نساء خالدات
نرجس والدة الإمام المنتظر (عج)
محمد باقر الأمينى
دار النبلاء
المتبرع الدیجیتالي : جمعیة المساعدة إمام الزمان (عج) في اصفهان
محرر الكتاب: السيدة نرجس قمي
ص: 1
ص: 2
نرجس والدة الإمام المنتظر (علیه السلام)
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 4
نساء خالدات
نرجس والدة الإمام المنتظر (علیه السلام)
تأليف
محمد باقر باقر الأميني
ترجمة
زهراء الموسوي
دار النبلاء
ص: 5
جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى
1425ه- - 2004م
مكتبة مؤمن قريش
لو وضع ايمان أبي طالب في كفة ميزان وايمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه.
الإمام الصادق (علیه السلام)
moamenquraish.blogspot.com
دار النبلاء حارة حريك - ص 11/8601 - هاتف : 03/814294 خليوي
ببيروت - لبنان
ص: 6
قراءة تاريخ النساء الخالدات ضروري لكل مسلم ومسلمة ، فلا فرق بين الذكر والأنثى إن كانا متقيان ، إذاً كما يستطيع الرجل أن يقتدي بالرجل، فانّه يستطيع الاقتداء بالمرأة، وعلى هذا فان إطلاعة على تاريخ النساء الخالدات يساعده على الإقتداء بهن ، إذاً الخطا أن نعتبر مثلاً فاطمة الزهراء علیها السلام قدوة للنساء فقط ، كيف ذلك والأئمة علیهم السلام قد اقتدوا بها ؟ (1)
وضرورة الإطلاع على تاريخ هؤلاء النساء، للمرأة بوجه عام وللمرأة المسلمة بصورة خاصة ، هي رفع معنوياتها وإعطاءها الجرأة والإعتماد على الذات التي فقدتها عبر العصور والقرون الماضية، وورثتها من أمهاتها منذ القدم الى يومنا هذا، حيث تعرضت للظلم
ص: 7
والتحقير حتى اعتقدت أنّها خُلِقَت من أجل الرجل، وليس لها وظيفة في العالم سوى خدمة الرجل لكى يصل إلى أعلى القمم والمدارج وهي مقصورة على الارتقاء في الدرجات الرفيعة.
وهذه الفكرة جعلتها مرّة عرضة للهوان والضعف ومرة أخرى للفساد والفحشاء
عن علی (علیه السلام) : من هانت عليه نفسه فلا تأمن شرّه»، فالمرأة التي تحسّ بهوان ذاتها تعمل المستحيل من الشرر لتثبت ذاتها وقدرتها. وهي تسمع دائماً عن الرجال الأوائل الذين وصلوا الى أعلى القمم. لا يوجد ذكرُ للنساء إلا القلة منهن مثل مريم وفاطمة الزهراء وزينب سلام الله عليهن وحتى الكلام عن هؤلاء قليل جداً. إذاً لا بد ان تتعرف النساء على تلك الأوائل، الخالدات اللاتي أثرن في العالم وقدمن للبشرية رجالاً هزوا العالم ووصلن إلى أعلى مدارج الكمال بإيمانهن وإخلاصهن.
أتمنى أن نرفع بهذه المجموعة المتواضعة من معنويات اخواتنا المسلمات وأن يستفيد منها أخواننا المؤمنين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
زهراء الموسوي
ص: 8
كانت السنة 265 بعد الهجرة.....
ذهب ابن بحر الشيباني بعد زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) إلى الكاظمين لزيارة الإمامين المدفونين هناك فناجاهما بقلب خاشع وعين دامعة أذهب الحزن والهم من قلبه .
ولم تكن لذة المناجاة الهدية الوحيدة التي نالها من الإمامين المعصومين بل مهدا له زيارة شيخ كان جالساً عند الضريح ولم يكن ذلك الرجل غير بشر بن سليمان من أصحاب الإمام الهادي والإمام العسكري علیهما السلام فتعرفا على بعض سريعاً وكانت نتيجة محادثاتهما مبدأ لتحول عظيم رائع في حياة السيدة نرجس والتي اشتهرت أيضاً بمليكة وسوسن وريحانة وثبت ذلك في تاريخ الأئمة (1).
ص: 9
كانت مليكة زهرة عاشقة تركت ديارها (الروم) شوقاً إلى لقاء شمس الإمامة وازدهرت في دار الأدب «المحمدي» وانتشر عطرها الطيب في جميع الأرجاء .
تلألأت «سوسن» فى سماء سامراء لما افتخرت بأن تكون أنيسة الشمس الولاية والإمامة وحظت بالزواج من أبا محمد الحسن العسكري فانتشر نور نرجس من صدفها واحتفل محبی ابا صالح المهدي (علیه السلام) بعيد مولده.
«قصة الريحانة»، قصة جذابة ورائعة لمنتظري الصبح الصادق لرؤية وجه الحبيب المنتظر وللباحثين عن زهرة نرجس».
لو شق عن قلبي يُرى وسطه *** سطران قد خُطا بلا كاتب
العدل والتوحيد في جانب *** وحب أهل البيت في جانب (1)
محمد باقر الأميني
ص: 10
القسطنطينية ؛ إسم مشهور في تاريخ امبراطورية الروم الشرقية، وتلألأت صفحات تاريخها بإسم «مليكة» المشهورة في ديارها بالعفة والحكمة.
كانت مدينة الروم مركزاً لإمبراطورية الروم العظيمة، قبل إحياء القسطنطينية بنيت هذه المدينة (مدينة الروم) في عام 753 قبل الميلاد، وظهرت دولة الروم منذ ذلك التاريخ ، وفي عام 312م أعلن الإمبراطور المشهور والمعروف ،قسطنطين، بأن دين المسيحية هو الدين الرسمي لدولة الروم . واعتنقها هو أيضاً.
ص: 11
وفي عام 330م نُقلت العاصمة الى بزنطية (1) فسميت تلك المدينة بإسم الإمبراطور «بالقسطنطينية» (2).
قال ابن خرداد (المتوفى في حوالي عام 300 ه- . ق) :
«... اقام الإمبراطور الآخر ايضاً في الرومية وكان اسمه قسطنطين الكبير ، وبعد ذلك انتقل إلى بيزنطية وبنى حولها سوراً وسماها القسطنطينية وهذه البلدة هي مقر سلاطين الروم إلى يومنا هذا (3) بعد أن توفي قسطنطين (337م) انقسمت إمبراطورية الروم بين ثلاث أشخاص وبعد أن قضى هؤلاء نحبهم إختار أهل الروم رجلاً يسمى «والنتين» امبراطوراً لهم، فنصب فوراً أخاه امبراطوراً لمدينة الروم وجزىء امبراطورية الروم إلى جزئين الشرقية (وكانت عاصمة
ص: 12
القسطنطينية) والغربية (وكانت عاصمة مدينة الروم) (1).
أحرزت القسطنطينية من بين مدن العالم المقام الأول من حيث العظمة والجمال واستمر ذلك ألف سنه وكانت مركزاً سياسياً ثقافياً ودينياً للمسيحية (2).
وصف زكريا بن محمد القزويني (المولود في عام 605 ه- . ق) القسطنطينية قائلاً
«...هي مدينة كبيرة فيها قصر السلطان التي هي تطول فرسخاً ولها 300 باباً حديدياً وفيها كنيسة لها قبة من الذهب..... وفي المقرب من الكنيسة توجد منارة مرتفعة طولها 300 ذراع وعرضها 10 اذرع وفي أعلى هذا العمود يوجد قبر قسطنطين، باني المدينة والكنيسة وتوجد مجسمه قسطنطين وهو راكباً على فرسه فوق المنارة) (3).
وصف ویل دورانت القسطنطينية بهذه التعابير :
بعد أن أصبحت هذه المدينة عاصمة ، بمئتين عام
ص: 13
تحولت إلى أغنى المدن وأجملها وأرفهها وبقيت على هذا الحال 10 قرون .... وكان عدد سكانها في عام 500م مليون نسمة.
كان في القسطنطينية 5 قصور للسلاطين 6 قصور لنساء الحكومة و 3 قصور لكبار رجال الدولة و 4388 عمارة كبيرة و 322 زقاق ، و 52 رواقاً» (1).
بما أن امبراطورية الروم الشرقية ورثت حضارة الروم القديمة، فكان لها اعتباراً خاصاً وحكماً نافذاً في جميع الدول الأخرى ؛ وقد حفظت قوانين الروم والى جنب ذلك كان لها قوانين خاصة دونها الإمبراطور جوستين ولهذا تداومت اكثر من الروم الغربية (2).
ثبت في تاريخ القسطنطينية حروب دامية كثيرة منها الحرب بين ايران والروم الشرقية (3) ومن جهة أخرى اتبعت كلا الإمبراطوريتين العظيمتين باختلافات داخلية ومشاحنات بين الرقباء والضغوط المختلفة .
ص: 14
في ذلك الوقت الذي كانت امبراطورية الروم وامبراطورية ايران على وشك الانقراض ولد دين الإسلام في شبه جزيرة العرب واسرعت نحو النمو والكمال والحضارة.
الرسائل التي ارسلها الرسول الأكرم إلى قيصر الروم (1) وأساقفة الروم الشرقية (2)، فتحت لهم نافذة جديدة إلى حياة عزيزة في ظل الوحي والمعنويات، ويتضح لنا هذا من خلال ردودهم علی رسائل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) (3).
كتب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) في رسالته الأولى إلى هرقل (4).
«... سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فاني أدعوك بداعية الإسلام فأسلم تسلم ، ويؤتك الله أجرك مرتين، قل
ص: 15
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون فإن توليت فإن عليك إثم الأرليسيين) (1).
فكتب هر قل :
إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى من قيصر ملك الروم: إنه جاءني كتابك مع رسولك وإني أشهد أنك رسول الله نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا لك فأبوا، ولو أطاعونى لكان خيراً لهم، ولوددت أتي عندك فأخدمك وأغسل قدميك (2).
قيل : ان قيصر الروم بعد أن شهد على رسالة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، وخشي من ثورة عوام شعبه عليه، فأرسل دحية بن خليفه الكلبي. رسول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) إلى أسقف القسطنطينية الكبير لكن بدل رأيه فلقد كان له وجهة خاصة عند الشعب وكانوا يحترمونه اكثر من غيره وشهد الأسقف على رسالة خاتم الأنبياء ولبس ثوباً أبيضاً وذهب إلى الكنيسة وشهد هناك على وحدانية الله ورسالة محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) ودعى شعب الروم
ص: 16
إلى الإسلام ولكن الناس ثاروا عليه فاستشهد في نفس المكان إثر هجوم الناس فخاف قيصر اكثر من السابق من الناس واعتذر عن قبول الإسلام (1) وهكذا بدأت حروب دامية بين المسلمين والروميين وكان امبراطور الروم يحرض جيشه لقتال المسلمين فكانت معركة تبوك جواباً لتهديداتهم (2).
وقد شنت معارك أخرى بين المسلمين وجيش الروم الشرقية طوال القرون الأولى بعد الهجرة (3)، وكان النصر
ص: 17
والهزيمة تنتقل بين جيش الروم وجيش المسلمين ومن بين تلك المعارك توجد أهمية خاصة للمعارك التي كانت بين عام 240 إلى 253. ففي هذه المدة كانت مليكة» ابنة يوشعا وحفيدة امبراطور الروم الشرقية ميخائيل الثالث ( قيصر الروم من 238 إلى 253 ق ) (1) تعيش في القسطنطينية وتتبع الحوادث وتنتظر المستقبل
وكأنها تقول:
أنا المشهورة في بلادي بالحب وانا التي لم ألوث عيني بالألواث أنا الوفية التي أتحمل العتاب و أنا السعيدة، فالحزن في طريقتنا هو كفر .
ص: 18
النبي عيسى (علیه السلام) وكان أحد حواريه (1) وأفضلهم وكان يقال له بطرس ) (2) كان شمعون من أبناء عمومه مريم علیها السلام (3) ولهذا رافق عيسى (علیه السلام) وأمه المكرمة منذ طفولته ووقف إلى جنبهم وتحمل المصاعب والصعوبات في سبيلهم وعاش الحياة في الخفاء معهم (4).
وقد ارسله عيسى (علیه السلام) عدة مرات إلى جميع لكي يعلن للناس نداء التوحيد ويحذرهم من الشرك والإلحاد (5) واذا سأله الناس عن دليله على ما يقول كان يبدي المعجزات التي أعطاه المسيح بقدرته وبأذن من الله. فقد كان يشفي المرضى ويحيي الموتى (6).
لما أصعد الله عيسى (علیه السلام) إلى السماء، اصبح شمعون
ص: 20
خليفته ووصيه (1).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما أراد الله أن يرفع عيسى أوحى إليه أن استودع نور الله وحكمته وعلم كتابه شمعون بن حمون الصفا خليفته على المؤمنين ففعل ذلك فلم يزل شمعون في قومه يقوم بأمر الله عز وجل ويهتدي بجميع مقال عيسى (علیه السلام) في قومه من بني اسرائيل ويجاهد الكفار فمن أطاعه و آمن بما جاء به كان مؤمناً ومن جحده وعصاه كان كافراً (2).
وكان هذا النصب الإلهي في 18 من ذي الحجة (3) وهذه الواقعة التي حدثت في هذا التاريخ أصبحت منهاجاً لهداية المسيحيين بعد غيبة المسيح فقد أصبح النجاة والسعادة في اتباع تعاليم وصي المسيح شمعون» (4) حتى انتهت وصيته
ص: 21
انتقلت الوصاية منه الى يحيى بن زكريا (1) وانتقل شمعون إلى بارئه وهو مقطوع الرأس ومخضب بدمه (2) . (3)
كتب علي بن الحسن المسعودي في مروج الذهب
«قتل شمعون في مدينه الرومية وعلقوه من قدميه» (4).
اتبع ابناء شمعون الصفا منهجه وثبتوا على اتباع يحيى بن زكريا (علیه السلام) ولما استشهد يحيى اصبحوا خلفاءه فقد وصى في ذلك قبل شهادته وأمر الحواريين و اصحاب عیسی باتباع
ص: 22
ابناء شمعون والامتثال لأوامره (1)
تلألأ آل شمعون طوال التاريخ وحفظوا ايمانهم في الحوادث المختلفة من التحريف والتمهيد وكانوا دائماً في صفوف المؤمنين.
وردت هذه الفضائل لشمعون في ضمن محادثة جرت بين أحد أحفاد شمعون الصفا مع الإمام علي (علیه السلام) فقد قال للإمام (علیه السلام) بعد أن أظهر مراتب حبه وولائه له
«..... اني من نسل رجل من حواري عيسى ابن مريم (علیه السلام) وكان أفضل حواري عيسى بن مريم (علیه السلام) الإثني عشر وأحبهم إليه وآثرهم عنده وإليه أوصى عيسى (علیه السلام) واليه دفع كتبه وعلمه وحكمته فلم يزل أهل بيته على دينه متمسكين عليه لم يكفروا ولم يبدلوا ولم يغيروا......» (2)
هناك مسألة لطيفة في هذه الرواية وهي التشابه بين ما ورد في شأن امير المؤمنين (علیه السلام) وخلافته وما ورد في شمعون الصفا فكلاهما كانا وصيان لإثنين من أنبياء أولوا العزم وقد ورد هذا في كلام رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) . شمعون وصيي عيسى
ص: 23
وعلي وصيي (1) (ياعلي أنت مني كشمعون من عيسی) (2) ولو أمعنا النظر لوجدنا دليل هذا الشبه في رمز مخفي يظهر عند ظهور حفيد امير المؤمنين والذي هو حفيد شمعون الصفا ايضاً ذلك الزمان الذي تنشر الرائحة المحمدية من فم زهرة النرجس علیها السلام المهدي المنتظر عند بيت الله الحرام وهو يقول:
يا معشر الخلائق ...... الا ومن أراد أن ينظر إلى عيسى وشمعون فها أنا ذا عيسى وشمعون، الا ومن أراد أن ينظر إلى محمد وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما فها أنا محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (علیه السلام) (3) فما هو دور مليكة حفيدة شمعون الصفا الطاهرة ؟
ص: 24
كانت حياة يوشعاً معروفةً بين كبار الروميين، فلقد تزوج إبن الإمبراطور المشهور مع أحد أحفاد شمعون الصفا وقد ولدت له بنتاً جميلة تسمى مليكة ولادة هذه الزهرة الجميله نشر رائحة «السوسن في أرجاء البيت وتعلقت القلوب بمحبتها، وحتى الإمبراطور كان يحبها حباً جماً .
قضت مليكة فترة الصبا والبلوغ في قصر الامبراطور ولم تنسى الحكايات التي كانت تقصها عليها أمها عن حياة جدها شمعون (وصي المسيح الفاضل) .
فقد نشأت على حب الله وأوليائه وعشقت مناجاته. وتعلق الإمبراطور بمليكة جعلها من أهم المنسوبين إلى
ص: 25
القيصر. ولذلك أمر الإمبراطور أفضل معلمى القسطنطينية ليعلموا حفيدته العزيزة العلم والآداب والأخلاق وأمرهم أن يعلموها العربية إضافة إلى اللغة الرومية. ولهذا كان يأتيها معلم للغة العربية مرتين في اليوم ليعلمها هذه اللغة وفعلاً تعلمت إبنة شمعون هذه اللغة جيداً (1) وغير ذلك (رأي القيصر) فاللغة العربية هي لغة الوحى (2) ولسان أهل الجنة (3) وسوف تكون هذه اللغة اللغة التي يجب أن تتحدث بها مليكة في المستقبل. لما بلغت مليكة 13 سنة اقترح الإمبراطور أن تتزوج من ابن عمها ( حفيد الإمبراطور ) فالأمر أمر الإمبراطور ولابد من تنفيذه.
تزين قيصر وتهيأ لحفلة كبيرة وسعى جميع أهل القصر والخدم والحشم على تدارك ذلك الحفل العظيم. ودعى كبار الشخصيات لهذا الحفل. وحان يوم الحفل وجاء المدعوين واستقروا في اماكنهم وقد حضر الحفل :
ص: 26
ثلاثمائة من نسل الحواريين والقسيسين والرهبان
- سبعمائة شخص من كبار شخصيات الروم الشرقية
- واربعمائة شخص من امراء الجيش ورؤساء القبائل وامراء العسكر.
زيّنوا القصر بصور الصليب واللوحات الدينية الجميلة (1) ووضعوا في قاعة القصر كرسياً كبيراً وجميلاً مرصعاً بأنواع الجواهر والأحجار الجميلة، واستقر الكرسي على 40 عماداً.
حضر الإمبراطور وحان وقت إجراء خطبة العقد، ليتم الزواج ذلك العهد المعروف بين المسيحين بالسر العظيم (2) جلس ابن العم على الكرسي وأحدقت به الصلبان (3) وقامت
ص: 27
الأساقفة عكفاً ونشرت أسفار الإنجيل. وفي هذه اللحظة المملوءة بالفرح والسرور حدثت مصيبة عظيمة، وتبدل السرور إلى الحزن، فلقد تساقطت الصلبان من الأعالى فلصقت بالأرض، وتقوضت الأعمدة فانهارت إلى القرار وخر الصاعد من العرش مغشياً عليه، فتغيرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم، وقال كبيرهم للملك: أعفنا من ملاقاة النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحى والمذهب الملكاني (1) فتطير الملك من ذلك تطيراً شديداً، وقال للأساقفة أقيموا هذه الأعمدة، وارفوا الصلبان واحضروا أخا هذا المدير العاثر (2) المنكوس، جده لأزوج منه هذه الصبية، فيدفع نحوسه عنكم بسعوده، فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول، وتفرق الناس وقام القيصر معتماً ودخل قصره (3) وبقيت مليكة والأنظار الشامتة المتوجه إليها والحزن الذي عصر قلبها. فماذا تعمل مع كل هذا ؟
ص: 28
حل الليل وتزينت السماء بمصابيحها التي نورت الأرض واتحدت هموم اليوم مع سكوت الليل لتؤذي مليكة.... فما هو سر ما حدث في ذلك اليوم؟ وكيف يمكن أن نكتشف ذلك؟ استسلمت مليكة مع قلب مملوء بالألم والحزن، إلى النوم لعلها تريح بذلك روحها وجسدها... ( وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) (1) ، وكانت تأمل أن تكتشف ذلك السر الذي غير مصيرها ومستقبلها غرقت مليكة في نوم عميق فرأت في منامها كأن المسيح وشمعون وعدة من الحواريين
ص: 29
قد اجتمعوا في قصر جدها ونصبوا فيه منبراً يباري السماء علواً وارتفاعاً، في الموضع الذي نصب فيه القيصر عرشه، فدخل عليهم محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) وعدة من بنيه فيقوم إلى المسيح فيعتنقه فيقول (صلی الله علیه وآله وسلم) يا روح الله إني جئتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأومأ بيده إلى أبي محمد الحسن العسكري (علیه السلام) فنظر المسيح إلى شمعون فقال له: قد أتاك الشرف فصل رحمك برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد فعلت، فصعد ذلك المنبر وخطب محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) وزوج مليكة وشهد المسيح (علیه السلام) وشهد بنوا محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) والحواريين.
فاستيقظت من نومها ونست ما جرى عليها في ذلك اليوم وحل السرور محل الحزن وامتلأ قلبها فرحاً من الزواج من ابن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم). بالتأكيد هذه الرؤيا كانت رؤيا صادقة (1) وكانت تنتظر وقوعها ، ولكنها أشفقت من أن تقص هذه الرؤيا على أبيها وجدها مخافة القتل، فكانت تسرها في نفسها ولا تبديها لهم وعادة ما يمتنع أصحاب الأحلام
ص: 30
الصادقة من ذكر أحلامهم للآخرين بسبب المخاطر المكنونه في ذكرها كما أن يعقوب (علیه السلام) منع إبنه يوسف من أن حلمه على إخوته « لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوُّ مُبِينُ » (1) مع أن النظرة التي ألقتها . مليكة على أبي محمد في الحلم كانت قصيرة ، ولكن ضرب صدرها بمحبته حتى امتنعت من الطعام والشراب وضعفت نفسها ودق شخصها ومرضت مرضاً شديداً فاضطرب الملك من ذلك فما بقى من مدائن الروم طبيب إلا أحضره وسأله عن دواء مرضها.
لا تسله ، فلن يجيب الطبيب *** الهوى داؤنا وأنت الحبيب
ومريض الغرام يحتار فيه *** کل آس ، ويفشل التطبيب
فلما يأس منهم جميعاً قال: يا قرة عيني ، فهل تشتهين من هذه الدنيا شيئاً فأزودك به ؟
وقد تعلق قلب مليكة بنجمة سمراء ودواءها لم يكن إلا رؤية أبا محمد وعلمت أن حياتها إرتبط بالإسلام والمسلمين فكانت تترصد للحصول على رضا المحبوب فأجابت الملك قائلة: يا جدي أرى أبواب الفرج عليَّ مغلقة
ص: 31
فلو كشفت العذاب عمن في سجنك من أسارى المسلمين وفككت عنهم الأغلال وتصدقت عليهم ومننتهم بالخلاص لرجوت أن يهب المسيح وأمه لي العافية والشفاء فلما فعل الملك ذلك، تجلدت مليكة في إظهار الصحة في بدنها وتناولت اليسير من الطعام فسر بذلك جدها وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم.
وبعد أربع ليالي رأت في منامها كأن سيدة النساء (فاطمه الزهراء علیها السلام ) قد زارتها ومعها مريم بنت عمران وألف وصيفة من وصائف الجنان فقالت لها مريم: هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمد (علیه السلام) ، فتعلقت مليكة بها وبكت وشكت إليها امتناع أبي محمد من زيارتها، فقالت لها سيدة النساء علیها السلام إن ابني أبا محمد لا يزورك وأنت مشركة بالله وعلى مذهب النصارى وهذه أختي مريم تبرأت إلى الله تعالى من دينك فإن ملت إلى رضا الله عز وجل ورضا المسيح ومريم عنك وزيارة أبي محمد اياك فقولي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن أبي محمداً رسول الله ، فاظهرت مليكة انزجارها من الدين المحرف وأجرت الشهادتين على لسانها فضمتها سيده النساء إلى صدرها وطيبت لها نفسها، وقالت: الآن توقعي زيارة أبي محمد إياك فإني منفذة إليك فانتبهت
ص: 32
مليكة من نومها وهي تقول:
واشوقاه إلى لقاء أبي محمد ، فلما كانت الليلة القابلة جاءها أبو محمد (علیه السلام) في منامها فرأته كأنها تقول له:
جفوتني ياحبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبك؟ قال: ما كان تأخيري عنك إلا لشركك وإذ قد أسلمت فإني زائرك في كل ليلة إلى أن يجمع الله شملنا في العيان (1).
ومضى الظلام يجر ذيل عبوسه *** فأتى الضياء بوجهه المتهلل (2)
مع أن الأيام في القسطنطينية كانت تمر بطيئة على مليكة. ولكنها كانت مؤنسة بالأحلام الوردية التي تراها كل ليلة وكانت تستضيء من تلك الأحلام، فأصبح قلب مليكة مغرم برؤية أبا محمد وصحبته.
وقد سمعت تلك الفتاة الوحيدة المسلمة في قصر الإمبراطور في إحدى الليالي من حبيبها هذا الخبر الذي أدى إلى نجاتها:
إن جدك سيسرب جيوشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا، ثم يتبعهم فعليك باللحاق بهم متنكره في زي الخدم مع عدة
ص: 33
من الوصائف من طريق كذا .... (1).
قامت مليكة من نومها وهى ملهفة باقتراب وقت اللقاء وفرحة الوصال مع حبيبها، فتهيأت نفسها لذلك وتحملت فی الطريق مصاعب السفر ومشقاته .
طرب الصديق الى الصديق وأبرزت *** كأس الرحيل ولم يخف من عدل
فالعود يصلح والحناجر تجتلي *** والدر يخرز من صداح المبذل (2)
ص: 34
بدأت المعارك بين المسلمين والروم الشرقية مع استقرار الدولة الإسلامية وانتشار ثقافتها في البلدان المجاورة، وقد ذكر المؤرخون الروم والمسلمون تفاصيل هذه المعارك في كتبهم .
وقد كانت هجمات المسلمین شديده للغاية حتى انهم وصلوا إلى القرب من القسطنطينية عده مرات (1) وحاربوا مع
ص: 35
العدو (1) ولم يتغافل جند الروم عن المسلمين وقد شنت عدة هجمات واسعة ومحدودة ضدهم (2) وكانت الإمبراطورية الرومية تمتلك جيشاً ماهراً يبلغ تعدادهم 120 ألف مقاتل وجميعهم كانوا من الرجال المجربين الأقوياء الشجعان، وفي مواقع الخطر أو هجوم الدول الكبيرة كانوا يتزودون بالجنود الشمالية (الرومية الذين كانوا من الموالي (3).
وكما قال الاصطخري : التقت جنود المسلمين وجنود الروم في منطقة تسمى بدروليه وكانت منطقة خضراء يجري فيها نهر صافٍ (4)، وجرت فيها حروب دامية بين المسلمين والروميين في عام 239 إلى 253ه- وقد نتج من هذه الحروب العديد من القتلى والأسرى (5).
ص: 36
كتب المؤرخ الروسي فازيليف في كتابه العرب والروم: هجم المعتصم العباسي في معركة «عمورية» في عام 248ه- وأسر في هذه المعركة العديد من الأمراء والروحانيين الروميين (1).
وقد ذكر ابن الأثير في كتابه:
جرت معركة بين الروم والمسلمين في عام 249ه وقد كان أمير جيش المسلمين عمر بن عبيد الله الأقطع. وقد حضر القيصر شخصياً في هذه المعركة (2).
جرت المعارك التي أشرنا إليها سابقاً في عهد المتوكل العباسي (232) إلى 248ه- ) والمنتصر العباسي (6 أشهر) والمستعين (248) إلى 252ه- ) والمعتز ( 252) إلى 255ه-) (3)
ص: 37
وفي إحدى المعارك التي جرت في منتصف القرن الثالث الهجري، دخلت مليكة بعد أن هداها أبو محمد (علیه السلام) إلى ذلك، في جيش الروم وهي متنكرة بثياب الخدم وعندما اشتد الحرب بين المسلمين والروم وعندما هرب الروميون من المسلمين و تقدم جيش المسلمين أسرت في ضمن جمع من الخدم والجنود الروميين.
كانت مليكة على خلاف الأسرى مسرورةً من هذه الواقعة، وكانت تفكر بنجمة سامراء وكيفية الوصول الى حبيبها وفتى أحلامها ومرشدها في فترة الحرب والأسارة الصعبة.
وتهادت سفن فوق المحيط
تقصد الميناء.....
والحلم البعيد (1)
انتهت المعركة، وحان وقت تقسيم الغنائم والأسرى. وقد أخذ كل من المسلمين ،سهمه، ووقعت مليكة دون
ص: 38
أن تعرف نفسها غنيمة بيد رجل شيخ من المسلمين فسألها الشيخ عن اسمها باديء الأمر ، وبما أن مليكة لم تشأ أن تعرّف نفسها ، امتنعت عن ذكر اسمها الحقيقي وقالت : ان اسمها «نرجس» ، ظن الرجل أن هذا الإسم هو إسم الإماء وأظهر فرحه من مصاحبة تلك الأمة . ثم قصد الشيخ بغداد، تلك المدينة الجميلة، مع سائر المسلمين). (1)
بنيت بغداد (2) - التي اشتهرت بمدينة السلام - بأمر من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور بين عام 145 إلى 149 ه- وكانت على ضفاف دجلة، وقد بنيت هذه المنطقة من بقايا صخور التيسفون ، عاصمة الساسانية.. (3)
كانت بغداد من أهم المدن الإسلامية حتى عام 221 ه التي نقل فيها المعتصم العاصمة الإسلامية إلى سامراء (4).
ركبت الأسرى السفن والمراكب واتجهت نحو بغداد عن طريق نهر الفرات ولما وصلت السفن إلى القرب من هذه
ص: 39
المدينة أرست عند جسر الفرات ونزل الأسرى منها.
أخذ بعض الجنود أسراهم معهم وباعهم الآخر إلى النخاسين (1) (2)
ص: 40
كانت نرجس ضمن القسم الثاني الذين أودعوا إلى
ص: 41
النخاسين تجمع شبان العرب وبعض سفراء كبار الجيش العباسي في ساحل الفرات لشراء الجواري الرومية، وكانوا يتر صدون الصيد بأعينهم. ولكن نرجس غطت نفسها وانتظرت سفير سامراء» الذي أمر لشراءها وانتقالها إلى سامراء (1)
ص: 42
تقع سامراء في الناحية الشرقية من نهر دجلة ، بين بغداد و تكريت ويرجع قدمها الى القرن الخامس قبل الميلاد (1).
وقد رأت هذه المنطقة الدمار والتخريب عده مرات ولكن في عام 221 ه- امر المعتصم العباسي بعمران هذه المنطقة ونقل مركز الخلافة العباسية من بغداد إلى سامراء كانت هذه المنطقة آية من آيات الجمال حيث كانت تدخل السرور في قلب كل من رآها ولذلك كان يقال لها «سرور من
ص: 43
رأى» ؛ وقيل أيضاً سر من رأى» (1) قال صاحب نزهة القلوب جدد المتعصم العباسي بناء سامراء في عام 221ه- وجعلها دار الملك» (2).
قال الخطيب:
نقل المعتصم مركز الخلافة من بغداد إلى سر من رأى بسبب زيادة جيشها وعدم اتساع بغداد لهم ولذلك امر بتجديد بناء سامراء ونقل جيشه إلى هناك ولهذا سميت تلك المنطقه بالعسكر ايضاً (3).
أضفت طهارة ماء سامراء وجوها نضارةً خاصة عليها ولكن للأسف انتقال الجيش العباسي الظالم إلى تلك المنطقة أثقل على سكانها ونشر الرعب والخوف بينهم وسلب من الصالحين الأبرار راحتهم خاصةً تصرف المتوكل العباسي الظالم مع العلويين (4) خاصةً مع الأئمة المعصومين علیهم السلام حتى
ص: 44
أنه أجبر الإمام الهادي (علیه السلام) بالإقامة في سامراء في عام 235ه- وبعد وصوله بصعوبة إلى سامراء (1)، اعتذر العباسيون بأنهم لا يملكون محلاً لإقامة الإمام ولذلك أسكنوه في «خان الصعاليك» (2) ولم يكن ذلك إلا لتحقير الإمام وإهانته وبعد ذلك وجدوا له (علیه السلام) بيتاً ليسكن. فانتقل الإمام مع أهله وعياله وابنه العزيز «الحسن» إلى ذلك البيت.
وقد قال الإمام الهادي (علیه السلام) في سامراء
اكرهوني على الإقامة في سامراء ولكن اذا أمروني بالخروج منها سوف أخرج مكرهاً قيل: لماذا؟ قال الإمام (علیه السلام): النظافة جوها وعذوبه مائها وقله الأمراض فيها (3).
كان الإمام الهادي (علیه السلام) في سامراء حراً في الظاهر وأسيراً
ص: 45
فى الحقيقة، فقد كان بيته تحت المراقبة ولم تخفى حركاته وأيابه وذهابه وأصحابه عن جواسيس الخليفة (1).
ولكن هذه الرقابة والضغوط السياسية لم تكن لتمنع الإمام عن اداء مسؤلياته تجاه الشيعة والمسلمين ولذلك وعن طريق مجموعة منظمة منسجمة ارسل وكلاءه إلى جميع المناطق الإسلامية بصورة خفية ولم يقطع إرتباطه بالشيعة أبداً . ولو أن الإرتباط معهم كان يتم عن طريق الوكلاء. وقد كان عثمان بن سعيد العمري وعبد العظيم الحسني أعظم هذه المجموعة المنسجمة وكانوا من خواص وكلاء الإمام الهادي (علیه السلام) ووسيلة الإتصال الشيعة بالإمام وبالعكس.
كان للإمام جار يسمى بشر بن سليمان (2) وكان يفتخر بمصاحبة الإمام الهادي (علیه السلام) وقد حظي بقرب ومنزلةٍ خاصةٍ لدى الإمام. يصل نسب بشر إلى ابو ايوب الأنصاري (3) من
ص: 46
اصحاب النبي الأكرام (علیه السلام) المشهورين وكان خناساً يرتزق بهذه الطريقة وكان يتردد بشر كثيراً على الإمام الهادي (علیه السلام) فيستقيه من علومه ويسأله عن مسائله خاصةً في أمر الرقيق وكان يرجع إليه (علیه السلام) في الأمور الفقهية والمعاملات التي كان جاهلاً بأحكامها ويمتنع عن الخوض في المعاملات المشبوهة خوفاً من الوقوع في الحرام واستمر على هذا النحو حتى أصبح عالماً في أمور المعاملات والبيع والشراء وتمييز الحلال من الحرام وحصل على مكانة ممتازة لدى الإمام بسبب تقواه وتعهده وكان من خواص أصحاب الإمام ولذلك إختاره لأداء عملية مهمة ...... فقد روي عن بشر قال
بينما أنا ذات ليلة في منزلي بسر من رأى وقد مضى هوي من الليل إذ قرع الباب قارع فعدوت مسرعاً فإذا أنا بكافور الخادم رسول (1) مولانا أبي الحسن علي بن محمد (علیه السلام) يدعوني إليه، فلبست ثيابي ودخلت عليه فرأيته يحدث ابنه أبا محمد وأخته حكيمة من وراء الستر، فلما جلست قال :
يا بشر ، إنك من ولد الأنصاري وهذه الولاية لم تزل
ص: 47
فيكم يرثها خلف من سلف، فأنتم ثقاتنا هل البيت . إني وكلك ومشرفك بفضيلة تسبق بها سائر الشيعة في الموالاة لها، بسر أطلعك عليه وأنفذك في ابتياع أمه .
فكتب كتاباً ملصقاً بخط رومي ولغه رومية، وطبع عليه بخاتمه، وأخرج صرةً صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً فقال: خذها وتوجه بها إلى بغداد واحضر معبر الفرات ضحوة كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زوارق السبايا وبرزن الجواري منها فستحدق بهم طوائف المتباعين من وكلاء قواد بني العباس وشراذم من فتيان العراق ، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى عمر بن يزيد النخاس عامة نهارك إلى أن يبرز للمتباعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حریرتین ،صفيقتين تمتنع من السفور ولمس المعترض والإنقياد لمن يحاول لمسها ويشغل نظره بتأمل مكاشفتها من وراء الستر الرقيق فيغوي بها النخاس فتصرخ صرخة روميةً، فاعلم أنها تقول ؛ واهتك ستراه، فيقول بعض المبتاعين عليَّ بثلاثمائة دينار، فقد زادني العفاف فيها رغبة !
فتقول بالعربية : لو برزت في زي سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك .
فيقول النخاس : فما الحيلة ولا بد من بيعك !
ص: 48
فتقول الجارية وما العملية ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى أمانته وديانته، فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النحاس وقل له: إن معي كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغه رومية وخط رومي ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه فناولها لتتأمل فيه أخلاق صاحبه فإن مالت إلي-ه ورضيت، فأنا وكيله في ابتياعها منك .
قال بشر بن سليمان النخاس : فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسن (علیه السلام) في أمر الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاءاً شديداً :
كتبت قصة شوقي ومدمعي باك *** أيا منازل سلمى واين سلماكِ
فقالت الجارية لعمر بن يزيد النخاس
يعني من صاحب هذا الكتاب وحلفت بالمحرّجة المغلَّظة (1) إنه متى امتنع من بيعها قتلت نفسها، فما زلت أشاحه في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان لم اصحبنيه مولاي (علیه السلام) من الدنانير فى الصرة الصفراء، فاستوفاه مني وتسلمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها
ص: 49
إلى حجرتي التي كنت أوي اليها في بغداد فما أخذها القرار أخرجت كتاب مولاها (علیه السلام) من جيبها وهى تلثمه وتضعه على خدها وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها.
فما زال ماء العين يمحو شطوره *** فيا ماء عيني قد محوت المحاسنا
غدا بدموعي أول الحظ بيننا *** وأضحى بدمعي آخر الخط بائنا (1)
فقال بشر متعجباً منها: أتلثمي كتاباً ولا تعرفين صاحبه؟ قالت: أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء، أعرني سمعك وفرغ لي قلبك أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح شمعون .... فذكرت له جميع ما مرّ عليها والأحلام التي رأتها (2).
هل يقبل الحب من وادي *** أم هل لعاني (3) الحب من نادي
ضنيت يا مولاي وجداً فما *** تبصرني ألحاظ عوادي (4)
ص: 50
كيف أهتدي الوجد إلى غائب *** عن أعين الحاضر البادي
مل مداواتي طبيب فقد *** يرحمني للسقم حسادي (1)
فتغيرت نظرة رسول الإمام إلى «نرجس» وعلم بسر الوظيفة التي أرسلها به الأمام وحرص على مراقبة نرجس اكثر من قبل ثم توجه إلى سامراء لإيصال الأمانه الى صاحبه ركبت نرجس على سفينة الأمل واتجهت نحو ديار المحبوب يدلها الرسول وهي تتلهف للوصل إلى الحبيب وتناجي ربها بقلب خاشع .... حول حالنا إلى احسن الحال» .
ص: 51
مع أن سامراء كانت جميلة ذات مناظر خلابة تدخل السرور والفرح في قلب ناظريها ، ولكن كان هناك دليل آخر للسرور والفرح لدى البعض ، وهو لقاء الإمام المعصوم الذي ترتاح إليه قلوب المشتاقين وصدور الملهوفين ونرجس كانت من ضمنهم فهي التي أتت إلى تلك المدينة بدعوة خاصه من إمام معصوم وكانت بانتظار الوصال بمعصوم آخر وهي التي ستلد إماماً مصلحاً للبشرية.
يا من جميع الحسن منتظم *** فيه كنظم الدر في العقد
ما بال حتفي منك يطرقني *** قصداً ووجهك طالع السعد (1)
ص: 52
قال بشر بن سليمان :
فلما انكفأت بها إلى سر من رأى دخلت على مولانا أبى الحسن العسكري (علیه السلام) فقال لها:
كيف أراك الله عزّ الإسلام وذل النصرانية وشرف أهل بيت محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) ؟
قالت : كيف أصف لك يا ابن رسول الله ما أنت أعلم به مني ؟
قال: فإني أريد أن أكرمك فأيها أحب إليك ؟ عشرة آلاف درهم؟ أم بشرى لك فيها شرف الأبد ؟
قالت: بل البشري .
قال (علیه السلام) : فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئلت ظلماً وجوراً.
قالت: ممن؟
قال (علیه السلام) ممن خطبك رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) كذا من شهر كذا من سنه كذا بالرومية .
قالت: من المسيح ووصيه ؟
قال: فممن زوجك المسيح ووصيه ؟
قالت: من ابنك أبي محمد ؟
ص: 53
قال: فهل تعرفينه ؟
:قالت وهل خلوت ليلة من زيارته إياي منذ الليلة التى أسلمت فيها على يد سيدة النساء أمه.
فحبك راحتي في كل حين *** وذكرك مونسي في كل حال
فقال أبو الحسن (علیه السلام) : يا كافور ادع لي أختي، فلما دخلت عليه قال (علیه السلام) لها ها هی فاعتنقتها طويلاً وسرت بها كثيراً، فقال لها مولانا: يا بنت رسول الله ، أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم (1) .
استقبلت السيدة حكيمة من أمر مولاها وأخيها الإمام الهادي (علیه السلام) وأخذت ضيفتها إلى بيتها لتعلمها معالم دين الإسلام والعلوم التي تعلمتها على يد ثلاثة من الأئمة المعصومين علیهم السلام وهم الإمام الجواد والإمام الهادي والإمام الحسن العسكري علیهم السلام والذي جعلها من أهم النساء العلويات والهاشميات.
اجتمعت الفضائل والمناقب في حكيمة العابدة
ص: 54
المتقية، العالمة وجعلتها موضع سر الإمامة (1) ، فمثل حكيمة تستطيع أن تكون معلمة لنرجس وتعرفها على أهل بيت العترة والطهارة. وجدت نرجس أنس وألفة مع السيدة حكيمة وتعلمت معارف دينها وتعرفت على العلوم الدينية والى جانب ذلك عرفتها السيدة حكيمة بفضائل أبا محمد (علیه السلام) وأخلاقه الحميدة وزاد ذلك على شوقها للقاء حبيبها...
ص: 55
كانت الدقائق واللحظات تمر بطيئة على «نرجس» فقد تعلق قلبها بحب الحسن (علیه السلام) ، والفراق قطع أوصال قلبها الوالهة بنجمة السعادة .
ومع أنها رأت جمال الحسن في أحلامها الوردية وسمعت عن محاسنه من أصدقائه خاصة وأقرباء السيدة حكيمة ولكن لابد من رؤية محاسن الحسن من قريب.
ليت شعري عن حبل ودك هل تم *** سي جديداً كدي غير رئيت
ص: 56
و أراني أرى محياك يوماً *** وأناجيك في بلاط مغيث
فلو أن الديار ينهضها الشو *** ق أتاك البلاط كالمستغيث
ولو أن القلوب تستطيع سيراً *** سار قلبي إليك سير الحثيث (1)
ولد الإمام العسكري (علیه السلام) في الثامن من ربيع الآخر سنة 232 ه- في مدينة النبي المنورة (2)، وقضى أربع سنين من عمره الشريف هناك .
بعد ذلك توجه إلى سامراء بضغط من بني العباس مع أبيه الإمام الهادي (علیه السلام) (3)، وأقام فيها طوال حياته، وطبعاً تزوج بنرجس في تلك المنطقة .
ذلك الزكي الفاضل والأمين الصادق وسراج أهل الجنة (4) كان من أفضل شباب الهاشميين وكانت له مكانة
ص: 57
خاصة بين الناس حيث أنهم كانوا يشتاقون إلى رؤيته ولكن السلطات كانت تمنعهم عن لقاءه ولهذا كانوا يجتمعون في طريقه يميناً ويساراً لرؤيته (علیه السلام) (1).
وقد أشاد ابن الصباغ المالكي بفضل الإمام أبي محمد (علیه السلام) قائلاً:
مناقب سيدنا أبي محمد الحسن العسكري دالة على أنه السري (2) ابن السري فلا يشك في إمامته أحد، ولا يمتري، وأعلم أنه إذا بيعت مكرمة فسواه بايعها وهو المشتري....
واحد زمانه من غير مدافع، ونسيج وحده من غير منازع سيد أهل عصره، وإمام أهل ،دهره أقواله سديدة وأفعاله حميدة، واذا كانت أفاضل أهل زمانه قصيدة فهو بيت القصيدة .....
فارس العلوم الذي لا يجارى ومبين غوامضها فلا يجادل ولا يمارى كاشف الحقائق بنظره الصائب، مظهر
ص: 58
الدقائق بفكره الثاقب المحدث في سره بالأمور الخفيات الكريم الأصل والنفس والذات ..... (1)
وقد جعل له حسن ،قامته وجمال وجهه وجيد بدنه وجلالته وهيبته وخلقه الحسن الشبيه بخلق رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) هيبة وعظمة لم تكن لأحد من العلويين والهاشميين تلك الهيبه والمكانه، وقد أجبر الجميع صفاته هذه على تعظيمه وإكرمه (2)
لم تسمح الحكومة العباسية للعلماء والفقهاء بالإتصال بالإمام أبي محمد (علیه السلام) لئلا يذاع فضله ويتحدث الناس عن عمله فيزهدون في بني العباس، وبالرغم من الإجراءات القاسيه التي اتخذوها لمحبي الإمام (علیه السلام) فإن هناك كوكبه من العلماء والرواة اتصلت به وروى بعضهم أحاديثه منهم :
احمد بن اسحاق ابو هاشم الجعفري، عثمان بن سعيد العمري، عبد الله بن جعفر الحميري، وعشرات التلامذة الذين تشرفوا بمحضره واستفادوا من علمه وفضله خفية (3).
ص: 59
كانت لجلسات تفسيره نورانية خاصة، وقام الإمام العسكري (علیه السلام) بتفسير القرآن طوال سبع سنين فجمع بعض تلامذته تفسیره وحافظوا عليه وهذه الحركة المهمة التي قام بها الإمام العسكري (علیه السلام) في شأن القرآن وتفسيره، قدم كنزاً ثميناً للأمة الإسلامية (1).
وقد جمع الحسن بن خالد البرقي المجموعة الثمينة 120 مجلداً (2) وقد سعى الإمام الهادي (علیه السلام) الذي كان
ص: 60
تحت ضغط العباسيين في فترة حكم المتوكل والمنتصر، والمستعين والمعتز العباسي على حفظ ابنه الحسن (علیه السلام) من إيذاء العباسيين ولهذا لم يعلن للجميع عن الإمام الذي يتلوه لأنه كان يخشى على حياة الإمام الحسن (علیه السلام) وكان يهتم ببقاء نسل الأئمة بعده، ولهذا سعى على اخفاء إبنه العزيز الحسن (علیه السلام) من أعين الجميع حتى خفى مقامه وشأنه على الكثير من الناس (1).
وكان للامام الهادي (علیه السلام) هدف آخر في إخفاء ابنه العسكري (علیه السلام) وهي لهيئة الشيعة لفترة الغيبة التي سوف تكون في عهد حفيده القائم (علیه السلام).
وبناءاً على ما ذكر قلل الإمام الحسن (علیه السلام) من مراودته مع الشيعة يوماً فيوماً، حتى أنه كان يجيب على مسائل أصحابه وشيعته عن طريق الرسائل أو عن طريق نوابه (2).
هذه وجيزة عن حياة الإمام الحسن (علیه السلام) لكي تتوجه القلوب إلى سامراء.
واما نرجس فسرورها وافر، لأنها سوف تعيش في
ص: 61
مستقبل قريب مع ذلك الشاب الوسيم، فكانت تنتظر بفارغ الصبر تلك اللحظة الموعودة.
محبة صدق لم تكن بنت ساعة *** ولا وريت حين ارتیاد زنادها (1)
ولكن على مهل سرت وتولدت *** بطول امتزاج فاستقر عمادها
فلم يدن منها عزمها وانتفاضها *** ولم ينأ عنها مكثها وازديادها (2)
ص: 62
مضت فترة على إقامة «سوسن» (1) في مدينه سامراء وهي في بيت السيدة حكيمة تبحث عن مأواها ومستقرها وتتمنى لقاء ابا محمد (علیه السلام) الى أن حان الوقت الموعود .........
يا غزالاً عذاره كالطراز *** إن حسن الميعاد بالإنجاز
غظ عذولي واهنز للوصل يوماً *** كغصون قد غظتها باهتزاز (2)
ذهب أبا محمداً يوماً لزيارة عمته السيدة حكيمة
ص: 63
ونرجس عندها، فبقى يلح النظر إليها الى نرجس)، فقالت :عمته يا سيدي هل لك فيها من حاجة ؟
فقال (علیه السلام) :
إنا معشر الأوصياء لسنا ننظر نظر ،ريبة، ولكنا ننظر تعجباً (1) ، أن المولود الكريم على الله يكون منها .
فقالت : يا سيدي، فأروح بها إليك ؟
قال (علیه السلام) : استأذني أبي في ذلك .
قالت حكيمة : فصرت إلى أخي (علیه السلام) ، فلما دخلت عليه تبسم ضاحكاً وقال :
يا حكيمة، جئت تستأذنيني في أمر الصبية ، ابعثي بها إلى أبي محمد، فإن الله عزّ وجل يحب أن يشركك في هذا الامر.
فزينتها وبعثت بها إلى أبي محمد (علیه السلام) ، فكنت بعد ذلك إذا دخلت عليها تقوم فتقبّل جبهتي فأقبل رأسها، وتقبل يدي فأقبل رجلها، وتمد يدها إلى خفي لتنزعه فأمنعها من ذلك، فأقبل يدها إجلالاً وإكراماً للمحل الذي أحلّه الله
ص: 64
تعالى فيها (1).
تزوجت نرجس في بيت السيدة حكيمة وأقامت هناك عدة أيام (2) وانتقلا بعد ذلك إلى بيت الإمام الهادي (علیه السلام). وبدأت حياتهما المشتركة السعيدة (3) مضت الأيام الذهبية في حياة نرجس مع الإمام الحسن (علیه السلام) فأولدت الذكريات الحلوة والجميلة التي ثبتت في عالم الخيال ولكن الخليفة العباسي (المعتز) لم يستطع أن يرى عظمة الإمام حتى وإن كان مسجوناً وكيف يتحمل الذئب عظمة الأسد ولا بد أن يفكر بقتله، فأمر بقتل الإمام بالسم . وهكذا تحققت امنيته وأفل نجم سامراء ليتلألئ محلّه نجم آخر .
استشهد الإمام (علیه السلام) في رجب عام 254ه فاحترقت قلوب أهل بيت النبوة والإمامة على هذه المصيبة العظيمة وعم الحزن في بيوت محبيه في هذا العزاء الأليم وهل يوجد للمصابين سلوى غير الصبر فى مصيبة عظيمة كهذه ؟
ص: 65
« وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » (1)
انتقلت الإمامة بعد شهادة الإمام الهادي (علیه السلام) إلى إبنه الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 22 ربيعاً وأصبح إماماً وهادياً للأمة الإسلامية، فتهيأت زوجته الوفية لتحمل المشاكل والصعوبات إلى جنب زوجها وعلمت بخطر مقامها ودورها المهم في إعانه الإمام على الظالمين. صحيح أن العدو كان يهدف إيذاء الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) ولكن حياة نرجس كانت مهددة أيضاً والحوادث الآتية دلّت على ذلك .
فمنذ الأيام الأولى لإمامة الإمام الحسن (علیه السلام) أمر المعتز الخليفة العباسي بمراقبة الإمام وفي أول خطوة أجبر الإمام على الحضور في القصر كل اثنين وخميس (2) ولم يكتفي الخليفة العباسي بهذا الظلم بل أمر بحبس الإمام وسجنه (3)، ولكي يسبب الضغط والمشقة على الإمام، إختار سجانه من
ص: 66
ألد أعداء أهل البيت علیهم السلام (1).
ولما انتقلت الخلافة من المعتز إلى المهدى، استمرت هذا الطريقة والمعاملة السيئة على الإمام حتى أمر المهدي حاجبه سعيد بأخذ الإمام إلى الكوفة وقتله في الطريق. ولكن بعد ثلاثة أيام، قتل الأتراك الخليفة (2) واستمرت تلك الأوضاع السيئة في عهد المعتمد العباسي الذي تولى الحكم في عام 256 ق (3) وجعل مراقبة شديدة على لقاءات الإمام أصحابه ومحبيه فحذر الإمام العسكري أصحابه من لقاءه والتشرف برؤيته لكي يصونهم من الخطر (4). ولكن من جهة أخرى أسس الإمام شبكة قوية سرية لإتصاله بأصحابه
ص: 67
وإتصال أصحابه به (1) فتحملت نرجس» هذه المصائب والصعوبات بصبر بالغ وحفظت حريم الإمام عندما كان الامام في السجن . وكانت حكيمة تتردد دائماً على بيت أخيها الإمام العسكري (علیه السلام) فكانت تؤنس نرجس في هذه الفترة الصعبة وتعينها على حل المشاكل .
كانت ظروف جميع الأئمة علیهم السلام صعبة وكانوا يتحملون المشقات من قبل الحكام، ولكن المراقبات كانت أكثر وأشد على الإمام العسكري (علیه السلام) والدليل كان واضحاً ونرجس كانت تعلم ذلك جيداً.
وقد أشار الإمام العسكري (علیه السلام) عن سبب ال بب هذا الظلم والجور عليه:
سلّت بني أمية وبني العباس سيوفهم علينا لأمرين: الأول أنهم علموا أن لاحق لهم فى الخلافة فخشوا أن نأخذ حقنا في الخلافة منهم. والأمر الآخر هو أنهم علموا من الأخبار المتواترة والأحاديث الكثيرة أن هلاك الظالمين سوف يكون بيد القائم من آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) وقد علموا أنهم الظالمون فقاموا بقتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نسله
ص: 68
ليمنعوا ولادة القائم (علیه السلام) بظنهم (1)، وقد قال الإمام العسكري (علیه السلام) في موضع آخر:
..... يزعم أنه يقتلني وليس لي عقب فكيف رأى قدرة الله فيه» (2)، عن أحد أصحاب الإمام (علیه السلام) قال :
لما خرج أبا محمد من سجن المعتمد، رأيت هذه الآية المكتوبة بخطه : « يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ»
وعن عيسى بن صبيح الذي سجن مع الامام العسكري (علیه السلام) ، أنه سأل الإمام قائلاً: هل لك أبناءاً ؟
فقال الإمام: إي والله سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فأما الآن فلا ، ثم أنشد هذه الأبيات:
لعلك يوماً ان تراني كأنما *** بنى حوالي الاسود اللوابد
فإن تميماً قبل أن يلد الحض *** اقام زمانا وهو في الناس واحد (3)
كتم الإمام العسكري (علیه السلام) خبر ولادة إبنه القائم (علیه السلام) فبقوا في حيرة من أمره (علیه السلام) ولكنه أخبر بعض أصحابه وخواصه
ص: 69
عن ولادة الحجة وإمامته بعد أبيه (علیه السلام).
نستردف الكلام بحديث نقله محمد بن عبد الجبار عند لقاءه مع الإمام العسكري (علیه السلام) حيث قال : قلت لسيدي الحسن بن علي (علیه السلام) يا ابن رسول الله ، جعلت فداك أحب أن أعلم من الإمام وحجة الله على عباده من بعدك ؟
قال : إن الإمام والحجة بعدي ابني سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنيته والذي هو خاتم حجج الله وخلفائه (1).
لم يخفى مقام الإمام العسكري وزوجته نرجس ومكانتهما على أهله وأقربائه فقد رأوا في وجهها أثر الموعود (علیه السلام) وكانوا ينتظرون ولادته بفارغ الصبر، فقد ورد في حالات السيدة حكيمة أنها عندما كانت تتشرف بزيارة أخيها العسكري (علیه السلام) كانت تسأل الله دائماً أن يرزقه أبناء (2) ولم يولد ذلك الطفل المنتظر إلا من ابنة القيصر «نرجس» (3) فقد ذكر ذلك في صحيفة فاطمة علیها السلام وفي اسم أمّ الحجة الثاني عشر أنها: «جارية، إسمها (نرجس) (4).
ص: 70
یا قائماً بالحق حل بنا *** ما لا يفرجه سوى لطفك
بك عنه لذنا حيث لا شرف *** عند الإله أجل من شرفك (1)
ذهبت السيدة حكيمة» في اليوم الرابع عشر من شعبان سنة 255ه- كالمعتاد إلى بيت أخيها لتزور شمس الإمامة (علیه السلام) فاستقبلها الإمام العسكري (علیه السلام) وزوجته نرجس . تقدمت نرجس لتخلع خف حكيمة وقالت يا مولاتي ناوليني خفك .
فقالت حكيمة بل أنت سيدتي ومولاتي والله لا أدفع إليك خفي لتخلعيه ولا خدمتيني بل أخدمك على بصري.
فسمع أبو محمد (علیه السلام) ذلك فقال:
ص: 71
جزاك الله خيراً يا عمة فجلست عنده إلى وقت غروب الشمس فصحت بالجارية وقلت: ناوليني ثيابي لأنصرف، فقال : يا عمناه بيتي الليلة عندنا فانه سيولد الليلة المولود الكريم على الله عزّ وجل الذي يحيي الله عزّ وجل به الأرض بعد موتها.
قلت: ممن يا سيدي وليس أرى بنرجس شيئاً من أثر الحمل
:قال من نرجس لا من غيرها .
قالت: فوثبت إلى نرجس فقلبتها ظهراً ببطن فلم أرى بها أثراً من حمل، فعدت إليه فأخبرته بما فعلت فتبسم ثم قال لي (1).
إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحمل لأن مثلها مثل أم موسى لم يظهر بها الحمل ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها لأن فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى وهذا نظير موسى (علیه السلام).
فقالت حكيمة لنرجس : يا بنية إن الله تبارك وتعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة .
ص: 72
:قالت فجلست واستحيت
قالت حكيمة : فلما أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة وأفطرت وأخذت مضجعي فرقدت ، فلما أن كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادثٌ ثم جلست معقبة ، ثم اضطجعت ثم انتبهت فزعة
وهي راقدة ثم قامت فصلت
قالت حكيمة فدخلتي الشكوك (1) فصاح بي أبو محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) من المجلس فقال :
لا تعجلي يا عمة فان الأمر قد قرب .
:قالت فقرأت «ألم السجدة» و «يس» فبينما أنا كذلك إذا انتبهت فزعة فوثبت إليها فقلت: اسم الله عليك ، ثم قلت لها تحسين شيئاً؟
قالت نعم يا عمة .
فقلت لها اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لک.
ص: 73
قالت حكيمة فلم أزل أراقبها إلى وقت طلوع الفجر وهي نائمة بين يدي لا تقلب جنباً إلى جنب حتى إذا كان في آخر الليل وقت طلوع الفجر وثبت فزعه فضميتها إلى صدري وسميت عليها فصاح أبو محمد صلى الله عليه وسلم وقال:
اقرئي عليها انا أنزلناه في ليلة القدر ، فأقبلت أقرأ عليها (1) وقلت لها ما حالك ؟
:قالت ظهر الأمر الذي أخبر به مولاي ، فأقبلت أقرأ عليها كما أمرني فأجابني الجنين من بطنها يقرأ كما أقرأ وسلم على .
قالت حكيمة: ففزعت لما سمعت ، فصاح بي أبو محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) :
لا تعجبي من أمر الله عزّ وجل إن الله تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغاراً ويجعلنا حجة في أرضه كباراً ) (2)، واردفت حكيمة قائلة:
فقبضت على كفي وغمزت غمزةً شديدة ثم أنت أنة
ص: 74
و تشهدت (1)، ثم قالت حكيمة عن ولادة الحجة (علیه السلام) (2).
فلم أراها (أي لم ترى (نرجس) كأنه ضرب بيني وبينها حجاب، فعدوت نحو أبي محمد (علیه السلام) و أنا صارخة فقال لي: إرجعي يا عمة فانك ستجدينها في مكانها قالت:
فخرجت فلم ألبث أن كشف الحجاب بيني وبينها وإذا أنا بها وعليها من أثر النور ما غشي بصري (3) وإذا أنا بالصبي
ص: 75
ساجداً على وجهه جائياً على ركبتيه رافعاً سبابتيه نحو السماء فعطس (1)، وقال: الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وآله عبداً داخراً غير مستنكف ولا مستكبر (2).
ثم قال: ظن الظالمين ان الأرض سوف تخلو من حجة الله ، لو سمع بالكلام لزال الشك والشبهة).
رأى أحد أصحاب الإمام العسكري وخواصه الذي يسمى عثمان بن سعيد حين ولادة الإمام الحجة (علیه السلام) نوراً ساطعاً من بيت الإمام (علیه السلام) امتد إلى السماء، فقال: تعجبت من ذلك النور الذي وقع ساجداً ثم جلس فتلا هذه الآية: «شهد
ص: 76
الله أنه لا إله إلا هو » (1).
بشرى فمولد صاحب الأمر *** أهدى إليك طارئف البشر
وبطلعة منه مباركة *** حي بوجهك طلعة البدر
وكساك أفخر خلعة ملكت *** زماناً تنمقها يد الفجر (2)
:قالت فضمته إلي فإذا أنا به نظيف متنظف مكتوبٌ على ساعده الأيمن هذه الآية الكريمة « جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً » (3)، فصاح بي أبو محمد (علیه السلام) هلمي الي ابني يا عمة فجئت به إليه فوضعه على يده اليسرى ومسح بيده اليمنى على عينيه وسمعه ومفاصله، ثم قال تكلم یا بنی (4)
ص: 77
:فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، ثم صلّى على أمير المؤمنين وعلى الأئمة (علیه السلام) إلى أن وقف على أبيه ، ثم أحجم (1).
ثم قال أبو محمد (علیه السلام) :
يا عمّة اذهبي به إلى أمه ليسلم عليها وائتني به، فذهب به فسلم عليها وردته فوضعته في المجلس (2).
وقالت إحدى جواري الإمام العسكري (علیه السلام):
لما ولد السيد (علیه السلام) رأيت نوراً ساطعاً قد ظهر منه وبلغ أفق السماء، ورأيت طيوراً بيضاء تهبط من السماء وتمسح أجنحتها على رأسه ووجهه وسائر جسده، لم تطير ، فأخبرنا أبا محمد (علیه السلام) بذلك فضحك، ثم قال:
تلك ملائكة نزلت للتبرك بهذا المولود وهي أنصاره إذا خرج (3).
ثم اختار له الإمام العسكري (علیه السلام) اسم رسول الله
ص: 78
وكنيته (صلی الله علیه وآله وسلم) (1) «محمد» و «أبو القاسم».
وقد أخبر بذلك رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) عشرات السنين (2) قبل ولادة القائم (علیه السلام).
وكذلك ذكر أشهر ألقابه (أي المهدي (علیه السلام) (3)) وقد أشار بذلك أيضاً الأئمة المعصومين علیهم السلام (4). ولهذا إشتهر اسم وكنية خاتم الأوصياء وشمس أهل البيت بين الخواص والعوام.
ثم دعا الإمام العسكري (علیه السلام) بعض الجواري اللواتي يثق بهنّ، فنظرن إليه ، فقال الامام (علیه السلام) : سلموا عليه وقبلوه وقولوا: استودعناك الله، وانصر فوا (5).
ص: 79
وقد ذكر أحد موالي الإمام العسكري (علیه السلام) فقال :
«... خرجت جارية من الغرفة بيدها شيء مغطى فأسرى الإمام بعد ذلك أن أدخل الغرفة. فدخلت، ثم نادى الجارية، فرجعت فقال لها الإمام ارفعي الغطاء عمّا في يديك فرفعت الغطاء، وإذا أنا بطفل أبيض وسيم ، فقال لي الإمام العسكري (علیه السلام) : هذا صاحبكم ثم أمر الجارية أن تذهب بالطفل (1).
وجاء في حدیث عن حكيمة عمة الإمام العسكري (علیه السلام): «.... وكانت الطير ترفرف على رأسه (أي الإمام المهدي (علیه السلام) ) فصاح الإمام العسكري (علیه السلام) يطير منها فقال له: احمله واخفظه ورده إلينا في كل أربعين يوماً، فتناوله الطير وطار به في جو السماء وأتبعه سائر الطيور فسمعت أبا محمد (علیه السلام) يقول: استودعك الله الذي أودعته أم موسى ، موسى، فبكت نرجس فقال لها اسكتي فإن الرضاع محرم عليه إلا من ثديك ويعاد إليك كما رد موسى إلى أمه وذلك قول الله عزّ وجل: «فرددناه إلى أُمّه كي تقرّ عينها ولا تحزن» (2).
قالت حكيمة : فقلت وما هذا الطير ؟
ص: 80
قال: هذا روح القدس الموكل بالأئمة علیهم السلام يوفقهم ويسددهم ويربيهم بالعلم (1) وجاءت حكيمة في اليوم التالي من ولادة الإمام المهدي علیهم السلام لزيارته فلم تره ، فقالت للإمام العسكري (علیه السلام) : جعلت فداك ما فعل سيدي ؟ فقال: يا عمة استودعناه الذي استودعته أم موسى موسى (علیه السلام) (2).
وعن الإمام العسكري (علیه السلام) أنه قال: لما وهب لي ربي مهدي هذه الأمة أرسل ملكين فحملاه إلى سرادق العرش حتى وقف بين يدي الله
فقال له : مرحباً بعبدي المختار لنصرة ديني واظهار امري ومهدي خلقي آليت اني بك آخذ وبك اعطي وبك أغفر وبك ،أعذب أردداه ايها الملكان على أبيه رداً رفيقاً وبلغاه انه في ضماني وكنفي إلى أن احق به الحق وازهق به الباطل ويكون الدين لي واجباً (3)
وقد حاول الإمام العسكري منذ الأيام الأولى بعد ولادة القائم (علیه السلام) أن يعرضه على خواص أصحابه .
فعن ابو غانم خادم الإمام (علیه السلام) أنه قال: ولد لأبي
ص: 81
محمد (علیه السلام) ولد فسماه محمداً، فعرضه على أصحابه يوم الثالث، وقال هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي يمتد إليه الأعناق بالإنتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً (1).
وكذلك ارسل الإمام العسكري (علیه السلام) رسالة إلى احمد من اسحاق القمي يخبره بولادة ابنه (علیه السلام) ويشركه في فرح آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) وسرورهم علیهم السلام وكتب فيها (علیه السلام):
ولد لنا مولوداً فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً، فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والولي بولايته، أحببنا إعلامك ليسرك الله به مثل ما سرنا به، والسلام (2)
مضت سبعة أيام على ولادة المهدي (علیه السلام) وجاءت حكيمة لزيارته فقالت عن ذلك اليوم: فلما جاء اليوم السابع اتيت وسلمت و جلست فقال (علیه السلام) هلمي الي فجئت سيدي وهو في ثياب صفر ففعل به كفعله الأول وجعل لسانه في فيه ثم قال تكلم يا بني فقال: اشهد ان لا إله الله واثني بالصلاة على محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والأئمه حتى وقف على أبيه، ثم قرأ :
ص: 82
« وَ نُرِيدُ انَّ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أئمه وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ » (1).
ثم قال: اقرأ يا بنى ما انزل الله على انبيائه ورسله فابتدأ مصحف شيث وابراهيم قرأها بالسريانية ، و صحف ادريس ونوح وهود وصالح و توراه موسی وانجيل عيسى و قرآن جده رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، ثم قص قصص النبيين والمرسلين إلى عهده (2) ثم أمر الإمام العسكري (علیه السلام) مستناً بسنة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أبى جعفر العمري ان يعق عن ولده (علیه السلام) بعقيقة (3) .
والعقيقة ضمان لسلامة الإنسان، وهي من سنن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) حيث يذبح شاة بعد ولادة الطفل وتقسم بين الفقراء لضمان سلامة الطفل من البلايا والمصائب (4) فقد وصانا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قائلاً:
کل امري مرتهن بعقيقه .
ص: 83
وكذلك روى عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال :
كل إنسان مرتهن بالفطرة، وكل مولود مرتهن بالعقيقة (1).
بعد ان أمر الإمام العسكري عثمان بن سعيد أن يعق عن ابنه قال له :
اشتر عشرة آلاف رطل (2) خبز، وعشرة آلاف رطل لحم فرقه على بني هاشم وعق منه بكذا وكذا » (3).
فاسرع عثمان بن سعيد بإجراء ما أمره مولاه وكان يهدف الإمام (علیه السلام) من وراء هذا الحجم الكبير للعقيقة، على أمرين:
الأول : حفظ سلامة ابنه وإطالة عمره.
والثاني : اعلان ولادة الإمام المهدي (علیه السلام) لأصحابه وخواصه ، ولهذا ارسل شاءٌ مذبوحة إلى أحد أصحابه وقال له : هذه عقيقة إبني، وكذلك ارسل بأربعة أكبش إلى أحد أصحابه كان يسمى ابراهيم وكتب إليه :
ص: 84
بسم الله الرحمن الرحيم عق عن هذه عن ابني محمد المهدي وكل هناك وأطعم من وجدت من شيعتنا (1)
مضى أربعين يوماً على غيبة المهدي (علیه السلام) وحان وقت رجعته كما وعد الإمام العسكري (علیه السلام) فلنقرأ ما شاهدته حكيمة بعد اربعين يوماً من ولادة المهدي (علیه السلام) :
قالت حكيمة
فلما كان بعد أربعين يوماً رد الغلام ووجه إلي ابن أخي (علیه السلام) فدعاني، فدخلت عليه فإذا أنا بصبي متحرك يمشي بین یدیه فقلت ياسيدي هذا ابن سنتين ؟
فتبسم (علیه السلام) ثم قال:
إن أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشأون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وإن الصبي منا إذا كان أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة، وإن الصبي منا ليتكلم في بطن أمه ويقرأ القرآن ويعبد ربه عزّ وجل، وعند الرضاع تطيعه الملائكة وتنزل عليه صباحاً ومساءاً (2)
قالت حكيمة :
ص: 85
فلم أزل أرى ذلك الصبي في كل أربعين يوماً إلى أن رأيته رجلاً، قبل مضي أبي محمد (علیه السلام) بأيام قلائل، فلم ،أعرفه فقلت لابن أخي (علیه السلام) : من هذا الذي تأمرني أن أجلس بين يديه ؟
فقال لی: هذا ابن نرجس ، وهذا خليفتي من بعدي وعن قليل تفقدوني فاسمعي له وأطيعي (1).
مولاً علت قهر سؤدده *** وله انتهى إرثاً على فهر
من لو مشى حيث استحق إذا *** عشى على العيوق والنسر
الخلق من ماء لرقته *** والحلم مفطور من الصخر (2)
ص: 86
مضت أيام على ولادة ابن ريحانة (1) الوحيد، وكانت الزوجة الوفية للإمام الهمام والأم الحنونة للإمام المهدي (علیه السلام) ، تقضي أوقاتاً سعيداً في كنف زوجها وابنها وتستفيد من معنويتهما. ولكن من جهة أخرى اشتعلت الفتن والضغوط والإيذاءات والسجون المكررة والتهديدات على الإمام العسكري (علیه السلام) حيث سلب منه الراحة ومن أهل بيته علیهم السلام. وهذا طبيعي لمحبي الإله ان يذوقوا المشقات دائمة والراحة والتنعيم ليست طريقة العشاق. وفي أحد الأيام
ص: 87
حدث الإمام زوجته الوفية بما سيحدث لها من مصائب ومشاكل وغيبة ابنها المهدي والضغوط التي سوف يحمله عليهم وعلى شيعتهم الخلفاء وكذلك أخبرها عن شهادته قريباً. ولكن ريحانة» لم تتحمل ما سمعته من زوجها عن شهادته وغيبة ابنه فهي لم تكن ضعيفة امام المصائب التي أعملها بني العباس ولكن تحمل المصائب في جنب الإمام العسكري كان سهلاً ولكن ماذا بعد شهادته؟؟ فتمنت الموت والراحة من قفص الدنيا ومصائبها فما قيمة الروح والحياة وما يغني حبها للحياة بعد فقد الحبيب ؟
فاخبرت زوجها عن امنيتها وطلبت منه أن يدعو الله ليعجل وفاتها وقد نقل ذلك أحد أقرباء الإمام قائلاً:
.... أن أبا محمد حدثها (صيقل) (1) بما يجري على ،عياله فسألته أن يدعو الله عز وجل لها يعجل منيتها قبله فماتت في حياة أبي محمد (علیه السلام) (2) ولكن توجد اقوال أخرى حول تاريخ وفاة هذه السيدة الجليلة وسوف نشير الى بعض منها:
1 - كانت نرجس على قيد الحياة حين وفاة الإمام
ص: 88
العسكري ( 260ه-) وقد حضرت فوق رأسه حين احتضاره .
عن أبي سهل قال:
...... تشرفت بزيارة الإمام العسكري (علیه السلام) وهو مريض بمرضه الذي انتهى الى وفاته فقال لخادمه عقيد (1): أنتني بماءٍ لكي أغلي المصطكي (2)، فأتت صقيل أم الإمام الحجة بذلك الماء وخدمت الإمام (علیه السلام) (3).
2 - قبض على نرجس بعد وفاة الإمام وزجّ بها في السجن، يقول أبو الأديان : أرسل المعتمد العباسي جواسيسه للقبض على صيقل ( جارية الإمام العسكري (علیه السلام) ) لتريهم الطفل، ولكنها انكرت وجوده وقالت أنها حامل لتصرفهم عن ما اعتقدوه فحملت إلى دار المعتمد، فجعل نساء المعتمد وخدمه، ونساء الموفق وخدمه، ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعاهدن أمرها في كل وقت،
ص: 89
ويراعون إلى أن أدهمهم أمر الصغار وموت عبيد الله بن يحيى بن خاقان بغتة او خروجهم من سر من رأى وأمر صاحب الزنج (1) بالبصرة وغير ذلك فشغلهم ذلك عنها (2).
3 - القول الآخر في وفاة نرجس هو أنها توفيت في فترة حكم المقتدر العباسي (295 الی 317 ق).
ذكر الذهبي عن ابن حزام
«حبس المعتضد العباسي (279) - 287 (ق) صيقلاً بعد وفاة زوجها، في القصر وجعلها تحت مراقبته إلى ان توفيت في عهد خلافة المقتدر العباسي» (3) ولكن بما أن كلام ابن حزام يخلو من الدليل والإعتبار فنحن نرد هذا القول والأرجح في تاريخ وفاة نرجس هو ما جاء من القول الصريح في من وفاة نرجس قبل شهادة الإمام العسكري (علیه السلام) (4) لأنها إذا
ص: 90
كانت على قيد الحياة حين وفاة الإمام العسكري (علیه السلام) ( 260 ه- ) لجأ ذكرها في خبر هجرة أم الإمام العسكري (علیه السلام) إلى مكة في عام (259) وأخذها الإمام المهدي معها (1) أو حضورها في ذلك الوقت معهما.
وأخيراً، أنطفأت شمعة حياة نرجس، ريحانة آل شمعون والمهاجرة من قصر قيصر إلى حجرة الإمام العسكري (علیه السلام) حيث فضلت الحياة المعنوية الزاهرة بذكر الله ومرافقه أولياءه على زخارف القصر وترف القيصر، وزادتها فخراً على مفاخرها النسبيه أن تكون زوجة للإمام العسكري و أماً للإمام المنتظر. دفنت ريحانة آل محمد صلى الله عليه وسلم عند قبر
ص: 91
الإمام الهادي (علیه السلام) في سامراء وقد قال أحد خدام الإمام العسكري واصحابه
يوجد على قبرها لوح مكتوب عليه هذا قبر أم محمد علیهم السلام (1) دفن في هذا المكان الشريف في عام 260 ق جثمان الإمام العسكري (علیه السلام) الطاهر ودفنت بعده السيدة حكيمة عمة الإمام (2).
أصبحت هذه البقعة الطاهرة على مر التاريخ مأمناً وملجأ لمحبين أهل البيت وأصحابهم ومنتظري الإمام الحجة (علیه السلام) رزقنا الله وإياكم زيارة تلك التربة الطاهرة .
ص: 92
لزيارة مليكة الدُّنيا والآخرة أم القائم علیهما السلام وقبرها خلف ضريح مولانا الحسن العسكري عليه السلام فتقول :
السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَالِهِ الصَّادِقِ الْأَمِينِ ، السَّلَام عَلَى مَوْلَانَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ السَّلَامُ عَلَى الْأَتمَّةِ الطَّاهِرِينَ الْحُجَحِ الْمَيَامِينَ، السَّلَامُ عَلَى وَالِدَةِ الْإِمَامِ، وَالْمُودَعَةِ اَسْرَارِ الْمَلِكِ الْعَلاَمِ، وَالْحَامِلَةِ لِاَشْرَفِ الْأَنَامِ السَّلَامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِّيقَةُ الْمَرْضِيَّةُ السَّلَام عَلَيْكِ يَا شَبِيهَةَ أُمِّ مُوسَى وَابْنَةَ حَوَارِيِّ عِيسى، السَّلَامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا التَقِيَّةُ النَّقِيَّةُ السَّلَامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَّةُ الْمَرْضِيَّةُ السَّلَامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الْمَنْعُوتَةُ فِي الْإِنْجِيلِ الْمَخْطُوبَةُ مِنْ
ص: 93
رُوحِ اللَّهِ الْأَمِينِ وَمَنْ رَغِبَ فِي مُصْلَتِهَا مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، والْمُسْتَوْدَعَةُ أَسْرَارَ رَبِّ الْعَالَمِينَ السَّلَامُ عَلَيْكِ وَعَلَى آبائِكِ الْحَوَارِّيينَ السَّلَامُ عَلَيْكِ وَعَلَى بَعْلِكِ وَوَلَدِكِ، السَّلَامُ عَلَيْكِ وَعَلَى رُوحِكِ وَبَدَنِكِ الطَّاهِرِ .
أَشْهَدُ أَنَّكِ أَحْسَنْتِ الْكِفَالَةَ، وَأَدَّيْتِ الْأَمَانَةَ، وَاجْتَهَدْتِ فِي مَرْضَاةِ اللهِ، وَصَبَرْتِ فِي ذَاتِ اللهِ، وَحَفِظْتِ سِرَّ اللهِ، وَحَمَلْتِ وَلِيَّ اللهِ، وَبَالَغتِ فِي حِفْظِ حُجَّةِ اللهِ، وَرَغِبْتِ فِي وُصْلَةِ أَبْنَاءِ رَسُولِ اللهِ، عَارِفَةٌ بِحَقِّهِمْ، مُؤْمِنَةٌ بِصِدْقِهِمْ، مُعْتَرِفَةً بِمَنْزِلَتِهِمْ، مُسْتَبْصِرَةً بِأَمْرِهِمْ، مُشْفِقَةٌ عَلَيْهِمْ، مُؤثِرَةٌ هَوَاهُمْ، وَاَشْهَدُ أَنَّكِ مَضَيْتِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِكِ مُقْتَدِيَةٌ بِالصَّالِحِينَ راضِيَةً مَرْضِيَّةً تَقِيَّةً نَقِيَّةً زَكِيَّةً فَرَضِيَ اللهُ عَنْكِ وَأَرْضَاكِ، وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَنْزِلَكِ وَمَأْوَاكِ، فَلَقَدْ أَوْلَاكِ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَا أَوْلَاكِ، وَأَعْطَاكِ مِنَ الشَّرَفِ مَا بِهِ أَغْنَاكِ فَهَنَّأَكِ اللَّهُ بِمَا مَنَحَكِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَأَمْرَاكِ .
ثم ترفع رأسك وتقول :
اللَّهُمَّ إِيَّاكَ اعْتَمَدْتُ، وَلِرِضَاكَ طَلَبْتُ، وَبِأَوْلِيَائِكَ إِلَيْكَ تَوَسَّلْتُ، وَعَلَى غُفْرَانِكَ وَحِلْمِكَ اتَّكَلْتُ، وَبِكَ اعْتَصَمْتُ، وَبِقَبْرِ أُمّ وَلِيِّكَ لُذْتُ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَانْفَعْنِي بِزِيَارَتِهَا، وَثَبِّتْنِي عَلَى مَحَبَّتِهَا، وَلَا تَحْرِمْنِي شَفَاعَتَهَا وَشَفَاعَةَ وَلَدِهَا، وَارْزُقْنِي
ص: 94
مُرَافَقَتَهَا، وَاحْشُرْنِي مَعَهَا وَمَعَ وَلَدِهَا، كَمَا وَفَّقْتَنِي لِزِيَارَةِ وَلَدِهَا وَزِيَارَتِهَا.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِالْاَئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ، وَأَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِالْحُجَجِ الْمَيَامِينِ مِنْ آلِ طَهُ وَيُسَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الطَّيِّبِينَ، وَأَنْ تَجْعَلَنِي مِنَ الْمُطْمَئِنِّينَ الْفَائِزِينَ الْفَرِحِينَ الْمُسْتَبْشِرِينَ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ قَبِلْتَ سَعْيَهُ، وَيَسَّرْتَ أَمْرَهُ، وَكَشَفْتَ ضُرَّهُ، وَأَمَنْتَ خَوْفَهُ .
اللَّهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَلَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ زِيَارَتِي إِيَّاهَا، وَارْزُقْنِي الْعَوْدَ إِلَيْهَا أَبَداً مَا أَبْقَيْتَنِي، وَإِذا تَوَفَّيْتَنِي فَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَتِهَا، وَأَدْخِلْنِي فِي شَفَاعَةِ وَلَدِهَا وَشَفَاعَتِهَا، وَاغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ النَّارِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا سَاداتِي وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ (1)
ص: 95
ص: 96
مقدّمة المؤلّف ...7
مقدمة المترجمة...9
المشهورة في بلادها...11
شمعة شمعون ...19
الفرح والحزن ...25
حديث المنام.... 29
أسيرة الحب ...35
سفير سامراء... 43
ديار الحبيب ...52
جامع المحاسن ...56
سرور سوسن ...63
نور نرجس ...71
وفاة نرجس ...87
زيارة أم القائم (علیه السلام) ...93
ص: 97