولة الإسلامية التي شكلها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم تشكل خطراً على مصالح المشركين، بل الإسلام بقي يحافظ على مصالح أهل مكة وسائر المشركين.

إن الإسلام ليس عدواً للغرب، بل الإسلام دين الحوار والتفاهم وحفظ المصالح ورعاية المعاهدات الدولية.

3- أما المقوم الثالث في إقامة حكومة إسلامية واحدة عالمية، فهو الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي من خلال توظيف كل القدرات والإمكانات وتوحيدها لتسير باتجاه خدمة الإسلام.

ولا يصح أن يتصور البعض أنه غير قادر على ذلك، بل كلنا يقدر على اتخاذ خطوات في سبيل تشكيل الحكومة الواحدة.

كما لا يصح من قائل أن يقول: ليقم بهذا العمل فلان دون الآخرين، أو ليقم بهذه المهمة غيري... فإنها مسؤولية الجميع.

فهل تتصورون أن زعماء الكفر يديرون أمورهم في بلادهم وحتى مخططاتهم

ص: 438

في بلادنا، أوحاداً منفردين؟!

أبداً، فإن هذا التصور غير صحيح، فإن أغلب الأمريكيين - مثلاً - عملوا مع زعمائهم ورؤسائهم الذين جاءوا إلى دفة الحكم، وأوصلوا أمريكا إلى ما هي عليه اليوم من التطور والتقدم التقني والصناعي وما أشبه. وكذلك في سيطرتهم على العالم.

وإن أغلب اليهود أيضاً عملوا يداً واحدة وأوجدوا الصهيونية وتمكنوا من السيطرة على بلاد المسلمين وغصبها.

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو المسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في مال أبيه راع وهو مسئول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(1).

إذن كلنا مسؤولون عن تشكيل الحكومة الواحدة العالمية الإسلامية، ولكل منا تأثيره في هذا المجال، ولا يجوز التخلي عن هذه المسؤولية.

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقادة الدول

تحمل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكبر المسؤولية في هذا الصدد، حتى وصفه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بأنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) طبيب دوار بطبه.

قال الإمام(عليه السلام): «طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه(2)، يضع ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم، متتبع

ص: 439


1- عوالي اللئالي 1: 129.
2- مَوَاسمه - جمع مِيسم - : وهو المكواة.

بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة»(1).

لذا على كل مسلم أن يتأسى برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وويعمل وفق قدرته من أجل تحقيق الهدف.

وعلينا أن ندور بفكرتنا هذه، ونذهب إلى كل مكان في البلدان الإسلامية وفي غيرها وننشرها وندعو لتحققها.

وليس من الضروري أن يرسلكم أحد، بل اذهبوا أنتم معتمدين على اللّه وعلى أنفسكم.

ثم إن تحقق الحكومة الواحدة الإسلامية لا يكون بوعي المسلمين فقط، بل يلزم أن يعرف العالَم بأجمعه ما نريده، وأنه هذه الحكومة الواحدة لا تضر أحداً، بل تخدم البشرية جمعاء، وتكون خير مثال لفكرة اتحاد جميع حكومات العالم في دولة عالمية موحدة(2).

لأن الاقتصار على تثقيف المسلمين المتواجدين في بلاد الإسلام فقط يؤدي إلى تحجيم الحركة الإسلامية وعدم توسعها، ومن هنا فإن من الضروري نشر الوعي الإسلامي الصحيح حتى في البلاد الأجنبية أيضاً، وهذا ما فعله سيد البشرية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في دعوته رؤساء الدنيا والملوك إلى الإسلام لنشر معالم الإسلام في الأرض.

فمن رسائله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما كتبه إلى ملك الفرس وجاء فيها: «من محمد رسول اللّه إلى كسرى بن هرمز، أما بعد فأسلم تسلم، وإلّا فأذن بحرب من اللّه ورسوله، والسلام على من اتبع الهدى»(3).

ص: 440


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 108 من خطبة له(عليه السلام) وهي من خطب الملاحم.
2- انظر كتاب (الفقه: المستقبل) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 79.

ورسالته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك الروم التي جاء فيها:

«بسمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول اللّه عبده ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، وسلام عَلى مَن اتَّبَعَ الهُدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم، أسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم اليريسين {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}»(1)(2).

ورسالته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى النجاشي الأول وجاء فيها:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه، إلى النجاشي ملك الحبشة، إني أحمد إليك اللّه الملك القدوس السلام المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح اللّه {وكلمته ألقاها إلى مريم} البتول الطيبة، فحملت بعيسى، وإني أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له، فإن تبعتني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول اللّه، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين {والسلام على من اتبع الهدى}»(3).

ورسالته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك الإسكندرية وجاء فيها:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد اللّه إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من أتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط و{قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ

ص: 441


1- سورة آل عمران، الآية: 64.
2- بحار الأنوار 20: 386.
3- بحار الأنوار 20: 392.

بَعْضُنَا بَعْضًاأَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}»(1)(2).

ورسالته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ملك البحرين المنذر بن ساوى، جاء فيها:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه، إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك، فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلّا هو، وأشهد أن لا إله إلّا هو، أما بعد: فإني أدعوك إلى الإسلام، فأسم تسلم، وأسلم يجعل لك اللّه ما تحت يديك، وأعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر»(3).

وكتب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أهل عمان:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه، إلى أهل عمان، سلام عليكم، أما بعد، فأقروا بشهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأني رسول اللّه، وأدوا الزكاة، وخطوا المساجد كذا وكذا»(4).

وكتب(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى هوذة بن علي ملك اليمامة:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه، إلى هوذة بن علي، سلام على من أتبع الهدى، وأعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك»(5).

ورسائله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى غير هؤلاء من الملوك ورؤساء القبائل آنذاك وقد أسلم جمع غفير منهم ومن شعوبهم.

فنحن أيضاً ينبغي لنا أن نعمل على نشر الثقافة الإسلامية في أوساط غير

ص: 442


1- سورة آل عمران، الآية: 64.
2- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 416.
3- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 354.
4- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 339.
5- مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) 2: 343.

المسلمين فإنه يكون سبباً لدخولهم في الإسلام، كما علينا أن نعمل من أجل إرشاد المسلمين وتوعيتهم حتى تكون للإسلام والمسلمين دولة عالمية واحدة قوية.

نواة دولة الإسلام

اشارة

إن السعي لإعادة الدولة الإسلامية الواحدة التي أرسى دعائمها الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام) واستمر في نشر ثقافتها أئمة أهل البيت(عليهم السلام) يتطلب - بالإضافة إلى ما سبق - مقدمات عدة، نذكر أهمها:

أولاً: التنظيمات

يلزم إيجاد تنظيم في بلاد المسلمين وبلاد غيرهم حتى لو كان على شكل لجان وهيئات، تتكون من خمسة أفراد أو أكثر، ليجري العمل على تربيتهم وتعليمهم علوم الإسلام وأحكامه والمسائل المعاصرة الأخرى، حتى تصبح تلك النخبة هي نواة للحكومة الإسلامية الواحدة التي تنمو شيئاً فشيئاً بعون اللّه تعالى.

قبل أربعين سنة تقريباً(1) دخل العراق ضابط روسي متخفياً، واتصل بشخص مسيحي(2) فلقنه مبادئ الشيوعية، وكان الأخير يعمل خياطاً، وبعد أن صار شيوعياً قام بتنظيم شخص آخر من المسلمين(3)، وقد سعى نوري السعيد(4)

كثيراً للقبض عليه وإعدامه، لكنه لم يتمكن من ذلك إلّا أواخر أيام حكمه، وفي الوقت

ص: 443


1- حسب تأريخ التأليف.
2- يسمى: فهد.
3- يدعى سلام عادل.
4- نوري سعيد صالح السعيد، (1888م-1958م) أصبح رئيساً للوزراء بين عام (1930-1958م) لأربع عشرة دورة.

الذي وصل فيه عدد الشيوعيين في العراق إلى حوالي (500) شخص.

وهكذا بدأت الشيوعية في العراق، حتى كثر عددهم وقاموا بعد ذلك بالنزول إلى الشوارع، وأخذوا يكتبون الشعارات ويرفعون اللافتات الداعية للشيوعية الباطلة(1) وبعد عمل دام خمسة عشر عاماً استطاع الشيوعيون أن ينظموا الناس ويخرجوهم إلى الشوارع بتظاهرات منظمة، كما أنهم قاموا بحملة إعلامية كبيرة غرّروا من خلالها بالعديد من العراقيين وجروهم للشيوعية.

إذن، لماذا لا نتمكن نحن من القيام بعمل مشابه في سبيل الخير والحق والفضيلة، ومن أجل إيجاد نواة الدولة الإسلامية بين الشعوب التي تشهد اندفاعاً نحو الإسلام ومبادئه الحقة، سواء في البلاد الإسلامية أم غيرها، حيث إن أعداد المسلمين في البلاد الأجنبية هائلة، ففي الهند وحدها يوجد مائة وخمسون مليون مسلم.

وفي فرنسا ما يزيد على خمسة ملايين مسلم.

وفي ألمانيا أكثر من هذا الرقم.

وفي الصين أكثر من مائة مليون مسلم.

وفي ميانمار أو بورما يبلغ عدد المسلمين ثمانية ملايين، ويعيشون في ظروف سيئة جداً.

وفي اليابان عدد المسلمين خمسمائة ألف تقريباً.

وفي الاتحاد السوفيتي يزيد عددهم على سبعين مليون مسلم منهم عشرون مليون في روسيا وحدها، ونحو مليون مسلم يعيشون في العاصمة موسكو.

ص: 444


1- ومن تلك الشعارات التي رددوها: (وصّانه فهد للموت، دولتنا اشتراكية) ولا يخفى أن حملتهم الدعائية تلك كانت بتنسيق مع الاستعمار والشيوعية العالمية.

وفي بلغاريا يقدر عدد المسلمين بما يقرب من ثلاثة ملايين.

وفي أمريكا يقدر عددهم بعشرة ملايين مسلم، نصفهم من المسلمين السود.

وفي بريطانيا ما يقارب المليون وربما أكثر.

وفي السويد ما يقارب ثلاثمائة ألف مسلم.

وفي استراليا ما يقرب مليون مسلم.

وفي البرازيل ما يزيد على مليوني مسلم حسب دراسة أحد المراكز الإسلامية هناك.

وفي السنغال يقدر عدد المسلمين بما يزيد على عشرة ملايين مسلم(1).

إلى غيرها وغيرها.

ومن اللازم التواصل مع هؤلاء المسلمين عبر مختلف الوسائل الحديثة لإيصال صوت الإسلام إليهم وإعطائهم فكرة الحكومة الواحدة الإسلامية، فيمكن الاتصال بهم من خلال وسائل الإتصالات والمحطات الإذاعية والتلفازية، ومن خلال شبكة الإنترنت، بأن تكون هناك مواقع مخصصة لهذا الغرض بكل اللغات، وكذا عبر المجلات والجرائد والصحف والكتب والكراريس وبكثافة كبيرة، فإن نشر الكتب التي تبيّن لهم ماهية الإسلام وأهدافه الإنسانية من شأنها الوقوف أمام التيارات المعادية وهذا بدوره يكون نواة محركة لتلك الحكومة الإسلامية العالمية الموحدة.

الوعد الإلهي

وقد وعدنا اللّه سبحانه بالنصر، ولكن بشرط أن يكون عملنا خالصاً لوجهه الكريم ووفقا لموازين الحياة والتقدم، قال عزّ وجلّ: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ

ص: 445


1- هذه الإحصائيات بحسب مصادرها المختلفة، وربما تكون هناك أحصاءات أدق وحديثة فليراجع.

أَقْدَامَكُمْ}(1).

سؤال لا بد منه

فلماذا يصدّق التابعون للدول الأجنبية الوعود التي أعطيت لهم، ويقبلون كلام كبارهم(2) حينما وعدوهم بتوحيد عمال العالم، عن طريق توحيد سكان العالم، وإقامة دولة شيوعية حيث قال لهم: يا عمّال العالم اتحدوا؟!

أما نحن المسلمون، فقد نسينا وعود اللّه لنا، وأصبحنا لا نثق بقدرتنا على إيجاد الأمة الإسلامية الواحدة، مع أننا نؤمن باللّه ونصلي له ونصوم ونذهب إلى المساجد ونقرأ القرآن والكتب الإسلامية، وبالرغم من أن دعوة الناس إلى اللّه وإلى الالتزام بالإسلام هي من واجبات كل مسلم!

فهل أن اللّه سبحانه - والعياذ باللّه وحاشا للّه - يخلف الوعد والميعاد؟! أم لأن بعضنا أصيب بالفشل واليأس والابتعاد عن اللّه العظيم فأصبح لا يصدق بوعوده؟

نسأل اللّه أن يوفقنا جميعاً للعمل بتعاليم القرآن الكريم وتوجيهات النبي العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) وأن يعيننا على المشاركة في إقامة الحكومة الإسلامية العالمية الواحدة،كما كانت في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام)(3) وسيكون ذلك في المستقبل، وسوف لا يطول إن شاء اللّه، خصوصاً إذا عملنا بإخلاص، فإننا كلّما عملنا أكثر سنصل الهدف بمدة أقصر.

وعلينا أن نعمل بشكل جاد ومركّز في كل مكان مناسب في البلدان

ص: 446


1- سورة محمد، الآية: 7.
2- وهو كارل ماركس (1818- 1883م): فيلسوف اشتراكي ألماني.
3- للاستزادة في هذا المجال ينظر كتاب: (أول حكومة إسلامية في المدينة المنورة)، و(حكومة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام))، و(الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين(عليه السلام)) و... للامام الشيرازي(رحمه اللّه).

الإسلامية، بل حتى في غيرها من الدول الغربية، وننشئ فيها المنظمات السلمية البعيدة كل البعد عن العنف والإرهاب، لنتمكن من الوصول إلى الحكومة العالمية الواحدة، وهذا العمل ليس بالأمر المستحيل.

وفي الحديث المروي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) دلالة على ضرورة أن تكون الحكومة الإسلامية واحدة قوية تجمع كل المسلمين وجميع بلادهم. قال(عليه السلام): «... والزموا السواد الأعظم؛ فإن يد اللّه مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب»(1).

واليوم عند ما تفرقنا وأصبحنا عشرات الدول الضعيفة أكلتنا الذئاب والمستعمرون.

مرحلة البناء

إن حوزاتنا العلمية المباركة التي تعتبر من أفضل منابر الإسلام ومنائره، تشكلت وبقيت أمد الدهر بفضل جهود المخلصين من أبناء الإسلام وبركات العلماء في بغداد، والنجف الأشرف، وكربلاء المقدسة، والحلة، وأصفهان وغيرها...

وأخيراً في مدينة قم المشرفة، وقبل عدة عقود قام العلماء الصالحون بتأسيس هذه الحوزة المباركة، ولربما كان عدد طلابها لم يصل إلى ألف طالب، ولكن انضم إليها الآخرون شيئاً فشيئاً، حتى صارت كما نراها اليوم بهذه العظمة، وبهذا الصيت.

نقل لي العلامة الشيخ مرتضى نجل المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري(رحمه اللّه)(2) مؤسس الحوزة العلمية في قم المقدسة، أن والده لم يكن يمتلك

ص: 447


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 127 من كلام له(عليه السلام) يبين فيه بعض أحكام الدين...
2- هو الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري القمي مؤسس الحوزة العلمية في قم المقدسة.

حتى الكتب التي كانت ضرورية له للتدريس والدراسة، مع أنه كان زعيم الحوزة، ومحور الدراسات فيها آنذاك، لكن مع هذا سارت الحوزة العلمية وتطورت يوماً بعد يوم، وذلك لإخلاص العاملين وجهودهم.

إذن، عندما تتوحد الإمكانات وتتظافر الجهود سوف تتحقق الحكومة الإسلامية الموحدة، أما بالنسبة إلى المذاهب، فكل مذهب حر في قوانينه بحسب سكان المنطقة، وقد ذكرت في بعض الكتب أن العمل في هذا المجال يقوم على رأي الأكثرية(1). فكل منطقة تكون الأكثرية فيها من أهل السنة يكون القانون هو رأي مذهب أهل السنة مع مراعاة حقوق الشيعة الذين يعيشون إلى جانبهم، وكل منطقة تكون فيها الأكثرية من الشيعة يكون القانون هناك على ضوء آراء المذهب الشيعي مع مراعاة حقوق السنة أيضاً.

وهذا حق مشروع من حقوق الأكثرية ولها المطالبة بذلك.

وهذه القاعدة، أي: العمل حسب رأي الأكثرية دلت عليها بعض الأدلة النقلية في بعض الروايات، فضلاً عن كونها أسلوباً عقلائيا يضمن حقوق الناس.

قانون الزواج والطلاق في الهند

ينقل السيد سعيد بن السيد مير حامد صاحب العبقات: إن حكومة الهند أرادت مرة أن تضع قانوناً للزواج والطلاق، فطلبوا حينها من شاه إيران أن يدوّنه لهم، فيقول السيد: إننا كنا من المخالفين لذلك القانون الذي كان يخالف شريعتنا، ونظمنا المظاهرات ضد ذلك الإجراء، فاستدعاني (نهرو)(2) نفسه، وقال لي: ماذا تريدون؟

ص: 448


1- انظر كتاب (الحكم في الإسلام) و(هكذا حكم الإسلام) و(حكم الإسلام، مبادئ قيامه، أهدافه، ماهيته) وغيرها للامام الشيرازي(رحمه اللّه).
2- جواهر لعل نهرو: زعيم سياسي ورئيس وزراء الهند سابقاً.

فقلت له: إن تعداد المسلمين هنا ما يقارب (120) مليون نسمة، ونحن الشيعة نزيد على أربعين مليوناً، وأهل السنة ثمانون مليوناً، ونحن لا نعتقد بالقانون المدني الذي أصدرتموه، فهو بعيد عن الإسلام، وقد كان لنا قانون خاص قبل هذا، فقال نهرو: وأي قانون؟ فوضحت له مفردات القانون الإسلامي حول الزواج والطلاق، وكان أحد كتّابه يجلس إلى جانبه، فأمره بتدوين ما قلت ووعدني حينها أنه سيدرس الموضوع، علماً أن (نهرو) لم يكن مؤمنا باللّه العظيم لأنه كان من الهندوس، وبعد شهر أصدرت الحكومة الهندية قراراً يقضي باستثناء الأربعين مليون شيعي من القانون الهندي الجديد، وثبت بذلك حقهم في العمل على ضوء أحكام مذهبهم.

وعلى هذا الأساس فإن الحكومة الإسلامية الواحدة سوف لاتواجه مشكلة كبيرة بالنسبة إلى اختلاف المذاهب لأنها تعطي الحرية لكل مذهب بحسبه وفي مجاله.

وهذه الحكومة سوف يكون لها رئيس جمهورية ووزراء، وما أشبه، وفق قرارات يكون الدين الإسلامي هو الحكم فيها، وعند التعارض نرجع إلى قانون الأكثرية مع مراعاة حقوق الأقلية أيضاً.

إذن، وكما قلنا: إن هذه المسألة قابلةٌ للحل، وما علينا إلّا أن نوجد نواة للحكومة الإسلامية العالمية في كل البلاد، حتى لو كانت تلك النواة تبدأ بشاب واحد، ولا ننسى أن هذا العمل يحتاج إلى الدعم الإعلامي والتبليغ الواسع.

ثانياً: الوعي الجماهيري

لأجل إقامة حكومة إسلامية واحدة يلزم الاهتمام الشديد بتوسيع المجال الإعلامي والتبليغي، فمثلاً، في كل أسبوع يمكن أن تصدر نشرة حول فكرة وهدف الحكومة الإسلامية الواحدة وضرورتها، فإذا انتشرت هذه الفكرة ونمى هذا الاعتقاد بين الناس فسيكون هناك وعي جماهيري لقبول هذا الطرح.

ص: 449

وما لم نفعل ذلك سوف تتكرر المأساة مرة أخرى، حيث تأتي فئة أو مجموعة وتستثمر هذا الشعار الذي يطمح إليه كل مسلم غيور، فينفذ مآربه الشخصية والمشبوهة رافعين شعار الإسلام زوراً وبهتاناً.

شاهد من التاريخ

إن لدراسة التأريخ والاطلاع عليه دوراً مهماً ينفع في أمور عدة، منها الاستفادة من تجارب الماضين عبر تجاوز أخطائهم واستثمار نجاحاتهم.

ومن تلك التجارب ما يرتبط بفترة ما بين الأمويين والعباسيين. فإن المسلمين تحركوا وثاروا وكانوا السبب في إسقاط الحكومة الأموية، فلماذا لم يقع الحكم في أيد أمينة تدير الشعب أفضل من سابقتها، بل استلم زمام الحكم ثلة من العباسيين الذين قاموا بنفس الجرائم التي كان يرتكبها الأمويون؟

للجواب على ذلك نقول:

إن السبب في ذلك قلة الوعي، فإن بعض المسلمين لم يكن لديهم وعي إسلامي كامل، فتصوروا أن أبا مسلم الخراساني وأبا سلمة الخلال والمنصور والسفاح وأشباههم لو تسلموا الحكم فستمطر السماء عليهم ذهباً، حيث انخدعوا بدعواتهم الكاذبة بحبهم لآل محمد(عليهم السلام) والمطالبة بحقوقهم، ولم يفكروا أن الخلافة من حق الإمام المعصوم(عليه السلام) دون غيره وهو(عليه السلام) أجدر الناس بها، بل لا تحق لغيره، فكيف يسلمونها لغيره؟(1).

ص: 450


1- كان ابتداء أمر الدعوة العباسية النقباء والأشراف في خراسان، وكان أكثرهم من العرب الساخطين على الحكم الأموي، وكانوا من شيعة آل البيت(عليهم السلام) وقد نادى العباسيون وأشياعهم بالرضا من آل محمد(عليهم السلام) فتكاتفوا مع الشيعة في سبيل إسقاط الدولة الأموية، فكان محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس هو المتزعم لهذه الثورة، وقبل وفاته أوصى لأبنه إبراهيم الإمام بالقيام بمهمات الدعوة، وقام إبراهيم بالأمر فأسند مهمة الثورة في خراسان لأبي مسلم الخراساني، ونجح أبو مسلم الخراساني في إجتذاب جماهير غفيرة من الخراسانيين. ثم أنفد إلى أبي مسلم الخراساني لواء النصرة وظل السحاب، وكان أبو سلمة الخلال الكوفي الرجل الموثوق به الذي كان يدعو إلى آل محمد(عليهم السلام) في الكوفة. فكان هذان الرجلان صاحبي الدعوة لآل محمد في خراسان والكوفة، فلما بلغ أبا مسلم الخراساني خبر موت إبراهيم الإمام، بعث برسالة إلى الإمام الصادق(عليه السلام)، وعبد اللّه بن الحسن، ومحمد بن علي بن الحسين، يدعو كل واحد منهم بالخلافة، فبدأ بالإمام الصادق(عليه السلام) فلما قرأ الكتاب أحرقه وقال: هذا الجواب، فلما أقبلت الرايات كتب إلى الإمام الصادق(عليه السلام) وأخبره أن سبعين ألف مقاتل وصل إلينا منتظر أمرك، فقال(عليه السلام): إن الجواب كما شافهتك، فكان الأمر كما ذكر. واستولى أبو مسلم الخراساني على خراسان والعراق، ثم تمت البيعة لأبي عباس السفاح بعد معركة الزاب التي انتصر بها أبو مسلم الخراساني على جيوش الأمويين سنة (133ه)، وبعد النتصار الدعوة العباسية ذهبت الشعارات أدراج الرياح، ولم تكتف بهذا، بل قاموا بتصفية رجالات الثورة وقادتها، فبدأوا بأبي سلمة الخلال صاحب النفوذ السياسي في الكوفة فأغتالوه، وادعوا أن الخوارج قتلته، وكان يومذاك في عزه وقمة نفوذه، ثم قتلوا أبا مسلم الخراساني، قتله المنصور العباسي، وكان أبو مسلم يومئذ أقوى شخصية سياسية في خراسان. وأخذ العباسيون كذلك في ملاحقة الأمويين في كل مكان، فقتلوهم وصلبوهم ونبشوا قبورهم وشردوهم في البلدان جميعاً. أما موقف الدعوة العباسية من الأئمة المعصومين(عليهم السلام) فيوجزه قول الشاعر: تاللّه ما فعلت أمية فيهم *** معشار ما فعلت بني العباس

هذا من جهة.

ومن جهة أخرى لم يفكروا أن القدرات لو تجمعت بيد شخص واحد أو حزب واحد أو عائلة واحدة لاستأثروا بها ولأسكرتهم كما أسكرت الذين من قبلهم، وقد قال اللّه تعالى: {إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَىٰ}(1).

وورد في الحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «من ملك استأثر»(2).

هؤلاء نسوا الإمام المعصوم(عليه السلام)، ونسوا مبادئ الإسلام في الحكم من الاستشارة والتعددية ومنح الحريات وعدم الاستبداد، فاغتصب الحكم مجموعة

ص: 451


1- سورة العلق، الآية: 6-7.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 160.

فاسدة أضاعت مكاسب الثورة على الأمويين كلها.

ثم بعد ذلك عند ما تبين لديهم انحراف السلطة العباسية لم تقاومها الأكثرية خوفاً منها، أو رغبة وطمعاً فيها.

أليس ذلك نتيجة عدم الوعي؟!

وبدأت التصفيات والعنف الداخلي في أوساط العباسيين ومن أعانهم على الوصول إلى الحكم، نتيجة الاستفراد والدكتاتورية والاستبداد بالحكم، حتى أن أبا مسلم الخراساني قائد الثورة ضد الأمويين لم يسلم منها، ولقد عرف أبو مسلم ذلك فقال: إن مثلي والخليفة العباسي كمثل عابد رأى عظام أسد بالية فدعا اللّه أن يحييه مرة أخرى ولما استجاب اللّه دعاءه أعاده حياً قفز الأسد على العابد ليفترسه فقال له العابد: أتفترسني وأنا طلبت من اللّه إحياءك؟! فأجابه الأسد: إنك كما أحييتني تستطيع بدعاء واحد أن تميتني، ولذلك فضلت قتلك قبل أن تقتلني(1). إن ما يعرف بمقولة (الثورة تأكل أبنائها) شيء طبيعي في حال غياب الوعي الجماهيري، وفي حال عدم توزيع القدرة، وانحصارها بفئة واحدة.

إذن، يلزم علينا: معرفة الطريق الطبيعي المؤدي إلى إقامة حكومة إسلامية واحدة وفق الأسلوب الإلهي، وذلك يتم بتنمية الوعي لدى الجماهير، ورفض الحركات التي تؤدي إلى تكوين الأنظمة الجائرة الحاكمة في البلاد الإسلامية، والتي - غالباً - ما تستغل الدين ونصرة المظلومين كشعار تحصل فيه على مبتغاها، كما يلزم أن يكون أساس الحكم مبتنياً على نظام التعددية والاستشارة.

ثالثاً: إنشاء المؤسسات الخيرية

نشر الوعي بوحده لا يكفي، بل يلزم نشر الخدمات الإنسانية في أوساط

ص: 452


1- انظر المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 8: 7.

المجتمع، حتى يتمكن المجتمع من المطالبة بحكومة واحدة عالمية.

فيلزم إنشاء مؤسسات خيرية عامة المنفعة، مثل صناديق الإعانة المادية الخيرية، وإننا جربنا هذه الطريقة، فوجدنا أن هذه الخدمة لها أهمية بالغة بين الناس.

فمثلاً في مدينة كربلاء المقدسة حيث كان الناس يأتون بأمواتهم من أطراف وأكناف البلاد، لم يكن هناك العدد الكافي من (المغتسلات) فاجتمعنا يوماً في منزل أحد الأصدقاء، ودار الحديث بخصوص ضرورة بناء مغتسل كبير في المدينة، فقال بعض الحاضرون: إن هذا البناء يحتاج إلى أموال كثيرة، وإن ذلك ليس بالمقدور، فقلت لهم: بل هو مقدور فعليكم بجمع المال، وإن قدّم شخص عشرة فلوس مشاركة منه في هذا المشروع فاقبلوها منه.

وهكذا وبعد بذل الجهود وإبلاغ الخيرين بأهمية هذا العمل تم أخيراً إنشاء ذلك المغتسل في منطقة (باب الخان) علماً أن تكاليف المشروع والبناء بلغت في وقتها آلاف الدنانير، وهي كانت من تلك التبرعات القليلة. كما تم وبنفس الطريقة إنشاء مدرسة علمية سميت ب(السليمية) والتي لا تزال موجودة إلى الآن، ومشاريع أخرى على هذا الغرار.

وحدث مرة وبعد انتهاء صلاة الجماعة التي كانت تقام بإمامة المرحوم والدي(رحمه اللّه) في حرم الإمام الحسين(عليه السلام) قام الشيخ عبد الرحيم القمي(رحمه اللّه) وقال: أيها الناس المؤمنون، إننا نريد أن نبني مدرسة دينية، ونريد من كل واحد منكم أن يأتي لنا بطابوقة واحدة على الأقل، وبعد مضي شهور أنشئت المدرسة واكتملت ببركة مشاركات الناس حتى القليلة منها.

والآن لو ذهبنا إلى ألمانيا وأوجدنا هناك صندوقاً خيرياً إسلامياً، وإلى جانبه جريدة، ونشرة دورية، ومركز تثقيفي، ونعمل بشكل جاد من أجل غرس نواة

ص: 453

للحكومة الإسلامية الواحدة، فإن ذلك سيكون نواة أولى لتمهيد الطريق ولنشرالإسلام، وعلى هذا الشكل إذا أوجدت نواة أخرى في أمريكا، وأخرى في بريطانيا وفرنسا وغيرها، فإن هذه النواة ستكبر بلطف اللّه يوماً بعد يوم، حتى تقام الحكومة الإسلامية الموحدة في بلاد المسلمين. علماً بأن إقامة المؤسسات والمنظمات في مختلف دول العالم ليست في غاية الصعوبة، بل يمكن في خلال فترة وجيزة إنشاؤها، لو تضافرت الجهود وبذلنا في سبيلها الهمة(1).

من جدّ وجد

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنما سراة الناس أولو الأحلام الرغيبة والهمم الشريفة وذوو النبل»(2).

وقال(عليه السلام) أيضاً: «أشرف الشيم رعاية الود، وأحسن الهمم إنجاز الوعد»(3).

وقال(عليه السلام): «الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية»(4).

وقال(عليه السلام): «من شرفت همته عظمت قيمته»(5).

ينقل أن كتب ومؤلفات أحد الأدباء والمؤلفين كان يدرس في (58) جامعة من أشهر جامعات العالم، هذا على الرغم من المعاناة والعوز الذي اتسمت به نشأته وبداية حياته، حتى أنه فقد بصره وهو في الثالثة من عمره، ولكنه بما أنه كان ذا همة عالية، وقرنها بالجد والاجتهاد، فكل ذلك أوصله إلى منصب وزير التربية

ص: 454


1- انظر كتاب (القطرات والذرات) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه).
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 277.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 214.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 110.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 609.

والتعليم في مصر(1).

ولربما يقول القارئ وهل يمكن هذا؟!

نعم، إنه ممكن، والدليل هو وجود هذا الشخص وكثيرين من أمثاله وصلوا إلى مراتب عالية، فرغم كونه بصيراً لكنه ارتقى الدرجات السامية شيئاً فشيئاً.

وليس بعيداً أن يكون للأخرس والأصم والأعمى دور مهم في الحياة، فإنه قد قيل:

من جد وجد.

ومن لج ولج.

ومن أكثر الطرق يوشك أن يسمع الجواب(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من استدام قرع الباب ولجّ ولج»(3).

ولدينا تجربة طويلة في هذا الباب؛ لذا لو وظفنا شبابنا وقدراتهم، واستفدنا من قدرات الآخرين في هذا الطريق لوصلنا إلى النتيجة.

لماذا أنا مسلم؟

وردت القصة التالية في كتاب (لماذا أنا مسلم):

إن أبا سفيان جاء مرة بجيشه لمحاربة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وفي تلك الأيام دخل بعض المسلمين على الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخبرونه عن جيش الأعداء فقالوا: لقد انتصرنا عليهم، حيث إن المستطلعين لمعسكر العدو وافونا بأن أبا سفيان وجيشه باتوا البارحة جياعاً لا يملكون ما يأكلون، وهؤلاء الكفار حينما لا يجدون الأكل

ص: 455


1- هو الكاتب المصري المعروف طه حسين (1889-1973م) أديب وناقد مصري كبير، لقب بعميد الأدب العربي.
2- مثل مشهور.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 665.

فإنهم سيضعفون ولا يستطيعون محاربتنا.

فقال لهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - بما معناه - : إن هذا العمل ليس صحيحاً حتى لو كنا معهم في حرب؛ فإن الحرب شيء والرحمة الإنسانية شيء آخر.

فأمر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإرسال الطعام إلى المشركين!!

فلما رأى الكفار أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أرسل لهم كل هذا، أصبحوا كما يقول القرآن: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ}(1) وكانت النتيجة أن نصف جيش الكفار تركوا محاربة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

كما أن الإمام الحسين(عليه السلام) اتبع نفس الأسلوب مع الحر الرياحي (رضوان اللّه عليه)، وسجل لنفسه العظمة والقدسية والعفو والسماحة على طول التاريخ، وإلى يومنا هذا يذكره آلاف الخطباء فوق المنابر بكل اعتزاز. روى الشيخ المفيد(رحمه اللّه) في الإرشاد:

وجاء القوم زهاء ألف فارس مع الحُر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين(عليه السلام) في حَرّ الظهيرة والحسين(عليه السلام) وأصحابه معتمون متقلدو أسيافهم، فقال الحسين(عليه السلام) لفتيانه: «أسقوا القوم وأرووهم من الماء، ورشفوا الخيل ترشيفا».

ففعلوا، وأقبلوا يملئون القصاع والطساس من الماء، ثم يدنونها من الفرس، فإذا عب فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقوا آخر، حتى سقوها كلها.

فقال علي بن الطعان المحاربي: كنت مع الحر يومئذ، فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين(عليه السلام) ما بي وبفرسي من العطش، قال: «أنخ الراوية» والراوية عندي السقاء ثم قال: «يا ابن أخي أنخ الجمل» فأنخته، فقال:

ص: 456


1- سورة الأعراف، الآية: 149.

«اشرب» فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء فقال الحسين(عليه السلام): «اخنثالسقاء» أي: اعطفه، فلم أدر كيف أفعل، فقام فخنثه، فشربت وسقيت فرسي(1).

ومن الواضح لو أن الإمام الحسين(عليه السلام) لم يعط لجيش الحر الماء لمات نصف جيشه عطشاً، وبالمقابل ربما كان يبقى الماء مع الحسين(عليه السلام) إلى ليلة عاشوراء ويوم عاشوراء، لما اشتد بالنساء والأطفال وعسكر الحسين(عليه السلام) العطش الشديد الذي أخذ منهم كل مأخذ، لكن الإمام(عليه السلام) أثبت للعالم بعمله هذا إنسانيته وعظمته وسمو رسالته.

وهذه السجايا الممدوحة والأخلاق الحسنة نجدها أيضاً في أتباع أهل البيت(عليهم السلام) وعلى رأسهم المراجع العظام والفقهاء الكرام، فهم تلامذة مدرسة العترة الطاهرة(عليهم السلام).

إدارة السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه)

كان السيد محسن الأمين(رحمه اللّه) جاء من بلده سوريا إلى النجف الأشرف للزيارة قبل أربعين سنة تقريباً(2)، وكان بعد ذلك زار مرقد الإمام الرضا(عليه السلام) في مشهد، ثم عاد إلى سوريا.

لكن حينما رجع أخذ يدعو إلى تقليد السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) فسأله أحد الأشخاص: لماذا أخذت تدعو لتقليد السيد الأصفهاني بعد ما عدت من العراق، في حين أن هناك (فلاناً) من العلماء ولربما كان أعلم من السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه)؟

ص: 457


1- الارشاد 2: 78.
2- هذا التاريخ بحسب توقيت التأليف، كما هو واضح.

فقال له السيد الأمين: إن الشخص الذي تعنيه ليس له القدرة على إدارة شؤون الشيعة.

فقال له: لماذا؟

فذكر له السيد الأمين هذه القصة، قال:

حينما وصلت إلى مدينة النجف الأشرف أرسل لي السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) في عصر ذلك اليوم رسالة يذكر فيها أنه سيزورني، وفعلاً جاء لزيارتي في الليل، ودعاني لتناول الغداء في اليوم الثاني في منزله، وأبقاني ضيفه لمدة ثلاثة أيام بلياليها، وكان يحضر إلى تلك المائدة أصدقائه أيضاً، وبعد ثلاثة أيام سألني السيد أبو الحسن عن المكان الذي أقصده في سفري القادم؟

فقلت له: أريد السفر إلى مدينة مشهد المقدسة بعد زيارة العتبات العاليات في العراق.

فأعطاني مقداراً من المال، ثم قال لي: في أي وقت تعزم على السفر؟

فقلت له: يوم كذا.

فقال لي: أرجو منك إذا وصلت إلى كربلاء المقدسة أن تذهب إلى منزل وكيلي فلان.

فقلت له: إن شاء اللّه.

فلما وصلت إلى كربلاء المقدسة صار معلوماً لدي أن السيد قد أرسل خبراً إلى وكيله، الذي استقبلني في (كراج كربلاء) واصطحبني إلى منزله، وأخبر الطلبة بأن إحدى الشخصيات الإسلامية قد قدم من سوريا ودعاهم لزيارتي.

وهكذا عندما أردت الذهاب إلى الكاظمية المشرفة أرسلوا خبراً إلى هناك، وحينما وصلت لاقيت مثل ما لاقيت من استقبال واحترام في كربلاء، واستمر الحال هكذا، في كل مدينة أمر بها حتى وصلت مشهد الإمام الرضا(عليه السلام).

ص: 458

فانظر أيهما له القدرة والكفاءة على الإدارة والمرجعية، هل السيد الأصفهاني الذي يهتم بي وبغيري هذا الاهتمام البالغ، أم ذلك الشخص الذي هو بعيد عنكل هذه الاهتمامات؟

وفاء السيد الأصفهاني(رحمه اللّه)

ويذكر أيضاً في أحوال السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) أنه كان شديد الوفاء حتى لأبسط الناس. حيث يروى في أحواله أنه سافر إلى الكاظمية المقدسة في أيام قيادته للمرجعية، ليزور الإمامين الكاظمين(عليهما السلام)، ثم سأل بعض أصدقائه قائلاً: كان هناك كاسب بسيط يجلس قرب باب الصحن الشريف قبل ثلاثين سنة، حيث كنت أشتري منه بعض الأشياء حين كنت طالباً في الحوزة، فهل هو موجود إلى الآن؟

فبادرت جماعة وتفقدته فوجدوه وقد شاخ وكبر وصار طاعناً في السن، فقيل له: إن السيد أبا الحسن الأصفهاني يريد أن يراك، فجاء الرجل ملبياً دعوة السيد، فقال السيد للرجل: هل تذكرني؟ أجاب الرجل: لا أتذكرك.

فقال السيد: أما أنا فأتذكر، وأيضاً أتذكر أنك كنت تقول لي: بأنك لا تملك داراً، وكنت في ضيق من الإيجار، وعائلتك كبيرة، فهل الحال كذلك الآن؟

قال الرجل: كلا يا سيدنا، إن عدة من بناتي قد تزوجن، وقد خفت مسئوليتي، أما داري فلا زالت مستأجرة.

فقال له السيد: اذهب واشتر داراً، وعليّ مساعدتك. وبالفعل ذهب الرجل واشترى داراً وساعده السيد من بيت المال.

فكان السيد(رحمه اللّه) من صفاته الوفاء حتى بعد ثلاثين سنة، وحتى مع الكاسب البسيط، الذي كان يشتري منه بعض الحاجات في وقت ما.

نعم، إن الحركة الإسلامية العالمية، إذا أرادت بحق وإخلاص جمع كلمة

ص: 459

المسلمين من مختلف أنحاء البلاد لإنقاذ الأمة من براثن الكفار والمستعمرين، ولتشكيل حكومة إسلامية واحدة، عليها أن تتخلق بأخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمةالأطهار (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) ومن سار على نهجهم من مراجعنا الكرام (أعلى اللّه مقامهم).

نسأل اللّه أن يوفقنا لهذه الأعمال الصالحة، ولجمع الناس تحت لواء الإسلام والخير والمحبة.

الحمد للّه على الإيمان، والحمد للّه على الإسلام، والحمد للّه على الإحسان، والحمد للّه على الامتنان، والحمد للّه على القرآن، والحمد للّه الذي منّ علينا بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه، والحمد للّه رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

إقامة الحكومة الإسلامية

قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {ذَٰلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِۦ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}(2).

وقال سبحانه: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِۦ أَحَدًا}(3).

ص: 460


1- سورة النساء، الآية: 105.
2- سورة غافر، الآية: 12.
3- سورة الكهف، الآية: 26.
نشر الوعي الإسلامي

قال جلّ وعلا: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖلِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ }(1).

وقال تعالى: {هَٰذَا بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(3).

التوكل على اللّه في كل الأعمال

قال سبحانه: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا}(5).

وقال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا}(6).

كل مسلم مسؤول عن إقامة الدين

قال عزّ وجلّ: {فَلَنَسَْٔلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}(7).

وقال سبحانه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ}(8).

وقال جلّ وعلا: {فَوَرَبِّكَ لَنَسَْٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(9).

ص: 461


1- سورة الطلاق، الآية: 10-11.
2- سورة الجاثية، الآية: 20.
3- سورة سبأ، الآية: 28.
4- سورة الطلاق، الآية: 3.
5- سورة النساء، الآية: 45.
6- سورة النساء، الآية: 81.
7- سورة الأعراف، الآية: 6.
8- سورة الصافات، الآية: 24.
9- سورة الحجر، الآية: 92-93.
المسلمون أمة واحدة

قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِۦ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(2).

وقال تعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِۦ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

اتباع الكتاب والعترة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن اللّه بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق، وأمر قائم، لا يهلك عنه إلّا هالك، وإن المبتدعات المشبهات هن المهلكات إلّا ما حفظ اللّه منها، وإن في سلطان اللّه عصمة لأمركم، فأعطوه طاعتكم غير ملومة ولا مستكره بها»(4).

وقال(عليه السلام): «فبعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بينه وأحكمه»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لا واللّه، ما فوض اللّه إلى أحدٍ من خلقه إلّا إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلى الأئمة، قال عزّ وجلّ: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ}(6) وهي جارية في الأوصياء(عليهم السلام)»(7).

ص: 462


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.
3- سورة المؤمنون، الآية: 52.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 169 من خطبة له(عليه السلام) عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 147 من خطبة له(عليه السلام) يبين فيها الغاية من البعثة.
6- سورة النساء، الآية: 105.
7- الكافي 1: 268.
نشر العلم والوعي

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من نشر علماً فله مثل أجر من عمل به»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربعة تلزم كل ذي حجى وعقلٍ من أمتي».

قيل: يا رسول اللّه ما هنّ؟

قال: «استماع العلم، وحفظه، ونشره، والعمل به»(2).

وكان في ما أوصى به رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين(عليه السلام): «.. يا علي، ثلاث من حقائق الإيمان: الإنفاق في الإقتار، وإنصاف الناس من نفسك، وبذل العلم للمتعلم»(3).

المسلمون أمة واحدة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «يد اللّه مع الجماعة، وإيّاكم والفرقة»(4).

وقال(عليه السلام): «ولتجتمع كلمتكم»(5).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر لهم المال فيتحاسدون ويقتتلون»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنما المؤمنون إخوة بنو أب وأم، وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون»(7).

ص: 463


1- مستدرك الوسائل 17: 301.
2- تحف العقول: 57.
3- الخصال 1: 125.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 127 من كلام له(عليه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة.
5- بحار الأنوار 34: 36.
6- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 127.
7- الكافي 2: 165.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزال أمتي بخير؛ ما تحابوا، وتهادوا، وأدّوا الأمانة، واجتنبوا الحرام، وقروا الضيف، وأقاموا الصلاة»(1).وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تزال هذه الأمة تحت يد اللّه وفي كنفه، ما لم يداهن قراؤها أمراءها، ولم يزل علماؤها فجارها، وما لم يهن خيارها أشرارها، فإذا فعلوا ذلك رفع اللّه عنهم يده، ثم سلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب، ثم ضربهم بالفاقة والفقر»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «لا تزال أمتي بخير ما لم يتخاونوا، وأدّوا الأمانة وآتوا الزكاة، وإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين»(3).

الخلاف والفرقة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الخلف مثار الحروب»(4).

وقال(عليه السلام): «الأمور المنتظمة يفسدها الخلاف»(5).

وقال(عليه السلام): «عرّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة»(6).

وقال(عليه السلام): «الزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة»(7).

ص: 464


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 29.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 84.
3- ثواب الأعمال: 251.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 43.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 63.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 5 من كلام له(عليه السلام) لما قبض رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 150.

ولكم في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونزاهة الحرب

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(1).

وقال سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(2).

بعث اللّه عزّ وجلّ النبي محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين، فجاء بشيراً ونذيراً إلى الناس أجمعين فاهتدى العديد منهم ببركته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن البعض أخذ يحارب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين، فأخذ المشركون يخططون لقتل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقتل أصحابه، وفرضوا على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشرات الغزوات، وكلها كانت دفاعية من قبل الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكانت سياسته في الحرب مبتنية على الأخلاق الطيبة، والعفو عن المجرمين، ومداراة الأسرى، والسعي في هدايتهم إلى الصراط المستقيم بعيداً عن الغدر والخيانة، والعنف والإرهاب.

فكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير أسوة للبشرية حتى في ميادين الحرب، كما قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(3)، فإن حذف المتعلق يفيد

ص: 465


1- سورة آل عمران، الآية: 140.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- سورة الأحزاب، الآية: 21.

العموم، على ما ذكره العلماء في البلاغة والأصول.

قريش والحرب والانتقام

كانت بذور الانتقام والحقد والثأر من المسلمين، قد بُذرت في مكة من زمن بداية الدعوة الإسلامية، ثم أجج ذلك انهزام المشركين في معركة بدر وسرية محمّد بن مسلمة، واعتمد طواغيت قريش خطة التهييج العاطفي أيضاً وذلك بمنع ذوي القتلى من البكاء والنياحة على قتلى معركة بدر؛ وهذا مما ساعد على إذكاء روح الانتقام لدى قريش.

كما أن تعذر مرور قوافلها التجارية عبر طريق مكة - المدينة - الشام، واضطرارها إلى سلوك طرق أخرى كطريق العراق للسفر إلى الشام، أو طريق الساحل، زاد هو الآخر من سخطها وانزعاجها.

كما أجج مقتل (كعب بن الأشرف) أوار هذا الحقد وأوقد لهيبه في النفوس(1).

ومن هنا اقترح (صفوان بن أمية)..

و(عكرمة بن أبي جهل)..

على (أبي سفيان) بالحرب ضد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين والاستعداد لها.

فقد قيل: لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلهم - أي منهزموهم - إلى مكة، مشى صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، في رجال من قريش، أصيب آباؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة. فقالوا: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا، ففعلوا.

ص: 466


1- كعب بن الأشرف، من سادة يهود المدينة.

نعم، لقي هذا الاقتراح قبولاً من أبي سفيان، وتقرر الإعداد للحرب،فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى فعل أبو سفيان ذلك.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع، كما ذكر كيف أن قريشاً لم تحصد من هذا الإنفاق إلّا الخيبة والخسران، حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}(1).

وحيث إن زعماء قريش كانوا على علم بقوة المسلمين، وقد رأوا ولمسوا عن كثب شجاعتهم، واستقامتهم وثباتهم في معركة بدر؛ قرروا أن يتألف جيشهم هذه المرة من صناديد أكثر القبائل، وشجعانها البارزين وأبطالها المعروفين. كما أنهم أشركوا في هذا المعركة طائفة من العبيد والرقيق، أغروهم ووعدوهم في العتق إن نصروا أسيادهم وقاتلوا بين أيديهم، كما حصل مع (وحشي)، وكان يقذف بحربة له قذف الحبشة وقلّما يخطئ بها. فقد قيل له: اخرج مع الناس، فإن نلت محمداً أو علياً أو حمزة فأنت عتيق.

استقبل المشركون كلام أبي سفيان وأصحابه بقبول كامل وتصميم عالٍ، فقالوا: نحن لا نرجع حتى نحقق أحد الأمور الثلاثة، وهي:

أولاً: قتل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وبقتله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينتهي الدين الذي جاء به - على حد زعمهم - .

ثانياً: قتل علي بن أبي طالب(عليه السلام)، الذي يمثل بطولة الإسلام والمؤثر الكبير في نتائج الحروب، وهو الشخصية الثانية بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ثالثاً: دخول المدينة غيلة، وعلى حين غرة وغفلة من المسلمين، فيوقعوا القتل

ص: 467


1- سورة الأنفال، الآية: 36، وانظر تفسير مجمع البيان 4: 464.

والسبي والنهب بأهلها.

عندها نزل الوحي على النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأخبره بما يضمر المشركون، وكان نزوله بشارة للمسلمين وبعثاً للاطمئنان في قلوبهم، وخصوصاً مع ما كان عليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الاستعداد والتأهب لمواجهة أخطار العدو.

استعداد المسلمين

كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قمة الحذر من الأعداء رعاية وحفظاً لأنفس المسلمين، فكان ينشر العيون على الحدود وأطراف المدينة، ليترصدوا أيّ خطر أو غارة يمكن أن يداهمهم بها الكفار والمنافقون، وكانت هذه العيون على شكل دوريات - حسب اصطلاح اليوم - وهي تتكون عادة من شخصين أو ثلاثة أو خمسة، وأحياناً تتكون الدورية من عشرة أشخاص، ليكون النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على إطلاع كامل بتحركات العدو من خلال هذه الدوريات إضافة إلى التسديد الإلهي، فيكون(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أعدّ العدة الكافية للمواجهة من الناحية المادية والظاهرية.

أما من الناحية المعنوية، فبالإضافة إلى الإخلاص والإيمان باللّه سبحانه، الذي كان الوازع والدافع الرئيسي للمسلمين على الثبات والمقاومة، عزّزه اللّه سبحانه بنزول جبرئيل(عليه السلام) بالبشارة، وتشديد العزم وتقوية الإرادة.

وهكذا كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يمتلك معرفة كبيرة بأوضاع العدو في جميع حروبه، حينما كان يرسل الدوريات وفرق الاستطلاع؛ ليعرف تحركات العدو، ومقدار القوة التي يمتلكها، ومواطن الضعف فيه، بالإضافة إلى إطلاعه الكامل على مجريات الأمور في الداخل.

معركة أحد

قال المفسر الكبير العلامة القمي في تفسيره: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ

ص: 468

إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ}(1) يعني: بعهد من اللّه وعقد من رسولاللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(2).

وفي تفسير فرات الكوفي: عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «حبل من اللّه: كتابه، وحبل من الناس: علي بن أبي طالب(عليه السلام)»(3).

ثم ضرب للكفار من أنفق ماله في غير طاعة اللّه مثلاً، فقال: {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ} أي: برد، {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٖ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} أي: زرعهم {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ} كانوا {أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(4).

وقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(5).

فقد روي عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «سبب نزول هذه الآية أن قريشاً خرجت من مكة تريد حرب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فخرج يبغي موضعاً للقتال». وقوله: {إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا}(6) نزلت في عبد اللّه بن أُبيّ، وقوم من أصحابه اتبعوا رأيه في ترك الخروج، والقعود عن نصرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

قال: وكان سبب غزوة أحد أن قريشاً لما رجعت من بدر إلى مكة، وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر؛ لأنه قتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون، فلما رجعوا إلى مكة، قال أبو سفيان: يا معشر قريش، لا تدعوا النساء تبكي على

ص: 469


1- سورة آل عمران، الآية: 112.
2- تفسير القمي 1: 110.
3- تفسير فرات الكوفي: 92.
4- سورة آل عمران، الآية: 117.
5- سورة آل عمران، الآية: 121.
6- سورة آل عمران، الآية: 122.

قتلاكم؛ فإن البكاء والدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد، ويشمت بنا محمد وأصحابه.

فلما غزوا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم أحد، أذنوا لنسائهم بعد ذلك في البكاء والنوح،فلما أرادوا أن يغزوا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أحد، ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها، فجمعوا الجموع والسلاح، وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل، وأخرجوا معهم النساء يذكرنهم ويحثنهم على حرب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأخرج أبو سفيان هند بنت عتبة، وخرجت معهم عمرة بنت علقمة الحارثية.

فلما بلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك جمع أصحابه، وأخبرهم: إن اللّه قد أخبره، أن قريشاً قد تجمعت تريد المدينة، وحث أصحابه على الجهاد والخروج، فقال عبد اللّه بن أبيّ [سلول] وقومه: يا رسول اللّه، لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا، وما خرجنا إلى أعدائنا قط إلّا كان الظفر لهم.

فقام سعد بن معاذ(رحمه اللّه) وغيره من الأوس، فقالوا: يا رسول اللّه، ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام، فكيف يمطعون فينا وأنت فينا! لا، حتى نخرج إليهم فنقاتلهم فمن قتل منا كان شهيداً، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل اللّه.

فقبل رسول اللّه قوله، وخرج مع نفر من أصحابه يبتغون موضع القتال، كما قال اللّه: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله {إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا}(1) يعني: عبد اللّه بن أبي وأصحابه. فضرب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) معسكره

ص: 470


1- سورة آل عمران، الآية: 121-122.

مما يلي من طريق العراق، وقعد عبد اللّه بن أبي وقومه من الخزرج اتبعوا رأيه، ووافت قريش إلى أحد.

وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عدّ أصحابه وكانوا سبعمائة رجلاً، فوضع عبد اللّه بن جبيرفي خمسين من الرماة على باب الشعب، وأشفق أن يأتي كمينهم في ذلك المكان، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعبد اللّه بن جبير وأصحابه: «إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تخرجوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم».

ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً، وقال لهم: إذا رأيتمونا قد اختلطنا بهم فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا من ورائهم.

مقام أمير المؤمنين(عليه السلام) في أحد

فلما أقبلت الخيل واصطفوا، وعبأ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحابه، ودفع الراية إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، فحملت الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة، ووقع أصحاب رسول اللّه في سوادهم(1)، وانحط خالد بن الوليد في مائتي فارس، فلقي عبد اللّه بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجعوا، ونظر أصحاب عبد اللّه بن جبير إلى أصحاب رسول اللّه ينهبون سواد القوم، قالوا لعبد اللّه بن جبير: تقيمنا هاهنا وقد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة؟ فقال لهم عبد اللّه: اتقوا اللّه، فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد تقدم إلينا أن لا نبرح، فلم يقبلوا منه، وأقبل ينسل رجل فرجل حتى أخلوا من مركزهم، وبقي عبد اللّه بن جبير في اثني عشر رجلاً.

ص: 471


1- السواد: الشخص، وقيل: شخص كل شيء من متاع وغيره، والجمع أسودة، وأساود جمع الجمع، ويقال: رأيت سواد القوم أي: معظمهم، وسواد العسكر: ما يشتمل عليه من المضارب والآلات والدوابِّ وغيرها. لسان العرب: ج3 ص224 مادة (سود).

وقد كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العدوي من بني عبد الدار، فبرز ونادى: يا محمد، تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنة، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليَّ، فبرز إليه أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول:

«يا طلح إن كنت كما تقول *** لنا خيول ولكم نصول

فاثبت لننظر أينا المقتول *** وأينا أولى بما تقول

فقد أتاك الأسد الصؤول *** بصارم ليس به فلول

بنصرة القاهر والرسول»

فقال طلحة: من أنت يا غلام؟

قال: «أنا علي بن أبي طالب».

قال: قد علمت يا قضيم، أنه لا يجسر عليَّ أحد غيرك، فشد عليه طلحة فضربه فاتقاه أمير المؤمنين(عليه السلام) بالجحفة(1)، ثم ضربه أمير المؤمنين(عليه السلام) على فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط على ظهره، وسقطت الراية. فذهب علي(عليه السلام) ليجهز عليه فحلفه بالرحم، فانصرف عنه فقال المسلمون: ألّا أجهزت عليه؟

قال: «قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبداً». وأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله علي(عليه السلام) وسقطت الراية على الأرض، فأخذها شافع [مسافع] بن أبي طلحة فقتله علي(عليه السلام) فسقطت الراية إلى الأرض، فأخذها عثمان بن أبي طلحة فقتله علي(عليه السلام) فسقطت الراية إلى الأرض، فأخذها الحارث بن أبي طلحة فقتله علي(عليه السلام)، فسقطت الراية إلى الأرض، وأخذها أبو عذير بن عثمان فقتله علي(عليه السلام)، وسقطت الراية إلى الأرض، فأخذها عبد اللّه بن أبي جميلة بن زهير

ص: 472


1- الجحفة: التُرس.

فقتله علي(عليه السلام)، وسقطت الراية إلى الأرض، فقتل أمير المؤمنين(عليه السلام) التاسع من بني عبد الدار، وهو أرطاة بن شرحبيل مبارزة وسقطت الراية إلى الأرض، فأخذها مولاهم صواب فضربه أمير المؤمنين(عليه السلام) على يمينه فقطعها، وسقطت الراية إلى الأرض، فأخذها بشماله فضربه أمير المؤمنين(عليه السلام) على شماله فقطعها، وسقطت الراية إلىالأرض، فاحتضنها بيديه المقطوعتين، ثم قال: يا بني عبد الدار، هل أعذرت في ما بيني وبينكم، فضربه أمير المؤمنين(عليه السلام) على رأسه فقتله، وسقطت الراية إلى الأرض، فأخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية فقبضتها.

وانحط خالد بن الوليد على عبد اللّه بن جبير، وقد فر أصحابه وبقي في نفر قليل، فقتلوهم على باب شعب، واستعقبوا المسلمين فوضعوا فيهم السيف، ونظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها، وأقبل خالد بن الوليد يقتل المسلمين، فانهزم أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هزيمة قبيحة. وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كل وجه، فلما رأى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الهزيمة كشف البيضة عن رأسه، وقال: «إني أنا رسول اللّه، إلى أين تفرون عن اللّه وعن رسوله؟».

وسُئل أبو عبد اللّه(عليه السلام) عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي(عليه السلام): يا قضيم؟

قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، وأغروا به الصبيان، وكانوا إذا خرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يرمونه بالحجارة والتراب، فشكا ذلك إلى علي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، إذا خرجت فأخرجني معك، فخرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومعه أمير المؤمنين(عليه السلام)، فتعرض الصبيان لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كعادتهم، فحمل عليهم أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم، فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون: قضمنا علي، قضمنا علي، فسمي لذلك القضيم».

ص: 473

وروي عن أبي واثلة شقيق بن سلمة قال: كنت أماشي فلاناً، إذ سمعت منه همهمة، فقلت له: مه، ما ذا يا فلان؟

قال: ويحك، أما ترى الهزبر(1) القضم بن القضم، والضارب بالبهم، الشديد على من طغى وبغى، بالسيفين والراية، فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب، فقلت له: يا هذا، هو علي بن أبي طالب؟! فقال: ادن مني أحدثك عن شجاعته وبطولته، بايعنا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم أحد على أن لا نفر، ومن فر منا فهو ضال، ومن قتل منا فهو شهيد والنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) زعيمه، إذ حمل علينا مائة صنديد، تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون، فأزعجونا عن طحونتنا(2)، فرأيت علياً كالليث يتقي الذر [الدر] وإذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به في وجوهنا، ثم قال: «شاهت الوجوه، وقطت وبطت ولطت، إلى أين تفرون، إلى النار» فلم نرجع، ثم كر علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت، فقال: «بايعتم ثم نكثتم، فو اللّه لأنتم أولى بالقتل ممن قتل»، فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً، أو كالقدحين المملوين دماً، فما ظننت إلّا ويأتي علينا كلنا، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي، فقلت: يا أبا الحسن، اللّه اللّه، فإن العرب تكر وتفر، وإن الكرة تنفي الفرة، فكأنه(عليه السلام) استحيا فولى بوجهه عني، فما زلت أسكن روعة فؤادي، فو اللّه ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة. ولم يبق مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلّا أبو دجانة الأنصاري، وسماك بن خرشة، وأمير المؤمنين(عليه السلام). فكلما حملت طائفة على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استقبلهم أمير المؤمنين(عليه السلام) فيدفعهم عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويقتلهم حتى انقطع سيفه.

ص: 474


1- الهِزْبَر: الأسد.
2- الطَّحون والطّحانة: الكتيبة العظيمة.

وبقيت مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نسيبة بنت كعب المازنية، وكانت تخرج مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غزواته تداوي الجرحى، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع،فحملت عليه فقالت: يا بني، إلى أين تفر عن اللّه وعن رسوله؟ فردته فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بارك اللّه عليكِ يا نسيبة». وكانت تقي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بصدرها وثدييها ويديها حتى أصابتها جراحات كثيرة.

وحمل ابن قميتة [قمية] على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: أروني محمداً لا نجوت إن نجا محمد. فضربه على حبل عاتقه، ونادى: قتلت محمداً واللات والعزى. ونظر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة، فناداه: «يا صاحب الترس، ألق ترسك ومر إلى النار» فرمى بترسه، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا نسيبة، خذي الترس» فأخذت الترس وكانت تقاتل المشركين، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان».

فلما انقطع سيف أمير المؤمنين(عليه السلام) جاء إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «يا رسول اللّه، إن الرجل يقاتل بالسلاح وقد انقطع سيفي». فدفع إليه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيفه ذا الفقار، فقال: «قاتل بهذا»، ولم يكن يحمل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أحد إلّا يستقبله أمير المؤمنين(عليه السلام)، فإذا رأوه رجعوا، فانحاز رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ناحية أحد، فوقف وكان القتال من وجه واحد وقد انهزم أصحابه، فلم يزل أمير المؤمنين(عليه السلام) يقاتلهم حتى أصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة فتحاموه، وسمعوا منادياً ينادي من السماء: «لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا علي».

فنزل جبرئيل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «هذه واللّه المواساة يا محمد»، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لأني منه وهو مني»، وقال جبرئيل: «وأنا منكما».

ص: 475

مقتل حمزة(عليه السلام)

وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر، فكلما انهزم رجل من قريش رفعت إليه ميلاً ومكحلة، وقالت: إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا. وكان حمزة بن عبدالمطلب يحمل على القوم، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له واحد، وكانت هند بنت عتبة قد أعطت وحشياً عهداً: لئن قتلت محمداً أو علياً أو حمزة لأعطيتك رضاك، وكان وحشي عبداً لجبير بن مطعم حبشياً، فقال وحشي: أما محمد فلا أقدر عليه، وأما علي فرأيته رجلاً حذراً كثير الالتفات فلم أطمع فيه. قال: فكمنت لحمزة فرأيته يهد الناس هداً، فمر بي فوطئ على جرف نهر فسقط، فأخذت حربتي فهززتها، ورميته فوقعت في خاصرته وخرجت من مثانته مغمسة بالدم فسقط. فأتيته فشققت بطنه وأخذت كبده، وأتيت بها إلى هند فقلت لها: هذه كبد حمزة، فأخذتها في فيها فلاكتها، فجعلها اللّه في فيها مثل الداغصة(1)، فلفظتها ورمت بها، فبعث اللّه ملكاً فحملها وردها إلى موضعها، فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يأبى اللّه أن يدخل شيئاً من بدن حمزة النار، فجاءت إليه هند ... وقطعت أذنيه، وجعلتهما خرصين(2) وشدتهما في عنقها، وقطعت يديه ورجليه».

وتراجعت الناس فصارت قريش على الجبل، فقال أبو سفيان وهو على الجبل: أعلُ هُبَل، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام) قل له: «اللّه أعلى وأجل». فقال: يا علي، إنه قد أنعم علينا، فقال علي(عليه السلام): «بل اللّه أنعم علينا». ثم قال أبو سفيان: يا علي، أسألك باللات والعزى، هل قُتل محمد؟

فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): «لعنك اللّه ولعن اللّه اللات والعزى معك، واللّه

ص: 476


1- الداغِصةُ: عظم مدوَّر في الركبة.
2- الخُرصان - تثنية الخرص كفلس - حلقة الذهب أو الفضة، أو الخِرص ككفل: وهو الجِرَاب.

ما قُتل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يسمع كلامك». فقال: أنت أصدق، لعن اللّه ابن قميئة، زعم أنه قَتل محمداً(1).

وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر(عليه السلام) في قوله: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}(2)، «فإن المؤمنين لما أخبرهم اللّه بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر ومنازلهم من الجنة، رغبوا في ذلك فقالوا: اللّهم أرنا القتال نستشهد فيه، فأراهم اللّه إياه في يوم أحد، فلم يثبتوا إلّا من شاء اللّه منهم، فذلك قوله: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ}».

وأما قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ}(3)، فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما خرج يوم أحد وعهد العاهد به على تلك الحال، فجعل الرجل يقول لمن لقيه: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قُتل، النجاء. فلما رجعوا إلى المدينة أنزل اللّه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى قوله {انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ} يقول: إلى الكفر.

قال: وتراجع أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المجروحون وغيرهم، فأقبلوا يعتذرون إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فأحب اللّه أن يعرف رسوله من الصادق منهم ومن الكاذب، فأنزل اللّه عليهم النعاس في تلك الحالة حتى كانوا يسقطون إلى الأرض، وكان المنافقون الذين يكذبون لا يستقرون قد طارت عقولهم، وهم يتكلمون بكلام لا يفهم عنهم. فأنزل اللّه {نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ} يعني: المؤمنين، {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٖ}

ص: 477


1- تفسير القمي 1: 110.
2- سورة آل عمران، الآية: 143.
3- سورة آل عمران، الآية: 144.

قال اللّه لمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا} يقولون: لو كنا في بيوتنا ما أصابنا القتل، قال له: {لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِيصُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(1) فأخبر اللّه رسوله ما في قلوب القوم، ومن كان منهم مؤمناً، ومن كان منهم منافقاً كاذباً بالنعاس، فأنزل اللّه عليه {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}(2) يعني: المنافق الكاذب من المؤمن الصادق بالنعاس الذي ميز بينهم. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَٰنُ} أي: خدعهم حتى طلبوا الغنيمة {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} قال: بذنوبهم {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ}(3)، ثم قال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني: عبد اللّه بن أبي وأصحابه الذين قعدوا عن الحرب، {وَقَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِۦ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(4)، ثم قال لنبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} أي: انهزموا ولم يقيموا معك، ثم قال تأديباً لرسوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِۦ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(5).

ص: 478


1- سورة آل عمران، الآية: 154.
2- سورة آل عمران، الآية: 179.
3- سورة آل عمران، الآية: 155.
4- سورة آل عمران، الآية: 156.
5- سورة آل عمران، الآية: 159-160.

فلما سكن القتال قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من له علم بسعد بن الربيع؟».

فقال رجل: أنا أطلبه، فأشار رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى موضع فقال: «اطلبه هناك، فإني قد رأيته في ذلك الموضع قد شرعت حوله اثنا عشر رمحاً».

قال: فأتيت ذلك الموضع، فإذا هو صريع بين القتلى، فقلت: يا سعد، فلميجبني ثم قلت: يا سعد، فلم يجبني، فقلت: يا سعد إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد سأل عنك، فرفع رأسه، فانتعش كما ينتعش الفرخ، ثم قال: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لحي؟ قلت: إي واللّه، إنه لحي، وقد أخبرني أنه رأى حولك اثني عشر رمحاً. فقال: الحمد للّه صدق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لقد طعنت اثنتي عشرة طعنة كلها قد جأفتني(1)، أبلغ قومي الأنصار السلام وقل لهم: واللّه، ما لكم عند اللّه عذر أن تشوك رسول اللّه شوكة وفيكم عين تطرف، ثم تنفس، فخرج منه مثل دم الجزور، وقد كان اختفى في جوفه، وقضى نحبه(رحمه اللّه).

ثم جئت إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبرته، فقال: «رحم اللّه سعداً، نصرنا حياً وأوصى بنا ميتاً».

ثم قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من له علم بعمي حمزة؟».

فقال الحرث بن سمية: أنا أعرف موضعه. فجاء حتى وقف على حمزة، فكره أن يرجع إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيخبره، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام): «يا علي، اطلب عمك». فجاء علي(عليه السلام) فوقف على حمزة، فكره أن يرجع إليه، فجاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى وقف عليه، فلما رأى ما فُعل به بكى، ثم قال: «واللّه ما وقفت موقفاً قط أغيظ عليَّ من هذا المكان، لئن أمكنني اللّه من قريش لأمثلن بسبعين رجلاً منهم». فنزل عليه جبرئيل(عليه السلام) فقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا

ص: 479


1- جأفه: أي صرعه.

عُوقِبْتُم بِهِۦ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّٰبِرِينَ}(1)، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بل أصبر».

فألقى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على حمزة بردة كانت عليه، فكانت إذا مدها على رأسه بدت رجلاه، وإذا مدها على رجليه بدا رأسه، فمدها على رأسه وألقى على رجليهالحشيش. وأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالقتلى فجمعوا، فصلى عليهم ودفنهم في مضاجعهم، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة.

قال: وصاح إبليس لعنه اللّه بالمدينة: قُتل محمد، فلم يبق أحد من نساء المهاجرين والأنصار إلّا خرجن، وخرجت فاطمة بنت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تعدو على قدميها، حتى وافت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقعدت بين يديه، فكان إذا بكى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكت لبكائه، وإذا انتحب انتحبت.

ونادى أبو سفيان: موعدنا وموعدكم في عام قابل، فتقبل؟

فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قل: نعم».

قال: وتآمرت قريش على أن يرجعوا على المدينة، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من رجل يأتينا بخبر القوم؟». فلم يجبه أحد، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أنا آتيك بخبرهم»، قال: «اذهب، فإن كانوا ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فهم يريدون المدينة، واللّه، لئن أرادوا المدينة لا يأذن اللّه فيهم، وإن كانوا ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فإنهم يريدون مكة».

فمضى أمير المؤمنين(عليه السلام) على ما به من الألم والجراحات حتى كان قريباً من القوم، فرآهم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل، فرجع أمير المؤمنين إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أرادوا مكة».

فلما دخل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة نزل عليه جبرئيل(عليه السلام) فقال: «يا محمد، إن

ص: 480


1- سورة النحل، الآية: 126.

اللّه يأمرك أن تخرج في أثر القوم، ولا يخرج معك إلّا من به جراحة، فأمر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منادياً ينادي: يا معشر المهاجرين والأنصار، من كانت به جراحة فليخرج، ومن لم يكن به جراحة فليقم. فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها، فأنزل اللّه على نبيه: {وَلَا تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَوَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}(2)، فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح، فلما بلغ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بحمراء الأسد، وقريش قد نزلت الروحاء، قال عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وعمرو بن عاص وخالد بن الوليد: نرجع فنغير على المدينة؛ فقد قتلنا سراتهم وكبشهم، يعني: حمزة. فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر؟

فقال: تركت محمداً وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جد الطلب.

فقال أبو سفيان: هذا النكد والبغي، قد ظفرنا بالقوم وبغينا، واللّه ما أفلح قوم قط بغوا، فوافاهم نعيم بن مسعود الأشجعي، فقال أبو سفيان: أين تريد؟ قال: المدينة لأمتار لأهلي طعاماً. قال: هل لك أن تمر بحمراء الأسد، وتلقى أصحاب محمد وتعلمهم: أن خلفاءنا وموالينا قد وافونا من الأحابيش، حتى يرجعوا عنا، ولك عندي عشرة قلائص أملؤها تمراً وزبيباً؟ قال: نعم. فوافى من غد ذلك اليوم حمراء الأسد، فقال لأصحاب محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أين تريدون؟ قالوا: قريش. قال: ارجعوا؛ فإن قريشاً قد أجنحت إليهم خلفاؤهم، ومن كان تخلف عنهم، وما أظن

ص: 481


1- سورة النساء، الآية: 104.
2- سورة آل عمران، الآية: 140.

إلّا وأوائل القوم قد طلعوا عليكم الساعة. فقالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(1)، ونزل جبرئيل على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «ارجع يا محمد؛ فإن اللّه قد أرهب قريشاً، ومروا لا يلوون على شي ء».

ورجع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة، وأنزل اللّه: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}(2) يعني: نعيم بن مسعود، فهذا اللفظ عام ومعناه خاص {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَٰنَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}(3)(4).

روى عكرمة قال: سمعت علياً(عليه السلام) يقول: «لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره، فقلت: ما كان رسول اللّه ليفر، وما رأيته في القتلى، فأظنه رفع من بيننا، فكسرت جفن سيفي، وقلت في نفسي: لأقاتلن به عنه حتى أقتل، وحملت على القوم فأفرجوا، فإذا أنا برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد وقع على الأرض مغشياً عليه، فقمت على رأسه فنظر إليَّ، فقال: ما صنع الناس يا علي؟

فقلت: كفروا يا رسول اللّه، وولوا وأسلموك.

فنظر إلى كتيبة قد أقبلت فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): رد يا علي عني هذه الكتيبة، فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتى ولوا الأدبار. فقال لي النبي: أ ما تسمع مديحك في السماء إن ملكاً يقال له: رضوان، ينادي: لا سيف إلّا ذو الفقار ولا

ص: 482


1- سورة آل عمران، الآية: 173.
2- سورة آل عمران، الآية: 172.
3- سورة آل عمران، الآية: 173- 174.
4- تفسير القمي 1: 119.

فتى إلّا علي، فبكيت سروراً وحمدت اللّه على نعمه».

وتراجع المنهزمون من المسلمين إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وانصرف المشركون إلى مكة، وانصرف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة، فاستقبلت فاطمة(عليها السلام) ومعها إناء فيه ماء فغسلت به وجهه، ولحقه أمير المؤمنين(عليه السلام) ومعه ذو الفقار، وقد خضب الدم يده إلى كتفه،فقال لفاطمة(عليها السلام): «خذي هذا السيف قد صدقني اليوم.

وقال:

أ فاطم هاك السيف غير ذميم *** فلست برعديد ولا بمليم

لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد *** وطاعة رب بالعباد عليم»

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خذيه يا فاطمة فقد أدى بعلك ما عليه، وقد قتل اللّه بسيفه صناديد قريش»(1).

تراجع الكفار إلى مكة

نعم، إن جبرئيل(عليه السلام) - بعد معركة أحد - قد نزل يخبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن أبا سفيان وأصحابه يريدون القيام بهجوم على المسلمين مرة ثانية للقضاء عليهم، فقام الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بجمع المسلمين، وباغتهم بأن أظهر أنه يريد الهجوم عليهم وقتالهم؛ وقد سبب ذلك تراجع الكفار إلى مكة.

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اتبع في تاريخ الحروب أسلوباً وتكتيكاً فريداً؛ فعلى الرغم من أن المسلمين كانوا لا يمتلكون القوة والمئونة الكافية من الماء والغذاء للاستعداد لمواجهة العدو في معركة ثانية، وهذا مما يبطئ المقاتل ويقعده عن مواجهة أعدائه، نرى الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أمر من بقي من المسلمين، وفيهم الجرحى بالذهاب نحو العدو الذي كان يستعد للهجوم عليهم مرة ثانية، وكان

ص: 483


1- إعلام الورى: 193.

هدف الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هذا الإجراء إدخال الخوف والرعب في قلوب المشركين، والإشارة إليهم بأن لا تظنوا بأننا نخاف منكم بسبب الإصابات والجراحات التي نالت المسلمين، فنحن اليوم نرسل إليكم هؤلاء المجروحين، وهؤلاء سوف يوقعون بكم الهزيمة والانكسار وهم جرحى، فكيف بكم إن واجهكم الجيشالاحتياطي الذي لم ير تعباً ولا أذى؛ وهذه هي مسألة تكوين الخط الثاني للجيش، ومن فوائده إلقاء الرعب في قلوب المشركين والمنافقين.

ولما أمر الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الخط الأول وهم الجرحى بالذهاب إلى القتال، ترددوا قليلاً في بادئ الأمر، وأخذ يسأل بعضه بعضاً: هل نملك الاستعداد الكافي لذلك، جراحنا لا زالت تؤلمنا؟ ولا ريب أن وسائل التضميد والمداواة كانت آنذاك بسيطة وقليلة؛ إذ كانوا يحرقون جريد النخل ويضعون رماده على الجرح لأجل إبرائه(1).

فعندما ظهر التردد في المسلمين نزلت الآية الكريمة: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}(2)، فإن كان عذركم أيها المسلمون هو إصابتكم بالجروح والأذى، فقد مس أعداءكم القرح الكثير أيضاً، بالإضافة إلى أنهم قطعوا مسافات طويلة تقارب ال- (500) كيلومتر بحساب اليوم، لكون هذه المعركة - معركة أحد - كانت بالقرب من المدينة المنورة، والمسافة بين مكة والمدينة ما يقارب (500) كيلومتر.

هذا، بغض النظر عمّا يرافق ذلك الطريق الشاق من حرارة الشمس القوية والجوع والعطش، كل ذلك قد عاناه الكفار من أجل الوصول إلى ساحة المعركة؛

ص: 484


1- انظر بحار الأنوار 20: 144.
2- سورة آل عمران، الآية: 140.

ولذا نرى أن الخطاب كان موجهاً إلى تلك الفئة من المسلمين، حيث يقول اللّه تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ}(1) ولم يقل إن يصبكم، فهنا إشارة بلاغية رائعة؛ وهي أن المس لا يصيب إلّا الجسد، ومعناه: إن قلوبكم سالمة، وأن إيمانكم لا يزالفي قوته وصلابته، فليس من المهم جداً إصابة الجسد ببعض الجروح، بل المهم هو بقاء المحتوى الروحي والإيماني سالماً لم يمسه شيء(2).

فأنتم أيها المجاهدون، قلوبكم صالحة وما تزال الروح الإيمانية تعيش في داخلها، وشخصياتكم ما تزال شامخة وصلبة، والسنة الإلهية هي أن يجعل اللّه قدرات الدنيا عند من هو أكثر عملاً وسعياً، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في آيات كثيرة، حيث قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}(3)، وقال سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(4)، وقال سبحانه: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(5).

من هنا يلزم أن لا يتوقع الإنسان أن تكون قدرات الدنيا بيده، وهو لم يقدم عملاً لذلك، فكل من يسعى ويبذل الجهود فإن النصر والفلاح سوف يكون من نصيبه، وإن تقاعس عن الذهاب إلى الحرب وتخاذل في صد العدو فإن الهزيمة والانكسار سوف تكون من نصيبه والنصر لأعدائه.

من أعان ظالماً سلطه اللّه عليه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أعان ظالماً سلطه اللّه عليه»(6).

ص: 485


1- سورة آل عمران، الآية: 140.
2- أما التعبير بالنسبة إلى المشركين فهو من باب المماثلة والتشاكل الذي عبر به بالنسبة على المسلمين.
3- سورة النجم، الآية: 39.
4- سورة آل عمران، الآية: 140.
5- سورة الإسراء، الآية: 20.
6- الخرائج والجرائح 3: 1058.

ذكر في الإذاعات العالمية: إن الشاه المخلوع(1) ذهب إلى أنور السادات حاكم مصر، ظاناً بأنه سيرجع إلى عرشه ومنصبه، ولكنه واهم في ذلك؛ فكما أنالإنكليز قد قتلوا أباه من قبل فإنهم سيقتلونه أيضاً(2).

وقصة قتل أبيه رضا خان(3) معروفة، حيث إن الإنكليز في بداية الأمر عزلوه من السلطة لكونهم هم الذين جاءوا به إلى الحكم. وإني أتذكر يوم عزله حيث كان ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، فعزلوه عن منصبه وأرسلوه إلى جزيرة موريس(4)، وكان ذلك جزاءً منهم لخدماته الكثيرة لهم، والتي لا تعد ولا تحصى، ابتداءً من جعل ثروات إيران بين أيديهم، ومحاربة الإسلام وتخريب المساجد وتشجيعه النساء على خلع الحجاب، بل فرضه عليهن ذلك، وانتهاءً بمحاربة العلماء الأعلام وزجهم في السجون وممارسة أبشع أنواع التعذيب بحقهم، وإدخال الكثير من العملاء والجواسيس الأجانب وتوطينهم في البلاد، بالإضافة إلى الخدمات الأخرى غير ذلك، ولكن كانت نتيجتها أن يموت شر ميتة وفي أسوأ مكان! حقاً إن: «من أعان ظالماً سلطه اللّه عليه».

وهذه سنة الحياة، فإذا رأيت مثلاً عقرباً يتوجه نحو إنسان، فلا بد أن تسعى لقتل ذلك العقرب، فإذا لم تتحرك لإنقاذ ذلك الإنسان وقتل العقرب، فسوف يأتي عقرب آخر ويقتلك.

يذكر أنه بسبب رداءة الهواء وتلوث المياه، تمرض رضا خان مرضاً شديداً، وطلب من أسياده الإنكليز أن يهيئوا له طبيباً لمعالجته، لكنهم لم يوافقوا على

ص: 486


1- محمد رضا بهلوي إمبراطور إيران السابق.
2- وهكذا كان حيث قتلوه تحت غطاء عملية جراحية، ولم يقدروا له ما قدم لهم من خدمات طيلة حكمه.
3- رضا بهلوي (1878-1944م) شاه إيران.
4- جزيرة تقع في المحيط الهندي شرقي مدغشقر.

طلبه بل تركوه منبوذاً مطروداً، حتى جاء أمر من رئيس وزراء بريطانيا (تشرشل)(1) إلى ممثله في الجزيرة بأن يرسلوا إليه طبيباً ليزرقه إبرة الموت، وذلك بعدماترجى ولده من الحكومة البريطانية بأن يرفقوا به ويرسلوه إلى موسكو ليقضي آخر أيام حياته هناك، ولكن تشرشل لم يوافق على ذلك، بل أرسل له الطبيب لينهي حياته تلك الحياة التي جعلها في خدمة من قتله، وتناقلت الصحف العالمية ذلك الخبر.

وهذا العمل يفعلونه مع أي عميل لهم بعد أن تنفذ طاقته ويعد غير ذي فائدة لهم؛ لأن غايتهم النهب والاستغلال والتوسع.

ثم إن الحكومات الاستعمارية متشابهة في مكرها وفسادها، وظلمها وسلبها لحقوق الشعوب، مهما تبدلت الألوان والشخصيات والأسماء، بل هم حقيقة واحدة بشخصيات متعددة.

فلا تتصور أن كذب ومكر الأعداء يقل شيئاً بتبدّل الأشخاص والمناصب، فإن الكلام كثيراً ما يختلف عن واقع الأمر وحقيقته، والسياسة الاستعمارية الظالمة التي تنتهجها تلك الأنظمة الفاسدة هي المؤثرة في الواقع.

فترى من أعمالهم الإجرامية أنهم كانوا يقتلون مناوئيهم في (بنما) - مثلاً - وذلك بأن يقولوا لطبيب ما: اذهب إلى هذا الشخص وأعطه الدواء الفلاني، حيث يتصور فيه علاجه، وإذا فيه هلاكه، ثم ينشر خبراً بأنه أصيب بمرض السرطان وتوفي بسببه.

دروس وعبر

اليوم، أمامنا عدو شرس الطباع، وعلينا أن نكون واعين حذرين، وأن نعرف

ص: 487


1- ونستون تشرشل (1874- 1965م) السير ونستون ليونارد سبنسر، سياسي ورجل دولة.

الأفضل للمواجهة، وفي مثل زماننا تكون المواجهة عبر الطرق السلمية وتثقيف الشعب وما أشبه.

إن العدو الذي نواجهه اليوم، هو الاستعمار.إنها الدول الاستعمارية التي تريد أن تقضي على كل أثر للإسلام، بل تريد الوقوع بنا والنيل من كرامتنا وديننا، فعلينا أن نعرف عدونا بشكل كامل، وأن نقف أمام مؤامراته وحيله بكل قوة وصلابة بالطرق السلمية المشروعة؛ إذ أن لهؤلاء أياد خبيثة يرسلونها إلى كل المناطق لينشروا أفكارهم ومخططاتهم الخطيرة.

مما يلزم على جميع المسلمين أن يعرفوا ما يدور حولهم، وأن يكونوا عارفين بزمانهم، فإن الجاهل بزمانه تهجم عليه اللوابس على عكس العالم بزمانه كما في الحديث الشريف(1).

ومن الاستطراد: أن نقول: إنه يلزم على غير العرب من المسلمين تعلم اللغة العربية بإتقان، وعليهم أن يسعوا في ذلك عبر مناهج في المدارس وغيرها؛ لأن حولنا عشرات بل المئات من الإذاعات والصحف العربية وغيرها من وسائل الإعلام، فإن في هذه الصحف والإذاعات والمجلات الكثير من المطالب والمواضيع المهمة، التي يلزم على المسلم أن يعرفها ويطلع عليها، سواء عبر الإذاعة أو عن طريق الصحف والمجلات، فيلزم على غير العرب من المسلمين أن يهتموا بتعلم اللغة العربية، قراءةً وكتابةً وتلفظاً وبإتقان. وأن يجعلوا ذلك جزءاً من اهتماماتهم اليومية؛ فإنهم إذا تعلموا اللغة العربية فسوف يفهمون القرآن بسهولة، وهكذا (نهج البلاغة) للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وسائر الروايات الشريفة.

وهكذا سوف يدركون ما يدور حولهم وهذا مما يوجب الوعي السياسي

ص: 488


1- انظر الكافي 1: 27. وفيه: «والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس».

للإنسان.

بالإضافة إلى ذلك كله علينا أن نأخذ حذرنا من أعدائنا الذين يتسللونوينفذون إلى مجتمعاتنا في كل مجال من مجالات الحياة، فترى اليوم(1) في أفغانستان التي تخضع للقوات السوفيتية المحتلة، الكثير من الأفغانيين يُقتلون في المناطق المحررة من قبل أيادي الاحتلال، فيكف استطاع هؤلاء الروس أن يتسللوا أو يرسلوا عملاءهم إلى المناطق المحررة؟

وقبل مدة جاءني رجل من الاتحاد السوفيتي عبر الحدود مع إيران وبكل صعوبة، فقال: إن هناك الكثير من عملاء الروس يدخلون إيران عبر الحدود دون علم أحد، ويحملون معهم الأسلحة، ويأتون بالإعلانات والنشرات التبليغية أيضاً، ولكن في المقابل حدودهم مغلقة أمامنا، فلا نستطيع الذهاب إلى طرفهم؛ لكونهم قد وضعوا مراقبة مكثفة على الحدود مع إيران ومع كل من يجاورهم، عبر نصب الأسلاك الشائكة، وجدار حديدي وأبراج للمراقبة، وعدد كبير من رجال الحدود أيضاً. ولقد شيّد ستالين(2) هذا الجدار المذكور على طول الحدود السوفيتية مع البلدان الأخرى؛ لكي لا يدخل أحد في أراضيهم، ولا يستطيع آخر الهروب والفرار منهم، فإنه إذا دخل شخص في بلادهم وأراضيهم سوف لا يرى إلّا الجحيم والاختناق وهذا يوجب تشويه سمعتهم، وإذا خرج شخص منهم سوف يرى - ولو نسبياً - الحرية والنور والإنسانية والكرامة الموجودة للإنسان خارج بلاده، ويعلم بأنه في بلاده لم يمتلك حتى الرغيف ولا أبسط شيء من الحرية؛ ولذلك لو دخل شخص في بلادهم يجعلونه تحت المراقبة الأمنية

ص: 489


1- يعود تاريخ كتابة هذه الأسطر إلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفيتي.
2- جوزيف ستالين (1879- 1953م) سياسي روسي.

المشددة، حتى أن البعض عندما ينزل في فنادقهم فإنهم يراقبونه عبر الوسائل الخاصة لاستراق السمع وما أشبه في أموره كلها.

فنحن المسلمين يجب علينا أن نأخذ الحذر من أعدائنا، وأن نحفظ بلداننا الإسلامية من كيد الأعداء وتسللهم، ولا بد أن نضعهم تحت المراقبة كما هم يضعوننا تحت المراقبة الشديدة، إن الأعداء يحيطون بنا من كل جانب ومكان، فهذا الطاغية صدام وحزبه الكافر، وغيره من عملاء الإمبريالية العالمية قد سيطروا على الشعوب المسلمة بإسناد من الاستعمار.

وكما هو المعروف فإن عفلق، وبيغن رئيس الحكومة الإسرائيلية، كانا زميلين في صف دراسي واحد وذلك في فرنسا، وعفلق هو الذي أختار أحمد حسن البكر لرئاسة الحكومة، فأحمد حسن البكر وليد الإسرائيليين وأصله يهودي؛ اسم جده الحقيقي هو (ساسون حسقيل)، وأظهر الإسلام قبل سنين، ولما أسلم وضعوا له أسم (البكر). ولما جاءه ولد سماه حسن، وسمي ابن حسن (أحمد).

وبعده جاءوا بعميل آخر اسمه (صدام) الذي كان أبوه موظفاً في السفارة البريطانية ببغداد، وبعض البغداديين يعرفون ذلك، وربما لا يعرف عن نسبه وأصله شيء يذكر، ولكن المعروف ارتباط أبيه بالسفارة البريطانية.

لهذا اتفقت إنكلترا وإسرائيل على أن يأتوا بصدام على رأس الحكم، فالحكومة البعثية في العراق وليدة الغرب والصهيونية العالمية.

الاستعمار في بلاد الإسلام

اشارة

قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}(1)، والنَجَس كما قال أهل اللغة: أشد من (النَّجِس) بالكسر، فإن (النَجِس) بالكسر هو: الخبثَ الذي قد يطرأ على

ص: 490


1- سورة التوبة، الآية: 28.

الإنسان، ويمكن إزالته بالماء أو غيره.

بينما (النَجَس) بالفتح لا يمكن تطهيره إلّا بقلبه إلى حالة أخرى.فإن النجاسة الموجودة في الكافر نجاسة ذاتية وليست عرضية، ولا يمكن تطهيرها إلّا بقلبه إلى الإيمان، وذلك كالغدة أو الميكروب السرطاني إذا دخل عضواً في جسد الإنسان، فإنه سوف يشل حركته كاملاً.

وكذلك هي الجراثيم الاستعمارية، فإنها تفسد جسداً كاملاً من المسلمين عندما تدخل فيهم، فنرى أن أحمد حسن البكر كيف ينشر الفساد والقتل في أمة كاملة، وهكذا صدام الطاغوت.

لقد جاؤوا بشعارات براقة مثل: (نحن حماة الفلاحين)، (نحن إلى جانب العمال والكادحين)، (جئنا لإنقاذ الفقراء)، وإلى غير ذلك من الشعارات الفارغة، ولكن الواقع العلمي هو تدمير الأمة بكاملها.

قصة من الواقع

وبالمناسبة نذكر قصة، تبيّن كذب تلك الشعارات والادعاءات التي يطلقها من يدّعون أنهم حماة الفلاحين والعمال:

كان أحد العلماء الفضلاء يأتي إلى كربلاء المقدسة من مدينة طهران، ويرتقي المنبر إذ كان خطيباً رائعاً إلى جانب تفوقه العلمي، وفي كربلاء كانت لقاءاتي به غير قليلة لما توطد بيننا من العلاقة المتينة والود المتبادل.

في أحد الأيام قال لي: كان ابن أخي شيوعياً يحب الماركسية والفكر الشرقي، فكان يأتي إلى بيتنا ويجلس معنا، فنتحاور طويلاً في الفكر الشيوعي، وكان يقول: الطريق الوحيد للنجاة من الاستعمار البريطاني الخبيث، هو التمسك بالفكر الشيوعي والسعي إلى تطبيقه.

فالعامل والفلاح والفقير هو كل شيء في الفكر الشيوعي، وكان ابن أخي طالباً

ص: 491

جامعياً، وكانت مباحثاتنا تدوم طويلاً، حتى أننا في أحد الأيام كنا جالسين على مائدة الطعام، وكان يصر على كلامه، وفجأة تأثر نفسياً وثارت أعصابه، فأخذيشتمنا ويقول: أنتم طلبة رجعيون، ولا تفهمون شيئاً أبداً، ثم خرج من البيت.

ومن قبل كان يقول: إن عدد المسئولين لدينا ثلاثة، وكان يكثر من مدحهم، ناعتاً إياهم بأنهم هم الذين يفهمون الحياة جيداً، وأنهم أصحاب العلم والمعرفة، وأنهم تقدميون ومتحضرون. وعلى كل حال، كان كلامه ككلام سائر المغرورين المخدوعين من الشيوعية الذين يتلقون أفكار الشرق.

وفي أحد الأيام وبعد الظهر بالضبط، كنا نائمين وإذا بالباب يُطرق بشدة، أسرعت إلى الباب وقلت في نفسي: لعله شخص جاء للكيد بنا، ولكن ولدي فتح الباب، فإذا بابن أخي لدى الباب، وقد كان مضطرباً ومرهقاً جداً، ودقات قلبه تدق بسرعة، والاحمرار بادٍ في وجهه، وقد انتفخت أوداجه!

دخل في البيت وجلس في الغرفة، وكلما كنا نريد التحدث معه لم يقو على ذلك، إذ لم يستطع الكلام أبداً.

قلنا له: ما الخبر؟ هل ضربك أحد؟ هل أصبت برصاصة في جسدك؟

ولكنه لم يرد جواباً على إحدى الأسئلة التي طرحناها.

وبعد استراحة دامت نصف ساعة، قال: يا عم، إني أعتذر إليك كثيراً، وأطلب منك أن تسامحني على الكلام السيئ الذي صدر مني؛ يا عم كلامك الذي كنت تقوله لي، والنصائح التي كنت تبديها كلها صحيحة.

فقلت له: وكيف!

قال: اليوم وعند الصباح كانت عندنا جلسة، وكان الحاضرون فيها هم النواة الأساسية للحزب الشيوعي في إيران، وكان الحديث في المصير النهائي لأفراد الحزب في إيران، بأنه إذا واجهتهم الحكومة بالقوة والسلاح، كيف يقفون أمامها،

ص: 492

وفرزت الآراء من المجتمعين وكانت الآراء ما بين 10- 12 رأياً.

وقد قررت الهيئة المركزية للحزب أن نخرج إلى الشوارع، ونقاتل حتى آخرنفس؛ لأننا أصحاب مبادئ، ولا نتنازل عن عقيدتنا حتى الموت. ثم صار الكلام الأخير للمسئولين الأساسيين (القيادة المركزية للحزب) وكانوا ثلاثة أشخاص، أحدهم كان سكرتير الحزب الشيوعي، والآخر أمين الصندوق، والثالث كان المسئول الرئيسي للتنظيم، هؤلاء الثلاثة قالوا: إذا وصلت المرحلة إلى الشدة والخطورة على أفراد حزبنا، فعلينا في ذلك الوقت أن نلجأ إلى السفارة البريطانية، ونطلب منها حق اللجوء السياسي!

فقلت لهم: إن السفارة البريطانية عدوة لنا. فقال المسئول الأول: أبداً، ليس هناك عداوة بيننا وبين السفارة الإنجليزية، بل إن سياستها في هذه الحالة تقتضي مهادنتنا واحتضاننا.

فخرجنا من البيت الذي كنا مجتمعين فيه لنذهب إلى السفارة الإنجليزية، وفي الطريق عرفت بأن رئيس الحزب له ارتباطات وثيقة بالسفارة الإنجليزية، لا كما كنت أظن في السابق بأن المسئولين حماة الفلاحين والعمال والكادحين، وأدركت بأن خلاص شعبنا ليس بيد هؤلاء المرتبطين بالاستعمار الغربي، بل أن خلاصنا هو في الرجوع إلى الإسلام والتمسك به كاملاً. فانفصلت عنهم وتركتهم لشأنهم، وجئت مسرعاً إليكم معترفاً بخطئي والاعتذار منكم.

التوعية والأسوة

اشارة

إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة للبشرية في جميع مجالات الحياة، لا في ما يرتبط بالحرب ومواجهة الأعداء، بل حتى في صغريات الحياة الشخصية والأسرية والاجتماعية وغيرها.

ص: 493

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خمس لا أدعهن حتى الممات؛ الأكل على الحضيض معالعبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً(1)، وحلب العنز بيدي ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي»(2).

وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يرقّع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبيد، ويجلس على الأرض، ويركب الحمار ويردف، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله، ويصافح الغني والفقير، ولا ينزع يده من يد أحد حتى ينزعها، ويسلم على من استقبله من كبير وصغير وغني وفقير، ولا يحقر ما دُعي إليه ولو إلى حشف التمرة، وكان خفيف المؤنة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بشاشاً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير مذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم، ولم يتجشأ من شبع قط، ولم يمد يده إلى طمع، وكفاه مدحاً قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(3).

الشباب والتأسي

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، مهما ألقي فيها من كل شيء قبلته»(4)، يلزم على الشباب أن يدرسوا تاريخ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدقة فائقة ليتأسوا به، فإنه خير أسوة لهم، ولكن بعض الشباب المسلم اليوم على حالة من الغرور والانخداع، فهم لا يعرفون الحقيقة ولا يعلمون بالأسوة التي ينبغي التأسي بها أبداً، الأمر الذي يحملنا المسؤولية كاملة من أجل توضيح الحقائق

ص: 494


1- الأكاف والوكاف: البردعة، وهي كساء يلقى على ظهر الدابة.
2- الخصال 1: 271.
3- سورة القلم، الآية: 4.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 275.

لهم، وإزالة الشبهات التي أودت بحياة الكثيرين وحطمت شخصياتهم؛ فلذا علينا أنننشر المعارف الإسلامية الصحيحة، المستلهمة من القرآن والسنة المطهرة، المتمثلة بتعاليم ونهج أهل البيت(عليهم السلام)، لغرض توعية أبناء الأمة، ونشر سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وطريقة تعامله مع الناس، وكيف أرسى دعائم الإسلام، ونعرّفهم بمحاسن أخلاقه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وتصرفاته السياسية والاجتماعية؛ ليكون هو أسوتنا وقائدنا الأول في مسيرة هذه الحياة، لا الاستعمار وعملاءهم، ولقد قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(1).

التأسي بالعترة الطاهرة

ومن بعد الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) علينا أن نتأسى بمشاعل الهداية، ومصابيح الدجى الأئمة المطهرين(عليهم السلام)؛ فقد ورد عن أبي جعفر(عليه السلام): «أما إنه ليس عند أحد علم، ولا حق، ولا فتيا، إلّا شيء أخذ عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) وعنا أهل البيت(عليهم السلام)، وما من قضاء يقضى به بحق وصواب إلّا بدء ذلك ومفتاحه وسببه وعلمه من علي(عليه السلام) ومنا، فإذا اختلف عليهم أمرهم قاسوا وعملوا بالرأي، وكان الخطأ من قبلهم إذا قاسوا، وكان الصواب إذا اتبعوا الآثار من قبل علي(عليه السلام)»(2).

التنظيم

ويلزم علينا أن نوجد حالة التنظيم الواقعي والكامل في جميع شؤون الحياة، مستلهماً ذلك عن سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسياسته الناجحة، ومتأسياً به في ذلك.

ص: 495


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- بحار الأنوار 2: 95.

وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى اللّه ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم...»(1).

وهنا تقع المسؤولية على رجل الدين وطلبة العلم - بالدرجة الأولى - في أنيكون المحور الأساسي في إنارة الأفكار والرؤى للآخرين، وبعث الحياة في نفوس الشباب وتوجيههم نحو الوجهة الصحيحة، وأن تكون الحوزة العلمية مركز بعث النور والصلاح والإيمان والتأسي بالرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى كافة شعوب العالم.

وعلينا أن لا نغفل ولا نتكاسل، ولا نشعر بالتعب والأذى في طريق الحق؛ ونتجنب المنى والكسل، فقد ورد عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «تجنبوا المنى؛ فإنها تذهب بهجة ما خولتم، وتستصغرون بها مواهب اللّه تعالى عندكم، وتعقبكم الحسرات في ما وهّمتم به أنفسكم»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إني لأبغض الرجل - أو أبغض للرجل - أن يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل»(3).

كما أن على الإنسان أن يكون صبوراً متحملاً للمشاكل، وأن لا يتصور أنه هو الوحيد الذي يُبتلى، فإن غيره أيضاً يبتلى سواء كان الغير من أهل الحق أو الباطل، يقول اللّه سبحانه وتعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(4).

«الحمد للّه الّذي يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره، الحمد للّه كما يحبّ

ص: 496


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام).
2- الكافي 5: 85.
3- الكافي 5: 85.
4- سورة آل عمران، الآية: 140.

اللّه أن يحمد، الحمد للّه كما هو أهله، اللّهمّ أدخلني في كلّ خيرٍ أدخلت فيه محمّداً وآل محمّدٍ، وأخرجني من كلّ سوءٍ أخرجت منه محمّداً وآل محمّدٍ، وصلّى اللّه على محمّدٍ وآل محمّدٍ»(1).

من هدي القرآن الحكيم

حسن الخلق

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(2).

وقال سبحانه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(4).

معاشرة الناس

قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ}(5).

وقال سبحانه: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(6).

وقال عزّ وجلّ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ

ص: 497


1- الكافي 2: 529.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة الشعراء، الآية: 107- 109.
4- سورة القلم، الآية: 4.
5- سورة النساء، الآية: 36.
6- سورة البقرة، الآية: 83.

بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوٰةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٖ كَالْمُهْلِ يَشْوِيالْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}(2).

العطف على المساكين

قال عزّ وجلّ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}(4).

وقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(5).

العدل بين الناس

قال عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَٰنِ}(6).

وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(7).

ص: 498


1- سورة الزخرف، الآية: 32.
2- سورة الكهف، الآية: 28-29.
3- سورة النساء، الآية: 8.
4- سورة الإسراء، الآية: 26.
5- سورة البقرة، الآية: 83.
6- سورة النحل، الآية: 90.
7- سورة الحديد، الآية: 25.

وقال سبحانه: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}(1).

وقال جلّ وعلا: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

حسن الخلق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(3).وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما أنا عبد آكل بالأرض، وأعقل البعير، وألعق أصابعي، وأجيب دعوة المملوك، فمن يرغب عن سنتي فليس مني»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أنا أديب اللّه وعلي(عليه السلام) أديبي، أمرني ربي بالسخاء والبر، ونهاني عن البخل والجفاء، وما شيء أبغض إلى اللّه عزّ وجلّ من البخل وسوء الخلق»(5).

معاشرة الناس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «رأس العقل بعد الإيمان باللّه التحبب إلى الناس»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم):­ «أجيبوا الداعي، وعودوا المريض، وأقبلوا الهدية، ولا تظلموا المسلمين»(7).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاث يصفين ود المرء لأخيه المسلم: يلقاه بالبشر إذا لقيه،

ص: 499


1- سورة الشورى، الآية: 15.
2- سورة الأنعام، الآية: 152.
3- بحار الأنوار 16: 210.
4- تنبية الخواطر ونزهة النواظر 1: 211.
5- مكارم الأخلاق: 17.
6- روضة الواعظين 1: 3.
7- الأمالي للشيخ الطوسي: 639.

ويوسع له في المجلس إذا جلس إليه، ويدعوه بأحب الأسماء إليه»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أجود الناس كفاً، وأكرمهم عشرة، من خالطه فعرفه أحبه»(2).

العطف على المساكين والفقراء

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نور الحكمة الجوع، والتباعد من اللّه الشبع، والقربة إلىاللّه حب المساكين والدنو منهم»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا ومن استخف بفقير مسلم فقد استخف بحق اللّه، واللّه يستخف به يوم القيامة إلّا أن يتوب»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أكرم فقيراً مسلماً لقي اللّه يوم القيامة وهو عنه راض»(5).

ومن وصية رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر(رحمه اللّه): «عليك بحب المساكين ومجالستهم»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «صل قرابتك وإن قطعوك، وأحب المساكين وأكثر مجالستهم»(7).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من استذل مؤمناً أو حقره لفقره أو قلة ذات يده، شهره اللّه يوم القيامة ثم يفضحه»(8).

ص: 500


1- الكافي 2: 643.
2- مكارم الأخلاق: 17.
3- مكارم الأخلاق: 149.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 429.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 429.
6- معاني الأخبار: 335.
7- الأمالي للشيخ الطوسي: 541.
8- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 33.
العدل بين الناس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «سيد الأعمال: إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الأخ في اللّه، وذكر اللّه عزّ وجلّ على كل حال»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاث خصال من كن فيه استكمل الإيمان: إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإذا غضب لم يخرجه الغضب من الحق، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له»(2).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في وصية له لأمير المؤمنين(عليه السلام): «يا علي، ما كرهته لنفسك فاكره لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك، تكن عادلاً في حكمك، مقسطاً في عدلك، محباً في أهل السماء، مودوداً في صدور أهل الأرض...»(4).

ص: 501


1- الكافي 2: 145.
2- الكافي 2: 239.
3- مشكاة الأنوار: 316.
4- تحف العقول: 14.

الاعتدال

الاعتدال لغة الكَون

اشارة

قال اللّه تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ}(1).

جَرَت السنّة الإلهية على أن يُودَع في هذا العالم مختلف المخلوقات والأحياء، وكلّها خاضعة لنظام تكويني عادل، فلا نجد في أيّ مظهر من مظاهر الكون زيادة تؤدي إلى الاضطراب، ولا نجد نقصاً يؤدي إلى الاختلال، فالكواكب والأجرام منتظمة في حركتها، فلا تسرع في جريانها ولا تميل قيد أنملة عن مسارها، وترى الاعتدال في كميّات الغازات والأشعة المختلفة. وهكذا الحال في عالم الحيوان فالاعتدال والتوازن في أعدادها بما يلائم الصالح العام لهذه الحياة، أو منسوب المياه، أو حركة الأرض، والضغط الجوي، ودرجات الحرارة والبرودة، وإلى آخر ما أودع اللّه تعالى في هذا الكون، فالنظام والعدل والتوازن والاستقرار من المظاهر الضرورية التي لا تنفكّ عن أي مخلوق، وكأن الوجود يحكي بلسان حاله عن حالة الاعتدال التي تحيط به، ويرفض أي افراط أو تفريط في أيّ جانب من جوانبه. فالموجودات كلّها تتمتع بصفة الاعتدال في أصل وجودها، وتحمل في ذاتها هذه الصفة لتكون دليلاً على العادل المطلق، الذي

ص: 502


1- سورة الملك، الآية: 3.

ألْهَم الخلائق أن تتوجه إليه وتشير نحوه بصفاتها الكمالية؛ لأنه صاحب الكمالات المطلقة التي لا حدّ لها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فرض الخالق تعالى على الناس أن يتعاملوا باعتدال تام؛ كما في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَا بَصِيرًا}(1).

فلا إسراف في العطاء، بحيث يصيب الإنسان الفقر والحاجة، ولا أن يكبّل المرء يديه، فيصيبه البخل والطمع، بل أمر بين الأمرين، فلا يفقد الإنسان توازنه الاجتماعي بالإسراف والتبذير والبذخ، ولا أن يصيبه مرض روحي خطير مثل الحرص على المال، فيصبح طمّاعاً جشعاً، بل عليه أن يسلك طريقاً معتدلاً، لكي يحصل على التوازن في حياته، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(2).

وقْفَة

قد يقال: إنّ الأئمة(عليهم السلام) كانوا يعيشون في حالة دون مستوى الاعتدال الطبيعي، في أكلهم وشربهم ولباسهم، فهم(عليهم السلام) لا يأكلون إلّا قليلاً ولا يلبسون إلّا الخشن، والقصص الكثيرة المنقولة عنهم تكشف عن هذا، فقد امتنع الإمام أمير المؤمنين وفاطمة والحسنان(عليهم السلام) عن الأكل ثلاثة أيام وهم صائمون، ففي اليوم الأوّل عندما أرادوا الإفطار أتاهم مسكين، فأعطوه أقراص الخبز التي أعدّوها لإفطارهم، وأفطروا بالماء فقط، وفي اليوم الثاني جاءهم يتيم، ففعلوا كما فعلوا في اليوم الأول، فشربوا الماء فقط، وفي اليوم الثالث أتاهم أسير، فأعطوه أقراص الخبز كلّها، فبان عليهم

ص: 503


1- سورة الإسراء، الآية: 29-30.
2- سورة الفرقان، الآية: 67.

الضعف واصفرار الوجه من شدة الجوع، فلما جاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورأى فيهم ذلك بكى لحالهم، فنزل فيهم قرآنٌ، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}(1). فهذا الموقف وغيره من المواقف التي أشارت إلى أنّ الأئمة(عليهم السلام) يأخذون من الدنيا الشيء القليل فهذا أمر يلفت النظر، ويدعو إلى التساؤل، فهل من الاعتدال أن يبقى الإمام علي والزهراء والحسنان(عليهم السلام) جياعاً ثلاثة أيام؟ أم من الاعتدال أن يلبس الأئمة الخشن، ويأكلوا الخبز اليابس، واللبن الحامض وغيره، وهم في نفس الوقت قادرون على لبس اللباس الناعم وأكل ما طاب من الطعام؟ ألّا يدخل تصرفهم هذا تحت عنوان التفريط؟ فكيف يمكن إسناد ذلك إلى الاعتدال؟ وفي معرض الإجابة عن هذه التساؤلات نقول:

أولاً

إن الأئمة(عليهم السلام) كانوا عبارة عن الامتداد الطبيعي للنبوة، فهم القادة الحقيقيون للأمة، روحياً وسياسياً وسلوكياً...، وهم الذين يصحّحون الجانب العقائدي والفكري لها، وهم الأسوة الحسنة على امتداد التاريخ. فكان الواجب أن يقوموا بأمور تتناسب مع مقامهم العالي والرفيع، فالقيادة تقوم بهذا الدور، لكي تكون الأمة في مقام ومستوى الاعتدال، لأنّ طبيعة الناس لا تصل إلى ما تصل إليه القيادة الإلهية، فالناس دائماً أقل درجة، فإذا كانت القيادة في حدّ الاعتدال فإن الأُمّة ستكون بعيدة عن حدّ الاعتدال، فكان الأئمة دائماً يعيشون حالة الزهد، لكي تعيش الأمة على أقل تقدير حالة الاعتدال.

ثانياً

لأن القيادة الإلهية المتمثلة بالأئمة كانت ترى أن روح الكمال والوصول للّه

ص: 504


1- سورة الإنسان، الآية: 8.

عزّ وجلّ، في هذه الدرجة، أسرع من درجة الاعتدال، وكانت من خلال هذا النهج تتعبأ كمالاً، وتندك في اللّه تعالى، ومن الآثار الطبيعية لذلك أنها تستطيع أن تقود الأمة جسدياً وروحياً، وتحافظ على الرسالة المحمدية، وتفرض وجودها في قلب كلّ فرد، وهذا ما حصل بالفعل إلى يومنا هذا... فالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشريف رغم أنّه غائب عن أنظارنا - بفعل أعمالنا - إلّا أنه حاضر في قلوبنا ومشاعرنا.

ثالثاً

الزمن الذي عاش فيه الأئمة(عليهم السلام) كان يسوده في أغلب الأحيان الفقر، فكانت الأمة وبالأخص الطبقة المؤمنة تعيش حالة الفقر، وهنا تظهر نقاوة القيادة، فتعيش دون مستوى الأمة، لكي تراعي أقل وأفقر فرد في الأمة، وهذا أمر يقف العقل والإنسانية له بكل إجلال وإكبار، ولم نجد قيادة إسلامية أو غيرها مثل الأئمة(عليهم السلام). لا سيّما الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) حين تمثّل قائلاً: «أ أقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش... .

ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القَزّ(1)

ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي(2) إلى تخيّر الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى(3) وأكباد حرّى أو أكون كما قال القائل:

وحَسْبُك داءً أن تَبيْتَ ببطنة *** وحولك أكباد تحنّ إلى القدِّ(4)

ص: 505


1- القَزّ: الحرير.
2- الجَشَع: شدة الحرص.
3- بطون غرثى: جائعة.
4- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 45 من كتاب له(عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة.

الاعتدال في الفكر والمُعْتَقد

من الأمور الضرورية في حياة الإنسان: الأفكار العقائدية التي بنى عليها حاضره ومستقبله، وكيانه وثقافته، بل حتى سلوكه ومنطقه، فالفكر والعقائد من الأمور التي تتطلب من الإنسان أن يدقّق فيها ويمحّصها كثيراً، قبل أن يأخذها أخذ المسلمات؛ لأنها تشكّل كيان الفرد والجماعة. وعلى أساس ما يعتقد الإنسان يتحرك، فإذا كانت عقائده وأفكاره باطلة، كان تحركه وسلوكه ومنطقه باطلاً وزائفاً، والعكس صحيح، فالقرآن والتاريخ مليئان بالشواهد على هذا المنعطف الخطير في حياة الإنسان، لأنّ التفكير أيضاً يحتاج إلى الاعتدال والتوازن، وعدم الخروج عن المعتاد. فالنصارى عندما خرجوا عن حدّ الاعتدال في الإيمان والاعتقاد، انحرفوا عن الطريق القويم، الذي رسمه لهم نبى اللّه عيسى (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام)، حيث ألّهوا عيسى وقالوا: (عيسى هو الربّ). وهكذا الحال مع الغلاة عندما تصوروا أن أمير المؤمنين(عليه السلام) أو باقي الأئمة(عليهم السلام) آلهة يمشون على الأرض، وكذلك ظهرت مذاهب عقائدية منحرفة أودت بالناس إلى الجحيم، فمن قال بتناسخ الأرواح، ومن قال بالجبر، ومن قال بالتفويض، ومن قال بتعدّد الآلهة، إلى ما شابه ذلك من العقائد والأفكار، التي انحرفت - إما إفراطاً أو تفريطاً - عن الصراط المستقيم، وجانب الاعتدال، وانصاعت للهوى فانزلقت بمزالق الشيطان. ولقد وقف أهل البيت(عليهم السلام) بوجه هذه التيارات الملحدة التي تضل الناس. فوضعوا المناهج والخطوط البيانية للعقائد الصحيحة، التي تؤمّن للإنسان مستقبله، بالإضافة إلى حاضره. فمثلاً في مسألة الجبر والتفويض، التي ما زالت جذورها ممتدة إلى يومنا هذا، ولها أتباع ومدارس؛ وقف الأئمة(عليهم السلام) موقفاً تصحيحاً من هذه النظرية؛ إذ قالوا

ص: 506

مقولتهم فيذلك: «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين...»(1). أي: إن اللّه تعالى لم يجبر الإنسان على أي فعل، كما لم يفوّض الأمور إليه ويتركه في هذه الحياة يفعل ما يشاء، بل جعل هناك مرتبة وسطاً، متمثلة بوجود نظام تشريعي، لو سلكه لوصل إلى مرضاة اللّه تعالى، وحصل على الجنان والنعيم الأبدي. وكذلك جعله مختاراً في قبول النظام، فالاختيار والنظام هي الحالة المعتدلة المتوسطة بين الجبر والتفويض. فلا اقتضاء أن ننكر اختيار الإنسان ونقول: نحن مجبرين، في حين أن كلّاً منا يتمتع باختياره وإرادته. كما لا يسوغ أن ننكر قدرة اللّه تعالى، ونحن نعلم أن اللّه تعالى هو خالق الإنسان وهو الهادي، ونقول: إنه فوّض إلينا الأمر، وتركنا في هذه الحياة، فهذا النمط من التفكير هو الإفراط أو التفريط بعينه. ولولا توجيهات أهل البيت(عليهم السلام) وجهودهم الجبارة؛ لعاش الناس في تخبطات فكرية عقائدية كبيرة تزعزع استقرارهم وتشوش أفكارهم.

ومشكلة عدم الاعتدال في الفكر قائمة إلى اليوم، في كثير من مجالات الحياة؛ كمثل الشعائر الحسينية التي يقول عنها البعض إنها مجرد قشور لا نفع فيها، والأجدر أن نزيلها من الوجود، وفي مقابلهم نرى آخرين يقولون: إن هذه الشعائر هي كل شيء، ويتجاهل الأهداف السامية للثورة الحسينية، بينما الأمر لا هذا ولا ذاك، فالشعائر الحسينية التي أباحها الفقهاء مطلوبة، لأنّ غالبية الناس تتفاعل مع أحداث الثورة الحسينية وتتعايش معها عن طريق هذه الشعائر، فتبقى الجماهير مرتبطة روحياً بدينها، الذي ضحّى من أجله سيد الشهداء(عليه السلام)، وفي الوقت نفسه يجب علينا أن نظهر ونبيّن أهداف ثورته العملاقة، وثمارها للعالم أجمع، حتى نعيش حالة الاعتدال، ونستفيد من الثورة، كما أراد لنا الحسين(عليه السلام) ذلك.

ص: 507


1- الكافي 1: 160.

والشعائر وسيلة لاحياء مسيرة الإمام الحسين(عليه السلام) ومعرفة غايته، والذي أرادوه منّا في: «... رحم اللّه من أحيا أمرنا»(1). هو ما ضحى الحسين(عليه السلام) بنفسه وأصحابه وأولاده من أجله.

الاعتدال في العبادة

العبادة من الأمور التي تدعو إليها فطرة الإنسان، وتتلائم وطبعه وتركيبته، لأنها كانت موجودة معه منذ وُجد أوّل مرة، وظلت ملازمة له، حتى أننا لن نعثر على مرحلة من المراحل خالية من مظاهر العبادة. نعم المقصود من العبادة مختلف فيه من قوم إلى قوم ومن فترة إلى أخرى؛ فتارة يكون المعبود هو اللّه عزّ وجلّ، ولا تصح عبادة غيره؛ وتارة يكون المعبود صنماً أو كوكباً أو الإنسان نفسه، أو غير ذلك أمّا سبب الاختلاف والانحراف عن عبادة اللّه تعالى فهو ميل الإنسان عن مبدأ الاعتدال العام، فيدخل إمّا في جانب الإفراط بعبادة (360) صنماً، أو أكثر من ذلك الرقم، بعنوان أنها آلهة مقربة إلى اللّه، كما كان الحال في مكّة قبل بعثة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أو كما هو اليوم حاصل في الهند. أو يدخل في التفريط؛ فيعبد البقر، أو الشمس، أو القمر... أو ينكر وجود خالق لهذا الكون، وليس الكلام يدور في حق الذين اشتبه عليهم المعبود فقط، بل كذلك في الذين يعبدون اللّه تعالى ويوحدّونه لكنهم اشتبهوا في بعض المفاهيم فمنهم: من يتصور أن حقيقة العبادة هي الخوف والخشية من اللّه عزّ وجلّ، فيسيطر عليه هذا الاتجاه، فتراه دائم الخوف والبكاء، إلى أن يقوده هذا إلى اليأس من روح اللّه عزّ وجلّ، ومنهم من يعتمد على الرجاء، وعلى الرحمة الواسعة للّه تعالى، ويتجاهل أو يتماهل في الكثير من الواجبات والفروض، التي أوجبها اللّه تعالى عليه بذريعة (أن رحمة اللّه واسعة)، إلى أن يصل إلى مرحلة الأمن من مكر

ص: 508


1- الإختصاص: 29.

اللّه، وقد قال عزّ وجلّ عنهم: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَٰسِرُونَ}(1)، وقسم آخر تصوروا أن حقيقة العبادة هي العزلة عن الناس، والانقطاع عن المجتمع، والاحتجاب في أماكن خاصة للتعبد والزهد، وهو ما يسمى (بالتصوف).

فهؤلاء يرون أن خدمة الناس، والجهاد في سبيل اللّه، وإعانة الفقراء وأمثالها مجرد أعمال صغيرة، لا تضاهي أيّ شيء مما يقومون به، من العبادة والصوم والزهد. وأول من وضع هذا الاتجاه السلبي للعبادة هو: الحسن البصري، الذي قال عنه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أما إن لكلّ قوم سامرياً، وهذا سامريّ هذه الأمة....»(2). فالحسن البصري هذا تخلف عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في كافة حروبه، تحت ذريعة العبادة والعلم والزهد.

وهناك اتجاه آخر، أو طبقة أخرى من الناس، يعتمدون في عبادتهم على الدّعاء فقط، ويكثرون منه، ويواظبون عليه، ويجانبون العمل، ولا يسعون إلى أمر أبداً، بل يواجهونه بالدعاء والالتماس من اللّه، وآخرون عكسهم تماماً، يرون أن الدعاء أمرٌ اتكالي وسلبي، ولا يمكن الاعتماد عليه، بل لا بدّ من العمل والسعي، وعدم الركون إلى الدعاء.

وإلى ذلك هناك اتجاهات شتّى في العبادة، وكلها تعبيراً آخر عن حالات المرض النفسي، والانحراف العقائدي، والمغالطات الفكرية، التي لا أساس لها أبداً، بل تدخل كلّها في مورد الإفراط أو التفريط. الإفراط: المتمثل بالغلو والصوفية وترك السعي والعمل. والتفريط: المتمثل بترك الواجبات وعدم الدعاء وعدم التوكل على اللّه عزّ وجلّ.

ص: 509


1- سورة الأعراف، الآية: 99.
2- بحار الأنوار 42: 142.

بينما الاتجاه الصحيح هو ما كان معبّراً عن الاعتدال، فمثلاً على الإنسان أن يكون داخل دائرة اسمها الخوف والرجاء معاً؛ الخوف من اللّه تعالى، إلى جانب رجاء رحمته، وهذا ما أقرّه أهل البيت(عليهم السلام) بقولهم: «إنه ليس من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء لو وُزِن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا»(1).

وهكذا الحال: في العبادة فلا بد على الإنسان أن يقتصد فيها، ولا يتجاوز حد الاعتدال والاقتصاد، لأنّ تجاوز حدّ الاعتدال هو انحراف عن الصراط، فأولئك الذين انحرفوا لم يدخلوا إلى الدين برفق ووعي، بل تمسّكوا بأحد طرفي الاعتدال، وأوغلوا بعنف، فصاروا إلى ما صاروا إليه، بينما الإمام الصادق(عليه السلام) يقول: «لا تكرّهوا إلى أنفسكم العبادة»(2). وقال(عليه السلام) أيضاً: «إن اللّه عزّ وجلّ إذا أحبّ عبداً فعمل عملاً قليلاً جزاه بالقليل الكثير، ولم يتعاظمه أن يجزي بالقليل الكثير له»(3).

الاعتدال في سدّ الشهوات

مرادنا من الشهوات هو كلّ الملذّات التي أباحها اللّه تعالى للإنسان عن الطريق الشرعي، كالمأكل والمشرب... . فالاعتدال في استخدام هذه المباحات يولد الراحة والطمأنينة الروحية والجسدية، أما الإفراط أو التفريط فيها فنتيجته الحتمية هي مجموعة من الأمراض والأوجاع، فالإفراط في الأكل يولد التخمة والأوجاع في الجهاز الهظمي للإنسان، كما أنّ الجوع فوق الحدّ يضعف الإنسان عن سعيه وأداء واجباته، أما الاعتدال فيجعل الإنسان معافى سليماً على أنّ الإسراف في الأكل، مضافاً إلى ما ذكرنا من سلبيات، فإنه يفتح باب الهوى على

ص: 510


1- الكافي 2: 67.
2- الكافي 2: 86.
3- الكافي 2: 86.

مصراعيه. وقد روي عن هارون العباسي يوماً أنه دعا طبّاخه، فلما مثل بين يديه، قال له: أعندك من الطعام لحم جزور؟ قال: نعم، ألوان منه، قال هارون: أحضره مع الطعام، فأُحضرت المائدة، فأخذ هارون شيئاً من لحم الجزور، فضحك جعفر البرمكي، فقال له هارون: بحقي عليك لما أخبرتني به، قال جعفر: حتى تأكل هذه اللقمة، فألقاها هارون من فيه، فقال له جعفر: بكم يتقوّم عليك هذا الطعام من لحم الجزور؟ قال هارون: بثلاثة دراهم. قال جعفر: لا واللّه يا أمير المؤمنين، بل بأربعمائة ألف درهم. قال هارون: كيف ذلك يا جعفر؟ قال جعفر: إنك طلبت من طباخك لحم جزور قبل اليوم بمدة طويلة فلم يوجد عنده، فقلت له: لا يخلونّ المطبخ من لحم الجزور، فصرنا ننحر كلّ يوم جزوراً، لأجل مطبخك، لأنا لا نشتري من السوق لحم جزور، فصرف من لحم الجزور من ذلك اليوم إلى هذا اليوم أربعمائة ألف درهم، ولم يطلب أمير المؤمنين لحم جزور إلّا هذا اليوم، فضحكت لأن أمير المؤمنين لم ينله من كل ذلك غير هذه اللقمة فحسب، فهي على أمير المؤمنين بأربعمائة ألف درهم(1).

ولا نريد هنا أن نتكلم عن إسراف بني العباس وبذخهم، ولكن لتكون هذه القصص عبرةً للناس يستفيدون منها في حياتهم العملية الاجتماعية، فهي تعلّم المرء المؤمن الأمانة، لا سيّما في مسألة مال المسلمين، الذي كان هارون قد جعله تحت تصرف أهوائه الجنونية، وكذلك تعلّمنا عدم الانصياع للنفس؛ لأنّ الهوى يقود الإنسان نحو انحرافات خطيرة تبعد الإنسان عن دينه وإنسانيته، وتجرّه إلى شهوات حيوانية بهيمية.

فقد ذكر التاريخ أنه لما أفضت الخلافة إلى هارون، وقعت في نفسه جارية

ص: 511


1- انظر البداية والنهاية 10: 234.

من جواري المهدي، فراودها عن نفسها فقالت: لا أصلح لك، إن أباك قد طاف بي، فشُغف بها، وأرسل إلى أبي يوسف فسأله: أعندك في هذا شيء؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أو كلّما ادّعت أمةٌ شيئاً ينبغي أن نصدّق، لا تصدّقها، فإنها ليست بمأمونة، قال ابن المبارك: فلم أدر ممن أعجب؛ من هذا (ويعني هاروناً) الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه، أم من هذه الأَمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين، أم من هذا فقيه الأرض وقاضيها. قال: إهتك حرمة أبيك، واقض شهوتك وصيّره في رقبتي(1).

فمثل هذه الشهوة التي تدعو الإنسان لأن يتمرد على الدين، ويخالف الأحكام، ويبتعد عن إنسانيته؛ أولى بأن يؤدّبها الإنسان ويهذبها، ويسيطر على نفسه تجاهها، من أن يقع في حبالها، فعلى الإنسان أن يكون حذراً، فلا يكون كهارون، ويتحول بسبب حبّ الجنس من إنسان إلى حيوان، ولا يكون كالرهبان الذين حرّموا على أنفسهم ملذات الحياة، فلا هذا ولا ذاك، ولكن يجب أن يعيش الإنسان حالة الاعتدال والتوازن، فإنّ الأكل بطبيعته يسدّ حاجة الإنسان من الجوع، والجنس يسدّ حاجته الغريزية في هذا الجانب، والثروة تساعده على النفقة، سواء كانت على نفسه أم على عياله، وهكذا باقي الملذات، فالمطلوب من الإنسان أن يوازن بين هذا كلّه، وهو ليس من الأمور المتعسرة المستحيلة، بل الأمر يحتاج إلى تفكير وتأنٍّ قبل كلّ عمل، وينظر إلى الاعتدال في كل مسألة ولا يقحم نفسه في الإفراط أو التفريط، ويحدّد مسار حياته حسب قانون العدل والاعتدال، ولا يحيد عن ذلك: «العدل حياة»(2) كما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام).

ص: 512


1- تاريخ الخلفاء: 316.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 26.

الاعتدال الاجتماعي

وإنّ للاعتدال قيمة حقيقية ووزناً خاصاً في الاجتماعيات؛ إذ أنّ المجتمع لا يتقوم ولا يتكون من شريحة واحدة، بل هو خليط من الطبقات وغالباً ما تتقوم المجتمعات من الطبقة الثالثة وهم متوسطوا الحال لأن الطبقة الأولى - أي طبقة الأغنياء - تعتبر أقلية في المجتمع، فلا يتقوم بها، وكذلك لا يتقوم بالطبقة الفقيرة، لأن هذه الطبقة تحتاج إلى من يقوّمها ويسدّ حاجتها؛ بل إنّ المجتمع هو الذي يقوّم هذه الطبقة، فلن يبقى سوى الطبقة المتوسطة، لتشكّل قوام المجتمعات، وبواسطتها تتقوم البنية التنمويّة للمجتمع، وعليهم يقع العبء الأكبر في تحديد مسار الحضارة، وتقدم المجتمعات، وما إلى ذلك، فالوسط الاجتماعي في أغلب المجتمعات هو المعيار الذي تقاس عليه الأشياء، في المأكل وفي الملبس وطريقة التعامل مع الآخرين...، فالإنسان الغريب لا ينظر إلى الطبقة المسحوقة في المجتمع، بل ينظر إلى الوسط العام الذي تظهر عليه، ومن خلاله، قيم المجتمع وآدابه، وأُسلوب عيشه، ولا تكمن ضرورة الاعتدال فقط في المجتمع بما هو مجتمع، بل حتى في الأُسرة الواحدة، والجماعة الصغيرة، والحزب والتكتّل، وكل مظاهر الاجتماعيات الإنسانية، فالأب لا بدّ أن يعدل بين أولاده في الحب والعاطفة والحنان... والأم كذلك، فلا يعمل الأب على إيجاد ثغرة أو طبقة بين أولاده، وكذلك الحال بالنسبة إلى رئيس الحزب أو الدائرة... فعليه أن يتعامل مع الآخرين بروح العدالة والتوازن العام.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنّ العدل ميزان اللّه سبحانه الذي وضعه في الخلق ونصبه لإقامة الحق فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه»(1).

ص: 513


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 224.

وفي حديث آخر قال الإمام(عليه السلام): «جعل اللّه سبحانه العدل قواماً الأنام، وتنزيهاً من المظالم والآثام، وتسنية للإسلام»(1).

فالاعتدال أفضل سلاح فعّال يقف بوجه هوى النفس أولاً، وأمام مظاهر الظلم الاجتماعي ثانياً. وإنّ أبرز سبب لإيجاد مظاهر الاعتدال في المجتمع هو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالعمل بهذا المبدأ من داخل الأُسرة إلى الحزب إلى الجماعة إلى المجتمع كلّه يؤمّن لنا العدالة والتوازن الأخلاقي، ويحفظ لنا رصيداً ضخماً من الطاقات البشرية المؤمنة باللّه، والعاملة من أجل إشاعة المعروف وخدمة عباد اللّه تعالى.

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، وامنعني من السَّرَف، وحصّن رزقي من التلف، ووفر مَلَكَتي بالبركة فيه، وأصب بي سبيل الهدايه للبرّ في ما أُنفق منه»(2)، بحق محمّد وآل محمّد.

من هدي القرآن الحكيم

دعوة إلى الاعتدال
1- في العبادة

قال تعالى: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ}(3).

2- في القضاء

قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}(4).

ص: 514


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 341.
2- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
3- سورة طه، الآية: 1-2.
4- سورة النساء، الآية: 58.
3- في أداء الصلاة

قال عزّ وجلّ:{وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا}(1).

4- في الأكل والشرب

قال جلّ وعلا: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(2).

5- في الإنفاق

قال عزّ اسمه: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

دعوة إلى الاعتدال
1- العبادة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ان هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تكرهوا عبادة اللّه إلى عباد اللّه، فتكونوا كالراكب المُنْبَتِّ(4) الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى»(5).

2- المأكل

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليكم بالقصد في المطاعم فإنه أبعد من السرف وأصح للبدن وأعون على العبادة»(6).

ص: 515


1- سورة الإسراء، الآية: 110.
2- سورة الأعراف، الآية: 31.
3- سورة الإسراء، الآية: 29.
4- المُنْبَتّ: يقال للرجل إذا انقطع به في سفرة وعطبت راحلته: قد انبتّ من البتّ، بمعنى القطع.
5- الكافي 2: 86.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 448.
3- الإنفاق

قال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «لينفق الرجل بالقصد وبلغة الكفاف ويقدم منه فضلاً لآخرته فإن ذلك أبقى للنعمة وأقرب إلى المزيد من اللّه عزّ وجلّ وأنفع فيالعافية»(1).

4- الخوف والرجاء

قال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): «...، ومن كان باللّه عارفاً كان من اللّه خائفاً، وإليه راجياً وهما جناحا الإيمان يطير بهما العبد المحقّق إلى رضوان اللّه...»(2).

ص: 516


1- الكافي 4: 52.
2- مصباح الشريعة: 180.

الإصلاح الثقافي

اشارة

اشارة

قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ}(1).

من الثابت في علم النفس الاجتماعي أن الناس يصابون بردّة فعل ومقاومة نفسية وروحية قوية مضادة ومعاكسة تجاه بعض الأحداث المهمة التي يتعرضون لها ويتحقق ذلك بشكل واضح وملموس عندما يواجهون نوعين من الأحداث:

الأول

عندما تقوم مجموعة - تحت أي عنوان كان - بإخراج الناس من حريتهم وحالتهم المستقرة والمطمئنة إلى مرحلة الفساد والفحشاء والاضطرابات فحينئذٍ تتولّد عند كثيرٍ منهم حالة شديدة من الرفض والثورة ضد ما يرمي إليه أولئك النفر.

الثاني

عندما تقوم مجموعة تحت أي عنوان كان بانتشال الناس من واقعهم المتردي من العبودية والانحلال الخلقي والعقيدي وتوجيهم نحو الاستقلال والحرية والنزاهة الخلقية والعقيدية فحينئذٍ تظهر من هؤلاء أيضاً حالة من الرفض والثورة ضد ما تهدف إليه هذه الجماعة.

وذلك لأن طبيعة الإنسان تجعله يعيش مع الأحداث والتغيرات ويحكم عليها

ص: 517


1- سورة آل عمران، الآية: 144.

بواسطة عواطفه ومشاعره وأفكاره الخاصة التي نشأ وترعرع وتطبّع عليها واستأنسبها سواء كانت هذه الأفكار التي يحملها صحيحة أو سقيمة حقة أو باطلة، بحيث إذا تعرض لها أحد بسوء أو طلب تغييرها أو تعديلها أو تفنيدها واستبدالها بالأحسن لم يلق إلّا الصدود أو الأعراض تارة أخرى.

هذه هي الطبيعة المتجذرة في نفوس الناس غالباً... مثلاً: الإنسان الذي ينمو ويترعرع في مجتمع يعبد الأصنام، الإنسان الذي منذ نعومة أظفاره ومنذ أن كان لا يميز بين الخير والشر لا يرى ولا يعرف من العبادة إلّا تأليه الأصنام وتقديسها، يرى آباءه وأجداده كذا يفعلون، أصدقاءه وأقرانه كذا يصنعون مجتمعه كله يسجد للصنم ويركع له، نرى هذا الإنسان يشب وهو يحبّ الصنم ويقدّسه ويتقرب إليه بالقرابين والنذورات لأنه شب في جو مشحون بذلك، فيتحول في مرحلة رشده وكمال عقله من حب الصنم إلى الاعتقاد والتصديق به، فهكذا إنسان طوى هذه المرحلة الطويلة من السنين وهو لا يأكل ولا يشرب إلّا على حب الصنم ولا ينام إلّا على حلم الصنم ولا يعيش إلّا لجلب رضا الصنم حتى يبلغ درجة الاعتقاد والتأليه له! فهل يستطيع أحد أن يغير عقيدته بسرعة وسهولة ويطلب منه أن يرفض عبادة الصنم ويتمسك بغير ذلك من دون أن يثور ضده أو يحاربه وهو الذي فنّد إلهه المقدس!

أبداً، فإنه لا بد وأن يثور ضده ويحاربه لأنه يعد ذلك أكبر اعتداء على مقدساته.

هذه الحقيقة التي تجعل الكثير من الناس محافظين على أفكارهم ومعتقداتهم القديمة عندما تحدث أفكار ومفاهيم ورسالات جديدة سواء كانت صالحة أو فاسدة، ويتمسكون بما آمنوا به من قبل حتى لو تيقنوا في وجدانهم وضمائرهم بصحة الأفكار الجديدة وسقم عقائدهم: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا

ص: 518

أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(1). فإن العلو والرفعة والتكبر يدعو الإنسان في كثير من الأحيان لأن يتنكر للحق.

اختلاف الناس

اشارة

في الآية الشريفة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِۦ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٍ}(2). وذلك لأن بعض الناس وجدوا أن كلام النبيين حقّ وصحيح فاتبعوهم ولم يتعصبوا للباطل ولكن البعض الآخر بقوا على تقليدهم لآبائهم وأجدادهم في الشرك وعبادة الأصنام {وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٖ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم مُّقْتَدُونَ}(3).

وهذا دَيدَن الناس قديماً وحديثاً وهو التقليد الجامد للآباء والأجداد في الأفكار والعادات والتقاليد بلا ملاحظة جانب الحق والباطل والصحيح والسقيم فيها، وتخصيص المترفين بالذكر في الآية لأنهم هم الذين يتصدون لمعارضة الأنبياء ويصدون عن الحق وأما باقي الناس فإنما هم يتبعون ملوكهم ورؤساءهم في ذلك، ولذلك ومن أجل التمسك بآثار الآباء والأجداد والجمود على معتقداتهم الجامدة في مقابل الحق ومحاربة رسالات الأنبياء نجدهم يتوغلون في طغيانهم وإعراضهم ويعمدون إلى طرق وأساليب تحدد من انتشار دعوة

ص: 519


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- سورة البقرة، الآية: 213.
3- سورة الزخرف، الآية: 22.

الأنبياء في ما بين الناس وأهم تلك الطرق وأسهلها هو كيل التهم والافتراءاتالتي ما أنزل اللّه بها من سلطان على الأنبياء.

والقرآن الكريم أشار إلى بعض هذه التهم التي وجهت ضد الأنبياء في آيات متعددة.

فمثلاً اتهموا الرسول الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنه شاعر أو مجنون: {بَلْ قَالُواْ أَضْغَٰثُ أَحْلَٰمِ بَلِ افْتَرَىٰهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بَِٔايَةٖ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}(1).

{إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُواْ ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٖ مَّجْنُونِ}(2).

واللّه تعالى ينفي عنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الشعر حيث يقول: {وَمَا عَلَّمْنَٰهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ}(3)، {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٖ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ}(4)، ولكن عندما رأى الكفار والمشركون أن تهمة الشعر أصبحت باطلة ولا أثر لها في إبعاد الناس وانفضاضهم من حوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، اخترعوا تهمة جديدة، وقالوا إنه كاهن، في حين أن النبي لا ارتباط له بالكهانة أصلاً. وبعد ما أصبحت هذه التهمة أيضاً باطلة وغير مؤثرة، عمدوا إلى تهمة ثالثة، وقالوا إنه ساحر، وبعض آخر كانوا يتهمون النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعياذ باللّه بأنه مسحور، أي فقد عقله فقالوا: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا}(5). وواضح أنهم إنما ينسبون له هذه التهم التي ليس لها أساس بسبب أنهم كانوا يجدون أن مصالحهم ومنافعهم في

ص: 520


1- سورة الأنبياء، الآية: 5.
2- سورة الصافات، الآية: 35-36.
3- سورة يس، الآية: 69.
4- سورة الحاقة، الآية: 40-41.
5- سورة الإسراء، الآية: 47.

معرض الضرر والفناء وأن وجود أبي سفيان وأبي جهل واعتبارهما ورئاستهما على الناس فيمعرض الخطر!(1).

الفساد قبل الإسلام

شُكلت في العصر الذي سبق الإسلام عصابة في مكة المكرمة ل- (اختطاف الفتيات) وكانت هذه العصابة تقوم باختطاف كل فتاة جميلة يشاهدونها في أزقة البلد، وبعد أن ظهر الإسلام وقف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمون ضد هذه العصابة وهذا العمل الشنيع، وكان التابعون لهذه العصابة أو المؤيدين لأعمالها وأفعالها يقومون بإلقاء التهم ضد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه في ما بين الناس كتهمة القتل والسرقة والعياذ باللّه، كل ذلك من أجل ضرب الإسلام والقضاء عليه واستئصاله حتى يستطيعوا هم من الاستمرار بعملهم الشنيع الذي وقف أمامه النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحاربه بشدة.

ولكن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استقام أمام ذلك وواصل جهاده في تربية الناس وتهذيبهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور حتى قويت شوكة الدين، وصار لا يمضي يوم واحد إلّا ويزداد عدد المسلمين حتى غطى الإسلام الجزيرة العربية كلها وأوجد على أثر ذلك تحولاً كبيراً في المفاهيم والأخلاق والثقافة الإنسانية اجتاحت كل المناطق التي احتوتها الجزيرة وما يحيط بها واستمر هذا التغيير والإصلاح الشامل للبشرية مع الأجيال إلى يومنا هذا.

مسؤوليتنا

والآن حيث استطاع النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تغيير أفكار الناس، علينا نحن

ص: 521


1- هذه الحالة نجدها إلى اليوم حاكمة في العالم في مواجهة الحقائق والمبادئ الرفيعة السامية حيث أن أقوى سلاح يستخدم لضرب الحق والقيم الإسلامية هو سلاح الدعاية والإسقاط الإعلامي.

مسؤولية جذب الناس البعيدين عن الدين إلى الإسلام، وإلى اللّه تعالى، وذلك لأنالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد ما قضى على الأصنام وعبادتها، وقام سنين طوالاً بالعمل على تربية الناس وخاصة الشباب وتهذيبهم، حتى جعل منهم أناساً مؤمنين أشداء في سبيل الإسلام، لهم قلوب لا تتزعزع أبداً كالجبال الراسية، فنحن أيضاً علينا مسؤولية تبليغ الإسلام إلى الناس في كل البقاع، لملأ قلوبهم بالإيمان والتقوى والفضيلة، ونقاوم التهم التي تكال ضد الإسلام ورسوله الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعلماء. إنّ إسلامنا الحنيف هو الدين الذي يقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1). فكل إنسان حرٌّ في اختيار أي دين وعقيدة يرغب فيها، ولكن يجب أن لا يغيب عن بال أحد أنّ الطريق الوحيد لتأمين الأمن والإستقرار والسعادة في الدنيا والنور بالآخرة هو الإسلام لا غير وكل ما سواه باطل ولا يزيد الإنسانية إلّا العذاب والشقاء الدنيوي والأخروي، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).

إن مبادئ الإسلام من أعظم المبادئ التي منحت للإنسان حريته وكرامته واحترمته وأكبرته، فهو دين الرحمة والعاطفة والسماحة، حتى بالحيوان فضلاً عن الإنسان، وهو لا يؤمن بالعنف وسفك الدماء، ولا يجيز قتل النفس المحترمة، بخلاف بعض المبادئ الوضعية، ولا يكون كالشيوعية التي تقول: كل من لايدين أو يعتقد بالشيوعية فاقتلوه حتى لو كان أمة بكاملها(3).

هذه هي السياسة التي تتبعها جميع الأنظمة والأحزاب الوضعية في العالم

ص: 522


1- سورة البقرة، الآية: 256.
2- سورة آل عمران، الآية: 85.
3- ستالين قتل (18) مليون إنسان قتلاً عاماً لرفضهم للمبادئ الشيوعية وماو تسي تونغ قتل أكثر من مليوني إنسان لنفس السبب.

اليوم، بينما الإسلام جاء لخدمة البشريه وصلاحها وإصلاحها، وليس ضدها،والذي جاء لتحطيم البشرية هم الشرق والغرب، الذين أجروا أنهار الدم في فيتنام وأفغانستان وغيرهما من بقاع العالم... .

وكما يقول لينين: إذا توقف نشر الشيوعية في العالم على قتل تسعة أعشار نفوس العالم، ليصبح العشر الباقي شيوعياً، فلكم الضوء الأخضر في قتلهم فداءً لذلك العشر الباقي.

الكتب السماوية

جاء في الكتاب المقدس المحرف للمسيحيين، الكتاب الذي يعتقد به الغربيون: (إن اللّه تعالى قال لموسى: إذا أعطيتك مدينة فاقتل كل من يخالفك سواء كان المخالف امرأة أو طفلاً أو شيخاً طاعناً في السن أو عجوزاً).

فالغربيون الذين يقرأون في كتابهم المقدس هذا المبدأ القاسي، من الواضح أنهم لا يتورعون عن قتل عشرات الملايين، في سبيل مصالحهم وأطماعهم وطغيانهم!

ولكن تعالوا إلى الإسلام، وانظروا أحكامه وقوانينه السامية، يقول الإسلام: في الحروب لا يقتل الشيخ الطاعن ولا المرأة ولا الصبي ولا المريض ولا تقطع الأشجار ولا تسحق الممتلكات وأمثال ذلك كما يقول: «الحدود تدرأ بالشبهات»(1) أي: لا يقام الحد في حال الشبهة، وغيرها من المبادئ الإنسانية الرحيمة، ومن هذا نعلم عمق رأفة الإسلام ورحمته بالبشرية وصلاحها، {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ...}(2).

ص: 523


1- وهذه قاعدة فقهية مستندة إلى قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ادرءوا الحدود بالشبهات» من لا يحضره الفقيه 4: 74.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
التهم ضد الإمام علي(عليه السلام)

توجهت ضد الإسلام وأمير المؤمنين(عليه السلام) تهم كثيرة، كان وراءها معاوية، بواسطة الدعايات الكاذبة، ونشره للأفكار المنحرفة والمغرضة، وبعض البسطاء من الناس يتلاقفون هذه التهم، ويرتبون عليها الآثار والمواقف، في حين أن القرآن الكريم يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسُْٔولًا}(1).

وكانت هذه التهم تزداد يوماً بعد يوم، وتنتشر أكثر فاكثر، وذلك لأن معاوية كان قد استخدم مجموعة من الناس، يطوفون هنا وهناك، لأجل نشر الإشاعات المغرضة، والتهم الكاذبة على الإمام(عليه السلام)، فكان هؤلاء يركبون الحمير، ويطوفون المناطق، ويجوبون القرى والأرياف المختلفة، ويقرأون هناك أحاديث، يجعلونها بأنفسهم كذباً وزوراً، بأن عليناً(عليه السلام) أدخل الأصنام في الإسلام! فكان بعض الناس الضعاف البصيرة والوعي يقبلون ذلك ويصدقونه!

إصلاح الناس

اشارة

هذه التهم كانت - ولا زالت - تحاك ضد الإسلام والأئمة الأطهار(عليهم السلام)، أما وظيفتنا نحن في مقابل ذلك، فهي أن نعمل ما بوسعنا ومهما أمكن، من إصلاح الناس ووعظهم وإرشادهم، وإظهار الحقائق الواقعية وإيصالها إليهم، فإذا قام كل واحد منا بإصلاح خمسة أفراد، وأرشدهم وبصرهم بأن الإسلام هو الدين الصحيح، وهو المذهب الحق، وأنقذهم من الانخداع بأحابيل الشرق والغرب وجعلهم لا يبيعون الجنّة الإلهية الخالدة باللذة الدنيوية الخادعة، فحينئذٍ يسير المجتمع في الطريق المستقيم غير المنحرف، وسوف يصلون إلى السعادة

ص: 524


1- سورة الإسراء، الآية: 36.

الدنيوية والأخروية معاً، لأن السعادة الحقيقية للإنسان: في الإسلام دنياً وآخرةوالشقاء والتعاسة الحقيقية في ترك الإسلام وعدم الالتزام به قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ}(1)، فعلينا إذن أن نقوم بعملية إصلاحية شاملة وذلك بإعطاء الأفكار الصحيحة إلى الناس وتفنيد الباطلة منها بأدلة قاطعة ومفحمة حتى يتم إرساء العقائد الإلهية على أنقاض العقائد الشيطانية الزائفة.

الخنساء والتحول الكبير

كانت الخنساء شاعرة من شواعر العرب المبرَّزات وكان لها أخ اسمه صخر، عندما مات أخوها صخر ظلت تبكيه أربعين عاماً(2). ولكن عندما ظهر الإسلام وسمعت الخنساء خطب النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكلامه الذي لا ريب فيه... آمنت والتزمت وقد نقل أحد الرواة فقال: (اني كنت في حرب القادسية فرأيت الخنساء وقد ذرفت على الثمانين عاماً وقد تقوس ظهرها وهي ماسكة بلجام بعير وقد خرجت من ميدان المعركة فسألتها عن حمل البعير ما هو؟ فقالت: هو أربعة أولادي قد قتلوا في سبيل اللّه ورفعوا رأسي بذلك)(3).

فهذه المرأة التي كانت إلى فترة ليست بالبعيدة تبكي لمدة أربعين سنة على فقد أخيها نراها اليوم وقد طعنت في السن وتقوس ظهرها وضعف عودها

ص: 525


1- سورة طه، الآية: 124-126.
2- الخنساء لقب تماضر بنت عمرو الشاعرة التي لم تكن إمرأة أشعر منها وفدت على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع قومها فأسلمت معهم، قيل كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعجبه شعرها توفيت سنة (24 ه) سفينة البحار 2: 739 مادة (خنس).
3- انظر الوافي بالوفيات 10: 243 و 244.

وأصبحت بحالة هي بأشد الحاجة فيها إلى أولادها الفتيان، نراها لا تبكي ولا تحزن بل تقول: هم رفعوا رأسي بذلك عند اللّه وتفتخر بأنها مسلمة.

هكذا يفعل الإصلاح الثقافي والأخلاقي والروحي الذي قام به الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من تغيير القلوب وتقويتها وتقويم العقائد وتصحيحها.

بنو أمية لم يقبلوا الإصلاح

عندما أشرق نور الإسلام على

ربوع الجزيرة العربية آمن بالرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعداد غفيرة من الناس، غير أن بعض الناس بقوا على الكفر والشرك فأثر ذلك على ابنائهم وانتقل إلى ذراريهم أمثال بني أمية الذين ملأوا التاريخ بجناياتهم الفظيعة.

يقال: إن أحد الأشخاص(1) كان يفكر مع نفسه أنه لماذا عندما استولى بنو أمية على الحكم وصارت القدرة بأيديهم قتلوا الناس ونهبوا الأموال بل حتى الأسارى الذين منع الإسلام قتلهم، قتلوهم شر قتلة وقطعوا رؤوسهم ونقلوها من مكان إلى مكان وبلغت جناياتهم الفظيعة الآلاف على اختلاف أساليبها وأنواعها.

بينما ملك بنو هاشم فكانت سياستهم العفو والرحمة فعفوا عن الأعداء والمسيئين وحتى أنهم أباحوا الماء لأعدائهم، فذات يوم توسل أحدهم بالإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وطلب منه أن يبيّن له سبب هذا البون الشاسع والتفاوت الكبير بين هاتين الفئتين، وفي المساء رأى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في عالم المنام وقال له خذ جوابك من ابن الصيفي، وعندما استيقظ من النوم شرع يسأل ويبحث عن ابن الصيفي، ولكنه لم يقع له على أثر أو دليل، إلى أن حصل على من يدله عليه وقالوا إن ابن الصيفي رجل فقير يسكن في المحلة الفلانية، فذهب إليه حتى وجده وعندما استقر به المجلس عنده قص عليه ما رآه في المنام، فبكى

ص: 526


1- وهو نصر اللّه بن مجلي.

ابن الصيفي من سماع ذلك وقال إنني شاعر وقد أصابني في الليلة السابقة أرق لم استطع بسببه النوم فنظمت عدة أبيات شعرية ووضعتها تحت وسادتي وها هيأقول فيها:

ملكنا فكان العفو منا سجية *** ولما ملكتم سال بالدم أبطح

وحللتُم قتل الأسارى وطالما *** غدونا على الأسرى نعف ونصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكلّ إناء بالذي فيه ينضح(1)

إن واحدة من جرائم بني أمية هي أنهم قاموا بقتل الكثير من الشخصيات المهمة أمثال: حجر بن عدي(2). وأحد عشر شخصاً من أصحابه الزهاد وذلك بأن أخذوهم خارج دمشق وهم مصفدون بالأغلال وقتلوهم شرقتلة بجرم حب عليّ(عليه السلام) وقطعوا رؤوسهم، وأدى ذلك إلى اشمئزاز الناس وتألمهم لمدة طويلة بحيث تظاهر معاوية بعد ذلك بندمه واشتباهه بقتل أولئك النفر الصالحين(3).

يستفاد من هذه القصص وأشباهها بأن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يريد أن يثبت بأن بني هاشم طاهرون لهم أرضية واسعة للهدى والصلاح بينما بنو أمية قاطبة مجرمون سفاكون للدماء وكان يريد أيضاً أن يجعل من ابن الصيفي رجلاً مشهوراً بسبب أبياته الواقعية، رداً لإحسانه وخدمته لأهل البيت(عليهم السلام).

ما المطلوب؟

إذن فمسؤوليتنا هي القيام بتحول كبير وتغيير ثقافي واسع لنشر الوعي وإظهار الحقائق والواقعيات للناس حتى لا يبقى التاريخ غامضاً مشوهاً ولا تبقى

ص: 527


1- انظر وفيات الأعيان 2: 364.
2- سفينة البحار ج1 ص223 مادة (حجر).
3- انظر الإستيعاب 1: 330، والمصنف لابن أبي شيبة 3: 139.

الحقائق مندرسة وإذا نجحنا في ذلك ووفقنا إلى هذا الأمر فسيعمّ الخير للجميع ويتحقق الأمن والسلام ليس في بلاد المسلمين فقط بل في جميع بلاد العالموينقطع دابر الظالمين.

ومن المعلوم أن هذا العمل الكبير بحاجة إلى همة عالية وتصميم قوي ومواصلة مستمرة ونشاط متنامٍ من قبل جميع المسلمين.

«اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، وأبدلني من بغضة أهل الشنّان المحبة، ومن حسد أهل البغي المودّه، ومن ظنة أهل الصلاح الثقة، ومن عداوة الأدنين الولاية»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الإصلاح الثقافي والإصلاح بين الناس

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2).

وقال سبحانه: {وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ

ص: 528


1- الصحيفة السجادية، ومن دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة الجمعة، الآية: 2.
3- سورة الأعراف، الآية: 142.
4- سورة النساء، الآية: 114.

تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

الإصلاح بين الناس

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «صدقة يحبها اللّه إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لإن أصلح بين اثنين أحب إلي من أن أتصدق بدينارين»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما عمل امرؤ عملاً بعد إقامة الفرائض خيراً من إصلاح بين الناس، يقول خيراً ويتمنى خيراً»(5).

ص: 529


1- سورة هود، الآية: 88.
2- الكافي 2: 209.
3- ثواب الأعمال: 148.
4- الكافي 2: 209.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 522.

التعايش السلمي

اشارة

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...}(1). وطبيعة الأُخوة تنطوي على عدة أُمور، تُؤلّف بمجموعها رابطة الأُخوة المقدسة. فمن جملة هذه الأمور: التعاون والتضحية، والصفح، والعفو، والتماس العذر، والصدق، والوفاء، والإعانة... ، وكلها تكون مظهراً للحياة الطيبة السليمة والسلميّة، التي دعت إليها الشريعة المقدسة.

أراد الإسلام من المجتمع الإسلامي أن يعيش تحت ظلّ هذه العلاقات، وأن يعيش صورة السلم والطيبة والهدوء، وإلغاء مظاهر العنف والقوة، في التعامل في ما بين المؤمنين، ووضع من أجل ذلك خططاً تربوية رائعة، من خلالها يلغي معظم الأمور التي تغيظ الإنسان وتثيره، ويثبّت كل ما يسكن من روع الإنسان ويهدئه.

وهذا البرنامج الإلهي تارة يكون بين البشر أنفسهم، وتارة بين البشر وبين المخلوقات الأخرى، كالحيوان والنبات، فدعا الإسلام إلى عدم إيذاء الحيوان، وكراهة قتل بعض الحيوانات بلا سبب، بل دعا إلى تربية بعض الحيوانات النافعة وترويضها، فكيف الحال بالعلاقات الإنسانية المتبادلة؟ كل ذلك من أجل خلق حياة هادئة مريحة، يسعد فيها الإنسان، ويعيش فيها بالصورة التي تلائم ميوله وفطرته. إلّا أنّ بعض الأفراد المرجفين، الذين يحبون الشر والظلم، يخلقون

ص: 530


1- سورة الحجرات، الآية: 10.

العراقيل أمام مسيرة الإنسان المؤمن، ويعكرون صفو حياته ومزاجه، وصار الإنسان يقابل ذلك بالعنف تارة، وبالهدوء تارة أُخرى... فاحتاج الإنسان المصلح في طريق معالجته لهذا الأمر إلى بعض الصفات المميزة التي لا يتصف بها غالباً الكثير من الناس، بل إنّ بعضهم لا يتحملها، ومن هذه الصفات: صفة التعايش السلمي، يعني أن يعيش الإنسان بين أفراد المجتمع وإن كانوا يختلفون عنه في أعمّ الخصائص والمميزات.

وإن صفة القدرة على التعايش السلمي، ليست كالشجاعة والكرم، بل إن حاملها يحتاج إلى الصبر والعفو والمسامحة والاستقامة ومداراة الناس، وغيرها من الأمور والتي تكوّن رابطة الأخوة. وإنّ المصلح، لكونه على تماس دائم مع الناس، يحتاج إلى هذه الصفة، فالناس الذين حوله، يعيشون إما في إفراط أو في تفريط، والإنسان لا بدّ له من ترويض نفسه على التعامل مع الناس، بالصورة التي يستوعب بها الآخرين، برحابة الصدر وسعته، لكي يستطيع العيش في صفوف المجتمع بصورة مؤثرة.

تعامل الرّسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع المُنافقين

يعتبر عبد اللّه بن أُبيّ رأس النفاق والمنافقين في المدينة، وكان قبل ورود الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة تبددت أحلامه، وذهبت مخططاته التي كان يسعى من أجلها أدراج الرياح وهذا الأمر دفعه إلى أن يدخل في الإسلام على كراهية، من أجل ضرب وإضعاف الإسلام من الداخل؛ لأنه كان يرى أنّ الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد سلبه حقّه، ومنصبه القيادي، فأخذت نشاطاته ضد الإسلام والمسلمين - بمعونة مجموعة من المنافقين - تظهر في كلّ موقف وموقع، ففي الحصار الذي ضربه المسلمون على بني النضير، وكانوا على وشك إخراجهم من

ص: 531

المدينة، بعث ابن أُبي رسالة إلى زعماء تلك القبيلة، جاء فيها: (ألّا تخرجوا وتقيموا وتنابذوا محمداً الحرب، فإني أنصركم أنا وقومي وحلفائي، فإن خرجتم خرجت معكم، وإن قاتلتم قاتلت معكم...)(1).

ومن أخطر أعمالهم هو إقامتهم كياناً مقابل الكيان الإسلامي، فعمدوا إلى بناء مسجد وأرادوا بذلك شق عصا المسلمين إلى جبهتين، ومن ثم احتواء كل من في قلبه مرض من ضعفاء النفس عاملين على إلباس أعمالهم الخبيثة هذه ثوب الشرعية الإسلامية فطلبوا من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يصلي في مسجدهم (مسجد ضرار)، فجاء الأمر الإلهي بإحراق وهدم هذا المسجد، فأمر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإحراقه(2).

لكن المنافقين لم يتوقفوا عند ذلك، بل كانوا يعملون كل ما من شأنه إضعاف الإسلام. مثل تخلفهم عن الحروب التي قام بها المسلمون ضد الكفار وتثبيط عزائم المسلمين وغيرها. ومع كل ذلك نرى أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعفو عنهم، ويعاملهم بالتي هي أحسن، بل قيل إنه عندما توفي عبد اللّه بن أُبي وضع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قميصه في كفنه ودفنه(3).

كلّ ذلك يبرز لنا سياسة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في احتوائه لكل الحركات والمعرقلات والمسائل التي تصطدم بالإسلام والمسلمين، فكان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحتويها بسعة صدره ويذوّبها ويبطل مفعولها بأخلاقه الحسنة وحكمته، وسلوكه الذي يكشف عن سياسته الرشيدة وسيرته الطيبة، فكان يحاول جهد إمكانه أن يصهر كل ما له دور في إثارة العنف والصراع والخلاف، بل كان يسعى إلى خلق

ص: 532


1- تفسير القمي 2: 359.
2- انظر تفسير القمي 1: 305.
3- انظر بحار الأنوار 21: 199.

أجواء روحية يرتبط المجتمع بها عبر الروح والمعنويات والأخلاق والحكمة.

كيفَ يتمّ التعايش السِلمي؟

ذكرت كتب الأخلاق الكثير من الخطوط العامة في تهذيب النفس وتربيتها، فإنّ النفس متى ما صلحت صلُح المجتمع، وصار العيش فيه في أجمل صورة.

وقد سأل الإمام الصادق(عليه السلام) أحدُ أصحابه قائلاً: كيف ينبغي لنا أن نضع في ما بيننا وبين قومنا، وفي ما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟ قال: فقال: «تؤدّون الأمانة إليهم، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم، وتشهدون جنائزهم»(1).

في هذا الجواب، يؤكد الإمام(عليه السلام) على أن يكون المجتمع الإسلامي بمختلف طوائفه، عبارة عن مجموعة واحدة، بعضهم لبعض، فيؤكد على أداء الأمانة، لكي تشيع وتنتشر حالات حسن الظنّ والاطمئنان، ثم يؤكد على إقامة الشهادة لهم وعليهم، لازدياد حالات الثقة بين الأفراد، والحدّ من الكذب، ثم عيادة المرضى مما يشيع بين القلوب تآلفاً، ويعمل على تقاربها، وأخيراً يحث على تشييع الجنازة، وهي تسلية القلب الحزين، أياً كان، ومن أي طائفة كان. ففي هذه الوصايا والتوجيهات القيمة، يريد الإمام(عليه السلام) إيقاف الصراعات الداخلية، وصناعة كيان إسلامي واحد متكاتف، يعيش بسلام وأمان وتآلف. وعنه(عليه السلام) أيضاً: «عليكم بالورع والاجتهاد، واشهدوا الجنائز، وعودوا المرضى، واحضروا مع قومكم مساجدكم، وأحبّوا للناس ما تحبون لأنفسكم، أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقّه ولا يعرف حق جاره»(2).

وهنا توصيات اجتماعية أخرى تعكس لنا صفة التعايش مع الآخرين. كيف لا

ص: 533


1- الكافي 2: 635.
2- الكافي 2: 635.

يعرف الرجل حق جاره، فالإمام يقول: «ألّا يستحي» دعوة منه(عليه السلام) إلى التعارفوالسؤال الدائم عن الجار، وما يحتاجه، وما ينقصه... وكذلك الحضور في المساجد فإنها البيوت التي يذكر فيها اسم اللّه، فيؤكد الإمام(عليه السلام) على الحضور في هذه الأماكن المقدّسة، والصلاة فيها لما في هذه المساجد من جوّ روحي إيماني يؤثر على مشاعر وعواطف المسلمين، فيزيد من حبّهم ورأفتهم وتآلفهم مع بعضهم ولعلنا سنلاحظ بوضوح في الرواية الثالثة التي سنذكرها خط التعايش السلمي الذي رسمه لنا أئمتنا(عليهم السلام).

فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم. يكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحُسن سيرتك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك»(1).

محوران أساسيان يشير إليهما الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، هما: أن يكون الإنسان في حالة من التواضع، بحيث يكون متجانساً مع الناس هذا أولاً، ومن جهة أخرى يجب أن لا يكون ذليلاً أو خاضعاً وهذا الأخير يجب أن يكون مجتمعاً ومنضماً إلى احترام تام للناس. فالافتقار إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك؛ لأنّ حسن الكلام والسيرة الحسنة مع الناس عاملان من عوامل جذب القلوب، وحب الناس لهذا الشخص واحترامه، والتعامل معه بنفس طريقته، وبذلك سوف تسود في المجتمع حالات الاحترام والسلوك الحسن. وبعبارة أخرى أراد أئمتنا(عليهم السلام) أن يكون مواليهم عبارة عن جماعة كبيرة ضاغطة على كل مظاهر الفساد والتخلف والمرض والانحراف، ولكن هذا الضغط يجب أن يكون عبر السلوك الحسن والعطاء، وعبر الكلام الطيب اللّين، الذي تأوي إليه القلوب، وتتأثر به العواطف، وتشتاق إليه

ص: 534


1- وسائل الشيعة 12: 8.

الأسماع. هكذا أراد الأئمة(عليهم السلام) أن يكون شيعتهم جماعة ضاغطة بشكل إيجابي، لايؤذي مشاعر أحد، ولا يؤدّي إ لى صدام أو عنف، أو معارك.

ولقد وضعوا(عليهم السلام) الخطوط العريضة لهذا البرنامج عبر كلماتهم الشريفة التي كثيراً ما تدعو إلى التحبب إلى الناس واحترامهم، ومجاملتهم، والسير معهم بالسيرة الحسنة، التي ترتاح إليها القلوب وكما جاء عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «جُبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها»(1). وقد ورد عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): التودّد إلى الناس نصف العقل»(2). وعنه(عليه السلام) أيضاً، أنه قال: «من كفّ يده عن الناس فإنما يكف عنهم يداً واحدة ويكفون عنه أيدياً كثيرة»(3).

أُدخلوا في السِّلم كافّة

السلم هي حالة الهدوء والعيش بأمان تام، وحالة الاستقرار للوضع العام وكأنّ التعايش السلمي مظهر من مظاهر السلم العام... واللّه عزّ وجلّ يريد دائماً للإنسان أن يعيش حالة السلم، لذلك دعى المؤمنين إلى الدخول في دائرة السلم المتمثل في الإسلام، الذي هو عبارة عن إطار واحد يمتاز مضمونه بحالة السلم واحترام الإنسان. فإن العيش داخل إطار واحد وفي ظل دائرة واحدة ينتج حياة اجتماعية خالية من مظاهر العنف والصراع؛ لذلك جاء في بعض التفاسير حول الآية الكريمة: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً...}(4). هو الدخول في ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)، وجاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «هي ولايتنا»(5)،

ص: 535


1- من لا يحضره الفقيه 4: 381.
2- الكافي 2: 643.
3- الكافي 2: 643.
4- سورة البقرة، الآية: 208.
5- تفسير فرات الكوفي: 66.

باعتبارها مظهراً من مظاهر السلم، والجامع الأساسي لعواطف وأفكار الناس.فحالة السّلم لا تأتي عفوياً إلّا بعد الانصياع والدخول تحت ظل توجيهات الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن بعده الأئمة المطهرين(عليهم السلام). هذه الدائرة تؤمن الحياة الإيمانية التي دعى إليها القرآن، والعكس بالعكس؛ إذ إنّ عدم الدخول في هذه الولاية سوف يؤدي بلا شك إلى اتباع خطوات الشيطان التي هي عبارة عن اتجاهات خاطئة تؤكد حياة قلقة ومضطربة يشوبها العنف وعدم الأمن، ولذلك أردف اللّه تعالى هذا مباشرة في هذه الآية دون فاصلة فقال تعالى: {... ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(1). وهذا واضح من خلال الحوادث التاريخية التي وضحت لنا أنّ عدم الدخول في ولاية أهل البيت(عليهم السلام) قد ولّد انحرافات على مستوى الفكر والعقيدة وانعكس ذلك على الحياة العامة والصراعات الطائفية؛ لأن الأئمة(عليهم السلام) سلسلة متصلة يبدأ كل منهم من حيث انتهى الإمام الذي سبقه، وليس هناك أي اختلاف أو تناقض في مسيرتهم إذ هي واحدة رغم تعددهم واختلاف أزمانهم(عليهم السلام). بينما نلاحظ الاختلاف والتناقض واضحاً في غير عالم الولاية؛ إذ أن أول ما استلم الثاني الخلافة صرح قائلاً: (بأنّ خلافة الأول كانت فلتة)(2) ومن هنا ينشأ الشك والريبه والافتراق الذي يؤدي حتماً إلى الصراع والعنف.

مؤمن الطاق

محمد بن علي بن النعمان الجبلي الكوفي، أبو جعفر الأحول الملقّب بمؤمن الطاق، وهو من أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) ومن أبرز الذين اعتمدوا منهج التعايش

ص: 536


1- سورة البقرة، الآية: 208.
2- انظر أنساب الأشراف 5: 500.

السلمي في الحياة عبر الحوار الهاديء والموصل إلى الحقيقة، حيث لم نسمع أنمناظراته ومحاججاته أدّت إلى عنف أو قتال بينه وبين من يناظره أو يحاججه، بل على العكس كان يمتلك أسلوباً متيناً في كسبهم وهدايتهم إلى الطريق الصحيح.

حكي أنه عندما خرج الضحّاك الشاري بالكوفة فحكم وتَسمَّى بإمرة المؤمنين ودعى الناس إلى نفسه، أتاه مؤمن الطاق فلما رأته الشُراة(1) وثبوا في وجهه فقال لهم: جانح(2)! قال: فأتي به صاحبهم فقال لهم مؤمن الطاق: أنا رجل على بصيرة من ديني وسمعتك تصف العدل فأحببت الدخول معكم. فقال الضحاك لأصحابه: إن دخل هذا معكم نفعكم، ثم أقبل مؤمن الطاق على الضحاك فقال: لِمَ تبرأتم من علي بن أبي طالب واستحللتم قتله وقتاله؟ قال الضحاك: لأنه حكَّم في دين اللّه. قال مؤمن الطاق: وكل من حكَّم في دين اللّه استحللتم دمه وقتاله والبراءة منه؟ قال: نعم. قال: فأخبرني عن الدين الذي جئت أُناظرك عليه لأدخل معك فيه إن غلبت حجتي حجتك، أو حجتك حجتي، من يوقف المخطيء على خطائه ويحكم للمصيب بصوابه؟ فلا بد لنا من إنسان يحكم بيننا فأشار الضحاك إلى رجل من أصحابه وقال: هذا الحكم بيننا، فهو عالم بالدين. قال مؤمن الطاق: وقد حكّمت هذا في الدين الذي جئت أُناظرك فيه؟ قال: نعم. فأقبل مؤمن الطاق على أصحاب الضحاك فقال: إن صاحبكم قد حكّم في دين اللّه فشأنكم به، فأختلف أصحابه وأسكتوه وخرج مؤمن الطاق منتصراً(3).

ص: 537


1- الشُراة: الخوارج الذين خرجوا عن طاعة الإمام، وإنما لزمهم هذا اللقب لأنهم زعموا أنهم شروا دنياهم بآخرتهم.
2- جانح: مائل إلى دينكم.
3- انظر رجال الكشي: 187.

فإن هذه القصة تعلّمنا كيف كان أصحاب الأئمة(عليهم السلام) يدخلون حلبات الصراعالفكري والسياسي دون أن يثيروا أحداً على أو ضدّهم، ودون أن يكون أسلوبهم مثيراً للأحقاد والكراهية اللذين يتولد منهما العنف والصراع والصدام، فكانوا يختارون الأسلوب الذي يحرّك العواطف والوجدان ويلائم العقل، وتقبل به العقلاء والفضلاء، لذا لم نجد يوماً في مناظراتهم أنها سببت عراكاً أو خصاماً أو نتجت عنها حرب داخلية. بل على العكس من ذلك كانت قدوة يتعلم منها الآخرون أسلوب الحوار الهاديء والناجح والقائم على الأُسس الإسلامية والأخلاقية الرفيعة.

اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، «اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى الإستقامة وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة وطهّر بطوننا من الحرام والشبهة، واكفف أيدينا عن الظلم»(1)، بحقّ محمد وآله الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

من أُسس التَّعايش السلمي
1- الإيمان

قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا الَّذِينَ

ص: 538


1- البلد الأمين: 349.
2- سورة الحشر، الآية: 9.

سَبَقُونَا بِالْإِيمَٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(1).

2- الصبر

قال عزّ وجلّ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}(3).

وقال عزّ اسمه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوٰةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(4).

3- الأخلاق الحسنة

قال جلّ شأنه: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ...}(5).

وقال عزّ من قائل: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(6).

وقال جلّ ثناؤه: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا}(7).

وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(8).

4- التواضع

قال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(9).

ص: 539


1- سورة الحشر، الآية: 10.
2- سورة الروم، الآية: 60.
3- سورة الرعد، الآية: 22.
4- سورة البقرة، الآية: 153.
5- سورة آل عمران، الآية: 159.
6- سورة القلم، الآية: 4.
7- سورة مريم، الآية: 96.
8- سورة فصلت، الآية: 34
9- سورة الفرقان، الآية: 63.

وقال عزّ وجلّ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

من أُسس التعايش السلمي
1- الإيمان

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفضل الإيمان أن تحب للّه وتبغض للّه وتعمل لسانك في ذكر اللّه وأن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك وأن تقول خيراً...»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «بالإيمان يرتقى إلى ذروة السعادة ونهاية الحُبُور»(3)(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من أوثق عُرى الإيمان أن تحب في اللّه وتبغض في اللّه، وتعطي في اللّه...»(5).

2- الصبر

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفضل الإيمان الصبر والسماحة»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا ينعم بنعيم الآخرة إلّا من صبر على بلاء الدنيا»(7).

ص: 540


1- سورة الشعراء، الآية: 215.
2- نهج الفصاحة: 229.
3- الحُبُور: السرور.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 304.
5- الكافي 2: 125.
6- نهج الفصاحة: 229.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 782.

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه، كان له مثل أجر ألف شهيد»(1).

وقال(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ أنعم على قوم، فلم يشكروا، فصارت عليهم وبالاً، وابتلى قوماً بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة»(2).

3- الأخلاق الحسنة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «حسنُ الخلقِ يثبت المودة»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من حسن خلقه كثر محبوه وأنست النفوس به»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «البر وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما استجلبت المحبة بمثل السخاء والرفق وحسن الخلق»(6).

4- التواضع

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تواضع للمحسن إليك وإن كان عبداً حبشياً وانتصف ممن أساء إليك وإن كان حراً قرشياً»(7).

ص: 541


1- الكافي 2: 92.
2- الكافي 2: 92.
3- تحف العقول: 45.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 663.
5- الكافي 2: 100.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 689.
7- نهج الفصاحة: 391.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثلاث يوجبن المحبة: ... والتواضع»(1).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «... التواضع درجات منها أن يعرف المرء قدر نفسهفينزلها منزلتها بقلب سليم، لا يحب أن يأتي إلى أحد إلّا مثل ما يؤتى إليه، إن رأى سيئة درأها(2) بالحسنة، كاظم الغيظ عاف عن الناس...»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «التواضع أصل كل خيرٍ نفيس ومرتبة رفيعة...»(4).

ص: 542


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 332.
2- درأها: دفعها.
3- الكافي 2: 124.
4- بحار الأنوار 72: 121.

فهرس المحتويات

من خطى الأولياء

كدح الإنسان في الدنيا... 5

درجات اليقين... 6

الموقنون وخرق العادة... 7

ثمرات اليقين... 9

السعادة العظمى... 9

الرصيد الروحي... 10

الشخصية الطاهرة... 11

الوصول إلى الأهداف... 12

خليل الرحمن(عليه السلام)... 12

الاستغناء... 13

بُعد النظر... 14

كيف نحصل على اليقين؟... 15

الذكر المتواصل... 15

العناية التامة بالنوافل والمستحبات... 17

صلاة الليل... 17

العيش مع القرآن... 19

خطبة المتقين... 20

الاهتداء بنور أهل البيت(عليهم السلام)... 22

المرتابون... 23

من هدي القرآن الحكيم... 25

العمل مع الإيمان... 25

ص: 543

اليقين في الدين... 25

ثمرات اليقين... 26

الطاعة... 26

من هدي السنّة المطهّرة... 26

العمل والإيمان... 26

اليقين... 27

الطاعة... 28

الأولياء والمؤمنون... 28

من معاناة الإسلام والمسلمين

الإسلام وأزمة العاملين له... 31

خلفاء الجور... 32

ترك القوانين الإلهية... 36

العمل الإسلامي... 38

قصة الأحزاب... 40

مقارعة الطاغوت... 54

تهيئة أسباب النصر... 55

من واقع الطواغيت... 56

حكّام لا حكمة لهم... 57

طغيان الحجّاج... 58

الحجّاج على لسان إحدى زوجاته... 61

الأسباب والمسببات... 63

الفضائل ازدهار الحياة... 65

الرذائل وهلاك المجتمع... 66

الخروج من المأزق... 68

حكومة أمير المؤمنين(عليه السلام)... 70

من هدي القرآن الحكيم... 83

من صفات الحاكم الإسلامي... 83

ص: 544

الثبات على المبدأ... 84

لا للخوف، فإنه أحد أسباب تسلط الطغاة... 84

الإخلاص في العمل... 85

من هدي السنّة المطهّرة... 86

من صفات الحاكم الإسلامي... 86

الثبات والاستمرارية في العمل... 86

التحذير من مؤازرة الحكّام الظالمين... 87

الإخلاص في العمل... 87

من مكارم الأخلاق

حسن الخلق... 89

من أخلاق الأنبياء(عليهم السلام)... 91

التنزه عن سوء الظن... 93

لا تكن متكبراً... 95

التواضع كرامة... 97

المصافحة عند أهل البيت(عليهم السلام)... 98

أخلاق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 102

تواضع سيد الشهداء(عليه السلام)... 103

تواضع سلمان الفارسي... 104

التواضع الاجتماعي... 104

التواضع في التعليم... 105

نماذج من المتواضعين... 106

تواضع الإمام الرضا(عليه السلام)... 106

الطبيب المتواضع... 107

تواضع السيد عبد الحسين شرف الدين(رحمه اللّه)... 107

الناس يطلبون الإسلام... 108

إخلاص الإمام الحسين(عليه السلام)... 109

ص: 545

إخلاص المسلمين الأوائل... 110

من هدي القرآن الحكيم... 112

حسن الخلق... 112

ثمرة مكارم الأخلاق... 113

صفات الأخيار... 113

مساوئ الأخلاق... 114

من هدي السنّة المطهّرة... 114

ماذا يعني حسن الخلق؟... 114

ثمرة الأخلاق الحسنة... 115

نحو مكارم الأخلاق... 118

مساوئ سوء الخلق... 118

من أسباب الفقر والحرمان في العالم

مصالح الأحكام والأسباب الغيبية... 121

السنن الكونية وتأثيراتها... 124

الغرب وإفقار البلاد... 125

الأسباب المعنوية... 125

المشاكل الاقتصادية... 126

أسباب الفقر... 132

1- سرقة ثروات الشعوب... 132

التنزه عن السرقة... 134

2- الربا... 135

3- منع الناس من العمل... 137

4- شراء الأسلحة... 138

ولا عجب... 139

من هدي القرآن الحكيم... 141

1- أن لا تحيد عن العبودية للّه تعالى... 141

2- وتزكي أموالها... 141

ص: 546

3- وتنفق في مرضاة اللّه... 142

4- ترسيخ معالم الحرية الإسلامية... 142

من هدي السنّة المطهّرة... 142

1- أن لا تحيد عن العبودية للّه تعالى... 142

2- وتزكي أموالها... 143

3- وتنق في مرضاة اللّه... 143

4- ترسيخ معالم الحرية الإسلامية... 144

مواصفات القيادة الإسلامية

الأسوة الحسنة... 145

الحاجة إلى القيادة... 146

الكفاءة... 149

الإتقان في العمل... 151

ما ضلَّ من استشار... 153

مع المعارضة... 154

التواضع... 157

الجماهيرية... 161

التحلي بوصايا أمير المؤمنين(عليه السلام)... 162

قائد ثورة العشرين... 165

الدراهم المباركة... 167

وفي وقت القيظ... 168

أصلح أمرك... 168

الإصلاح... 169

العلاقات الدولية... 171

محاسبة القائد نفسه... 172

اللاعنف... 174

مدرسة الدعاء... 179

خاتمة: روايات في باب القيادة والحكومة... 180

ص: 547

الباب الأول: في الشؤون السياسية والنظامية... 180

في الرئاسة والسياسة... 180

الباب الثاني: في الحكومة... 181

الفصل الأول: في الحاكم والحكومة العادلة... 181

الحكومة العادلة وفضيلتها... 181

آثارها وفوائدها... 182

الفصل الثاني: شرائط الحاكم... 184

الفصل الثالث: وظائف الحكام... 185

الفصل الرابع: أخلاق الحاكم... 186

الفصل الخامس: مواعظ للحكام... 187

الفصل السادس: عمال الدولة... 192

الفصل السابع: آفات الحكومة... 192

البغي... 192

الانتقام... 193

التكبر... 194

الظلم والجور... 194

الاستبداد... 195

آفات متفرقة... 196

الفصل الثامن: في الحاكم والحكومة الجائرة... 196

ذم الحكومة الجائرة... 196

آثار الحكومة الجائرة... 198

من هدي القرآن الحكيم... 199

على القائد أن يكون عادلاً قبل كل شيء... 199

القائد من الناس وإليهم ومعهم... 200

مؤهلات القائد... 200

1- الإيمان... 200

2- الكمال في العلم والجسم... 201

3- الأمانة... 201

ص: 548

4- هداية الناس إلى النجاة... 201

5- الصبر الكبير... 201

من صفات القيادة الباطلة... 201

1- حب النفس... 201

2- إضلال الناس... 201

3- الإفساد وإذلال الناس وسفك دمائهم بغير حق... 202

4- الاستبداد بالرأي... 202

5- اتخاذ عباد اللّه خولاً وما اللّه دولاً... 202

من هدي السنّة المطهّرة... 202

على القائد أن يكون عادلاً قبل كل شيء... 202

القائد من الناس وإليهم ومعهم... 203

من صفات القائد... 204

ما يجب على القائد أن يتجنبه... 204

نحن والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)

مقاييس تقييم العظماء... 206

مولد النور... 207

الاسم الشريف والكنية المباركة... 209

من فضائله(عليه السلام)... 211

الإيمان بأمير المؤمنين(عليه السلام)... 211

ميلاد المسيح(عليه السلام)... 215

من بركاتهم(عليهم السلام)... 216

أولاً: دراسة نهج البلاغة... 217

كتاب الحقائق الكونية والإنسانية... 219

ثانياً: التبليغ ونشر التعاليم الإسلامية... 221

الشيعة والآخرون... 222

انتشار الوهابية... 222

انتشار المسيحية... 223

ص: 549

كيف ننشر الإسلام؟... 224

لماذا نهج البلاغة والتبليغ؟... 225

عهد أمير المؤمنين(عليه السلام)... 226

قوة المنطق... 228

لو خطب علي(عليه السلام)... 229

كتمان الحقيقة... 230

نحو إدارة ناجحة

الإدارة والمداراة... 232

الخطب اليومية للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 234

فن إدارة المعارضة... 235

قصة وضع الحجر... 241

معنى الإدارة وتقسيماتها... 242

السلطات وأقسامها... 243

مراحل الإدارة في صدر الإسلام... 244

المرحلة الأولى... 244

المرحلة الثانية... 246

المرحلة الثالثة... 248

معاهدة المدينة المنورة... 249

المرحلة الرابعة... 252

المرحلة الخامسة... 252

إدارة الوفود... 253

الإدارة النموذجية... 255

أين الإدارة الإسلامية؟... 256

عوامل نجاح الإدارة... 257

العلم... 257

الإخلاص... 258

سائر الشروط... 258

ص: 550

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإدارة... 259

الإدارة ونشر الوعي... 260

رفع الحواجز الوهمية... 260

المسلمون اليوم... 263

المطلوب لإنجاح الإدارة... 265

حكمة اللّه تعالى... 266

مداراة الناس... 267

من هدي القرآن الحكيم... 268

أهمية الإدارة... 268

التنظم سنة كونية... 269

مداراة الناس وآثارها... 269

التدبير أساس في كل شيء... 270

من هدي السنّة المطهّرة... 270

الإدارة منهاج عمل... 270

التنظيم سنة كونية... 271

مداراة الناس وآثارها... 272

سوء التدبير سبب التدمير... 273

نحو التغيير

أسس التغيير... 274

النذير العريان... 275

التعصبات الباطلة... 277

الحروب القبلية... 281

واجب المسلمين... 288

المذابح والاستهانة بالإنسان... 291

محمد الفاتح وفتح تركيا... 295

المسلمون في صقلية... 299

المسلمون اليوم... 301

ص: 551

من هدي القرآن الحكيم... 302

العزم والصبر... 302

العصبية والجاهلية... 302

الإمام خليفة اللّه... 303

من هدي السنّة المطهّرة... 304

العزم والحزم... 304

العصبية والجاهلية... 305

أهمية التخطيط والحكمة... 306

الإمامة خلافة اللّه... 306

وإلى الشباب نقول...

المقدمة... 308

الشباب ذخائر الأمم... 309

مصعب بن عمير... 313

سلوك الشباب... 314

في رحاب الأنبياء(عليهم السلام)... 316

روح الشباب... 318

مع الشباب في عالمهم... 320

الفتيات المؤمنات نماذج وعبر... 321

العقيلة الحوراء زينب(عليها السلام)... 321

خطبتها(عليها السلام) في أهل الكوفة... 327

السيدة حميدة المصفاة(عليها السلام)... 330

السيدة فاطمة المعصومة(عليها السلام)... 331

سكينة بنت الحسين(عليها السلام)... 332

السيدة نفيسة(عليها السلام)... 334

من كراماتها... 337

وفاتها... 338

ص: 552

الشيخ البلاغي... 339

الجانب العملي... 341

الكتاب يغيّر... 343

من هدي القرآن الحكيم... 344

1- طاعة اللّه عزّ وجلّ... 345

2- عبادته تعالى... 345

3- الاقتداء بالقرآن... 345

4- التأسي والولاية لرسول اللّه وأهل بيته(عليهم السلام)... 346

5- تعلم العلم... 346

6- العمل الصالح... 346

من هدي السنّة المطهّرة... 347

أبلغ الوصايا... 347

ما ينبغي للشباب... 356

1- طاعة اللّه عزّ وجلّ... 356

2- عبادته تعالى... 357

3- الاقتداء بالقرآن... 357

4- التأسي والولاية لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)... 358

5- تعلم العلم... 358

6- العمل الصالح... 359

وصايا إلى الشباب المسلم

الدنيا والآخرة... 361

الشباب والثقافة الدينية... 362

الطموح... 363

التدريب على استخدام الأسلحة... 365

السلام أصل دائم... 366

استغلال أوقات الفراغ... 367

ثمار استغلال الفراغ... 368

ص: 553

المحصلة... 369

الارتباط المباشر بالآخرة... 369

جزاء الأعمال... 370

أنواع العذاب... 371

خلاصة الكلام... 373

من هدي القرآن الحكيم... 374

حب الدنيا رأس كل خطيئة... 374

عند اللّه ثواب الدنيا والآخرة... 375

القبر: المصير المحتوم... 375

من هدي السنّة المطهّرة... 376

مزرعة الآخرة... 376

العبرة لمن اعتبر... 377

حجاب القلب... 378

الشباب وعلو شأنه... 378

وصايا إلى الكوادر العراقية

جزاء الصابرين... 380

المؤمن مبتلى... 382

طريق الخلاص... 384

الوعي والرشد... 385

لا بديل عن الإسلام... 386

وحدة الصف... 387

قصة من القرآن الكريم... 389

بث الوعي في الأمة... 390

من هدي القرآن الحكيم... 391

كتاب يرشد إلى العقل... 391

الدنيا دار تمحيص وابتلاء للمؤمن... 391

كتاب الوعي والإرشاد... 392

ص: 554

لا بديل عن الإسلام... 392

بث الوعي في الأمة... 393

من هدي السنّة المطهّرة... 394

القرآن كتاب يرشد إلى العقل... 394

الدنيا دار تمحيص وابتلاء للمؤمن... 397

الوعي والرشد الفكري... 397

لا بديل عن الإسلام... 398

بث الوعي في الأمة... 399

ملحق... 401

الصورة المستقبلية للعراق... 401

العراق ما بعد صدام... 405

العراق والتغيير المرتقب... 405

أمور خمسة... 406

حكم الإسلام... 407

بالإسلام تعمر البلاد... 408

قانون من سبق... 409

الإسلام هو الحل... 410

الحكومة الشيعية... 411

الأحزاب الحرة... 411

حرية الحوزات العلمية... 413

العتبات المقدسة... 414

وصايا لمجاوري المراقد المقدسة

أهمية المراقد المطهرة... 416

وصايا تخص الهيئات المقيمة في مدينة مشهد المقدسة... 418

مدينة مشهد المقدسة... 418

المجالس الحسينية... 420

معرفة المعصوم(عليه السلام)... 422

ص: 555

إلى الهيئات عامة... 423

من هدي القرآن الحكيم... 424

1- تعريف الإسلام للناس أكثر وأكثر... 424

2- إقامة مجالس الوعظ والإرشاد... 425

3- إقامة مجالس التفقّه في الدين... 425

4- الاهتمام بالأعمال الخيرية... 425

5- لزوم اتباع الأئمة المعصومين(عليهم السلام)... 425

ضرورة إقامة المجالس الحسينية دائماً... 425

الاهتمام كثيراً بتعليم القرآن الكريم... 426

من هدي السنّة المطهّرة... 426

1- ينبغي نشر حب أهل البيت(عليهم السلام)... 426

2- ينبغي الاهتمام بالقرآن وتعليمه... 426

3- ينبغي إقامة مجالس التفقه في الدين... 427

لزوم معرفة الإمام المعصوم... 427

ضرورة إقامة المجالس دائماً... 428

فضائل زيارة قبور المعصومين الأربعة عشر(عليهم السلام)... 428

وصولاً إلى حكومة إسلامية واحدة

الحكومة الإسلامية الواحدة... 430

ما هو الطريق للحكومة الواحدة؟... 432

إنه ليس بمستحيل... 433

دولة المسلمين والنصر الإلهي... 434

مقومات الحكومة الواحدة... 437

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقادة الدول... 439

نواة دولة الإسلام... 443

أولاً: التنظيمات... 443

الوعد الإلهي... 445

سؤال لا بد منه... 446

ص: 556

مرحلة البناء... 447

قانون الزواج والطلاق في الهند... 448

ثانياً: الوعي الجماهيري... 449

شاهد من التاريخ... 450

ثالثاً: إنشاء المؤسسات الخيرية... 452

من جدّ وجد... 454

لماذا أنا مسلم؟... 455

إدارة السيد أبي الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه)... 457

وفاء السيد الأصفهاني(رحمه اللّه)... 459

من هدي القرآن الحكيم... 460

إقامة الحكومة الإسلامية... 460

نشر الوعي الإسلامي... 461

التوكل على اللّه في كل الأعمال... 461

كل مسلم مسؤول عن إقامة الدين... 461

المسلمون أمة واحدة... 462

من هدي السنّة المطهّرة... 462

اتباع الكتاب والعترة... 462

نشر العلم والوعي... 463

المسلمون أمة واحدة... 463

الخلاف والفرقة... 464

ولكم في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونزاهة الحرب... 465

قريش والحرب والانتقام... 466

استعداد المسلمين... 468

معركة أحد... 468

مقام أمير المؤمنين(عليه السلام) في أحد... 471

مقتل حمزة(عليه السلام)... 476

ص: 557

تراجع الكفار إلى مكة... 483

من أعان ظالماً سلطه اللّه عليه... 485

دروس وعبر... 487

الاستعمار في بلاد الإسلام... 490

قصة من الواقع... 491

التوعية والأسوة... 493

الشباب والتأسي... 494

التأسي بالعترة الطاهرة... 495

التنظيم... 495

من هدي القرآن الحكيم... 497

حسن الخلق... 497

معاشرة الناس... 497

العطف على المساكين... 498

العدل بين الناس... 498

من هدي السنّة المطهّرة... 499

حسن الخلق... 499

معاشرة الناس... 499

العطف على المساكين والفقراء... 500

العدل بين الناس... 501

الاعتدال

الاعتدال لغة الكَون... 502

وقْفَة... 503

أولاً... 504

ثانياً... 504

ثالثاً... 505

الاعتدال في الفكر والمُعْتَقد... 506

الاعتدال في العبادة... 508

ص: 558

الاعتدال في سدّ الشهوات... 510

الاعتدال الاجتماعي... 513

من هدي القرآن الحكيم... 514

دعوة إلى الاعتدال... 514

1- في العبادة... 514

2- في القضاء... 514

3- في أداء الصلاة... 515

4- في الأكل والشرب... 515

5- في الإنفاق... 515

من هدي السنّة المطهّرة... 515

دعوة إلى الاعتدال... 515

1- العبادة... 515

2- المأكل... 515

3- الإنفاق... 516

4- الخوف والرجاء... 516

الإصلاح الثقافي

الأول... 517

الثاني... 517

اختلاف الناس... 519

الفساد قبل الإسلام... 521

مسؤوليتنا... 521

الكتب السماوية... 523

التهم ضد الإمام علي(عليه السلام)... 524

إصلاح الناس... 524

الخنساء والتحول الكبير... 525

بنو أمية لم يقبلوا الإصلاح... 526

ما المطلوب؟... 527

ص: 559

من هدي القرآن الحكيم... 528

الإصلاح الثقافي والإصلاح بين الناس... 528

من هدي السنّة المطهّرة... 529

الإصلاح بين الناس... 529

التعايش السلمي

تعامل الرّسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع المُنافقين... 531

كيفَ يتمّ التعايش السِلمي؟... 533

أُدخلوا في السِّلم كافّة... 535

مؤمن الطاق... 536

من هدي القرآن الحكيم... 538

من أُسس التَّعايش السلمي... 538

1- الإيمان... 538

2- الصبر... 539

3- الأخلاق الحسنة... 539

4- التواضع... 539

من هدي السنّة المطهّرة... 540

من أُسس التعايش السلمي... 540

1- الإيمان... 540

2- الصبر... 540

3- الأخلاق الحسنة... 541

4- التواضع... 541

فهرس المحتويات... 543

ص: 560

المجلد 8

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد محمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: القطوف الدانية المجلد 8/ آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.، 1399 -

خصائص المظهر : ج.

ISBN : دوره : 978-964-204538-9 ؛ ج.1 : 978-964-204539-6 ؛ ج.2 : 978-964-204540-2 ؛ ج.3 : 978-964-204541-9 ؛ ج.4 : 978-964-204542-6 ؛ ج.5 : 978-964-204543-3 ؛ ج.6 : 978-964-204544-0 ؛ ج.7 : 978-964-204545-7 ؛ ج.8 : 978-964-204546-4

حالة الاستماع : فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج.2 - 8 (چاپ اول: 1399) (فیپا).

ملحوظة : فهرس.

مشكلة : الإسلام - محتويات مختلفة

Islam - Miscellanea

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6223294

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

القطوف الدانية

---------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه اللّه)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة الأولى - 1441ه ق

---------

شابك (الدورة): 9-204538-964-978

شابك (المجلد الأوّل): 6-204539-964-978

---------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(عليه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(عليه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

هداية الناس وقضاء حوائجهم

من أهم الواجبات

إن هداية الناس إلى الصراط المستقيم من أهم الواجبات التي فرضها اللّه عزّ وجلّ، فيلزم على كل أحد أن يسعى بمقدار وسعه في هداية المنحرفين عن اللّه وعن رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعن أهل البيت(عليهم السلام) إلى الدين الصحيح والمذهب الحق.

وخاصة على الحوزات العلمية أن تبرمج للهداية حسب التخصصات العلمية، فمجموعة لهداية الملحدين، ومجموعة لهداية الكفار والمشركين من اليهود والنصارى وغيرهم، ومجموعة لهداية أبناء العامة وهكذا، وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وبيان محاسن طريق الحق، ومساوئ طريق الباطل.

كما قال الإمام الرضا(عليه السلام): «رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا... يتعلم علومنا ويُعلّمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا»(1).

والقرآن الكريم والسنة الشريفة والسيرة المطهرة المروية عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والآل(عليهم السلام) خير دليل على لزوم الهداية، وأساليبها الصحيحة.

عقيدة التثليث

هناك آيات كريمة تتعرض لعقيدة التثليث وتعالجها بأسلوب علمي دقيق. قال اللّه تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن

ص: 5


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 307.

يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}(1).

في معرض بيان معنى الآية الشريفة، علينا أن نذكر الآية التي سبقتها، وهي قوله تعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ سُبْحَٰنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا}(2).

لقد توجه السياق إلى أهل الكتاب، ويراد بهم هنا النصارى، قال سبحانه: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} الغلو: هو مجاوزة الحد والارتفاع، ومنه: غلا في دينه، أي: تجاوز الحد إلى الارتفاع، فقد كان المسيحيون يقولون بتعدد الآلهة: الأب والابن وروح القدس، ويريدون بالأول: اللّه، وبالثاني المسيح(عليه السلام)، وبالثالث جبرائيل(عليه السلام) {وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ} أي: لا تفتروا على اللّه بأن تقولوا: إن اللّه أمرنا بعبادة آلهة ثلاثة، أو المعنى: لا تقولوا بالنسبة إلى اللّه ما ينافي عظمته من قولكم إن له شريكاً، {إِلَّا الْحَقَّ} وهو أنه لا شريك له ولم يأمر إلّا بذلك {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} قيل: إنما سمي بالمسيح؛ لأنه كان يمسح الأرض ويسيح في البلاد، و(عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) بيان لقوله (الْمَسِيحُ) يعني: إنه ابن مريم، لا أنه ابن اللّه، و(رسول اللّه) خبر لقوله (المسيح) {وَكَلِمَتُهُ} أي: كلمة اللّه، وهذا تشبيه، فكما أن المتكلم إذا قال القول، حدث منه في الخارج شبه إلقاء، كذلك اللّه سبحانه يُلقي الأشياء إلى الخارج فهي كلماته، ولذا يقال للمخلوقات: كلمات اللّه، و(إِنَّمَا) هنا للحصر الإضافي مقابل البنوة والألوهية.

ص: 6


1- سورة النساء، الآية: 172.
2- سورة النساء، الآية: 171.

{أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ} أي: أوجدها في رحمها الطاهر بدون زواج واقتراب منرجل {وَرُوحٌ مِّنْهُ} سبحانه و(الروح) هي القوة - الطاقة - التي تتحرك وتُحرك، فعيسى(عليه السلام) روح من قبل اللّه سبحانه، ولذا يقال له: روح اللّه، ومن المعلوم أن الإضافة تشريفية نحو: بيت اللّه. أي روح خلقها اللّه تعالى.

{فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} إيماناً صحيحاً بالإذعان لوحدته، وأنه لاشريك له ولا ولد، وأن المسيح رسولٌ كريم {وَلَا تَقُولُواْ} أيها النصارى أن الإله {ثَلَٰثَةٌ} أب وابن وروح القدس {انتَهُواْ} عن هذا الكلام البشع، وائتوا {خَيْرًا لَّكُمْ} في دنياكم وآخرتكم من التوحيد والتنزيه {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} لا شريك له، فليس المسيح(عليه السلام) شريكاً له في الألوهية، فإن من كان له شريك لا يصلح أن يكون إلهاً؛ إذ الشركة تلازم التركيب، والتركيب يلازم الحدوث، فإن كل مركَّب لا بدّ له من مركِّب وأجزاء سابقة - ولو رتبةً - وما سبقه غيره ليس بإله {سُبْحَٰنَهُ} أي أُسبّحه سبحانه، بمعنى: أُنزهه تنزيهاً {أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌۘ} كما قال المسيحيون من أن المسيح ابن اللّه، فإنه لو أريد بالولد المعنى المتعارف مما يستلزم الولادة، فإن ذلك من صفات الممكن لا من صفات الإله؛ إذ لا يعتري الإله التغيير، وإلّا كان حادثاً، ولو أريد المعنى التشريفي كما يقول الشخص الكبير لبعض الناس - إذا أراد تشريفهم - : فلان ولدي، فإن ذلك لا يجوز بالنسبة إلى اللّه سبحانه؛ إذ شؤونه كلها توقيفية، فقد أذن أن يقال: فلان خليله، ولم يأذن أن يقال: ابنه أو ولده. والمراد بالآية هو المعنى الأول.

{لَّهُ} أي للّه تعالى {مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ومن يكون كل شيء ملكه لا يمكن أن يكون شيء ولداً له؛ إذ الولد من جنس الوالد، وليس للّه نظير ولا شبيه {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نفاذ أمره، وهو وعيد للقائلين بالتثليث.

ص: 7

ثم ذكر سبحانه أن المسيح(عليه السلام) هو بنفسه يعترف بأنه عبد اللّه، فلِمَ يقولهؤلاء بأنه ابن اللّه أو شريك اللّه؟

{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ} أي لن يأنف عيسى(عليه السلام) {أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ} بل اعترف هو(عليه السلام) حين ولادته بذلك {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ الْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}(1)، {وَلَا الْمَلَٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} الذين قربهم سبحانه من ساحة لطفه. ولعل هذا إشارة إلى رد من زعم أنهم أولاد اللّه كما حكى سبحانه بقوله: {وَجَعَلُواْ الْمَلَٰئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَٰدُ الرَّحْمَٰنِ إِنَٰثًا}(2) {وَمَن يَسْتَنكِفْ} يأنف ويمتنع {عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} فيرى نفسه أكبر وأعظم من أن يعترف للّه بالعبودية {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} الحشر هو الجمع، أي: يجمعهم يوم القيامة جميعاً ليُجازيهم باستكبارهم. و(إِلَيهِ) ليس للمكان لأنه سبحانه منزّه عنه، بل المراد: المحل المُعدّ لقضائه وجزائه(3).

وروي أن وفد نجران قالوا لنبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا محمد، لم تعيب صاحبنا؟

قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ومن صاحبكم؟».

قالوا: عيسى(عليه السلام). قال: «وأي شيء أقول فيه؟».

قالوا: تقول: «إنه عبد اللّه ورسوله». فنزلت الآية(4).

نعم، هكذا يعتقد المسيحيون بالتثليث، وإن للكون ثلاثة آلهة، اللّه الأب وهو إله السماء، واللّه الابن، أي: المسيح، واللّه الأم - عند بعضهم - ويقصدون بها مريم(عليها السلام)، لكن معظمهم لا يقول بالرب الأم، بل يعتقدون بأن جبرائيل(عليه السلام) هو

ص: 8


1- سورة مريم، الآية: 30.
2- سورة الزخرف، الآية: 19.
3- انظر تفسير تقريب القرآن 1: 588.
4- تفسير مجمع البيان 3: 250.

الرب الثالث ويسمونه: روح القدس؛ وبعض المسيحيين عندما يفتتحون الكلام يبدؤون بالبسملة، ولكن بطريقتهم الخاصة حيث يقولون: باسم الرب والابنوروح القدس(1).

وقد نهى القرآن الكريم - وكما ذكرنا آنفاً - عن التثليث حيث يقول سبحانه وتعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ سُبْحَٰنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا}(2).

والآية تصرح بأن المسيح(عليه السلام) عبد اللّه تعالى، وليس بإله كما يزعمون، وأن

ص: 9


1- ترتكز المسيحية على خمسة أمور هي جوهر العقيدة عندهم، وهم يزعمون أن الخالق الإله له ثلاثة أقانيم، وأن أحد هذه الأقانيم أب، والآخر ابن، والثالث روح القدس، وإن الابن هو الكلمة، والروح هي الحياة، والأب هو القديم الحي المتكلم، وأن هذه الأقانيم الثلاثة متفقة في الجوهرية مختلفة في الأقنومية، وإن الابن لم يزل مولوداً من الأب، والأب والداً للابن، ولم تزل الروح فائضة من الأب والابن... وهذه الأمور الخمسة هي: 1- التثليث: وهو أهم أركان المسيحية (أب، وابن، وروح القدس). 2- ألوهية المسيح: وهي أن عيسى(عليه السلام) ابن اللّه نزل ليقدم نفسه قرباناً ويصلي تكفيراً عن خطيئة البشر. وهذه من أعمال بولس منشئ المسيحية. 3- ألوهية روح القدس: وهو الذي حل على مريم العذراء(عليها السلام) لدى البشارة، وعلى المسيح(عليه السلام) في العماد، وعلى الرسل بعد صعود المسيح(عليه السلام) إلى السماء، وأن روح القدس لا يزال موجوداً وهو ينزل على الآباء والقديسين في الكنيسة. 4- صُلب المسيح(عليه السلام) للتكفير عن خطيئة البشر. 5- محاسبة المسيح(عليه السلام) للناس، وأن الأب أعطى سلطان الحساب للابن، ذلك لأن الابن بالإضافة إلى ألوهيته فهو ابن الإنسان، فهو أولى بمحاسبة الإنسان. للتفصيل انظر كتاب: (مائة سؤال حول الثالوث)، و(كيف ولماذا أسلموا؟)، و(ماذا في كتب النصارى؟) للإمام الشيرازي(رحمه اللّه). وكتاب: (الرحلة المدرسية) و(الهدى إلى دين المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم))، و(التوحيد والتثليث) للشيخ محمد جواد البلاغي(رحمه اللّه).
2- سورة النساء، الآية: 171.

الألوهية للّه وحده.

ومما يدل على خطأ عقيدة التثليث: أنه لا معنى لأن يكون الإنسان في مقامالربوبية والعبودية في آن واحد بأن يكون عبداً ويكون إلهاً. وهذا الأمر ظاهر للمتأمل - ولو قليلاً - حيث إن العقل يرفضه؛ لاستلزامه التناقض المحال عقلاً. مضافاً إلى سائر الأدلة المذكورة في علم الكلام.

وهكذا يخاطب القرآن من قال بأن الملائكة بنات اللّه، بل هم عباد اللّه، قال تعالى: {وَجَعَلُواْ الْمَلَٰئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَٰدُ الرَّحْمَٰنِ إِنَٰثًا}(1).

وقال تعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَٰئِكَةَ إِنَٰثًا وَهُمْ شَٰهِدُونَ}(2).

فإذا لم يشهدوا خلق الملائكة كيف عرفوا بأنهم إناث؟

وفي آية أخرى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَٰنَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}(3).

وبهذا الأسلوب العلمي الواضح يتضح نفي تلك العقائد الباطلة من كون الملائكة بنات اللّه، ومن ألوهية المسيح(عليه السلام) مطلقاً، سواء فرض كونه ولداً، أو أنه ثالث الثلاثة، فإن المسيح(عليه السلام) بنفسه ينفي ذلك، ويقول إنه عبد اللّه لا غير، ولن يستنكف(عليه السلام) أبداً عن عبادته عزّ وجلّ، وهذا مما لا ينكره حتى النصارى، وقد صرحت بذلك الأناجيل الدائرة عندهم في أنه كان يعبد اللّه تعالى. فإذا كان يعبد اللّه فإنه عبد وليس رباً لأن الرب لا يَعبد بل يُعبد.

ومن هنا جاء في رواية الإمام الرضا(عليه السلام) عند احتجاجه مع الجاثليق كبير

ص: 10


1- سورة الزخرف، الآية: 19.
2- سورة الصافات، الآية: 150.
3- سورة الأنبياء، الآية: 26-28.

النصارى، قال(عليه السلام): «يا نصراني واللّه إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما ننقم على عيساكم شيئاً إلّا ضعفه وقلة صيامه وصلاته»!!

قال الجاثليق: أفسدت واللّه علمك وضعفت أمرك وما كنت ظننت إلّا أنك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضا(عليه السلام): «وكيف ذاك»؟

قال الجاثليق: من قولك إن عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة وما أفطر عيسى يوماً قط ولا نام بليل قط وما زال صائم الدهر وقائم الليل.

قال الرضا(عليه السلام): «فلمن كان يصوم ويصلي»؟

فخرس الجاثليق وانقطع(1).

الهداية عبر الأدعية

ثم إن الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) بينوا لنا طرق الهداية وأساليبها ومصاديقها عبر رواياتهم الشريفة وسيرتهم العملية، كان منها تلك الأدعية ذات المضامين العالية التي وردت عنهم، فإنها مدرسة للهداية في مختلف جوانب الحياة، كما هو المشاهد في الصحيفة السجادية وأدعية سائر المعصومين(عليهم السلام).

قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): «كان من دعاء أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه): إلهي، كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، إلهي، أنت لي كما أحب وفقني لما تحب»(2).

وهذا الدعاء يحتوي على كنوز من المعرفة والهداية كما لا يخفى على ذوي البصيرة.

ص: 11


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 158.
2- كنز الفوائد 1: 386.

الهداية التكوينية والتشريعية

ثم إن الهداية قد تكون تكوينية وقد تكون تشريعية، ومن هنا يكون تسبيحالكون للّه عزّ وجلّ، أما العبادة لغير اللّه، وجعل شركاء للّه(1)،

فهذه من الانحرافات والمشاكل التي تواجه العالم البشري ولا يزال يواجهها المليارات من الناس في مختلف الأماكن من العالم، ويلزم السعي لهداية هؤلاء المنحرفين نحو التوحيد والعبودية للّه عزّ وجلّ.

نعم في الجانب التكويني كل شيء ساجد للّه طوعاً أو كرهاً، كما يقول القرآن العظيم: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}(2).

وما يثبت ذلك أكثر هو أن أناجيلهم مشحونة بأن الروح طائع للّه ورسوله، وكذلك النبي عيسى(عليه السلام) حيث كان يطيع اللّه عزّ وجلّ، بالإضافة إلى ذلك فإنها مشتملة على أن المسيح(عليه السلام) كان يدعو إلى عبادة اللّه، وأن اللّه هو الذي بيده زمام أمره، وأن اللّه هو رب الناس، ولا تتضمن دعوة المسيح(عليه السلام) إلى عبادة نفسه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَىٰهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٖ}(3). ومن هذه المقدمات نحصل على نتيجة هي: إن جميع الناس والملائكة كلهم عبيدٌ للّه طائعون له (جل اسمه) ولا يستطيع أي مخلوق أن يفر من حكومة اللّه وسلطته، وقد وردت هذه الإشارة في دعاء كميل ابن زياد(رحمه اللّه) الذي علمه إياه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)

ص: 12


1- كالديانة الهندوسية والبوذية والصابئة والمجوس وما أشبه.
2- سورة الرعد، الآية: 15.
3- سورة المائدة، الآية: 72.

حيث جاء في هذا الدعاء:«ولا يمكن الفرار من حكومتك»(1).

الهداية والتذكير بالآخرة

ثم إن من أسباب الهداية تذكير الناس بالموت واليوم الآخر، وما أكثر ذلك في القرآن الكريم والروايات الشريفة، يقول اللّه تعالى في كتابه الكريم: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٖ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَٰلِ وَالْإِكْرَامِ}(2).

وهذا الكلام هو بمثابة الإيقاظ من الغفلة التي يعيشها الإنسان في أحضان هذه الدنيا؛ وتركيز على الهداية، ولذا يلزم على الإنسان أن يكون على حالتين، لكي يكون مستعداً لذلك اليوم الذي لا مفر منه وهي:

أولاً: العبودية للّه تعالى.

ثانياً: خدمة الناس.

فالعبودية للّه تعالى، لا تعني لقلقة اللسان فقط، بل على الإنسان أن يذعن بأنه عبدٌ للّه - في قلبه وقرارة نفسه - ويخاف اللّه في جوارحه وأعماله، عند ذلك يكون إنساناً مهتدياً إذا أطاع اللّه عزّ وجلّ في أوامره ونواهيه.

القيادة الربانية

ومن أهم أسباب الهداية القيادة الربانية، دون القيادة الشيطانية.

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(3).

فالعبودية للّه والطاعة لأوامره سبحانه وتعالى هي غنيمة الأكياس، ومفتاح كل

ص: 13


1- مصباح المتهجد 2: 845.
2- سورة الرحمن، الآية: 26-27.
3- سورة النساء، الآية: 59.

سداد، وصلاح كل فساد.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «دعاكم ربكم سبحانه فنفرتم ووليتم، ودعاكمالشيطان فاستجبتم وأقبلتم»(1).

وقال(عليه السلام): «دعاكم اللّه سبحانه إلى دار البقاء وقرارة الخلود والنعماء، ومجاورة الأنبياء(عليهم السلام) والسعداء، فعصيتم وأعرضتم، دعتكم الدنيا إلى قرارة الشقاء ومحل الفناء وأنواع البلاء والعناء، فأطعتم وبادرتم وأسرعتم»(2).

فمن أراد الهداية عليه أن يطيع اللّه والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآل البيت(عليهم السلام) فإن قولهم الحق والصدق.

أما إذا ترك هؤلاء الأطهار(عليهم السلام) وتمسك بالشيطان وأولياء الشيطان فإنه يكون بعيداً عن الهداية كل البُعد.

العلماء ومسؤولية الهداية

تقع مسؤولية الهداية على الجميع ولكن العلماء والفضلاء وطلبة العلوم الدينية مسؤولون قبل غيرهم من الناس؛ لأنهم وظفوا أنفسهم لهداية الناس إلى طريق الحق ورفع غبار الباطل عن أعين الناس؛ ولذا فإن محاسبتهم سوف تكون غداً أشد، فيجب عليهم أن يكونوا حقاً أتقياء، ويخافون اللّه، لأن هداية الناس مرتبطة بأعمالهم، فإذا منعوا الطريق المؤدي إلى اللّه سبحانه وتعالى فسيكونون لصوصاً، بل أشد من اللصوص وقطاع الطرق؛ لأنهم إن ضلوا هذا الطريق (والعياذ باللّه)، فإنهم سوف لا يهلكون أنفسهم فقط، بل سوف يهلكون الآخرين أيضاً، لأن الناس قد ركنوا إليهم وأعطوهم حرية التصرف في رسم الطريق لهم

ص: 14


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 819.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 368.

لهدايتم إلى اللّه سبحانه وتعالى، وبالتالي فإن اللّه (سبحانه وتعالى) سوف يحاسبهم أشد الحساب في الآخرة وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قولهتعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ}(1).

حيث قيل: إن الأمر بالوقوف والسؤال إنما يقع في صراط الجحيم، فهناك يُسأل أولئك الذين وضعوا أنفسهم موضع المسؤولية، حيث ينتظرهم الحساب العسير، وهناك يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفَر للعالم ذنب واحد.

عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «يا حفص، ما منزلة الدنيا من نفسي إلّا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها - ثم قال: - فاز واللّه الأبرار، أتدري من هم؟ هم الذين لا يؤذون الذر. كفى بخشية اللّه علماً، وكفى بالاغترار باللّه جهلاً. يا حفص، إنه يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفر للعالم ذنب واحد. من تعلّم وعلم، وعمل بما علم، دعي في ملكوت السماوات: عظيماً، فقيل: تعلم للّه وعمل للّه، وعلم للّه...»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال عيسى ابن مريم على نبينا وآله وعليه السلام: ويلٌ للعلماء السوء كيف تلظى عليهم النار»(3).

وعن جميل بن دراج قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إذا بلغت النفس هاهنا - وأشار بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة»، ثم قرأ(عليه السلام): {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَٰلَةٖ}»(4)(5).

ص: 15


1- سورة الصافات، الآية: 24.
2- تفسير القمي 2: 146.
3- الكافي 1: 47.
4- سورة النساء، الآية: 17.
5- الكافي 1: 47.

وعن أبي جعفر(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُنَ}(1) قال:«هم قومٌ وصفوا عدلاً بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: يا طالب العلم، إن العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه التواضع، وعينه البراءة من الحسد، وأذنه الفهم، ولسانه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النية، وعقله معرفة الأشياء والأمور، ويده الرحمة، ورجله زيارة العلماء، وهمته السلامة، وحكمته الورع، ومستقره النجاة، وقائده العافية، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين الكلمة، وسيفه الرضا، وقوسه المداراة، وجيشه محاورة العلماء، وماله الأدب، وذخيرته اجتناب الذنوب، وزاده المعروف، وماؤه الموادعة، ودليله الهدى، ورفيقه محبة الأخيار»(3).

خدمة الناس وطرقها

اشارة

من مقومات الهداية: خدمة الناس، فإنها توفق الشخص للهداية، كما تمهد الطريق لهداية الآخرين.

وتتنوع الخدمة بتنوع الحاجات الروحية والمادية، فمنها الأمور التالية:

أولاً: الخدمة الثقافية، يلزم العمل وبكل إخلاص من أجل توعية الناس وتوجيه أفكارهم وجعلها تسير في مسارها المستقيم لا يشوبها شك وشبهة؛ وذلك لأن الإمبريالية العالمية في عصرنا الحاضر قد صممت وبكل ما أوتيت من قوة على سرقة وتلويث أفكار الناس وتضليل عقائدهم التي وضعها ورسمها

ص: 16


1- سورة الشعراء، الآية: 94.
2- الكافي 1: 47.
3- الكافي 1: 48.

قائد البشرية الأعظم الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

داروين وتضليل الناس

ومن جملة هؤلاء الذين وضعوا تلك الخطط لسرقة أفكار الناس وتضليلهم هو (داروين)(1) وكان ذلك قبل (200 سنة)، فإن داروين بطرحه لنظريته القائلة: إن أصل الإنسان كان قرداً وللسير التكاملي بمرور العصور والأزمنة صار هذا القرد إنساناً، فقد تمكن بنظريته هذه من كسب بعض الشباب البسطاء إليه، مع العلم بأن الإسلام يعارض هذه النظرية بشدة، حيث يقول اللّه سبحانه وتعالى في سورة الرحمن: {الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الْإِنسَٰنَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(2).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ * ثُمَّ جَعَلْنَٰهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا الْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(3).

مضافاً إلى الكثير من الروايات التي تبين كيفية خلق الإنسان.

هذه الآيات والروايات وغيرها تشير بوضوح إلى أن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان لوحده بأحسن هيئة، لا كما يقول داروين والذين انتهجوا نهجه، من القائلين بأن الإنسان كان شيئاً غير ما هو عليه (أي القرد) ثم تطور ذلك المخلوق شيئاً فشيئاً إلى إنسان، وهذه النظرية باءت بالفشل وحتى علماء الغرب أثبتوا بطلانها، وقد صرح القرآن الكريم بكيفية خلق الإنسان، فإن الإنسان من أول خلقته كان إنساناً ومتطور الخلقة، حيث خلقه اللّه سبحانه آدمياً كاملاً عاقلاً متميز الصفات والطباع.

ص: 17


1- صاحب النظرية الداروينية في أصل الأنواع وتطورها.
2- سورة الرحمن، الآية: 1-4.
3- سورة المؤمنون، الآية: 12- 14.

قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ * ثُمَّ رَدَدْنَٰهُ أَسْفَلَ سَٰفِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٖ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {خَلَقَ الْإِنسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٖ كَالْفَخَّارِ}(2).

والإنسان بطبيعة الحال هو من أعجب مخلوقات اللّه سبحانه وتعالى، بل أكثر من ذلك، فإنه أعجبها، ويظهر ذلك بوضوح بقياس وجوده إلى وجود غيره من المخلوقات، وقد قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ}(3).

فالإنسان الذي كرمه الباري وجعله سيد مخلوقاته، لا بد وأن بيّن له طرق الهداية التكوينية والتشريعة، وإلّا لم يكن أفضل الخلق كما هو واضح.

نعم قد يطغى الإنسان ولا يأخذ بالهداية التي فرضها اللّه عليه، فيكون كالأنعام بل هم أضل. قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْغَٰفِلُونَ}(4).

فرويد

أما الشخص الآخر الذي وضع قدمه في ميدان تحريف أفكار الناس وتضليلهم فهو (فرويد)(5) الذي كان يعتقد أن جميع الأديان والعقائد وأعمال الأنبياء(عليهم السلام) كلها كانت من أجل إشباع الغرائز الجنسية، وإن الدنيا عنده تعني عبودية الإنسان للغريزة الجنسية في كل مجالات الحياة.

ص: 18


1- سورة التين، الآية: 4-6.
2- سورة الرحمن، الآية: 14.
3- سورة الإسراء، الآية: 70.
4- سورة الأعراف، الآية: 179.
5- فرويد: (1856-1939م) طبيب أمراض عصبية، نمساوي.

هذه النظرية واضحة البطلان؛ لأنها مما كذّبها الوجدان والبرهان والتجاربالإنسانية، وقد تطرق إلى ذلك بالتفصيل بعض علمائنا الأفاضل في كتبهم، ولا يخفى أن هذه النظريات تكون لفسح المجال أمام الغريزة الجنسية بحيث لا ترى حرمةً ولا حياءً للمرأة ولا للرجل.

وهذا الإفراط والإنحراف يسبب كثيراً من المساوئ للفرد والمجتمع الإنساني، ابتداءً من الأمراض الجسدية الفتاكة، والتي بدورها تترك مضاعفات خطيرة على عمل الدماغ وخلايا الفكر، فقد أكدت بعض الدراسات العلمية إن بعض الجراثيم المرضية تستطيع أن تصل إلى خلايا الدماغ عن طريق الدم. وهكذا الأمراض الروحية كالكآبة وغيرها.

بالإضافة إلى الانحلال الجنسي الذي يؤدي إلى الانحلال الخلقي، وتبعاً لذلك فإن أعمدة الأسرة تتساقط الواحدة تلو الأخرى، وتبدأ الأسرة رحلة التمزق والضياع. وهذا بالضبط ما وقع فيه الغرب، حيث امتدت فيه الحرية الجنسية، واستمرت حتى أهلكت الحرث والنسل، ولم تقف عند الزنا واللواط، وإنما بلغت من الانحراف الجنسي حداً لا يطاق. وضاعت المرأة الغربية في هذا الوادي السحيق، وضاعت بضياعها العفة والحياء.

ماركس

وهكذا جاء (ماركس)(1) بنظريات مادية أخرى واهية وباطلة، وظفت لترويجها حملات إعلامية ودعائية ضخمة، وصرفت من أجلها مبالغ كبيرة وكثيرة، واستطاعت أن تغرّر بعدد كبير من الناس الذين انجذبوا نحوها.

ولسنا الآن بصدد الرد على هذه النظريات فقد كتبت في ذلك بعض الكتب

ص: 19


1- كارل ماركس: (1818- 1883م) فيلسوف اشتراكي ألماني.

المفصلة يمكن مراجعتها(1).

إلّا أننا نقول بأن الهداية الناس بحاجة إلى التصدي للأفكار المنحرفة والآراء الفاسدة والعقائد الباطلة، بالحكمة والموعظة الحسنة وبالطرق العلمية والعملية الصحيحة.

القومية باطلة

وهناك نوع آخر من الأفكار الباطلة التي أتخذها الاستعمار وسيلة للتفرقة بين المسلمين وإبعادهم عن الهداية الإسلامية، كمسألة القومية التي أوجدها الغرب في بلادنا عن طريق شخصين مسيحيين(2) قبل خمسين عاماً تقريباً.

وقد تبع الغربَ بعضُ البلدان الإسلامية، علماً بأن الإسلام قام بمحاربة هذه الأفكار التي لا تنسجم مع الفطرة الإنسانية وتفرق بين إنسان وإنسان على أساس

ص: 20


1- ويعد الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) من العلماء الذين تحسسوا لخطر الانحراف والتحريف ووقفوا كالطود الشامخ للدفاع عن حريم العقيدة الإسلامية والتصدي لكل فكر ورأي شاذ ودخيل يخالف الشريعة والفطرة الإنسانية، فشخص جيداً عظم الداء وحذر منه، وأعطى بعناية الدواء الناجع وألح عليه. فكتب (مباحثات مع الشيوعيين) و(ماركس ينهزم) لصد تيارات المد الأحمر. وكتب (هؤلاء اليهود) و(هل سيبقى الصلح مع إسرائيل) و(احذروا اليهود) لتعريف المجتمع الإسلامي بأساليب اليهود وخططهم في السيطرة والدعاية. وكتب (البابية والبهائية) لفضح أساليب الاستعمار وأفكاره التي جاء بها. وكتب (وقفة مع الوجوديين) لضرب آراء سارتر وتلامذته. وكتب (الإنسان والقرد) لتفنيد فرضيات داروين. وكتب (نقد نظريات فرويد) حيث يرد فيه على بعض آراء فرويد ونظرياته، فكشف بطلانها وشخص عيوبها وأخطاءها بأسلوبه المعهود وطريقته المتميزة التي تتسم بالوضوح والبساطة، كما تتسم بالقوة والحسم. وضمنه بعض الردود على ما جاء في نظريات فرويد، ولم يتطرق إلى الجوانب والقضايا الأخرى، والمتعلقة بسلوك فرويد وعلاقاته الشخصية والاجتماعية؛ لأنه(رحمه اللّه) أراد أن يواجه الفكرة بالفكرة والرأي بالرأي، وعدم الخوض في القضايا الجانبية، ولو أراد الخوض بها لربما قال البعض: أن هذه أمور شخصية وقضايا خاصة، مع أنها تركت تأثيراً كبيراً على كل ما جاء به فرويد من نظريات، حيث كشفت الدراسات بأن فرويد كان يعاني من عقد نفسية عديدة، أثرت وبقوة عل كل ما طرحه في مجال الإباحة الجنسية، أهمها علاقاته الشاذة مع بعض رفاقه وارتباطاته المحرمة مع محارمه.
2- أمثال: (ساطع الحصري المتوفى 1968م) و(ميشيل عفلق المتوفى 1989م).

القومية والعرقية واللون واللسان وما أشبه، قال تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).

وقال سيدنا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلّا بالتقوى، قال اللّه تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}»(2).

وعن الأصبغ بن نباتة قال: أتى أمير المؤمنين(عليه السلام) عبد اللّه بن عمر، وولد أبي بكر، وسعد بن أبي وقاص، يطلبون منه التفضيل لهم!

فصعد المنبر ومال الناس إليه فقال: «الحمد للّه ولي الحمد... أما بعد أيها الناس، فلا يقولن رجال قد كانت الدنيا غمرتهم فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا أفره الدواب، ولبسوا ألين الثياب، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إن لم يغفر لهم الغفار، إذا منعتهم ما كانوا فيه يخوضون، وصيرتهم إلى ما يستوجبون، فيفقدون ذلك فيسألون، ويقولون: ظلمنا ابن أبي طالب، وحرمنا ومنعنا حقوقنا. فاللّه عليهم المستعان، من استقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، وآمن بنبينا، وشهد شهادتنا، ودخل في ديننا، أجرينا عليه حكم القرآن وحدود الإسلام، ليس لأحد على أحد فضلٌ إلّا بالتقوى. ألّا وإن للمتقين عند اللّه تعالى أفضل الثواب وأحسن الجزاء والمآب، لم يجعل اللّه تبارك وتعالى الدنيا للمتقين ثواباً، وما عند اللّه خيرٌ للأبرار. انظروا أهل دين اللّه في ما أصبتم في كتاب اللّه، وتركتم عند رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجاهدتم به في ذات اللّه، أبحسب، أم بنسب، أم بعمل، أم

ص: 21


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- معدن الجواهر: 21.

بطاعة، أم زهادة، وفي ما أصبحتم فيه راغبين؟ فسارعوا إلى منازلكم رحمكم اللّه، التي أمرتم بعمارتها، العامرة التي لا تخرب، الباقية التي لا تنفد، التي دعاكم إليها، وحضكم عليها، ورغبكم فيها، وجعل الثواب عنده عنها. فاستتموا نعم اللّه عزّ ذكره بالتسليم لقضائه، والشكر على نعمائه، فمن لم يرض بهذا فليس منا ولا إلينا، وإن الحاكم يحكم بحكم اللّه، ولا خشية عليه من ذلك، أولئك هم المفلحون...»(1).

هذا ولا يخفى أن مقياس إنسانية الإنسان - في الشريعة الإسلامية - ليس باللون والانتماء القبلي أو القومي، ولا بالأموال والانتساب الملكي أو السلطوي، بل جميع الناس متساوون من هذه الجهات، كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المؤمنون كأسنان المشط يتساوون في الحقوق بينهم، ويتفاضلون بأعمالهم...»(2).

فكما أنّ المشط ليست في أسنانه ارتفاع وانخفاض عادة، بل كلها متساوية، فكذلك الناس من منظار الإسلام كلهم متساوون.

نعم، هناك في الإسلام معيار واحد للتفاضل وهو: التقوى، وهذا المعيار ليس للتفاضل أمام القانون بل هو للتفاضل عند اللّه، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(3)، فيقيس الإسلام شخصيّة الإنسان بمقدار ما يتصف به من التقوى، ويكرمه بقدرها، ويفضله بحسبها، ويثيبه على ذلك.

إن الإسلام ينظر إلى الناس كل الناس بمنظار واحد، ويتعامل مع الجميع بصورة واحدة، فنظرته التصورية وتطبيقه العملي الخارجي متطابقان بالنسبة إلى الإنسان، فالنظرة نظرة واحدة، والتعامل تعامل واحد، لا تفاوت فيهما ولا تفاضل،

ص: 22


1- الكافي 8: 360.
2- مستدرك الوسائل 8: 327.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.

وإلى هذا المعنى يشير الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عدة من رواياته: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلّا بالتقوى»(1).

فالتفاضل إنما هو بالتقوى، وفي ما عدا ذلك فالناس فيه شرع سواء.

وبعبارة أخرى: كما أن الناس بالنسبة إلى الشمس سواسية، بحيث إنّ كل من يتعرض لأشعتها يحصل على نورها، وهكذا كل من يتعرض للأمور التكوينية الأخرى فإنه يفوز بالنيل منها، فكذلك الناس بالنسبة إلى رحمة الإسلام وهدى القرآن وقوانين الشريعة سواسية، وهم شرع سواء، كما إنهم أمام عدل الإسلام وحُكمه وقوانينه وقضائه وعطائه على نحو سواء أيضاً.

وقد ذكرنا أن التقوى هو معيار مهم للتفاضل عند اللّه عزّ وجلّ، لا أمام القانون، فالناس مختلفون في الثواب بحسب امتثالهم لأوامر اللّه تعالى ونواهيه، واتباع مناهجه وبرامجه، مع إزالة كلّ الفوارق الأخرى، ولكنهم يتساوون أمام القانون، فلا فرق في ذلك بين المتقي وغيره.

ومن هنا دعى الإسلام جميع الناس إلى الأخوة، لأنه لا يعتقد بنظام الطبقية بين البشر.

ولا يخفى أن الأخوة وعدم الطبقية من أهم عوامل الهداية، أما إذا كان الإسلام لا ينظر للناس بنظر سواسية من دون فرق وتمييز لما اهتدى إلى نور الإسلام الكثير من الشعوب.

ما الحل لتلك المشاكل؟

وهنا سؤال يطرح نفسه ويطالب بالحل لهذه المشكلة، مشكلة الإنحراف

ص: 23


1- معدن الجواهر: 21.

الفكري والعقائدي؟

فمن هو الذي يُنجي الناس من هذه الأفكار المنحرفة؟

وفي مقام الجواب نقول: إن تكليف هداية الناس وصدهم عن الانحراف يقع بالدرجة الأولى على عاتق الذين وضعوا أنفسهم في صدد خدمة المجتمع، فخدمة الناس قد تكون مادية وقد تكون معنوية، وأولئك هم علماء الدين وطلبة الحوزات العلمية، فيجب أن يقوموا بهداية الناس عبر مختلف الوسائل الممكنة، من نشر وتوزيع الكتب الإسلامية الصحيحة، في كل نقطة من نقاط العالم، وبمختلف اللغات، بحسب القدرات والإمكانات التي يمتلكونها، حتى يمكن إيصال الأفكار السليمة للناس وبشكلها الصحيح ليكون سببا لهدايتهم، فإنه ليس من الإنصاف أن تصل كتب الشيوعية والأديان والآراء المنحرفة الأخرى بأعداد هائلة إلى بلادنا الإسلامية- وإلى أية نقطة شاؤوا، ونحن لانستطيع أن نوصل كتبنا إليهم، بل لا نستطيع أن نوصلها حتى إلى أذهان شبابنا.

وهذا التقصير العلمي والثقافي والتربوي سيؤثر سلباً على هداية الناس.

فأكبر المكتبات الإسلامية حالياً لا يتجاوز عدد كتبها أل- (150) ألف كتاب كما في بعض التقارير، بينما نشاهد سابقاً أن مكتبة الشيخ نصير الدين الطوسي (رضوان اللّه تعالى عليه) قبل مئات السنين وحدها كانت تحتوي على (400) ألف كتاب، رغم أن كل الكتب في ذلك الزمان كانت مخطوطة! وأغلب الكتب الآن مطبوعة.

ومكتبة أحد الملوك الفاطميين في مصر كانت تحتوي على مليون وستمائة ألف كتاب كُلّها مخطوطة.

وفي المقابل نجد إن مكتبة واحدة في أحد بلاد الغرب تحتوي على (9) ملايين كتاب، ومكتبة أخرى في دولة أخرى غربية تحتوي على (36) مليون

ص: 24

كتاب!(1).

قارنوا بين (150) ألف كتاب! وبين (36) مليون كتاب كم هو الفارق!

ولذا فإن الثقافة الاستعمارية حلت محل الثقافة الإسلامية الأصيلة، فقد زرعت هذه الفئات الباغية التحلل واللامبالاة وعدم الإحساس بالمسؤولية في نفوس شباب المسلمين، وأظهر مصداق لذلك هم أولئك الذين صافحوا الغزاة وعملاءهم كحزب البعث العفلقي، ومن سار على شاكلتهم الذين ساروا على خط الظلم والضلال.

إن آباءنا حاربوا الاستعمار البريطاني كما في عراقنا المسلم(2)

لماذا؟ لأن ثقافتهم كانت ثقافة إسلامية، وكانوا مهتدين بنور القرآن، ولكن بعض الأبناء ركعوا لتلك السياسة الاستعمارية، ومهدوا لهم السبيل للعودة ثانية إلى البلد، لعدم ثقافتهم وهدايتهم.

إذن، فما هو الفارق في الموقفين: موقف الآباء المشرف، وموقف الأبناء المخزي؟

نقول: إن الفارق الأساسي هو الهداية، فإن الثقافة الاستعمارية دخلت في صفوف أولئك الشباب واستطاعت أن تتغلغل في أذهانهم، وعندما تغيرت الثقافة تغير كل شيء، فنحن لا نستطيع تحرير البلاد الإسلامية اليوم إلّا بتبديل ثقافة هؤلاء الرازحين تحت نير الظلم والاستبداد إلى ثقافة إسلامية أصيلة.

وعلى عاتق من يقع هذا الحمل الثقيل؟

لاشك ولا ريب أن هذا الحمل الثقيل يقع على عاتق كل إنسان مؤمن ففي

ص: 25


1- مكتبة الكونغرس الأمريكي في واشنطن.
2- ثورة العشرين: (1920م).

الحديث الشريف: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألّا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(1)

إلّا أن وظيفة علماء الدين وطلبة الحوزات العلمية أكثر بكثير؛ حيث إنهم جعلوا أنفسهم في موقع خدمة الناس والمجتمع، وفي سبيل هدايتهم وتوجيههم وحمايتهم من الانحراف، ففي رواية: خرج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فإذا في المسجد مجلسان: مجلس يتفقّهون، ومجلس يدعون اللّه تعالى ويسألونه، فقال: «كلا المجلسين إلى خير، أما هؤلاء فيدعون اللّه، وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقّهون الجاهل، هؤلاء أفضل، بالتعليم اُرسلتُ»، ثم قعد معهم(2).

وعن سماعة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت له: قول اللّه عزّ وجلّ: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(3)؟ فقال: «من أخرجها من ضلال إلى هدى، فكأنما أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها»(4).

قضاء حوائج الناس

سبق أن أشرنا إلى أن من مقومات الهداية قضاء حوائج الناس، فالخدمة العملية هي الأمر الثاني في هذا الباب.

وتتجلى في خدمة الإنسان بما هو إنسان في قضاء حوائجه وتسهيل أموره

ص: 26


1- إرشاد القلوب 1: 184.
2- منية المريد: 106.
3- سورة المائدة، الآية: 32.
4- الكافي 2: 210.

وتقديم الخدمات له وهكذا، فلو أبى أحد من إسداء الخدمة إلى الناس فهو لا يسير في خط الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، والكثير من القائمين اليوم بالحركة الإسلامية يتوهمون أنه ليس المهم السعي لقضاء حوائج الناس، وإنما المهم هو الاشتغال بالحركة فقط، وهذا زعم خاطئ، فإن الحركة الإسلامية لا تتقدم إلّا بالتفاف الجماهير حولها، وهذا بدوره لايحصل إلّا بخدمة الناس ومساعدة الآخرين وقضاء حوائجهم. ومهما كانت الحاجة صغيرة فإنها في نظر المحتاج كبيرة، وفي المثل: صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلّا قضاها. ولذا فإن مسألة خدمة الناس وقضاء حوائجهم مسألة في غاية الأهمية.

ومن هنا نجد الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام) كانوا يسعون دائماً في قضاء حوائج الناس وخدمتهم حسب قدرتهم وإمكاناتهم، حتى أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إذا لم يتمكن من قضاء الحاجة في وقت الطلب والسؤال كان يجعل قضاءها ديناً على نفسه فيقضيها عند تمكنه منها.

وكم في التاريخ الإسلامي شواهد عظيمة تبين مدى تواضع النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للناس جميعاً، والسعي لقضاء حوائجهم، وهذا الأسلوب كان مؤثراً في هداية كثير من الناس، عن جابر بن عبد اللّه قال: غزا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إحدى وعشرين غزوة بنفسه، شاهدت منها تسع عشرة غزوة، وغبت عن اثنتين، فبينا أنا معه في بعض غزواته إذ أعيا ناضحي(1) تحت الليل فبرك، وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أخريات الناس يزجي الضعيف ويردفه(2) ويدعو لهم، فانتهى إلي وأنا أقول:يا لهف أماه، ما زال لنا ناضح سوء.

ص: 27


1- الناضح: البعير أو الثور أو الحمار الذي يستقى عليه الماء، والأنثى بالهاء ناضحة.
2- ردف الرجل وأردفه: ركب خلفه، وارتدفه خلفه على الدابة. يقال: ردفت الرجل إذا ركبت خلفه، وأردفته أركبته خلفي.

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من هذا؟».

فقلت: أنا جابر، بأبي وأمي يا رسول اللّه.

قال: «وما شأنك؟».

قلت: أعيا ناضحي.

فقال: «أمعك عصا؟»، فقلت: نعم. فضربه ثم بعثه، ثم أناخه ووطئ على ذراعه، وقال: «اركب»، فركبت وسايرته، فجعل جملي يسبقه، فاستغفر لي تلك الليلة خمساً وعشرين مرة، فقال لي: «ما ترك عبد اللّه من الولد؟» يعني: أباه، قلت: سبع نسوة، قال: «أبوك عليه دين؟» قلت: نعم، قال: «فإذا قدمت المدينة فقاطعهم، فإن أبوا، فإذا حضر جداد(1) نخلكم فآذني». فقال: «هل تزوجت؟» قلت: نعم، قال: «بمن؟»، قلت: بفلانة بنت فلان، بأيّم(2) كانت بالمدينة. قال: «فهلا فتاة تلاعبها وتلاعبك؟» قلت: يا رسول اللّه، كن عندي نسوة خرق، يعني أخواته، فكرهت أن آتيهن بامرأة خرقاء، فقلت: هذه أجمع لأمري، قال: «أصبت ورشدت» فقال: «بكم اشتريت جملك؟». فقلت: بخمس أواق من ذهب، قال: «بعنيه ولك ظهره إلى المدينة» فلما قدم المدينة أتيته بالجمل، فقال: «يا بلال، أعطه خمس أواق من ذهب يستعين بها في دَين عبد اللّه، وزده ثلاثاً، ورد عليه جمله» قال: «هل قاطعت غرماء عبد اللّه؟»، قلت: لا يا رسول اللّه، قال: «أترك وفاءً» قلت: لا، قال:«لا عليك، فإذا حضر جداد نخلكم فآذني»، فآذنته، فجاءفدعا لنا فجددنا، واستوفى كل غريم ما كان يطلب تمراً وفاءً، وبقي لنا ما كنا نجد وأكثر، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ارفعوا ولا تكيلوا، فرفعناه وأكلنا منه زماناً»(3).

ص: 28


1- أجد النخل: حان وقت جداده، أعني قطعه.
2- أيِّم: المرأة التي لا زوج لها وهي مع ذلك لا يرغب أحد في تزويجها.
3- مكارم الأخلاق: 20.

هذه القصة وكثير غيرها تعطينا أكثر من درس، فهي تدل على التواضع العظيم الذي كان الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتحلى به، حيث كان مع آخر مقاتل من جيشه ليتفقد رعيته ويرعى القافلة بأكملها، فيعين ضعيفها ومحتاجها، ويأخذ بأطراف الحديث مع جابر، فيسأله عن وضعه الاجتماعي والاقتصادي، ويقوم بإعانته على قضاء حوائجه.

والدرس الآخر الذي نستلهمه من القصة هو أن القائد الإسلامي مع مسؤولياته الجسام وكثرة انشغاله بكبريات الأمور، أمثال: الحرب والسياسة، فإنه يلزم عليه أن لا يترك الأمور الجزئية تحت ذريعة الانشغال بالأمور الكبيرة.

فالرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يريد أن يعلّم كل واحد منا - فضلاً عن القائد الإسلامي - أنه لا بد من الاهتمام بحوائج الناس وخدمتهم، كالسؤال عن حال الأخ المؤمن، وهل هو في ضائقة مالية أو معيشية، وما أشبه، والاهتمام بالأخلاقيات والاجتماعيات، فضلاً عن بعض العبادات المستحبة مع الفرائض والواجبات؛ إذ أن البعض يتصور أن قيامه بالأمور الكبيرة يغنيه عن الاهتمام ببعض التفاصيل ومراعاة الجزئيات.

ولكن ترك بعض الجزئيات سبب لأن تصبح هذه الأمور الصغيرة شيئاً فشيئاً أمراً كبيراً لا يمكن معالجته، فبعض القياديين وبحجة الانشغال بالعلاقات العامة مع أقرانه من السياسيين، أو انشغاله بأمور الدولة المهمة، فإنهم - وللأسف - تراهم يعرضون عن طلبات الجماهير، ويصفونها بالأمور الصغيرة، بل في بعضالأحيان ينصبون من يقوم مقامهم للقيام بشؤون الناس، وربما يكون سلوك الأخير غير سلوك القائد، وتأثيره غير تأثير القائد، مما يؤدي إلى اتساع الهوة بين القيادة والقاعدة.

وفي رواية أخرى عن جابر بن عبد اللّه قال: لم يكن يسأل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 29

شيئاً قط فيقول: لا(1).

وفي ما كتب أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر حين ولاه مصر، وهو أطول عهد وأجمعه للمحاسن: «... ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالد من ولده، ولا يعظمن في نفسك شي ء أعطيتهم إياه، ولا تحقرن لهم لطفاً تلطفهم به؛ فإنه يرفق بهم كل ما كان منك إليهم وإن قل، ولا تدعن تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على نظرك في جسيمها؛ فإن للطيف موضعاً ينتفع به، وللجسيم موضعاً لا يستغنى فيه عنه... واخصص أهل الشجاعة والنجدة بكل عارفةٍ وامدد لهم أعينهم إلى صور عميقات ما عندهم، بالبذل في حسن الثناء وكثرة المسألة عنهم رجلاً رجلاً، وما أبلي في كل مشهدٍ، وإظهار ذلك منك عنه؛ فإن ذلك يهز الشجاع ويحرض غيره... ولا تفسدن أحداً منهم عندك علةٌ عرضت له أو نَبوَةٌ كانت منه قد كان له قبلها حسن بلاءٍ؛ فإن العز بيد اللّه يعطيه إذا شاء ويكفه إذا شاء، ولو كانت الشجاعة تفتعل لافتعلها أكثر الناس، ولكنها طبائع بيد اللّه ملكها وتقدير ما أحب منها، وإن أصيب أحدٌ من فرسانك وأهل النكاية المعروفة في أعدائك فاخلفه في أهله بأحسن ما يخلف به الوصي الموثوق به، في اللطف بهم وحسن الولاية لهم؛ حتى لا يرى عليهم أثر فقده ولا يجدوا لمصابه، فإن ذلك يعطفعليك قلوب فرسانك ويزدادون به تعظيماً لطاعتك، وتطيب النفوس بالركوب لمعاريض التلف في تسديد أمرك، ولا قوة إلّا باللّه»(2).

وفيه أيضاً: «... وأما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك؛ فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبةٌ من الضيق وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع

ص: 30


1- مكارم الأخلاق: 18.
2- مستدرك الوسائل 13: 150.

عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشرٌ لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سماتٌ تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤٌ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مئونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة، ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثارٌ وتطاولٌ وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك، يحملون مئونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة، وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودةٌ، وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك؛ فإن في ذلك رياضةمنك لنفسك ورفقاً برعيتك وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق...»(1).

ومن كتاب لأمير المؤمنين(عليه السلام) إلى قثم بن العباس وكان عامله على مكة: «أما بعد، فأقم للناس الحج وذكّرهم بأيّام اللّه، واجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي وعلم الجاهل وذاكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفيرٌ إلّا لسانك،

ص: 31


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها..

ولا حاجبٌ إلّا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجةٍ عن لقائك بها، فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد في ما بعد على قضائها، وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيباً به مواضع الفاقة والخَلّات(1)، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه في من قبلنا، ومر أهل مكة ألّا يأخذوا من ساكنٍ أجراً؛ فإن اللّه سبحانه يقول: {سَوَاءً الْعَٰكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}(2)، فالعاكف المقيم به، والبادي الذي يحج إليه من غير أهله، وفقنا اللّه وإياكم لمحابه، والسلام»(3).

وقال علي(عليه السلام): «واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك، وآس(4) بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية؛ حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك، والسلام»(5).

قضاء حاجة الجارية

اشارة

وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «جاء رجل إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد بَلِيَ ثوبه، فحمل إليه اثني عشر درهماً، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): يا علي، خذ هذه الدراهم فاشتر لي بها ثوباً ألبسه، قال علي(عليه السلام): فجئت إلى السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً، وجئت به إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فنظر إليه، فقال: يا علي، غير هذا أحب إلي، أترى صاحبه يقيلنا؟ فقلت: لا أدري، فقال: انظر، فجئت إلى صاحبه فقلت: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد كره هذا يريد غيره، فأقلنا فيه. فرد عليَّ

ص: 32


1- الخَلَّة: الحاجة.
2- سورة الحج، الآية: 25.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 67 من كتاب له(عليه السلام) إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة.
4- آس: أي شارك بينهم واجعلهم سواء.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 46 من كتاب له(عليه السلام) إلى بعض عماله.

الدراهم، وجئت بها إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فمشى معه إلى السوق ليبتاع قميصاً، فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): وما شأنك؟ قالت: يا رسول اللّه، إن أهلي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم حاجة، فضاعت، فلا أجسر أن أرجع إليهم، فأعطاها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أربعة دراهم، وقال: ارجعي إلى أهلك، ومضى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى السوق فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه، وحمد اللّه عزّ وجلّ، فرأى رجلاً عرياناً يقول: من كساني كساه اللّه من ثياب الجنة، فخلع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قميصه الذي اشتراه وكساه السائل، ثم رجع(عليه السلام) إلى السوق، فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر فلبسه وحمد اللّه عزّ وجل، ورجع إلى منزله، فإذا الجارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما لك لا تأتين أهلك؟ قالت: يا رسول اللّه، إني قد أبطأت عليهم، أخاف أن يضربوني، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): مري بين يدي ودليني على أهلك، وجاء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى وقف على باب دارهم، ثم قال: السلام عليكم يا أهل الدار، فلم يجيبوه! فأعاد السلام، فلم يجيبوه! فأعاد السلام، فقالوا: وعليك السلام يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته، فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما لكم تركتم إجابتي في أول السلام والثاني! فقالوا: يا رسول اللّه، سمعنا كلامك فأحببنا أن نستكثر منه،فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤذوها، فقالوا: يا رسول اللّه، هي حرة لممشاك، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): الحمد للّه ما رأيت اثني عشر درهماً أعظم بركة من هذه، كسا اللّه بها عاريين وأعتق نسمة»(1).

امرأة تشكي زوجها

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) - في خبر - : «أنه رجع علي(عليه السلام) إلى داره في وقت

ص: 33


1- الخصال 2: 490.

القيظ، فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدى علي، وحلف ليضربني؟ فقال(عليه السلام): يا أمة اللّه، اصبري حتى يبرد النهار، ثم أذهب معك إن شاء اللّه؟ فقالت: يشتد غضبه وحرده علي، فطأطأ رأسه ثم رفعه، وهو يقول: لا واللّه، أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلك؟ فمضى إلى بابه، فقال: السلام عليكم، فخرج شاب، فقال علي(عليه السلام): يا عبد اللّه اتق اللّه؛ فإنك قد أخفتها وأخرجتها، فقال الفتى: وما أنت وذاك؟ واللّه، لأحرقنها لكلامك! فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف! قال: فأقبل الناس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين، فسقط الرجل في يديه، فقال: يا أمير المؤمنين أقلني عثرتي؛ فو اللّه، لأكونن لها أرضاً تطؤني، فأغمد علي سيفه، وقال: يا أمة اللّه، ادخلي منزلك، ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه»(1).

جارية تبكي

وروي: أن أمير المؤمنين(عليه السلام) مر بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي، فقال: «يا جارية، ما يبكيك؟». فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً، فأتيتهم به فلم يرضوه، فلما أتيته به أبى أن يقبله، قال: «يا عبد اللّه، إنها خادموليس لها أمر، فاردد إليها درهمها، وخذ التمر». فقام إليه الرجل فلكزه(2)، فقال الناس: هذا أمير المؤمنين، فربا الرجل واصفر، وأخذ التمر ورد إليها درهمها، ثم قال: يا أمير المؤمنين ارض عني، فقال: «ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك»(3).

نعم، هكذا كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقضي حاجات الناس ويتفقد أمورهم

ص: 34


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 106.
2- اللكز: الضرب بالجمع على الصدر، يقال: لكزه لكزاً من باب قتل: ضربه بجمع كفه في صدره.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 112.

الصغيرة والكبيرة. وبذلك تمكن من هداية الناس وجمعهم حوله، وأرسى دعائم الحكومة الإسلامية خلال ثلاث وعشرين سنة فقط، وكذلك كان أمير المؤمنين(عليه السلام) وسائر أهل البيت(عليهم السلام).

على عكس من غصب الخلافة وبني أمية وبني العباس والعثمانيين وحكام بلاد الإسلام وعملاء الاستعمار.

واليوم حيث ترك القائمون بالحركة الإسلامية الإقتداء برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنهم لم يصلوا إلى أي شيء خلال نصف قرن، وسوف لايصلون، إلّا إذا رجعوا إلى سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من خدمة الناس وقضاء حوائجهم، قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(1).

بيت القصص

وكان لأمير المؤمنين(عليه السلام) بيت سماه بيت القصص يلقي الناس فيه رقاعهم(2) ومعنى ذلك أنه(عليه السلام) جعل في وسط الكوفة بيتاً في أيام خلافته، حتى إذا كان لإنسان حاجة واستحى من أن يواجهه بها، كتب ما يحتاجه وألقاه في ذلك المكان. والكلّ يعلم أن علي (صلوات اللّه عليه) كان في متناول كل الناسوبينهم. وكما يقول أحد تلاميذ الإمام(عليه السلام): كان فينا كأحدنا،(3) يدور في أسواق المسلمين ويقضي في المسجد بينهم، ويعطي حاجاتهم ويخطب لهم ويصلي بهم، ومع ذلك قد صنع ذلك البيت في وسط الكوفة، حتى إذا عجز إنسان من الوصول إلى الإمام أو استحى من مواجهته، كان يكتب حاجته في ورقة ويقذف بتلك الورقة في بيت القصص، ثم كان الإمام(عليه السلام) يأتي إلى ذلك البيت ويفتح

ص: 35


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17: 87.
3- كشف الغمة 1: 77.

بابه المقفل، ويأخذ الأوراق ويطلع على الحاجات، ثم يقضيها.

صف لي علياً

قال معاوية لضرار بن ضمرة: صف لي علياً(عليه السلام)؟

قال: اعفني، قال: لتصفنه.

قال: أما إذ لا بد، فإنه واللّه كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، مجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن واللّه مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييئس الضعيف من عدله، فأشهد، لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، وهو اللذيع، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: «يا دنيا غري غيري، أ بي تعرضت أم إلي تشوقت، هيهات هيهات، قد بينتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير وخطرك كبير، وعيشك حقير، آه من قلة الزاد للسفر ووحشة الطريق». فبكى معاوية وقال: رحماللّه أبا الحسن! كان واللّه كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار، قال: حزن من ذبح ولدها بحجرها، فهي لا ترقأ عبرتها، ولا يسكن حزنها(1).

مع الأرامل والأيتام

وروي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) اجتاز ليلة على امرأة مسكينة لها أطفال صغار يبكون من الجوع، وهي تشاغلهم وتلهيهم حتى يناموا، وكانت قد أشعلت ناراً

ص: 36


1- كشف الغمة 1: 77.

تحت قدر فيها ماء لا غير، وأوهمتهم أن فيها طعاماً تطبخه لهم، فعرف أمير المؤمنين(عليه السلام) حالها، فمشى ومعه قنبر إلى منزله، فأخرج قوصرة تمر وجراب دقيق وشيئاً من الشحم والأرز والخبز، وحمله على كتفه الشريف، فطلب قنبر حمله، فلم يفعل، فلما وصل إلى باب المرأة استأذن عليها، فأذنت له في الدخول، فرمى شيئاً من الأرز في القدر ومعه شي ء من الشحم، فلما فرغ من نضجه غرف للصغار وأمرهم بأكله، فلما شبعوا أخذ يطوف في البيت، ويبعبع لهم فأخذوا في الضحك.

فلما خرج(عليه السلام) قال له قنبر: يا مولاي، رأيت الليلة شيئاً عجيباً، قد علمت سبب بعضه، وهو حملك الزاد طلباً للثواب، أما طوافك في البيت على يديك ورجليك والبعبعة، فما أدري سبب ذلك!

فقال(عليه السلام): «يا قنبر، إني دخلت على هؤلاء الأطفال، وهم يبكون من شدة الجوع، فأحببت أن أخرج عنهم وهم يضحكون مع الشبع، فلم أجد سبباً سوى ما فعلت»(1).

مع الرجل الأعمى

ويُروى أن الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) حينما عادا من دفن أبيهما(عليهما السلام) سمعا - وهم في الطريق - من خربة صوت أنين وبكاء، وعندما اقتربا من ذلك الصوت وجداه فقيراً طاعناً في السن، وهو مريض يئن ويبكي ويقول: أين راح عني ذلك الشخص الذي كان يأتيني بكل ما أحتاج إليه كل ليلة، فإنه منذ ثلاث ليالٍ فارقني ولم يأت إليّ، في هذه الأثناء قرب منه الإمامان الحسن والحسين(عليهما السلام) وقالا له: «يا شيخ، إن ذلك الشخص الذي أنت تعنيه هو أبونا علي بن أبي طالب(عليه السلام) وقد

ص: 37


1- كشف اليقين: 115.

رجعنا الآن من دفنه»(1).

نعم، إن أمير المؤمنين(عليه السلام) أيام خلافته والتي كانت تشمل مساحة شاسعة من الأرض، تقوم عليها الآن أكثر من خمسين دولة، كان يدير كل أمور البلاد بأفضل صورة عرفها البشر، وكان(عليه السلام) يلبي طلبات الناس واحتياجاتهم، فلم يبق في عهده مسكين ولا فقير، وكانت هذه الحالة ظاهرة لكل إنسان في زمانه، وهناك أحداث كانت أكثر وضوحاً وأهمية إلّا إن التاريخ لم يشر إليها، أو لم تصل إلينا، بسبب التضليل وزرع الشبهات والشكوك وبظلم من أعداء أهل البيت(عليهم السلام) وأعداء الإنسانية ومن قبل تلك الأيدي غير الأمينة التي حاولت طمس معالم هذا الدينالحنيف وإبعاد الناس عن أئمتهم أئمة الحق(عليهم السلام)(2).

ونحن بحمد اللّه من شيعة أمير المؤمنين(عليه السلام) كما نعتقد بذلك ونؤمن ونقول ذلك باللسان والبيان، فمن الواجب علينا أن نكون من شيعته في أعمالنا أيضاً، فنصبح نموذجاً وقدوة لسائر الناس، من خلال السير على هدى أهل البيت (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) وأن نكون للناس المعين والنصير كلّ بقدر طاقاته وإمكاناته. كما كان يفعل أئمتنا أئمة الهدى(عليهم السلام) وبذلك اهتدى

ص: 38


1- الأنوار العلوية: 391 وفيه: لما رجع الحسن والحسين(عليهما السلام) من دفن أمير المؤمنين(عليه السلام) وجدا في طريقهما رجلاً شيخاً أعمى مريضاً وهو يبكي، فتقدم إليه الحسن(عليه السلام) وقال له: «ما يبكيك ياشيخ؟»، فقال: كان رجل كل يوم يأتيني باللبن والدقيق، وله ثلاثة أيام قد انقطع عني ولا يأتيني؟! فقال له الحسن(عليه السلام): «ومن ذلك الرجل؟»، فقال: لا أعرفه. فقال: «صفه لي؟»، فقال: لم أرى وجهه حتى أصفه لك، إلّا إنه كان لي كالأم الشفيقة بولدها، كان يكلمني برفق، ويمرضني بشفقة، ويؤنسني ويضاحكني، ثم ينصرف عني، فقال له الحسن(عليه السلام): «هذه صفة أبينا أمير المؤمنين(عليه السلام)، فعظم اللّه لك الأجر فيه، فقد قضى نحبه شهيداً والآن رجعنا من دفنه»، فصرخ الشيخ صرخة فارفت روحه الدنيا... .
2- للتفصيل انظر كتاب: (السياسة من واقع الإسلام) لسماحة المرجع الديني آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي(دام ظله).

الكثير من الناس إلى الصراط المستقيم.

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة في الهداية

اشارة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... ولقد كان في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كاف لك في الأسوة، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها، وزوي عن زخارفها. وإن شئت ثنيت بموسى كليم اللّه(عليه السلام) حيث يقول: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٖ فَقِيرٌ}(1) واللّه ما سأله إلّا خبزاً يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه. وإن شئت ثلثت بداود(عليه السلام) صاحب المزامير وقارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل سفائف(2) الخوص بيده، ويقول لجلسائه: أيكم يكفيني بيعها ويأكل قرص الشعير من ثمنها. وإن شئت قلت في عيسى ابن مريم(عليه السلام) فلقد كان يتوسد الحجر ويلبسالخشن ويأكل الجشب، وكان إدامه الجوع وسراجه بالليل القمر وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه وخادمه يداه. فتأس بنبيك الأطيب الأطهر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن فيه أسوةً لمن تأسى وعزاءً لمن تعزى، وأحب العباد إلى اللّه المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره، قضم الدنيا قضماً ولم يعرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا، فأبى أن يقبلها، وعلم أن اللّه سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقر شيئاً فحقره، وصغر شيئاً فصغره، ولو لم يكن فينا إلّا حبنا ما أبغض اللّه

ص: 39


1- سورة القصص، الآية: 24.
2- السفائف - جمع سفيفة - أي: منسوجات الخوص.

ورسوله، وتعظيمنا ما صغَّر اللّه ورسوله، لكفى به شقاقاً للّه ومحادةً عن أمر اللّه، ولقد كان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته، فتكون فيه التصاوير، فيقول: يا فلانة، لإحدى أزواجه، غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده، ولقد كان في رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها؛ إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله، أكرم اللّه محمداً بذلك أم أهانه؟ فإن قال: أهانه، فقد كذب واللّه العظيم، بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه، فليعلم أن اللّه قد أهان غيره، حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه، فتأسى متأس بنبيه، واقتص أثره وولج مولجه، وإلّا فلا يأمنالهلكة، فإن اللّه جعل محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) علماً للساعة، ومبشراً بالجنة، ومنذراً بالعقوبة خرج من الدنيا خميصاً، وورد الآخرة سليماً، لم يضع حجراً على حجر حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه فما أعظم منة اللّه عندنا، حين أنعم علينا به سلفاً نتبعه، وقائداً نطأ عقبه، واللّه لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألّا تنبذها عنك؟ فقلت: اغرب عني، فعند الصباح يحمد القوم السرى»(1).

إن النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرغم من تلك القدرة والثروة التي كانت تحت يديه

ص: 40


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 160 من خطبة له(عليه السلام).

كان يعيش في غرفة واحدة وحينما يريد السجود - لصلاة الليل - كان على زوجته أن تجمع رجليها حتى تترك للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكاناً، يستطيع السجود عليه(1).

وهكذا استطاع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يهدي الناس إلى الصراط المستقيم حيث رأوا منه الوفاء والصدق، وعدم الانجرار إلى زخارف الدنيا.

نعم هذه هي المدرسة الإلهية وهذه سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخلاقيات أهل بيته(عليهم السلام)، فمن امتلأ قلبه محبة وطاعة لهم، فليسر على نهجهم وخطاهم ليكون معهم في الدنيا والآخرة.

قائد ثورة العشرين

إن علماءنا الأبرار تأسوا بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله الأطهار(عليهم السلام) فتمكنوا من هداية الناس.

ورد في تاريخ قائد ثورة العشرين الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) أنهالتفت حوله الجماهير بصورة واسعة، من شيوخ وأفراد العشائر، كباراً وصغراً، سنة وشيعة، ضد بريطانيا، وكان الازدحام كبيراً حول الميرزا، ورغم تصديه لأمور الثورة والمرحلة الحساسة في تاريخ العراق والأمة الإسلامية، لم يكن ينسى طلبته وروّاد درسه، وكان يحاول دائماً أن لا يجعلهم يشعرون بأنه - ونتيجة لمسؤولياته الجسام - سوف لايجد الوقت الكافي لمداراتهم ومعرفة شؤونهم ومعالجة مشاكلهم التي كانت تعترضهم، فقال لهم مرة: أيها الطلبة، إني قبل الثورة كنت أتمكن من قضاء حوائجكم وألتقي بكم على انفراد، ولكنكم الآن ربما لا يمكنكم أن تصلوا إليّ للزحام الذي حولي، فإذا كانت لأحدكم حاجة

ص: 41


1- ورد عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتها والبيوت يومئذ ليس له مصابيح. السنن الكبرى للنسائي 1: 98.

فإني أخرج في كل يوم بعد صلاة الصبح إلى الشارع الممتد بامتداد النهر(1) في أطراف كربلاء، ليتمكن كل طالب علم، أو أي شخص آخر يريد لقائي على انفراد أن يأتي في ذلك الوقت.

وأضاف الراوي للقصة وهو أحد العلماء قائلاً: إني شخصياً ذهبت إليه مراراً وتكراراً عندما كانت عندي حاجة، وكنت أرى الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) يمشي وحده على ضفاف ذلك النهر في الشارع الممتد بامتداده، فأعرض عليه حاجتي وأطلب منه قضاءها، وكان يلبي بكل رحابة صدر.

نعم، هكذا يلزم أن يكون القائد الإسلامي، أو المتصدي لإصلاح المجتمع، ذا روح جماهيرية، يحتوي قلبه كل الطبقات في الأمة. ويستوعب كل الآراء والتوجهات. هذا هو خط وسلوك ومنهج أهل البيت(عليهم السلام) فالرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو صاحب أكبر دولة عالمية آنذاك، كان يمشي في الأسواق ويتفقد أحوالالناس، وكذا الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكان(عليه السلام) يوصي عماله وولاته بهذا الأمر، وعدم الظلم وعدم الاحتجاب عن الجماهير.

مع السيد بحر العلوم(رحمه اللّه)

يذكر عن أحد طلاب(2) السيد بحر العلوم (أعلى اللّه مقامه) أنه قال: كان يتعشى ليلة إذ طرق الباب عليه طارق، فعرف أنه خادم السيد بحر العلوم، فقام إلى الباب مسرعاً فقال له: إن السيد قد وضع بين يديه عشاءه وهو ينتظرك، فأسرع إلى جناب السيد(رحمه اللّه) فلما لاح له السيد قال له السيد: أما تخاف اللّه؟ أما تراقبه؟

ص: 42


1- نهر الحسينية المتفرع من نهر الفرات وهو النهر الذي يسقي كربلاء المقدسة.
2- ذكرت هذه القصة في كتاب: (الكنى والألقاب) وطالب السيد هو: العالم الجليل السيد جواد العاملي صاحب (مفتاح الكرامة). الكنى والألقاب 2: 67 ضمن ترجمة (بحر العلوم).

أما تستحي منه؟ فقال: ما الذي حدث؟ فقال له(1): إن رجلاً من اخوانك كان يأخذ من البقال قرضاً لعياله كل يوم وليلة قسباً (التمر الزهدي)، ليس يجد غير ذلك، فلهم سبعة أيام لم يذوقوا الحنطة والأرز، ولا أكلوا غير القسب، وفي هذا اليوم ذهب ليأخذ قسباً لعشائهم فقال له البقال: بلغ دَينك كذا وكذا، فاستحيى من البقال ولم يأخذ منه شيئاً، وقد بات هو وعياله بغير عشاء، وأنت تتنعم وتأكل، وهو ممن يصل إلى دارك وتعرفه وهو فلان.

فقال: واللّه مالي علم بحاله.

فقال السيد: لو علمت بحاله وتعشيت، ولم تلتفت إليه لكنت في حكم الكفار، وإنما أغضبني عليك عدم تحسسك عن إخوانك، وعدم علمك بأحوالهم، فخذ هذه الصينية يحملها لك خادمي يسلمها إليك عند باب داره،وقل له: قد أحببت أن أتعشى معك الليلة، وضع هذه الصرة تحت فراشه أو حصيره، وابق له الصينية فلا ترجعها، وكان كبيرة فيها عشاء، وعليها من اللحم والمطبوخ النفيس ما هو مأكل أهل التنعم والرفاهية. وقال السيد: اعلم أني لا أتعشى حتى ترجع إلي فتخبرني أنه قد تعشى وشبع، وأخذ السيد بحر العلوم يردد قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع»(2).

فذهب ذلك الطالب ومعه الخادم، حتى وصلوا إلى دار المؤمن، فأخذ من يد الخادم ما حمله ورجع الخادم، وطرق الباب وخرج الرجل، فقال له السيد: أحببت أن أتعشى معك الليلة، فلما أكلا(3)، قال له المؤمن: ليس هذا زادك؛ لأنه

ص: 43


1- يقول الشيخ عباس القمي(رحمه اللّه): أنا أتمثل في هذا المقام بقول الأعشى: تبيتون في المشتى ملاء بطونكم *** وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
2- الكافي 2: 668.
3- أي: شرعا في الأكل.

مطبوخ نفيس لا يصلحه العرب، ولا نأكله حتى تخبرني بأمره، فأصر عليه السيد جواد بالأكل وأصر هو بالامتناع، فذكر له القصة فقال: واللّه، ما اطلع عليه أحد من جيرتنا فضلاً عمّن بعد، وإن أمر هذا السيد لشيء عجيب!

نعم، علماؤنا (رضوان اللّه تعالى عليهم) هكذا كانوا ينبهون الطلبة باستمرار على تلك الأخلاق الرفيعة، التي جاء بها النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار (صلوات اللّه عليهم) لتكون لهم الميزان الأكمل في تعاملهم مع الناس ويهتمون بأمور الناس وخدمتهم، وهذه بدورها تكسب المحبة والإخلاص في قلوب الناس أجمعين وتوجب هدايتهم إلى الصراط المستقيم.

عن المفضل عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قال لي: «يا مفضل، اسمع ما أقول لك، واعلم أنه الحق وافعله، وأخبر به عِلْية إخوانك»(1)، قلت: جعلت فداك، وماعِلْية إخواني؟

قال: «الراغبون في قضاء حوائج إخوانهم». قال: ثم قال: «ومن قضى لأخيه المؤمن حاجةً قضى اللّه عزّ وجلّ له يوم القيامة مائة ألف حاجةٍ من ذلك، أولها الجنة، ومن ذلك أن يدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنة، بعد أن لا يكونوا نُصاباً»(2)، وكان المفضل إذا سأل الحاجة أخاً من إخوانه، قال له: أما تشتهي أن تكون من عِلْية الإخوان(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ خلق خلقاً من خلقه انتجبهم لقضاء حوائج فقراء شيعتنا ليثيبهم على ذلك الجنة، فإن استطعت أن تكون منهم فكن»

ص: 44


1- عِلْية إخوانك: أي شريفهم ورفيعهم.
2- المراد بالنُصّاب في عرف أصحاب الأئمة(عليهم السلام): المخالفون المتعصبون في مذهبهم.
3- الكافي 2: 192.

ثم قال: «لنا واللّه رب نعبده لا نشرك به شيئاً»(1).

وعن إسماعيل بن عمار الصيرفي، قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): جعلت فداك، المؤمن رحمةٌ على المؤمن؟ قال: «نعم»، قلت: وكيف ذاك؟

قال: «أيما مؤمن أتى أخاه في حاجة، فإنما ذلك رحمة من اللّه ساقها إليه وسببها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها، وإن رده عن حاجته وهو يقدر على قضائها، فإنما رد عن نفسه رحمةً من اللّه جلّ وعزّ ساقها إليه وسببها له، وذخر اللّه عزّ وجلّ تلك الرحمة إلى يوم القيامة، حتى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إن شاء صرفها إلى نفسه، وإن شاء صرفها إلى غيره. يا إسماعيل، فإذا كان يوم القيامة وهو الحاكم في رحمة من اللّه قد شرعت له، فإلى من ترى يصرفها؟».قلت: لا أظن يصرفها عن نفسه.

قال: «لا تظن، ولكن استيقن، فإنه لن يردها عن نفسه. يا إسماعيل، من أتاه أخوه في حاجةٍ يقدر على قضائها فلم يقضها له، سلط اللّه عليه شجاعاً ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة، مغفوراً له أو معذباً»(2).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «تنافسوا في المعروف لإخوانكم، وكونوا من أهله، فإن للجنة باباً يقال له: المعروف، لا يدخله إلّا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكل اللّه عزّ وجلّ به ملكين: واحد عن يمينه، وآخر عن شماله، يستغفران له ربه، يدعوان له بقضاء حاجته» ثم قال: «واللّه لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسر بحاجة المؤمن، إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة»(3).

ص: 45


1- الكافي 2: 193.
2- الكافي 2: 193.
3- الكافي 2: 195.

وعن أبي جعفرٍ(عليه السلام) قال: «واللّه، لأن أحج حجةً أحب إلي من أن أعتق رقبةً ورقبةً ورقبةً، ومثلها ومثلها - حتى بلغ عشراً - ومثلها ومثلها - حتى بلغ السبعين - ولأن أعول أهل بيتٍ من المسلمين، أسد جوعتهم وأكسو عورتهم، فأكف وجوههم عن الناس، أحب إلي من أن أحج حجةً وحجةً وحجةً ومثلها ومثلها - حتى بلغ عشراً - ومثلها ومثلها» حتى بلغ السبعين(1).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «قال اللّه عزّ وجلّ: الخلق عيالي، فأحبهم إلي ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم»(2).

وعن أبي عمارة قال: رُوّينا: أن عابد بني إسرائيل كان إذا بلغ الغاية في العبادةصار مشاءً في حوائج الناس، عانياً بما يصلحهم»(3).

وعن الإمام زين العابدين(عليه السلام): «إن للّه خلصاء من خلقه، عبدوه بخالصٍ من سره، وأوصلهم إلى سره، فهم الذين تمر صحفهم مع الملائكة فرغاً، فإذا وصلت إليه ملأها من سر ما أسروا إليه، وقال لهم: يا أوليائي، إن أتاكم عليلٌ من ضعفة عبادي فداووه، أو ناسٍ نعمتي فأذكروه، أو راحلٌ نحوي فجهزوه، ومن بعد منكم منكِراً ففقهوه، ومن قرب منكم فواصلوه، لكم يا أوليائي خاطبت ولكم عاتبت والوفاء منكم طلبت، لا أحب استخدام الجبارين، ولا مصافاة المتلونين، ومن عاداكم قصمته، ومن أبغضكم قليته»(4).

إذن، يلزم على كل فرد منا أن يكون خادماً واقعياً للناس، ينزل إلى ساحة العمل، إلى الميدان، لا أن يخدم الناس بالشعارات والمظاهر من دون عمل، ولا

ص: 46


1- الكافي 2: 195.
2- الكافي 2: 199.
3- الكافي 2: 199.
4- الدعوات للراوندي: 212.

يتم ذلك طبعاً إلّا إذا أصبح الفرد إنساناً بكل ما للكلمة من معنى، وسار صوب القيم الإنسانية ومعانيها السامية، وبذلك يمكن السعي لهداية الناس نحو الخير والفضيلة والتقوى والبر.

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك إنه قريب مجيب.

«يا من ذكره شرفٌ للذاكرين، ويا من شكره فوز للشاكرين، ويا من طاعته نجاة للمطيعين، صل على محمد وآله، وأشغل قلوبنا بذكرك عن كل ذكر، وألسنتنا بشكرك عن كل شكر، وجوارحنا بطاعتك عن كل طاعة، فإن قدرت لنا فراغاً من شغل فاجعله فراغ سلامة، لا تدركنا فيه تبعة، ولا تلحقنا فيه سأمةٌ، حتى ينصرف عنا كُتّاب السيئات بصحيفة خالية من ذكر سيئاتنا، ويتولى كُتّابالحسنات عنا مسرورين بما كتبوا من حسناتنا...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

فعل الخيرات وقضاء الحوائج

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَٰجِعُونَ * أُوْلَٰئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ * وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(2).

وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَٰتِ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَوْمَئِذٖ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْاْ أَعْمَٰلَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}(4).

وقال جلّ وعلا: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ

ص: 47


1- الصحيفة السجادية: من دعائه(عليه السلام) بخواتم الخير.
2- سورة المؤمنون، الآية: 60-62.
3- سورة الأنبياء، الآية: 73.
4- سورة الزلزلة، الآية: 6-7.

إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(1).

العبودية للّه وحده تعالى

قال عزّ وجلّ: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(2).

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَىالنَّارِ}(4).

وقال سبحانه: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٖ سَحِيقٖ}(5).

الهداية بالإمامة الحقة

قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(7).

ص: 48


1- سورة النساء، الآية: 114.
2- سورة آل عمران، الآية: 64.
3- سورة الإخلاص، الآية: 1.
4- سورة إبراهيم، الآية: 30.
5- سورة الحج، الآية: 31.
6- سورة المائدة، الآية: 55.
7- سورة المائدة، الآية: 67.

وقال جلّ وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(1).

العمل مع التقوى

قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}(2).

وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}(3).وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(4).

وقال تبارك وتعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

الخدمة وقضاء الحوائج

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيما مسلم خدم قوماً من المسلمين إلّا أعطاه اللّه مثل عددهم خداماً في الجنة»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أعان مؤمناً نفّس اللّه عزّ وجلّ عنه ثلاثاً وسبعين كربة، واحدة في الدنيا، وثنتين وسبعين كربة عند كربه العظمى. - قال: - حيث يتشاغل الناس بأنفسهم»(7).

ص: 49


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- سورة التوبة، الآية: 109.
3- سورة النساء، الآية: 124.
4- سورة المائدة، الآية: 27.
5- سورة البقرة، الآية: 197.
6- الكافي 2: 207.
7- الكافي 2: 199.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلّا ناداه اللّه تبارك وتعالى: عليّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة»(1).

العبودية للّه وحده تعالى

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العبادة الخالصة أن لا يرجو الرجل إلّا ربه ولا يخاف إلّا ذنبه»(2).

وقال(عليه السلام): «أما بعد فإن اللّه تبارك وتعالى بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق، ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته، ومن عهود عباده إلى عهوده، ومن طاعة عبادهإلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته...»(3).

وقال(عليه السلام): «ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب، ووقف على الموعود، إيماناً نفى إخلاصه الشرك، ويقينه الشك، ونشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبده ورسوله، شهادتين تصعدان القول وترفعان العمل، لا يخف ميزان توضعان فيه، ولا يثقل ميزان ترفعان عنه...»(4).

العلماء ورثة الأنبياء(عليهم السلام)

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقهاء أمناء الرسول»(6).

ص: 50


1- الكافي 2: 194.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 122.
3- الكافي 8: 386.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 114 من خطبة له(عليه السلام) وفيها مواعظ للناس.
5- الكافي 1: 34.
6- الكافي 1: 46.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لولده محمد: «تفقه في الدين، فإن الفقهاء ورثة الأنبياء»(1).

الهداية بالإمامة الحقة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أئمتكم قادتكم إلى اللّه عزّ وجلّ، فانظروا بمن تقتدون في دينكم وصلاتكم»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}(3)فقال(عليه السلام): «رسول اللّه المنذر، ولكل زمان منا هادٍ يهديهم إلى ما جاء به نبي اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ثم الهداة من بعده عليّ، ثم الأوصياء واحد بعد واحد»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أئمتكم وفدكم إلى اللّه، فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) في قول اللّه تبارك وتعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}(6) فقال: «ميت لا يعرف شيئاً، و: {نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} إماماً يؤتم به، {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا}(7) قال: الذي لا يعرف الإمام»(8).

ص: 51


1- عوالي اللئالي 4: 60.
2- كمال الدين 1: 221.
3- سورة الرعد، الآية: 7.
4- الكافي 1: 191.
5- قرب الإسناد: 77.
6- سورة الأنعام، الآية: 122.
7- سورة الأنعام، الآية: 122.
8- الكافي 1: 185.
العمل مع التقوى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كن بالعمل بالتقوى أشد اهتماماً منك بالعمل، فإنه لا يقل عمل بالتقوى وكيف يقل عمل يتقبل، يقول اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}»(1)(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «صفتان لا تُقبل الأعمال إلّا بهما: التقى والإخلاص»(3).وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى...»(4).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «أوصيك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد»(5).

ص: 52


1- سورة المائدة، الآية: 27.
2- مكارم الأخلاق: 468.
3- عيون الحكم والمواعظ: 304.
4- الكافي 2: 76.
5- الزهد: 12.

هكذا الزواج في الإسلام

الزواج ضرورة

قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَٰجًا وَذُرِّيَّةً}(1).

طلب مني بعض الإخوة من الشباب المؤمنين أن أتحدث لهم عن الزواج في الإسلام.

في بداية الحديث لا بد من ذكر مقدمة حول هذا الموضوع، لرب سائل يسأل لماذا الزواج؟!

الجواب: أنه ما من شيء في الكون إلّا ويحتاج إلى مكمّله، والإنسان محاط بقوانين الطبيعة (البيئة) - السنن الكونية - وليس بخارج عن قوانينها فهو في تفاعل مستمر ودائب معها، حيث يتكيف معها أينما اتجهت وجهتها ويجري معها وفق قوانينها وسننها التكوينية، حتى أنه ليس في وسعه أن يخالف أنظمتها قيد أنملة، فللطبيعة بُعدان تكوينيان يشدّ بعضهما بعضاً وهذان البعدان التكوينيان هما الزوجية العامة.

أجل إن الطبيعة قائمة على أساس مبدأ الزوجية العامة، هذا المبدأ يملأ الكون كلّه.

لقد أثبت العلم أخيراً أن كل ما في الكون من كائنات تخضع لقانون الزوجية،

ص: 53


1- سورة الرعد، الآية: 38.

وهذه الحقيقة كشفها القرآن قبل (14 قرناً) حيث قال تعالى: {سُبْحَٰنَ الَّذِي خَلَقَالْأَزْوَٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}(1) وقال سبحانه: {وَخَلَقْنَٰكُمْ أَزْوَٰجًا}(2).

وكما أن الزوجية تجري في النبات والحيوان كذلك تجري في الإنسان، إضافة إلى العوالم الأخرى التي لا يعرف عنها الإنسان أي شيء.

ففي آية أخرى يقول الحق تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(3). وفي آية أخرى: {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}(4) وهكذا بقية الآيات حيث إنها تجري مجرى هذا السياق من الآيات التي ذكرناها.

إذن، كل شيء في الطبيعة خاضع لهذا المبدأ وهو الزوجية، وبما أن الإنسان محكوم بالطبيعة. إذن فلا مفر ولا مهرب من الزواج، وإلّا فالمأساة تكبر شيئاً فشيئاً حتى تصل كما يقول علماء النفس إلى محطة الجنون.

طرق إشباع الغريزة

اشارة

إن في الإنسان غريزة تسمى غريزة الجنس، وهي من أقوى الغرائز وأشدها كما يقول بذلك بعض العلماء وهي تلح دوماً على الإنسان أو صاحبها بالإشباع والممارسة!

والسؤال الذي يعترضنا هو: كيف يمكن للإنسان أن يشبع تلك الغريزة وعن أي طريق؟

فنقول: أمامنا ثلاثة طرق للتعامل مع الغريزة الجنسية وهي:

ص: 54


1- سورة يس، الآية: 36.
2- سورة النبأ، الآية: 8.
3- سورة الذاريات، الآية: 49.
4- سورة الرعد، الآية: 3.

1- الزواج الطبيعي.

2- الكبت.

3- التحلّل الجنسي.

ومن المعلوم أن الطريق الصحيح والسليم لتلبية حاجة الإنسان الجنسية يكمن في الزواج؛ لأن الكبت يؤدي إلى الأمراض الجنسية والتفكك في المجتمع، وهذا بالضبط ما وقع فيه الغرب حتى أهلك الحرث والنسل، ومن أجل ذلك أكدت الشريعة الإسلامية السمحاء على الزواج المبكر واعتبرته الحل الأكمل والسريع للمشكلة الجنسية.

ومن جملة ما جاء في الشريعة قول اللّه تعالى: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(1).

وقوله تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا}(2).

وقول الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما بني في الإسلام بناء أحب إلى اللّه عزّ وجلّ وأعز من التزويج»(3).

وعن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «.. ولو لم يكن في المناكحة والمصاهرة آية محكمة منزلة ولا سنة متبعة، لكان في ما جعل اللّه فيها من بر القريب وتألف البعيد، ما رغب فيه العاقل اللبيب وسارع إليه الموفق المصيب...»(4).

ص: 55


1- سورة النور، الآية: 32.
2- سورة الروم، الآية: 21.
3- بحار الأنوار 100: 222.
4- مكارم الأخلاق: 206.

ولذا فإن الزواج هو الطريق المنطقي الصحيح لحل هذه المشكلة العويصة التي يعاني منها أغلب الشباب في الوقت الحاضر، ومن العجيب ما يذكر فيهذا المجال، أنه في بعض البلدان حزباً سرياً أراد أن يربي مجموعات إرهابية من الشباب، فكان أول شروط الانتماء إليه هو أن لا يكون ذلك الشاب متزوجاً؛ لأن العزوبة أرضية مساعدة على نمو الانحراف النفسي والميل إلى الإرهاب والرعب.

وفي مجتمعاتنا اليوم وبسبب تأثير الثقافة الغربية وقوانينها علينا نعاني من مشكلة الإعراض عن الزواج.

مشكلة المهور

من الأمور التي تقف عقبة في طريق الزواج هو ارتفاع المهور، وقد جاء في الروايات عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة الهدى(عليهم السلام) ذم المهور الزائدة ومدح قلتها كثير جداً. فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) انه قال: «أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «.. فأما شؤم المرأة فكثرة مهرها وعقوق زوجها...»(2) كما أن بعض ما يحدث في معظم البلاد الإسلامية من مشاكل عائد إلى ارتفاع المهور، والذي بدوره يمنع من الزواج الذي حث عليه الكتاب والسنة. فمثلاً، أحياناً ترى الشاب الخاطب للبنت راضياً والبنت والآباء والأمهات من الطرفين كلهم راضون، يأتي أحد كبار العائلة مثلاً فيمنع الزواج أو يعرقله، بسبب بعض الطلبات والتوقعات الزائدة، ومع أننا نقول باحترام هؤلاء وضرورة

ص: 56


1- الكافي 5: 324.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 556.

الاستماع إلى آرائهم، ولكن وفق الضوابط الشرعية التي سنّها اللّه سبحانه وتعالى؛ لأن المسلم يجب أن يسمع ما يقوله اللّه سبحانه وتعالى، لا ما يقولهالآخرون؛ لأنه يتبع أحكام اللّه تعالى في كل أموره.

واليوم، وبسبب الشروط التي تملى - من قبل حتى غير الزوجة والزوج - أحياناً، نرى أن آلافاً من الشباب والشابات لم يتمكنوا من الزواج؛ وذلك بسبب ما وضع أمامهم من عقبات ومتاعب في هذا الطريق، ومن أهمها كما قلنا غلاء المهور، وتعدد المتطلبات الإضافية كشراء الوسائل والتجهيز وتوفير الأثاث ووليمة الزواج... وغيرها، من الأمور التي تحول دون تسهيل مسألة الزواج؛ ولهذا يظل كل من الشاب والشابة يعانيان من تعب نفسي وعقد خاصة وأمراض شتى، لم تنشأ منهما بالخصوص بل من غيرهما. ونتيجة ذلك سيفشل الزواج مستقبلاً، وإذا كانا غير متدينين فسوف ينجرفان نحو الفساد - والعياذ باللّه - خصوصاً وإن الشيطان يهمز بالإغواء وتلويث مثل هذه الأجواء.

قال علي بن مهزيار: كتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر(عليه السلام) في أمر بناته، أنه لا يجد أحداً مثله، فكتب إليه أبو جعفر(عليه السلام): «فهمت ما ذكرت من أمر بناتك، وأنك لا تجد أحداً مثلك، فلا تنظر في ذلك يرحمك اللّه، فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(1).

فشرط الإسلام الأساسي في الزواج (الخلق والدين) وليس من الصحيح تعقيد هذه المسألة أكثر من اللازم فهذه سنة الحياة، وهذه الفطرة التي فطرنا اللّه عليها.

ص: 57


1- الكافي 5: 347.

إن جميع مشاكل الزواج لم تكن سارية في المجتمعات الإسلامية السابقة بهذا الشكل والتعقيد، ولو سألنا الكبار والطاعنين في السن من الآباء والأجدادلأجابونا بالإيجاب وأيدوا هذا الكلام، ولكن عندما جاء المستعمرون ودخلوا البلاد الإسلامية زرعوا هذه العقد والمشاكل في المجتمع الإسلامي وبثوا هذه الأفكار الفاسدة.

قصص عن الزواج

كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحث أصحابه على الزواج ويسألهم، هل هم متزوجون أم لا؟

فعن جابر بن عبد اللّه قال: غزا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إحدى وعشرين غزوة بنفسه، شاهدت منها تسع عشرة غزوة، وغبت عن اثنتين، فبينا أنا معه في بعض غزواته إذ أعيا ناضحي(1) تحت الليل فبرك، وكان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أخريات الناس يزجي(2) الضعيف ويردفه ويدعو لهم، فانتهى إلي وأنا أقول: يا لهف أماه، ما زال لنا ناضح سوء، فقال: «من هذا؟» فقلت: أنا جابر، بأبي وأمي يا رسول اللّه، قال: «وما شأنك؟» قلت: أعيا ناضحي، فقال: «أمعك عصا؟» فقلت: نعم، فضربه، ثم بعثه ثم أناخه ووطئ على ذراعه، وقال: «اركب» فركبت وسايرته، فجعل جملي يسبقه، فاستغفر لي تلك الليلة خمساً وعشرين مرة، فقال لي: «ما ترك عبد اللّه من الولد - يعني أباه -؟» قلت: سبع نسوة، قال: «أبوك عليه دين؟» قلت: نعم، قال: «فإذا قدمت المدينة فقاطعهم، فإن أبوا فإذا حضر جداد نخلكم(3) فآذني» فقال: «هل تزوجت؟» قلت: نعم، قال: «بمن؟»، قلت: بفلانة بنت فلان،

ص: 58


1- الناضح: البعير أو الثور أو الحمار الذي يستقى عليه الماء، والأنثى بالهاء، ناضحة
2- أي: يسوقه ليلحقه بالرفاق.
3- أجد النخل: حان وقت جداده أعني قطعه.

بأَيِّم(1)

كانت بالمدينة قال: «فهلا فتاة تلاعبها وتلاعبك»(2)... .هذه البساطة في الزواج سنّة جعلها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الحياة. ونحن المسلمين يجب أن يكون المعيار عندنا في كل الأشياء هو رضا اللّه سبحانه وتعالى، ورضا رسوله الكريم حتى لا نقع في المشاكل، ولا نستصعب في ذلك الأمور الحيوية المهمة.

قصة زواج

ذكر أن سعيد بن المسيب الذي كان أحد تلامذة الإمام زين العابدين(عليه السلام)، كان شخصية بارزة بين عموم المسلمين، وله منزلة عظيمة بين الشيعة وغيرهم على حد سواء، وكانت له بنت جميلة، بل هي من أجمل بنات المدينة، فأرسل الخليفة عبد الملك إلى أبيها يخطبها لابنه الوليد، فرفض أبوها مع علمه بأن الخليفة يتمتع بمنصب وأموال وشأنٍ بين الناس، حتى أن عبد الملك استخدم ضغوطاً وأرسل وساطات إلّا أنها لم تجد نفعاً، ثم أرسل بعد ذلك لأبيها (سعيد بن المسيب) جماعة سألوه عن سبب عدم تزويج ابنته للخليفة؟ فقال سعيد: إن عبد الملك شارب خمر، وقد جاء عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شارب الخمر لا يُزوّج إذا خطب»(3).

وإن في شرع الإسلام لا يصح أن يزوج الرجل ابنته لزانٍ؛ وذلك لأنه كما يزني فإنه كذلك قد لا يمانع أن تذهب زوجته مع رجل أجنبي للزنا.

وكذا الحال مع المقامر فإنه يخسر أمواله في المقامرة، وإنه في بعض الأوقات يضع زوجته في المراهنة، كما نسمع عن ذلك ونقرأ في بعض الصحف أو

ص: 59


1- أَيِّم: المرأة التي لا زوج لها وهي مع ذلك لا يرغب أحد في تزويجها.
2- مكارم الأخلاق: 20.
3- الكافي 5: 348.

المجلات أو الكتب.

فعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «... وإياك أن تزوج شارب الخمر، فإن زوجته فكأنما قُدْت إلى الزنا»(1).

وعلى أي حال، قالوا لسعيد: إن عبد الملك يتوعدك ويهدّدك وإنْ لم تزوجه ابنتك فانه سيؤذيك، فقال سعيد بن المسيب: إنني أسمع كلام اللّه لا كلام عبد الملك، وليفعل ما يريد، فغضب عبد الملك وأمر بإلقاء القبض على سعيد بن المسيب وجلده أمام الملأ. وكان الخليفة إذا غضب على أحد فإن الكثير من ضعاف الإيمان يبتعدون عنه - عمن غضب عليه الخليفة -؛ خوفاً من العقاب أو من ذهاب المصالح، وكان هذا ما حصل لسعيد بن المسيب أيضاً، كان له طلاب يتلقون الدرس عنده، كما كان بعض علماء الدين يلتفّون حوله وجمع آخر كذلك من الكسبة كانوا إلى جانبه، وقد انفضّ الكثير من حوله بسبب هذه المشكلة التي حدثت له مع السلطان، ولكنه لم يأبه بكل هذه الأمور وأصرّ على موقفه، ارضاء لربه وعملاً بأحكام دينه. وفي يوم وبينما كان سعيد بن المسيب جالساً إذا التفت إلى شاب نجار فقال له: هل لك زوجة؟ فقال الشاب: لا، فقال له سعيد: لماذا، ألم يوصِ الإسلام بالزواج؟ فقال الشاب: في الحقيقة إني لا أملك مالاً أتزوج به، سوى أربعة دراهم.

فقال سعيد: هل أنت تقبل الزواج من ابنتي؟

فضحك الشاب في دهشة قائلاً: من ابنتك أنت؟

قال سعيد: نعم! وإن هذه الأربعة دراهم هي المهر، ثم ذهب سعيد إلى داخل الدار واستكشف موافقتها فكان جوابها: كما ترى أنت يا أبتاه.

ص: 60


1- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 280، ومستدرك الوسائل 14: 191.

فرجع سعيد، ولا يزال بعض طلابه لم يتفرقوا من مجلس الدرس، وقال لذلك الشاب: زوجتك ابنتي على أربعة دراهم فهل قبلت؟

قال الشاب: قبلت، فانعقد الزواج وتم.

ولو أن الناس اقتدوا بهذا العمل وبهذه الأساليب السهلة البسيطة للزواج، فسوف لا تبقى بنت ولا شاب يعاني من مشكلة تأخر الزواج والعنوسة، وما يصاحب ذلك من أزمات نفسية واجتماعية.

أخيراً عاد النجّار لأمه وأخبرها بما جرى، فلم تصدقه وقالت له: أجننت يا ولدي؟ أم صحيح ما تقول: أن سعيد بن المسيب الذي لم يزوج ابنته للخليفة عبد الملك سيزوجك منها.

فجاءت أمه (لأنه كان يتيم الأب)، وسألت سعيد بن المسيب عن صحة الخبر؟ فقال لها: نعم، وإن هذه الليلة هي ليلة زفافه، فرجعت وصعدت على سطح دارها ونادت: أيها الناس، إن سعيد بن المسيب زوج ابنته فلانة لولدي فلان النجار، فهلموا لمساعدته، فجاء الجيران وبعضهم يتهمها بالجنون وبعضهم بالهذيان، وإن البعض الآخر، قال لها: لربما شاهدت في منامها رؤيا، وعندما عرفت بذلك أجابتهم: إني لست مجنونة، اذهبوا وتقصوا الخبر من سعيد بن المسيب، فجاءوه وسألوه عن حقيقة الأمر فأجابهم بصحة ذلك(1).

وهذا من مصاديق قول الإمام الصادق(عليه السلام)، حيث قال: «من زوج أعزباً كان ممن ينظر اللّه إليه يوم القيامة»(2). وفي حديث آخر عن الإمام الكاظم(عليه السلام) أنه قال: «ثلاثة يستظلون بظل عرش اللّه يوم لا ظل إلّا ظله: رجل زوج أخاه

ص: 61


1- انظر حلية الأولياء 2: 169، وسير أعلام النبلاء 4: 233.
2- وسائل الشيعة 20: 45.

المسلم، أو أخدمه، أو كتم له سراً»(1).

نعم، هكذا هو الزواج في دين الإسلام.

مسؤولية المجتمع تجاه الزواج

اشارة

إن الابتعاد عن الدين قد سبب الكثير مما نراه من الفواحش والمنكرات ودور الدعارة، وإن المجتمع هو المسؤول بالدرجة الأولى عن هذا الانحراف؛ لأن إغلاق الأبواب بوجه الإسلام وفتحها بوجه الأفكار الكافرة الهدامة التي قام بترويجها بعض المنحرفين من المسلمين سيؤدي حتماً إلى ظهور العقبات أمام الزواج وباقي مسائل الحياة، ويؤدي بالتالي إلى ارتكاب المحرمات والفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ لذا علينا أن نمد يد العون للرجل ونيسر أمر زواجه وكذلك بالنسبة للمرأة فإن اللّه عزّ وجلّ يقول: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(2).

وإن ما نراه اليوم فهو ليس من الإسلام، إلّا أن المجتمع هو الذي أنشأه بسبب تأثره بالأفكار الغربية البعيدة عن الإسلام.

القدوة الصالحة

نَقَلَ لي والدي(رحمه اللّه) وقال: إن السيد عبد الهادي(3) جاء فخطب أخته (أي عمتي) فقال له والدي: تعال وخذها بدون شرط، وعندما تم العقد قال السيد الوالد(رحمه اللّه): لم يكن يفترق حالهما بين ليلة زفافها والليالي الأخرى قبل زفافهما، سوى أنها بدلت غرفتها وانتقلت إلى غرفة ابن عمها (السيد عبد الهادي)،

ص: 62


1- الخصال 1: 141.
2- سورة النور، الآية: 32.
3- هو ابن عم الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه) وكان من مراجع الشيعة الكبار، وهو آية اللّه العظمى السيد عبد الهادي بن السيد ميرزا إسماعيل بن السيد رضي الدين الشيرازي.

وكذلك بدلت ثوباً واحداً وفراشاً واحداً وكأن شيئاً لم يكن، فالزواج يجب أن يكون بهذه البساطة واليسر ويكون عند أول البلوغ؛ حتى يعطي أكبر فوائده وثماره للزوجين بشكل خاص وللمجتمع بصورة عامة.

من نعم الإسلام

نقل أيضاً أن الملا صالح - وهو أحد كبار علماء الشيعة - كان قد ولد في بيت فقير في مدينة (مازندران)، وبعد أن بلغ سن الرشد سافر إلى أصفهان يطلب العلم من إحدى حوازتها. وكان راتبه آنذاك يسيراً جداً ويعيش في فقر شديد، حتى أنه كان في بعض الليالي لا يمتلك مصباحاً للمطالعة، فكان يطالع على ضوء المصابيح العمومية في المدينة، وبعد ذلك تدرج الملا صالح في الدرس حتى صار من الطلاب الجيدين عند المرحوم العلامة المجلسي(رحمه اللّه)، وعندما حان وقت زواجه لم يكن يملك شيئاً من المال، وفي أحد الأيام قال له العلامة المجلسي: هل تخولني في أن أختار لك زوجة؟ فأجاب الملا صالح بالقبول والإيجاب، فقام العلامة المجلسي من محل الدرس ودخل بيته وقال لابنته (آمنة) - التي كانت امرأة عالمة وفاضلة أيضاً - يا آمنة لقد اخترت لك زوجاً عالماً إلّا أنه يعيش منتهى حالات الفقر، فأجابته آمنة: يا أبه ليس الفقر بعيب.

فرجع العلامة المجلسي وأجرى لهما عقد الزواج.

وينقل عن ليلة زفافها، أن الملا صالح كان منشغلاً بالمطالعة في تلك الليلة حيث واجه مسألة تعذر عليه حلّها، وهنا فهمت آمنة ذلك الخبر، فكتبت له الحل مفصلاً وأرسلته له على ورقة وضعتها وسط كتاب، فحينما فتح الملا صالح الكتاب ورأى الجواب، اعجب كثيراً بمنزلتها العلمية.

جاء عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «... من زوج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها وتشد عضده ويستريح إليها، زوّجه اللّه من الحور العين، وآنسه بمن أحب من

ص: 63

الصديقين من أهل بيته وإخوانه، وآنسهم به...»(1).

نعم، لقد بني الإسلام على هذه المبادئ السهلة الخالية من العقبات والصعوبات، وهذه الروح الإسلامية الشريفة هي التي جعلت أمتنا تنال أعلى درجات التقدم والازدهار، وليس هناك دين جاء بمثل ما أتت به شريعتنا السمحاء من اليسر والسهولة {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(2) وهذا كله من فضل اللّه سبحانه وتعالى علينا.

وفي حديث للإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) - بخصوص التعجيل في تزويج البنات - قال: «نزل جبرئيل على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول: إن الأبكار من النساء بمنزلة الثمر على الشجر، فإذا أينع الثمر فلا دواء له إلّا اجتناؤه؛ وإلّا أفسدته الشمس وغيرته الريح. وإن الأبكار إذا أدركن ما يدركن النساء فلا دواء لهن إلّا البعول، وإلّا لم يؤمن عليهن الفتنة. فصعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المنبر فخطب الناس، ثم أعلمهم ما أمرهم اللّه به، فقالوا: ممن يا رسول اللّه؟ فقال: من الأكفاء، فقالوا: ومن الأكفاء؟ فقال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض، ثم لم ينزل حتى زوج ضباعة بنت زبير بن عبد المطلب لمقداد بن أسود، ثم قال: أيها الناس إنما زوجت ابنة عمي المقداد ليتضع النكاح»(3).

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يسهل أمر زواج العزاب والعازبات ببركة الصلاة على محمد وآله.

«اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النية وعرفان الحرمة،

ص: 64


1- كشف الريبة: 92.
2- سورة البقرة، الآية: 185.
3- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 289.

وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدد ألسنتنا بالصواب والحكمة... وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالإتباع والموعظة... وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الحث على التزويج

قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ}(2).

وقال سبحانه: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}(5).

قال تعالى: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَمِنَ الْأَنْعَٰمِ أَزْوَٰجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}(6).

ص: 65


1- البلد الأمين: 349.
2- سورة النحل، الآية: 72.
3- سورة النور، الآية: 32.
4- سورة الروم، الآية: 21.
5- سورة الفرقان، الآية: 54.
6- سورة الشورى، الآية: 11.
السعي في اختيار الزوجة والدعاء لذلك

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٖ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}(1).

وقال عزّ وجلّ: {عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَٰجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَٰتٖ مُّؤْمِنَٰتٖ قَٰنِتَٰتٖ تَٰئِبَٰتٍ عَٰبِدَٰتٖ سَٰئِحَٰتٖ ثَيِّبَٰتٖ وَأَبْكَارًا}(2).

أحكام المهر

وقال جلّ وعلا: {لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَٰعَا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}(3).

قال تعالى: {وَءَاتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٖ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِئًا مَّرِئًا}(4).

وقال سبحانه: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَٰتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَٰنِيَ حِجَجٖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّٰلِحِينَ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

كراهة العزوبة ولزوم الزواج

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... تزوجوا فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً ما كان

ص: 66


1- سورة الفرقان، الآية: 74.
2- سورة التحريم، الآية: 5.
3- سورة البقرة، الآية: 236.
4- سورة النساء، الآية: 4.
5- سورة القصص، الآية: 27.

يقول: من كان يحب أن يتبع سنتي فليتزوج فإن من سنتي التزويج واطلبوا الولدفإني أكاثر بكم الأمم غداً»(1).

عن عبد الصمد بن بشير قال: دخلت امرأة على أبي عبد اللّه(عليه السلام) فقالت: أصلحك اللّه إني متبتلة فقال: «وما التبتل عندك؟» قالت: لا أتزوج، قال: «ولم؟» قالت: ألتمس بذلك الفضل، فقال: «انصرفي فلو كان في ذلك فضلاً لكانت فاطمة(عليها السلام) أحق به منك، إنه ليس أحد يسبقها إلى الفضل»(2).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق اللّه في النصف الباقي»(3).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شرار موتاكم العزاب»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «شرار أمتي عزابها»(5).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لرجل اسمه عكّاف: «ألك زوجة؟» قال: لا يا رسول اللّه، قال: «ألك جارية؟»، قال: لا يا رسول اللّه، قال: «أفأنت موسر؟» قال: نعم، قال: «تزوج وإلّا فأنت من المذنبين»(6).

وفي رواية: «تزوج وإلّا فأنت من رهبان النصارى».

وفي رواية أخرى: «تزوج وإلّا فأنت من إخوان الشياطين»(7).

ص: 67


1- الخصال 2: 614.
2- الكافي 5: 509.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 518.
4- روضة الواعظين 2: 374.
5- بحار الأنوار 100: 222.
6- جامع الأخبار: 101.
7- جامع الأخبار: 101.
ذم كثرة المهور

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «ما تزوج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً من نسائه، ولا زوج شيئاً من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش، والأوقية أربعون درهماً والنش عشرون درهماً»(1).

عن كتاب نوادر الحكمة عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «لا تغالوا في مهور النساء فيكون عداوة»(2).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تغالوا بمهور النساء فإنّما هي سقيا اللّه سبحانه»(3).

عن ابن بكير قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «زوّج رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة(عليها السلام) على درع حُطَميَّة(4) يسوى ثلاثين درهماً»(5).

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «الشؤم في ثلاثة: في المرأة والدابة والدار، فأما شؤم المرأة فكثرة مهرها وعقوق زوجها...»(6).

تزويج المؤمن أخاه المؤمن

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من زوج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها وتشد عضده ويستريح إليها زوجه اللّه من الحور العين وآنسه بمن أحب من الصديقين من أهل بيته وإخوانه وآنسهم به»(7).

ص: 68


1- معاني الأخبار: 214.
2- مكارم الأخلاق: 237.
3- المجازات النبوية: 177.
4- الحُطَميَّة: هي التي تحطم السيوف أي يكسرها، وقيل: هي العريضة الثقيلة، وقيل هي منسوبة إلى بطن من عبد القيس يقال له حطمة بن محارب كانوا يعملون الدروع.
5- الكافي 5: 377.
6- من لا يحضره الفقيه 3: 556.
7- كشف الريبة: 92.

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاححتى يجمع اللّه بينهما»(1).

عن الإمام موسى الكاظم(عليهما السلام) قال: «ثلاثة يستظلون بظل عرش اللّه يوم لا ظل إلّا ظله: رجل زوج أخاه المسلم، أو أخدمه، أو كتم له سراً»(2).

هكذا الزواج في الإسلام

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته يخطب إليكم فزوجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»(3).

جاء رجل إلى الإمام الحسن(عليه السلام) يستشيره في تزويج ابنته؟ فقال: «زوجها من رجل تقي؛ فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها»(4).

عن الإمام الرضا(عليه السلام): «.. وإن خطب إليك رجل رضيت دينه وخلقه فزوجه ولا يمنعك فقره وفاقته، قال اللّه تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ}(5)، وقوله: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(6)...»(7).

ص: 69


1- الكافي 5: 331.
2- الخصال 1: 141.
3- الأمالي للشيخ الطوسي 519.
4- مكارم الأخلاق: 204.
5- سورة النساء، الآية: 130.
6- سورة النور، الآية: 32.
7- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام): 237.

يوم الحسين(عليه السلام) 3 شعبان ذكرى مولده المبارك

الولادة المباركة

اشارة

ولد الإمام الحسين(عليه السلام) في الثالث من شعبان سنة ثلاث أو أربع من الهجرة النبوية المباركة.

وفي الحديث: «لما ولد الإمام الحسين(عليه السلام) هبط جبرئيل(عليه السلام) ومعه ألف ملك يهنئون النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بولادته. وجاءت به فاطمة(عليها السلام) إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسر وسماه حسيناً»(1).

وعن إبراهيم بن شعيب قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: «إن الحسين بن علي(عليهما السلام) لما ولد أمر اللّه عزّ وجلّ جبرئيل أن يهبط في ألف من الملائكة فيهنئ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من اللّه ومن جبرئيل، قال: فهبط جبرئيل فمر على جزيرة في البحر فيها ملك يقال له فطرس كان من الحملة بعثه اللّه عزّ وجلّ في شيء فأبطأ عليه فكسر جناحه وألقاه في تلك الجزيرة، فعبد اللّه تبارك وتعالى فيها سبعمائة عام حتى ولد الحسين بن علي(عليهما السلام) فقال الملك لجبرئيل: يا جبرئيل أين تريد؟

قال: إن اللّه عزّ وجلّ أنعم على محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنعمة فبعثت أهنؤه من اللّه ومني.

فقال: يا جبرئيل احملني معك لعل محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدعو لي.

ص: 70


1- مثير الأحزان: 16.

قال: فحمله.

قال: فلما دخل جبرئيل على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هنأه من اللّه عزّ وجلّ ومنه، وأخبره بحال فطرس.

فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): قل له: تمسّح بهذا المولود وعد إلى مكانك.

قال: فتمسح فطرس بالحسين بن علي(عليهما السلام) وارتفع.

فقال: يا رسول اللّه أما إن أمتك ستقتله وله عليّ مكافاة أن لايزوره زائر إلّا أبلغته عنه، ولا يسلّم عليه مسلّم إلّا أبلغته سلامه، ولا يصلي عليه مصلّ إلّا أبلغته صلاته، ثم ارتفع»(1).

طهّره اللّه من عرشه

عن ابن عباس قال: لما كان مولد الحسين بن علي (صلوات اللّه عليهما) وكانت قابلته صفية بنت عبد المطلب، فدخل عليها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «يا عمة ناوليني ولدي».

قالت: فداك الآباء والأمهات كيف أناولكه ولم أطهره بعد!

قال: «والذي نفس محمد بيده لقد طهّره اللّه من علا عرشه».

فمد بيده وكفيه فناولته إياه، فطأطأ عليه برأسه يقبل مقلتيه وخديه ويمج لسانه كأنما يمج عسلاً أو لبنا. ثم بكى طويلاً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما أفاق قال: «قتل اللّه قوما يقتلوك!»

قالت صفية: فقلت: حبيبي محمد من يقتل عترة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟

قال: «يا عمة تقتله الفئة الباغية من بني أمية»(2).

ص: 71


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 137.
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) للكوفي القاضي 2: 234.
تكريم العلم والعلماء

في ذكرى مولد الإمام الحسين(عليه السلام) علينا أن نتعلم من مدرسته المباركة، ونقتدي بسيرته الطاهرة فإن في ذلك سعادة الدنيا والآخرة، وخلاص للأمة من أزماتها ومشاكلها الكثيرة.

يروى أن الإمام الحسين(عليه السلام) أرسل أحد أولاده إلى عبد الرحمن السلمي(1)، ليعلمه القراءة والكتابة فعلّمه سورة الحمد، فلما عاد إلى المنزل، سأله(عليه السلام): «ماذا تعلمت؟».

قال: سورة الحمد.

فاستدعى (صلوات اللّه وسلامه عليه) عبد الرحمن السلمي وأعطاه ألف دينار، وألف حلة، وحشا فاه دراً.

فقيل له في ذلك، فقال(عليه السلام): وأين يقع هذا من عطائه، يعني تعليمه(2).

وقد ذكرت هذه القصة في البحار(3)، وكذلك في المستدرك(4)، وفي كتب أخرى أيضاً(5).

وإذا أردنا أن نعرف قيمة هذا العطاء، فإن ألف دينار يعني ألف مثقال من الذهب، والمثقال الشرعي من الذهب يعادل ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي.

يعني إذا كان المثقال الصيرفي يساوي 24 حمصة، فالمثقال الشرعي يساوي 18 حمصة. إذن ألف دينار يعادل سبعمائة وخمسين مثقالاً من الذهب اليوم، فإذا

ص: 72


1- عبد الرحمن أو أبو عبد الرحمن السلمي هو عبد اللّه بن حبيب بن ربيعة الكوفي، مقرئ الكوفة ومن أولاد الصحابة.
2- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 66.
3- بحار الأنوار 44: 191.
4- مستدرك الوسائل 4: 247.
5- انظر البرهان في تفسير القرآن 1: 100.

حسبنا قيمة كل مثقال من الذهب اليوم، يتبين أن الإمام(عليه السلام) دفع له ما يعادل الملايين.

كما أن الإمام(عليه السلام) دفع له ألف حلة، وقيمة كل حُلة كانت تعادل ديناراً واحداً، فيعني أنه دفع من الحلل ما يعادل الملايين أيضا.

وأما بالنسبة إلى الدر حيث «وحشا فاه دراً»، فإنا لا نعلم حجم هذه الدرر، صغيرة كانت أم كبيرة؛ وما هي قيمتها، لأن الدر الصغير أقل قيمة من الدر الكبير، ولكن من الواضح أن هذه أيضا تعادل الملايين.

وهذا يعني أن الإمام(عليه السلام) كان قد أعطى هذا المعلم عشرات الملايين!

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا قام الإمام الحسين(عليه السلام) بهذا العمل؟

هل لأنه كان كريماً فقط، نعم إنه(عليه السلام) كان في قمة الكرم، فالإمام(عليه السلام) كريم وشجاع، وعالم وتقي، وجامع لكل الصفات الحسنة والخصال الحميدة.

فهل كان هدف الإمام هو العمل بمصداق من الجود والكرم، ومجرد أن الكريم يعطي المال للناس؟!

أم كان القصد هو تشجيع العلم والعلماء؟ وبيان دورهم في الحياة؟

الظاهر أن قصد الإمام الحسين (صلوات اللّه وسلامه عليه) هو تكريم العلم والعلماء، والتأكيد على دور العلم والعلماء في بناء المجتمع وتقدمه وتطوره.

وهذا ما نفتقده اليوم.

فإذا فهم المسلمون أهمية العلم والعلماء، وظهرت عندهم قيمة ذلك تقدموا، فإنه لم يحصل ما حصل اليوم للعالم الإسلامي من التأخر والتخلف في جميع مناحي الحياة إلّا بالابتعاد عن العلم والعلماء، حيث أصبحنا من الأمم التي هي في الدرجة الثانية أو الثالثة أو الأكثر تأخراً.

ص: 73

لماذا تقدم الغرب؟

أما الغربيون فتقدموا علينا في العديد من مجالات الحياة، لأنهم عرفوا مكانة العلم والعلماء، وقدّروا العلم والعلماء، فإنكم تلاحظون اليوم أن أغلب الصنائع - وربما كلها - التي نستعملها في حياتنا اليومية ليلاً ونهاراً فهي من صنعهم.

فالكهرباء منهم، والثلاجة التي في منازلنا منهم، وكذلك الغسالة، والسيارة، وغيرها، وغيرها.

وإذا أراد أحدنا الذهاب إلى حج بيت اللّه، فالطائرة من صنعهم؟!

وإذا أردنا نشر المفاهيم الإسلامية عبر المذياع والتلفاز، فأيضا تعود إليهم.

وإذا ما مرض أحد - لا سمح اللّه - فعندما يذهب إلى المستشفى للمعالجة، فالدواء ووسائل العلاج والأجهزة الطبية منهم.

لماذا تقدموا وتأخرنا؟

لأنهم عملوا ببعض القوانين الإسلامية التي جاء بها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرون(عليهم السلام) ومنهم الإمام الحسين(عليه السلام)، والتي منها تكريم العلم والعلماء، فتقدموا.

وتركنا نحن المسلمين القوانين الإسلامية التي وردت في القرآن الكريم، وجاءت على لسان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام) فتأخرنا.

ومن تلك القوانين الحيوية، ما يستفاد من هذه القصة الصغيرة، حيث أكرم الإمام الحسين(عليه السلام) ذلك المعلّم بهذا التكريم الكبير.

ولكننا عند ما نقرأ هذا الحديث نعده مجرد فضيلة من فضائل الإمام الحسين(عليه السلام) وكرم من مصاديق جوده وكرمه، من دون أن نعرف ما الذي أراده الإمام الحسين(عليه السلام) بعمله هذا؟!

ص: 74

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتأكيد على العلم

وهكذا كان القرآن الكريم والنبي العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤكدون على دور العلم والعلماء.

فبعد انتصار نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في معركة بدر، وأسرِ عدد من المشركين، اقترح البعض بقتل الأسرى، لكن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يقبل بذلك.

في التاريخ: إن عمر قال: يا رسول اللّه، كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم، ومكّن علياً من عقيل فيضرب عنقه، ومكن حمزة من عباس، ومكّني من فلان أضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر(1).

فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن اللّه يلين قلوب رجال حتى يكون ألين من اللبن، ويقسي قلوب رجال حتى يكون أشد من الحجارة مثلك».

هذا وكان المشركون قد أرسلوا إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من يتوسط لإطلاق سراح الأسرى مقابل الفداء.

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ما قال: من كان منكم يعرف القراءة والكتابة، فليعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، ثم ليذهب إلى مكة وإن بقي كافراً مشركاً(2).

فماذا أراد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذا العمل؟!

أراد أن يؤكد على ضرورة تحلي المسلمين بالعلم، ودور العلم والعلماء في تطور المجتمع وتقدمه.

وقد قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(3).

وهذا ما قام به الغربيون بعد الحرب العالمية الثانية، حيث طالبوا ألمانيا بدفع

ص: 75


1- بحار الأنوار 19: 241، وعوالي اللئالي 2: 101.
2- انظر مسند أحمد 1: 247.
3- كنز الفوائد 2: 107.

الغرامات الحربية، وكانت الغرامة تسليم العلماء إليهم ليستفيدوا من علومهم في تطور بلادهم.

لقد كان هذا عمل نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نحن المسلمين، فهل تعلمنا منه ذلك؟!

إن كل من يسير على سنة اللّه في الكون وسيرة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) في الحياة سوف يتقدم، سواء كان مسيحياً أم يهودياً، فاللّه تعالى يقول في القرآن: {كُلًّا نُّمِدُّ}(1)، أي نعطي الجميع {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} وذلك للاختبار والامتحان، فإن الدنيا دار أسباب ومسببات.

مدرسة الإمام الحسين(عليه السلام)

اشارة

إن علينا أن نتعلم في يوم الحسين(عليه السلام) - سواء في يوم مولده الشريف، أو يوم استشهاده - من مدرسته النيرة، وسيرته العطرة.

وقد أكد الإمام الحسين(عليه السلام) بسيرته وأقواله على دور العلم والعلماء في المجتمع، كما مر في قصة تكريم المعلم الذي علم ولده سورة من القرآن.

فهذه القصة وكذلك قصة نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في بدر، هي من أجل تعليمنا، لكننا لم نتعلم وتعلم غيرنا، فأصبحوا سادة الدنيا، وعادوا يملكون كل شيء، وأصبحت بلادنا في أشد الفقر وأتعس حالات الحرمان.

قال الإمام الحسين(عليه السلام) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان منزلة العلماء:

«... وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء، لو كنتم تشعرون ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء باللّه الأمناء علىحلاله وحرامه فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلّا بتفرقكم عن

ص: 76


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

الحق، واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المئونة في ذات اللّه، كانت أمور اللّه عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم أمور اللّه في أيديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم فمن بين مستعبد مقهور، وبين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلبون في الملك بآرائهم ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداء بالأشرار وجرأة على الجبار، في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض لهم شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول(1)، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد، وذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لايعرف المبدئ المعيد، فيا عجباً وما لي لا أعجب والأرض من غاش غشوم ومتصدق ظلوم وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فاللّه الحاكم في ما فيه تنازعنا والقاضي بحكمه في ما شجر بيننا، اللّهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم وحسبنا اللّه وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير»(2).

حركة الوهابيين

هذا بالنسبة إلى الغربيين وتقدمهم في مجالات الحياة، وكذلك الحال - نسبياً -

ص: 77


1- الخِوَل: العبيد والخدم والإماء.
2- تحف العقول: 238.

بالنسبة إلى بعض الحركات المنحرفة كالوهابيين، فإنهم على رغم باطلهم يعملون ليل نهار لنشر أفكارهم ومبادئهم بين الناس.

الوهابيون مع أنهم قلة قليلة جداً، لكنهم أسسوا في العديد من بلاد العالم مؤسسات وجمعيات ومدارس كثيرة وكبيرة لتعليم مناهجهم العنيفة التي تخالف الشرع والعقل والفطرة، فتقدموا بقدر ما عملوا.

على عكسنا، حيث لا نعمل فلا نتقدم.

وقد قال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) مخاطبا أصحابه:

«فيا عجبا عجبا واللّه يميث القلبَ ويجلب الهمَّ من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحاً لكم وترحاً، حين صرتم غرضاً(1) يُرمى، يُغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزون ولا تَغزون، ويُعصى اللّه وترضون»(2).

وقال(عليه السلام): «واللّه إنكم لعلى حق، وإن القوم لعلى باطل، فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم»(3).

وقال(عليه السلام): «فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم، والركون إلى سبيل الطاغوت، أشد اجتماعاً على باطلهم وضلالتهم منكم على حقكم»(4).

وقال(عليه السلام): «ولا أرى هؤلاء القوم إلّا ظاهرين عليكم لاجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، وطاعتهم لإمامهم ومعصيتكم لإمامكم، وبأدائهمالأمانة إلى صاحبهم، وخيانتكم إياي»(5).

ص: 78


1- الغرض: ما ينصب ليرمى بالسهام ونحوها، فقد صاروا بمنزلة الهدف يرميهم الرامون.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 27 من خطبة له(عليه السلام) وهو يستنهض بها الناس ويذكر فضل الجهاد.
3- بحار الأنوار 32: 489.
4- الغارات 1: 191.
5- الغارات 2: 437.

وقال(عليه السلام): «فالعجب كل العجب، وكيف لا أعجب من اجتماع قوم على باطلهم، وتخاذلكم عن حقكم»(1).

وفي نهج البلاغة:

«إني واللّه لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون(2) منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب(3) لخشيت أن يذهب بعلاقته(4)، اللّهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني»(5).

وهكذا أصبحنا وأصبحوا.

حيث تفرقنا عن الحق، وتمسكوا بباطلهم.

هناك جمعية وهابية في الكويت تدعى: (جمعية الإصلاح)، أسسها مجموعة من التجار الوهابيين، وهي موجودة لحد الآن، وتصدر لها مجلة، اسمها (المجتمع). وقد جاء في عددها ما قبل الأخير: بأن الوهابيين اجتمعوا وقرروا للعام الجديد الميلادي طبع وتوزيع مائة مليون كتاب في العالم.

ومن الواضح أن هذا العمل بحاجة إلى مبلغ خيالي من الأموال، لتهيئة الكتب وطبعها وتوزيعها بين الناس. ولكنهم قد رصدوا كل المبلغ لذلك.

ص: 79


1- الإحتجاج 1: 174.
2- سيدالون منكم: سيغلبونكم وتكون لهم الدولة بدلكم.
3- القَعْب: القدح الضخم.
4- عِلاقة القَعْب: ما يعلق منه من ليف أو نحوه.
5- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 25 من خطبة له(عليه السلام) وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد.

هكذا يعملون لنشر ثقافتهم.

ونحن نتعجب كيف سيطر الوهابيون على بلاد كثيرة!

أو كيف سيطر الغربيون على الدنيا.

إنهم عرفوا سنن الحياة فاتبعوها.

إنها سنن ذكرها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، ومن قبل بينها اللّه تعالى في القرآن الكريم، حيث قال عزّ وجلّ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1).

وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال سبحانه: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَلَلْأخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}(3).

وقال جلّ جلاله: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ}(4).

وخلاصة الأمر:

إنه راجع إلى العلم والعلماء والنشاط.

هذا وقد قال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته الأخيرة - ومن المعلوم أنالإنسان يؤكد في آخر وصاياه على أهم ما يراه - :

ص: 80


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- سورة الزمر، الآية: 9.
3- سورة الإسراء، الآية: 20-21.
4- سورة النجم، الآية: 39-40.

«اللّه اللّه في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(1).

وقد سبقنا غيرنا، فأصبح يملك العلم والصناعة والثروة والحكم وغيرها... ولم يبق للمسلمين شيء، وإن بقي فكان للوهابيين ومن أشبه، وأما نحن فلا.

حيث لم نتعلم من الإمام الحسين(عليه السلام) في الاهتمام بدور العلم والعلماء، ولم نأخذ بسيرته العطرة وسيرة أبيه وجده(عليهم السلام) في السير على هديهم.

هناك في الأدب الفارسي قصة تقول:

بأنه حصلت معركة في مكان ما، وانتصر القوم، وكانت هناك غنائم كثيرة، فأخذ كل نصيبه، وبقي شخص كان مهتماً بتصفيف شعره، وتجميل صورته، وترتيب ملابسه، بعدها ذهب ليأخذ من الغنائم فلم ير شيئاً، فعاد خائباً خاسراً، وقد سأله أحدهم: ما غنمت أيها الجميل في شعرك! فقال: لا شيء... لاشيء(2).

إننا أصبحنا كهذا الغافل، فلم نحصل على أي شيء.

الاستثمار التبليغي

القصة الثانية أيضاً من الوهابيين؛ حيث استغلوا فرصة الحج ووفود الملايين من المسلمين إلى بيت اللّه الحرام وزيارة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأجل تبليغ دينهم ونشر أفكارهم ومبادئهم.

فأنتم شاهدتم المسجد الحرام، وكذلك المسجد النبوي الشريف(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، كيف عمروها ووسعوها وبرمجوا لها، حيث يتسع لمليون مصلٍ، وكم يوزعون على الحجاج والزوار من الكتب والأشرطة والنشرات وما أشبه، وكم هناك من مبلغيهميدعون الناس إلى عقيدة الوهابية وأفكارها.

ص: 81


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).
2- وأصل الشعر بالفارسية: بگفتا كه: اى سُنبلت پيچ پيچ *** زيغما چه آورده اى؟ گفت: هيچ هيچ

ثم انظروا إلى حرم الإمام الرضا(عليه السلام) وحرم السيدة معصومة(عليها السلام) وسائر مشاهدنا المشرفة ومزاراتنا المقدسة، حيث إنها لا تسع لعدد كبير من الزوار، ولا تشتمل على برامج تبليغية لنشر معارف أهل البيت(عليهم السلام) من نشر الكتب وتوزيع الأشرطة وما أشبه. فالزائر يأتي ويزور ثم يذهب من دون أن يقدّم له أي شيء.

وربما احتج البعض وقال بأن هذه أماكن أثرية قديمة لا يمكن توسعتها، ولكن هل كونها من الأماكن الأثرية جزء من الأدلة الشرعية، بأن نجعل الناس في ضيق وشدة ولا نواكب التطور والتقدم العصري بسبب ذلك!

فالقضية من باب الأهم والمهم، بالإضافة إلى أنه في كثير من الأحيان وعبر استشارة الأخصائيين والخبراء يمكن الاحتفاظ بالأماكن الأثرية القديمة مع إيجاد التوسعة المطلوبة.

لِمَ لا نتعلم من عمل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)! إذ قام بتوسيع مسجده المبارك بنفسه(1).

وأنتم تنظرون اليوم الشدة والضيق التي يعاني منها الناس عند زيارتهم للمشاهد المشرفة، سواء في الحر والبرد، مضافاً إلى مشاكل اختلاط النساء والرجال.

إذن يلزم علينا ونحن في يوم الحسين(عليه السلام) وفي ذكرى ميلاده المبارك، أن نهتم أكبر الاهتمام بما يرتبط بأهل البيت(عليهم السلام) من المشاهد المشرفة والروضات المقدسة، وأن نعمل بواجبنا من تبليغ رسالة النبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعاليم أهل البيت(عليهم السلام).

قيل إنه قبل فترة أمر فهد(2) ببناء ثلاثة آلاف مكتبة في الدول التي تحررت من

ص: 82


1- انظر الكافي 3: 295.
2- فهد بن عبد العزيز آل سعود 1923-2005م.

الإتحاد السوفيتي، وخصص لها المبالغ اللازمة وهي مبالغ كبيرة جدا.

فكم بنينا وكم خصصنا؟

هذا ما يعملون، ولكننا ما ذا نعمل؟

فكم مكتبة توجد في قم المقدسة؟!

وكم مؤسسة لإرشاد الزائرين، ونشر علوم أهل البيت(عليهم السلام) إلى العالم؟

وكم من مكتبة بنيت في أنحاء العالم بتوجيه ودعم من الحوزة العلمية بقم المقدسة؟

لا شيء يذكر!

مع أن قم المقدسة تعتبر ومنذ ألف سنة مركزاً للعلم والدين والتقوى والفضيلة.

فانظروا كيف يفكر غيرنا، وكيف يعمل، وكيف ينشر فكره وعقيدته، ونحن في واد آخر.

فإذا رأيتم طالبين، أحدهما مجد يتعب نفسه ويسهر الليل في الدراسة والمطالعة والبحث والتحقيق، والآخر ينام الليل ولايتعب، فمن منهما يتقدم ويتطور؟

النتيجة واضحة.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الأمم المتطورة والمتأخرة.

الإسلام يعلو

إن لبنان بلد صغير، ونفوسه ضعف نفوس قم المقدسة أو أكثر بقليل، وقد ذهبت إلى لبنان وشاهدته عن قرب، يوجد في لبنان ثلاثمائة وخمسون محطةإذاعية وتلفزيونية(1)، مضافاً إلى المئات من الصحف والنشرات والمجلات و...؛ وهذه القوة الإعلامية هي من أسرار تقدمهم وتطورهم، فإن كل شخص أو جهة أو

ص: 83


1- هذا في تاريخ إلقاء المحاضرة.

حزب في لبنان حر في تأسيس محطة إذاعية وتلفزيونية، أو نشر صحيفة أو مجلة، من دون أن تمنعه الدولة.

فإذا أردنا أن نقيس على لبنان فيلزم أن تكون في قم المقدسة - حيث الحوزة العلمية المرتبطة بالدنيا، وهي عش آل محمد(عليهم السلام) كما في الروايات(1) - على الأقل مائة وسبعون محطة إذاعية وتلفزيونية.

ولكن لا توجد حتى محطة واحدة.

فانظروا لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟

من الواضح أن الذي لا يعمل يبقى متخلفاً.

هذا من جانب، ولكن الذي يجعل المسؤولية أكبر وأثقل ما ورد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قوله: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(2).

فإن الذي يُلزمنا به هذا الحديث: أن على الأمة الإسلامية، أن تكون أعلى من سائر الأمم وأكثر تطوراً وتقدماً. وهذا واجب شرعاً للحفاظ على قانون العلو.

ولكن إذا لم نكن أعلى من غيرنا، فعلى الأقل أن نكون كسائر الأمم ومثل باقي العالم، يعني أن تكون لنا صنعة كصنعتهم، وتكون لنا حريات كحرياتهم، وتكون لنا وسائل إعلام كوسائلهم من صحافة ومحطات إذاعية وتلفزيونية ودور نشر وما أشبه.

فأين نحن منهم؟

دور الطلبة والعلماء

إن للطلبة والعلماء والحوزات العلمية الدور الأكبر في تطوير الأمة وإرشادها

ص: 84


1- انظر بحار الأنوار 57: 214.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 334.

نحو التقدم والرقي. فإن الطلبة في كل أمة هم الذين يرفعون من شأنها، أو يحطون من قدرها.

وإنني أقدر حتى أصغر الطلبة المبتدئين الذين يدرسون الأمثلة(1)

وما أشبه، فإنه يمكن لهذا الطالب المبتدئ أن يؤدي دوراً إيجابياً في تطوير الأمة.

فكيف بالذي تقدم أكثر كالذي يدرس (السيوطي)(2)، أو (شرح اللمعة)(3)؟

أو مكاسب الشيخ(4)، أو يحضر بحث الخارج(5).

وكيف بكبار العلماء والخطباء والفضلاء.

فعلينا أن ننظر إلى غيرنا ممن تقدم لنعرف أسباب تقدمه ولانتأخر عن الركب، فإن الأشياء تعرف بأضدادها وبأمثالها، كما قيل في الحكمة.

حكام الجور من أسباب التأخر

اشارة

بعد مراجعة التاريخ الإسلامي والتدقيق والتحقيق في مختلف مراحلها يتبين بوضوح أن من أحد أهم أسباب تأخرنا نحن المسلمين في العالم هم: بنو أمية

ص: 85


1- كتاب الأمثلة لمحمد بن عبيد اللّه المسبحي الحراني المصري المتوفى (420ه) وهو في الصرف يدرس للمبتدئين بدراسة العلوم الحوزوية.
2- وهو شرح الألفية في النحو لجلال الدين السيوطي المتوفى (911ه)، وهو من الكتب الدراسية في الحوزة.
3- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، للشهيد السعيد زين الدين الجبعي العاملي المعروف بالشهيد الثاني، قُتل في (965ه) (رضوان اللّه عليه) علماً بأن متن اللمعة هو للشهيد السعيد محمد بن جمال الدين مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول(رحمه اللّه) قُتل في (786ه) وقد درس هذا الكتاب منذ تأليفه إلى الآن مئات الألوف من طلبة العلم، وما زال يدرس في جيمع الحوزات العلمية.
4- المكاسب للشيخ الأعظم الأنصاري في الفقه الإستدلالي.
5- مرحلة بحث الخارج هي المرحلة العليا من العلوم الحوزوية حيث يكون البحث خارجاً عن التقيد بالكتاب، فتطرح المسائل وتبحث بصورة أكثر تحقيقاً وتدقيقاً وعمقاً واستدلالاً. ليصل الطالب إلى الرأي الصحيح عبر الاجتهاد في المسألة.

وبنو العباس.

فالنبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وضع خطة محكمة - ربما نفصّل ذلك في كتاب آخر - لهداية الناس جميعاً نحو الإسلام، ولكي تسلم الدنيا بأسرها، لكن السر في تأخر المسلمين وتخلفهم هو تغيير المنهج الصحيح بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، قال تعالى: {أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ}(1).

فإن بني أمية وبني العباس ومن سبقهم ما أن وصلوا إلى الحكم حتى منعوا المسلمين من التقدم والتطور، بل كانوا يزجون بهم من حرب إلى حرب، ويقولون: إنها فتوحات. لم تكن فتوحات بل هو كذب محض، ربما نبحث عن ذلك في وقت آخر، فمقولة هارون عندما كان يخاطب السحاب: أينما تمطرين سيأتيني خراجكِ(2). كذب وتزوير للتاريخ وعدم إطلاع.

إن هؤلاء - من هارون، والمأمون، والمتوكل، ومعاوية - هم الذين وقفوا في وجه المسلمين وحدوا من نشاطهم وتقدمهم، ومما يدل على ذلك القصتان التاليتان:

قسوة خالد بن عبد اللّه القسري

كان خالد بن عبد اللّه القسري(3) كالحجاج في سفك الدماء، وارتكابالحرام، وانتهاك الحرمات، والحد من العلم، والضغط على العلماء ومحاربة أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم. فكان سوطاً من سياط بني أمية، وجلاداً من جلاديهم، وعاملاً مستبداً من عمالهم.

ص: 86


1- سورة آل عمران، الآية: 144.
2- مآثر الإنافة 1: 194.
3- خالد بن عبد اللّه بن يزيد بن أسد القسري، من أهل دمشق (66ه-126ه) من وُلاة بني مروان، عُرف بعدائه ونصبه لأمير المؤمنين(عليه السلام).

أما لماذا اشتهر الحجاج بالظلم والاستبداد وسفك الدماء ولم يشتهر خالد؛ فلأن الحجاج - وكما يذكر الحاج المولى هاشم في (منتخب التواريخ) - ثار أكثر ضد علي أمير المؤمنين(عليه السلام) وشيعته وفي وضح النهار، فأخذ يبحث عن قبر الإمام(عليه السلام) في الكوفة لينبشه، وقد نبش اثنين وعشرين ألف قبر لأجل ذلك ولكنه لم يعثر على قبر الإمام.

إن اشتهار الحجاج كجلاد لبني أمية جاء لكثير ظلمه في هذا الباب. أما خالد بن عبد اللّه القسري، والذي نريد نقل قصة عنه، فقد كان من ظلمه أنه اتخذ سياسة محاربة العلم والعلماء، لأن بني أمية وبني العباس كانوا يقضون على العلم والعلماء ليقولوا: نحن السادة.

ففي أحد الأيام صعد خالد القسري المنبر في مسجد الكوفة - ومسجد الكوفة آنذاك كان أكبر بكثير مما عليه المسجد الآن - وكان عيد الأضحى، فخطب خطبته ثم قال: أيها الناس، اليوم يوم الأضحى، والأضحية فيه مستحبة، وكل منكم سيضحي بشاة أو بقرة أو ناقة، ولكني سأضحي بأضحية خاصة تختلف عن أضحياتكم.

فتوجهت أنظار الجميع إليه، ماذا سيفعل. وكان رجل في ذلك الوقت حاضراً في المسجد يدعى (جَعْد)(1) فأمر خالد جلاوزته وجلاديه بالقبض على جَعْد،ثم قال: ألقوه أرضاً، ثم أخرج سكيناً وذبحه في المسجد(2).

ص: 87


1- الجَعْد بن درهم مولى سويد بن غفلة، من أهل الشام، سكن الجزيرة الفراتية. أخذ عنه مروان الحمار لما ولي الجزيرة في أيام هشام بن عبد الملك، ولهذا يقال له: مروان الجعدي، فنسب إليه. ومن أراد ذم مروان لقبه بالجعدي. ويعتبر الجعد شيخ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية. طلبه هشام فظفر به، ثم سيره إلى خالد بن عبد اللّه القسري، فقتله يوم عيد الأضحى عام 124ه.
2- انظر أنساب الأشراف 8: 379، والتاريخ الكبير للبخاري 1: 64.

فهل يمكن لهذه الأمة أن تتقدم!

الأمة التي تقطع رؤوس علمائها في المسجد؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر! كيف يمكنها أن تتقدم؟

فهؤلاء (بنو أمية وبنو العباس ومن شاكلهم) وقفوا أمام العلم، وإلّا لما كانت الأمة الإسلامية كما هي عليه الآن من التأخر والحرمان.

هذه هي القصة الأولى.

مقتل عبد اللّه بن المقفع

أما القصة الأخرى فهي عن بني العباس وعمالهم، فقد كان شخص إيراني في العراق يدعى عبد اللّه بن المقفع، وليس الكلام في تقييمه وبما قاله المؤرخون حوله؛ لأننا لسنا في صدد تحليل شخصيته، فإن هناك خلافاً حول عبد اللّه بن المقفع، ولم يكن لي تحقيق في هذا الباب حتى أبينه. لكن عبد اللّه بن المقفع كان أديباً مرموقاً، ربما لا نملك اليوم أديباً مثله بين الإيرانيين.

لقد كان قمة في الأدب العربي، والدليل على ذلك أن كتبه موجودة لحد الآن وتطبع في مصر وغيرها باستمرار، ومن كتبه (كليلة ودمنة)(1)، وهو كتاب أدبيرفيع المستوى في اللغة العربية، وقد ترجم إلى العربية من نسخة فارسية، علماً بأن أصل الكتاب يعود إلى الهند في زمان (أنو شيروان)(2)، فترجم إلى الفارسية من الهندية، ثم قام عبد اللّه بن المقفع بترجمته إلى العربية، لكن نسخته العربية رفيعة المستوى جداً، وقد طالعته مرتين ونصف.

ص: 88


1- وهو كتاب في الأخلاق وتهذيب النفوس، وضعه بيدبا الفيلسوف الهندي لدبشليم ملك الهند، يشتمل على قصص وحكايات ونوادر، وضرب أمثال على ألسنة البهائم والطيور، لا يستغنى عنها الملوك والوزراء، والأمراء والحكام، يتفهمها ذوو العقول ويتأدبون بها. ترجمه ابن المقفع.
2- وتعني: ذو الروح الخالدة، من ملوك الأسرة الساسانية، ملك فارس للفترة 531-579م.

لقد كان عبد اللّه بن المقفع رجلاً عالماً مشهوراً في الأوساط، وقد جاء يوماً إلى منزل والي العباسيين في البصرة وكان اسمه سفيان بن معاوية - فالمنصور العباسي كان حاكماً في بغداد، وله والٍ في البصرة - فدخل عليه وترك فرسه عند غلامه في الباب، وكان منزل الوالي واسعاً جداً، والناس يدخلون ويخرجون. فبقي الغلام منتظراً ساعة وساعتين وثلاث ساعات، فلم يخرج عبد اللّه، فحل وقت الظهر وكذلك العصر، ولم يخرج عبد اللّه بن المقفع!

فاستغرب الغلام وأحس بالشر، فعاد إلى أصدقائه وأخبرهم بأمره. فجاءوا إلى منزل الوالي، وقالوا له: أين عبد اللّه بن المقفع؟

قال: لم يأت إليَّ أصلاً.

فقال الغلام: هذا فرسه وقد دخل إلى منزلكم.

فقال: لا علم لي به.

فذهبوا إلى المنصور العباسي في بغداد؛ لأن عبد اللّه كان شخصية مهمة، فلا يمكن أن يبقى حاله مجهولاً هكذا. فما الذي حدث له!

فقال المنصور: لا علم لي بذلك.

فقالوا: أنت الحاكم وهذا واليك، فاسأل ماذا جرى له.

فقال: سوف أسأل عنه.

ومر يوم ويومان وعشرة أيام، ثم أسبوع وأسبوعان، وبعدها شهر وشهران. ثم ذهبوا إليه مرة أخرى، فأنكر الحاكم علمه بالموضوع أصلاً.

فقالوا: لا يمكن أن يكون الحاكم بلا علم عن واليه بالبصرة، وما يجري على العلماء والشخصيات.

والمسافة بين بغداد والبصرة لم تكن إلّا أربعمائة كيلومتر.

فقال الحاكم: لا علم لي بالموضوع.

ص: 89

فقالوا: اسأل عنه.

قال: سأسأل عنه.

مر على القصة يوم ويومان، ثم أسبوع وأسبوعان، وبعدها شهر وشهران، ولا يعلم ما حل بعبد اللّه بن المقفع، هل طار إلى السماء، أم غار في الأرض.

فأيس الناس وقاموا بالتحقيق بأنفسهم.

يقول الشاعر(1):

ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم

نعم لا يمكن للإنسان أن يخفي صفاته دائماً، فإن الناس يوماً ما سيطلعون عليها، وقد قال اللّه قبل هذا الشاعر: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(2)، فإن المؤمنين يرون أعمال الناس.

وهذا ما يرى في المجتمع فإن الناس عادة يعرفون بأن الشخص الفلاني عالم، والشخص الفلاني جاهل، والطبيب الفلاني أفضل، والطبيب الفلاني علمه أقل، وهكذا.عند ما يئس الناس من الحاكم العباسي في تحقيق مصير عبد اللّه بن المقفع، حققوا بأنفسهم عنه، من مقربي الوالي، فتبين أن المنصور العباسي أمر واليه بالبصرة بقتل عبد اللّه بن المقفع شر قتلة(3)، وذلك لأن هذا الشخص كان عالماً، ومن البديهي أن العالم لا يرضى بمنكرات الحكام، فيقول: هذا ليس بصحيح، هذا ظلم لا يجوز، هذا اعتداء وزور، هذا قتل وسفك للدماء، و... .

وكان الوالي يعلم بأن عبد اللّه بن المقفع يأتيه يوم كذا، فأمر بسجر تنور، فلما

ص: 90


1- وهو زهير بن أبي سلمى.
2- سورة التوبة، الآية: 105.
3- انظر سير أعلام النبلاء 6: 209.

جاء ابن المقفع أمر بالقبض عليه، وتقطيع بدنه قطعة قطعة، وإلقائها في التنور حتى أتى على جميع جسده بأمر الحاكم العباسي(1).

نعم هؤلاء الحكام من بني أمية وبني العباس كانوا السبب في تأخر الأمة الإسلامية حيث حكموا بالظلم والاستبداد، وقضوا على العلم والعلماء.

ولكن مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) هي مدرسة العلم والعلماء، ومن هنا نرى الإمام الحسين(عليه السلام) ونحن في يومه المبارك، ذكرى مولده الشريف، قام بتكريم المعلم الذي علم ولده سورة من القرآن أيما تكريم، تعظيماً للعلم والعلماء.

الكتابة والتأليف

اشارة

إننا نملك شيئين مهمين وهما بأيدينا:

الأول: الكتابة والتأليف.

الثاني: الخطابة والبيان.

وهما من أسس العلم ونشر الثقافة والوعي.

فعلينا أن نكتب عن الإمام الحسين(عليه السلام) وننشر فكره(عليه السلام) وعلومه في جميعالعالم. فإن اللّه عزّ وجلّ خلق هؤلاء الأطهار(عليهم السلام) سفناً لنجاة الأمة، ومصابيح لهداية الخلق.

كما قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»(2).

ولكن كم كُتب عن الإمام الحسين(عليه السلام)؟

نعم كتب عن الإمام الحسين(عليه السلام) أكثر من باقي الأئمة والأنبياء (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) ولكنه قليل، فقد كُتب عن إقبال اللاهوري أكثر مما

ص: 91


1- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18: 269.
2- مدينة المعاجز 4: 52.

كتب عن الإمام الحسين(عليه السلام)!

كان إقبال اللاهوري شخصاً عالماً وشاعراً، وأشعاره جميلة، وكان يدعو لاستقلال باكستان. فكتبوا عن شخصيته خمسة آلاف كتاب وكراس، ولكن هل تتمكنون من جمع خمسة آلاف كتاب حول الإمام الحسين(عليه السلام) منذ ألف وثلاثمائة سنة مضت وإلى الآن.

فهذا يعني أننا مقصرون!

فمن يتحمل عبء التقصير هذا؟

نحن لدينا القدرة على الكتابة والتأليف، فليس من الصحيح أن ندع الكتابة والتأليف جانباً، بل علينا أن نكتب وننشر تعاليم أهل البيت(عليه السلام) وعلومهم للعالم، فنكتب حول اللّه عزّ وجلّ، وحول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وحول أمير المؤمنين(عليه السلام) وحول الإمام الحسين(عليه السلام) وحول الإمام الصادق(عليه السلام) وحول سائر الأئمة الطاهرين(عليهم السلام) وحول الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وحول السيدة المعصومة(عليها السلام) وهكذا.

كل شخص منا يلزم عليه أن يكتب كتاباً، ففي قم المقدسة - وكما يقولون -يوجد ثلاثون ألف رجل دين، فإذا كتب كل واحد منهم كتاباً يصبح لدينا ثلاثون ألف كتاب، ومن الواضح تأثير هذه الكتب في رفع المستوى الثقافي.

مكتبات في كل مكان

كما علينا أن نسعى لتأسيس المكتبات العامة والخاصة، ففي كل مكان وفي كل بيت مكتبة وهكذا.

كان أحد التجار في الكويت يدعى الحاج عبد الصمد، وكان يذهب إلى اليابان للتجارة. فسألته يوماً: كيف تقدمت اليابان هذا التقدم الهائل في العلم والصناعة؟

ص: 92

قال: إن الشعب الياباني مثقف وواع، وهذا ما شاهدته بعيني، حيث إنك ترى في القطار الذي تسافر به مكتبة خاصة، وفي الحافلة التي تستقلها مكتبة، وفي الباخرة التي تسافر بها مكتبة، وفي جميع الأماكن العامة والخاصة مكتبة، فلا ترى إنساناً لا يطالع، الكل مشغولون بالمطالعة والقراءة.

قال: والأعجب من هذا أنك إذا ما دخلت بيت الياباني، تجد في غرفة استقباله مكتبة، وفي غرفة نومه مكتبة، وفي غرفة الطعام مكتبة، وفي المدخل مكتبة. وحتى في المطبخ والحمام مكتبة وهكذا، فهذا هو من أسباب تقدمهم وتطورهم.

المكتبة المنزلية

نعم علينا أن نوجد في كل بيت من بيوت الناس مكتبة منزلية، فلا يقال هذا رجل قروي لا يقرأ ولا يكتب. فليكن قروياً لكن أبناءه يعرفون القراءة والكتابة وهم سيقرؤون الكتب.

أ تعلمون ماذا سيحدث لو وجدت في كل منزل مكتبة؟!

فلو كان في كل بيت عشرة أو عشرون أو خمسون كتاباً - على الأقل - فسوفيقرأ ويتعلم ويتثقف كل من هو في البيت أو يرتبط بهم، من الابن والبنت والأب والأم والصهر والضيف و... وهكذا يرتفع مستوى الثقافة.

عند ذلك يمكن أن نكون في مستوى التقدم العالمي.

علماً بأنه لا يكفي ذلك إذ على الأمة الإسلامية أن تكون الأعلى من سائر الأمم، حيث قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(1).

عندما تحررت البلاد الإسلامية في الإتحاد السوفيتي قبل ثلاث سنوات، وحصلت فيها بعض الحرية، أرسل السعوديون لهم سبعة وستين مليون نسخة من

ص: 93


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334.

القرآن الكريم - حسب ما ورد في بعض التقارير - فكانت الطائرات تقلع بالمصاحف الشريفة لهم. وفي ذلك الوقت كان الأذربيجانيون الشيعة يأتون إلينا ويطلبون منا المصاحف فربما هيأنا لهم عشرين أو ثلاثين أو ما أشبه.

فانظروا كيف تقدم هؤلاء، وتأخرنا.

والدنيا دار العمل لمن أراد التقدم في الحياة، والمجال مفتوح لكل من يعمل، قال اللّه تعالى في القرآن المجيد: {وَقُلِ اعْمَلُواْ}(1)، فكل من يعمل يصبح سيداً، إذا عملنا نحن نصبح سادة العالم، وإذا عمل غيرنا فهو السيد لا محالة.

الخطابة والبيان

الأمر الثاني مما يمكننا العمل به في سبيل نشر الثقافة والوعي: هو البيان والخطابة، فعلينا أن نستفيد من هذه القوة لنشر معارف الإمام الحسين(عليه السلام) وعلومه وأهدافه، ومن مصاديق البيان، البث الإذاعي والتلفزيوني، حيث سبق أن مدينة قم المقدسة يلزم أن يبث منها مئات القنوات الإذاعية والتلفزيونية لنشرعلوم الإسلام وعلوم أهل البيت(عليهم السلام) إلى العالم.

وعليه يلزم أن يكون لكل عالم، وكل مرجع تقليد، وكل خطيب مهم، محطة إذاعية أو تلفزيونية، يتكلم ويتحدث فيها عن الإسلام وأهله، والقرآن وحملته، وهذا ما يوجب رفع المستوى الثقافي عند الأمة، وهو من مقومات الوصول إلى ركب التقدم والحضارة.

قدرنا وقدرتنا

نحن متمكنون ببركة ما نملك من مقومات القوة والقدرة المعنوية، بواسطة الإمام الحسين(عليه السلام) والنبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسائر الأئمة المعصومين(عليهم السلام) وببركة

ص: 94


1- سورة التوبة، الآية: 105.

علومهم وباتخاذ الفضيلة والتقوى والأخلاق، أن نتقدم على جميع الأمم بإذن اللّه تعالى.

وهذا ما نتعلمه من يوم الإمام الحسين(عليه السلام) في ذكرى مولده الشريف، حيث مكانة العلم والعلماء عند الإمام(عليه السلام).

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز به الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

ص: 95


1- الكافي 3: 424.

الاقتصاد عصب الحياة

رعاية الإسلام للاقتصاد

إن المجتمع الذي تتكاتف أجزاؤه ويسوده التعاون وروح الأخوة يسوده التكامل الاقتصادي أيضاً.

والتكامل الاقتصادي أهم عيار لقياس مدى تقدم أي مجتمع، فعلى سبيل المثال عندما يجد إنسان أن جاره ينتج محصولاً معيناً فهو ينتقل إلى محصول آخر كي تتكامل المحصولات، وذلك لسدّ جميع احتياجات المجتمع من المحاصيل، ولا تبقى للمجتمع أي حاجة لم تسد، أو لم يتوفر من يقوم بأعبائها، هذه الروح هي التي تقاس على أساسها قوة المجتمع وضعفه.

والمجتمع الإسلامي في صدر الإسلام قام على هذا المبدأ، خاصة في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكذلك كانت تلك الروح موجودة في زمان الأئمة المعصومين(عليهم السلام).

فالإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام) الذي صب المعارف الإسلامية وآدابها وسننها في قالب الأدعية وقدمها إلينا سهلة يسيرة، من هنا أصبحت هذه الأدعية ذات أهمية مرموقة وهي عبارة عن مدرسة متكاملة للمسلمين.

ومن جملة تلك الأدعية التربوية هو دعاء مكارم الأخلاق، حيث ذكر في عشرة مواضع من هذا الدعاء تقريباً موضوع (الاقتصاد)، في مورد واحد ذكر لفظ الاقتصاد بالنص، وفي بقية الموارد لمّح وأشار إلى معنى الاقتصاد.

ص: 96

فمثلاً جاء في هذا الدعاء: «اللّهم صلّ على محمد وآله ومتّعني بالاقتصاد»(1).

قد يتبادر إلى الذهن سؤال وهو: لماذا يذكر الإمام(عليه السلام) لفظ الاقتصاد في الدعاء الذي هو عادة يتضمن معنى العبادة التي يناجي بها الإنسان ربه سبحانه وتعالى في عشرة موارد؟

قد يجاب عن هذا السؤال: بأن الحياة فيها شدة ورخاء وينبغي للإنسان أن يقتصد في كل مجال من مجالات حياته.

والجدير بالذكر هو أن هذا الدعاء وبقية أدعية الصحيفة السجادية هو من أجل تعليم الإنسان وهداية البشر ككل.

إن الذين يقولون إن الحياة مبنية على الاقتصاد(2) يخطأون في الواقع، نعم إن الاقتصاد هو أحد الدعائم الرئيسية للحياة، حيث يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): (من لا معاش له لا معاد له)، وهذا عين الواقع لأن الذي يفقد القدرة الاقتصادية لم يكن بإمكانه تضمين آخرته، ولا فرق بين أن يكون المعاش جماعياً أو فردياً.

وقد جاءت روايات كثيرة تمدح الغنى وتذم الفقر ومنها:

«سلوا اللّه الغنى في الدنيا والعافية، وفي الآخرة المغفرة والجنّة»(3).

وعن مولانا أمير المؤمنين لابنه الحسن(عليهما السلام) حيث قال: «لا تلم إنساناً يطلب قوته، فمن عدم قوته كثر خطاياه، يا بني الفقير حقير لا يسمع كلامه، ولا يعرف مقامه، ولو كان الفقير صادقاً يسمونه كاذباً، ولو كان زاهداً يسمونه جاهلاً، يا بني من ابتلي بالفقر فقد ابتلي بأربع خصال: بالضعف في يقينه، والنقصان في عقله،

ص: 97


1- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- أمثال ماركس وانجلز.
3- الكافي 5: 71، والرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام).

والرقة في دينه، وقلة الحياء في وجهه، فنعوذ باللّه من الفقر»(1).

الاقتصاد في حياة المسلم

أهمية الاقتصاد والمال والعمل

لقد أفتى الفقهاء بأن الذي من يذهب إلى سفر الحج، فبعد عملية الإحرام في الميقات، عليه أن لا يلبس الملابس المخيطة، ولكن قالوا أيضاً إنه بإمكان المحرم في حال الإحرام أن يحمل معه كيس نقوده (أي هميانه) حتى إذا كان هذا الكيس مخيطاً.

وفي الرواية عن أحد الأئمة(عليهم السلام) حيث قال:

إنه سئل سائل: يا ابن رسول اللّه، لماذا يجوز للحاج بعد الإحرام أن يحمل معه هميانه المخيط؟

فأجاب الإمام(عليه السلام): لأن الإنسان بعد ثقته واعتماده على اللّه سبحانه وتعالى يعتمد على ماله في مختلف مجالات الحياة(2).

وإن الإنسان إذا صرف النظر عن (العمل والمعاش) لم يكن بإمكانه أن يعيش في أي مجتمع برفاه وطمأنينة.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقر أشدُّ من القتل»(3).

وفي رواية قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقر سواد الوجه في الدارين»(4).

وكان أحد أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعاني من فقر شديد، ذات يوم حدثته

ص: 98


1- جامع الأخبار: 110.
2- انظر من لا يحضره الفقيه 2: 346، عن يونس بن يعقوب قال قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): عن الرجل المحرم يشد الهِمْيان في وسطه فقال: «نعم، وما خيره بعد نفقته».
3- جامع الأخبار: 109.
4- عوالي اللئالي 1: 40.

زوجته قائلة له: اذهب إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأشكو إليه فقرنا، عسى أن يعيننا عليه، فجاء الصحابي إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واشتكى أمره واستعانه فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) له:

«من سألنا أعطيناه ومن أستغنى أغناه اللّه».

فعاد الرجل إلى داره ولكن الفقر لم يفارقه وأخذ يشتد عليه، فجاء ثانية إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وطلب مساعدته مرة ثانية، فقال الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل ما قال له في المرة الأولى.

وجاء مرة ثالثة وكان الرد بمثل الأول، فصمم الرجل على العمل الجدّي وذهب واستأجر فأساً وأخذ يعمل حطاباً، حتى تمكن من شراء فأس وأعاد الفأس الذي استأجره إلى صاحبه، وهكذا أغناه اللّه سبحانه حتى اشترى عبداً، وتحسن وضعه المعاشي بسبب تلك الهمّة العالية والمثابرة التي أبداها في هذا المجال.

وبعد ذلك أتى إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقصّ عليه ما جرى، فقال الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ألم أقل لك: «من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه»(1).

إذن الدين الإسلامي يؤكد على (العمل والمعاش)، وقد جاء في الروايات عن الإمام الكاظم(عليه السلام) أنه قال: «من طلب هذا الرزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه»(2).

وبعض أهل الاقتصاد يقولون: الكرامة الاقتصادية موجبة للكرامة الاجتماعية، وهذا من أهم قوانين الاقتصاد الإسلامي.

نعم إن الاقتصاد يلعب دوراً هاماً في حياة البشر.

واللّه سبحانه وتعالى يخاطب الذين لا يملكون مالاً ويريدون النكاح:

ص: 99


1- انظر الكافي 2: 139.
2- الكافي 5: 93.

{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(1).

وكذلك قال: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}(2).

ومن هنا يشترط بعض الفقهاء الكفاءة في المؤونة للذي يريد النكاح والتزويج، لأهمية المال والاقتصاد في إدارة شؤون الأسرة(3).

جميع هذه الآيات والروايات تدل على أهمية الاقتصاد، فلولا الاقتصاد في العيش لاختلّ نظام الحياة، وكثير من الأدعية تشير إلى هذا الجانب مثل: (فنعوذ باللّه من الفقر)(4).

كما أود الإشارة إلى نقطة رئيسية، التي استعملها المستعمر ولا يزال يستخدمها كورقة رابحة للضغط على حرية بعض الشعوب الإسلامية ونهب الثروات الطبيعية وتسيير البلاد حسب ما يروق لهم.

حيث إن الإسلام العظيم لا يقتصر على العبادة في المسجد، والصيام لدى حلول شهر رمضان، ومزاولة المناسك أيام الحج، ودفع الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة، وتحسين الأخلاق وتهذيب السلوك وروحانية القلب، كما يحلو للمستعمرين في الشرق والغرب تفسير الإسلام بذلك، والتأكيد عليه حتى يسهل عليه تفريغ المجتمع الإسلامي من محتوياته ومعطياته وتغيير مساره الصحيح الباعث على استقلال المجتمع وكرامة الإنسان ورضاء العيش وسعادة كل واحدمن أفراد المجتمع المسلم، لنهب تلك الثروات الطبيعية ووضع الشعوب

ص: 100


1- سورة النور، الآية: 33.
2- سورة النور، الآية: 32.
3- انظر مختلف الشيعة 7: 299.
4- الكافي 5: 167.

الإسلامية في أدنى مستوى من التخلف والتبعية والشعور بالنقص تجاه الدول الغربية المتطورة.

بل الإسلام وكما جاء به الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو نظام شامل ومتكامل يعالج جميع شؤون الإنسان، ويتدخل في كافة المجالات التي هي ضرورية للحياة.

وفي مقدمة المسائل الحيوية الباعثة على الرفاه والرخاء: القضايا الاقتصادية التي تعتبر بمثابة العمود الفقري للمجتمع الإنساني المعاصر.

إن الاستعمار المتمثل بالشرق والغرب مثلهم كمثل السارق الذي يتستر في الليل ويتسلل عبر جدار البيت، حيث يجدون في الاقتصاد المتخلف خير باب للدخول والنفوذ إلى البلاد الإسلامية والتسلط عليهم.

وعالم اليوم مقسم إلى نظامين: النظام الشيوعي والنظام الرأسمالي.

فالنظام الشيوعي: كما تعلمون يعمل الناس في ظله وهم في الوقت نفسه يعانون من الفقر والجوع، ولكن القلة القليلة الحاكمة هي التي يحق لها أن تعيش برغد ورفاهية.

والنظام الرأسمالي: يوسع هذه الدائرة قليلاً، ويشارك معه في الحياة المرفهة بعض أصحاب المال والشهرة.

ولكن كلا النظامين يعملان على تحطيم الاقتصاد العام، في قضايا مفصلة مبحوثة في كتب الاقتصاد.

الاقتصاد في مناهج الحوزات العلمية

اشارة

ينبغي على طلبة الحوزات العلمية أن يدرسوا إلى جانب دروسهم الفقهية والأصولية: درس الاقتصاد، ويهتموا به كثيراً.

ويبدأ هنا الاهتمام بتأليف الكتب الاقتصادية والبحث في مختلف جوانبه من

ص: 101

المنظار الإسلامي، لأن الاقتصاد هو عصب الحياة في المجتمع الإنساني.

ومن إحدى قوانينه هو ما يتعلق بالإسراف، حيث قال اللّه تعالى:

{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(1).

في ذم الإسراف

وينقل أن الإمام الرضا(عليه السلام) رأى رجلاً أكل نصف تفاحة ورمى بالنصف الآخر، فقال له الإمام(عليه السلام): لماذا تسرف؟ وذكر الآية: {يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(2)(3).

وهذا الخطاب من اللّه سبحانه وتعالى خطاب للجميع، وهو نهي لهم عن الإسراف، والمراد منه الخروج عن الحلال إلى الحرام، فالإسراف والإقتار مذمومان، وقوله {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} معناه يبغض المسرفين، لأنه ذم لهم، ولو كان بمعنى لا يحبهم ولا يبغضهم لم يكن ذماً لهم ولا مدحاً.

دور الفقهاء في الاهتمام بالاقتصاد

في الأزمنة الماضية كان العلماء يصبّون الفقه في قالب يناسب ويتلاءم مع ظروف زمانهم، في سبيل تعريف الناس بالإسلام وأحكامه الإلهية، من أمثال شيخ الطائفة(رحمه اللّه)(4) الذي كان يعيش قبل ألف سنة، والسيد المرتضى والسيد الرضي والمحقق والعلاّمة والشهيدين والمجلسي والشيخ البهائي والفيض الكاشاني وصاحب الجواهر والشيخ المرتضى الأنصاري (قدس اللّه أسرارهم)،هؤلاء كانوا في قمة العلم والفقه وهم أهم علماء عصرهم، وقد قدموا الإسلام

ص: 102


1- سورة الأنعام، الآية: 141.
2- سورة الأعراف، الآية: 31.
3- انظر الكافي 6: 297.
4- أي الشيخ الطوسي(رحمه اللّه).

بشكل جيد في ذلك الزمان.

لكن اليوم وفي عصرنا الحاضر يأتي الدور إلينا لكي نعرف الإسلام والفقه الإسلامي والاقتصاد الإسلامي بلسان العصر الذي نعيشهُ نحن، وبما يلائم ظروفنا الحالية، لكي يتعرف الناس على الأحكام الإسلامية وقوانينها بشكل أفضل.

لا إشكال ولا ريب أن الجوهر والأصل هو الكتاب والسنّة، ولكن الصورة تتغير حسب تغير الزمان.

ومن الجدير بالذكر أن الذي يتعلم عليه أن ينزل علمه إلى ميدان العمل، لأن القول بلا عمل كالهواء في شبك، والطبيب الذي يتخرج من الجامعة ينبغي عليه أن يفتح عيادته ليداوي المرضى.

فتعلم الاقتصاد بحاجة إلى تطبيق عملي، وإن الشخص الذي يتعلم الاقتصاد الإسلامي عليه أن يطبق نظرياته وقوانينه في المجتمعات الإسلامية أيضاً، وإلاّ أصبح تعلمه لغواً.

لننظر قليلاً إلى إسرائيل الغاصبة، إنها زهاء خمسين عاماً وهي تتوسع أكثر فأكثر، وسبب ذلك واضح كل الوضوح، لأنها تنزل شعاراتها إلى ميدان العمل في أغلب الأحيان.

ولكن الحكّام في البلاد الإسلامية يكتفون فقط بالوقوف خلف المنصّات واللاقطات ويطلقون الشعارات البراقة دون أن يخطوا خطوة واحدة في الميدان العملي.

نحن لا ننكر فضل الشعار، ولكن إنما يصبح الشعار مهماً وممدوحاً في الوقت الذي يتبعه العمل.

ومن هنا يجب الاهتمام بطرح منهجية كاملة للاقتصاد الإسلامي من مصادره

ص: 103

الأصلية لتعريف المسلمين والعالم بمناهج الإسلام وقوانينه الحيوية الصالحة لقيادة البشرية إلى شاطئ الأمن والحرية والرفاه، ومن اللّه نستمد العون والسداد.

ربنا فقّهنا في كتابك، واكشف عن قلوبنا ظلمات الذنوب لكي نتفهم آياتك، وأزح عن بصائرنا غشاوة الدنيا وبريقها الكاذب لكي تملأ قلوبنا بهداك، واجعلنا من حملة قرآنك وسنة نبيك، والسائرين على طريق طاعتك، ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.

من هدي القرآن الكريم

السعي لكسب المال

قال اللّه تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوٰةُ فَانتَشِرُواْ فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).

وقال سبحانه: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَٰلِ وَالْأَوْلَٰدِ}(3).

الاقتصاد وذم الإسراف

قال جلّ وعلا: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَٰلَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا}(4).

وقال عزّ من اسمه: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(5).

ص: 104


1- سورة الجمعة، الآية: 10.
2- سورة النساء، الآية: 32.
3- سورة الحديد، الآية: 20.
4- سورة النساء، الآية: 5.
5- سورة الأعراف، الآية: 31.

وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا}(1).

وقال جلّ ذكره: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ}(2).

الاقتصاد وموارد الإنفاق

قال عزّ وجل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(3).

وقال سبحانه: {ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}(4).

وقال تعالى: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(6).

وقال عزّ من اسمه: {كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ وَلَا تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

الاقتصاد في الأسعار

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علامة رضا اللّه تعالى في خلقه، عدل سلطانهم ورخص أسعارهم، وعلامة غضب اللّه تبارك وتعالى على خلقه، جور سلطانهم وغلاء أسعارهم» (8).

ص: 105


1- سورة الإسراء، الآية: 16.
2- سورة الواقعة، الآية: 45.
3- سورة المعارج، الآية: 24-25.
4- سورة الحديد، الآية: 7.
5- سورة الليل، الآية: 18.
6- سورة البقرة، الآية: 195.
7- سورة طه، الآية: 81.
8- الكافي 5: 162.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «في قول اللّه: {إِنِّي أَرَىٰكُم بِخَيْرٖ}(1) قال: كان سعرهم رخيصاً»(2).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «غلاء السعر يسيء الخلق ويذهب الأمانة ويضجر المرء المسلم» (3).

وعنه(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): السماحة من الرَّباح، قال ذلك لرجل يوصيه ومعه سلعة يبيعها». (4).

الاقتصاد في الإنفاق

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الاقتصاد نصف المؤونة»(5).

وقال(عليه السلام): «الاقتصاد ينمي القليل، الإسراف يفني الجزيل» (6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه الإمام الحسن(عليه السلام) عند وفاته: «اقتصد يا بني في معيشتك، واقتصد في عبادتك» (7).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من اقتصد أغناه اللّه»(8).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر»(9).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من اقتصد في الغنى والفقر فقد استعد لنوائب

ص: 106


1- سورة هود، الآية: 84.
2- تفسير العياشي 2: 159.
3- الكافي 5: 164.
4- الكافي 5: 152.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 38.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 30.
7- الأمالي للشيخ المفيد: 222.
8- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 167.
9- الكافي 4: 53.

الدهر» (1).

الغاية من الاقتصاد

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما من نفقة أحبُّ إلى اللّه من نفقة قصد»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الاقتصاد وحسن السمت والهدي الصّالح جزء من بضع وعشرين جزءاً من النبوة»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المؤمن سيرته القصد، وسنّته الرشد»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن القصد أمر يحبه اللّه عزّ وجل، وإنّ السرف أمر يبغضه اللّه»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «غاية الاقتصاد القناعة»(6).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «للاقتصاد مقداراً، فإن زاد عليه فهو بخل»(7).

العمل والمعاش

عن عليّ بن شعيب قال: دخلت على أبي الحسن الرضا(عليه السلام) فقال لي: «ياعليّ، من أحسن الناس معاشاً؟»، قلت: أنت يا سيّدي أعلم به منّي، فقال: «يا علي، من حسن معاش غيره في معاشه. يا علي من أسوأ الناس معاشاً؟»، قلت:

ص: 107


1- عيون الحكم والمواعظ: 426.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 279.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 167.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 80.
5- الكافي 4: 52.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 469.
7- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 144.

أنت أعلم، قال: «من لم يعش غيره في معاشه»(1).

وفي الدعاء عن الإمام الباقر(عليه السلام): «ولا تشغل قلبي بدنياي وعاجل معاشي عن آجل ثواب آخرتي»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أطيب العيش القناعة»(3).

وقال(عليه السلام): «قوام العيش حسن التقدير، وملاكه حسن التدبير»(4).

ص: 108


1- تحف العقول: 448.
2- الكافي 2: 588.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 189.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 503.

الحسن والحسين(عليهما السلام) إمامان قاما أو قعدا

المقدمة

«الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1).

الحديث المتقدم مروي عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولا نريد البحث هنا عن جوانب هذا الحديث المتعددة، وإنما الإشارة إلى جانب واحد بشيء من الإيجاز.

وقبل أن ندخل في صلب الموضوع، لابد أن نقدم مقدمة وهي:

إن الإمام الحسن والإمام الحسين(عليهما السلام)، كان دورهما تخطيطاً من اللّه سبحانه وتعالى، ومن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تبعاً للّه، لإنقاذ الأجيال الصاعدة إلى يوم القيامة، لا من جهة أنهما إمامان وخليفتان، فإن هذا شيء محرز واضح، وإنما من جهة أنهما كانا عبرتين ودرسين ومثالين لكل الأشخاص الذين يريدون إنقاذ البلاد والعباد من جور الطغاة، في أي زمان كانوا وفي أي مكان.

فقد ورد في الحديث: أن اللّه سبحانه وتعالى بواسطة جبرائيل أرسل إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) اثنى عشر ظرفاً، كل ظرف مختوم بختم من اللّه تعالى، لكي توزّع تلك الظروف على الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) وفي هذه الظروف مكتوب كل ما يجب على الإمام أن يقوم به من دور ويؤدي من مهمة، فإذا وصلت النوبة لكل إمام من الأئمة(عليهم السلام) فض ظرفه ونظر ما فيه وعمل بحسب ما يقرره محتوى هذا

ص: 109


1- علل الشرائع 1: 211.

الظرف(1).

هذا حديث صغير مشهور، لكنه عميق في المعنى، ويحتاج - على أقل تقدير - إلى أربعة عشر مجلساً مفصلاً كل مجلس يستوعب جوانب المعصوم(عليه السلام) وأبعاد الظرف الذي عاشه، وأنه كيف اقتضى هذا الظرف هذا الجانب، وكيف قام الإمام بهذا الجانب في هذا الظرف؟

ومن جملتهم: الإمامان الحسن والحسين(عليهما السلام)، إنّا نريد إيجازاً عن هذا المبحث أن نبيّن هذا التخطيط الإلهي كيف كان دقيقاً، بحيث لا ينقص شعرة ولا يزيد شعرة حتى بحسب أفهامنا، فضلاً عن كونهم معصومين(عليهم السلام)، وأننا نعتقد بهم اعتقاداً بالإمامة والخلافة عن اللّه عزّ وجلّ، لأن ذلك شيء واضح.

والذي نريد أن نتوصل إليه فهم بعض الأبعاد عن حال هذين الإمامين(عليهما السلام) بحسب هذا الحديث الشريف: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا».

ذلك لأنهما(عليهما السلام) ليسا إمامين لزمانهما فحسب، وإنما إمامان للأجيال كلها إلى يوم القيامة.

وهنا ثلاثة مواضيع، لابد أن نتكلم عنها:

الموضوع الأول: أن المجتمع كيف يفرز الطغاة؟

الموضوع الثاني: نفسية الطغاة.

الموضوع الثالث: كيف يجب أن يقابل الطغاة؟

ثم بيان أن الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) قاما بهذا الدور بأفضل ما يمكن، وكان كل منهما يكمل دور الآخر، حتى أن الإمام الحسن(عليه السلام) إذا لم يكن، كانالدور ناقصاً، وكذلك الإمام الحسين(عليه السلام) إذا لم يكن، كان الدور ناقصاً أم لا؟

ص: 110


1- انظر الكافي 1: 279 و 280.

المجتمع يفرز الطغاة

المجتمعات التي ضعف فيها المصلحون وشرس فيها المفسدون تفرز الطغاة، فإن في المجتمع الذي خمل فيه المصلح، ونشط فيه المفسد، من الطبيعي أن يأتي الطاغي ويتحكم به، وحيث المفسدون كثيرون فمن الطبيعي أن يستولي هؤلاء على البلاد ويتحكمون على رقاب العباد، ولذا ورد في الحديث عن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي اللّه أمركم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم»(1).

وهذا شيء عقلي ومنطقي، لأن المصلح إذا لم يصلح فذلك يعني أن المجتمع صار مجتمعاً فاسداً، بل بؤرة للفساد، وعندها من يأتي على الحكم؟ حتماً أحد الفاسدين، فإنه قد ورد: «كيف ما تكونوا يولى عليكم»(2).

فإذا جاء أحد الفاسدين وتحكم وحكم المجتمع، وأنت دعوت اللّه، هل تتغير تلك الموازين بهذا الدعاء المجرد؟

كلا، ففي هذا الحديث الشريف، وهو «لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي اللّه أمركم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم» الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيّن قانونين كونيين، قانون مجيء الطغاة، وقانون أن الدعاء لا يرفع الطغاة، وكلاهما قانونان من سنن الحياة.

وهذا لا يعني أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كشف إلينا قاعدة شرعية، أو أن هذا موضوع غيبي، أو إخبار عن المغيبات، بل هو قانون تكويني، يعرفه كل إنسان حكيموعاقل - والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيد الحكماء وسيد العقلاء - .

ص: 111


1- الكافي 7: 52.
2- انظر نهج الفصاحة: 616.

فالقاعدة الاجتماعية تقول: إن المجتمع الذي فيه المصلح قد خمل، والمفسد قد نشط، تلقائياً يأتي الطاغي إلى الحكم ويفرض تحكمه وسيطرته واستبداده على رؤوس الناس، وإذا جاء الطاغي إلى الحكم فإن عملية تغيير ذلك الوضع والواقع الفاسد لا تتم بالدعاء وحده، وإنما تتم بواسطة الدعاء والعمل معاً، لأن لكل واحد منهما مقامه وشأنه.

وللمثال على ما ذكر: إن المجتمع الروماني كان مجتمعاً فاسداً منحطاً، والمجتمع الإسلامي بعد ما غصبوا الخلافة فيه أصبح مجتمعاً هشاً بعيداً عن التعاليم الحقة الإسلامية والقيادة الربانية، فكان يزيد بن معاوية وليد هذا المجتمع.

إن يزيد وُلد في بلاد الشام والروم، لا في مكة ولا في المدينة، ولا في الكوفة ولا في البصرة، وكان الرومان قبل الإسلام أناساً فاسدين متخلفين إلى أبعد الحدود، ولذا لما جاء الإسلام أزاحهم كهشيم محتضر، فإنه إذا كان المجتمع الروماني مجتمعاً متماسكاً قوياً متحضراً، كانوا يقابلون المسلمين بأشد أنواع المقابلة.

لا شكّ أن اللّه سبحانه وتعالى نصر الإسلام، لكن نصرة اللّه للإسلام كانت بأسباب غيبة ومادية، فالمجتمع الروماني قبل الإسلام كان مجتمعاً ضعيفاً غير مستقيم، ولذا لما اصطدم بالإسلام على قلة عدة المسلمين وعددهم، انهزم الكفر وانتصر الإسلام.

الشاعر يقول في شعر مشهور:

لم أدر أين رجال المسلمين مضوا *** وكيف صار يزيد بينهم ملكاً(1)

ص: 112


1- من قصيدة للسيد جعفر الحلي(رحمه اللّه).

والجواب عن سؤال الشاعر واضح.

فالمجتمع الروماني الفاسد من ناحية المفسدين، والمجتمع الإسلامي الهش المتفكك من ناحية المصلحين، لهذا الشيء ولد يزيد في المجتمع غير المستقيم.

وكان سبب هذا التفكك والهشاشة في المجتمع الإسلامي آنذاك هو أولاً مجتمع ناشئ، ومعلوم أن المجتمع الناشئ يحن بسرعة ويرجع إلى أنسابه وأحسابه وقبائله وأفكاره مع فقد القيادة الإلهية الربانية، ودور الإصلاح والتغيير في كثير من أفراده لم يتجاوز الصبغة والظاهر، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}(1).

والنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صبغ ذلك المجتمع الوليد بالصبغة الإسلامية الرسالية الصحيحة كي تتعمق مستقبلاً وتصبح قيمة حقيقية تكمن في أعماق القلوب السليمة. ولكن غصبوا الخلافة من بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجاء الخليفة الأوّل والثاني ومضيا، وجاء الخليفة الثالث وتفكك المجتمع الإسلامي تفككاً ذريعاً بسبب تصرفه وتصرف حواشيه.

وفي هذا المجتمع المتفكك، لم يتمكن المصلحون من تقويم المعوج، فقلّ المصلحون وكثر المفسدون، فتولد من ذلك حكم معاوية ويزيد.

هذا منشأ ولادة حكم هذين الرجلين في مجتمع ليس معروفاً بالصلاح ولا بالإسلام ولا بالسوابق الحسنة.

فقد جاء المسلمون وفتحوا البلاد، وتم تسليمها إلى معاوية، ورجع المسلمونإلى بلادهم، فكم مسلم بقي في المجتمع الروماني وفي بلاد الشام؟ أعداد قليلة من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ص: 113


1- سورة البقرة، الآية: 138.

ولذا خاف معاوية من أبي ذر وحده، لأن المجتمع ما كان يعرف الموازين الإسلامية والقيم الإسلامية، فكان يخشى أن يقلب عليه الأوضاع.

فهو كما لو ذهبت إلى نيويورك، وبدلت نيويورك إلى صبغة إسلامية، ثم خرجت من نيويورك، فهل سيكون مجتمع نيويورك مجتمعاً مسلماً عميق الإيمان والإسلام؟

كلا، وإنما الصبغة والصورة فقط هي التي تغيرت، لا أكثر ولا أقل.

وكان الناس آنذاك في بلاد الشام لم يرو سيرة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا يعرفون تعاليم الإسلام الحقيقية، ولذا فإن أي إنسان حكمهم بالاستبداد وقال هذا هو طريق الفاتح، كانوا يخضعون له ويسلمون إليه، فمجتمع سوريا أو مجتمع الرومان، ولّد حكم معاوية ويزيد الطاغيين.

وهكذا يتولد الطغاة في المجتمعات، حيث إن العامل الأساس في تربية نماذج الطاغوت هو الجهل والحالة الاجتماعية الفاسدة القائمة في المجتمع، وأما المجتمع الذي يكثر فيه المصلحون ويتنعم بالعلم والمعرفة، فإنه يكون مرتعاً لتنامي الخير والإصلاح، بل ربما يستحيل أن يولد فيه الطغاة.

ومن هنا نستطيع أن نقول: إن أي طاغ رأيت نشأ في منطقة، سواء في العراق، أو في مصر، أو في أي بلد كان، اعرف أن له مقومات، والمقوم الأوّل هو الجهل والحالة الاجتماعية المنحرفة والفاسدة في ذلك المجتمع.

وطبعاً لا نقصد بالمصلح: مجرد من يخطب ويأمر المعروف وينهى عن المنكر في مجتمع متدين صغير أو أكبر، وإنما المصلح يعني الذي يغير ويبدل،الذي يقابل الطغاة ويغير المجتمع نحو الخير والفضيلة.

أما في المجتمع الذي قلّ فيه المصلحون وكثر فيه المفسدون، فإن ذلك يتولد فيه الطغاة، جمال عبد الناصر أين ولد، ولد في بيئة كثرت فيها الفاسقات

ص: 114

والفاجرات ومطربات الباشوات(1)، حيث كانوا يأتون إليها ويقبلون رجليها ويشربون الخمرة التي تصب في حذائها تبركاً بها، هذا المجتمع يولد جمال عبد الناصر وغيره من الدكتاتوريين.

وهذا وفق ما تقدم أمر طبيعي، ومن سنن الحياة، فلا يقال: كيف يقع كل ذلك؟ وكيف ولد هؤلاء الطغاة في المجتمعات الإسلامية، لأن ذلك قانون جار في كل مجتمع فاسد ومنحرف، وبعيد عن التعاليم الإسلامية الحقة.

أحد أشباه العلماء في مصر يبرق إلى ملك فاسد يقول: أبرقت إلى أطهر مكان، وأي مكان، مكان هذا الملك، وهو المشهور بالفسق والفجور و... فيصبح مكانه أشرف بقاع الأرض وأطهرها،

راجعوا التاريخ وانظروا أن المجتمع الذي يولّد الطاغي، يكون المصلح فيه قليلاً والمفسد فيه كثيراً، ومن الطبيعي عندما يكون المفسد هو الأقوى فإنه يصل إلى قمة الحكم فيعمل ما يشاء، وقد ورد في الحديث الشريف: «كيف ما تكونوا يولّى عليكم»(2).

هذا موجز عن كيفية ولادة الطغاة في المجتمعات غير المستقيمة.

الطبيعة النفسية للطاغية

ونأتي إلى الموضوع الثاني، وهو أن نفسية الطغاة على قسمين عادةً، فالطاغيإما أن يكون طاغياً ماكراً، وإما أن يكون طاغياً بليداً.

وعلامة هذين الطاغيين: هي أن الطاغي الماكر مخادع في الحرب ودنيء في السلم، بينما الطاغي البليد شرس في الحرب ومستهتر في السلم، ولنمثل

ص: 115


1- الباشوات - جمع الباشا - : وهو المدير أو الرئيس.
2- انظر نهج الفصاحة: 616.

بمعاوية ويزيد:

القسم الأول: الماكر الدنيء، فمعاوية من النوع الطاغي الماكر، لأن طبيعة معاوية طبيعة الولد غير الحلال(1)، وفي بعض بحوث العلم الحديث والعلماء وعلم النفس أن ولد الزنا يخرج ماكراً في طبيعته، ولا يسمى ذكياً، لماذا؟

لأن الزنا يقع مع اضطراب النفس في المرتكبَين عادة، فالتي تزني مضطربة وتسعى أن لا يعرفها أحد، ولا يراها أحد، ولا يسمع حسيسها أحد، وهذه الطبيعة تنطبع في الولد، حتى علم النفس يقول: إنك إذا نظرت إلى صورة في دارك، الولد يخرج بهذه الصورة، عند المجامعة والوقاع، ولذا في الإسلام من المكروه أن يقارب الرجل زوجته وهو يفكر بامرأة أخرى، وهناك أحاديث مذكورة في كتاب النكاح تنهى عن هذا الشي(2).

فطبيعة معاوية هذه طبيعة ماكرة مخادعة، فهو منسوب إلى أبي سفيان وهند، وكلاهما زانيان، فكيف يخرج ولدهما؟ فهو بطبيعته ماكر.

وطبيعة المكر كما قلنا خداع في الحرب، ودناءة في السلم، وقد ظهر هذا المخادع على حقيقته في حروبه، في حربه ضد أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام)، حيثمارس دور المخادعة، وكذلك في حربه ضد الإمام الحسن(عليه السلام) حيث قام بنفس العمل الخداعي، ففي كل حروب معاوية كانت للخدعة دور كبير ومهم.

وهذه طبيعة المكر، وكذلك كان في سلمه دنيئاً، فالإمام الحسن(عليه السلام) صالحه وهادنه حقناً لدماء المسلمين ضمن شروط معينة، وبعده صعد معاوية المنبر

ص: 116


1- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 336، حيث ينقل عن الزمخشري في ربيع الأبرار أن معاوية كان يعزى إلى أربعة أفراد.
2- انظر من لا يحضره الفقيه 3: 552.

قائلاً: وضعت كل شروط الإمام الحسن(عليه السلام) في الصلح تحت قدمي(1).

وهذه دناءة ذاتية متأصلة في النفس، حيث أعلن عن ذلك، وإلّا فبإمكان الرجل الماكر إذا أراد أن لا يفي بشروطه أن لا يعمل بها من دون أن يعلن عنه، فبأي داع يقول ذلك فوق المنبر وعلى رؤوس الأشهاد.

أو يقول: و القائل لمّا دخل الكوفة: إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون(2).

وليست هذه كلمة صدرت خطأً لتسجل على شخص، لكن هذه طبيعة المكر وطبيعة الدناءة، فالماكر مخادع في الحرب دنيء في السلم.

ثم إنه كان يعلم بأن الإمام الحسن(عليه السلام) يبقى وفياً بالشروط، ولا يحاربه بعد ذلك، فهو أعرف بشخصية الإمام الحسن(عليه السلام) وخلقه ووفائه، ولكنه مع ذلك سمّ الإمام الحسن(عليه السلام)، لكن طبيعة الدناءة لا يمكن أن تصبر على ذلك.

هذا صنف من الطغاة، وهؤلاء ماكرون دنيئون.

القسم الثاني من الطغاة: الطاغي البليد

وذلك كيزيد بن معاوية، فهو طاغ بليد، والبليد شرس في الحرب، والكليعلم قصة الإمام الحسين(عليه السلام) يوم عاشوراء وشراسة يزيد، وهكذا قصة مكة المكرمة وشراسة يزيد، وغير ذلك من المواقف التي اتخذها يزيد، فهذا دليل على أنه شرس في الحرب، لأن الطغاة لا يستجيبون للموازين والقوانين والأفكار والتعقل بل يطغون على جميع ذلك، ومن هنا يطلق طغيان النار مثلاً، يعني أنها

ص: 117


1- انظر الإرشاد 2: 14.
2- انظر مقاتل الطالبيين: 45؛ البداية والنهاية 8: 140.

لا تعرف الموازين والقوانين والاحترام والزيادة والنقيصة.

هذا الطاغي وهو يزيد، أو الطاغية، والتاء للمبالغة مثل تاء (علامة)، لأنه كما يقول السيوطي: التاء على أربعة عشر قسماً في اللغة العربية، منها تاء المبالغة، مثل تاء الطاغية(1).

إنه طاغ بليد، من طبيعته الشراسة في الحرب، كما أن من طبيعته الاستهتار بالدين والقيم والأخلاق والآداب، ولذا كان يقوم بمصاحبة القرد، وممارسة العهر، وشرب الخمر، وارتكاب الزنا والفواحش، والاستهتار بحقوق الناس، وعدم الالتفات إليهم وعدم تقديرهم(2).

حتى أن أحد علماء السنة (في قصة طويلة)، قال: كنا نخاف أن تمطر السماء بالحجارة، ذلك لأن يزيد كان يزني بالمحارم، أمثال أخته وعمته وما أشبه(3).

هذان نموذجان من الطغاة، وعلى طول الخط يكون الطاغي إما هكذا وإما هكذا عادة، فهو إما طاغ ماكر مخادع دنيء، وإما طاغ بليد شرس مستهتر.

وقد قام الإمام الحسن والإمام الحسين(عليهما السلام) بأمر من اللّه بأحسن القيام واتخاذ المواقف الحكيمة ضد هذين الطاغيين، وهما درس للبشرية في كيفية مقابلةالطغاة بقسميها.

فالإمام الحسن(عليه السلام) قيظهُ اللّه سبحانه وتعالى لمقابلة الطاغي من القسم الأوّل، بينما الإمام الحسين(عليه السلام) قيظهُ اللّه سبحانه وتعالى لمقابلة الطاغي من القسم الثاني.

فالمصلحون في العالم يلزم أن يقتدوا إما بالإمام الحسن(عليه السلام) إذا كان أمامهم

ص: 118


1- انظر البهجة المرضية: 474.
2- انظر البداية والنهاية 8: 258.
3- انظر الطبقات الكبرى 5: 66.

مثل معاوية، وإما أن يقتدوا بالإمام الحسين(عليه السلام) إذا كان أمامهم مثل يزيد.

والحديث الشريف يقول: «الحسن والحسين إمامان، إن قاما وإن قعدا».

فيبيّن الدور البارز للإمام الحسن(عليه السلام) وأنه كيف يجب أن يحارب وكيف يجب أن يسالم، حتى أن الإمام(عليه السلام) إذا لم يكن يسالم معاوية، لكان ذلك نقصاً في دوره، لأن معاوية كان كالعملة المزيفة التي لها وجهان:

وجه حرب ووجه سلم، وعلى الإمام الحسن(عليه السلام) أن يظهر الوجهين ويفضحه، فإذا كان الإمام يحارب فقط لكان يظهر وجه معاوية الحربي والمخادع فحسب، أما وجهه السلمي فما كان يظهر ولا ينجلي.

وكذلك العكس أيضاً حيث أن الإمام الحسن(عليه السلام) إذا لم يحارب لكان نقص في دوره، لأنه كان يظهر وجه سلم معاوية فقط، أي وجه دنائته دون أن يكشف وجهه الحربي.

من هنا كان الإمام الحسن(عليه السلام) دقيقاً في تخطيطه الذي هو تخطيط من اللّه سبحانه وتعالى، حسب المنطق والعقل - بقطع النظر عن العصمة، واعتقادنا نحن به كإمام مفترض الطاعة والولاية - لذا فإن الإمام(عليه السلام) حارب فترة من الزمن لإظهار وجه معاوية الحربي ثم هادنه، يعني أظهر وجه الخداع وأظهر وجه الدناءة.

ولو كان قد حارب الإمام(عليه السلام) حتى يُقتل مثلاً، لما كان يظهر وجه دناءة معاوية، حيث كان يقوم بسباب علي(عليه السلام) على المنابر والإمام الحسن(عليه السلام) جالس تحته، في الوقت الذي كان من شروط الصلح أن لا يسبّ علياً(عليه السلام)؟(1).

وما كان ينكشف وجه معاوية في تجاوزه الشروط الأخر التي شرطها الإمام

ص: 119


1- انظر الإرشاد 2: 14.

في الصلح، من عدم التعرض للإمام الحسن وأقربائه وشيعة علي(عليه السلام)؟

وكذلك ما كان يظهر قول معاوية على المنبر: (إني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها)(1).

هذه كلها لم تكن تظهر لو لم يسالم الإمام الحسن(عليه السلام) مع معاوية ويتصالح معه، فصلحه معه بين حقائق الأمور ووقائعها، ووضعها أمام أعين الناس، ليعرفوا من هو الإمام(عليه السلام) ومن هو معاوية، ليمزوا من هو خليفة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حقاً؟

وإن لم يكن هناك مصلح كالإمام الحسن(عليه السلام)، لما كان يظهر وجها معاوية وجه سلمه ووجه حربه، لذا فالإمام الحسن(عليه السلام) سيبقى نهجاً وخطاً يقف أمام كل من يأتي من الطغاة إلى يوم القيامة وهو يتمثل بصورة معاوية، وبذلك يتعلم المصلحون طريق المقاومة وفضح الظالم.

وفي هذا المجال أحاديث عديدة، فبعض الأحاديث محتواه أكبر من دلالته الظاهرية، وبعض الأحاديث محتواه بقدر دلالته، وبعبارة أخرى: بعض الأحاديث رمز، وبعض الأحاديث تطبيق، ومن باب المثال نقول: لو فرضنا أن هناك مقداراً من الماء وكان ظاهره بقدر باطنه وليس أكثر، فظاهره خمسون لتراً وباطنه كذلك، وقد يكون هذا المقدار منفذ إلى عين فيها ملايين اللترات من الماء، فالسطحواحد، ولكن العمق والامتداد يختلف.

كيف يُواجَه الطغاة؟

نعود إلى أصل البحث، وهو أن الطغاة على نوعين:

1- طاغٍ مخادع ودنيء، ونسميه بالطاغي الماكر، فهو يجمع بين الشيئين الخداع والدناءة، وهكذا طاغٍ واجهه الإمام الحسن(عليه السلام)، فهو إمام لمن واجه مثل

ص: 120


1- الإرشاد 2: 14.

هذا القسم من الطغاة إلى الأبد، لأنه يأتي في التاريخ الطغاة من نماذج معاوية، ويحتاج إلى المصلحين من نماذج الإمام الحسن(عليه السلام).

أما الطغاة من نماذج يزيد، فهو يحتاج إلى المصلحين من نماذج الإمام الحسين(عليه السلام). وهو القسم الثاني:

2- طاغٍ بليد، يعني الشرس في الحرب، والمستهتر في السلم.

ومن أدق الأعمال التي قام بها الإمام الحسين(عليه السلام) أمام يزيد، أنه أرسل مسلم بن عقيل(عليه السلام) وحده إلى الكوفة. فإنه كان يريد فضح يزيد وأعوانه.

قسم من الناس يتعجبون من ذلك، كما أنهم يتعجبون لماذا فرّق الإمام الحسين(عليه السلام) أصحابه وقال: من أراد منكم أن يذهب فليذهب، لأنني سوف أُقتل والقوم لا يريدون سوى قتلي - بعكس ما يفعله القادة العسكرييون دائماً وفي جميع الحروب حيث يجمعون الأصحاب - ، ولكن الإمام الحسين(عليه السلام) ومن مكة المكرمة كان يقول لهم: إذهبوا، إذهبوا، إذهبوا... وتفرقوا، تفرقوا... واستمر ذلك حتى ليلة عاشوراء(1)، عجباً هل هذا الإنسان يريد الحرب؟

نعم، هذا الإنسان يريد الحرب بصورتها الصحيحة، ويفهم كيف يحارب، ليفضح عدوه على طول التاريخ؟وفي الحقيقة إذا كان الإمام الحسين(عليه السلام) يفعل غير ذلك، كنا نسأل لماذا الإمام الحسين(عليه السلام) حارب في الوقت الذي كان يعلم أنه بكل الصور مقتول؟

فإن دولة بني أمية كانت دولة قوية، وسيعة عريضة، ضاربة بأجرانها مناطق مما يعرف اليوم بالاتحاد السوفيتي، إلى أواسط أفريقيا، هذه الدولة الضخمة خرج ضدها الإمام(عليه السلام) في فئة قليلة وحارب هيبتها وسلطانها.

ص: 121


1- انظر الإرشاد 2: 75 و 91.

وذلك لأن الإمام الحسين(عليه السلام) كان في مواجهة طاغ هو يزيد، وقلنا سابقاً أن يزيد كان شرساً في الحرب، وفي نفس الوقت مستهتر في السلم، استهتاره واضح لأنه يزيد الخمر وأبي قيس(1) ولعب القردة والزنا والاستهتار والفواحش وما أشبه.

حتى أن المؤرخين ذكروا أن معاوية كان مريضاً شديد المرض وفي حالة الاحتضار، وكان يزيد في بعض القرى يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب، فهو إلى هذا الحد كان مستهتراً، كان خارج البلد(2) لا يقيم لأبيه وزناً وهو في حال الموت، ولا لخلافته، ولا لأنه خلّفه وولاّه عهده، فاستهتاره في السلم وعدم الحرب معروف لا يحتاج إلى الكشف.

وإنما حرب يزيد كان يحتاج إلى الكشف، لأن فيه درساً لجميع الأجيال التي تواجه طغاة كأمثاله.

والدرس هنا كيف يلزم أن تقاوم الشراسة، وأين تظهر الشراسة؟

الشراسة تظهر إذا كان المصلح قليل العدد، فالشراسة لا تظهر عادة مع كثرة العدد، بل مع قلة العدد، كما يقول الشاعر على ما ذكره السيوطي(3):

والذئب أخشاه *** إن مررت به وحدي

الذئب شرس، لكن أين تظهر شراسته إذا كنت وحدك، أما إذا كنت مع جماعة لا تظهر شراسته.

فإذا كان مع الإمام الحسين(عليه السلام) عشرة آلاف إنسان، وحاربوا الأمويين، لم تظهر شراستهم، فالأمويون آنذاك لم يتمكنوا من أن يصنعوا بالإمام الحسين(عليه السلام) هذا الصنيع الذي صنعوا به، وإن كانوا يتمكنون من قتله، فما

ص: 122


1- اسم قرد ليزيد بن معاوية، انظر أنساب الأشراف 5: 287.
2- انظر الفتوح لابن الأعثم 4: 352.
3- البهجة المرضية: 264.

كانت تظهر شراسة يزيد.

وهكذا إذا كان مع مسلم بن عقيل(عليه السلام) حين جاء إلى الكوفة، ألف إنسان أو أكثر، فلم يكن ابن زياد يتمكن أن يشنقه مقلوباً في كناسة الكوفة، إنما تظهر هذه الشراسة مع قلة عدد المصلحين، فإن كثرة المصلحين تلقي الرعب في نفوس الطغاة، انظروا يزيد نفسه لما رأى الإمام(عليه السلام) في الشام وبعد خطبته الشريفة حيث تغيرت آراء الناس، وأصبحوا بصدد نصرة الإمام، بدّل الأمر وقال: إني ما فعلت هذا الشيء.

فالإمام الحسين(عليه السلام) كان متعمداً في أن يكون جيشه قليل العدد، حتى يظهر آخر قطرة من شراسة الحكام الطغاة ويفضحهم.

وهذا خطاب للمصلحين إذا كان أمامهم مثل يزيد، وكان عدد الأنصار قليلاً، فلا يقول المصلح: إن هذا الحاكم الطاغي شرس فلا أقاومه.

الإمام الحسين(عليه السلام) بصورة دقيقة، وبتخطيط إلهي من أعجب وأدق التخطيطات، فضح يزيد وبني أمية وجميع الطغاة على طول التاريخ، فأظهر كل الشراسة التي كانت في قلب يزيد، حتى يكون إماماً للذين يأتون من بعده، ويقابلهم طاغ بليد من قبيل يزيد.

دور المعصوم(عليه السلام) واستمرار الرسالة

إذن فقول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1)، ليس بمعنى التقديس فقط، وليس أن الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يريد أن يبين أنهما سيدان عالمان جليلان، وأنه تعلموا منهما المسائل والأحكام فقط، وإن كان هذا الشيء صحيحاً أيضاً.

ص: 123


1- علل الشرائع 1: 211.

قسم من الناس قد يتعجب لقلة نقل الروايات الفقهية عن الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام)، فالإمامان الحسن والحسين(عليهما السلام) دورهما الأهم ليس دور الفقه، بل كان دور الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) دور مقابلة الطغاة من هذا القبيل.

وكان دور الإمام الباقر والصادق(عليهما السلام) دور الفقه، لماذا؟

لأنه كان مقابل الإمام الصادق(عليه السلام) الفقهاء الذين كانوا يريدون تحريف الفقه الإسلامي، ولذا كان على الإمام الصادق(عليه السلام) أن يظهر الفقه.

وقد أشرنا سابقاً إلى أننا بحاجة إلى الكثير من البحث، حتى نبيّن بقدر فهمنا أدوار المعصومين(عليهم السلام) ونتكلم حول كل واحد واحد من المعصومين الأربعة عشر، الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والزهراء(عليها السلام) والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) وأنه كيف كان كل واحد من هؤلاء الأطهار قائداً ومعلماً إلى الأبد، وأن كل دور يشبه دور الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو فاطمة الزهراء أو دور علي أمير المؤمنين أو دور الإمام الحسن، أو دور الإمام الحسين(عليهم السلام)، أو دور سائر الأئمة إلى دور الإمام المهدي(عليه السلام) فعلى المصلح أن يتخذهم قدوة وأسوة، ويعمل مثل ذلك المعصوم(عليه السلام) المشابه دوره لدوره، وإلّا فإن خالفهم(عليهم السلام) فقد أخل الإنسان بواجبه وأخطأ.

وبذلك ظهر:

1- أنه كيف تفرز المجتمعات الطغاة؟

2- نفسية الطغاة وأقسامهم.

3- كيف يجب أن يقابَل كل طاغ.

وحديث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»، لعله يشير إلى بعض ما ذكرناه.

ص: 124

دور الحوزات العلمية في بناء المجتمع

المقدمة

في الإسلام لا تنحصر مسؤولية المسلم في حدود مدينة أو إقليم معين، بل أينما يكون فإنه مكلف بخارج حدود ذلك المكان أيضاً، لأن الإسلام دين عالمي، وهداية جميع البشر من وظيفة المسلمين.

نعم المسؤولية الأولى تكون بالنسبة إلى من يرعاهم والمكان الذي يعيش فيه المسلم.

يقول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، فالمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم...»(1).

نحن عندما كنا في مدينة كربلاء المقدسة كان علينا أن نعمل ونتحرك ونقوم بالوعي والهداية في مدينة كربلاء، وتطويرها حتى تصل هذه المدينة المقدسة إلى الدرجة التي تليق بها.

أما الآن ونحن في مدينة قم المقدسة، فإن الواجب يحتم علينا أن نقوم بالتحرك اللازم والعمل المناسب في تطوير حوزة قم «عش آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)»(2)،

ص: 125


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 5.
2- بحار الأنوار 57: 214.

المدينة التي ينبغي أن ترتقي إلى مستوى التحدي الحضاري الذي يواجهها، من الجهة الكمية والكيفية معاً.

فنجعل عدد طلاب العلوم الدينية فيها مثلاً يتصاعد من عشرين ألفاً إلى مائة ألف طالب بل أكثر، وذلك لأن الدنيا دار الأسباب والمسببات، هكذا خلقها اللّه سبحانه حيث قال تعالى: {وَءَاتَيْنَٰهُ مِن كُلِّ شَيْءٖ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا}(1).

ومعناه: (آتيناه) أي: ذي القرنين علماً يتسبب به إلى ما يريده {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} وسلك هو هذا السبيل، سبيل المقدمات والنتائج والأسباب والمسببات.

فهذه الدنيا هي دنيا الأسباب والمسببات، لا دنيا العبث والصدفة.

ومن هنا ينبغي علينا أن نشعر بالقصور والتقصير، الذي يلفنا بعباءته الثقيلة علينا.

فإذا كان في قم المقدسة عشرون ألف طالب، فإن في الباكستان مائة وخمسين ألف طالب بل أكثر، تابعين للمدرسة الوهابية.

وبعد هذا يمكن أن نتصور النتيجة بين عملنا وعملهم، فتكون أعمالنا ونشاطاتنا في مقابل النشاط الوهابي ضعيفاً، وربما تكون ما نقوم به كنهر جارف أمام تيار كبير واسع، وتتضح الحقيقة أكثر لدى أول اصطدام بلغة الأرقام.

كما أن الوهابيين في الباكستان فقط يمتلكون إثني عشر ألف مدرسة مجهزة بكل وسائل التعليم والثقافة الحديثة، ونتيجة هذا النشاط - بطبيعة الحال - هو امتداد جذور الوهابية المنحرفة في العالم أكثر وأكثر.

ومما يذكر أن للمسيحيين أربعة ملايين(2) مبلّغ، يطوفون العالم ويجوبون

ص: 126


1- سورة الكهف، الآية: 84-85.
2- أما اليوم فهذه الأرقام قد ازدادت، فراجع الإحصائيات الجديدة.

البقاع البعيدة والنائية من أجل التنصير.

الحوزة بين العلم والمجتمع

إنتاج الحوزة

أخيراً أصبح عطاء الحوزات العلمية قليلاً وضعيفاً بالنسبة للعطاء الكبير الذي كانت تقدمه للإسلام والمسلمين في الأزمنة السابقة، ولو ألقيتم نظرة دقيقة وفاحصة فستصلون إلى هذه النتيجة، وهي أنه لابد أن يكون في قم المقدسة: مائة مرجع تقليد صاحب رسالة عملية كحد أدنى، كما كان هذا في بعض الأزمنة السابقة.

يقول المرحوم والدي(رحمه اللّه): ظهر في النجف الأشرف وحدها بعد وفاة المرجع السيد محمد كاظم اليزدي(رحمه اللّه) صاحب العروة الوثقى، تسعون مجتهداً جامعاً للشرائط من ذوي الرسائل العملية.

وإني أتذكر أنه ظهر بعد المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) في العراق خمسة وعشرين مجتهداً صاحب رسالة عملية.

هذا غير الخطباء والمبلّغين والكتّاب والمحققين وأمثالهم من أعلام الأمة وفحولها.

إذن يجب العمل في هذا المجال بشكل مكثف، حتى نحصل على النتيجة التي نهدف إليها.

ربما يسأل سائل: أنه ماذا نستطيع أن نفعل بقلتنا القليلة هذه الفاقدة لأبسط مقومات العمل التقني الحديث، في مقابل الحافل بالنشاط والعمل والخطط الكبيرة الواسعة والتقنية الحديثة والأموال الطائلة في عالم اليوم؟

والجواب هو قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(1).

ص: 127


1- سورة البقرة، الآية: 286.

والسعة هو ما تتسع له قدرة الإنسان، وهو فوق المجهود واستفراغ القدرة، يقول القائل: ليس هذا في وسعي، أي لا أقدر عليه وأن قدرتي لا تتسع لذلك.

إذن، فعلى رجل الدين أن يسعى ويعمل بقدر طاقته واستطاعته، حتى تتجمع هذه الطاقات المنفردة لتولد سيلاً من النشاط، لتثمر الثمر اللازم، وتعطي النتيجة المقصودة في تطوير المجتمع الإسلامي وتبليغ التعاليم الدينية.

حال الشيعة في العالم

حالياً يعيش الشيعة في كل العالم تحت الضغوط والتضييقات والأصفاد المادية والنفسية من قبل الظالمين والأعداء، في العراق ولبنان وأفغانستان وغيرها.

وفي العراق فقط مئات الآلاف من الشيعة رجالاً ونساءً يقبعون في زنزانات البعث الصدامي وسجونه، وعلى الحوزات العلمية مسؤولية إنقاذ هؤلاء المظلومين، كل بقدر طاقته يسعى في هذا السبيل، من طريق التأليف ونشر الكتب وبيان مظلومية الشيعة في كل العالم، وبشتى وسائل التبليغ المختلفة، وإلّا فنحن جميعاً مسؤولون أمام اللّه عزّ وجلّ، وأمام هذه المظالم.

عقوبة ترك إعانة المظلوم

ينقل أنه كان هناك رجل متقٍ جداً، ذات يوم وافته المنية، فرؤي في المنام وسُئِل عن حاله في القبر وكيف عومل؟

فقال: جاءني ملكان وأخذا يضرباني بالسياط، فسألتهما: إني كنت رجلاً صالحاً ومتقياً، فما هو ذنبي حتى تضرباني؟

قالا: في يوم وقع مظلوم في يد ظالم، وكانت عندك القدرة على نصرته وإنقاذه منه فلم تفعل!

لذلك يجب العمل في سبيل إنقاذ المسلمين والشيعة في كل العالم.

ص: 128

فعلى هذا نحن بحاجة إلى أن نؤسس للحوزة ما لا يقل عن ستمائة مدرسة، وهكذا إلى مائة مجلة إسلامية تصل إلى كل أنحاء العالم وبشتى اللغات.

فالوهابيّون قد لا يتجاوز أتباعهم الخمسة آلاف فرداً، لهم مجلة باسم (المجلة) تصدر في خمس عواصم لأكبر دول العالم، وتنشر على صعيد كل العالم، وقد رصدوا لتأسيس هذه المجلة نصف مليار، وهكذا باقي المجلات والجرائد الأخرى التي تنتمي إلى الوهابية بشكل أو بآخر، وغيرها من المؤسسات التابعة لباقي المذاهب الباطلة الأخرى.

فيجب أن يكون لمدينة قم المقدسة التي هي مركز التشيع في العالم الإسلامي فعلاً - بعد أن كبت صدام وحزب البعث الأنشطة الدينية التي كانت تتمتع بها الحوزات العلمية في النجف وكربلاء - شهرياً مائة مجلة وصحيفة، تصدر إلى كل العالم وبلغات مختلفة.

فإن الإسلام وعلوم أهل البيت(عليهم السلام) إنما انتشرت وأثارت في بقاع العالم بالقلم والبيان والتبليغ والوعظ والإرشاد والتوجيه المستمر.

فمن صفات الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه: «طبيب دوّار بطبه قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه: من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة»(1).

وهذا يتضح جلياً في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، فالإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)قال: «رسل اللّه سبحانه تراجمة الحق والسفراء بين الخالق والخلق»(2).

ص: 129


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 108 من خطبة له(عليه السلام) وهي من خطب الملاحم.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 389.

وفي كلام آخر له(عليه السلام) قال: «ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا»(1).

وهكذا يجب العمل في مدينة قم المقدسة لتأسيس المكتبات الضخمة والكبيرة، لتضم أكبر عدد من الكتب في شتى المجالات، لأننا في هذا المجال ضعفاء جداً، ولتقريب ذلك إلى الأذهان نذكر لكم بعض الإحصاءات العالمية:

نقل أن في ألمانيا الغربية مكتبة تحتوي على اثني عشر مليون كتاب، بينما أكبر مكتباتنا اليوم قد لا تجاوز عدد الكتب فيها ربع هذا العدد.

أو أن في لبنان ذات الثلاثة ملايين نسمة، ألفاً ومائتي مطبعة، بينما في دولة أخرى التي عدد نفوسها عشرون ضعف نفوس لبنان، ليس فيها من المطابع إلّا القليل القليل.

رجال القدوة الحسنة

ما ذكرناه كان يرتبط بالعدد والكم في نشاطات الحوزة العلمية.

والمسألة الأخيرة التي يجب الإشارة إليها هي كيفية الحوزة، حيث يجب أن تتهذب النفوس حتى يكون طلاب العلوم الدينية أسوة ونماذج لعصرهم، لأن فضيلة الإنسان إنما هي في طهارة النفس وتزكيتها، والإسلام الذي وصل إلينا إنما كان من أثر الفضائل النفسانية والأخلاق الكريمة للنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين(عليهم السلام).

فيجب أن يتحلى أي قائد إسلامي، بأكبر ما يمكن من الخلق الرفيع،والمعاملة العطوفة المحببة مع مختلف الناس، لكي يجلبهم إلى نور الإسلام، أو يبقيهم في الإسلام، فإن أفضل وأسهل وأسرع وأعمق العوامل لزرع المحبة في

ص: 130


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 478.

القلوب هي الأخلاق الفاضلة والمعاملة الطيبة العطوفة.

هكذا كان يتعامل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع مجتمعه وأصحابه، وهكذا أيضاً سار على نهجه الأئمة المعصومون(عليهم السلام) وأصحابهم البررة، أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد، وهكذا كان العلماء الصالحون، وهكذا يلزم أن نكون.

ومن الشواهد على ذلك: عندما اشتد أذى المشركين للرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم أُحُد، إذ قُتل عمه الحمزة(عليه السلام) ومُثِلَ بجسده الشريف، وقطع كبده، وأصابع يديه ورجليه، وجدع أنفه وأذنيه... وفُعل به ما فعل، وقُتل العشرات من المسلمين، فتقدم بعض الصحابة إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واقترح عليه أن يدعو عليهم ليعذبهم اللّه بعذاب شديد كما كان يعذب المشركين الأولين بدعوة أنبيائهم عليهم، لكن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخلقه الرفيعة وسياسة عفوه العظيمة، امتنع من ذلك فقال: «إني لم أبعث لعّاناً ولكني بعثت داعياً ورحمة»(1).

مثال من الصحابة: سلمان وبساطة العيش

روي أن سلمان المحمدي (رضوان اللّه عليه) عندما وُليّ على المدائن، دخلها ولم يعرفه أحد من أهل المدينة، بسبب بساطته في معيشته وملبسه، وزهده وتهذيبه لنفسه، ولأنه كان منفرداً عندما دخل المدينة ولم يجلب معه أي خادم أو أعوان(2) أو عسكر أو حماة.

وعندما عرفه الناس بأنه هو سلمان، تعجبوا كثيراً، بأنه كيف يكون الشخص الوالي على المدائن زاهداً وبسيطاً في معيشته وحياته، ولا يعتني بالدنيا قيد أنملة.

وهكذا بقي سلمان فترة ولايته على المدائن إلى أن توفي فيها، فلم يتغير في

ص: 131


1- تفسير القرطبي 4: 200.
2- على خلاف الولاة والحكام الآخرين الذين إذا نصّبوا حكاماً أو ولاة على مدينة ما يتوجهون إليها بكامل وسائل التجليل والبخبخة والأبهة ومعهم الأعوان والخدم.

فترة حكمه وسلطته عمّا كان عليه قبل ذلك، فكان يلبس الخشن، ويذهب في حاجاته ماشياً غير راكب، ويشتري وسائل بيته وما يحتاج إليه بنفسه، ويأكل شيئاً قليلاً وبسيطاً.

وذات يوم كان في السوق فرآه أحد الناس ولم يعرفه، وكان هذا الرجل قد اشترى ما يحتاج إليه حتى امتلأ زنبيله، فقال لسلمان: احمل عني هذا الزنبيل إلى بيتي!

فتقدم إليه سلمان بكل حلم وتواضع، وحمله وذهب مع الرجل نحو بيته.

وفي أثناء الطريق عرفه رجل من المارة فسلّم عليه، وقال السلام عليك يا أمير المدائن، إلى أين تذهب بهذا الزنبيل المملوء؟

فعرف الرجل الأول أنه استخدم سلمان والي المدائن وحاكمها، فتأثر كثيراً وخجل من عمله هذا، فقال لسلمان معتذراً: يا أمير اجعلني في حل، فإني لم أعرفك.

ولكن سلمان مع ذلك أوصل زنبيل هذا الرجل إلى بيته(1).

نعم لما كان أهل المدائن قد رأوا سابقاً حكومة الساسانيين، وجبروت حكامهم، ولمسوا منهم تكالبهم على الدنيا واقتنائهم للخدم والعبيد والوصائف، ورأوا رياشهم وترفهم، وكثرة ظلمهم للناس، وفي المقابل عندما رأوا طريقة معيشة سلمان وبساطته يوماً فيوماً وعدله وتواضعه، أخذوا يعتقدون بالإسلامونظامه أكثر فأكثر ويترسخ ذلك فيهم.

من الإمام إلى تلميذه

ولا عجب في ذلك فإن سلمان المحمدي (رضوان اللّه عليه) هو فرع من

ص: 132


1- انظر الطبقات الكبرى 4: 88.

مدرسة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) التي لم تكن الدنيا بأجمعها وبكل زخرفتها وزبرجها تساوي عنده أكثر من جناح بعوضة وما دونها، وما كان شيء أهون عند علي بن أبي طالب(عليه السلام) من الدنيا وما فيها، فالمال والحكم والسلطة والفرش واللباس والقصور والأكل والشرب كلها عند علي(عليه السلام) لا شيء، ولم يكن يستعمل شيئاً منها إلّا بمقدار الحاجة الضرورية.

ولعل أعمق مثال للدنيا في منظار أمير المؤمنين(عليه السلام) ما جاء عنه قائلاً: «واللّه لدنياكم هذه أهون في عيني من عِراق(1) خنزير في يد مجذوم»(2).

والخنزير لا يرغب فيه، فكيف بعراقه وعروقه.

والمجذوم لا يرغب في ما بيده ولو كانت الدنيا برمتها، لأن الدنيا برمتها لا تسوي عدوى الجذام الأكيد.

فكيف بِعْرِقٍ من خنزير وفي يد مجذوم؟!

من يرغب في مثل ذلك؟!

الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) يعتبر الدنيا أهون من ذلك.

وجاء في رواية أخرى أنه دخل أحد الأصحاب على الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في أيام حكومته وخلافته على أكثر من خمسين دولة على خارطة اليوم، فرآه جالساً على حصيرة صغيرة، ولم يكن في البيت شيء آخر، فقال متعجباً: يا أميرالمؤمنين هذا بيت المال في يدك، لماذا تترك بيتك خالياً من الأثاث؟

فقال(عليه السلام): لا يجمع العاقل الحطام في بيت لا يبقى فيه يعني الدنيا، والبيت الذي أجمع له الأثاث الحسن والجيد هو البيت الذي سأنتقل إليه يعني

ص: 133


1- العِراق: هو من الحشا ما فوق السرة معترضاً البطن.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 236.

الآخرة(1).

من هدي القرآن الحكيم

أهمية العلم

قال اللّه سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(2).

الابتعاد عن الغفلة

قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْغَٰفِلُونَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ * أُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(4).

نشر العلم ومحاربة الجهل

قال اللّه جلّ وعلا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(5).

وقال جلّ شأنه: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ}(6).

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ

ص: 134


1- انظر عدة الداعي: 121.
2- سورة التوبة، الآية: 122.
3- سورة الأعراف، الآية: 179.
4- سورة يونس، الآية: 7-8.
5- سورة البقرة، الآية: 129.
6- سورة الأنبياء، الآية: 48.

وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1).

وقال عزّ اسمه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

أهمية العلم

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «المتعبّد على غير فقه، كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لو أتيتُ بشابٍ من شباب الشيعة لا يتفقّه لأدّبته»(4).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «تفقهوا في دين اللّه، فإنّ الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة، والرتب الجليلة في الدين والدنيا»(5).

الابتعاد عن الغفلة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «احذروا الغفلة فإنّها من فساد الحس»(6).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام) في دعائه: «... نبهني من رقدة الغافلين، وسنةِ المسرفين ونعسة المخذولين...»(7).

ص: 135


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.
2- سورة الجمعة، الآية: 2.
3- الإختصاص: 245.
4- المحاسن 1: 228.
5- تحف العقول: 410.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 72.
7- الصحيفة السجادية: وكان من دعائه(عليه السلام) في يوم عرفه.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إيّاكم والغفلة، فإنه من غفل فإنّما يغفل عن نفسه...»(1).

القدوة الحسنة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... بالتعليم أرسلت»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته... ويثيروا لهم دفائن العقول...»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... وأنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق ودين الهدى ليزيح به علّتكم وليوقظ به غفلتكم...»(4).

وقال(عليه السلام):

1- «العلم خيرُ دليل».

2- «العلم أفضل هداية».

3- «العلم يرشدك إلى ما أمرك اللّه به، والزهد يسهّل لك الطريق إليه».

4- «ثروة العلم تنجي وتبقى».

5- «فكرك يهديك إلى الرّشاد، ويحدوك(5) على إصلاح المعاد».

6: «نعم دليل الإيمان العلم»(6).

ص: 136


1- ثواب الأعمال: 203.
2- منية المريد: 106.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 1 من خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض... واختيار الأنبياء... .
4- بحار الأنوار 70: 117.
5- يحدوك: يحثّك - من حدي الإبل - .
6- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 63.
فضل العالم على الجاهل

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ركعتان من عالمٍ خير من سبعين ركعة من جاهل، لأن العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه، وتأتي الجاهل فينسفه نسفاً...»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) في ما رواه عن آبائه(عليهم السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «... أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً، وأقلّ الناس قيمةً أقلهم علماً»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا علي ساعة العالم يتكئ على فراشه ينظر في العلم خيرٌ من عبادة سبعين سنة»(3).

وقال الإمام محمد الباقر(عليه السلام): «العالم كمن معه شمعة تضيء للناس، فكل من أبصر بشمعته دعا له بخير. كذلك العالم معه شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة...»(4).

وأخيراً نتضرع إلى اللّه تعالى أن يوفقنا لخدمة الدين ولتقوية الحوزات العلمية الشيعية في العالم، وللتأسّي بالنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام) في حياتنا وأعمالنا، لنكون أسوة صادقة للمسلمين، نقودهم إلى جادة الحق والصواب،والسعادة الدائمة في الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب.

ص: 137


1- الإختصاص: 245.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 21.
3- عدة الدّاعي: 75.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 342.

لين الكلام

المقدمة

عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): ثلاث من أبواب البر، سخاء النفس، وطيب الكلام، والصبر على الأذى»(1).

وهذا تأكيد على ضرورة أن يكون كلام الإنسان ليناً.

وقد أرسل اللّه تعالى النبي موسى(عليه السلام) إلى فرعون الطاغية، الذي يقول عنه القرآن الكريم: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ}(2)، ومحصل المعنى أن فرعون علا في الأرض ببسط السلطة الجائرة على الناس، وإنفاذ القدرة فيهم، وجعل أهلها شعباً وفرقاً مختلفة، لا تجتمع كلمتهم على شيء، وبذلك ضعفت عامة قوتهم على المقاومة دون قوته، وهو يستضعف طائفة منهم وهم بنو إسرائيل وهم أولاد يعقوب(عليه السلام) وقد سكنوا مصر منذ أن أحضر يوسف(عليه السلام) أباه وأخوته، فسكنوها وتناسلوا بها حتى بلغوا الألوف.

وكان فرعون يعاملهم معاملة الأسراء الأرقاء، ويزيد في تضعيفهم حتى وصل الأمر بذح أبنائهم واستبقاء نسائهم وظلمهم.

يذكر أحد المؤرخين بأن فرعون كان يأخذ النساء الحوامل ويبقر بطونهن،

ص: 138


1- المحاسن 1: 6.
2- سورة القصص، الآية: 4.

ويستخرج الأجنة، فإذا كان ولداً قطع رأسه، بل حتى إذا كانت امرأة تضع طفلها ميتاً كان يأمر بذبحه وفصل رأسه عن بدنه، وبهذه الكيفية قتل آلاف الأطفال، وهو الذي كان يدعي الألوهية فكان يقول: {أَنَا۠ رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ}(1).

ومع كل هذه الجرائم والجنايات، والظلم والطغيان، يقول اللّه تعالى لموسى وأخيه هارون(عليهما السلام):{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا}(2)، أي تكلّما معه برفق وبلا خشونة.

فعلى الجميع، في كل مكان، كبير أو صغير، شاب أو طاعن في السن، دائماً أن يتكلموا مع الآخرين بلين ورفق.

يقول اللّه تعالى مخاطباً رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(3).

إن اللين والرفق يفعلان ما لا يفعله الدينار والدرهم، وأن اللفظ العنيف لا صديق له وإن أُنفق حتى أسرف، وذو اللين والرفق يجتمع حوله الأخلاء وإن كان فقيراً، كيف لا والدينار حظ الجسم، واللين حظ الروح.

وفي كثير من أحاديث النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) يحثون فيها على الرفق واللين، لأنهما أساس كثير من السعادات الدنيويّة والأخروية.

حيث قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لو كان الرفق خلقاً يُرى، ما كان مما خلق اللّه شيء أحسن منه»(4).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أتدرون من يُحرم على النار؟ كل هين لين سهل قريب»(5).

ص: 139


1- سورة النازعات، الآية: 24.
2- سورة طه، الآية: 44.
3- سورة آل عمران، الآية: 159.
4- الكافي 2: 120.
5- جامع السعادات 1: 269.

صفح النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أبي سفيان

وهكذا كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تعامله حتى مع الأعداء، من أمثال أبي سفيان:

فأبو سفيان كان في حالة حرب مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمدة عشرين سنة، وبواسطة أبي سفيان وأتباعه استشهد كثير من المسلمين والمسلمات:

استشهدت بنت وحفيدة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1)، واستشهد عمه الحمزة (رضوان اللّه تعالى عليه) وغيرهم من الأبرياء.

وأيضاً كان لأبي سفيان الدور الأساس في تربية أعداء النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعبئة الأجواء ضد الإسلام والمسلمين، مثلاً أحد أسباب عداء أبي لهب - عمّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - للنبي، كان بتأثير زوجة أبي سفيان: أم جميل بنت صخر.

وكانت هي بنفسها تؤذي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً جداً، حتى أنها كانت تملأ ثوبها من الأشواك الحادة(2)، والعاقول المدبب، وتلقيه في طريق النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مساءً، لكي تؤذيه عندما يذهب النبي إلى المسجد الحرام للعبادة، وكم دخلت هذه الأشواك والعاقول في قدمي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المباركتين، وأُدميتا بسبب فعل أم جميل هذه، وقد ذكرها اللّه تعالى في القرآن بالسوء في سورة المسد، فقال عزّ وجلّ: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدِ}(3).

ولكن في المقابل عندما دخل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكة فاتحاً منتصراً، خاطب أبا سفيان بكلام جميل ولين حيث قال له: أما آنَ أن تشهد أن لا إله إلّا اللّه؟

فقال أبو سفيان: ما أحلمك يا محمد؟

ثم سأل أبو سفيان: ما أصنع بلات ومنات؟

ص: 140


1- إشارة إلى قصة زينب ربيبة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخروجها عن مكة وإلقائها ما في بطنها من حملٍ.
2- انظر تفسير مجمع البيان 10: 476.
3- سورة المسد، الآية: 4-5.

وكان عمر حاضراً، فثارت عصبيته وأراد أن يبطش به، وقال: ائذن لي يا رسول اللّه في قطع رأسه.

فقال أبو سفيان لعمر: كم أنت سيء الكلام؟ وما الذي جعلك تلقي البغضاء بيني وبين ابن عمي، وهو يقصد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟

فأعاد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أبي سفيان قوله الشريف: أما آن أن تشهد أن لا إله إلّا اللّه؟

وأخيراً تحت ضغط العباس وأصحاب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسلم أبو سفيان ظاهرياً من دون أن يذعن في قلبه بذلك، وقبل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا الإسلام الظاهري من أبي سفيان ولم يقابله بأي شيء سوى الرفق والإحسان إليه(1).

أمير المؤمنين(عليه السلام) بين الناس

في زمن حكومة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وخلافته الظاهرية، كان(عليه السلام) بنفسه يهتم بجميع الناس ويلبي احتياجاتهم حتى أنه(عليه السلام) كان يمرّ على الأسواق ويطّلع على ما يجري فيها بنفسه، ويحل المشاكل التي تعترض الناس في مختلف المجالات.

وذات يوم كان أمير المؤمنين(عليه السلام) في سوق التمارين، فرأى فتاة واقفة على جانب السوق وتبكي، فتقدم(عليه السلام) وسألها عن سبب بكائها، فقالت: إنني أمة لرجل أعطاني درهماً لأشتري له به تمراً، فاشتريت تمراً من هذا الرجل - وأشارت إلى بائع التمر - وذهبت إلى المنزل فلم يستحسنه مولاي، وأمرني بردّه، ولكن هذا البائع لم يقبل بردّه، وأنا حائرة في أمري لا أدري ماذا أصنع؟

عند ذلك تقدم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى التمّار وقال له: هذه أمة وليساختيارها بيدها، خذ منها التمر و رّد عليها درهمها، عندما سمع البائع ذلك، قام

ص: 141


1- انظر المعجم الكبير 8: 11.

من مكانه غاضباً - وكان لا يعرف الإمام - فأخذ بتلابيب الإمام(عليه السلام) ودفعه بعنف وقال: ما أنت والتدخل فيما بين الناس!؟

ولما رأى الناس ذلك، قالوا للبائع وهم يزجرونه: ماذا تفعل، ثكلتك أمك، إنّه أمير المؤمنين؟

عندما أدرك البائع أنه تعامل هكذا مع أمير المؤمنين(عليه السلام) اضطرب وخاف، وراح يعتذر إلى الإمام(عليه السلام) ويطلب منه العفو والصفح.

ولكن خاطبه الإمام(عليه السلام) بكل لطف ومحبة: لا بأس عليك، ولكن أصلح أخلاقك وتعامل مع الناس بلين ورفق، ولا تعنّفهم أو تتعامل معهم هكذا كما رأيت منك اليوم(1).

عزل أبي الأسود

وروي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) ولّى أبا الأسود الدؤلي القضاء، ثم عزله، فقال له أبو الأسود: لِم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟

فقال(عليه السلام): «إني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك»(2).

نعم هكذا يلزم أن يكون القائد الإسلامي متصفاً بالأخلاق الطيبة، والعفو والصفح ومداراة الناس، وأن يبتعد عن الظلم والجور والحقد والبغضاء.

جاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في ذم الحقد قوله:

«الحقد خلق دنيء ومرض مردي».

و: «الحقد من طبائع الأشرار».

و: «أشد القلوب غلاً قلب الحقود».

ص: 142


1- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 112.
2- مستدرك الوسائل 17: 359.

و: «من أطرح الحقد استراح قلبه ولُبه».

و: «رأس العيوب الحقد»(1).

الإمام السجاد(عليه السلام) ولين الكلام

سبَّ أحد الأشخاص الإمام السجاد(عليه السلام)، فلم يعتن به الإمام(عليه السلام).

فعاد على الإمام السباب في المرة الثانية، فلم يعتن الإمام(عليه السلام) به أيضاً.

وفي المرة الثالثة عندما أخذ بسبّ الإمام(عليه السلام) قال: إياك أعني.

فأجابه الإمام(عليه السلام): «وعنك أُغضي»(2).

نعم إن موقف الإمام(عليه السلام) يعلمنا ويرشدنا إلى أسلوب ناجح في معاملة الناس، بحيث يقابل هذا الشخص العنيف وحدّته بإغضائه ولين كلامه ورفقه فيقول: «وعنك أُغضي» وذلك بكل رفق ولطف وهدوء، فيبدّل عنفه ليناً ورفقاً، وأشواكه أوراداً وأزهاراً، لا يصدر عنها إلّا العطر الفوّاح والأريج الهادئ المنعش.

شواهد من الرفق في المعاملة

الكلام الطيب

ينقل عن حياة العلاّمة الكبير الشيخ نصير الدين الطوسي(رحمه اللّه) أنه كتب أحد الأشخاص من ذوي الألسنة اللاذعة، رسالة إليه تفيض بالشتم والسباب والكلام السيء الذي تعافّه النفوس العادية، فضلاً عن النفوس الأبية.

وكان من ضمن السباب أنه خاطبه بالكلب!

فكتب الشيخ الطوسي(رحمه اللّه) جواباً ليناً وهادئاً على هذه الرسالة، وقال له فيها:إنني لست بكلب، وذلك لأن الكلب يمشي على أربع ولا يستطيع التكلم

ص: 143


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 299.
2- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 157.

والكتابة وله مخالب وهو يعوي! أما أنا فأمشي على رجلين، وأستطيع أن أتكلم واكتب، وليست لي مخالب، بل لي أظافر حسنة، ولا أعوي!

هذا كان كل جواب الشيخ الطوسي(رحمه اللّه).

العطاء مقابل الهجاء

كان في مدينة كربلاء المقدسة شخص قد أضمر العداء ضد أحد العلماء الأبرار(1)، وأنشأ قصيدة كاملة ضد هذا العالم، فكان يقرؤها في كلّ محفل ومجلس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

يقول صاحب القصيدة إنه في ذات يوم حار وعند الظهيرة، طرق الباب عليَّ، وقد انتهيت من تناول الغداء توّاً، فعندما فتحت الباب فوجئت بهذا العالم بشخصه، الذي أنشأت القصيدة ضده جاء على باب داري.

فخجلت منه ودعوته إلى الدخول، وعندما استقر بنا المجلس، طلب العالم مني مترجياً أن اقرأ عليه القصيدة، فامتنعت عن ذلك، فلم يرض إلّا بقراءتها عليه، فاستسلمت للأمر وقرأتها عليه، ولكن عندما انتهيت منها أخرج من جيبه ظرفاً فيه مقدار من المال وأعطانيه وقال: جرت العادة إذا قرأ شخص قصيدة لشخص، أن يعطوه هدية، فأرجو منك قبول هذه الهدية مني.

ومن شدة دهشتي لم أعرف بماذا أجيبه، فوضع المال في يدي وخرج، فكان موقفه هذا الكريم، واللين والرفق في تعامله، بدّل كل الحقد الدفين من قلبي إلى محبة له وعلاقة به واتّباع أخلاقه.

نعم، رفق هذا العالم ولينه وعدم عنفه جعل أغلب الناس يلتفون حولهويتعلموا منه الأخلاق الطيبة والأسلوب الذي استلهمه هو من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة

ص: 144


1- هو السيد أبو الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه).

الأطهار(عليهم السلام).

عالمنا اليوم

أما في حياتنا المعاصرة، فنشاهد العكس من ذلك، حيث المسلمون متفرقون هنا وهناك بسبب الغلظة والعنف وسوء المعاملة المتفشية بينهم، الأمر الذي ساعد على وقوع الهزيمة بينهم، وظفر الغرب والشرق وغيرهم من أعداء الإسلام بهم.

يقول سيد المرسلين(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم»(1).

فعلى المسلمين أن ينتبهوا من غفلتهم هذه، ولنتعظ جميعاً بوصايا أئمتنا الأطهار(عليهم السلام)، فمن وصايا أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية يقول له:

«... أحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك، وارض لهم ما ترضاه لنفسك، واستقبح ما تستقبحه من غيرك، وحسّن مع جميع الناس خلقك، حتى إذا غبت عنهم حنّوا إليك، وإذا متّ بكوا عليك، وقالوا: إنا للّه وأنا إليه راجعون، ولا تكن من الذين يقال عند موته: الحمد للّه ربّ العالمين، واعلم أن رأس العقل بعد الإيمان باللّه عزّ وجلّ: مداراة الناس، ولا خير فيمن لا يعاشر بالمعروف من لا بد من معاشرته»(2).

أخلاق أستاذ

كان في كربلاء المقدسة مدرس ذو أخلاق سيئة، وكان إذا سُئل سؤالاً في الدرس ينزعج بسرعة، وتنفعل أعصابه، وتضطرب أوقاته، وربما يعطل الدرس ويخرج!

ص: 145


1- الكافي 2: 115.
2- روضة الواعظين 13: 52.

بالرغم من أنه كان مدرساً كبيراً ومهماً في نفس الوقت، ولكن نتيجة سوء خلقه وفضاضة معاملته، انفض عنه الناس والطلاب، وكان لا يلتفت أحد حوله ولا يستمعون إليه.

وهكذا أي إنسان آخر، إذا لم يتمتع بحسن الخلق ولين الجانب، فإنّه لا يحظى بأي احترام ومحبة من قبل الناس، ومن ثم لا يستطيع أن يخدم الإسلام والمسلمين كما ينبغي ويلزم.

إذن على كل إنسان - وخاصة طلبة العلوم الدينية - أن يعوّد نفسه على الكلام اللين واللطيف حتى مع أعدائه، ولا يستعمل السباب واللعن والشتم وما أشبه.

يقول المثل: المنهل العذب كثير الزحام(1).

وهكذا يكون القول اللين الطيب، حيث يلتف الناس حوله، ويجتمعون حول صاحب الخلق الحسن، والكلام الجميل، والأسلوب اللين.

نسأل اللّه العلي القدير أن يحلينا بحلية الصالحين، ويلبسنا زينة المتقين، في بسط العدل وكظم الغيض، وترك العنف وإطفاء النائرة، وضم أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين.

من هدي القرآن الحكيم

الرفق ولين الكلام

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْحَوْلِكَ}(2).

ص: 146


1- مأخوذ من بيت شعر للتميمي يقول فيه: يزدحم الناس على بابه *** والمنهل العذب كثير الزحام انظر الرسائل السياسية: 596.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.

وقال عزّ وجلّ: {وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ}(1).

وقال سبحانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(2).

قول الخير والقول الحسن

قال عزّ اسمه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَٰنِ عَدُوًّا مُّبِينًا}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(4).

وقال عزّ من قائل: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَٰهِلِينَ}(5).

وقال جلّ شأنه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(6).

الصفح الجميل

قال عزّ وجلّ: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَأتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(7).

وقال سبحانه: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}(8).

ص: 147


1- سورة البقرة، الآية: 83.
2- سورة طه، الآية: 44.
3- سورة الإسراء، الآية: 53.
4- سورة الفرقان، الآية: 63.
5- سورة القصص، الآية: 55.
6- سورة الأحزاب، الآية: 70-71.
7- سورة الحجر، الآية: 85.
8- سورة المعارج، الآية: 5.

وقال جلّ ثناؤه: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

حفظ اللسان

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نجاة المؤمن في حفظ لسانه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «قلت أربعاً أنزل اللّه تصديقي بها في كتابه، قلت: المرء مخبوءٌ تحت لسانه، فإذا تكلم ظهر فأنزل اللّه تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(3)(4).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «لا يزال العبد المؤمن يكتب محسناً مادام ساكتاً، فإذا تكلم كتب محسناً أو مسيئاً»(5).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «حق اللسان إكرامه عن الخنا(6)،

وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبر للناس، وحسن القول فيهم»(7).

التفكر في الكلام

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «والذي نفسي بيده ما أنفق الناس من نفقة أحبُّ من قول الخير»(8).

ص: 148


1- سورة المزمل، الآية: 10.
2- الكافي 2: 114.
3- سورة محمد، الآية: 30.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 494.
5- الكافي 2: 116.
6- الخنا: الفحش من الكلام.
7- من لا يحضره الفقيه 2: 619.
8- المحاسن 1: 15.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ألّا وقولوا خيراً تُعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله»(1).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه»(2).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «القول الحسن يثري المال، وينمي الرزق وينسي في الأجل، ويحبب إلى الأهل ويدخل الجنة»(3).

الرفق واللاعنف

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما اصطحب اثنان إلّا كان أعظمهما أجراً وأحبهما إلى اللّه عزّ وجلّ: أرفقهما بصاحبه»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»(5).

ومن كتاب لأمير المؤمنين(عليه السلام) لبعض عماله: «واخلط الشدة بضغث من الليّن، وارفق ما كان الرفق أرفق»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس»(7).

ص: 149


1- علل الشرائع 1: 247.
2- تحف العقول: 489.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 2.
4- الكافي 2: 120.
5- الكافي 2: 119.
6- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 46، من كتاب له(عليه السلام) إلى بعض عماله.
7- الكافي 2: 120.

الزهد في الإسلام

الزُّهد في الدّنيا

اشارة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا ذر! ما زهدَ عبدُ في الدّنيا إلّا أنْبَت اللّه الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصَّره بعيوب الدنيا ودائها ودوائها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام»(1).

الزهد من المفاهيم الإسلامية السامية التي إذا ما طبقت في أي مجتمع فإنه بلا شك سوف تسوده العدالة والمواساة، ويصبح مجتمعاً مثاليّاً. لذا حثّ الإسلام الإنسان على تطبيق هذا المفهوم في حياته، وذلك للآثار المهمّة المترتبة على الزهد، ومنها:

1- الإيثار

فعندما تتعارض مصلحة الإنسان المتصف بالزهد مع مصلحة الأمة أو الجماعة. فهو يقدِّم مصلحة الأمة والجماعة على مصلحته، فيحرم نفسه من الأكل والشرب والراحة لمصلحة الآخرين، فالإيثار من العوامل المهمة لتكامل الإنسان وسمّوه.

2- المواساة

فالمجتمع الذي يطبّق أفراده هذه الخصلة الحميدة - الزهد - تلاحظ أفراده

ص: 150


1- مكارم الأخلاق: 463.

يتشاركون في ما بينهم في الأحاسيس والمشاعر في الظروف القاسية، أي يواسيأحدهم الآخر، فإذا ساد مفهوم المواساة في مجتمعٍ ما، فإنه بلا شك سوف تنقرض فيه الطبقية، والمحسوبية، وتنتشر العدالة وتسود البركات. فالزهد يوصل الإنسان إلى مرحلة التكامل، ويصبح متحرراً من غواشي المادة وقيودها، فيتحرر من جميع العوامل المادية التي تشدّه إلى البطر والراحة والشهوة وحبّ الذات، وكذلك تهون عليه المصاعب والمهمات. قال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب...»(1).

الزُّهد في القرآن

قال تعالى: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ}(2).

جاء في بعض التفاسير: أنّ هذه الآيه الكريمة فيها إشارة إلى أربعة أشياء:

الأول: حسن الخلق: لأنّ من استوى عنده وجود الدنيا وعدمها لا يحسد ولا يعادي ولا يشاحّ.

وثانيها: إستحقار الدنيا وأهلها إذا لم يفرح بوجودها ولم يحزن لعدمها.

وثالثها: تعظيم الآخرة، لما ينال فيها من الثواب الدائم الخالص من الشوائب.

ورابعها: الإفتخار باللّه دون أسباب الدنيا.

ويروى أن علي بن الحسين(عليهما السلام) جاءه رجل، فقال له: ما الزهد؟ فقال: «الزّهد عشرة أجزاء... وإن الزّهد كلّه في آية من كتاب اللّه: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ}(3)» وقيل (لبزرجمهر): ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات، ولا تفرح بما هو آت؟ فقال: إن الفائت لا يُتلافى بالعبرة، والآتي لا

ص: 151


1- الكافي 2: 132.
2- سورة الحديد، الآية: 23.
3- سورة الحديد، الآية: 23.

يُستدام بالخبرة...(1).

ولا بدّ للإنسان أن لا يربط مصيره بالصفات الزائلة، ولا يكون هدفه قريباً مشدوداً بأواصر الدنيا، حتى لا تنطبق الآية الكريمة عليه، ويكون مختالاً فخوراً كما جاء في ذيل الآية: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٖ فَخُورٍ}(2). لأن الفرح بما أعطاه اللّه تعالى منها، يؤدي إلى الإختيال والفخر.

ولكن الإنسان إذا ترك الخيلاء والفخر، وتوجَّه إلى اليقين، وزهد في الدنيا، يعلم أن ما أصابه مقدّر له لا محالة، وما أُوتي به من النعم وديعة عنده إلى أجل مسمّى، فلا يعظم حزنه لما فاته ولا يفرح لما أُوتي به، وقد يقع في مزالق تؤدي به إلى الخسران.

الخِلافة الهالكة

كتبوا في أحوال عبد الملك بن مروان: أنه كان عابداً زاهداً ناسكاً بالمدينة قبل الخلافة... وقال نافع: لقد رأيت المدينة، وما بها شابُّ أشدُّ تشميراً، ولا أفقه، ولا أنسك، ولا أقرأ لكتاب اللّه، من عبد الملك بن مروان...(3).

وكان عبد الملك يتأسّف من أعمال يزيد المشينة، وكان له حينئذٍ صديق يهودي كان قد أسلم، واسمه يوسف، وقد قرأ الكتب فضرب يوسف يوماً على منكب عبد الملك، وقال: اتّق اللّه في أمّة محمد إذا ملكتهم، فقال: دعني ويحك ماشأني وشأن ذلك؟ فقال: أتّق اللّه في أمرهم، قال: وجهَّز يزيد جيشاً إلى أهل مكّة فقال عبد الملك: أعوذ باللّه! أيبعث إلى حرم اللّه؟ فضرب يوسف منكبه، وقال: جيشك إليهم أعظم! وفعلا وجّه عبد الملك أثناء خلافته جيشاً بقيادة

ص: 152


1- تفسير مجمع البيان 9: 400.
2- سورة الحديد، الآية: 23.
3- سير أعلام النبلاء 4: 248.

الحجاج، أعظم من جيش يزيد... وقال ابن أبي عائشة: أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره، فأطبقه، وقال: هذا آخر العهد بك...

وعندما أدرك عبد الملك الموت، كان يتمنى أن يكون حمّالاً منذ ولادته إلى وفاته(1)،

ومن شعره:

فياليتني لم اعْنَ بالملك ساعة *** ولم ألهَ في لذّات عيش نواضرِ

وكنت كذي طمرين عاش ببلغة *** من الدهر حتى زار ضنك المقابرِ

ولقد إنزلق عبد الملك إلى تلك الهاوية التي حذّرنا اللّه تعالى منها، وهي الفرح والإختيال بما أوتي الإنسان من النعم، وهي مرتبطة بقدرة الخالق تعالى. لذا فإنّ الإختيال يوهن الإنسان، ويحرفه عن جادة العقل والصواب. ولامناصّ - حينئذٍ - إلّا بالتفكر في عواقب الأمور، والزهد في الحياة الدنيا... ومهما أُوتي الإنسان في هذه الدنيا فهو قليل؛ {قُلْ مَتَٰعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ}(2). وهل أُوتي شخص مثل ما أُوتي سليمان (عليه الصلاة والسلام)، حيث ملك الدنيا بما فيها من إنس وجنّ، وسُخّر له الريح والطير والوحوش، ثم زاده اللّه تعالى أحسن منها، حيث قال: {هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٖ}(3). فخاف سليمان(عليه السلام) على آخرته، فقال: {هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}(4).

قالوا في الدّنيا

ومن الواضح أنّ الذين خسروا الآخرة لم يفهموا حقيقة الدنيا ومعناها، فعملوا لها ولم يزهدوا فيها. ومن المعاني الرائعة في وصف الدنيا وبيانها وهوانها على

ص: 153


1- انظر تاريخ الإسلام 6: 141.
2- سورة النساء، الآية: 77.
3- سورة ص، الآية: 39.
4- سوره النمل، الآية: 40.

الأولياء الصالحين ما قاله رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مالي والدنيا، إنّما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب، مرّ للقيلولة في ظلّ شجرة، في يوم صيف، ثم راح وتركها»(1).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) «ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع»(2).

ففي حساب الزمن: لا تساوي الدنيا أمام الآخرة سوى لحظات، ولا قيمة لها سوى العمل الصالح.

ولقد عبّر الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بمعانٍ بلاغيّة عظيمة، تحتاج إلى تأمّل وتدبّر في كلامه، تصوّر الدنيا وحقيقتها، ومنها قوله: «واللّه لدنياكم هذه أهون في عيني من عُراق خنزير في يد مجذوم»(3). والعِراق أو العُراق هو من الحشا ما فوق السرة معترضاً البطن (الكرش)، وهو العظم الذي أُكل لحمه، وهو نوع من الديدان. فعلى جميع الوجوه؛ كيف تكون الصورة والحامل لها مصاب بمرض الجذام؟

وفي خطبة الإمام(عليه السلام) المعروفة بالشقشقية يقول: «ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»(4). وعفطة العنز: ما تنثره من أنفها... وأكثر ما يستعمل ذلك في النعجة.

الدّنيا والآخرة

ولو قابلنا ما جاء من بعض ما قيل في حقيقة الدنيا مع الحياة الآخرة، لم يبق أمام العاقل الراجي سبيل النجاة سوى الابتعاد عن ملذّات الدنيا وزخارفها،

ص: 154


1- بحار الأنوار 70: 119.
2- مشكاة الأنوار: 268.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 236.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3 ومن خطبة له(عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.

والاجتهاد في الزهد، والاكتفاء من العيش في هذه بما يساعده على بلوغ الآخرة؛ قال تعالى: {وَالسَّٰبِقُونَ السَّٰبِقُونَ * أُوْلَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّٰتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْأخِرِينَ * عَلَىٰ سُرُرٖ مَّوْضُونَةٖ * مُّتَّكِِٔينَ عَلَيْهَا مُتَقَٰبِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٖ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٖ مِّن مَّعِينٖ * لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَٰكِهَةٖ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٖ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَٰلِ اللُّؤْلُوِٕ الْمَكْنُونِ * جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1).

فلاشك أن العاقل يختار النعيم المقيم على النعيم الزائل، ولا يفرح ولا يحزن بما آتاه اللّه تعالى في هذه الدنيا. كما حصل على ذلك النعيم المقيم أولياء اللّه تعالى - وخاصة الأئمة المعصومون(عليهم السلام) بعد أن عاشوا حياة الزهد، لا لأجل الفوز الأخروي فقط، وإنما لاقتداء الأجيال القادمة بهم، وهدايتهم إلى الطريق القويم. فلذا كان باطنهم كظاهرهم لا يحمل شيئاً من المفارقة والغش، وكما جاء في الدعاء: «اللّهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك، الذين إستخلصتهم لنفسك ودينك، إذ إخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم، الذي لا زوال له، ولاإضمحلال بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة، وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقرّبتهم...»(2).

صلاح الباطن والظاهر

ومن الأمور المهمة في مسألة الزهد، هي مطابقة الظاهر للباطن أو بالعكس، لذا جاء في الدعاء المتقدم «بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا

ص: 155


1- سوره الواقعة، الآية: 10-24.
2- إقبال الأعمال 1: 295.

الدنيّة، وزخرفها وزبرجها». والزخرف والزبرج هما الزينة والغرور، بما يعمّ الظاهر والباطن. فإذا عاش الإنسان حياة الزهد الظاهري وباطنه يحمل نوايا مضادة لما يعيشه، ويريد بذلك الجاه والطمع والرياء فقد عاش زخرف الدنيا وزبرجها لمخالفته الباطن وهو كمن تراه يصوم ويصلي، ويحضر صلاة الجماعة، والتعازي، ويحج، ولكنه يحمل قلباً حسوداً وحقوداً، لا يعطف على الصغير ولا يساعد الفقير وما شابه. والبعض الآخر ترى لسانه يقطر عسلاً، وهو شيء جميل، ولكنه عند النائبات يكشّر عن أنيابه، ويظهر ما في قلبه من عداوة وبغض، كما في قول الشاعر:

أما الّلسان فمطلي به عسل *** أما القلوب زنابير وحيّات

أما المعصومون صلوات اللّه عليهم، وأولياء اللّه المخلصون فقد أصلحوا باطنهم قبل ظاهرهم، لأنه هو الأساس، وإذا سلم الباطن سلم الظاهر.

ومن وصية الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى كميل بن زياد، قال: «ياكميل ليس الشأن أن تصلّي وتصوم وتتصدّق، إنما الشأن أن تكون الصلاة فعلت بقلب تقي، وعمل عند اللّه مرضيّ، وخشوع سوي»(1).

وفي وصية الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر (رضوان اللّه تعالى عليه) يقول فيها: «يا أبا ذر إن اللّه تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»(2).

خير مقتدى

والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) خير مقتدىً لنا في هذا المجال. فقد كان خليفة

ص: 156


1- بشارة المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لشيعة المرتضى(عليه السلام): 28.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: 536.

المسلمين، ورئيساً على ما يقارب بحساب اليوم خمسين دولةً، ومع ذلك تراه(عليه السلام) يقول لأحد العراقيين، وهو الأصبغ بن نباتة: «دخلت بلادكم بأشمالي هذه ورحلتي، وراحلتي هاهي، فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت، فإنني من الخائنين!» وفي رواية: «يا أهل البصرة ما تنقمون مني؟ إنّ هذا لمن غَزْل أهلي» وأشار إلى قميصه(1).

وهذا الدرس من أعظم الدروس التي يجب على حكّام الإسلام أن يستفيدوا منها، للخروج من الامتحان الدنيوي بنجاح، وفضلاً عن الفوائد الدنيوية، من مواساة، وإزالة الفقر المنتشر بين المسلمين اليوم بسبب سرقة الثروات، والمحسوبيّات التي لا تعرف قانوناً ولا حدوداً، ولا ترعى إلاًّ ولا ذمّة.

وفي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام): «أن الامام على(عليه السلام) أراد أن يشتري قميصاً فقال لرجل: بعني ثوبين، فقال الرجل، صاحب الأقمشة، للإمام(عليه السلام): يا أمير المؤمنين عندي حاجتك، فلما أن عرف الإمام بأن صاحب الأقمشة يعرفه، إنصرف من محلِّه. فقال قنبر للإمام(عليه السلام): يا أمير المؤمنين لماذا لم تشترِ منه؟ فقال الإمام(عليه السلام): لا أريد الشراء من شخص يعرفني، فيحابيني على أني أمير المؤمنين ولا اُريد أن أجعل مقامي ومنصبي وسيلة وواسطة للوصول إلى الملذات. يقول قنبر: فلما مشينا قليلاً وصلنا إلى دكانٍ آخر فيه شابّ لم يعرف الإمام(عليه السلام)، فاشترى الإمام منه قميصين أحدهما بدرهمين والآخر بثلاثة، فأخذ القميص الذي قيمته درهمان لنفسه، وأعطى الآخر الذي قيمته ثلاثة دراهم لي،فقلت له: أنت أولى به تصعد المنبر وتخطب الناس، فقال(عليه السلام): أنت شابّ ولك

ص: 157


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 98.

شره الشباب، وأنا أستحيي من ربي أن أتفضل عليك...»(1).

هذا هو معنى الزهد، وهذا هو خط ومنهج الامام علي(عليه السلام)، والنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وسائر الأئمة المعصومين(عليهم السلام) فلا بدّ علينا أن نسير في هذا المنهج أيضاً، ولو أنّ فيه الكثير من الصعوبات، مثل محاربة الهوى، وميول النفس، وتقوية إرادة الإنسان، والصبر، لكي نكون زاهدين قلباً وقالباً.

تأثير الزّهد في المجتمع

ينقل عن أحد الباحثين، أنه ذهب الى أحد المصانع في ايران، زمن انتشار الشيوعية فيها، فلفت انتباهه أفراد ذلك المصنع من العمال وكان عددهم حوالي خمسمائة شخص، لم يتأثروا بالغزو الشيوعي - لأن أفكار الشيوعية كانت تبث في أوساط العمال - وكانوا يعيشون حالة الإيمان والصلاح والأخلاق الإسلامية الرفيعة، فأخذ يبحث عن السبب فتوصل إلى حقيقة، وهي أن عمّال هذا المصنع من المتمسّكين بالمرجعية، ولا يعصون لها أمراً. فسأل العمّال: من هو مرجعكم وعالمكم الذي ترجعون إليه في أمور دينكم؟ فقالوا له: إنه فلان، قال: فذهبت إلى بيت ذلك العالم، بعد أن أخذت العنوان، لكي أرى حياته المعاشية من قريب، فلما دخلت في بيته رأيت بيته صغيراً جداً، وليس فيه أثاث إلّا النادر، فكان هذا العالم يعيش في منتهى البساطة، والشيء الذي جلب نظري أكثر أنه قدَّم لي قدراً وقد صنع فيه لي شيئاً من الشراب وإعتذر لي، وقال: يا أخي العزيز، أعتذر لعدم امتلاكي للكأس الجيد، لأني فكّرت أني لا أحتاج إلى ذلك، وقلت: بدل أن أشتري الأقداح والكؤوس، أعطي ثمنها للفقراء. عندها أدركت بأن هذاالشخص بسبب امتلاكه للقلب المملوء بالزهد والإيمان. استطاع أن يكسب

ص: 158


1- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 97.

القلوب ومنهم عمّال ذلك المعمل، وأن يربيهم تلك التربية الإسلامية الصالحة وذلك لأن أعمال الإنسان وتصرفاته لها تأثير كبير جداً. فالناس عادة ينظرون ويتوجهون إلى الرجل الصادق في أعماله وسلوكه، فهم ينظرون ويقتدون بالأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، ولا ينظرون إلى أبي جهل ومعاوية وهارون والمنصور وصدام وغيرهم، وهكذا الأمر بالنسبة لرجل الدين، فالناس ينظرون إلى أعماله جيداً، فإذا كانت صالحة فسوف يقتدون به، وإلّا فإن كلامه لا يُسمع. لذا يجب أن نجعل قلوبنا زاهدة، بالإضافة إلى ظاهرنا، وهذا الأمر ليس بهيّن، لأنه يتطلب أن نبذل مجهوداً كبيراً لترويض أنفسنا، وتنزيهها عن الآهواء والمغريات، وتحبيبها لأعمال الخير والطاعة والعبادة، من قبيل صلاة الليل وأداء النوافل اليومية، بالإضافة إلى البكاء والتضرع للّه سبحانه وتعالى بصورة مستمرة، والمداومة على ذكره جلّ وعلا، وهكذا نذكر الموت ولا نهتم بأمور الدنيا. كل ذلك من أجل ترويض النفس وكبح جماحها، والارتقاء بها نحو مقامات الأخيار والزاهدين، الذين يرون الدنيا على حقيقتها، فيتعاملون معها ومع زخارفها من هذا المنطلق، مصداقاً لما قال اللّه تعالى في كتابه: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٖ فَخُورٍ}(1).

اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، «إلهي فزهِّدنا فيها، وسلِّمنا منها بتوفيقك وعصمتك، ... وتوَّل أمورنا بحسن كفايتك، ... وأخرج حُبَّ الدنيا من قلوبنا، كما فعلت بالصالحين من صفوتك، والأبرار من خاصَّتك، برحمتك يا أرحمالراحمين، ويا أكرم الأكرمين» بحق محمد وآله الطاهرين(2).

ص: 159


1- سورة الحديد، الآية: 23.
2- زاد المعاد: 417.

من هدي القرآن الحكيم

من علامات الزهد
العبودية للّه عزّ وجلّ فقط

قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}(1).

وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ إِلَٰهًا وَٰحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(3).

وقال جلّ شأنه: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ}(4).

الاهتمام للآخرة

قال عزّ اسمه: {وَلَدَارُ الْأخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْاْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَلَلْأخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}(6).

وقال سبحانه: {وَإِنَّ الدَّارَ الْأخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(7).

وقال تعالى: {وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(8).

تحقير الدنيا

قال عزّ وجلّ: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا}(9).

ص: 160


1- سورة فاتحة، الآية: 5.
2- سورة التوبة، الآية: 31.
3- سورة يوسف، الآية: 40.
4- سورة مريم، الآية: 36.
5- سورة يوسف، الآية: 109.
6- سورة الإسراء، الآية: 21.
7- سورة العنكبوت، الآية: 64.
8- سورة الأعلى، الآية: 17.
9- سورة البقرة، الآية: 212.

وقال جلّ شأنه: {قُلْ مَتَٰعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}(1).

وقال عزّ اسمه: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}(2).

وقال جلّ وعلا: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا}(3).

محاربة النفس وهواها

قال سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ}(4).

وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}(5).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ}(6).

وقال عزّ اسمه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

من علامات الزهد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفضل الناس من عشق العبادة، فعانقها، وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده وتفرَّغ لها، فهو لا يُبالي على ما أصبح من الدنيا، على عُسرٍ أمعلى يُسرٍ»(8).

ص: 161


1- سورة النساء، الآية: 77.
2- سورة الأنعام، الآية: 32.
3- سورة لقمان، الآية: 33.
4- سورة الأنعام، الآية: 119.
5- سورة القصص، الآية: 50.
6- سورة ص، الآية: 26.
7- سورة النازعات، الآية: 40-41.
8- الكافي 2: 83.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أفضل العبادة الزَّهادة»(1).

سُئل الإمام الباقر(عليه السلام) أيّ العبادة أفضل؟ فقال: «ما من شيء أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ من أن يُسأل ويُطلب مما عنده»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «في التوراة مكتوب: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، ولا أكلك إلى طلبك، وعليَّ أن أسُدَّ فاقتك»(3).

الاهتمام للآخرة

وقال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مَن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همّه جعل اللّه الغِنى في قلبه وجمع له أمره ولم يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «صلاحُ الآخرةِ رفض الدنيا»(5).

وقال(عليه السلام): «مَن جعل كلَّ همِّه لآخرته ظَفَرَ بالمأمول»(6).

وقال(عليه السلام): «مَن حَرَصَ على الآخرة مَلَكَ»(7).

تحقير الدنيا

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيها الناس: هذه (الدنيا) دار نزح لا دار فرح، ودارالتواء لادار استواء، فمن عرفها لم يفرح لرجاء ولم يحزن لشقاء»(8).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا دُنيا يا دُنيا، إليك عنّي... فعيشُك قصير، وخَطَرُكِ

ص: 162


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 187.
2- مكارم الأخلاق: 268.
3- الكافي 2: 83.
4- تحف العقول: 48.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 417.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 620.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 616.
8- أعلام الدين: 343.

يسير، وأمَلُكِ حقير...»(1).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «... فإنها (الدنيا) المُهلكة طلّابها، المتلِفَة حُلّالها، المحشُوَّةُ بالآفات، المشحونة بالنكبات»(2).

وقال الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليهما السلام): «يا هشام: ... ومَن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته»(3).

محاربة النفس وهواها

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المجاهد مَن جاهد نفسه في طاعة اللّه عزّ وجلّ»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «مَن أطاع هواه هلك»(5).

وقال(عليه السلام): «مَن غَلَبَ هواه على عقله ظَهَرَت عليه الفضائح»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من إتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم»(7).

ص: 163


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 77.
2- زاد المعاد: 417.
3- الكافي 1: 18.
4- المحجة البيضاء 5: 115.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 576.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 631.
7- الكافي 2: 335.

العزوف عن الترف

السمو الحقيقي

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو»(1).

يتصور البعض أن الركون إلى الأمور المادية يزيد الإنسان عزّةً وشرفاً ومنعةً وقوةً وسلطاناً، على الرغم من أن نصوص القرآن والسنّة مستفيضة في بيان هذا المعنى، وكشف القناع عن حقيقة الرقي الإنساني والسمو الروحي، وأن الدنيا وجميع متعلقاتها إنما هي عرض زائل في معرض التلف والتبدّل، وإنما يكمن نجاح الإنسان وتقدمه في الجانب المعنوي، وما الأمور المادية الّا سبب للوصول إلى عالم المعنويات التي إهتم بها الدين كثيراً، والإنسان الحضاري هو ذلك الإنسان الذي يحمل أكبر قدر ممكن من الملكات الخيّرة، والصفات الحميدة، والسلوك المتوازن. وكلما كان الإنسان بعيداً عن منطق الظلم والعنف، كان أكثر تحضراً، وأشد تسامياً، وأرقى درجةً. فالإسلام يرى أن سمو البشر إنما هو في تقدمهم وتفوقهم الأخلاقي وارتفاع رصيد ملكات الخير فيهم، وبقدر ما يكون المجتمع عادلاً يكون أقرب إلى التقدم والرقي والخلود.

وعادة هذا المعنى لا يتحقق في الأجواء الفارهة والثريّة، وإنما تتحقق وتتفجر

ص: 164


1- الكافي 2: 130.

ملكات الإنسان في الأجواء المتوسطة أو المسحوقة. ولذلك أكد الدين الإسلامي على حالة التواضع والبساطة في التصرف والعيش، لأن حالة الثراء والكبر والترف تمنع الإنسان من التقدم، بل تقف حائلاً دون رقيّه وتنامي رصيده الروحي. أما حالات التواضع والزهد والبساطة واللين فهي تجعل الإنسان حريصاً على الآخرين، خدوماً للناس، معيناً للضعفاء، مما يرقّق قلبه، ويطهر ضميره، وينظف دواخله. ولذلك جاء في إحدى الروايات عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى موسى(عليه السلام) أن: يا موسى أتدري لم اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال: يا رب ولم ذاك؟ قال فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليه أن: يا موسى، إني قلّبت عبادي ظهراً لبطن فلم أجد فيهم أحداً أذلّ لي نفساً منك. يا موسى، إنك إذا صلّيت وضعت خدّك على التراب»(1).

بل إننا لو تتبعنا أحوال الأنبياء لرأيناهم جميعاً يمتازون بصفة التواضع والبساطة والاهتمام بالناس وليس الأنبياء فحسب، بل الأولياء والأوصياء. وحتى العلماء المفكرون لو تفحصنا أحوالهم لرأينا آثار الزهد واضحة وطاغية عليهم. فبالزهد وبالابتعاد عن زخارف الدنيا، سوف يكون هناك متسع من الوقت والعمر، للتفكير والعمل والجدّ والإجتهاد والتكامل.

فوائد العزوف عن الترف

اشارة

لا يخفى أن العزوف عن الدنيا، أو بالأحرى عن حياة الترف يوفر للإنسان رصيداً عظيماً من الفوائد. ولا بأس بذكر شطر من هذه الفوائد الجليلة:

الفائدة الأولى

إن الجري وراء زخارف الدنيا؛ من بيت فاره أو مركب حديث أو ملبس جديد

ص: 165


1- الكافي 2: 123.

أو مأكل متنوع، كل ذلك يأخذ وقتاً ليس بالهيّن، وعمراً ليس بالقصير، باعتبار أن هذه الأمور لا تتحقق في يوم وليلة، وباعتبار أن طبيعة الإنسان لا ترضى بواحدة منها بل تظل تطلب أكثر من ذلك، وهكذا حتى ينتهي به العمر ولم يقدم لآخرته شيئاً.

إذن، ترك الركض وراء الحالات المترفة يوفر للإنسان متسعاً من الوقت، فيه يعمل ويفكر ويعبد، وإلّا فإن السعي المستمر اللاعقلائي وراء الثراء وطلب الرفاهية سوف يجعل من الإنسان آلة تحركه المباهج والزخارف والملذات، ويمضي وقت من بين يديه دون أن يشعر إلّا حين الموت. يقول أمير المؤمنين(عليه السلام)، في وصف حال هذا الإنسان: «فإنها - الدنيا - واللّه عمّا قليل تزيل الثاوي(1) الساكن، وتفجيع المترف الآمن... سرورها مشوب بالحزن وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن، فلا يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها»(2). ثم يذكر(عليه السلام) العلاج لهذا المرض، وطريقة التخلص منه، يقول: «رحم اللّه امرءً تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر، فكأن ما هو كان من الدنيا عن قليل لم يكن...»(3).

إذن التفكير السليم في الأجواء التي يحكمها العقل يصل بالإنسان إلى حقيقة هذه الزبارج الدنيوية الزائلة.

ولا يتأتى هذا النوع من التفكير إلّا حين يكون الإنسان في وضع يسمح له بذلك، ولا يكون ذلك أيضاً إلّا عندما يكون الإنسان بعيداً عن حالات الترف والركض وراء الدنيا وزخارفها، لكي لا تأخذ وقتاً وعمراً منه، ولا تشغل حيّزاً من

ص: 166


1- الثاوي: المقيم.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 103 ومن خطبة له(عليه السلام).
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 103 ومن خطبة له(عليه السلام).

عقله. أما العيش بصورة معتدلة أو بسيطة وهو المعبر عنه بحياة، فكل ذلك الزهد يجعل من الإنسان خلّاقاً في أفكاره، لأنه أولاً سيجد وقتاً واسعاً للتفكير، وسيجد العناية الإلهية التي تفيض عليه بالتسديد في الأفكار والأعمال، بعكس الإنسان طالب الدنيا ومتعلقاتها.

الفائدة الأولى إذن هي أن الحياة البسيطة تغني الإنسان من ناحية الوقت، ومن خلاله يتصل الإنسان باللّه عزّ وجلّ، أو لا أقل من أن يشغله ذلك بالتفكير المثمر.

الفائدة الثانية

إن مجانبة الدنيا وزخارفها المترفة تجعل من الإنسان قريباً من اللّه عزّ وجلّ، وقريباً من الناس، لأن الإنسان الذي يكتفي باليسير من حطام الدنيا، ويقنع بالقليل، سوف يساعده هذا السلوك على الانقطاع للّه عزّ وجلّ، لأن قلبه سوف لا يتعلق بشيء من حاجيات الدنيا، بل يظل الفؤاد والفكر مشغولين بذكر اللّه مما يقربه أكثر فأكثر من ربّه، ويكون وليّاً من أوليائه. لأن الإنسان إنما يبتعد عن طريق الهداية، لأجل تعلق قلبه بالأمور الدنيوية، فتحتل منه أكبر مساحة، فلا يبقى مجال لذكر اللّه وعبادته ثم إن الإنسان البسيط في عيشه غير المتكلف في سلوكه وكلامه وتعاملاته مع الناس يكون قريباً جداً من قلوبهم، لأنه يكون قد حافظ على سلامة فطرته، والناس عادة يميلون إلى هذا النموذج من البشر، لأنه موافق لفطرتهم، ولذلك نرى أن الناس في الأعم الأغلب تلتف حول القائد المتواضع البسيط العيش، البعيد عن الترف والثراء. والتاريخ مليء بالشواهد على ذلك. وأبرزها رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وأمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمة من بعده(عليهم السلام) فقد كانوا قمّة التواضع والبساطة ولذلك التفّ حولهم الناس وأذعنوا لهم، بما فيذلك حتى أعداؤهم.

ص: 167

إذن كلما ابتعد الإنسان عن الترف كان قريباً من اللّه وقريباً من قلوب الناس، لأنه الوحيد الذي يتحسس آلامهم ومعاناتهم، فيضحي من أجلهم، ويدافع عن حقوقهم، بعكس الغني المترف الذي لا تهمه سوى نفسه، لذلك كان بعيداً عن قلوب الناس، ومحارباً حتى من قبل الشريعة.

بالطبع كلامنا يدور حول الغني الجاحد لحقوق اللّه والناس، أما الغني المؤمن المؤدي لحقوق اللّه تعالى وحقوق الناس فكلامنا لا يشمله، وهذا واضح لذوي البصائر.

الفائدة الثالثة

يمكن القول: إن الذي يقضي حياته بالبساطة بعيداً عن المترفات وحالات الثراء والترف، هو الإنسان الذي يعرف معنى الحرية بصورة تامة، لأنه سوف يتخلص من كل القيود التي من شأنها أن تذله، أو تعيقه عن الحركة، أو التفكير، أو العمل، من قبيل قيود الشهوات النفسانية غير المنقطعة التي تدفع بالانسان نحو المهالك، وتجرّه إلى المطبات وتعكّر صفو العيش عنده، وتسوّد صفحاته النورانية.

وأوضح مثال في هذا المقام هو عمر بن سعد، قاتل الحسين(عليه السلام)، عندما ضغطت عليه رغباته وميوله اللامنتظمة، ففضّل قتل سيد الشهداء إجابة لتلك الرغبات الحقيرة في الحصول على ملك الريّ... فلم يحصل على ملك الري، ولم يكن من أهل الجنة، فاشترى الحريق برغباته التي قيّدته، وقادته نحو النار.

وعلى العكس من ذلك، عندما نلاحظ سيرة الرسول والأئمة(عليهم السلام) أو أصحابهم المنتجبين، أمثال: مالك الأشتر، وأبي ذر، وهشام، وعمّار، ومؤمن الطاق، ورشيد الهجري، الذين خلّدتهم كتب الطائفتين. وعندما نبحث عن السبب نجد أنمقدمتهم الأساسيه والرئيسية هي الرضا بالقليل من الدنيا، ومجانبة الثراء والغنى

ص: 168

والترف، بل كانوا يزهدون في حياتهم ترويضاً لأنفسهم، وتنظيماً لرغباتهم. فكلما تخلّص وتحرر الإنسان من القيود قويت الإرادة والإيمان في المقابل، وازدادت في التقوى رسوخاً. وعن إمامنا الصادق(عليه السلام) قال: «جعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا». ثم قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا».

ثم قال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن في طلب الدنيا إضراراً بالآخره، وفي طلب الآخرة إضراراً بالدنيا، فأضروا بالدنيا فإنها أولى بالإضرار»(2). ولكن عادة الجهال وطلاب الدنيا جرت على أن يعكسوا المعادلة، فيضروا بآخرتهم لأجل دنياهم، فهم على طرفي نقيض مع الزهاد والناس العقلاء.

شُريك والعروض الثلاثة

شُريك بن عبد اللّه النخعي كان عالماً تقياً زاهداً، وهو من أبناء العامة في زمن المهدي بن المنصور العباسي. وكانت الناس ملتفة حوله لزهده وعلمه وتقواه. وفي نفس الوقت كان المهدي العباسي يرغب لو أنّ شريكاً يقبل العمل في أحد أجهزة الدولة، ليكسب بواسطته الرأي العام، والتحاق الناس بركب الخليفة. وفي أحد الأيام أرسل خلفه، وقال له: لا بدّ لك أن تقبل هذه الثلاثة: أن تعمل قاضياً للقضاة، أو تربّي وتعلم أولادي، أو تكون مشاوراً لي. فأبى شريك كل ذلك، وفكّر إن هوتعاون مع الخليفة، فسوف يسقط أولاً من رحمة اللّه عزّ وجلّ لما اشتهر عن

ص: 169


1- الكافي 2: 128.
2- الكافي 2: 131.

الخلفاء العباسيين من الظلم وإراقة الدماء، ويسقط ثانياً من أعين الناس، ويفقد ذلك الإجلال والإكرام. ولذلك فقد رفض كل مطالب المهدي العباسي، إلّا أن الخليفة حاول كسبه بغير هذه الطريقة، فدعاه إلى مائدة طعام، وأمر الخدم بأن يحضروا كل ما لذّ وطاب، وكل ما يلفت النظر، ويدغدغ الشهوة. وفعلاً حضر شريك، وتفاجأ بالأمر، لأنه لم يذق هذه الأطعمة طيلة حياته، ولعله لم ير بعضها. فبدأ شريك يأكل بكل شهية، وانفتح على المائدة، فلما شاهده رئيس الخدم، وهو يأكل بهذه الطريقة، جاء إلى الخليفة وهمس في اُذنه قائلاً: إن شريكاً لم يردّ لك طلباً بعد الساعة. فلم يمض من الوقت كثيراً بعد وجبة الطعام الفاخرة، حتى قال شريك للخليفة: في الحقيقة إني فكرت في اختياركم لي منصب قاضي القضاة فرأيته في محله، لأن القضاة غالباً من يظلمون، ثم إن المظالم كثيرة، فلا بدّ أن يتصدى للأمر رجل عادل وشجاع، وكذلك فكرت في مسألة تربية أولادكم فرأيت الأمر أكثر أهمية، إذ أن تربيتهم على يد العلماء الزّهاد يضمن للأمة مستقبلها، وكذا فكرت في أمر اختياركم لي مشاوراً لكم فرأيت أنه أمر ضروري لأن رسول اللّه قال: «الدين النصيحة»(1)، ومشاورتكم لنا يضمن سلامة السلوك عند الخليفة، وبهذه التبريرات دخل شريك إلى جوف الدنيا، وجذبته زينتها وبروقها، وليس هذا فحسب وإنما صار عوناً من أعوان الظلمة وقيل سبب استجابته لتلك المطالب هو: تأثير لقمة الحرام مضافاً إلى ما ذكر.

ثم إن المهدي العباسي عيّن له ثلاثة رواتب، لكل عمل راتب خاص. وفي أحد الأيام حدثت بين شريك والمتصدي لتوزيع المال مجادلة بسبب تأخره عندفع الرواتب لشريك، فقال له المتصدي للتوزيع: إنك يا شريك لم تبع لنا حنطة

ص: 170


1- روضه الواعظين 2: 424.

حمراء كي تصرّ وتلحّ علينا بالاسراع. فقال شريك: بل بعث لكم أكبر من ذلك... لقد بعت لكم ديني(1)! وبالفعل فلقد باع كل أيام الزهد والورع حين حضر تلك المائدة، ورضي بالعمل مع الخليفة، مع علمه بالظم، مما يدلل على أن زهادته وورعه وتقواه كلها كانت سطحيّة وقشرية، تميل أينما مالت مصالحه الشخصية. وهذا حال من لا يعرف الدين حق معرفته، فكثير من الناس تفهم الدين طقوساً لا أكثر... فهي لا تفهم أن الدين المعاملة، وأن الدين النصيحة، وأن الدين السلوك المتوازن، وأن الدين الإنسانية. فعبادة شريك كانت طقوساً بلا روح، وشكلاً بلا معنى أو مضمون.

كيف ينظر الإسلام إلى الدنيا

لا يخفى على كل إنسان ما أودعه اللّه عزّ وجلّ في هذه الدنيا من نِعَم - فضلاً عمّا أودعه في ذات الإنسان من نِعَم - وزينة لا تعد ولا تحصى، كما قال هو عزّ وجلّ: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}(2)، من مأكول ومشروب ومركوب وملبوس وثروات هائلة...

فلا يعقل أن اللّه عزّ وجلّ خلق كل هذه النعم في هذه الدنيا، ثم يأمر الناس بالابتعاد عنها، أو أن الإسلام يطلب من المسلم أو من الإنسان أن يبتعد عن زينة الدنيا، فإذا كان ذلك فلمن جعلت هذه الزينة؟ ومن الذي سوف يتمتع بمتع الدنيا؟ وقطعاً إن وجودها ليس عبثاً فكيف يمكن التوفيق في ذلك؟

لا شك أن الدنيا ليست هي الغاية من الخلق، ولا هي المكان الختاميللإنسان، وإنما هي وسيلة وسبب موصل إلى عالم آخر، وهو المكان النهائي

ص: 171


1- انظر مروج الذهب 3: 31.
2- سورة ابراهيم، الآية: 34.

لاستقرار الإنسان، فكانت الجنة التي تمثل كمال الإنسان هي النهاية له، وعلى الإنسان أن يعمل في دنياه وصولاً إلى مقعده النهائي، ولكن المفارقة في الأمر أن الناس نوعان:

النوع الأول: هم أولئك الذين عرفوا حقيقة الدنيا، وكان ظاهرها كباطنها بالنسبة إليهم، فعلموا ما بوسعهم في هذه الدنيا ضماناً لآخرتهم، ولم يخدعهم بريقها، لأنهم علموا أنها دار تبدل وتغير، ولا شيء ثابت فيها، فعزفوا عنها، لأنه عادة الإنسان إنه يحب الأمور المستقرة الثابتة، لا سيما مصالحه. فهؤلاء رأوا أن الآخرة هي المستقر الحقيقي، وأن الدنيا في معرض الزوال والفناء، ففضلوا الصبر على مكاره الدنيا من أجل الآخرة.

النوع الثاني: هم الناس الذين أدركوا حقيقة الدنيا والآخرة، ولكنهم فضلوا النعم الآنية، والمتع الدنيوية على نعيم الآخرة، فتعلّقوا بالمقدمات والأسباب على نحو الدوام. وهذا ناتج من أمرين: إما لجهلهم وغفلتهم وانغماسهم في الماديات، فعموا عن الرؤية الصحيحة والتفكير السليم، أو لأنهم يعلمون أن هذه الدنيا مقدمة وسبب ليس بدائم، وأن نعيمها زائل. ولكن حبهم للمادة وغلبة شهوتهم على عقلهم دعاهم لذلك. فالإسلام يرى أن الدنيا ونعيمها يجب أن يلاحظهما الإنسان من زوايتين:

الأولى: من حق كل إنسان أن يأخذ من هذه الدنيا ما يكفيه ويسدّ حاجته، وما يكمله ويقربه من ربه، من مأكل يتقوّى به على العبادة، والعمل وخدمة الناس، ومن ركب يقضي به حاجته، ومن مسكين يحفظ فيه نفسه.

الثانية: أن هذه النعم وهذه الدنيا كلها بمثابة الوسيلة والفرصة، التي يهددها الفناء، فيجب على الإنسان أن لا ينخدع بها فيتمسك بها، ويتعلق بها على نحوالدوام والتأبيد، لأنه سيفقد آخرته (الجنة) باعتبار أن الحصول على الجنة مرهون

ص: 172

بالعمل الصالح والعبادات والطاعات، وبينما التعلق الدنيوي يحول دون ذلك. يقول مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) في صفة الدنيا: أنها «تغرّ وتضرّ وتمرّ، إن اللّه تعالى لم يرضها ثواباً لأوليائه، ولا عقاباً لأعدائه، وإن أهل الدنيا كركب بَيْناهم حلّوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا»(1)

الدنيا... وأهل البيت(عليهم السلام)

المعروف من سيرة أهل البيت(عليهم السلام) أنهم أعرضوا عن كل ألوان الترف في هذه الدنيا، واختاروا جانب الزهد والبساطة في كل شيء... ولكنهم وضعوا أمراً شديد الأهمية، وهو الفكر الوقاد، فطرحوا الأفكار الإسلامية، بكل جلاء، ولم يتركوا أمراً إلّا قالوه، وتكلموا عنه، مما دعا الناس للالتفات حولهم باعتبارهم المنظّرين لنجاة البشرية جمعاء سلوكاً ونظراً، فوضعوا طرائق النجاة من غوائل هذه الدنيا وزخارفها، ورسموا طريق الوصول إلى اللّه عزّ وجلّ. وعظمة أهل البيت في هذا المجال (مجال انتشال البشرية) تظهر يوماً بعد يوم. ولذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها(2)

عطف الضروس(3) على ولدها». ثم تلا قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَٰرِثِينَ}(4)(5) وهذا واضح من خلال ما ثبت عند الفريقينحول خروج الإمام المهدي(عليه السلام)، من ولد فاطمة(عليها السلام)، وانقياد العالم له، وإقامة الحكومة الإسلامية العالمية. فكلما ابتعد الإنسان عن الدنيا انقادت له، وبالعكس كلما

ص: 173


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 415.
2- الشِماس: امتناع ظهر الفرس من الركوب.
3- الضَرُوس: الناقة السيئة تعض حالبها أي: إن الدنيا ستنقاد لنا بعد جموحها وتلين بعد خشونتها.
4- سورة القصص، الآية: 5.
5- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 209.

ركض المرء وراء المترفات الدنيوية ازداد ركضاً دون أن يشبع منها، ودون أن يحقق غايته منها. فأئمتنا(عليهم السلام) كانوا أبعد الناس عن الدنيا ولكن ذلك لم يزدهم إلّا علّواً وشرفاً ومكانة ومجداً. فهذه السيرة العطرة تكشف عن واقعية وحقيقة، لا يمكن لأحد أن يدعي خلافها، بل نحن نرى اليوم من شيوع الاتجاه المادي، المتعلق بكل ألوان المترفات الدنيوية، فكلما ازاد الناس تمسكاً بالدنيا وزخارفها ازدادت مشاكلهم، وقلّت مكانتهم، وهووا إلى الحضيض.

وبالعكس نشاهد المجتمعات المؤمنة، المحافظة على علاقتها مع اللّه، المتزنة في تعاملها مع الدنيا والماديات، كم هي ثرية بعلمها وأخلاقياتها ومكانة أفرادها وتقدم حضارتها... .

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولةٍ كريمة. تُعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة» بحقّ محمّد وآله الطاهرين(1).

من هدي السنّة المطهّرة

التواضع

قال تعالى: {... وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}(2).

وقال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا...}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٖ فَخُورٖ}(4).

ص: 174


1- الكافي 3: 424.
2- سورة الحجر، الآية: 88.
3- سورة الفرقان، الآية: 63.
4- سورة لقمان، الآية: 18.
الزهد

قال جلّ وعلا: {... لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَٰبَكُمْ}(1).

وقال عزّ اسمه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(2).

وقال جلّ شأنه: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ...}(3).

العمل للآخرة

قال عزّ من قائل: {وَلَدَارُ الْأخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْاْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(4).

وقال جلّ ثناؤه: {وَإِنَّ الدَّارَ الْأخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(5).

وقال تعالى: {... وَإِنَّ الْأخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}(6).

وقال سبحانه: {وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(7).

لا للدنيا

قال عزّ وجلّ: {... وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}(8).

وقال جلّ وعلا: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ...}(9).وقال عزّ اسمه: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ

ص: 175


1- سورة آل عمران، الآية: 153.
2- سورة طه، الآية: 131.
3- سورة الحديد، الآية: 23.
4- سورة يوسف، الآية: 109.
5- سورة العنكبوت، الآية: 64.
6- سورة غافر، الآية: 39.
7- سورة الأعلى، الآية: 17.
8- سورة آل عمران، الآية: 185.
9- سورة الأنعام، الآية: 32.

بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَٰحُ}(1).

وقال جلّ شأنه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَئًْا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

التواضع

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما تواضع أحد إلّا رفعه اللّه»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن(عليه السلام): «وأوصيك يا بني... والتواضع فإنه من أفضل العبادة»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «التواضع أصل كل خير نفيس ومرتبة رفيعة...»(5).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «التواضع نعمة لا يُحسد عليها»(6).

الزهد

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما يعبد اللّه بشيء مثل الزهد في الدنيا»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزهد أصل الدين»(8).وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «... ومن زهد في الدنيا هانت عليه مصائبها

ص: 176


1- سورة الكهف، الآية: 45.
2- سورة لقمان، الآية: 33.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 56.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 221.
5- بحار الأنوار 72: 121.
6- تحف العقول: 489.
7- عدة الداعي: 121.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 35.

ولم يكرهها»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الزهد مفتاح باب الآخرة، والبراءة من النار، وهو ترك كل شيء يشغلك عن اللّه تعالى، من غير تأسف على فوتها، ولا إعجاب في تركها، ولا انتظار فرج منها، ولا طلب محمدة عليها، ولا غرض لها...»(2).

العمل للآخرة

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل اللّه الغنى في قلبه وجمع له أمره ولم يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عجبت لمن عرف ربه كيف لا يسعى لدار البقاء»(4).

وقال(عليه السلام): «مَن جعل كل همّه لآخرته ظفر بالمأمول»(5).

وقال(عليه السلام): «من حرص على الآخرة ملك»(6).

لا للدنيا

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ومن أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل اللّهالفقر بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولم ينل من الدنيا إلّا ما قسم له»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أما بعد، فاني اُحذركم الدنيا، فانها... غرّارة ضرّارة،

ص: 177


1- تحف العقول: 281.
2- مصباح الشريعة: 137.
3- تحف العقول: 48.
4- عيون الحكم والمواعظ: 329.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 620.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 616.
7- تحف العقول: 48.

حائلة(1) زائلة، نافِدَة بائدة، أكّالة غَوّالة(2)»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «في مناجاة موسى(عليه السلام): يا موسى إن الدنيا دار عقوبة، عاقبت فيها آدم عند خطيئته وجعلتها ملعونة، ملعون ما فيها إلّا ما كان فيها لي...»(4).

وقال عيسى بن مريم(عليهما السلام): «يا بني آدم اهربوا من الدنيا إلى اللّه... هي الخدّاعة الفجّاعة، المغرور من اغتر بها، المفتون من اطمأنّ إليها، الهالك من أحبها وأرادها...»(5).

ص: 178


1- حائلة: متغيرة.
2- غوّالة: مهلكة.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 111 من خطبة له(عليه السلام) في ذم الدنيا.
4- الكافي 2: 317.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: 555.

حبّ الدنيا

رأس كل خطيئة

اشارة

ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «رأس كل خطيئة حبّ الدنيا»(1).

بمعنى أن حبّ الدنيا هو مصدر جميع الخطايا والشرور، بما في ذلك جريمة الانتحار التي يقدم عليها أُناس هم أشد وأعظم تعلّقاً بالدنيا من غيرهم، فتراهم يقدمون على الانتحار عندما يعجزون عن تحقيق أحلامهم والحصول على أمانيهم وبهذا فهم لا يختلفون كثيراً من هذه الناحية عن الأشخاص الذين يظلمون الآخرين بدافع حبّ الدنيا وتأمين مصالحهم وملذاتهم الدنيوية. ومهما يكن من أمر، فإن المعاصي برمّتها ترجع أسبابها إلى حبّ الدنيا إلّا ما ندر. وخصال الشرّ مطويّة فيها سواء كانت الدنيا متمثلة في الأموال أو الجاه أو الزوجة أو الأولاد أو ما أشبه ذلك، على أنه ينبغي التذكير بأنه ليس كل حبٍّ للدنيا منبوذاً، بل إن الضارّ هو الذي يكون رأس كل خطيئة وهو المرفوض، أما حبّ الدنيا الخالي عن الضرر فلا إشكال فيه. فلا بأس بحبّ الدنيا بمقدار لا يخرج الإنسان عن جادة الصواب، ويسقطه في المحرمات، كحبّ الزوجة بلا قيد أو شرط. ولا ضرر ولا إشكال في أن يطمح الإنسان إلى الغنى لأجل مساعدة الناس المحتاجين، وهكذا حبّ الجاه الذي يستطيع الإنسان من خلاله خدمة الناس

ص: 179


1- الكافي 2: 315.

وتسهيل أمورهم. أي إنه يجعل الدنيا قنطرة يعبر بها إلى الآخرة، وإلى هذا يشير نبي اللّه المسيح(عليه السلام) للحواريين بقوله: «إنما الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها»(1). وعلى أية حال فما هو ذلك الحب الذي يكون رأس كل خطيئة؟ وفي معرض الإجابة نورد أمثلة لبعض أنواع ذلك الحب الممنوع، كمن يطمح إلى السلطة بوسائل غير مشروعة مرتكباً في سبيل الوصول إليها شتى الجرائم والمنكرات أو كمن يريد أن يكون غنياً فيجيز لنفسه اتباع الوسائل الباطلة من غشّ أو احتيال وغير ذلك وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من سلم من أمتي من أربع خصال فله الجنة: من الدخول في الدنيا، واتّباع الهوى، وشهوة البطن، وشهوة الفرج»(2).

دار القَرار

ومن الأمور التي بسبّبها يسقط الإنسان في حبّ الدنيا الضار كاتباع الأساليب الملتويه للوصول إلى ما يطمح إليه، أو إشباع شهواته، وارتكاب المحرمات؛ أنه يتصور أن الدنيا باقية لا زوال لها، أو أن الآخرة بعيدة جداً، كما في قوله تعالى: {يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا}(3). والحال أن الدنيا فانية، ومتاعها قليل، والآخرة قريبة، إذ أن الإنسان مهما بلغ به العمر فلا يتجاوز المائة سنة على أبعد التقادير إذ أن معدّل الأعمار في الوقت الحاضر لا يتجاوز الستين أو السبعين سنة، وإن كانت هناك أعمار تتجاوز المائة فهي قليلة، وعلى كل التقادير فإن هذه الدنيا زينة كاذبة لمن عمل لأجلها، وليست دار قرار. وكما جاء في قوله تعالى: {اعْلَمُواْ أَنَّمَا

ص: 180


1- الخصال 1: 65.
2- الخصال 1: 223.
3- سورة المعارج، الآية: 6-7.

الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَٰلِ وَالْأَوْلَٰدِ}(1). وقد جاء في تفسير الآية الكريمة: إن الحياة الدنيا عرض زائل، وسراب باطل، لا يخلو من هذه الخصال الخمس المذكورة؛ اللعب، واللّهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر. وهي التي يتعلق بها هوى النفس الإنسانية أما ببعضها أو بجميعها، وهي أمور وهمية وأعراض زائلة لا تبقى للإنسان، ولا يجني الإنسان كمالاً ولا خيراً من أيّ منها. وعن شيخنا البهائي(رحمه اللّه) أن الخصال الخمس المذكوره في الآية مترتبة بحسب سني عمر الإنسان، ومراحل حياته، فيتولع أولاً باللعب وهو طفل أو مراهق، ثم إذا بلغ واشتد عظمه تعلّق باللّهو والملاهي، ثم إذا بلغ أشدّه اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية وتولّه للحسن والجمال، ثم إذا إكتهل أخذ بالمفاخرة بالأحساب والأنساب، ثم إذا شاب سعى في تكثير المال والولد.

ولذا فإن الحياة الدنيا زائلة بزوال المراحل الخمس، وإن البقاء للآخرة، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْأخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}(2). فالأصل أن الحياة الدنيا متعلقة بالآخرة ومرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً؛ إذ إن العمل الصالح والخيّر هو الذي يوصل الإنسان إلى الغاية الحقيقية، وهي الفوز بالآخرة حيث الحياة الواقعية التي هي أرقى وأكمل من حياتنا هذه ولا شك في أن الحياة الأخرى هي أسمى وأرقى وأجل من هذه الحياة الفانية وإن إدراكها بالنسبة لنا كنسبة إدراك هذه الحياة التي نعيشها بالنسبة للأعمى الذي لايبصر شيئاً وهذا هو المراد من قوله عزّ وجلّ في الحديث القدسي: «أعددت

ص: 181


1- سورة الحديد، الآية: 20.
2- سورة العنكوبت، الآية: 64.

لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر بقلب بشر»(1). نعم الحياة الأخرى شيء لا يمكن تصوره ولا يمكن أن يخطر على قلب بشر، كيفيتها أو مواصفاتها تماماً كحال الإنسان الأعمى لأنها حياة أخرى غير التي نعيشها. جاء عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «لو عدلت الدنيا عند اللّه عزّ وجلّ جناح بعوضة لما سقى الكافر منها شربة»(2).

فالدنيا في مقابل الآخرة لا قيمة لها قطعاً، وإنما هي جسر وطريق للوصول إلى الآخرة.

ومن كلام للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول فيه:

«أيها الناس، إنما الدنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا استاركم عند من يعلم أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها اختبرتم، ولغيرها خلقتم»(3).

دارُ الزَّوال

في رواية عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «دخل على النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجل، وهو على حصير قد أثّر في جسمه، ووسادة ليف قد أثرّت في خدّه، فجعل يمسح ويقول: مارضي بهذا كسرى ولا قيصر، إنهم ينامون على الحرير والديباج، وأنت على هذا الحصير؟ قال: فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): لأنا خير منهما واللّه، لأنا أكرم منهما واللّه؟ ما أنا والدنيا؟ إنما مثل الدنيا كمثل رجل راكب مرّ على شجرة ولها فيء، فاستظل تحتها، فلما أن مال الظل عنها إرتحل فذهب وتركها»(4). كان هذاما قاله النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للرجل وهو توجيه واضح للمسلمين، وبيان لحقيقه الدنيا،

ص: 182


1- عدة الداعي: 109.
2- الإختصاص: 243.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 203 من كلام له(عليه السلام) في التزهيد من الدنيا والترغيب في الآخرة.
4- الزهد: 50.

بأنها زائلة بزوال الظل، قياساً بأمر الآخرة، وإلّا فإن الظل بحساب الدنيا لا يتعدى الساعة، أما عمر الإنسان المتوسط في الدنيا بقدر السبعين أو الثمانين من السنوات، ولكن الدنيا بحساب الآخرة مهما عمّرت بها فإنها لا تتعدى أمد الظل، فلذا توجّب على الإنسان أن لا يسمح لحب الدنيا الضار أن يترسخ في نفسه، بل ينتزعه من ذاته انتزاعاً. ففي رواية عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): «يا علي، أربع خصال من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وبُعد الأمل، وحبّ البقاء»(1). ولذا فإن من الأسباب الرئيسية التي أوقعت بعض المسلمين في أوحال الفقر والجهل هي انصرافهم نحو الترف واللّهو وحب الدنيا.

دنيا رَخيصة

وحبّ الدنيا الفانية جعل بعض الحكّام المسلمين على مرّ التاريخ يستبدون بالحكم، ويظلمون الناس لأجل الحفاظ على مصالحهم وهم يعلمون بذلك. وهذا ما نطقت به شواهد التاريخ:

فقد دخل ابن السماك على (هارون العباسي) يوماً فبينا هو عنده إذ استسقى ماءً، فأتي بقلّة من ماء، فلما أهوى بها إلى فيه ليشربها، قال له ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين... لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب... فلما شربها، قال له: أسألك... لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي، قال ابن السماك: إن ملكاً قيمته شربة ماء لجدير ألّا ينافس فيه(2).

فعلى الإنسان أن يفكر دائماً في التخلص من حب الدنيا والاحتراز عنه، فلا

ص: 183


1- الخصال 1: 243.
2- تاريخ الطبري 6: 538.

يريد منها الزينة ولا الأموال، ولا اللذات ولا الجاه ولا المنصب، حتى تحصل في نفسه ملكة الرغبة عن الدنيا، فإن اللّه تعالى لا يحب من يحب الدنيا، ولا يستجيب لدعائه، ولا يقضي حوائجه، ولا يعتني به كما اعتنائه بالمؤمنين ونتيجة ذلك أن يخسر هذا الفرد الدنيا والآخرة لأن خاتمة الجميع أن يذهبوا وتذهب معهم دنياهم أيضاً، وحينئذ يتحسر المفرطون ويندمون، لأنهم فرّطوا بأعمارهم ولم يعملوا صالحاً، حين كان في العمر فسحة وفرصة سانحة.

الهاويَة

وفي روايه عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «مرّ عيسى بن مريم(عليه السلام) على قرية، وقد مات أهلها وطيرها ودوابّها، فقال: أما إنهم لم يموتوا إلّا بسخطة، ولو ماتوا متفرقين لتدافنوا، فقال الحواريّون: يا روح اللّه وكلمته، ادع اللّه أن يحييهم لنا فيخبرونا ما كانت أعمالهمن فنجتنبها. فدعا عيسى(عليه السلام) ربه، فنودي من الجو أن نادهم، فقام عيسى(عليه السلام) بالليل على شرف من الأرض، فقال: يا أهل هذه القريه، فأجابة منهم مجيب: لبيك يا روح اللّه وكلمته، فقال: ويحكم! ما كانت أعمالكم؟ قال: عبادة الطاغوت، وحب الدنيا، مع خوف قليل، وأمل بعيد، في غفلة ولهو ولعب، فقال: كيف كان حبكم للدنيا؟ قال: كحب الصبي لأمّه، إذا أقبلت علينا فرحنا وسررنا، وإذا أدبرت عنّا بكينا وحزنّا. قال: كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال: الطاعة لأهل المعاصي. قال: كيف كان عاقبة أمركم؟ قال: بتنا ليلة في عافية، وأصبحنا في الهاوية، فقال: وما الهاوية؟ فقال: سجّين، قال: وما سجّين؟ قال: جبال من جمر توقد علينا إلى يوم القيامة، قال: فما قلتم، وما قيل لكم؟ قال: ردّنا إلى الدنيا فنزهد فيها، قيل لنا: كذبتم، قال: ويحك! كيف لميكلمني غيرك من بينهم؟ قال: يا روح اللّه، إنهم ملجمون بلجام من نار، بأيدي

ص: 184

ملائكه غلاظ شداد، وإني كنت فيهم ولم أكن منهم، فلما نزل العذاب عمّني معهم، فأنا معلق بشعرة على شفير جهنم، لا أدري اُكبكب فيها أم أنجو منها، فالتفت عيسى(عليه السلام) إلى الحواريين، فقال: يا أولياء اللّه، أكل الخبز اليابس بالملح الجريش(1)، والنوم على المزابل خير كثير، مع عافية الدنيا والآخرة»(2).

آثار أخرى

ولحب الدنيا آثار أخرى، إذ إنه لم يدمّر حياته فقط، بل يُخرّب ويدمّر حياة الآخرين، كالسارق الذي يدمّر حياته، ويؤذي الآخرين بفعله. وفي الدنيا زبارج ومفاتن كثيرة تدعو الإنسان إلى الميل والوقوع في أحضانها وأهوالها، والمعروف بين علماء الحيوان وأصحاب المعرفة، بأن الحيوانات التي تصاد عبر الوسائل الخاصة لذلك، فإنها تعرفها جيداً، فهي تتجنبها حتى لو كان فيها طعام، لأنها تدرك أن نهايتها في ذلك الطعام. وبالرغم من ذلك، فإننا نرى وقوع بعض الحيوانات والطيور في شبكة الصياد، أو الفخ المنصوب لها، وذلك بسبب تغلب شهوتها عليها، فلهذا تقدم على منيتها بنفسها. وهذا الأمر منطبق على حياة أغلب البشر في الدنيا، إذ أنه يعلم أن هذا العمل الذي يقوم به ظلم أو احتكار، أو زنا، وما شابه، ولكن شهوته تغلب عليه فتكون النتيجة هلاكه وخسرانه المبين.

الاعتدال في الطَلَب

وفي ذكر الدنيا وأحوالها وتقلبها بأهلها قصص وعبر نذكر طُرفاً منها:

فقد قال عبد اللّه بن المعلّم: خرجنا من المدينة حُجّاجاً، فإذا أنا برجل من بنيالعباس بن عبد المطلب قد رفض الدنيا، وأقبل على الآخرة، فجمعتني وإيّاه الطريق،

ص: 185


1- جرش الشيء: لم ينعم دقه فهو جريش والملح الجريش هو الملح الذي لم يطيّب.
2- الكافي 2: 318.

فآنست به، وقلت له: هل لك أن تعادلني، فإن معي فضلاً من راحلتي، فجزّاني خيراً، وقال: لو أردت هذا لكان سهلاً، ثم أنس إلي، فجعل يحدثني فقال: أنا رجل من ولد العباس، كنت أسكن البصرة، وكنت ذا كبر شديد، ونعمة طائلة، ومال كثير، وبذخ زائد، فأمرت يوماً خادماً لي أن يحشو لي فراشاً من حرير، ومخدّة بورد نثير، ففعل، فإني لنائم، إذا بقُمْعِ وردة قد نسيه الخادم، فقمت إليه فأوجعته ضرباً، ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدّة، فأتاني آتٍ في منامي في صورة فظيعة، فهزّني وقال: أفِق من غشيتك، وانتبه من رقدتك، ثم أنشأ يقول:

يا خِلُّ إنّك إن تَوسَّدْ ليَناً *** وُسِّدت بعد اليوم صُمَّ الجندلِ(1)

فامْهَد لنفسك صالحاً تسعد به *** فلتندمنَّ غداً إذا لم تفعل

فانتبهت مرعوباً؛ وخرجت من ساعتي هارباً إلى ربي، كما تراني، ثم أنشأ يقول:

من كان يعلم أن الموت يدركه *** والقبر مسكنه والبعث يخرجه

وأنه بين جنات مزخرفة *** يوم القيامة أو نار ستنضجه

فكلُ شيء سوى التقوى به سمجُ *** ومن أقام عليه منه أسمجه(2)

ترى الذي اتخذ الدنيا له وطناً *** لم يدر أن المنايا سوف تزعجه(3)

وإننا لم نذكر ما ذكرنا من قصص وأحداث، لنوصي بترك الدنيا الممدوحة، وطلب الحلال، والعمل الصالح في الدنيا، والتمتع بما أحلّه اللّه تعالى على البشرية، كما عمل الأنبياء والأئمة الطاهرون(عليهم السلام). حيث كانوا يقتنون من طيباتهاباعتدال بلا تفريط ولا إفراط، والطيبات من الثمرات والأمتعة وما خلق اللّه تعالى

ص: 186


1- صمّ الجندل: أي الصخر القاسي.
2- السَمُج: المكروه والقبيح.
3- المستطرف في كل فن مستظرف 2: 874.

من زينة ودواب وزبارج... كلها من نعم اللّه تعالى على البشرية، ولكن بشرط الإعتدال أو عدم الوقوع في الحرام، وقد جاء في قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ}(1). وقد جاء في معنى الإسراف «أي لا تجاوزوا الحلال إلى الحرام، قال مجاهد: لو أنفقت مثل أُحد في طاعة اللّه لم تكن مسرفاً، ولو أنفقت درهماً أو مدّاً في معصية اللّه، لكان إسرافاً. وقيل: معناه: لا تخرجوا عن حدِّ الاستواء في زيادة المقدار...»(2).

ثم إن الشيخ الطبرسي(رحمه اللّه) ينقل في مجمع بيانه قصة أو حكاية تعدّ كشاهد على الأمر وننقلها نحن عنه للفائدة: حيث كتب: «أن - هارون العباسي - كان طبيب نصراني حاذق، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان، فقال له علي: قد جمع اللّه الطب كله في نصف آية في كتابه، وهو قوله: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ}(3). وجمع نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الطبّ في قوله: «المعدة بيت الداء، والحميه رأس كل دواء، وأعط كل بدن ما عودّته» فقال الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً»(4).

ولذا فإن الإفراط في الأكل والشرب مثلاً، يسبّب العديد من الأمراض، ومنها السُّمنة، وهو في الواقع مرض يحدّ من إمكانات الفرد ونشاطه بشكل كبير، كمايجعل الجسم مستعداً لقبول أمراض خطيرة اُخرى، كاحتشاء العضلة القلبية وخناق الصدر، والداء السكري، وتصلّب الشرايين، وأيضاً يسبب نخر الأسنان

ص: 187


1- سورة الأعراف، الآية: 31.
2- تفسير مجمع البيان 4: 244.
3- سورة الأعراف، الآية: 31.
4- تفسير مجمع البيان 4: 244.

والحصيات الكلوية والنقرس (داء الملوك).

هذا الأخير يشاهد عند من يتناولون كميات كبيرة من اللحوم، لذا سمّي بداء الملوك...

لو أردنا إحصاء الأمراض التي تنجم عن الشره في الأطعمة لتجاوز السبعين داءً وكذلك الإفراط في الجنس، وغيره من الطيبات والنعم... ، وعلى هذا يكون لكل شيء حد في الاستفادة دون الإفراط أو التفريط. فالتفريط عكس الإفراط، ويعني عدم الاستفادة من الطيبات أو الأطعمة أو النعم التي أحلّها اللّه تعالى، إذ الإنسان مثلاً يحتاج في حياته اليومية إلى أن يأكل مقداراً كحدٍّ أدنى على الأقل من الطعام والشراب، وترك ذلك المقدار يؤدي إلى هلاكه.

«الهي أسكنتنا داراً حفرت لنا حُفر مكرها... إلهي فزهِّدنا فيها. وسلِّمنا منها، بتوفيقك وعصمتك، وانزع عنّا جلابيب مخالفتك... وأذقنا حلاوة عفوك، ولذة مغفرتك، وأقرر أعيننا يوم لقائك برؤيتك، وأخرج حب الدنيا من قلوبنا، كما فعلت بالصالحين من صفوتك، والأبرار من خاصّتك، برحمتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين»(1).

من هدي القرآن الحكيم

1- البخل

قال سبحانه: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِنفَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}(2).

وقال تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ

ص: 188


1- زاد المعاد: 417.
2- سورة النساء، الآية: 37.

وَكَانَ الْإِنسَٰنُ قَتُورًا}(1).

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(2).

وقال جلّ وعلا: {مَّنَّاعٖ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلِّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٖ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ}(3).

2- الهوى وحب النفس

قال عزّ اسمه: {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُم}(4).

وقال جلّ شأنه: {وَقَالَ الشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}(5).

وقال سبحانه: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا}(6).

وقال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}(7).

3- الطمع وحب المال

قال عزّ من قائل: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَالْبَٰقِيَٰتُ الصَّٰلِحَٰتُ خَيْرٌ عِندَ

ص: 189


1- سورة الإسراء، الآية: 100.
2- سورة الحديد، الآية: 24.
3- سورة القلم، الآية 12-15.
4- سورة محمد، الآية: 14.
5- سورة إبراهيم، الآية: 22.
6- سورة البقرة، الآية: 212.
7- سورة طه، الآية: 96.

رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}(1).

وقال عزّ وجلّ: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}(2).

وقال جلّ وعلا: {شَغَلَتْنَا أَمْوَٰلُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا}(3).

وقال عزّ اسمه: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}(4).

4- الطغيان

قال جلّ شأنه: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَءَاثَرَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}(5).

وقال سبحانه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ}(6).

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنِ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَٰغِينَ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

البُخل وحبّ الدنيا

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق»(8).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «أبعد الخلائق من اللّه تعالى البخيل الغني»(9).

ص: 190


1- سورة الكهف، الآية: 46.
2- سورة نوح، الآية: 21.
3- سورة الفتح، الآية: 11.
4- سورة الهمزة، الآية: 3.
5- سورة النازعات، الآية: 37-39.
6- سورة البقرة، الآية: 15.
7- سورة الصافات، الآية: 30.
8- معدن الجواهر: 26.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 203.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أعجبُ لمن يبخل بالدنيا وهي مقبلة عليه، أو يبخل عليها وهي مدبرة عنه، فلا الإنفاق مع الاقبال يضرّه، ولا الامساك مع الإدبار ينفعه»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القز، كلما ازدادت من القز على نفسها لفاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غماً»(2).

محاربة هوى النَّفس

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «سبب صلاح النفس العزوف عن الدنيا»(4).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «ابن آدم إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك وما كانت المحاسبة لها من همك وما كان الخوف لك شعاراً»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم»(6).

مجانبة الطَمع

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم والطمع فإنه هو الفقر الحاضر»(7).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الطمع أول الشر»(8).

ص: 191


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 170.
2- الكافي 2: 316.
3- نهج الفصاحة: 230.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 396.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 110.
6- الكافي 2: 335.
7- نهج الفصاحة: 353.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 28.

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذله»(1).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس»(2).

عاقبة الطغيان

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا البغي والعقوق»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من جارَ في سلطانه وأكثَرَ عداوته هدم اللّه بنيانه وهدّ اركانه»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن أسرع الشرّ عقوبة البغي»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم»(6).

ص: 192


1- الكافي 2: 320.
2- الكافي 2: 148.
3- نهج الفصاحة: 370.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 346.
5- الكافي 2: 460.
6- الكافي 2: 333.

الإخلاص والمقامات العالية

ما هو الإخلاص؟

كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: «طوبى لِمَن أخْلَص للّه العِبادة والدُعاء، ولَم يشغل قلبه بما ترى عَيناه، ولم يَنْس ذكر اللّه بما تَسمع اُذناه، ولَم يَحزن صَدره بِما أُعطي غيره»(1).

لا ريب في أن الإخلاص قوام كل عملٍ ورافده. وهو غير منحصر قطعاً في الأمور العباديّة أو الخيريّة، لأن الإخلاص يعني التفاني وعدم التواني في سبيل الوصول إلى الهدف المقصود، ويعني استنفاد كامل الوسع والجهد من أجل تحقيق العمل المنشود، إنْ من ناحية الكمّ أو من ناحية الكيف. فيكون العمل بالنسبة لصاحب الإخلاص بمثابة الهواء الذي يستنشقه بلا حاجة إلى رقيب، أو كمثل رأس المال له الذي يتعهده ويحرسه دون كلل أو ملل. وبذلك تنتج الجهود، وتؤتي الثمار أُكُلها كل حين بإذن ربّها.

وبذلك ندرك أن الإخلاص ليس أمراً مطلوباً في الأمور العبادية فحسب، وإنما هو قوام كل عمل وراعيه وحارسه. وبعكس ذلك كله العمل الذي يفتقد الإخلاص.

كل ذلك واضح ومعلوم لا نقاش فيه. ولكن ماذا لو سئلنا عن حقيقة ذلك

ص: 193


1- الكافي 2: 16.

الإخلاص الذي يحدو بالمرء إلى مواصلة السير نحو الهدف؟ وكيف نوجده في أنفسنا؟

فالإخلاص(1).

هو التوجه إلى اللّه عزّ وجلّ، والانصياع والتسليم لأوامره ونواهيه، وتذويب الهوى والشهوات، وتفعيل حبّ اللّه في السلوك العملي مع الناس، ومع الأعمال الشخصية أيضاً. فالمخلص ذلك الذي يكون نظره وهدفه هو اللّه عزّ وجلّ، ويقرن كل أعماله وكلامه وسلوكه مع ذلك الهدف المقدس الشريف. وبما أن هدفه غير متناهٍ في الشرف والقداسة والكمال، فهو يستمد الاستقامة في السلوك، والصدق في الكلام، والإتقان في العمل من ذلك المثل الأعلى والهدف السامي... فالمخلص هو الإنسان الذي تتجلى فيه كل معاني الإنسانية والحب والخير، ويكون مظهراً تتجسد فيه معاني الاستقامة والاعتدال والعدالة و... وهو لا يعرف الازدواجية في العمل أو الكلام، ولا الانحراف والتنازل عن المبادئ والأهداف، فهو يعمل العمل ويتقنه، ويكمله لالأجل شيء وإنما لأجل اللّه. فحب اللّه ملأ قلبه ونوّر باطنه، فترى كلامه وسلوكه وكل حياته وكل ما يصدر منه باطنه كظاهره، لا يطلب من وراء سلوكه المستقيم وكلامه الصادق إلّا رضا اللّه عزّ وجلّ. فطالب العلوم الدينية - مثلاً - لو كان هدفه من التعليم الحصول على مال أو زوجة توافق مزاجه، أو أنه يقصد من طلب العلم الوصول إلى المنصب - الكرسي - ، فيتظاهر بطلب العلم لأجل ذلك، فمثل هؤلاء الناس هدفهم من الدرس هو المال والزوجة والمنصب وليس العلم، فهم يدرسون لكي يصلوا إلى أهدافهم الدنيوية. وعندما يصلون إليها يتركون العلم والدرس وصاحب هذا السلوك بعيد من اللّه بعيد من الناس.

ص: 194


1- الإخلاص لغة: تقول: خلّص الشيء: صفّاه وميّزه عن غيره، والإخلاص في الطاعة ترك الرياء فيها.

كيف نكون مخلصين؟

اشارة

ثمة طرق تساعد الإنسان على التحلّي بصفة الإخلاص، ونحن نذكر منها طريقين:

الأول: السير إلى اللّه عزّ وجلّ بشكل مستمر ومنظم، وبلا توتر وانقطاع. فالعبد يجب عليه أن يحثّ الخطى إلى ربّه، ويكدح في هذا الطريق، وينشئ عدة أبواب يلتقي من خلالها مع ربه، مثل باب الدعاء، وباب الذكر، وباب الاستغفار، وباب الإنفاق. وهكذا حتى يَهِبَ له ربّه كمال الانقطاع والتوجه إليه سبحانه وتعالى. فإن هذا التوجه الموسوم بالعبادة، الذي يتم في خلوات، وفي حالات منفردة بين العبد وربّه، يضفي على الإنسان إحساساً فريداً من نوعه وهو الإخلاص والصدق، لأنّ أكثر الحالات العبادية يفعلها العبد بمعزل عن الناس، دون أن يشعر به أحد. فلو أراد أن يترك العبادة في الخلوات لاستطاع، ولكنه يأتي بها ويتعب نفسه طلباً لرضا اللّه عزّ وجلّ وحبّه. فهذه الطريقة التي نسميها الإخلاص في العبادة سوف تنعكس أشعتها النورانية على كل حركات وسكنات الإنسان في المجتمع، فترى كل أعماله فيها هذه الصفة، وهي الإخلاص في تأدية الأعمال والأقوال. قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1). فهذه الهداية هداية إرشاد ودليل وعناية وتسديد وتأييد للعبد المؤمن، الذي يجاهد شهواته ورغباته، ويجاهد أعداء اللّه أيضاً، من أجل المحافظة على علاقته الطاهرة مع ربّه العزيز، ومن أجل تطوير هذه العلاقة المقدسة الشريفة، والارتقاء في سلّم الكمال الإنساني. ومما يُحكى أنه قيل لأويس القرني: إنك تُجهد نفسك في العبادة. فكان يقول في بعض الليالي: الليلة ليلة الركوع، فيظل راكعاً حتى

ص: 195


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.

الفجر،ويقول في ليلة أخرى: الليلة ليلة السجود فيظل ساجداً إلى الفجر، فقيل له: لِمَ تؤذي نفسك؟ قال: وددت أن تكون الدنيا من الأزل إلى الأبد ليلة واحدة فأمضيها بسجدة(1).

وهكذا كان أُويس يتعبد ويرى كمال إنسانيته في ذلك، حتى حصل على أعظم الأوسمة عن الرسول وعن أمير المؤمنين(عليهما السلام). فقد قال عنه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «تفوح روائح الجنة من قِبَل قَرَن(2)، واشوقاه إليك يا أويس القرني، ألّا ومن لقيه فليقرأه منّي السلام»(3).

الطريق الثاني: هو الإلتزام عملياً بالمبادئ، ولو كانت صغيرة في نظر الإنسان، لأن المبدأ هو الذي يحرّك الإنسان ويدفعه نحو التضحية، وتحمّل الخسائر والمتاعب. وهذا الأمر يجعل المرء أكثر تفاعلاً وانسجاماً مع أهدافه ومبادئه، مما يجعله مخلصاً لها ومعها. وكلما كانت المبادئ مقدسة وكبيرة وجليلة انعكس ذلك على مستوى إخلاصه في سلوكه، وصولاً إلى أهدافه، وتحقيقاً للصيغة العملية لمبادئه.

هذا الأمر يجعل الإنسان مخلصاً في كل أعماله وسلوكه مع الناس ومع نفسه، حفاظاً على قدسية المبدأ وشرافة الهدف. والعكس هو الصحيح إذ كلما تنازل الإنسان عن مبادئه، أو استهان واستخف بها فَقَدَ حلقات الإخلاص، إلى أن يتجرّد منه تماماً، فيعيش حياة الازدواجية. والتنازلات عن الحق والأهداف، وهي حياة سلبية فاقدة لكل معاني الإنسانية، لأن الإنسان لو جُرِّد من أهدافه ومبادئه، لا يكون له أي ثقل بين الناس، ويتحول إلى إنسان تابع للغير، فاقد للإرادة والفعالية. إذن فالالتزام بالمبادئ يضفي إخلاصاً مستمراً للإنسان.

ص: 196


1- انظر طرائف المقال 2: 596.
2- قَرَن: حيّ من مراد من اليمن، منهم اُويس القرني، منسوب إليهم.
3- الروضة في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): 48.
الذَوبان السَريع

أرأيت كيف يذوب فصّ الملح في الماء؟ فهكذا تذوب الملكات والصفات الإنسانية وصفة الإخلاص، أساس وركن قويّ يعتمد عليه الإنسان في نجاحه في الحياة، من خلاله يكون له وقع ومقام خاصّ في قلوب الناس، فينسجمون ويتفاعلون أكثر مع صاحب الإخلاص، لأنهم يأمنون غائلته وشرّه. ولأنه لا يتوافق الإخلاص مع الشر، لذلك ترى الناس تحب وتميل نحو الإنسان المخلص.

ونحن إلى هنا قد علمنا كيف نسعى لنكون مخلصين، ولكن حتى هذه الصفة الرائعة تذوب أحياناً، وتنعدم ولا تكاد ترى لها أثرأ في الإنسان. وأسباب ذوبانها وانصهارها كثيرة، ولكنّا نشير إلى أهمها وأعظمها أثراً، ألّا وهي مسألة الركون إلى الظالمين. فلنتأمل بدقة حركة ذوبان الإخلاص تحت هذا المؤثر.

إن واحدة من فوائد العبادة هي تقوية الإرادة الإنسانية والعزم البشري، فعندما يصل المرء إلى درجة اليقين بأنه لا مؤثر في الوجود سوى اللّه، فإنه سوف يرتبط ويربط نفسه وأموره باللّه، وفي المقابل فاللّه عزّ وجلّ أراد للمؤمن أن يعيش حرّاً لا ذليلاً ولا مقيّد الإرادة، بل يعيش أجواء الإنسان الإلهي المؤمن الذي يكون هدفه ومثله الأعلى في الوجود هو اللّه عزّ وجلّ. وهذا الأمر يعكس قوة في الإرادة، وبالتالي إخلاصاً منقطع النظير. لأنه لا يحتاج إلى التلوّن والازدواجية أو الخضوع والخنوع لأحد، لأنه يعيش الغنى الروحي بعبادته الواعية للّه عزّ وجلّ. ولكن بمجرداً أن يعيش الإنسان أجواء الضغط والكبت والخنوع للغير، فإن إرادته القويّة تبدأ تضعف إلى أن يتحول إلى إنسان تابع، لا يملك لنفسه قراراً ومكانة، بل يكون وجوده معلقاً بالغير، بحيث لا يعرف للاستقلال معنىً. وهكذا تكون بداية ظهور الظلمة على السطح الاجتماعي، لأنهم يجدون من يخاف منهم، أو يساعدهم، أو يكتم عليهم انحرافهم، أو يتملق لهم لأجل غرض، وهكذا ينعدم

ص: 197

الإخلاص ويذوب مع ذوبان الإرادة، واضمحلال العبادة الحقة، والتوجه الصادق للّه عزّ وجلّ. إن مسألة الركون أو المساعدة للظالمين من أخطر المسائل على الصعيد الشخصي والاجتماعي، لأنها تخلق الطواغيت والدكتاتوريين، الذين يشيعون الفساد في الأرض.

وقد ذكروا أن شخصاً إلتقى بأحد الأكابر وكان يعمل خيّاطاً لأحد خلفاء الجور الظلمة، فسأل في ما إذا كان عمله هذا حراماً أم لا؟ وكذلك مكسبه ومكسب عياله من هذا العمل؟ فقال له: إن بائع الخيوط والإبر في السوق الذي يبيع للظالم، إنما هو واحد من الظلمة، فكيف بك أنت. فأنت من باب أولى تكون عوناً لهم بل وظالماً.

مقامات مِن نُور

إن للمخلصين مقامات نورانيّة عالية في يوم القيامة، ولو تأملّنا في الرواية التي صدّرنا بها حديثنا لرأينا شيئاً من ذلك فأمير المؤمنين(عليه السلام) يقول في حديثه: «طوبى لِمَن أخلص للّه العبادة والدعاء...»(1).

وهو طريق تحصيل الإخلاص.

وأحد المعاني لطوبى أنها شجرة في الجنة(2). فكأنما يقول: إن الجنة للمخلص. والقرآن الكريم أيضاً يشير إلى هذا المعنى حيث يقول تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(3). والقلب السليم هو القلب المخلص الذي لا يعرف إلّا اللّه. والإمام الصادق(عليه السلام) عندما يوضح ويفسِّر هذه الآية يقول: «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه...»(4). ولا يتصور

ص: 198


1- الكافي 2: 16.
2- انظر تفسير القمي 2: 11.
3- سورة الشعراء، الآية: 88-89.
4- الكافي 2: 16.

أن النتائج فقط في الآخرة، بل في الدنيا أيضاً هناك مقامات خالدة للمخلصين.

فيُحكى أنه كان شخص يُدعى (بوريا ولي). وكان مصارعاً بطلاً لا يقوى عليه أحد، وذات مرّة، تقرر أن تجري مسابقة بينه وبين مصارع آخر من دولة أخرى. وقد كان الأخير مقرّباً من رئيس تلك الدولة، بحيث كان يجري له من وراء ذلك رزق يعيل به نفسه وأمّه وباقي أهله، فلما وصل بوريا ولي إلى بلد المصارع، صادف أن ذات ليلة جلس في مقهى قريب، وإذا به يفاجأ بامرأة عجوز تحمل قدراً، فأخذت تدور على الجلساء وتغرف لهم منه الحساء، ثم لا تريد من وراء ذلك أجراً سوى الدعاء لولدها. جاء دوره، فغرفت له حصته دون أن تعرفه، ثم سألته الدعاء لولدها بالفوز. سألها عن الأمر. فقالت: إن لي ابناً يعمل عند رئيس الدولة وهو مقرّب عنده. وفي هذه الأيام سوف ينازل بطلاً معروفاً، فأخشى أن لا يحالف ولدي النصر، فينقطع بذلك رزق مجموعة كبيرة من العوائل، فصممت أن أقوم بما أنت تراه الآن لوجه اللّه، عسى أن يفوز ولدي في المسابقة. فلما سمع بوريا ولي ذلك تأثّر كثيراً لأنه سيكون سبباً في حرمان جمع من العوائل من العيش والرزق. عندها فكّر في نفسه وقال: إن كل النزالات السابقة، كانت من أجل الشهرة والأوسمة والجوائز، ولكن ماذا يحدث لو سمحت لهذا المضارع بأن يفوز عليَّ هذا اليوم فيحفظ بذلك رزقه وماء وجهه، ويكون عملي خالصاً للّه عزّ وجلّ، وأترك الشهرة ولو لمرة واحدة. وهكذا ظل بوريا ولي طوال الليل يفكّر بهذا الموضوع، وهو بنفس الوقت موقف صعب على سمعته وشهرته، ولعله يضرّ بمستقبله الرياضيّ، ولكنه صمَّم على الإخلاص للّه، وأن يكون عمله هذا من أجل اللّه عزّ وجلّ. وفعلاً فقد جعل منافسه يفوز عليه بطريقة ذكيّة، وفي اللحظة التي كان كتفه على الأرض نظر إلى الأعلى، وإذا به يرى ملكوت السماوات والقصور والجنان، لقد رأى كل ذلك عندما تغلب على هواه، وأخلص النيّة

ص: 199

والعمل للّه فقط. ثم لم يعمّر بوريا ولي بعد تلك المصارعة طويلاً، إذ ما لبث أن أصيب بوعكة صحيّة في جسده توفي على إثرها في نفس المدينة الغريبة، ودفن هناك. لقد دُفن بوريا ولي لكن حقيقته أبت إلّا أن تظهر للناس، فَعَظُمَ مقامه في قلوبهم وكبر في عيونهم، ولهذا أخذوا يقصدون قبره للتبرك وطلب الحاجة.

وإذا كان بوريا ولي مثالاً، فإن أمثاله كثيرون متناثرون بين أرجاء المعمورة، أبى اللّه إلّا أن يعطيهم المقامات العالية في الدنيا، قبل أن يجزيهم في الآخرة الجزاء الأوفى.

وحُكيَ في قصة أخرى بأن وصال الشيرازي أحد الشعراء البارعين والجيدين جداً، له ديوان شعري جميل ومتين من حيث المعنى والوزن والمحتوى الفكري، وكانت من عادة الشعراء الشيعة المخلصين أنهم إذا كتبوا قصيدة جديدة يأتون إلى مراقد الأئمة المعصومين(عليهم السلام) ويقفون أمام الضريح أو القبر فيقرؤنها، فإما يقف الشاعر أمام ضريح الإمام الحسين(عليهم السلام) أو أمام ضريح الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو الإمام علي(عليه السلام) وهكذا بالنسبة للأئمة المعصومين الآخرين، فيقرؤن القصائد التي كتبوها في حقهم، وذلك لأنه كما قلنا بأن الأئمة(عليهم السلام) كما أنهم كانوا يسمعون ويجيبون في حياتهم الدنيا فهم أيضاً يسمعون ويجيبون بعد رحليهم من هذه الدنيا، فعندما يقرأ الشاعر قصيدته يطلب من الإمام(عليه السلام) الجائزة، والأئمة(عليهم السلام) كانوا يعطونهم الجائزة، ولا شك أن الإمام(عليه السلام) لا يخرج له من القبر جائزة بصورة مباشرة ويعطيها للشاعر، ولكن عندما يقف الشاعر قليلاً بعد انتهائه من القصيدة، يأتي إليه أحد الأشخاص الصالحين فيعطيه مبلغاً بعد ما يستحسن منه القصيدة التي ألقاها، وذلك بعد أن ألقى اللّه عزّ وجلِّ ذلك في قلبه، ففي أحد الأيام وقف الشاعر وصال الشيرازي أمام ضريح الإمام علي(عليه السلام) وقرأ قصيدة رائعة من قصائده في مدح الرسول(عليه السلام) والأئمة المعصومين(عليهم السلام)، فلما قرأ

ص: 200

القصيدة وأكملها وهو أمام مرقد الإمام علي(عليه السلام) وانتهى منها، انتظر من الإمام(عليه السلام) جائزة، ولكنه لم يحصل على شيء، فجاء في اليوم الثاني والثالث فلما أكمل من القراءة في اليوم الثالث، جاء أحد الأعراب(1)

الأُميين ووقف أمام مرقد الإمام علي(عليه السلام) وقرأ هذا البيت الشعري:

أصنع لك شمعة يا أمير المؤمنين *** بحجم منارتك يا أمير المؤمنين(2)

في تلك الأثناء سقط أحد القناديل الذهبية التي كانت معلّقة فوق الضريح، سقط في حضن هذا الأعرابي بعد أن إنفتحت عقدته، فجاء الخدمة مسرعين ليأخذوا القنديل من الأعرابي لكي يعلقوه في مكانه مرة أخرى، ولكن الأعرابي قال لا أعطيكم القنديل إنه جائزة لي من الإمام علي(عليه السلام) لأني قرأت شعراً في مدحه، ولكن الخدم أخذوا القنديل وعلّقوه في مكانه، وقرأ الأعرابي شعره مرة أخرى فسقط القنديل مرة أخرى فأخذوه وعلّقوه، وسقط مرة ثالثة في حظن الأعرابي بعد أن أعاد شعره أيضاً، فلما نظر الشاعر وصال الشيرازي إلى الأمر الذي يجري أمام عينيه تأثّر كثيراً فتوجّه إلى مرقد الإمام علي(عليه السلام) قائلاً له: يا أمير المؤمنين كلكم خير ورحمة وكمال وأنت في قمة الفصاحة والأدب ولكن لماذا لم تُميز بين قصيدتي التي قرأتها في مدحك وبين قصيدة هذا الأعرابي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، ثم خرج من عند الإمام، في تلك الليلة رأى في منامه الإمام علي(عليه السلام) قائلاً له: أنا عندي ذوق شعري، ولكن الفرق بين شعرك وبين شعر ذلك الأعرابي الأمي هو أن ذلكالأعرابي كان يملك الاخلاص الكبير في شعره، وشعرك كان جميلاً جداً ولكنك كتبته لكي يقول الناس لك أحسنت أحسنت.

ص: 201


1- أي: من سكن البادية.
2- والشعر في الفارسية: شمع می سازم برايت يا أمير المؤمنين *** قد اين گلدسته هايت يا أمير المؤمنين

نفحات من سورة الإخلاص

اشارة

إن سورة التوحيد التي تعدّ من عظائم السور القرآنية، والتي تعدل ثلث القرآن الكريم - كما في الروايات(1) - اسمها الآخر هو سورة الإخلاص. وإن أجواء السورة كلها تحكي عن عقيدة مهمة في حياة الإنسان، وهي توحيد اللّه عزّ وجلّ، وإعلان أحديّته ووحدانيته، ونفي الشريك والمثيل والأب والإبن وكل ما يصدق عليه ثانٍ عنه تعالى. فالسورة تدعو الإنسان نحو التوحيد على مستوى العقيدة والعبادة لينعكس أثر ذلك الاعتقاد على السلوك العملي من خلال تحرك الإنسان واحتكاكه مع الناس، ولذلك قال تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ}(2). لأن الصمد هو المقصود في جميع الأشياء والحوائج، فكل ما صدق عليه شيء فهو بحاجة إلى اللّه عزّ وجلّ باعتباره الخالق الرازق المدبّر. وقد قيل: إن دخول الألف واللام على (صمد) تفيد الحصر أي: حصر التوجه والانقطاع إلى اللّه فقط لا غير، بل إن آيات السورة تنفي أدنى تصوّر يخطر في ذهن الإنسان؛ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}(3). وواضح أنه نفي تام لكل معاني التجزئة والاشتقاق والتولّد، لأنها جميعاً تعني الاحتياج، فالجزء يحتاج إلى جزء آخر والاشتقاق يحتاج إلى الأصل، والتولد يحتاج إلى السبب الأب أم الأم. وقد نفت الآيات كل هذه المعاني، وطلبت من الإنسان أن يفهم ذلك، وينقطع إلى اللّه بتوحيد واعٍ ينسجم مع الآيات القرآنية.ولذلك سميت السورة أيضاً بسورة النسب(4). فقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «إن اليهود سألوا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: أنسب لنا ربّك، فمكث ثلاثاً لايجيبهم،

ص: 202


1- انظر الكافي 2: 621.
2- سورة الإخلاص، الآية: 2.
3- سورة الإخلاص، الآية: 3.
4- انظر تفسير مجمع البيان 10: 479.

ثم نزلت السورة (الإخلاص)»(1). وهكذا فالمتأمل في أجواء سورة الإخلاص يستفيد أموراً منها:

1- الانقطاع للّه فقط.

2- استلهام الإخلاص من عالم التوحيد الذي تحكيه السورة.

3- الفهم التام لمعنى التوحيد.

لذا تكون أهداف الإنسان وغاياته في كل عملٍ صغيراً أو كبيراً على درجة من الخطورة والأهمية. إذ قد يجهد الإنسان نفسه ويرهقها في عملٍ ما دون هدف أو غايه نبيلة، فيجني المال، أو رضا رئيسه، أو تحصيل الجاه والمنصب، أو ما شابه، ولكنها من الأمور والاعتبارات الزائلة، ولا حظّ لها من البقاء... وقد ينتبه الإنسان لحظة واحدة إلى تصرفاته وأعماله فينتحي بها إلى طريق البقاء والأزل، حتى مع صغر العمل وسهولته، لينال من ذلك رضا للّه تعالى والقرب منه، فهو أفضل مطلوب ومرغوب، وفي ذلك صلاح الدنيا والآخرة معاً.

أما في الدنيا فهو نيل المقامات الشريفة والعالية، كما هو واضح من شموخ مقامات الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، والصالحين من العباد، على اختلاف قصصهم ونوادرهم، فضلاً عن الفوز الأخروي...

أما العكس من ذلك ففيه خسارة الدنيا والآخرة أيضاً، فكم من عاملٍ لأجل المال والمنصب والجاه قد لفظه التاريخ، ورمى به إلى منازل الملعونينوالمنبوذين، إن لم يجعلهم في خانة النسيان. إذ لا مقام ولا علوّ. وكما خسروا الدنيا فإنهم خسروا الآخرة... والأدهى من ذلك أن الإنسان الذي يخلص العمل لأجل منصب أو جاه في سبيل خدمة الظالم، لا يأمن على حياته بعد أن يعيش

ص: 203


1- تفسير مجمع البيان 10: 485.

لحظات يسيرة من الترف الواهي تحت خدمة أسياده، وبمجرد انتهاء دوره يجد طريقه إلى الموت، وخلاصه على يد الظالم نفسه. لذلك ورد في الحديث الشريف، عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): «ما انتصر اللّه من ظالم إلّا بظالم، وذلك قوله عزّ وجلّ: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا}(1)»(2).

بالإضافة إلى سخط الناس وابتعادهم عن المخلص لدين الظالم، ولذا على العاملين في سبيل هداية الناس الإشارة إلى تلك المعاني، وتوضيح أبعادها، لأجل النجاة قبل فوات الأوان.

في الإخلاص الخلاص

عن علي بن أبي حمزة قال:

كان لي صديق من كُتّاب بني اُمية، فقال لي: استأذن لي على أبي عبد اللّه (الصادق)، فاستأذنت له عليه فأذن له، فلما أن دخل سلَّم وجلس ثم قال: جُعلت فداك، إني كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً، وأغمضت في مطالبه، فقال أبو عبد اللّه: «لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم، ويجبي لهم الفيء(3)، ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم»، فقال الفتى: جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟

قال(عليه السلام): «ان قلت لك تفعل؟» قال: أفعل.

قال له: «فاخرج من جميع ما اكتسبت في دواوينهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدّقت به، وأنا أضمن لك على اللّه عزّ وجلّ الجنة»،

ص: 204


1- سورة الأنعام، الآية: 129.
2- الكافي 2: 334.
3- أي: يجمع لهم الخراج.

قال: فأطرق الفتى رأسه طويلاً، ثم قال: قد فعلت جعلت فداك.

قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة، فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلّا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه، قال: فقسمت له قسمة، واشتريناله ثياباً، وبعثنا له بنفقة، قال: فما أتى عليه إلّا أشهر قلائل حتى مرض فكنّا نعوده، قال: فدخلت عليه يوماً وهو في السَّوْق(1)، ففتح عينيه ثم قال: يا عليّ وفي لي واللّه صاحبك.

قال: ثم مات، فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبي عبد اللّه(عليه السلام)، فلمّا نظر إليّ قال: «يا علي وفينا واللّه لصاحبك»، قال: فقلت: صدقت جُعلت فداك، هكذا واللّه قال لي عند موته(2).

فلم يبق للإنسان طريق للنجاة والحصول على المقامات العالية، سوى الوقوف أمام الذات ومحاسبتها، والخروج من أدناس الدنيا، عروجاً نحو الخالق تعالى والقرب منه...

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال، اللّهم وفِّر بلطفك نيّتي، وصحّح بما عندك يقيني»(3).

ص: 205


1- السَّوق: النزع. أي نزع الروح.
2- الكافي 5: 106.
3- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

من هدي القرآن الحكيم

لتحصيل الإخلاص يجب التغلّب على الهوى

قال سبحانه: {فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ}(1).

وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ}(3).

اللّه تعالى يعلم بإخلاص العامل من نيَّته

قال جلّ وعلا: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(4).

وقال عزّ من قائل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(5).

وقال جلّ شأنه: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا}(6).

وقال عزّ اسمه: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(7).

رأس الإخلاص توحيد اللّه سبحانه

قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا۠ فَاعْبُدُونِ}(8).وقال تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَٰحِدُ الْقَهَّارُ}(9).

وقال عزّ وجلّ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ}(10).

ص: 206


1- سورة النساء، الآية: 135.
2- سورة الأنعام، الآية: 119.
3- سورة ص، الآية: 26.
4- سورة آل عمران، الآية: 180.
5- سورة التوبة، الآية: 105.
6- سورة الإسراء، الآية: 84.
7- سورة فصلت، الآية: 40.
8- سورة الأنبياء، الآية: 25.
9- سورة ص، الآية: 65.
10- سورة محمد، الآية: 19.

وقال جلّ وعلا: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

لتحصيل الإخلاص يجب التغلّب على الهوى

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «واعلموا أنه ما من طاعة اللّه شيء إلّا يأتي في شهوة فرحم اللّه رجلاً نزع عن شهوته. وقمع هوى نفسه»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «كيف يستطيع الإخلاص من يَغلِبُهُ الهوى!»(3).

وكان الإمام زين العابدين(عليه السلام) يقول في إحدى مناجاته: «اللّهم... وأخلص سريرتي عن علائق الأهواء»(4).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) لهشام: «فإن كثير الصواب في مخالفة هواك»(5).

اللّه تعالى يعلم بإخلاص العامل من نيّته

قال النبي الأطهر(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «نيّة المؤمن خيرٌ من عمله ونيّة الكافر شرٌ من عمله، وكل عامل يعمل على نيَّته»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا شيء أفضل من إخلاص عملٍ في صدق نيّةٍ»(7).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إذا علم اللّه تعالى حسن نيّة من أحد اكتنفه بالعصمة»(8).

ص: 207


1- سورة غافر، الآية: 65.
2- أعلام الدين: 105.
3- عيون الحكم والمواعظ: 383.
4- بحار الأنوار 91: 156.
5- تحف العقول: 398.
6- الكافي 2: 84.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 793.
8- أعلام الدين: 301.

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) لهشام: «وكما لا يقوم الجسد إلّا بالنفس الحية، فكذلك لا يقوم الدين إلّا بالنيّة الصادقة: ولا تثبت النية الصادقة إلّا بالعقل»(1).

رأس الاخلاص توحيد اللّه سبحانه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «التوحيد نصف الدين»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وكمالُ التصديق به (باللّه) توحيدُهُ، وكمالُ توحيده الإخلاصُ له...»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من قال له إله إلّا اللّه مخلصاً دخل الجنة وإخلاصُهُ أن تحجزه لا إله إلّا اللّه عمّا حرَّم اللّه عزّ وجلّ»(4).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): أتاني جبرئيل بين الصفا والمروة، فقال: يا محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) طوبى لمن قال من اُمتك: لا إله إلّا اللّه وحده مخلصاً»(5).

ص: 208


1- تحف العقول: 396.
2- التوحيد: 68.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 1 ومن خطبة له(عليه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض و... .
4- التوحيد: 27.
5- التوحيد: 21.

العفو والصفح الجميل

مِن مَكارم الأخلاق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عليكم بالعفو فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عِزّاً، فتعافوا يعزّكم اللّه»(1).

من المعلوم أن ملكات الخير تضفي على الإنسان كمالاً روحياً، ثم ينعكس هذا الكمال من الروح على كيان الإنسان ومظهره الخارجي، فنرى إتزاناً عظيماً في الشخصية، وعدالة خالصة في السلوك، وبياناً وحكمة في المنطق، ورأفة ورحمة في التعامل. وهذا هو هدف الإسلام وهدف كل الرسالات السماوية، أي: خلق وصناعة الإنسان بالصياغة والأسلوب الذي يؤدي إلى رقيّه وكماله وتقدمه.

ولهذا نرى التركيز على كل مفردة من مفردات الكمال.

ومن هذه المفردات: العفو، لا سيما العفو عند المقدرة. بل نرى أن اللّه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه صفة العفو، وأنه سبحانه يحب كل من تحلى بهذه الصفة، لأنه سوف يلتقي مع اللّه عزّ وجلّ بواسطة هذه الكمالات، وسيكون اتصاله وعلاقته مع اللّه من أشرف العلاقات وأكثرها روحانية. لذلك نرى التركيز من القرآن الكريم على هذه الصفة؛ قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ

ص: 209


1- الكافي 2: 108.

إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(1). وقال تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}(2). وقال: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(3). ومن هذا يتبين لنا أن صفة العفو من مهمات مكارم الأخلاق، ومن النقاط الأساسية في الشخصية المؤمنة، بل من الجوانب المشرقة التي يحبّها اللّه عزّ وجلّ، ويدعو لها، وكذلك جاء أنبياء اللّه ورسله كلهم متحلين بهذه الصفة. ولعلها من أبرز أخلاقهم، وبواسطتها استقطبوا الناس حولهم، ووجهوهم نحو العبودية الخالصة للّه عزّ وجلّ. وقصة عفو رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، عن أهالى مكة بعد الفتح، كالنار على العلم، وكالشمس في رابعة النهار، بعد أن ارتسم الموت في مخيّلة كل واحد من القرشيين. إذ اعتقدوا أن الرسول سوف يقتلهم، ولكنهم فوجئوا بعفو النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنهم، مع ما لاقاه منهم من حرب ومشاغبة ومحاولات عديدة لقتله وتعذيب أصحابه... ولكن في الوقت نفسه كان عفوه عنهم بمثابة التبليغ للدين الإسلامي، بل إن صدى العفو بقي حتى في أجيال الذين عفا الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنهم، فكانوا يسمون ب- (أولاد الطلقاء)(4).

مراتب العفو

اشارة

هناك مراتب للعفو والمغفرة تعدّدت بسبب اختلاف وتعدد مراتب الذنب والجرم. إذ كلما اختلف وتعدد الأخير اختلفت مراتب العفو بمقتضاه. فالمتبادر إلى أذهان الناس أن الذنوب نوعان:

ص: 210


1- سورة الشورى، الآية: 40.
2- سورة النساء، الآية: 149.
3- سورة آل عمران، الآية: 134.
4- منتهى الآمال 1: 173.

الأول: هو مخالفة الأحكام الشرعية وعدم تطبيق ما أمر اللّه به.

والثاني: هو التعدي على حقوق الناس سلباً ونهباً وغصباً.

وهذه الحقوق حقوق مادية أو فكرية أو اعتبارية، كالغيبة التي تسقط اعتبار الإنسان في الوسط الإجتماعي، فيعد ذلك ذنباً عرفاً وتعدياً إلى جانب حرمته. ولكن بنفس الوقت هناك تفاوت في كل مرتبة من هذه الذنوب؛ فمن سرق حبة الحنطة غير الذي سرق الملايين، ومن سلب قميصاً من أحد غير الذي سلبه ملكه كله. ومن أخلّ بالصوم أو ارتكب كبيرة غير الذي ارتكب الكبائر، وترك جميع الواجبات، وأتى بجميع المفاسد، وأراق الدماء، وهتك الأعراض... ، فهذا التفاوت في الذنوب يوجب التفاوت في مراتب العفو والمغفرة أيضاً. ففي القسم الأول تكون المغفرة والعفو الإلهي، والثاني هو عفو الناس بعضهم عن البعض.

كيف نفهم العفو؟

الإنسان في هذه الحياة لا ريب من أنه يحتاج إلى لطف اللّه عزّ وجلّ ورحمته، ويطمع في النجاة من كل ألوان العذاب، لا سيّما عذاب الآخرة. والذنوب والمعاصي والشرك والكفر... كلها تبشر الإنسان بما لا يحب، فهي ظلمات وعذابات في الآخرة، وشقاء في الدنيا، بسبب تبعاتها، يقول تعالى: {أَوْ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحْرٖ لُّجِّيّٖ يَغْشَىٰهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَٰتُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَىٰهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}(1) بعكس الإيمان والطاعات التي هي نور في الآخرة، قوله سبحانه: {نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا}(2).

ص: 211


1- سورة النور، الآية: 40.
2- سورة التحريم، الآية: 8.

فالعفو من اللّه عزّ وجلّ بمنزلة إزالة كل الأسباب والدواعي التي تكوّنالظلمات للإنسان، وتؤدي به إلى العذاب. وبمعنى آخر: إن المذنب بعد أن ابتعد عن لطف اللّه ورحمته يغفر له ويعفى عنه، ويردّه مرة أخرى إلى ألطاف اللّه ورفقه به، بعد أن تولدت عنده أسباب كانت بمثابة الموانع من التنعم بألطاف اللّه، فيكون العفو مزيلاً لكل الموانع التي من شأنها أن تبعد الإنسان عن قبول الفيض الإلهي. وكلما انكشفت تلك الموانع (الذنوب) عن الإنسان إزداد إشراقاً وإيماناً، بسبب قبوله لعناية اللّه له وفيضه عليه، ولذلك قالت الآية: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا}(1). فهؤلاء لديهم نور، ولكن بقي هناك شيء من الموانع والأسباب، فيطلبون من اللّه أن يزيل عنهم كل الأسباب والموانع بالمغفرة، لكي يتم نورهم ويدخلوا الجنة.

أما عفو الإنسان فهو بمعنى عدم ترتب الأثر، وهذا على نحوين:

الأول: عفو مع عتاب ومساءلة وكلام، مع عدم ترتب الأثر.

الثاني: عفو مطلق بلا عتاب، وخال من كل شيء، بل أحياناً يكون مع المكافأة على نفس طريقة المولى عزّ وجلّ، والذي أطلق عليه القرآن مصطلح (الصفح الجميل)(2).

أي: بلا عتاب أو مساءلة، وأيضاً قوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}(3). وهذا نلمسه بوضوح عند الرسول الأكرم والأئمة الكرام صلوات اللّه وسلامه عليهم، فيروى أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام)، ويسبه إذا رآه، ويشتم علياً(عليه السلام)، فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن

ص: 212


1- سورة التحريم، الآية: 8.
2- إشارة إلى سورة الحجر، الآية: 85 قوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}.
3- سورة النور، الآية: 22.

ذلك أشدّ النهي، وزجرهم أشد الزجر، فسأل عن العُمري، فذكر أنه يزرع بناحيةمن نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن(عليه السلام) بالحمار حتى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له: «كم غرمت في زرعك هذا؟» فقال له: مائة دينار، قال: «وكم ترجو أن تصيب فيه؟» قال: لست أعلم الغيب، قال له: «إنما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه؟» قال: أرجو أن يجيئني فيه مائتا دينار، قال: فأخرج له أبو الحسن(عليه السلام) صرّة فيها ثلاثمائة دينار، وقال: «هذا زرعك على حاله واللّه يرزقك فيه ما ترجوه»، قال: فقام العمري فقبل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن(عليه السلام)، وانصرف(1). وغير ذلك كثير من أخلاق أئمتنا العظام سلام اللّه عليهم أجمعين.

العَفو عند المَقدرة

نعم يتسامى الإنسان، ويرتقي في سلم الكمال، عندما يصفح ويعفو ويغفر، وهو في موقع القدرة. يحكى أن الوليد بن عبد الملك عندما تسلم مقاليد الحكم بعد عبد الملك، حاول أن يكسب الناس، ويمحو الآثار السيئة لعبد الملك، فعزل والي المدينة هشام بن اسماعيل الذي كان دأبه مضايقة العلويين، لا سيما الإمام زين العابدين(عليه السلام)، وإيداعهم السجن واتهامهم، ومنعهم بعض الحقوق...

فعندما عُزل وجرّد من أسباب القدرة أمر الوليد أن يوقف للناس ونادى في الناس أن كل من كانت له مظلمة عند هشام فليأته ويفعل به ما يشاء، فكان الناس يأتون ويبصقون في وجهه ويضربونه، وكان هشام يقول ما أخاف إلّا من علي بن الحسين، ولكن الإمام(عليه السلام) كان قد تقدم إلى خاصته ألّا يعرض له أحد منهم

ص: 213


1- الإرشاد 2: 233.

بكلمة... وقد مرّ الإمام(عليه السلام) أمام هشام مسلّماً عليه، وأبدى له الاستعدادبمساعدته دون أي إهانة أو إيذاء لذا نادى هشام حينها: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته(1). لهذا ترك الناس إهانة هشام عندما شاهدوا فعل الإمام(عليه السلام) معه.

مِن فوائد العَفو

لا يخفى أن لِكلّ ملكة من ملكات الخير والكمال فوائد عديدة كالشجاعة والصدق والكرم والعلم... والعفو بما أنه واحد من تلك الكمالات وقد نعت اللّه عزّ وجلّ به نفسه، فبلاشك تقع وراء صفة العفو العديد من الفوائد والمنافع والمصالح الحسنة، وإلّا كيف نفسر اتصاف المولى بها وأمره بها أيضاً.

ومن هذه الفوائد نذكر:

1- العفو يفتح آفاقاً جديدة مع الآخرين، ويوفر لنا فرص الإلتقاء معهم بدل أن نفقدهم بالعقاب أو العتاب المُرّ، فوجود الناس بعضهم حول بعض أفضل بكثير من تشتتهم، فإن القصاص والعقاب حق، ولكنه يؤدي إلى نهاية العلاقات عادةً، أما العفو فإنه يجرد العلاقات، ويقوي العواطف، ويرفع الضغائن التي في القلوب، ويحسّن صورة الشخص عند الطرف المقابل. ولذلك كان الاستغفار أماناً لأهل الأرض، لأنه يرفع تبعات الذنوب، فتتجرد فرصة أخرى للعبد، ويعطي اللّه عزّ وجلّ أملاً جديداً للمكلف بعفوه عنه. وصفة العفو التي امتاز بها اللّه عزّ وجلّ هي التي تُلهم العباد الحركة والسعي والجد والاستغفار وتجديد الأمل وعدم اليأس من روح اللّه. وهكذا العفو بين الناس، فإنه مدعاة لأن يتناقص عدد الأعداء، ويأخذ رقم الأصدقاء والأصحاب بالصعود، وهكذا كان الأئمة(عليهم السلام) يعملون، فبعفوهم كانوا يجذبون الناس حولهم لا سيّما أعداءهم.

ص: 214


1- انظر تاريخ الطبري 5: 217.

2- العفو يزيد الإنسان عزّاً ويرفع من مقامه ومكانته في قلوب الناس، لأنجنبة الإيثار سوف تكون واضحة المعالم في الشخص العافي، وهي مما يحبّها الناس، لأن الذي يعفو عن خصمه وعدوه، معنى ذلك أن يتنازل عن حقه، ولا يهتم بنوازع نفسه، وهمسات الشيطان، بل يكون ناظراً إلى مصالح الشخص المقابل، فيعفو عنه ليفتح له نافذة جديدة في الحياة وأملاً جديداً. فمن المعلوم أن القصاص أو العتاب أو العقاب أمر يرضي النفس، لأنها تشعر بالارتياح مقابل ما أخذ منها أو أعتدي عليها، وكذلك القصاص يرضي القوة الغضبية، ويرضي باقي الشهوات النفسية.

ومع ذلك يخالف الإنسان العافي هواه ويصفح عن الخصم، ليدلّل على سموه وكماله وتحرره من قبضة الشيطان أو قبضة الشهوات، وبهذا الأسلوب يزداد عزّاً في نفسه ومكانة عظيمة في قلوب الناس، ولذلك قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديثه: «... فإن العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً...»(1).

3- وبهذا الشكل يكون العبد قد إتصف بالصفة التي يحبها اللّه، والتي إتصف هو بها - ولكن لا يخفى الفرق بين الأمرين - فيزداد قرباً من اللّه تعالى، لأنه تخلّق بأخلاق اللّه وأخلاق رسله وأوليائه. وإلى هذا المعنى أشار الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ختام حديثه «... فتعافوا يعزّكم اللّه»(2).

محاربة الهوى

إنزال العقوبة على المعتدي من ألذّ الأمور للنفس، وكثيراً ما تأنس القوة الشهوية بالمجازاة أو القصاص، إذ أن أغلب النفوس تحب مظهر الظهور بالقوة

ص: 215


1- الكافي 2: 108.
2- الكافي 2: 108.

والغلبة والتأثير والتعالي على الغير ولو بالظلم، فالمظلوم دائماً تحدِّثه نفسه بالثأرأو القصاص، لأنها ترى في ذلك كمالاً وظهوراً لها. إلّا أنه يخفى على ذلك الإنسان أن العفو عن المعتدي يزيد النفس كمالاً ونقاوة ورقيّاً أكثر مما تتصوره في إنزال العقاب. فإن العقوبة غالباً ما تكون من نتائج القوة الغضبية التي توقع الإنسان في متاهات، في بعض الأحيان، بينما العفو دائماً يكون من نتائج الفكر السليم، والقلب الطاهر، والإيمان المتكامل. ويمكن الاستدلال بعمل أئمتنا(عليهم السلام) بالعفو وأمرهم إيّانا به، بأن العفو أفضل بكثير من العقوبة.

نعم في بعض الموارد تتعين العقوبة للحدّ من الجريمة مثلاً. ولكن بصورة عامة نقول: العفو كمال، وكماله روحي يستمر في أعماق الإنسان، بينما العقاب ليس فيه كمال روحي للإنسان، ولذلك جاءت أخبار الهداة(عليهم السلام) مؤكدة على جانب العفو أكثر من العقوبة. يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم»(1)، أي: مسامحتهم والعفو عنهم. بل أحياناً يكون العقاب من أجل التشفي لا غير، وهو الغالب على طبع الإنسان، لأنه مما تميل إليه النفس بسبب القوة الغضبية، التي غالباً ما يحرّك أوتارها إبليس لعنه اللّه، ولذلك كان العفو كمالاً، لأنه يخالف هوى الإنسان، وكل ما يخالف الهوى فيه خير للإنسان، لأن الهوى يتحرك بإيحاءات الشيطان.

ولا بأس بنكتة مهمة في البين، وهي: متى يتحقق العفو؟ أحياناً عندما يضعف الإنسان عن أخذ الحق أو إنزال العقاب بالمعتدي، يقول عفوت عنه. ولكن في الواقع هذا بعيد عن العفو، وليس فيه أيّ ثمرة، إنما الكلام والثمرة تكون عندما يقدر الإنسان على العقاب أو القصاص، ولكنه يعفو. هنا يكون العفو فيه ثمار

ص: 216


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 20.

تصب على روح الإنسان، فتجعلها مشرقة ظاهراً وباطناً. ولهذا يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة»(1).

مَواقف مِن نور

لقد ثبت عند كل ذي لبّ أن طرف عائشة في معركة جمل كان يمثل جانب الباطل، وعائشة بنفسها كانت تعلم بذلك يقيناً، ولكن جرت الأحداث ومضت، وليس المقام في بيان الدوافع والأسباب، ولكن نريد أن نقول: بعد أن انتهت المعركة حاول بعض الأفراد، من جيش الإمام، أن يأخذوا ما بقي من جيش عائشة من سلاح وما شابه ذلك، فنهاهم الإمام عن ذلك. والسبب واضح، إذ ليس هدف الإمام في حروبه كلها هو صناعة جيش مسلح بالعدّة والعدد، بل صناعة جيش يتحرك دائماً من أجل إحقاق الحق، بغض النظر عن عدده وجنسه وسلاحه.

كان(عليه السلام) يغذيهم بالفكرة والمبادئ الإسلامية، لكي تكون دائماً هي الضوابط في حركتهم. والأمر الآخر هو بعد انتهاء المعركة وملابساتها، وأفعال عائشة وتحريضها الجيش، ومحاولتها لشقّ عصا المسلمين، وتعدّيها على إمام الزمان، وخليفة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وتجرؤها على النيل من الإسلام، بل القضاء على الإسلام في ما لو قدر وأن الإمام كان قد قتل، فمع كل هذا وذاك أرسل أمير المؤمنين(عليه السلام) معها بعض النسوة لخدمتها، وعدداً من الرجال لحراستها(2) في طريق عودتها إلى المدينة مخافة أن يُعتدى عليها، أو يقدم أحد على الإساءة إليها. ووصلت إلى المدينة بسلام وأمان، معزّزة ومكرّمة. هذا العمل لم نجده في غير آل علي(عليهم السلام)، فهو تعبير صارخ، ولعله أعلى درجة من درجات العفو عند المقدرة.

ص: 217


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 52.
2- انظر الإمامة والسياسة 1: 98؛ مروج الذهب 2: 370.

ولكن علياً(عليه السلام) لم يفعله ليزداد كمالاً، فهو كامل ومعصوم، بل ليضع درساً للأجيالوللقادة، كي يتخذوا هذا النهج، وهذا المسار الذي يؤمّن لهم النجاح والنصر والكمال في الحياة الدنيا، والفوز والقرب إلى اللّه عزّ وجلّ في الآخرة.

لماذا العقوبة؟

هناك بعض الحالات تتعين العقوبة فيها، وتكون أفضل من العفو، وبعض الحالات يكون العفو أكثر فائدة، أو أكثر إيجابية من العقاب. ويمكن أن نتصور بعض الأسباب أو الدوافع من وراء العقوبة:

1- اجراء العقاب من أجل إصلاح المجرم.

2- اجراءه من أجل العبرة للآخرين، لئلا يقدم فرد على جناية أو عمل قبيح، وكذلك العبرة لنفس المجرم، فإن العقاب الدنيوى البسيط يذكّره بعذاب يوم القيامة.

3- إجراء العقاب من أجل التشفّي وإرضاء الغرائز.

4- إجراء العقاب لمجرد العمل السيء، بعيداً عمّا إذا كان هذا العقاب يصلح الفرد أو لا، وأنه يحقق العبرة أو لا.

والعقلاء قالوا بحسن الأول والثاني، لأنهما يؤديان إلى إصلاح الأفراد، وتطبيق النظام الذي يضمن التعاضد الإجتماعي. أما الثالث فلا فائدة من ورائه إلّا إرضاءً للنفس والهوى. والاحتمال الرابع فيه قولان البعض قال بحسنه، أي: بحسن العقوبة فيه، وآخرون قالوا بقبحه. وعلى أية حال؛ ففي كل مورد يتمادى فيه المجرمون أو المخلّون بالأمن العام بوحدة المجتمع فإنهم يستحقون العقاب. نعم بعض الأشخاص يكون العفو عنهم أفضل من عقوبتهم، وهذا الأمر يترك عادة لظروفه الموضوعية، ونوعية الأشخاص. ولا بأس بالإشارة في البين إلى

ص: 218

مسألة الألم التي يفعلها اللّه عزّ وجلّ في المكلفين وهل أنها حسنة أم قبيحة؟وهل هي بعنوان العقاب أم لا؟ لقد اتفق العقلاء على أن جميع أفعال اللّه حسنة، ومنها الألم، وذلك لأحد أمور: إما لأن العبد يستحق الألم كالعصاة والكفار، أو لاشتماله على نفع أكبر من ذات الألم، كابتلاء المؤمنين لرفع درجاتهم وزيادة كمالهم، أو لدفع ضرر عنهم، كابتلاء العاصي لمحو الذنب عنه، أو أحياناً يكون بمقتضى النظام الكوني الحاكم (السنن الالهية) مِن قبيل مَن مَدَّ يده إلى النار فاحترقت، فهذا الألم صدر من النار، ولكنه يُنسب إلى اللّه، لأنه موجد القانون والعلة. ويمكن أن يصدق عنوان العقاب على هذا الألم لمن استحقّه مثل الكافر والظالم، ويمكن أن يكون محنة وابتلاءً للمؤمنين، لأن فيه نفعاً لهم في الدنيا والآخرة(1).

فمن خلال هذا البيان نصل إلى قناعة تامة بأن العقاب في بعض الموارد يكون مُهمّاً بل ضرورياً للحفاظ على النظام الاجتماعي والأمن العام وتطبيقاً للشرائع والنظم والقوانين وها نحن أولاء نجد القرآن الكريم لم يرفض العقوبات ولم يقبحها بل شرَّع بعضها كإجراء الحدود على الزاني والزانية وشارب الخمر... مع أن جميعها يصدق عليها أنها ألم ولكن هذا الألم فيه لطف إما لنفس المعذب أو للصالح العام. لذلك إذا كانت العقوبة من أجل الاصلاح والعبرة فهي حسنة لأن الغرض منها عقلائي وذو فائدة على المجتمع بشكل عام وعلى الفرد بشكل خاص...

أما العقوبة التي تدخل تحت عناوين أخرى لا مصلحة منها فهي غير حسنة وتدخل تحت الظلم والتعدي مع ملاحظة كون الجاني لم يقع في شبهة أم ما

ص: 219


1- لزيادة التفصيل انظر كشف المراد، أحكام اللطف، المسألة: 13.

شاكل من الأعذار التي ترفع عنه العقوبة. أي أن الجاني يعرف أن هذا الفعل حرام أو غير جائز ولم يشتبه عليه الأمر ولم يكن مضطراً إلى باقي الشروط المذكورة في كتب الفقه - باب الحدود والتعزيرات - .

لذا فإنّ العفو والصفح إذا كانت فيه فائدة حتى ولو على المستقبل البعيد فهو أجمل من العقوبة ولعله الرادع الأنصع لضمير الفرد وعودته إلى حضيرة الإنسانية المبدعة، فإن الرادع الذاتي أقوى تأثيراً على نفس الإنسان وعلى المجتمع ككل. لذا يعتبر هذا العفو أو الصفح جميلاً قال تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَأتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(1).

«الحمد للّه على حلمه بعد علمه، والحمد للّه على عفوه بعد قدرته، والحمد للّه على طول أناته في غضبه، وهو قادر على ما يريد، الحمد للّه خالق الخلق، باسط الرزق، فالق الاصباح، ذي الجلال والاكرام»(2).

ص: 220


1- سورة الحجر، الآية: 85.
2- إقبال الأعمال 1: 59.

الصبر والاستقامة

الاعتدال بين العقل والهوى

اشارة

قال تعالى: {وَالصَّٰبِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(1).

الصبر هو ثبات العقل الهادي إلى الخير والصلاح، أمام قوّة الشهوة، التي لا تملّ من الإنفلات عن العقل، والنزاع دائم بين الطرفين، فجنود العقل هم ملائكة الرّحمن وجنود الشهوة هم حزب الشيطان وأعوانه. وتارة تكون الجولات والإنتصارات متكافئة، وأخرى يغلب العقل على الشهوة، وبالعكس. وكلّما غلبت الشهوة جنود العقل، قلّ باعث الدين واليقين، وانخفض الصبر إلى أدنى مراتبه. وكلّما انهزمت الشهوات أمام العقل ضعف باعث الهوى، وقوي الصبر الذي هو أساس انتصار المعركة لصالح العقل، وهو حافظ الإيمان والتقوى والمحبة في اللّه والرضا في اللّه، بل هو أساس الأخلاق الرفيعة. ولذلك ورد عن الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) أنه قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له»(2).

فالصبر له محلّ الصدارة في الحياة الإيمانية للمسلم، وعلى الإنسان أن

ص: 221


1- سورة البقرة، الآية: 177.
2- الكافي 2: 89.

يتلبّس بلباس الصبر دائماً، ويبذر بذرته في قلبه، لكي يثمر بالمنفعة والعطاء. ولذلك يقول تعالى في كتابه المجيد: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ}(1). لأن الإنسان لا يقوى على الثبات أمام المهمّات والنوازل؛ إذ لا معين في حقيقة الأمر إلّا اللّه عزّ وجلّ، وبالثبات والإستقامة والاتصال به سبحانه وتعالى.

فالصبر يصغّر للإنسان أكبر عظيمة نازلة به، والانصراف إلى اللّه وطلب الصبر منه يؤدّي إلى إيقاظ روح الإيمان، وينبّه الإنسان على أنّه متكئ على ركن لا ينهدم وسبب لا ينفصم.

ثمّ إنّ الصبر وقاية للإنسان؛ لأن كلّ مصيبة لها نوع تأثير عليه، وتطبع بصماتها على قلبه، فلعلّها تجذبه نحوها، ويتصدّع قلبه بها، ولذا كان الصبر على بعض المصائب غير جائز، ولا ترخيص للإنسان في احتمالها، بل يجب عليه أن يقاومها ما استطاع، كالمظالم المتعلّقة بالأعراض والنفوس.

أما تلك التي لا بدّ له أن يصبر عليها، ولا يجب عليه أن يقاومها، فهي الحوادث الكونية الخارجة عن اختياره وإرادته، كالموت مثلاً، فهو على العكس من ذلك يزيده قوّة معنوية، ويرجعه إلى اللّه عزّ وجلّ. ولذلك يُعد الصبر من الأمور الجليلة والمهمة. والقليل من يحتفظ به عند النائبة، فلذلك نرى الإمام السجاد(عليه السلام) حين حضرته الوفاة يضمّ ابنه الإمام الباقر(عليه السلام) إلى صدره، ويقول له: «بُني أُوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذَكر أن أباه أوصاه به، يا بني: اصبر على الحقّ وإن كان مرّاً»(2).

إذن حالة التوازن بين العقل والهوى تحتاج إلى مجاهدة، والأخيرة ملازمة

ص: 222


1- سورة البقرة، الآية: 45.
2- الكافي 2: 91.

للصبر؛ إذ لولاه لما ثبت الإنسان في طريق الجهاد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب أن يكون الإنسان على حالة من التديّن بحيث تحجزَه وتصدّه عن اتّباع خطوات الشيطان، فتكون بمثابة الوقاية الروحية له ليحافظ على طهارة روحه ونظافتها. إذ غالباً ما تكون الضحيّة للهوى هم الناس غير المتدينين، لعدم وجود الوقاية عندهم، ولا يكتفي هؤلاء بأن يكونوا عبيداً للشهوات، بل تراهم يعملون على دعوة الآخرين إلى انتهاج منهجهم قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا}(1).

ثم إنّ هذا الأمر لا يقتصر على نحو الفردية، بل حتى على مستوى الجماعة وما يدور فيها من حركات جماهيرية، فكلّ ثورة تصحيحيّة تحتاج إلى أن تربّي أفرادها على الصبر والاستقامة في طريق البناء والتصحيح؛ لتبقى ذات عطاء لأفراد الأمة، وأما إذا اتخذ أبناؤها سبيل الفوضى، وقلّة الصبر، والإنحراف عن المبادئ، فإنّهم يكونون بذلك قد سحقوا خطواتهم التي تقدّموا بها إلى الأمام، وعادوا على نفس الأثر إلى الخلف والانهزام.

وكذلك الحاكم يجب أن يربّي أفراد أمّته على الصبر والاستقامة، ونشر هذه المفاهيم للأمة وترويضها عليها، لكي تتلبّس بها وتصبح هاتان الصفتان المظهر العام للأمّة، وبذلك تكون قد اختارت طريق بقائها وخلودها.

وهذا الأمر نلحظه بقوّة في حياة الإمام السجاد(عليه السلام)، فعندما عمدت السلطة الأموية إلى نشر مفاهيمها المخالفة للإسلام، وقف(عليه السلام) بقوّة أمام هذا التيار، وعمل جاهداً على أن يعيد في الأمّة روح المبادئ الإسلامية، ونهجها الصحيح، وأنيحفظها من كلّ ضياع وكبوة، فلولا صبر المؤمنين الخُلّص من أصحاب الأئمة(عليهم السلام)،

ص: 223


1- سورة النساء، الآية: 27.

وغيرهم، لما حافظت الأمّة الإسلامية على هيكلها العام وروحها الإسلامية.

الإمام الحسن(عليه السلام)

من المواقف الحرجة التي مرّت بالإمام الحسن(عليه السلام): حربه مع معاويه الذي قلب الموازين والمفاهيم الإسلامية، وجعل الخلافة وإمرة المسلمين وراثة، وأخذ يسير بالمسلمين بسير الملوك والجبابرة، وهو - معاوية - القائل: واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إِنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم(1). فأراد الإمام الحسن(عليه السلام) أن يزيل هذه العثرة التي وقفت أمام تقدّم الحضارة الإسلامية، إلّا أنّه ابتلي بخذلان القوم، بما أظهروه من السب والتكفير له، واستحلال دمه، ونهب أمواله، ولم يبق معه من يؤمن من غوايله إلّا خاصته، من شيعة أبيه(عليه السلام) وشيعته، وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام.

فهذا الموقف الحرج كان يتطلّب من الصبر ما لا تتحمله الجبال الرواسي، فعمل الإمام الحسن(عليه السلام) على احتواء الساحة الإسلامية بما فيها من عدوانية باتجاهه، وبما فيها من جهلٍ وقلّة وعي وغياب حالة الطاعة له، بعد أن بايعوه وأعلنوا ولاءهم له، والانصياع لأوامره، فابتلي بذلك.

هذه الوقائع الثقيلة على النفس تطلّب من الإمام الحسن(عليه السلام) صبراً يوازيها ويساويها، لكي يصهرها ويذوّبها، كيلا يستغلها معاوية في ضرب الإسلام وتشويهه، فصبر الإمام على القوم وعلى فهمهم الخاطئ، وحاول مع أخيه الإمام الحسين(عليه السلام) أن يصحّحا أفكار الناس. ولم يكتف القوم بذلك، بل عمدوا إلىطعن الإمام الحسن(عليه السلام) في فخذه(2)، ومع ذلك لم يتزلزل صبر الإمام(عليه السلام)، فكان

ص: 224


1- الإرشاد 2: 14.
2- انظر الإرشاد 2: 12.

صبره في السرّاء والضرّاء وحين البأس على حدٍّ سواء.

العلم نور

إنّ العلم هو حالة نور وإنكشاف لدى الإنسان العالم، وهذا العلم يعطي لهذا الإنسان بُعد نظر، ونظرة عميقة للأشياء والمسائل، وتفسيرات متعدّدة للحوادث، وبُعد مدى واتساع في الأُفق الفكري والقاعدة الثقافية العامة. لذلك نحنُ نرى أنَّ الإمام المعصوم يصبر على أتعس الظروف وأحلكها وأصعبها؛ لأنّه لا ينظر إلى الواقعة أو الحادثة بظروفها الآنية فحسب، بل يخرق بنظره عشرات السنين والأجيال، ويتصرّف على هذا الأساس، ولهذا نجد للعلم مدخلية أساسية في تقوية الصبر، وزرعه في النفس، وحثّ النفس على التصبّر والاصطبار، وتحمّل المشاق والمعاناة، من أجل هدف يجهله العوامّ من الناس، الذين لا يمتد تفكيرهم وبصرهم إلى أبعد من بعض الكيلو مترات والساعات من الزمن. بينما الإنسان المعصوم، أو حتى الإنسان العالم الذي يتصرّف على أساس العلم، يرى الهدف الأسمى والأجل الأبعد، فيعقد عليه الآمال، وينتظر منه الفوائد التي من أجلها يصبر كلّ هذا الصبر الذي تعجز الناس عنه. وهذا الدور الذي لعبه العلم في مجال الصبر هو نفس الدور الذي يلعبه في مجال الاستقامة، حيث يدعو الإنسان إلى الإلتزام بطريق واحد وعدم التذبذب. فترى العالم يمتاز بالإستقامة والمنهج القويم، لأنّه أدرك بعلمه أنَّ المصلحة والملاك كُلَّه في الإستقامة واتخاذ منهاج واحد؛ يقول تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}(1). فاللّه عزّ وجلّيقول: إن الوصول إلى رضوانه هو اتباع سبيل واحد، وهو سبيل الأنبياء والرسل والأوصياء والأئمة(عليهم السلام)، وعدم اتباع سبل متفرّقة ويختلط فيها الحقّ مع الباطل.

ص: 225


1- سورة الأنعام، الآية: 153.

الاستقامة

اشارة

هي حالة التوازن والإعتدال العام في السلوك وعدم الإفراط والتفريط في جانب من الجوانب. فالاستقامة هي السير الطبيعي في الحياة، والتصرّف المألوف بين الناس، والقول المستقيم الذي تتقبله الأسماع والأذواق، والرأي السديد الذي ترضاه الأفكار، وهكذا في كلّ مجالات الحياة نحتاج إلى الاستقامة.

فهي تعني النظام والانتظام وحالة الاستقرار والثبات العام، وعكسها التفريط في جانب من الجوانب، كالتهاون في العبادات، والاستهزاء بالناس، وحمل النفس على ما يؤلمها.

وبالجملة فإن الاستقامة من الأمور الصعب جدّاً تحققها، وكأنّها المرحلة الحرجة، التي يتمنّى كلُّ إنسان أن يمرّ خلالها بسلام ويسجّل نجاحاً باهراً.

اليقين يلازم الاستقامة

جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرّاً لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): كيف أصبحت يا فلان؟

قال: أصبحت يا رسول اللّه موقناً. فعجب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قوله! وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة، فما حقيقه يقينك؟ فقال: إن يقيني يا رسول اللّه هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي، وقد نُصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنّة يتنعمون في الجنّة، ويتعارفون، وعلى الأرائكمتكئون، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون مصطرخون، وكأنّي الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي. فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأصحابه: هذا عبدٌ نوّر

ص: 226

اللّه قلبه بالإيمان، ثم قال له: إلزم ما أنت عليه، فقال الشاب: أُدْعُ اللّه لي يا رسول اللّه أن أُرزق الشهادة معك. فدعا له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاستُشهد بعد تسعة نفر، وكان هو العاشر»(1).

نلاحظ هنا أن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال له: «إلزَم ما أنت عليه»، أي: أُثبُت، وحافظ على هذا الإيمان، وهذا اليقين. وهذا الثبات لا يعني الجمود وعدم التقدّم أكثر في القرب من اللّه، بل هو يعني الاستقامة على المبدأ، والتحرّك بخطى راسخة نحو المولى عزّ وجلّ.

كيف نحصل على الصبر؟

إن العمل على تحصيل صفة الصبر يتطلّب من الإنسان مجاهدة حقيقية، فيجب أن يستجمع كلّ قواه المعنوي والروحية، ويسلك كلا الطريقين النظري والعملي لتحصيل الصبر، ويروّض نفسه على أمور منها:

1- أن يكثر من التفكير في فضل الصبر ومميزاته وفوائده وما ورد عنه، وعن حسن نتائجه في الدنيا والآخرة. فلا يبتئس مما يفوته من الملذات، فإنها أمامه في دار الآخرة، وأن يعلم أن ثواب الصبر على المصيبة أكثر مما فات.

2- التفكير العميق بمضرّة الجزع عند المصيبة، وعند ترك الطاعة، واتباع الشهوة المنتهية بعد دقائق، وسوء آثارها في حياة الإنسان، وأنّه لا يشفي غليلاً، ولا يبدّل قضاءً واقعاً، وأنه ليس من شيم الرجال.

3- أن يفكّر ويتذكّر جيّداً أن مصائب الدنيا مهما طالت وامتدت فهي منتهية،ووقتها محدود، ولا يمكنها أن تدوم، بينما أجر الصابر عند اللّه يزداد ويدوم. وهذا هو الطريق النظري لتحصيل الصبر. أما الطريق العملي فهو:

ص: 227


1- الكافي 2: 53.

1- العمل على الضدّ دائماً مع رغبات الشهوة وميلان النفس، بالمجاهدة ومنع النفس من بعض الأمور التي تطلبها، لذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا يتحقق الصبر إلّا بمقاساة ضد المألوف»(1).

2- الرياضة المعنوية والبرنامج الروحي، من تعويد النفس على الصيام والجوع، وقطع كل الأسباب المهيجة للشهوة.

الاستقامة على مستوى الأفكار والأعمال

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ}(2). هذه الآية تشير إلى الإستقامة العملية التي امتاز بها الأولياء الصالحون، الذين تبلورت فكرة الإيمان باللّه عندهم، ثم تشكل الإيمان عملاً صالحاً وقولاً سديداً، ثم استقاموا في مسلكهم العملي.

وبطبيعة الحال، كانت هناك قبل الإستقامة العملية استقامة على مستوى الأفكار، وهي المتمثلّة في توحيد اللّه عزّ وجلّ، والاعتراف المطلق له بالربوبيّة؛ لأن الأفكار هي الاُخرى تحتاج إلى استقامة، والحذر من الإنحراف في العقائد يحتاج إلى مسلك مستقيم وعدم الخلط به؛ لأن الأعمال مترتبة أو متفرّعة على الاعتقادات وعلى الأفكار التي يلتزمها الإنسان ويؤمن بها. ولذلك نرى الدعوة الإلهية تؤكّد على هذا الجانب المهم من الإستقامة: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}(3). أي: الإلتزام بأوامر اللّه سبحانه وتعالى، والاستقامة عليها، وعدم الميلوالانحراف.

ويتّضح مما تقدّم بأنّ اندماج هاتين الصفتين: الصبر والاستقامة، وتحلّي

ص: 228


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 790.
2- سورة فصلت، الآية: 30.
3- سورة هود، الآية: 112.

الإنسان بهما يُقرّبه من محل الأولياء والصالحين والشهداء، وسوف يكون من الناجحين في الحياة، إذ لا تهزّه ولا تقلقه أي مشكلة تمرّ عليه، ولا تأخذ منه شيئاً، لأنّه يحتفظ برصيد الصبر الذي يقاوم به الشيطان والأهواء، فيستمر على الثبات أبداً. والرصيد الثاني وهو الاستقامة؛ ينقله من الثبات إلى التحرُّك، ولكن هذا التحرُّك يمتاز بصفة الإيمان والاطمئنان وهدوء النفس، لأنّها تسير على وحي الأفكار الإيمانية، والجذبات الرحمانية.

اللّهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد، ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنّك أنت الوهّاب، اللّهم صلِّ على محمّد وآل محمّد، ربَّنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنّا واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا؛ فانصرنا على القوم الكافرين.

من هدي القرآن الحكيم

الصبر

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوٰةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(1).

وقال سبحانه: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٖ}(3).

وقال جلّ وعلا: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَٰمِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(4).

ص: 229


1- سورة البقرة، الآية: 153.
2- سورة آل عمران، الآية: 186.
3- سورة الزمر، الآية: 10.
4- سورة العنكبوت، الآية: 58-59.

وقال عزّ اسمه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).

العلم

قال جلّ شأنه: {وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال عزّ من قائل: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَٰلِمُونَ}(3).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(4).

وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(5).

الاستقامة

قال عزّ وجلّ: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(6).

وقال جلّ وعلا: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(7).

وقال عزّ اسمه: {أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}(8).

وقال جلّ شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَلَّا

ص: 230


1- سورة آل عمران، الآية: 200.
2- سورة آل عمران، الآية: 7.
3- سورة العنكبوت، الآية: 43.
4- سورة فاطر، الآية: 28.
5- سورة المجادلة، الآية: 11.
6- سورة الأنعام، الآية: 153.
7- سورة الحج، الآية: 54.
8- سورة فصلت، الآية: 6.

تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(1).

من هدي السنّة المطّهرة

الصبر وآثاره

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يقول اللّه عزّ وجل: إذا وجهت إلى عبدٍ من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً»(2).

وقال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «من صبر فنفسه وقَّر، وبالثواب ظفر، وللّه سبحانه أطاع»(3).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد»(5).

العلم وفضله

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فضل العلم أحبُّ إلى اللّه عزّ وجلّ من فضل العبادة»(6).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لأن العلم حياة القلوب ونور الأبصار من العمى وقوّة الأبدان من

ص: 231


1- سورة فصلت، الآية: 30.
2- الدعوات للراوندي: 172.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 648.
4- الكافي 2: 89.
5- الكافي 2: 92.
6- الخصال 1: 4.

الضعف، ينزل اللّه حامله منازل الأخيار ويمنحه مجالس الأبرار في الدنيا والآخرة»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم أصل كلّ خير»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من عبد يغدو في طلب العلم أو يروح إلّا خاض الرحمة وهتفت به الملائكة: مرحباً بزائر اللّه، وسلك من الجنّة مثل ذلك المسلك»(3).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «لا نجاة إلّا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلّم، والتعلّم بالعقل يعتقد، ولا علم إلّا من عالم ربّاني»(4).

الاستقامة

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «استقيموا ونِعِمّا إن إستقمتم»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من طلب السلامة لَزِمَ الاستقامة»(6).

وقال(عليه السلام): «لا سبيل أشرف من الاستقامة»(7).

ص: 232


1- الخصال 2: 522.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 48.
3- ثواب الأعمال: 131.
4- الكافي 1: 17.
5- نهج الفصاحة: 210.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 593.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 771.

دور التفاؤل في تحقيق الأهداف

ما هو التفاؤل؟

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «تفأل بالخير تنجح»(1).

أن ينفتح الإنسان بروحه وفكره على الحياة، ويثور ويتخطّى ويتمرّد على كل معاني الكسل واليأس والانهزام فذلك هو التفاؤل، فهو بمثابة طلائع النور والخير التي تضيء الحياة والقلوب النابضة بالعمل والسعي والحركة فتزداد النفس إشراقاً والروح خلاقيّة، بحيث لا تعرف للفشل معنى، ولا تعير اهتماماً للسقوط والنكسة. ذلك لأنها تلحظ حالات النهوض والنجاح، وإمكانية القيام من بعد السقوط. والمتفائل إنسان حركي في رؤآه، متطلع في أفكاره متطوّر بروحه التي لا تعرف إلّا الخير والفوز. وكلما كان الإنسان متفائلاً في الحياة استطاع أن ينهل من الفيض الإلهي ويتكامل، لأنه ينفتح بروحه ومشاعره وأحاسيسه على الكون، وعلى ربّه، وعلى كل مفردات الحياة، ولا يتوقع على نفسه، ولا يدور حول ذاته. على العكس تماماً من الإنسان المتشائم فإنه يرى الفشل في كل حركاته، ولا يتأمل الخير أبداً، بل لا تأتي على باله فكرة النجاح والتوفيق، ودائماً ينطلق من ذاته ويعود إليها عاجلاً. وحتى في المنطق، فنحن نرى أنّ منطق المتشائم دائماً يعبِّر ويبشّر بالشّر والأمور المزعجة، ويختار الكلمات المظلمة ذات الضبابيّة

ص: 233


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 316.

وعدم الوضوح أو الثقيلة التي تبعث سامعها على الحزن، وتدعوه لليأس وعدم الحركة والسعي بخلاف الإنسان المتفائل، فإنه دائماً وأبداً يبشر بالخير والأمل.

فوائد التفاؤل

اشارة

يمكن أن نحصر فوائد التفاؤل في محورين:

الأول: الفائدة العملية: حيث إن المتفائل بالحياة لا يركن إلى اليأس، ولا يكلّ عن الحركة، بل يبعث دائماً عن الأجواء التي يتحرك وينفع الآخرين، وعلى رغم العقبات التي تصادفه أثناء سيره، تجده يمضي قُدماً، ويواصل في خطواته، ويسعى لأن ينفذ أفكاره في الواقع الخارجي، ويصل إلى آماله وأهدافه.

إن المنعطفات التي تعترض طريق الإنسان المتفائل لا تعني بالنسبة إليه أنها نهاية السير، بل إنها تجدد عنده العزم على التواصل، وهكذا كان علماء الشيعة فإن تسلط الحكومات الظالمة العديدة على القواعد الشيعيّة، وفتكها بها، وتقليص نفوذ الشيعة عن مواطن الحكم، وتهميش أدوارهم ونظائر ذلك من الأمور، كل تلك الممارسات أدّت إلى إضعاف الشيعة... ومع كل هذا وذاك فإن علماء الشيعة كانوا أوائل المجاهدين في طرد الاستعمار البريطاني من العراق، بل كانت حركة الثورة ضد المستعمر إنما صنعها الشيعة، وخططوا لها وقادها مراجعهم وهكذا ثورة التنباك. وقبل ذلك كان لمراجع الدين دور كبير في إيقاف النزاع بين الدولة العثمانية والفارسية وغيرها من المواقف الفردية والجماعية، التي تعكس دور التفاؤل في استمرار المسيرة.

فلو كان اليأس قد دبّ في نفوس المسلمين، وأصابتهم حالة الجمود لما استطاعوا طرد المستعمرين من بلادهم، ولما استطاعوا خوض الثورات التحررية. فالتفاؤل هو المحرّك اليومي للجميع، فعند كل صباح يتجدد أملٌ في ذات كل

ص: 234

إنسان بفضل اللّه، ويتحرك على ضوء هذا الأمل الجديد، وترى الإنسان يرتّب بعض الأشياء والمقدمات للنتائج على الشوط البعيد، والبعض يضع برامجاً لحياته، دون أن يلحظ المعوّقات، ولا يعني ذلك أبداً أنه جاهل بها. وإنما التفاؤل الكبير جعله يتجاوزها حتى على المستوى النظري وحين يجد سبيله إلى العمل فإنه يتحرك بخطوات راسخة، حتى وإن واجهته تلك العقبات والسلبيات.

الفائدة الثانية المعنويّة: في كل يوم يرى الإنسان المتفائل صورة جديدة للحياة تختلف عن ذي قبل، بفعل آماله وأفكاره المتجدّدة والمنفتحة على الحياة، وتنشط هذه المشاعر عند كل صباح، وعقيب كل دعاء وصلاة واتصال مع اللّه عزّ وجلّ. ومن هنا يكون المؤمن ذا آمال كبيرة جداً أكبر من قدرته، ولكنها مرتبة وهادفة على العكس تماماً من الإنسان المادي غير المؤمن باللّه أو الذي ابتعد عن طريق الارتقاء بالعبادة، إذ نراه يتحرك بعشوائية واظطراب، بل وفي كثير من الأحيان نلحظ الانحرافات السلوكية والفكرية عليه، لأنه يريد أن يحقق آماله ويفعِّل مشاعره بأي طريقة كانت، حتى وإن أثَّر على الجوّ العام.

الفارق بين المتفائل والمتشائم

ثم هناك فرق واضح بين المتفائل والمتشائم على الصعيد المعنوي، إلّا أن أثره عادةً ينعكس في الواقع العملي، حيث إننا نرى المتفائل لا يحمل أيّ روح عدوانية تجاه الآخرين، لأنه يرى كل ما في الوجود خيراً، فهو مسالم ويحوطه الهدوء والانتظام. فمثلاً: هو يرى ويعتقد أنّ تأخر استجابة دعائه إنما لصالح يدّخره اللّه له، أو لخلل في شروط الدعاء، ولا يعتقد أن اللّه يعاديه أو يعاكسه، بخلاف المتشائم فهو عدائي أولاً وإنعزالي ثانياً، ويختار رفقاء مشابهين له، فتراهم مجموعة كاملة من الشؤم والعدوانية، لأنهم يرون أن اللّه تعالى قد قدر

ص: 235

لهم أن يعيشوا هكذا ويلقون باللوم كلّه على اللّه عزّ وجلّ، أو على الناس، ويتناسون تكاسلهم واختياراتهم السيئة في الحياة، فيظنون بالناس وباللّه السوء، الأمر الذي يزيد في تعكير صفوة حياتهم، ولا يخفى أن الاتجاه الجبري هو الذي ساعد كثيراً على ظهور مثل هذه الشخصيات على مسرح الحياة، من خلال عرض موضوع القضاء والقدر، والبلاء والجبر والاختيار بصورة جبرية محضة، مما أدى إلى تكدّر العلاقات بين الإنسان وربّه، وبالتالي مع الناس أيضاً. على أنّ حالات التخلف الاجتماعي هي الأخرى أيضاً ساعدت على انتشار مرض التشاؤم في قطاعات كثيرة من المسلمين، مع أن الإسلام يرفض هذا الاتجاه، ويؤكد على التفاؤل، ويبعث نحو الأمل والتجدد، من خلال الإيمان المطلق بقدرته المتجددة، والقادرة على تبديل الأحوال، مما يبعث على الاطمئنان في قلب كل إنسان.

من شروط النصر

اشارة

من الذي يرغب عن النصر والفوز؟ وعيش تلك اللحظات الروحية التي يقصر اللسان عن وصفها؟ فإنها تمثل حاكمية الإرادة الحرة، وتحريرها من أسر الظلمة. ولكن لكي يتحقق النصر لا بدّ من توفر شروط عديدة، منها القيادة الرشيدة والخطّة المدروسة، والجيش القويّ عدّة وعدداً، وغير ذلك من الشروط. ولعل أهم أمر هو روحيّة الجندي المقاتل، وما يحمل من معنويات، ومستوى قوة الإرادة لديه. فذلك هو الطرف المهم في المعادلة، وهو واضح من خلال التجارب التأريخية، فكلما هُزم المقاتل داخليّاً ونفسياً، فإنه لا يستطيع أن يقف ويصمد لحظة واحدة أمام العدوّ، وإن كان في يديه أعظم سلاح.

لذلك تستعمل الدول قبل الحرب معركة الإعلام الذي يثبِّط معنويات الجنود

ص: 236

لدى الطرف المقابل، ويضعف من إرادتهم ويفتّ من قواهم، حتى لا يقدروا بعدها على الصمود وخوض المعركة. والتفاؤل هنا دوره مهم جداً، فكلما كان المقاتل متفائلاً بالنصر كانت إرادته ونفسيّته ومعنوياته بمستوى تفائله، مما يضفي عليه حالة الصمود والمقاومة المستمرة، لأنه حين يدخل ميدان الحرب، في ذهنه فكرة واحدة وهي أنه منتصر، لذلك يحاول جاهداً أن يحقق ذلك مهما كلّف الأمر.

أما إذا كان المقاتل متشائماً، فإنه يدخل الحرب خائر القوى، يلاحظ قوة الطرف الآخر وفي باله فكرة الانهزام، بل إنه منذ أوّل لحظة يواجه فيها العدو، أو قبل ذلك، يفكر بكيفيّة الهروب والخلاص، لأنه لا يعتقد بأن النصر حليفه أبداً، بسبب تشاؤمه الذي أثَّر على إرادته فأضعفها. ولذلك حاول الإسلام أن ينفي حالات التشاؤم ويرفضها، ويؤكد على أن التشاؤم ليست له أيّ حقيقة في الواقع، محاولاً بذلك رفع أيّ حالة من شأنها أن تضعف إرادة الإنسان.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «... والطيرة ليست بحقّ...» (1).

ولقد شهدنا

لقد شهدنا كيف تقدم الصليبيون لاحتلال العالم وسحق الشعوب المظلومة ومصادرة ثرواتها، ولا يخفى أنهم انتصروا في بادئ الأمر، ولكن عندما نتساءل عن سبب انتصارهم، سوف نكتشف أن أهم سبب كان تعبئة المقاتلين تعبئة روحية من خلال رجال الدين. حيث عملت الكنيسة والقساوسة والرهبان بجدّ ومثابرة على بث روح الحماس في الجنود روحياً. وزرع الأمل وطرد اليأس مننفوسهم، وتلقينهم بأنهم شعب اللّه المختار. وصار فتح وإستعمار البلدان واجباً

ص: 237


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 400.

دينيّاً بالنسبة للجنود، بعد أن خلطوا فيهم الدماء مع فكرة الشعب الخالد الذي يجب أن يبقى على الأرض وحده لا يشاركه غيره من الشعوب والديانات الأخرى فبات كل جندي يرى أنه أفضل من غيره فيجب أن يبقى حيّاً، والآخرون إمّا أن يموتوا أو يكونوا تابعين له. وبمستوى هذا الشعور تحرك اليهود أيضاً من أجل ترسيخ كيانهم اللقيط على أرض فلسطين وفي الطرف المقابل كانت عزائم المسلمين خائرة، ومعنوياتهم مسحوقة، وإراداتهم معدومة بسبب انغماسهم في الدنيا، وابتعادهم عن الدين، وانحراف حكوماتهم، والجهل الذي انتشر في ربوع البلدان الإسلامية، بسبب الترف والملّذات، وتنازلهم عن المبادئ الإسلامية الحكيمة. وهكذا سرقت الثروات العظيمة وخيَّم الجهل واستوطن اليهود فلسطين.

والكل يعلم

والكل يعلم أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)انتصر على أعظم الجيوش، وخاض أكبر المعارك، واستطاع أن ينشر الإسلام في الأرض، في عدد قليل من الجنود، وأسلحة متواضعة ورديئة، إذا قيست مع أسلحة الجيوش التي حاربته. إلّا أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبّأ المسلمين تعبئة روحية عالية، وغذّاهم بالغذاء المعنويّ الغنيّ، وثقفهم بثقافة الإيمان والتوحيد، التي تعني أنه لا مؤثِّر في الوجود إلّا اللّه، مما يزرع في قلوب المسلمين القوة والثبات، والتحدّي لأي قوّة في العالم. لذلك خاض المسلمون معركة بدر، وسطّروا فيها أروع معاني البطولة، وأجمل صور الصمود والثبات والتضحية، مع قلّة عددهم. ثم خاضوا الحرب تلو الحرب، دون تعب أو كلل، حتى أوصلوا الإسلام العظيم إلى الصين وأسبانيا وفرنسا والهند وايران... وهكذا،فقد لعب التفاؤل دوراً كبيراً في نشر الإسلام وإعلاء كلمة التوحيد، وإعزاز

ص: 238

المسلمين أنفسهم، لأن الدين يدفع الإنسان نحو التواصل والاستمرار والحركة في الحياة، وإشعاره بالمسؤولية، باعتباره خليفة اللّه في الأرض.

وكلّما استغرق الإنسان في أجواء الدين، وأجواء الحب الإلهي، والقرب منه تبارك وتعالى، فإنه لا يعرف للتشاؤم أي معنى، ولا يعرف الخيبة ولا الكسل، بل إنه يرى أن الكمال يحصل عليه يوماً بعد يوم. وعليه فيجب أن يواصل الحياة ويجاهد ويصارع كلَّ من يعترض مسيرة كماله واتصاله بربِّه عزّ وجلّ. أمّا إذا ضعف هذا الإحساس الديني، والهاجس الروحي، بسبب الأهواء والميول والجهل والتجهيل، فلا يبقى للملكات الإنسانية الجميلة أي موضع في هذا الإنسان فيعود ضعيفاً خائفاً مستغرقاً في الدنيا، إلى أن يعرف حقيقتها، وأنها زائلة غير دائمة له، فيكرهها ويتشاءم منها، ومن كل صورها، ومن أناسها.

لكي ينتشر الإسلام

اشارة

إنها مسؤولية كل مسلم، مهما كان دوره في الحياة، أن يسعى لنشر الإسلام لإنقاذ البشرية جمعاء من الظلمة والطواغيت، والذين يلعبون بمقدرات الشعوب، على حساب أهوائهم وملذّاتهم. وعلى كل مسلم أن يعرف دوره في هذا الواجب المقدس، لا سيّما وأن للمسلم قناعات بأن هذا القرن هو قرن حاكمية الإسلام، لذلك نرى الطواغيت أخذوا يكثفون من إرهابهم ضد المسلمين. ولكن مهما فعلوا فإن المسلم يحبّ دينه، ولن تضّره هذه التوافه، ويوماً بعد يوم سوف يثبت المسلمون إرادتهم، ويحكّموا الإسلام كدين ونظام ليسوس الناس كلهم.

ولكن إنما يمكن لذلك أن يتمّ، إذا عمل المسلمون بأسباب النصر والعزّة، التي نذكر هنا بعضاً منها:

1- أن تظلّ فكرة التفاؤل في ذهن كل مسلم، لكي يبقى يتحرك ولا يقف أبداً،

ص: 239

ويشعر في أعماق نفسه أنه منتصر، وأنه صاحب الحق، وأنه القوي دائماً، وأن الحياة تتجدد، والكفر لا بدّ أن يزول، لأنه باطل، ولن ينسجم مع الحق، ويقوي إرادته من خلال إحساسه وشعوره هذا. وأن يبعد نفسه عن أي فكرة تحمل إشارة أو إشعاراً بالتشاؤم، لأن ذلك مقدمة للفشل والسقوط.

2- أن يدرس لغة العصر، ويتفاعل مع الناس بالأساليب المتمدّنة، ولا يكون هجيناً غريباً وسط الناس بل عليه أن ينسجم مع الأجواء التي يعيش فيها الناس، ومن خلالها يحاول أن يغيّر. والإسلام لا يعني أن نعيد الشعوب إلى الوراء ونحرمهم من التطور التكنلوجي والتمدن العصريّ، بل يغذي الناس بالأفكار الحضارية التي تربطهم مع بعضهم بعنوان الأسرة الواحدة، وتربطهم مع اللّه بعنوان الخالق والمخلوق. وهكذا ينظّم الإسلام الفرد داخلياً وخارجياً مع ربه، ومع الناس ومع الطبيعة. فعلى العاملين لنشر الإسلام أن يستخدموا الأدوات الحديثة في التبليغ، والأمور الناجحة في إيصال الفكرة، وأن يكلموا الناس بلغاتهم، ليسهل أخذ الفكرة والتفاعل معها. وباختصار: أن يبحث العاملون عن الطرق المختصرة لنشر الإسلام كفكرة ونظام ودين.

شاهد حي

ينقل عن أحد الخطباء المبلِّغين أنه في كل عام يذهب إلى أمريكا، ويستأجر قناة تلفزيونية، ويبّث محاضراته عن الإسلام باللغة الإنجليزية التي أتقنها لهذا الغرض. ويستمع إلى محاضراته من الأمريكان ملايين من الناس، وبالفعل فقد استطاع أن يُدخل في الإسلام بفضل محاضراته الكثير من الناس. إن هذا الإسلوب ناجح جداً لأنه حضاري موافق لرغبات الناس، ولا يكلفهم شيئاً سوى الاستماع،وما أكثر الناس الذين يحبون أن تصلهم الأشياء والأفكار جاهزة دون تعب!

ص: 240

3- على الجميع أن يتجنبوا حالات العنف في نشر الإسلام، لأنه أمر غير ملائم لطبع الإنسان وميوله، ولا ينسجم مع أصل الحياة والطبيعة، بل إنه ينفر الناس ويبعّدهم. فالناس تحب حالات السلم والهدوء، والحوار والإقناع والدليل، أما لغة العنف والإثارة فغير صالحة في التبليغ أبداً، ولعلّها تخلق مشاكل ودماءً، وتعثّر السير، وبالتالي لا يتفاعل الناس مع الإسلام، لأنهم يرون فيه العنف والقتل وكلّ ما هو غير طبيعي. وأفضل شيء في التبليغ هو الحوار الهادي، المصحوب والمقترن بالدليل والبرهان والحجج، كما قال اللّه سبحانه في كتابه: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1). وهكذا تحرّك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وباقي الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، إلّا في بعض المقاطع الزمانيّة، حيث اقتضى الأمر الثورة والقيام. ولم يكن هذا الأخير أمراً مخالفاً للتبليغ بل كان يصب أيضاً في نشر الإسلام.

«اللّهم إنّي أجد سبل المطالب إليك مشرعة، ومناهل الرجاء إليك مترعة، والإستعانة بفضلك لمن أمّلك مباحة، وأبواب الدعاء إليك للصارخين مفتوحة، وأعلم أنك للراجي بموضع إجابة، وللملهوفين بمرصد إغاثة»(2).

من هدي القرآن الحكيم

لِنتعامَلْ بسلام

قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(3).

وقال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ}(4).

ص: 241


1- سورة النحل، الآية: 125.
2- مصباح المتهجد 2: 583.
3- سورة البقرة، الآية: 208.
4- سورة المائدة، الآية: 16.

وقال عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ}(1).

وقال جلّ وعلا: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَٰمُ}(2).

ونتمَسَّك بالدين

قال عزّ اسمه: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(3).

وقال جلّ شأنه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}(4).

وقال عزّ من قائل: {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}(5).

ولا نَيأس أبداً

قال سبحانه: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ}(6).

وقال تعالى: {وَلَا تَاْئَْسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(8).

وقال جلّ ثناؤه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَوَلَّوْاْ قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَالْأخِرَةِ}(9).

ص: 242


1- سورة يونس، الآية: 25.
2- سورة الحشر، الآية: 23.
3- سورة الأعراف، الآية: 29.
4- سورة الروم، الآية: 43.
5- سورة الشورى، الآية: 13.
6- سورة المائدة، الآية: 3.
7- سورة يوسف، الآية: 87.
8- سورة العنكبوت، الآية: 23.
9- سورة الممتحنة، الآية: 13.

من هدي السنّة المطهّرة

لنتعامل بسلام

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألّا اُخبركم بخير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟» قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «إفشاء السلام في العالم»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحمد للّه الذي شَرَعَ لكم الإسلام... فجعله أمناً لِمَن عَلِقَهُ، وسِلماً لِمَن دَخَلَهُ»(2).

وقال(عليه السلام): «إنَّ اللّه تعالى خصَّكم بالإسلام، واستخلصكم له، وذلك لأنه اسمُ سلامة»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «السّلام تحيّة لملّتنا، وأمان لذّمتنا»(4).

ونتمسَّك بالدين

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يا أبا ذر: مِلاك الدين الورع ورأسه الطاعة»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا حياة إلّا بالدين»(6).

وقال(عليه السلام): «حِفظُ الدين ثمرةُ المعرفة ورأسُ الحكمة»(7).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) لجابر بن يزيد الجعفي: «يا جابر، ... وحبّنا أهل البيّتنظام الدين»(8).

ص: 243


1- بحار الأنوار 73: 12.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 106 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يبيّن فضل الإسلام.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 152 من خطبة له(عليه السلام).
4- جامع الأخبار: 89.
5- مكارم الأخلاق: 468.
6- الإرشاد 1: 296.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 350.
8- الأمالي للشيخ الطوسي: 296.
ولا نَيأس أبداً

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفاجر الرّاجي لرحمة اللّه تعالى أقربُ منها من العابد المُقنِط»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «قَتَلَ القَنُوطُ صاحبهُ»(2).

وقال(عليه السلام) في صفة المنافقين: «ومقْنِطُو الرّجاء»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اليأس من روح اللّه أشدُّ بَرداً من الزمهرير»(4).

ص: 244


1- نهج الفصاحة: 591.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 498.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 194 من خطبة له(عليه السلام) يصف فيها المنافقين.
4- الخصال 2: 248.

سعة الصدر

المقدمة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحمد للّه غير مقنوط من رحمته، ولا مخلوّ من نعمته، ولا مأيوسٍ من مغفرته ولا مستنكف عن عبادته، الذي لا تبرح له رحمة، ولا تفقد له نعمة»(1).

وجاء في الحديث الشريف عنه(عليه السلام) «آلة الرئاسة سعة الصدر»(2).

حيث تعتبر سعة الصدر (بما فيها الحلم وكظم الغيظ) من أشرف الكمالات النفسية بعد العلم بل لا ينفع العلم بدونه.

وقد مدح اللّه تعالى ذلك وأثنى عليه في محكم كتابه، فقال سبحانه: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(3).

وعلى هذا النسق جاءت توجيهات أهل البيت(عليهم السلام)، هناك كلمات وأحاديث بالرغم من قصرها ولكنها تدل على معان عميقة وكثيرة ومملوءة بأفكار وآفاق واسعة، بإمكانها أن تغير الدنيا وتؤثر فيها تأثيرات جداً عميقة، وكلمة الإمام(عليه السلام)(4). المتقدمة هي من هذا القبيل.

ص: 245


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 45 من خطبة له(عليه السلام) خطبها يوم الفطر... .
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 176.
3- سورة آل عمران، الآية: 134.
4- «آلة الرئاسة سعة الصدر».

معنى سعة الصدر

اشارة

لسعة الصدر معان ولوازم متعددة وكثيرة منها:

أولاً: الكرم والجود، حيث يعتبر الكرم والجود من مظاهر سعة الصدر ويتضح ذلك أكثر في الحديث الشريف عن الإمام الصادق(عليه السلام):

«ثلاثة تدل على كرم المرء: حسن الخلق، وكظم الغيظ، وغض الطرف»(1).

ومن هنا يلزم على كل إنسان أن يوفر هذه الصفة الحميدة في نفسه ليستعملها في كل أعماله ومواقفة وسلوكياته، وهذه الصفة الحميدة قد رأيتها عن كثب، وكم كان الموقف جميلاً ومؤثراً وعظيماً وذلك عندما تقدم المتسول الأول إلى المتسول الثاني مستعطياً منه وكان بحوزة المتسول الثاني كيلو غرام من العنب فقدّمه بأجمعه للمتسوّل الأول. وهذه القصة على صغرها حاوية على تلك المعاني الرفيعة، وقد قيل: «جود الفقير أفضل الجود»(2). وقيل: «أفضل الجود بذل الموجود»(3). وموقف القرآن الكريم واضح وصريح في هذا المجال: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}(4).

ثانياً: حسن التجاوز، إن صفة حسن التجاوز هي من الصفات التي تحتاج إلى جهاد مع النفس، لأنها في الخصال التي ترتبط ارتباطاً مباشراً مع نفس الإنسان، ولذا قيل: «لا يجوز الغفران الّا من قابل الإساءة بالإحسان».

ولذا فإننا عندما نطالع سيرة الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، وبالأخص سيرة الإمام

ص: 246


1- تحف العقول: 319.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 336.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 194.
4- سورة الأنعام، الآية: 125.

علي بن أبي طالب(عليه السلام)، نلاحظ أن هذه الصفة بارزة فيها بروز الشمس في رابعة النهار.

ففي ذات يوم وبينما كان الإمام(عليه السلام) يخطب في مسجد الكوفة وإذا بأحد المنافقين قد صاح بصوت عال، ونسب الكذب إلى الإمام(عليه السلام)، فلم يلتفت الإمام(عليه السلام) له بل استمر في خطبته وكأن شيئاً لم يحدث، وفي مرة أخرى: سمع أمير المؤمنين(عليه السلام) رجلاً يشتم قنبراً، وقد رام قنبر أن يرد عليه، فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام): «مهلاً يا قنبر دع شاتمك مهاناً، ترضِ الرحمن وتسخط الشيطان، وتعاقب عدوك، فوالّذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه»(1).

هذه المواقف من الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إنما تدل على سعة صدر الإمام(عليه السلام) وعطفه على الرعية؛ من عدوه وصديقه بما فيهم المنافقون.

فعلى المسلمين في كل بقعة من بقاع العالم أن يطالعوا هذا القسم من سيرة حياة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وحياة الأئمة الأطهار(عليهم السلام)، فإنه يشرق اشراق الشمس، التي تتجدد كل نهار دون أن تنال منها السنون، أو يعمل فيها التكرار

السيد أبو الحسن الإصفهاني(قدس سره) وسعة الصدر

ذات يوم خرج السيد أبو الحسن الإصفهاني(قدس سره) من الحرم المطهر، فجاءه شخص وسلم عليه وأعطاه ليرة ذهبية، وقبل أن يضع السيد الليرة في جيبه جاء شخص مسرعاً، وهجم على يد السيد أبي الحسن وعضها كي يفتح السيد يدهفيختطف الليرة، فلم يظهر السيد أي رد فعل معاكس، بل فتح يده ونظر إليه

ص: 247


1- الأمالي للشيخ المفيد: 118.

بعطف واشفاق، وأعطاه الليرة الذهبية.

ثالثاً: الهمة العالية، ذات يوم جاءت إلى منزلنا مجموعة نساء وهن باكيات، فقلن: إن رجالنا قد أسروا على حدود العراق وسورية ونحن نريد منكم أن تعملوا شيئاً حتى يطلق سراحهم، فذكرت الأمر لشخص فقبل مسؤولية السعي في قضية هؤلاء واطلاق سراحهم، وبعد عدة أيام بلغني خبر إطلاق سراحهم، وعندما رأيت الشخص الذي قبل مسؤولية السعي في قضيتهم، وسألته عن كيفية تمكنه من إطلاق سراحهم، قال: ذهبت إلى المسؤولين، وقلت لهم: لماذا أنتم تسدون الطريق أمام زوار الإمام الحسين(عليه السلام)؟ ثم وزعت عليهم الهدايا والعطايا فشاء اللّه تعالى أن يلقي في قلوبهم اختيار إطلاق سراحهم وهكذا فعلوا وأطلقوا سراحهم.

نعم استطاع هذا الرجل من خلال العطاء والهدية أن يطلق سراحهم، مضافاً إلى الهمّة والسعي وراء القضية وتوكله على اللّه تعالى.

برنارد شو

أحد الشخصيات الأجنبية(1).

ذكر في أحد مقالاته(2):

إذا كان هناك رجل في العالم يستطيع أن يحل مشاكل الدنيا والناس الحالية فهو محمد لا غير، (ويقصد به نبي الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم)) لأن له همة وسعة صدر واسعة جدّاً، وبهذا يستطيع أن يجمع الناس حوله ويهديهم إلى سبل النجاة والسعادة.

أما وضع المسلمين اليوم فيختلف وذلك بسبب عدم اهتمامنا بسيرة الرسولالأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة المطّهرين(عليهم السلام) واقتدائنا بهم نرى وضعنا سيئاً جداً وهناك

ص: 248


1- هو: جورج برنارد شو (1856م-1950م) كاتب إيرلندي ملحد.
2- مقالة بعنوان: الإسلام الحقيقي.

مثل شعبي يقول (عندما يهرم الأسد تصبح أذانه لعبة للأرنب)، وهذا ليس من شجاعة الأرنب وجلده، بل إنما هو من ضعف الاسد وهوانه. فوضع المسلمين في الوقت الحاضر أصبح هكذا، لذلك علينا أن نستعيد شخصيتنا الإسلامية القوية إلى الواقع وما ذلك بعزيز حيث يمكن التوصل إليها من خلال عدة طرق:

كيف نعمل؟
أولاً

عبر تنشيط الحوزات العلمية الشيعية، من الناحية السياسية والإقتصادية الاجتماعية والثقافية وما أشبه، لأن الحوزات العلمية هي مفتاح المجتمع الإسلامي، وبوابة تحوله، فأينما دخلت الحوزات العلمية ميدان العمل، جاء التقدم والنصر معها.

ثانياً

عبر تشكيل المجالس الحسينية الأسبوعية في المنازل، لأن هذا الأمر مهم جداً وله آثار إيجابية سريعة، أهمها تعرّف الناس على معالم الإسلام الحنيف، وعقائد أهل البيت(عليهم السلام)، كما أنها تجعل المسلمين فرداً فرداً يشعرون بالمسؤولية الكبيرة، التي يجب أن يؤديها كل مسلم، فضلاً عن انفتاح آفاقٍ جديدة أمامهم ما كانوا ليطّلعوا عليها إلّا عبر ذلك الطريق، لما في المجالس الحسينية من التعرف إلى الناس وعاداتهم وأخلاقهم، وأيضاً طرح المواضيع التاريخية والسياسية والعقائدية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية وغيرها، فضلاً عن الأجر والثواب وقضاء حوائج الناس عبر الاتصال بهم في هذه المناسبات الإسلامية.

ثالثاً

الإتحاد والتعاون، إحدى الأمور التي استطاع منقذ البشرية النبي

ص: 249

الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بواسطتها أن يجمع الملل والنحل حول الإسلام الحنيف هو إيجاد التعاون في كل شيء، إلى درجة أن بلال بن رباح، ذلك العبد الحبشي أصبح أخاً لسلمان الفارسي وأبي ذر العربي وصهيب الرومي؛ يعاون بعضهم بعضاً. والتعاون بدوره يولد في ما بين الناس المحبة وسعادة الدارين والارتباط الوثيق في ما بينهم، ويوجههم نحو الهدف.

المسلمون في صدر الإسلام الأول أخذوا هذه الأخلاقيات والسلوكيات واعتقدوا بها وجعلوها ضرورة في حيا تهم اليومية، لذلك عندما هاجر المسلمون مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة أخلى الأنصار بيوتهم أو جزءاً منها للمهاجرين، واهتموا بهم غاية الاهتمام، إلى درجة أنه من كان من الأنصار له زوجتان طلق إحداهما ليتزوجها أخوه المهاجر بعد تمام عدّتها(1).

إذا كان مسلموا اليوم، صغيرهم وكبيرهم، شيوخهم وشبابهم، نساؤهم ورجالهم، يوجدون هذا التعاون والمحبة في ما بينهم، وفي العائلة والمجتمع، فإن الغرب والشرق سوف يشعرون بالخطر المحدق بهم، ويتزلزل أمنهم وطمأنينتهم في بلادنا، ولا يرون أمامهم من سبيل إلّا الهروب والنجاة من الصفوف المتراصة والأيدي المتلاحمة، والجموع المتكاتفة التي يجمعها ذلك الهدف النبيل والعقيدة الواحدة والمبدأ الإلهي السامي. وإن شاء اللّه سوف لا يتركنا الباري تعالى، من دون أن يقوّينا ويثبتنا في هذا الأمر الخطير والمهم من حياة الأمة الإسلامية حتى يوفقنا، ونتمكن من إقامة الحكومة الإسلامية، حتى يوفقنا، ونتمكن من إقامة الحكومة الإسلامية العالمية الواحدة، حكومة المليار ونصف المليار من المسلمين، وهذه الوحدة والتلاحم متقومة بأمور أهمها سعة

ص: 250


1- انظر فتح الباري 9: 200.

الصدر في ما بين الناس.

«اللّهم صل على محمد وآله، وحلّني بحلية الصالحين، والبسني زينة المتقين في بسط العدل، وكظم الغيظ، وإطفاء النائرة، وضم أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الحلم

قال سبحانه: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}(2).

وقال تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}(5).

وقال عزّ اسمه: {إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٌ مُّنِيبٌ}(6).

العفو وكظم الغيظ

قال جلّ شأنه: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(7).

وقال عزّ اسمه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(8).

ص: 251


1- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة البقرة، الآية: 263.
3- سورة البقرة، الآية: 225.
4- سورة التغابن، الآية: 17.
5- سورة النساء، الآية: 12.
6- سورة هود، الآية: 75.
7- سورة آل عمران، الآية: 134.
8- سورة المائدة، الآية: 13.

وقال جلّ ثناؤه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(1).

وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(2).

وقال سبحانه: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(3).

السخاء والسماحة والجود

قال عزّ وجلّ: {وَأَنفِقُواْ خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَٰعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

الحلم عند أهل البيت(عليهم السلام)

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه: «بسط الوجه زينة الحلم»(6).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «تعلّموا الحلم فإنّ الحلم خليل المؤمن ووزيره»(7).وقيل للإمام الحسن بن علي(عليهما السلام): مالحلم؟

قال: «كظم الغيظ وملك النفس»(8).

ص: 252


1- سورة الأعراف، الآية: 199.
2- سورة فصلت، الآية: 34.
3- سورة التغابن، الآية: 14.
4- سورة التغابن، الآية: 16-17.
5- سورة الإسراء، الآية: 29.
6- جامع الأخبار: 123.
7- تحف العقول: 222.
8- تحف العقول: 225.

وقال الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام): «الحلم زينة»(1).

وقال الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام): «إنّه ليعجبني الرّجل أن يدركه حلمه عند غضبه»(2).

وقال الإمام محمد بن علي الباقر(عليهما السلام): «ما شيب شيء بشيء أحسن من حلمٍ بعلم»(3).

وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام): «الحلم سراج اللّه... والحلم يدور على خمسة أوجه: أن يكون عزيزاً فيذلّ، أو يكون صادقاً فيّتهم، أو يدعو إلى الحق فيستخف به، أو أن يؤذى بلا جرم، أو أن يطالب بالحق فيخالفوه فيه فإذا آتيت كلاّ منها حقّه فقد أصبت»(4).

وقال الإمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام): «لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً»(5).

وقال الإمام محمد بن علي الباقر(عليهما السلام): «الحلم لباس العالم فلا تعرينّ منه»(6).

الجود عند أهل البيت(عليهم السلام)

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أجود الناس من جاد بنفسه وماله في سبيل اللّه»(7).

ص: 253


1- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 81.
2- . الكافي 2: 112.
3- تحف العقول: 292.
4- مصباح الشريعة: 154.
5- الكافي 2: 111.
6- الكافي 8: 55.
7- النوادر للراوندي: 20.

وسأل رجل أبا الحسن(عليه السلام) وهو في الطّواف فقال له:

أخبرني عن الجواد، فقال له: «إنّ لكلامك وجهين فإن كنت تسأل عن المخلوق فإنّ الجواد الذي يؤدي ما افترض اللّه عزّ وجلّ عليه، والبخيل من بخل بما افترض اللّه عليه، وإن كنت تعني الخالق فهو الجواد، إن اعطى وهو الجواد إن منع لأنه إن اعطى عبداً أعطاه ما ليس له، وإن منع، منع ما ليس له»(1).

وللإمام الحسن بن علي(عليهما السلام): «ما الجود؟ قال: بذل المجهود»(2).

وقال الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام):

«إذا جادت الدنيا عليك فجد بها *** على الناس طرّاً قبل أن تتفلت

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت *** ولا البخل يبقيها إذا ما تولّت»(3)

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه فإن للجود معادن، وللمعادن أصولاً وللأصول فروعاً وللفروع ثمراً ولا يطيب ثمر إلّا بفرع ولا فرع إلّا بأصل ولا أصل إلّا بمعدن طيب»(4).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «من لم يحسن أن يمنع، لم يحسن أن يعطي»(5).

السخاء والسماحة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «السخاء شجرة في الجنة أصلها وهي مطلّة على الدنيا،من تعلق بغصن منها اجترّه إلى الجنة»(6).

ص: 254


1- التوحيد: 373.
2- تحف العقول: 226.
3- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 66.
4- كشف الغمة 2: 158.
5- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 142.
6- وسائل الشيعة 9: 19.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «سادة الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه الحسن(عليه السلام): «يا بنيَّ ما السماحة؟ قال: البذل في اليسر والعسر»(2).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «من قبل عطاءك فقد أعانك على الكرم»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ ارتضى لكم الإسلام ديناً فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق»(4).

العفو وكظم الغيظ

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في خطبته: «ألّا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟: العفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، واعطاء من حرمك»(5).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أتي باليهودية الّتي سمّت الشاة للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت إن كان نبياً لم يضرَّه وإن كان ملكاً أرحت الناس منه. قال: فعفا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنها»(6).

وعن ابن فضّال قال: سمعت أبا الحسن(عليه السلام) يقول: ما التقت فئتان قط إلّا نصرأعظمهما عفواً»(7).

ص: 255


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 32.
2- الكافي 4: 41.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 83.
4- الكافي 2: 56.
5- الكافي 2: 107.
6- الكافي 2: 108.
7- الكافي 2: 108.

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام):

ما من عبد كظم غيظاً إلّا زاده اللّه عزّ وجلّ عزاً في الدنيا والآخرة وقد قال اللّه عزّ وجلّ: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(1) وأثابه اللّه مكان غيظه ذلك»(2).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه حشا اللّه قلبه أمناً وايماناً يوم القيامة»(3).

وعن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): مِن أحبّ السبيل إلى اللّه عزّ وجلّ جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم وجرعة مصيبة تردها بصبر»(4).

ص: 256


1- سورة آل عمران، الآية: 134.
2- الكافي 2: 110.
3- الكافي 2: 110.
4- الكافي 2: 110.

سوء الظن

التَدَبُّر في القرآن

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...}(1).

القرآن حياة الإنسان، وبالتدبر في آياته تُسْتَشْرَف الآفاق، وتَنفتح الأبواب بعد إذ كانت مغلقة، لأنه النور الذي يضيء كلّ شيء، والكتاب الذي فيه تفصيل كلّ شيء مما يحتاجه الإنسان من أمور دينه ودنياه، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(2). فالقرآن عندما يفهم فهماً صحيحاً، ويعمل على ضوء ما جاء به من تعاليم، يوصل الإنسان إلى السعادة الأخروية، حيث الجنة والنعيم المقيم، فضلاً عن السعادة الدنيوية، فلو أمعنا النظر في آية اجتناب الظن السيء، وعملنا وفق ما جاءت به الآية مبتعدين عن سوء الظن، وعملنا بحسن النية تجاه الآخرين لحصلنا على الثواب الأخروي وحب الناس فضلاً عن كونه عملاً ممدوحاً لدى العقلاء مثل ما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من حَسُنَ ظنّه بالناس حاز منهم المحبة»(3).

ص: 257


1- سورة الحجرات، الآية: 12.
2- سورة النحل، الآية: 89.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 641.

ونشير هنا، إلى الظنّ وأقسامه، ونذكر نماذج لتأثير الظن السيء على حياة الإنسان نفسه، فضلاً عن تأثيره على المجتمع.

مَعنى الظَنّ وتَقسِيماته

اشارة

الظنّ في اللغة: هو الاعتقاد الراجح مع احتمال الخلاف؛ قال الراغب في المفردات: الظنّ اسم لما يحصل عن إمارة، ومتى قويت أدّت إلى العلم، ومتى ضعفت جداً لم يتجاوز حد التوهم(1).

أمّا تقسيمات الظن فكثيرة بحسب الجهة المنظور إليه من خلالها. فأهل المنطق لهم تقسيم، والأصوليون لهم تقسيم آخر، ولكن المعنى - في النهاية - واحد. فعندما يخبرك شخص مثلاً؛ بأن السماء أمطرت، فهذا يحصل لك إحدى حالات أربع: إما يقين بصدق المخبر أو كذبه، أي أنك تتيقن من صدقه أو كذبه (100%)، أو يحصل لك ظن بأحدهما - الصدق أو الكذب - على اختلاف مراتب الظنّ، وهو احتمال صدقه من (51%) إلى (99%)، فجميع المراتب التي وقعت تحت هذه النسبة، تسمى ظناً، أمّا إذا صار احتمال صدقه مساوياً لاحتمال كذبه، أي (50%) مقابل (50%) فهذا يسمى شكاً، وهكذا إذا احتملت ذلك من (49%) إلى أقل مرتبة، فهذا يسمى وهماً. وقد استنتج هذا التقسيم أهل المنطق، ثم ادخلوا اليقين والظن ضمن أقسام العلم، أمّا الشك والوهم فأدلخوها في باب الجهل. وفي مقابل المناطقة؛ قسم الأصولين الظن أيضاً، إلى ظن معتبر عند الشارع، مثل الظن الحاصل من إخبار شخص ثقة. فهو وإن كان ظناً، إلّا أنه يورث السامع الاطمينان، فيعتبره ويقبله منه. ومن مظاهره العمل بالرواية إذا كانت مشهورة، والسيرة العملية فكلها ظنون لكنها معتبرة.

ص: 258


1- مفردات ألفاظ القرآن: 539.

والفرع الثاني للظنّ عند الأصوليين، هو الظنّ غير المعتبر، مثل الظنّ الحاصل من القياس، أو من إخبار شخص غير ثقة، فهنا يحصل ظنّ ولكن غير معتبر.وهناك تقسيم ثالث للظنّ، في نظر علماء الأخلاق، وهو الظنّ الحسن والظنّ السيء. فالظنّ الحسن هو أن يظنّ الإنسان بأخيه خيراً فيحمل أغلب أعماله وأقواله على الخير. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «حُسن الظنّ مِن أحسن الشِيَم وأفضل القِسَم»(1).

أمّا الظنّ السيء، فهو أن يحمل فعل أخيه المسلم على محمل الخطأ والقصور، أو الشر والعدوان. كأن يشاهده مثلاً يحادث شخصاً فيتخيّل أنهما يتآمران ضده! أو يراه وهو يمتدحه، فيحسب أنه يظهر خلاف ما يبطن! أو يراه يصلي في خشوع، فيقول: إنه يرائي أمام الناس! وإذا رآه يبتسم، قال: إنه يَسخر منّي.

وحرمة هذه الظنون والوساوس، لم تعد تخفى على أحد، فهي أوضح من الشمس. وجميعنا يتلوها في القرآن الكريم، في آيات بيّنات، يفهمها العام قبل الخاص. قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...}(2). وقال عزّ من قائل: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمَا بُورًا}(3).

فقد جاء في بعض التفاسير(4). إن هذه الآية الأخيرة نزلت على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما همّ بالخروج إلى مكّة معتمراً، وكان في شهر ذي القعدة من

ص: 259


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 344.
2- سورة الحجرات، الآية: 12.
3- سورة الفتح، الآية: 12.
4- انظر تفسير مجمع البيان 9: 190.

السنة السادسة للهجرة، استنفر(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من كان حول المدينة من العرب إلىالخروج معه، وهم (غفار وأسلم ومزينة وجهينة واشجع والدئل) حذراً من أن تتعرض له قريش بحرب، فأحرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للعمرة، وساق معه الهدي، ليعلم الناس أنّه لا يريد حرباً فتثاقل عنه كثير من الأعراب، فقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه! فتخلفوا عنه، واعتذروا بالشغل، ظناً منهم أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو وأصحابه الذين ثبتوا معه، سوف لن يتمكنوا من الرجوع إلى أهليهم وذويهم بالمدينة؛ لأنّ العدو - في خيالهم - سوف يستأصلهم، وزيّن لهم الشيطان ذلك الظن في قلوبهم.

وواضح أن هؤلاء الأعراب لم يستطيعوا أن يفهموا نفسية الصادق الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يطيقوا متابعة أوامره الحكيمة، التي لا تصدر إلّا عن السماء، فذهبت بهم الظنون المذاهب، وشككوا في مواقفه، وحكّموا فيه أوهامهم المريضة، وكأنهم لم يسمعوا قوله سبحانه حين وصف رسوله بأنه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ}(1).

سُوءُ الظَنّ يَكْشِف عن خُبْثِ الباطِن

إن عمل الإنسان - شئنا أم أبينا - مرآة لنفسه وشخصيته. وإذا كان هذا الحكم عامّاً لكل عمل، فإن بعض الأعمال - ومنها سوء الظن - تكون أشدّ أثراً، وأسرع ظهوراً على صفحة وجه المرء.

ذلك لأن هذه الرذيلة إذا تمكنت من قلب المرء وتفكيره واستحكمت، فإنها تكشف عن مرض خطير، وخبث مزمن متأصل في نفس حاملها. فإذا استفحلت ربما وصلت إلى حالة يستحيل معها العثور على علاج.

ص: 260


1- سورة النجم، الآية: 3-5.

وهي حالة أشبه ما تكون بالإدمان، ووقتها يشعر المصاب بها بحالة منالاستسلام، والانجراف وراء الوساوس والأوهام المسمومة دونما حساب.

ومن هنا تنبع الأهمية، لمكافحة هذا المرض العضال، وهو ما يزال في المهد. وذلك بالترويض والتمرين، ومخالفة الهوى والأوهام والوساوس...، وإن جاءت بلسان العلم والتدين! إذ لكلٍّ حبلٌ، ولكلٍّ مطبٌّ، وذلك هو فعل الشيطان! ومن هنا أيضاً نرى الدقة والحكمة في كلام الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) حين يقول: «ضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً، وأنت تجد لها في الخير محملاً»(1).

فإذا عملنا على تطبيق ما جاء في قول الإمام(عليه السلام) فإن كثيراً من الظواهر السلبية المنتشره بين الناس سوف تذوب وتتلاش. وسوف يساعد هذا العمل، على توثيق أواصر المحبة والأخوّة بين الناس. فسوء الظنّ عادة ينشأ من خبث الباطن، أمّا حسن الظنّ فهو الكاشف لسلامة الباطن وطهارته. ومن طبيعة الإنسان العاقل الملتزم أن يبحث عن الكمال والسمو. ولذا لا بدّ له من أن يبتعد عن سوء الظنّ ويتجنبه. أمّا بعض الناس من ضعفاء النفوس فتراهم ينقادون - بدون تريث - وراء وسوسة الشيطان مما يجعلهم يسيئون الظنّ بالآخرين، ويلوثون نفوسهم ويُحوّلون حياتهم وحياة من يرتبط بهم إلى تمزق وشقاء.

القَلب وسُوء الظَنّ

قلبُ الإنسان مثل الأرض منها السبخة المالحة ومنها الخصبة الطيّبة. فالأرض المالحة لا تنبت إلّا نكداً، وأمّا الطيبة فإنها تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها. وهكذا القلب منه الطيب ومنه الخبيث. والقلب الخبيث لا يخرج منه إلّا

ص: 261


1- الكافي 2: 362.

الحقد والخبث وأمّا القلب الطيب فلا ينفح إلّا بالعطر والطيب، ولا يكون قولصاحبه وفعله وفكره إلّا طيباً. وعكسه الإنسان ذو القلب الخبيث. وكما قال ابن الصيفي(1): وكل إناء بالذي فيه ينضح.

أو كقول الآخر: إنك لا تجني من الشوك العنب.

ولهذا تلاحظ أنّ الإنسان ذا القلب الطيّب، إذ رأى شيئاً مريباً يحمله على محمل حسن، وإذا سمع كلاماً بذيئاً، قال: لعلّي لم أفهم معنى الكلام، وأنّ المتكلم لربما كان يريد غير ما فهمت، وإذا سمع كلاماً هو عند العرف مخلّ، رأيته يبحث عن توجيه حسن له، فإن عجز فوّض أمره إلى اللّه تعالى وقال: اللّه أعلم.

وكنتيجة طبيعيّة لهذا الصفاء في السلوك، فإنّ القلب يصفو، والنفس تنير، والذهن يخلص. إذ هو في راحة والناس منه في راحة. أمّا الإنسان السيء السريرة الخبيث الباطن فهو على خلاف هذا كلّه، سيء الظن حتى باللّه عزّ وجلّ، فضلاً عن سوء ظنه بالناس. فإذا سمع كلاماً أولّه تأويلاً سيئاً، بل في بعض الأحيان، تصل الحالة به أنّه وبدون أن يسمع أو يرى عملاً، تراه ينسج أوهاماً وظنوناً سيئة بالآخرين - والعياذ باللّه - .

تأثِير الظنّ السَيء على الإنسان والمُجتَمع

للظنّ السيء، مردودات ونتائج هدّامة، للإنسان والمجتمع. ففي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، آيات وروايات كثيرة تحذر الإنسان من مغبة الانجرار وراء الأوهام المريضة، والظنون الشريرة، وتتوعده بالعقاب الأخروي،

ص: 262


1- الشعر لابن الصيفي وهو: سعد بن محمد المعروف بابن الصيفي وأيضاً عُرف بالحيص بيص، والمصرع المذكور ضمن أبيات شعرية له، يذكر فيها حال معاملة أهل البيت(عليهم السلام) مع آل أبي سفيان في فتح مكة وكيف أن آل أبي سفيان ردوا الجميل مع آل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد شهادة الإمام الحسين(عليه السلام)، انظر وفيات الأعيان 2: 364 و 365.

بعد الضنك والعذاب في الحياة الدنيا، قال تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْدَائِرَةُ السَّوْءِ}(1). وقال تعالى أيضاً: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ...}(2). وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنّ الجبن والبخل والحرص غريزة واحدة، يجمعها سوء الظنّ»(3). وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) «اطرحوا سوء الظنّ بينكم فإن اللّه عزّ وجلّ نهى عن ذلك»(4).

هذا مختصر لما جاء من الآيات والروايات الواردة في التحذير والنهي عن سوء الظنّ ولو ذكرناها تفصيلاً لطال بنا المقام. على أنّ لسوء الظنّ نتائج وخيمة، على الإنسان الظنّان نفسه، بحيث يصبح منعزلاً عن الناس، منطوياً على نفسه، يكره الاجتماع ويستوحش منه، والاجتماع أيضاً يَتَنَفّر مِنه، ويلفظه من بين صفوفه. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من غلب عليه سوء الظنّ لم يترك بينه وبين خليل صلحاً»(5).

هذا من ناحية تأثير سوء الظنّ على ذات الإنسان، أمّا تأثيره على المجتمع بأسره، فهو واضح أيضاً، لأنّ الإنسان عندما ينطوي على نفسه يبتعد عن الناس، لأنّه يسيء الظن بهم وهم يعتزلونه، لأنّه أساء بهم الظنّ، فتراه يعمل على الإضرار بالآخرين، وهم يعملون على مضرته، كما يقول مولى الموحدين(عليه السلام): «شر الناس من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء فعله»(6).

ص: 263


1- سورة الفتح، الآية: 6.
2- سورة الحجرات، الآية: 12.
3- الخصال 1: 102.
4- الخصال 2: 624.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 650.
6- عيون الحكم والمواعظ: 295.

وهذا الشخص يصبح أداة هدم لنفسه، ولمجتمعه. وهذا التأثير لا يختص بالإنسان المسلم فقط، وإنّما يشمل الناس كافة. فما أجدر بالإنسان المؤمن أن ينقب في نفسه، ويسترشد بإخوانه وموجهيه، لكي يقي نفسه ومجتمعه، من شر هذا الميكروب الفتاك، فيحافظ على دينه ودنياه، ويبني بينه وبين الناس أواصر المحبة والتآلف. وذلك عندما يُحسن ظنه بالناس ويشارك الآخرين في بناء مجتمع إسلامي مبني على الإيمان والمحبة والسلام.

الشهادَةُ والظَنّ

سُئل أبو عبد اللّه(عليه السلام) عمّا يُردُّ من الشهود؟ فقال: «الظنّين والمتهم والخصم». قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ فقال: «هذا يدخل في الظنّين»(1).

والظنّين كما جاء في اللغة(2) هو: سييء الظن بالآخرين، فكل شخص يسيء الظنّ بالآخرين لا تقبل شهادته، ويأخذ حكم الفساق والخونة كما جاء في القول الآنف للإمام الصادق(عليه السلام)، وها نحن نلاحظ اليوم، مع كل الأسف أنّ هذا المرض الخبيث أخذ يستفحل في بعض المجتمعات بحيث أصبح بعض الناس يقتل بعضاً، لا لشيء سوى الاعتماد على الظنون والوساوس، ثم يرتبون الآثار الخطيرة على ذلك، نتيجة لظنهم السييء، بل في بعض الأحيان، يكون نتيجة مجرد شك يراود الشخص، فيقوم بأعمال بشعة، فيقتل مثلاً أو يشهد على قضية ما، دون تحرِّ وتبيّن. فإذا أخبره شخص بأنّ فلاناً قتل أباك، وهو يظن بأنّ فلاناً هذا له عداوة، أو كان بينهما سوء تفاهم، فتراه يبني على ذلك القول ويرتب عليه الأثر، ويجعله في مقام العلم، ويقدم على ارتكاب الجريمة.

ص: 264


1- الكافي 7: 395.
2- انظر لسان العرب 13: 274 مادة (ظنن).

والذي يحزّ في أنفسنا أننا نلاحظ هذا المرض الخبيث منتشراً، داخل مجتمعنا، وخصوصاً في باب الشهادات، بحيث بات البعض يشهد على أكبر الجرائم مثل القتل والزنا والأموال الكثيرة، معتمداً على ظنّه، مع أنه من المحرمات الكبيرة والخطيرة، ومع أن الإسلام قد وضع ضوابط وشروطاً لذلك فاشترط في القضاء مثلاً توفر البينة الشرعية، فلا تكفي شهادة شاهد واحد، حتى ولو كان هذا الشاهد مرجع تقليد. وفي بعض القضايا الحساسة التي تمسّ الأعراض كالزنا مثلاً لا يكفي فيها أقل من أربعة شهود جامعين للشرائط، فلا تكفي شهادة واحد أو اثنين أو ثلاثة.

وعوداً على بدء، لو طرحنا على أنفسنا هذا السؤال: لماذا ركّز الإسلام في تعاليمه على عدم الأخذ بالظنون وخصوصاً في القضايا المهمة، كالقتل والزنا وغيره؟

والجواب عن هذا التساؤل: هو أنّ اللّه تعالى عندما حدد هذه النظم والقوانين، جعلها رحمة للعباد، فلو أخذ بالظنون بصورة عامة، لا نقلبت الموازين، ولاستحالت الحياة لكثرة الهرج والمرج. بحيث ينتشر القتل، وتسود الكراهية والضغينة بين الناس، ويضيع الحق، ويختل النظام العام وتصبح الأحكام مطبقه على أساس الظنون والأوهام. وما حال بعض الشعوب الإسلامية اليوم من تشتت وضياع إلّا نتيجة لابتعادها عن تعاليم الإسلام، واتكائها في الأحكام والمعاملات على الظنون والشبهات، التي زرعها الغرب ودسّها في قلوب بعض الضالين أو المضلين.

تَجَنّب سُوء الظَنّ

في بعض الحالات قد يقع الإنسان في محذور ارتكاب سوء الظن، من حيث لا يشعر. كما يحصل مثلاً في بعض موارد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

ص: 265

وذلك لذهوله، عفواً أو عمداً، عن بعض شرائطهما، في المورد والأسلوب، والثمرة المتوخاة منهما.

وغفلته هذه أو عمده، ربّما أو قعاه - لا سامح اللّه - في حرام هو أشد لما أراد هو تلافيه. وشدة الحرمة لسوء الظن في غنى عن الدليل والبرهان، قال أمير المؤمنين: «إيّاك أن تسيء الظنّ، فإن سوء الظنّ يُفسد العبادة ويعظّم الوِزْر»(1).

ولربما أرتكب الإنسان بنفسه منكراً، وهو غير ملتفت لذلك، بسبب تسرعه وعدم توخيه جانب الحذر والحيطة، أو لعدم إبراز الاحتمالات والجوانب الأخرى الإيجابية في الواقعة. فمثلاً إذا رأى شخصاً يرتكب أمراً لا يليق، فيجدر به قبل أن يرتب الأثر أن يلاحظ بعض الأمور أو الشروط التي يجب توفرها ويحكمها في البين ومنها مثلاً:

أولاً: أن يكون الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر نفسه عارفاً بالمعروف والمنكر.

ثانياً: أن يحتمل التأثير على الأقل، فإذا علم بأنّ الشخص الذي يُأمر بالمعروف، لا يَعمل بقوله وأمره، فلا يجب عليه الأمر أو النهي.

ثالثاً: أن يكون فاعل المنكر، وتارك المعروف، مصرّاً على عمله.

رابعاً: أن لا يتوجه إلى الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، ضرر بسبب أمره أو نهيه.

هذا، مضافاً إلى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ينبغي وقبل كل شيء، أن يكون واسع الصدر، يحمل الأعمال والتصرفات على أحسنها، لأن ظنّه في الطرف المقابل، دون العلم اليقيني بذلك. وهي مسألة هامّة حقاً، ينبغي التنبه

ص: 266


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 171.

لها دائماً قبل الحكم على الأشياء أو على الناس، إلى أن يحصل العلم التفصيلي بالأمر.

سوء الظنّ يُورث المفسدة

اشارة

هناك مبحث أصولي يقول: (إنّ الأوامر والنواهي الإلهية، تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية في المتعلقات). فعندما يأمرنا اللّه تعالى بالصلاة أو الصدق أو بغيرهما، فإن هناك مصالح واقعية، وراء تلك الأوامر. لأنّ اللّه حكيم، ومقتضى الحكمة هو أن يأمر بالمصلحة وينهى عن المفسدة. وكذلك الحال بالنسبة للنواهي والمفاسد. والظاهر أنّ هذا الكلام موضع وفاق عندنا.

في ضوء هذه القاعدة، نكتشف أنّ سوء الظنّ فيه مفسدة؛ وذلك لأن الشارع قد نهى عنه، والإنسان العاقل قطعاً يتبع المصلحة، لما بها من خير وفائدة، له وللآخرين، ويبتعد عن المفسدة، لما بها من مضار لنفسه وللآخرين.

وخلاصة القول بعد كل هذا، أن على الإنسان التريث في أعماله وأقواله، وعليه الفحص والتدقيق قبل أن يرتب الأثر. وخصوصاً في المسائل المهمة، والتي يترتب على العمل بها آثار كبيرة وخطيرة، مثل القتل، والأموال الطائلة، وحقوق الناس، وكراماتهم، ونحو ذلك. فلا يحكم بالشيء أو على الشيء، من دون علم ودليل، بل ينبغي توخي الدليل، وتحصيل العذر قبل ركوب أي عمل من الأعمال.

قضاء أمير المؤمنين(عليه السلام)

يُنقل أنّه في عهد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، حصلت قضيه صعبة، لم يتمكن من حلها سوى الإمام(عليه السلام)؛ خلاصتها: أنّ مجموعة من الناس جاءوا إلى الإمام(عليه السلام) ومعهم شخص يعمل قصاباً، وهو ملطخ بالدماء ومعه سكين،

ص: 267

فقالوا له: يا أمير المؤمنين، هذا الرجل قتل فلاناً، فقال لهم الامام: كيف قتله؟ قالوا: قتله في الخربة الفلانية. وقد اعترف بذلك، وها نحن مجموعة كبيرة من الشهود، نشهد لك بذلك. فقال له الإمام(عليه السلام): أصحيح أنك قتلت الرجل. فقال له القصاب: نعم يا أمير المؤمنين، والارتباك بادٍ عليه، ووجهه مصفّر. ولكن الإمام(عليه السلام) تفرّس في وجهه، فأدرك أنّه ليس القاتل، فنادى الشهود وقال لهم: أنتم رأيتموه وهو يقتل فلاناً؟ قالوا: لا نحن شاهدناه خارجاً من الخربة وهو مرتبك، وعليه آثار الدم، والسكين بيده، فعندما دخلنا إلى الخربة شاهدنا فلاناً متشحطاً بدمه، فأمسكناه وأتينا به إليك. ولكن الإمام(عليه السلام) تريث قليلاً لكي يعلّم الناس، وخاصة القضاة أن لا يحكموا على شيء إلّا بالدليل والبرهان. وما هي إلّا لحظات، وإذا بالقاتل الحقيقي قد أقبل مسرعاً، ليمثل بين يدي الامام(عليه السلام) ويقول: يا أمير المؤمنين أنا الذي قتلت فلاناً، وإنّ القصاب برئ من دمه، فقال له الإمام(عليه السلام): وكيف حدث ذلك؟ قال له: كانت بيني وبين المقتول عداوة، فدخلت الخربة ووجدته فيها، فانتهزت الفرصة، وقتلته وهربت. فنادى الإمام(عليه السلام) القصاب وقال له: لماذا قلت بأنك القاتل ولم تكن قاتلاً؟ فقال له القصاب، أنا قصاب أعمل في دكان مجاور لهذه الخربة، ودخلت الخربة لكي أقضي حاجتي، فوجدت شخصاً مضرجاً بدمه، فخفت وهربت. وعندما خرجت من الخربة مذعوراً، وجدت الناس متجمهرين في باب الخربة، فارتبكت أكثر، فدخلوا وشاهدوا القتيل، فاتهموني بالقتل، فما عساني أن أفعل أمام هذا الجمهور! فنادى الإمام(عليه السلام) أهل القتيل وأبلغهم بذلك، وقال لهم: من حقكم القصاص، ومن حقكم قبول الدية، وأنا أُفضّل لكم أخذ الدية، لأن هذا الشخص وإن كان هو الذي قتل

ص: 268

ابنكم، ولكن ضميره قد صحا، واعترف بخطئه، وساهم في إنقاذ رجل برئ من القتل(1)!

التَرَيّث في الحُكم

الشيخ علي المازندراني(رحمه اللّه)، كان من علمه كربلاء المعروفين بالورع والتقوى ففي أحد الأيام وهي جالس في داره وإلى جنبه شخص آخر سمع الجيران صوت إطلاق رصاصة انطلقت من تلك الدار، فهرعوا إلى مكان الصوت فوجدوا شخصاً ممدوداً ملطخاً بالدماء والشيخ إلى جانبه. ولكن من حسن حظ الشيخ، أن الشخص لم يكن قد فارق الحياة بعد، لأن إصابته كانت في بطنه، فقال للناس عندما دخلوا عليه: إنّ الشيخ برئ من قتلي فإنني كنت أُنظف سلاحي، فانطلقت منه رصاصة فأصابتني!

وشاهد كلامنا، هو أنّ الإنسان يجب عليه التريث في الأحكام التي يصدرها تجاه الآخرين، فالجيران عندما سمعوا صوت الإطلاقة، هرعوا إلى المكان ولولا بقاء الشخص على قيد الحياة لكثر اللغط والغلط، وكثرت الظنون والاتهامات وأول تلك الاتهامات هي أن الشيخ هو الذي غدر بالرجل وقتله في داره! ولكن اللّه تعالى أظهر الدليل القاطع، وأنقذ الشيخ البرئ من سوء الظن. وقد روي عن الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال عندما سئل عن الشهادة: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع»(2).

وعن الإمام أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما

ص: 269


1- انظر الكافي 7: 289.
2- وسائل الشيعة 27: 342.

تعرف كفك»(1).

«اللّهم بك أساور، وبك أحاول، وبك أجاور، وبك أصول، وبك أنتصر، وبك أموت، وبك أحيا. أسلمت نفسي إليك، وفوّضت أمري إليك، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم»(2).

من هدي القرآن الحكيم

الظنّ السيء

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...}(3).

وقال سبحانه: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمَا بُورًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}(5).

وقال جلّ وعلا: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ}(6).

وقال عزّ اسمه: {وَعَلَى الثَّلَٰثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}(7).

وقال جلّ ثناؤه: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً

ص: 270


1- الكافي 7: 383.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 78.
3- سورة الحجرات، الآية: 12.
4- سورة الفتح، الآية: 12.
5- سورة الفتح، الآية: 6.
6- سورة البقرة، الآية: 230.
7- سورة التوبة، الآية: 118.

كَثِيرَةَبِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(1).

وقال عزّ من قائل: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}(2).

أسباب سوء الظن
1- تلوث قلب الإنسان

قال تعالى: {كَلَّا بَلْۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(3).

2- الحسد

قال سبحانه: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(4).

3- مصاحبة الأشرار

قال عزّ وجلّ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا}(5).

4- التكبر

قال جلّ وعلا: {وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَٰذِبِينَ}(6).

آثار سوء الظن على الإنسان

قال عزّ اسمه: {...إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...}(7).

قال جلّ شأنه: {...نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ...}(8).

ص: 271


1- سورة البقرة، الآية: 249.
2- سورة البقرة، الآية: 46.
3- سورة المطففين، الآية: 14.
4- سورة النساء، الآية: 54.
5- سورة الفرقان، الآية: 27 - 28.
6- سورة الشعراء، الآية: 186.
7- سورة الحجرات، الآية: 12.
8- سورة التوبة، الآية: 77.

وقال عزّ من قائل: {...يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}(1).وقال جلّ ثناؤه: {وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَىٰكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الظن السيء

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إياكم والظن فإن الظن أكذب الكذب»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «احترسوا من الناس بسوء الظن»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «آفة الدين سوء الظن»(5).

الظن الحسن

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «حسن الظن راحة القلب وسلامة الدين»(6).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أطلب لأخيك عذراً فإن لم تجد له عذراً فالتمس له عذراً»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «خذ من حسن الظن بطرف تروح به قلبك ويرخ به أمرك»(8).

ص: 272


1- سورة المنافقون، الآية: 4.
2- سورة فصلت، الآية: 23.
3- قرب الإسناد: 29.
4- تحف العقول: 54.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 278.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 344.
7- بحار الأنوار 72: 197.
8- كشف الغمة 2: 208.

وقال الإمام أبو الحسن الرضا(عليه السلام): «أحسن الظن باللّه فإن اللّه عزّ وجلّ يقول:أنا عند ظن عبدي المؤمن بي، إن خيراً فخيراً...»(1).

أسباب سوء الظن
1- التواجد في مداخل السوء ومواضع التهم

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من دخل مداخل السوء أتهم، من عرَّض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن»(2).

2- النفاق

قال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «قال رجل من خواص الشيعة لموسى بن جعفر(عليهما السلام) وهو يرتعد بعد ما خلا به: يابن رسول اللّه ما أخوفني أن يكون فلان بن فلان ينافقك... ، فقال له موسى بن جعفر(عليهما السلام): ليس كما ظننت، ...، يا عبد اللّه متى يزول عنك هذا الذي ظننته بأخيك، هذا من النفاق...»(3).

3- الحسد

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «رأس الرذائل الحسد»(4).

آثار سوء الظن

قال أمير المؤمنين(عليه السلام):

1- «لا إيمان مع سوء ظن»(5).

ص: 273


1- الكافي 2: 72.
2- كنز الفوائد 2: 182.
3- الإحتجاج 2: 394.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 377.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 770.

2- «سوء الظن بالمحسن شر الإثم وأقبح الظلم»(1).

3- «إياك أن تُسيء الظن فإنّ سوء الظن يُفسد العبادة ويُعظم الوزر»(2).

4- «مَن كَثُرت رَيبَتُه كَثُرت غِيبَتُه»(3).

ص: 274


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 399.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 171.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 596.

مساوئ الإدعاء

مُكافحة الغُرور

اشارة

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَئًْا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(1).

الإنسان المؤمن عليه أن يبتعد عن التفاخر بالأنساب والألقاب، والحديث عن النفس والمبالغة في وصف كمالاتها، وذلك لأن النفس أمّارة بالسوء تجرّ الإنسان إلى الوقوع في الحرام وتحيطه بالمشاكل. فالإنسان المؤمن إذا راودته نفسه ودفعه جهله إلى التفاخر والمباهاة بعلمه أو بقوته أو بجماله وما إلى ذلك، عليه أن يتذكر أنّ في الكون من هو أعلم منه وأقوى وأكثر جمالاً... فإذا استطاع مثلاً أن يتقن كتاب الرسائل والمكاسب، وكان بإمكانه تدريسهما، عليه أن يتذكّر مؤلف هذين الكتابين ويُقيس علميّته بعلمية الشيخ الأعظم، ويلاحظ هل تمكن من الوصول إلى الدرجة العلمية التي وصل إليها الشيخ؟ وهل وصل إلى درجة الإيمان والزهد والتقوى الذي كان يحملها الشيخ الأنصاري(رحمه اللّه)؟ وهكذا في الجمال والقوة وما إلى ذلك، بل أكثر من ذلك.

فالمطلوب من الإنسان المؤمن أنه كلما زاد علمه أو جماله أو قوته... فإن ذلك

ص: 275


1- سورة لقمان، الآية: 33.

يزيده تواضعاً وخشوعاً للّه تعالى الذي منحه ذلك، ويتواضع أمام الناس ليقومبتوصيل علمه إلى الآخرين، أو تسخير قوته لمساعدة الناس وقضاء حوائجهم، وهكذا في سائر الفضائل والخصال الحميدة.

أما إذا كان يمتلك بعض تلك الخصال الحميدة، إلّا أنه لا ينفك من الحديث عنها، وعن فضائله ومحاسنه، فليتيقن أن فعله ذلك سيوقعه في فخ الغرور والرياء، ويكدّر صفاء النفس الذي أوجدته تلك الخصال فيه.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «المغرور في الدنيا مسكين، وفي الآخرة مغبون، لأنه باع الأفضل بالأدنى، ولا تعجب من نفسك، فربما اغتررت بمالك وصحة جسمك لعلك أن تبقى، وربما اغتررت بطول عمرك وأولادك وأصحابك لعلك تنجو بهم، وربما اغتررت بجمالك ومنبتك وأصابتك مأمولك وهواك، فظننت أنك صادق ومصيب، وربما اغتررت بما تُري الخلق من الندم على تقصيرك في العبادة، ولعل اللّه تعالى يعلم من قلبك بخلاف ذلك، وربما أقمت نفسك على العبادة متكلفاً واللّه يريد الإخلاص، وربما افتخرت بعلمك ونسبك وأنت غافل عن مضمرات ما في غيب اللّه تعالى، وربما توهّمت أنك تدعو اللّه وأنت تدعو سواه، وربما حسبت أنك ناصح للخلق وأنت تريدهم لنفسك أن يميلوا إليك وربما ذممت نفسك وأنت تمدحها على الحقيقة»(1).

هذا كله إذا كان يمتلك بعض الخصال أو - على الأقل - يظن أو يتوهم أنها فيه. أما من لم يمتلك من هذه الخصال شيئاً ومع ذلك يدعي امتلاكها فهذا عين الكذب وسوف ينال عقابه في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فإنه سرعان ما يفتضح أمره وينكشف سرّه. وقد أجاد من قال:

ص: 276


1- مصباح الشريعة: 142.

كل من يدعي بما ليس فيه *** كذبته شواهد الامتحان(1)

كالذي يدرس الطب، ولم يصل بعد إلى مراحله النهائية، ولم توجد فيه شرائط الممارسة الأمينة ثم يدعي بأنه طبيب ويمكنه معالجة المرضى، ثم يبدأ بتسقيط الآخرين ومدح نفسه دون ضرورة لذلك.

وقد نهت الشريعة المقدسة عن مدح النفس، فمن مدح نفسه ذمّها...

وقد جاء بعض الأشخاص إلى الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ومدحوه فقال الإمام(عليه السلام): «اللّهم إنك أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللّهم اجعلنا خيراً مما يظنون واغفر لنا ما لا يعلمون»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ولا تغتر بقول الجاهل ولا بمدحه، فتكبّر وتجبّر وتُعجب بعملك، فإن أفضل العمل العبادة والتواضع»(3).

فالإنسان إذا رأى علامات الغرور والعجب بالنفس أو المال أو الأولاد... تنفذ إلى نفسه، عليه أن يتحصن بالتواضع والنظر إلى سلوك الصالحين، فيذكّر نفسه بمضار الغرور والعجب، ويعتبر بقصص الأولين وما أصابهم من نتائج وخيمة جرّاء العجب والغرور وحب النفس. فعند ذلك لن تتمكن جميع المغريات والشهوات من الدخول إلى نفسه وتغييرها، ويكون متواضعاً بسيطاً في كل شيء.

تساؤل

وربّما يحصل اشتباه لدى البعض فيخطر بذهنه هذا التساؤل: إن الأئمة الأطهار (صلوات اللّه عليهم أجمعين) كانوا يظهرون فضائلهم ويبينوها للناسأفلا يكون ذلك من باب التفاخر؟

ص: 277


1- محاضرات الأدباء 1: 64.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 100.
3- تحف العقول: 304.

ونجيب عن ذلك بوجهين:

الأول: إن الأئمة الأطهار(عليهم السلام) لم يظهروا جميع فضائلهم ومنزلتهم للناس، ففضل أهل البيت(عليهم السلام) ومنزلتهم أعظم مما ظهر وبان للناس، وإن حقيقة فضلهم وعلمهم لا يعلمها على تمامها وكمالها حتى المقرّبون منهم.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا يُقاس بآل محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هذه الأمة أحد...»(1).

فالأئمة(عليهم السلام) هم منبع الفضائل والخصال الحميدة، وما وصل إلى الناس من فضلهم ومنزلتهم إلّا النزر اليسير. هذا أولاً.

ثم إنهم (سلام اللّه عليهم) عندما يظهرون بعض فضائلهم ومحاسنهم فإن ذلك من باب الاضطرار. لأن في عصرهم كثر الأعداء والمغرضون، وحاول البعض أن يدخل في الإسلام ما ليس فيه ويشوّه منظره، فأخذ يروّج إلى نفسه، أو يطبل للآخرين زوراً وبهتاناً، فالأئمة(عليهم السلام) عندما رأوا ذلك قاموا بواجبهم الشرعي، وهو حفظ الشريعة وهداية الناس إلى الصواب، وتحذيرهم من المخاطر، وأظهروا الدلائل للناس بأن الحق معهم، وأنهم الامتداد الطبيعي للنبوة، وإلّا لو سكت الأئمة ولم يبينوا الحق فإن الناس سوف تجهل قدرهم ومنزلتهم وبالتالي يتفرقون من حولهم ويلتفون حول أعدائهم، الذين هم أعداء الحق والإسلام، أمثال يزيد ومعاوية ومروان والمتوكل...

لذا نرى بعض الجهلة أو الذين التبس عليهم الحق من الباطل، ولم يصلوا إلى الحقيقة، ينظرون إلى الإسلام من زاويه ضيّقة، وينسبون تصرفات هؤلاء إلى الإسلام زوراً وبهتاناً، ويقولون: إن الإسلام دين الحرب والنساء ومصادرةالحريات وهتك الأعراض واغتصاب الأموال وما إلى ذلك، لأن أكثر قادته

ص: 278


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 2 من خطبة له(عليه السلام) بعد انصرافه من صفين.

يهتمون بهذا الجانب، ونسوا أو غفلوا عن الحقيقة، وهي أن معاوية، المتوكل، الحجاج ونظائرهم لا يمتّون إلى الاسلام بصلة، وأنهم حشروا زوراً في الإسلام، فالذي يريد أن يعرف الإسلام جيداً فعليه أن يتصفح سيرة أهل البيت(عليهم السلام) في الحياة، ويكتشف منها الإسلام الحقيقي، ويعرف أنه دين السلام والحرية، دين العلم والمعرفة. ولسنا نبالغ حين نقول: إن كثيراً من المظاهر الصحية، والعوائد الحسنة التي نجدها اليوم في بلاد الغرب، إنما انتقلت إليهم عبر المسلمين الذين تواجدوا في تلك البقاع أيام صدر الإسلام، وعن طريق الأندلس مثلاً التي انتقلت منها الكثير من العلوم والآداب والأخلاق الإسلامية إلى أوربا. وهاهم الغربيون أنفسهم يعترفون بذلك في كتبهم. وهذه الفضائل مرتبطه بالأنبياء وبالأئمة المعصومين(عليهم السلام).

وإلّا فإن سياسة الأمويين والعباسيين وغيرهم كانت سياسة الجور والبطش والدمار. فالنبي عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام) عندما قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ الْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَٰنِي بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرَّا بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}(1). كل ذلك إنما كان لأجل أن يُبين للناس بأنهم أشخاص واقعيون، وهداة لا يريدون إلّا الخير للناس وإبعاد الشّر عنهم.

الإدِّعاء الفارغ

ولقد جاء بعض الناس وادّعوا جهلاً ما قاله الإمام علي(عليه السلام) «سلوني قبل أنتفقدوني»(2)، وكانوا يتصورون بأن هذه الكلمة بسيطة، مع أنها دعوى لا يستطيع

ص: 279


1- سورة مريم، الآية: 30-32.
2- بصائر الدرجات 1: 266.

أحد ركوبها بصورة واقعية غير الأنبياء والأئمة المعصومين(عليهم السلام). وذلك لأنهم هم الوحيدون القادرون على إجابة كل ما يُسألون. وهل تتصور أن هناك حدّاً للأسئلة؟ هل يمكن أن نقدّر عدد المجهولات الموجودة في الدنيا؟ فما علومنا نحن البشر جميعاً - حاشا المعصومين(عليهم السلام) - في مقابل تلك المجاهيل إلّا كالقطرة مقابل البحار السبعة والمحيطات الكبيرة. ومن هنا رأينا كل الأشخاص الذين يدّعون العلم والمعرفة سرعان ما يفتضحون.

قال أحد الأشخاص(1): سلوني قبل أن تفقدوني، فقامت إليه امرأة وسألته سؤالاً، فقال لها: هل خرجت من بيتك بإذن زوجك أم لا؟ فإذا خرجت من بيتك من دون أن تأخذي إذن زوجك فعليك لعنة اللّه، وإذا خرجتي بإذنه فعليه لعنة اللّه(2).

ولسنا ندري لو أن هذه المرأة ما كانت ذات زوج، أو أن السائل كان رجلاً، ماذا كان يكون جوابه. وثانياً: إذا كانت المرأة قد خرجت بإذن زوجها فلماذا عليه لعنة اللّه؟ وثالثاً: لو أنها خرجت من دون إذنه ولكنها خرجت لأجل تعلّم المسائل الدينية الواجبة، فليس عليها إشكال في ذلك؛ لأنه واجب عيني.

إذن هناك بعض الجُهال يتصورون أن مقولة (سلوني قبل أن تفقدوني) كلمة سهلة، فعلى الإنسان أن يبتعد عن الادعاءات، وخصوصاً إذا كانت باطلة، لأن من أدعى باطلاً سرعان ما يظهر كذبه للناس، وإذا كان ادعائة صحيحاً فإنه سوف يثيرالناس عليه، كما نقلوا أن ساحراً ادعى بأنه يعرف بعض الطلاسم بحيث يُطفي بواسطتها غضب وانتقام اللّه سبحانه وتعالى، وكان هذا الساحر قد جمع حوله

ص: 280


1- وهو ابن الجوزي.
2- انظر الصراط المستقيم 1: 218.

بعض السذج والأغبياء، وعندما مضت مدة من الزمن ألقي القبض عليه وحُكم عليه بالإعدام فلما كانوا يقودونه نحو خشبة الإعدام التفت إليه شخص وقال له: أنت كنت تدعي بأنك قادر على اطفاء غضب اللّه سبحانه وتعالى عن طريق الطلاسم، فلماذا لا تستطيع أن تقلّل غضب الناس عليك! فالادعاء الكاذب سرعان ما ينكشف ويظهر للناس.

مُسيلمة والإدّعاء الكاذب

وكذلك كان حال مسيلمة الكذّاب الذي ادعى النبوة، فجاؤا إليه وقالوا له: عندنا بئر قلَّ ماؤها، فإذا كنت نبيّاً حقيقة، فأبصق فيها أو اسكب شيئاً من ماء فمك فيها حتى تمتلئ، ولكنه عندما سكب من ماء فمه فيه سرعان ما جَفَّت بدل الامتلاء، عندها ظهر كذبه، وافتضح أمره بين الناس(1).

وقد كنت في أحد الأيام جالساً عقب صلاة الجماعة في صحن الإمام الحسين(عليه السلام)، فجاءني شاب يظهر عليه أنه شخص مثقف، إذ قال لي: إني معلِّم، وجئت أدعوك لدينٍ جديد، قلت له: وما هو هذا الدين؟ قال: ظهر نبي جديد في الحلة، فأرسلني لكي أدعوك للإيمان بمذهبه، إذ يظهر عليك إنك صاحب علم ومعرفة وثقافة، فقلت له: هذا النبي الجديد الذي ظهر في الحلّة هل لديه معجزة؟ فقال: ما معنى المعجزة؟ قلت له: مثلاً يَمرُ في الحلة نهر الفرات فإذا كان صادقاً في ادعائة فعليه في أقل التقادير أن يمشي على ماء النهر بدون أي وسيلة، فيعبر من طرف إلى آخر من دون أن يغرق، فقال لي: لا يستطيع ذلك،فقلت: إذن لا يستطيع أن يأتي بمعجزة، قال: المعجزة ليست شرطاً في النبوة؟ قلت إذا لم تكن المعجزة شرطاً فأي شيء يصح أن يكون شرطاً هل الادعاء فقط

ص: 281


1- انظر قرب الإسناد: 329.

يكفي؟ فإذا جاءك شخص وادّعى النبوة فهل تصدقه؟ فكَّر قليلاً ثم قال: إني لا أمتلك جواباً الآن لهذا السؤال، ولكن سوف أذهب وآتيك بالجواب، قلت له لا بأس، فأي جواب حصلت عليه ائتني به. فذهب الشاب دون أن يرجع أبداً. ولم يعد خافياً أن الادعاءات السابقة بالنبوة وغيرها، كانت في وقت كان المسلمون فيه مستقلين، فلا أحد من الخارج يتدخل في بلادهم، وكانت أسباب هذه الادعاءات أهواءً وأغراضاً شخصية، ولكن منذ أن دخل الاستعمار في بلادنا الإسلامية جعل يروج لهذه الادعاءات لزعزعة الأوضاع، ولإشغال الناس بهذه الترهات وترك واجباتهم، لكي تسنح الفرصة له لتنفيذ مخططاته الخبيثة في سبيل القضاء على الإسلام والمسلمين.

عوامل الادّعاء

والسؤال الذي لا بد من الإشارة إليه هو: هل إن الادعاءات والدعايات التي تروّج من قبل أفراد أو من قبل الاستعمار لها تأثير على الأمة أم لا؟

في مقام الجواب نقول: نعم، وبشكل كبير، فمثلاً عندما يريد الاستعمار تسقيط بلد من البلدان، فإنه يستخدم عدّة طرق لأجل ذلك، فمن جانب يستخدم الجواسيس، ومن جانب آخر عن طريق الأموال واعطاء الرشاوي، ومن جانب ثالث: يستخدم الطابور الخامس وكل من هذه الشخصيات يأتي بكلام وبدعوة إلى ذلك المجتمع، فهم مثلاً صنعوا (علي محمد) على أنه باب إلى الإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشريف ثم بعد ذلك، ادّعى أنه هو المهدي(عليه السلام)، ثم ادّعى أكثر من ذلك، وكذلك زرعوا أشخاصاً آخرين ادعوا كذباً بأنهم أنبياء. وفي كل مجتمع يريدونإمرار مخططاتهم عليه يأتون اليه بلعبة جديدة تتناسب مع الجوّ العام لكي يشغلوه بها فتُتاح لهم فرصة تطبيق مخططاتهم وأغراضهم على ذلك المجتمع. إذن

ص: 282

فالاستعمار يتحرك عبر خطط كثيرة جداً، ويُوظف لأجل تمرير خططه الأشخاص الكثيرين أيضاً، كل ذلك لأجل تشتيت المسلمين والقضاء على إسلامهم. ولهذا السبب نرى أنهم استطاعوا بالفعل تشتيت المسلمين، وأن يجلبوا لهم مختلف المشاكل والمتاعب، فنرى الاستعمار نَصَب عميله (غلام أحمد القادياني)(1) زعيماً دينياً لباكستان والهند وبعض المناطق من أفريقيا، ووضعوا له من أجل ذلك برامج وإعلاماً مكثفاً، وفي ايران جاءوا (بعلي محمد باب)(2) وطبّلوا له كثيراً. وأما في الجزيرة العربية فقد جلبوا (محمد بن عبد الوهاب)(3) ومعه مجموعة من الأفكار الضالة والهدّامة، والذي تسبب في قتل الكثير من المسلمين، وإلى يومنا هذا. ولكن هؤلاء المأجورين افتُضح أمرهم عند أكثر الشعوب الإسلامية، وذلك لكونهم ادّعوا أشياءً ليست موجودة فيهم، كما افتضح كثيرون على مرّ التاريخ، ادّعوا ما ليس لهم، عندما طولبوا بالدليل والبرهان.

وقت الامتحان

ففي زمن المتوكل العباسي ادّعت إمرأة أنها زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فجاءوا بها إلى المتوكل، فسألها: هل أنت بنت علي بن أبي طالب؟ قالت: نعم. قال: وما هو شاهدك على ذلك؟ فقالت: لا أملك شاهداً، ولكن الذي أقوله حقيقة واقعية، فقال المتوكل: مضى من زمان الإمام علي(عليه السلام) وإلىيومنا هذا ما يُقارب المائتي سنة، فكيف بك على قيد الحياة؟ فقالت: إني بصورة إعجازية أرجع إلى شبابي كل عدّة سنين مرة واحدة، فأمر المتوكل بإلقائها في

ص: 283


1- غلام أحمد القادياني (1835م-1908م) مؤسس الفرقة القاديانية وسميت أيضاً بالأحمدية والميرزايية.
2- علي محمد الباب (1819م-1850م) مؤسس الفرقه البابية.
3- محمد بن عبد الوهاب التميمي (1703م-1792م) مؤسس الفرقة الوهابية.

بِركة السباع إذا كانت صادقة في قولها، وإن الأسود سوف لا تمسها بسوء إذا كانت بنت الإمام علي(عليه السلام)، فلما حان وقت الامتحان والإلقاء في بِركة السباع اعترفت المرأة بكذبها، وأنها ليست بنت الإمام علي(عليه السلام)، وأنها امرأة فقيرة وإنما فعلت ذلك في سبيل الحصول على المال ولقمة العيش(1).

الجهل مرتع الادّعاء

على أن هذه الدعاوى والأباطيل لم تكن لتظهر فوق السطح لو لم يكن الجوّ العام مهيّأ لها، والأرض خصبة ممهَّدة لاستقبالها. تُرى لو وجد في المجتمع الوعي والمناعة ضد الادعاءات الفارغة، هل كانت الفرصة تسنح لظهور أمثال سجاح ومسيلمة؟ لكن الدود يعرف أين يولد والطحالب تعلم أن تطفو وتتكاثر.

فإذا أردت أن تقطع الشك باليقين، فانظر ما جرى بحق الميرزا القمي(رحمه اللّه)، الذي كان - في زمانه - معدوداً في المراجع الكبار ومشاهير العلماء. فقد نقل عنه أنه ذهب مرّةً إلى قرية من القرى لأجل الموعظة والإرشاد، وكان في تلك القرية شيخ يتصدر أمورهم، فخشي الشيخ من التفات الناس حول الميرزا، وابتعادهم عنه هو، لهذا جاء ووقف أمام الناس وكان الميرزا واقفاً أيضاً، فقال لهم: إن الميرزا رجل أُمّيُّ لا يفهم شيئاً أبداً، ولا يعرف حتى الكتابة ويجب إخراجه من القرية، وسوف أثبت لكم أُميّته، فقال للميرزا اكتب (حيّة) فكتب الميرزا القمي كلمة (حيّة)، بينما جاء شيخ القرية ورسم لهم حيّة، ثم قال للناس: أنتم انظروا واحكموا؛ أيهما هي الحيّة؟ فقالوا له: الذي رسمته أنت هو الحيّة والذي كتبه الشيخ الجديد (الميرزاالقمي) ليس حيّة. لهذا جاءوا اليه وطردوه من قريتهم. فخرج الميرزا لكونه رأى أنه لا يستطيع البقاء والتبليغ في وسط الجهال فإنه قادر على كسبهم والضحك عليهم،

ص: 284


1- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 416.

ولكن إذا ظهر في وسط مثقفين وواعين، فإنه لا يستطيع إظهار ادعاءاته الفارغة، لأنه سرعان ما ينكشف كذبه. ومن هنا تظهر عظمة الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) الذين بقيت دعواتهم راسخة إلى يومنا هذا، وستبقى إلى يوم القيامة، مع أنهم إنما ظهروا في مراكز تعجّ بالحضارة والتمدن، ودللّوا على أن ما لديهم ليس من عند بشر. فنبيّنا العظيم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تحدّى الفصحاء والبلغاء في عقر دارهم، فدانوا له بأن ما جاء به ليس بشعر ولا سحر، وأن فيه لحلاوة، وأن عليه لطلاوة(1).

ونبيّ اللّه موسى(عليه السلام) يتحدى جمهور المبرزين من سحرة فرعون، في يوم الزينة، فيبطل فنّهم بعصا عاديّة، غدت تبتلع ما يأفكون، فخرّوا للّه سجداً، وقالوا: آمنا برب موسى وهارون.

وكذلك كان حال عيسى بن مريم وسائر الأنبياء(عليهم السلام). أتوا بما لا يأتي به الآخرون، وفي وضح النهار، وأمام الملأ العامّ، دون أن يقصروا تحديهم على شخص دون شخص، ولا سيّما من كانوا معدودين في العلماء والكبراء، هؤلاء يرعدون وأولئك يبرقون، إلى أن أقروا في نهاية المطاف بصحة دعوى الأنبياء وصدقهم ونزاهتهم.

وإن أمير المؤمنين(عليه السلام) حين قال قولته المشهورة: «سلوني قبل أن تفقدوني» فإنه لم يقلها في قرية نائية تخلو من العلماء والفقهاء، بل كرّرها مراراً، وفي جمع العلماء والفقهاء من الصحابة والتابعين، فلم ينكر عليه أحد... وذلك هو برهانعلمه وعلوّ شأنه بين أقرانه وأهل زمانه.

نعم، فلو ادّعى شخص مثلاً بأنه فقيه وأعلم العلماء وذلك في قرية نائية جداً، فإن ادعاءه هذا ليس بدليل وحجة. لأن الناس في تلك القرية عادة إمّا مزارعون أو

ص: 285


1- إشارة إلى قصة الوليد بن المغيرة مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، انظر إعلام الورى: 41 و 42.

كسبة، فليس لديهم معرفة كاملة بالفقه حتى يشخصوا العالم الكامل من غيره، ولكن إذا ادّعى ذلك الشخص الفقاهة والعلم في إحدى الحوزات العلمية، فإن كلامه سوف يظهر للناس صادقاً كان أم كاذباً.

التقصير في صلاة المغرب

وقد نُقل أن جماعة التفوا حول شخص كان والده عالماً دينياً ولكنه توفي، فنصبه الناس بدل أبية، فجاء بعض الأشخاص إلى الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر(رحمه اللّه) وقالوا له: بأن هذا الولد لا يفهم شيئاً أبداً، حتى إنه لا يفهم المسائل البسيطة الموجودة في الرسائل العملية للعلماء، فقال صاحب الجواهر: هذه حادثة عجيبة تنقلونها لي، ثم أخبروه بأن جماعة من الناس إلتفّوا حوله، وبواسطته يحصلون على معيشتهم ونفقتهم اليومية.

وصادف أن يلتقي صاحب الجواهر بهذا الشاب في أحد مجالس الفاتحة أو القراءة الحسينية، فسأله عن حكم صلاة المغرب في السفر، هل تُقصر أم لا؟ فقال الشاب: نعم تقصر وتكون ركعة ونصفاً، فسكت صاحب الجواهر وأدرك حقيقة الأمر.

وعلى أية حال، فإن خلاصة حديثنا: على الإنسان أن يبتعد عن الادعاء سواء كان في الباطل أو في الحق، فإذا كان حقاً فربما يوقعه ذلك في الرياء ويذهب عمله هباءً. أما إذا كان باطلاً فإنه كذب وزور، وهذا يستحق عليه العقاب الأخروي إضافة إلى انكشافه للناس ونفورهم منه. فإن ساغ الادعاء فإنما يسوغعند الاضطرار، مثلاً يعرّف نفسه للآخرين لكي يهتدي الناس بسببه إلى التمسك بالدين والصراط المستقيم ففي هذه الحالة لا إشكال في ادعائه، بل يكون واجباً أيضاً في بعض الأحيان، لأن الناس إن لم يفعل ذلك سوف يضلُّون ويفسدون،

ص: 286

ولكن من ناحية التواضع يجب على هذا الإنسان الذي نصب نفسه قدوة للآخرين، أن يتواضع مهما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولهذا نرى الإمام علي(عليه السلام) يكتب على كفن سلمان الفارسي (رضوان اللّه عليه) هذه الأبيات:

وفدت على الكريم بغير زاد *** من الحسنات والقلب السليم

وحمل الزاد أقبح كل شيء *** إذا كان الوفود على الكريم(1)

ونقرأ في أحوال الإمام الباقر(عليه السلام) عندما خرج إلى الشام وإلتقى بالنصراني في الجبل، ان النصراني سأل الإمام: أفمن علمائهم أنت أم من جهالهم؟ فقال(عليه السلام): «لست من جهالهم»(2). وذلك لأنه أراد أن لا يقول أنا من العلماء فكلمة «لست من جهالهم» أخف على سمع المسيحي من كلمة أنا من العلماء، ولو أن كلاهما له معنى واحد. فينبغي لنا أن ندقق مهما أمكن في انتقاء التعابير، التي تخدم المسيرة، ونبتعد عن الألفاظ الرنّانة التي ربما أودت بصاحبها من حيث لا يشعر. كما نقلوا عن أحد خلفاء بني العباس أنه يفضّل أحد ابنيه على الآخر، وحينما سألوه في ذلك، سأل الأول: ما جمع (مسواك)؟ قال: مساويك!، وثم سأل الثاني: ما جمعها؟ فقال: غير محاسنك(3).

وواضح أن الثاني إنما رجّح أن لا يلفظ كلمة الجمع عينها، لما فيها من دلالةواضحة على قلّة اللباقة والاحترام.

فينبغي الابتعاد مهما أمكن من الادّعاء، ومع الاضطرار لأجل المصلحة مثلاً فلا بد عليه أن يظهر إلى جانب ذلك تواضعه الشديد، لكي يخفف من وطأة وحدّة الادعاءات التي قالها لكي لا يُثير الناس عليه.

ص: 287


1- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري 4: 362.
2- الكافي 8: 123.
3- انظر مرآة الجنان 2: 59.

من آثار التواضع

فعن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «من تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند اللّه من الصديقين، ومن شيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام) حقاً»(1).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «التواضع أصل كل خير نفيس، ومرتبة رفيعة... ولأهل التواضع سيماء يعرفها أهل السماء من الملائكة، وأهل الأرض من العارفين...»(2).

ولعل أكبر عقبة تحول دون تواضع الشخص هي خوفه من فقدان المكانة والمقام بين الناس، لكنه إذا توجّه إلى أن اللّه لا تخفى عليه خافية، وأنه سبحانه هو العالم بحقيقة المقامات، وأنه يزيد فيها على قدر المشقة والعناء، وأن الناس أنفسهم يميلون للمتواضع، ويحترمونه في دخيلة أنفسهم، ويعظّمونه... إنه لو توجّه إلى ذلك حقاً لما بالى بإسفاف هذا ولا صدود ذاك. وإن ما ذكرناه من الأحاديث ليس إلّا عرضاً وعلى سبيل التبرك، وإلّا فإنّ كتبنا تعجّ بالنصوص حول مقام التواضع وآثاره، ودرجات المتواضعين.

إذن فالإنسان الذي يمتلك مكانة وسمعة بين الآخرين لا بد أن يخلط ذلك بالتواضع والخلق العالي، فإذا اضطر العالِم إلى إظهار نفسه بالحق لكي يكسبالآخرين إلى الخير ولكنه يصاحب إدّعاه التواضع، أو أنه ادّعى في محل ووقت غير مناسب ففي هاتين الصورتين سوف يجد بعض المتاعب والمشاكل، وأحياناً لا يمكن له أن يجد خلاصاً ونجاة منها إلّا بعد حين، إذ يكون حاله حال من يؤدبه الزمان، كما قيل:

ص: 288


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري: 325.
2- بحار الأنوار 72: 121.

من لم يؤدّبه الأبوان أدَّبهُ الزمان.

أو كما قال الشاعر:

الدهر أدّبني والصبر ربّاني *** والقوت أقنعني واليأس أغناني

وأحكمتني من الأيام تجربة *** حتى نهيت الذي قد كان ينهاني(1)

والإنسان لا يستفيد كثيراً من تأديب الدهر له، لأن ذلك يكون بعد فوات الأوان، وبعد مشيب الرأس وابتعاد الناس عنه، ووقوع الأذى والخسران. لذا يحتاج الإنسان العالم أو الذي يريد الدخول في عقول وقلوب الناس، إلى الكثير من الحلم والصبر والتعقل والتفكير، لكي يكون ناجحاً وفاضلاً في المجتمع، فعلية أن يلتزم بالمظهر العادي الخالي من العلوّ والتكبر، ويبتعد كل البعد عن مظاهر الادّعاء والخيلاء والكبر والاعتداد بالنفس، ويذكر نفسه دائماً بأنه إن كان عالماً فإنّ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}(2)، وفوق كل ذي عظمة ومكانة عظيم ومكين.

«اللّهم إني أعوذ بك من هيجان الحرص، وسورة الغضب، وغلبة الحسد، وضعف الصبر، وقلة القناعة، وشكاسة الخلق، وإلحاح الشهوة، وملكة الحمية، ومتابعة الهوى، ومخالفة الهدى...، والإصرار على المآثم، واستصغار المعصية،واستكبار الطاعة، ومباهات المكثرين، والإزراء بالمقلِّين، وسوء الولاية لمن تحت أيدينا...، أو نقول في العلم بغير علم... ونعوذ بك من الحسرة العظمى، والمصيبة الكبرى...، وحرمان الثواب، وحلول العقاب. اللّهم صلّ على محمّد وآله وأعذني من كل ذلك برحمتك، وجميع المؤمنين والمؤمنات. يا أرحم الراحمين»(3).

ص: 289


1- في تاريخ مدينة دمشق 22: 66 أن الأبيات كان ينشدها أبو حازم الأعرج (سلمة بن دينار). وقد جاء في بحار الأنوار 34: 446 ما يقرب منه منسوباً إلى أمير المؤمنين(عليه السلام).
2- سورة يوسف، الآية: 76.
3- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه(عليه السلام) في الاستعاذة من المكاره و... .

من هدي القرآن الحكيم

من مساوي الإدعاء أنه يؤدي إلى
الغرور

قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا...}(1).

وقال سبحانه: {بَلْ إِن يَعِدُ الظَّٰلِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(3).

والتكبر

قال جلّ وعلا: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}(4).

وقال عزّ اسمه: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}(5).

وقال جلّ ثناؤه: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}(6).وقال عزّ من قائل: {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَٰفِرِينَ}(7).

والعجب

قال جلّ شأنه: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا يَصْنَعُونَ}(8).

ص: 290


1- سورة الأنعام، الآية: 70.
2- سورة فاطر، الآية: 40.
3- سورة الحديد، الآية: 14.
4- سورة النساء، الآية: 173.
5- سورة الأعراف، الآية: 146.
6- سورة النحل، الآية: 23.
7- سورة ص، الآية: 74.
8- سورة فاطر، الآية: 8.

وقال سبحانه: {فَلَا تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ}(1).

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ...}(2).

والرياء

قال عزّ وجلّ: {يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}(4).

وقال عزّ اسمه: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

الغرور

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يابن مسعود: لا تغترنّ باللّه، ولا تغترنّ بصلاحكوعلمك وعملك وبرّك وعبادتك»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «طوبى لمن لا تقتله قاتلات الغرور»(7).

وقال(عليه السلام): «لا يُلقى العاقل مغروراً»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «المغرور في الدنيا مسكين، وفي الآخرة مغبون،

ص: 291


1- سورة النجم، الآية: 32.
2- سورة النساء، الآية: 49.
3- سورة البقرة، الآية: 264.
4- سورة الأنفال، الآية: 47.
5- سورة الماعون، الآية: 4-6.
6- مكارم الأخلاق: 452.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 432.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 772.

لأنه باع الأفضل بالأدنى»(1).

التكبر

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إجتنبوا التكبر فإن العبد لا يزال يتكبر حتى يقول اللّه تعالى اكتبوا عبدي هذا في الجبارين»(2).

وقال سيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): «فاللّه اللّه في...، وسوء عاقبة الكِبر، فإنها مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى، التي تُساور قلوب(3) الرجال مُساورة السُموم القاتلة...»(4).

وقال سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام): «... أول ما عُصي اللّه به الكبر، وهي معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين...»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما من رجل تكبر أو تجبر إلّا لذلّة وجدها في نفسه»(6).

العجب

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ثلاث مُهلكات وثلاث منجيات، فالمهلكات... وإعجاب المَرءِ بنفسه...»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) للأشتر لما ولّاه مصر: «وإياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يُعجبك منها، وحُبَّ الإطراء فإن ذلك من أوثق فُرَصِ الشيطان في نفسه

ص: 292


1- مصباح الشريعة: 142.
2- نهج الفصاحة: 166.
3- تُسار القلوب: تُواثبها وتُقاتلها.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 192 من خطبة له(عليه السلام) تسمى القاصعة.
5- الكافي 2: 130.
6- الكافي 2: 312.
7- معدن الجواهر: 32.

ليمحق ما يكون إحسان المحسنين...»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): ... قال موسى(عليه السلام) لإبليس: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم إستحوذت عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه»(2).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «العجب درجات منها أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعاً، ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمنُّ على اللّه عزّ وجلّ وللّه عليه فيه المن»(3).

الرياء

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «استعيذوا باللّه من جُبِّ الخزي». قيل: وما هو يا رسول اللّه؟ قال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وادٍ في جهنم أُعدَّ للمرائين»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أَيسَرُ الرياء الشرك»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «... والرياء شجرة لا تثمر إلّا الشرك الخفيَّ،وأصلها النفاق...»(6).

وقال(عليه السلام): «قال لقمان لابنه: ... وللمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده. وينشط إذا كان الناس عنده، ويتعرَّض في كل أمر للمحمدة»(7).

ص: 293


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي(رحمه اللّه) لما ولاه على مصر.
2- الكافي 2: 314.
3- الكافي 2: 313.
4- منية المريد: 318.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 187.
6- مصباح الشريعة: 32.
7- الخصال 1: 121.

الحاجة إلى السياسة

اشارة

اشارة

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من اتخذ الحق لجاماً إتخذه الناس إماماً»(1).

علم السياسة من العلوم المهمة التي يجب على طلبة العلوم الدينية التوجه إليها وادخالها ضمن البرامج الدراسية مضافة على العلوم الحوزوية الرئيسية الأخرى التي تحتاج إلى بحث وتحقيق. لقد أصبح اليوم تدريس السياسة ومعرفتها في الحوزات العلمية من الحاجات الضرورية التي تفرضها علينا طبيعة الحياة العصرية من باب المقدمة للدفاع عن الإسلام وحفظ المسلمين من المؤامرات والمشكلات التي تحيط بهم من قبل الأعداء...

إذ من دون أن نعرف السياسة ونتفهم أصولها وفروعها لا يمكننا أن نقف أمام الهجمات العنيفة التي يشنها الغرب والشرق ضدنا... فيكون مثلنا مثل السقيم الذي ابتُلي بالمرض ولا يذهب إلى الطبيب ليحفظ نفسه من الهلكة ويبقى هكذا حتى يشتد به المرض ويتفاقم ثم يشرف على الموت!

فإذا أصيب الطلبة بفقدان الوعي السياسي والحيوي فإن ذلك سوف يعرض الأمة باجمعها لمشاكل بالغة الخطورة لأن الناس يأخذون مفاهيم الحياة من الطلبة والعلماء ويرجعون إليهم عند الأزمات والأخطار، كما أنّ الأمة التي تعاني من الأمية السياسية ستكون دائماً معرضة للأخطار والتزييف مما يمهد

ص: 294


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 623.

للاستعمار أن يطبق خططه العدوانية في البلاد.

ومن الواضح أن تعلم السياسة لا يتم عبر مطالعة بعض الصحف أو المجلات أو الاستماع إلى نشرة خبرية، بل إن تعلم السياسة ومعرفة مداخلها ومخارجها بحاجة إلى سنين طويلة من التعب والمطالعة والبحث والتدقيق والتحقيق كالدكتور الذي يجهد لسنين طويلة حتى يصبح دكتوراً يتمكن من تشخيص المرض ومعرفة أسبابه ونتائجه وكيفية علاجه.

كما أن الإنسان إذا جلس تحت المنابر واستمع طوال خمسين سنة إلى الخطباء فإنّه على الاغلب لا يصبح خطيباً.

إذ أن الخطابة الناجحة بحاجة إلى جهود وأتعاب ومواصلة في البحث وتعلم لفنّ الالقاء وإدارة المنبر يصرفها الخطيب من عمره الثمين كي يصبح خطيباً ولا تكتفي بمجرد الاستماع إلى الآخرين وإلّا لصار جميع الناس خطباء ومرشدين!

وهكذا السياسة أيضاً فإن تعلمها والاطلاع على خفاياها وأسرارها، بحيث يتمكن الإنسان من معرفة اغلب الشؤون السياسية وتحليل قضاياها ومعرفة مطباتها بحاجة إلى بحث ودراسة مفصلة وعميقة يجهد فيها الطالب كي يحصل عليها.

معنى السياسة

السياسة إدارة البلاد والعباد فالسياسة هي الإدارة، فإذا كان باستطاعة أي شخص إدارة دفة الحكم يعتبر سياسياً وهكذا بالنسبة إلى المناصب الأدنى حتى نصل إلى أقل منصب.

لقد عمد الغرب والشرق في القرن الأخير إلى الغاء علم السياسة من قائمة العلوم المهمة التي تدرس في المدارس والجامعات العلمية لأكثر البلاد الإسلامية وبذلوا جهوداً كبيرة في سبيل عزل الحوزات العلمية عن الساحة

ص: 295

السياسية ومحاولة فصل الدين عن الدولة حتى إنك قد ترى بعض الطلبة يكتفي بدروس الفقه والأصول والأدب والمنطق وما شابه ذلك من الدروس الحوزوية المهمة والأصلية ويتخلى عن العلوم الأخرى التي ترتبط بحياته الاجتماعية والسياسية الأخرى، حتى أن البعض من الطلبة يتصور - وما زال - أنه لا توجد أية علاقة تربط السياسة بالحوزات العلمية، وان العلوم السياسية تختص بطائفة من الناس ولا تدخل ضمن اختصاصات علماء الدين.

ومن الواضح أن فتح البلدان أمرٌ سهل ولكن إدارة الفتوحات صعب جداً لأن ذلك بحاجة إلى إدارة الناس وحل مشاكلهم، وعلم السياسة هي الآلة التي تعين الإنسان المدير على إدارة البلاد وعلى النحو المطلوب.

ومن دونها لا يمكن للسياسي مهما أوتي من قوة وقدرة أن يحقق أهدافه ويصل إلى ما يسعى إليه...

ثورة المشروطة والسياسة

في القرن الماضي حصلت تغييرات مهمة في العالم وكان منها ما حصل في إيران حيث نهض الفقهاء والمراجع ضد الاستبداد والدكتاتوريّة، ومن جملة هؤلاء المراجع كان المرحوم الآخوند الخراساني(رحمه اللّه) صاحب الكفاية وكان سبب هذه النهضة هو اضطلاع علمائنا الأعلام بالأوضاع الاجتماعيه والسياسية التي تحيط بهم وتمتعهم بالوعي السياسي الكامل.

مقاومة السيد البروجردي(رحمه اللّه)

وكذلك المرحوم السيد البروجردي(رحمه اللّه)، حينما أراد شاه إيران السابق أن يطبق بعض القوانين اللاشرعية في البلد وقف أمامه بإصرار وقاومه بشدّة، حتى اضطر الشاه إلى ارسال رئيس وزرائه إلى السيد ليقول له: إن هذه القوانين قد طبقت في

ص: 296

البلاد المجاورة ونحن ومن أجل مراعات بعض الأمور الدولية لا بد لنا من تطبيقها اجباراً.

ولكن المرحوم السيد البروجردي وبما امتاز به من وعي سياسي ثاقب رد عليه بقوله للوزير: قل للملك، إن في الدول المجاورة قد انتقل الحكم من الملكي إلى الجمهوري. كناية عن أنه لو اراد الملك أن يطبق هذه القوانين هذه القوانين فعليه أن يتنحى عن السلطة ليحل مكانه الحكم الجمهوري لمراعاة الوضع الدولي ولكن الوزير حينما لم يجد ردّاً مناسباً له خرج من المجلس غاضباً، ولم يستطع الملك بعد ذلك إجراء هذه القوانين مادام السيد البروجردي على قيد الحياة... وفي مرة أخرى أراد الشاه أن يجري قانون المساواة بين المرأة والرجل ولكن السيد البروجردي(رحمه اللّه) أيضاً قاومه بشدة ولكن الملك اصر هذه المرة على تطبيق هذا القانون فصمم البروجردي على مغادرة البلاد اعتراضاً على هذا القانون وأمر بالتهيؤ للهجرة فلمّا سمع الشاه بنبأ هذه المغادرة أصدر فوراً قراراً يقضي بالغاء قانون التساوي بين الرجل والمرأة، لأنه كان يعلم أن مغادرة السيد البروجردي البلاد يعني قيام الأمة ضده وتفاقم الأزمة والمصادمة بينه وبين العلماء والشعب الأمر الذي يؤدي إلى انقلاب شامل يقضي عليه وعلى حكمه ومن هنا اقدم على التنازل عن هذا القانون، كلّ ذلك كان نابعاً من وعي السيد(رحمه اللّه) واحاطته بالأمور وقد جاء في الحديث: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(1).

نعم عدم دراسة السياسة في الحوزات العلمية أدى إلى ضعف الشيعة وتقدم الآخرين عليهم، وهذا الأمر من القضايا التي خطط لها الاستعمار الغربي والشرقي معاً من أجل تحطيم الشيعة والتشيع ومصادرة كلّ حقوقهم وثرواتهم

ص: 297


1- الكافي 1: 27.

الهائلة.

ولكن البعض مازال يتحسر للعزة والشرف الذي كان يتمتع به المسلمون في القرون الماضيه وتقدمهم على الآخرين ولم يذهب إلى معرفة المرض والعلاج الذي سبب كلّ هذه المشكلات.

الحاجة إلى التجديد

نحن بحاجة إلى التجديد والتحدث بلغة يفهمها الآخرون كي نتمكّن أن نتفاهم معهم ونؤثر فيهم ونرشدهم إلى الإسلام وهذا بحاجة إلى تجديد بعض علومنا المهمة في الحوزة لا في الأسس والقواعد بل في التعبير والصياغة.

زهاء ثلاثمائة عام وكتاب الحاشية في المنطق لملا عبد اللّه يدرس في الحوزة العمية وهذا أمر حسن وجيد ولكن لِمَ لا يوجد كتاب حديث يماثله في المنطق. ألّا نريد التقدم والرقي للحوزة؟

أم لِمَ لا يوجد أخصائيون في تاريخ الأنبياء والأئمة عليه السلام ليقوموا بتحليل صحيح لحياة الأئمة(عليهم السلام) وسيرتهم وسلوكهم لكي نتقدم في هذا المجال ونتعرف على حياة أنبيائنا وأئمتنا(عليهم السلام) ولنحذو حذوهم ونسير على هداهم.

لقد ألف الحاج الملا هادي السبزواري كتاب المنظومة قبل مائتي عام ولكن أين اليوم من يقوم بما قدمه المرحوم السبزواري من عطاء إلى العلماء والمحافل العلمية؟

قبل حوالي ثلاثة وعشرين قرناً أصبح أرسطو عبقري زمانه، إنه كان رجل سياسة وقد زار الكثير من البلدان ليتعرف على مناهج وأساليب الحكم في تلك البلاد، ثم بعد ذلك دوّن مؤلفات كثيرة في مجال السياسة ما زالت ترسم الخطوط العريضة لسياسة الغرب في إدارة البلاد والقضايا الدولية إلى اليوم!

فالمطلوب من الحوزات العلمية وطلبة العلوم الدينية أن تضع درس السياسة

ص: 298

ضمن العلوم الأخرى التي تدرسها كي تتمكن أن تحصل على قدرة أكبر وأقوى في نشر الإسلام والدفاع عن المسلمين.

الحنكة السياسية

محمد بن عبد اللّه بن الحسن من أولاد الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) ثار ضد حكم المنصور العباسي في المدينة وثار أخوه إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بالبصرة، وقد جمع المنصور جميع مستشاريه ليجد الحل لهذه الأزمة وقد أشار عليه بعضهم أن يستشير شيخاً(1) طاعناً في السن يجيد فن السياسة بشكل غريب، فطلبه المنصور وشرح له الموضوع وطلب منه أن يعرض له حلاً للمشكلة.

فسأله الشيخ عدة اسئلة منها: أين مقر محمد بن عبد اللّه؟ فأجاب المنصور: في المدينة. كم نفوس المدينة؟ قال: ليست كثيرة.

قال: على ماذا يعتمد اقتصاد المدينة؟ قال: على التمر.

قال: ما هو موقع المدينة الاستراتيجي؟ قال المنصور: المدينة عبارة عن أرض غير صالحة للزراعة ولكن توجد حواليها بعض الواحات الصغيرة...

فسأل الشيخ عن شخصية محمد بن عبد اللّه ومدى محبوبيته عند الناس؟ فقيل له: أنه من أولاد الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) وله مكانة مرموقة عند أهل المدينة.

فقال الشيخ للمنصور: إذا أردت أن تقضي على هذه الثورة فعليك أن تجهز جيشاً لمدينة البصرة وتستعد للثائر هناك! ثم قام الشيخ وذهب...

وبعد خروجه من المجلس، قال المنصور لحاشيته: لم أرَ في حياتي أحداً

ص: 299


1- وهو جعفر بن حنظلة البهراني.

أكثر حماقة من هذا الشيخ، فإني أخبرته بأن الثورة في المدينة وهو يقول لي استعد له في البصرة!

ولكن بعد فترة وجيزة أخبروا المنصور بأن إبراهيم أخا محمد بنِ عبد اللّه ثار في البصرة والتف الناس حوله (الأمر الذي أكدّ تنبّؤ الشيخ الكبير) فأمر المنصور باحضار الشيخ، فسأله: هل أنت تعلم الغيب بما أخبرتني من الاستعداد في البصرة؟ قال له الشيخ: لا ولكن عرفت الأمر من الاسئلة التي طرحتها عليك إذ عرفت أن المدينة ضعيفة من الناحية الاقتصادية والعسكرية لقلة مواردها وأفرادها، ولذلك فهي لا تصلح لأن تكون قاعدة للثورة هذا من ناحية ومن ناحية ثانية أنّ محمد بن عبد اللّه كان له أنصار في أطراف المدينة وبما أن البصرة هي أقرب المدن إلى بغداد وقوية من الناحية الاقتصادية والعسكرية فكان من الطبيعي أن يلجأ إبراهيم بن عبد اللّه إلى البصرة التي تتوفر فيها الظروف المناسبة للثورة، ومن هنا كانت نصيحتي لك أن تستعد له في البصرة ولكنك لم تسمع!(1).

فشل السياسة الغربية

إن السياسة الغربية فاشلة هذا ما اعترف به أحدهم(2). والذي يعدّه الغربيون من أكبر منظري السياسة اليوم، وقد كتب يقول: إن هناك خمسة وعشرين مليون جائع في أمريكا وهذا ناتج عن فشل السياسة التي تمارسها الحكومة لأن السياسة اللاصحيحة تنتج الجوع.

وكذلك الأمر في الاتحاد السوفيتي(3). حيث أنّ جميع الناس يعانون من الجوع بالرغم من التقدم الصناعي الذي توصلوا إليه وهكذا باقي بلدان أروبا...

ص: 300


1- انظر تاريخ الطبري 6: 204 و 246، وتاريخ مدينة دمشق 43: 568.
2- ينقل عن هنري كيسنجر وزير الخارجيّة الأمريكي الأسبق.
3- ألقيت هذه المحاضرة قبل إحلال الاتحاد السوفيتي بأكثر من عشر سنوات.

يقول برنارد شو(1): إن العالم بحاجة إلى شخصية كالنبي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ليحل مشاكله بعد أن عجزت المبادئ الأخرى عن إيجاد حلٍّ له.

وهذا الكلام هو عين الصواب ومعلوم أن سياسة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيرته الصالحة والقوانين الإسلامية كامنة في الحوزات العلمية ولكن يجب طرحها ونشرها بين الناس كي نتمكن من إنقاذهم من مشكلاتهم المتفاقمة ولو بشكل نسبي، إذ نحن نعتقد أن الإصلاح الحقيقي الشامل سيكون في عصر الإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشريف فهو المنقذ الواقعي للعالم وهو الذي سوف يعيد نظام العدل والإيمان إلى الأرض بعد أن سحقته السياسات الشيطانية والأهواء والشهوات...

الأمية السياسية لدى بعض المسلمين

تربع جمال عبد الناصر على كرسي الحكم في مصر برعاية وإشراف مباشر من قبل أمريكا، ولكن بريطانيا المنافسة دائماً لم تكن ترغب بجمال عبد الناصر رئيساً لمصر فأشعلت نيران الفتنة في اليمن(2) والتي أدّت إلى انجرار ربع مليون مسلم مصري إلى فتنة اليمن وقد راح ضحية هذه الفتنة الآلاف من المصريين الأبرياء بالإضافة إلى الأضرار المادية والمعنوية التي أصابت الشعب المصري المسلم حيث انقسم الناس في مصر إلى فئتين، موافقين ومخالفين. تأملوا قليلاً في هذا الحادث، أين مصر والحرب في اليمن... هذا بحاجة إلى معرفة السياسة،إلى التفكر وإلى الوعي السياسي.

هل فكر المسلمون يوماً في سبب عدم حصول الانقلابات العسكرية في البلاد الغربية بينما تسمع بين الحين والحين الأنباء وهي تحكي عن حصول

ص: 301


1- جورج برنارد شو، (1856م-1950م) كاتب ايرلندي ملحد.
2- المعروف عنه بثورة (26) سبتمبر اليمنية أو حرب اليمن أو حرب شمال اليمن الأهلية، واستمرت من عام (1962م) إلى (1970م).

انقلاب عسكري في القطر الفلاني والفلاني من بلاد العالم الإسلامي؟

لماذا؟ ما هو الفارق الموجود بين شعوبنا الإسلامية والشعوب الأخرى كي نعاني نحن ويلات الانقلابات العسكرية دائماً وهم لا يجدون أي أثر لها؟

الجواب: هو أن الشعوب الغربية تتمتع بنوع من الوعي السياسي ولكنّ كثيراً من المسلمين وللأسف يعانون الأمية السياسية، ولا يفهمون أحداث زمانهم وما يحاك لهم من مؤامرات ويصب عليهم من ويلات...

وقد مرّ في الحديث: «أن العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(1).

فمن الذين يجب عليهم أن يعطوا للمسلمين الوعي السياسي والفكر السياسي والفكر والثقافة؟

الجواب واضح: هي الحوزات العلمية... ولذلك يجب أن تهتم هي الأخرى بمعرفة السياسة والتبصر بأمورها...

السيد الحكيم(رحمه اللّه) وعبد السلام عارف

عبد السلام عارف الذي وصل إلى الحكم في العراق عبر انقلاب عسكري زار كربلاء المقدسة(2) قاصداً اللقاء بالسيّد محسن الحكيم(رحمه اللّه) وسائر العلماء.

ولكن المرحوم السيد محسن الحكيم رفض اللقاء به إلّا بعد القبول بإلغاءجميع القوانين المضادة للإسلام وإبطالها من قبل عبد السلام عارف نفسه وعبر الإذاعة... ولكن عبد السلام لم يقبل بهذا الشرط فرفض السيد الحكيم استقباله...

وبعدها لم يستطع عبد السلام الالتقاء بأي عالم من العلماء لا في النجف ولا

ص: 302


1- الكافي 1: 27.
2- في بعض المناسبات التي كان السيد الحكيم(رحمه اللّه) يقصد الزيارة إلى كربلاء المقدسة.

في كربلاء. فعلماؤنا الأعلام ونظراً لمعرفتهم بالأمور السياسية وتبصرهم بأوضاع المسلمين رفضوا الأنظمة التي تأتي بدعم الغرب ولولا فطنة علمائنا الأعلام على مرّ التاريخ لكنا نعيش أوضاعاً أسوء مما نحن عليه الآن.

ولأنّ الغربيين في سعي دائم لاشغال المسلمين بالتوافه والمشاكل وذلك بغية الحد منهم وقمع انتشارهم وتوسع رقعتهم في العالم... وهم يخططون سنوات طويلة من أجل وأد كلّ طاقة خيرة للمسلمين من شأنها أن ترفع من شأن الإسلام والمسلمين في العالم... الأمر الذي يدعونا لأن نهتم أكثر بالسياسة لكي نكشف هذه المخططات ونقف أمامها بعزم وإيمان ثابتين.

التخطيط البريطاني

ينقل أن في كربلاء وفي زمن المرحوم الميرزا محمدتقي الشيرازي(رحمه اللّه) كان عطار بالقرب من منزل المرحوم يُلبِّي بعض حاجيات المرحوم، وبعد خمسة وثلاثين عاماً من عمر هذا العطار أي أبان اندلاع ثورة (1920م) في العراق وبقيادة المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) نفسه ابتلي باستبراد خفيف فأرسلوا إلى العطار من يشتري منه بعض الأعشاب الطبية للمرحوم الشيخ.

وبعد أن تناول القائد هذه الأعشاب تسمّم ولم تدم حياته طويلاً حتى فارق الدنيا. وبعد ذلك تبين أن هذا العطار كان من عملاء بريطانيا يعيش على بركتها ليوم تسنح له الفرصة ليقدم الخدمة العظيمة لها وأي خدمة أفضل من قتل زعيمالثورة الدينية الشعبية ضد بريطانيا.

فمعرفة السياسة من الأمور الهامة التي تخص حياة كلّ مسلم وبالأخص الحوزات العلمية التي تتكفل بقيادة المسلمين وإنقاذهم من براثن الظلم والعدوان.

ص: 303

ولذا من اللازم أن نهتم لايجاد بعض الدروس السياسية في الحوزة منضمة إلى المناهج والدروس العلمية الحوزوية المهمة.

«اللّهم صلّ على محمد وآله، وحلّني بحلية الصالحين، وألبسني زينة المتقين في بسط العدل، وكظم الغيظ وإطفاء النائرة، وضمّ أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين، وإفشاء العارفة، وستر العائبة،ولين العريكة، وخفض الجناح وحسن السيرة...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

لماذا السياسة؟

قال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(2).

وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ...}(3).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ...}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(5).

السياسة الحسنة

قال عزّ اسمه: {وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ

ص: 304


1- الصحيفة السجادية، من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة الحديد، الآية: 25.
3- سورة النساء، الآية: 105.
4- سورة المائدة، الآية: 49.
5- سورة المائدة، الآية: 42.

الْمُفْسِدِينَ}(1).

وقال جلّ ثناؤه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(2).

وقال عزّ من قائل: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ}(3).

وقال جلّ شأنه: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}(4).

مساوئ الجهل

قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٖ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَٰنٖ مَّرِيدٖ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٖ شَئًْا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجِ بَهِيجٖ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٖ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ}(5).

وقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ

ص: 305


1- سورة الأعراف، الآية: 142.
2- سورة هود، الآية: 88.
3- سورة النساء، الآية: 114.
4- سورة الأحزاب، الآية: 45.
5- سورة الحج، الآية: 3-8.

عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٖ فَلَا تَسَْٔلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَٰهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسَْٔلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَٰسِرِينَ}(2).

آثار العلم

قال جلّ وعلا: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(3).

وقال عزّ اسمه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(4).

وقال جلّ شأنه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ}(5).

وقال عزّ من قائل: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا...}(6).

من هدي السنّة المطهّرة

لماذا السياسة؟

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال:

1- «حسن السياسة يستديم الرياسة»

2- «حسن السياسة قوام الرعية»

3- «فضيلة الرياسة حسن السياسة»

ص: 306


1- سورة الأنفال، الآية: 21-22.
2- سورة هود، الآية: 46-47.
3- سورة الزمر، الآية: 17-18.
4- سورة فاطر، الآية: 28.
5- سورة الرعد، الآية: 19.
6- سورة البقرة، الآية: 269.

4- «من حسنت سياسته دامت رياسته»

5- «من سما إلى الرياسة صبر على مضض السياسة»

6- «من قصر عن السياسة صغر عن الرياسة»(1).

السياسة الحسنة

وقال(عليه السلام): «حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة»(2).

وقال(عليه السلام): «اَدَلُّ شيءٍ على غزارة العقل حسن التدبير»(3).

وقال(عليه السلام): «صلاح العيش التدبير»(4).

مساوئ الجهل بالسياسة

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «آفة الزعماء ضعف السياسة»(5).

وقال(عليه السلام): «سوء التدبير سبب التدمير»(6).

وقال(عليه السلام): كذلك: «سوء التدبير مفتاح الفقر»(7).

ص: 307


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 331.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 331.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 354.
4- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 354.
5- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 347.
6- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 354.
7- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 354.

السياسة في حياة الإنسان

أهميّة السياسة

قال تعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا}(1).

تُعدّ السياسة أحد الأركان المهمّة في حياة الإنسان المسلم. فالذي يصاب بمرض معين فهو أمام خيارين إما أن يتابع نفسه، ويأخذ العلاج المناسب الرافع للمرض وإما أن يقبع في مكانه ينتظر الموت، والعقلاء دائماً يختارون الطريق الأول، والجهّال والمتخلِّفين مع الطريق الثاني. وهذا الأمر نلاحظة بدقّة متناهية في دول العالم الثالث. فمن أسباب انتشار الأوبئة: التخلف وغياب الوعي وعدم إدراك المصلحة، أو اختيار الأصلح والأسلم. وهكذا الأمر في السياسة فإنها الطريق الوحيد لحفظ سلامة النظام والجماهير؛ «صلاح العيش التدبير»(2).

وعندما يغيب الوعي السياسي عند الناس تظهر ظاهرة الخضوع للغير، والاستعمار والاستعباد والخنوع، تصحبها حالات القهر والسحق وتذويب الإرادات.

فالجماهير البعيدة عن الوعي السياسي تُعاني دائماً من الأمراض والمشاكل والاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم التبعيّة والخنوع للدول

ص: 308


1- سورة الأحزاب، الآية: 23.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 416.

القويّة.

معنى السياسة

ليس معنى السياسة أن يستمع الإنسان في كل يوم إلى الإذاعات المختلفه أو هي قراءة الصحف والمجلات، بل هي علم خاصّ، كما الفقه والأصول والفيزياء والرياضيات... فمثلاً إذا قضى الإنسان عشرات السنين من عمره في سماع مجالس الوعظ والإرشاد، فلا شك أنه لا يصبح فقيهاً، لكنه إذا أراد الفقاهة فعليه أن يحضر الدروس الفقهية عند الأساتذة المختصين، ويتدرج في مراحلها ويبدأ بالممارسة والتطبيق العملي لما اكتسبه من دروس، من خلال المباحثة أو التدريس أو المنبر أو الكتابة، وما شابه.

وهكذا السياسة أيضاً، فإن متابعة الأخبار عبر الأجهزة والصحف لا تصنع الإنسان السياسي والواعي بما يدور في الساحة الدولية، بل ينبغي أن ينضّم إليها التدرّج والتحصيل والممارسة العملية، وذلك لأهمية السياسة في حياة الفرد والمجتمع، وطرد حالة التخلف والجهل، الداعية إلى التبعية وسيطرة المستغلين. وتظهر أهمية السياسة في الحياة كما إذا دخل شخصان السوق لأجل الكسب والعمل، فأحدهما يعرف طريقة العمل والكسب الصحيح، والآخر لا يعرف ذلك، فلا شك أن الثاني يبقى كاسباً عاديّاً حتى لو استمرّ بهذا العمل خمسين سنة، بينما الأول الذي يعرف فنّ التجارة والكسب، يتحول إلى تاجر كبير خلال مدّة قصيرة، فالكاسب الذي لا يسير وفق البرنامج الصحيح، يكدّ النهار كلّة لكي يحصل على قوت يومه، بينما التاجر الذكي يشتغل ساعتين ويعرف خلالهما طريقة واسلوب العمل المُربح والمفيد. فالفرق بين هذين التاجرين هو المعرفة واتباع الأسلوب الصحيح.

ص: 309

فالسياسة - إجمالاً - تعني الإدارة والتدبير السليم، فأحياناً ترى بعضالأشخاص يمتلك قدرة إدارة مصنع، وآخر إدارة بيته فقط وثالثاً يتمكن من إدارة دولة كاملة.

فالسياسي الكامل هو الذي يقدر على إدارة الأمور الكبيرة، ويعرف كيف يوجِّهها إلى الصلاح والخير، بينما الذي لا يمتلك الوعي السياسي لا يستطيع إدارة حتى بيته الصغير!

السياسة بَين اليوم والأمس

السياسة ليس شيئاً طارئاً على حياة الإنسان فإنها ولدت مع بداية تكوين الأسرة الأولى، والمجتمع الأول.

وعندما نتصفح أوراق التاريخ نلاحظ السياسة التي سادت العصور اليونانية وجهود بعض العلماء الكبار، في إرساء النظام وتكوين الحكومات الفاضلة العادلة. والنكتة المهمة في البين أنّ دعاة النظام والحكومات الفاضلة كانوا علماء واعين، يحملون أفكاراً وتطلّعات حضارية كبيرة، إلّا أنهم كانوا يصطدمون بمجموعة من الجهال أصحاب الثروة، الذين لا يحملون أيّ بذرة من الفكر الإنساني، ويعيشون حالات غياب الوعي وفقدان المعاني الشريفة، التي تحفظ للإنسان كرامته وعزّته. وهذا ما نلاحظه بوضوح في العصر الجاهلي قبل الإسلام، حيث سادت الأحكام العرفيّة التي فرضت على الناس أن يعيشوا بشكل تُهدر فيه كرامة الإنسان، وتضيع إنسانيته وسط الغوغاء.

لقد حاول الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، أن يضعوا للناس برامج تتلاءم وإنسانيتهم، وتتضمن أفكاراً حضاريه تبني الإنسان وترتقي بالمجتمع إلى كماله وإنسانيته، بكل معنى الإنسانية، ويمارس حرّيته الفكرية والدينية، فكانت السياسة تعني بناء

ص: 310

الإنسان والمجتمع ورعايته والمحافظة عليه وتدبير شؤونه بما يتلاءم مع خطّالأنبياء، أي الرؤية الواسعة التي تنفتح على الدين، وتنسجم مع التشريع الإلهي. أما سياسة اليوم - عند البعض - فهي عبارة عن المكر والخداع وتزييف الحقائق، وإراقة الدماء، من أجل المحافظة على العروش والمناصب الشخصية، والإنسياق إلى الهوى الذي يحرّك الشهوات والنزوات غير المرتّبة والمنتظمة، وهاهو التاريخ بين أيدينا وأبصارنا، يروي لنا الملاحم والمآسي الدموية، التي خاضها الحكّام الجائرون ضد شعوبهم، فضلاً عن البرامج المنظمة من أجل إشاعة الفحشاء والمنكر والقبائح، وعمليات الإرهاب المقنَّن ضد الشباب والعلماء... ، ولا غرابة عندما نقرأ عبارة أحد المجرمين المعروفين حين يقول: العالم لا يشفق على المذبوحين، لكنه يحترم المحاربين(1). فهي تلخّص كل رؤاه السياسية، التي ترجمها إلى سلسلة طويلة من القتل والإرهاب. ويقول آخر(2). عن السياسة: السياسة هي فنّ القوة...، وعندما تضرب الفولاذ بالمطرقة فإن الجميع يتهيّبون صوت الدوي، وعندما تستعمل القفّاز فإن أحداً لاينتبه إلى وجودك، وإنّ الأحذية الثقيلة هي التي تصنع التاريخ.

وبهذه الكلمات المعبرة عن الإرهاب والقوة والقتل وسحق الكرامات الإنسانية يترجمون فهمهم للسياسة وخطِّهم منها وهكذا فَهِمَ الشارع العام اليوم السياسة. فهي على نقيض مما طرحه الأنبياء(عليهم السلام) ولذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «واللّه ما معاوية بأدهى منّي، ولكنه يغدر ويفجر»(3). وهو الفرق بين السياستين.

ص: 311


1- مناحم بيجن (1913م-1992م) رئيس وزراء إسرائيلي.
2- فلاديمير جابوتنسكي (1880م-1940م) قيادي في الحركة الصهيونية.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 200 من كلام له(عليه السلام) في معاوية.

المقاييس الفاسدة

لقد تصوّر الظلمة أن السياسة هي القوة وإخضاع إرادات الناس لحكمهم، وأنّ دوام ملكهم إنما يتم بواسطة الإعدامات، وتخويف الناس، وزرع الإرهاب في كل مرافق الحياة، وإعلان حالات الطوارئ والأحكام العرفية والعسكرية... بينما نجد أن الدين يصنع للناس مقاييس عقلائية تتلاءم مع حركة المجتمع، فمثلاً: لكي يتواصل الملك، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «من حسنت سياسته دامت رياسته»(1). إذن فحسن السياسة هو العامل الحقيقي لدوام الحكم، والمقصود به وضع برامج تنظّم حركة الناس، وتراعي ثرواتهم وأفكارهم ومشاعرهم وعقيدتهم الدينية، واحترامهم وتسهيل حركة السوق، وما إلى ذلك. فكل ذلك يصدق عليه عنوان حسن السياسة. والعكس بالعكس؛ إذ يقول(عليه السلام) «من قصر عن السياسة صغر عن الرياسة»(2). وهكذا صارت مقاييس خاصّة يفهمها زعماء اليوم في سياستهم. وأكثر شيء بروزاً وطغياناً على جميع سياسات العالم هو: العنف والقوة، فقد اتسمت سياسة اليوم بهذا الطابع، وهذا ما لا يمكن إنكاره أبداً. فحتى الدول التي تطبل للديمقراطية وإعلان الحرية وحماية حقوق الإنسان، نلاحظ أنها تمارس العنف المتمثل بالإعدام والنفي والسجن مع الأعمال الشاقة، وما إلى ذلك.

وسياسة اليوم لها مقياس خاص في المحافظة على سعر السوق، فترمي مئات الأطنان من المواد الغذائية في البحر حفاظاً على استقرار سعرها في السوق، وتحتكر بعض المواد لأهداف سياسية أخرى! بينما الإسلام يرى أن العنصر المهم في الحياة، والذي يجب المحافظة عليه هو الإنسان، فيسخِّر جميع الأشياء، وحتى التشريع لرعاية هذا الإنسان الخليفة.

ص: 312


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 616.
2- عيون الحكم والمواعظ: 450.

الدين والسياسة

لقد كان الأنبياء والأوصياء يمثلون القيادة الروحيّة الإداريّة للناس، فكانوا مشرِّعين وسياسيين، محافظين على الإنسان من الهلكات، ويسعون دائماً لنجاته وهدايته، فلم يكن هناك أيّ فصل بين الدين والسياسة، بل الدين يقنِّن السياسة، ويرسهم لها خطوطها العريضة، ولذلك عندما نتصفح التاريخ نرى أن الأنبياء(عليهم السلام) هم الذين بنوا المجتمعات بالمعنى الإنساني الدقيق، ووضعوا لها أحكاماً ونظاماً عبر الدين والتشريع الإلهي. والأمر البارز في سياسة الدين هو العدل؛ فيه يقوم الإنسان؛ «العدل أفضل السياستين»(1).

كما أن الدين يرفض أن يكون العنف أمراً بارزاً في السياسة، لأنّ العنف والجور والظلم يصطدم مع العدل؛ «بئس السياسة الجور»(2).

ولما كان الطابع العام لحكّام هذا العصر هو الدكتاتورية والبطش فقد حاولوا بكل جهودهم فصل الدين عن السياسة ليصبغوا السياسة بمقاييس خاصّة، بعيداً عن العدل والرأفة والحرية والوحدة، وهكذا كتبت الأقلام المأجورة، وخطبت الشخصيات المرتزقة عن أن الدين لا ربط له بالسياسة، وأن رجال الدين والمتدينين لا يعرفون من السياسة شيئاً. وهكذا شوِّهت صورة العالِم الديني.

نعم لهم جزء من العذر لعدم اطلاعهم على أطروحة الإسلام التي تعتني بكل الحياة، والأدهى من كل ذلك أن شَكَّلَ الاستعمار والطغاة كياناتٍ داخل مجتمعاتنا الإسلامية لتحارب الدين ورجل العلم، أمثال القومية والشيوعية... ولكن يمكنهم الرجوع إلى الوراء قليلاً ليقرأوا المواقف السياسية للرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار(عليهم السلام)، والمواقف الأخرى لمراجع الدين في قيادة

ص: 313


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 88.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 310.

التحرك الإسلامي، وتحرير البلاد من قبضة المستعمر.

الحَوزة مسؤولة

نعم، ما لا يمكن إنكاره هو خلو كثير من الحوزات درس السياسة. ولكن لا يعني عدم اطلاع طلبة الحوزة والعلماء على السياسة. بل إن متابعة سيرة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) وباقي الثورات والفتوحات كلها تخلق ذهنية سياسية عند الطلبة، فضلاً عن معايشة الحوادث المعاصرة... ولكننا نعتقد أن القصور في الفهم ناشئ من عدم ربط الأحداث المعاصرة بالوقائع التاريخية، والمواعظ القرآنية، وسيرة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) فعلى الحوزة والعلماء أن لا يقتصروا على إيصال المادة العلمية فقط، دون ربطها بالواقع المعاش، واستغلال المناسبات والأحداث المتجددة، لإبداء وجهات النظر الصحيحة المقتبسة من القرآن الحكيم والسنّة والسيرة، فيتداخل فهم المادة العلمية مع فهم السياسة المستجدة والمستقبلية، وتغيّراتها بمختلف جوانبها الداخلية والخارجية.

العالَم ومشكلة السياسة

قال أحد السياسيين(1):

بأن عدد الذين لا يملكون ما يسدّ رمقهم وحاجياتهم اليومية في أمريكا يصل إلى خسمة وعشرين مليون إنسان. وأما في الاتحاد السوفيتي(2) فإن عدد الجياع فيها يصل إلى خمسة وأربعين بالمئة من نسبة السكان. وهذا يعني أن سياسة الغرب والشرق لم تستطع إشباع حتى شعبها، بشهادة مسؤوليها، وهم بذلك قد حكموا على نظامهم وسياستهم بالفشل والقصور. لذا على العالم أن يبحث عن السياسة الصحيحة والنظام الذي يضمن

ص: 314


1- بريجينسكي (1928م-2017م) مستشار أمريكي.
2- ألقيت هذه المحاضرة قبل انقسام الاتحاد السوفيتي.

سلامة شعوبهم، ونحن المسلمين نملك السياسة الصحيحة والقانون الإلهي السليم، وهذه السياسة لم نأت بها من عند أنفسنا، بل هو كلام اللّه ورسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وكلام أوليائه المعصومين(عليهم السلام)، وهكذا آراء المجتهدين والفقهاء المختلفة. ولكن لا بدّ من صبّ هذه الآيات والروايات والأقوال في قالب عصري ومن ثم عرضه إلى العالم بشكل كتاب سياسي كامل، يضمن الخير والسلامة لجميع الشعوب العالمية.

إن العالم اليوم بعيد عن ثقافتنا وكنوزنا، فلا بدّ من تدريس برامجنا وعلومنا في مختلف مجالات الحياة، ومن ثم نقلها إلى العالم، فإن أكثر الناس اليوم في لعب ولهو، ولا يعلمون أين هو الصلاح؟ وأين الطريق المؤدي إلى السعادة والكمال والأمان؟

مَسؤولية البديل

ولكن المشكلة في البديل، إذ أن التشريع الإسلامي الصحيح قد رُكن على جانب، وتلهّف البعض للسعي وراء السياسات التي حكمنا بفشلها لأسباب عديدة. فالمشكلة العالمية لا تحلّ إلّا بفرض السياسة الإسلامية وقانونها الإلهي. ومع ذلك فالمسلمون واقعون في مأساة نتيجة الجهل والتخلف والاستعمار.

فإذن علينا إصلاح أنفسنا أولاً، ومن ثم إصلاح العالم، وحلّ مشاكله، فمن هو المسؤول في الإصلاح؟ ومن هو المسؤول في إعطاء الوعي الثقافي والسياسي للمسلمين؟

والجواب: أن ذلك يحتاج إلى تظافر جهود الأمة الإسلامية، كما ويقع على عاتق الحوزة العلمية والعلماء مسؤولية كبيرة، للقيام بهذا الدور كجزء لا يتجزأ من عملية البناء والإصلاح. وذلك لأن الحوزات العلمية بين يديها نظام الإسلام،

ص: 315

وهي المأمورة والمسؤولة عن وعي وثقافة المسلمين. والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يُبيّن في كتابه الشريف نهج البلاغة سبب قيامه وتصدِّيه لمسؤولية الخلافة والقيادة للمسلمين، فيقول(عليه السلام): «... وما أخذ اللّه على العلماء ألّا يقاروا على كِظّة ظالم ولا سغب(1) مظلوم لألقيت حبلها على غاربها(2)، ولسقيت آخرها بكأس أولّها، ولَأَلفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز...»(3)، إنه(عليه السلام) يقول: إن الدنيا لا تساوي عندي شيئاً أبداً، بل قيمتها عندي كقيمة ما تنثره العنزة من أنفها عند عطستها، وإني لم أتسلّم مهمة خلافة المسلمين، إلّا لأن اللّه عزّ وجلّ أخذ عهداً منّا أن لا نسكت على ظلم الظالمين ولا جوع الجائعين.

وهذه المفاهيم العظيمة لا يفهم باطنها سوى المحصلين لها، وإن كانت الناس قد سمعتها وتلفظتها، ولكن تجسيدها على الواقع يحتاج إلى تظافر جهود الطلبة والعلماء لإرسائها في المجتمع، وهي مفاهيم القرآن والسُنّة والسيرة الصحيحة، ليكون التوجّه نحو اللّه تعالى وأوامره وكمالاته سبباً تامّاً في الإصلاح، وبناء المجتمع الإسلامي، حتى يمكن الإنطلاق لحل مشاكل العالم، قولاً وفعلاً، لأننا في القول نمتلك تراثاً عريقاً وواضحاً، ولكننا لا نمتلك الفعل المقارن له حالياً حتى يطمئن العالم لنا، ويسير خلف ديننا وسياسته، ويصل إلى نجاحه، والخلاص من مأساته.

اللّهم صلَّ على محمّد وآل محمّد، وارزقنا توفيق الطاعة، وبُعدَ المعصية،وصدق النية، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدِّد ألسنتنا بالصواب والحكمة،

ص: 316


1- الكظة: ما يعتري الآكل من الثقل واكرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق، والسَّغَب: شدة الجوع، والمراد منه هضم حقوقه.
2- الغارب: الكاهل.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3 من خطبة له(عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.

واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وتفضَّل على مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرحمة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة، وعلى الأُمراء بالعدل والشفقة، وعلى الرعيّة بالإنصاف وحُسن السيرة، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين(1).

من هدي القرآن الحكيم

الإسلام هو المنقذ

قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(2).

وقال سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(4).

وقال جلّ وعلا: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ}(5).

وقال عزّ اسمه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِ}(6).

السلم والسلام في الإسلام فقط

قال جلّ ثناؤه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(7).

ص: 317


1- انظر البلد الأمين: 349.
2- سورة آل عمران، الآية: 19.
3- سورة آل عمران، الآية: 85.
4- سورة المائدة، الآية: 3.
5- سورة الأنعام، الآية: 125.
6- سورة الزمر، الآية: 22.
7- سورة البقرة، الآية: 208.

وقال عزّ من قائل: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ}(1).

وقال جلّ شأنه: {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(2).

حديث العدل

قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}(3).

وقال سبحانه: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}(6).

لا للجهل

قال عزّ اسمه: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَٰهِلِينَ}(7).

وقال جلّ شأنه: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَٰهِلِينَ}(8).

وقال عزّ من قائل: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(9).

وقال جلّ ثناؤه: {إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَٰهِلِينَ}(10).

ص: 318


1- سورة المائدة، الآية: 16.
2- سورة يونس، الآية: 25.
3- سورة النساء، الآية: 58.
4- سورة المائدة، الآية: 8.
5- سورة النحل، الآية: 90.
6- سورة الشورى، الآية: 15.
7- سورة البقرة، الآية: 67.
8- سورة الأنعام، الآية: 35.
9- سورة الأعراف، الآية: 199.
10- سورة هود، الآية: 46.

من هدي السنّة المطهّرة

الإسلام هو المنقذ

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أَفلح مَن هُديَ إلى الإسلام»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثم إنَّ هذا الإسلام دينُ اللّه الذي اصطفاهُ لنفسه، واصطنعه على عينه، وأَصفاهُ خِيَرَةَ خلقه، وأقام دعائِمَه على محبته. أذَّلَ الأديانَ بِعزَّتِهِ، ووضعَ المِلَلَ بِرفعِهِ، وأهانَ أعداءَهُ بكرامته، وخذل مُحادِّيهِ بنصره، وهَدَم أركان الضلالةِ برُكنِهِ، وسَقى من عَطِشَ من حياضه... ، ثم جعله لا انفضام لعروته، ولا فَكَّ لحلقته، ولا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا انقلاع لشجرته، ولا انقطاع لمدته، ولا عفاء لشرائعه...»(2).

السلم والسلام في الإسلام فقط

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألّا أخبركم بخير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟» قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «إفشاء السلام في العالم»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «مَن أسلَمَ سَلِمَ»(4).

وقال(عليه السلام): «الحمد للّه الذي شَرَعَ الإسلام... فجعله أمناً لِمَن عَلِقَهُ(5)، وسِلماً لمن دَخَلَهُ»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «السَلام تحيّة لملّتنا، وأمان لذمّتنا»(7).

ص: 319


1- نهج الفصاحة: 234.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 198 من خطبة له(عليه السلام)... يبيّن فضل الإسلام والقرآن.
3- بحار الأنوار 73: 12.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 574.
5- عَلِقَه: تعلق به.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 106 من خطبة له(عليه السلام) وفيها يبين فضل الإسلام ويذكر الرسول الكريم... .
7- جامع الأخبار: 89.
حديث العدل

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في وصية له لعلي(عليه السلام): «يا علي سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومواساة الأخ في اللّه عزّ وجلّ وذكر اللّه تبارك وتعالى على كل حال...»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «في العدل صلاح البرية»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في حديث له: «ألّا اُخبركم بأشدّ ما فرض اللّه على خلقه»، فذكر ثلاثة أشياء أوّلها: «إنصاف الناس من نفسك»(3).

وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة»(4).

لا للجهل

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن الجهلّ لا ينفعُك معه كثير العملِ»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الجهلُ موتٌ»(6).

وقال(عليه السلام): «الجهلُ يُفسِدُ المَعادَ»(7).

وقال الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): «الجهل خصم»(8).

ص: 320


1- الخصال 1: 125.
2- عيون الحكم والمواعظ: 353.
3- الكافي 2: 145.
4- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 24.
5- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 82.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 19.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 39.
8- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 146.

المخابرات الغربية في الوطن الإسلامي

الاستخبارات

اشارة

من الأسلحة التي استخدمها الغرب لحصر المسلمين في دائرة ضيقة ليحجّم تحركهم، ويصبح سيد العالم ويخضع المسلمين وغيرهم لإرادته هو جهاز الاستخبارات، وإنّ من يدّعي الإسلام بعض الحكام أو من يدعي العلمانية مثل الشيوعيين والقوميين والبعثيين وغيرهم، فإنهم لم يَعدُوا كونهم وكائز للاستعمار في الوطن الإسلامي، يستميتون في خدمته وتنفيذ مطالبه شاءوا أم أبوا.

فإن الغرب قد أسّس في كل بلد من بلداننا الإسلامية جهازاً للاستخبارات وجعل على رأس ذلك الجهاز رئيس تلك الدولة، علماً بأن رئيس الدولة هو من عملاء الغرب - في الغالب - ونقول (في الغالب) لأننا لا نملك الاطلاع الكامل حول هؤلاء.

كما أن رئيس الدولة، وبسبب هذه العلاقة بالاستخبارات الغربية، تراه يعمل على كبت شعبه وإثقاله بالقيود، وهو سيف مسلّط على كل فرد من المجتمع.

وإن مهمة المخابرات العالمية هي الحيلولة دون وعي ونمو فكر الشعوب، وإلغاء معاني الحرية، لكيلا يتحرروا يوماً أو يطالبوا بها، ولذلك فإننا نشاهد أن كل من ينادي بالحرية (حرية الكتابة - حرية العمل - حرية الحياة...) يلصقون به أنواع التهم، ويعتبر في عرف القانون إنساناً خارجياً معتدياً على الحكم، فيودع

ص: 321

السجن، ثم يعذَّب.

ولربما يكون مصيره الإعدام ولن يكتفوا بذلك بل تصادر أمواله، المنقولة وغير المنقولة!

وقد يستخدمون مع بعض من الناس تهماً غير مقبولة عند العرف، فحينما يريدون مصادرة أموال أحد ينسبون إليه السرقة أو الرشوة، وإذا كان ذلك البلد يدعي الحكم باسم الإسلام يتهمونه باللواط أو الزنا أو بالزندقة، وهذا هو الأسلوب الأقرب الذي استخدم أيّام الخلفاء(1).

أما اليوم فإن هذا الأسلوب قد طوّره الأعداء، وجعلوا له أنظمةً وقوانين وقواعد، وخصّصوا له المبالغ الطائلة، بحيث بات الاسم المتعارف له هو: شبكات التجسس، التي تحاصر الآمنين في ملاجئهم، وتحصي عليهم أنفاسهم، ورواحهم ومجيئهم. لذا فإن هذا الجهاز هو عبارة عن قيدٍ على عنق كل مسلم في العالم. ولقد سجّل القرآن الكريم من قبل موقفه الصريح منه فقال عزّ من قائل: {وَ لَا تَجَسَّسُواْ}(2). وهؤلاء هم أظهر مصاديق هذه الآية.

إن الإسلام يحدّد جواز التجسس في موردين فقط، الأول: بعنوان المتابعة، حيث تقوم الدولة بمتابعة أعمال موظفيها وذلك لتطبيق القانون وفقاً للشرع، والمورد الآخر: هو التجسس لمعرفة ما عند الأعداء، وقد ذكرنا ذلك مفصلاً في أحد بحوثنا.

أما في البلدان الإسلامية التي حكامها هم عملاء للغرب، ويعملون على تطبيق برامج الأجهزة الغربيه، فإن تجسسهم تجسس على الشعوب، وبمنفعة

ص: 322


1- انظر شرح نهج البلاغة 4: 56، و 17: 203.
2- سورة الحجرات، الآية: 12.

الغرب. ولا يخفى حماقة أولئك الحكام الذين يتنعمون على صرخات المعذبين من أبناء شعبهم، ويرضون بهذا الواقع المؤلم. أو لم يتساءلوا يوماً: لماذا تعيش جماهير الغرب بحرية وأمان، بينما لا تجد لذلك شعوبهم طعماً إلّا في المنام والأحلام؟ لماذا يتنعّم الملحدون والمشركون والمنحرفون بطعم الحياة، بينما يحكم على مئات الآلآف من الشباب المسلم بالسجن والإعدام؟

هل هو قدرنا ومصيرنا؟ أم هو قدر بعض الحكام أن يكونوا خانعين وخاضعين وأذلّاء لحكام الغرب؟ أم أن هناك فرقاً كونياً في أصل الخلقة بين الإنسان المسلم وبين ذلك الملحد الغربي؟ بحيث يعيش الأول الشقاء والتشريد، والثاني يعيش الرفاه والتطور.

على الحكام المسلمين أو يتأملوا في مصيرهم ومصير شعوبهم المظلومة، وأن يسألوا أنفسهم يوماً هذه الأسئلة، ويحرروا أنفسهم من قيد الغرب، ويحرروا شعوبهم أيضاً.

لماذا المُخابرات؟

نعم لماذا هذه الأجهزة المعقدة من مخابرات واستخبارات وأمن عام و...؟ وبتعبير أوضح: لماذا هذا الظلم؟ لأن هذه الأجهزة أبرز مصداق من مصاديق الظلم، ولعله أبشع صورة، فلماذا الظلم؟

للظلم أسباب كثيرة تختلف باختلاف نوعه، ولكن توجد أسباب نفسية مشتركة تلتقي عند كل ظالم. وقد حدّد الإمام الكاظم(عليه السلام) ذلك بوضوح، يقول: «وانما يحتاج إلى الظلم الضعيف»(1). والظالم يجد في نفسه حقارة وذلّأ وانحطاطاً وخواءً، فيركن إلى القوة، معتقداً أن ذلك يسدّ له نقصه، ويرمّم له نفسه

ص: 323


1- تهذيب الأحكام 3: 88.

المتصدعة بالجهل والضعف. ولذلك نجد الماكرين والمخادعين ليسوا شجعاناً، بل كلهم من الضعفاء والحقراء والجبناء، ولذلك يختارون الطرق الملتوية واللاإنسانية في إثبات شخصياتهم وإبراز قوتهم، فنجد أن من شيمهم الطعن من الخلف، على العكس من الشجعان الذين لا يظلمون أحداً ولا يتبعون من فَرَّ مِن ساحة الحرب، ولا يطعنون إلّا من أمام. والتاريخ مليئ بأسماء كلا الفريقين، أمثال عمرو بن العاص الماكر، ومعاوية بن أبي سفيان، وابنه يزيد، الذين اشتهروا بالجبن وإختيار الطرق الملتوية والمنحرفة في حياتهم، على العكس من الإمام علي وأولاده(عليهم السلام).

واليوم قد تطور الوضع فصار الضعفاء أقوياء بالظلم وبالأجهزة الاستخباراتية، لا بأنفسهم، وصاروا شجعاناً عندما يفرضون حصاراً على دولة من الدول، بواسطة الضغط الدولي العالمي ومجلس الأمم، وأقوياء عندما ينفذون حكم الإعدام على الأبرياء. وهكذا فإن هذه الأجهزة التجسسية وضعت من أجل الظلم ولنشر الظلم، ومن الظريف أن نذكر أمراً مهماً وهو:

إن الحكم في بلاد الغرب لا يسمح بالتجسس في ما بين قطاعات الشعب، بل يعدونه خروجاً على القانون. وفي السنوات الأخيرة الماضية كانت قد وقعت مشكلة بسبب التجسس، حيث قام أحد الأحزاب بالتجسس على حزب آخر عن طريق شريط الكاسيت، فقام الحزب الأول بإحداث ضجة صاخبة أدت إلى عزل رئيس ذلك الحزب (نيكسون)(1) ومحاكمته، حتى جاء الرئيس الآخر من بعدهوهو (فورد)(2) فعفى عنه، وقال: إن محاكمة شخص كان رئيساً للدولة وإصدار

ص: 324


1- ريتشارد نيكسون (1913م-1994م) رئيس أمريكي.
2- جيرالد فورد (1913م-2006م) رئيس أمريكي.

حكم بسجنه يعتبر قبيحاً. وفي ذلك اليوم عفى فيه فورد عن نيكسون، راح المعارض له (والذي كان من بين أفراده القضاة والضباط الكبار) يفرج في اليوم الثاني عن كل مجرم يدخل المحكمة، فتعالت مقابل ذلك صيحات وزارة العدل الأميركية معترضة على قرارات العفو.

فقال القضاة للمحكمة: إنكم أفرجتم عن اللصّ الكبير وتريدون إلقاء القبض على اللصّ الصغير، فكما عفوتم أنتم عن اللص الكبير (نيكسون)، فإننا عفونا كذلك عن اللصوص الصغار وهذا قريب جداً مما ذكروه عن سارق قد ألقي القبض عليه وجئ به إلى الخليفة العباسي لكي يقطع أصابعه، فصاح أحد الحاضرين: يا للّه سارق النهار، يقطع أصابع سارق الليل(1). هذا أمر عجيب! إذ أن سارق النهار أمثال - حكام البلدان - يأتون ويقطعون أيدي سراق الليل في حين أن سارق النهار يسرق الملايين، وذاك لعله يبحث عن لقمة يسدّ بها جوعه.

ولقد وضحنا مفصَّلاً في بعض كتبنا: أن جميع الجرائم المهمة وراءها الحكام الظلمة وليس تأخرنا هو بأمر غيبي، ولا هو بالمصير المحتوم علينا أبداً.

تَشويش مخابراتي

حينما كنّا في كربلاء، وفي شهر شوال بالضبط، قلنا لبعض الثقات: إذا ثبتت رؤية الهلال أخبرونا. وكانت الحكومة هناك الندّ المقابل للشعب. وكان الناس كذلك ضد الحكومة، فجاءني شخص وقال: لقد شاهد الناس الهلال في محلة باب الخان(2). ثم جاء شخص آخر من محلة باب الطاق(3). وقال، نعم لقدشاهد الناس الهلال هناك، وكذلك جاء أشخاص عديدون ثم شهدوا بذلك.

ص: 325


1- انظر المستطرف في كل فن مستظرف 1: 346.
2- وهي محلة قديمة تقع بالقرب من مرقد أبي الفضل العباس(عليه السلام).
3- وهي محلة قديمة تقع بالقرب من مرقد الإمام الحسين(عليه السلام).

وبعدها جاء جمع غفير من الناس إلى دارنا ليعرفوا ماذا سنقول، هل ثبتت رؤية الهلال أم لا؟

فقلت للحاضرين: من رأى الهلال فليأت ويُدلِ بالشهادة على رؤية الهلال؟

لكن لم يأتِ أي أحد ليقول: إنني رأيت الهلال بعيني، فاتجهت ظنوننا إلى من كان وراء هذه الخطة. وبالفعل إتّضح أن الدولة أرادت أن تعلن العيد، فقام مدير الأمن في كربلاء بدور المنفذ حيث جاء بجلاوزته البالغ عددهم أربعين شخصاً، واتفقوا على أن يشيعوا خبر رؤية الهلال، وكان اتفاقهم أن يقول كل منهم أمام الناس إني رأيت الهلال، وبذلك يكون قد صار شياعاً بين الناس، وفي أماكن مختلفة من المدينة. ولكن اللّه خيّب سعيهم وكشف أمرهم وأعاننا في ذلك.

إن مهمة المخابرات والاستخبارات هي أداء هذه الأعمال.

ففي إحدى السنين، شاع خبر في إحدى المدن، مفاده أنهم سمعوا إني أريد السفر إلى باكستان، وكل شخص يدخل علينا كان يسألنا هذا السؤال: أصحيح ما سمعنا أنكم تريدون السفر إلى باكستان؟ وقد قدم الكثير من الأصدقاء، ومن أغلب المدن يسألوننا نفس السؤال. فعجبنا لهذا الأمر، وكيف تمت إشاعته، وبالنتيجة عرفنا أن وراء صنع هذا التشويش هي المخابرات، حيث أمر رئيس المخابرات أعضاءه بأن يشيعوا الخبر ليسهل عليهم نفينا إلى الباكستان، وللأسف الشديد فإن الناس لا يتأملون في هكذا مواضيع، ولا ينتظرون التحقيق، بل تراهم سريعي التصديق، ولا يبحثون عن الغاية التي تتوخّاها السلطة من وراء ذلك،فهكذا جهاز لو أراد إثارة شيء ضد أحد فإن سعة هذا الجهاز وضخامته وتغلغله بين الناس لا تجعل الإنسان قادراً للدفاع عن نفسه.

جِنايات رَهيبة

لقد عرف جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) بولعه في تصفية

ص: 326

الشخصيات الكبيرة، لا سيما الإسلامية ومحاربة الإسلام كفكرة، والمسلمين باعتبارهم حملة أفكار الإسلام الحنيف، بل عُرف الإسرائيليون بحقدهم الدفين على المسلمين. ولقد جسدوا ذلك في مرات ومرات، وما زالوا... فمثلاً في حرب السويس عام (1956م) أحدث الجيش الإسرائيلي مجزرة رهيبة في منطقة (كفر قاسم)، حيث ذبح من السكان الأبرياء المسالمين رجالاً ونساءً وأطفالاً (49) شخصاً بلا رحمة ورأفة، وفي نفس المنطقة قتل ركاب ثلاث سيارات شحن، وتمكنت سيارة رابعة من الهرب عندما لاحظت الجثث التي كانت راقدة على الشارع، وبعد إتمام المجزرة قطّع الجنود أوصال القتلى ليذهبوا ويسحقوا رؤوسهم، وبقروا بطون النساء الجريحات ليكملوا عملهم الإجرامي... نعم هذا مشهد من مئات المشاهد الدموية التي يفتخر بها الصهاينة، وليس هذا فحسب، بل تكفّل الموساد الإسرائيلي بالتعاون مع المافيا على نشر الفساد، متمثلاً بفتح مراكز الجنس وبيوت الدعارة والمراقص والملاهي، وتدار دائماً من قبل اليهود وتحت حماية الموساد، ونشر أفلام الدعارة في كل بقاع العالم فضلاً عن المسلسل الدموي الذي تتصدى له الموساد في مصر وفي جنوب لبنان وفلسطين و... و... وهناك سمة عامة في إرهاب أجهزة الاستخبارات والمخابرات العلمانية، وهي محاربتها للدين وأماكن العبادة؛ فلقد هُدمت على أيديهم أو بواسطة تحريضهم مئات المساجد العامرة. ولعل أهم حدث يذكر في هذا المجال هي جريمة إحراق المسجدالأقصى عام (1969م)، وهي بشعة وجريمة دينية قامت بها القوات الإسرائيلية بالتعاون مع أجهزة المخابرات (الإسرائيلي - الأمريكي). ومعروفة قداسة المسجد الأقصى، فهو محل عروج خاتم الأنبياء صلوات اللّه عليه وآله إلى السماء، وأولى القبلتين، وملتقى الأنبياء، الذي يقول عنه اللّه سبحانه وتعالى:

ص: 327

{سُبْحَٰنَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَٰرَكْنَا حَوْلَهُ}(1). وقد أحرقوه تحت ذريعة بناء هيكل إسرائيلي بجواره! ثم أسندوا الفعل إلى شاب أسترالي، أفرجوا عنه بعد ذلك. لقد اعتقدوا أن مثل هذه الخدع تنطلي على المسلمين، وهكذا تم تدمير كنيسة الأرض بالقدس تدميراً كاملاً، وبعدها كنيسة (حنا)، ثم هدموا كنيسة (يوحنا)، وأعقب ذلك محاولة المخابرات الإسرائيلية طبع القرآن الكريم مع تحريف آياته، وقد كشف اللّه سبحانه كل هذه الألاعيب والخدع التي يخدعون بها أنفسهم، لأنه سبحانه لهم بالمرصاد ولأجهزتهم، تلك التي كوّنوها لتكون سوطاً على رقاب الناس، ومعولاً هدّاماً للدين والشعائر الدينية والأماكن المقدسة، وقناةً تمر من خلال عمليات الفساد والانحراف والجرائم البشعة.

الحُكّام العَبيد

بعد أن خرج أخي(2). من سجن قصر النهاية ببغداد، نقل لي قصة حدثت هناك فقال: كان في السجن عميد متقاعد في الجيش، جاءت به السلطة إلى هناك على أنه جاسوس لأمريكا، وبعد مرور ثلاثة أيام على سجنه، رأينا أن مأموري السجن في حالة حركة غريبة وارتباك، بعد ذلك فوجئنا بأحمد حسنالبكر وعفلق وصدام وشبلي العيسمي وقد جاءوا إلى هناك، واعتذروا من ذلك الشخص (العميد المتقاعد)، وأطلقوا سراحه من السجن وعاملوه معاملة في غاية الاحترام، وسبب ذلك أنهم حينما أرادوا التخلص منه لأنه يشكل خطراً على منصبهم نسبوا إليه هذه التهمة، لكن انكشف لهم بعد ذلك أن هذا الشخص هو

ص: 328


1- سورة الإسراء، الآية: 1.
2- الشهيد السيد حسن الشيرازي(رحمه اللّه).

جاسوس أمريكي بالفعل، وأن له ارتباطات معينة مع السفارة الأمريكية ببغداد، وأن ذلك العمل الذي أقدموا عليه بوضع هذا العميد في السجن من شأنه تعكير العلاقات مع أمريكا، لذا جاءوا واعتذروا منه وأخرجوه من السجن!

إن هؤلا الحكام وغيرهم عملاء للغرب وليس لديهم أيّ حق لخلق التغييرات في بلدانهم دون إرضاء أسيادهم، فهم لا يملكون حق الاعتراض، حتى بالقدر الذي يحق فيه للخادم في البيت أن يعترض على سيّده لو أراد سيده أن يحمّله أكثر مما يطيق.

مثلاً، لو أراد الغرب أن يأمر عبد السلام وعبد الناصر بأن يصدروا قوانين إصلاح الأراضي فإن هذين الحاكمين لا يملكان القدرة والصلاحية حتى على مستوى الاعتراض على السفير الغربي الذي يبلغهم تلك الأوامر.

لذا فإن من الأعمال التي يجب أن نقوم بها لإنقاذ الشعوب المضطهدة من ربقة هؤلاء الحكام العبيد، هو ما يلي:

1- تعديد الأحزاب السياسية، وخلق التنافس الإيجابي في ما بينها، بما يقدم الخدمة للبلاد الإسلامية.

2- تشكيل شورى المراجع، لضمان سلامة الدستور والشورى، تضمن عدم وصول الدكتاتورية إلى منصب الرئاسة.

3- إقامة المؤسسات الدستورية.4- إطلاق حرية الصحافة، لأنها لسان الجماهير المسلمة.

5- إزالة أجهزة الاستخبارات والمخابرات القائمة على أسس غربية.

اللّهم صلّ على محمّد وآله، «اللّهم نشكو إليك فقد نبينا، وغيبة ولينا، وشدة الزمان علينا، وقوع الفتن بنا، وتظاهر الأعداء علينا، وكثرة عدونا، وقلّة عددنا،

ص: 329

اللّهم فافرج ذلك عنّا بفتح منك تُعجله، ونصر منك تُعِزُّه»(1)، بحق محمّد وآله محمّد.

من هدي القرآن الحكيم

الشورى

قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(2).

وقال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(3).

الحرية حق كل فرد

قال عزّ وجلّ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(5).

وقال عزّ اسمه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(6).

وقال جلّ شأنه: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٖ}(7).

الوعي والبصيرة

قال عزّ من قائل: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}(8).

ص: 330


1- كمال الدين 2: 514.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة الشورى، الآية: 38.
4- سورة البقرة، الآية: 256.
5- سورة الكهف، الآية: 29.
6- سورة الأعراف، الآية: 157.
7- سورة ق، الآية: 45.
8- سورة الأنعام، الآية: 104.

وقال جلّ ثناؤه: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}(1).

وقال سبحانه: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَٰعِيَةٌ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

الصواب في الشورى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما من رجل يشاور أحداً إلّا هُدي إلى الرشد»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا مظاهرة أوثق من المشاورة»(4).

وقال الإمام الحسن السبط(عليه السلام): «ما تشاور قوم إلّا هدوا إلى رشدهم»(5).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «من إستشار لم يعدم عند الصواب مادحاً، وعند الخطاء عاذراً»(6).

الحرية حق كل فرد

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الناس كلهم أحرار إلّا من أقرَّ على نفسه بالعبودية»(7).

وقال(عليه السلام): «ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً»(8).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد

ص: 331


1- سورة يوسف، الآية: 108.
2- سورة الحاقة، الآية: 12.
3- تفسير مجمع البيان 9: 57.
4- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 113.
5- تحف العقول: 233.
6- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 123.
7- الكافي 6: 195.
8- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) لولوده الحسن(عليه السلام).

فكونوا أحراراً في دنياكم»(1).

الوعي والبصيره تفشلان دسائس الأعداء

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا خير في العيش إلّا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اليقظة نور»(3)

«اليقظة استبصار»(4).

وقال(عليه السلام): «من تبصّر في الفطنة ثبتت له الحكمة»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العالِم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(6).

ص: 332


1- بحار الأنوار 45: 51.
2- الكافي 1: 33.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 21.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 24.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 642.
6- الكافي 1: 27.

المستبد مغلوب

قصّة الظلم

قال تعالى على لسان هابيل: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَٰبِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَٰؤُاْ الظَّٰلِمِينَ}(1).

لم يكن الظلم أمراً جديداً في حياة البشرية على اختلاف أطوارها وتبدّل أزمانها. فالظلم كان موجوداً مع بداية الخليقة عندما قَتَل قابيل هابيل، واستمر الأمر منذ ذلك الحين وذلك بنص القرآن العظيم؛ إذ قال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَٰبِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَٰؤُاْ الظَّٰلِمِينَ}(2).

وقد انحسر الظلم في ظل حكم الأنبياء والأوصياء (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين)، وبفضل تطبيق العدالة من قبلهم بين الناس. وهم بذلك انما أكّدوا نداء العقل والفطرة التي جُبل الناس عليها. فكل عاقل يحكم بأن العدل محبوب وأن الظلم مذموم... ولكن الظالم هو الذي يسحق وجدانه فيدفعه ذلك

ص: 333


1- سورة المائدة، الآية: 29.
2- سورة المائدة، الآية: 27-29.

إلى التنكّر لتعاليم الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام).

حقيقة الظلم

اشارة

والظلم ظاهرة نفسانية ناشئة من الشعور بالنقص والحقارة، فالإنسان المتوازن والمتكامل والمتحلي بالأخلاق والصفات الكمالية لا يلجأ إلى الظلم، لأنه لا يجد نفسه في حاجة إليه، بل إنه يعيش حالة الاطمئنان والغنى عن الآخري. أما الإنسان الخائف والضعيف والفاقد لكثير من الكمالات فتراه يظلم الآخرين ويسلب حقوقهم، لاعتقاده بأن هذا هو طريق الكمال، وهو إظهار قوته وبطشه وجبروته في مقابل الناس.

والظلم عند أهل اللغة، وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه المختص به، أما بنقصان أو بزيادة، وأما بعدول عن وقته أو مكانه(1). ولذلك كانت بعض الذنوب ظلماً موجهاً للنفس ذاتها، أي حرمانها من الكمال والرقي والسمو، فكيف الحال بالظلم الموجّه إلى الآخرين. ولا يخفى إن للظلم أنواعاً عديدة، ومصاديق متنوعة، وأقبحها وأشدها ثقلاً على الإنسان هو ظلم الحكام للناس، من ناحية سلب حرياتهم، وإجبارهم على أمور معينة، أو معتقدات فاسدة أو أشباه ذلك. أي إن الحكام المستبدين يغلقون كل المنافذ، ويفتحون منافذ وطرقاً خاصة بهم تخدم مخططاتهم، ويجبرون الناس على السير فيها. وقطعاً ما يراه الظالم المستبد ليس من الكمال في شيء، لمحدودية نظرته، وضيق أُفقه، وانحسار فكره، وابتعاده عن الخير والعدالة. فيجعل الناس تعيش في أُطر ضيّقة، لا مجال فيها للإبداع والرّقي. فلذلك كان الظلم أمراً قبيحاً من قبل العقل ومرفوضاً من قبل الإسلام. فقد روي عن علي(عليه السلام) قوله: «لا تستبد برأيك، فمن

ص: 334


1- مفردات ألفاظ القرآن: 537 مادة (ظلم).

استبد برأيه هلك»(1)، وقوله: «من استغنى بعقله ضلّ»(2).

بين الظلم والاستبداد

الإنسان يعيش في ظل هذه الحياة الدنيا بنظام مدني متداخل، تفرضه الحاجة والتكامل، وتتولد من ذلك منافع شخصية واجتماعية. ولهذا الاجتماع رؤساء ومرؤوسون، يتقيدون بالأنظمة والشرائع الإلهية والتعاملات العقلائية. وإذا تمرد الإنسان أمام هذه الموازين يكون ظالماً، سواء كان رئيساً أو مرؤوساً. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى فإن احتياج الإنسان في كماله يفرض عليه أن لا ينفرد بآرائه وقراراته، ومن انفرد برأيه أمام آراء الأكثرية كان مستبداً، والراعي والرعايا في ذلك سواء.

وعلى هذا، فيمكن تقسيم الناس بلحاظ الظلم والاستبداد إلى أربعة أقسام: فربّ ظالم غير مستبد، وربّ مستبد غير ظالم، ولكن الشخص قد يكون ظالماً ومستبداً، كما أنه قد يتنزه عن كلتا الوصمتين، وهو مصداق الإنسان العادل.

ولكن كلامنا هنا عن القسم الثالث وهو الظالم والمستبد والذي يتجسّد عادة في الحكام والقادة. والتاريخ يشهد على حكّام بني أمية وبني العباس والعثمانيين وغيرهم بذلك.

لماذا الاستبداد؟

اشارة

وبسبب التداخل بين ظلم الحاكم واستبداده، فإن المظلوم لا يرى فرقاً بينهما. وإنما يصف هذا الحاكم بالديكتاتورية دائماً، ويرفض الانصياع لها بالاختيار. ومن الأسباب التي تدفع الحاكم إلى الاستبداد أمور، أهمها:

ص: 335


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 752.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 581.
النقص والضعف

1- الإحساس بالنقص والضعف: فالظالم لكونه فاقداً لكثير من الصفات الحسنة الكمالية، وهو يشعر بهذا النقص، فيحاول أن يسد شعوره هذا بالتوسل بالظم؛ إذ «إنما يحتاج إلى الظلم الضعيف»(1). فالضعيف هو الذي يظلم، أما الإنسان المتكامل فإنه لا يظلم، لأنه قادح في الكمال. ولذلك قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَٰهُمْ وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(2). وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ}(3). فاللّه عزّ وجلّ قادر على كل شيء، وقاهر لكل شيء، وهو عادل وحكيم. فالظلم مخالف للعدل والحكمة. لذلك كان اللّه عزّ وجلّ منزّهاً عن هذه الصفة.

التجبّر والتعالي

2- حبّ التجبّر والتعالي: وقد يكون الظلم نتيجة تضخم الرغبات والشهوات غير المنتظمة، والهوى الذي يتضخم فيصير إلهاً؛ قال تعالى: {أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَىٰهُ}(4). فأحياناً تكون ميول الإنسان ورغباته وهواه المنحرف متجهاً نحو الظلم والتعالي على الناس، وإرهاقهم وقتلهم، اعتقاداً منه بأن ذلك كمال ما دام يشبع كل رغباته، كما يخبرنا القرآن الكريم عن فرعون مثلاً: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(5). وليس هنا فحسب بل: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ

ص: 336


1- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه(عليه السلام) يوم الأضحى ويوم الجمعة.
2- سورة النحل، الآية: 118.
3- سورة آل عمران، الآية: 182.
4- سورة الفرقان، الآية: 43.
5- سورة القصص، الآية: 4.

لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}(1). والتاريخمليء بأمثال فرعون وغيره... .

الطَمَع

3- الحفاظ على الكرسي (الطمع): ذلك إن حبّ الكرسي أو السلطة من أخطر الأهواء عند البشر، فالضرر سوف يمسّ الناس الأبرياء، فيلاقون من جراء أهواء الحاكم المستبد أنواع المآسي والويلات. والمصاب بمرض حبّ السلطة يحاول بشتى الوسائل والأساليب المحافظة على منصبه ومقامه، ولو بالقتل وإخماد الأصوات وتشريد الناس من بيوتهم. وما معاوية بن أبي سفيان وإبنه يزيد، ومن كان يدور في فلكهما، إلّا مصداق بارز لكلامنا فمعاوية ومن أجل أن يثبت مركزه كقائد على المسلمين حارب الحق كله المتمثل في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) «علي مع الحق والحق مع علي»(2). كما حارب الإمام الحسن(عليه السلام)، وهو سيد شباب أهل الجنة، وقتل أغلب أصحاب علي(عليه السلام)، لا لشيء وإنما لأنهم من الموالين لأمير المؤمنين(عليه السلام). وهذا النوع من الظلمة لا يتركون كل الأساليب الوحشية من أجل محافظتهم على المنصب أولاً، وجعل كرسي الحكم تحت أقدام أبنائهم ثانياً. فإذا قتلوا بعض الناس من أجل تثبيت كرسيهم ومنصبهم، فإنهم يقتلون البعض الآخر من أجل تنصيب أبنائهم، وكأن السلطة وراثة موقوفة على ذراريهم كما حصل مع معاوية، أو مع عبد الملك بن مروان.

فقد نقل بعضهم: أنه لما حضرت عبد الملك الوفاة أخذ البيعة لابنه الوليد. وكان أولاده: الوليد - وسليمان - ويزيد وهشام ومسلمة ومحمد. ثم قال للوليد: يا وليد لا

ص: 337


1- سورة القصص، الآية: 38-39.
2- كفاية الأثر: 20.

ألفينك إذا وضعتني في حفرتي أن تعصر عينيك كالأَمة الورهاء (أي الحمقاء)، بل ائتزر وشمّر، والبس جلد النمر، وادع الناس إلى البيعة - ثانياً، فمن قال برأسه كذا،فقل بالسيف كذا. ووُعِك وعكاً شديداً (أي عبد الملك)، فلما أصبح جاء الوليد فقام بباب المجلس، وهو غاصّ بالنساء فقال: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ قيل له: يرجى له العافية... وأذَنَ لبني أمية فدخلوا عليه، وفيهم خالد وعبد اللّه ابنا يزيد بن معاوية، فقال لهما: يا بني يزيد، أتحبان أن اقيلكما بيعة الوليد؟ قالا: معاذ اللّه يا أمير المؤمنين. قال: لو قلتما غير ذلك لأمرت بقتلكما على حالتي هذه!(1).

التبعيّة العمياء

4- خدمة الأجانب: وهناك نوع آخر من الظلمة والمستبدين، الذين يظلمون الناس من أجل الاستعمار. أي من أجل الأسياد، كما هو حاصل في عصرنا الحاضر، في أغلب دول العالم. فهذه بعض أسباب الظلم الذي يصدر من الحكام، ولكننا حينما نتأمل في سيرتهم، نراهم كلهم مغلوبين في نهاية الأمر. فلم نسمع أن عاقلاً من العقلاء قال عن الحجاج أو يزيد وأمثالهم بأنهم حققوا انتصاراً أو تفوقاً، بل على العكس، فإن أكثر الناس العقلاء لا يذكرون هؤلاء الطواغيت إلّا باللعنات والذكر السيء. ولم نسمع أحداً قال: إن معاوية إنتصر في حربه مع أمير المؤمنين(عليه السلام)، بل يقولون عنه: إنه ماكر. وعلى العكس تماماً، نرى إن المسلمين، وغير المسلمين أيضاً، يقولون: إن الإمام الحسين(عليه السلام) هو الذي انتصر على يزيد يوم الطف. والدليل أن استراتيجية الإمام الحسين(عليه السلام) إلى اليوم قائمة وماضية، والموالين ماضون في خط الحسين(عليه السلام)، وكذا استراتيجية أمير المؤمنين(عليه السلام). لذلك نرى أصحابه ظلّوا متمسكين بخطه، ولم يرهبهم بطش

ص: 338


1- الأخبار الطوال: 324 و 325.

معاوية. فهذا عدي بن حاتم الطائي من خلّص أصحاب الإمام علي(عليه السلام)، دخل على معاوية أيام خلافته - بعد استشهاد الإمام(عليه السلام) - فقال له معاوية: يا عدي أينالطُرفات - يعني بنيه طريفاً وطارفاً وطرفة - قال: قُتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب(عليه السلام). فقال: ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدّم بنيك وأخّر بنيه. قال: بل ما أنصفت أنا علياً، إذ قُتل وبقيت! فقال معاوية: أما إنه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلّا دم شريف من أشراف اليمن. فقال عدي: واللّه إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وان أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدنيت لنا من الضرر فِتْراً(1)، لندنينّ إليك من الشر شبراً، وإنّ حزّ الحلقوم، وحشرجة الحيزوم(2) لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي(عليه السلام)، فسِّلم السيف يا معاوية لباعث السيف. فقال معاوية: هذه كلمات حكم فاكتبوها(3).

وهي نفس استراتيجية الإمام الحسين(عليه السلام) حيث قال: «هيهات منّا الذلة، يأبى اللّه لنا ذلك... من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»(4).

الفساد من الظالمين

روي أنه لما حجّ المنصور في سنة أربع وأربعين ومائة، نزل بدار الندوة وكان يطوف ليلاً ولا يشعر به أحد، فإذا طلع الفجر صلّى بالناس، وراح في موكبه إلى منزله. فبينما هو ذات ليلة يطوف، إذ سمع قائلاً يقول: اللّهم إنا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم. قال: فملأ المنصور مسامعه منه، ثم استدعاه، فقال له: ما الذي سمعته منك؟ قال: إن

ص: 339


1- الفِتْر: ما بين السبابة والإبهام.
2- الحشرجة: تردد صوت النفس، والحَيْزوم: وسط الصدر.
3- مروج الذهب 3: 4.
4- إثبات الوصية: 166، ومثير الأحزان: 55.

أمّنتني على نفسي نبأتك بالأمور من أصلها. قال: أنت آمن على نفسك. قال: أنت الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق، وحصول ما في الأرض من البغيوالفساد، فإن اللّه سبحانه وتعالى استرعاك أمور المسلمين فأغفلتها، وجعلت بينك وبينهم حجاباً وحصوناً من الجص والآجر، وأبواباً من الحديد، وحَجبة معهم السلاح، واتخذت وزراء ظلمة، وأعواناً فجرة، إن أحسنت لا يعينوك، وإن أسأت لا يردوك. وقوّمتهم على ظلم الناس، ولم تأمرهم بإعانة المظلوم والجائع والعاري، فصاروا شركاءك في سلطانك، وصانعتهم العمال بالهدايا خوفاً منهم، فقالوا: هذا قد خان اللّه، فمالنا لا نخونه، فاختزنوا الأموال، وحالوا دون المتظلّم ودونك، فامتلأت بلاد اللّه فساداً وبغياً وظلماً، فما بقاء الإسلام وأهله على هذا؟ وقد كنت أسافر إلى بلاد الصين وبها ملك قد ذهب سمعه، فجعل يبكي، فقال له وزراؤه: ما يبكيك؟ فقال: لست أبكي على ما نزل من ذهاب سمعي، ولكن المظلوم يصرخ بالباب ولا أسمع نداءه. ولكن إن كان سمعي قد ذهب فبصري باق. فنادى في الناس: لا يلبس ثوباً أحمر إلّا مظلوم، فكان يركب الفيل في كل طرف نهار، هل يرى مظلوماً فلا يجده. هذا وهو مشرك باللّه، وقد غلبت رأفته بالمشركين على شح نفسه، وأنت مؤمن باللّه وابن عمّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك، فإنك لا تجمع المال إلّا لواحدة من ثلاث، إن قلت إنك تجمع لولدك، فقد أراك اللّه تعالى الطفل الصغير يخرج من بطن أمه لا مال له فيعطيه، فلست بالذي تعطيه بل اللّه سبحانه هو الذي يعطي. وإن قلت: أجمعها لتشييد سلطاني، فقد أراك اللّه القدير عبراً في الذين تقدّموا ما أغنى عنهم ما جمعوا من الأموال ولا ما أعدوا من السلاح، وإن قلت: أجمعها لغاية هي أحسن من الغاية التي أنا فيها، فواللّه ما فوق ما أنت فيه منزلة إلّا العمل الصالح. يا هذا هل تعاقب من عصاك إلّا بالقتل؟ فكيف تصنع باللّه الذي لا

ص: 340

يعاقب إلّا بأليم العذاب، وهو يعلم منك ما أضمر قلبك، وعقدت عليهجوارحك، فماذا تقول إذا كنت بين يديه للحساب عرياناً؟ هل يغني عنك ما كنت فيه شيئاً؟ قال: فبكى المنصور بكاءً شديداً، وقال: يا ليتني لم أُخلق ولم أك شيئاً. ثم قال: ما الحيلة في ما حوَّلت؟ قال: عليك بأعلام العلماء الراشدين. قال: فرّوا مني. قال: فرّوا منك مخافة أن تحملهم على ظهر من طريقتك. ولكن افتح الباب، وسهّل الحجاب، وخذ الشيء مما حلّ وطاب، وانتصف للمظلوم، وأنا ضامن عمّن هرب منك أن يعود إليك، فيعاونك على أمرك. فقال المنصور: اللّهم وفقني لأن أعمل بما قال هذا الرجل. ثم حضر المؤذنون وأقاموا الصلاة، فلما فرغ من صلاته قال: عليّ بالرجل فطلبوه فلم يجدوا له أثراً. فقيل: إنه كان الخضر(عليه السلام)(1). وعلى الرغم من ذلك نرى أن كل هذا لم يجدِ في المنصور أثراً، بل إنه عاد إلى ظلمه للناس، وتجبّره عليهم. وإنما كانت صحوته هذه وقتيّة زالت عنه بسبب تلبّسه بحب الدنيا والانغماس فيها.

الصلاح مع العدل

عن الإمام الصادق(عليه السلام)؛ قال: «تبع حكيم حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات، فمنها: أنه سأله: ما أوسع من الأرض؟ قال: العدل أوسع من الأرض»(2). ودخل الإمام الباقر(عليه السلام) على عمر بن عبد العزيز فوعظه، وكان في ما وعظه أنه قال له: «يا عمرو إفتح الأبواب، وسهّل الحجاب، وانصر المظلوم، وردّ الظالم»(3).

ففي العدل سعة وفي العدل حياة، لأنه يقتضي عدم المفاضلة بين الناس، ومعاملتهم بشكل واحد. والإنسان بطبعه يحب العدل لأنه ملائم للطبع

ص: 341


1- بحار الأنوار 72: 351.
2- بحار الأنوار 72: 344.
3- الخصال 1: 105.

الإنساني، ولأنه يضمن له الحقوق، ويرد عنه الأضرار والأخطار، فيزداد كمالاً فيحياة العدل على العكس من الظلم، فإنه يكرهه، لأنه يسلب كمالاً من الإنسان، فمثلاً الظلم يسلب حرية الإنسان وأمواله، بل حتى نفسه لذلك عندما سُئل أمير المؤمنين(عليه السلام): أيما أفضل العدل أو الجود؟ قال: «العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها عن جهتها. والعدل سائس عام، والجود عارض خاص. فالعدل أشرفهما وأفضلهما»(1). وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها، وصيام نهارها، وجور ساعة في حكم أشد وأعظم عند اللّه من المعاصي ستين سنة»(2). وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أصبح وهو لا يهمّ بظلم أحد غفر اللّه له ما اجترم»(3). وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إن أهون الخلق على اللّه من ولي أمر المسلمين فلم يعدل لهم»(4).

فإذا كان الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، والعدل هو وضع الشيء موضعه، فيعني ذلك أن في العدل انتظاماً للأمور، ونسقاً في الأعمال، وحفاظاً على الأعراض والأموال. وهذا هو معنى الازدهار والتقدم الحضاري، أي عدم إضاعة حقوق الناس، وأخذ حق المظلوم من الظالم. فما أجمل الحياة حينما تنصهر في بوتقة العدل.

وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): «العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن. ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قل»(5).

ص: 342


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 437.
2- مشكاة الأنوار: 316.
3- الكافي 2: 334.
4- بحار الأنوار 72: 352.
5- الكافي 2: 146.

وقال الإمام أبو الحسن الكاظم(عليه السلام)، لعلي بن يقطين: «إضمن لي خصلة أضمن لك ثلاثاً»، فقال علي: جعلت فداك، وما الخصلة التي أضمنها لك؟ وما الثلاث اللواتي تضمنهن لي؟ قال: فقال: أبو الحسن(عليه السلام): «الثلاث اللواتي أضمنهن لك أن لا يصيبك حر الحديد أبداً، بقتل ولا فاقة، ولا سجن حبس». قال: فقال علي: وما الخصلة التي أضمنها لك؟ قال: «تضمن ألّا يأتيك وليّ أبداً إلّا أكرمته» ...(1).

لماذا المُستبد مغلوب؟

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اياكم والظلم فانه يخرب قلوبكم»(2). حيث إن الظلم لما كان يضر بالقلب فيخربه، معنى ذلك أن نورانية القلب سوف تضمحل وذلك بذهاب الإيمان من قلب الإنسان. وبذهابه سيفقد ذلك الإحساس الداخلي بمعيّة اللّه، لأن المؤمن الذي نورّ اللّه قلبه بالإيمان، دائماً يشعر بمعيّة اللّه معه، فهو عماده وسنده وركنه. أما إذا فقد هذا الإحساس فإنه سيهزم من الداخل، وإذا انهزم المرء من داخله، فمن الصعب جداً أن يقف ويصمد في الخارج أمام ما يعترضه. فالظلم فاقد للإحساس بمعيّة اللّه له، لأنه فاقد للإيمان. وذلك الإحساس إنما هو متفرع عن الإيمان، وعندها يصبح القلب خاوياً فارغاً من كل صفة خير أو كمال. كالشجاعة والإقدام والصبر والثبات. ولذلك نرى أن الظالمين متشبثون دائماً بالسلاح والرجال والحصون لأنهم يعيشون القلق والخوف النفسي الملازم لهم بسبب غياب الإيمان. ولذلك يحاولون أن يقنعوا أنفسهم أولاً والناس ثانياً، بأنهم أقوياء وليسوا ضعفاء، فيضعون الرجال والسلاح من أمامهم ومن ورائهم، إيهاماً

ص: 343


1- بحار الأنوار 72: 350.
2- روضة الواعظين 2: 466.

لإحساساتهم الداخلية. لذلك كان الظالم والمستبد مغلوباً لانهزامه النفسي الذي يؤثر على سلوكه الخارجي، فنراه لا يثبت في أوقات الشدة، بل إن الانهزام يكون من سجاياه، كما هو الحال مع أبي سفيان الذي هرب في معركة أحد عندما اعترضه حنظلة (غسيل الملائكة)، فضرب عرقوب فرسه فقطعه، ووقع أبو سفيان إلى الأرض، يصيح يا معشر قريش، أنا أبو سفيان بن حرب، وحنظلة يحاول أن يذبحه بسيفه، فنظر إليه الأسود بن شعوب، فأسرع إلى حنظلة وحمل عليه بالرمح، فمشى إليه حنظلة وضربه ثانية برمحه فقتله. ووجد أبو سفيان أن لدية مجالاً للفرار ففر يعدو على رجليه...(1).

حصاد بغداد

وبالإضافة إلى الانهزام النفسي، فإن المستبد لا يجد عوناً من الناس في الغالب، إلّا باستخدام القوة. وقد سقطت حكومة بني العباس نتيجة استبدادها وظلمها ومصادرة حقوق الناس واستغلال السلطة من قبل العائلة الحاكمة الفاحش. وفي زمن المستعصم آخر حكام بني العباس، الذي حكم لمدة (15) عاماً، إزدادت الويلات على الناس. ومما يذكر عن تلك الأيام أن رئيس شرطة بغداد أمر ذات مرة جارس القلعة بأن ينزل ويقوم بتدليك بدنه... وبينما كان الحارس يقوم بتدليك بدن رئيس الشرطة أحسّ بأن يدي الحارس - وكان اسمه ابن عمران - قد ارتختا، ثم توقف عن التدليك، فصرخ بوجهه، وضربه على الإهمال بواجبه وشتمه... وبعد أقل من سنة جاء هولاكو وحاصر بغداد، إلّا أنه يئس من قدرة قواته على دخول بغداد، خصوصاً بعد أن نفذ علف خيول الجيش الكثيرة. وأراد هولاكو الرجوع. وذلك الوقت كان ابن عمران، حارس القلعة،

ص: 344


1- انظر السنن الكبرى للبيهقي 9: 88.

يراقب الحالة بدقة وبعد أن عرف أن جيش هولاكو عازم على الرجوع، كتب على سهم هذه العبارة: (إذا كنتم قد أردتم دخول البلد فاطلبوني أُنجِ لكم جيشكم). ثم رمى السهم باتجاه جيش هولاكو فطلبوه. وحينذاك أشار عليهم بأن يسلكوا طريق بعقوبة لما فيها من آبار محقونة للمياه، ومخازن كبيرة للحبوب والعلف. ففرح هولاكو كثيراً بهذه الخدمة التي قدّمها له حارس قلعة بغداد، وبالفعل ذهب هولاكو، واستولى على المخازن والمياه، ثم عاد واستولى على بغداد، وعيّن ابن عمران والياً عليها، وهنا لو لم تكن دولة بني العباس استبدادية ظالمة، بل كانت تحترم الإنسان وتحفظ حقوقه لما سارع ابن عمران لمبايعة هولاكو، ومن ثم تسقط بغداد تحت البطش والقتل والنهب المغولي.

النصر من طرفين

فالنصر عادة يكون من أسباب، يمكن حصرها بجهتين:

أما الجهة الأولى: فهي الانهزام النفسي الداخلي الذي يعيشه المستبد أو السلطة المستبدة، مما يجعلها قلقة مضطربة ولا تقف في ساعة العسر.

وهي كذلك ابتعاد المستبد الظالم عن الإيمان، وتجرده من كل صفة إيمانية، مما يجعله بعيداً عن عناية اللّه ولطفه، بل يكون موضوعاً لسخطه وغضبه وعاقبته الخسران بالنتيجة.

وأما الجهة الثانية: فهي متعلقة بالطرف المقابل، أي الذي يحارب ويقارع الطاغوت. فهناك مقدمات يجب عليه تهيئتها لكي يحصل على النصر، وهي على نوعين:

أولهما: المقدمات المعنوية، أي الإيمان المطلق بأن النصر من اللّه، وأن القوة من اللّه، وعدم نسيان اللّه في المواطن كلها، والتوكل عليه في التحرك العام.

وثانيهما: المقدمات المادية من خطة استراتيجية أو تكتيكية، وإعداد السلاح

ص: 345

والرجال، وكل آلية تدخل في مسألة الصدام مع المستبد، مع مراعاة التكافؤ في العدّة والعدد. فإذا تحقق ذلك، أي هيّئت المقدمات، كان النصر حليف الحق دائماً، لأن الظالم أساساً هو في خسرٍ من أمره، ولكن الأمر يحتاج إلى مقابلة ويجب أن يكون في مستوى يمكنه من طرده وقلعه. وإلّا فهو صوري، ووجوده هامشي. ولذلك يقول تعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}(1). لأن المضلين والظالمين والمستبدين لا يصلحون لأن يكونوا عضداً لخوارهم الداخلي. ولذا جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(2). أي إن النصر في نهاية المطاف حليف المؤمنين المظلومين. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}(3). وقال: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ}(4). حيث تؤكد الآيات الشريفة على أن ختام الأمر هو انتصار المظلومين والمضطهدين.

خاتمة المستبد

لقد بشر القرآن الكريم المستبد والظالم بالعذاب والخسران؛ قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(5).

وقال سبحانه: {وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(6).

ص: 346


1- سورة الكهف، الآية: 51.
2- سورة الحج، الآية: 39.
3- سورة الشورى، الآية: 39.
4- سورة الشورى، الآية: 41.
5- سورة الشورى، الآية: 42.
6- سورة هود، الآية: 113.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تولى خصومة ظالم، أو أعان عليها، ثم نزل به ملك الموت، قال له: أبشر بلعنة اللّه ونار جهنم وبئس المصير»(1). وعن مولانا الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «إن في جهنم لجبلاً يقال له الصعداء، وإن في الصعداء لوادياً يقال له: سقر، وإن في قعر سقر لجُبّاً يقال له هبهب، كلما كشف غطاء ذلك الجُبِّ ضجّ أهل النار من حرّه، وذلك منازل الجبارين»(2).

فالظالم له خسران مبين ذو اتجاهين:

1- الخسران الدنيوي: فالظالم المستبد سوف لن يجني في خاتمة المطاف أي شيء، لا من الأموال، ولا من القصور، ولا من النساء، وهو أمور كانت نزاعاته كلها من أجلها، كما هو الحال في حكومة الأمويين والعباسيين، فكان الواحد منهم يقتل الآخر من أجل الجاه والعرش كما حصل بين المأمون والأمين.

2- الخسران الأخروي: فقد مرّ ذكر بعض النصوص على ذلك، والسبب في خسرانه الأخروي هو: أنه قد قدم مقدمات خسيسة، فتكون نتائجها أخس منها، فعندما أوغل يده بالدماء فإنه بذلك قد اشترى العذاب بالمغفرة. ولا نتعجب عندما نسمع بأن أبا العباس السفاح مات وهو ابن الثلاثين، لأنه على حد قول السيوطي: وكان السفاح سريعاً إلى سفك الدماء...(3). فهذا سبب كافٍ لإهلاكه وخسرانه الأبدي.

«اللّهم صلّ على محمّد وآله، وحلّني بحلية الصالحين، وألبسني زينة المتقين، في بسط العدل، وكظم الغيظ... واستقلال الخير وإن كثر، من قولي وفعلي، ... وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة ولزوم الجماعة، ورفض أهل البدع،

ص: 347


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 426.
2- ثواب الأعمال: 274.
3- تاريخ الخلفاء: 282.

ومستعملي الرأي المخترع»(1).

من هدي القرآن الحكيم

العدل

قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا}(2).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ...}(3).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ... }(4).

وقال جلّ وعلا: {...وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ...}(5).

الحذر من اتّباع الهوى

قال عزّ اسمه: {...وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ...}(6).

وقال جلّ شأنه: {...فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ...}(7).

وقال عزّ من قائل: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٖ...}(8).

وقال جلّ ثناؤه: {...إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ...}(9).

ص: 348


1- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة النساء، الآية: 58.
3- سورة المائدة، الآية: 8.
4- سورة النحل، الآية: 90.
5- سورة الشورى: الآية: 15.
6- سورة الأنعام، الآية: 119.
7- سورة النساء، الآية: 135.
8- سورة الروم، الآية: 29.
9- سورة النجم، الآية: 23.
لا للظلم

قال سبحانه: {...فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ}(1).

وقال تعالى: {فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ}(4).

وقال عزّ اسمه: {...فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّٰلِمِينَ}(5).

وقال جلّ شأنه: {...إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٖ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}(6).

وقال عزّ من قائل: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(7).

وقال جلّ ثناؤه: {... فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}(8).

من هدي السنّة المطهّرة

العدل والعادل

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروّته وظهرت عدالته، ووجبت أخوته،

ص: 349


1- سورة الأنعام، الآية: 68.
2- سورة التوبة، الآية: 36.
3- سورة هود، الآية: 113.
4- سورة القصص، الآية: 17.
5- سورة الأعراف، الآية: 44.
6- سورة الكهف، الآية: 29.
7- سورة غافر، الآية: 52.
8- سورة الزخرف، الآية: 65.

وحرمت غيبته»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إعدل تَدُم لك القدرة»(2).

وقال(عليه السلام): «من عمل بالعدل حصَّن اللّه مُلكَهُ»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن، ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قلّ»(4).

الحذر من إتباع الهوى

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يقول اللّه عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبدٌ هواه على هواي إلّا شتَّتُّ عليه أمره ولبّست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم اُوته منها إلّا ما قدرَّت له»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «اغلبوا أهوائكم وحاربوها فإنها إن تُقيِّدكُم تورِدكُم من الهلكة أبعدَ غاية»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعدائكم فليس شيء أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم، وحصائد ألسنتهم»(7).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام) في وصيته لهشام: «... فإن كثير الصواب في مخالفة هواك»(8).

ص: 350


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 30.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 133.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 633.
4- الكافي 2: 146.
5- الكافي 2: 335.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 157.
7- الكافي 2: 335.
8- تحف العقول: 398.
الظلم

قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إيّاكم والظلم فإنه يخرب قلوبكم»(1).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إيّاك والجَور فإن الجائر لا يشمّ رائحة الجنة»(2).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «الظلم في الدنيا هو الظلمات في الآخرة»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: من خاف القصاص كفّ عن ظلم الناس»(4).

جزاء الظالم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «يقول اللّه عزّ وجلّ: اشتدَّ غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «... وسينتقم اللّه ممن ظلم، مأكلاً بمأكلٍ، ومشرباً بمشرب، من مطاعم العلقم، ومشارب الصّبر والمقر(6)...»(7).

وقال(عليه السلام): «لكل ظالم عقوبهٌ لا تَعدُوه وصَرعةٌ لا تَخطوهُ»(8).

ص: 351


1- روضة الواعظين 2: 466.
2- عيون الحكم والمواعظ: 95.
3- ثواب الأعمال: 272.
4- الكافي 2: 331.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 405.
6- الصَّبِر: عصارة شجر مُرّ، والمَقِر: السم.
7- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 158 من خطبة له(عليه السلام) ينبّه فيها على فضل الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) و... .
8- عيون الحكم والمواعظ: 401.

عن النهضة

اشارة

قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(1).

إنّ النهضة عبارة عن البناء، والبناء يحتاج إلى مقوّمات ومؤهلات، وهي مقوّمات النهضة. والنهضة هي صناعة أمة جديدة، وتكوين مجتمع يحيا في ظلّ النهضة ومعطياتها، ومن ثم بناء حضارة إنسانية تحمل معالم النهضة وشعاراتها.

وعلى ذلك فإنّ النهضة دائماً تهدف إلى تغيير الواقع من جذوره، وزرع مبادئها وأهدافها، فإذا كانت النهضة إسلامية فإنّها تحمل في طيّاتها ومراحلها المباديء الإسلامية السامية، فتعمل على زرعها في الواقع الحياتي، ومن ثم خلق مجتمع واعٍ يحمل هذه الأفكار والمبادئ، ثم تعمل النهضة على بناء دولة إسلامية تقوم على أحكام اللّه عزّ وجلّ.

وهناك نهضات غير إسلامية حدثت في آفاق الأرض؛ إذ لا تخلو دولة من الدول إلّا ونجد تأريخها مليئاً بالنهضات والانتفاضات. وإنَّ كلا النوعين من النهضات الإسلامية وغير الإسلامية لا بدّ لها من مقوّمات ترتكز عليها في تحرّكها، وأحياناً تستغرق هذه المقدّمات الوقت الطويل، فلا بدّ لرجال النهضة أن يمتازوا بالنفس الطويل، وانشراح الصدور. إذ لولا الإعداد لم يتمكّن الثائر من النهضة، وكما رأينا أنّ كلاًّ من الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) قد أديا رسالة

ص: 352


1- سورة الحج، الآية: 40.

واحدة. حيث أعدّ الإمام الحسن(عليه السلام) الثورة إعداداً متكاملاً ومحكماً، بينما قام سيد الشهداء(عليه السلام) بالأداء الجيّد، حيث قام بالتفجير الصاعق للنهضة. فالنهضة هي انقلاب على الواقع الفاسد، والعمل على تغييره.

عوامل نجاح النهضة

هناك جملة من الأمور التي لا بدّ من توفّرها في حركة النهضة لضمان نجاحها:

أوّلاً: إعداد صيغ التحرّك؛ عن كيفيته، ونوعه، ومكان التحرّك، وقوّته. ثم تقدير مدى نجاحه، مع مراعاة الظرف والجو العام الذي تنهض فيه النهضة. وخلاصة القول: أنّه لا بد من إعداد برامج الانطلاق، وكلّ ما يتعلّق به، ودراسة عملية المواجهة، ومدى نسبة النصر أو الخسارة، مع تشخيص نقاط الضعف عند المقابل، وكيفية الاستفادة منها، إلى غير ذلك من الأمور.

ثانياً: لا بدّ لكلّ نهضة من رجال يقومون بعملية النهوض، وهؤلاء يجب أن يكونوا دائماً بمستوى أفكار النهضة، وبمستوى التحرّك، وأن يعوا برامج الإعداد الأولى، ولا بدّ أن يعوّل عليهم في التحرّك، أي: يجب أن يُختاروا من بين الجميع، لأنّهم مصدر القوّة واليد الضاربة.

ثالثاً: قيادة النهضة يجب أن تفكر وتعد برامج أخرى، وهي إعداد برامج ما بعد نجاح النهضة، أي: كيفية السيطرة على الشارع، واحتواء الجماهير والسيطرة على العواطف الهائجة. ووضع خطة العمل في حالة النجاح، وإدارة شؤون الناس. وحتى في حالة عدم النجاح لا بدّ لقيادة النهضة أن تعدّ برامج خاصة لحالات الطوارئ.

رابعاً: ضرورة العمل على تهيئة كوادر أخرى ما بعد نجاح النهضة، لاحتمال

ص: 353

أن أكثر رجال النهضة الذين يُعتدّ بهم يكونون في خط المواجهة والمصادمة، فيقتل أو يجرح...

وهذه الكوادر الثانية يقع على عاتقها تنفيذ ونشر مبادئ النهضة وبلورتها بين الناس.

خامساً: الإخلاص، الصفة التي لا بد أن ترافق النهضة منذ نعومة أظفارها وحتى بناء الدولة.

سادساً: العنصر الآخر والأهم هو المحافظة على أخلاقية النهضة، لأنّها سبب بقاء النهضة ونجاحها، فهي تمثّل دور الأساس الرصين للنهضة، والخلفية الروحية التي تلهم النهضة روح الإستمرار والمضي قدماً. ومن المعلوم أن دور الأساس مثل دور البناء في الأهمية، فلولا الأساس لانهار البناء، كما أنّه لولا البناء لم يظهر للأساس ثمر، وذلك أن الحضارة الإجتماعية بأي لون كانت لا بدّ لها من أسس تقوم الحضارة عليها، والأُسس عبارة عن الأخلاقيات والقوانين والضوابط التي ترتكز الحضارة عليها. فأحياناً تبنى الحضارة على أساس احترام القوم، وأحياناً تبنى الحضارة على أساس الكفاءة. ففي الحضارة القومية يكون القريب ذا حق في المنصب، وإن لم يكن كفؤاً، وفي الحضارة المتبناة على مبدأ الكفاءة، تكون الكفاءة معياراً، فهي التي تتقدّم، وإن لم يكن الكفوء ينتمي قومياً لتلك الحضارة.

النهضة والحضارة

إن النهضة الإسلامية تهدف إلى نشر الحضارة الإسلامية، وهذه الحضارة ذات وجهين: وجه الأساس ووجه المظهر أو الحكم.

والأئمة الطاهرون(عليهم السلام) اشتغلوا بالأساس، وهو أهم وجهي الحضارة، لأنّه

ص: 354

لولاه لم تكن حضارة، والأساس للحضارة الإسلامية أمور:

1- الأخلاقيات: كالصدق والأمانة والوفاء والحياء وغيرها...

2- الأصول: كالمبدأ والمعاد والنبوّة والإمامة والعدل.

3- الأحكام العملية: وتشمل أموراً عديدة:

أ- كأحكام المعاملات والأحوال الشخصية.

ب- موازين الحكم ومواصفات الحاكم وارتباط الحاكم بالشعب، وما يتبع ذلك من الحرب والسلم والمعاهدات وغيرها.

ج- العبادات الرابطة للإنسان بالخالق، والتي تلطّف المشاعر والقلوب، وتقوّي أواصر الاجتماع، وتزيل الفوارق الطبقية، كالصلاة والصوم والحجّ...

4- المعارف العامة: كأحوال الكون والحياة وقصص الأمم وأنبيائها.

والأئمة الطاهرون(عليهم السلام) اشتغلوا طيله حياتهم بهذه الأمور، التي لو لم تُشيّد لذهبت الحضارة الإسلامية، كما ذهبت حضارة الأديان السابقة، وبقيت هيكلاً بلا روح. فالأئمة(عليهم السلام) بيّنوا جملة أمور:

1- بيّنوا ربط الإنسان بالخالق كما في نهج البلاغة والصحيفة السجادية.

2- أوضحوا الشريعة والعبادة.

3- نسفوا الأُسس الباطلة للكون والحياة، التي جاءت من حضارتي الفرس والروم، حتّى أنه لولاهم لذهبت حضارة الإسلام الفكرية أدراج الشبهات والفلسفات المنحرفة.

4- بيّنوا الأُسس الأخلاقية للحضارة.

5- جاهدوا المنحرفين من الحكّام والعلماء، ولذا سُجِنوا وقُتِلوا.

6- قدّموا للمجتمع المثال الصحيح للإسلام في شخصهم.

ص: 355

من أسباب النهضة الأفريقية

كانت سنوات ما بعد الحرب العالميه الثانية سنوات انبعاث سياسي في بعض أنحاء القارة الأفريقية. وعادت بعض الأمم إلى بناء نفسها من جديد والتماس مصيرها ومستقبلها، على ضوء الكوارث التي سبّبها الإستعمار.

فالحركات السياسية والانتفاضات الشعبية وغيرها من علامات الانبعاث والنهوض كانت شواهد حسّية على أن الشعوب الأفريقية بدأت تنفض عنها غبار الاستعمار ومخلّفاته من التفرقة والتمييز العنصري والاستغلال... وبدأت تتطلّع إلى الحرية والتعددية السياسية والإصلاح في كلّ جوانب الحياة... ولم تكن حركة الشعوب الأفريقية حركة عادية وإنّما تظافرت فيها الجهود الواعية وأنكرت ذاتها وعاشت التنافس الإيجابي واستغلال القدرات الذاتية والحيوية التي تزخر بها المنطقة، وقد استقبلت أغلب هذه الشعوب مبادئ الدين الإسلامي تقبّلاً كبيرا للتخلّص من القيود التي فرضتها عليها البلاد المستعمرة ببهرجتها الكاذبة وفراغها الروحي... فنهضت بعض الشعوب الأفريقية منادية بالإسلام الذي أخرجها من الكسل إلى النشاط ومن الرقّ إلى الحرية ومن الموت إلى الحياة، وقد تشكلت فيها حكومات مسلمة. وفي سيراليون بلغت نسبة المسلمين فيها أكثر من (70%) رغم الحملات التبشيرية المسيحية الواسعة فيها ورغم انتشار الوثنية، وكان المسلمون في سيراليون موضع إعجاب المؤرخين الأوربيين لامتيازهم بالمحافظة على الشعائر الدينية بدقّة والنظام في الحياة والخشوع في العبادات. إلى جانب بلاد أفريقية أخرى عديدة مازالت تنتمي إلى الإسلام وتعيش في ظلّه ولقد نجحت بعض هذه التجارب الأفريقية بتحقيق رفاهها واستقلالها التام بأسباب عديدة منها:

أوّلاً: التعددية الحزبية في البلاد أدّت إلى تلاقح الآراء والأفكار وتبادل

ص: 356

المعرفة.

ثانياً: الأحزاب شخَّصت مفاصل الضعف، ومواضع المرض، فعملت على القضاء عليها، وذلك بالتنازل عن بعض المبادئ الحزبية، واندماج الأحزاب في ما بينها، لكي تكون القوّة أعظم مع فسح المجال للمعارضة والأحزاب الأخرى في التعبير عن الرأي، وعدم استخدام أساليب المستعمرين المُنفِّرة، من كمّ الأفواه والتصفية الجسدية.

ثالثاً: نشر الأفكار الحُرَّة، وتحرير الإرادات من السيطرة الاستعمارية، فأدّى هذا العمل إلى نشر الوعي بين الأفراد.

رابعاً: المحافظة على التراث واللغة، والتمسّك بالإسلام العظيم، وهو سرّ قوّتها.

سبب انتكاسة النهضة في الشرق

وفي الجملة نرى أن كثيراً من نهضات الشرق تُصاب بالفشل والانتهاء، فأدّت إلى بداية رحلة الضياع، التي بلغت عشرات السنين. وأحد العوامل الرئيسيّة وراء ذلك، ووراء رحلة الضياع هو أنَّ الطريق كان غير واضح، وهو الخط السياسي، أي: أن الخط السياسي لبعض دول العالم الثالث لم تكن معالمه واضحة، وفي مقابل المجتمع الدولي، الذي حُدّدت المسارات فيه بنظريات وقوانين. ونهضة بلا آيدلوجية تعني أن جيل النهضة، ومبادئ النهضة، بلا مقوّمات لمواجهة الواقع والمستقبل. وتصبح مسؤولية القيادات التي حققت النصر النسبي ليست فقط في نكسة النهضة، بل وفي تخريب الجيل الجديد، وهو جيل الانتصار. ومؤكد أنّ واحداً من العوامل التي ساعدت على هذا الدور الضخم هو رصيد التخلّف الذي تركه الاستعمار، وكذلك تدخله في صناعة الانقلابات، فقد برز ذلك في سلسلة انقلابات عسكرية، بدأت في سنة (1965م)، وحتى (1966م)، بلغت

ص: 357

حوالي عشرة انقلابات، تتابعت بعد ذلك بمعدل انقلابين أو ثلاثة في العام، وهي كلّها انقلابات عسكرية، برغم محاولات التغطية التي أُحيطت بها، فقد فشل الاستعمار في إخفاء محرّك الدُمى التي ارتدت الملابس العسكرية.

وكلمة صدق لا بد أن تُقال: إن دول العالم الثالث ساهمت بطريق غير مباشر في إنجاح المخطط الاستعماري، إلى حدّ أن الانقلابات كانت تتمّ بسهولة ويُسر.

وحتى تتضح لنا هذه الحقيقة، لا بدّ من إلقاء نظرة على ظاهرة خطيرة، ارتبطت بانقلابات العالم الثالث. وبالرغم من حيويتها فقد مرّت بها العيون دون أن تقف أمامها، ولو لحظة، وربما لسرعة الأحداث وتعدّد أماكنها، وربما لفهم خاطئ لحقيقتها، المهم أن الكثير لم يهتم بها.

وهي ظاهرة عدم تصدّي الجماهير لمقاومة الانقلابات العسكرية، بالرغم من كلّ البصمات الواضحة لأصابع الإستعمار على وجهها. فلم يحدث أن خرجت الجماهير تعبّر عن إرادتها ضد هذه الانقلابات. ثم ترتب على هذا أن سادت فكرة أنّ من يملك السلاح هو يملك السلطة والقوّة والتأثير، وهذا الوهم ساد الكثير من الأفكار عند شعوب العالم الثالث.

فالشعوب على مرّ الأيام قاومت الدبابات والرصاص ولا بدّ هنا أن نُشير إلى أن الثورة عندما تنتصر يجب أن تخلق جيلاً يحافظ على مبادئها، وهو الآخر يخلق جيلاً يحافظ على الاستقلال. وهذا الأمر ضروري جدّاً.

بين النهضة الحقيقية... والصورية

اشارة

لعلّ سؤالاً يرد على الذهن وهو:

إن بعض الحركات العلمانية نراها تنجح في مسيرها، بينما نرى الفشل في

ص: 358

كثير من النهضات الإسلامية؟

فنقول في معرض الجواب: نعم نرى في الواقع حركات شرقية، وأخرى غربية، تقوم على أنظمة مادية، لكنّها سجّلت نجاحاً كحركات الشيوعيين في مختلف البلدان، وحركات القوميين كانقلاب عبد الناصر أو عبد الكريم قاسم، أو حركات أخرى كحركة البهلوي في إيران وأتاتورك في تركيا... الخ.

ولكن يجب أن نفرّق بين النهضة التي تملك إرادتها، وتعتمد على رجالها وفكرها، وتستمر على نهجها دون انحراف، وبين الحركات الصورية (الكارتونية)، فهذه الأخيرة كانقلاب كلّ من عبد الناصر وعبد الكريم والبكر والبهلوي وصدام و... الخ. فهي ليست نهضة واقعية، إذ يقوم جماعة من الضبّاط الذين يرتبطون بإحدى الدول الغربية الاستعمارية بروابط مشبوهة، وكلّها تقوم على أساس مراعاة منفعة الاستعماريين. فتعطي لهم المخططات العامة للانقلاب وطرق التحرّك والتنفيذ... وهكذا، وإذا بها حركة تقوم على أرض البلد مفاجئة، شأنها القتل، وسفك الدماء، وخنق الأصوات، وتعطيل الحريات والبرلمانات، وإلغاء وجودات الآخرين. المهم تكون القاعدة الأساسية في حكم هذه الحركات الصورية هي: (من لم يكن معنا فهو ضدنا... ويجب تصفيته).

فهذا النجاح للحركات اللا إسلامية يعود إلى أمرين:

الأول: أما إنّها حركة صورية نجحت تحت دعاية الاستعمار، والمدّ المتواصل من الدولارات والأسلحة والأفكار والمخططات... فهذه لا فخر لها، وليس من حقّها أن تتكلّم بلغة النصر والنجاح، ثم إنّها لا تمثّل إرادة الأمة أبداً، بل العكس هو الصحيح، وتقوم على سفك الدماء، كما هو الحال مع حزب البعث في العراق... فهذه حركات لا تسمّى ناجحة بلغة الحق، أما إذا أردنا أن نتكلّم بلُغَةِ الباطل، نعم نقول: إنّها ناجحة، والحال أنها تثبت فشلها بنفسها باستمرار الأيام.

ص: 359

الثاني: وإمّا أنَّها حركات قامت تحت نظر بعض الماديين العلمانيين، كثورة الشيوعية ثم حتى بعدما نجحت مثل هذه الحركات، إلّا أنّها فشلت في تالي الأمر، كما فشلت الشيوعية، وكما فشل البهلوي وأتاتورك.

بينما النهضات الحقيقية الواقعية التي تعبّر عن إرادة الأمة، وتحكي آمالها وأمانيها، وتوصل بين حركة البدن وتطلّعات الروح... فهذه تنتصر أبداً لا سيما إذا روعيت الأسباب الطبيعية، والأجواء العامة وأخذت بالأسباب.

فنهضة الإمام الحسين(عليه السلام) نجحت بلغة الحقّ، نجحت بلغة الروح...، ودليل نجاحها أنّه ما قامت نهضة بعدها إلّا وكانت تضع ثورة الحسين(عليه السلام) مبدأً لها وشعاراً.

ولهذا السرّ اتّجه الاستعمار، ومن يدور في فلكه، إلى شلّ الروح المعنوية والمبدأية للمسلم، عن طريق التبليغ المضادّ، الذي يصوّر نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) على أنّها فاشلة، وأن الإسلام لا يحقّق النصر والحرية، ومثل هذه الأقاويل قد انجلى غرضها، وبان فشلها التام.

حقيقة يجب أن لا تغيب عن البال

في معظم أدوار التاريخ السياسي كانت هناك خطة سياسية مؤثرة، وما تزال، وهي أن تضع السلطة الحاكمة الظالمة كيانات وتيارات وجماعات مقابل الكيانات الشعبية الواعية، التي تدعو إلى الإصلاح واحترام الإنسان، وتحاول أن تتفنن في صناعة هذه الكيانات، بحيث لا يلتفت أحد إلى أن هذه صنايع السلطة الحاكمة. ثمّ تُمعن هذه الصنايع الخبيثة في ضرب آراء وأفكار الجماعات الحرّة، الداعية للإصلاح، ومحاولة تفريق الناس عنها، وتكذيبها، وهكذا فهذه واحدة من الأمور التي تؤدي إلى إسقاط النهضة من الأساس ومصادرتها. كما فعل ذلك معاوية بن أبي سفيان، ومن جاء بعده من الأمويين والعباسيين، من تشجيع بعض

ص: 360

المذاهب والفرق المنحرفة، ودعمها بما تريد، في قِبال كيان ووجود أهل البيت (صلوات اللّه عليهم)، فكان هدف الأمويين والعباسيين هو التشكيك والتضعيف بوجود أهل البيت، إلّا أن الأئمة(عليهم السلام) عمدوا في مقابل ذلك إلى الأحاديث والرواية، وبثّ الوعي في الأمة، وصناعة رجال تقود أفراد الأمة، كهشام بن الحكم، ومؤمن الطاق وزيد بن علي، وغيرهم...

كما أن العباسيين في أوائل مجيئهم إلى الحكم عملوا على بثّ أفكارهم عبر تيّار خاصّ يعمل لحسابهم، فكانوا يحاولون أن يضعوا الصفة القدسية لحكمهم، فكانوا يختلقون الأحاديث وينسبونها إلى النبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، في مدح دولتهم وشرعية حكومتهم...

أساس النهضة الناجحة

من المعلوم أن النهضة عبارة عن حركة الجماهير لصناعة تاريخ جديد. وهذا الأمر يتوقف على الرصيد الروحي والأخلاقي الذي تمتلكه النهضة. وشددنا على هذا الجانب من دون غيره، لما له من أهمية بالغة، في قوّة التماسك لأفراد الأمة، واستمرار دور العطاء فيها. لأنَّ هذه الروح الخلقية منحةٌ من السماء إلى الأرض، تأتيها مع نزول الأديان، عندما تولد الحضارات، ومهمتها في المجتمع ربط الأفراد بعضهم ببعض، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(1). حيث تدلِّل على أنّ جميع الأمور المادية الموجودة على وجه الأرض تعجز عن تأليف القلوب، ولكنَّ اللّه يؤلّف بينها، بواسطة الفطرة والإيمان، والأخلاق والدفعات الروحية الخفيّة.

ص: 361


1- سورة الأنفال، الآية: 63.

وهذه الأخلاق التي تحملها النهضة، أو الفرد، هي تعبير آخر، أو مرآة تعكس صورة الثقافة التي تتمتع بها الثورة، وبقدر ما تكون هذه الثقافة متطورة فإنّ البذور الأخلاقية والجمالية تكون أقرب إلى الكمال. إذن فأساس وقوام النهضة هو بما تملك من أخلاق عالية، وبقدر ما تحاول أن تجسّد وتفعّل هذه الأخلاق في رجالها وأفراد الأمة، بحيث تصبح الأخلاق الفاضلة ملكات عند الأفراد، لا تفارقهم أبداً، في مراحل الشدّة والرخاء. ولهذا نرى أن مسلم بن عقيل (سلام اللّه عليه)، قد منعته أخلاقه السامية، وعلوّ روحه، من أن يقتل عبيد اللّه بن زياد غدراً(1)، ولو كان في قتله انتصارٌ كبير للإمام الحسين(عليه السلام)، ولقد امتنع، وأخلاقه هي التي منعته. فإذا كانت نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) تحوي في داخلها رجالاً أمثال مسلم بن عقيل فكيف لا تنتصر.

وهاهو التاريخ يشهد بانتصارها وخلود أصحابها، وعلوّ شأنهم، وارتفاع مقامهم، وعلى قول الشاعر:

وإنَّما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا(2)

ولهذا الأمر كرّس أهل البيت(عليهم السلام) أحاديث كثيرة كلّها تؤدي إلى صناعة أفراد وأمم، تحمل أخلاقاً عالية، بها تعيش وتحيا وتبني حضارتها. فقد جاء عن الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخُلق»(3)، وعن الإمام الباقر(عليه السلام) أنَّه قال: «إِن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ذلّلوا أخلاقكم بالمحاسن، وقودوها إلى المكارم،

ص: 362


1- انظر إعلام الورى: 225.
2- البيت للشاعر أحمد شوقي.
3- الكافي 2: 99.
4- الكافي 2: 99.

وعوِّدوا أنفسكم الحلم، واصبروا على أنفسكم في ما تحمدون عنه...»(1).

«اللّهم صلِّ على محمّد وآله، وحصّن ثغور المسلمين بعزّتك، وأيّد حماتها بقوّتك، وأسبغ عطاياهم من جِدَتك، اللّهم ّ صلِّ على محمّد وآله، وكثر عدّتهم، واشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألِّف جمعهم...»(2) بحقّ محمّد وآل محمّد، صلواتك عليه وعليهم أجمعين.

من هدي القرآن الحكيم

الأخلاق

قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(3).

وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}(4).

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(5).

وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(6).

مقوّمات نجاح الثورة
القيادة الحكيمة المطاعة

قال عزّ اسمه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(7).

ص: 363


1- تحف العقول: 224.
2- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه(عليه السلام) لأهل الثغور.
3- سورة الصف، الآية: 2-3.
4- سورة الضحى، الآية: 9-10.
5- سورة الحجرات، الآية: 10.
6- سورة الفتح، الآية: 29.
7- سورة النساء، الاية: 65.
منهج الثورة

قال جلّ شأنه: {الر كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}(1).

الإخلاص

قال عزّ من قائل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).

الحفاظ على أخلاقيّة الثورة

قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...}(3).

من هدي السنّة المطهّرة

الأخلاق

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّما المؤمنونَ إخوة بنو أب وأم وإذا ضربَ على رجل منهم عرق سهرَ لَهُ الآخرون»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «اللّه اللّه في الأيتام فلا تغبوا(5) أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم فقد سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: من عالَ يتيماً حتى يستغني أوجب اللّه عزّ وجلّ لَهُ الجنّة كما أوجبَ لأكل مال اليتيم النار»(6).

وعن أبي مالك قال: قلت لعلي بن الحسين(عليهما السلام): أخبرني بجميع شرائع الدين،

ص: 364


1- سورة إبراهيم، الآية: 1.
2- سورة الفاتحة، الآية: 5.
3- سورة آل عمران، الآية: 159.
4- الكافي 2: 165.
5- أغبّ القوم: جاءهم يوماً وترك يوماً، أي: صلوا أفواههم بالإطعام ولا تقطعوه عنها.
6- الكافي 7: 51.

قال: «... والوفاء بالعهد»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اتقوا اللّه وكونوا إخوة بررة متحابين في اللّه، متواصلين متراحمين...»(2).

مقوّمات نجاح الثورة
1- القيادة الحكيمة المطاعة

قال رسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه اللّه الأمر...»(3).

2- منهج الثورة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ثمَّ أَنزلَ عليهِ الكتاب نوراً لا تُطفأ مصابيحه، وسِراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضلُ نهجه...»(4).

3- الإخلاص

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنمّا نصر اللّه هذه الأُمّة بضعفائها ودعوتهم وإخلاصهم...»(5).

4- الحفاظ على أخلاقية الثورة

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «... والعفو زكاة الظَّفر...»(6).

ص: 365


1- الخصال 1: 113.
2- الكافي 2: 175.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 14.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 198 من خطبة له(عليه السلام) ينبّه على إحاطة علم اللّه بالجزئيات، ... .
5- المحجّة البيضاء 8: 125.
6- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 211.

لماذا تأخر المسلمون؟

اشارة

اشارة

قال سبحانه وتعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ}؛(1).

لا يزال أغلب المسلمين في القرن الأخير مستمرين في تقهقرهم وانحطاطهم، فبلادهم مجزّءة ومبضّعة، وقانونهم الإسلامي القويم ترك جانباً ولم يعمل به أبداً إلّا في بعض المسائل الصغيرة، وكثير من أبنائهم، على أثر سوء التربية والأخلاق والضعف الاقتصادي، ارتّدوا عملياً عن دينهم الحنيف، وتحولت عزتهم إلى ذلة وسيادتهم إلى عبودية ووحدتهم إلى تفرق واتحادهم إلى تشتت وتعاونهم إلى تعاند وتعارفهم إلى تباغض، فلا ترى فيهم قادحة خير إلّا أخمدوها وقضوا عليها عن معرفة وعلم أو عن جهل وسوء تدبير!

عندما تسلط على دفة الحكم الإسلامي أمثال يزيد والمنصور وهارون ومن على شاكلتهم، وإن كانوا متعمدين وقاصدين تأخير ركب الإسلام، وإماتة معالمه وتعاليمه، إلّا أن المسلمين أنفسهم استطاعوا أن يقدموا الإسلام وينشروا مبادئه، ويرفعوا راية الإسلام عالية في أكثر البقاع وذلك بهمتهم العالية وتصميمهم الراسخ الذي لم يزلزله لا جيش يزيد ولا سجون هارون ومجونه ولا غيرهم من الذين حملوا معول الهدم للإسلام والمسلمين.

ولكن حكام المسلمين أخيراً بدءاً من جمال عبد الناصر والسادات وانتهاءً

ص: 366


1- سورة الأنعام، الآية: 125.

بالبكر وصدام وأمثالهم، جناياتهم لا تختلف عن جنايات سابقيهم الماضين، فإنه وإن كانت الصور والأشكال مختلفة، ولكن الفرق هو أن المسلمين آنذاك كانوا يمتازون بروحية عالية وهمة ماضية وتطلع إلى التقدم والازدهار بالرغم من فساد حكامهم، لذلك تقدموا وفتحوا الآفاق ورفعوا راية الإسلام فوقها عالية خفاقة، ونشروا مبادئ الإسلام والعدل الإسلامي وعرضوا الإسلام بوجهه الحقيقي غير المزيف، أما مسلموا اليوم فليس للكثيرين منهم أي طموح أو تطلع للتقدم ونشر الإسلام أبداً، وفي مقابل ذلك فإن الكفار والمنافقين من اليهود وأشباههم يحاولون بشتى الوسائل تحريف مبادئ المسلمين وإبعادهم عن واقعهم، مثلاً: قام الغرب بتعظيم أحد حكماء ايران(1) ورفعه إلى درجات عالية وذلك من أجل ترويج عقيدته الباطلة والمخالفة للإسلام، وهي عقيدة الجبر ونشرها في إيران، لأن هذا الحكيم من القائلين بالجبر واشتهر اسم هذا الحكيم إلى درجة أنه سميت حتى في العراق شوارع وفنادق باسمه.

بينما نرى الشيخ عبد الكريم الحائري(رحمه اللّه) مؤسس الحوزة العلمية، أو السيد أبا الحسن الأصفهاني(رحمه اللّه) الذي لم تخف خدماته على أحد من المسلمين، أو السيد البروجردي(رحمه اللّه) الذي بنى في طهران فقط اربعمائة مسجد غير ما أسسه من المؤسسات الإسلامية في باقي البلاد الإسلامية، هؤلاء العظماء لم تُسمَّ أية مؤسسة إسلامية باسمهم ولا حتى زقاق صغير!

كان هناك في العراق وزير في أيام عبد السلام عارف، وكان من طلاب العلوم الدينية. كان يقول: لماذا أنتم تتعبون أنفسكم مع عبد السلام من أجل تطبيق الأحكام الإسلامية؟ إن عبد السلام عارف إنما هو أقل من خادم عادي وعميل

ص: 367


1- الظاهر إنه الشاعر الإيراني المعروف: سعدي الشيرازي.

صغير بنظر الغرب، وليس له أن يفعل أي شيء إلّا بإجازة السفير الإنجليزي أو السفير الأمريكي، فمع هذا كيف تطلبون منه أن يطبق النظام الإسلامي؟ السفير يطلب منه أن يحيي عصر بني أمية أو هارون العباسي، فيمتثل لذلك فيسمي الشوارع والمدارس والمستوصفات والمستشفيات والأزقة باسماء هؤلاء الظلمة!

نحن علينا في سبيل التخلّص من التبعية العمياء للغرب أن نفعل شيئاً كمقدمة أوليّة وضرورية للخطوات الأساسية التي تليها، وذلك بأن نحوّل مركزين مهمين عند المسلمين إلى مدارس دينية.

أحدهما: بيوت العلماء والمراجع الذين توفوا أمثال الحائري والبروجردي (قدس اللّه أسراهم) ونحوهما...

وثانيها: مقابرهم، لأن هذه الأماكن ذات أبعاد معنوية، وفيها تأثيرات وإيحاءات إيجابية، كما أنها توجب اقتداء الناس بأصحابها في الإيمان والعمل، لأن المجتمع عندما يحافظ على تراث عظمائه وكبرائه، فإن ذلك يدفعه إ لى تقليدهم وسلوك طريقهم، لأن الناس غالباً ما يكونون مقلدين للشخصيات الكبيرة والنماذج البارزة، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه شوهد ذات مرة وعليه إزار مرقوع، فقيل له في ذلك فأجاب(عليه السلام): «يقتدي به المؤمنون ويخشع له القلب... أشبه بشعار الصالحين وأجدر أن يقتدي به المسلم»(1). وهكذا كان الإمام(عليه السلام) يتصرف لأنه يعلم أن المسلمين يتخذونه قدوة لهم.

عبد الحميد العثماني في كربلاء

أصدر عبد الحميد العثماني أمراً بتهديهم كربلاء وتسويتها مع الأرض وأسر نساء الحلة وأهالي النجف الأشرف ومنع قراءة (أشهد أن علياً ولي اللّه) من على

ص: 368


1- مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 2: 96.

المآذن في صحن الإمام الحسين(عليه السلام) والإمام علي(عليه السلام)، كما أنه منع طباعة ونشر الكتب الشيعية في العراق. لذلك شن العلماء ورجال الدين حملة ضارية وحرباً حامية ضد السلطان عبد الحميد حتى أسقطوه بعد إضعافه، فعمّ العراق نوع من الحرية والاستقلال.

وفي زمان الملك فيصل أيضاً قام العلماء ضده، وخاصّة الشيخ عبد الكريم الجزائري فقد وقف أمام الملك فيصل الأول عندما جاء إلى النجف الأشرف، وتكلم معه بكلام حاد وشديد، وذلك عندما دخل فيصل حرم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، فجاء الشيخ عبد الكريم الجزائري ووقف أمامه وقال: إن هذا المكان الذي حللت به شريف، وصاحب المكان إمام معصوم، وأنت تدعي بأنك من أولاده وتسير بسيرته ولكنك تكذب! فتغير لون فيصل، واحمّر من الخجل ولم يُحِرْ جواباً، بل لم يستطع أن يقول شيئاً أو يفعل شيئاً، لأنه حسبَ حساب قوة العشائر التي كانت في حماية الشيخ عبد الكريم الجزائري.

نعم هكذا كان العلماء ذوي قدرة طائلة، لا يهابون الملوك والحكام، بل الملوك والحكام كانت تهابهم وتحسب لهم ألف حساب. وفي زمان ناصر الدين شاه عندما استدعاه السفير الإنجليزي للسؤال عن شخصية السيد محمد حسن الشيرازي(رحمه اللّه) وسرّ قوته، قال: إن للسيد الشيرازي خادمين مطيعين أحدهما السلطان عبد الحميد والآخر ناصر الدين شاه لا يملكان أن يعصيا له أمراً.

نعم استطاع الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه) بفتواه المشهورة، أن يطرد (400) ألف جندي إنجليزي من إيران، بعد ما دخلوا إيران وسيطروا عليها، ولكننا نشاهد اليوم بسبب ضعف المسلمين أن صدّاماً يقوم بإبعاد العلماء والسادة، ومنهم حفيد ذلك السيد الجليل من سامراء، ولم يحرك المسلمون ساكناً في مقابل هذا العمل الشنيع!

ص: 369

من أسباب انحطاط المسلمين

أحد أسباب انحطاط المسلمين هو انعدام الوعي السياسي وعدم الالتفات إلى منابع القوة التي يمتلكها المسلمون، فلو كان للمسلمين الوعي الكافي والرشد الصحيح لم يسمحوا بلاستعمار الشرقي والغربي أن يلعب بمقدراتهم ويتهاون بمقدساتهم، بل لم يسمحوا له بأن يستعبدهم، كما هم عليه الآن من التبعية والاستعباد لأفكار الشرق والغرب.

ينقل المرحوم الوالد(رحمه اللّه) بأن الإنجليز عندما حاصروا النجف الأشرف، وبلغت قيمة جرة الماء العذب ليرة واحدة، كانت قدرة الليرة الشرائيه آنذاك أنها تكفي مصرفاً لعائلة واحدة لمدة شهر واحد، ولكن أهالي النجف المؤمنين والصامدين استطاعوا، برغم الصعوبات والضغوط التي كان يفرضها الإنجليز عليهم، أن يقاوموهم ويحاربوهم بضراوة وشدة، مع أن العراق آنذاك كانت نفوسه تبلغ حوالي ال- (5/2) مليون نسمة.

واليوم مع انعدام الوعي السياسي والرشد الفكري لدى غالبية المسلمين، فإنّ عامتهم، بل حتى بعض رجال الدين أيضاً، جعلهم لا يشعرون بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم في الدفاع عن حريم الإسلام وحرمات المسلمين.

فالشيعة في العراق يشكلون (85%) وفي البحرين (95%) وفي أفغانستان (34%) وفي السعودية أكثر من (30%)، ومع ذلك ليس لهم في عالم السياسة ذلك الدور الذي يتناسب مع عددهم، بل وفي بلادهم أيضاً لا يشكلون ذلك الثقل السياسي الذي ينبغي لهم أن يشكلوه.

وفي بعض البلاد يشكل الشيعة ثلث السكان أو أكثر ولكن ليس لهم صوت يذكر، وليس لهم هناك قدرة معتبرة، وهكذا العراق الذي يشكل الشيعة أكثرية سكانه، ترى أن الحكومة التي تسيطر عليهم وتحكمهم حكومة سنية متعصبة،

ص: 370

وهكذا باقي بلاد المسلمين، وما ذلك إلّا لعدم اهتمامهم بقضيتهم والمطالبة بحقوقهم الشرعية والإنسانية.

في البلدان الإسلامية

عندما جاء عبد الكريم قاسم إلى العراق، وسنّ ما يسمى بقانون الإصلاح الزراعي، سبّب ذلك احتياج العراق إلى البيض، بعد أن كان العراق يوفره لنفسه ويصدر الفائض إلى البلدان المجاورة، وليس البيض فقط، بل احتياجه إلى أغلب الحاجات واستيرادها من الخارج.

وكان عبد الناصر يستورد لخمسين مليون مسلم مصري لحوم الحيوانات المحرمة، وكان يلزم الناس أن يقفوا كل اسبوع في طوابير طويلة ليحصلوا على هذا اللحم!

ولكنهم مع كل هذا وذاك يصفق له بعضهم ويبايعونه بالتأييد والموافقة، ألّا يدل هذا بوضوح على عدم الوعي عند المسلمين؟ والمسلمون لو تأملوا في واقعهم المر - ولو قليلاً - لعرفوا أسباب تأخرهم، والعوامل التي أدت إلى انهزامهم وبؤسهم... .

وفي الغرب

سافر شخص إلى إيرلندا، وعندما عاد، قال: إن عدد نفوس إيرلندا لا يتجاوز الثلاثة ملايين نسمة، ولكنهم مع هذا العدد القليل، وبسبب الوعي الاقتصادي العالي الذي يمتازون به، يوفرون اللحم لمئات الملايين من الناس، حيث يصدرون اللحم إلى بلاد كثيرة، من جملتها البلاد الإسلامية، فكيف استطاع هؤلاء بعددهم القليل أن يقوموا بذلك ويتقدموا من هذه الناحية؟ ببساطة إنهم أدركوا بوعيهم نقاط القوة التي يمكن أن يستغلوها لينهضوا باقتصاد بلدهم،

ص: 371

ويجعلوا من بلادهم بلاداً مصدرة ومنتجة لا مستوردة ومستهلكة فقط.

فرعون وسبب ادعائه الربوبية

مما يروى في التاريخ، أن فرعون قبل أن يدّعي الربوبية، أتى إليه شخصان ذات يوم، قد تنازعا وتضاربا، وقد أدمى كل منهما الآخر، فسألهما فرعون عن سبب نزاعهما، فقال أحدهما: لأن صاحبي قد ضرب نعلاً لفرسه، وأنا فكرت بأني إذا تزوجت ورزقت ولداً، وكبر وخرج إلى خارج الدار ليلعب، فقد يأتي فرس هذا الرجل ويركل ابني الصغير فيموت، ولهذا تنازعنا وتضاربنا، ففكر فرعون في نفسه، واستنتج أن هذا المستوى من ضحالة التفكير لدى هؤلاء الناس يمكنه أن يدّعي بانه أصبح رباً لهم وإلهاً عليهم، وفعلاً بعدها ادعى فرعون الربوبية، وهذه قاعدة كلية تقريباً، حيث أن الحاكم عندما يرى شعبه ضعيف الشخصية هزيل التفكير يطمح لاستعباده والسيطرة عليه ومعاملته معاملة وحشية، نفس القاعدة التي يتبعها الاستعمار للسيطرة على الشعوب... .

إنَّ مستوى تفكير بعض المسلمين للأسف مشابه لهذين الشخصين المتنازعين، الذين التجأ إلى فرعون لفض نزاعهما، ولذلك استغلت قوى الغرب والشرق هذا المستوى من الجهل، وسلطت عليهم إسرائيل الغاصبة، وجعلتها سيدة عليهم، كما فعل فرعون إذ جعل نفسه ربّاً على الناس.

السبب الآخر لتأخر المسلمين: هو فقدان الأخلاق الإسلامية، إذ أن التحلي بالخلق الاسلامي يعتبر من مقومات السيادة. وإن من أبرز أسباب انتشار الإسلام هو احترامه للإنسان وتحلي المسلمين بالأخلاق الفاضلة، وأي ابتعاد للمسلمين عن أخلاق دينهم يعني ابتعاداً عن روح الدين، كما يعني مزيداً من التقهقر لهم.

ص: 372

وكما يقول الشاعر(1):

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فالسيادة لاتتم إلّا بالحلم وسعة الصدر والتحلي بالأخلاق الفاضلة، ولذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «آلة الرئاسة سعة الصدر»(2).

الأخلاق والسيادة

وعندما دخل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكة المكرمة، جاءه أبو سفيان الذي ملئ قلبه بالحقد والحنق على الإسلام والرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والذي كانت يداه ما تزالان تقطران من دماء أهل البيت وأصحاب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد كان أبو سفيان شيخ المؤامرات والفساد، ولكن كيف واجهه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ لقد عفى عنه وصفح، وقال له في رفق ولين:

«ألم يأنَ لك أن تشهد أن لا إله إلّا اللّه»؟

فقال أبو سفيان: بابي أنت وأمي ما أحلمك وأوصلك وأكرمك(3).

هكذا استطاع الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن ينشر مبادئ الدين الحنيف، ويبني دولته المترامية الأطراف بأخلاقه الكريمة وصفحه عن المسيئين، ولذا كانت الأخلاق المحمدية من أكبر العوامل التي ساعدت على سيادة الإسلام وانتصاره.

قصة أخرى

ومما يذكر عن الشيخ زين العابدين المازندراني(رحمه اللّه) وهو أحد كبار علماء كربلاء المقدسة ومراجعها المشهورين، أنه ذات يوم كان ذاهباً مع جماعة من أصحابه إلى الحرم الشريف، فجاءه سيد وطلب منه مقداراً من المال، فقال الشيخ زين العابدين: ليس معي الآن مال، فعندما قال الشيخ ذلك بصق هذا

ص: 373


1- لأحمد شوقي.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 67.
3- مجمع الزوائد 6: 166.

السيد في وجه الشيخ! فأراد الناس أن يأخذوا هذا السيد ويعاقبوه على فعله، إلّا أن الشيخ رفض ذلك ومنعهم منه، ومسح وجهه، وقال له: انني لأرجو أن يكون ماء فمك هذا سبباً للشفاعة لي يوم القيامة، لأنك من ابناء رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

هذه هي الأخلاق الرفيعة التي تكون سبباً لسيادة الإنسان ورئاسته، ونسأله سبحانه حسن الأخلاق مع الأعداء والأصدقاء.

علينا جميعاً أن نطالع تاريخ الحكام والحضارات، لنستفيد من العبر والدروس، ونقف على الأسباب التي أدت إلى انحسار دور المسلمين، وأسباب تخلفهم، ولنرفع نقاط الضعف من صفوفنا، ونقوي أنفسنا بالثقافة والوعي الإسلامي السياسي، وأن نوجد في أنفسنا اللياقة والكفاءة، حتى نستطيع أن نغير العالم، وأن ننشر النور فيه، بعد أن لفّه الظلام، لأن هذا الدور مناط بالمسلمين كافة، واللّه تعالى الموفق والمستعان.

«اللّهم إنّا نشكو إليك فقد نبينا، صلواتك عليه وآله، وغيبة وليّنا، وكثرة عدوّنا، وقلّة عددنا، وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصلّ على محمد وآله وأعنا على ذلك بفتح منك تعجّله، وبضرٍ تكشفه، ونصر تعزه، وسلطان حقٍ تظهره، ورحمة منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها، برحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الدعوة الى العمل الإسلامي

قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(2).

ص: 374


1- إقبال الأعمال 1: 61.
2- سورة فصلت، الآية: 33.

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...}(1).

وقال عزّ وجلّ: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2).

وقال جلّ وعلا: {فَقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ...}(3).

دور الأنبياء في الوقوف بوجه الانحراف

قال عزّ اسمه: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بَِٔايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ}(4).

وقال جلّ ثناؤه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ... }(5).

وقال عزّ من قائل: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَٰمَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ}(6).

أخلاق الحاكم الإسلامي

قال جلّ شأنه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(7).

وقال تعالى: {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ

ص: 375


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.
2- سورة النحل، الآية: 125.
3- سورة النساء، الآية: 84.
4- سورة طه، الآية: 42-43.
5- سورة الممتحنة، الآية: 4.
6- سورة الأنبياء، الآية: 57.
7- سورة آل عمران، الآية: 159.

إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ}(1).

وقال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَٰهِلِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٖ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}(4).

وقال عزّ اسمه: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

الدعوة إلى العمل الإسلامي

قال الإمام الصادق(عليه السلام): «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير فإن ذلك داعيةٌ»(6).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا»(7).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «يا ابن جندب... رحم اللّه قوماً كانوا سراجاً ومناراً

ص: 376


1- سورة الأنعام، الآية: 50.
2- سورة الأعراف، الآية: 199.
3- سورة الشعراء، الآية: 214-215.
4- سورة النحل، الآية: 127.
5- سورة القصص، الآية: 83.
6- الكافي 2: 78.
7- الكافي 1: 44.

كانوا دعاة الينا بأعمالهم ومجهود طاقاتهم»(1).

دور العلماء في الوقوف بوجه الانحراف

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «وما أخذ اللّه على العلماء ألّا يقارّوا على كِظة ظالم ولا سَغَب مظلوم»(2)(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا» قيل: يا رسول اللّه ما دخلوهم في الدنيا؟ فقال: «اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على أديانكم»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): ملعون ملعون عالم يؤم سلطاناً جائراً معيناً له على جوره»(5).

وقال الإمام الحسين(عليه السلام): «اعتبروا أيها الناس! بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: {لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ الرَّبَّٰنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ...}(6) وانّما عاب اللّه ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك»(7).

أخلاق الحاكم الإسلامي

عن ابن مسعود قال: أتى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجل يكلمه فأُرعِد فقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «هوّن

ص: 377


1- تحف العقول: 301.
2- الكِظة: ما يعتري الآكل من الثقل واكرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق، والسَّغَب: شدة الجوع، والمراد منه هضم حقوقه.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 3 من خطبة له(عليه السلام) وهي المعروف بالشقشقية.
4- النوادر للراوندي: 27.
5- كنز الفوائد 1: 150.
6- سورة المائدة، الآية: 63.
7- تحف العقول: 237.

عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القد»(1).

وعن أبي ذر قال: كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل فطلبنا إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه فبنينا له دكاناً من طين وكان يجلس عليه ونجلس بجانبه(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «من تولى أمراً من أمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع ستره ونظر في أمور الناس كان حقاً على اللّه عزّ وجلّ أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من ولي شيئاً من أمور أمتي فحسنت سريرته لهم، رزقه اللّه تعالى الهيبة في قلوبهم ومن بسط كفّه لهم بالمعروف رزق المحبة منهم ومن كف يده عن أموالهم وقى اللّه عزّ وجلّ ماله ومن أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحباً ومن كثر عفوه مدّ في عمره ومن عم عدله نصر على عدوه»(4).

ومن كتاب أمير المؤمنين(عليه السلام) للأشتر لمّا ولاه على مصر:

«... الواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة أو سنة فاضلة أو أثر عن نبينا(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو فريضة في كتاب اللّه فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «من تكبر في ولايته كثر عند عزله ذلّته»(6).

ص: 378


1- مكارم الأخلاق: 16.
2- مكارم الأخلاق: 16.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 245.
4- كنز الفوائد 1: 135.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 53 من كتاب له(عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولّاه على مصر... .
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 633.

كيف يمكن حل مشكلات المسلمين

اشارة

قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَٰنُ}(1).

سؤال

هناك سؤال مليح يطرح نفسه على طاولة البحث وهو: كيف يمكننا أن نتجاوز مشكلات المسلمين في العصر الحاضر أو حلها؟

والجواب عن ذلك بحاجة إلى مقدمتين:

المقدمة الأولى

هي الإيمان بقدرتك، قال الإمام أمير المؤمنين وسيد الوصيين(عليه السلام) في هذا المجال:

أتزعم أنك جرمٌ صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر(2)

إن جميع الذين تقدموا في الدنيا في أي ميدان كانوا إنما هُم نفس الأفراد العاديين، ولكن الميزة التي ميزتهم وجعلتهم يحوزون قصب السبق هي إرادتهم القوية وإيمانهم بأنفسهم وقدراتهم، وهذا أمر واقعي لا شبهة فيه، فإذا آمن الإنسان بقدراته الكامنة في ذاته واستطاع أن يستفيد منها ويفجرها ليسلك الطريق

ص: 379


1- سورة الأحزاب، الآية: 72.
2- انظر ديوان أمير المؤمنين(عليه السلام): 175.

الصحيح فستحل مشاكل الحياة، لأن المشاكل إنما تحل بالجد والعملالمتواصل.

ذكر أحد الكتاب أن كنيسة القرن الثامن عشر قتلت ثلاثمائة ألف إنسان أمثال غاليليو، حيث حكمت على غاليليو بالإعدام ثم الحرق، ولكن غاليليو استطاع بكلامه أن يثبت حركة الأرض حول الشمس ويغيّر الاعتقاد المشهور الذي طال حوالي خمسة آلاف عام، وذلك لأنه كان يعتقد بكلامه جازماً حتى استطاع إثباته علمياً.

المقدمة الثانية

الاعتقاد بأن الإسلام فطري، وهو العامل الأكبر والرئيسي في انتصار المسلمين في كل العالم، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(1).

نحن نعتقد اعتقاداً جازماً بأنه من السهل اليسير إعادة مفاهيم الإسلام وقيمه إلى حياة المسلمين، ونحن إذا عملنا بخطة مدروسة وناجحة فسنستطيع تنفيذ ذلك ربما خلال عشر سنوات، والنبي الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قام بذلك، حيث استطاع خلال عشر سنوات نشر الإسلام في ما بين القبائل العربية، وكذلك استطاع أن يكسر الحدود الموجودة في ما بين القبائل ويوحدها تحت لواء الإسلام وقوانينه، وكذلك أوجد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأخوّة في ما بين المسلمين والاتحاد في ما بين القبائل والمناطق، وبهذه الوسيلة تمكن(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من اجتذاب الناس نحو الإسلام الحنيف، وأن يسقط الحدود النفسية والعنصرية التي كانت راسخة في ما بين عرب الجزيرة والبلاد الأخرى.

ص: 380


1- سورة الروم، الآية: 30.
سيطرة الأجانب

ولكن كيف استطاع الأجانب التغلب والسيطرة على المسلمين؟

الجواب:

1- قام الغربيون والشرقيون بإيجاد الحدود في ما بين البلاد الإسلامية، لأنهم أدركوا بأنه مادام المسلمون منضوين تحت لواء الوحدة الإسلامية فلن يتسنى لهم - بل لا يمكنهم أبداً - أن يسيطروا عليهم وينهبوا ثرواتهم لذلك بضَّعوُهم وقسموا بلادهم حتى يسهل لهم التهامها والسيطرة عليها، وساقوهم بهذا الاتجاه، ولذلك نرى المسلمين حالياً يسيرون نحو نفس الاتجاه الذي رسمه إليهم الاستعمار، ويتمسكون بالحدود الجغرافية التي أوجدها، وما ازدادوا بذلك إلّا انحطاطاً وتأخراً وتوغلاً في التفرقة والتمزق.

2- بالقضاء على الأخوة الإسلامية، وإثارة المشاعر القومية الجاهلية والوطنية لتكون بديلاً عن تمسكهم بدينهم وعقيدتهم الإسلامية (1).

3- بتعطيل القوانين الإسلامية، حيث أن من واجب المسلمين تطبيق كل ما جاء في الشريعة المقدسة تطبيقاً كاملاً، ورفض كل الأحكام الوضعية المخالفة للإسلام والتأويلات الشخصية للآيات والأحاديث الشريفة، بينما خلاف ذلك هو السائد اليوم في ما بين المسلمين، وهو المنتشر انتشاراً واسعاً مما أدى إلى ضعفهم وانحطاطهم.

جاء شخص إلى الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) وسأله سؤالاً عن الأموال التي تتعلق بها الزكاة، فقال له الإمام(عليه السلام): الزكاة في تسعة اشياء فقط وعدها، فقال

ص: 381


1- الفرق بين النقطة الأولى والثانية هو أن الأولى تختص بالتفرقة المادية في مجال الحدود والأقاليم أما الثانية فإنها مختصة بالأمور المعنوية والنفسية إذ أن النزعات القومية والعنصرية تفصل بين الناس نفسياً.

السائل: وعندنا البَقْل الفلاني أيضاً فهل فيها زكاة؟ قال الإمام(عليه السلام): كلا إن الزكاة في هذه التسعة أشياء فقط، لماذا تذكر شيئاً آخر(1)!

بينما في الوقت الحاضر في البلاد الإسلامية تؤخذ الضرائب والأموال على كثير من الأمور التي لم يرد لها ذكر في الشريعة، والآن لو أردنا أن نحل جميع مشاكلنا واختلافاتنا الدينية بما فيها الاقتصاد والسياسة والاجتماع، فعلينا أن نقوم بنبذ الخلافات وعدم اتباع الآراء الشخصية والتي تخضع لتأثير اعتبارات عديدة وأن نتجِه إلى شورى المرجعية لضمان وحدة وصواب الرأي بين علماء المسلمين ثم المسلمين أنفسهم.

من ثمار شورى المرجعية

إن الحس الديني عند الناس هو أكثر الإحساسات الفاعلة والمحركة لهم، لذلك يجب إيقاظ وتحريك هذا الإحساس عندهم من قبل الذين يمتلكون زمام إثارته، فإذا خرج جميع المراجع إلى ميدان ذلك فإن جميع المقلدين سيكونون أيضاً موجودين، وسيشاركون في ما يأمر ويندب إليه المراجع، فلن تبقى بعد ذلك أية طائفة إلّا واستوعبتها الساحة.

الميرزا الشيرازي الكبير(رحمه اللّه) آزره المراجع المعاصرون له، وهم على اختلاف مستوياتهم دخلوا قصة التنباك المعروفة، واستطاعوا أن يطردوا الإنجليز، ويبعدوهم من إيران، مع أنهم كانوا يشكلون اربعمائة ألف إنجليزي جاؤوا إلى إيران لأجل حصر تجارة التبغ واحتكارها لأنفسهم.

كان ابن الميرزا الكبير. يقول: كانت تأتي الرسائل والتلغرافات المفصلة من جميع مدن إيران إلى الميرزا الكبير، فكان الميرزا ومعه جميع المراجع ينزلون

ص: 382


1- انظر وسائل الشيعة 9: 56 و 58.

إلى القبو (السرداب) لأن الجو كان حاراً، ويبحثون ويتشاورون من الصباح حتى آخر الليل في هذه القضايا التي وردت إليهم، إلى أن استطاع الميرا أن يتخذ الإجراءات اللازمة والحكيمة بالتشاور مع الآخرين وأخذ آرائهم بنظر الاعتبار، فكانت النتيجة أن انتصروا على الاستعمار الإنجليزي، لأن الناس اتبعوا المراجع وطبقوا ما أمروهم به.

نشاط الشيوعية

لقد تفاقم أمر الشيوعية في العراق وازداد نشاطهم وتحركهم بعد تسلّم عبد الكريم قاسم مقاليد الحكم وقويت سلطتهم، على أثر ذلك قام المرحوم الوالد(1).

والمرحوم السيد محسن الحكيم(قدس سره) بالتشاور مع مجموعة من العلماء الأعلام، واصدروا الفتوى المشهورة (الشيوعية كفر وإلحاد) فتمكنوا بذلك من انزال الضربة القاصمة في كيان الشيوعية، وتبديدها تبديداً حاسماً جعلها تنحسر عن العراق منذ ذلك الزمان وإلى الآن.

ذات مرة أراد ملك العراق أن يسنّ قوانين مخالفة للإسلام، ويطبقها في الدولة العراقية، إلّا أن المراجع وقفوا سداً منيعاً أمام ذلك باتحادهم تشكيل الشورى في ما بينهم فأرغموه على الرضوخ للقوانين الإسلامية.

أما في الوقت الحاضر حيث افتقدت شورى المرجعية في ما بيننا وأصبحت من الآمال الملحة التي نسعى لتحقيقها، فقد بقي صدام في قمة السلطة بالرغم من ضعفه وعدم صلاحه، واستطاع أن يقضي على مليوني مسلم في العراق وحده ظلماً وعدواناً من دون أن يجدوا لهم ناصراً أو معيناً.

ليس هناك في عالم الدنيا شيء لا يمكن تحقيقه باستثناء المحالات العقلية،

ص: 383


1- المرحوم آية اللّه العظمى الميرزا مهدي الشيرازي(قدس سره).

وعلى تعبير أحد الزعماء: احذفوا كلمة (لا) من القاموس اللغوي! لأن كل شيء إذا رحنا وراءه فإنّه ممكن غالباً وإننا لا بدّ وأن نصل إليه في يوم من الأيام، ومن هذه الأمور هي شورى الفقهاء المراجع لإنقاذ المسلمين، والخلاصة أن شورى المرجعية بإمكانها حالياً أن تقوم بدور حاسم تجاه مجمل القضايا التي تهم المسلمين وبإمكانها أن تعطل جميع أسواق العالم الإسلامي إذا اقتضت الضرورة مقاومة الظلم وبأمر واحد! كما أنّ بإمكانها التصدي ومواجهة كل أشكال الاستعمار والتسلط.

ثلاثة مطالب

إن المرحوم الوالد(قدس سره) مع المرحوم آقا حسين القمي(قدس سره) وسائر العلماء والأعلام طلبوا من محمد رضا بهلوي بصوت واحد ثلاثة مطالب مهمة:

1- إرجاع الموقوفات المصادرة إلى أهلها والأملاك المغصوبة إلى أصحابها.

2- رفع الأمر بفرض السفور وحظر الحجاب على النساء.

3- منح طلاب العلوم الدينية والعلماء الحرية الكاملة لممارسة أعمالهم ودراساتهم، وعندما تماهل الشاه وأهمل هذه المطالب ولم ينفذها، أرسل المرحوم الحاج آقا حسين القمي(قدس سره) رسالة له يهدده فيها في حالة عدم إعطائه جواباً بالقبول فسيصدر أمراً بإغلاق سوق طهران نهائياً.

فعندما بلغ ذلك شاه إيران خاف من ذلك واستدعى رئيس وزرائه، وكان في ذلك الوقت (سهيلي)، وأمره بتنفيذ مطالب العلماء وبأسرع وقت.

بعد ذلك تبين أن السيد البروجردي(قدس سره) كان قد هيّأ أربعة آلاف مقاتل مسلح أيضاً، من بروجرد وأطرافها، ليدخلوا طهران ويقضوا على الشاه في ما إذا لم يستجب لمطالبهم، ولذلك خاف الشاه من الرأي العام والعشائر والعلماء مما

ص: 384

جعله يتنازل ويرضخ لهذه المطالب الثلاثة.

من خلال الكلام السابق نرى أن مشاكل المسلمين ليست ذاتية كلّها بل هي أيضاً نتيجة العداء الذي يكنه أعداء الإسلام لهم، الذين يسعون إلى التسلط على المسلمين، وطمس هويتهم الإسلامية ومعالم ثقافتهم، وإبدالها بالنماذج الغربية تارة والشرقية تارة أخرى، ليكون المسلمون لقمة سائغة وتبعاً مطيعاً لهذه القوى الكافرة. ونحن إذا أردنا أن نبدأ بالفعل بمعالجة حالة الأمة ورفع القيود التي كبّلهم بها الأعداء فيجب أن تكون معالجة جذرية بأفق متسع وبُعد نظر ودراسة معمقة، لتكون النتائج إيجابية وسريعة وملموسة، ولا يتحقق هذا الأمر للأمة دون أن تتسلم مرجعيتها الدينية الشامخة زمام المبادرة والقيادة عن طريق شورى المراجع، وهي وحدها كفيلة بحل المشاكل التي تواجهها الأمة، والقضاء على أسباب الخلاف والتنافر بين المسلمين، وتحقيق وحدتهم وعزّتهم وبناء مستقبلهم.

نبتهل إلى اللّه العلي القدير بهذا الدعاء المبارك ونطلب منه العون والسداد في رفع مشاكل المسلمين.

«اللّهم انّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الاسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1) برحمتك يا أرحم الراحمين.

من هدي القرآن الحكيم

الإرادة القوية

قال تعالى: {أُوْلَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنْهُ}(2).

ص: 385


1- الكافي 3: 424.
2- سورة المجادلة، الآية: 22.

وقال سبحانه: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ}(1).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ}(2).

وقال جلّ وعلا: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً}(3).

الإسلام والفطرة

قال عزّ اسمه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(4).

وقال جلّ شأنه: {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}(5).

وقال عزّ من قائل: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(6).

وقال جلّ ثناؤه: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ}(7).

وقال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(8).

وقال سبحانه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِ}(9).

وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}(10).

ص: 386


1- سورة الأحزاب، الآية: 23.
2- سورة آل عمران، الآية: 200
3- سورة التوبة، الآية: 123.
4- سورة آل عمران، الآية: 103.
5- سورة الشورى، الآية: 13.
6- سورة آل عمران، الآية: 19.
7- سورة الأنعام، الآية: 125.
8- سورة الروم، الآية: 30.
9- سورة الزمر، الآية: 22.
10- سورة آل عمران، الآية: 85.
الشورى في كل ميادين الحياة

قال جلّ وعلا: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(1).

وقال عزّ اسمه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(2).

ذم الفرقة في الإسلام

قال جلّ شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}(3).

وقال عزّ من قائل: {وَلَا تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا}(4).

وقال جلّ ثناؤه: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(5).

من هدي السنّة المطهّرة

الشورى في كل ميادين الحياة

قال الإمام علي(عليه السلام): «بعثني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على اليمن فقال وهو يوصيني: يا علي ما حار من استخار ولا ندم من استشار»(6).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطأ عاذراً»(7).

ص: 387


1- سورة الشورى، الآية: 38.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة الأنعام، الآية: 159.
4- سورة الروم، الآية: 31-32.
5- سورة آل عمران، الآية: 105.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 136.
7- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 123.

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الاستشارة عين الهداية وقد خاطر مناستغنى برأيه»(1).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام): «ما تشاور قوم إلّا هدوا إلى رشدهم»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا مظاهرة أوثق من المشاورة»(3).

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من اللّه فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف فإن في ذلك العطب»(5).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال لقمان لابنه: «إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتك إياهم في أمرك وأمورهم... وإذا استشهدوك على الحق فاشهد لهم واجهد رأيك لهم إذا استشاروك ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر ولا تُجبْ في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل فكرك وحكمتك في مشورته فإن من لم يمحِّض النصيحة لمن استشاره سلبه اللّه تبارك وتعالى رأيه ونزع اللّه عنه الأمانة»(6).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «يا هشام مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة

ص: 388


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 211.
2- تحف العقول: 233.
3- المحاسن 1: 17.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 627.
5- المحاسن 2: 602.
6- الكافي 8: 348.

ومشاورة العاقل الناصح يمن وبركة ورشد وتوفيق من اللّه فإذا أشار عليك الناصحفإياك والخلاف فإن في ذلك العطب»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): استشر العاقل من الرجال الورع فإنه لا يأمر إلّا بخير، وإياك والخلاف فإن خلاف الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا»(2).

ص: 389


1- تحف العقول: 398.
2- المحاسن 2: 602.

التلخص من أغلال الغرب

الثورةُ على الذّات

قال سبحانه وتعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(1).

إنّ السبيل لإصلاح المجتمع الذي يعمّه الفساد والفوضى، أو معالجة أي سلبية في مجتمع ما، لا يتم بنسف المجتمع نفسه، وإنما بالقضاء على الفساد، وجميع العادات السلبية فيه، وهذا يشبه عمل الطبيب مع مريضه، فالطبيب عند ما يريد معالجة مريض ما؛ فإنه لا يقوم بقتل مريضه لكي ينهي المرض. وإنما يقوم أولاً بفحص المريض، وتحديد نوع ومكان المرض، ومعرفة الأسباب التي أدت إليه، ثم يبحث عن الدواء الشافي له، ويعطيه لمريضه.

فعلينا اليوم، وفي هذه الفترة التي انتشرت فيها العادات السيئة في مجتمعنا الإسلامي، أن نعمل على علاج هذه السلبيات، كما يعالج الطبيب مريضه. فعلينا أن نقوم أولاً بفحص المجتمع، ومعرفة العادات السلبية المنتشرة فيه، ثم البحث عن الأسباب التي أدت إلى انتشار هذه العادات السيئة، ومعرفة طرق معالجتها، ثم المباشرة في علاجها.

وكما أنّ شفاء المريض من مرضه يعتمد بدرجة كبيرة على براعة وذكاء

ص: 390


1- سورة البقرة، الآية: 208.

وتعامل الطبيب مع مريضه، فإن الشخص الذي يقوم بعلاج سلبية من سلبيات المجتمع، سواء كان فقيهاً أو مرشداً أو خطيباً أو باحثاً إسلامياً، يجب أن يتمتع ببراعة وذكاء وأسلوب جيد في معالجة المشاكل والسلبيات. وهذه العوامل التي يجب توفرها في كل من الطبيب والمرشد والخطيب والفقيه والباحث الإسلامي، من براعة وذكاء وخبرة وتعامل جيد... الخ، هي نقاط الاشتراك بين الطبيب المعالج لمرض ما، والمصلح الاجتماعي المعالج لسلبية من سلبيات المجتمع.

ولكن توجد نقطة ضرورية، يجب توفرها في المصلح الإجتماعي وهي: أن لا يكون المصلح يحمل السلبيات التي يحاول إصلاحها في المجتمع. مثلاً نلاحظ خطيباً يصعد على المنبر، ويحث الناس على صون حقوق الآخرين، وفي نفس الوقت تجده مغتصباً لحقوق الناس، فهذا النموذج لا يقتدي به الناس ولا يسمعون كلامه، وبالنتيجة فإنه يفشل في مهمته، فعلى الأخوة الذين يقومون بمهمة الإرشاد والتبليغ أن يقوموا وبالدرجة الأولى بإصلاح أنفسهم وتصفيتها من الشوائب، وهذا ما يسمى (بتهذيب الذات). وعندما ينجحون في مهمتهم - أي: تغيير أنفسهم - ينقلون هذه الخبرة والتجربة إلى الآخرين لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه وهذا قانون عقلي ثابت في الحياة، يدركه جميع العقلاء فإنّ الشخص الفاقد للنقود من المستحيل أن يعطي النقود، والشخص الفاقد للعلم من المستحيل أن يعطي العلم لغيره وهكذا. وأيضاً التجربة أثبتت بأنّ أغلب العظماء في التاريخ قاموا بثورة على أنفسهم أولاً، وعندما نجحوا في تغيير أنفسهم حملوا هذه التجربة إلى الآخرين، على العكس من أغلب الدّجالين والمشعوذين، الذين على الرغم من أنّ أنفسهم كانت بحاجة إلى التغيير، ولكنهم مع ذلك حاولوا معالجة الآخرين دون إصلاح أنفسهم، فالنتيجة هي الخسران والفشل.

ص: 391

والشخص الذي لا يملك نفسه، كيف يحاول أن يملك الآخرين؟ والذي لا يستطيع كبح جماح نفسه وشهواته، كيف يمكنه أن يكبح جماح نفوس وشهوات الآخرين؟ وكما قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من اتبع هواه أعماه وأصمّه وأذلّه وأضلّه»(1).

فعلى الشخص الذي يريد أن يكون داعية ناجحاً للإصلاح أن يغير ما بنفسه من شوائب ومن سيئات يريد أن يعالجها في الآخرين، وأن لا ينهى الناس عن عمل لا يستطيع هو تركه، وفي نفس الوقت هو يعمل به.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من نصّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم»(2).

فالثورة على الذات ليست من الأعمال السهلة اليسيرة، بل يحتاج الشخص الذي يحاول ذلك إلى رياضات خاصة يكون الجامع لها هو السير على طريق الهدى، والابتعاد عن الضلال.

الصراع الفكري

اشارة

وإنّ من الأساليب والحيل التي يتبعها الاستعمار وأتباعه، في تفرقة المسلمين وإضعافهم: هو الترويج لأفكار مشبوهة يحاول أن يضعها في أوساطهم، وإدخال مفاهيم مغلوطة إليهم، وزعزعة الثقة بالمفاهيم والقيم الإسلامية التي تسودهم. وبهذا العمل يتمكن من هدم القاعدة التي يعتمد عليها الإسلام، وبعد ذلك يصبح العمل عليه سهلاً ويسيراً في التغلغل في جسم الأمة الإسلامية. وتتنوع

ص: 392


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 65.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 73.

أساليب الاستعمار في ذلك، فقسم من المستعمرين يركزون على فكر الإنسان المسلم ويحاولون بأسلوب أو بآخر الضغط على المجتمعات الإسلامية للتحول إلى التعاليم التي يدين بها المستعمر، وذلك بتشويه التعاليم الإسلامية ووصفها بالرجعية التي ترجع المسلمين إلى الوراء، وتحجب فكرهم عن الإبداع، وفي المقابل يقوم الاستعمار وأذنابه بحملة كبيرة في الترويج للتعاليم والقيم التي يدين بها المستعمر. وهذا الأسلوب اتبعه الاستعمار الفرنسي عندما قام باختلال بعض البلاد الإسلامية مثل مصر وتونس والجزائر وغيرها.

أما الاستعمار البريطاني فكما هو معروف استعمل أسلوب نشر الفقر والمجاعة ونهب الثروات في البلاد المستعمرة، وجعل الإنسان المسلم يعيش في ضنك وشظف، وفي نفس الوقت يظهر حالة الترف والبذخ لبعض أعوانه ومؤيديه، وذلك محاولة منه لأن يجعل الإنسان المسلم يتطلع إلى من هم أعلى مستوى منه في المعيشة ليكون تابعاً لهم، وبهذا العمل يترك تعاليم دينه ويلتجئ إلى ناهبه والطامع فيه.

وبعد أن بيّنا وبإيجاز بعض أساليب الاستعمار، نودّ أن نبين نقطة مهمة، وتكاد تكون خافية على بعض الناس، وهي: أنّ الاستعمار عندما يريد احتلال أي بلد إسلامي، يروّج دعاية ضخمة، ويجنّد العملاء من ضعاف الأنفس، ويصرف الأموال الطائلة لذلك، ويعطي الضوء الأخضر لعملائه في الترويج بأنه احتل هذه البلاد الإسلامية، وذلك لحاجته الماسّة للثروة الطبيعية، والأيدي العاملة في ذلك البلد الإسلامي، ويدّعي بأنّ الصراع هو صراع اقتصادي أي على الموارد والثروات، وهذا الادعاء يكذبه الواقع. نعم يشكّل هذا الادعاء جزء السبب، وليس كلّ السبب فإنّ السبب الرئيسي والمهم في نظر الاستعمار هو عدم انتشار

ص: 393

الأفكار الإسلامية بين الناس، مما ينتج من ذلك دخول هذه الأفكار الإسلامية إلى مجتمعاتهم أيضاً، لأنهم يجدون تعاليم وقيم الإسلام تعارض عملهم وتحارب ظلمهم واستغلالهم للإنسان وهذا ما لا يرتضونه، فلو كان الصراع اقتصادياً كما يسمونه، أي: على الثروات فقط، لكان من باب أولى لهم أن يقوموا ولا سيّما بريطانيا وفرنسا وأمريكا والاتحاد السوفيتي(1)، باحتلال دول أوروبية أو آسيوية مثل ألمانيا والصناعية أكثر بكثير من ثروات البلاد الإسلامية، إضافة إلى ذلك فإنّ هذه الدول (ألمانيا واليابان) قد دخلت مع الدول الكبرى حروباً عالمية أفرزت الدمار والخراب للعالم، فهي عدوة خطيرة لهم، ولكن على العكس من ذلك، نلاحظ الاستعمار الحديث لا يحتل أو حتى لا يتحرّش بمثل هذه الدول (ألمانيا واليابان وغيرها) بل، يقوم بمساعدة هذه الدول للوصول إلى أهدافها على العكس من الدول الإسلامية، وذلك لسبب مهم، وهو أنّ هذه الدول (وأعني: ألمانيا واليابان والصين وغيرها) لا تحمل أفكاراً تتعارض مع الفكر الاستعماري لهذه الدول، فالجميع يؤمنون بالفكر المادّي.

أمّا الشعوب الإسلامية، وتعاليم الدين الإسلامي فتتعارض مع مصالحهم، وتحارب ظلمهم، وتفضح أعمالهم في استغلال الشعوب، فلهذا تجد الاستعمار يختلق الحجج والأعذار، لاحتلال البلاد الإسلامية، وجعلها ضعيفة مشتتة، فعند ذلك يتبين لنا بأنّ الصراع الدائر اليوم في العالم، ليس على الموارد والثروات الطبيعية فحسب، كما يدّعي الاستعمار، وإنما السبب الرئيسي في الصراع هو التغاير في الأفكار والمعتقدات، فيصبح الصراع بيننا وبين الاستعمار هو صراع فكري، بين الفكر المادي الذي يؤمن به أصحاب القرار في البلاد الاستعمارية،

ص: 394


1- المحاضرة ألقيت قبل انحلال الاتحاد السوفيتي وسقوطه.

وبين الفكر الإسلامي الذي تؤمن به أغلب الشعوب الإسلامية، ولهذا نجد الاستعمار استطاع أن يحقق أغلب أهدافه، في الوقت الذي كان فيه المسلمون في حالة من الركود والخمول. فالدول الاستعمارية الحديثة والتي تعد الآن من الدول العظمى في حسابات العالم، لمْ تكن كذلك في السابق، بل كانت تابعة ضعيفة، وكان المسلمون في قمة انتصاراتهم، وكان العالم بأجمعه يخشى المسلمين، حتى امتد سلطانهم ونفوذهم في صدر الإسلام إلى الشرق والغرب. ولكن لم يستمروا في ذلك بسبب دخول بعض المحسوبين على الإسلام، وتوصلهم إلى مقاليد الحكم والتحكم بمصير المسلمين. وكذلك سكوت الغالبية العظمى من المسلمين على ذلك. وإنّ أغلبية الحكام الذين تسلطوا على رقاب المسلمين، كان همهم الأكبر هو جمع المال والتحكم بمصير الآخرين، فاستغل أعداء الإسلام هذه النقطة، واشتروا بأثمان بخسة، هؤلاء المحسوبين على الإسلام، وتمكنوا عند ذلك من زرع الفتن والحروب والتفرقة بين الشعوب الإسلامية، وتمكنوا من إيصالهم إلى الحالة المُزرية، التي يعيشها المسلمون الآن.

أغلالُ الغرب

بعد أن وصل الحال في بعض المجتمعات الإسلامية إلى خلط المفاهيم، بل وصل الحال إلى أكثر من ذلك، بحيث عملت بعض الحكومات المحسوبة على الإسلام على عكس التعاليم الإسلامية، ساء حال المسلمين وأصبح أغلبهم اتباعاً بعد أن كانوا أسياداً. فالإسلام الذي يأمر ويحثّ على العمل الصالح المفيد للإنسان والمجتمع، مثل: الصدق والأمانة والوفاء وصلة القربى وصون حقوق الآخرين وعدم أخذ الربا، وما إلى ذلك من الأعمال الحسنة التي أقرّها الإسلام، وجاء بها نبي الرحمة(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، تجد بعض الحكومات المتسلطة على رقاب الشعوب الإسلامية تعمل بتعاليم قد نهى عنها الإسلام، مثل: أخذ الربا وإدخال

ص: 395

قانون الجمارك وأخذ الضرائب من الناس وإصدار الجوازات وترسيم الحدود الوهمية بين البلاد الإسلامية وما إلى ذلك، وتجد مع الأسف أغلب الشعوب الإسلامية ساكتة عن عمل حكوماتها، وهو أمر ساعد هذه الحكومات على العمل أكثر لمحو التعاليم الإسلامية، وزرع التعاليم التي لا تمت له بصلة بدلها. فالاستعمار وكعادته يحاول زرع التعاليم التي يريدها في جسم الأمة الإسلامية دفعة دفعة، وينتظر الردّ من الشعوب الإسلامية فإذا لم يلاحظ رداً واضحاً وقوياً من جانب الشعوب الإسلامية فإنه يبادر إلى العمل بالخطوة الثانية، وهكذا. ونتيجة لذلك كله، مضافاً لمواقف الحكام العملاء، وغفلة المسلمين انتشرت العادات السيئة في بلادنا، وأصبحت بعض المفاهيم المغلوطة التي ذكرنا بعضها هي المشروعة! بل والمستحسنة عند البعض! حتى أنّ بعضهم لا يتمكن من تصور وجود بلد خالٍ من الجوازات والبطاقات الشخصية ونحوها. وانتشر الفساد بجميع أنواعه الاقتصادي، والاجتماعي، والإداري، وأصبحت أغلب العادات السيئة، بل المحرمة من الأمور المباحة والمستساغة في كثير من المجتمعات الإسلامية مثل شرب الخمر ولعب القمار واللّهو بمعظم أنواعه والزنا، مما أدى إلى تفرقة المسلمين وضعفهم وتشتتهم نتيجة ابتعادهم عن تعاليم دينهم وعملهم بالمحرمات.

الكتاب المأجورون

وإنّ من الأساليب التي اتبعها الاستعمار لزرع التفرقة بين المسلمين، وتشتيت كلمتهم، هو زرع العملاء، من حكّام وكتّاب مرتزقة، همّهم الأول هو كسب الدنيا، وبأي طريقة كانت. ولقد قرأت، قبل مدة من الزمن، كتاباً لأحد المؤلفين المصريين كتب فيه: بأن مسألة الجنة والنار ويوم القيامة والثواب والعقاب كلها أمور مجازية وليست أموراً حقيقية، ولهذا ليس من الواجب على الإنسان أداء

ص: 396

الأعمال التي فرضها الإسلام على المسلمين؛ إذ ليس هناك جنة ولا نار، ولكنّ هذه الأوامر والنواهي التي يصاحبها الخوف والوعيد، وهكذا الترغيب والرجاء، كلّها أمور مشوقة ومنفّرة، لأجل أن يتجه الناس إلى القيام بالأعمال الصالحة وترك الأعمال القبيحة، فإذا ما قام الإنسان بالأعمال الحسنة فهذا يكفيه وليس واجباً عليه أداء الأمور التكليفية التي يفرضها القرآن، من صلاة وصوم، وخمس وزكاة وحج... الخ، وشبّه الكاتب كلامه بوعود وتهديدات الأب بالنسبة لأولاده، وأنّ الأب لا يقصد بتهديداته ضرب الابن وإنما تأديبه، وهكذا، في وعوده الجميلة.

ولا يصدر مثل هذا الكلام إلّا من انسان جاهل وحاقد تختفي وراءه أيد استعمارية تحرّكه كيفما تشاء، وإذا ما فتح باب التأويل، فإنّ التلاعب سيظهر حتى في أصول الدين، وتوحيد اللّه عزّ وجلّ، ولهذا نرى المسيحيين يقولون: كما أنّ اللّه سبحانه وتعالى واحدٌ، فكذلك يمكن أن يكون ثلاثة أيضاً.

فإذا اعترضنا عليهم بالاستحالة وعدم الإمكان، قالوا: إن النقص يكمن في عقولنا نحن البشر، لا في الإمكان! ثم يعللون ذلك بعدم تصديق الناس للعديد من الحقائق الثابتة!

نموذجٌ آخر

ثمة نموذج آخر من الكتّاب المغرضين الذين زرعهم الاستعمار في جسم الأمة الإسلامية يكتب حول بعثة الأنبياء(عليهم السلام) فيقول: إنّ رسول الإسلام(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وموسى وعيسى وبقية الأنبياء(عليهم السلام) كانوا رجالاً عباقرة لا أكثر، بل الناس كانوا يتصورون هكذا فكما أنّ هناك تفوقاً بين العلماء والمهندسين والأطباء فترى المهندسين يختارون المتفوق رئيساً عليهم، وهكذا الأطباء فكذلك الأمر في الناس العاديين. إنهم يختارون الشخص المتفوق في الأخلاق والتصرف والعلم فيجعلونه هادياً لهم. وهذه سفسطة أخرى تخرج من شخص مدسوس يدّعي

ص: 397

العلم والحضارة، وأحد فوائد علم الكلام هو البحث في مثل هذه الأمور والرد عليها بشكل دقيق وكامل، وهذا عمل علم الأصول أيضاً. وهناك قواعد أصوليه في المسائل والمباني يستفاد منها في الفقه تقول: هل إنّ الظواهر حجة أم لا؟ وكيف تكون القرينة وذو القرينة ومسائل أصولية كثيرة أخرى؟

فإذا انفتح الباب لمثل هؤلاء المفسدين، وما استطعنا بعد ذلك سدّه عن طريق الاستدلال والمنطق وعلم الكلام والأصول، فإنّ مثل هذه الافتراءات سوف تزداد يوماً بعد آخر، وعندها ستكثر السفسطائية(1)، والسير في عالم الأخيلة والأكاذيب وهذه الأمور تحدث في النفس وتأخذ أبعاداً فيها شيئاً فشيئاً مثل الوسوسة، يقولون بأنّ الشخص الوسواسي في بداية الأمر لا يمتلك حالة الوسوسة ولكنّه يشك في بداية الأمر في صلاته مثلاً. هل صلى ركعتين أم ثلاثاً، وبعد ذلك يشك بين الثلاث والأربع وبين الأربع والخمس، وهكذا، حتى تزداد حالة الوسوسة في نفسه، أو أنه في بداية الأمر يُطهّر يده مرّة، وفي اليوم الثاني يطهّر يده مرتين وثلاثاً وأربعاً وهكذا حتى يصاب بالوسوسة. قال لي أحد الوسواسيين بأني أدخل في حوض الماء أو في النهر لأجل الاغتسال الواجب أو المستحب فأُدخل رأسي تحت الماء حتى أوصله إلى القعر، بل وأجعله يَدُق بقعر الحوض أو النهر مع ذلك لما أخرج من الماء وأنتهي من الغسل أشُك أيضاً وأقول هل غطّى الماء رأسي أم لا؟ ولا شك أن هذه حالة مرضية ابتدأت من الأمور الصغيرة إلى أن وصلت إلى هذه المرحلة المتفاقمة.

الاستعمار وجمعيّة أهل القرآن

أسّس المستعمرون قبل عشرين سنة، جمعية باسم (جمعية أهل القرآن)،

ص: 398


1- كلمة يونانية يقصد بها الاستدلال والقياس الباطل وتمويه الحقائق.

وذلك في إحدى البلاد الإسلامية، وكان أفراد هذه الجمعية يقولون: بأننا نعمل وفق القرآن كاملاً، ولهذا كانوا يُفسّرون القرآن وفق اجتهادهم وأهوائهم، فمثلاً كانوا يفسرون كلمة: {أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ} بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي، فيفهمون من {أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ}(1) أي: ادعوا وليس معناه أداء الصلاة اليوميه، لأن الصلاة في اللغة هي الدعاء، أمّا اصطلاحاً فهي العمل المخصوص الذي يشمل الركوع والسجود... وغيرهما من أفعال الصلاة، فهم يأخذون المعنى اللغوي للصلاة فقط، وكذلك في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِذِكْرِي}(2). فكانوا يقولون نذكر اللّه عزّ وجلّ، بدون الصلاة، وقوله: {ءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ}(3). أي: اعطوا للفقير بعض الدراهم، وليس معناه إتيان الزكاة الواجبة في بعض المحاصيل أو الأنعام وغيرها، التي بيّنها الشرع المقدّس، وبالنسبة ل- {حَجَّ الْبَيْتَ}(4): يفهمون من معنى الحج: القصد، فيقولون: حسبنا أن نحج بقلوبنا! وليس من الواجب أن نذهب إلى مكة المكرمة بأبداننا أيضاً.

وبالنسبة لقوله سبحانه وتعالى: {مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ...}(5). بأن لنا الحق بأن نتزوج تسع نساء إذ لم يقل سبحانه وتعالى كلمة (أو) بل قال (و) بقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ...}(6). والواو للجمع، إذن يحق لنا الزواج من تسع نساء، وهكذا، فقد أوّلوا وفسّروا الكثير من الأحكام

ص: 399


1- سورة البقرة، الآية: 43.
2- سورة طه، الآية: 14.
3- سورة البقرة، الآية: 43.
4- سورة البقرة، الآية: 158.
5- سورة النساء، الآية: 3.
6- سورة النساء، الآية: 3.

الدينية حسب ما تهواه أنفسهم، حتى أن أحد الحكام المدعين للإسلام وبدافع من الاستعمار وحقده على الإسلام والمسلمين، كان يقول: نحن لا نستطيع العمل بالقرآن، لأن القرآن ليس فيه حكم كل شيء، إلّا بالرجوع إلى الأحاديث لتفسيره. وبالرجوع إليها نصطدم بالتناقض فيها، فأحدها يقول: «خذوا نصف دينكم من فم هذه الحميراء»! ثم نجد آخر يقول: «النساء نواقص الحظوظ نواقص العقول نواقص الإيمان»، فبأيهما نعمل؟ ... ولا حل إلّا بترك الأحاديث، ولأن القرآن - حينئذ - يكون غير كاف، فلا محيص عن الالتزام بما يرد في الكتاب الأخضر، الذي هو خلاصة مطاليب وعقول اللجان الشعبية الجماهيرية!، وهذه الإفتراءات كانت تصدر عادة من الكفار والمستعمرين، لأجل نشر الفوضى، والاختلال في البلاد الإسلامية، لأجل أن يبتعد المسلمون عن الاسلام الصحيح، وبعدهم جاء بعض الحكام الجهّال، الذين يحكمون بعض بلاد الإسلام اليوم، وأخذوا يعملون كأداة طيّعة للمستعمرين في البلاد الإسلامية، وهذا هو أحد العوامل الرئيسية، التي أدّت إلى ابتعاد بعض المسلمين عن تعاليم الإسلام، والعمل بها، وجاءت القوانين اليهودية والمسيحية وغيرها من الاعتقادات المنحرفة إلى حياة المسلمين.

سؤالٌ وإجابة

السؤال الذي يطرح ويدور في فكر أغلب الناس:

هل الإسلام قادر على علاج مثل هذه السلبيات الموجودة في المجتمع الإسلامي؟ وكيف؟

وللجواب على هذا السؤال نتطرق أولاً إلى توضيح نقطة مهمة ثم ندخل في الجواب:

ص: 400

إنّ الاستعمار وأتباعه عند ما حاولوا زرع المفاهيم المضادة لتعاليم الإسلام أعطوا هذه المفاهيم صيغة إسلامية لكي تكون مقبولة في البداية عند المجتمعات الإسلامية، وشيئاً فشيئاً، أصبحت هذه التعاليم تحمل معنى ثانياً مغايراً للمعنى الحقيقي لها. مثلاً لو نأخذ إحدى التعاليم والأهداف التي أقرّها الإسلام مثل (الثورة)؛ الثورة على الظلم، والثورة على الباطل، والثورة على الذات وغيرها من المعاني لهذه الكلمة في الإسلام. فهذا الهدف الذي ركّز عليه الإسلام وحثّ المسلمين عليه، استغله الاستعمار وأتباعه فنجد بعض المغرضين والمستبدين والمتكبرين، الذين تسلطوا على رقاب المسلمين يصفون تحركاتهم وعمليات القرصنة التي يستعملونها للوصول إلى الحكم والسيطرة على رقاب المسلمين بالثورة. فتارة يسمونها ثورة تحررية، وتارة ثورة بيضاء، وثالثة: دينية، وهكذا. وذلك حسب أهوائهم ورغباتهم وغيروا كثيراً من المعاني والمصطلحات الإسلامية بهذه الطريقة، وأغلب المسلمين ساكتون على ذلك، ولم يحركوا ساكناً، بل بعضهم أشباه أموات، يعيشون حالة الاحتضار، وينتظرون ساعات موتهم لحظة بلحظة. فعلى المسلمين إذا أرادوا الخروج من هذا الوضع السيء الذي هم الآن فيه، أن يرجعوا إلى تعاليم دينهم الإسلامي، ويعملوا بها، ويقوموا بثورة حسب المنظور الإسلامي للكلمة لا المنظور الذي وضعه الاستعمار وأتباعه، ويبدأونها في أنفسهم، أي ثورة على الذات، وبعد ذلك يقومون بثورة تصحيحية على جميع العادات السيئة في مجتمعهم. وهذا كله يحصل بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. فالإسلام هو مجموعة قوانين ونظم تحفظ مراعاتها الشخص من السقوط في الهاوية، وتجعله سعيداً في الدنيا والآخرة، حيث قال تعالى في كتابه الكريم: {فَمَن يُرِدِ

ص: 401

اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ}(1).

وقال تعالى مخاطباً رسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}(2). الإخلال بهذه النظم والقوانين الإسلامية يجر الإنسان إلى الهاوية، فيصبح شقياً في الدنيا والآخرة، ونتيجة ذلك: الخسران المبين. حيث قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}(3).

إذن العلاج الشافي للمسلمين للخروج من وضعهم السيء الذي هم فيه الآن، هو التمسك بتعاليم الإسلام والعمل بها، وهذا العلاج ليس مقتصراً على المسلمين وحدهم، بل هو علاج لجميع المحرومين والمستضعفين في العالم، من مسلمين وغيرهم، لأنّ الإسلام جاء للبشرية جمعاء، والدين عند اللّه هو الإسلام، كما قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَٰمُ}(4). فعلى المسلمين إذا أرادوا أن يعيدوا مواقعهم التي كانوا قد احتلوها في صدر الإسلام ويصبحوا هم أسياد العالم، أن يقفوا بوجه الأعداء من مستعمرين وعملاء ومرتزقة، يداً واحدة، وأن يعملوا على معالجة جذور الفتنة والتفرقة، معالجة موضوعية جادة، ولا يتقاعسوا، وأن يتركوا مواضع القول والشعارات الفارغة، ويتوجهوا إلى ساحات العمل، كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام)، في الحث على اقتران القول والفعل: «زيادة الفعل على القول أحسن فضيلة، ونقص الفعل

ص: 402


1- سورة الأنعام، الآية: 125.
2- سورة النحل، الآية: 89.
3- سورة آل عمران، الآية: 85.
4- سورة آل عمران، الآية: 19.

عن القول أقبح رذيلة»(1).

وعلى المسلمين التوجه إلى اللّه تعالى بالدعاء، حيث قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}(2). وفي رواية عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «ألّا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم؟» قالوا: بلى. قال: «تدعون ربكم بالليل والنهار، فإن سلاح المؤمن الدعاء»(3). ولكن يجب أن يقترن الدعاء بالإخلاص والعمل. وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي، وقلب تقي، وفي المناجاة سبب النجاة، وبالإخلاص يكون الخلاص فإذا اشتد الفزع فإلى اللّه المفزع»(4).

«فإليك يا ربّي نصبْتُ وجهي، وإليك يا ربّ مَدَدْتُ يدي، فبعزّتك استجب لي دعائي، وبلّغني مُناي، ولا تَقطع من فضلك رجائي، واكفني شرّ الجنّ والإنس من أعدائي، يا سريع الرّضا، إغفر لمن لا يملك إلّا الدعاء، فإنّك فعّالٌ لما تشاء، يا من اسمه دواء، وذكره شفاء، وطاعته غنى، ارحم من رأس ماله الرجاء، وسلاحه البكاء يا سابغ النعم، يا دافع النقم، يا نور المستوحشين في الظلم، يا عالماً لا يعلّم، صلّ على محمّد وآل محمّد، وافعل بي ما أنت أهله، وصلّى اللّه علىرسوله والأئمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيراً»(5).

ص: 403


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 391.
2- سورة الفرقان، الآية: 77.
3- الكافي 2: 468.
4- الكافي 2: 468.
5- مصباح المتهجد 2: 850.

من هدي القرآن الحكيم

الأنظمة الجائرة وصفاتها

قال تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ}(1).

وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا۠}(3).

وقال جلّ وعلا: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَٰنِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَٰنِ هُمُ الْخَٰسِرُونَ}(4).

تحريف كلام اللّه

قال عزّ اسمه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَٰمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(5).

وقال جلّ شأنه: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}(6).

وقال عزّ من قائل: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ

ص: 404


1- سورة البقرة، الآية: 14.
2- سورة التوبة، الآية: 32.
3- سورة الأحزاب، الآية: 67.
4- سورة المجادلة، الآية: 19.
5- سورة البقرة، الآية: 75.
6- سورة النساء، الآية: 46.

وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ}(1).

الجهاد الأكبر

قال جلّ ثناؤه: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}(2).

وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ}(3).

وقال عزّ وجل: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}(4).

{وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(5).

الفكر الإسلامي هو الأصح

قال جلّ وعلا: {لَقَدْ جِئْنَٰكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَٰرِهُونَ}(6).

الإسلام والعلاج

قال عزّ اسمه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِ}(7).

وقال جلّ شأنه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(8).

ص: 405


1- سورة المائدة، الآية: 41.
2- سورة يوسف، الآية: 53.
3- سورة التحريم، الآية: 6.
4- سورة المائدة، الآية: 105.
5- سورة العنكبوت، الآية: 69.
6- سورة الزخرف، الآية: 78.
7- سورة الزمر، الآية: 22.
8- سورة الأعراف، الآية: 157.

وقال عزّ من قائل: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

الأنظمة الجائرة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنما أخاف على أمتي ثلاثاً شحاً مطاعاً وهوى متبعاً واماما ضالاً»(2).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «... ولكنني آسى(3)

أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال اللّه دُوَلاً(4) وعباده خولاً والصالحين حرباً والفاسقين حزباً...»(5).

وعن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال: «إذا كذب الولاة حبس المطر وإذا جار السلطان هانت الدولة...»(6).

تفسير القرآن بالرأي

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «أكثر ما أخاف على أمتي من بعدي رجل يناول القرآن يضعه على غير مواضعه»(7).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»(8).

ص: 406


1- سورة الأنفال، الآية: 24.
2- تحف العقول: 58.
3- آسى - مضارع أسيت عليه - كرضيت أي حزنت.
4- دُوَلاً - جمع دُولة - أي شيئاً يتداولونه بينهم.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 62 من كتاب له(عليه السلام) إلى أهل مصر مع مالك الأشتر(رحمه اللّه).
6- الأمالي للشيخ المفيد: 310.
7- بحار الأنوار 89: 112.
8- منية المريد: 369.

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): قال اللّه عزّ وجلّ: ما آمن بي من فسر برأيه كلامي»(1).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «... من فسر برأيه آية من كتاب اللّه فقد كفر»(2).

التحذير من الشبهات

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «يا كميل أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك»(5).

وعن روح اللّه عيسى(عليه السلام) قال: «الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فاتبعوه وأمر بيّن غيه فاجتنبوه. وأمر اختلف فيه فردوه إلى اللّه»(6).

القرآن خيرُ عِلاج

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأحزان وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة وفيه كمال دينكم»(7).

ص: 407


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 6.
2- تفسير العياشي 1: 18.
3- وسائل الشيعة 27: 173.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 283.
5- وسائل الشيعة 27: 173.
6- تحف العقول: 27.
7- تفسير العياشي 1: 5.

وقال الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام): «قيل لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إن أمتك ستفتتن، فسأل ما المخرج من ذلك؟ فقال: كتاب اللّه العزيز الذي لا يأتية الباطل من بين يديه ولا من خلفه(1).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «اللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(2).

ص: 408


1- تفسير العياشي 1: 6.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصيه له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم.

سبل النهوض بالمجتمع الإسلامي

في البدء

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: «كما أن العلم يهدي المرء وينجيه كذلك الجهل يضله ويرديه»(1).

حتى يتمكن المسلمون من مواجهة التيارات الفكرية الفاسدة التي باتت تهددهم ويخشى أن ينزلق في مهاويها الشباب المسلم عن جهل أو انحراف نتيجة الفراغ الفكري الذي تشغله هذه التيارات، لا بد من الالتفات إلى السبل الكفيلة بالقيام بهذه المواجهة وضمان حصانة الفرد المسلم ورسم معالم ارتقائه والتي يمكن تحديدها في الوسائل التالية:

الأولى: الإرشاد الفكري

من أبرز أسباب تأخرنا نحن المسلمين هو قلّة وجود المبلغين والعاملين الإعلاميين على نشر المبادئ الحقة للإسلام القائمة على فقه آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلومهم الإلهية، فلو أردنا أن نقارن بين بعض الأنشطة التي نقوم بها في سبيل خدمة الإسلام والإنسانية، وبين التي تقوم بها المذاهب والأديان الأخرى لوجدنا إن عملنا ونشاطنا يقل بكثير عنهم(2).

ص: 409


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 535.
2- مثلاً: إن في جامعة الأزهر في القاهرة ثمانين ألف طالب علم في حين لا نرى في أحد مراكز حوزاتنا العلمية غير عشرين ألفاً من الطلاب. أو يزيدون قليلاً. ولو ألقينا نظرة على الحجاز، لرأينا مائة وخمسين ألف طالب وهابي، مع أن عدد نفوس الحجاز والجزيرة العربية جميعاً لا يكاد يبلغ ربع نفوس بعض الدول الإسلامية. وإنّ للمسيحيين ثلاثة ملايين وستمائة ألف مبلّغ مجهّز بكل وسائل التبليغ لحديثة مستعداً للتبليغ والتنصير في أيّة نقطة من نقاط العالم.

فنحن إذا أردنا أن نوفر في المجتمع الإسلامي الرشد الفكري والوعي الإسلامي الحضاري، فإننا سنحتاج في ذلك إلى المبلغين والخطباء، وكل فرد منا ينبغي له أن يجعل أحد أبنائه تلميذاً من تلاميذ الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) ليصبح مبلغاً قديراً ومضحياً للإسلام ليواجه التيار الجارف من الأفكار الهدّامة.

الثانية: نشر الكتب

اشارة

من الطرق والوسائل الناجحة التي يتم بواسطتها نشر الوعي والثقافة في المجتمع هو نشر الكتب المذهبية والعقائدية ومع الأسف فإنّ المسلمين لم يستفيدوا من هذه الوسيلة كما ينبغي، فعليهم أن يغتنموا هذه الوسيلة الفعّالة وينشروا الكتب في كلّ فرصة ومجال كالمجالس الحسينية ومراسيم العزاء والاحتفالات والأعياد والمناسبات وغير ذلك.

مع القيام بترجمة هذه الكتب إلى مختلف اللغات وخاصة الكتب الاعتقادية والمذهبية التي تشكو مكتبات العالم من ندرتها أو انعدامها أحياناً.

فعن الهروي قال: سمعت الإمام الرضا(عليه السلام) يقول:

«رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا»، فقلت له: كيف يحيي أمركم؟ قال: «يتعلم علومنا ويعلمها للناس، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) «المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم تكون

ص: 410


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 307.

تلك الورقة يوم القيامة ستراً في ما بينه وبين النار...»(1).

ويقول اللّه تعالى في القرآن الكريم: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَٰلِحُونَ}(2).

يعني أن لفح النار ولهيبها يصيب أولئك الذين خفّت موازينهم وكانوا قوماً ضآلّين، أما الذين تنوّروا بالعلم والعمل وخلفوا علومهم للأمة فإنّها ستمنع النار عنهم.

إعلام الفاتيكان

حالياً للفاتيكان(3).

ألف وستمائة دار إذاعة تدعو للمسيحية على صعيد العالم ومن القضايا المسلّمة والبديهية أن من يعمل بجد ويجتهد أكثر يتقدم أكثر فأكثر والقرآن الكريم يقول: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ}(4).

لأنّ الدنيا دار امتحان، وعطاء اللّه واسع وشامل في الدنيا وكلّ من يعمل يتقدم مسلماً كان أم كافراً.

وعندما يلقي البابا خطاباً فإن له ستمائة مليون نسمة يستمعون إليه في كلّ أنحاء العالم عبر الأثير والأقمار الصناعية التي تزود القنوات الإعلامية.

وإذا لم يلتفت المسلمون إلى جسامة الخطر الإعلامي ولم يدركوا حجم المهمة الموكلة إليهم مقابل الإعلام والتبليغ المسيحي ولم يساهموا في إيجاد الرشد الفكري والوعي الإسلامي الصحيح في مجتمعهم فإنّ الأفكار المسيحية والغربية لبالمرصاد لكلّ أفراد المجتمع الإسلامي، وهذا ما حدث فعلاً:

ص: 411


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 37.
2- سورة المؤمنون، الآية: 104.
3- المدينة المذهبية للمسيحيين.
4- سورة الإسراء، الآية: 20.

حيث ترون أن ميشيل عفلق في العراق مسيحي وبعض الرؤساء في البلدانالإسلامية مسيحيون، وأن فلسطين تحت هيمنة اليهود والصهاينة، وأن أغلب الحكام في البلاد الإسلامية إنما قفزوا إلى كرسي الحكم بواسطة دعم الغربيين ووسائل إعلامهم وهكذا.

الثالثة: تنظيم أفراد المجتمع وتوجيههم وحثّهم على الإسلام

حالياً نتحسس جميعاً ميول بعض شبابنا المسلمين في ثقافتهم وسلوكلهم الحيوي إلى الغرب أو الشرق، بل ويقلدونهم أيضاً حذوا النعل بالنعل.

إنّ سبب ذلك الانفلات العقائدي الذي حصل لشبابنا وجعلهم يتنصلون من القوانين الإسلامية ثم يترامون في أحضان المادية الغربية والشرقية، إنما يكمن في أنّ الغرب والشرق عَرِفا من أين تؤكل الكتف وأدركا السبل التي تيسر لهما اقتناص الجيل الفعّال والمفعم بالنشاط والحيوية، ونحن عندما لم نتمكن أن نحتوي شبابنا عن طريق تشكيل سلسلة من الأحزاب والتنظيمات التي تحتضن الشباب الذي يبحث عن متنفس لبراكين التطلع والنشاط المنحصر في ذاته ونفسه التوّاقة للحركة والتقدم والعمل وعندما لم يجد شبابنا المغلوب على أمره، ذلك من قادة المسلمين ترامى في أحضان من يوفر له كلّ ذلك حتّى غرق في أوحالهم إلى هامته، ومادام المسلمون لم يلتفتوا إلى هذا الأمر ولم يعملوا بكل قواهم في مقابل النشاط التنظيمي الغربي والشرقي فسيبقى المسلمون في أحضان الثقافات الغربية والشرقية.

فعلى المسلمين أن يجدّوا ويجتهدوا في تشكيل الأحزاب الإسلامية الحرة لتستنقذ هؤلاء الشباب من نير الثقافة الشرقية والغربية.

لذلك فليعمد شبابنا المثقف إلى الحسينيات والمساجد التي تعتبر من أهم

ص: 412

المراكز التجمعية في الإسلام لينطلقوا منها في تشكيل الأحزاب الحرة الهادفةإلى إصلاح كلّ مرافئ الحياة التي أصابها فيروس الشرق والغرب.

نعم يجب إدخال التنظيم في كلّ مجالات الحياة وجوانبها حيث يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن(عليه السلام): «... في نظم أمركم»(1).

أعداؤنا منذ زمن بعيد استفادوا من وصية الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وطبقوها في شؤونهم بينما لم يطبقها المسلمون بل ولم يفكروا فيها باعتبارها إحدى سبل النجاة التي عيّنها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) مع أنّ الإمام(عليه السلام) كان مراراً يوصي المسلمين في الالتزام بقوانين الإسلام وعدم التفريط بها وعدم فسح المجال لغير المسلمين يسبقونهم إلى العمل بهذه القوانين السمحاء حيث قال: «اللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(2).

وتنظيم أمور المجتمع بكل ماله من أهمية يقتضي أن يكون المسلم دائماً على اطلاع بأحوال المسلمين لا تبتدرهم سيئة إلّا وسارع إلى معالجتها والقضاء عليها ولا تعترضهم عثرة إلّا وبادر إلى إزالتها وهكذا.

ومن باب المثال إذا افتقدت أحداً لعدة أيام في المجالس الحسينية والمحافل الإسلامية فعليك أن تسعى في تحصيل أخباره إذ لعلّه مريضٌ أو تمنعه مشكلة، فالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إذا لم يحضر أحد الصلاة لثلاثة أيام متوالية سأل عنه حتى يحصل على خبره الصحيح فإن كان مريضاً عاده وأن كانت له مشكلة حلّها له(3).

هذا مع أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن بالرجل العادي بل كان رئيساً لتسع دول مهمّة على خارطة اليوم فضلاً عن منصبه الإلهي العظيم، وهو مع كلّ مشاغله نجده

ص: 413


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنة اللّه.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصيه له(عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنة اللّه.
3- انظر بحار الأنوار 78: 214.

يلتفت إلى صغار مشاكل المسلمين ويبادر إلى حلّها بنفسه.

وينقل أنه توفي عالم كبير، فروي في المنام وسئل عن حاله بعد الموت فقال في أحسن الحال. حيث كان في روضة من رياض الجنة، فقيل له: هل ترغب في الرجوع إلى الدنيا؟ قال نعم! قيل له: لماذا؟ قال: لأجلس على دكة داري وأباشر حل مشاكل الناس بنفسي.

وقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «خير الناس من انتفع به الناس»(1).

والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يتجول بعد صلاة الظهر في أسواق الكوفة وازقّتها بالرغم من شدة حرارة الجو ولم يكن يذهب إلى الدار للاستراحة، فقيل له يا أمير المؤمنين لو كنت تذهب إلى الدار وتستريح من حرارة الشمس لماذا تبقى تتجول في الاسواق والأزقة؟ قال(عليه السلام): خرجت ابحث عمّن تكون له مشكلة وهو يستحيي أن يطرق بابي في هذا الوقت الحار(2).

الرابعة: تأسيس المؤسسات

اشارة

لكي نكون على تماس مباشر بحاجات المجتمع الإسلامي ومتطلباته لا بدّ من العمل بجد ونشاط لتأسيس المؤسسات المذهبية والخدماتية بشكل واسع من قبيل الحسينيات والمكتبات العامة والمستوصفات والمستشفيات والمدارس وصناديق قرض الحسنة وهيئات الإعانة وما أشبه ذلك، ممّا له علاقة ماسّة ومباشرة بحياة المسلمين، أنتم ترون كيف ينبري خصوم الإسلام لذلك ألّا ترون أنّ المسيحيين يؤسسون مئات الكنائس سنوياً في كافة أرجاء العالم، بينما المسلمون يتعللون بعلل واهية ويقولون نحن لسنا بحاجة إلى بناء مسجد في

ص: 414


1- من لا يحضره الفقيه 4: 396.
2- انظر الإختصاص: 157.

هذه المحلة أو تلك!

نحن بأمس الحاجة لأن نكون على اتصال مباشر ودائم بمجتمعنا عبر هذه القنوات فإذا لم تنتشر وتتوسع المؤسسات الإسلامية في العالم سيكون نتيجه ذلك أن يستولي المسيحيون واليهود على زمام الحياة في كلّ العالم حتى في بلادنا الإسلامية لأنهم يعملون باستمرار وبجهود مكثفة ولا يعرفون التعب أو الملل ولا يقعدهم عن ذلك الموانع والصعوبات بينما نجد أنّ بعض المسلمين قاعدون متكاسلون.

ثمرة المؤسسات

لتأسيس المؤسسات الإسلامية فوائد كثيرة لا تخفى على أحد وقد عبّرت الروايات عنها بالصدقة الجارية، لأن هذه الدنيا لها بوابتان بوابة الدخول إليها وهي رحم الأم وبوابة الخروج منها وهي القبر، حيث يطوي الموت حياة الإنسان ويصبح عندها في طي النسيان في الدنيا ولكن هذه المؤسسات الإسلامية والخيرية هي التي تجعله حياً يتداول ذكره وفكره القريب والبعيد ويتوالى عليه الثواب باستمرار ودون انقطاع.

ويحدثنا التاريخ الإسلامي أنه بعدما جاء الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة آنذاك لم يقل أبداً أنّ المساجد كثيرة ولا حاجة إلى الزيادة بل كان الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يشوّق المسلمين ويحثهم على تأسيس المساجد حتى لو كانت صغيرة جداً.

إدارة المؤسسات بالشورى

وبعد تأسيس هذه المؤسسات المهمة يجب إسناد إدارتها إلى أفراد متدينين مثقفين تجمعهم شورى ناجحة كما دعى إليها الإسلام وأبرزها القرآن الكريم في عدة آيات حول الشورى:

ص: 415

قوله سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(1).

وقوله تعالى: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُم}(2).

وقوله عزّ وجلّ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(3).

وقوله جلّ وعلا: {عَن تَرَاضٖ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٖ}(4).

إذا طبقت الشورى في كلّ الأمور بدءاً من شورى الفقهاء وانتهاءً بالشورى في إدارة الحسينيات وما أشبه، فلن يبقى هناك مجال للاختلاف وحالياً تعتبر الشورى هي أحد الأسباب الرئيسيّه للتقدم الذي أحرزه الغرب في بعض الميادين في العالم، وافتقاد الشورى عند المسلمين هو من أسباب التأخر والتخلف الذي وقع فيه المسلمون وعلى أثر ذلك برزت في ما بينهم الاختلافات والتناحرات الكثيرة.

التأكيد البالغ على الشورى

اللّه تعالى يوصي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالشورى والعمل بها بالرغم من أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان على اتصال دائم بالوحي وكان عندما ينظر إلى السماء يرى جميع الملائكة وكان مورداً لعناية اللّه تعالى وتسديده فلا يبدر منه رأي سقيم أبداً ولكنه مع ذلك يأمره اللّه تعالى بالاستشارة ويقول عليك أن تستشير في أمورك. فالمسلم الذي يعتبر من أتباع النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليه أن يتأسى بالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويأخذ منه الدروس والعبر ويستفيد منها في كلّ أعماله وأموره فيعمل بالشورى في أعماله ويستشير في أموره.

ص: 416


1- سورة الشورى، الآية: 38.
2- سورة الطلاق، الآية: 6.
3- سورة آل عمران، الآية: 159.
4- سورة البقرة، الآية: 233.

ويمكننا أن نلحظ اهتمام النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالشورى:

في حرب الخندق عندما اتّحد الكفار ضد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحركوا متجهين صوب المدينة المنورة للقضاء على المسلمين قاطبة، جمع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جميع المسلمين في المسجد وأخبرهم بعزم الكفار وطلب منهم أن يجدوا حلّاً لهذه المشكلة - مع أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) غنيٌّ عنهم وهو أعرف بطرق الحل من غيره لأنه مرتبط بالوحي - فكلٌّ قال رأيه ثم قام سلمان الفارسي وقال: يا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نحن في بلاد فارس إذا داهمنا العدو وأراد بنا سوءاً حفرنا حول المدينة خندقاً نمنعه من الوصول إلينا أو الكرّ علينا، والرأي أن نحفر خندقاً حول المدينة، فاستحسن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمون رأي سلمان وعملوا به(1).

نعم يجب العمل بالشورى في مرافئ الحياة وجوانبها وفي كلّ الأمور حتى نصل إلى الهدف بشكل أسرع وبنتيجة أفضل.

الخامسة: علو الهمّة

اشارة

امتاز المسلمون منذ القدم بعلو الهمّة في كلّ الجوانب فكانوا يسافرون إلى كلّ البقاع ويتجشمون المصاعب من أجل هداية الناس ولكنهم - وللأسف - في العصور المتأخرة أصيبوا بوهن في عزائمهم وضعف في إرادتهم وفتور في هممهم وبالأخص بعض الخطباء والمبلغين حيث نراهم مكتفين في هداية الناس في مدنهم ومواطنهم الخاصة والحال أنّ القرآن الحكيم يناديهم ويقول: {فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ}(2).

والآن إذا لم يصل نداء الإسلام إلى البلدان النائية فالتقصير في ذلك يترتب

ص: 417


1- انظر الإرشاد 1: 96.
2- سورة النحل، الآية: 36.

على المسلمين لا غيرهم.

كيف وصل الاسلام إلى الصين؟

في القرون السابقة سافر عدد من التجار المسلمين إلى بلاد الصين لغرض التجارة فحدث في إحدى السنين أن أصاب بلاد الصين قحط مدقع حتى كان الناس هناك يبيعون أطفالهم في مقابل المال أو الغذاء بسبب ما يعانون من الفقر والقحط والجوع.

التجار المسلمون عندما رأوا هذا الوضع المزري في الصين انتهزوا الفرصة واشتروا الكثير من الأطفال وجمعوهم في دار كبيرة وبدأوا بتعليمهم التعاليم الإسلامية والأمور الدينية وبعد سنين عديدة أصبح هؤلاء الأطفال شباباً متسلحين بالثقافة الإسلامية حيث تربوا وشبوا منذ نعومة أظفارهم على تعاليم دين الإسلام حتى اختلط هذا الدين الحنيف في كلّ ذرة من وجودهم وبعد ذلك قام هؤلاء التجار ببثهم في المجتمع فعاد كلّ فرد إلى عائلته ومنطقته وقاموا بنشر مبادئ الدين الإسلامي في الصين، فمنذ ذلك الحين أخذ الإسلام ينتشر وينتشر في الصين.

هذا العمل الذي قام به هؤلاء التجار المسلمون إنما يدل على الهمة العالية التي كانوا يمتازون بها هم وباقي المسلمين.

والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يشير إلى أثر علو الهمّة في تجاوز الصعاب فيقول: «المرء بهمته»(1).

ويقول(عليه السلام): «الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية»(2).

ص: 418


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 26.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 110.

إذن علينا أن نهيّء أنفسنا ونخطط لنشر الإسلام وقوانينه السمحاء في كلّ أرجاء المعمورة حتى يتنعم جميع أفراد البشر تحت ظلّ الإسلام في جو مفعم بالاطمينان والاستقرار والسلام، دون كلل أو تردد وبكل همّة وتوكل وعندها سيكون اللّه تعالى معنا ويذلل لنا كلّ الصعاب والعقبات فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1).

فعلى كلّ مسلم أن يجعل أول قائمة أعماله نشر الإسلام في أي مكان حلّ حتى لو سافر إلى دولة من دول العالم لأجل التجارة والكسب فعليه أن يجعل هدفه نشر الإسلام إلى جوار هدفه التجاري.

السادسة: التقوى والأخلاق

اشارة

لقد افتقدت الأخلاق الفاضلة والتقوى من بين أكثر المسلمين في الآونة الأخيرة وهذا الخلل الكبير يوجب العمل بإصرار لإعادة المسلمين إلى أخلاقهم الإسلامية التي تتجلى بأبهى صورها في شخصية الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

بدر أول حرب في الإسلام

عندما اشتد إيذاء مشركي قريش للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه وأخرجوهم من مكة هاجر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأصحابه إلى المدينة المنورة (يثرب).

وبعد فترة من الزمان اجتمع الكفار في منطقة بدر قرب المدينة بعد أن استعدوا للحرب وهيئوا لوازمها وخرج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من المدينة بأصحابه. إلى بدر لمقابلتهم، وعندما وصل(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر أصحابه بحفر حوض لجعل الماء فيه حتى يستفيدوا منه عند الحاجة إذ لو قامت الحرب بينهم وبين الكفار عند ذلك لم تكفهم الفرصة لسحب الماء من البئر فيشربوا أو يسقوا دوابهم من هذا الحوض،

ص: 419


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.

وفي أثناء الالتحام أخبر المسلمون النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن الكفار لا ماء عندهم وهم يطلبون من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يأذن لهم بالماء.

فأذن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)(1) بسقايتهم انطلاقاً من أخلاقه الرفيعة ورحمته الشاملة حيث قال اللّه تعالى عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(2). مع أنّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعلم أنه إذا لم يصل الماء معسكر الكفار فسيستسلمون له ولكنه أبى أن ترفع راية «لا إله إلّا اللّه» إلّا عبر أشرف وسيلة وإنه أراد بذلك أن يظهر للكفار بأن الإسلام هو الدين السمح غير الدموي وليس هو بالذي يمنع الماء حتى عن ألد أعداء اللّه وكان(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول نحن نحارب لأجل رفع راية «لا إله إلّا اللّه» ونشر أحكام الإسلام لا غير، أما منع الماء عن الكفار فليس من الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام.

إذن فمسؤولية المسلمين هي نشر أخلاقيات النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على صعيد العالم الإسلامي وغير الإسلامي ولا يتم ذلك إلّا أن تكون تلك المعاني والقيم الخلقية الرفيعة متجسدة في شخصية الفرد المسلم وتصرفاته فعندما يلمس الكفار ذلك سيدخلون في الإسلام أفواجاً أفواجاً.

ومما يذكر في أحوال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) انه عندما حضرته الوفاة قال:

ألّا من كان له عليَّ دين فليقم؟ فقام أحد المسلمين وقال: يا رسول اللّه إن لي عليك ثلاثة دراهم، فتوجه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) للفضل بن العباس وقال: أعطه ثلاثة دراهم(3).

فبهذه الأخلاق العالية التي امتاز بها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استطاع(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن ينشر الإسلام

ص: 420


1- انظر المغازي 1: 61.
2- سورة الأنبياء، الآية: 107.
3- انظر مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 1: 235.

في تلك الفترة الوجيزة مع تلك الصعاب والعقبات التي كان الجاهليون يضعونها في طريقه واستطاع أن يصنع من المجتمع الجاهلي خلال ثلاث وعشرين سنة مجتمعاً تحكمة الفضائل الأخلاقية والسلوكيات الإسلامية العالية بحيث استمرت إلى اليوم وستبقى إلى يوم القيامة، فإذا استطاع المسلمون تطبيق نفس أسلوب النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كلّ شيء فسيغزون عالم الكفر والضلال ويضيؤونه بنور الإسلام وقوانينه السمحاء إن شاء اللّه تعالى.

«اللّهمّ إني أسألك... نور الأنبياء وصدقهم ونجاة المجاهدين وثوابهم... وعمل الذاكرين ويقينهم وإيمان العلماء وفقههم وتعبد الخاشعين وتواضعهم وحكم الفقهاء وسيرتهم... وتصديق المؤمنين وتوكلهم...»(1).

من هدي القرآن الحكيم

الإرشاد الفكري

قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}(2).

وقال سبحانه: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(3).

وقال جلّ شأنه: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلَا بَلِيغًا}(4).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(5).

ص: 421


1- الكافي 2: 593.
2- سورة الأحزاب، الآية: 39.
3- سورة النور، الآية: 54.
4- سورة النساء، الآية: 63.
5- سورة الأحزاب، الآية: 45-46.

وقال جلّ وعلا: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(1).

وقال عزّ اسمه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(2).

الكتب

قال جلّ شأنه: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}(3).

وقال عزّ من قائل: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ}(4).

وقال جلّ ثناؤه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(5).

وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(6).

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منبع التقوى وحسن الخلق

قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(8).

من هدي السنّة المطهّرة

الإرشاد الفكري

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «خير ما ورث الآباء الأبناء الأدب»(9).

ص: 422


1- سورة البقرة، الآية: 219.
2- سورة الحشر، الآية: 21.
3- سورة القلم، الآية: 1.
4- سورة البقرة، الآية: 213.
5- سورة الشورى، الآية: 38.
6- سورة آل عمران، الآية: 159.
7- سورة آل عمران، الآية: 159.
8- سورة القلم، الآية: 4.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 359.

وعن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال لمعاذ لمّا بعثه إلى اليمن: «يا معاذ علمهم كتاب اللّهوأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة»(1).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): «آداب العلماء زيادة في العقل»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين ووزير سبع سنين فإن رضيت خلائقه لإحدى وعشرين سنة، وإلّا فاضرب على جنبه فقد أعذرت إلى اللّه تعالى» (3).

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رسل اللّه سبحانه تراجمة الحق والسفراء بين الخالق والخلق»(4).

الكتب

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «الكتب بساتين العلماء»(5).

وعن مفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): «أكتب وبث علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كتبك بنيك فإنّه يأتي على الناس زمان هرج ما يأنسون فيه إلّا بكتبهم»(6).

وعن الصادق(عليه السلام) أنه قال: «منّ اللّه عزّ وجلّ على الناس برّهم وفاجرهم بالكتاب والحساب ولولا ذلك لتغالطوا»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا كتبت كتاباً فأعد فيه النظر قبل ختمه فانّما تختم

ص: 423


1- تحف العقول: 25.
2- الكافي 1: 20.
3- مكارم الأخلاق: 222.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 389.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 54.
6- الكافي 1: 52.
7- الكافي 5: 155.

على عقلك»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قيدوا العلم» قيل وما تقييده؟ قال: «كتابته»(2).

وعن الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام) أنه دعا بنيه وبني أخيه فقال: «إنكم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين فتعلّموا العلم فمن يستطيع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته»(3).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم تكون تلك الورقة يوم القيامة ستراً في ما بينه وبين النار وأعطاه اللّه تبارك وتعالى بكلّ حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرّات»(4).

الهمّة

عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «خير الهمم أعلاها»(5).

وعن الإمام السجاد(عليه السلام): في مناجاته: «واجعلنا من الذين أسرعت أرواحهم في العلى وخططت هممهم في عزّ الورى فلم تزل قلوبهم والهة طائرة حتى أناخوا في رياض النعيم»(6).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما رَفَعَ امرءاً كهمته...»(7).

وقال الإمام السجاد(عليه السلام): في الدعاء الشريف: «أسألك من الشهادة أقسطها

ص: 424


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 294.
2- منية المريد: 267.
3- منية المريد: 340.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 37.
5- عيون الحكم والمواعظ: 237.
6- بحار الأنوار 91: 126.
7- عيون الحكم والمواعظ: 484.

ومن العبادة أنشطها.. ومن الهمم أعلاها»(1).

التقوى وحسن الخلق

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أكثر ما تلج به أمتي الجنّة تقوى اللّه وحُسن الخلق»(3).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «هلك رجل على عهد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأتى الحفارين فإذا بهم لم يحفروا شيئاً وشكوا ذلك إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول اللّه ما يعمل حديدنا في الأرض فكأنما نضرب به في الصفا، فقال: ولم؟ إن كان صاحبكم لحسن الخلق ائتوني بقدح من ماء فأتوه به فأدخل يده فيه ثم رشه على الأرض رشاً ثم قال احفروا، قال: فحفر الحفّارون فكأنما كان رملاً يتهايل عليهم»(4).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل اللّه يغدو عليه ويروح»(5).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «بينما رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم فأخذت بطرف ثوبه فقام لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم تقل شيئاً ولم يقل لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً حتى فعلت ذلك ثلاث مرات: فقام لها

ص: 425


1- بحار الأنوار 91: 155.
2- الكافي 2: 99.
3- الكافي 2: 100.
4- الكافي 2: 101.
5- الكافي 2: 101.

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الرابعة وهي خلفه فأخذت هُدبة(1)

من ثوبه ثم رجعت. فقال لها الناس: فعل اللّه بك وفعل، حبست رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثلاث مرات لا تقولين له شيئاً ولا هو يقول لك شيئاً، ما كانت حاجتك إليه؟ قالت: إنّ لنا مريضاً فأرسلني أهلي لآخذ هُدبة من ثوبه ليستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني وأكره أن أستأمره في أخذها فأخذتها»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم»(3).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه»(4).

ص: 426


1- هُدب الثوب وهُداب الثوب: ما على أطرافه.
2- الكافي 2: 102.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 394.
4- جامع الأخبار: 107.

أقرب الطرق إلى النصر

نصرٌ من اللّه وفتحٌ قريب

قال اللّه تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا}(1).

السورة الكريمة نزلت على النبيّ الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل فتح مكَّة، وهي بمثابة بشارةٍ من اللّه تعالى لرسوله الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنصر على أعدائه من كفار قريش(2).

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن هذا النصر وما سبقه في يوم بدر أو الذي تلاه من فتوحات إسلاميّة على يد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وانتشار الإسلام على رقعة جغرافية واسعة، لا بدّ له من مقدمات. ولم يكن هذا النصر بقوة السلاح أو بسبب العدّة والعدد فقط، وإنّما كانت هناك أساليب ناجحة أخرى - فضلاً عن الوحي - يتّبعها الرَّسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مواجهة الذين يقفون أمام تقدم الإسلام والمسلمين. فالرَّسولُ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعدّ نفسه وأصحابه لمواجهة المكائد ومعالجة أسبابها كما يطلب من أصحابه أن يكونوا يقظين ومستعدّين لتطوّرات الأحداث أيضاً.

قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا}(3).

ص: 427


1- سورة النصر، الآية: 1-3.
2- انظر تفسير مجمع البيان 10: 466.
3- سورة النساء، الآية: 71.

وفي التفسير: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ}: أي تيقّظوا واستعدوا للأعداء(1). حتى لا يقال: إنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالوحي وحده تمكّن من الانتصار، ونحنُ لا نتمكن من أنْ نَقِفَ اليوم بوجه الأعداء سواء كانوا عملاء كصدّام أو الاستعمار المحرّك لهؤلاء العملاء؛ لأنّنا غير مدعومين بالوحي، وإنّما هناك أساليب ومقدمات علينا أن نسلكها كما سلكها الرَّسوال الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه لتكون منهاجاً لنا في مواجهة الذين يقفون أمام تقدم الإسلام والمسلمين.

أمّا المقدمات اللازمة لتحقيق الانتصار فهي كثيرة ولكننا سنشير إلى بعضها وهي:

أولاً: الطاعة.

ثانياً: الصبر والإيمان.

ثالثاً: التخطيط الصحيح.

رابعاً: الوحدة.

خامساً: العمل الجاد.

أولاً: الطاعة

الطاعة من الأمور المهمّة لتحقيق النصر، سواء تحقّق في ساحات القتال بالغلبة على الأعداء أو تحقّق بالحجة على الكافرين أو المغرضين وذلك بالأدلة والبراهين الحقة التي نصبها اللّه تعالى في طريق الحق. قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(2).{إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ

ص: 428


1- بحار الأنوار 19: 142.
2- سورة الأحزاب، الآية: 71.

فَمَنذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(1).

والآية تتضمّن الترغيب في طاعة اللّه التي يستحق بها الإنسان النصرة، والتحذير من معصية اللّه التي يستحق بها الإنسانُ الخذلان، مع ايجاب التوكل عليه الذي يؤمن معه أن يكلهم إلى أنفسهم فيهلكوا(2).

وعلى هذا يكون التوكّل على اللّه وطاعته أولاً وبالذات، وطاعة رسله وأوليائه ثانياً وبالتبع، هو من السبل الكفيلة بتحقيق النصر، وإنْ عملنا بهذا الميزان ولم نَر نتيجة النصر في الدّنيا فإنّ الفوز سوف يكون في الآخرة وهذا هو النصر الحقيقي وقد ضمنه اللّه تعالى لمن يطيعه ويتوكل عليه.

وبالإضافة إلى طاعة اللّه تعالى فإنّ طاعة الرسول والإمام المعصوم (عليهما أفضل الصلاة والسلام) وثم من بعدهم الفقهاء المراجع هي أيضاً من العوامل التي تؤدي إلى نصر المؤمنين، ومخالفتهم تؤدي إلى الخذلان والخسارة، ويظهر هذا جلياً بمراجعة تفاصيل معركة أحد عندما خالف بعض المسلمين أوامر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونزلوا من على الجبل للحصول على الغنائم فأدى هذا العمل - مخالفة أوامر الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) - إلى تراجع جيش المسلمين بعدما كان منتصراً وبسبب ذلك فقد المسلمون العديد من أفرادهم وجُرِحَ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقُتِل حمزة (رضوان اللّه تعالى عليه) عمّ النبيّ(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ثم إن الآثار التي تترتب على مبدأ الطاعة لا تختص بالمسلمين فحسب، بل إنّك لو راجعت أحوال الأمم السابقة والحالية لرأيت إنّ الأمر يتشابه نسبياً، فإنّالأمة التي تطيع قائدها الناجح وتتبع أوامره الصحيحة فهي تتحكم أحياناً بعوامل

ص: 429


1- سورة آل عمران، الآية: 160.
2- انظر تفسير مجمع البيان 2: 430.

النصر، بعكس الأمة التي تطيع رئيساً متهوراً طاعة عمياء.

وهناك أحاديث عديدة تدلُّ بصورة ضمنية على ضرورة الطاعة للعالم والسلطان العادل.

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «إعلموا أنّ صحبة العالم واتّباعه دين يدان اللّه به، وطاعته مكسبةٌ للحسنات ممحاة للسيئات وذخيرة للمؤمنين ورفعة فيهم في حياتهم وجميل بعد مماتهم»(1).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طاعة السلطان - أي صاحب السلطة العادل - واجبة، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة اللّه عزّ وجلّ...»(2).

وقال الإمام الكاظم(عليه السلام): «إنّ السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم، فأحِبُّوا له ما تحبون لأنفسكم، واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم»(3).

ثانياً: الصبر

اشارة

من السبل الكفيلة بتحقيق نصر اللّه تعالى أيضاً، الصبر والتحمل في ميادين الحياة، ولقد حثّت الآيات الكريمة والروايات الشريفة على الصبر والتحمل في سبيل هداية الناس ونشر التعاليم الإسلامية والمعرفة والتقدم والغلبة على أعداء اللّه تعالى، حيث قال اللّه تعالى: {كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(4).

وفي مجال الغلبة لا يخفى على الجميع أول معركة للمسلمين وهي معركةبدر وكان المسلمون بما فيهم الأنصار والمهاجرون لا يتجاوزون الثلاثمائة

ص: 430


1- الكافي 1: 188.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 338.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 338.
4- سورة البقرة، الآية: 249.

وثلاثة عشر رجلاً، أمّا المشركون فكانوا أكثر من ألف رجل. وهكذا في مواطن عديدة للمسلمين بأعدادهم القليلة وهم ضعفاء من حيث العدّة والتجهيز أيضاً ولكنهم استحقوا نصر اللّه تعالى كما جاء في قوله تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٖ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىٰ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}(1).

فالصبر هو أحد العوامل المهمة في تحقيق نصر المسلمين سواء في ميادين الجهاد أو العمل أو غيره وذلك بالإمداد الإلهي، أو تقوية القلوب ورباطة جأشها، أو بإدخال الرعب في قلوب الأعداء؛ لأنّ الدنيا كما بيّنا في البحوث السابقة خاضعة لقانون الأسباب والمسببات فلا بد للنصر من سبب وهذا السبب يتحقق إذا توفرت مقدماته.

وقد جاء أيضاً في قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ}(2). أي: أنّ كل مسلم صابر بإمكانه أن يواجه عشرة من الكفار.

ذكر بعض المؤرخين أنّ عدد المسلمين - في حرب الروم - كان أقل من الروم بأضعاف كبيرة ومع هذا التفاوت الكبير في العدد استطاع المسلمون أن ينتصروا على هذا الجيش الكبير لتمسكهم بعوامل النصر الإلهي واتباع مقدماته منالطاعة والصبر والتقوى والإيمان، وعزمهم الراسخ وتصميمهم الذي لا يتزلزل

ص: 431


1- سورة آل عمران، الآية: 123-126.
2- سورة الأنفال، الآية: 65.

فكان كل واحد منهم في مقابل أكثر من مقاتل مدرّب من الروم. عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «أيها الناس عليكم بالصبر فإنّه لا دين لمن لا صبر له»(1).

الإيمان

ولا بدّ من توفُّر عامل الإيمان مع الصبر، وقد أدمجنا هذا العامل مع الصبر في مقدمةٍ واحدة للترابط القوي في ما بينهما ولقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان»(2).

وفي قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(3). ومعناه كما جاء في بعض التفاسير: ودفعنا السوء والعذاب عن المؤمنين، وكان واجباً علينا نصرهم باعلاء الحجة ودفع الأعداء عنهم. إلّا أنّه دلّ على المحذوف قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وجاءت الرواية عن أُمّ الدرداء إنها قالت: سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلّا كان حقاً على اللّه أن يَرُدَّ عنه نار جهنم يوم القيامة ثم قرأ {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}»(4).

ثالثاً: التخطيط الصحيح

اشارة

التخطيط الصحيح من الأمور المهمّة التي تدخل في تحقيق النصر سواء في ساحة المعركة أو في المناورات الكلامية وغيرها من المجالات التي تحتاج إلىإثبات وإظهار للحق.

ص: 432


1- جامع الأخبار: 116.
2- الكافي 2: 87.
3- سورة الروم، الآية: 47.
4- تفسير مجمع البيان 8: 69.

وقد اتبع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كل معركة أو غزوة خطط محكمة تحقق بواسطتها النصر المبين للمسلمين وكان يستشير أصحابه في خططه العسكرية منها وغير العسكريه لما للمشهور من أثر كبير في توحيد الصفوف وإيجاد التلاحم ونشر الإسلام وتعاليمه، والذي يتابع الغزوات وتفاصيلها يجد هذا المعنى واضحاً، ومن الشواهد على ذلك غزوة السلاسل التي تبيّن مدى أهمية التخطيط لتحقيق النصر. فالآيات الكريمة من سورة العاديات تدل على ذلك بقوله تعالى:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

{وَالْعَٰدِيَٰتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَٰتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَٰتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}(1).

غزوة ذات السلاسل

بالرغم من وجود بعض الاختلاف في نقل أحداث هذه الغزوة بين المفسّرين والمؤرخين إلّا أنّ الأكثر نقلوها بهذا الشكل:

روي أنّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما بعث سريّة ذات السلاسل عقد الراية وسار بها أبو بكر حتى إذا صار بها بقرب المشركين اتّصل بهم خبرهم فتحرَّزوا، ولم يصل المسلمون إليهم، فأخذها عمر وخرج مع السريّة فاتّصل بهم خبرهم فتحرّزوا ولم يصل المسلمون إليهم، فأخذ الراية عمرو بن العاص فخرج مع السريّة وانهزموا أيضاً، فعقد الراية لعليّ وضمهم ومن كان في تلك السريّة. وكان المشركون قد أقاموا رقباء على جبالهم ينظرون إلى كلّ عسكر يخرج إليهم منالمدينة على الجادّة فيأخذون حذرهم واستعدادهم، فلمّا خرج عليّ(عليه السلام) ترك

ص: 433


1- سورة العاديات، الآية: 1-5.

الجادّة وأخذ بالسريّة في الأودية بين الجبال فلمّا رأى عمرو بن العاص قد فعل عليٌّ ذلك علم أنّه سيظفر بهم، فحسده فقال لأبي بكر وعمر ووجوه السريّة:

إنّ عليّاً رجل غرّ(1) لا خبرة له بهذه المسالك، ونحن أعرف بها منه، وهذا الطريق الذي توجّه فيه كثير السباع، وسيلقى الناس من معرّتها أشد ما يحاذرونه من العدوّ، فسألوه أن يرجع عنه إلى الجادّة، فعرّفوا أمير المؤمنين(عليه السلام) ذلك، قال:

«من كان طائعاً للّه ولرسوله منكم فليتبعني، ومن أراد الخلاف على اللّه ورسوله فلينصرف عنّي»، فسكتوا وساروا معه فكان يسير بهم بين الجبال باللّيل ويكمن في الأودية بالنهار وصارت السباع التي فيها كالسنانير(2) إلى أن كبس المشركين وهم غارّون(3) آمنون وقت الصبح، فظفر بالرجال والذراري والأموال فحاز ذلك كلّه، وشدّ الرجال في الحبال كالسلاسل فلذلك سميت غزاة ذات السلاسل، فلمّا كانت الصبيحة التي أغار فيها أمير المؤمنين(عليه السلام) على العدوّ - ومن المدينة إلى هناك خمس مراحل - خرج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصلّى بالناس الفجر، وقرأ: (والعاديات) في الركعة الاولى، وقال: «هذه سورة أنزلها اللّه عليّ في هذا الوقت يخبرني فيها بإغارة عليّ على العدوّ...» (4).

شاهد آخر

يحدثنا التاريخ عن نعيم بن مسعود وقد أسلم حديثاً بعد ما كان يهودياً: إنه جاء إلى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) متخفياً في حرب الأحزاب - الخندق - وقال: يا رسول اللّهمرني بشيء أفعله في سبيل اللّه، فقال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): عليك بإيجاد

ص: 434


1- أي: شاب لا خبرة له بالحرب أو بغيره.
2- السنانير= جمع السنور - : وهو الهر.
3- غارّون: أي غافلون.
4- الخرائج والجرائح 1: 167.

الضعف والهزيمة في صفوف الأعداء، فبادر نعيم بخطة ناجحة لإيجاد الفرقة بين يهود بني قريضة وقريش وغطفان، فذهب إلى يهود بني قريظة وقال لهم: أنتم تعلمون مدى حبّي وإخلاصي لكم وإني لا أريد لكم إلّا الخير، قالوا: نعم.

قال: إنّ قريشاً وغطفان ليسوا على ما أنتم عليه حيث إنّ المدينة مدينتكم وفيها أموالكم ونساؤكم وأطفالكم أمّا قريش وغطفان فإنهم جاءوا إلى الحرب فإن هم انتصروا على المسلمين فلا يبعد أن يغيروا على المدينة ويحدث الذي يحدث وإن هم هُزموا في مقابل المسلمين فسيرجعون إلى ديارهم وبلادهم وستبقون أنتم وحيدين في المدينة لا قدرة لكم على مقابلة المسلمين المنتصرين لذلك لا تمدوا أيديكم إلى السلاح أبداً حتى تأخذوا العهود والمواثيق من قريش وغطفان وتأخذوا منهم جمعاً من أشرافهم رهائن كي لا يقصروا في الحرب ولا يخذلونكم بعدها، فأستحسن بنو قريضة هذا الاقتراح، ثم خرج نعيم متخفياً وذهب إلى قريش فقال لأبي سفيان وأشراف قريش: إني لكم صديق وناصح أمين وأريد أن أعينكم في أمر بشرط أن تحفظوا سرّي ولا تنقلوا عني شيئاً أو تذكروا اسمي لأحد، قالوا لك ذلك واطمئن.

فقال: أتعلمون أنّ يهود بني قريظة قد انصرفوا عن حرب محمد بن عبد اللّه وبعثوا رسولاً إليه ليخبره بذلك ويعلمه أنهم عازمون على أخذ بعض أشراف قريش وغطفان رهينة منهم ويسلِّموهم إليه وهم مكتوفوا الأيدي والأرجل ليضرب أعناقهم؟ وقد قبل محمد بن عبد اللّه اقتراحهم وأعطاهم الأمان، فإذا طلب بنو قريظة منكم رهائن فلا تعطوهم. فشكر أشراف قريش نعيماً ثم خرج من عندهم وذهب متخفياً إلى غطفان وقال لهم: تعلمون بأني منكم وعندي لكمكلام لا أريد أن يبلغ غيركم فاسمعوا لي ولا تنقلوه إلى غيركم ثم أخبرهم بندم يهود بني قريظة و...

ص: 435

وفي ليلة السبت بعث أبو سفيان رسالة إلى أشراف غطفان وبني قريظة يبلغهم فيها بأنّ حيوانات قريش معرضة للتلف - في ما لو تأخرت الحرب نتيجة البرد الشديد - ويطلب منهم أن يبدأوا الحرب ضد المسلمين غداً في الصباح الباكر، فردّ اليهود: بأنّنا في يوم السبت لا نقوم بأي عمل، ثم لو دارت رحى الحرب ودارت عليكم الدائرة فستفرون إلى دياركم وسنبقى نحن وحيدين لا طاقة لنا على مقابلة محمد بن عبد اللّه لذا فنحن نريد أن تجعلوا بعض أشرافكم عندنا رهائن حتى نطمئن أنكم لن تتركونا لوحدنا وتعودوا إلى دياركم.

فتيقنت قريش وكذلك غطفان من صحة كلام نعيم بن مسعود فنشأت بذلك الاختلافات بين أعداء الإسلام هذا من جهة، ومن جهة ثانية كان لحول فصل الشتاء والبرد القارص الدور في هروب الكفار وفرارهم ولم يستطيعوا المقاومة لحرب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبهذا الأسلوب استطاع الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يحفظ المسلمين وأموالهم ويرد الكفار بغيظهم لم ينالوا خيراً(1).

رابعاً: الوحدة

من البديهي إنّ الأمة التي تجمع كلمتها وعدّتها يكون غالباً النصر حليفها في الدنيا، فإذا الاجتماع والوحدة على الحق فإنّ ذلك يؤدّي إلى الفوز والانتصار في الدنيا والآخرة معاً، قال اللّه تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا}(2).وقد قيل: إنّ حبل اللّه هو الإسلام(3). فتمسكوا به وامتنعوا عن معصيته وثقوا

ص: 436


1- انظر شرح الأخبار 1: 297.
2- سورة آل عمران، الآية: 103.
3- انظر تفسير مجمع البيان 2: 356.

به وتوكلوا عليه ولا تفرّقوا في الدين فإنّ ذلك خسران لكم.

وفي قوله تعالى: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(1) يخاطب اللّه سبحانه المؤمنين أن ينصروا دين اللّه ونبيه بالقتال والجهاد فإنه ناصرهم على عدوهم بتثبيت الأقدام وذلك بتقوية القلوب وتشجيعهم وقيل أيضاً ينصركم في الدنيا والآخرة ويثبت أقدامكم في الدارين وهو الأوجه(2).

هذا هو حال الأمة المتآخية والمتوحّدة في كلمتها ومواقفها فهي لا تحيد عن طريق النصر وقد رأينا حال الأمة الإسلامية في بداية نشوئها على يد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كيف كانت تنتصر وتتوسع بفعل تماسكها وأخوّتها ووحدتها، حتّى إذا جاء الحكّام والسلاطين من بعده وانتشرت حالة التفرقة وتدخّل المغرضون في جسد الأمة، ووضعت الحواجز والقيود، وأوجدوا حالة التفرقة العنصرية والمذهبية بين المسلمين أدّى ذلك إلى التراجع والتقهقر تدريجياً ومن ثم السيطرة على غالبية مواردهم وأنفسهم وبهذا يتّضح مدى تأثير الوحدة والتماسك في تحقيق النصر.

وفي الحديث الشريف: قال الإمام الصادق(عليه السلام): «من خلع جماعة المسلمين قدر شبر خلع ربقة الإيمان من عنقه»(3).

خامساً: العمل الجاد

اشارة

إحراز التقدم والازدهار والانتصار في العصر الحاضر وفي جميع العصور لا بد أن يكون مصاحباً للعمل الجاد، وهذه القضية صادقة على الأفراد كما هي

ص: 437


1- سورة محمد، الآية: 7.
2- انظر تفسير مجمع البيان 9: 164.
3- المحاسن 1: 85.

صادقة على الأمم.

ينقل رجل من إحدى المحافظات في العراق أنّ أخاه كان ينتمي إلى إحدى الأحزاب السياسية وكان وقّاد الذهن حاد التفكير، وكان لا يتوانى مطلقاً في نقل أفكاره وآرائه أو كتابتها، وحتى أثناء تناول الطعام كنت أراه يفكّر أو يكتب، ولا يسمح لأحدٍ منّا أن يكلّمه، ويقطع عليه تسلسل تفكيره، ونتيجة هذا النشاط والعمل المتواصل استطاع هذا الحزب أن يحكم البلاد لسنين عديدة.

لاحظوا الغرب ما هو ديدنه في العمل، فإذا كان الغرب وأذنابه يجدّون وينشطون ويعملون ليل نهار من دون توقف أو كلل، أفلا يجدر بنا نحن المسلمين أصحاب الحق، أن نعمل أكثر منهم على الأقل بالقدر اللازم!

ذات مرّة رأيت أحد الأشخاص في حرم الإمام الحسين(عليه السلام) يصيح بأعلى صوته ويقول: يا صاحب الزمان أدركني فقد أثقلت المشاكل كاهلي ونغّصت عليّ حياتي. وقد كنت أعرفه رجلاً عاطلاً خاملاً!

فلنتساءل: أيصحَّ أن نضع يداً على يد من دون عمل ونستغيث بصاحب العصر والزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشريف ليأتي ويحلّ مشاكلنا؟ أم أنّ الواقع يقتضي أن نعمل ونجدّ حتى نبلغ النتائج والأهداف ونستمد العون والمساعدة من اللّه تعالى وبالدعاء والتوسل بصاحب العصر عجل اللّه تعالی فرجه الشريف لتعجيل النصر حيث منّا الحركة والعمل ومن اللّه البركة والنصر.

قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ}(1).وقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل... يُحبُّ الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين

ص: 438


1- سورة الكهف، الآية: 88.

وهو أحدُهم،... إن أصابه بلاءُ دعا مضطراً، وإن ناله رخاء أعرض مغترّاً تغلبه نفسهُ على ما يظُن، ولا يغلبها على ما يستيقن... يقصّر إذا عمل، ويبالغُ إذا سأل... فهو بالقول مدلّ(1) ومن العمل مقلّ...»(2).

النصر من اللّه تعالى

نعم إنّ النصر من عند اللّه تعالى ولكن بعد تهيئة الأسباب والمقدمات وقد أشرنا إلى بعضها هنا.

قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَٰدُ}(3).

جاء في تفسير هذه الآية: «أي ننصرهم بوجوه النصر فإنّ النصر قد يكون بالحجّة ويكون أيضاً بالغلبة في الحرب، وذلك بحسب ماتقتضيه الحكمة ويعلمه سبحانه من المصلحة، ويكون أيضاً بالألطاف والتأييد وتقوية القلب ويكون بإهلاك العدو، وكلُّ هذا قد كان للأنبياء والمؤمنين من قبل اللّه تعالى فهم منصورون بالحجّة على من خالفهم، وقد نصروا أيضاً بالقهر على من ناوأهم، وقد نُصروا بإهلاك عدوهم وإنجائهم مع من آمن معهم وقد يكون النصر بالانتقام لهم كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل حين قتل به سبعون ألفاً. فهم لا محالة منصورون في الدُّنيا بأحد هذه الوجوه.

{وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَٰدُ} جمع شاهد مثل الأصحاب جمع صاحب وهم الذين يشهدون بالحق للمؤمنين وعلى المبطلين والكافرين يوم القيامة. وفي ذلك سرور

ص: 439


1- أدل على أقرانه: استعلى عليهم.
2- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 150.
3- سورة غافر، الآية: 51.

للمحقّ، وفضيحة للمبطل في ذلك الجمع. وقيل: هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون...»(1).

وبهذا يكون النصر من عند اللّه بوجوه عديدة منها يظهر في الدنيا ومنها ما يظهر في الآخرة وذلك بالنيل من الكافرين والمبطلين وإظهار الحق المغصوب.

ولذا فإنّ الأمَّة التي تتبع هذه السبل والمقدمات من الطاعة والصبر والتقوى والإيمان والتخطيط والوحدة والعمل الجاد المتواصل، فإنّها سوف تنتصر حتى لو كان عددها قليل، ولكن بشرط توكّلها واعتمادها على اللّه تعالى، العمل بقوانينه وأحكامه الحقّة، ويجب على المسلمين اليوم أن يوفّروا في أنفسهم هذه السبل للحصول على نصر للّه تعالى والتقدُّم والازدهار والحياة الأفضل في الدنيا السعادة في الآخرة.

«يا من أرجوه لكل خير، وآمن سخطه عند كل شر، يا من يعطي الكثير بالقليل، يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه، تحنناً منه ورحمة، اعطني بمسألتي إياك، جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة واصرف عنّي بمسألتي إياك جميع شرّ الدنيا وشرّ الآخرة، فإنه غير منقوص ما أعطيت، وزدني من فضلك يا كريم»(2).

من هدي القرآن الحكيم

الطاعة

قال سبحانه: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ}(3).

ص: 440


1- تفسير مجمع البيان 8: 448.
2- إقبال الأعمال 2: 644.
3- سورة التوبة، الآية: 71.

قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1).

قال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(2).

وقال جلّ وعلا: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(3).

الصبر

قال عزّ اسمه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٖ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ الْأَمْوَٰلِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَٰتِ وَبَشِّرِ الصَّٰبِرِينَ}(4).

وقال جلّ ثناؤه: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ}(5).

وقال عزّ من قائل: {وَلَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا الصَّٰبِرُونَ}(6).

وقال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(7).

التأكيد على وحدة الأمة

قال سبحانه: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(8).

ص: 441


1- سورة آل عمران، الآية: 132.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- سورة النساء، الآية: 13.
4- سورة البقرة، الآية: 155.
5- سورة الأنفال، الآية: 65.
6- سورة القصص، الآية: 80.
7- سورة البقرة، الآية: 249.
8- سورة المؤمنون، الآية: 52.

وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}(2).

وقال عزّ اسمه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(3).

وقال جلّ شأنه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(4).

نصر اللّه

قال عزّ من قائل: {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}(5).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٖ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ}(6).

وقال سبحانه: {وَنَصَرْنَٰهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الْغَٰلِبِينَ}(7).

وقال عزّ وجلّ: {فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا}(8).

من هدي السنّة المطهّرة

الطاعة

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «... فانّه لا يدرك ما عند اللّه إلّا بطاعته»(9).

ص: 442


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- سورة الكهف، الآية: 30.
3- سورة الملك، الآية: 2.
4- سورة الكهف، الآية: 7.
5- سورة الفتح، الآية: 3.
6- سورة آل عمران، الآية: 123.
7- سورة الصافات، الآية: 116.
8- سورة الأنعام، الآية: 34.
9- الكافي 2: 74.

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أطاع اللّه استنصر...»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «من أطاع اللّه سبحانه عزّ نصره»(2).

الصبر

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «إعلم أنّ النصر مع الصبر...»(3).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «الصبر عنوان النصر»(4).

وقال(عليه السلام): «دوام الصبر عنوان الظفر والنصر»(5).

وقال(عليه السلام): «لن يعدم النصر من استنجد الصبر»(6).

التخطيط في العمل

عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «أيها الناس... لا خير في دنيا لا تدبير فيها...»(7).

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «تفكر قبل أن تعزم وشاور قبل أن تقدم وتدبر قبل أن تهجم»(8).

وقال(عليه السلام): «أصل السلامة من الزلل، الفكر قبل الفعل...»(9).

الأمة الواحدة

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «لا تزال أمتي بخير ما تحابوا وتهادوا، وأدوا

ص: 443


1- عيون الحكم والمواعظ: 429.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 185.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 413.
4- عيون الحكم والمواعظ: 24.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 819.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: 553.
7- المحاسن 1: 5.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 322.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: 199.

الامانة، واجتنبوا الحرام، ووقّروا الضيف...»(1).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «إذا ثبت الودّ وجب الترافد والتعاضد»(2).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) أنه قال: «المؤمنون في تبارهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد...»(3).

ص: 444


1- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 29.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 290.
3- المؤمن: 39.

الحوزة العلميّة ودورُها القيادي

اشارة

قال اللّه عزّ وجلّ في محكم كتابه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1).

لا شك أن العلم فيه نجاة الإنسان وكماله، لأنه كالنور الذي يكشف له المسير، ويعرّفه لوازم كل طريق. وهو كالشعاع الذي ينفذ إلى أعماق النفس فيؤشر إلى مواطن الضعف والسوء، ليسعى المرء إلى تكميل نفسه، وسدّ الثغور النفسية بملكات الخير. وقد كان الأنبياء(عليهم السلام) الذين هم معلّموا هذا المنهج كانوا يجاهدون من أجل زرع بذور الخير في الأفراد، وكانوا يتحملون العذاب في سبيل تكامل الأفراد، وتثبيت القيم الإنسانية والخلقية فيهم ليسود الخير والعدل والعلم في حياتهم... وفي سبيل ذلك أيضاً كانوا(عليهم السلام) يسعون ليل نهار من أجل رفع الجهل من واقع الحياة ومن نفوس الأفراد الذين أرسلوا إليهم. لقد حاربوا الأساطير والخرافات والطيرة وكل أمر من شأنه أن يؤدي إلى إهلاك قدرات الأمم العلمية وتذويبها، لئلا يخيّم الجهل على الحياة فتسود الظلامات وتهدم الحضارات، لقد استمر هذا الخط الرسالي متمثلاً في الأوصياء والأئمة(عليهم السلام) - وبعد غيبة الإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشريف - امتد هذا الدور القيادي الخطير، لتسلم أمور التبليغ وإحياء الناس، إلى العلماء باعتبارهم ورثة ذلك الخط القويم المقدس،

ص: 445


1- سورة الزمر، الآية: 9.

فمارسوا نفس الدور في حماية الدين من التحريف والضياع، وحماية الناس من الجهل، لأن دولة الدين لا تقام إلّا في ظل العلم والوعي. فاقتضت بعض الضرورات إنشاء المدارس لإعداد العلماء والمبلغين لتغطية كل المناطق، وأطلق على تلك المدارس ب- (الحوزات). ولو أنّا أردنا التعمق لرأينا أن فكرة الحوزات ليست جديدة وطارئة، بل هي مستوحاة أو مطابقة لما كان يعمله الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مسجده الشريف من تربية وتعليم، وكذلك الإمامان الصادقان(عليهما السلام). فالحوزات إذن استمرار لذلك النهج المقدس، وفعلاً فقد قامت الحوزات بالدور نفسه، وحفظت النهج المقدس، وفعلاً فقد قامت الحوزات بالدور نفسه، وحفظت معالم الدين من الضياع، وبثت صوت الأنبياء مجدداً بواسطة المبلغين المخلصين الثقاة فالحوزة عطر من تلك الرياحين - الأنبياء(عليهم السلام) - وصدىً لصوت الحق ومنذ زمن الغيبة وإلى يومنا هذا والجماهير تتحسس ثمار الحوزة العلمية، لا سيّما أيام النكبات والشدائد أمثال ثورة العشرين وثورة التنباك... فضلاً عن الجهود الشخصية لبعض الشخصيات العلمية أمثال الطوسي والحلي والمفيد والصدوق - رحمة اللّه عليهم - هذه الجهود التي أضفت التقدم والانتشار على المسيرة. وعلى أية حال يمكن أن نلخص عمل الحوزة في أمرين هما: نشر العلوم، والحفاظ على الدين.

نشر العلوم مهمّة مقدّسة

اشارة

إن مسألة نشر الإسلام وإيصاله إلى كل مكان مسألة ذات قداسة خاصة لا يدرك كنهها إلّا اللّه عزّ وجلّ. لذلك دعا القرآن الكريم إلى هذا المعنى، فقال: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ}(1).

ص: 446


1- سورة التوبة، الآية: 122.

ولا يخفى ما تعرّض إليه المذهب الشيعي من انحسار بسبب الظلم والطغاة والدكتاتوريين. عندها انحسر خط التبليغ، فقام العلماء بوضع مدارس - حوزات علمية - لإعداد رجال علم يقومون بنشر الدين وحمايته من التحريف والأضاليل والأباطيل، فبدأت الحوزات تتحمل عبء نشر العلوم في الآفاق. فمن جهة نجحت الحوزة وبعناية الإمام صاحب الأمر(عليه السلام) في المحافظة على تراث أهل البيت(عليهم السلام). ومن جهة أخرى نجحت في المحافظة على القواعد الشعبية الشيعية في كل مكان، وذلك بإيصال التبليغ لها وسدّ الثغرات الفكرية والثقافية، فعلى رغم الصعوبات الموضوعية المتنوعة التي كانت تمرّ بها الحوزة، إلّا أنها لم تتنازل عن دورها المقدس، فكانت الرافد الذي يسقي الأمة ويبثّ فيها الروح والحياة، إذ العلم هو المقياس الحقيقي للأمم، وبه يمكن تفضيل أمة على أخرى. ولذلك نرى العلماء الأعلام رضوان اللّه عليهم، كانوا يُجهدون أنفسهم ويتحملون المتاعب الشديدة من أجل كتابة كتاب وتركه للأجيال اللاحقة لتحيى به. فمما يُحكى عن صاحب الحدائق(1). إنه بينما كان منشغلاً بكتابة (الحدائق الناضرة) كانت الفتنة قد عمّت البحرين، وقام الأعداء بحرق داره، لكنه في نفس تلك اللحظات التي كانت فيها داره تحترق لم ينفك عن الكتابة. حتى وصلته النار، فأخذ قلمه ودواته وفر من النار إلى خارج الدار.

وأما كتاب اللمعة للشهيد الأول(رحمه اللّه) حيث يُذكر أنه: حبس في القلعة الدمشقية (في دمشق) سنة كاملة. وفي مدّة الحبس أَلَّف (اللمعة الدمشقية) فيسبعة أيام وما كان يحضره من كتب الفقه غير (المختصر النافع)(2).

ص: 447


1- وهو الشيخ يوسف بن أحمد البحراني(رحمه اللّه).
2- انظر أمل الآمل 1: 182.

ففي الواقع إن تأليف كتاب كاللمعة، وفي أوضاع متعبة وهو السجن، ومع فقدان المصادر لدليل على القدرة العلمية الفائقة التي كان يتمتع بها الشهيد الأول(رحمه اللّه). وبات من المسلَّمات أن اللمعة كتاب اعتمد عليه الكثير من العلماء الذين جاءوا بعد تأليفه، حتى أنه أصبح يُعدّ من المصادر الفقهية عند الشيعة.

وأعجب من هذا وذاك ما يُنقل عن الشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب الجواهر(رحمه اللّه) أنه وفي الساعة التي توفي فيها ولده، كان يجلس إلى جانبه ويذرف الدموع، وفي نفس الوقت لم يترك كتابة الموسوعة الفقهية المعروفة بالجواهر.

الحوزة مصنع الرّجال

نستطيع القول: إن الحوزة هي إحدى ثمار الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، لأنها تقوم بنفس الدور التربوي والتعبوي للأمة، كما إنها في الوقت ذاته تُعِدّ رجالاً أولياء للّه عزّ وجلّ لا تأخذهم في اللّه لومة لائم، إذ أن عصب الحوزة الرئيسي هو علم الأخلاق الذي يربي النفوس ويهذبها ويشذبها من الشوائب، ويضفي على الروح طهارة ويعلمها الرقي في عالم الكمالات، من الزهد إلى الحلم والتقوى والصبر. وفعلاً قد شهدت البشرية رجالاً عمالقة وعظماء في جوانب الخير قلّ نظيرهم في التاريخ، استطاعوا إخراج الأمة بوجه جديد.

فمنهم من أخذ على عاتقه حفظ الكيان الإسلامي من التيارات المعادية، بواسطة الجهاد والتضحية في سبيل ذلك، بدمهم أو راحتهم. ومنهم الميرزا محمد حسن الشيرازي(رحمه اللّه) الذي أبطل مؤامرة الاستعمار البريطاني وغيرهم.

وأمثال هؤلاء وأولئك كثيرون من الرجال الذين أخرجتهم إلى العالم حوزاتنا العلمية المقدسة. وإذا كان ذلك في جانب الفداء والتضحية والتصدي للظالمين، فإن إسهام الحوزة في الجوانب الثقافية والفكرية ليس أقل منه شأناً

ص: 448

وخطراً، إن لم يكن أعظم. فمثلاً في الجانب الفلسفي برع الكثيرون ممن ساهموا في تصحيح الآراء الفكرية، ونقد النظريات الخاطئة، أمثال نصير الدين الطوسي(رحمه اللّه). وفي الجانب الفقهي قد أسهم الكثيرون من الفقهاء الأجلاّء في تغطية الساحة الإسلامية، بمختلف المسائل الابتلائية وغيرها من أجل رفع وتوسعة الذهنية لدى الفرد المسلم، وفي الوقت نفسه كانوا يجيبون على مختلف الأسئلة العقائدية والفقهية والقرآنية والفكرية المحضة. ولقد كان لبعض الشخصيات مكانة ومقام يعجز القلم عن عرضها، أمثال الشيخ المفيد(رحمه اللّه) الذي استطاع أن يحافظ على الهوية الشيعية ويبرزها بلونها وشكلها العقائدي الخاص بها. ولعظمة مكانته يُحكى أنه عقب وفاته وجدوا بيتين من الشعر على قبره مكتوبين يدلّان على مقامه المهم وفيه: «إنه يوم على آل الرسول عظيم» وقد نسبت الأبيات إلى الإمام الحجة(عليه السلام). وليس غريباً أن يرثيه الامام الحجة(عليه السلام) ويقرّظه، لما كان له من دور مهم في رفد الأمة الإسلامية بمختلف العلوم، على اختلاف مناهجها. والأمر المهم الآخر الذي قامت به الحوزة هي أنها كانت تُعِدُّ رجالاً يقودون الأمة روحياً، فضلاً عن قيادتهم لها سياسياً واجتماعياً؛ أمثال الشيخ محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) الذي التفّت حوله جماهير العراق في ثورة العشرين، وتم طرد الاستعمار البريطاني... وهكذا كانت الحوزة دائماً عطاء لا ينفد في مختلف الميادين. ولا يخفى أن استمرارها يتم تحت عناية الإمام الحجة(عليه السلام) ودعائه. وما أكثر القصص والحوادث التاريخية التي تؤكد هذاالمعنى في كتبنا.

محاولات فاشلة

اشارة

مع كل حركة نبي من أنبياء اللّه كانت هناك حركات في قباله تحاول إلغاء

ص: 449

حركته، أو تحجيم دوره في المجتمع، واشاعة الإضطراب والتشويش، ووضع العراقيل في طريقه وخلق جوّ ضبابيّ على كلماته وتوجيهاته، لئلا تصل إلى أسماع الناس.

وعادة كان يقوم بهذه الأدوار الطبقة المستفيدة مادياً، أو التي تملك الوجاهة الاجتماعية أمثال النمرود وفرعون وهامان وأبي لهب وأبي سفيان... ولكن نرى في ختام المطاف انتصار خطّ النبوات والرسالات الإلهية واضمحلال خط الكفر وتلاشيه. وبما أن الحوزة استمرار لخط الرسالات فهي الأخرى واجهت التحديات والصعوبات والعراقيل التي كان يفتعلها أعداء الدين، والتي ستبقى مجرد محاولات تختم بالفشل. والتاريخ يشهد للجميع بذلك. ويمكن أن نطلق على هؤلاء، بل على كل من سار في نهجهم ب(الخط الفرعوني) وتقسّمهم إلى قسمين:

الأول: أعداء على المستوى العالمي، كالمفعول الذين تسببوا في إحراق وإتلاف أكثر الكتب والمصادر المهمة، حتى اشتهر عند الناس أن مياه دجلة والفرات تحولّت إلى اللون الأسود من جراء ما ألقوا من كتب ومخطوطات، فضلاً عن قتلهم ومطاردتهم للعلماء، حتى اضطر شيخ الطائفة الطوسي(رحمه اللّه) أن يفر بجلده من بعد ما أحرقوا كرسي درسه. أو كالاستعمار الذي زرع عناصر الفساد والظلم والاضطهاد، المتمثلين بالحكام الطغاة الذين لا يعرفون سياسة غير الدكتاتورية. وهؤلاء بدورهم وجّهوا ضرباتهم الشديدة إلى الحوزة العلميةورجالها، بغية القضاء عليها وإيقاف المدّ الإسلامي، لا سيما الشيعي.

فتارة تمتد الإعدامات إلى كبار العلماء أو يكون نصيبهم النفي أو السجن. وأخرى يأمرون بغلق الحوزات ومصادرة أموالها، وهكذا دواليك. والسبب هو ما

ص: 450

ذكرناه سابقاً؛ من أن الحوزة تمثل خط الرسالات الذي يصطدم دائماً مع الباطل، فيعمل على إزالته من الوجود.

والسبب الآخر أن الحوزة تمثل إرادة الشعب، وتدافع عنه، وتضحي من أجله، وتكشف له السياسات المنحرفة. من أجل ذلك كان دأب الطغاة جارياً على محاربة العلماء ومعاقلهم.

الثاني: أعداء على المستوى المحلي: فقد تعرضت - ومازالت تتعرض - الحوزة إلى ضربات من الداخل، فضلاً عمّا يثيره المستشرقون من إشاعات وأضاليل حول الإسلام، وبالذات حول الحوزة ومراجع الدين. فمثلاً الشيوعية والقومية في العراق وإيران والأحزاب اليسارية وغيرها كلها كانت تعمل على إلغاء الحوزة والنيل منها وتحطيمها، لأن الحوزة هي المؤسسة الوحيدة التي كانت ترفد الجماهير بأفكار الإسلام، وتنوّرهم باحكام القرآن، وتميز للناس خط الحق من الباطل. وكذلك كان علماء الدين يكشفون زيف وأضاليل وأخطاء التيارات المنحرفة كالشيوعية والقومية. وبمرور الزمن نجح أعلام الحوزة في كشف القناع واللثام عن تلك الأحزاب الباطلة، وانقاذ الناس منها.

المناهج الدراسيّة

يتصور البعض أن الحوزه تتمسك بالأمور القديمة حفاظاً على أسلوبها التقليدي، ولذا نرى البعض يقف الموقف السلبي من الحوزة ويتشنج من رجالها، وينعكس ذلك من خلال عدم التفاعل مع إعلام وتبليغ الحوزة منخلال المنابر والمجالس. وينطلق ذلك التصور أساساً من ملاحظة الكتب القديمة والمناهج الحوزوية التي يصل عمرها إلى (600) سنة تقريباً، أو اعتماد بعض المصادر التي يكون عمرها أكثر من ذلك وكذلك ينطلق ذلك التصور الخاطيء من ملاحظة بعض الأساليب الدراسية أو عدم وجود بعض

ص: 451

المستلزمات العصريه الحديثة في الحوزة، وغيرها من التصورات الساذجة. ويمكن أن نجيب عن الجميع بما يلي:

أولاً: نعم بعض الكتب الدراسية القديمة ما زالت إلى الآن تُدرَّس في الحوزة، وذلك لعدة أسباب، منها المتانة التي تمتاز بها مع قصر العبارة والإيجاز، ومنها أن الطالب كلّما اطلع على هذه الكتب وهضمها بشكل تام استطاع أن يرجع إلى كتب الحديث والرواية والمصادر الفقهية القديمة ويفهم ما فيها، لأنه لا يجد نفسه غريباً عن تلك الكلمات ولا يجدها غريبة عليه، لأنه قد مارسها زماناً. ثم إن العربية الموجودة في كتب الحديث والرواية (السُنّة) تختلف عن العربية الدارجة اليوم، والحقل الذي يعمل فيه الطالب ليس صحافة أو إعلاماً، إنما هو الاجتهاد والاستنباط ومحاولة لفهم الدليل، وما لم يحط الطالب بأحوال الكلمات، الغريب منها والمعقّد والنادر الاستعمال فإنه لن يستطيع أن يصل إلى استنباط الحكم الشرعي.

الثاني: بعض الكتب التي يُعتمد عليها في الحوزة، كان مؤلفوها قريبي عهد بزمن الغيبة الصغرى، أو كانوا معاصرين أو أدنى من ذلك بقليل. وكذلك عدم وجود البديل المناسب لمثل هذه الكتب، من أمثال اللمعة الدمشقية في الفقه. وبعضها لا بد من دراسته لأنه يكون بمثابة المقدمة لدروس عالية لا يمكن هضمها بدون تلك المقدمة، مثل كتاب الكفاية في الأصول. ثم: من قال: أن الحوزة ضد التجديد؟ أو لم تكن المطوّلات هي التي تدرس سابقاً في مجالاللغة مثلاً، بينما نجد اليوم محلها كتباً مثل (شرح السيوطي) و(شرح ابن عقيل) و(قطر الندى) وغيرها، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الفقه والكلام والفلسفة. بل دخلت مناهج دراسية جديدة أمثال علوم القرآن والسياسة والسيرة والتأريخ، بل لقد كانت في العقود الأربعة الماضية في الحوزات العلمية دروس متنوعة أمثال

ص: 452

الهندسة والرياضيات والفلك والطب.

على إن وجود الآلات الحديثة أمثال المقاعد الفاخرة والآلات الطابعة وأجهزة الكمبيوتر وغيرها ليس مقياساً دائماً للأسلوب الصحيح.

فالحضارة الواقعية إنما تُبنى بواسطة مكارم الأخلاق والقدرات العلمية الخّلاقة ووجود العناصر المخلصة. وهي مسألة هامّة جديرة بالعناية حقاً: أننا ينبغي أن نستفيد - مهما أمكن - من أساليب التقنية الحديثة، لأنها ثمرة واضحة من ثمرات الحضارة والتقدم، ولكن - في الوقت نفسه - لا ينبغي أن ننسى أنها أبداً لا تدل على الإنسان والكمال الحقيقي، بل على الجانب الظاهر من إبداعاته وقدرته. وهدف الحوزة إنما هو مشدود للأول دون الثاني.

وعلى أية حال، فالإنصاف أن يقال: إن الكثير من كتب الحوزة تحتاج إلى تهذيب وتحقيق وترتيب وتبويب جديد.

ولعل هذا أمر ظاهر للجميع يشعرون به كحالة لا بد من معالجتها.

أما حول طريقة التدريس المتعارفة في الحوزات وهي طريقة - تطبيق العبارة - فقد أثبتت التجارب أنها أنفع طريقة لترسيخ المطالب العلمية في ذهن الطالب. مضافاً إلى أن الطالب يبقى أحياناً حائراً أمام العبارات المعقدة في الكتاب، فلا بد من توضيحها له من خلال التطبيق والقراءة.

الحوزة حالة تبليغيّة للدين

لا يخفى ما قامت وتقوم به الحوزة من تبليغ للدين، ودفع للشبهات المعادية،وتحرير لإرادات الناس، وحثّهم على التمسك بخط الولاية والقرآن ولا نبالغ أبداً إذا قلنا إننا عندما نريد أن نوضح دورها هذا نلاحظ علاقة من الشبه واضحة بين دور الحوزة وبين دور المعجزة.

فعندما نتعرض إلى بحوث المعجزة نرى أن هناك نوعين من المعاجز:

ص: 453

الأول: المعجزة التي ينتهي دورها مع موت النبي والرسول أمثال العصا التي ماتت مع موت موسى(عليه السلام)، واحياء الموتى الذي انتهى مع رفع عيسى(عليه السلام).

الثاني: المعجزة التي لا تنتهي مع موت النبي، بل تبقى كحالة تبليغية تبلّغ للدين حتى مع عدم وجود النبي. ومصداقها القرآن الكريم الذي يدل على نفسه بنفسه، ويرشد الإنسان إلى اللّه من خلال آياته الشريفة على مرّ الزمن. وعندما نحاول أن نقارن دور الحوزة مع أثر المعجزة، نجدها كالنوع الثاني من المعجزة. فالحوزة حالة تبليغية تبلِّغ للدين بشكل مستمر، وتجذب الناس حولها من خلال دورها التربوي وصناعتها للأفراد صناعة إيمانية أخلاقية، وترشد الجماهير إلى اللّه عزّ وجلّ، وتعلّمهم طرق الكمال والقرب من المولى سبحانه وتعالى، ومن أهل البيت صلوات اللّه عليهم وتبرز المقام السامي لهم لدى الأفراد، وتحاول بكل ما بوسعها أن تحافظ على قدسيتهم، وتربط الجماهير بهم وبالقرآن، لأنهما الثقلان اللذان أوصى بهما الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي. كتاب اللّه حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا بماذا تخلفوني»(1).

فمثلاً حول تربية الأفراد وصناعتهم يُحكى أن الوحيد البهبهاني(رحمه اللّه) قد جاءه أحد الأشخاص، وطلب منه أن يزوّجه ابنته. وبعد أن استفسر الوحيد البهبهاني عن أحوال وسلوك وعمل هذا الشاب وافق - إذ قيل له: إنه يعمل كاتباً على أكفان الموتى - ولكن اشترط عليه شرطاً فقال له: إن قبلت بهذا الشرط فلا مانع لدي

ص: 454


1- معاني الأخبار: 90.

من تزويجك ابنتي. والشرط هو أن تدرس كتاب المعالم(1). وتأتي للامتحان عندي، فوافق الشابّ على الشرط، وفعلاً ذهب وجدّ واجتهد إلى أن أكمله وامتحن عند الوحيد، وتزوج أخيراً من ابنته. ولكن كانت دراسته للمعالم فاتحة الخير، إذ بقي كاتب الأكفان هذا يواصل الدرس حتى بعد زواجه إلى أن صار عالماً كبيراً له مؤلفات وكتب حتى عُرف في ما بعد ب- (صاحب الرياض)، و(صاحب الشرح الكبير). وأمثال ذلك كثير. حيث كان العلماء الأعلام يقتنصون الفرص لصناعة العلماء وتخريج المبلغين والكتاب من بين أفراد الناس.

ولكنّا لا ندّعي أن الحوزة اليوم متكاملة من كل النواحي، بل ما تزال بحاجة إلى تهذيب في كل نواحيها، لتكون مواكبة للعصر، ولكي تحتوي طلبة الجامعات وكل الأكاديميين، لا سيّما في زمننا الحاضر الذي تقاطر فيه على الحوزة طلبة العلم من مختلف بقاع الأرض.

ولكن لا يخفى أن تطوير الحوزة لا تعني الانقلاب الجذري والإنسلاخ التام من الماضي، وتبني الجديد على اطلاقه، بل لا بد من الممازجة المدروسة، والمحافظة على النقاط الإيجابية المركزيّة التي كانت الباعث على القوة والاستقلالية والنَّفَس الخاص، وغيرها من الأمور التي تميّزت بها حوزاتنا العلميةالمقدسة على مدى القرون.

كلمة أخيرة

وفي الختام نسجل بضع كلمات قصار لأبنائنا الطلبة، وفقهم اللّه تعالى. فقد يتصور بعض الطلبة أن أهم أمر في المسيرة العلمية هو الدرس ومواصلته. نعم

ص: 455


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين في علم الأصول للشيخ حسن بن الشيخ زين الدين العاملي (رحمهما اللّه).

هذا صحيح، ولكنه ليس سبباً تامّاً، بل لا بد للطلبة من الحضور في المجالس العامة التي تقام في المناسبات الإسلامية كالمواليد والوفيات، والتجمعات التي تقرأ فيها الأدعية والزيارات فإن هذه التجمعات تهب الروح الكمال وتؤكد العلاقات المقدسة مع أئمتنا(عليهم السلام)، وتضفي علينا بركات نحن بأمسّ الحاجة إليها. ومثل ما يعطي الدرس كمالاً وتقدماً للطالب كذلك هذه التجمعات لا سيما وأننا إذا نظرنا في سيرة أئمتنا وجدناهم يهتمون بهذه الأمور كإقامة العزاء في شهر محرم الحرام، أو اللقاء مع الجموع الإسلامية في المناسبات العظيمة، كالغدير والمبعث وغيرهما. فعلى الطلبة أن لا يستهينوا بهذه الألوان الإسلامية المقدسة فهي الحاكية عن إسلامنا واهتمامنا به وتقديسنا لقادتنا العظام(عليهم السلام). ومن خلال هذه التجمعات يمكن لطالب العلوم الإسلامية أن يبث علمه ويجتذب الآخرين إلى حظيرة الإسلام، ويدعوهم إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، ويسعى في حل بعض الشبهات العقائدية التي تحتاج إلى إجابة. وهكذا يُشيع طلبة العلوم جوّاً إسلامياً خاصاً. بحضورهم الدائم والفعّال. أما إذا إنبنى تفكيرنا على الانعزال عن مثل هذه التجمعات، والركون إلى الدرس فقط، فإننا سنقع في مطبٍّ كما وقعنا بالأمس القريب، عندما تحوّل أكثر شبابنا المسلم نحو الشيوعية في الفكر والسلوك. يجب أن نفكر دائماً بأن نكون نحن أهل المبادرة في تعبيد الناس للّه، وربطهم به، واحتوائهم بالإطار الإسلامي قبل أن يسرقهم الماديون والملحدونوالمنحرفون.

«اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، ومتعني بهدىً صالح لا أستبدل به، وطريقة حق لا أزيغ عنها، ونية رشدٍ لا أشك فيها، وعمرِّني ما كان عمري بذلة في طاعتك. اللّهم لا تدع خصلة تعاب مني إلّا أصلحتها، ولا عائبة أُؤنب بها إلّا

ص: 456

حسنتها»(1)، بحق محمّد وآل محمّد.

من هدي القرآن الحكيم

من الكمالات التي صنعت بها الحوزة المقدسة علماء عظماء
التقوى

قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(2).

وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(5).

الحلم

قال عزّ اسمه: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(6).

وقال جلّ شأنه: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(7).وقال عزّ من قائل: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ}(8).

وقال جلّ ثناؤه: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}(9).

ص: 457


1- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه(عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- سورة البقرة، الآية: 194.
3- سورة المائدة، الآية: 27.
4- سورة الأنفال، الآية: 29.
5- سورة الحجرات، الآية: 13.
6- سورة آل عمران، الآية: 134.
7- سورة الحجر، الآية: 85.
8- سورة الشورى، الآية: 37.
9- سورة المزمل، الآية: 10.
الصبر

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).

وقال سبحانه: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(3).

وقال جلّ وعلا: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}(4).

الإخلاص

قال عزّ اسمه: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(5).

وقال جلّ شأنه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(6).

وقال عزّ من قائل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}(7).

من هدي السنّة المطهّرة

من الكمالات التي صنعت بها الحوزة المقدسة علماء عظماء
التقوى

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أحب العباد إلى اللّه الأتقياء الأخفياء»(8).

ص: 458


1- سورة آل عمران، الآية: 200.
2- سورة الأنفال، الآية: 46.
3- سورة هود، الآية: 115.
4- سورة المدثر، الآية: 7.
5- سورة الأعراف، الآية: 29.
6- سورة النساء، الآية: 146.
7- سورة الزمر، الآية: 2.
8- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 5.

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «عليك بالتُقى فإنه خُلُقُ الأنبياء»(1).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «ولا كرم إلّا بتقوى»(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «القيامة عرس المتقين»(3).

الحلم

قال الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بُعِثتُ للحلم مركزاً...»(4).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الحِلمُ تمام العقل»(5).

وقال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): «عليك بالحلم فإنه ركن العلم...»(6).

وقال الإمام علي الرضا(عليه السلام): «لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً»(7).

الصبر

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «بُعِثتُ... وللصبر مَسْكَناً»(8).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «رَحِمَ اللّه امرأً... جعل الصبر مَطيَّةَ نجاتِهِ...»(9).

وعن الفضيل عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): «يا فضيل: بلِّغ من لقيت من موالينا عنّاالسلام وقل لهم: إني أقول... وعليكم بالصبر والصلاة إن اللّه مع الصابرين»(10).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «وَمَن ... صبر على سكينة ووقار فهو من الخاص

ص: 459


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 442.
2- الكافي 8: 234.
3- الخصال 1: 13.
4- بحار الأنوار 68: 423.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 57.
6- الأمالي للشيخ الصدوق: 613.
7- الكافي 2: 111.
8- بحار الأنوار 68: 423.
9- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 76 من خطبة له(عليه السلام) في الحث على العمل الصالح.
10- تفسير العياشي 1: 68.

ونصيبه ما قال اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ}(1).

الإخلاص

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «وأما (علامة) العمل: فالصلاة والصوم والزكاة والإخلاص»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «طوبى لمن أخلص للّه عمله وعلمه وحبه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته وفعله وقوله»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {حَنِيفًا مُّسْلِمًا}(4). «خالصاً مخلصاً ليس فيه شيء من عبادة الأوثان»(5).

قال الإمام موسى الكاظم(عليه السلام): «يا هشام: إن المسيح(عليه السلام) قال للحوارييّن: ... كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه تجدوا حلاوته وينفعكم غِبّه»(6)(7).

ص: 460


1- بحار الأنوار 68: 91.
2- تحف العقول: 19.
3- تحف العقول: 100.
4- سورة آل عمران، الآية: 67.
5- الكافي 2: 15.
6- الغِبّ: العاقبة.
7- تحف العقول: 392.

الاجتهاد في طلب العلم

اشارة

اشارة

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «اطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج»(1).

نبدأ كلامنا بسؤال وهو: كم يجب على طالب العلم أن يدرس في كل يوم؟ وكيف ذلك وعلى أي نحو؟

والجواب: إن القدماء والعلماء السابقين قد تحدّثوا عن لسان حال العلم أنه يقول: (أعطني كلك أعطك بعضي) وحق لهم ذلك فإن العلم بحر متلاطم الأمواج وواسع الأطراف لا يمكن أن يبلغ حده ولو فرض أن يجلس إنسان لمدة (50 سنة) بجوار البحر ويغرف منه دلواً دلواً فليس أنه لا ينتهي البحر فحسب بل ولا يشعر الإنسان أنه قد نقص أبداً.

هذا في الماديات أما في المعنويات فهناك أمور غير محدودة لا يمكن الإحاطة بها كاملاً، أحدها العلم وهو مثل الأعداد ليس لها حد تنتهي عنده... .

وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «كل شيء ينقص على الإنفاق إلّا العلم»(2)، وفي حديث آخر عنه(عليه السلام): «العلم أكثر من أن يحاط به فخذوا من كل علم أحسنه»(3)، والنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع مقام عظمته وعلمه يقول حول تعلم العلم

ص: 461


1- أعلام الدين: 303.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 509.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 98.

واكتسابه: {رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(1)(2)، وحتى لو قيّض للنبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يعيش عشرات المليارات من السنين بالحياة الظاهرية وفي كلّ يوم يتعلم شيئاً جديداً فرغم ذلك يعود النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيقول: {رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(3) كما جاء في حديث الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم لا ينتهي»(4).

وصية المرحوم الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه)

كان المرحوم السيد الوالد(رحمه اللّه) دائماً يوصينا ويقول (لا تلتمس الأعذار أبداً لتترك الدرس بل اجعل الدرس عذراً لكل شيء).

وفي بحار الأنوار رواية تقول: جاء أحد الأصحاب إلى الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: يا رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا حضرت جنازة وكان هناك في نفس الوقت حلقة علم ولا يمكن إدراكهما معاً فما هو أحب إليك الذهاب إلى تشييع جنازة المؤمن أو الاشتراك في حلقة العلم؟ فقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): إذا كان هناك من يشيعه ويدفنه فاشترك في حلقة العلم لأن الاشتراك في حلقة العلم أفضل من تشييع ألف جنازة مؤمن وعيادة ألف مريض وعبادة ألف ليلة وصوم ألف يوم وتصدق ألف درهم وألف حج مستحب وألف جهاد غير واجب! ألم تعلم بأن اللّه يعبد بواسطة العلم ويطاع بالعلم وإن خير الدنيا والآخرة قُرِنَ مع العلم كما قرن شر الدنيا والآخرة بالجهل(5).

أهمية العلم

لو ذهب شخص فقير لخطبة فتاة راقية الفضل والمستوى فقال له أبوها: إن

ص: 462


1- سورة طه، الآية: 114.
2- انظر تفسير فرات الكوفي: 145.
3- سورة طه، الآية: 114.
4- عيون الحكم والمواعظ: 43.
5- انظر بحار الأنوار 1: 204.

ابنتي تتمتع بشخصيه مرموقة فمهرها مليون دينار! فكم يعوز هذا الشاب من صرف العمر والعمل والتعب حتى يستطيع أن يوفر لنفسه هذا المهر الغالي ليتزوج بهذه الفتاة؟

وواضح أنه لا سبيل إلى توفيره إلّا بالعمل والتعب والمواظبة، والعلم وتعلمه هكذا حيث يجب على الإنسان أن يتفرغ له تماماً ويصرف كل شبابه بل كل عمره في طريق تحصيل العلم حتى يحصل على مهر العلم ليصبح عالماً.

وقد وردت عدة أحاديث في ذلك عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا يحرز العلم إلّا من يطيل درسه»(1) وقال(عليه السلام): «لا فقه لمن لا يديم الدرس»(2).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال في صفة العاقل الكامل: «لا يسأم من طلب العلم طول عمره»(3).

وكذلك من وصايا الخضر لموسى(عليهما السلام): «يا موسى: تفرغ للعلم ان كنت تريده فإن العلم لمن تفرغ له»(4).

العلم والمرجعية

إذا أمعنا النظر في تاريخ العلماء الذين استطاعوا أن يبلغوا درجة المرجعية الرفيعة لرأينا أنهم وصلوا بالعمل الدؤوب والجد المتواصل والتعب وتحمل المصاعب في سبيل تحصيل العلم فلا يمنعهم حرّ ولا يقيدهم برد أو مطر عن حيازته حتى إن بعضهم لم يسافر أبداً(5). من أجل الترفيه وصرف الوقت

ص: 463


1- عيون الحكم والمواعظ: 540.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 771.
3- الخصال 2: 433.
4- منية المريد: 140.
5- هو آية اللّه العظمى الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه) والد الإمام الشيرازي(رحمه اللّه).

بالاستجمام وطلب الراحة ولم يكن يخرج من البيت للنزهة وما أشبه بل كان مشغولاً بالدرس والتحصيل والبحث، وفي عمره كله ما سافر إلّا قليلاً إذ سافر مرة للحج وأخرى لإيران لمرضه وثالثة أيضاً لإيران مع المرحوم الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه) لغرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد البهلوي الأول.

وصية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر

قال النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر: «يا أبا ذر... الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إلى اللّه من قيام ألف ليلة يصلّى في كل ليلة ألف ركعة، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إلى اللّه من... قراءة القرآن كلّه»(1).

فالعالم وطالب العلم لا يوجد عنده مفهوم للليل والنهار بل عليه أن يستفيد من كل فرصة تسنح له من ليل أو نهار ومن سَفَر أو حضر وهكذا.

الآغا بزرك الطهراني(رحمه اللّه)

مرة إلتقيت بأحد العلماء الكبار والمهمين هو المرحوم الشيخ آغا بزرك الطهراني صاحب كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة.

إذ كانت في مدينة كربلاء المقدسة مدرسة تسمى بالمدرسة الهندية تحتوي على مكتبتين كبيرتين، وكان الشيخ آغا بزرك عندما يأتي من النجف إلى كربلاء المقدسة يقضي الليالي حتى الصباح في هاتين المكتبتين مشغولاً في تأليف كتاب الذريعة وهكذا كان حاله في سائر سفراته حتى تمكن من إتمام كتابه القيم.

الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه)

أحد الملازمين للميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه) قائد ثورة العشرين في

ص: 464


1- جامع الأخبار: 37.

العراق المرحوم السيد عبد اللّه الشيرازي(رحمه اللّه)، يقول: كنت في أكثر الأوقات أجالس الميرزا الشيرازي(رحمه اللّه) على مائدة الطعام ونأكل معاً فلم يحدث أبداً أن اشتكى من قلة الغذاء - بالرغم من قلته فعلاً - لأنه يجب أن لا تكون مسألة الغذاء أو سائر التجملات المعيشية والحياتية مؤثرة أوْ لها أهمية بالغة في حياة العالم أو طالب العلم، ولو أعار الميرزا محمد تقي الشيرازي أدنى أهمية لهذه المسائل لما كان ينال هذا المقام الشامخ في المرجعية الدينية وقيادة ثورة العشرين المظفرة! حتى أن المرحوم والدي(رحمه اللّه) كان يقول: لا أذكر أبداً أن الميرزا كان يأمر أحداً لتنفيذ أعماله الشخصية بل كان يقوم بكل شؤونه بنفسه.

الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه)

سافر والدي(رحمه اللّه) بصحبة المرحوم الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه) إلى سامراء وقد كنت مع المرحوم الوالد حيث كنت صغير السن وفي الطريق عطبت السيارة ونزلنا جميعاً إلى حين يصلح السائق السيارة.

وفي أثناء ذلك الوقت القصير فرشتُ بطانية على جانب الطريق وجلس والدي(رحمه اللّه) مع آية اللّه الحاج حسين القمي(رحمه اللّه) مع الآخرين وانشغلوا بالبحث والمناقشة.

نعم الاستفادة حتى من هذه الدقائق القصيرة جعلتهما يصلان إلى ذلك المقام الرفيع من المرجعية والقيادة الدينية للمسلمين، وفي الحديث: «انتهزوا فرص الخير فإنها تمر مرّ السحاب»(1). فيجب على كل طالب علم أن يدرس ويطالع بدقة الكتب الأصولية والفقهية وغيرها، وحسب قول بعض العلماء فإنكتاب (الجواهر)، يحتوي على عشرات الآلاف من المسائل الفقهية فيلزم على

ص: 465


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 152.

طالب العلم أن يرى ويطّلع على هذه المسائل حتى يستطيع أن يجيب على كل ما يسأل عنه عندما ينزل إلى ميدان المجتمع وهداية الناس.

وقد ذكر أحد العلماء بأنه قد راجع أحد الكتب الفقهية أربعين مرة، ولمرات عديدة ومع ذلك تعترضه مسائل جديدة لم يكن يطّلع عليها سابقاً.

والنقطة التي تجب الإشارة إليها هي أنه ليس من العيب أبداً على الفقية أن يقول لا أعلم أو لا أعرف في جواب من يسأله عن مسألة لا يعرفها، وفي الحديث: «قول لا أعلم نصف العلم»(1).

فعليه أن يراجعها حتى يحصل على حكمها الصحيح. ولقد حدث مرات أن سئل الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه) والسيد محسن الحكيم(رحمه اللّه) والمرحوم والدي(رحمه اللّه) والميرزا عبد الهادي الشيرازي(رحمه اللّه) بعض الأسئلة فكانوا يقولون لا نستحضر الأجوبة حالياً.

وهل أن المراجع الأبرار كعلي بن أبي طالب(عليه السلام) الذي يعلم بما كان وما يكون؟

إنَّ هذا خاص بالإمام(عليه السلام) حيث يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني»(2). وهكذا الأنبياء والأئمّة الأطهار(عليهم السلام) فإن لهم علماً من عند اللّه، أما غيرهم فيداخلهم النسيان أو الغفلة وغير ذلك... فليس من النقص أن يقول العالم: لا أدري، بل إنّ النقص أن يفتي بغير علم فإنه محرم مضافاً إلى أنه قبيح ويكون من المهلكات. وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من اللّه لعنتهملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه» (3). وفي حديث

ص: 466


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 499.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 189 من كلام له(عليه السلام) في الإيمان ووجوب الهجرة.
3- المحاسن 1: 205.

آخر قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار»(1).

الحوزات العلمية والعلوم الإنسانية

على كل طالب علم أن يطلب العلم ويحصل علية في كلّ مجال من المجالات حتى يكون مطلعاً على الأمور وواعياً لكل المسائل، وإذا ترك طلب العلم وتحصيله فإنه سيبقى إلى نهاية العمر يراوح مكانه ولا يصل إلى أية درجة أو مقام إلهي وبالنتيجة سوف لا يستطيع أن يخدم المجتمع والإسلام كما ينبغي.

لإنه هل باستطاعة الجاهل أن يتسلم زمام الأمور أو يحل مشاكل الناس؟

ونحن نسأل كم من دروس السياسة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي والاجتماع والإدارة والتخطيط ونحوها من العلوم التي ترتبط بدنيا الناس تدرس في الحوزة؟

أو هل أُلِّف شيء من ذلك من قبل الفضلاء والعلماء في شؤون الإسلام؟

إن العلوم التي ترتبط بالدين ومفاهيمه تدرس بالحوزة العلمية المباركة ولكن هناك أمور أخرى يحتاج إليها الناس على الطالب أن يتعلمها كالسياسة والاقتصاد وغيرها، خاصة وقد وردت عشرات الروايات بل أكثر في هذه الشؤون ذكرتها كتب الحديث.

في العراق رأيت كتاباً حجمه ضعف حجم المنجد في اللغة والأعلام، قيل أن هذا الكتاب هو مادة السياسة الذي يدرس في جامعة بغداد ومن الواضح أن جامعاتنا لا تدرس مفاهيم الإسلام ومبادئه وآراءه وإنما تأخذ أكثر مفاهيمها من المبادئ الغربية والشرقية، وهذا أمر لا يعود سببه إلى الجامعات فقط بل يعودقسمٌ منه إلينا لأننا لم نسد الحاجة في ذلك ولم نبين وجهة نظر الإسلام الصحيحة تجاه المفاهيم والقضايا فإذا لم يدرس الطالب الكتب السياسية

ص: 467


1- من لا يحضره الفقيه 3: 569.

وغيرها أو لم تكتب وتؤلف في الحوزات العلمية المباركة هذه العلوم فالنتيجة القهرية هي أن يبادر الغرب - بل بادر - بكتابة وتأليف الكتب السياسية وغيرها ويقحمها في جامعاتنا ومدارسنا لتسيطر على ثقافتنا وأفكارنا ويقتطعنا عن الثقافة الإسلامية والقوانين الإلهية الرفيعة.

الافتقار إلى التاريخ

كم كتبَ وألّفَ طُلّاب العلوم الدينية من الكتب في التاريخ الإسلامي؟

وما هي الحقائق التاريخية التي يجب على كل المسلمين أن يتعلموها ويدرسوها ويتعظوا بتجاربها لكي يتمكنوا من أن يتخلصوا من الأزمات التي تعصف بهم ويعيشوا عيشة عزيزة؟ وما هو سبب سقوط حكومتي بني أمية وبني العباس؟ ماذا كانت تفعل الحكومة العثمانية ولماذا آلت إلى السقوط؟ ولماذا سقط الصفويون؟ وكيف هجمت أفغانستان على إيران؟ ولماذا؟ وما هي الحكومات التي حكمت العالم الإسلامي على مَرّ التاريخ؟

هذه موارد وغيرها أيضاً تبحث في علم التاريخ ولكن ليس هناك كتب جامعة وصحيحة تجيب عن هذه الأسئلة إلّا القليل النادر وهذا نقص فادح! يعانيه المسلمون اليوم في تجاربهم المتكررة في الحياة السياسية والاجتماعية.

افتقاد الحوزات العلمية لدرس علم النفس

اشارة

قيل إن في إحدى إذاعات العالم حوالي سبعين عالماً(1) متخصصاً في علم النفس وهؤلاء يقومون بصياغة الأخبار وما يلقى عبر الإذاعة بشكل يؤثر تأثيراًبالغاً في نفس المستمع، إن تلك الإذاعة معادية إلى الإسلام والمسلمين وهي تكذب بلا شك ولكنها تعرف كيف تصوغ كذبتها لذلك بقيت تلك الدولة ماضية

ص: 468


1- نفس هذه الإحصائية تنسب إلى إذاعة إسرائيل حسب بعض التقارير.

في وجودها على رغم كل الظلم والجرائم التي ترتكبها كل يوم باستمرار! لأنها تعرف كيف تؤثر في الناس وتنتشر بينهم وتغريهم بأفكارها وبرامجها المنحرفة.

ونحن تأخرنا عن ركب الحضارة بسبب افتقادنا لعلم النفس وسائر العلوم المهمة في برامجنا الحياتية والعلمية.

لمحة من حياة الملا أحمد النراقي

مما ينقل عن الملا أحمد النراقي(رحمه اللّه) انه عندما بدأ بدراسته العلوم الدينية كان يأخذ كل رسالة تصله ويجعلها في مكان خاص من دون أن يقرأها ليطّلع على محتواها، وذات يوم قال له أستاذه: لماذا لا تقرأ الرسائل التي تصلك؟

قال: لأني أقسمت أن لا أقرأ أية رسالة تصلني حتى لا أتأخر عن الدرس والتحصيل لأنني أعتقد بأنّ الدراسة واجب عيني!

قال الأستاذ: إن الرسالة الأخيرة تذكر بأن والدك مريض جداً فقال الملا أحمد: لأن إطاعة الأب واحترامه ضروري فإني أسافر إلى موطني حتى أطمأن على صحته وأحواله... ، لأن المطلوب من العالم أن ينكب على الدراسة والتدريس حتى يتمكن أن يقود الناس قيادة سليمة وصحيحة، ولو انشغل بالهوامش وجزئيات الحياة فإنها سوف تؤخره عن تقدمه لأن جزئيات الحياة ومشاكلها لا تنتهي أبداً... ، نعم يجب على الطالب أن يراعي الأهم عندما تداهمه مشكلة أو فراق عزيز أو غيره بين الاستمرار وتنظيم أوقاته وأعماله بشكل يتمكن على الأغلب من الجمع بين وظيفة تحصيل العلم ووظيفة المجتمع وحقوقه عليه في التحصيل أو ترك التحصيل مؤقتاً لحين ما تنقضي الأزمة لأنه كما أن العلم مطلوب منه فكذلكالجانب الإجتماعي والإنساني مطلوب منه أيضاً ولو تركه أدى ذلك إلى انعزاله عن الناس وفقدانه لأهم مهمة من مهماته في الحياة وهي هداية الناس وإرشادهم.

ص: 469

الشهيد الأول(رحمه اللّه)

وينقل عن أحوال الشهيد الأول(رحمه اللّه) أنه كان مجداً في الدراسة إلى أبعد الحدود وكان يقضي أغلب الليل في المطالعة والدراسة، ولأجل أن لا يغلبه النعاس والنوم كان يجعل إلى جواره إناءً فيه ماء بارد وكان كلما شعر بتسلل النعاس إلى عينيه ادخل يده في الماء البارد ليبعد النعاس عن عينيه، ولذلك عندما سجنه حاكم الشام السني في الشام ألف كتاب اللمعة الدمشقية في سبعة أيام وهو في السجن بالرغم من صدور حكم الإعدام بحقه!

وبعد مدة أعدم شنقاً ثم رموا جسده الشريف بوابل من الحصى والحجارة، وبعد مدة انزلوا جثمانه الطاهر من أعواد المشنقة واحرقوه حتى أصبح رماداً فذروه في الهواء.

قلة الكتب الشيعية

على طالب العلم عموماً أن يجعل ثمان ساعات فقط للأكل والنوم والصلاة ويخصص الست عشرة ساعة الباقية كلها في سبيل الدراسة فعند ذلك سيتمكن من الحصول على النتيجة المطلوبة في العلم والتحصيل ويكون قادراً على التأليف والقيام بالخدمات الدينية المهمة في المجتمع، وذلك لأن الشيعة في الوقت الحاضر وبالخصوص في السنوات المتأخرة من جهة تأليف الكتب بشكل عام في مقابل بعض الطوائف الأخرى في ضعف وإرباك وليس لهم نصيب يذكر في هذا المجال!

فمن باب المثال صمم أحد العلماء على القيام ببحث موضوعي حولالحكومة السياسية في الإسلام ولأنه كان بحاجة إلى بعض الكتب في هذا المجال طلب من بعض أصدقائه المطلعين أن يساعدوه في ذلك ويقوموا بتقصي

ص: 470

الكتب التي تبحث عن الحكومة الإسلامية في المكتبات العامة في ذلك البلد وبعد مدة عندما جاؤوا له بالكتب رأى ان أغلبها لغير الشيعة سوى بعض الكتب القليلة مثل (تنزيه الملة) للمرحوم الميرزا النائيني(رحمه اللّه) وأما باقي الكتب وهي في حدود المئة فكانت أغلبها لمؤلفين سُنة. وذلك لأننا لم نهتم بهذا الجانب كما هو المطلوب كاهتمامنا بباقي العلوم الأخرى مع أنه من أهم الأركان الحياتية التي تخص المسلمين خاصة في هذه العصور الأخيرة والتي جاءت مطالبها بكثرة في سيرة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام). إذن على كلّ طالب علم أن يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه وأن يعطي الأهمية القصوى للدرس دون غيره من الأعذار ويتعب نفسه ويجتهد في هذا السبيل حتى أنّ بعض علمائنا الفقهاء كان يحفظ من الشعر ثمانية آلاف بيت من مختلف العلوم ومن ضمنها ألفية ابن مالك(1).

نظرية الشيخ الطوسي(رحمه اللّه)

عقد مجلس في إحدى البلاد الإسلامية ودار الحديث فيه حول مواضيع شتى ثم استقر حول الشيخ نصير الدين الطوسي(رحمه اللّه) فقال أحد الحاضرين شيئاً عجيباً وهو أن الشيخ الطوسي(رحمه اللّه) طرح نظرية قبل حوالي سبعمائة عام استندت عليها أكثر النظريات الحديثة وعلى أساس نظرية الشيخ الطوسي استطاع روّاد الفضاءمن الصعود إلى القمر ووضع أقدامهم على سطحه.

جانب من أحوال سعدي

ومما تنقله الكتب عن أحوال الشاعر الفارسي سعدي أنه قضى ثلاثين سنة من

ص: 471


1- هو آية اللّه العظمى الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه).

شبابه في الدرس والبحث والتحصيل والمطالعة وبعد ذلك قضى ثلاثين عاماً أخرى في التجوال والسياحة والتطلع في بعض مناطق العالم، وكانت حصيلة ما قضاه ستين سنة في التجربة النظرية والعملية إلى أن كتب كتابين باسم (كلستان) و(بوستان) ومعنى الأول مشتل الأزهار والأوراد ومعنى الثاني البستان أو الحديقة الغنّاء بالأزهار والأريج وهو لحد الآن لم يفقد طراوته وقوته في التعبير والدلالة وهو من الكتب الحكيمة المهمة عند المفكرين في العالم. وما ذلك إلّا لتعبه ومواصلته في الكسب والتحصيل والإستطلاع على الحقائق.

الفضل ما شهدت به الأعداء

السيد هبة الدين الشهرستاني(رحمه اللّه) يقول: إن أحد المفكرين الغربيين قال هذه الكلمات في حق الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام):

(لو بعث عليّ بن أبي طالب بعد ألف وأربعمائة عام واشتهر أنه سيلقي خطاباً في مسجد الكوفة فنحن الغربيين سنحضر جميعاً تحت منبره ونملأ المسجد بابناء ملتنا بما لا يبقى للمسلمين مكان في المسجد حتى لمسلم واحد، لأننا نحن الغربيين أعرف بشخصية علي بن أبي طالب من المسلمين لأنه أعطى أهمية عظمى للعلم والعلماء ونحن أعرف وأكثر تقديراً له من المسلمين)(1).

محتوى كتاب المغني

محتوى كتاب المغني(2)

على طالب العلم أن يدرس كتاب المغني بكامل أبوابه الثمانية حتى يصبح متكاملاً في هذا الجانب أما الذين يدرسون من هذا الكتاب باباً أو بابين فإنهم

ص: 472


1- هذا الاهتمام الشديد لدى الغرب بالعلم والعلماء هو الذي ساعدهم مساعدة كبيرة على التقدم والتطور الصناعي الكبير الذي نشهده اليوم.
2- من الكتب المهمة التي تدرس في الحوزة في مرحلة السطوح وهو كتاب ادبي مهم.

على خطأ كبير في ذلك لأنّ كثيراً من المسائل والمطالب ستخفى عليهم وسيكونون في مقابلها عند مواجهتها مكتوفي الأيدي عن حلها أو دركها!

وقد ذكروا حول مؤلف هذا الكتاب أنه سئل لماذا جعلت الآيات القرآنية شواهد على مطالب المغني ولم تذكر مواطن الآيات وأرقامها في السور؟

فقال مستغرباً: وهل هناك من يقرأ المغني وهو غير حافظ للقرآن الكريم؟ وإني قد جعلت ثمانية أجزاء من القرآن في كتابي هذا!

فخلاصة الكلام أنه يجب الاستفادة من كل لحظة في تحصيل العلم وتعلمه من دون توقف أو التماس للأعذار وما أشبه حتى نتمكن من أن نبلغ مرتبة سامية في ذلك وبالتالي نحصل على توفيق خدمة الناس وهدايتهم وإرشادهم إلى الصراط المستقيم. «اللّهمّ ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النيّة وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة»(1).

نسأل اللّه تعالى أن يوفقننا لما يحب ويرضى في القول والعمل الصالح إنه سميع مجيب.

من هدي القرآن الحكيم

التفقه والعلم

قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(2).

وقال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰئِكَ

ص: 473


1- البلد الأمين: 349.
2- سورة التوبة، الآية: 122.

كَانَ عَنْهُ مَسُْٔولًا}(1).

وقال عزّ وجلّ: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}(2).

الحكمة والعلم

قال جلّ شأنه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ}(3).

وقال عزّ اسمه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ}(4).

وقال جلّ وعلا: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}(5).

الإيمان والعلم

قال عزّ من قائل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(6).

وقال جلّ ثناؤه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(7).وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَٰنَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ

ص: 474


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة الأنعام، الآية: 116.
3- سورة الجمعة، الآية: 2.
4- سورة البقرة، الآية: 129.
5- سورة البقرة، الآية: 151.
6- سورة المجادلة، الآية: 11.
7- سورة فاطر، الآية: 28.

خُشُوعًا}(1).

وقال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

من هدي السنّة المطهّرة

وجوب طلب العلم والحثّ عليه

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ألّا إنّ اللّه يحبّ بغاة العلم»(3).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «تفقهوا في الدين فإنه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي»(4).

وقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): «لوددت أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيها الناس اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألّا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال إنّ المال مقسوممضمون لكم قد قسمه عادل بينكم، وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله وقد أمرتم بطلبه من أهله فأطلبوه»(6).

ص: 475


1- سورة الإسراء، الآية: 107-109.
2- سورة الزمر، الآية: 9.
3- الكافي 1: 30.
4- الكافي 1: 31.
5- الكافي 1: 31.
6- الكافي 1: 30.
أهمية العلم

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم قائد والعمل سائق والنفس حرون»(1)(2).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) عن أبي ذر قال: ... «إن قلباً ليس فيه شيء من العلم كالبيت الخراب الذي لا عامر له»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «إن أُجِّلت في عمرك يومين فاجعل أحدهما لأدبك لتستعين به على يوم موتك»، فقيل له: وما تلك الاستعانة؟ قال: «تحسن تدبير ما تخلف وتحكمه»(4).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم يرفع الوضيع وتركه يضع الرفيع»(5).

وقال(عليه السلام): «لا كنز أنفع من العلم»(6).

طلب العلم

وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «إذا فقِهت فتفقه في دين اللّه سبحانه».(7).وقال(عليه السلام): «إذا أراد اللّه بعبد خيراً فقهه في الدين وألهمه اليقين»(8).

في ذم علماء السوء

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا

ص: 476


1- الحَرون: الفرس الذي لا ينقاد وإذا اشتد به الجري وقف.
2- تحف العقول: 208.
3- الأمالي للشيخ الطوسي: 543.
4- الكافي 8: 150.
5- بحار الأنوار 75: 6.
6- الكافي 8: 19.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 286.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: 291.

ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإنّ أهل النار ليتأذون بريح العالم التارك لعلمه»(1).

وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل يا رسول اللّه وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم»(2).

وعنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً: «من تعلم علماً ليماري به السفهاء ويباهي به العلماء ويصرف به الناس إلى نفسه يقول: أنا رئيسكم فليتبوأ مقعده من النار، إنّ الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة»(3).

وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «انّي لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً فأمّا المؤمن فيحجزه إيمانه وأما المشرك فيقمعه كفره ولكن أتخوف عليكم منافقاً عليم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون»(4).

ص: 477


1- الخصال 1: 51.
2- الكافي 1: 46.
3- الإختصاص: 251.
4- منية المريد: 136.

ضروريات طالب العلم

اشارة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قليل العلم خير من كثير العبادة»(1)، فهناك أبعاد ثلاثة ضرورية جداً بالنسبة لطالب العلم ومكملة لشخصيته العلمية والدينية في المجتمع:

البعد الأول: العلم الكثير

اشارة

وهو ضروري جداً لطالب العلم لأنه لا يستطيع أن يؤثر في الناس ويهديهم إلى سبيل الرشاد إلّا بواسطة العلم وكلما كان علمه أكثر وأعمق وأوسع في شموله لأبعاد الحياة الدينية والاجتماعية كان مدى تأثيره وهدايته أكثر فأكثر، وتحصيل العلم بحاجة إلى صرف كلّ العمر في هذا السبيل ولذلك فإنّ لسان حال العلم يقول لطالب العلم: (أعطني كُلَّك أعطك بعضي).

أهمية العلم في نظر العلماء

جواهر الكلام من الكتب الفقهية المشهورة وهو يعتبر من شمل الكتب الاستدلاليّة إذ أنّه يحتوي على عشرات لآلاف من الأحكام والقوانين الإسلامية المختلفة وربما لم يأت عالم من العلماء منذ زمان شيخ الطائفة إلى الفترة الأخيرة وقد تمكن أن يكتب دورة الفقه بشكل كامل ومفصل واستدلالي غير صاحب الجواهر.

وينقل في أحوال صاحب الجواهر أنه عندما بلغهُ خبر وفاة ولده جلس إلى

ص: 478


1- منية المريد: 105.

جوار جنازته وهو مستمر بتأليف كتاب الجواهر ودموعه تجري على خديه.

البعد الثاني: البعد التربوي

اشارة

وهو مهم جداً لكل طالب علم، لأن أهم وظيفة يؤديها طالب العلم هو الإصلاح والإرشاد والتوجيه الاجتماعي، فيجب على طالب العلم مضافاً إلى تحصيل العلم الكثير أن يهتم بتربية المجتع بالطرق الصحيحة وبالأسلوب الذي طبقه الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تربية المجتمع. قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) «ارحم من أهلك الصغير ووقّر منهم الكبير» (1).

وفي الحديث: «وأنزلهم جميعاً منك منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ»(2).

إن مكانة طالب العلم الناجح والمؤثر بين الناس تستلزم معايشتهم ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم بلا ترفع وانعزال وعلى قول الشاعر:

ولن تستطيع الحلم حتى تحلّماً(3)

وفي الرواية «الخلق عيال اللّه»(4). وبهذا المضمون يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «اجعل نفسك ميزاناً في ما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لها»(5)،

وهذه الصفة جاءت في الشريعة

ص: 479


1- الأمالي للشيخ المفيد: 222.
2- تحف العقول: 271.
3- من بيت شعر للحاتم الطائي وهو: تحلم عن الأدنين واستبق ودهم *** ولن تستطيع الحلم حتى تحلّما أساس البلاغة: 195.
4- الكافي 2: 164.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(عليه السلام) لولده الحسن(عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.

الإسلامية باسم المواساة، وفي الواقعة المشهورة عندما ورد أبو الفضل العباس(عليه السلام) المشرعة وأراد أن يشرب الماء وضع يده تحت الماء ورفعها ليشرب تذكر عطش أخيه الحسين(عليه السلام) والأطفال والعيال فرمى الماء من يديه ولم يشرب(1) مواساة لأخيه بالرغم من عطشه الشديد، ولو شرب العباس(عليه السلام) الماء لما كان مرتكباً للحرام بالرغم من قرب شهادته وتحيته الكبيرة في سبيل دينه وإمامه ومبدئه فهذه مواساة الأخ لأخيه وسائر العطاشى في رمضاء كربلاء تحت وهج الشمس في هاجرة العاشر من المحرم بل إنه(عليه السلام) وفضلاً عن مواساته لأخيه الحسين(عليه السلام) خاطب نفسه قائلاً:

يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنت أن تكوني

هذا الحسين شارب المنون *** وتشربين بارد المعين

واللّه ما هذا فعال ديني *** ولا فعال صادق اليقين(2)

الإمام الصادق(عليه السلام) والمواساة

يقول الراوي دخلت على الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) فرأيته وعلى كتفه عباءة خلقه ومرقعة فقلت يا ابن رسول اللّه ما هذه العباءة المرقعة؟

فقال(عليه السلام):

ان بين المسلمين كثيراً ممن لا يجد حتى مثل هذه العباءة(3). فالدنيا ليس لهاأية قيمة أبداً إلى درجة أنه ورد في بعض الروايات أنها لا تساوي حتى جناحي بعوضة.

ص: 480


1- انظر مقتل الحسين(عليه السلام) لأبي مخنف: 179.
2- انظر ينابيع المودة 3: 67.
3- ربما كان فعل الإمام(عليه السلام) لإختلاف الزمان والمكان حيث لبس العباءة المرقعة واللّه العالم راجع الرواية في كتاب ناسخ التواريخ باب ما يتعلق بالامام الصادق(عليه السلام).

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لو عدلت الدنيا عند اللّه عزّ وجلّ جناح بعوضة لما سقى الكافر منها شربة»(1).

وقيل أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مرّ على سخيلة منبوذة على ظهر الطريق فقال: «والذي نفسي بيده للدنيا أهون على اللّه من هذا الجدي على أهله»(2).

يوسف(عليه السلام) والمواساة

كما ورد في تاريخ النبي يوسف(عليه السلام) إنه عندما كان ملكاً لمصر وكانت كلّ الخزائن تحت تصرفه بحيث أنه أنقذ شعب مصر من قحط سبع سنوات، وكان يوسف(عليه السلام) في فترة سلطانه ضعيفاً جداً، فجاء الأطباء عنده وسألوه عن سبب ذلك، فقال(عليه السلام): عندي ألم خفي!

قالوا: أخبرنا عنه لعلنا نستطيع علاجه.

قال(عليه السلام): إنّ نفسي تأمرني كلّ يوم أن أشبعها وأنا أبقي عليها جائعة دائماً!

قالوا: فكم سنة أنت تأكل دون الشبع؟

قال(عليه السلام) سبع سنوات!

قالوا: لماذا لا تأكل حتى الشبع؟

قال(عليه السلام) إني أخاف يوم القيامة أن يقول لي اللّه تعالى يا يوسف لماذا نمت وأنت شبعان ورعاياك من الناس ينامون جياعاً؟ فكيف يكون جوابي؟

البعد الثالث: التقوى والعيش البسيط

اشارة

من الصفات المهمة أيضاً التي يجب على كلّ طالب علم أن يتحلى بها هي التقوى على سبيل الملكة والتطبع وكذلك العيش البسيط السهل وعدم الاعتناء

ص: 481


1- الإختصاص: 243.
2- انظر الكافي 2: 129.

بالدنيا وزخرفها وبهرجها وبريقها والشاعر الفارسي سعدي قال في هذا المجال:(1).

لو علمت لذة ترك اللذة لما حسبت الشهوات لذة، وإذا فتحت لنفسك باباً إلى السماء أغلقت ألف باب من الناس على نفسك [فلا تحتاج إليهم].

تأثير أحد العلماء الزهاد في الناس

الملّا حسين قلي(رحمه اللّه) هو أحد الأساتذه المهمّين وكان زاهد عصره، تلاميذه ينقلون في أحواله بأنه كان في النجف الأشرف شخص من الأشرار الأشقياء في أول الأمر اسمه (عبد فرّار) وكان الجميع يخافون منه خوفاً شديداً، وكان أوجب على الجميع أن يحترموه ويقدروه عندما يمرون عليه وإذا مرّ هو من مكان فيجب على الجالسين أن يقوموا احتراماً له.

وفي ذات يوم دخل عبد فرّار الصحن الشريف للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) فقام له كلّ من كان في الصحن خوفاً منه، وكان في الصحن أيضاً الملّا حسين قلي فلم يقم له ولم يعتنِ به أو يأبه له، فأثار ذلك كبرياء عبد فرّار وخاطب الملّا حسين قلي، ألم تعرف بأني عبد فرّار؟

فلماذا لم تقف احتراماً لي؟

فقال الملّا حسين قلي: إذا كنت عبد فرّار فممّن فررت؟

أمن اللّه فررت أم من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أم من علي بن أبي طالب(عليه السلام)؟

فنزل هذا الكلام على قلب عبد فرّار كالصاعقة وظل باهتاً لا يدري ما يقول أو

ص: 482


1- ونص البيت هو كالآتي: اگر لذت ترك لذت بدانی *** دگر شهوت نفس لذت ندانی هزاران در از خلق بر خود ببندی *** گرت باز باشد دری آسمانی

يجيب وأقفل مسرعاً إلى البيت.

وفي اليوم التالي عندما كان الملاّ حسين قلي مشغولاً بالتدريس بلغهُ خبر وفاة عبد فرّار فعطّل الملّا درسه على أثر ذلك وقال لتلامذته هلمّوا بنا لنشيع جنازة أحد أولياء اللّه، ثم توجهوا إلى بيت عبد فرّار وعندما وصلوا هناك تعجب الناس من أنه كيف يأتي الآخوند الملّا حسين قلي لتشييع جنازة عبد فرّار ثم تقدم الملّا حسين وسأل زوجة عبد فرّار عن كيفية وفاته فقالت: أمس بعد الظهر جاء عبد فرّار البيت ولكن ليس كعادته بل كان كالأفراد الذين أصابهم مس من الجنون وهو غائب عمّا حوله ولم يلتفت إلى شيء ومنذ ذلك الحين وإلى صباح هذا اليوم كان يبكي بكاء الثكلى وعندما أصبح مات فجأة، فالتفت الملّا حسين إلى تلامذته وقال هنيئاً لعبد فرّار إنه طوى المسيرة التي يجب أن نقضيها طول حياتنا بليلة واحدة!

فهذا هو التأثير الذي يوقعه الأفراد الزاهدون في الدنيا في الآخرين إذا كانوا من أهل العمل والصدق والإخلاص.

إنّ هؤلاء الزهّاد التاركين للدنياهم وحدهم الذين يستطيعون أن يؤثّروا في الناس ويرشدوهم إلى طريق الخير والهداية أكثر من أولئك المتعلقين بالدنيا والمؤثرين لها على كل شيء فالمعنويات والفضائل والأخلاق هي التي تصنع الإنسان وتمنحه الحرية والرفعة والسمو وتزيل الرين عن القلوب الجافية.

الشيخ جعفر الشوشتري(رحمه اللّه)

الشيخ جعفر الشوشتري(رحمه اللّه) هو أحد العلماء والخطباء البارزين في عصره وكان قمة في الزهد والتقوى، في أحد الأيام جاءه شخص كان مملوكاً لأحد المسلمين وطلب منه أن يتكلم على المنبر حول تحرير العبيد وعتقهم والثواب

ص: 483

الجزيل الذي خصصه اللّه تعالى للمالك الذي يعتق عبده وأثره الحسن في يوم القيامة وذلك حتى يسمع سيده ومالكه هذا الكلام عسى أن يتشوق إلى الثواب أو يرق لحاله ويعتقه، فقال الشيخ جعفر الشوشتري(رحمه اللّه) لا بأس سأتكلم حول ذلك إن شاء اللّه.

ثم مضت على المحادثة عدة شهور ولم يحدث أن تكلم الشيخ جعفر حول العتق وثوابه، والعبد ينتظر ذلك على أحرّ من الجمر، حتى كانت ليلة من الليالي وإذا بالشيخ جعفر يخصص مجلساً كاملاً للحديث حول تحرير العبيد وعتقهم في الإسلام وثواب ذلك وأثره النفسي الإيجابي في نفوس العبيد وفي المجتمع، فأثّر ذلك الكلام تأثيراً بالغاً في نفس مولى ذلك العبد ممّا سبب أن يعتقه، ثم أن العبد الذي حرّر بقي متعجباً من تأخير الشيخ جعفر حديثه عن هذا الموضوع مما جعله يذهب إلى الشيخ ويسأله عن سبب هذا التأخير المثير للعجب والاستغراب... فقال الشيخ جعفر عندما طلبت مني أن أتكلم حول موضوع العتق آنذاك لم يكن لديَّ شيء من المال حتى اشتري عبداً وأعتقه حتى يؤثر حديثي في مولاك، لذلك بدأت بجمع المال إلى أن تمكنت من جمع مقدارٍ اشتريت به عبداً وأمس أعتقت ذلك العبد الذي اشتريته فصرت بذلك فاعلاً للخير ومترجماً ومتعطفاً على الغير فجعل اللّه تعالى التأثير في كلامي على قلوب المستمعين حتى يعتقوا عبيدهم وكنت أنت أحد المصاديق في ذلك.

قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «زيادة الفعل على القول أحسن فضيلة...»(1).

ثم إننا إذا أردنا أن نهدي الناس ونرشدهم إلى الصراط المستقيم فعلينا أن نبادر نحن أولاً إلى تحقيق هذه الأبعاد الثلاثة في نفوسنا ونبدأ بفعل الخير وعمل

ص: 484


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 391.

الصلاح ونزهد في الدنيا حتى يكون كلامنا مؤثراً ومرشداً لهم إلى الطريق الصحيح في الحياة.

من هدي القرآن الحكيم

العلم

قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(1).

وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(2).

وقال عزّ وجلّ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}(3).

وقال جلّ شأنه: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ}(4).

فضل العلم

قال عزّ اسمه: {قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}(5).

وقال جلّ وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(6).وقال عزّ من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَٰنَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}(7).

ص: 485


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- سورة المجادلة، الآية: 11.
3- سورة سبأ، الآية: 6.
4- سورة الحج، الآية: 54.
5- سورة الكهف، الآية: 66-67.
6- سورة فاطر، الآية: 28.
7- سورة الإسراء، الآية: 107-109.

من هدي السنّة المطهّرة

أهمية العلم

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «رأس الفضائل العلم، غاية الفضائل العلم»(1).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم ضالة المؤمن»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «كلّ وعاء يضيق بما جعل فيه إلّا وعاء العلم فإنّه يتسع به»(3).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «قلب ليس فيه شيء من الحكمة كبيتٍ خرب، فتعلّموا وعلّموا وتفقّهوا ولا تموتوا جهالاً فإن اللّه لا يعذر على الجهل»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العلم رأس الخير كلّه والجهل رأس الشر كله»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن العلم حياة القلوب ونور الأبصار من العمى وقوة الأبدان من الضعف»(6).وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل»(7).

فضل العلم والعالم على غيره

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «العالم بين الجهال كالحي بين الأموات»(8).

ص: 486


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 41.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 66.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 205.
4- نهج الفصاحة: 600.
5- بحار الأنوار 74: 175.
6- الأمالي للشيخ الصدوق: 616.
7- الصراط المستقيم 1: 131.
8- الأمالي للشيخ المفيد: 29.

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فضل العلم أحب إلى اللّه عزّ وجلّ من فضل العبادة»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «تذكر العلم ساعة خير من قيام ليلة»(2).

وقال(عليه السلام): «عالم ينتفع بعلمه أفضل من عبادة سبعين ألف عابد»(3).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «إنّ فضل العالم على العابد كفضل الشمس على الكواكب وفضل العابد على غير العابد كفضل القمر على الكواكب»(4).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ركعتان يصليها العالم أفضل من ألف ركعة يصليها العابد»(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «عالم أفضل من ألف عابد وألف زاهد»(6).

وعن الإمام الرضا(عليه السلام): «يقال للعابد يوم القيامة: نِعم الرجل كنت، همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤونتك فادخل الجنة ألّا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم... ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمد،الهادي لضعفاء محبيه ومواليه، قف حتى تشفع لمن أخذ عنك أو تعلم منك»(7).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ركعتان من عالم خير من سبعين ركعة من جاهل لأن العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه وتأتي الجاهل فتنسفه نسفاً»(8).

ص: 487


1- الخصال 1: 4.
2- بحار الأنوار 1: 204.
3- بصائر الدرجات 1: 6.
4- بصائر الدرجات 1: 8.
5- مكارم الأخلاق: 441.
6- ثواب الأعمال: 131.
7- منية المريد: 117.
8- الإختصاص: 245.
النظر إلى العالم

وقال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «النظر في وجوه العلماء عبادة».

وسئل الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) عنه فقال: «هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكرّك الآخرة ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة»(1).

العلم فريضة

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أُطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كلّ مسلم»(2).

وقال الإمام زين العابدين(عليه السلام): «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج»(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «كان في ما وعظ لقمان ابنه أنه قال له: يا بني اجعل من أيامك ولياليك وساعاتك نصيباً لك من طلب العلم فإنك لن تجد له تضييعاً مثل تركه»(4).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة»(5).

آثار طلب العلم

قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طالب العلم بين الجهال كالحي بين الأموات»(6).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من عبد يغدو في طلب العلم ويروح إلّا خاض

ص: 488


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 84.
2- روضة الواعظين 1: 11.
3- الكافي 1: 35.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 68.
5- كنز الفوائد 2: 107.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 577.

من الرحمة خوضاً»(1).

وعن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك اللّه به طريقاً إلى الجنة»(2).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل اللّه»(3).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «طالب العلم يستغفر له كلّ شيء حتّى الحيتان في البحار والطير في جو السماء»(4).

أصناف طلبة العلم

قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «طلبة العلم على ثلاثة أصناف ألّا فاعرفوهم بصفاتهم وأعيانهم: فصنف منهم يتعلمون للمراء والجهل وصنف منهم يتعلمون للاستطالة والختل وصنف منهم يتعلمون للفقه والعقل.

فصاحب المراء والجهل تراه مؤذياً ممارياً للرجال في أندية المقال قدتسربل بالخشوع وتخلّى من الورع فدقّ اللّه من هذا حيزومه(5) وقطع منه خيشومه.

وصاحب الاستطالة والختل فإنه يستطيل به على أمثاله من أشكاله ويتواضع للأغنياء من دونهم فهو لحلوائهم هاضم ولدينه حاطم فأعمى اللّه من هذا بصره وقطع من آثار العلماء أثره.

ص: 489


1- بصائر الدرجات 1: 5.
2- الكافي 1: 34.
3- روضة الواعظين 1: 10.
4- بحار الأنوار 1: 173.
5- الحَيْزوم: وسط الصدر.

وأما صاحب الفقه والعقل فإنك فتراه ذا كآبة وحزن قد قام الليل في حِنْدِسه(1) وانحنى في بُرْنُسه(2) يعمل ويخشى خائفاً وجلاً من كلّ أحد إلّا من كلّ ثقة من إخوانه فشد اللّه من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه»(3).

ص: 490


1- الحِنْدِس: الظلمة أو الليل الشديد الظلمة.
2- البُرْنُس: قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام، أي تعمد للعبادة وتوجه إليها وصار في ناحيتها وتجنب الناس وصار في ناحية منهم.
3- أعلام الدين: 89.

ما يحتاجه طالب العلم

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1).

جاءت الآية الكريمة على صورة الاستفهام، وذلك لأن الاستفهام يعتبر من أقوى المحركات المثيرة للمشاعر، فمن باب المثال يقول الأب لابنه الذي صدر منه عمل غير صحيح: هل هذا العمل الذي صدر منك صحيح؟

وذلك في صيغة الاستفهام فهو يعنفه بهذا الاستفهام لأنه أكثر وقعاً في النفس من نفس التعنيف، وهذا الأسلوب البليغ في أداء المعاني والمفاهيم على تمامها، مستعمل كثيراً في القرآن وكذا في الأحاديث الشريفة وأيضاً يستعمل في الشعر فضلاً عن النثر. فهذه الآية الشريفة تبين فضل التعلم بصورة الاستفهام وتقول أيها الناس أنتم احكموا واقضوا هل يستوي العالم مع الجاهل؟

في الوقت الحاضر أصبحت بعض العلوم في متناول الكثير ممن باستطاعته تعلمها ودراستها بدون مانع إلّا بعض العلوم النادرة التي نهى عنها الشارع(2). وفي الرواية عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «قيمة كلّ امرىءٍ ما يحسنه»(3).

ما يلزم طالب العلم

اشارة

حديثنا في هذه الصفحات بعد أن قدمنا تلك المقدمة الصغيرة المختصرة

ص: 491


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- كالتنجيم والسحر والقيافة وغيرها على تفصيل مذكور في كتاب المكاسب من الفقه.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 81.

سيدور حول أهم شرط من الشروط التي يجب أن تتوفر في أهل العلم وطلابه، لأن على طالب العلم أن تتوفر فيه ستة شروط لكي تكتمل شخصيته العلمية والتوجيهية بين الناس بحيث إذا افتقد واحدة أو أكثر منها فإنه يلزم عليه أن يسعى لإيجادها وتحقيقها في نفسه حتى يتمكن من أن يقود المجتمع والناس إلى ما فيه صلاح دنياهم وآخرتهم.

والشروط الستة هي

التقوى، والأخلاق الحميدة وقوة القلم، والبيان والسعي الجاد من أجل تأسيس المؤسسات وإقامة المشاريع الاجتماعية والخدمية للأمة وهذه الشروط ليست محل بحثنا اليوم وإنما كلامنا نحصره في الشرط السادس وهو العلم.

ونرجئ الكلام في الشروط الخمسة الأخرى إلى وقت آخر إن شاء اللّه تعالى.

العلم وطالب العلم

اشارة

والعلم يشمل الدراسة والتدريس والمطالعة والحفظ وكل ما يتعلق بذلك من أمور...

ولكي يصل الطالب إلى مرتبة العلم والعلماء يشترط فيه المواصلة والاستمرارية وبذل الوسع في التحصيل.

كما قال النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»(1). وقول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من المهد» ليس لغواً فإنّ جميع كلمات أهل البيت(عليهم السلام) تشتمل على معانٍ بلاغية عالية ومفيدة، وحديثاً اكتشف العلماء هذا الأمر بعدما أشار إليه الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل ألف واربعمائة سنة بأن ذهن الطفل الوليد كآلة التسجيل أو شريط التسجيل الذي يلتقط كل شيء يمر على ذهنه فإذا وضعت

ص: 492


1- نهج الفصاحة: 218.

إلى جانب مهد الطفل تلاوة القرآن فستنطبع الكلمات القرآنية الشريفة في ذهنه وتؤثر على روحه وقلبه تأثيراً إيجابياً... وفي نفس الوقت إذا وصلت إلى سمعه ألفاظ قبيحة تعافها الأخلاق الفاضلة فأيضاً ستنطبع في ذهنه وتؤثر عليه سلباً. لذلك فإن الإنسان الذي ترى أخلاقه سيئة وقبيحة ليست دائماً تكون بسبب الانحلال الخُلقي الذي شاهده في الأسرة أو المجتمع أو اكتسبه من الأصدقاء وإنما قد يكون اكتسبها وهو صغير في المهد.

ومن هنا جاء في الحكمة عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»(1).

دليل من التاريخ

العلامة الحلي(رحمه اللّه) يُعدّ أحد أكبر المجتهدين في عصره، وقد نشأ هذا العالم الكبير في جو عائلي ملؤهُ العلم والفضيلة حيث كان أبوه عالماً كبيراً وكذلك أمّه، فكان أبوه عندما يريد أن يدرّس يطلب ابنه العلامة وهو طفل صغير في المهد فيضعه إلى جواره ويقول إن الكلام العلمي يؤثر في ذهن الرضيع، لذلك أصبح ابنه بعد سنين طويلة من علماء الشيعة المهمّين الكبار، فالطفل الذي منذ نعومة أظفاره لا يتعامل معه إلّا بأخلاق طيبة ولا يسمع إلّا كلاماً جميلاً يكون هذا الكلام الحسن بمثابة البذرة الصالحة تنبت في نفسه وتعطي أكلها بعد حين طيباً صالحاً وناضجاً.

إن جسم الإنسان لا قيمة أساسية له وإنما القيمة التي تعطى للإنسان إنما هي لما يحمله من روح عالية، لأن الجسم عبارة عن لحم وعظم وما أشبه قد صيغا بهذا الشكل المألوف ثم أودع في هذا الجسم الروح الإنسانية كما يقول اللّه

ص: 493


1- كنز الفوائد 1: 319.

تعالى في القرآن: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}(1).

خصوصاً وإن هذه الروح إلى حد اليوم لم تعرف ولم يستطع علماء الشرق والغرب فهم كنهها وماهيتها.

أما عبارة «إلى اللحد» التي جائت في الرواية فتعني أن الإنسان حتى عند القبر يمتلك قدرة الإدراك والحس والشعور ولذا ورد في بعض الروايات بتلقين الميت عندما يوضع في القبر، حيث إن إحدى فوائد التلقين كما في بعض الروايات هي أن نكيراً ومنكراً لا يأتيان إلى الميت الذي قد لُقّن(2).

و«اطلبوا العلم» صيغة أمر فيها معنى الاستمرار والدوام أي على كل حالٍ يجب أن لا يكون للزمان والمكان مدخلٌ في التأثير سلباً على تحصيل العلم وتعلمه، وإنما طلب العلم وتحصيله واجب وضروري دائماً وأبداً في كل زمان ومكان.

دراسة وتدريس الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه)

الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه) وهو أحد الفقهاء المراجع الذي توفي(3). قبل أربعين سنة تقريباً وكان معاصراً لزمان البهلوي الأول، وعلى أثر حادثة مشهد الأليمة أبعده بهلوي الأول إلى العراق وأقام في مدينة كربلاء المقدسة وكذلك النجف الأشرف حتى وافاه الأجل ودفن في النجف الأشرف، وقد كان الحاج حسين القمي(رحمه اللّه) يتابع الدرس والبحث حتى في ليالي القدر من شهر رمضان التي من المستحب المؤكد إحياؤها بالدعاء والأذكار والصلوات الخاصة، وكان

ص: 494


1- سورة الحجر، الآية: 29.
2- انظر تهذيب الأحكام 1: 459.
3- توفي عام (1366ه).

يقول طلب العلم وتعلمه أفضل من أية عبادة أخرى.

عدم إضاعة الوقت

يقول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «نَفسُ المرء خُطاه إلى أجِله»(1). يعني إن كل نفس يتنفّسه الإنسان يقدمه ويقربه إلى الموت خطوة وهكذا، فعلى طالب العلم أن لا يهدر ولا يفرط حتى بالدقيقة الواحدة كما كان علماؤنا الكبار (قدس اللّه أسرارهم) يفعلون ذلك أمثال العلامة الحلي(رحمه اللّه) الذي كان يؤلف ويكتب وهو راكبٌ على دابته في طريقه إلى كربلاء المقدسة أو في أسفاره الأخرى. هذا فضلاً عن كتبه الكثيرة والعديدة التي كتبها، ويعد كتابه (تذكرة الفقهاء) من الكتب المهمة والأساسية التي يستفيد منها ويعتمد عليها الفقهاء إلى يومنا هذا ويشتمل على مسائل حسابية ورياضية معقدة لم يستطع حلّها حتى بعض أساتذة الجامعة، وذلك لأن بعض مباحث الفقه بحاجة إلى الحساب والهندسة وعلم الفلك، مثل تعيين جهة القبلة والبيع والإرث والقضاء والديات وغيرها.

وينقل في سيرة العلامة الحلي(رحمه اللّه) أنه قد ألّف (حوالي ألف كتاب) وكان يلقم لقيمات الغذاء لأنه لم يكن له الوقت الكافي لتناول الطعام لانشغاله في التأليف، واليوم وقد مضى على وفاة العلامة حوالي (سبعمائة سنة) واسمه مازال حياً في الحوزات والجامعات والمحافل العلمية تتناقله الألسنة وكتبه مورداً ومصدراً يرجع إليها الجميع.

كما ينقل عن حياة اديسون الذي اكتشف الكهرباء أنه كان لا يخرج من غرفته لأيام وأيام فيظل منهمكاً في التحقيق والاكتشاف وما كان يهتم بأكله وطعامه وإنما كان يكتفي في بعض الأحيان بكسيرات من الخبز اليابس وعلى أثر هذا

ص: 495


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 74.

التحقيق المتواصل والتفكير الدؤوب والتجارب المستمرة استطاع أن يسجل ما يقارب ثلاثمائة اكتشاف باسمه، ولحد الآن وفي يوم وفاته تقطع بعض دول العالم الكهرباء لمدة دقيقة واحدة احتراماً وتقديراً له.

ومن هنا جاء في الحكمة عن لسان العلم أنه يقول لطالبه: (أعطني كلّك أُعطِك بعضي).

فعلى طالب العلم أن يجد ويجتهد بعزم وتصميم في إتقان الدروس العلمية والدينية من أول المقدمات إلى آخر الكفاية، أما ما يقوله البعض من عدم وجود الفائدة الكبيرة في دراسة بعض الكتب الحوزوية كدراسة كتاب المطول - في البيان والمعاني - والقوانين - في الأصول وشرائع الإسلام - في الفقه - بعلة أنها أصبحت قديمة وأن أكثر مبانيها أصبحت باطلة فذلك غير سديد وذلك لأن باقي الدروس العلمية المهمة في الحوزات تعتمد على هذه الكتب اعتماداً مباشراً وكبيراً وما لم يعرف الطالب المباني الأساسية التي ذكرت في هذه الكتب سوف يصعب عليه فهم المطالب اللاحقة التي سوف يواجهها في الكتب الأخرى.

تعلم القرآن ونهج البلاغة

اشارة

كما يجب على طالب العلم أن يتعلم ويدرس - تحقيقاً - علوم القرآن الكريم ونهج البلاغة والصحيفة السجادية، لأنها تحتوي على بحر زاخر من العلوم الطبيعية والإنسانية والأخلاقية والفكرية التي تمس حياة الإنسان الفردية والاجتماعية وتعالج الكثير من مشكلاته الحيوية المختلفة...

هذا مضافاً إلى ترويج درس العقائد في الحوزات العلمية، حتى نحصل على قدرة كافية لرد وتفنيد المذاهب والعقائد الباطلة والمزيفة كالمسيحية واليهودية والبوذية وغيرها كالوهابية والشيوعية وباقي المذاهب الأخرى التي تسعى بكل

ص: 496

جهدها من أجل تحطيم الإسلام وتشويه مبادئه وأفكاره.

نشاط الشيخ محمد جواد البلاغي في طريق العلم وخدمة الدين

يعد الشيخ محمد جواد البلاغي(رحمه اللّه) من العلماء الزهاد الذين خدَموا الإسلام خدمة عظيمة بأفكارهم النيرة وأقلامهم القوية وله كتب كثيرة مثل كتاب: (الرحلة المدرسية والمدرسة السياره ونهج الهدى) وغيرها(1).

ينقل عن أحواله بأنه عندما كان يدرس في مدينة سامراء كان يعطي نصف راتبه الشهري - وكان قليلاً جداً - لأحد اليهود مقابل تعليمه اللغة العبرية وذلك لكي يتمكن من أن يدرس ويبحث في التوراة ليستخرج منه مواطن الانحراف والزيف ويكشف مساوءها ويبيّنها للناس ولذلك عندما تُوفي الشيخ البلاغي احتفلت الكنائس والبيع في لندن وكانوا يعللون ذلك ويقولون بأنهم تخلصوا من العالم المسلم الشيعي الوحيد الذي كان بإمكانه تفنيد عقائدنا وإبطال مذاهبنا.

وكذلك كان للشيخ البلاغي(رحمه اللّه) كتب تحقيقية وعلمية مهمة أخرى في ردّ سائر الأديان المحرفة وهي مورد استفادة الجميع إلى اليوم، حتى أن بعض أساتذة جامعات العراق عندما كانت تواجههم مسألة عويصة في هذه المجالات كانوا يجدون حلّها عنده(رحمه اللّه).

لأنه كان قد أتعب نفسه وبحث كثيراً ودقق ملياً وحقق حتى وصل إلى هذه المرتبة العالية من العلم والفضيلة.

ونحن لكي نتمكن من إيصال صوت الإسلام إلى أسماع العالم ونقف بقوةالفكر والمنطق والكلمة الحرة أمام الهجمات القوية والشرسة التي يتعرض لها

ص: 497


1- ككتاب: (الرد على الوهابية) و(التوحيد والتثليث) و(الهدى إلى دين المصطفى).

الإسلام اليوم يجب علينا كطلبة للعلوم الدينية أن نبذل أقصى جهدنا ونصرف أغلب أوقاتنا وأعمارنا في سبيل العلم والتحصيل والتحقيق دون ملل أو كسل حتى نستطيع أن نحصن ديننا من التشويه ومجتمعاتنا من الانحراف وسيطرة الأجانب علينا.

اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النيّة، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والإستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة... وتفضّل... على المتعلّمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

العلم وطالب العلم

قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ}(2).

وقال سبحانه: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(3).

وقال عزّ وجلّ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(4).

وقال جلّ وعلا: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ}(5).

ص: 498


1- البلد الأمين: 349.
2- سورة آل عمران، الآية: 164.
3- سورة العلق، الآية: 3-5.
4- سورة الزمر، الآية: 9.
5- سورة فاطر، الآية: 19.

وقال عزّ اسمه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَٰتٖ}(1).

وقال جلّ شأنه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(2).

وقال عزّ من قائل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(3).

تعلم العلم وتعليمه

قال جلّ ثناؤه: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(4).

وقال تعالى: {هَٰذَا بَصَٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ}(5).

وقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}(6).

وقال عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(7).

وقال جلّ شأنه: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَمِنَ الْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ

ص: 499


1- سورة المجادلة، الآية: 11.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- سورة التوبة، الآية: 122.
4- سورة الطلاق، الآية: 10-11.
5- سورة الجاثية، الآية: 20.
6- سورة آل عمران، الآية: 187.
7- سورة الزمر، الآية: 18.

صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}(1).

من هدي السنّة المطهّرة

العلم وطالب العلم

عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كلِّ مسلمٍ ومسلمة»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل اللّه»(3).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «اطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج»(4).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «اغدُ عالماً أو متعلماً وإياك أن تكون لاهياً متلذذاً»(5).

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «العلم ضالة المؤمن»(6).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «تذكر العلم ساعة خير من قيام ليلة»(7).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «ما من عبدٍ يغدو في طلب العلم أو يروح إلّا خاض الرحمة وهتفت به الملائكة مرحباً بزائر اللّه وسلك من الجنّة مثل ذلك المسلك»(8).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «الناس اثنان: عالمٌ ومتعلم وسائر الناس همج

ص: 500


1- سورة المائدة، الآية: 15-16.
2- كنز الفوائد 2: 107.
3- روضة الواعظين 1: 10.
4- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 108.
5- المحاسن 1: 227.
6- عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 66.
7- بحار الأنوار 1: 204.
8- ثواب الأعمال : 131.

والهمج في النار»(1).

ضرورة تعلم العلم وتعليمه

عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «تعلموا العلمَ فإنّ تعلّمه حسنةٌ ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة... وهو أنيس في الوحشة وصاحبٌ في الوحدة وسلاح على الأعداء وزين الأخلّاء، يرفع اللّه به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم... لأن العلم حياة القلوب... وقوة الأبدان من الضعف... بالعلم يطاع اللّه ويعبد»(2).

وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أربعة تلزم كلّ ذي حجى وعقلٍ من أمّتي» قيل: يا رسول اللّه ما هنَّ؟ قال: «استماع العلم وحفظه ونشره والعملُ به»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما أخذ اللّه ميثاقاً من أهل الجهل بطلب تبيان العلم حتى أخذ ميثاقاً من أهل العلم ببيان العلم للجهال لأن العلم قبل الجهل»(4).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): «إن الذي تعلّم العلم منكم له مثل أجر الذي يعلمه وله الفضل عليه، تعلموا العلم من حملة العلم وعلّموه إخوانكم كما علمكُم العلماء»(5).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «لكل شيء زكاة وزكاة العلم أن يعلّمه أهله»(6).

ص: 501


1- الخصال 1: 39.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 615.
3- تحف العقول: 57.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 66.
5- بصائر الدرجات 1: 4.
6- عدّة الداعي: 72.
تعلّم القرآن وعلوم أهل البيت(عليهم السلام)

من وصايا أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه الحسن(عليه السلام): «... وأن أبتدئك بتعليم كتاب اللّه عزّ وجلّ وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه لا أجاوز ذلك بك إلى غيره»(1).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام): لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: «شرّقا وغرّبا لن تجدا علماً صحيحاً إلّا شيئاً يخرج من عندنا أهل البيت»(2).

ص: 502


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(عليه السلام) لولده الحسن(عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
2- بصائر الدرجات 1: 10.

العراق بعد حزب البعث، العراق بعد التغيير

اشارة

العراق بعد حزب البعث، العراق بعد التغيير(1)

قال اللّه تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(2).

إلى إخواننا العراقيين الأعزاء في شتى أنحاء العالم.

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

لا يخفى عليكم أن العراق معروف بالتبدل، والأوضاع الأخيرة في عراقنا الجريح توعز إلى أن الغرب يريد تبديل النظام الحاكم في العراق إلى نظام آخر، فصدام كان عبداً لهم وهم الذين جاؤوا به واليوم يريدون تبديله بعميل آخر، إذ أن هذه سنتهم ودأبهم في إدارة سياسة العراق.

فعندما كنا في العراق(3) وفي بداية مجيء البعثيين إلى الحكم قال وزير الداخلية (علي صالح السعدي): جئنا إلى العراق بقطار أنكلوا أمريكي، وإثر سماعي لكلامه قلت لمن كان حولي من الأصدقاء: إنه لم يذكر الحقيقة بكاملها، وأردفت معلقاً على كلامه فقلت: بل أنهم جاؤوا بقطار أنكلوا أمريكي

ص: 503


1- هذه آخر محاضرة باللغة العربية ألقاها الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) في ليلة (27 شهر رمضان المبارك 1422ه): أي قبل وفاته بخمسة أيام.
2- سورة آل عمران، الآية: 178.
3- هاجر الإمام الشيرازي(رحمه اللّه) من العراق عام 1391ه مكرهاً. انظر: كتاب (كيف ولماذا أخرجنا من العراق؟).

إسرائيلي.

ففي الواقع أن صدام ليس إلّا عبداً للغرب جاؤوا به لأمرين:

الأول: إذلال العراقيين لأنهم حاربوا بريطانيا في ثورة العشرين المعروفة.

الثاني: الاستيلاء على خيرات العراق.

فقد كان أحمد حسن البكر هو الحاكم سابقاً، ثم جاء صدام، وفي المستقبل غير معلوم من سيكون حاكماً على العراق.

وعلى كل حال، فالغرب - كما تدل القرائن الكثيرة - يريد تبديل النظام الحاكم في العراق إذ أن عمالة صدام أصبحت معروفة عند الجميع وهم يريدون وجوهاً غير معروفة.

فإذا حصل التغيير، فاللازم تطبيق خمسة أمور في العراق وإلّا سيبقى العراق كما كان عليه، يتحكم بمصيره الظلمة والطغاة من عملاء الغرب.

أما الأمور الخمسة فهي:

حكم الإسلام

اشارة

الأول: حكم الإسلام، والمراد بذلك أن تكون القوانين الإسلامية هي الحاكمة والسائدة في العراق، كما كان ذلك محققاً قبل نحو ستين عاماً تقريباً - ولو نسبياً - فقد شاهدت شخصياً بعض تلك القوانين الإسلامية كقانون إحياء الأرض المستفاد من قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «الأرض للّه ولمن عَمَرَها»(1).

وهذا القانون ليس من عند البشر بل هو قانون إلهي، وطلبة العلوم الدينية يقرأونه في الكتب الفقهية كالشرائع، وشرح اللمعة، والحدائق، والجواهر،

ص: 504


1- ورد عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «من أحيا مواتاً فهو له» الكافي 5: 279، وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «فإن الأرض للّه ولمن عَمَرَها» الكافي 5: 279.

ومصباح الفقيه وغيرها من كتب الفقه الأخرى التي تنص على هذا القانون.

وكما جاء في التاريخ الصحيح أن في عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان كل شيء مباحاً، الماء، المعادن، الأرض، وغيرها.

والملفت للانتباه أنه قبل مجيء الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن هذا القانون، بل كانت الأرض كما نحن عليه اليوم، ملكاً لأفراد معينين، ولكن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ارتقى المنبر ذات يوم وخطب في الناس قائلاً: «الأرض للّه ولمن عمرها» وأضاف إليه: «ثم إنها مني إليكم أيها المسلمون...»(1).

والناس عندما سمعوا ذلك غمرهم السرور بهذا القانون، فأخذوا يعمّرون أطراف المدينة المنورة، فكل منهم جعل يحيي قسماً من الأرض، فهذا صنع داراً، وذاك أحيى لنفسه بستاناً، والآخر أعدّ لنفسه رحىً، وغير ذلك، حتى عمرت أطراف المدينة المنورة.

نعم، يلزم أن يعود هذا القانون إلى العراق، وإنّني أتذكر جيداً التطبيق النسبي لهذا القانون قبل نحو ستين عاماً في العراق(2).

وكان هذا القانون موجوداً سابقاً في إيران والعراق، وقد ألغاه البهلوي الأول في إيران، ثم فعلوا نفس ذلك تماماً قبل نحو خمسين عاماً تقريباً في العراق.

بالإسلام تعمر البلاد

ومن آثار هذا القانون الإسلامي هو ما شاهدته شخصياً عبر القصة التالية:

فقد دعاني في تلك الأيام شيخ جليل أسمه (الشيخ فرج) إلى منزله للمشاركة في مجلس العزاء الذي عقده آنذاك، وقد كان منزله كبيراً ربما بلغت مساحته

ص: 505


1- انظر: عوالي اللئالي 1: 44.
2- انظر: كتاب: (حياتنا قبل نصف قرن) لسماحته(رحمه اللّه).

800 متر، وأتذكر أنّني سألته آنذاك قائلاً: كم كلفك بناء هذا المنزل؟

فقال: 800 فلس: أي ما يعادل قيمته الشرائية آنذاك 800 قرص من الخبز، إذ أن قرص الخبز كان حينذاك يُباع بفلس واحد، ولما سألته كيف يمكن ذلك؟

أجاب: لأن الأرض أخذتها مجاناً، فقلت له: إذا كانت الأرض مجانية فلماذا الثمانمائة فلس؟

فأجاب: لقد أعددت شخصياً اللِبن وأعطيت للبنّاء حتى يرصف هذا اللِبن.

هكذا كان عراقنا، فالمنزل الكامل البالغ 800 متر قيمته ثمانمائة فلس، ولذا كان الجميع يمتلكون البيت.

وهناك قصة أخرى تدل على نفس المطلب، وهي: أن أحد أصدقائنا الفضلاء وهو المرحوم الشيخ إبراهيم الحائري(رحمه اللّه)(1) شيّد منزلاً كاملاً بنفسه ودون مساعدة أي شخص آخر، وقد دعاني شخصياً مع سماحة الأخ السيد صادق(2) إلى منزله، فذهبنا آنذاك فشاهدت جدار داره غير مستقيم، وحينما سألته عن ذلك أجاب قائلاً: أنا لا أجيد البناء وإنما شيّدت هذا المنزل بنفسي... هكذا كانت الأرض للّه ولمن عمرها.

أما الآن فأكثر الشباب لما نسألهم: هل أنتم متزوجون؟

ص: 506


1- الشيخ محمد إبراهيم بن حسن بن علي بن حسين الكشميري الحائري، ولد في (لالونك) إحدى قرى كشمير، وهاجر إلى كربلاء المقدسة عام 1956م 1376ه، ودرس في حوزتها واستوطنها ثلاثين سنة، ثم اعتقل مع عدد من أصدقائه المجاهدين، ونال أنواعاً من التعذيب القاسي من قبل طغاة العراق، ثم هاجر إلى الكويت، ليواصل نشاطه الديني، وتوفي بعد ما رجع من حجته الثانية في ذي الحجة عام 1417ه ونقل جثمانه إلى دمشق ودفن في المقبرة المجاورة لمقام السيدة زينب(عليها السلام).
2- المرجع الديني آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي، ولد عام 1360ه في كربلاء المقدسة، له أكثر من ثمانين مؤلفاً في الفقه والأصول والثقافة والأخلاق، تحمل أعباء المرجعية بعد وفاة أخيه الأكبر في الثاني من شوال 1422ه.

يجيبون: لا.

ولما نسألهم: لماذا؟

يجيبون: لأننا لا نملك بيتاً.

فعلى الأخوة الأعزاء إذا ذهبوا إلى العراق - إن شاء اللّه تعالى - أن يسعى كل واحد منهم لتطبيق هذا القانون الإلهي عبر اللسان والقلم.

قانون من سبق

وهناك قانون إسلامي آخر ضيّعه العملاء في العراق، فعلينا أن نسعى جاهدين من أجل إعادته، ألّا وهو قانون السبق، ففي الحديث الشريف عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «من سبق إلى ما لا يسبقه إليه مسلم فهو أحق به»(1).

فمثلاً الإنسان الذي يسبق الآخرين إلى حيازة السمك يكون له(2)، وكذا من يسبقهم إلى حيازة الملح أو المعدن أو الكلأ أو غيرها فهي كذلك تكون له. وهذا غير مقتصر على ذلك الزمان، بل يشمل زماننا الراهن أيضاً، فحلال محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة(3).

ولا يخفى أن كل تغيير في قانون اللّه تعالى فهو يسبب الضنك في المعيشة، كما ينص على ذلك القرآن الكريم، حيث قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(4).

فمثلاً في العراق كانت هناك منطقتان يجلب منهما الملح، إحداهما: الرزازة،

ص: 507


1- عوالي اللئالي 3: 480.
2- لا يخفى أن ذلك في المباحات العامة ولا يجري هذا القانون في الممتلكات الشخصية.
3- إشارة إلى الحديث التالي: عن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن الحلال والحرام، فقال: «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجيء يره»، الكافي 1: 58.
4- سورة طه، الآية: 124.

والأخرى قريب الأخيضر، وقد كنا نشتري منها كمية كبيرة من الملح بعشرة أفلس، أي ما يعادل قوته الشرائية عشرة أقراص من الخبز. وإثر مجيء عبد الكريم قاسم أصبحت نفس هذه الكمية بدينار، أي ازدادت القيمة عما كانت عليه مائة ضعف.

وكذلك الحال بالنسبة إلى اصطياد السمك فقد كان مباحاً، وعلى سبيل المثال كربلاء المقدسة كانت لها ثلاثة أطراف يصطاد فيها السمك، أحدها: في طويريج، والآخر في السدّة، والثالث في الرزازة.

وقد كان الناس يصطادون السمك ويبيعونه للآخرين، فكنا نشتري السمك في يوم الأربعاء لعائلتنا المكونة آنذاك من عشرة أفراد من خان المخضر بعشرة أفلس، وعند مجيء عبد الكريم قاسم - المدعي للوطنية - مُنع صيد السمك، وفي الأسبوع الثاني اشترينا نفس السمك ونفس المقدار بمائتين وخمسين فلساً، أي ما يعادل خمسة وعشرين ضعفاً، ومع مضي الأيام وبعد أن أصبح عبد الكريم لا يخدم مصالح الغرب بشكل كامل قتلوه، حيث إنهم جاؤوا به أمام الملأ العام وأردوه صريعاً برصاصاتهم... .

الإسلام هو الحل

ولكي لا تتكرر هكذا تجارب مرة أخرى في العراق ينبغي أن تحكم قوانين الإسلام، وإلّا فإنه إذا سادت القوانين غير الإسلامية فإن مصيرنا في المستقبل ربما سيكون أشد مما نحن عليه اليوم، الأمر الذي يعود علينا بالويل وعلى نفس الحكام الذين لايحكمون بهذه القوانين الإسلامية بالضياع كما حصل للماضين منهم. فهذا عبد الكريم قاسم تضرّر وأضرّ ضرراً جسيماً حتى قتلوه، وكذلك بالنسبة إلى (أحمد حسن البكر)، و (عبد السلام) و (عبد الرحمن)... .

وكذلك الحال في إيران، فقد نُفي (البهلوي الأول) إلى (موريس) ولما أراد

ص: 508

البريطانيون إبعاده عبر البحر رمى بنفسه على الشاطئ وأخذ يبكي ويتضرع إليهم إلّا أن ذلك لم يُجده شيئاً، فأركبوه السفينة ونفوه عن إيران، وكذا الشاه الثاني فقد نفوه ومات بمرض السرطان.

الحكومة الشيعية

الأمر الثاني الذي يلزم تطبيقه في مستقبل العراق: الحكومة الشيعية، أي يلزم أن تحكم العراق حكومة شيعية، إذ أن غالبية الشعب العراقي من الشيعة. وكما هو معلوم لدينا أن شيعة العراق هم 85% من تعداد السكان، والبقية 12% من العامة و3% من المسيحيين واليهود واليزيديين وغيرهم.

فإذا كانت أكثرية العراق من الشيعة، فلماذا لا تكون لهم حكومة شيعية؟!

لذلك فاللازم السعي الجاد والتبليغ المستمر لقيام حكومة شيعية في العراق، فإن تبليغكم القوي سيكون مؤثراً.

الأحزاب الحرة

الأمر الثالث اللازم مراعاته في العراق: الأحزاب الحرة، فماذا يعني أن العراق حتى عصرنا الراهن يحكمه حزب واحد ودكتاتور مستبد، فأغلب العالم اليوم تسوده الحرية والديمقراطية - ولو النسبية منها - أما العراق فيحكمه مستبد اسمه صدام، ويا ترى من هو صدام حتى يستولي على البلاد ويتحكم في مصير العباد؟ إنه رجل ريفي من قرية في أطراف تكريت تدعى العوجة. وهو رجل جاهل، غير مثقف، ولا يعرف من الحياة سوى القوة والبطش اللذين يتحكم من خلالهما بمصير الناس في العراق.

وإنني أدركت - شخصياً - عهد تعدد الأحزاب في العراق، ورأيت بعض آثاره الإيجابية، ولعل القصة التالية هي خير شاهد على ذلك، فقد ذهبنا في بعض

ص: 509

الأيام مع السيد محمد علي الطباطبائي(1) إلى رئيس الوزراء السيد محمد الصدر في منزله الواقع في بغداد، وقد كان المنزل متواضعاً جداً حيث لم يكن فيه سوى حصير قديم وسرير كان السيد ينام عليه، وكان السيد عندما زرناه مريضاً، وبعد أن جلسنا عنده وقد كان الجو بارداً في الشتاء، قال له السيد محمد علي الطباطبائي: لماذا تترك الباب مفتوحاً يا سيدنا؟ فأجاب: هناك هرّة قد أنجبت صغارها في هذه الدار وأنا أترك الباب مفتوحاً رأفة بها.

هكذا كانت حياة الحكّام بسيطة لما كانت الأحزاب الحرة هي الحاكمة في العراق، أما عراقنا اليوم، فصدام قد شيّد لنفسه العشرات من القصور(2) كل واحد منها تقدّر تكاليف بنائه بالمليارات، كل ذلك من أجل إشباع نهمه وإرضاء شهواته... .

أجل، فالغرب لا يروق له أن تحكم العراق الأحزاب الحرة، وخير دليل على ذلك هي القصة التي نقلها فؤاد عارف(3) وزير عبد الكريم قاسم حيث قال: ذهبت إلى لندن والتقيت بوزير الخارجية البريطاني وسألته: ماذا كانت مشكلة العراق حتى جعلتم عبد الكريم قاسم حاكماً عليه؟

فأجابني بكل صراحة: عندما كان الملكيون يحكمون العراق كنّا لأجل إصدار قانون بسيط ننتظر مدة طويلة، حيث كان النواب يتداولونه أولاً في المجلس، ثم يذهب بعد مدة طويلة إلى المجلس الأعلى، وبعد فترة ينشر في الإذاعة

ص: 510


1- السيد محمد علي ابن السيد مهدي الطباطبائي الحائري، ينتمي إلى أسرة تنسب إلى السيد الحسن المثنى ابن الإمام الحسن السبط ابن الإمام علي بن أبي طالب(عليهم السلام) وقد استوطنت هذه الأسرة كربلاء المقدسة في القرن الثاني عشر الهجري.
2- قالوا: إن لصدام ثمانين قصراً.
3- فؤاد عارف متصرف كربلاء عام (1377ه).

والصحف، فيبقى القانون ما يقارب ستة أشهر يتداول هنا وهناك حتى يصل إلى الملك فيعدّله وتحصل فيه تغييرات كثيرة ثم يُقرر.

وبعد مجيء عبد الكريم قاسم أصبحنا في راحة من ذلك، فإننا بمجرد أن نتصل به ونخبره بالقانون الذي نريده، فإنه يمتثل مباشرة ويقرّ القانون دون أي تغيير أو تعديل.

ولا يخفى أنهم من أجل ذات القضية جاؤوا بصدام.

ولكي يتخلص العراق من هكذا حكّام لا بد أن تكون الأحزاب الحرة كما كانت في عهد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) جعل المهاجرين والأنصار أحزاباً، وهذا موجود بالنص في كتاب (السبق والرماية) وقد تطرق إليه الفقهاء في كتبهم الفقهية كالجواهر، والمسالك، وجامع المقاصد، وغيرها.

حرية الحوزات العلمية

الأمر الرابع: حرية الحوزات العلمية واستقلاليتها، ولكي يسترجع العراق عزته الأولى لا بدّ أن تعود الحرية إلى الحوزات العلمية كما كانت عليه في السابق، حيث كان بوسع الجميع أن يأتي ويلتحق بالحوزات العلمية دون أية مضايقات، وكان للعلماء والطلبة دورهم في إرشاد الناس وبيان الحكم الشرعي من دون مضايقة من الحكومات.

ولا يخفى أن للحوزات العلمية فوائد جمة، منها الفائدة العلمية، والدينية، والاقتصادية، وغيرها.

وقد كان في الحوزة العلمية في عهد السيد الحكيم(رحمه اللّه) إثنا عشر ألفاً من الطلبة، ولم يكن لأية حوزة أخرى آنذاك هذا العدد الهائل، ومع الأسف الشديد جاء صدام وشتّت هذه الحوزة وشرد طلبتها، وسجن وقتل منهم الكثير، كل ذلك

ص: 511

حتى يستبد بالحكم في العراق دون أن يتساءل منه أحد لماذا هكذا؟

والجدير بالذكر أن الاستعمار البريطاني يحمل حقداً كبيراً على الحوزة العلمية، ويعمل ليل نهار من أجل تحطيمها وذلك لأن رجالات الحوزة أخرجت الاستعمار البريطاني من العراق في ثورة العشرين وألحقت به الخسائر الفادحة.

وهنا ينبغي أن نذكر أن وجود الحوزات العلمية ليس نافعاً للمجتمع فقط، بل هو نافع حتى للسلطة أحياناً في قبال بعض الضغوطات الأجنبية.

فقد نقل لي أحد الأصدقاء: أن الشاه كان ينزعج كثيراً من السيد البروجردي، فشكى ذلك في أحد الأيام إلى بعض وزرائه، فقال له الوزير: حلّ هذه المشكلة سهل جداً.

فتساءل الشاه قائلاً: وكيف؟

فأجاب الوزير: إن السيد البروجردي يحب أن يذهب إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة، وأنت تمنعه، فافسح له المجال ليذهب إلى هناك، وإذا ذهب امنعه من الرجوع إلى إيران.

فقال الشاه: إنك لا تعرف ماذا يفيدنا البروجردي: فأي قانون يطلبه منّي البريطانيون ولا أريد تنفيذه أتذرع بأن السيد البروجردي(رحمه اللّه) لا يقبل ذلك.

العتبات المقدسة

اشارة

الأمر الخامس اللازم مراعاته في مستقبل العراق: حرية العتبات المقدسة والاهتمام بها، فيلزم أن يفسح المجال للجميع لزيارة العتبات المقدسة بكل سهولة واختيار، وحرية وأمان... .

ففي السابق كان بوسع كل واحد أن يزور العتبات المقدسة في العراق دون أية مزاحمة من السلطات... .

ص: 512

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة، اللّهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه»(1).

ص: 513


1- تهذيب الأحكام 3: 111.
الصورة المستقبلية للعراق

نص جواب آية اللّه العظمى الإمام السيد محمد الشيرازي(رحمه اللّه) على سؤال جماعة من المؤمنين عن آرائه حول الصورة المستقبلية للعراق:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

السلام على الأخوة المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته.

لقد سألتم عن العراق والصورة التي ينبغي أن يكون عليها في المستقبل بعد سقوط النظام الحالي بإذن اللّه تعالى، وسنشير ههنا إلى بعض البنود حسب ما يستفاد من الموازين الإسلامية المطابقة للموازين الإنسانية الفطرية، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(1).

1- يجب أن تكون الأكثرية هي الحاكمة كما يجب إعطاء الأقلية حقوقها، فإن الأكثرية كان لها الدور الأكبر في إنقاذ العراق مراراً عديدة في هذا القرن: مرة في ثورة العشرين، ومرة أخرى في الحرب العالمية الثانية حيث أفتى العلماء بوجوب إخراج المستعمرين من قاعدة (الحبانية) فتحرك الشعب العراقي بأسره حتى أخرجهم، ومرة ثالثة: إبان المد الأحمر... وقد سجلت الكتب التاريخية تلك الحوادث بتفاصيلها. وقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(2). وقال جل وعلا: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(3). وورد في الحديث الشريف: «لئلا يتوى حق امرئ مسلم»(4).

2- من الضروري استناد الدولة إلى المؤسسات الدستورية حيث يلزم منح

ص: 514


1- سورة الروم، الآية: 30.
2- سورة الشورى، الآية: 38.
3- سورة آل عمران، الآية: 159.
4- الغيبة للشيخ الطوسي: 409.

الحرية لمختلف التجمعات والتكتلات والفئات والأحزاب غير المعادية للإسلام في إطار مصالح الأمة، كما يلزم أن تكون الانتخابات حرة بمعنى الكلمة وأن توفر الحرية للنقابات والجمعيات ونحوها، كما يلزم أن تعطى الحرية للصحف وغيرها من وسائل الإعلام، ويلزم أن تمنح الحرية لمختلف أصناف المجتمع من المثقفين والعمال والفلاحين و... كما تعطى المرأة كرامتها وحريتها كل ذلك في إطار الحدود الإسلامية الإنسانية، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1). وقال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(2). وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً»(3).

3- اللاعنف هو المنهج العام في الداخل والخارج، كما قال تعالى: {ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(4). فإنه هو الأصل ونقيضه استثناء.

4- يجب أن تراعى حقوق الإنسان بكل دقة حسب ما قرره الدين الإسلامي الذي يتفوق على قانون حقوق الإنسان المتداول في جملة من بلاد العالم اليوم، فلا إعدام مطلقا إلّا إذا حكم - في كلية أو جزئية - مجلس (شورى الفقهاء المراجع) إذ في صورة الاختلاف بينهم يكون من الشبهة و (الحدود تدرأ بالشبهات)، كما ينبغي تقليص عدد السجناء إلى أدنى حد حتى من الحد المقرر في العالم اليوم كما لا تعذيب مطلقاً وكذلك لا مصادرة للأموال مطلقاً.

5- وبالنسبة إلى ما سبق يتمسك ب- : {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ}(5)، كما عفا

ص: 515


1- سورة البقرة، الآية: 256.
2- سورة الأعراف، الآية: 157.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 31، ومن وصيته(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام).
4- سورة البقرة، الآية: 208.
5- سورة المائدة، الآية: 95.

الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أهل مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(1)، وعن غير أهل مكة، وكما صنع ذلك الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ويؤيده ما ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام): إن حديث (الجب) أولى بالجريان بالنسبة إلى المسلمين من جريانه في حق غيرهم.

6- للأكراد والتركمان وأمثالهم كامل الحق في المشاركة في الحكومة القادمة وفي كافة مجالات الدولة والأمة، فقد قال اللّه سبحانه: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(2) وقال الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى...»(3).

7- ينبغي أن تتخذ الدولة القادمة سياسة (المعاهدة) أو (المصادقة) مع سائر الدول في إطار مصلحة الأمة كما قام بذلك الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع مختلف الفئات غير الإسلامية حتى المشركين، ويستثنى من ذلك عدة صور منها: صورة احتلال الكفار والمشركين لبلاد المسلمين كما حدث في فلسطين حيث يجب على جميع المسلمين عندئذ الدفاع إذ «المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى»(4).

8- المرجع الأخير في دستور الدولة الإسلامية القادمة في العراق وفي رسم السياسة العامة والخطوط العريضة هو (شورى الفقهاء المراجع) حسب ما قرره

ص: 516


1- الكافي 3: 513.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- الاختصاص: 341.
4- قريباً منه في بحار الأنوار 71: 274، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): «المؤمنون... كمثل الجسد إذا اشتكى تداعى له سائره بالسهر والحُمى».

الإسلام، قال الرسول الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المتقون سادة والفقهاء قادة»(1). ومن الواضح أن الفقهاء المراجع يتعاونون مع الحوزات العلمية ومع المثقفين والأخصائيين في كافة الحقول الاختصاصية فإن ذلك هو مقتضى المشورة والشورى كما قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(2) و{وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}(3).

9- يجب على كافة المسلمين السعي لكي تتوحد بلاد الإسلام وتنصهر في دولة واحدة إسلامية... ذلك لأن المسلمين أمة واحدة كما قال تعالى: {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(4). وقد أسس الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أساس الدولة العالمية الواحدة حيث توحدت في حياته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) تسع دول تحت راية الإسلام - على ما ذكره المؤرخون - وفي هذا القرن كانت الهند مثالاً لذلك، كما أن أوروبا تحاول التوصل إلى ذلك. ومن الواضح أن تفكك الدول الإسلامية ووجود الحدود الجغرافية بينها من الأسباب الرئيسية في تخلف المسلمين من جهة، وفي تناحرهم وتحاربهم من جهة أخرى، وفي تفوق المستعمرين عليهم واستعمارهم من جهة ثالثة.

10- يلزم حث المجاميع الدولية كي تقوم بالضغوط الشديدة على كل حكومة تريد ظلم شعبها، ذلك أن الإنسان من حيث هو إنسان لايرى فرقاً بين ظلم أهل الدار بعضهم لبعض وبين ظلم الجيران بعضهم لبعض. وهذا هو ما يحكم به العقل أيضاً ولا يجوز في حكم العقل والشرع أن ندع أمثال موسيلينيوهتلر وستالين يفعلون ما يشاؤون بشعوبهم تشريداً ومطاردة ومصادرة للأموال

ص: 517


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 225.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة الشورى، الآية: 38.
4- سورة المؤمنون، الآية: 52.

وقتلاً للأنفس بحجة أنها شؤون داخلية... فإذا اشتكى أبناء بلد عند سائر الأمم كان عليهم أن يرسلوا المحامين والقضاة فإذا رأوا صحة الشكوى أنقذوا المظلوم من براثن الظالم.

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

محمد الشيرازي

ص: 518


1- الكافي 3: 424.

فهرس المصادر

1. القرآن الحكيم.

2. نهج البلاغة (ترتيب صبحي صالح)، جَمَعَه الشريف الرضي، ت406ه ق.

3. الصحيفة السجادية.

4. إبتلاءات الأمم، سعيد أيوب، معاصر، دار الهادي للطباعة والنشر، بيروت، 1416ه ق.

5. إثبات الوصية، علي بن حسين المسعودي، ت346ه ق، أنصاريان، قم المقدسة، 1426ه ق.

6. الآحاد والمثاني، ابن أبي عاصم الضحاك، ت287ه ق، دار الراية، الرياض، 1411ه ق.

7. الإحتجاج، الشيخ أحمد بن علي الطبرسي، ت588ه ق، نشر المرتضى، مشهد المقدس، 1403ه ق.

8. الأخبار الطوال، ابن قتيبة الدينوري، ت276ه ق، دار إحياء الكتب العربي، منشورات شريف الرضي، القاهرة، 1960م.

9. الإختصاص، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413ه ق.

ص: 519

10. إرشاد القلوب، حسن بن محمد الديلمي، ت841ه ق، الشريف الرضي،1. قم المقدسة، 1412ه ق.

11. الإرشاد، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413ه ق.

12. أساس البلاغة، محمود بن عمر الزمخشري، ت538ه ق، دار ومطابع الشعب، القاهرة، 1960م.

13. الإستبصار، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1390ه ق.

14. الإستيعاب، ابن عبد البر، ت463ه ق، دار الجيل، بيروت، 1412ه ق.

15. أسد الغابة، ابن الأثير، ت630ه ق، دار الكتاب العربي، بيروت.

16. الإسلام بين الإنصاف والجحود، محمد عبد الغني حسن، ت1985م.

17. الإصابة في تميز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت852ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415ه ق.

18. الإعتصام، إبراهيم بن موسى الشاطبي، ت790ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت.

19. أعلام الدين في صفات المؤمنين، حسن بن محمد الديلمي، ت841ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، قم المقدسة، 1408ه ق.

20. إعلام الورى بأعلام الهدى، الفضل بن الحسن الطبرسي، ت548ه ق، إسلامية، طهران 1390ه ق.

ص: 520

21. الأعلام، خير الدين الزركلي، ت1410ه ق، دار العلم للملايين، بيروت،1. 1980م.

22. الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، ت356ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

23. إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1409ه ق.

24. الأمالي، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، كتابچي، طهران، 1376ه ش.

25. الأمالي، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، دار الثقافة، قم المقدسة، 1414ه ق.

26. الأمالي، الشيخ المفيد، ت413ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1413ه ق.

27. الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الدينوري، ت276ه ق، انتشارات الشريف الرضي، قم المقدسة، 1413ه ق.

28. أمل الآمل، الحر العاملي، ت1104ه ق، مكتبة الأندلس، بغداد.

29. أمل الآمل، الشيخ الحر العاملي، ت1104ه ق، دار الكتاب الإسلامي، قم المقدسة، 1362ه ش.

30. الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، مجير الدين الحنبلي، ت927ه ق، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1388ه ق.

31. أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى البلاذري، ت279ه ق، دار الفكر، بيروت.

ص: 521

32. الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي، ت1370ه ق، المكتبة الحيدريه،1. النجف الأشرف، 1381ه ق.

33. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ت1110ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1403ه ق.

34. البداية والنهاية، إسماعيل بن كثير الدمشقي، ت774ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1408ه ق.

35. البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، ت1107ه ق، مؤسسة البعثة، قم المقدسة، 1374ه ش.

36. بشارة المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لشيعة المرتضى(عليه السلام)، عماد الدين الطبري الآملي، ت553ه ق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1383ه ق.

37. بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفار، ت290ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1404ه ق.

38. بلاغات النساء، أحمد بن أبي طاهر (ابن طيفور)، ت280ه ق، الشريف الرضي، قم المقدسة.

39. البلد الأمين، إبراهيم بن علي الكفعمي، ت905ه ق، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1418ه ق.

40. البهجة المرضية على ألفية ابن مالك، جلال الدين السيوطي، ت911ه ق، إسماعيليان، قم المقدسة.

41. تاج العروس، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، ت1205ه ق، دار

ص: 522

الفكر، بيروت، 1414ه ق.1.

42. تاريخ ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، ت808ه ق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت 1391ه ق.

43. تاريخ الإسلام، محمد بن أحمد الذهبي، ت748ه ق، دار الكتاب العربي، بيروت، 1409ه ق.

44. تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي، ت911ه ق، دار التعاون.

45. تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، ت310ه ق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1403ه ق.

46. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب (اليعقوبي)، ت284ه ق، دار الصادر، بيروت.

47. تاريخ بغداد، أحمد بن علي الخطيب البغدادي، ت463ه ق، دار الكتب العلمية، لبنان، 1417ه ق.

48. تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ت571ه ق، دار الفكر، بيروت، 1415ه ق.

49. تأويل الآيات الظاهرة، السيد علي الأسترآبادي، ت940ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1409ه ق.

50. تأويل مختلف الحديث، عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ت276ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت.

51. تبصرة المتعلمين، العلامة الحلي، ت726ه ق، انتشارات الفقيه، طهران، 1368ه ش.

ص: 523

52. التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، دار إحياء التراث1. العربي، بيروت، 1409ه ق.

53. التحصين في صفات العارفين، الشيخ ابن فهد الحلي، ت841ه ق، مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1406ه ق.

54. تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني، ت القرن 4ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1404ه ق.

55. تذكرة الخواص، السبط ابن الجوزي، ت654ه ق، المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام)، قم المقدسة، 1426ه ق.

56. تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ت726ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم المقدسة، 1414ه ق.

57. تذكره الحفاظ، محمد بن أحمد الذهبي، ت748ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

58. تسلية المجالس، محمد بن أبي طالب الحسيني الموسوي، ت القرن 10ه ق، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة، 1418ه ق.

59. تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد بن محمد الآمدي، ت550ه ق، دفتر تبليغات، قم المقدسة، 1366ه ش.

60. تفسير الثعلبي، (الكشف والبيان عن تفسير القرآن)، أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي، ت427ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1422ه ق.

61. تفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ت1091ه ق، مكتبة الصدر، طهران،

ص: 524

1415ه ق.

62. تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، ت320ه ق، المطبعة العلمية، طهران، 1380ه ق.

63. تفسير القرآن الكريم ب(تفسير شبر)، السيد عبد اللّه شبر، ت1242ه ق، السيد مرتضى الرضوي، 1385ه ق.

64. تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ت671ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405ه ق.

65. تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ت القرن 3ه ق، دار الكتاب، قم المقدسة، 1404ه ق.

66. التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)، مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف قم المقدسة، 1409ه ق.

67. تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق، دار العلوم، بيروت، 1424ه ق.

68. تفسير جوامع الجامع، الشيخ الطبرسي، ت548ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1420ه ق.

69. تفسير جوامع الجامع، الشيخ فضل بن حسن الطبرسي، ت548ه ق، انتشارات دانشگاه تهران و مديريت حوزة علمية قم، طهران، 1377ه ش.

70. تفسير فرات الكوفي، فرات بن إبراهيم الكوفي، ت307ه ق، وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران، 1410ه ق.

ص: 525

71. تفسير مجمع البيان، الفضل بن الحسن الطبرسي، ت548ه ق، مؤسسة1. الأعلمي، بيروت، 1415ه ق.

72. تفسير نور الثقلين، الشيخ عبد علي بن جمعة الحويزي، ت1112ه ق، إسماعيليان، قم المقدسة، 1415ه ق.

73. تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي، ت447ه ق، الهادي، قم المقدسه، 1404ه ق.

74. تلك الأيام، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق، دار العلوم، بيروت، 1438ه ق.

75. التمحيص، محمد بن همام الإسكافي، ت336ه ق، مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1404ه ق.

76. تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، ورّام بن أبي فراس، ت605ه ق، مكتبة فقيه، قم المقدسة، 1410ه ق.

77. التنبيه والإشراف، المسعودي، ت346ه ق، دار صعب، بيروت.

78. تنزيه الأنبياء(عليهم السلام)، السيد المرتضى، ت436ه ق، دار الشريف الرضي، قم المقدسة، 1377ه ق.

79. تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1407ه ق.

80. تهذيب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت582ه ق، دار الفكر، بيروت، 1404ه ق.

ص: 526

81. توحيد المفضل، المفضل بن عمر الجعفي، ت148ه ق، داوري، قم1. المقدسة.

82. التوحيد، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1398ه ق.

83. ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، دار الشريف الرضي، قم المقدسة، 1406ه ق.

84. جامع الأخبار، محمد بن محمد الشعيري، ت القرن 6ه ق، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف.

85. جامع السعادات، الشيخ ملا محمد مهدي النراقي، ت1209ه ق، دار النعمان، النجف الأشرف.

86. الجعفريات، محمد بن محمد بن أشعث الكوفي، ت القرن 4ه ق، مكتبة نينوى الحديثة، طهران.

87. جمال الأسبوع، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، دار الرضي، قم المقدسة، 1330ه ق.

88. الجمل والنصرة، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413ه ق.

89. جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ت1266ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1398ه ق.

90. جواهر المطالب، محمد بن أحمد الدمشقي الباعوني الشافعي، ت871ه ق،

ص: 527

مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم المقدسة، 1416ه ق.1.

91. الحجاب، أبو الأعلى المودودي، ت1399ه ق، دار الفكر، دمشق، 1384ه ق.

92. حديث الثقلين، نجم الدين العسكري، ت1390ه ق، مطبعة الآداب، النجف الأشرف.

93. حقائق من تاريخ العلماء، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق.

94. حلية الأبرار، السيد هاشم البحراني، ت1107ه ق، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة، 1411ه ق.

95. حياة الحيوان الكبرى، كمال الدين الدميري، ت808ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1424ه ق.

96. الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي، ت573ه ق، مؤسسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1409ه ق.

97. خزانة الأدب، عبد القادر بن عمر البغدادي، ت1093ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م.

98. الخصال، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1362ه ش.

99. الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، ت911ه ق، دار المعرفة، بيروت.

100. الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة، الشهيد الأول، ت786ه ق، انتشارات زائر، قم المقدسة، 1379ه ش.

ص: 528

101. الدروع الواقية، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)،1. بيروت، 1415ه ق.

102. دعائم الإسلام، نعمان بن محمد المغربي، ت363ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، قم المقدسة، 1385ه ق.

103. الدعوات، قطب الدين الراوندي، ت573ه ق، انتشارات مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1407ه ق.

104. ديوان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليهما السلام)، حسين بن معين الدين الميبدي، ت911ه ق، دار نداء الإسلام، قم المقدسة، 1411ه ق.

105. الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آقا بزرگ الطهراني، ت1389ه ق، دار الأضواء، بيروت.

106. ذكرى الشيعة، الشهيد الأول، ت786ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم المقدسة، 1419ه ق.

107. ربيع الأبرار، محمود بن عمر الزمخشري، ت538ه ق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1412ه ق.

108. رجال الطوسي، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1373ه ش.

109. رجال العلامة الحلي، العلامة الحلي، ت726ه ق، الشريف الرضي، قم المقدسة، 1402ه ق.

110. رجال الكشي (اختيار معرفة الرجال)، الشيخ الطوسي، ت460ه ق،

ص: 529

مؤسسة نشر دانشكاه مشهد، مشهد المقدس، 1409ه ق.1.

111. الرجال للبرقي، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ت274ه ق، چاپخانه دانشگاه تهران، طهران، 1342ه ش.

112. الرحلة في طلب الحديث، أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، ت463ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395ه ق.

113. الرسائل السياسية، الجاحظ، ت255ه ق، دار ومكتبة هلال، بيروت، 1423ه ق.

114. رسائل الشريف المرتضى، الشريف المرتضى، ت436ه ق، دار القرآن الكريم، قم المقدسة، 1405ه ق.

115. رسائل الشهيد الثاني، الشهيد الثاني، ت965ه ق، مكتبة بصيرتي، قم المقدسة.

116. روضات الجنات، محمد باقر الموسوي الخوانساري، ت1313ه ق.

117. الروضة المختارة (شرح القصائد العلويات السبع)، ابن أبي الحديد المعتزلي، ت656ه ق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.

118. روضة الواعظين، محمد بن أحمد الفتال النيشابوري، ت508ه ق، انتشارات رضي، قم المقدسة، 1375ه ش.

119. الروضة في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليهما السلام)، ابن شاذان القمي، ت600ه ق، مكتبة الأمين، قم المقدسة، 1423ه ق.

120. رياض العلماء وحياض الفضلاء، عبد اللّه أفندي الأصفهاني، 1130ه ق.

ص: 530

121. رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، ت1231ه ق، جامعة المدرسين،1. قم المقدسة، 1422ه ق.

122. زاد المعاد، العلامة المجلسي، ت1110ه ق، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1423ه ق.

123. الزهد، حسين بن سعيد الكوفي الأهوازي، ت القرن 3ه ق، المطبعة العلمية، قم المقدسة، 1402ه ق.

124. السرائر، الشيخ ابن إدريس الحلي، ت598ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1410ه ق.

125. سعد السعود، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، دار الذخائر، قم المقدسة.

126. سفينة البحار، الشيخ عباس القمي، ت1359ه ق، دار الأسوة، قم المقدسة، 1414ه ق.

127. السقيفة وفدك، أحمد بن عبد العزيز الجوهري البصري، ت323ه ق، مكتبة نينوى الحديثة، طهران.

128. السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي، ت458ه ق، دار الفكر.

129. السنن الكبرى، أحمد بن شعيب النسائي، ت303ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت 1411ه ق.

130. سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي، ت748ه ق، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406ه ق.

131. شجرة طوبى، محمد مهدي الحائري المازندراني، ت1369ه ق، المطبعة

ص: 531

الحيدرية، النجف الأشرف، 1385ه ق.1.

132. شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي النجفي، ت1411ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة.

133. شرح الأخبار، أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي، ت363ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1409ه ق.

134. شرح المقاصد في علم الكلام، أسعد اللّه التفتازاني، ت792ه ق، دار المعارف النعمانية، باكستان، 1401ه ق.

135. شرح المنظومة، هادي بن محمد السبزواري، ت1289ه ق، نشر ناب، طهران، 1371ه ش.

136. شرح صحيح مسلم، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، ت676ه ق، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407ه ق.

137. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، ت656ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1404ه ق.

138. شعب الإيمان، أحمد بن الحسن البيهقي، ت458ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1410ه ق.

139. شواهد التنزيل، الحاكم الحسكاني، ت القرن 5ه ق، وزارة الإرشاد الإسلامي، 1411ه ق.

140. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيشابوري، ت261ه ق، دار الفكر، بيروت.

ص: 532

141. صحيخ البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، ت256ه ق، دار الفكر،1. بيروت، 1401ه ق.

142. الصراط المستقيم، علي بن محمد العاملي النباطي، ت877ه ق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1384ه ق.

143. صفات الشيعة، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، كانون انتشارات عابدي، طهران.

144. الصواعق المحرقة، أحمد بن حجر الهيتمي، ت974ه ق، مكتبة القاهرة، 1385ه ق.

145. طبقات أعلام الشيعة (نقباء البشر)، آقا بزرك الطهراني، ت1389ه ق، دار المرتضى، 1404ه ق.

146. الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ت230ه ق، دار الصادر، بيروت.

147. طرائف المقال، السيد علي البروجردي، ت1313ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1410ه ق.

148. طرائف المقال، علي البروجردي، ت1313ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1410ه ق.

149. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، خيام، قم المقدسة، 1400ه ق.

150. عدة الداعي، أحمد بن فهد الحلي، ت841ه ق، دار الكتاب الإسلامي، 1407ه ق.

ص: 533

151. العدد القوية، رضي الدين علي بن يوسف بن المطهر الحلي، ت703ه ق،1. مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1408ه ق.

152. علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، مكتبة الداوري، قم المقدسة، 1966م.

153. عمدة الطالب، أحمد بن علي الحسيني (ابن عنبة)، ت828ه ق، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1380ه ق.

154. عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار، يحيى بن الحسن الأسدي (ابن البطريق)، ت600ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1407ه ق.

155. عوالم العلوم والمعارف، عبد اللّه بن نور اللّه البحراني الأصفهاني، ت القرن 12ه ق، مؤسسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة.

156. عوالي اللئالي العزيزية، ابن أبي الجمهور الأحسائي، كان حياً حتى 901ه ق، دار سيد الشهداء(عليه السلام) للنشر، قم المقدسة، 1405ه ق.

157. عين العبرة في غبن العترة، السيد أحمد بن موسى بن طاووس، ت673ه ق، دار الشهاب، قم المقدسة.

158. عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، انتشارات جهان، طهران، 1378ه ق.

159. عيون الأثر (السيره النبوية)، ابن سيد الناس، ت734ه ق، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، 1406ه ق.

160. عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ت القرن 6ه ق،

ص: 534

دار الحديث، قم المقدسة، 1367ه ش.1.

161. الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي، ت283ه ق، دار الكتاب الإسلامي، قم المقدسة، 1410ه ق.

162. الغدير، الشيخ عبد الحسين الأميني، ت1392ه ق، دار الكتاب العربي، بيروت، 1397ه ق.

163. غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد بن محمد الآمدي، ت550ه ق، دار الكتاب الإسلامي، قم المقدسة، 1410ه ق.

164. الغيبة، ابن أبي زينب محمد بن إبراهيم النعماني، ت360ه ق، مكتبة الصدوق، طهران، 1397ه ق.

165. الغيبة، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، دار المعارف الإسلامية، قم المقدسة، 1411ه ق.

166. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، ت852ه ق، دار المعرفة، بيروت.

167. فتح القدير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ت1255ه ق، عالم الكتب.

168. فتوح البلدان، أحمد بن يحيى البلاذري، ت279ه ق، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1957م.

169. فتوح الشام، محمد بن عمر الواقدي، ت207ه ق، دار الجيل، بيروت.

170. الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ت314ه ق، دار الأضواء، بيروت، 1411ه ق.

171. الفصول المختارة، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد،

ص: 535

قم المقدسة، 1413ه ق.1.

172. الفصول المهمة في معرفة الأئمة، علي بن محمد المالكي (ابن صباغ)، ت855ه ق، دار الحديث للطباعة والنشر، قم المقدسة، 1422ه ق.

173. فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام)، ابن عقدة الكوفي، ت332ه ق، دليل ما، قم المقدسة، 1424ه ق.

174. الفضائل، ابن شاذان القمي، ت حدود 660ه ق، منشورات الرضي، قم المقدسة، 1363ه ش.

175. فضيلة الشكر للّه، محمد بن جعفر السامري الخرائطي، ت327ه ق، دار الفكر، دمشق، 1402ه ق.

176. الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا(عليه السلام)، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، مشهد المقدس، 1406ه ق.

177. الفقه، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق، دار العلوم، بيروت، 1410ه ق.

178. فلاح السائل، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، بوستان كتاب، 1406ه ق.

179. القاموس السياسي، أحمد عطية اللّه، ت1983م، دار النهضة العربية، القاهرة، 1968م.

180. قرب الإسناد، عبد اللّه بن جعفر الحميري، ت القرن 3ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) قم المقدسة، 1413ه ق.

181. قصص الأنبياء(عليهم السلام)، قطب الدين الراوندي، ت573ه ق، مركز پژوهش هاي إسلامي، مشهد المقدس، 1409ه ق.

ص: 536

182. قم المقدسة رائدة الحضارة، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق،1. مؤسسة محمد الأمين(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، الكويت، 1422ه ق.

183. القواعد الفقهيه، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق.

184. الكافي، الشيخ الكليني، ت329ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران 1407ه ق، الطبعة 4.

185. كامل الزيارات، ابن قولويه، ت367ه ق، دار المرتضويه، النجف الأشرف، 1356ه ش.

186. الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ت630ه ق، دار الصادر، بيروت، 1386ه ق.

187. كتاب الطهارة، الشيخ الأنصاري، ت1281ه ق، المؤتمر العالمي لإحياء الشيخ الأنصاري، قم المقدسة، 1415ه ق.

188. كتاب العين، خليل بن أحمد الفراهيدي، ت175ه ق، هجرت، قم المقدسة، 1409ه ق.

189. كتاب المزار، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413ه ق.

190. كشف الريبة، الشهيد الثاني، ت966ه ق، دار المرتضوي، طهران، 1390ه ق.

191. كشف الغمة، علي بن عيسى الإربلي، ت692ه ق، بني هاشمي، تبريز، 1381ه ق.

192. كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد، العلامة الحلي، ت726ه ق،

ص: 537

مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام)، قم المقدسة، 1382ه ش.1.

193. كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام)، العلامة الحلي، ت726ه ق، طهران، 1411ه ق.

194. كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر، علي بن محمد الخزاز الرازي القمي، ت القرن 4ه ق، بيدار، قم المقدسة، 1401ه ق.

195. كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1395ه ق.

196. كنز الفوائد، محمد بن علي الكراجكي، ت449ه ق، دار الذخائر، قم المقدسة، 1410ه ق.

197. الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي، ت1359ه ق، مكتبة الصدر، طهران.

198. لسان العرب، ابن منظور، ت711ه ق، دار الفكر - دار الصادر، بيروت، 1414ه ق.

199. اللّهوف على قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، انتشارات جهان، طهران.

200. لؤلؤة البحرين، الشيخ يوسف البحراني، ت1186ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، لإحياء التراث، قم المقدسة.

201. مآثر الإنافة في معالم الخلافة، أحمد بن علي القلقشندي، ت821، وزارة الإرشاد والأنباء في الكويت، 1964م.

ص: 538

202. مائة منقبة، ابن شاذان القمي، ت460ه ق، مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف،1. قم المقدسة، 1407ه ق.

203. المبسوط، السرخسي، ت483ه ق، دار المعرفة، بيروت، 1406ه ق.

204. متشابه القرآن ومختلفه، محمد بن علي بن شهر آشوب، ت588ه ق، دار بيدار، قم المقدسة، 1369ه ق.

205. مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ت645ه ق، مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1406ه ق.

206. المجازات النبوية، الشريف الرضي، ت406ه ق، دار الحديث، قم المقدسة، 1422ه ق.

207. المجتنى من الدعاء المجتبى، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، دار الذخائر، قم المقدسة، 1411ه ق.

208. مجمع البحرين، فخر الدين الطريحي، ت1087ه ق، مرتضوي، طهران، 1375ه ش.

209. مجمع الزوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، ت807ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408ه ق.

210. محاسبة النفس، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، مرتضوي، طهران، 1376ه ش.

211. المحاسن، أحمد بن محمد البرقي، ت274، دار الكتب الإسلامية، قم المقدسة، 1371ه ق.

ص: 539

212. محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، الراغب الأصفهاني،1. ت502ه ق، دار أرقم بن أبي أرقم، بيروت، 1420ه ق.

213. المحبر، محمد بن حبيب البغدادي، ت245ه ق، مطبعة الدائرة، 1361ه ق.

214. المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، ت1091ه ق، جامعه المدرسين، قم المقدسة.

215. مختلف الشيعة، العلامة الحلي، ت726ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1418ه ق.

216. مدينة معاجز الأئمة الإثني عشر(عليهم السلام)، السيد هاشم البحراني، ت1107ه ق، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدسة، 1413ه ق.

217. مرآة الجنان وعبرة اليقظان، عبد اللّه بن أسعد اليافعي اليمني المكي، ت768ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417ه ق.

218. مرآة الحرمين، إبراهيم رفعت باشا، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1344ه ق.

219. مرآة العقول، العلامة المجلسي، ت1110ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1404ه ق.

220. مروج الذهب، علي بن الحسين المسعودي، ت346ه ق، دار الهجرة، قم المقدسة، 1404ه ق.

221. المزار الكبير، محمد بن جعفر (ابن المشهدي)، ت610ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1419ه ق.

222. مسالك الأفهام، الشهيد الثاني، ت965ه ق، مؤسسة المعارف الإسلامية،

ص: 540

قم المقدسة، 1416 ه ق.

223. مستدرك الوسائل، الشيخ حسين النوري، 1320ه ق، مؤسسه آل البيت(عليهم السلام)،

224. مستدرك سفينة البحار، علي النمازي الشاهرودي، ت1405ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة.

225. المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب(عليه السلام)، محمد بن جرير بن رستم الطبري الآملي، ت326ه ق، كوشانبور، قم المقدسة، 1415ه ق.

226. المستطرف في كل فن مستظرف، محمد بن أحمد الأبشيهي، ت852ه ق، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 2000م.

227. مسند أبي يعلي، أبو يعلى الموصلي، ت307ه ق، دار المأمون للتراث، دمشق، 1412ه ق.

228. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، ت241ه ق، دار الصادر، بيروت.

229. مشارق أنوار اليقين، رجب بن محمد الحافظ البرسي، ت813ه ق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1422ه ق.

230. مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، الشيخ علي بن حسن الطبرسي، ت600ه ق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1385ه ق.

231. مصادقة الإخوان، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، مكتبة الإمام صاحب الزمان(عليه السلام) العامة، الكاظمية الشريفة، 1402ه ق.

232. مصباح الشريعة، المنسوب إلى الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، مؤسسة

ص: 541

الأعلمي، بيروت، 1400ه ق.

233. مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، مؤسسه فقه الشيعة، بيروت، 1411ه ق.

234. المصباح، إبراهيم بن علي الكفعمي، ت905ه ق، دار الرضي، قم المقدسة، 1405ه ق.

235. المصنف، ابن أبي شيبة الكوفي، ت235ه ق، دار الفكر، بيروت، 1409ه ق.

236. مطالب السؤول، محمد بن طلحة الشافعي، ت652ه ق، تحقيق: ماجد بن أحمد العطية.

237. مع الطب في القرآن الكريم، عبد الحميد دياب، أحمد قرقوز، معاصر، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، 1402ه ق.

238. معالي السبطين، الشيخ محمد مهدي المازندراني، ت1385ه ق، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، 1380ه ق.

239. معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1403ه ق.

240. معجم الأدباء، ياقوت بن عبد اللّه الحموي الرومي، ت626ه ق، دار الفكر، بيروت، 1400ه ق.

241. المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد الطبراني، ت360ه ق، دار الحرمين، القاهرة، 1415ه ق.

242. معجم البلدان، ياقوت بن عبد اللّه الحموي الرومي البغدادي، ت626ه ق،

ص: 542

دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1399ه ق.

243. المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الطبراني، ت360ه ق، دار إحياء التراث العربي، القاهرة.

244. معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، معاصر، مكتبة المثنى ودار إحياء التراث العربي، بيروت.

245. معدن الجواهر، أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي، ت449ه ق، المكتبة الرضويه، طهران، 1394ه ق.

246. المعيار والموازنة، محمد بن عبد اللّه الإسكافي، ت240ه ق، 1402ه ق.

247. المغازي، محمد بن عمر الواقدي، ت207ه ق، نشر دانش إسلامي، 1405ه ق.

248. مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ت502ه ق، دار القلم، الدار الشامية، بيروت - دمشق، 1412ه ق.

249. مقاتل الطالبين، أبو الفرج الأصفهاني، ت356ه ق، منشورات المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1385ه ق.

250. مقتل الحسين(عليه السلام)، السيد عبد الرزاق المقرَّم، ت1391ه ق، مؤسسة الخرسان للمطبوعات، بيروت، 1426ه ق.

251. مقتل الحسين(عليه السلام)، المنسوب لأبي مخنف الكوفي الأزدي، ت157ه ق، المطبعة العلمية، قم المقدسة.

252. مقتل الحسين(عليه السلام)، موفق بن أحمد الخوارزمي، ت568ه ق، أنوار

ص: 543

الهدى، قم المقدسة، 1423ه ق.

253. المقنعة، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413ه ق.

254. مكاتيب الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، علي الأحمدي الميانجي، ت1421ه ق، دار الحديث، قم المقدسة، 1419ه ق.

255. مكارم الأخلاق، الحسن بن الفضل بن الحسن الطبرسي، ت القرن 6ه ق، الشريف الرضي، قم المقدسة، 1412ه ق.

256. من أسباب ضعف المسلمين، السيد محمد الشيرازي، ت1422ه ق، مؤسسة المجتبى، بيروت، 1422ه ق.

257. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1413ه ق.

258. منازل الآخرة والمطالب الفاخرة، الشيخ عباس القمي، ت1359ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1419ه ق.

259. مناقب آل أبي طالب(عليهم السلام)، ابن شهر آشوب، ت588ه ق، انتشارات علامة، قم المقدسة، 1379ه ق.

260. مناقب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، محمد بن سليمان الكوفي القاضي، ت حدود 300ه ق، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم المقدسة، 1412ه ق.

261. المناقب، الموفق الخوارزمي، ت568ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1414ه ق.

ص: 544

262. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (ابن1. الجوزي)، ت597ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412ه ق.

263. منتهى المطلب، العلامة الحلي، ت726ه ق، مؤسسة الآستانه الرضوية المقدسة، مشهد المقدس، 1414ه ق.

264. المنجد في الأعلام، لويس معلوف، ت1946م، دار المشرق، بيروت، 2008م.

265. منهاج الكرامة، العلامة الحلي، ت726ه ق، انتشارات تاسوعاء، مشهد المقدس، 1379ه ش.

266. منية المريد، زين الدين بن علي الشهيد الثاني، ت965ه ق، مكتب الإعلام الإسلامي، قم المقدسة، 1409ه ق.

267. مهج الدعوات، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، دار الذخائر، قم المقدسة، 1411ه ق.

268. موسوعة السياسة، عبد الوهاب الكيالي، ت1981م، دار الهدى، بيروت.

269. المؤمن، حسين بن سعيد الكوفي الأهوازي، ت القرن 3ه ق، مؤسسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1404ه ق.

270. نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، حسين بن محمد الحلواني، ت القرن 5ه ق، مدرسة الإمام المهدي عجل اللّه تعالی فرجه الشريف، قم المقدسة، 1408ه ق.

271. النظام السياسي في الإسلام، باقر شريف القرشي، ت1433ه ق، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1398ه ق.

ص: 545

272. نظم درر السمطين، محمد الزرندي الحنفي، ت750ه ق، سلسلة1. مخطوطات مكتبة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، 1377ه ق.

273. نفس الرحمن في فضائل سلمان، الميرزا النوري، ت1320ه ق، مؤسسة الآفاق، 1411ه ق.

274. النهاية في غريب الحديث والأثر، مبارك بن محمد (ابن الأثير)، ت606ه ق، مؤسسة إسماعيليان للمطبوعات، قم المقدسة، 1367ه ش.

275. نهج الحق وكشف الصدق، العلامة الحلي، ت726ه ق، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982م.

276. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، محمد باقر المحمودي، ت1427ه ق، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، 1385ه ق.

277. نهج الفصاحة، ابو القاسم پاينده، ت1363ه ش، طهران، دنيای دانش، 1382ه ش.

278. النوادر، فضل اللّه بن علي الراوندي، ت570ه ق، دار الكتاب، قم المقدسة.

279. الهداية الكبرى، حسين بن حمدان الخصيبي، ت334ه ق، البلاغ، بيروت، 1419ه ق.

280. الهواتف، ابن أبي الدنيا، ت281ه ق، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 1413ه ق.

281. الوافي، الفيض الكاشاني، ت1091ه ق، مكتبة الإمام أمير المؤمنين

ص: 546

علي(عليه السلام) العامة، أصفهان، 1406ه ق.

282. وسائل الشيعة، الشيخ الحر العالمي، ت1104ه ق، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، قم المقدسة، 1409ه ق.

283. وفيات الأعيان، ابن خلكان، ت681ه ق، دار الثقافة، لبنان.

284. وقعة الطف، أبو مخنف الكوفي الأزدي، ت157ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1417ه ق.

285. وقعة صفين، نصر بن مزاحم، ت212ه ق، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1404ه ق.

286. اليقين، السيد ابن طاووس، ت664ه ق، دار الكتاب، قم المقدسة، 1413ه ق.

287. ينابيع المودة لذوي القربى، سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي، ت1294ه ق، دار الأسوة، قم المقدسة، 1416ه ق.

288. يوم الخلاص، كامل سليمان، دار الكتاب اللبناني، بيروت.

ص: 547

ص: 548

فهرس المحتويات

هداية الناس وقضاء حوائجهم

من أهم الواجبات... 5

عقيدة التثليث... 5

الهداية عبر الأدعية... 11

الهداية التكوينية والتشريعية... 12

الهداية والتذكير بالآخرة... 13

القيادة الربانية... 13

العلماء ومسؤولية الهداية... 14

خدمة الناس وطرقها... 16

داروين وتضليل الناس... 17

فرويد... 18

ماركس... 19

القومية باطلة... 20

ما الحل لتلك المشاكل؟... 23

قضاء حوائج الناس... 26

قضاء حاجة الجارية... 32

امرأة تشكي زوجها... 33

جارية تبكي... 34

ص: 549

بيت القصص... 35

صف لي علياً... 36

مع الأرامل والأيتام... 36

مع الرجل الأعمى... 37

الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة في الهداية... 39

قائد ثورة العشرين... 41

مع السيد بحر العلوم(رحمه اللّه)... 42

من هدي القرآن الحكيم... 47

فعل الخيرات وقضاء الحوائج... 47

العبودية للّه وحده تعالى... 48

الهداية بالإمامة الحقة... 48

العمل مع التقوى... 49

من هدي السنّة المطهّرة... 49

الخدمة وقضاء الحوائج... 49

العبودية للّه وحده تعالى... 50

العلماء ورثة الأنبياء(عليهم السلام)... 50

الهداية بالإمامة الحقة... 51

العمل مع التقوى... 52

هكذا الزواج في الإسلام

الزواج ضرورة... 53

طرق إشباع الغريزة... 54

مشكلة المهور... 56

ص: 550

قصص عن الزواج... 58

قصة زواج... 59

مسؤولية المجتمع تجاه الزواج... 62

القدوة الصالحة... 62

من نعم الإسلام... 63

من هدي القرآن الحكيم... 65

الحث على التزويج... 65

السعي في اختيار الزوجة والدعاء لذلك... 66

أحكام المهر... 66

من هدي السنّة المطهّرة... 66

كراهة العزوبة ولزوم الزواج... 66

ذم كثرة المهور... 68

تزويج المؤمن أخاه المؤمن... 68

هكذا الزواج في الإسلام... 69

يوم الحسين(عليه السلام) 3 شعبان ذكرى مولده المبارك

الولادة المباركة... 70

طهّره اللّه من عرشه... 71

تكريم العلم والعلماء... 72

لماذا تقدم الغرب؟... 74

النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتأكيد على العلم... 75

مدرسة الإمام الحسين(عليه السلام)... 76

حركة الوهابيين... 77

ص: 551

الاستثمار التبليغي... 81

الإسلام يعلو... 83

دور الطلبة والعلماء... 84

حكام الجور من أسباب التأخر... 85

قسوة خالد بن عبد اللّه القسري... 86

مقتل عبد اللّه بن المقفع... 88

الكتابة والتأليف... 91

مكتبات في كل مكان... 92

المكتبة المنزلية... 93

الخطابة والبيان... 94

قدرنا وقدرتنا... 94

الاقتصاد عصب الحياة

رعاية الإسلام للاقتصاد... 96

الاقتصاد في حياة المسلم... 98

أهمية الاقتصاد والمال والعمل... 98

الاقتصاد في مناهج الحوزات العلمية... 101

في ذم الإسراف... 102

دور الفقهاء في الاهتمام بالاقتصاد... 102

من هدي القرآن الكريم... 104

السعي لكسب المال... 104

الاقتصاد وذم الإسراف... 104

الاقتصاد وموارد الإنفاق... 105

ص: 552

من هدي السنّة المطهّرة... 105

الاقتصاد في الأسعار... 105

الاقتصاد في الإنفاق... 106

الغاية من الاقتصاد... 107

العمل والمعاش... 107

الحسن والحسين(عليهما السلام) إمامان قاما أو قعدا

المقدمة... 109

المجتمع يفرز الطغاة... 111

الطبيعة النفسية للطاغية... 115

كيف يُواجَه الطغاة؟... 120

دور المعصوم(عليه السلام) واستمرار الرسالة... 123

دور الحوزات العلمية في بناء المجتمع

المقدمة... 125

الحوزة بين العلم والمجتمع... 127

إنتاج الحوزة... 127

حال الشيعة في العالم... 128

عقوبة ترك إعانة المظلوم... 128

رجال القدوة الحسنة... 130

مثال من الصحابة: سلمان وبساطة العيش... 131

من الإمام إلى تلميذه... 132

من هدي القرآن الحكيم... 134

أهمية العلم... 134

ص: 553

الابتعاد عن الغفلة... 134

نشر العلم ومحاربة الجهل... 134

من هدي السنّة المطهّرة... 135

أهمية العلم... 135

الابتعاد عن الغفلة... 135

القدوة الحسنة... 136

فضل العالم على الجاهل... 137

لين الكلام

المقدمة... 138

صفح النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أبي سفيان... 140

أمير المؤمنين(عليه السلام) بين الناس... 141

عزل أبي الأسود... 142

الإمام السجاد(عليه السلام) ولين الكلام... 143

شواهد من الرفق في المعاملة... 143

الكلام الطيب... 143

العطاء مقابل الهجاء... 144

عالمنا اليوم... 145

أخلاق أستاذ... 145

من هدي القرآن الحكيم... 146

الرفق ولين الكلام... 146

قول الخير والقول الحسن... 147

الصفح الجميل... 147

ص: 554

من هدي السنّة المطهّرة... 148

حفظ اللسان... 148

التفكر في الكلام... 148

الرفق واللاعنف... 149

الزهد في الإسلام

الزُّهد في الدّنيا... 150

1- الإيثار... 150

2- المواساة... 150

الزُّهد في القرآن... 151

الخِلافة الهالكة... 152

قالوا في الدّنيا... 153

الدّنيا والآخرة... 154

صلاح الباطن والظاهر... 155

خير مقتدى... 156

تأثير الزّهد في المجتمع... 158

من هدي القرآن الحكيم... 160

من علامات الزهد... 160

العبودية للّه عزّ وجلّ فقط... 160

الاهتمام للآخرة... 160

تحقير الدنيا... 160

محاربة النفس وهواها... 161

من هدي السنّة المطهّرة... 161

ص: 555

من علامات الزهد... 161

الاهتمام للآخرة... 162

تحقير الدنيا... 162

محاربة النفس وهواها... 163

العزوف عن الترف

السمو الحقيقي... 164

فوائد العزوف عن الترف... 165

الفائدة الأولى... 165

الفائدة الثانية... 167

الفائدة الثالثة... 168

شُريك والعروض الثلاثة... 169

كيف ينظر الإسلام إلى الدنيا... 171

الدنيا... وأهل البيت(عليهم السلام)... 173

من هدي السنّة المطهّرة... 174

التواضع... 174

الزهد... 175

العمل للآخرة... 175

لا للدنيا... 175

من هدي السنّة المطهّرة... 176

التواضع... 176

الزهد... 176

العمل للآخرة... 177

ص: 556

لا للدنيا... 177

حبّ الدنيا

رأس كل خطيئة... 179

دار القَرار... 180

دارُ الزَّوال... 182

دنيا رَخيصة... 183

الهاويَة... 184

آثار أخرى... 185

الاعتدال في الطَلَب... 185

من هدي القرآن الحكيم... 188

1- البخل... 188

2- الهوى وحب النفس... 189

3- الطمع وحب المال... 189

4- الطغيان... 190

من هدي السنّة المطهّرة... 190

البُخل وحبّ الدنيا... 190

محاربة هوى النَّفس... 191

مجانبة الطَمع... 191

عاقبة الطغيان... 192

الإخلاص والمقامات العالية

ما هو الإخلاص؟... 193

كيف نكون مخلصين؟... 195

ص: 557

الذَوبان السَريع... 197

مقامات مِن نُور... 198

نفحات من سورة الإخلاص... 202

في الإخلاص الخلاص... 204

من هدي القرآن الحكيم... 205

لتحصيل الإخلاص يجب التغلّب على الهوى... 205

اللّه تعالى يعلم بإخلاص العامل من نيَّته... 206

رأس الإخلاص توحيد اللّه سبحانه... 206

من هدي السنّة المطهّرة... 207

لتحصيل الإخلاص يجب التغلّب على الهوى... 207

اللّه تعالى يعلم بإخلاص العامل من نيّته... 207

رأس الاخلاص توحيد اللّه سبحانه... 208

العفو والصفح الجميل

مِن مَكارم الأخلاق... 209

مراتب العفو... 210

كيف نفهم العفو؟... 211

العَفو عند المَقدرة... 213

مِن فوائد العَفو... 214

محاربة الهوى... 215

مَواقف مِن نور... 217

لماذا العقوبة؟... 218

الصبر والاستقامة

الاعتدال بين العقل والهوى... 221

ص: 558

الإمام الحسن(عليه السلام)... 224

العلم نور... 225

الاستقامة... 226

اليقين يلازم الاستقامة... 226

كيف نحصل على الصبر؟... 227

الاستقامة على مستوى الأفكار والأعمال... 228

من هدي القرآن الحكيم... 229

الصبر... 229

العلم... 230

الاستقامة... 230

من هدي السنّة المطّهرة... 231

الصبر وآثاره... 231

العلم وفضله... 231

الاستقامة... 232

دور التفاؤل في تحقيق الأهداف

ما هو التفاؤل؟... 233

فوائد التفاؤل... 234

الفارق بين المتفائل والمتشائم... 235

من شروط النصر... 236

ولقد شهدنا... 237

والكل يعلم... 238

لكي ينتشر الإسلام... 239

ص: 559

شاهد حي... 240

من هدي القرآن الحكيم... 241

لِنتعامَلْ بسلام... 241

ونتمَسَّك بالدين... 242

ولا نَيأس أبداً... 242

من هدي السنّة المطهّرة... 243

لنتعامل بسلام... 243

ونتمسَّك بالدين... 243

ولا نَيأس أبداً... 244

سعة الصدر

المقدمة... 245

معنى سعة الصدر... 246

السيد أبو الحسن الإصفهاني(قدس سره) وسعة الصدر... 247

برنارد شو... 248

كيف نعمل؟... 249

أولاً... 249

ثانياً... 249

ثالثاً... 249

من هدي القرآن الحكيم... 251

الحلم... 251

العفو وكظم الغيظ... 251

السخاء والسماحة والجود... 252

ص: 560

من هدي السنّة المطهّرة... 252

الحلم عند أهل البيت(عليهم السلام)... 252

الجود عند أهل البيت(عليهم السلام)... 253

السخاء والسماحة... 254

العفو وكظم الغيظ... 255

سوء الظن

التَدَبُّر في القرآن... 257

مَعنى الظَنّ وتَقسِيماته... 258

سُوءُ الظَنّ يَكْشِف عن خُبْثِ الباطِن... 260

القَلب وسُوء الظَنّ... 261

تأثِير الظنّ السَيء على الإنسان والمُجتَمع... 262

الشهادَةُ والظَنّ... 264

تَجَنّب سُوء الظَنّ... 265

سوء الظنّ يُورث المفسدة... 267

قضاء أمير المؤمنين(عليه السلام)... 267

التَرَيّث في الحُكم... 269

من هدي القرآن الحكيم... 270

الظنّ السيء... 270

أسباب سوء الظن... 271

1- تلوث قلب الإنسان... 271

2- الحسد... 271

3- مصاحبة الأشرار... 271

ص: 561

4- التكبر... 271

آثار سوء الظن على الإنسان... 271

من هدي السنّة المطهّرة... 272

الظن السيء... 272

الظن الحسن... 272

أسباب سوء الظن... 273

1- التواجد في مداخل السوء ومواضع التهم... 273

2- النفاق... 273

3- الحسد... 273

آثار سوء الظن... 273

مساوئ الإدعاء

مُكافحة الغُرور... 275

تساؤل... 277

الإدِّعاء الفارغ... 279

مُسيلمة والإدّعاء الكاذب... 281

عوامل الادّعاء... 282

وقت الامتحان... 283

الجهل مرتع الادّعاء... 284

التقصير في صلاة المغرب... 286

من آثار التواضع... 288

من هدي القرآن الحكيم... 290

من مساوي الإدعاء أنه يؤدي إلى... 290

ص: 562

الغرور... 290

والتكبر... 290

والعجب... 290

والرياء... 291

من هدي السنّة المطهّرة... 291

الغرور... 291

التكبر... 292

العجب... 292

الرياء... 293

الحاجة إلى السياسة

معنى السياسة... 295

ثورة المشروطة والسياسة... 296

مقاومة السيد البروجردي(رحمه اللّه)... 296

الحاجة إلى التجديد... 298

الحنكة السياسية... 299

فشل السياسة الغربية... 300

الأمية السياسية لدى بعض المسلمين... 301

السيد الحكيم(رحمه اللّه) وعبد السلام عارف... 302

التخطيط البريطاني... 303

من هدي القرآن الحكيم... 304

لماذا السياسة؟... 304

السياسة الحسنة... 304

ص: 563

مساوئ الجهل... 305

آثار العلم... 306

من هدي السنّة المطهّرة... 306

لماذا السياسة؟... 306

السياسة الحسنة... 307

مساوئ الجهل بالسياسة... 307

السياسة في حياة الإنسان

أهميّة السياسة... 308

معنى السياسة... 309

السياسة بَين اليوم والأمس... 310

المقاييس الفاسدة... 312

الدين والسياسة... 313

الحَوزة مسؤولة... 314

العالَم ومشكلة السياسة... 314

مَسؤولية البديل... 315

من هدي القرآن الحكيم... 317

الإسلام هو المنقذ... 317

السلم والسلام في الإسلام فقط... 317

حديث العدل... 318

لا للجهل... 318

من هدي السنّة المطهّرة... 319

الإسلام هو المنقذ... 319

ص: 564

السلم والسلام في الإسلام فقط... 319

حديث العدل... 320

لا للجهل... 320

المخابرات الغربية في الوطن الإسلامي

الاستخبارات... 321

لماذا المُخابرات؟... 323

تَشويش مخابراتي... 325

جِنايات رَهيبة... 326

الحُكّام العَبيد... 328

من هدي القرآن الحكيم... 330

الشورى... 330

الحرية حق كل فرد... 330

الوعي والبصيرة... 330

من هدي السنّة المطهّرة... 331

الصواب في الشورى... 331

الحرية حق كل فرد... 331

الوعي والبصيره تفشلان دسائس الأعداء... 332

المستبد مغلوب

قصّة الظلم... 333

حقيقة الظلم... 334

بين الظلم والاستبداد... 335

لماذا الاستبداد؟... 335

ص: 565

النقص والضعف... 336

التجبّر والتعالي... 336

الطَمَع... 337

التبعيّة العمياء... 338

الفساد من الظالمين... 339

الصلاح مع العدل... 341

لماذا المُستبد مغلوب؟... 343

حصاد بغداد... 344

النصر من طرفين... 345

خاتمة المستبد... 346

من هدي القرآن الحكيم... 348

العدل... 348

الحذر من اتّباع الهوى... 348

لا للظلم... 349

من هدي السنّة المطهّرة... 349

العدل والعادل... 349

الحذر من إتباع الهوى... 350

الظلم... 351

جزاء الظالم... 351

عن النهضة

عوامل نجاح النهضة... 353

النهضة والحضارة... 354

ص: 566

من أسباب النهضة الأفريقية... 356

سبب انتكاسة النهضة في الشرق... 357

بين النهضة الحقيقية... والصورية... 358

حقيقة يجب أن لا تغيب عن البال... 360

أساس النهضة الناجحة... 361

من هدي القرآن الحكيم... 363

الأخلاق... 363

مقوّمات نجاح الثورة... 363

القيادة الحكيمة المطاعة... 363

منهج الثورة... 364

الإخلاص... 364

الحفاظ على أخلاقيّة الثورة... 364

من هدي السنّة المطهّرة... 364

الأخلاق... 364

مقوّمات نجاح الثورة... 365

1- القيادة الحكيمة المطاعة... 365

2- منهج الثورة... 365

3- الإخلاص... 365

4- الحفاظ على أخلاقية الثورة... 365

لماذا تأخر المسلمون؟

عبد الحميد العثماني في كربلاء... 368

من أسباب انحطاط المسلمين... 370

ص: 567

في البلدان الإسلامية... 371

وفي الغرب... 371

فرعون وسبب ادعائه الربوبية... 372

الأخلاق والسيادة... 373

قصة أخرى... 373

من هدي القرآن الحكيم... 374

الدعوة الى العمل الإسلامي... 374

دور الأنبياء في الوقوف بوجه الانحراف... 375

أخلاق الحاكم الإسلامي... 375

من هدي السنّة المطهّرة... 376

الدعوة إلى العمل الإسلامي... 376

دور العلماء في الوقوف بوجه الانحراف... 377

أخلاق الحاكم الإسلامي... 377

كيف يمكن حل مشكلات المسلمين

سؤال... 379

المقدمة الأولى... 379

المقدمة الثانية... 380

سيطرة الأجانب... 381

من ثمار شورى المرجعية... 382

نشاط الشيوعية... 383

ثلاثة مطالب... 384

من هدي القرآن الحكيم... 385

ص: 568

الإرادة القوية... 385

الإسلام والفطرة... 386

الشورى في كل ميادين الحياة... 387

ذم الفرقة في الإسلام... 387

من هدي السنّة المطهّرة... 387

الشورى في كل ميادين الحياة... 387

التلخص من أغلال الغرب

الثورةُ على الذّات... 390

الصراع الفكري... 392

أغلالُ الغرب... 395

الكتاب المأجورون... 396

نموذجٌ آخر... 397

الاستعمار وجمعيّة أهل القرآن... 398

سؤالٌ وإجابة... 400

من هدي القرآن الحكيم... 404

الأنظمة الجائرة وصفاتها... 404

تحريف كلام اللّه... 404

الجهاد الأكبر... 405

الفكر الإسلامي هو الأصح... 405

الإسلام والعلاج... 405

من هدي السنّة المطهّرة... 406

الأنظمة الجائرة... 406

ص: 569

تفسير القرآن بالرأي... 406

التحذير من الشبهات... 407

القرآن خيرُ عِلاج... 407

سبل النهوض بالمجتمع الإسلامي

في البدء... 409

الأولى: الإرشاد الفكري... 409

الثانية: نشر الكتب... 410

إعلام الفاتيكان... 411

الثالثة: تنظيم أفراد المجتمع وتوجيههم وحثّهم على الإسلام... 412

الرابعة: تأسيس المؤسسات... 414

ثمرة المؤسسات... 415

إدارة المؤسسات بالشورى... 415

التأكيد البالغ على الشورى... 416

الخامسة: علو الهمّة... 417

كيف وصل الاسلام إلى الصين؟... 418

السادسة: التقوى والأخلاق... 419

بدر أول حرب في الإسلام... 419

من هدي القرآن الحكيم... 421

الإرشاد الفكري... 421

الكتب... 422

رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) منبع التقوى وحسن الخلق... 422

من هدي السنّة المطهّرة... 422

ص: 570

الإرشاد الفكري... 422

الكتب... 423

الهمّة... 424

التقوى وحسن الخلق... 425

أقرب الطرق إلى النصر

نصرٌ من اللّه وفتحٌ قريب... 427

أولاً: الطاعة... 428

ثانياً: الصبر... 430

الإيمان... 432

ثالثاً: التخطيط الصحيح... 432

غزوة ذات السلاسل... 433

شاهد آخر... 434

رابعاً: الوحدة... 436

خامساً: العمل الجاد... 437

النصر من اللّه تعالى... 439

من هدي القرآن الحكيم... 440

الطاعة... 440

الصبر... 441

التأكيد على وحدة الأمة... 441

نصر اللّه... 442

من هدي السنّة المطهّرة... 442

الطاعة... 442

ص: 571

الصبر... 443

التخطيط في العمل... 443

الأمة الواحدة... 443

الحوزة العلميّة ودورُها القيادي

نشر العلوم مهمّة مقدّسة... 446

الحوزة مصنع الرّجال... 448

محاولات فاشلة... 449

المناهج الدراسيّة... 451

الحوزة حالة تبليغيّة للدين... 453

كلمة أخيرة... 455

من هدي القرآن الحكيم... 457

من الكمالات التي صنعت بها الحوزة المقدسة علماء عظماء... 457

التقوى... 457

الحلم... 457

الصبر... 458

الإخلاص... 458

من هدي السنّة المطهّرة... 458

من الكمالات التي صنعت بها الحوزة المقدسة علماء عظماء... 458

التقوى... 458

الحلم... 459

الصبر... 459

الإخلاص... 460

ص: 572

الاجتهاد في طلب العلم

وصية المرحوم الميرزا مهدي الشيرازي(رحمه اللّه)... 462

أهمية العلم... 462

العلم والمرجعية... 463

وصية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر... 464

الآغا بزرك الطهراني(رحمه اللّه)... 464

الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمه اللّه)... 464

الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه)... 465

الحوزات العلمية والعلوم الإنسانية... 467

الافتقار إلى التاريخ... 468

افتقاد الحوزات العلمية لدرس علم النفس... 468

لمحة من حياة الملا أحمد النراقي... 469

الشهيد الأول(رحمه اللّه)... 470

قلة الكتب الشيعية... 470

نظرية الشيخ الطوسي(رحمه اللّه)... 471

جانب من أحوال سعدي... 471

الفضل ما شهدت به الأعداء... 472

محتوى كتاب المغني... 472

من هدي القرآن الحكيم... 473

التفقه والعلم... 473

الحكمة والعلم... 474

الإيمان والعلم... 474

ص: 573

من هدي السنّة المطهّرة... 475

وجوب طلب العلم والحثّ عليه... 475

أهمية العلم... 476

طلب العلم... 476

في ذم علماء السوء... 476

ضروريات طالب العلم

البعد الأول: العلم الكثير... 478

أهمية العلم في نظر العلماء... 478

البعد الثاني: البعد التربوي... 479

الإمام الصادق(عليه السلام) والمواساة... 480

يوسف(عليه السلام) والمواساة... 481

البعد الثالث: التقوى والعيش البسيط... 481

تأثير أحد العلماء الزهاد في الناس... 482

الشيخ جعفر الشوشتري(رحمه اللّه)... 483

من هدي القرآن الحكيم... 485

العلم... 485

فضل العلم... 485

من هدي السنّة المطهّرة... 486

أهمية العلم... 486

فضل العلم والعالم على غيره... 486

النظر إلى العالم... 488

العلم فريضة... 488

ص: 574

آثار طلب العلم... 488

أصناف طلبة العلم... 489

ما يحتاجه طالب العلم

ما يلزم طالب العلم... 491

والشروط الستة هي... 492

العلم وطالب العلم... 492

دليل من التاريخ... 493

دراسة وتدريس الحاج آقا حسين القمي(رحمه اللّه)... 494

عدم إضاعة الوقت... 495

تعلم القرآن ونهج البلاغة... 496

نشاط الشيخ محمد جواد البلاغي في طريق العلم وخدمة الدين... 497

من هدي القرآن الحكيم... 498

العلم وطالب العلم... 498

تعلم العلم وتعليمه... 499

من هدي السنّة المطهّرة... 500

العلم وطالب العلم... 500

ضرورة تعلم العلم وتعليمه... 501

تعلّم القرآن وعلوم أهل البيت(عليهم السلام)... 502

العراق بعد حزب البعث، العراق بعد التغيير

حكم الإسلام... 504

بالإسلام تعمر البلاد... 505

قانون من سبق... 507

ص: 575

الإسلام هو الحل... 508

الحكومة الشيعية... 509

الأحزاب الحرة... 509

حرية الحوزات العلمية... 511

العتبات المقدسة... 512

الصورة المستقبلية للعراق... 514

فهرس المصادر... 519

فهرس المحتويات... 549

ص: 576

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.