الوصول الی کفایة الاصول

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السید محمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: کفایة الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: الوصول الی کفایة الاصول/ السید محمد الحسیني الشیرازي ؛ [برای] الشجرةالطیبه.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.= 1399.

مواصفات المظهر: 5ج.

ISBN : دوره:9789642045242 ؛ ج.2:9789642045228 ؛ ج.2:9789642045235 ؛ ج.3:9789642045259 ؛ ج.4:9789642045266 ؛ ج.5:9789642045273

حالة الاستماع: فاپا

لسان : العربية.

ملحوظة : هذا كتاب وصفي برکفایة الاصول، آخوند خراساني است.

موضوع : آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایة الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

موضوع :أصول الفقه الشيعي -- قرن 14

Islamic law, shiites -- Interpretation and construction -- 20th century

المعرف المضاف: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

المعرف المضاف: الشجرةالطیبه (قم)

ترتيب الكونجرس: BP159/8

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 6131319

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

المجلد 1

اشارة

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمة الله)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة:السابعة والأربعون، الأولى

للناشر - 1441ه .ق

-------------------

شابك (الدورة): 2204524964978

شابك (المجلد الرابع): 6204526964978

-------------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم قم

المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ

الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

مالِكِ يَوْمِ الدِّين

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ

صِراطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضَّالِّينَ

ص: 5

ص: 6

كلمة الناشر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد، فغير خفيّ ما لعلم أصول الفقه من أهميّة قصوى في استنباط الأحكام الشرعيّة، وذلك لابتناء معرفة المسائل الفقهيّة على تلك الأدلّة.

كما من المعروف مكانة كتاب كفاية الأصول، للأصولي المتبحّر المحقّق الآية الكبرى الشيخ محمّد كاظم الخراساني(قدس سره)، حيث يمثّل هذا الكتاب قمّة العطاء الأصولي، بما يتضمّنه من آخر ما توصّل إليه علم الأصول من تحقيقات وتدقيقات، ولذا تلقف العلماء هذا الكتاب من حين صدوره ولحدّ الآن بالبحث والمدارسة، فصار قطب الرحى في الحوزات العلميّة، إذ هو آخر ما يدرسه طلبة العلوم الدينيّة في مرحلة السطوح العليا، كما تدور عليه بحوث الخارج والتي هي مرحلة تخريج المجتهدين الفقهاء.

وقد علّق جمهرة من العلماء المحقّقين على هذا الكتاب بهوامش علميّة في تأييد أو مناقشة أو تطوير ما بيّنه المحقّق الخراساني، إلّا أنّ الكتاب - بما تضمّنه من تحقيقات وتدقيقات مع إيجاز عباراته - كان بحاجة إلى شرح توضيحي يفكّ رموز العبارات مع توضيح مطالبه العلميّة، فانبرى لذلك الآية العظمى السّيّد محمّد الحسيني الشيرازي - أعلى اللّه درجاته - في أوائل شبابه، فشرح الكتاب وفكّ رموزه بأسلوب شيّق جميل بعبارات واضحة وبليغة.

ص: 7

ولذلك ومنذ صدور هذا الشرح - الوصول إلى كفاية الأصول - تهافت عليه طلبة العلوم الدينيّة وأساتذة الحوزات العلميّة، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ عامّة العلماء والأساتذة قد استفادوا من هذا الشرح حين دراستهم للكتاب أو تدريسهم له، ولذا قد طُبع هذا الكتاب طبعات كثيرة لا تُحصى، متصدّراً شروح الكفاية رغم ازديادها مؤخّراً.

وحيث تطوّر علم التحقيق وعلائم التنقيط والطباعة، لذا ارتأت مؤسسة التحقيقات التابعة لمدرسة الإمام الرضا(علیه السلام) في مدينة مشهد المقدّسة - والتي أسّسها السيّد الشيرازي وقام بإدارتها ورعايتها العلّامة الشيخ علي السيّاح(رحمة الله) - إعادة تحقيق الكتاب وطباعته بحُلّة قشيبة تناسب مكانة الكتاب ومنزلة الشرح في الحوزات العلميّة.

والشكر موصول لفضيلة الحجّة الشيخ مرتضى السيّاح، ولفضيلة الحجّة الشيخ محمد المؤيّد - دام عزهما - ولغيرهما ممن ساهم في تحقيق الكتاب وصفّه وطباعته، فكانت هذه الطبعة المميّزة من جهات كثيرة لا تخفى على الناقد البصير.

نسأل اللّه تعالى أن يتقبّل عملنا وأن يرفع درجات مؤلّف الكتاب وشارحه، وأن يتغمّد الشيخ السّيّاح بواسع رحمته، وأن يوفّق مؤسّستنا للمزيد، خدمةً لعلوم أهل البيت(علیهم السلام) وتراث العلماء الأبرار، إنّه حميد مجيد.

مؤسسة الشجرة الطيبة

20/ جمادى الثّانية / 1441ه

مولد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(علیها السلام)

ص: 8

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدّين.

وبعد: فيقول العبد الرّاجي عفو ربّه الغني محمّدُ بنُ المهديّ الحسينيّ الشّيرازيّ - بصّره اللّه عيوب نفسه - : هذا مختصر في شرح لفظ الكفاية للمحقّق الكبير المولى الشّيخ محمّد كاظم الخراسانيّ - طاب ثراه - كتبته تذكِرةً لنفسي، وتبصِرةً للمبتدئ وأبتهل إلى اللّه - تعالى - في أن يقرنه برضاه، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، ويوفّقني للإتمام، ويصيّره مقدّمة للأحكام، إنّه وليّ ذلك، وهو المستعان.

ص: 9

ص: 10

المقدّمة

اشارة

ص: 11

ص: 12

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين،

___________________

قال المصنّف(رحمة الله): {بسم الله الرّحمن الرّحيم} أي: بهذا الاسم أقرأ وأعمل هذا العمل - كما في الخبر -(1).

ومن الممكن أن يكون ذكر الاسم اعتباراً للمقابلة، فإنّ المشركين كانوا يقولون: «باسم اللّات» ونحوه عند الشّروع، قال - سبحانه - حكايةً عن نبيّه: {تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ}(2).

ولا يبعد أن يكون ذكره تنويهاً لعظمة المسمّى، كما في الدّعاء: «ولاذَ الفقراءُ بجَنابك»(3)

مع أنّ اللّوذ بنفسه - تعالى - .

هذا على أن يكون متعلّق الظّرف «أستعين» - كما في الخبر(4)- أمّا لو كان الملابسة فظاهر، إذ الملابسة بالاسم دون الذّات.

{الحمد للّه ربّ العالمين} اقتداءٌ بالقرآن الكريم، ولما روي عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله)(5) من النّدب إلى تصدير الأُمور بالحمد.

ص: 13


1- تفسير الصافي 1: 80.
2- سورة المائدة، الآية: 116.
3- مفاتيح الجنان، في أعمال شهر رمضان.
4- البرهان في تفسير القرآن 1: 95.
5- وهو قوله(صلی الله علیه و آله): «كلّ أمرٍ ذي بالٍ لم يبدأ فيه بالحمد فهو أقطع» الدر المنثور 1: 12، قال ابن الأثير في النّهاية 1: 93 في لغة «بتر»: في الحديث: «كلّ أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد اللّه فهو أبتر»، أي: أقطع.

والصّلاة والسّلام على محمّدٍ وآله الطّاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين، إلى يوم الدّين.

___________________

و«اللّام» في «الحمد» للجنس كما هو الظّاهر من التّبادر، ولا حاجة إلى تكلّف الاستدلال.

وفي لفظة (اللّه) كلام طويل ولقد أجاد المحقّق الشّريف(1)

حيث قال: «كما أَلِهَتِ العقول في كُنْهِ ذاته كذلك تحيّرت في لفظ اسمه»(2).

{والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين} قال اللّه - تعالى - : {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا}(3)، وذكر «الآل» لئلّا تكون الصّلاة بَتْرَاء منهيّاً عنها(4)، واختصاص لفظة «الطّاهرين» بالذّكر لكونه من أجلى صفاتهم. قال - سبحانه - : {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا}(5). ولا يخفى أنّ الصّلاة والسّلام غلب عليهما التّحيّة، وإن كانا في اللّغة وأصل الاستعمال لشيءٍ آخرَ.

{ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين} اللّعنة العَذاب والخِزْي والبُعد من الخير، وكأنّ وجه تذييل التّصليةوالتّسليم بهذه الجملة إتمام التَّوَلِّي بالتَّبَرِّي، فإنّه أحد دعائم أُصول الإيمان، وجعل يوم الدّين غايةً، كنايةً عن الدَّوام، كقوله - تعالى - : {مَا دَامَتِ ٱلسَّمَوَتُ وَٱلۡأَرۡضُ}(6) على أحد التّفسيرين، وإلّا فلا وجه للاختصاص.

ص: 14


1- هو المير سيّد شريف الجرجاني عليّ بن محمّد الحسيني الأسترآباديّ المتوفّى سنة 816ه ، كان تلميذ القطب الرّازي الإماميّ وأُستاذ المحقّق الدّواني، وعدّه القاضي نور اللّه من حكماء الشّيعة.
2- حاشية تفسير البيضاوي 1: 26.
3- سورة الأحزاب، الآية: 56.
4- عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله): «لا تصلّوا علَيّ صلاة مبتورة، بل صِلُوْا إليّ أهل بيتي». وسائل الشّيعة 7: 207.
5- سورة الأحزاب، الآية: 33.
6- سورة هود، الآية: 107 و108.

وبعد: فقد رتّبته على مقدّمة ومقاصد وخاتمة.

أمّا المقدّمة ففي بيان أُمور:

الأوّل:

___________________

{وبعد} أي: بعد التّقدمة للمقدّمة {فقد رتّبته} أي: الكتاب {على مقدّمة} في بيان موضوع العلم وغايته وحدّه - إجمالاً - وأُمور أُخَر {ومقاصد} ثمانية: الأوامر والنّواهي، والمفاهيم، والعموم ولواحقه، والمطلق ولواحقه، والقطع، والظّنّ، والبراءة ولواحقها، والتّعادل والتراجيح، {وخاتمة} في الاجتهاد والتّقليد.

{أمّا المقدّمة ففي بيان أُمور} ثلاثة عشر: موضوع العلم، والوضع، وكون المجاز بالطّبع أم لا، وإرادة اللّفظ من اللّفظ، وكون دلالة الألفاظ لا تتبع الإرادة، وأنّه هل للمركّب وضع أم لا، وعلامة الحقيقة والمجاز، وتعارض الأحوال، والحقيقة الشّرعيّة، والصّحيح والأعمّ، والمشترك، وجواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً، والمشتق.

الأمر الأوّل: [موضوع العلم ومسائله وموضوع علم الأصول وتعريفه]

اشارة

المقدمة، موضوع العلم ومسائله وموضوع علم الأصول وتعريفه

الأمر {الأوّل}: في بيان موضوع العلم عامّةً، وموضوع الأصول خاصّةً، وبيان بعض ما له مسيس بالمطلب.اعلم أنّ القدماء جعلوا أجزاءَ كلّ علمٍ ثلاثةً، وقالوا: إنّ كلّ علمٍ مركّب منها:

الأوّل: الشّيء الّذي يُبْحَث في العلم عن خصائصه والآثار المطلوبة منه. وبعبارة أُخرى: الأمر الّذي يرجع جميع أبحاث العلم إليه، وهذا هو المسمّى ب (موضوع العلم) كالكلمة والكلام في علم النّحو، وتلك الخصائص والآثار هي الأعراض الذّاتيّة كالرّفع والنّصب والجرّ في العلم المتقدّم(1).

ص: 15


1- وفي رأي البعض: الرّفع والنّصب والجرّ أعراض غريبة لا ذاتيّة - كما سيصرّح الشّارح بعد أسطر - .

___________________

الثّاني: القضايا الّتي يقع فيها البحث وهي المسمّى ب (المسائل) كقولهم: الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمضاف إليه مجرور.

ثمّ قالوا: إنّ موضوع المسألة إمّا نفس موضوع العلم، أو نوع منه، أو عَرَضٌ ذاتيّ له، أو مركّب من الموضوع والعَرَض الذّاتي.

واختلفوا في محمولات المسائل: فالمشهور منهم أنّها أعراض ذاتيّةٌ لموضوعاتها خارجة عنها.

وذهب بعضهم إلى جواز كون المحمولات بالنّسبة إلى الموضوعات أعراضاً عامّة غريبة، ومثّلوا بقول الفقهاء: (كُلُّ مُسْكِرٍ حرام)، وقول النّحاة: (كلّ فاعل مرفوع).

الثّالث: المبادئ، وهي الّتي يبتنى عليها المسائل، فإن أفادت تصوّر أطراف المسألة سُمّيت بالمبادئ التّصوّريّة، وإن أفادت التّصديق بالقضيّة المأخوذة في دليل المسألة سُمّيت بالمبادئ التّصديقيّة. ثمّ إنّ العَرَض قسمان:

الأوّل: الذّاتي وهو على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما يعرض للشّيء أوّلاً وبالذّات، كعُرُوْضِ التّعجّب للإنسان.الثّاني: ما يعرض للشّيء بواسطة أمر مساوٍ للمعروض، خارجٍ عن حقيقته، كالضّحك اللّاحق للإنسان، لكونه متعجّباً.

الثّالث: ما يعرض بواسطة أمر مساوٍ، داخل في المعروض، كإدراك الكليّات العارض للإنسان، بواسطة كونه ناطقاً.

الثّاني: الغريب وهو ثلاثة أيضاً:

الأوّل: ما يعرض بواسطة أمرٍ مباينٍ، كالحرارة العارضة للماء، بواسطة النّار.

الثّاني: ما يعرض بواسطة أمرٍ خارجٍ أعمّ، كالحركة العارضة للبياض، لكونه جسماً.

ص: 16

إنّ موضوع كلّ علمٍ - وهو الّذي يبحث فيه عن عوارضه الذّاتيّة، أي: بلا واسطة في العروض -

___________________

الثّالث: ما يعرض بواسطة أمرٍ خارجٍ أخصّ، كالضّحك للحيوان، بواسطة التّعجّب.

وأمّا العارض بواسطة الأمر الأعمّ الدّاخل، كالمشي العارض للإنسان، بواسطة كونه حَيَواناً، ففيه خلاف.

موضوع العلم

والمصنّف(رحمة الله)على {أنّ موضوع كلّ علم} نفس موضوعات المسائل، لا ما تقدّم من أنّه قد يكون موضوع العلم، وقد يكون نوعاً منه... الخ. {و} اختار أنّ موضوع العلم {هو الّذي يُبْحثُ فيه عن عوارضه الذّاتيّة} لا ما سبق مِن أنّ المحمول قد يكون عرضاً غريباً.

ثمّ لا يخفى أنّ الواسطة على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الواسطة في الثّبوت، والمراد بها العلّة في وجود المعروض لعروضه،كعلّيّة التّعجّب لعروض الضّحك على الإنسان، وعلّيّة تعفّن الأخلاط لعروض الحُمّى عليه.

الثّاني: الواسطة في العروض، والمراد بها أنّ العرض يعرض ابتداءً للواسطة، ونسبته إلى المعروض من قبيل الوصف بحال المتعلّق، كاللون العارض للجسم بواسطة السّطح.

الثّالث: الواسطة في الإثبات، والمراد بها سبب العلم والتّصديق بكون المحمول للموضوع، كالتغيّر في (العالم متغيّر، وكلّ متغيّر حادث).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المصنّف(رحمة الله) جعل العرض الذّاتيّ عبارةً عن القسمين الأوّل والثّالث {أي}: العرض الّذي يعرض {بلا واسطة في العروض} سواء كان مع واسطةٍ في الثّبوت أو في الإثبات، وعليه فالعرض الغريب هو ما له واسطة في

ص: 17

هو نفسُ موضوعات مسائله عيناً، وما يتّحد معها خارجاً، وإن كان يغايُرها مفهوماً، تغايرَ الكلّي ومصاديقه، والطّبيعِيّ وأفراده.

___________________

العروض، خلافاً لما تقدّم من الميزان المشهور.

إن قلت: ما ذكرتم - من أنّ موضوع العلم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذّاتيّة - غيرُ تامٍّ، لما نرى من خروج أغلب العلوم عن هذه الضّابطة، مثلاً: الرّفع والنّصب والجرّ في النّحو أعراض غريبة بالنّسبة إلى الكلمة؛ لأنّها إنّما تلحق الكلمة بواسطة أمر أخصّ خارج، كالفاعليّة والمفعوليّة وكونها المضاف إليها، وكذلك الوجوب والحرمة إنّما يلحقان الأمر والنّهي الواردين في الكتاب والسّنّة، بواسطة أمرٍ خارجٍ أعمّ وهو كون مطلق الأمر للوجوب.

قلت: إنّ الموضوع في كلّ علم لا يكون مقيّداً بشرط شيءٍ، ولا بشرط لا، بل{هو نفس موضوعات مسائله عيناً} فيكون لا بشرط، واللّابشرط يجتمع مع ألف شرط، فالكلمة عين تلك الثّلاثة {و} هي {ما يتّحد معها خارجاً وإن كان} الفرق بين موضوع العلم وموضوعات المسألة هو أنّ موضوع العلم {يغايرها مفهوماً} فإنّ مفهوم (الكلمة) شيء، ومفهوم (الفاعل) شيء آخر، ومفهوم الأمر المطلق شيء، ومفهوم الأمر الوارد في الكتاب شيء آخر، وهكذا.

والحاصل: أنّ {تغاير} موضوع العلم وموضوعات المسائل من قبيل تغاير {الكلّي ومصاديقه و} المراد بالكلّي ليس مطلق الكلّيّ ولا المنطقيّ والعقليّ، لعدم الاتّحاد بينها وبين الأفراد قطعاً، بل المراد به الكلّي {الطّبيعي} فهو {وأفراده} متّحدان من وجهٍ ومتغايران من وجهٍ.

ثمّ إنّه قد يشكل على ما تقدّم بخروج مثل: (البدن) الموضوع لعلم الطّبّ، و(المعقولات الثّانية) الموضوع لعلم المنطق، لعدم الاتّحاد بين الموضوع وموضوعات المسائل كاليد والرّجل والقلب في الأوّل، وعدم الوجود الخارجيّ

ص: 18

والمسائل عِبارة عن جملة من قضايا متشتّتةٍ، جَمَعَها اشتراكُها في الدّخل في الغرض

___________________

للأفراد في الثّاني.

والجواب أمّا عن الأوّل: فبعدم تسليم صحّة جعل البدن موضوعاً في علم الطّبّ، بل موضوعه العضو. نعم، يصحّ ذلك على مذهب المشهور - كما تقدّم - .

وأمّا عن الثّاني: فبأنّ المراد بالخارج في قولنا: «ما يتّحد معها خارجاً» نفس الأمر الأعمّ من الخارج والذّهن.

المسائل

{و} لمّا فرغنا عن موضوع العلم مطلقاً شرعنا في الجزء الثّاني من أجزاء العلوم، وهي القضايا الّتي تطلب في العلم، المعبّر عنها ب {المسائل} فنقول:

إنّ القوم وإن صرّحوا بكون أجزاء العلوم ثلاثة: الموضوعات والمسائل والمبادئ، لكن صرّحوا أنّ حقيقة كلّ علم مسائله، ولا تنافي بينهما، فإنّ ثلاثيّة الأجزاء بالنّسبة إلى التّدوين، وأمّا بحسب الحقيقة فالعلم شيء واحد، إذ المبادئ مقدّمة للمسائل، والموضوع جهة اشتراك موضوعات المسائل، وهي {عبارة عن جملةٍ من قضايا متشتّتةٍ} متفرّقة - موضوعاً أو محمولاً - لكن حيث بيّن أنّ موضوعات مسائل العلم متّحد مع موضوع العلم، فالاختلاف في الموضوع باعتبار الخَصوصيّات المأخوذة مع الجامع، كالفاعليّة ونحوها، وحيث كانت المسائل مختلفةً، فلا بدّ وأن يكون بينها جامعة تجعلها علماً واحداً، وفي الجامع خِلاف:

فالمصنّف على أنّ الّذي {جمعها} إنّما هو {اشتراكها في الدّخل في الغرض} الواحد، مثلاً: الأمر الّذي أوجب الجمع بين قولهم: (الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمضاف إليه مجرور)، وهكذا هو أنّ جميعها معدّات وأسباب لحفظ

ص: 19

الّذي لأجله دُوِّنَ هذا العلم؛ فلذا قد يتداخل بعضُ العلوم في بعض المسائل ممّا كان له دخل في

___________________

اللّسان عن الخطأ في المقال، وهذا هو الغرض {الّذي لأجله دون هذا العلم} وجعل له كتاب خاصّ وسمّي بالنّحو، وهكذا المنطق، والهندسة، والكلام، وغيرها.ودليل المصنّف على ذلك هو: أنّ جهة تحسين العقلاء لتدوين المسائل المختلفة - موضوعاً ومحمولاً - علماً واحداً هي وحدة الغرض، لا وحدة الموضوعات أو المحمولات، ولذلك نرى أنّه لو جمع شخص بين مسائل علوم متعدّدة، وجعلها علماً، لم يحسن وإن كانت لموضوعاتها جهة وحدة وجامعة.

وأمّا المشهور، فقد جعلوا الأمر الجامع للمسائل المختلفة هو وحدة الموضوع، ولذا قالوا: «إنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات».

إن قلت: لا فرق في القولين، إذ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد، وحينئذٍ فوحدة الموضوع والغرض متلازمان.

قلت: هذه القاعدة باطلة، وقد بيّن العلّامة(رحمة الله) في شرح التّجريد(1)

وجه بطلانها، فراجع، على أنّ التّلازم لا يصحّح نسبة لازم أحدهما إلى الآخر - كما لا يخفى - .

ثمّ إنّه حيث كان تعدّد العلوم بتعدّد الأغراض {فلهذا قد يتداخل بعض العلوم} كعلم اللّغة والأصول {في بعض المسائل} كمسألة أنّ الأمر للوجوب ونحوها، فلو كان تعدّد العلوم بتعدّد الموضوع لم يصحّ جعل المسألة من علمين، لعدم تعدّد الموضوع فيها بديهةً.

وأمّا حيث إنّ التّعدّد بتعدّد الغرض - والمسألة المتقدّمة {ممّا كان له دخل في}

ص: 20


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 176.

مهمّين، لأجل كلّ منهما دُوِّنَ علمٌ على حِدَةٍ، فيصير من مسائل العلمين.

لا يقال: على هذا يمكنُ تداخل عِلمين في تمام مسائلهما، في ما كان هناك مهمّان متلازمان في التّرتّب على جملة من القضايا لا يكاد انفكاكهما.فإنّه يقال:

___________________

غرضين {مهمّين}: أحدهما: غرض العلم بأوضاع لسان العرب، والثّاني: غرض الوساطة في الاستنباط - صحّ جعل تلك المسألة من مسائل علمين - الأصول واللّغة - اللَّذَين {لأجل كلٍّ منهما دوّن علم على حِدَةٍ} وحينئذٍ {فيصير} هذه المسألة {من مسائل العلمين}.

فتحصّل ممّا تقدّم إمكان جعل مسألة من مسائل علمين - على أن يكون الجامع هو الغرض دون أن يكون هو الموضوع - .

{لا يقال}: إذا كان مصحّح جعل المسألة من علمين هو ترتّب غرضين عليه يلزم صحّة جعل جملةٍ من المسائل مندرجةً في علمين و{على هذا} المِنْوال إلى أن ينتهي إلى ما {يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما} فيكون العلمان - المدوّن لأجلهما كتابان - في الصّورة والمسائل واحداً، وذلك {في ما كان هناك} غرضان {مهمّان متلازمان في التّرتّب} أي: في هذه الجهة، أعني: ترتّبهما {على جملة من القضايا} بحيث {لا يكاد انفكاكهما}.

والحاصل: أن يكون التّلازم بين الغرضين من حيث التّرتّب، وإن لم يكن بينهما تلازم من سائر الجهات.

ثمّ إنّ هذا الإشكال يوجب عدم كون الغرض مائزاً بين العلوم - كما اختاره المصنّف - {فإنّه} لا يميّز العلمين المتداخلين في جميع المسائل، لكن يمكن أن {يقال} في الجواب: إنّه لمّا كان السّرّ في تدوين المسائل - المختلفة - علماً واحداً هو تحسين العقلاء، ولو كان الغرضان متلازمين قبحتدوين علمين عندهم،

ص: 21

- مضافاً إلى بُعْد ذلك بل امتناعه عادةً - لا يكاد يصحّ لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين، بل تدوين علمٍ واحدٍ،

___________________

نستكشف أنّ سبب تدوين علم واحد أحد الأمرين: إمّا وحدة الغرض، وإمّا تلازم غرضين، وعليه فلا يكون هناك علمان حتّى يستشكل بأنّ الغرض لا يميّز العلمين.

نعم، اختلاف الأغراض لا يستكشف عن اختلاف العلوم، وهذا ليس محلّ الإيراد، فتبيّن أنّه مع وجود الغرض المذكور لا يرد الإشكال {مضافاً إلى بُعْدِ ذلك} الفرض، لعدم اتّفاقه في الخارج - كما هو المشاهد - {بل} يمكن دعوى {امتناعه عادةً} فإنّ الممكن العادي يقع ولو مرّة.

ثمّ إنّ نسبة كلّ غرض من أغراض العلوم إلى الغرض الآخر أحد النّسب الأربعة:

الأوّل: التّباين، كالنّسبة بين الغرض من علم الطّبّ، والغرض من علم النّحو.

الثّاني: العموم المطلق، كالغرض من علم النّحو بمعناه الأعمّ، والغرض من علم الصّرف.

الثّالث: العموم من وجهٍ، كالغرض من علم الميزان والغرض من علم الحكمة.

الرّابع: التّلازم، كمعرفة المعربات والمبنيّات المرتّبتين على علم النّحو إذا فُرِضا غرضين.

أمّا القسم الرّابع، فإنّه لا شبهة في أنّه {لا يكاد يصحّ لذلك تدوين علمين} متّحدين، فيجميع المسائل {وتسميتهما باسمين} لأنّ التّدوين الأوّل كافٍ - في حصول الغرضين - ولا مدخليّةللقصد، بأن يقصِد من التّدوين الأوّل أحد الغرضين ومن التّدوين الثّاني الغرض الثّاني، {بل} اللّازم{تدوين علم واحد} أي:

ص: 22

يبحث فيه تارةً لكلا المهمّين، وأُخرى لأحدهما، وهذا بخلاف التّداخل في بعض المسائل، فإنّ حُسْنَ تدوين علمين - كانا مشتركين في مسألة أو أزيدٌ في جملة مسائلهما المختلفة - لأجل مهمّين ممّا لا يخفى.

___________________

تدوين المسائل مرّة واحدة وجعلها علماً واحداً {يبحث فيه تارة لكلا} الغرضين {المهمّين} وذلك حيث كان غرض المدوّن الغرضين معاً، {و} تارة {أُخرى} يبحث في العلم {لأحدهما} حيث كان مقصوده أحد الغرضين، وهذا على تقدير ذكر الغرض في العلم، وإلّا فالتّدوين الواحد لا يحتاج إلى هذا التّفصيل.

{وهذا} القسم {بخلاف} الأقسام الثّلاثة الأُوَل، إذ لو كان بين الغرضين تباين، فلا شبهة في وجوب تدوين علمين، إذ المفروض عدم ترتّبهما أصلاً، وكذا لو اشتركا في {التّداخل في بعض المسائل} من الطّرفين - وهو العموم من وجه - أو من طرفٍ واحدٍ - وهو العموم المطلق - {فإنّ حسن تدوين علمين} - في ما إذا {كانا} العلمان {مشتركين، في مسألةٍ، أو أزيد، في جملة مسائلهما المختلفة} سواء كان بينهما عموم مطلق أو من وجه {لأجل} غرضين {مهمّين - ممّا لا يخفى}.

المبادئ

ولمّا فرغنا عن بيان جزءين من أجزاء العلوم - أعني: الموضوعات والمسائل - نشرع في بيان الجزء الثّالث - أعني: المبادئ - فنقول: المبادئ عبارة عمّا يبتنىعليها مسائل العلم، وهي قسمان: الأوّل: المبادي التّصوّريّة، والثّاني: المبادي التّصديقيّة.

وجملة القول: إنّ المبادي عبارة عن تعاريف موضوعات المسائل إذا كان بسيطاً - كتعريف الفاعل، والمفعول، والمضاف إليه، والحال، وغيرها، في علم النّحو - .

وإذا كان الموضوع مركّباً لزم تعريف أجزاء الموضوع كالمقدار والوسط في النّسبة

ص: 23

وقد انقدح بما ذكرنا: أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الدّاعية إلى التّدوين، لا

___________________

في قولهم: «كلّ مقدار وسط في النّسبة فهو ضلع ما يحيط به الطّرفان» في علم الهندسة، وكالمصادرات، والعلوم المتعارفة، والأصول الموضوعة.

وحكى بعض الأفاضل عن ابن الحاجب للمبادئ معنىً آخر، فقال: هي ما يبدأ به قبل الشّروع في مقاصد العلم، سواء كان داخلاً في العلم، فيكون من المبادي المصطلحة السّابقة - كتصوّر الموضوع والأعراض الذّاتيّة، والتّصديقات الّتي يتألّف منها قياسات العلم - أو خارجاً عنه يتوقّف عليه الشّروع، كمعرفة الحدود، والغاية، وبيان الموضوع، والأمر سهل بعد معرفة المراد منها إجمالاً.

وحيث عرفت ذلك، فلنرجع إلى المقصود، فنقول: التّمايز بين العلوم إمّا بالأمر الجامع بين الموضوعات المسمّى بموضوع العلم، وإمّا بالأمر الجامع بين المحمولات، وإمّا بالأغراض:

أمّا الأوّل: فلا يمكن أن يكون مائزاً لما تقدّم من لزومه عدم التّداخل في مسألةٍ، فضلاً عن التّداخل في المسائل، مع لزوم كون المميّز مجهولاً إذا كان الموضوع مجهولاً، كما قاله بعض بالنّسبة إلى علم الأصول وغيره.وأمّا الثّاني: فمع أنّه لم يذكره أحد يرد الإشكالان الأوّلان عليه، فتعيّن كون المائز بين العلوم الأغراض، لا غير {وقد} أشار إليه المصنّف سابقاً بقوله: «والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتّتة جمعها اشتراكها في الدّخل في الغرض الّذي لأجله دوّن هذا العلم» وترتيب البرهان أن يقال: {انقدح بما ذكرنا أنّ تمايز العلوم إنّما هو} بالمسائل، وتمايز المسائل {باختلاف الأغراض الدّاعية إلى التّدوين} فتمايز العلوم بتمايز الأغراض و{لا} يعقل أن يكون التّمايز بموضوع العلم - كما تقدّم - .

ص: 24

الموضوعات ولا المحمولات، وإلّا كان كلّ باب - بل كلّ مسألةٍ - من كُلِّ علمٍ علماً على حِدَةٍ - كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل - ، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدّد، كما لا يكون وحدتهما سبباً لأن يكون من الواحد.

ثمّ إنّه

___________________

وما ذكره بعض - مِن أنّ الموضوع داخل في العلم، فهو أولى بأن يكون مائزاً من الغرض الّذي هو خارج عن العلم - استبعادٌ لا يرجع إلى محصّل، و{الموضوعات} للمسائل لا يصحّ جعلها مائزة.

{و} كذلك {لا} يصحّ جعل {المحمولات} مائزة {وإلّا} فإن كانت الموضوعات مائزة {كان كلّ باب} علماً على حِدَةٍ لاختلاف الموضوعات فيها، فلباب الفاعل موضوع، ولباب المفعول موضوع آخر.

وهكذا إن كانت المحمولات مائزة؛ لأنّ المحمول في باب الفاعل شيء، والمحمول في باب المفعول شيء {بل} يلزم أن يكون {كلّ مسألة من} أبواب {كلّ علم علماً على حِدَةٍ} إذ لكلّ مسألة محمولخاصّ، مثلاً: المحمول في قولهم: «المبتدأ لا يكون نكرة» مغاير للمحمول في قولهم: المبتدأ يجب تقديمه في صورة حصر الخبر {كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل}.

وعلى هذا {فلا يكون الاختلاف} بين العلوم إلّا {بحسب} اختلاف الأغراض لا بحسب {الموضوع} للعلم {أو} المسألة ولا بحسب {المحمول} للمسألة، فإنّ شيئاً منها لا يكون {موجباً للتعدّد، كما لا يكون وحدتهما} أي: وحدة الموضوع أو المحمول {سبباً لأن يكون} العلمان المختلفان من حيث الغرض المتّحدان موضوعاً أو محمولاً {من} العلم {الواحد}.

موضوع الأصول

{ثمّ إنّه} لمّا بيّن المصنّف موضوع العلوم في أوّل المقدّمة، أراد أن يبيّن موضوع

ص: 25

ربّما لا يكون لموضوع العلم - وهو الكلّيّ المتّحد مع موضوعات المسائل - عنوانٌ خاصّ واسم مخصوص، فيصحّ أن يعبّر عنه بكلّ ما دلّ عليه؛ بداهةَ عدم دخل ذلك في موضوعيّته أصلاً.

وقد انقدح بذلك: أنّ موضوع علم الأصول هو الكلّيّ المنطبقُ على موضوعات مسائله المتشتّتة،

___________________

علم الأصول، ولا بدّ في بيان ذلك من تقديم مقدّمة، وهي أنّه {ربّما لا يكون لموضوع العلم - وهو} كما تقدّم {الكلّيّ المتّحد مع موضوعات المسائل - عنوان خاصّ واسم مخصوص} وذلك لأنّ الملاك في موضوعيّة الموضوع لا يفرق بعرفان اسمه وعدمه، سواء كان الموضوع متّحداً مع موضوعات المسائل - كما اختارهالمصنّف - أو لا - كما تقدّم نقله عن المشهور - {فيصحّ} حين جهل اسم الموضوع {أن يعبّر عنه بكلّ ما دلّ عليه} كأن يقال: (موضوع العلم الفلاني هو الجامع لموضوعات مسائله) ولا يضرّ الجهل باسم الموضوع {بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيّته أصلاً} هذا أحد قسمي موضوع العلم، والقسم الثّاني هو الّذي له اسم خاصّ وعنوان مخصوص، فيعبّر عنه باسمه، كما يصحّ أن يعبّر عنه بكلّ ما دلّ عليه كالقسم الأوّل.

{و} إذا عرفت هذا قلنا {قد انقدح بذلك} المذكور في أوّل المقدّمة من تعريف موضوع مطلق العلوم {أنّ موضوع علم الأصول هو الكلّيّ المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة} ووجه الانقداح بذلك أنّ معرفة الكلّيّ مستلزم لمعرفة جزئيّاته، فمعرفة موضوع مطلق العلم مستلزم لمعرفة موضوع النّحو والصّرف والحكمة والأصول وغيرها، لكن المعرفة بوجهٍ مّا، لا بالحقيقة، إذ العامّ وجه للأفراد ولا يبيّن خَصوصيّاتها - كما لا يخفى - .

ثمّ إنّه قد اختلف في شخص موضوع علم الأصول واسمه الخاصّ، فالمصنّف

ص: 26

لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة، بل ولا بما هي هي؛ ضرورةَ أنّ البحث في غير واحدٍ من مسائله المهمّة ليس من عوارضها.

___________________

ذهب إلى أنّه غير معلوم بشخصه؛ لأنّ ما ذكروه {لا} يصلح للموضوعيّة، لعدم اتّحاده مع موضوعات مسائله، خِلافاً للمحقّق القمّي(قدس سره) حيث جعل موضوع الأصول {خصوص الأدلّة الأربعة}: الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل، فإنّه(رحمة الله) يرى هذه {بما هي أدلّة} وبوصفدليليّتها موضوعاً، وعلى هذا فيخرج البحث عن حجيّة أحدها عن الأصول، ويكون من المبادئ التّصديقيّة، وكذلك يخرج أكثر مباحث الألفاظ، كالأوامر والنّواهي والعموم.

{بل و} غيرها؛ لأنّ البحث فيها ليس بحثاً عن الأعراض الذّاتيّة للأدلّة الأربعة، إذ البحث في الأصول ليس عن خصوص الأمر الوارد في الكتاب - مثلاً - .

وحيث رأى صاحب الفصول ذلك تعذّر عنه بما {لا} يغني، فجعل الموضوع الأدلّة الأربعة {بما هي هي} أي: بذواتها من دون نظر إلى كونها أدلّة.

وهذا وإن سلم عن الإشكال الأوّل، لكن يرد عليه أمران: الأوّل: خروج مباحث الألفاظ - كما تقدّم - . والثّاني: دخول ما ليس من الأصول فيه، كالتّفسير، والتّجويد، وعلم الحديث؛ لأنّ هذه العلوم تبحث عن أحوال الكتاب والسّنّة - كما لا يخفى - .

ثمّ إنّه يرد عليهما أيضاً خروج بعض المسائل الأُخَر {ضرورة أنّ البحث في غير واحد من مسائله المهمّة ليس من عوارضها} أي: عوارض الأدلّة الأربعة، وقد تقدّم كون موضوع العلم هو ما يكون الأبحاث بحثاً عن عوارض ذاتيّة له.

وحيث كان هذا المبحث من مهامّ المباحث لزم بيانه أوّلاً حتّى يتّضح المتن فنقول: لو كان موضوع الأصول، الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة أو بما هي هي، لزم خروج عمدة مباحث التّعادل، ومبحث خبر الواحد عن الأصول، وذلك لأنّ التّرجيح

ص: 27

___________________

والتّعادل والحجّيّة من عوارض الخبر، و(الخبر) لا يكون من السّنّة، ولا من الكتاب، والإجماع، والعقل، فهو خارج عن الأصول، أمّا عدم كون (الخبر) منالثّلاثة الأخيرة فظاهر، وأمّا عدم كونه من السّنّة؛ فلأنّ السّنّة عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره، و(الخبر) حاكٍ لأحدها، وليس هو بأحدها.

إن قلت: يمكن إرجاع هذين البحثين إلى السّنّة بأن يقال: مرجع مسألة التّعادل والتّرجيح إلى أنّ السّنّة وهي قول المعصوم وفعله وتقريره، هل تثبت بهذا الخبر أو بذاك، ومرجع مسألة الخبر الواحد إلى أنّ السّنّة هل تثبت بخبر الواحد أم لا تثبت، إلّا بما يفيد القطع؟

قلت: أوّلاً إنّ بيان البحث بهذه الكيفيّة وإن كان أقلّ محذوراً، إلّا أنّ القوم لم يبيّنوه هكذا، ونحن الآن في صدد التّعرّض لما بيّنوه. وثانياً إنّ هذا البيان لا يدفع الإيراد أيضاً وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ (كان) على قسمين:

الأوّل: التّامّة وهي ما يخبر عن وجود الشّيء فقط نحو (كان اللّه) و(كان زيد) أي: وجد.

الثّاني: النّاقصة وهي ما يخبر عن أوصاف الشّيء بعد ثبوت وجوده نحو: (كان زيد قائماً)، فالوجود في الأوّل محمول، وفي الثّاني رابطة. ومثل: (كان)، (هل) وهي قسمان: الأوّل: بسيطة وهي مثل: (كان التّامّة)، الثّاني: المركّبة وهي مثل (كان النّاقصة).

إذا تمهّدت المقدّمة قلنا: إن كان المراد بالمحمول في قولكم: «إنّ السّنّة تثبت بخبر الواحد» الثّبوت الواقعي - أي: إنّ السّنّة موجودة ثابتة - فيكون مفاد (كان التّامّة) ففيه:

أوّلاً: أنّ البحث عن وجود الدّليل ليس من مباحث العلم؛ لأنّه بحث عن وجود

ص: 28

وهو واضح، لو كان المرادُ بالسّنّة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره - كما هو المصطلح فيها - ؛ لوضوح عدمالبحث في كثيرٍ من مباحثها المهمّة - كعمدة مباحث التّعادل والتّرجيح،

___________________

الموضوع، وإنّما أبحاث العلم عبارة عن مباحث أعراض الموضوع الّتي هي مفاد (كان النّاقصة).

وثانياً: أنّ السّنّة الواقعيّة معلوم الوجود، فلا معنى للبحث عنه.

وإن كان المراد بالمحمول الثّبوت التّعبّدي - أي: إنّ خبر الواحد الّذي هو سنّة تعبديّة حجّة أم لا - ففيه أنّ الحجيّة ووجوب العمل لم يعرض للسّنّة - أي: قول المعصوم وفعله وتقريره - وإنّما عرض على حاكي السّنّة، وهو الخبر الواحد، وحينئذٍ فهو عارض لغير موضوع العلم، هذا حاصل الكلام في المقام.

وإذا أحطت خُبْراً بما ذكرناه فلنرجع إلى المتن فنقول: البحث عن كثير من مباحث الأصول ليس من عوارض الأدلّة الأربعة {وهو واضح} وكفاك شاهداً في ذلك خروج مسألة خبر الواحد وأكثر مباحث التّعادل، فإنّه {لو كان المراد بالسّنّة منها} أي: السّنّة الّتي هي أحد الأربعة المجعولة موضوعاً للأُصول {هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره} وكلمة «أو» للتّقسيم نحو: (الكلمة اسم أو فعل أو حرف) لا للتّرديد {كما هو المصطلح فيها} فقد جرى اصطلاح الفقهاء على تسمية الثّلاثة بالسّنّة، وهناك معنىً آخر للسّنّة يعمّ الثّلاثة، والأخبار المرويّة - كما سيأتي - .

وإنّما خرج بعض المسائل عن الأصول على هذا الاصطلاح {لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثها المهمّة كعُمْدَةِ مباحث التّعادل والتّرجيح} عن السّنّة، فإنّ تلك المباحث لا تلحق السّنّة، كما لا تلحق الكتاب والإجماع والعقل، وإنّما خصّ الخارج بأكثر مباحثه لا الجميع؛ لأنّ بعض مباحثه يكون من مباحث الكتاب والسّنّة، مثل: تعارض الآيتين أو السّنّتين.

ص: 29

بل ومسألة حجيّة الخبر الواحد - لا عنها، ولا عن سائر الأدلّة.

ورجوعُ البحث فيهما في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت السّنّة بالخبر الواحد في مسألة حجيّة الخبر - كما أُفيد(1)

- ، وبأيّ الخبرين في باب التّعارض، فإنّه أيضاً بحث في الحقيقة عن حجيّة الخبر في هذا الحال، غيرُ مفيدٍ؛ فإنّ البحث عن ثبوت الموضوع

___________________

{بل و} يخرج أيضاً {مسألة حجيّة الخبر الواحد} عن الأصول؛ لأنّه {لا} يكون بحثاً {عنها} أي: عن السّنّة {ولا عن سائر الأدلّة و} ذلك بعين ما تقدّم من الدّليل، فيكون هذان البحثان من المبادئ التّصديقيّة، لا مسائل العلم.

فإن قلت: يمكن {رجوع البحث فيهما} إلى كيفيّة خاصّة حتّى يكونا من مباحث الأصول، إذ مرجع الكلام {في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت السّنّة بالخبر الواحد في مسألة حجيّة الخبر - كما أُفيد -} والمفيد هو شيخ الأعاظم الشّيخ المرتضى الأنصاري(قدس سره) في مسألة حجيّة خبر الواحد. هذا وجه دخول مسألة الخبر في مباحث الأصول.

{و} أمّا وجه دخول مسألة التّعادل والتّرجيح؛ فلأنّ مرجع الكلام في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت السّنّة {بأيّ الخبرين في باب التّعارض} وتغيير البحث بهذه الكيفيّه لا يضرّ بعنوان البحث في كلام القوم {فإنّه أيضاً بحث في الحقيقة عن حجيّة الخبر}.والحاصل: أنّ العبارة مختلفة والمطلب واحد، إذ كلا العنوانين بحث عن حجيّة الخبر {في هذا الحال} الّذي تعارض فيه الخبران، وبهذا التّبويب يدخل بحث حجيّة الخبر وبحث التّعادل في الأصول.

قلنا: إرجاع المبحثين إلى ما ذكرتم {غير مفيد} فيدفع الإشكال {فإنّ البحث عن ثبوت الموضوع} - أعني: السّنّة - ولا ثبوته.

ص: 30


1- فرائد الأصول 1: 238.

- وما هو مفاد كان التّامّة - ليس بحثاً عن عوارضه، فإنّها مفاد كان النّاقصة.

لا يقال: هذا في الثّبوت الواقعي، وأمّا الثّبوت التّعبّدي - كما هو المهمّ في هذه المباحث - فهو في الحقيقة يكون مفاد كان النّاقصة.

فإنّه يقال: نعم، لكنّه ممّا لا يعرضُ السّنّة، بل الخبر الحاكي لها؛

___________________

{و} بعبارة أُخرى البحث عن {ما هو مفاد كان التّامّة} وهل البسيطة، أي: وجود الشّيء ولا وجوده {ليس بحثاً عن عوارضه} الذّاتيّة حتّى يكون من المسائل، بل هو من المبادئ التّصديقيّة - كما تقدّم - {فإنّها} إنّما تكون من المباحث إذا كانت {مفاد كان النّاقصة} وهل المركّبة، أي: إثبات العوارض للموضوع.

فتحصّل: أنّ تغيير البحث إلى هاتين الكيفيّتين إنّما يخرج المسألتين عن الأجنبيّة ويجعلهما من المبادئ التّصديقيّة، فيلزم منه الاستطراد أيضاً.

{لا يقال: هذا} الّذي ذكرتم من صيرورة المسألتين من المبادئ التّصديقيّة غير صحيح؛ لأنّ كلامنا لم يكن {في الثّبوت الواقعي} الحقيقي إذ هو معلوم الوجود، فلا مجال للبحث عنه أصلاً حتّى يكون من مفاد كان التّامّة، ولا يكون من المسائل.{وأمّا} البحث عن {الثّبوت} الجعليّ {التّعبّدي} الّذي هو عبارة عن ترتيب الآثار الشّرعيّة على الخبر {كما هو المهمّ في هذه المباحث} أي: مبحث الخبر الواحد والتّعادل والتّراجيح ولواحقها {فهو في الحقيقة} بحث عن عوارض الموضوع و{يكون مفاد كان النّاقصة}، فتكون المسألتان من مسائل العلم، وحينئذٍ فيكون عنوان المسألتين هكذا: هل السّنّة التّعبديّة - أي: الخبر - يجب العمل بها؟ وهل السّنّتان التّعبّديّتان المتعارضتان يجب العمل بكلتيهما تخييراً أم بالرّاجح منهما أم تتساقطان؟

{فإنّه يقال: نعم} هذا بحث عن مفاد كان النّاقصة {لكنّه ممّا لا يعرُضُ السّنّة} حتّى يكون من المسائل {بل} يعرُضُ {الخبر الحاكي لها} أي: للسّنّة فتكون

ص: 31

فإنّ الثّبوت التّعبّدي يرجِع إلى وجوب العمل على طبق الخبر، كالسّنّة المحكيّة به، وهذا من عوارضه لا عوارضها، كما لا يخفى.

وبالجملة: الثّبوتُ الواقعيُّ ليس من العوارضِ، والتّعبّديُّ وإن كان منها إلّا أنّه ليس للسّنّة، بل للخبر، فتأمّل جيّداً.

وأمّا إذا كان المراد من السّنّة ما يَعُمُّ حكايتها،

___________________

المسألتان أيضاً خارجتين عن الأصول، وذلك {فإنّ الثّبوت التّعبّدي} الجعليّ من قبل الشّارع معناه: جعل الحجيّة والطّريقيّة للخبر، وهو {يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر} والحركة والسّكون على وَفْقه، وبهذا الجعل يكون الخبر {كالسّنّة المحكيّة به} لا يفرقان إلّا من حيث الحاكية والمحكيّة.{و} من المعلوم أنّ {هذا} أي: وجوب العمل المجعول للخبر الواحد {من عوارضه} و{لا} ربط له بالسّنّة، فلا يكون من {عوارضها} فالبحث عن هذا الوجوب لا يكون من مسائل الأصول {كما لا يخفى} على الخبير.

{وبالجملة} نقول - في جواب الشّيخ - : إن كان مرادكم بالثّبوت {الثّبوت الواقعي} فهو {ليس من العوارض} الذّاتيّة للسّنّة، لكونه مفاد كان التّامّة، فتكون المسألة من المبادئ التّصديقيّة {و} إن كان مرادكم بالثّبوت الثّبوت {التّعبّدي} فهو {وإن كان منها} أي: من العوارض الذّاتيّة {إلّا أنّه ليس} يعرض {للسّنّة} حتّى تكون من المسائل {بل} يعرض {للخبر} الحاكي، فلا يكون من المسائل ولا المبادئ {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك وتقول: إنّ الخبر سنّة تنزيليّة فالمحمول عليه محمول عليها، فيكون هذا البحث من المسائل.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ المراد من السّنّة لو كان قول المعصوم أو فعله أو تقريره ورد إشكال خروج مسألة الخبر والتّعادل عن الأصول.

{وأمّا إذا كان المراد من السّنّة ما يعمّ} قول المعصوم وفعله وتقريره و{حكايتها}

ص: 32

فلأنّ البحث في تلك المباحث وإن كان عن أحوال السّنّة بهذا المعنى، إلّا أنّ البحث في غير واحد من مسائلها - كمباحث الألفاظ وجملةٍ من غيرها - لا يخصّ الأدلّة، بل يعمّ غيرها،

___________________

أي: الخبر الواحد، فهذا وإن أوجب دخول المسألتين في علم الأصول، إذ الحجيّة ممّا تعرض الحاكي، والمفروض أنّ الحاكي من السّنّة الّتي هي أحد جزئيّات موضوع العلم، لكن فيه أنّ ظاهر المشهور كون الأدلّة الأربعة بما هيأدلّة موضوع العلم، فالبحث عن دليليّة الدّليل إنّما يكون من المبادئ التّصديقيّة، والمهمّ كون المسألتين من مسائل العلم لا مطلق الدّخول. نعم، تكونان من المسائل على قول الفصول الّذي جعل الموضوع ذوات الأدلّة.

ثمّ إنّه بقي إشكال آخر على تقدير كون الموضوع الأدلّة الأربعة، ولو ارتفع الإشكال الأوّل بجعل المراد من السّنّة معنى يشمل الخبر {فلأنّ البحث في تلك المباحث} - التّعادل، والتّرجيح، والخبر الواحد - {وإن كان عن أحوال السّنّة بهذا المعنى} فيرتفع إشكال خروج المسألتين {إلّا} أنّ أكثر المسائل يبقى خارجاً عن الأصول أيضاً، وذلك ل {أنّ البحث في غير واحد من مسائلها} المهمّة {كمباحث الألفاظ} عامّة {و} كذلك {جملة} من المباحث {من غيرها} كبعض مباحث الأدلّة العقليّة {لا يخصّ الأدلّة} الأربعة، فإنّ البحث عن الأمر، والنّهي، والعام، والخاصّ، والمطلق، والمقيّد، والمجمل، والمبيّن، والمفاهيم، في مبحث الألفاظ، ومبحث الاجتهاد والتّقليد، وبعض أقسام الإجماع، وبعض الأحكام العقليّة في الأدلّة العقليّة، لا يخصّ بالأدلّة الأربعة {بل يعمّ غيرها} فإنّ قولهم: «الأمر ظاهر في الوجوب» - مثلاً - لا يختصّ بالأمر الوارد في الكتاب أو السّنّة، وكذلك البواقي، وأمّا مثل مسألة الاجتهاد والتّقليد فخروجها بديهي.

ص: 33

وإن كان المهمّ معرفة أحوال خصوصها، كما لا يخفى.

ويؤيّد ذلك: تعريف الأصول بأنّه «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكامالشّرعيّة»(1)،

___________________

والحاصل: أنّ أغلب المسائل إمّا أجنبيّة، وإمّا أعمّ {وإن كان المهمّ معرفة أحوال خصوصها} أي: خصوص الأدلّة الأربعة حتّى تكون أعراضاً ذاتيّة، وأمّا العارض بواسطة الأعمّ، فلا يكون عرضاً ذاتيّاً.

وقد تقدّم منّا ما يشير إلى ميزان العَرَض الذّاتيّ ضمناً، وعليه فلا يرد إشكال الأعمّيّة - {كما لا يخفى} - وبما ذكر تبيّن أنّ موضوع الأصول هو الكلّيّ المنطبق على موضوعات مسائله.

تعريف الأصول

{ويؤيّد ذلك} قولهم في {تعريف} علم {الأصول} وبيان حدّه {بأنّه «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشّرعيّة»} وجه التّأييد أنّ «القواعد» جمع محلّى باللّام، فيقتضي العموم، فيكون المستفاد من هذا التّعريف أنّ كلّ مسألة يمكن أن تقع في طريق الاستنباط داخلة في علم الأصول، سواء دوّنت أم لم تدوّن، وسواء كان موضوعها أحد الأدلّة الأربعة أم لم يكن، ومن البديهيّ أنّ بين صدق هذا التّعريف وصدق موضوعيّة الأدلّة الأربعة عموماً من وجه، لإمكان الجمع بينهما في ما إذا كانت مسألةٌ موضوعها أحد الأدلّة وتقع في طريق الاستنباط، وافتراقهما في ما إذا صدق أحدهما بدون الآخر.

وأمّا ما ذكرناه من الموضوع فلا يعقل الافتراق، إذ كلّ مسألة تقع في طريق الاستنباط تكون من صغريات الكلّي المنطبق على موضوعات المسائل. هذا تعريف الأصول على مذاق القوم.

ص: 34


1- قوانين الأصول 1: 5.

وإن كان الأولى تعريفه بأنّه: «صِناعة يعرف بها القواعد الّتي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو الّتي ينتهى إليها في مقام العمل»؛ بناءً على أنّ مسألة حجيّة الظّنّ على الحكومة،

___________________

{وإن كان الأولى تعريفه بأنّه صِناعة يُعرَف بها القواعد الّتي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام} الشّرعيّة الفرعيّة {أو الّتي ينتهي إليها} الفقيه {في مقام العمل} عند يأسه عن الظّفر بالدّليل الاجتهاديّ.

وبيان أولويّة هذا التّعريف يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، وهي: أَنَّ من المسائل المبحوث عنها في علم الأصول حجيّة مطلق الظّنّ المعبّر عنها بدليل الانسداد، ولهذا الدّليل مقدّمات:

الأُولى: وجود العلم الإجمالي بتكاليف كثيرة في الشّريعة المطهّرة.

الثّانية: انسداد باب العلم والعلمي إلى كثير منها.

الثّالثة: عدم جواز إهمال تلك الأحكام.

الرّابعة: عدم وجوب الاحتياط وعدم جواز الرجوع إلى فتوى المجتهد أو الأصول العمليّة.

الخامسة: قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح، وبعد تماميّة المقدّمات يكون الظّنّ في الأحكام الشّرعيّة حجّةً.

فيقال: هل بعد المقدّمات نكشف عن جعل الشّارع الظّنّ حجّةً، أو يستقلّ العقل ويحكم بحجيّته حينئذٍ. وبعبارةٍ أُخرى حجيّة الظّنّ حينئذٍ على الكشف أو على حكومة العقل.

وإذا تمهّدت المقدّمة قلنا: الأولى ما ذكرناه من التّعريف {بناءً علىأنّ مسألة حجيّة الظّنّ على الحكومة} من الأصول؛ لأنّه يخرج هذا المبحث عن التّعريف الأوّل، فيلزم أن لا يكون من مباحث الأصول، إذ لا استنباط للحكم الشّرعيّ حينئذٍ،

ص: 35

ومسائل الأصول العمليّة في الشُّبَهَاتِ الحُكميّة، من الأصول، كما هو كذلك؛ ضرورة

___________________

بخلاف التّعريف الثّاني، فإنّه يشمل هذه المسألة؛ لأنّها ممّا ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل.

أمّا لو قلنا: إنّ مقدّمات الانسداد تنتج حجيّة الظّنّ على الكشف، فلا يخرج المبحث عن التّعريف الأوّل؛ لأنّ المقدّمات كاشفة عن جعل الشّارع الظّنّ حجّة، فيكون هذا المبحث من القواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشّرعيّ.

{و} كذلك يخرج بناءً على التّعريف الأوّل {مسائل الأصول العمليّة في الشّبهات الحكميّة من الأصول} الأصول العمليّةُ عبارة عن البراءة والاحتياط والاستصحاب والتّخيير، والشَّبهة الحكميّة عبارة عمّا كان سبب الشبهة فِقْدان النّصّ أو إجماله أو تعارض النّصّين، والشّبهة الموضوعيّة عبارة عمّا كان سبب الشّبهه فيه الأُمور الخارجيّة.

وبعبارة أُخرى: الشّبهة الّتي نحتاج في رفعها إلى استطراق باب الشّارع هي الشّبهة الحُكميّة، والشّبهة الّتي نحتاج في رفعها إلى استطراق باب اللّغة والعرف هي الشّبهة الموضوعيّة.

إذا عرفت هذا فنقول: وجه تقييد الشّبهات بالحكميّة إشارة إلى كون الجارية منها في الشّبهات الموضوعيّة ليست من المسائل الأصوليّة، بل هي من المسائل الفقهيّة، فخروجها عن تعريف الأصول غير مضرّ، وأمّا وجه خروج هذه المسائل عن تعريف المشهور، فإنّما هو لعدم وقوعها في طريق الاستنباط، بخلاف تعريف المصنّف فهي داخلة فيه، لوضوح أنّ الأصول العمليّة ممّا ينتهي إليهالفقيه في مقام العمل.

فتحصّل أنّ مسألة حجيّة الظّنّ على الحكومة وكذلك مسائل الأصول العمليّة من علم الأصول على تعريف المصنّف {كما هو كذلك} بحسب الواقع{ضرورة}

ص: 36

أنّه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمّات.

الأمر الثّاني: الوضع هو نحو اختصاص اللّفظ بالمعنى وارتباطٍ خاصّ بينهما، ناشٍ من تخصيصه به تارةً،

___________________

بخلاف تعريف القوم، فإنّ هاتين المسألتين خارجتان عنه مع {أنّه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمّات} لاعتماد كثير من الأحكام الفرعيّة الظّاهريّة عليها - كما لا يخفى على من راجع الفقه - وقد أشكل على تعريف المصنّف بما لا مجال لذكره، ولا يذهب عليك أنّه تبيّن من تعريف علم الأصول غايته أيضاً - كما هو شأن تعاريف العلوم - .

[الأمر الثّاني: الوضع وأقسامه]

اشارة

المقدّمة، الوضع وأقسامه

{الأمر الثّاني} في {الوضع} والمشهور أنّه تعيين اللّفظ للدّلالة على المعنى بنفسه، ولا وجه لقول بعضٍ:

إنّ معنى الوضع هو الموضوعيّة، إذ معنى الوضع - كما هو المأخوذ عن اللّغة والعرف - مرادف لقولنا - في الفارسيّة - : (نهادن)، وحيث أشكل على التّعريف المتقدّم بأنّه لا يشمل الوضع التّعيّنيّ عدل المصنّف عنه وعرّف الوضع بأنّه {هو نحو اختصاص اللّفظ بالمعنى} وعلقة {وارتباطٍ خاصٍّ بينهما}.

وأشكل عليه: بأنّ الوضع مصدر - كما تقدّم - فتفسيره بالاختصاص خِلافُ الظّاهر.وأُجيب: بأنّ لفظ المصدر مطلقاً مشترك بينه وبين اسمه. مثلاً (القَتْل) مشترك بين (كشتن و كشتار) و(القول) مشترك بين (گفتن و گفتار) وهكذا، فتأمّل.

ثمّ إنّ (الوضع) على قسمين: الأوّل: ما كان الارتباط بين اللّفظ والمعنى حاصلاً من جعل شخصٍ خاصٍّ اللّفظ بإزاء المعنى فهو {ناشٍ من تخصيصه به} بحيث لولا التّخصيص لم يكن بينهما ارتباط وعلاقة أصلاً. وهذا القسم يُسمّى بالوضع التّعيينيّ، ويكون {تارةً} من اللّه - تعالى - ، وأُخرى من النّاس - كما لا

ص: 37

ومن كثرة استعماله فيه أُخرى، وبهذا المعنى صحّ تقسيمه إلى التّعيينيّ والتّعيّنيّ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ

___________________

يخفى على المتتبّع - .

{و} الثّاني: ما كان الارتباط بين اللّفظ والمعنى حاصلاً {من كثرة استعماله فيه} نحو (تَأَبَّطَ شَرّاً) الّذي صار اسم رجلٍ بالغلبة، و(اِصْمِتْ) الّذي صار اسم وادٍ كذلك، وهذا القسم يُسمّى بالوضع التّعيّني، تارةً والوضع الغلبي {أُخرى} - وسيجيء قسم ثالث للوضع - .

{وبهذا المعنى} الّذي ذكرنا للوضع {صحّ تقسيمه إلى التّعيينيّ والتعيّنيّ} بخلاف المعنى الّذي ذكره المشهور، فإنّه لا يشمل الوضع التّعيّني - كما تقدّم - لكن يمكن أن يقال: إنّ تعريف المشهور شامل للثّاني أيضاً، إذ هو كما يحصل بالدّفعي يحصل بالتّدريجي {كما لا يخفى}.

ثمّ إنّه قد اختلف في هذا المقام في أمرين:

الأوّل: في منشأ الارتباط، وفيه أقوال خمسة: [1] فقال بعض: بأنّه ذاتيّ، [2]وبعض: بأنّه جعليّ، [3] وثالث جعله: بين الذّاتيّة والجعليّة، [4] والرّابع جعله: من لوازم الجعل. [5] وخامس جعله: من الأُمور الاعتباريّة، ولمّا كان الكلام فيها يحتاج إلى بسط خارج عن وضع الشّرح وكّلناه إلى مواضعه المبسوطة.

الثّاني: في تعيين الواضع: [1] فبعضهم قال: بأنّه اللّه - تعالى - ، [2] وآخرون قالوا: بأنّه البشر، [3] وفصّل ثالث فجعل: بعضه من اللّه - تعالى - وبعضه من البشر، وحيث لم يكن هناك دليل تطمئنّ إليه النّفس على أحدها تركنا تفصيلها.

{ثمّ إنّ} الوضع لمّا كان عبارة عن الارتباط بين اللّفظ والمعنى كان على الواضع ملاحظة اللّفظ والمعنى قبل الوضع، فالمعنى المتصوّر قبل الوضع يسمّى

ص: 38

الملحوظ حال الوضع إمّا يكون معنى عامّاً فيوضع اللّفظ له تارةً، ولأفراده ومصاديقه أُخرى، وإمّا يكون معنى خاصّاً

___________________

وضعاً مجازاً، إذ الوضع - كما تقدّم - عبارة عن الارتباط، وتسمية المعنى به وصف باعتبار المتعلّق، واللّفظ يسمّى موضوعاً ومعنى اللّفظ يسمّى موضوعاً له.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ الوضع بحسب التّصوّر العقلي على أقسام أربعة: لأنّ {الملحوظ حال الوضع إمّا يكون معنى عامّاً} وحينئذٍ {فيوضع اللّفظ له} أي: لذلك المعنى العام {تارةً} وهذا هو القسم الأوّل المعبّر عنه بالوضع العام والموضوع له العام. وذلك كوضع لفظ الكلّي بأزاء معناه الكلّي، مثل وضع لفظ (الحَيَوان) بإزاء النّامي المتحرّك بالإرادة.

{و} يوضع اللّفظ {لأفراده ومصاديقه} تارةً {أُخرى} وهذا هو القسم الثّاني المعبّر عنه بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، وذلك كأسماء الإشارة عند بعض. - مثلاً - المعنى الملحوظ عند الوضع هو كلّ مفرد مذكّرمشار إليه، وهذا معنىً كلّيّ عامّ لكن لفظة (هذا) لم يوضع لذاك وإلّا صحّ استعماله وإرادة ذلك المعنى الكلّي، بل إنّما وضع لأفراد هذا الكلّيّ، ومثل أسماءِ الإشارةِ، الحروفُ، والموصولاتُ، والضّمائر، ونحوها.

{وإمّا} أن {يكون} الملحوظ حال الوضع {معنى خاصّاً} وجزئيّاً حقيقيّاً وهذا أيضاً قسمان:

الأوّل: أن يوضع اللّفظ لذلك المعنى الخاصّ، وهذا هو القسم الثّالث المعبّر عنه بالوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، وذلك كالأعلام الشّخصيّة، فإنّ المعنى الملحوظ حين الوضع هو الشّخص الخاصّ، ووضع لفظ (زيد) - مثلاً - بإزائه.

الثّاني: أن يوضع اللّفظ لِمَعْنىً أعمّ من ذلك الخاصّ الملحوظ، وهذا هو القسم الرّابع المعبّر عنه بالوضع الخاصّ والموضوع له العام، وذلك مثل ما لو رأى

ص: 39

لا يكاد يصحّ إلّا وضعُ اللّفظ له دون العام؛ فتكون الأقسام ثلاثة؛ وذلك لأنّ العامّ يصلحُ لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك، فإنّه من وجوهها، ومعرفةُ وجهِ الشَّيْءِ معرفته بوجه، بخلاف الخاصّ فإنّه

___________________

شَبَحاً من بعيد، فيضع لفظ الحَيَوان - مثلاً - لجامعه القريب، فإنّ المعنى الملحوظ حال الوضع هو الشَّبَحُ المتحرّك، ووضع لفظ الحَيَوان بإزاء الأعمّ منه.

ثمّ إنّ هذا كلّه بحسب التّصوّر، وأمّا بحسب الإمكان العقلي ففيه قولان:

فبعضهم قال: بإمكان الأربعة، وبعضهم قال: بعدم إمكان القسم الرّابع، وهذا مختار المصنّف ولهذا قال: {لا يكاد يصحّ} إذا كان الملحوظ معنى خاصّاً {إلّا وضع اللّفظ له} فقط {دون} أن يوضع للمعنى {العام} وعلى هذا {فيكون الأقسام ثلاثةٌ} لا أربعة.

{و} حيث كان هنا مَظِنَّةُ سؤال الفرق بين القسم الرّابع والقسم الثّاني بأنيقال: كيف جوّزتم الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ولم تجوّزوا الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ، مع أنّ الوضع لو أمكن لغير المعنى المتصوّر جاز فيهما، ولو لم يكن لم يجز فيهما؟ بيّن الفرق بأنّ {ذلك} القسم الثّاني إنّما يجوز {لأنّ} المعنى {العام} الملحوظ حين الوضع {يصلح لأن يكون} مِرْآةً و{آلةً للحاظ أفراده ومصاديقه} لكونه كلّيّاً والكلّيّ {بما هو كذلك} عين الأفراد، فلحاظه لحاظ الأفراد كما هو شأن سائر المتّحدين، فيمكن الوضع للأفراد حين لحاظ العامّ {فإنّه من وجوهها}.

وإذا ثبتت المقدّمتان - الأولى: أنّ العامّ وجه الأفراد. {و} الثّانية: أنّ {معرفة وجه الشّيء} وصورته هي: عرفانُهُ إجمالاً و{معرفتُهُ بوجهٍ} مّا - ثبت المطلوب، وهو كفاية لحاظ العامّ في وضع اللّفظ للأفراد، وهذا {بخلاف} القسم الرّابع أي: الوضع {الخاصّ} والموضوع له العامّ {فإنّه} مع قطع النّظر عن لحاظ العامّ الّذي

ص: 40

- بما هو خاصّ - لا يكون وجهاً للعامّ، ولا لسائر الأفراد؛ فلا يكون معرفته وتصوّره معرفةً له، ولا لها أصلاً ولو بوجه.

نعم، ربّما يوجب تصوّره تصوّر العام بنفسه،

___________________

في ضمنه، بل {بما هو خاصّ} ومحدود {لا} يمكن أن {يكون وجهاً للعامّ، و} مرآةً له، حتّى يتصوّر الخاصّ ويوضع للعامّ، كما أنّه {لا} يكون مِرْآةً {لسائر الأفراد} المشخّصة {فلا يكون معرفته} أي: الخاصّ {وتصوّره} بما هو خاصّ ومحدود {معرفةً له} أي: للعامّ {ولا لها} أي: لسائر الأفراد.والحاصل: أنّه لا يكون تصوّر الجزئيّ موجباً لمعرفة الجزئيّ ولا الكلّيّ {أصلاً ولو بوجه} مّا، كما لا يخفى.

هذا هو الّذي ادّعاه المصنّف من الفرق بين القسمين.

وفيه: أوّلاً: أنّ العامّ لمّا كان متّحداً مع الأفراد - كما هو المفروض، لكونه كليّاً طبيعيّاً - كان معرفة الفرد معرفته كما أنّ معرفته معرفة الفرد، فكما أنّ لحاظ العامّ كافٍ في الوضع للخاصّ كذلك لحاظ الخاصّ كافٍ في الوضع للعامّ، إذ المفروض فناء كلّ منهما في الآخر.

وثانياً: أنّه لا يعقل الوضع للخاصّ من دون لحاظه منحازاً عن لحاظ العامّ، فإنّ إرادة الوضع للأفراد عبارة عن لحاظ الأفراد بعد لحاظ العامّ، كما أنّ إرادة الوضع للعام عبارة عن لحاظ الفرد.

والحاصل: أنّ هذين القسمين في الاستحالة - من دون لحاظ ثانوي والإمكان معه - سواء، ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من الجوابين طوليّ لا عرضي.

هذا ولمّا فرغ المصنّف من بيان الفرق شرع في بيان وجه اشتباه من لم يفرق بينهما بقوله: {نعم، ربّما يوجب تصوّره} أي: الخاصّ {تصوّر العام بنفسه} وبما هو هو بأن ينتقل الذّهن من الخاصّ إلى العامّ اتّفاقاً، أو لكون المتصوّر مريداً لتصوّر

ص: 41

فيوضع له اللّفظ، فيكون الوضعُ عامّاً كما كان الموضوع له عامّاً. وهذا بخلاف ما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فإنّ الموضوع له - وهي الأفراد - لا يكون متصوّراً إلّا بوجهه وعنوانه - وهو العامّ - وفرقٌ واضح بين تصوّر الشّيء بوجهه، وتصوّره بنفسه ولو كان بسبب تصوّرِ أمرٍ آخر.ولعلّ خَفَاء ذلك على بعض الأعلام(1)، وعدم تمييزه بينهما، كان موجباً لتوهّم إمكان ثبوت قسم رابع وهو أن يكون الوضع خاصّاً مع كون الموضوع له عامّاً،

___________________

جميع الخَصُوصيّات ومنها العامّ {فيوضع له} أي: للعامّ المتصوّر {اللّفظ} وعلى هذا {فيكون الوضع} أي: المعنى المتصوّر حينه {عامّاً، كما كان الموضوع له عامّاً} لكن تصوّر الخاصّ صار سبباً لتصوّر العامّ، بخلاف الوضع العامّ والموضوع له العامّ - الّذي تقدّم سابقاً - فإنّ تصوّر العامّ كان ابتدائيّاً.

{وهذا} الّذي ذكرناه من أنّ العامّ متصوّر بنفسه وإن كان منشأ تصوّره الخاصّ {بخلاف ما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فإنّ الموضوع له} في هذا القسم - {وهي الأفراد - لا يكون متصوّراً} للواضع بتصوّر تفصيليّ ثانوي، فإنّه لم يتصوّر {إلّا بوجهه وعنوانه - و} الوجه المتصوّر {هو العام - وفرق واضح بين تصوّر الشّيء بوجهه} كما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ {و} بين {تصوّره بنفسه و} بما هو هو، كما {لو} كان الوضع عامّاً والموضوع له عامّاً، سواء {كان} تصوّر العامّ ابتداءً، أو {بسبب تصوّر أمر آخر} كالخاصّ الّذي يكون سبباً لتصوّر العامّ.

{ولعلّ خَفَاء ذلك} الفرق {على بعض الأعلام} أي: الحاج ميرزا حبيب اللّه الرّشتي(قدس سره) {وعدم تمييزه بينهما} أي: بين القسم الثّاني والرّابع، أي: بين ما إذا كان العامّ متصوّراًابتداءً، أو بواسطة الخاصّ {كان موجباً لتوهّم إمكان ثبوت قسم رابع، وهو أن يكون الوضع خاصّاً مع كون الموضوع له عامّاً} وقد بيّنّا عدم الفرق وخفائه

ص: 42


1- بدائع الأفكار: 40.

مع أنّه واضح لمن كان له أدنى تأمّل.

ثمّ إنّه لا ريب في ثبوت الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، كوضع الأعلام، وكذا الوضع العامّ والموضوع له العامّ، كوضع أسماء الأجناس.

وأمّا الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فقد توهّم(1) أنّه وضع الحروف وما أُلحق بها من الأسماء.

___________________

عليه(قدس سره) {مع أنّه واضح لمن كان له أدنى تأمّل} واللّه العالم.

{ثمّ} إنّ هذا كلّه بحسب الإمكان العقلي، وأمّا بحسب الوقوع الخارجي فنقول: {إنّه لا ريب في ثبوت} القسم الثّالث، أعني: {الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ} وذلك {كوضع الأعلام} الشّخصيّة، فإنّ المعنى المتصوّر حين الوضع جزئيّ حقيقيّ، واللّفظ موضوع بإِزاء ذلك المعنى الجزئيّ.

{وكذا} لا ريب في ثبوت القسم الأوّل، أعني: {الوضع العامّ والموضوع له العامّ} وذلك {كوضع أسماء الأجناس} فإنّ المعنى المتصوّر حين الوضع كلّيّ، واللّفظ موضوع بإِزاء ذلك المعنى، وقد تقدّم استحالة القسم الرّابع، أعني: الوضع الخاص والموضوع له العامّ، على رأي المصنّف، فلا مجال للكلام في وقوعه.

المعنى الحرفي

{وأمّا} القسم الثّاني، أعني: {الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ} ففي وقوعه خلاف {فقد توهّم أنّه وضع الحروف و} كذا {ما أُلحق بها من الأسماء} المبهمة كأسماء الإشارة والموصولات الاسميّة ونحوها، فالواضع - مثلاً - لاحظ كلّيّ المفرد المذكّر المشار إليه لكن وضع لفظة (هذا) بإزاء الأفراد، وكذلك لاحظ كلّيّ الابتداء ووضع لفظة (من) بإزاء جزئيّاته، وهذا القول ذهب إليه المحقّق الشّريف

ص: 43


1- الفصول الغرويّة: 16.

كما توهّم(1)

أيضاً أنّ المستعمل فيه فيها خاصّ مع كون الموضوع له كالوضع عامّاً.

___________________

وجماعة {كما توهّم أيضاً أنّ المستعمل فيه فيها} أي: في الحروف والمبهمات {خاصّ} للخَصوصيّة النّاشئة من الاستعمال {مع كون الموضوع له كالوضع عامّاً} فالواضع لاحظ كلّيّ الابتداء - مثلاً - ووضع لفظة (من) لذلك المعنى الكلّي، لكن حين الاستعمال يكون خاصّاً لخصوص الإشارة الّتي هي من شؤون الاستعمال، وهذا القول منسوب إلى التّفتازانيّ وجماعة.

وتوضيح الكلام في المقام يحتاج إلى بيان أمرين: الأوّل: في كيفيّة وضع الحروف، والثّاني: في امتياز معاني الحروف عن معاني الأسماء.

أمّا الأوّل: فنقول: ذهب جمع إلى أنّ الوضع والموضوع له في الحروف عامّان والمستعمل فيه خاصّ.

وحيث أشكل عليهم بلزوم المجاز بلا حقيقة، إذ الموضوع له لو كان عامّاًواستعمل في الخاصّ كان من باب استعمال الجزء في الكلّ.

ذهب آخرون إلى أنّ الوضع عامّ والموضوع له والمستعمل فيه خاصّان حتّى لا يلزم المجاز بلا حقيقة.

وحيث ورد عليهم الإشكالات الآتية عدل آخرون وقالوا بأنّ الوضع والموضوع له والمستعمل فيه كلّها عامّة، فلا يلزم المحذور المتقدّم.

وأشكل عليه بأنّ المستعمل فيه لو كان عامّاً لزم المجاز أيضاً، إذ المراد منها الأشخاص فلو استعمل لفظة (هذا) - مثلاً - في كلّيّ المفرد المذكّر المشار إليه، فإن أُريد منه الكلّيّ لم يكن خارجيّاً وإن أُريد الخارجي لزم المجازيّة أيضاً. وردّ بأنّ الجزئيّة إنّما تكون من ناحية الإشارة الخارجيّة لا من ناحية الموضوع له أو المستعمل فيه، فكما أنّ (الرّجل) - مثلاً - موضوع لمعنى عام، والخَصوصيّة إنّما

ص: 44


1- الفصول الغرويّة: 16.

والتّحقيق: - حسب ما يؤدّي إليه النّظُر الدّقيقُ - أنّ حال المستعمل فيه والموضوع له فيها

___________________

تكون من ناحية الإشارة كذلك لفظة (هذا) فالخَصوصيّة لا دخل لها بالموضوع له والمستعمل فيه، وإنّما هي من باب تعدّد الدّالّ والمدلول.

وأمّا الثّاني: فنقول: الأقوال فيه ثلاثة:

الأوّل: أنّه لا فرق بين مفهوم الأسماء والحروف أصلاً، لا في الوضع ولا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه، والآليّة والاستقلاليّة لا تكونان جزء المعنى أصلاً، وإنّما ذلك بحسب شرط الواضع، بأن يستعمل لفظ (الابتداء) - مثلاً - كلّما أُريد المعنى المستقلّ ولفظة (من) كلّما أُريد غيره، وقد يحكى هذا القولعن نجم الأئمّة(1).

الثّاني: أنّه لا معنى للحروف أصلاً، بل هي علامة لإرادة المعنى الخاصّ من مدخولها، فيكون حالها حال الإعراب، فكما أنّ الرّفع في (زيد) في قولك: (جاءني زيد) علامة أنّه أُريد من كلمة (زيد) المسند إليه، كذلك كلمة (في) من قولك: (زيد في الدّار) علامة أنّه أُريد من كلمة (الدّار) الأينيّة لا العينيّة.

الثّالث: الفرق بين مفاهيم الأسماء والحروف، وبيان ذلك: أنّ الوجود، إمّا استقلاليّ وهو ما كان موجوداً لنفسه وفي نفسه، كالجوهر، وإمّا رابطيّ وهو ما كان موجوداً في نفسه لغيره، كالأعراض بالنّسبة إلى موضوعاتها، وإمّا رابط وهو ما يتوقّف وجوده على وجود الطّرفين، بحيث لولاهما لم يوجد لا في الذّهن ولا في الخارج، فمفهوم الأسماء من قبيل الأوّلين، ومفهوم الحروف من قبيل الثّالث، وأمّا الأفعال فهي حرفيّة الهيئة اسميّة المادّة.

{والتّحقيق حسب ما يؤدّي إليه النّظر الدّقيق} في كيفيّة وضع الحروف ونحوها عند المصنّف {أنّ حال المستعمل فيه والموضوع له فيها} أي: في الحروف وسائر

ص: 45


1- شرح كافية ابن الحاجب 1: 37.

حالُهما في الأسماء؛ وذلك لأنّ الخَصوصيّة المتوهّمة إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصّص بها جزئيّاً خارجيّاً، فمن الواضح أنّ كثيراً مّا لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك، بل كلّيّاً؛ ولذا التجأ بعضُ الفحول(1)

إلى جعله

___________________

المبهمات مثل {حالهما في الأسماء} فالوضع، والموضوع له، والمستعمل فيه، فيها عامّ كأسماء الأجناس.

{وذلك لأنّ الخَصوصيّة المتوهّمة} جزءاً للمعنى الموضوع له أو للمستعمل فيه - الّتي بسببها صار المعنى جزئيّاً - {إن كانت هي} الجزئيّة الخارجيّة، بأن وضع الواضع اللّفظ بإِزاء المعنى الخارجيّ، أو بإزاء المعنى المطلق لكن في حال الاستعمال يقيّد بالخارج، وبعبارة أُخرى: إن كانت الخَصوصيّة {الموجبة لكون المعنى المتخصّص بها جزئيّاً} أمراً {خارجيّاً} لا ذهنيّاً، بأن تكون كلمة (من) - مثلاً - موضوعة للابتداء المقيّد بكونه من نقطة معيّنة - مثلاً - {فمن الواضح} بطلانُهُ، إذ من البديهيّ {أنّ كثيراً ما لا يكون المستعمل فيه، فيها} أي: في الحروف ونحوها {كذلك} جزئيّاً خارجيّاً، فقول المولى لعبده: (كُنْ عَلَى السَّطْح) لا يريد نقطة خاصّة من السّطح، وكذا في غيره من الحروف الواقعة تلو الأوامر والنَّواهي، ولو كان المستعمل فيه خاصّاً لخَصوصيّة الموضوع له أو كليهما لم يحصل الامتثال إلّا في نفس ذلك الخاصّ، مع أنّا نرى أنّ المستعمل فيه لا يكون خاصّاً وجزئيّاً {بل كلّيّاً} يصحّ انطباقه على جزئيّات كثيرة، ويحصل الامتثال بكلّ جزئيّ منه.

{ولذا} الّذي ذكرنا من كلّيّة المعنى {التجأ بعض الفحول(2)} في فصوله {إلى جعله}

ص: 46


1- الفصول الغرويّة: 16.
2- هو العلّامة الأصولي الشّيخ محمّد حسين بن محمّد رحيم الإصفهاني، المتوفّى 1254، له آثار قيّمة أشهرها الفصول، الّذي قيل في حقّه: فصول الشّيخ في كُتُبِ الأصول*** بمنزلة الرّبيع من الفُصُول

جزئيّاً إضافيّاً، وهو كما ترى.

وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئيّاًذهنيّاً - حيث إنّه لا يكاد يكون المعنى حرفيّاً إلّا إذا لوحظ حالةً لمعنىً آخَرَ ومن خصوصيّاته القائمة به، ويكون حاله كحال العرض، فكما لا يكونُ في الخارج إلّا في الموضوع، كذلك هو لا يكونُ في الذّهن إلّا في مفهوم آخر؛

___________________

أي: جعل معنى الحرف وسائر المبهمات {جزئيّاً إضافيّاً، وهو} ما يكون فوقه كلّيّ أوسع، ولم يجعله جزئيّاً شخصيّاً - مثلاً - كلمة (من) في قولنا: (سِرْ من البصرة) مستعملة في جزئيّات الابتداء الحاصلة من البصرة لا من جميع العالم، لكن هذا الكلام {كما ترى} غير صحيح، إذ الجزئيّ الإضافيّ كلّيّ، فلا يفيد كلامه كون الموضوع له خاصّاً.

هذا كلّه على تقدير كون الخَصوصيّة الموجبة لجزئيّة المعنى خارجيّاً {وإن كانت} الخَصوصيّة المتوهّمة الّتي كانت {هي الموجبة لكونه جزئيّاً} أمراً {ذهنيّاً} بأن تكون كلمة (من) - مثلاً - موضوعة للابتداء الملحوظ في الذّهن، فهنا مقامان:

الأوّل: في وجه كون الجزئيّة بسبب اللّحاظ الذّهني.

والثّاني: في بطلان كون الموضوع له خاصّاً، لكونه جزئيّاً ذهنيّاً.

أمّا وجه الأوّل: {حيث إنّه لا يكاد يكون المعنى حرفيّاً} وآليّاً {إلّا إذا لُوْحِظَ حالةً لمعنىً آخر} ومبيّناً له {ومن خصوصيّاته القائمة به} كما تقدّم من أنّ كلمة (في) من خصوصيّات (الدّار) ومبيّنة لأينيّتها {و} حينئذٍ {يكون} الحرف {حاله} في الذّهن {كحال العرض} في الخارج {فكما لا يكون} العرض ولا يوجد {في الخارج إلّا في الموضوع} الخارجيّ {كذلك هو} أي: المعنى الحرفيّ {لايكون في الذّهن إلّا في مفهوم آخر} وحالةً له.

ص: 47

ولذا قيل في تعريفه بأنّه: «ما دلّ على معنىً في غيره»(1) - فالمعنى وإن كان لا محالة يصير جزئيّاً بهذا اللّحاظ، بحيث يباينه إذا لوحظ ثانياً كما لوحظ أوّلاً، ولو كان اللّاحظُ واحداً، إلّا أنّ هذا اللّحاظ لا يكاد يكون مأخوذاً في المستعمل فيه، وإلّا فلا بدّ من لحاظ آخر متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللّحاظ؛ بداهة أنّ تصوّر المستعمل فيه ممّا لا بدّ منه في استعمال الألفاظ،

___________________

{ولذا} الّذي ذكرنا من كون الحرف حالةً لغيره {قيل في تعريفه بأنّه: «ما دلّ على معنىً في غيره»} ذهناً، كالعرض في موضوعه خارجاً، وعلى هذا {فالمعنى} الحرفي {وإن كان لا محالة يصير جزئيّاً} وكان جزئيّته {بهذا اللِّحاظ} الذّهني {بحيث يباينه} أي: يباين المعنَى الملحوظَ أوّلاً المعنى {إذا لوحظ ثانياً، كما لوحظ أوّلاً، ولو كان اللّاحظ واحداً} والحاصل: أنّ اللّحاظ ولو كان سبباً لجزئيّة المعنى لو أخذ فيه {إلّا أنّ} أخذ {هذا اللّحاظ} جزءاً للمعنى باطل، وهذا هو المقام الثّاني الّذي تقدّمت الإشارة إليه.

والبطلان من وجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّه {لا يكاد يكون} اللّحاظ الذّهني جزء المعنى و{مأخوذاً في المستعمل فيه} بحيث يكون المعنى الحرفيّ مركّباً من أصل المعنى ولحاظه {وإلّا} فلو كان المعنى مركّباً {فلا بدّ}للمستعمل {من لحاظ آخر} حين الاستعمال {متعلّق} بلحاظه الأوّل و{بما هو ملحوظ بهذا اللّحاظ} وهو أصل المعنى، فيلزم اجتماع لحاظين في كلّ استعمال: اللّحاظ الأوّل جزء المعنى، واللّحاظ الثّاني لأجل الاستعمال {بداهة أنّ تصوّر} المعنى {المستعمل فيه ممّا لا بدّ منه في استعمال الألفاظ} وحينئذٍ فإن كان اللّحاظ الثّاني عين اللّحاظ الأوّل لَزِمَ الدّور، إذ اللّحاظ الثّاني متوقّف على المعنى، والمعنى متوقّف على اللّحاظ الثّاني،

ص: 48


1- شرح كافية ابن الحاجب 1: 30.

وهو كما ترى.

مع أنّه يلزم أن لا يصدق على الخارجيّات؛ لامتناع صدق الكلّيّ العقلي عليها، حيث لا موطن له إلّا الذّهن، فامتنع امتثال مثل: (سِرْ من البصرة)، إلّا بالتّجريد وإلغاء الخصوصيّة، هذا.

مع أنّه ليس لحاظ المعنى حالةً لغيره في الحروف إلّا كلحاظه في نفسه في الأسماء،

___________________

وإن كان اللّحاظ الثّاني غير الأوّل، لزم تعدّد اللّحاظ في كلّ استعمال {وهو كما ترى} تكلّف من غير ضرورة {مع} أنّه خلاف البديهة، إذ المستعمل للحروف لا يلحظ إلّا مرّة واحدة كالمستعمل للأسماء من غير فرق.

الثّاني: {أنّه يلزم} على تقدير كون اللّحاظ جزءاً لمعنى الحرف {أن لا يصدق على الخارجيّات} إذ المعنى المقيّد باللّحاظ ذهنيّ، والذّهني لا يصدق على الخارجيّات {لامتناع صدق الكلّي العقلي} أي: الأمر العقلي {عليها حيث، لا موطن له} أي: للأمر العقلي {إلّا الذّهن} وعلى هذا {فامتنع} على العبد {امتثال مثل (سِرْ من البصرة)} من الأوامر والنّواهي الّتي تضمّنت حرفاً أو اسماً مبهماً، إذ الأمر المقيّد بالذّهن يمتنع إيجاده فيالخارج {إلّا بالتّجريد} عن اللّحاظ الذّهني {وإلغاء الخصوصيّة} الذّهنيّة المأخوذة في المعنى، فيكون الاستعمال مجازاً دائماً، لكونه من استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء.

وحاصل الكلام أنّ أحد الأمرين لازم: إِمّا عدم إمكان الامتثال، وهو باطل ضرورة. وإِمّا المجازيّة وهي تحتاج إلى عناية في الاستعمال، مع أنّ الاستعمالات العرفيّة ليست بتلك العناية قطعاً، وإذا بطل اللّازم بطل كون اللّحاظ جزءاً وهو المطلوب.

و{هذا} الإشكال {مع} الإشكال الأوّل جوابان حلّاً. ثمّ إنّ هنا جواباً آخر نقضيّاً وهو الثّالث من وجوه البطلان، وتقريبه: {أنّه ليس لحاظ المعنى حالةً لغيره في الحروف إلّا كلحاظه في نفسه في الأسماء} فإنّ الواضع والمستعمل يلحظان المعنى

ص: 49

وكما لا يكون هذا اللّحاظ معتبراً في المستعمل فيه فيها، كذلك ذاك اللّحاظ في الحروف، كما لا يخفى.

وبالجملة: ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ (الابتداء) - مثلاً - إلّا الابتداء؛ فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلّاً، كذلك لا يعتبر في معناها لحاظهُ في غيرها وآلةً، وكما لا يكون لحاظه فيه موجباً لجزئيّته فليكن كذلك فيها.

___________________

حين الوضع والاستعمال {وكما لا يكون هذا اللّحاظ} الذّهنيّ الاستقلالي من الواضع والمستعمل {معتبراً في المستعمل فيه، فيها} أي: في الأسماء حتّى يكون سبباً لجزئيّة المعنى {كذلك} لا يكون {ذاك اللّحاظ} الذّهني الآليّ من الواضعوالمستعمل معتبراً في المستعمل فيه {في الحروف} حتّى يكون سبباً لجزئيّة المعنى {كما لا يخفى}.

والحاصل: أنّ لحاظ المعنى لو كان سبباً لجزئيّته لزم أحد الأمرين: إمّا القول بجزئيّة معنى الاسم والحرف كليهما، مع أنّهم لا يقولون بجزئيّة المعنى الاسمي، وإمّا القول بعدم دخل اللّحاظ في المعنى أصلاً حتّى في الحرف - كما هو المطلوب - .

{وبالجملة ليس المعنى في كلمة (من)} الابتدائيّة {و} في {لفظ (الابتداء) - مثلاً - إلّا} شيئاً واحداً، وهو: مفهوم {الابتداء} مجرّداً من غير تقييد باللّحاظ في الأوّل {فكما لا يعتبر في معناه} الاسمي {لحاظه في نفسه ومستقلّاً} بحيث يكون اللّحاظ دخيلاً في المعنى {كذلك لا يعتبر في معناها} أي: معنى كلمة (من) الحرفي {لحاظه في غيرها وآلةً} بحيث يكون اللّحاظ جزءاً للمعنى {وكما لا يكون لحاظه فيه} أي: لحاظ الاستقلال في لفظ (الابتداء) {موجباً لجزئيّته} أي: لجزئيّة المعنى {فليكن} لحاظ الآليّة في لفظة من {كذلك} غير موجب لجزئيّة المعنى {فيها} أي: في كلمة (من).

ص: 50

إن قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى،

___________________

وحيث فرغ المصنّف من بيان كيفيّة وضع الحروف شرع في المقام الثّاني وهو بيان أنّه هل يكون امتياز بين المعنى الحرفي والاسمي، أم لا؟ فنقول: ذهب بعض محقّقي المتأخّرين إلى تمييز الأسماء من الحروف تمييزاً ذاتيّاً، فالمعاني الحرفيّة بهويّاتها وماهيّاتها مباينة لمعاني الأسماء، وأنّ قِوام المعنى الحرفي يكون بأُمورأربعة:

الأوّل: أن يكون المعنى إيجاديّاً بمعنى توقّفه على الاستعمال ووجوده به، كالهيئة والرّبط، لا إخطاريّاً بمعنى خطور المعنى بالبال بمجرّد التّلفّظ، بدون أن يذكر في طيّ تركيب من التّراكيب، كالمعنى الاسمي.

الثّاني: أن يكون المعنى قائماً بغيره لا بنفسه، بخلاف الأسماء فإنّها تدلّ على معاني تحت مفهومها.

الثّالث: أن لا يكون للمعنى موطن غير الاستعمال لا ذهناً ولا خارجاً، بخلاف الأسماء، فإنّ معانيها موجودة ذهناً أو خارجاً استعمل أم لم يستعمل.

الرّابع: أن يكون المعنى حين إيجاده مغفولاً عنه غير متوجّه إليه، كالصّور العلميّة حين التّوجّه إلى ذي الصّورة، وكنفس اللّفظ حين الاستعمال.

أمّا المصنّف(قدس سره) فقد ذهب إلى عدم الفرق بين المعاني الاسميّة والحرفيّة أصلاً، كما ذهب إلى عدم الفرق بين وضعهما.

{إن قلت: على هذا} الّذي ذكرتم - من عدم مدخليّة اللّحاظ الذّهني في المعنى الحرفي، كعدم مدخليّته في المعنى الاسميّ - {لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى}.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الإشكال خلط بين مبحثين:

فالبحث الأوّل: عن مدخليّة اللّحاظ في المعنى الحرفي.

ص: 51

ولزم كونُ مثل كلمة (من) ولفظ (الابتداء) مترادفين، صحّ استعمالُ كلّ منهما في موضع الآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطلٌ بالضَّرورة، كما هو واضح.

قلت: الفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كُلٍّ منهما بوضعٍ، حيث إنّه وُضِعَ الاسم

___________________

والبحث الثّاني: في اختلاف المعنى الحرفي والاسمي في الآليّة والاستقلاليّة وعدمه. ومعلوم أن لا مدخليّة لأحدهما بالآخر، إذ بين البحثين عموم من وجه، فلكلّ ممّن اختار في المبحث الأوّل شيئاً أن يختار في المبحث الثّاني شيئاً، من غير تلازم بين الاختيارين، لكن المصنّف حيث قصد الاختصار أورد المبحث الثّاني بهذه الصّورة.

{و} على كلٍّ فإنّه {لزم} من عدم الفرق {كون مثل كلمة (من) ولفظ (الابتداء) مترافين} من جميع الجهات و{صحّ استعمالُ كُلِّ} واحدٍ {منهما في موضع الآخر} فيقول: (سر ابتداء بغداد انتهاء الكوفة) كما يصحّ (سر من بغداد إلى الكوفة) وكذلك العكس، فيقول: (مِنْ خيرٌ مِنْ إلى) - من دون نقلٍ إلى المعنى الاسميّ - كما يصحّ قولك: (الابتداء خير من الانتهاء).

{وهكذا} يكون حال {سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها} كالانتهاء و(إلى) والاستعلاء و(على) {وهو} أي: اللّازم المذكور {باطل بالضّرورة} من لسان العرب، فالملزوم باطل مثله {كما هو واضح} لمن له اطّلاع باللّسان.

{قلت}: نعم، لا فرق بينهما من حيث أخذ اللّحاظ، ولا من حيث الامتياز الوضعيّ، بل {الفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كلّ منهما بوضعٍ} خاصٍّ به، فوضع لفظ (الابتداء) لمفهوم الابتداء مرّةً، ووضع لفظة (من) لذلك المفهوم أُخرى {حيث إنّه وضع الاسم} لمجرّد مفهوم الابتداء مثلاً، لكن كان داعي الواضع

ص: 52

لِيُرَاد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف لِيُرَادَ منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره - كما مرّت الإشارة إليه غير مرّة - .فالاختلافُ بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر،

___________________

حين الوضع {ليراد منه معناه} استقلالاً {بما هو هو وفي نفسه} من غير نظر إلى الغير حين استعماله.

{و} وضع {الحرف} لمجرّد مفهوم الابتداء - مثلاً - أيضاً لكن كان داعي الواضع حين الوضع {ليراد منه معناه} أيضاً {لا كذلك، بل} آلةً و{بما هو حالة لغيره} ويكشف عن هذا الدّاعي اختلاف الاستعمال مع وضوح وحدة المعنى، إذ كما يفهم الابتداء من لفظ (الابتداء) يفهم من لفظة (من) ولو كانت مجرّدة، وإنكاره مكابرة، والرّواية المرويّة(1)

لا تدلّ على أزيد من الاختلاف، وهو كما يحصل بما ذكروه يحصل بما ذكرنا.

نعم، كون الاختلاف بينهما ناشئاً من اختلاف الدّاعي، أو بشرط الواضع، أو بإنشاء جديد منه، أو لغلبة الاستعمال غير معلوم، وإن كان ظاهر عبارة المصنّف مشعراً بالأوّل {كما مرّت الإشارة إليه غير مرّة} وبالنّتيجة {فالاختلاف بين} معنى {الاسم و} معنى {الحرف} في اختلاف الدّاعي {في الوضع يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر} بل قد يستعمل كما في «أُلاَمُ عَلَى لَوٍّ»(2)

وفي «ليت يقولها المحزون»(3) ونحوهما، ولاداعي إلى ما تكلّفه النّحاة من التّوجيهات،

ص: 53


1- هي ما رواها الزّجّاجيّ في أماليه مسنداً عن أمير المؤمنين(علیه السلام) أنّه قال: «الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أنبأ عن معنًى ليس باسم ولا فعل».
2- بعض من بيت وتمامه: أُلاَمُ على لوٍّ وإن كنتُ عالماً ***بأذناب لَوٍّ لم تَفُتْني أوائِلُهُ
3- بعض من بيت قاله أبوطالب بن عبدالمطّلب وتمامه: ليت شعري مسافر بن أبي عم*** رو وليت يقولها المحزونُ

وإن اتّفقا في ما له الوضع. وقد عرفت - بما لا مزيد عليه - : أنّ نحو إرادة المعنى لا يكادُ يمكنُ أن يكون من خصوصيّاته ومقوّماته.

ثمّ لا يبعد أن يكون الاختلافُ في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك،

___________________

وعلى تقدير التّسليم، فهو لاختلاف الدّاعي {وإن اتفقا في ما له الوضع} أي: في المعنى الموضوع له.

{وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّ نحو إرادة المعنى} وكونه استقلاليّاً أو آليّاً {لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصيّاته ومقوّماته} المأخوذة فيه. فلا اختلاف بين المعنى الحرفي والاسمي من حيث أخذ اللّحاظ، كما لا اختلاف بينهما من حيث الوضع - كما تقدّم - .

الخبر والإنشاء

{ثمّ} لا يخفى أنّ الجمل على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الجمل الخبريّة الّتي لا يمكن استعمالها في الإنشاء، نحو (ضرب زيد عمرواً) و(زيد قائم).

الثّاني: الجمل الإنشائيّة الّتي لا يمكن استعمالها في الخبر، نحو (اضرب زيداً) و(ليت زيداً قائم).

الثّالث: الجمل الّتي تستعمل تارةً في الإنشاء وتارةً في الخبر، نحو (أيّده اللّه) و(بعت) و(أنكحت) ونحوها.أمّا الأوّلان فلا خلاف في تغايرهما، لبداهة عدم استعمال أحدهما في مقام الآخر، نعم {لا يبعد أن يكون الاختلاف في} القسم الثّالث بين {الخبر والإنشاء} بالقصد، وبينهما اشتراك معنوي والجامع هو نسبة المحمول إلى الموضوع، كنسبة البيع إلى المتكلّم في (بعت) وعليه فالاختلاف بينهما مثل اختلاف الاسم والحرف {أيضاً} كما أنّ الجامع بينهما {كذلك} وقد ذهب إلى هذا المعنى جماعة

ص: 54

فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والإنشاء ليستعمل في قصد تحقّقه وثبوته، وإن اتّفقا في ما استعملا فيه، فتأمّل.

ثمّ إنّه

___________________

من شرّاح البيان، وعلى هذا {فيكون الخبر موضوعاً} لمعنى نسبة المحمول إلى الموضوع لكن {ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه} ماضياً أو مستقبلاً أو حالاً خارجاً أو ذهناً {و} يكون {الإنشاء} موضوعاً لذلك المعنى بعينه لكن {ليستعمل في قصد تحقّقه} ووجوده {وثبوته} بنفس هذا الاستعمال، فاختلفا من هذه الحيثيّة {وإن اتفقا في ما} وضعا له و{استعملا فيه} كما لا يخفى {فتأمّل} حتّى لا يرد أنّه يجب الاتّفاق بينهما في المعنى ولم قال المصنّف: «لا يبعد»؟

{ثمّ} إنّ هنا كلاماً له مسيس بما نحن فيه لا يخلو عن فائدة، وهو {أنّه} قد اشتهر في ما بين القوم أنّ الخبر هو المحتمل للصّدق والكذب، والإنشاء لا يحتملهما، وفيه إشكال مشهور أورده التّفتازانيّ في المطوّل وأجاب عنه بما لايغني(1).

ولقد أجاد بعض الأعلام في الإفصاح عنهما، وهذه عبارته تقريباً: قد ظنّ بعض أنّ بعض الإنشاءات توصف بالصّدق والكذب، كما لو استفهم شخص عن شيء يعلمه، أو سأل الغني سؤال الفقير، أو تمنّى إنسان شيئاً هو واجد له، فإنّ هؤلاء نرميهم بالكذب، وفي عين الوقت نقول للمستفهم الجاهل والسّائل الفقير والمتمنّى الفاقد اليائس أنّهم صادقون، ومن المعلوم أنّ الاستفهام والطّلب بالسّؤال والتّمنّي من أقسام الإنشاء، ولكنّا إذا دقّقنا هذه الأمثلة وأشباهها يرتفع هذا الظّنّ؛ لأنّنا نجد أنّ الاستفهام الحقيقي لا يكون إلّا عن جهل، والسّؤال لا يكون إلّا عن حاجة، والتّمنّي لا يكون إلّا عن فقدان ويأس، فهذه الإنشاءات تدلّ

ص: 55


1- المطوّل: 38.

قد انقدح ممّا حقّقناه أنّه يمكن أن يقال: إنّ المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة والضّمائر أيضاً عام، وإنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها، حيث إنّ أسماء الإشارة وُضِعَت ليشار بها إلى معانيها، وكذا بعضُ الضّمائر، وبعضُها ليخاطب بها المعنى، والإشارة والتّخاطب يستدعيان التشخّص، كما لا يخفى.

___________________

بالدلالة الالتزاميّة على الإخبار عن الجهل أو الحاجة أو اليأس، فيكون الخبر المدلول عليه بالالتزام هو الموصوف بالصّدق أو الكذب، لا ذات الإنشاء(1).

أقول: ويشهد لما ذكره أنّهم يقولون للغني المستعطي (يكذب لأنّ له مالاً)، فيعلّلون كذبه بوجدانه المال، فالتكذيب يرجع إليه لا إلى الإنشاء وهكذا غيره.و{قد انقدح ممّا حقّقناه} من عدم الفرق بين الاسم وبين الحرف وأخواته في الموضوع له {أنّه يمكن أن يقال: إنّ المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة والضّمائر} وسائر المبهمات {أيضاً عامّ} كما كان الموضوع له عامّاً {وإنّ تشخّصه} الّذي يشاهد حين الاستعمال {إنّما نشأ من قبل طور استعمالها} من دون كونه جزء الموضوع له أو المستعمل فيه.

والحاصل: أنّ اللّفظ وضع لمعنىً عامٍّ، واستعمل في ذلك المعنى العامّ أيضاً والتّشخّص إنّما يفهم من دالّ آخر. بيان ذلك: {حيث إنّ أسماء الإشارة} مثلاً {وضعت ليشار بها إلى معانيها} الكليّة، كما وضع (هذا) لأن يشار به إلى المفرد المذكّر {وكذا} وضع {بعض الضّمائر} - كضمائر الغائب - ليشار بها إلى العين الغائبة السّابقة ذكرها {وبعضها} الآخر - كضمائر المخاطب - وضع {ليخاطب بها المعنى} المراد، وبعضها الثّالث ليتكلّم بها {والإشارة والتّخاطب يستدعيان التّشخّص} في المشار إليه والمخاطب، كما أنّ التّكلّم كذلك، وذلك لأنّ الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد {كما لا يخفى} على من لاحظ معنى الوجود.

ص: 56


1- المنطق: 153.

فدعوى: أنّ المستعمل فيه في مثل: (هذا)، و(هو)، و(إيّاك)، إنّما هو المفرد المذكّر، وتشخّصه إنّما جاء من قبل الإشارة، أو التّخاطب بهذه الألفاظ إليه؛ فإنّ الإشارة أو التّخاطب لا يكاد يكونُ إلّا إلى الشّخص أو معه، غير مجازفة.

فتلخّص ممّا حقّقناه: أنّ التّشخّص النّاشئُ من قبل الاستعمالات لا يوجب تشخّص المستعمل فيه، سواء كان

___________________

وعلى هذا {فدعوى أنّ} الموضوع له و{المستعمل فيه في مثل (هذا) و(هو) و(إيّاك)} و(أنا) {إنّما هو المفرد المذكّر} فقط أو غيره: كما في ضمير المتكلّم {وتشخّصه} الموجود حين الاستعمال {إنّما جاء من قبل الإشارة أو التّخاطب} أو التّكلّم {بهذه الألفاظ} حال كون المتكلّم متوجّهاً {إليه} أي: إلى المستعمل فيه {فإنّ الإشارة أو التّخاطب} أو التّكلّم {لا يكاد يكون إلّا إلى الشّخص} في الإشارة والتّكلّم {أو معه} في التّخاطب.

والحاصل: أنّ دعوى ذلك {غير مجازفة} وإن لم يقم عليه برهان يلزم ذلك، وبهذا تبيّن معنى قولهم: «إنّ الغيبة والخطاب والتّكلّم من معاني الحروف» وذلك لما تقدّم من أنّها معان نسبيّة؛ لأنّها إشارات إلى المغايب والمخاطب ونفس المتكلّم. نعم، أخذ هذه الإشارة في المعنى حتّى يكون جزئيّاً لا دليل عليه.

إن قلت: فلم بنيت الأسماء الموضوعة لها إن لم تكن ألفاظها متضمّنة لهذه الإشارة؟

قلت: أصل كون البناء في الاسم سببه الشّباهة بالحرف، ممّا لم يقم عليه دليل، وهذه علل بعد الوقوع - كما لا يخفى - .

{فتلخّص ممّا حقّقناه} في معنى الحرف وسائر المبهمات {أنّ التّشخّص النّاشئ من قبل الاستعمالات} إنّما هو بدليل خارج عن مقام اللّفظ والمعنى، وذلك {لا يوجب تشخّص المستعمل فيه} حتّى يكون معنى جزئيّاً {سواء كان} التّشخّص النّاشئ عن

ص: 57

تشخّصاً خارجيّاً - كما في مثل أسماء الإشارة - أو ذهنيّاً - كما في أسماء الأجناس والحروف ونحوهما - ، من غير فرقٍفي ذلك أصلاً بين الحروف وأسماء الأجناس.

ولعمري هذا واضح؛

ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصّاً في الحروف عين ولا أثر، وإنّما ذهب إليه بعض من تأخّر، ولعلّه لتوهّم كون قصده

___________________

مقام الاستعمال {تشخّصاً خارجيّاً} ناشئاً من الإشارة الخارجيّة {كما في مثل أسماء الإشارة} خلافاً لمن جعل الإشارة الخارجيّة جزء معناها {أو} كان التّشخّص الاستعمالي {ذهنيّاً} ناشئاً من الإشارة الذّهنيّة {كما في أسماء الأجناس} خلافاً لمن جعل الإشارة الذّهنيّة دخيلاً فيها حين الاستعمال، فقال بأنّ (الرّجل) - مثلاً - إشارة إلى الحقيقة المعهودة من بين الحقائق الذّهنيّة، والإشارة إليه عبارة عن توجّه النّفس نحوه.

{و} كذا قيل في {الحروف} والموصولات {ونحوهما} من المبهمات كما تقدّم التّفصيل، وبما ذكرناه تبيّن عدم صحّة ذلك كلّه {من غير فرق في ذلك أصلاً بين الحروف وأسماء الأجناس} - كما لا يخفى - .

{ولعمري هذا} الّذي ذكرناه من عدم أخذ الخصوصيّة في المعنى {واضح} لمن تدبّر {ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصّاً} في المبهمات أو {في الحروف عين} يدلّ بالمطابقة {ولا أثر} يدلّ بالالتزام على ذلك {وإنّما ذهب إليه بعض من تأخّر}كما تقدّم نقله عن السّيّد الشّريف والمحقّق التّفتازانيّ وجماعة(1).

{ولعلّه} أي: لعلّ ذهاب هؤلاء إلى خصوصيّة أحدهما {لتوهّم كون قصده} أي:

ص: 58


1- الفصول الغرويّة: 16.

بما هو في غيره من خصوصيّات الموضوع له أو المستعمل فيه، والغفلةِ عن أنّ قصد المعنى من لفظه على أنحائه لا يكادُ يكونُ من شؤونه وأطواره، وإلّا فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك، فتأمّل في المقام، فإنّه دقيق وقد زلّ فيه أقدام غير واحد من أهل التّحقيق والتّدقيق.

الثّالث:

___________________

قصد المعنى {بما هو في غيره} وآلة {من خصوصيّات الموضوع له} فيكون خاصّاً ويتبعه خاصيّة المستعمل فيه {أو} من خصوصيّات {المستعمل فيه} وحده {و} قد وقعت {الغفلة} منهم {عن أنّ قصد المعنى من لفظه على أنحائه} من الآليّة والاستقلاليّة {لا يكاد يكون من شؤونه} أي: شؤون المعنى {وأطواره} الدّخيلة {وإلّا} فلو كان قصد المعنى آليّاً دخيلاً في المعنى الحرفي حتّى صار بسببه جزئيّاً {فليكن قصده} استقلالاً و{بما هو هو وفي نفسه كذلك} دخيلاً في المعنى الاسمي حتّى يكون جزئيّاً أيضاً {فتأمّل في المقام فإنّه دقيق وقد زلّ فيه أقدام غير واحد من أهل التّحقيق والتّدقيق} ولا يذهب عليك أنّه لا ثمرة لهذا النّزاع غير تقوية القوّة الفكريّة - واللّه المستعان - .

[الأمر الثّالث: استعمال اللفظ في ما يناسب معناه]

المقدّمة، استعمال اللفظ في ما يناسب معناه

الأمر }الثّالث{ في كيفيّة المجاز وأنّه هل هو بالوضع أو بالطّبع؟ فنقول: للوضع طرفان - كما تقدّم - : الأوّل: الموضوع له، أي: المعنى، وقد تقدّم الكلام في أقسامه الأربعة، الثّاني: الموضوع، أي: اللّفظ والأقسام العقلي له أربعة: لأنّه إمّا أن يَلْحَظَ الواضع المادّة والهيئة معاً، وذلك كوضع الأعلام الشّخصيّة وكثير من الأسماء، فإنّ الواضع لاحظ (زاي، ياء، دال) ولاحظ التّرتيب والفتح ثمّ السّكون. ثمّ وضع لفظ (زيد) لذلك الشّخص الخاصّ.

وإمّا أن يلحظ المادّة فقط من دون ملاحظة الهيئة وذلك كوضع موادّ المشتقّات

ص: 59

صحّة استعمال اللّفظ في ما يناسب ما وضع له هل هي بالوضع أو بالطّبع؟

وجهان، بل قولان(1)،

أظهرهما أنّها بالطّبع؛ بشهادة الوِجْدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع مَنْعِ الواضع عنه،

___________________

عامّة - مثلاً - لَحَظَ الواضع (ض، ر، ب) ووضع هذا المادّة للإيلام الخاصّ من دون ملاحظة هيئة خاصّة، ولهذا يفيد «الضّرب» هذا المعنى سواء كان في هيئة (فعل) أو (يفعل) أو (فاعل) أو غيرها من الهيئات الموضوعة.

وإمّا أن يلحظ الهيئة من دون ملاحظة مادّة وذلك كوضع هيئات المشتقّات مطلقاً - مثلاً - لَحَظَ الواضع هيئة (فعل) ووضع هذه الهيئة للمنقضي عنه المبدأ، من دون ملاحظة مادّة خاصّة، ولهذا تفيد هيئة (فَعلَ) انقضاء المبدأ سواء كانت في مادّة (ق ت ل) أو (ض ر ب) أو غيرهما من الموادّ الموضوعة.

وإمّا أن لا يكون شيئاً منهما ملحوظاً، وذلك كوضع المجاز على قولٍ - مثلاً - :رخّص الواضع استعمال الألفاظ الموضوعة في غير معانيها، لكن بشرط المناسبة الطّبعيّة أو العلائق، وذلك من دون ملاحظة مادّة ولا هيئة.

وبتقسيم آخر: الوضع إمّا نوعيّ أو شخصيّ، والنّوعي هو الرّابع، والشّخصي على ثلاثة أقسام: وضع الهيئة بدون المادّة، والعكس، ووضع كليهما.

وعلى كلّ فقد اختلف في أنّ {صحّة استعمال اللّفظ في ما يناسب ما وضع له هل هي بالوضع} كما هو مذهب جماعة {أو بالطّبع} كما ذهب إليه آخرون؟ {وجهان} محتملان {بل قولان} أشهرهما الأوّل و{أظهرهما} الثّاني، وقد أقام بعض الأفاضل على {أنّها بالطبع} لا بالوضع أدلّة أربعة: أقواها عدم الدّليل على ذلك، لكن المصنّف اكتفى {بشهادة الوِجْدان} السّليم عن الشُّبُهات {بحسن الاستعمال فيه} أي: في المعنى غير الحقيقي إذا كانت هناك مناسبة {ولو مع منع الواضع عنه} كما

ص: 60


1- قوانين الأصول 1: 64؛ الفصول الغرويّة: 25.

وباستهجان الاستعمال في ما لا يناسبه ولو مع ترخيصه، ولا معنى لصحّته إلّا حسنه. والظّاهرُ أنّ صحّة استعمال اللّفظ في نوعه أو مثله من قبيله. كما تأتي الإشارة إلى تفصيله.

___________________

نرى بالبديهة حسن استعمال لفظ (زيد) العلم في شبيهه، ولو مع منع والد (زيد) الواضع عن هذا الاستعمال، ولو كانت الصّحّة بسبب وضعه لما صحّ.

{و} كذلك يشهد الوِجْدان في عكس ذلك {باستهجان الاستعمال في ما} إذا كان المعنى غير الحقيقي {لا يناسبه} كما نرى من قبح استعمال لفظ (القلب) في الإنسان {ولومع ترخيصه} أي: ترخيص الواضع بجواز استعمال لفظ الجزء في الكلّ، إذا كان الجزء من الأجزاء الرّئيسية الّتي ينتفي الكلّ بانتفائها ولو كانت الصّحّة منوطة بإجازته لم يقبح - كما لا يخفى - .

فتلخّص أنّ ما ذكره البيانيّون من أقسام العلائق، وأنّ المجاز بوضع الواضع لا يرجع إلى محصّل {و} أنّه {لا معنى لصحّته إلّا حسنه} طبعاً لا جوازه وضعاً {و} يشده لما ذكر من أنّ المناسبة طبعيّة لا وضعيّة أنّ {الظّاهر أنّ صحّة استعمال اللّفظ في نوعه} نحو (ضارب اسم فاعل) إذا أُريد منه كلّ ما كان على هيئة فاعل من هذه المادّة {أو} استعمال اللّفظ في {مثله} نحو (زيد - في ضرب زيد - فاعلٌ) إذا أُريد منه شخص القول {من قبيله} أي: من قبيل استعمال اللّفظ في ما يناسبه، للارتباط الوجوديّ التّكوينيّ بين اللّفظ ومماثله، لا أنّ ذلك بسبب العلاقة.

والحاصل: صحّة هذا الاستعمال مع عدم وضع حقيقيّ ولا نوعي، يشهد بما ذكرناه من أنّ الاستعمال المجازيّ طبعيّ لا وضعي، لكن إنّ كون هذا شاهداً مناف لكونه من صغريات تلك الكبرى الكليّة المتقدّمة، ويأتي أنّ هذا الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجاز {كما} هو واضح. هذا إجمال استعمال اللّفظ في اللّفظ و{يأتي الإشارة إلى تفصيله} في الأمر الرّابع إن شاء اللّه - تعالى - . ثمّ إنّه بما ذكره المصنّف من طبعيّة المجاز ينحلّ بعض ما أورد على الاستعمالات المجازيّة.

ص: 61

الرّابع: لا شبهة في صحّة إطلاق اللّفظ وإرادة نوعه به، كما إذا قيل: (ضرب - مثلاً - فعلُ ماضٍ)؛ أو صنفه، كما إذا قيل: (زيدٌ - في ضَرْبَ زيد - فاعل)

___________________

[الأمر الرّابع: إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه]

الأمر {الرّابع} في استعمال اللّفظ في اللّفظ، لا يخفى أنّ استعمال اللّفظ على قسمين:

الأوّل: استعمال اللّفظ في المعنى، وهذا ينقسم إلى الحقيقة والمجاز.

الثّاني: استعمال اللّفظ في اللّفظ، وهذا على أربعة أقسام؛ لأنّه إمّا أن يستعمل اللّفظ في نوعه، وإمّا في صنفه، وإمّا في مثله، وإمّا في شخصه، كما يأتي هذا بالنّسبة إلى الإمكان في مقام التّصوّر، وأمّا الإمكان بالنّسبة إلى الوقوع الخارجي، فنقول: {لا شبهة في صحّة إطلاق اللّفظ وإرادة نوعه} الشّامل لكلّ فرد من الأفراد حتّى نفس الملفوظ {به} أي: باللّفظ {كما إذا قيل}: (زيد اسم) فلفظ (زيد) استعمل في كلّ فردٍ من أفراد (زيد) المستعملة في كلّ موضعٍ، من غير فرق بين الواقع منه مبتدءاً، أو فاعلاً، أو نائباً، أو مضافاً إليه، أو غيرها، حتّى أنّه يشمل نفس الملفوظ في هذا التّركيب الواقع مبتدءاً.

وأمّا ما مثّل المصنّف(رحمة

الله) من قولنا: {ضَرَبَ} فعل ماضٍ {مثلاً}، فلفظ (ضَرَبَ) وإن استعمل في كلّ {فعل ماضٍ} من هذه المادّة سواء كان فعلاً لفاعل {أو} خبراً لمبتدء، لكنّه لا يشمل (ضَرَبَ) في هذا التّركيب، لكونه منسلخاً عن الفعليّة، لوقوعه مبتدءاً، وهذا القسم صحيح عقلاً واقع في الاستعمالات، كما أنّ إطلاق اللّفظ وإرادة {صنفه} كذلك {كما إذا قيل: (زيد - في ضَرَبَ زيدٌ - فاعلٌ)} فلفظ (زيد) استعمل في كلّ فرد من أفراد زيد المستعملة في كلّ موضع وقع (زيد) فاعلاً لفعل ضرب.

ومن المعلوم أنّ (زيداً) في هذا أخصّ من (زيد) في القسم الأوّل، وصنف من أصنافه، لكن إنّما يكون اللّفظ مستعملاً في نوعه في القسم الأوّل، وفي صنفهفي

ص: 62

إذا لم يقصد به شخص القول؛ أو مثله ك (ضرب) في المثال في ما إذا قُصِدَ.

وقد أشرنا إلى أنّ صحّة الإطلاق كذلك وحُسْنُهُ إنّما كان بالطّبع، لا بالوضع، وإلّا كانت المهملات موضوعةً لذلك؛ لصحّة الإطلاق كذلك فيها. والالتزامُ بوضعها لذلك كما ترى.

___________________

المقدّمة، إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه

القسم الثّاني {إذا لم يقصد به شخص القول} الصّادر من المتكلّم في حال التّلفّظ، إذ لو أُريد الشَّخْصُ من القسم الأوّل كان من القسم الرّابع الآتي، ولو أُريد من القسم الثّاني كان من القسم الثّالث {أو} من القسم الرّابع - كما لا يخفى - .

وكذا يصحّ استعمال اللّفظ وإرادة {مثله} كما إذا قيل: (زيد في ضرب زيد فاعل) وأُريد من (زيد) الأوّل شخص (زيد) المستعمل في الجملة لا جميع أفراد (زيد) ولا جميع أفراد (زيد) الفاعل، وقول المصنّف: {ك (ضَرَبَ) في المثال} سهو، وعلى كلٍّ فقولنا: (زيد - في ضرب زيد - فاعل) مثال للقسم الثّاني، إذا لم يقصد به شخص القول، وللقسم الثّالث {في ما إذا قصد} - كما بيّنّاه - .

{وقد أشرنا} في الأمر الثّالث {إلى أنّ صحّة الإطلاق كذلك، وحُسْنُهُ} أي: إطلاق اللّفظ وإرادة النّوع أو المثل {إنّما كان بالطّبع لا بالوضع} فحيث ما عدّه الطّبع حسناً جاز وإن لم يُجِزْه الواضِعُ {وإلّا} فلو لم يكن هذا الإطلاق بالطّبع {كانت المهملات موضوعةً لذلك} النّوع أو الصّنف أو المثل {لصحّة الإطلاق كذلك} على الثّلاثة {فيها} أي: في المهملات {والالتزام بوضعها لذلك} المستعمل فيه {كما ترى}بديهيّ البطلان.

والحاصل: أنّ هنا أمرين: الأوّل: في كون هذا الاستعمال بالطّبع أو بالوضع، الثّاني: في أنّه حقيقة أو مجاز.

أمّا الأوّل: فالظّاهر أنّه بالطّبع لا بالوضع - كما تقدّم في الأمر الثّالث - على أنّه لو كان بالوضع لزم وضع المهملات، والتّالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: أنّ المهملات قد تستعمل في النّوع والصّنف والمثل نحو: (جسق

ص: 63

وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه - كما إذا قيل: (زيد لفظ)، وأُريد منه شخصُ نفسه - ففي صحّته بدون تأويلٍ نظرٌ؛ لاستلزامه اتّحاد الدّالّ والمدلول، أو تركّب القضيّة من جُزْأَينِ كما في الفصول(1).

___________________

مهمل) و(جسق) في (جسق غير موضوع) مهمل، ولو كان الاستعمال في أحدها وضعاً لزم وضع جسق، وأمّا بيان بطلان التّالي: فلأنّه خلف، إذ المفروض كونها مهملات، فالقول بوضعها محال.

وأمّا الثّاني: فالظّاهر أنّ هذا الاستعمال ليس بحقيقةٍ ولا مجاز، أمّا أنّه ليس بحقيقةٍ، فلعدم وضع اللّفظ مشتركاً بين معناه اللّغويّ وبين نفس لفظه، ولم يدّع ذاك أحد، وأمّا أنّه ليس بمجاز، فلعدم المناسبة بين المعنى واللّفظ حتّى يستعمل اللّفظ الموضوع للمعنى في اللّفظ، فتأمّل.

وأيضاً صحّة هذا الاستعمال في المهملات - كما تقدّم - مع عدم معنى حقيقيّ لها تنفي المجازيّة.

هذا تمام الكلام في ما إذا أطلق اللّفظ وأُريد نوعه أو صنفه أو مثله.{وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه} أي: شخص اللّفظ وذلك {كما إذا قيل: (زيد لفظ) وأُريد منه} أي: من (زيد) الواقع في هذا التّركيب مبتدءاً {شخص نفسه} من دون نظر إلى (زيد) آخر يحكى هذا المبتدأ عنه {ففي صحّته} أي: صحّة هذا الإطلاق {بدون} ارتكاب {تأويل} مجوّز له {نظر} وذلك {لاستلزامه} - أي: استلزام إطلاق اللّفظ وإرادة شخصه - أحد الأمرين: إمّا {اتّحاد الدّالّ والمدلول} وهو غير معقول {أو تركّب القضيّة من جزأين}: المحمول والرّابط بدون الموضوع، وذلك خلف {كما} تقرّر في محلّه.

وهذا الإشكال أورده {في الفصول} على القسم الرّابع، وإن كان اتّحاد الدّالّ

ص: 64


1- الفصول الغرويّة: 22.

بيان ذلك: أنّه إن اعتبر دلالته على نفسه - حينئذٍ - لزم الاتّحاد، وإلّا لزم تركّبها من جزأين؛ لأنّ القضيّة اللّفظيّة على هذا إنّما تكون حاكيةً عن المحمول والنّسبة، لا الموضوع، فتكون القضيّة المحكيّة بها مركّبة من جزأين، مع امتناع التّركّب إلّا مِن الثّلاثة؛ ضرورة استحالة ثبوت النّسبة بدون المنتسبَيْنِ.

قلت: يمكنُ أن يقال: إنّه يكفى تعدّد الدّالّ والمدلول اعتباراً، وإن اتّحدا ذاتاً؛

___________________

والمدلول وارداً على القسمين الأوّلين أيضاً على تقدير أن يشمل اللّفظ نفس شخصه و{بيان} ورود {ذلك} الإشكال على القسم الرّابع {أنّه إن اعتبر دلالته} أي: دلالة لفظ (زيد) {على نفسه} بأن يكون دالّاً ومدلولاً {حينئذٍ} أي: حين إرادة شخصه {لزم} الشِقّ الأوّل منالإشكال وهو {الاتّحاد} بين الدّالّ والمدلول. {وإلّا} يعتبر دلالة اللّفظ على نفسه {لزم} الشِقّ الثّاني من الإشكال وهو {تركّبها} أي: تركّب القضيّة {من جزأين}: المحمول والرّابط {لأنّ القضيّة اللّفظيّة على هذا} التّقدير - أي: عدم دلالة اللّفظ على نفسه - وإن كانت مركّبة من الموضوع والمحمول والنّسبة لفظاً، لكنّها {إنّما تكون حاكية عن المحمول والنّسبة} فقط و{لا} تحكي عن {الموضوع} لفرض عدم المدلول له، وعليه {فتكون القضيّة} المعقولة {المحكيّة بها} أي: المحكيّة بالقضيّة اللّفظيّة {مركّبة من جزأين}: المحمول والرّابط {مع امتناع التّركّب إلّا من} الأجزاء {الثّلاثة}: الموضوع والمحمول والنّسبة، إذ التّركّب من جزءين غير معقول {ضرورة استحالة ثبوت النّسبة بدون المنتسبين}، إذ النّسبة من الأُمور الإضافيّة، ولا يعقل إلّا بين المضاف والمضاف إليه، هذا حاصل إشكال الفصول على القسم الرّابع.

{قلت}: لكن {يمكن} أن يدفع الإشكال على كلا التّقديرين، فنختار أوّلاً دلالة اللّفظ على نفسه، وما أورده(قدس سره) من لزوم اتّحاد الدّالّ والمدلول غير وارد، إذ يمكن {أن يقال: إنّه يكفي تعدّد الدّالّ والمدلول اعتباراً، وإن اتّحدا ذاتاً} إذ المتضايفان

ص: 65

فمن حيث إنّه لفظ صادرٌ عن لافظه كان دالّاً، ومن حيث إنّ نفسه وشخصه مراده كان مدلولاً.

مع أنّ حديث تركّب القضيّة من جزأين - لولا اعتبار الدّلالة في البين - إنّما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه، وإلّا كان أجزاؤها الثّلاثة تامّةً، وكان المحمول فيهامنتسباً

___________________

على قسمين:

الأوّل: ما كان أحدهما مضادّاً للآخر كالعلّة والمعلول، وفي هذا لا بدّ من التّعدّد الذّاتي، ولا يعقل كفاية التّعدّد الاعتباري مع الاتّحاد الذّاتيّ.

الثّاني: ما ليس كذلك فيكفي فيه تعدّد الاعتبار، وما نحن فيه من هذا القبيل {فمن حيث إنّه لفظ صادر عن لافظه كان دالّاً} ومنشأً لأخطار نفسه في ذهن السّامع فهو مُخْطِر - بالكسر - {ومن حيث إنّ نفسه وشخصه مراده كان مدلولاً} ومُخْطَراً - بالفتح - فيكون هو الموضوع للقضيّة المعقولة.

والحاصل: أنّ الدّلالة من قبيل العالميّة والمعلوميّة والمعالجيّة والمعالجيّة ممّا يمكن اجتماعهما في ذات واحدة، وفي الدّعاء: «يا مَنْ دَلَّ على ذاتِهِ بذاتِهِ»(1).

هذا كلّه على تقدير اختيار الشِّقّ الأوّل {مع أنّ} لنا أن نختار الشِّقّ الثّاني وهو عدم دلاله اللّفظ على نفسه، وما أورده(قدس سره) عن {حديث تركّب القضيّة من جُزْأيْنِ} على هذا التّقدير غير وارد، إذ المحذور {لولا اعتبار الدّلالة في البين - إنّما يلزم إذا لم يكن} للموضوع وجود عينيّ خارجيّ، لكن {الموضوع} هنا له وجود كذلك وهو {نفس شخصه} أي: شخص (زيد) الموجود بالحروف فلا محذور.

والحاصل: أنّ تركّب القضيّة من جزءين إنّما يلزم إذا لم يكن له موضوع لا ذهناً ولا لفظاً ولا خارجاً {وإلّا} فلو كان له موضوع خارجيّ {كان أجزاؤها الثّلاثة تامّةً} وذلك كما لو ضَرَبَ الجِدارَ بيدهوقال: (ضَرَبَ) فإنّه قضيّة موضوعها خارجيّ {وكان المحمول} اللّفظيّ {فيها منتسباً} إلى ضَرْبِ الجِدارِ الخارجيّ، كما

ص: 66


1- بحار الأنوار 84: 339؛ دعاء الصّباح.

إلى شخص اللّفظ ونفسه، غاية الأمر أنّه نفس الموضوع لا الحاكي عنه فافهم، فإنّه لا يخلو عن دقّة.

وعلى هذا ليس من باب استعمال اللّفظ بشيء.

بل يمكن أن يقال: إنّه ليس أيضاً من هذا الباب ما إذا أُطلق اللّفظ وأُريد به نوعه أو صنفه؛ فإنّه فرده

___________________

أنّ المحمول في ما نحن فيه في قولنا: (زيد اسم) منتسب {إلى شخص اللّفظ ونفسه} ولا محذور فيه أصلاً {غاية الأمر أنّه} أي: الموضوع في هذه القضيّة {نفس الموضوع} الخارجيّ {لا الحاكي عنه} فهل مثل: (ضرب الجدار) المتقدّم ليس مثل الإنسان في قولنا: (الإنسان حيوان)؟ {فافهم} ذلك {فإنّه لا يخلو عن دقّة} وبهذا يعرف أنّ الإشارة إلى الشّيءِ خارجاً والحملِ عليه لفظاً من هذا القبيل.

{وعلى هذا} الّذي ذكرنا من كون المراد بالموضوع نفسه لا لفظه الحاكي عنه {ليس} الموضوع في هذه القضيّة {من باب استعمال اللّفظ بشيءٍ} إذ الاستعمال عبارة عن: إطلاق اللّفظ على المعنى بحيث يكون اللّفظ حاكياً والمعنى محكياً، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل، بل من قبيل (ضَرَبَ الجِدار) المتقدّم. هذا في استعمال اللّفظ في شخصه.

{بل يمكن أن يقال:} مثل هذا في الأقسام المتقدّمة، وحاصله {إنّه ليس أيضاً من هذا الباب} أي: باباستعمال اللّفظ في المعنى {ما إذا أُطلق اللّفظ وأُريد به نوعه أو صِنْفُهُ} بل هو من باب جعل الأمر الخارجيّ موضوعاً، ك (ضرب الجدار)، لكن ينبغي تقييده بما إذا لم يخرج النّوع عن النّوعيّة.

وأمّا إذا خرج نحو: (ضَرَبَ فِعْلٌ) فإنّ (ضَرَبَ) في المثال خرج عن النّوعيّة؛ لأنّ نوعه الفعل وهذا اسم لوقوعه مبتدءاً، فلا يكون من قبيل (ضَرَبَ الجِدار)، فتأمّل {فإنّه} أي: اللّفظ المحكوم عليه بالنّسبة إلى النّوع والصّنف {فرده} الخارجي

ص: 67

ومصداقه حقيقةً، لا لفظه وذاك معناه، كي يكون مستعملاً فيه استعمال اللّفظ في المعنى، فيكون اللّفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجاً، قد أحضر في ذهنه بلا وساطةِ حاكٍ، وقد حكم عليه ابتداءً بدون واسطة أصلاً، لا لفظه - كما لا يخفى - فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنىً، بل فرد قد حكم في القضيّة عليه بما هو مصداق لكلّيّ اللّفظ، لا بما هو خصوص جزئيّه.

___________________

{ومصداقه حقيقةً} ف (زيد) في قولنا: (زيد اسم) مصداق زيد الكلّيّ {لا لفظه} الدّال {وذاك} الكلّي مدلوله و{معناه} حتّى تكون هذه القضيّة من قبيل سائر القضايا اللّفظيّة {كي يكون} لفظ الموضوع {مستعملاً فيه} نحو {استعمال اللّفظ في المعنى} وعلى ما ذكرنا مِن أنّ هذه القضيّة من قبيل (ضَرَبَ الجِدار) {فيكون اللّفظ} الواقع موضوعاً {نفس الموضوع} الخارجيّ {المُلْقَى إلى المخاطب خارجاً} كما لو اغترف من الماءغُرْفَةً، وقال: (ماء) فهذا مِصْداق الماء الخارجيّ المُلْقَى إلى المخاطب محكوماً عليه بقوله: (ماء) و{قد أحضر في ذهنه} هذا الموضوع {بلا وَسَاطَةِ} لفظٍ {حاكٍ} عنه {وقد حكم عليه ابتداءً بدون واسطة أصلاً}.

والحاصل: أنّ هذه القضيّة مركّبة خارجيّة الموضوع لفظيّة المحمول، فلفظ (زيد) نفس الموضوع {لا لفظه} الحاكي عنه {كما لا يخفى} على المتأمّل {فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنىً، بل} الموضوع {فرد} من أفراد النّوع أو الصّنف {قد حكم في} هذه {القضيّة عليه} لا بما هو حاكٍ عن الكلّيّ، بل {بما هو مصداق لكلّيّ اللّفظ} كما يحكم بالمائيّة على الغَرْفة بما هي مصداقٌ لكلّيّ الماء {لا بما هو خصوص جزئيّه} حتّى يكون الحكم مقصوراً على هذا الفرد الواقع موضوعاً، من دون تعدٍّ إلى سائر أفراد الكلّي، فتحصّل من جميع ذلك أنّ استعمال اللّفظ في نوعه وصنفه وشخصه ليس من قبيل الاستعمال الاصطلاحيّ.

ص: 68

نعم، في ما إذا أُريد به فرد آخر مثله، كان من قبيل استعمال اللّفظ في المعنى.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ لفظ (ضرب) وإن كان فرداً له، إلّا أنّه إذا قصد به حكايته وجعل عنواناً له ومرآته، كان لفظه المستعمل فيه، وكان حينئذٍ كما إذا قصد به فرد مثله.

___________________

{نعم} في القسم الثّالث وهو {في ما إذا أُريد به} أي: باللّفظ الموضوع {فرد آخر مثله} كما تقدّم من نحو قولنا: (زيد - في ضَرَبَ زيدٌ - فاعل) {كان من قبيل استعمال اللّفظ فيالمعنى} إذ (زيد) الأوّل استعمل في (زيد) الثّاني، وحيث كان المستعمل فيه أيضاً لفظاً قال: «من قبيل استعمال اللّفظ» ولم يقل: «من استعمال اللّفظ».

{اللّهمّ إلّا أن يقال} في تقريب كون استعمال اللّفظ في نوعه وصنفه من باب استعمال اللّفظ في المعنى - لا من باب جعل الأمر الخارجي موضوعاً - بما حاصله {إنّ لفظ (ضَرَبَ)} المجعول موضوعاً مراداً به النّوع في قولنا: (ضَرَبَ فعل)(1) {وإن كان فرداً له} أي: للكلّيّ، ويصحّ إرادة المصداق منه، كما مثّلنا من غَرْفَةِ الماء.

{إلّا أنّه إذا قصد به} بلفظ (ضَرَبَ) {حكايته} حكاية الكلّي {وجعل} هذا اللّفظ {عُنْواناً له} أي: للكلّي {ومرآته كان} لفظ (ضَرَبَ) في المثال {لفظه} أي: لفظَ الكلّيّ الدّالّ عليه، والكلّي {المستعمل فيه} معناه {وكان} لفظ (ضرب) الموضوع {حينئذٍ} مستعملاً في الكلّي، فيكون مثل سائر القضايا المتعارفة {كما إذا قصد به فرد مثله} الّذي تقدّم أنّه من باب استعمال اللّفظ في المعنى.

فتبيّن أنّ استعمال اللّفظ في مثله من باب الاستعمال في المعنى، والأقسام الثّلاثة الباقية يمكن أن تكون كذلك، كما يمكن أن تكون من باب (ضَرَبَ الجِدار) المتقدّم.

ص: 69


1- تقدّم الإشكال في مثال (ضرب فعل).

وبالجملة: فإذا أُطلق وأُريد به نوعه - كما إذا أُريد به فرد مثله - كان من باب استعمال اللّفظ في المعنى، وإن كان فرداً منه وقد حكم في القضيّة بما يعمّه. وإن أطلق ليحكم عليه بما هو فرد كلّيه ومصداقه - لا بما هو لفظه وبه حكايته فليس من هذا الباب.

لكنّ الإطلاقات المتعارفة ظاهراً ليست كذلك، كما لا يخفى، وفيها ما لا يكاد يصحّ أن يراد منه ذلك،

___________________

{وبالجملة فإذا أطلق} اللّفظ {وأُريد به نوعه} أو صنفه { - كما إذا أُريد به فرد مثله - كان} كلّ واحد من هذه الأقسام {من باب استعمال اللّفظ في المعنى} فالموضوع اللّفظيّ حاكٍ عن الموضوع العقليّ {و} هذا يصحّ و{إن كان} الموضوع في القضيّة {فرداً منه} أي: من ذلك النّوع أو الصّنف {وقد حكم في القضيّة بما يعمّه} فيشمله وغيره، فإنّ قولنا: (زيد لفظ) صحيح، وإن جعلنا (زيداً) مِرْآةً لأفراده، وكان الحكم المحمول عليه بأنّه لفظ يعمّ (زيداً) الموضوع وغيره.

{و} أمّا {إن أطلق} اللّفظ وأُريد به نوعه أو صنفه لكن {ليحكم عليه بما هو فرد كلّيّه ومصداقه} ليسري الحكم إلى الكلّي - كما مثّلنا من غَرْفَةِ الماء - {لا بما هو لفظه} ومرآته {وبه حكايته} أي: لا بعنوان أنّ اللّفظ الواقع موضوعاً حاكٍ عن الكلّي {فليس} هذا الاستعمال حينئذٍ {من هذا الباب} أي: باب استعمال اللّفظ في المعنى، بل لا يسمّى استعمالاً في الاصطلاح {لكنّ الإطلاقات المتعارفة ظاهراً} عند أهل المحاورة {ليست كذلك} أي: ممّا كان الموضوع مصداقاً، بل كلّها من باب استعمال اللّفظ في المعنى وجعل الفرد مرآتاً للكلّي {كما لا يخفى}.

بل {و} قد يكون {فيها} أي: في الإطلاقات {ما لا يكاد يصحّ أن يراد منه ذلك} المذكور، أي: الحكم على الفرد بماهو مصداق لا بما هو مرآة، وذلك إذا

ص: 70

ممّا كان الحكم في القضيّة لا يكاد يعمّ شخص اللّفظ، كما في مثل: (ضَرَبَ فعلُ ماضٍ).

الخامس:

___________________

كان الموضوع {ممّا} لا يصحّ أن يكون مصداقاً للكلّي، كما إذا {كان الحكم في القضيّة} الملفوظة {لا يكاد يعمّ شخص اللّفظ} الواقع موضوعاً {كما في مثل} قولك: {(ضَرَبَ فِعْلُ مَاضٍ)} مريداً به النّوع، وإنّ كلمة «ضَرَبَ» في هذا التّركيب ليس من مصاديق الفعل، حتّى يكون الحكم عليه بما هو مصداق وفرد حكماً على الكلّي، إذ هو مبتدأ - كما لا يخفى - والمبتدأُ اسم، والاسم لا يعقل أن يكون من مصاديق الفعل وأفراده، اللّهمّ إلّا أن يأوّل في الموضوع أو المحمول.

[الأمر الخامس: وضع الألفاظ لذوات المعاني]

المقدّمة، وضع الألفاظ لذوات المعاني

الأمر {الخامس} في أنّ الدّلالة هل تتبع الإرادة أم لا؟ وقبل الشّروع في المقصود لا بدّ من تقديم مقدّمة، وهي أنّ الإرادة - كما ذكرها بعض الأعلام - على أربعة أقسام:

الأوّل: مفهوم الإرادة الّذي هو معنى اسمي وضع له لفظ (الإرادة).

الثّاني: الإرادة الحقيقيّة الّتي هي صفة من صفات النّفس العارضة لها.

الثّالث: الإرادة الإنشائيّة الّتي وضع لها هيئة (إفْعَلْ) وما في معناه.

الرّابع: الإرادة المِصْداقيّة الذّهنيّة.

وإن شئت قلت: الإرادة قسمان:

الأوّل: الإرادة الذّهنيّة، وهي عبارة عن توجّه الذّهن نحو اللّفظ، وهذا هو القسم الرّابع.الثّاني: الإرادة الخارجيّة وهي على ضربين:

الأوّل: الصّفة القائمة بالنّفس الّتي هي سبب لتحريك العضلات نحو المطلوب، لساناً لعمل غيره، أو يداً ورجلاً لعمل نفسه، وهذا هو القسم الثّاني.

ص: 71

لا ريب في كون الألفاظ موضوعةً بإزاء معانيها من حيث هي، لا من حيث هي مرادةٌ للافظها؛ لِمَا عَرَفْتَ - بما لا مزيد عليه - مِن أنّ قصد المعنى على أنحائه من مُقَوِّماتِ الاستعمال، فلا يكاد يكون

___________________

الثّاني: الإرادة الإنشائيّة المُنْشَأَة بصيغة (إفعل) وغيره، إذ الأمور، منها ما لا يقبل الإنشاء كالجواهر، ومنها ما يقبله كالإرادة وهذا هو القسم الثّالث، ثمّ إنّ هذه الثّلاثة كلّها مصاديق لمفهوم الإرادة الّتي هي القسم الأوّل.

إذا عرفت ذلك فنقول: لا خلاف في أنّ مفهوم الإرادة ليس جزءاً لمعنى اللّفظ الموضوع، كما لا خلاف في عدم جزئيّة الإرادة الإنشائيّة والإرادة المصداقيّة الذّهنيّة، وإنّما الخلاف في دخول الإرادة الحقيقيّة.

ولا يذهب عليك أنّ الخلاف إنّما هو في مدخليّة إرادة المستعمِل لا إرادة الواضع، وقد اختار المصنّف(قدس سره) عدم المدخليّة، إذ {لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها} المجرّدة {من حيث هي} هي فالمعنى تمام الموضوع له {لا} أنّها موضوعة بإزاء المعاني {من حيث هي مرادة للافظها} حتّى يكون الموضوع له مركّباً من المعنى والإرادة، ويدلّ على ذلك وجوه خمسة:

الأوّل: لزوم تعدّد الإرادة عند الاستعمال: الأُولى: الإرادة الّتي هي جزء المعنى، والثّانية: الإرادة الّتي تستلزمها الاستعمال، وذلك باطل وِجْداناً {لماعرفت} في المعنى الحرفي {- بما لا مزيد عليه - من أنّ قصد المعنى على أنحائه} من الآليّة والاستقلاليّة والمراديّة وغيرها {من مقوّمات الاستعمال} لا من أجزاء الموضوع له.

الثّاني: عدم إمكان الإطاعة والامتثال للأوامر والنّواهي، وذلك لعدم إمكان إتيان العبد بالمعنى المقيّد بإرادة المولى في الخارج، إذ إرادة المولى ذهنيّة فلا تكون خارجيّة، كما عرفت في تحقيق المعنى الحرفي، وعليه {فلا يكاد يكون} الإرادة

ص: 72

من قيود المستعمل فيه، هذا.

مضافاً إلى ضرورة صحّة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرّفٍ في ألفاظ الأطراف، مع أنّه لو كانت موضوعةً لها بما هي مرادةٌ لَمَا صَحَّ بدونه؛ بداهةَ أنّ المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند إليه في (ضرب زيد) - مثلاً - هو نفس القِيام والضَّرْبِ، لا بما هما مرادان.

___________________

{من قيود المستعمل فيه} وقد يقرّب الإشكال الثّاني بأنّه لو كانت الإرادة جزءاً للمعنى المستعمل فيه لزم أحد أُمور ثلاثة: [1] إمّا عدم إمكان الامتثال، [2] وإمّا التّجريد حين الاستعمال، [3] وإمّا الدّور؛ لأنّه لم يجرّد المعنى عن الإرادة حين الاستعمال، فإمّا أن تكون هي الإرادة الاستعماليّة، فيلزم الدّور، وإمّا أن تكون غيرها فيلزم عدم إمكان الامتثال، فتفطّن.

الثّالث: عدم صحّة الحمل مطلقاً إلّا بالتّجريد، وذلك لأنّ (زيد قائم) حينئذٍ ينحلّ إلى ذات مرادة وصفة مرادة، والإرادتان متغايرتان حقيقةً، فلا يصحّ الحمل الخارجي إلّا بتجريد الذّات والصّفة عن الإرادة، ومن الواضح عدم التّصرّفبالتّجريد حين تركيب الجمل.

وإلى {هذا} أشار المصنّف بقوله: {مضافاً إلى ضرورة صحّة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرّفٍ} وتجريدٍ عن الإرادة {في ألفاظ الأطراف} أي: أطراف الجملة من المحكوم والمحكوم عليه {مع أنّه} أي: الشّأن {لو كانت} الألفاظ {موضوعةً لها} أي: للمعاني {بما هي مرادة} حتّى يكون المعنى الموضوع له مركّباً من أصل المعنى والإرادة {لما صحّ} الإسناد والحمل {بدونه} أي: بدون التّصرّف والتّجريد.

{بداهة أنّ المحمول على (زيد)} وهو (قائم) {في (زيد قائم) و} كذا {المسند إليه} أي: إلى (زيد) {في (ضَرَبَ زيدٌ) مثلاً} إنّما {هو نفس القِيام والضَّرْبِ، لا بما هما مرادان} ولعلّه إنّما خصّ الكلام بالمحكوم مع جريان مثله في المحكوم عليه،

ص: 73

مع أنّه يلزم كون وضع عامّة الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّاً؛ لمكان اعتبار خصوص إرادة اللّافظين في ما وضع له اللّفظ، فإنّه لا مجال لتوهّم أخذ مفهوم الإرادة فيه،

___________________

كما صرّح هو(قدس سره) بأهميّة الإشكال في قوله: «بلا تصرّفٍ في ألفاظ الأطراف» لأجل أنّ المحكوم عليه في المثالين لا مدخليّة للإرادة فيه بداهةً، إذ هو عَلَمٌ لا يوضع للشّخص الخاصّ بما هو مراد، كما هو المشاهد من حال الآباء حين الوضع للأبناء. وإنّما أتى بمثالين لبيان عدم الفرق في كون الجملة اسميّة أو فعليّة، أو بين كون المحكوم اسماً أو فعلاً.هذا تمام الكلام في الإشكال الثّالث على مدخليّة الإرادة في الدّلالة {مع أنّه يلزم} إشكال آخَر، وهو الرّابع، وحاصله لزوم {كون وضع عامّة الألفاظ} الموضوعة {عامّاً والموضوع له خاصّاً}.

أمّا كون الوضع عامّاً فلما تقدّم في أسماء الأجناس.

وأمّا كون الموضوع له خاصّاً فهو {لمكان اعتبار خصوص إرادة اللّافظين} المستعملين، أي: مدخليّة إرادتهم {في ما وضع له اللّفظ} إذ اللّفظ موضوع بأزاء المعنى بقيد الإرادة، والإرادة جزئيّة فيكون المعنى المقيّد بها جزئيّاً، وعلى هذا فيلزم أن لا يكون الوضع العامّ والموضوع له العام أصلاً. وهذا وإن لم يكن مستحيلاً، إلّا أنّه خلافُ الوِجْدان، وخلافُ ما صرّحوا به، من أنّ أسماء الأجناس والمشتقّات وغيرهما من قبيل الوضع العام والموضوع له العام.

لا يقال: يمكن أن تكون الإرادة جزء المعنى الموضوع له مع بقاء الوضع العام والموضوع له العام، وذلك بأن يكون مفهوم الإرادة الكلّي جزءاً للموضوع له، لا الإرادة الحقيقيّة القائمة بنفس المستعمل اللّافظ حتّى توجب جزئيّته جزئيّة المعنى.

{فإنّه} يقال في الجواب: {لا مجال لتوهّم أخذ مفهوم الإرادة} الكلّي {فيه} أي: في المعنى الموضوع له، وذلك لأنّه لا خلاف في عدم كونه جزء الموضوع له - كما

ص: 74

كما لا يخفى.

وهكذا الحال في طرف الموضوع.

وأمّا ما حكي عن العَلَمَيْنِ: الشّيخ الرّئيس والمحقّق الطّوسيّ - من مصيرهما إلى أنّ الدّلالة تتبع الإرادة -

___________________

تقدّم في صدر المبحث - فضلاً عن أنّه خلاف الوِجْدان {كما لا يخفى} وحيث بيّن المصنّف(رحمة الله) الإشكال الثّالث بالنّسبة إلى المحمول، قال: {وهكذا الحال في طرف الموضوع} فيجري فيه الإشكال، هكذا شَرَحَ هذه العبارة بهذا المعنى بعضُ الشُّرَّاحِ.

وعلى هذا فيسقط ما ذكرناه سابقاً من التّوجيه، ولكن يمكن أن يكون هذا الكلام ناظراً إلى عدم إمكان أخذ الإرادة بالنسبة إلى الموضوع، كعدم إمكانه بالنسبة إلى الموضوع له، لجريان الإشكالات المتقدّمة فيه أيضاً لكن بأدنى تفاوت، وممّا يؤيّد هذا الّذي ذكرناه تأخير هذه العبارة عن الإشكال الرّابع، ولو كان من الإشكال الثّالث لاختلّ النّظم.

الخامس: لزوم بناء جميع الألفاظ؛ لأنّ الإرادة المأخوذة في المعنى جزئيّة وهي من المعاني الحرفيّة - كما لا يخفى - .

وأورد بعض الأفاضل(1)

على التّبعيّة إشكالاتٍ أُخَرَ لا مجال لذكرها. فتحصّل أنّ الدّلالة لا تتبع الإرادة بل تتبع الوضع، ولو كانت الإرادة جزء الموضوع له لكانت تابعة لهما.

{وأمّا ما حُكِيَ عن العَلَمَيْنِ: الشّيخ الرّئيس} أبي عليّ بن سيناء {والمحقّق الطّوسيّ} نصير الدّين(قدس سره) {من مصيرهما إلى أنّ الدّلالة تتبع الإرادة} المستلزم لكونها

ص: 75


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 114.

فليس ناظراً إلى كون الألفاظ موضوعةً للمعاني بما هي مرادة - كما توهّمه بعض الأفاضل(1)

- ، بل ناظِرٌ إلى أنّ دلالةالألفاظ على معانيها بالدّلالة التّصديقيّة - أي: دلالتها على كونها مرادةً للافظها - تتبع إرادتها منها وتتفرّع عليها

___________________

جزء الموضوع له {فليس} المحكي منافياً لما تقدّم منّا، إذ ليس كلامهما {ناظراً إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة} بحيث تكون الإرادة جزء الموضوع له {كما توهّمه بعض الأفاضل} في الفصول {بل} كلامهما ناظر إلى شيء آخر. وبيانه يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، وهي أنّ الدّلالة على قسمين:

الأوّل: الدّلالة التّصوريّة: وهي عبارة عن خطور المعنى في الذّهن عند سماع اللّفظ ولو كان اللّفظ صادراً عن حَيَوانٍ أو جمادٍ، وهذه الدّلالة لا تتوقّف على شيء سوى العلم بالوضع بالنّسبة إلى السّامع ضرورةً.

الثّاني: الدّلالة التّصديقيّة، وهي نحوان:

الأوّل: تصديق السّامع بكون المعنى مراداً للمتكلّم، وهذه متوقّفة على إرادة المتكلّم، إذ لولا الإرادة لم يتمكّن السّامع من التّصديق.

الثّاني: تصديق السّامع بأنّ النّسبة الكلاميّة مطابقة للنّسبة الخارجيّة، وبعبارة أُخرى دلالة اللّفظ على معنى محقّق في الخارج، فلو أذعن السّامع ولم يكن مطابقاً كان تخيّلاً لا تصديقاً.

إذا عرفت هذه قلنا: كلامهما {ناظر إلى أنّ دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التّصديقيّة} قسمها الأوّل {أي: دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها} أي: إرادة المتكلّم المعاني {منها} أي: من تلك الألفاظ.{و} بعبارة أُخرى {تتفرّع} الدّلالة التّصديقيّة بمعناها الأوّل {عليها} أي: على

ص: 76


1- الفصول الغرويّة: 17.

- تبعيّةَ مقام الإثبات للثّبوت، وتفرّعَ الكشف على الواقع المكشوف - ؛ فإنّه لولا الثّبوت في الواقع لما كان للإثبات والكشف والدّلالة مجالٌ.

ولذا لا بدّ من إحراز كون المتكلّم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودَلاَلِتِهِ على الإرادة، وإلّا لما كانت لكلامه هذه الدّلالة، وإن كانت له الدّلالة التّصوّريّة - أي: كون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له، ولو كان من وراء الجِدار،

___________________

إرادة اللّافظ، نحو {تبعيّة مقام الإثبات} والدّلالة الظّاهريّة {للثّبوت} والواقع {و} نحو {تفرّع الكشف على الواقع المكشوف} فتصديق السّامع بكون المعنى مراداً للمتكلّم متوقّف على إرادة المتكلّم واقعاً و إحراز السّامع إرادته، فلو لم تكن للمتكلّم إرادة كان تصديق السّامع جهالةً، ولو لم يحرز السامع لم يكن تصديق أصلاً {فإنّه لولا الثّبوت في الواقع} ونفس الأمر {لما كان للإثبات والكشف والدّلالة مجال} كما لا يخفى.

{ولذا} أي: ولأجل تفرّع الإثبات على الثّبوت وتبعيّة الكشف للواقع {لا بدّ} للدّلالة التّصديقيّة {من إحراز} السّامع {كون المتكلّم بصدد الإفادة} وأنّه مريد للمعنى {في} التّكلّم حتّى يتمكّن من {إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه، و} يتمكّن من إثبات {دلالته} أي: دلالة كلام المتكلّم {على الإرادة} وهذاالإحراز يحصل ولو بأصلٍ من الأصول {وإلّا} يحرز السّامع كون المتكلّم بصدد الإفادة {لما كانت لكلامه هذه الدّلالة} التّصديقيّة، أعني: دلالته على إرادة المتكلّم {و} أمّا {إن} أحرز ولم يطابق إحرازه الواقع كان ذلك تخييلاً لا تصديقاً - كما تقدّم - .

نعم {كانت} على التّقديرين {له} أي: لكلامه {الدّلالة التّصوريّة} بالمعنى المتقدّم {أي: كون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له} وحضوره في ذهن السّامع العالم بالوضع {ولو كان} الكلام {من وراء الجِدار} فلم يعلم السّامع حال

ص: 77

أو من لافظٍ بلا شعور ولا اختيارٍ - .

إن قلت: على هذا يلزم أن لا يكون هناك دلالةٌ عند الخطأ، والقطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شيء ولم يكن له من اللّفظ مراد.

قلت: نعم، لا يكون حينئذٍ دلالة، بل يكون هناك جهالة وضلالة، يحسبها الجاهل دلالة.

ولَعَمْرِي ما أفاده العَلَمَانِ من التّبعيّة - على ما بيّنّاه - واضِحٌ لا محيص عنه.

___________________

المتكلّم {أو} كان صادراً {من لافظ بلا شعور ولا اختيار} كالحيوان المُعَلَّم أو النّائم، أو الآلة.

{إن قلت: على هذا} الّذي ذكرتم مِن أنّ الدّلالة التّصديقيّةَ تابعة للإرادة {يلزم أن لا يكون هناك دلالة} تصديقيّة في صورتين:

الأُولى: {عند الخطأ} من السّامع {والقطع بما ليس بمراد} كأن أراد المتكلّم من قوله: (جاءني أسد) مجيء الرّجل الشُّجَاع{أو} نحوه، وقطع السّامع بأن مراده مجيء الحيوان المفترس.

والثّانية: عندما اشتبه السّامع وكان له {الاعتقاد} خطأ {بإرادة} المتكلّم من اللّفظ خصوص {شيء، و} الحال أنّه {لم يكن له من اللفظ مراد} أصلاً، كما لو تكلّم بجملة سهواً فظنّ السّامع أنّه أراد معناها.

والفرق بين الصّورتين: أنّ المتكلّم في الأُولى أراد معنىً لكنّه يخالف ما تخيّله السّامع، وفي الثّانية لم يرد شيئاً أصلاً.

وحاصل الإشكال: أنّه على القول بالتبعيّة يلزم أن لا تكون دلالة في الصّورتين.

{قلت: نعم، لا يكون حينئذٍ دلالة، بل يكون هناك} في الصّورتين {جهالة} من السّامع {وضلالة} وقد {يحسبها الجاهل دلالة}.

هذا {ولعمري ما أفاده العَلَمَانِ} المحقّق الطُّوْسِيُّ والشّيخُ الرَّئِيْسُ {من التّبعيّة على ما بيّنّاه} من تبعيّة الدّلالة التّصديقيّة للإرادة دون التّصوريّة {واضح لا محيص عنه}

ص: 78

ولا يكاد ينقضي تعجّبي كيف رضي المتوهّم أن يجعل كلامهما ناظراً إلى ما لا ينبغي صُدُوْرُهُ عن فاضلٍ، فضلاً عمّن هو عَلَمٌ في التّحقيق والتّدقيق؟!

السّادس:

___________________

«المحيص» الهَرَب والمَهْرَب.

{ولا يكاد ينقضي تعجّبي كيف رَضِيَ المتوهّمُ أن يجعل كلامهما ناظراً إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل} من تبعيّة الدّلالة التّصوريّةللإرادة، لبديهيّة البطلان بالوِجْدَان والبُرْهان، فإنّ ذلك لا يتفوّه به أحد {فضلاً عمّن هو عَلَمٌ في التّحقيق والتّدقيق} هذا كلام المصنّف في توجيه كلام العَلَمَيْنِ، ولكلّ واحدٍ من هؤلاء الأعلام: النّائينيّ، والإصفهانيّ، والرّشتي، والسُّلطان العِراقيّ، والمشكينيّ، والقمّيّ، وغيرهم(1)

ممّن استضأنا بنور حواشيهم وشروحهم في هذا الشّرح في بيان كلامهما بحث مفصّل، فعلى الطّالب الرّجوع إليها، واللّه العالم بحقائق الأُمور.

[الأمر السّادس: وضع المركّبات]

المقدّمة، وضع المركّبات

الأمر {السّادس} في أنّه هل للمركّبات وضع مستقلّ أم لا؟ اعلم أنّ في المقام أمرين:

الأوّل: في بيان رابط الجملة، وقد اختلف فيه على أقوال:

[1] فذهب بعض إلى أنّه الضّمير بارزاً كان أو مستتراً، ورُدَّ ذلك بأنّ للضّمائر مفاهيم مستقلّة، فلا تكون رابطة بين أجزاء الجملة، وما ذكره أهل الميزان من استعارة الضّمائر غير تمام.

ص: 79


1- أجود التقريرات 1: 31؛ نهاية الدراية 1: 71؛ شرح كفاية الأصول 1: 20؛ الحاشية على كفاية الأصول 1: 91؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 116؛ حاشية الكفاية 1: 40؛ حقائق الأصول 1: 39.

لا وجه لتوهّم وضعٍ للمركّبات غير وضع المفردات؛ ضَرُوْرَةَ عدم الحاجة إليه بعد وضعها بموادّها في مثل (زيد قائم) و(ضرب عمرو بكراً)، شخصيّاً، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيّاً،

___________________

[2] وذهب آخرون إلى أنّ الرّابط الإعراب، ورُدَّ بالنّقض بالمركّب غير التّامالواقع في الجملة نحو (غلامُ زيدٍ قائِمٌ) فإنّه يلزم أن يكون مركّباً تامّاً لمكان الإعراب.

[3] وذهب ثالث إلى أنّه الهيئة التّركيبيّة، إذ لكلّ جملةٍ جُزْءٌ ماديّ وهو ألفاظ الأطراف، وجزء صوريّ هو الهيئة التّركيبيّة.

الثّاني: في أنّه هل للجمل غير وضع المسند إليه والمسند والهيئة التّركيبيّة وضع آخر للمجموع المركّب من الثّلاثة أم لا؟ والمصنّف ذهب إلى الثّاني، إذ {لا وجه لتوهّم وضعٍ للمركّبات} بحيث يكون وضع لمجموع المادّة والهيئة معاً {غير وضع المفردات} من المسند إليه والمسند والهيئة التّركيبيّة {ضرورة عدم الحاجة إليه بعد} وجود وصفين:

الأوّل: {وضعها بموادّها} المخصوصة ك (زيد) و(عمرو) و(بكر) و(قائم) و(ضرب) {في مثل (زيد قائم) و(ضرب عمرو بكراً)} إذ الأعلام موضوعة بالوضع الخاصّ والموضوع له الخاص، والمشتقّات موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام، ومعلوم أنّها موضوعة وضعاً {شخصيّاً}.

{و} الثّاني: وضعها {بهيئاتها} فإنّ هيئة (زيد قائم) موضوعةٌ جملةً اسميّةً، وهيئة (ضرب عمرو بكراً) موضوعةٌ جملةً فعليّةً، ومعلوم أنّ الهيئة موضوعة وضعاً نوعيّاً. وقد تقدّم معنى الوضع الشّخصيّ والنّوعيّ، وبعد هذين الوضعين لا حاجة إلى وضع ثالث للهيئة {المخصوصة} المركّبة من خصوص موادّ الجملة الموضوعة شخصيّاً، و{من خصوص} الهيئة الأعمّ من {إعرابها} وغيره {نوعيّاً}.

ص: 80

ومنها: خصوص هيئات المركّبات الموضوعة لخصوصيّات النِّسَبِ والإضافات، بمزاياهاالخاصّة من تأكيدٍ وحصرٍ وغيرهما نوعيّاً؛ بَدَاهَةَ أنّ وضعها كذلك وافٍ بتمام المقصود منها، كما لا يخفى، من غير حاجةٍ إلى وضع آخر لها بجملتها، مع استلزامه الدّلالة على المعنى تارةً بملاحظة وضع نفسها، وأُخرى بملاحظة وضع مفرداتها.

___________________

ولا يذهب عليك أنّ قوله: «من خصوص إعرابها» بيان لقوله: «بهيئاتها المخصوصة» أي: أنّ الهيئة المخصوصة عبارة عن الهيئة الرّفعيّة والنّصبيّة والجريّة وكلّها موضوعة وضعاً نوعيّاً، أي: بدون ملاحظة مادّه مدخولها ولا هيأته، فإنّه وضع الرّفع للفاعل - زيداً كان أو غيره - وهكذا.

{و} الحاصِلُ: أنّه لا حاجة إلى وضعٍ ثالثٍ بعد وضع الموادّ ووضع الهيئات الّتي {منها خصوص هيئات المركّبات الموضوعة لخصوصيّات النّسب} كالنّسبة إلى الفاعل والمفعول والنّائب {و} منها خصوص الهيئات الموضوعة لخصوصيّات {الإضافات بمزاياها الخاصّة من تأكيدٍ وحَصْرٍ وغيرهما} كالدّوام والثّبوت ومنها خصوص الإعراب - كما تقدّم - فإنّ جميع هذه الهيئات موضوعة {نوعيّاً} كوضع الموادّ شخصيّاً وحينئذٍ فالوضع الثّالث للمركّبات لَغْوٌ {بداهة أن وضعها كذلك} مادّةً وهيئةً {وافٍ بتمام المقصود منها - كما لا يخفى} على أُولي النّهى - {من غير حاجةٍ إلى وضعٍ آخر لها بجملتها}.

وقد يقرّر دليل عدم الوضع للمركّب هكذا: بأنّ الوضع الثّالث إمّا لفائدةٍ أو لا، والثّاني مستلزم للغويته، والأوّل إن كان لفائدة غير مترتّبة على وضع المفردات فهي مفقودة وِجْداناً، وإن كان لفائدةٍ مترتّبةٍ عليها، فهي تحصيلٌ لِلحاصل {مع استلزامه الدّلالة على المعنى}مرّتين {تارةً بملاحظة وضع نفسها، وأُخرى بملاحظة وضع مفرداتها} وهو خلاف الوِجْدان، فإنّ السّامع للمركّب لا يفهم المعنى مرّتين.

ص: 81

ولعلّ المرادَ من العِبارات الموهمة لذلك(1)، هو وضع الهيئات على حِدَةٍ غير وضع الموادّ، لا وضعها بجملتها علاوةً على وضع كلّ واحدٍ منهما.

السّابع:

___________________

{ولعلّ} النّزاع بين القوم لفظيّ: بأن يكون {المراد من العبارات الموهمة لذلك} الوضع الثّالث {هو وضع الهيئات على حِدَةٍ} - الّذي يقوله القوم - أعني: {غير وضع المواد} فيكون مرادهم بيان الوضع الثّاني، {لا} أنّ مرادهم {وضعها} أي: وضع المركّبات {بجملتها} أي: مجموع المواد والهيئات حتّى يكون وضعاً ثالثاً {علاوة على وضع كلّ واحد منهما} لكن المشكينيّ(قدس سره) مصرّ على المغايرة فلا يكون النّزاع لفظيّاً(2).

تنبيه: يمكن إنكار الوضع النّوعي للهيئة مطلقاً، فلا يكون إلّا وضع واحد للمفردات، وإنّما التّركيب بالطبع، كما ادّعاه المصنّف بالنسبة إلى المجاز، وهذا الاحتمال قريب جدّاً فتفطّن.

[الأمر السّابع: أمارات الوضع]

اشارة

المقدمة، أمارات الوضع

الأمر {السّابع} في علامات الحقيقة والمجاز، وتحقيق المقام يحتاج إلى تمهيد مقدّمةٍ، وهي أنّه لو علمنا المعنى الحقيقي والمجازي ولم نعلمالمستعمل فيه، فلا خلاف في أنّ اللّفظ يحمل على المعنى الحقيقي، وإنّما الكلام في مستند هذا الحمل، وفيه أقوال:

الأوّل: أصالة الحقيقة.

الثّاني: أصالة عدم القرينة.

الثّالث: غلبة الاستعمال في المعنى الحقيقي.

ص: 82


1- قوانين الأصول 1: 264.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 121.

لا يخفى: أنّ تبادر المعنى من اللّفظ وانسباقه إلى الذّهن - من نفسه وبلا قرينةٍ - علامةُ كونه حقيقةً فيه؛ بداهة أنّه لولا وَضْعُهُ له لما تَبَادَرَ.

___________________

الرّابع: قبح إرادة غير المعنى الحقيقي بدون نصب قرينة.

الخامس: ظهور اللّفظ في المعنى الحقيقي.

هذا، وأمّا لو لم يعرف المعنى الحقيقي والمجازي وعرف المستعمل فيه، فالسيّد المرتضى(رحمة الله) على أنّ الاستعمال علامة الحقيقة، والمشهور على أنّه أعمّ منها.

إذا عرفت هذا فنقول: العلامات الفارقة بين الحقيقة والمجاز أربعة:

التّنصيص

الأُولى: تنصيص واضع اللّغة، لكن لا طريق إلى هذه العلامة في اللّغات القديمة، وذكر بعضهم مكانه تنصيص أهل اللّغة، وأشكل عليه بأنّ أهل اللّغة ليسوا من أهل الخِبْرة بالنسبة إلى الوضع وإنّما هم أهل خِبْرة بالنسبة إلى الاستعمال، فتأمّل.

التّبادر

الثّانية: التّبادر فإنّه علامة الحقيقة، كما أنّ عدم التّبادر أو تبادر الغير علامة المجاز، إذ {لا يخفى أنّ تبادر المعنى من اللّفظ وانسباقه إلى الذّهن من نفسه وبلا قرينة}حتّى الشّهرة {علامة كونه} أي: كون اللّفظ {حقيقةً فيه} أي: في ذلك المعنى المنسبق {بداهة أنّه لولا وضعه} أي: وضع اللّفظ {له} أي: للمعنى ولو وضعاً تعيّنيّاً {لما تبادر} هذا المعنى منه، وذلك لأنّ التّبادر إثر العلقة الذّهنيّة بين اللّفظ والمعنى، والعلقة الذّهنيّة لا تكون إلّا بالوضع، فالتبادر لا يكون إلّا بالوضع، فيكون التّبادر دليلاً إنّيّاً على الوضع، وإذا ثبت الوضع ثبتت الحقيقة، إذ المعنى الحقيقي عبارة عن الموضوع له.

ص: 83

لا يقال: كيف يكون علامةً مع توقّفه على العلم بأنّه موضوع له - كما هو واضِحٌ - ، فلو كان العلم به موقوفاً عليه لدار؟

فإنّه يقال: الموقوف عليه غير الموقوف عليه؛

___________________

ولا يخفى أنّ التّبادر الوضعي - وهو ما ذكرناه - علامة الحقيقة لا التّبادر الإطلاقي الّذي هو عبارة عن انصراف الإطلاق إلى بعض الأفراد، لكثرة الوجود أو كثرة الاستعمال.

{لا يقال: كيف يكون} التّبادر {علامة} للحقيقة {مع توقّفه} أي: توقّف التّبادر {على العلم بأنّه} أي: المعنى المنسبق {موضوع له} إذ لولا العلم بأنّ المعنى هو الموضوع له لما تبادر من اللّفظ {كما هو واضح} وعلى هذا فالتّبادر موقوف على العلم بالوضع {فلو كان العلم به} أيضاً {موقوفاً عليه} أي: على التّبادر {لدار} دوراً مصرّحاً؟

وإن شئت قلت: التّبادر موقوف على العلم بالوضع، والعلمُ بالوضع موقوف على التّبادر، فالتبادر موقوف على التبادر.أمّا المقدّمة الأُولى، فلأنّه لولا العلم بالوضع لما تبادر المعنى الموضوع له، كما نرى عدم تبادر معنىً من اللّفظ في اللّغة الّتي لا نعرفها.

وأمّا المقدّمة الثّانية، فلأنّ كون التّبادر علامة الوضع معناه توقّف العلم بالوضع على التّبادر.

{فإنّه يقال} في الجواب عن إشكال الدّور: إنّ العِلْمَيْن - اللّذين توقّف أحدهما على التّبادر، وتوقّف التّبادر على الآخر - مختلفان: فالعلم {الموقوف عليه} التّبادر {غير} العلم الّذي كان التّبادر موقوفاً عليه، وإذا اختلف الموقوف و{الموقوف عليه} فلا دور، ولا يذهب عليك أنّ نائب فاعل كلمة «الموقوف» الأوّل هو التّبادر، ومرجع ضميره هو العلم، وعكسهما «الموقوف عليه» الثّاني.

ص: 84

فإنّ العلم التّفصيليّ بكونه موضوعاً له موقوفٌ على التّبادر، وهو موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي به، لا التّفصيلي، فلا دور،

___________________

ثمّ إنّ اختلاف العلمين بالإجمال والتّفصيل {فإنّ العلم التفصيلي بكونه} أي: بكون المعنى {موضوعاً له} أي: موضوعاً للفظ {موقوف على التّبادر} فلو أردنا تحصيل العلم التّفصيلي بمعنى اللّفظ احتجنا إلى التّبادر {وهو} انسباق المعنى من حاقّ اللّفظ - كما تقدّم - لكن التّبادر لا يتوقّف على العلم التّفصيلي حتّى يتّحد العلمان، بل هو {موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي به} أي: بكون المعنى موضوعاً له {لا التّفصيلي} كما تقدّم. وإذا اختلف العلمان {فلا دور}.

وتوضيحه ما ذكره العلّامة الرّشتي(قدس

سره): «إنّ الإنسان إذا راجع وِجْدانهحين ابتداء أمره وتنطّقه تعلّم ألفاظاً من الأبوين أو غيرهما تستعمل في المعاني عند الإِعراب عمّا في الضّمير، فقد علم إجمالاً ذات الموضوع له وغيره ممّا يناسبه، فإذا صار عارفاً بالمعنى الحقيقي والمجازي، فكلّما سمع لفظاً وانسبق من سماعه إلى ذهنه معنىً مع قطع النّظر عن كلّ القرائن، فيعلم كون اللّفظ حقيقة في خصوص هذا المعنى، وكلّما سمع لفظاً وانسبق من سماعه إلى ذهنه معنىً بالقرينة، فيعلم كونه مجازاً في خصوص هذا المعنى، وهذا بعينه هو الجواب عن الإشكال الوارد على كلّيّة الكبرى في الشّكل الأوّل فتذكّر»(1)،

انتهى كلامه رفع مقامه.

ولا يخفى أنّ العلم الإجمالي في هذا المقام عبارة عن الارتكاز الّذي إذا توجّه الذّهن إليه حصّله بالفكر من بين المعاني المركوزة، وهذا هو العلم الإجمالي باصطلاح أهل الميزان - كما في أوائل شرح المطالع(2) - وذلك بخلاف مصطلح الأصوليّين.

ص: 85


1- شرح كفاية الأصول 1: 21.
2- شرح المطالع: 68.

هذا إذا كان المراد به: التّبادر عند المستعلم. وأمّا إذا كان المراد به: التّبادر عند أهل المحاورة فالتّغاير أوضح من أن يخفى.

ثمّ إنّ هذا في ما لو عُلِمَ استناد الانسباق إلى نفس اللّفظ، وأمّا في ما احتمل استناده إلى قرينةٍ فلا يجدي أصالةُ عدم القرينة في إحراز كون الاستناد

___________________

ثمّ إنّ {هذا} الجواب عن الدّور {إذا كان المراد به} أي: بالتبادر {التّبادر عند} نفس {المستعلم} المريد لتمييز الحقيقة عن المجاز {وأمّا إذا كان المراد به} أي:بالتّبادر {التّبادر عند أهل المحاورة} بأن يكون التّبادر عند أهل المحاورة العالِمِيْنَ بالأوضاع علامة للحقيقة للجاهل بالمعنى الحقيقي وغيره {فالتّغاير} بين العلم المتوقّف على التّبادر، والعلم الّذي كان التّبادر متوقّفاً عليه {أوضح من أن يخفى} على أَحَدٍ، إذ العلم المتوقّف على التّبادر هو علم الجاهل، والعلم الّذي كان التّبادر متوقّفاً عليه هو علم أهل المحاورة العالمين بالأوضاع. مثلاً: من لا يعلم معنى (الأسد) إذا رأى سبق الحيوان المفترس الكذائي إلى ذهن العرب من هذا اللّفظ بدون القرينة علم أنّه معناه الحقيقي.

{ثمّ إنّ هذا} الّذي ذكرناه من كون التّبادر علامة للحقيقة {في ما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللّفظ} وحاقّه بدون معونة قرينة أصلاً، وهذا هو التّبادر المسمّى بالتبادر الوضعي {وأمّا في ما} لو {احتمل استناده إلى قرينة} ولو كانت شهرة {فلا} يكون هذا التّبادر علامة للحقيقة.

إن قلت: أصل عدم القرينة مفيد لكون التّبادر من حاقّ اللّفظ.

قلت: لا {يجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد} إلى حاقّ اللّفظ، إذ المراد بالأصل إن كان استصحاب عدم القرينة، ففيه - مع أنّه مثبت - : أنّ المستصحب ليس بحكم ولا موضوع ذي حكم.

وإن كان المراد بالأصل الأصل العقلائي الجاري في العام ونحوه حين الشّكّ

ص: 86

إليه، لا إليها - كما قيل(1) - ؛ لعدم الدّليل على اعتبارها إلّا في إحرازالمراد؛ لا الاستناد.

ثمّ إنّ

___________________

في وجود القرينة، وإجراؤُهُ مُحْرِز لكون الاستناد {إليه} أي: إلى حاق اللّفظ {لا إليها} أي: لا إلى القرينة، فهذا الأصل وإن ذكره جماعة { - كما قيل -} لكن فيه نظر {لعدم الدّليل على اعتبارها} أي: اعتبار أصالة عدم القرينة {إلّا في} مقام {إحراز المراد} بأن لا يعلم المراد من اللّفظ، فيعيّن بهذه الأصالة المراد {لا} في مقام معرفة المراد من اللّفظ، لكن شكّ في أنّه المعنى الحقيقي أو المجازي؟ إذ لا يثبت بأصل عدم القرينة كون {الاستناد} إلى حاقّ اللّفظ حتّى يكون معنى حقيقيّاً. مثلاً: لو لم يعرف المراد من لفظ (الأسد) جاز تعيين الحيوان المفترس بأصالة عدم القرينة، أمّا لو عرف كون المراد منه الحيوان المفترس، لكن لم يعلم أنّه معنى حقيقيّ للأسد أم معنى مجازيّ لم يجز تعيين كونه معنى حقيقيّاً بأصالة عدم القرينة.

صحّة السّلب

{ثمّ إنّ} العلامة الثّالثة من علامات الحقيقة والمجاز صَحَّةُ السَّلْبِ وعدمها، وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة وهي: أنّ الحمل على قسمين:

الأوّل: الحمل الأوّلي الذّاتي، وهو عبارة عمّا إذا كان الموضوع والمحمول متّحدين ماهيّة ومفهوماً، وذلك كحمل المترادفين أحدهما على الآخر، نحو (الأَسَدُ ضِرْغَامٌ) و(الإنسان بشر) أو كانا متّحدين ماهيّة فقط لا مفهوماً، نحو (الإنسان حيوان ناطق).

وإنّما يسمّى هذا القسم أوّليّاً ذاتيّاً لكونه أوّلي الصّدق والكذب، ولا يجري إلّا في الذّاتيّات.

ص: 87


1- الفصول الغرويّة: 33.

___________________

الثّاني: الحمل الشّائع الصِّناعي، وهو عبارة عمّا إذا كان الموضوع والمحمول متّحدين مصداقاً في الوجود فقط، بأن كان الموضوع من أفراد مصداق المحمول نحو: (زيد عالم).

وإنّما يسمّى هذا القسم شائعاً صِناعيّاً لشيوعه في العلوم والصِّناعات.

ثمّ إنّه ينقسم الحمل بتقسيم آخر إلى حمل المواطاة وهو حمل هو هو، وحمل الاشتقاق وهو حمل ذي هو.

قال شارح المَطَالِعِ: «وحمل المواطاة أن يكون الشّيء محمولاً على الموضوع بالحقيقة بلا واسطة، كقولنا: (الإنسان حيوان) وحمل الاشتقاق أن لا يكون محمولاً عليه بالحقيقة، بل ينسب إليه، ك (البياض) بالنسبة إلى (الإنسان) فإنّه ليس محمولاً عليه بالحقيقة، فلا يقال: (الإنسان بياض) بل بواسطة (ذو) أو الاشتقاق، فيقال: (الإنسان ذو بياض) أو (أبيض) وحينئذٍ يكون محمولاً بالمواطاة.

هكذا قال الشّيخ، وفسّر المحمول بالحقيقة بما يعطي موضوعه اسمه وحدّه، وربّما يفسّر حمل المواطاة بحمل هو هو، والاشتقاق بحمل ذو هو»(1)، انتهى كلام الشّارح، وبهذا يظهر ما في بعض التّفسيرات. وقد أشار السّبزواري(قدس سره) إلى هذه الأقسام بقوله:

الحَمْلُ بالذّاتيّ الأَوَّلِي وُصِفْ *** مفهومُهُ اتّحادُ مَفْهُوْمٍ عُرِفْ

فكلّ مفهومٍ وإن ليس وُجِدْ *** فنفسه بالأوّلي ما فُقِ-دْ

وبالصِّناعي الشّائِعِ الحَمْل صفا *** وباتّحادٍ في الوجود عُرِّفا

وبالمواطاة والاشتقاق فُهْ *** وذلك الهو هو وذا ذو هو سِمُهْ(2)

ص: 88


1- شرح المطالع: 50.
2- شرح المنظومة 2: 390.

عدم صحّة سلب اللّفظ - بمعناه المعلومالمرتكز في الذّهن إجمالاً كذلك - عن معنىً تكون علامةَ كونه حقيقةً فيه، كما أنّ صحّة سلبه عنه علامةُ كونه مجازاً في الجملة.

والتّفصيلُ: أنّ عدم صحّة السّلب عنه، وصحّةَ الحمل عليه بالحمل الأوّلي الذّاتيّ - الّذي كان ملاكه الاتحاد مفهوماً - علامةُ كونه نفس المعنى، و

___________________

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ {عدم صحّة سلب اللّفظ بمعناه المعلوم} لدى المستعلم {المرتكز في الذّهن} حال كون ذلك المعنى معلوماً {إجمالاً} كما ذكر في التّبادر {كذلك} هنا إذا لم يصحّ سلب اللّفظ {عن معنى} من المعاني {تكون علامة كونه حقيقة فيه} مثلاً إذا لم يصحّ سلب لفظ (الإنسان) عن الرّجل البليد كان ذلك علامة، لكون الإنسان حقيقة في البليد {كما أنّ صحّة سلبه} أي: سلب اللّفظ {عنه} أي: عن معنىً تكون {علامة كونه} أي: كون اللّفظ {مجازاً} في ذلك المعنى، مثلاً: إذا صحّ سلب الحمار عن الرّجل البليد كان ذلك علامة، لكون الحمار مجازاً في البليد.

ثمّ لا يخفى أنّ كونهما علامة {في الجملة} فيمكن أن يكون اللّفظ مجازاً بالنّظر إلى حمل وحقيقة بالنظر إلى آخر - كما سيجيء - .

وهكذا يمكن أن يكون المجاز في الإسناد في الكلمة كما ستعرف، هذا إجمال الكلام في هذه العلامة.

{والتّفصيل} لقولنا في الجملة هو {أنّ عدم صحّه السّلب عنه} أي: عن معنى {و} كذلك {صحّة الحمل عليه} لكن {بالحمل الأوّليّ الذّاتي} وهو {الّذيكان ملاكه الاتحاد} ماهيّة و{مفهوماً} كما تقدّم {علامة كونه} أي: كون المستعمل فيه {نفس المعنى} الحقيقي، وذلك بدليل الإِنِّ، إذ الحمل الأوّلي يكشف عن الاتّحاد المفهومي، والاتحاد المفهومي لا يكون إلّا بالوضع، والوضع يفيد الحقيقة، {و} هكذا عدم صحّة سلب اللّفظ عن المعنى المستعمل فيه.

ص: 89

بالحمل الشّائع الصِّناعيّ - الّذي ملاكه الاتحاد وجوداً بنحوٍ من أنحاء الاتحاد - علامةُ كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقيّة.

كما أنّ صحّة سلبه كذلك، علامة أنّه ليس منهما،

___________________

وبعبارةٍ أُخرى صحّة الحمل عليه {بالحمل الشّائع الصِّناعي} - وهو {الّذي} كان {ملاكه الاتحاد} خارجاً و{وجوداً بنحو من أنحاء الاتحاد -} كالاتّحاد الصّدوري، ك (زيد ضارب) أو الحلولي، ك (هذا أبيض) أو القيامي، ك (زيد قائم)، فإنّ هذا الحمل {علامة كونه} أي: كون المستعمل فيه {من مصاديقه} أي: من مصاديق المعنى {وأفراده الحقيقيّة} في ما إذا كان المحمول والمحمول عليه كليّاً وفرداً، لا في ما إذا كانا كليّين متساويّين أو غيرهما، كما لا يخفى - على ما ذكره المصنّف في تعليقه على هذا الحمل - .

وبهذا التّفصيل بين الحملين سقط ما أورده بعض على هذه العلامة، بأنّه كيف يكون صحّة الحمل علامة للحقيقة، مع أنّا نرى صحّة الحمل في الجزء اللّازم نحو (زيد ناطق) أو (ضاحك)، مع أنّهما ليسا بحقيقة كما هو ظاهر؟ و{كما أنّ صحّة} الحمل بالحمل الأوّلي الذّاتيّ علامة لكون المستعملفيه نفس المعنى، وبالحمل الشّائع الصِّناعي علامة كونه من مصاديقه، فصحّة {سلبه} أي: سلب اللّفظ بالمعنى المرتكز عن معنى {كذلك} سلباً أوّليّاً ذاتيّاً، أو شائعاً صِناعيّاً {علامة أنّه} أي: المستعمل فيه {ليس منهما} أي: ليس من مصاديق المعنى الحقيقي ولا نفسه.

والحاصل: أنّ الأقسام أربعة: [1] حمل الذّاتي، [2] وسلبه، [3] وحمل الشّائع، [4] وسلبه.

ثمّ إنّ هنا كلاماً لا بدّ من التّنبيه عليه، وهو: أنّ من أقسام المجاز ما يبتنى على التّشبيه وهو المسمّى بالاستعارة الّتي كان أصلها التّشبيه، فذكر المشبّه به وأُريد به

ص: 90

___________________

المشبّه، كقوله:

لَدَى أَسَدٍ شاكِي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ *** له لِبَدٌ أظفارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ

فإنّ لفظ (أسد) استعارة للرّجل الشّجاع، إذ الشّاعر شبّه في نفسه الرّجل الشُّجاع بالأسد للمشابهة في الشَّجَاعة، ثمّ ذكر (الأسد) - وهو المشبّه به - وأراد المشبّه، أي: الرَّجُلَ الشُّجَاعَ.

وعلماء البيان - كما في المطوّل - : «قد اختلفوا في أنّ الاستعارة مجاز لغويّ أم عقلي؟

فذهب الجمهور إلى أنّه مجاز لغوي بمعنى: أنها لفظ استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة.

والدّليل على ذلك أنّ الاستعارة ك (أسد) - مثلاً - في قولنا: (رأيت أسداً يرمي) موضوعة للمشبّه به، - أعني: السّبع المخصوص - ، لا للمشبّه، - أعني: الرّجل الشّجاع - ولا للأعمّ من المشبّه به والمشبّه كالشّجاع - مثلاً - ليكون إطلاقه علىكلّ منهما حقيقة كإطلاق الحيوان عليهما، وهذا معلوم قطعاً بالنّقل عن أئمّة اللّغة، فحينئذٍ يكون استعماله في المشبّه استعمالاً في غير ما وضع له مع قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له - أعني: المشبّه به - فيكون مجازاً لغويّاً»(1)،

إلى أن قال:

«وقيل: إنّها مجاز عقليّ بمعنى أنّ التّصرّف في أمر عقليّ لا لغوي؛ لأنّها لمّا لم تطلق على المشبّه إلّا بعد ادّعاء دخوله في جنس المشبّه به بأن جعل الرّجل الشُّجاع فرداً من أفراد (الأسد) كان استعمالها في ما وضعت له»(2). إلى أن قال(3):

ص: 91


1- المطوّل: 360.
2- المطوّل: 361.
3- وهذا الكلام وإن ذكره التّفتازاني لردّ القول الثّاني، لكنّه لمّا كان مساعداً لفهم القول الثّاني ذكرناه أيضاً.

وإن لم نقل بأنّ إطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة، بل من باب الحقيقة، وأنّ التّصرّف فيه في أمر عقليّ - كما صار إليه السّكّاكيّ(1)-

.

___________________

«وتحقيق ذلك أنّ دخوله في جنس المشبّه به مبنيّ على أنّه جعل أفراد الأسد بطريق التّأويل قسمين:

أحدهما: المتعارف وهو الّذي له غاية الجرأة ونهاية القوّة في مثل تلك الجثّة وهاتيك الصّورة والهيئة وتلك الأنياب والمخالب إلى غير ذلك.

والثّاني: غير المتعارف وهو الّذي له تلك الجرأة وتلك القوّة، لكن لا في تلك الجثّة والهيكل المخصوص»(2)،

انتهى.

ثمّ بيّن التّفتازاني في موضع آخر القول الثّاني، وهو الّذي ذهب إليه السّكّاكيّفي باب الاستعارة بقوله: «كما تقول: (في الحمّام أسد) وأنت تريد به الرّجل الشُّجَاع، مدّعياً أنّه من جنس الأُسود، فتثبت له ما يخصّ المشبّه به وهو اسم جنسه»(3)،

انتهى.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ صحّة سلب اللّفظ عن معنىً علامة أنّه ليس نفس المعنى ولا من مصاديقه {وإن لم نقل} بمجرّد هذا السّلب {بأنّ إطلاقه} أي: إطلاق هذا اللّفظ {عليه} أي: على هذا المعنى {من باب المجاز في الكلمة} كما ذهب إليه الجمهور {بل} قلنا: إنّه {من باب الحقيقة} الادّعائيّة {وأنّ التّصرّف فيه} أي: في هذا الإطلاق والحمل {في أمر عقليّ} وهو ادّعاء أنّ هذا المعنى الّذي لم يوضع اللّفظ له من أفراد المعنى الحقيقي {كما صار إليه السّكّاكيّ}.

والحاصل: أنّ سلب شيء عن شيء يدلّ على أنّه ليس بموضوع له، وإن أمكن

ص: 92


1- مفتاح العلوم: 156.
2- المطوّل: 361.
3- المطوّل: 389.

واستعلام حال اللّفظ وأنّه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما، ليس على وجهٍ دائر؛ لما عرفت في التّبادر من التّغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتّفصيل، أو الإضافة إلى المستعلم والعالم،

___________________

القول بأنّ استعماله فيه حقيقة، مثلاً سلب (الأسد) عن (زيد) بقولنا: (زيد ليس بأسد)، يشعر بأنّ (زيداً) ليس نفس معنى (الأسد) ولا من مصاديقه، وإن قلنا بأنّه - لو استعمل فيه - ليس بمجاز في الكلمة، بل حقيقة ادّعائيّة - كما سبق توضيحه - .{و} قد يقال بأنّ هذه العلامة أيضاً دوريّة، إذ {استعلام حال اللّفظ وأنّه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى} الّذي استعمل فيه {بهما} أي: بصحّة السّلب وعدم صحّة السّلب، مستلزم للدّور الصّريح.

بيانه: أنّ معرفة المعنى الحقيقي متوقّف على عدم صحّة السّلب، وعدم صحّة السّلب متوقّف على معرفة المعنى الحقيقي، أمّا الأوّل: فلأنّ معنى العلامة ما توقّف معرفة الشّيء عليها، وأمّا الثّاني: فلأنّه لو لم يعرف المعنى الحقيقي خارجاً لم يعقل الحكم بعدم صحّة السّلب، مثلاً: لو لم نعرف أنّ معنى (الأسد) هو الحَيَوان الكذائي لم نتمكّن من الحكم بعدم صحّة سلب (الأسد) عنه.

وهذا الإشكال بعينه وارد في هذه العلامة بالنّسبة إلى المجاز.

والجواب أنّه {ليس} الاستعلام بهذه العلامة {على وجه دائر} وذلك {لما عرفت في} جواب الدّور الوارد على {التّبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه} إذ العلم التّفصيلي بكون المعنى موضوعاً له متوقّف على عدم صحّة السّلب، وعدم صحّة السّلب متوقّف على العلم الإجمالي الارتكازي فيكون الفرق بين العلمين {بالإجمال والتّفصيل} كما تقدّم تقريره.

{أو} نقول في الجواب: العلم بالمعنى الحقيقي - بالنّسبة و{الإضافة إلى المستعلم} الجاهل - متوقّف على عدم صحّة السّلب، {و} صحّة الحمل عند {العالم}

ص: 93

فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّه قد ذكُر(1)

الاطّراد وعدُمه علامةً للحقيقة والمجاز أيضاً. و

___________________

باللّسان، كما تقدّم بيانه في الجواب عن الدّور الّذي أوردوه على علامية التّبادر {فتأمّل جيّداً} حتّى تكون على بصيرة.

تنبيه: قد اشتهر في ألسنة أساتيذنا أنّ كلمة «فتأمّل» مجرّداً إشارة إلى إيراد في المطلب، وأمّا مقروناً بنحو «جيّداً» فليس إشارة إلى شيء.

الاطّراد

{ثمّ} إنّ العلامة الرّابعة من علامات الحقيقة والمجاز الاطّراد وعدمه و{إنّه قد ذكر الاطّراد} علامةً للحقيقة {وعدمه} علامة للمجاز، والمراد بالاطّراد شيوع استعمال اللّفظ في المعنى بحسب المقامات، بحيث يصحّ استعماله فيه في كلّ مقام وحال، مثلاً: صحّة استعمال (ضارب) في كلّ من أوجد الضّرب كاشف عن كون (ضارب) موضوعاً لمن صدر منه الضّرب، وكذا صحّة استعمال لفظة (أسد) في كلّ حيوان كذائي كاشف عن كونه حقيقةً فيه، وذلك بخلاف المجاز، فإنّه لا يطّرد استعمال الأسد في كلّ شبيه بالأسد، فاستعماله في بعض من يشبهه - كالشُّجَاع - مجاز.

لكن قد أشكل في كونهما {علامة للحقيقة والمجاز أيضاً} وذلك لوجود الاطّراد في بعض المجازات، كما في استعمال (الأسد) في الرّجل الشُّجاع، فإنّه يطّرد استعماله فيه.

{و} الجواب: إنّ الاطّراد على قسمين:

الأوّل: الاطّراد بحسب نوع العلاقة المصحّحة للاستعمال، بحيث كلّما تحقّق هذه العلاقة بين اللّفظ والمعنى صحّ استعماله فيه، وذلك نحو استعمال العالم في

ص: 94


1- الفصول الغرويّة: 38.

لعلّه بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات، حيث لا يطّرد صحّة استعمال اللّفظ معها، وإلّا فبملاحظة خصوص ما يصحّ معه الاستعمال فالمجاز مطّرد كالحقيقة.وزيادة قيد: «من غير تأويل» أو: «على وجه الحقيقة» وإن كان موجباً لاختصاص الاطّراد كذلك

___________________

من تلبّس بالمبدأ، فإنّ استعمال العالم في الأفراد بعلاقة تلبّسهم بالمبدأ، ومعلوم أنّه كلّما تلبّس أحد بالعلم صحّ استعمال العالم فيه.

الثّاني: الاطّراد بحسب صنف العلاقة المصحّحة للاستعمال، بحيث إنّه لو تحقّق النّوع بدون الصّنف لم يصحّ الاستعمال، وذلك نحو استعمال (الأسد) في المشابه له، فالشّباهة نوع العلاقة، و(الشَّجَاعة) و(البَخَر) و(الزَّأْرُ) أصنافها، ومن المعلوم عدم صحّة الاستعمال بمجرّد نوع العلاقة ووجود الشّباهة المتحقّقة في (البخر) - مثلاً - . نعم، يصحّ الاستعمال حين وجود الصّنف الخاصّ من العلاقة - أعني: الشَّجَاعة - فكون الاطّراد علامة للحقيقة {لعلّه بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات} فكلّما صحّ الاستعمال بتحقّق النّوع كان حقيقة، و{حيث لا يطّرد صحّة استعمال اللّفظ معها} أي: مع العلاقة - أعني: نوعها - كان مجازاً كما تبيّن في القسم الأوّل {وإلّا فبملاحظة} صنف العلاقة، أي: {خصوص ما يصحّ معه الاستعمال} كالشّجاعة {فالمجاز مطّرد كالحقيقة} كما ظهر من القسم الثّاني، وحينئذٍ لا يكون الاطّراد علامةً للحقيقة.

ثمّ لا يخفى أنّ معرفة صنف العلاقة ونوعها مربوط بعلم البيان، إذ العلائق المذكور فيه كلّها أنواع، هذا ما يمكن أن يدفع به الإيراد على كون الاطّراد علامة.

{و} قد تخلّص بعض عنه ب {زيادة قيد} فقال: الاطّراد {«من غير تأويل»، أو} الاطّراد {«على وجه الحقيقة»} علامة الحقيقة.{و} هذا التّقييد و{إن كان موجباً لاختصاص الاطّراد كذلك} أي: الاطّراد المقيّد

ص: 95

بالحقيقة، إلّا أنّه حينئذٍ لا يكون علامةً لها إلّا على وجهٍ دائرٍ.

ولا يتأتّى التّفصّي عن الدَّوْر بما ذكر في التّبادر هنا؛ ضرورةَ أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجالٌ لاستعلام حال الاستعمال بالاطّراد أو بغيره.

___________________

بأحد القيدين {بالحقيقة} إذ ليس للمجاز اطّراد على وجه الحقيقة، فإنّ اطّراده على وجه التّأويل والمجاز {إلّا أنّه} أي: الاطّراد المقيّد {حينئذٍ} أي: حين التّقييد {لا يكون علامة لها} أي: للحقيقة {إلّا على وجهٍ دائرٍ} بيانه: أنّ معرفة الحقيقة موقوفة على الاطّراد على وجه الحقيقة أو بلا تأويل، والاطّراد على وجه الحقيقة أو بلا تأويل موقوف على معرفة الحقيقة، أمّا توقّف معرفة الحقيقة على الاطّراد، فلكونه علامة لها، وأمّا توقّف الاطّراد على معرفة الحقيقة، فلأنّه لا يعلم كون الاطّراد على وجه الحقيقة إلّا بعد معرفة الحقيقة وهذا دور مصرّح.

{و} إن قلت: يمكن الجواب عن هذا الدّور بما تقدّم في الجواب عن الدّور الوارد في التّبادر وصحّة السّلب، وذلك إمّا بنحو الإجمال والتّفصيل، وإمّا بنحو العالم والمستعلم.

قلت: {لا يتأتّى التّفصّي عن الدّور بما ذكر في التّبادر هنا} في الاطّراد؛ لأنّه لا بدّ في العلامة أن تكون معلومةً للمستعلم تفصيلاً حتّى ينتقل منها إلى المعنى الحقيقي، والمفروض في المقام هو كون أحد جُزْأَيِ العلامة هو الحقيقة فلا بدّ من معرفة الحقيقة تفصيلاً، وحينئذٍ تسقط فائدة العلامة {ضرورة أنّه مع العلم بكونالاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطّراد أو بغيره}.

وبعبارة أوضح مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة يكون المعنى الحقيقي معلوماً فلا مجهول حتّى يراد تحصيله بالاطّراد، أو غيره من سائر العلامات.

ص: 96

الثّامن: أنّه للّفظ أحوال خمسة، وهي: التّجوّز، والاشتراك، والتّخصيص، والنّقل، والإضمار.

___________________

[الأمر الثّامن: أحوال اللفظ]

المقدّمة، أحوال اللفظ

الأمر {الثّامن} في تعارض الأحوال، اعلم {أنّه} قد ذكر {للّفظ أحوال خمسة} بل أكثر، إلى العشرة {وهي} عبارة عن أُمور طارئة على اللّفظ مقابل للمعنى الحقيقي، والمراد بالمعنى الحقيقي هنا - كما ذكره بعض الأفاضل - هو الّذي وضع له اللّفظ مع العلم به وكان ظاهراً فيه فعلاً أو تعليقاً، وسيأتي شرحه:

الأوّل: {التّجوّز}، وهو استعمال اللّفظ في خلاف الموضوع له لعلاقة طبيعيّة أو وضعيّة، كاستعمال (الرّقبة) في الإنسان، و(الأسد) في الرّجل الشُّجَاع.

{و} الثّاني: {الاشتراك}، وهو تعدّد وضع اللّفظ ك (العين) المشترك بين الباصرة، والنّابعة، وغيرهما.

{و} الثّالث: {التّخصيص}، وهو قصر حكم العام على بعض أفراده بإخراج بعض الأفراد نحو (أكرِمِ العُلَمَاءَ إلّا الفُسَّاقَ) فهذا الاستثناء قصر حكم العام على العدول وإخراج الفسّاق.

{و} الرّابع: {النّقل}، وهو غلبة استعمال اللّفظ الموضوع لمعنىً في معنى آخر بحيث هُجِرَ المعنى الأوّل، ك (الصّلاة) الّتي كان معناها الدّعاء، ثمّ غلب استعمالها في الأركان المخصوصة بحيث صارت حقيقة فيها وهُجِرَ معناهاالأوّل.

{و} الخامس: {الإضمار}، وهو تقدير شيء يتوقّف الكلام عليه نحو:

دَعَانِي إليها القَلْبُ، إنّي لأمرِهِ *** سَمِيْعٌ، فما أدرِيْ أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا

فالتّقدير: (أم غيّ).

ولا يخفى أنّ التّخصيص والإضمار وإن كانا قسمين من المجاز لكنّه لمّا كان

ص: 97

___________________

لهما مزيد اختصاص وامتياز أفردوهما من أقسام المجاز وجعلوهما قسيماً له. وأمّا الخمسة البواقي:

فالأوّل: النَّسْخُ، وهو التّقيّد في الزّمان ك (الصَّدَقة بين يدي النَّجْوَى) الّتي كانت واجبة ثمّ نسخ هذا الحكم بقوله - تعالى - : {ءَأَشۡفَقۡتُمۡ}(1).

الثّاني: التّقييد، وهو قصر حكم المطلق على بعض أفراده بإخراج البعض منه نحو {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(2)، وقوله(علیه السلام): «لا تَبِعْ ما ليس عندك»(3)، فإنّ البيع في الآية قُيِّدَ بكونه عنده، وخرج عن حكم الحِلِّية ما ليس عنده.

الثّالث: الكِناية، وهي ذكر اللّازم وإرادة الملزوم، نحو (جَبَانُ الكَلْبِ) لكثير الضَّيْف، فإنّ لازم كثرة الضَّيْفِ جُبْنُ الكَلْبِ.

الرّابع: الاستخدام، وهو ذكر لفظ مشترك بين معنيين يراد به أحدهما ثمّ يعادعليه ضمير أو إشارة بمعناه الآخر كقوله:

إذا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ

رعيناه، وإن كانوا غِضابَا(4)

أراد ب (السّماء) المطر، وبضميره في (رعيناه) النّبات.

الخامس: التّضمين، وهو تضمين فعلٍ معنى فعلٍ آخَرَ، كقوله - تعالى - : {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ}(5) فإنّه ضمّن «يخالفون» معنى يعرضون، ولهذا عُدِّيَ بكلمة «عن». هذه هي الأحوال المعروفة ذِكْرُهَا، وإلّا فالتّورية، و الإيهام، والتّجريد،

ص: 98


1- سورة المجادلة، الآية: 13.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
3- وسائل الشّيعة 17: 357، عن الصّادق(علیه السلام): «نهى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ... وعن بيع ما ليس عندك».
4- هو لجرير بن عطيّة بن الخطفي التّميمي. راجع المطوّل: 426.
5- سورة النّور، الآية: 63.

لا يكاد يصار إلى أحدها - في ما إذا دار الأمر بينه وبين المعنى الحقيقي - إلّا بقرينةٍ صارفةٍ عنه إليه.

وأمّا إذا دار الأمر بينها، فالأصوليّون وإن ذكروا(1)

لترجيح بعضها على بعضٍ وجوهاً،

___________________

ونحوها من هذا القبيل أيضاً.

ولا يخفى أنّه {لا يكاد يصار إلى أحدها في ما إذا دار الأمر بينه} أي: بين أحد هذه الأحوال المذكورة {وبين المعنى الحقيقي} كما لو تردّد قول القائل: (إفْعَلْ) بين كونه المعنى الحقيقي - أعني: الوجوب - أو المجازي - أي: الاستحباب - فإنّ هذا يحمل على الوجوب قطعاً، وذلك لاحتياج النَّدْبِ إلى القرينة، وكذا باقي الأحوال المذكورة، فإنّ كلّها خلاف الظّاهر، وقد تقدّم المراد بالحقيقي.

وأمّا قيوده فب «الوضع» خرج المجاز، وبقيد «العلم» خرج النّقل والاشتراك،لعدم العلم بالوضع فيهما، إذ لو عُلِمَ الوضع كان الأمر دائراً بين المعنيين، وبقيد «الظّهور» خرج ما ليس بظاهرٍ، إذا لم يكن موجباً للتّجوّز، وبقولنا: «تعليقاً» يدخل ما كان الظّهور التّعليقيّ حجّة عند العقلاء، كما في ما لو احتمل سقوط قرينة متّصلة فيه، فتأمّل. ومن أراد التّفصيل فَلْيَرْجِعْ إلى حاشية المشكينيّ(قدس سره)(2).

فتحصّل أنّه لا يُرْفَعُ اليد عن المعنى الحقيقي {إلّا بقرينةٍ صارفةٍ عنه إليه} أي: صارفة عن المعنى الحقيقي إلى أحد الخمسة، هذا في ما لو دار بين أحدها والمعنى الحقيقي {وأمّا إذا دار الأمر بينهما} كما لو دار الأمر في قوله - تعالى - : {وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ}(3) بين تقدير كلمة (أهل) المضاف، وبين المجازيّة {فالأصوليّون وإن ذكروا لترجيح بعضها} أي: بعض تلك الأحوال {على بعضٍ وجوهاً} اعتباريّةً

ص: 99


1- الفصول الغرويّة: 40.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 138.
3- سورة يوسف، الآية: 82.

إلّا أنّها استحسانيّةٌ، لا اعتبارَ بها إلّا إذا كانت موجبةً لظهور اللّفظ في المعنى؛ لعدم مساعدة دليلٍ على اعتبارها بدون ذلك، كما لا يخفى.

التّاسع: أنّه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشّرعيّة وعدمه على أقوالٍ.

___________________

- كما يجدها الطّالب في القوانين(1) وغيره - {إلّا أنّها} كلّها {استحسانيّة لا اعتبار بها} إذ غايتها إفادتها الظّنّ، وهو ليس بحجّة لا شرعاً ولا عقلاً، وقياسه بأصالة الحقيقة مع الفارق، والاستدلال لهبما ورد في الشّرع مما دل على حليّة ما يباع في أسواق المسلمين ونحوه - كما ترى - .

والحاصل: أنّ الوجوه المذكورة للتّرجيح لا اعتبارَ بها {إلّا إذا كانت موجبة لظهور اللّفظ في المعنى} الرّاجح، بحيث يكون ظاهراً فيه عند العرف وإلّا فلا {لعدم مساعدة دليلٍ على اعتبارها} أي: اعتبار تلك الوجوه {بدون ذلك} الّذي ذكرناه من إيجادها الظّهور {كما لا يخفى}.

[الأمر التّاسع: الحقيقة الشرعية]

المقدّمة، الحقيقة الشرعيّة

الأمر {التّاسع} في ثبوت الحقيقة الشّرعيّة وعدمه، اعلم أنّ الموضوعات ثلاثة أقسام:

الأوّل: الموضوع الخارجي المحسوس، كالماء، والتّراب، ونحوهما.

الثّاني: الموضوع العرفيّ الانتزاعيّ، كالبيع ونحوه.

الثّالث: المخترعات الشّرعيّة، وهي الأُمور المتعلّقة بالتّكاليف، كالطّهارَةِ، والصَّوْمِ، والصَّلاَة، والثّالث هو موضوع الكلام في هذا المقام.

ثمّ {إنّه} قد {اختلفوا في ثبوت} هذا القسم، أي: {الحقيقة الشّرعيّة وعدمه على أقوالٍ}: منها الإثبات مطلقاً، ومنها النّفي مطلقاً، ومنها التّفصيل بين العبادات

ص: 100


1- قوانين الأصول 1: 32.

وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقالٍ، وهو: أنّ الوضع التّعييني كما يحصل بالتّصريح بإنشائه، كذلك يحصل باستعمال اللّفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له، بأن يقصد الحكاية عنه والدّلالة عليه بنفسه لا بالقرينة، وإن كان لا بدّ حينئذٍ

___________________

والمعاملات بالثّبوت في الأُولى والنّفي في الثّانية، ومنها الإثبات في زمان الصّادقين‘ والنّفي زمان النّبيّ(صلی الله علیه و آله).

{وقبل الخوض في تحقيق الحال} وبيان الأقوال {لا بأس بتمهيد مقال} يكون مقدّمةً للمذهب المختار {وهو أنّ الوضع} على قسمين:

الأوّل: الوضع التّعييني، وهو تعيين اللّفظ للدّلالة على المعنى بنفسه.

الثّاني: الوضع التّعيّني وهو اختصاص اللّفظ بالمعنى بسبب عُلْقَةٍ حاصلة بينهما، ناشئة من كثرة استعمال اللّفظ فيه.

والقسم الأوّل - أعني: الوضع {التّعييني - كما يحصُلُ بالتّصريح بإنشائه} كأن يعلن بوضع اللّفظ الفلاني للمعنى الفلاني بكتابة أو قول أو نحوهما {كذلك يحصُلُ} الوضع التّعييني {باستعمال اللّفظ في غير ما وضع له} أوّلاً، وذلك مثل أن يقول الوالد - حين سَمَاعِهِ بولادة ولدٍ له - : (أعطني المبارك) ويَقْصِدُ بهذا الاستعمال وضع لفظ المبارك لابنه.

والحاصل: أنّ الوضع ثلاثة أقسام: الأوّل التّعيّني، الثّاني التّعييني الابتدائي، الثّالث التّعييني الاستعمالي، وذلك {كما إذا وضع له بأن يقصِدَ} الواضع {الحكاية عنه} أي: عن الوضع {والدّلالة عليه بنفسه} أي: بنفس هذا الاستعمال {لا بالقرينة، وإن كان لا بدّ حينئذٍ} كلمة «إن» وَصْلِيّة، أي: وإن لزم حين ما أراد الواضع الوضع بمجرّد الاستعمال أن ينصب قرينة مفهمة للوضع.

إن قلت: إذا احتاج هذا القسم من الاستعمال إلى القرينة فما الفرق بينه وبين المجاز؟

ص: 101

من نصب قرينةٍ، إلّا أنّه للدّلالة على ذلك،لا على إرادة المعنى كما في المجاز، فافهم.

وكونُ استعمال اللّفظ فيه كذلك [استعمالاً] في غير ما وُضِعَ له - بلا مراعاة ما اعتُبِرَ في المجاز فلا يكون بحقيقة ولا مجاز - غيرُ ضائرٍ، بعد ما كان ممّا يقبله الطّبع ولا يستنكره. وقد عرفتَ سابقاً أنّه في الاستعمالات الشّائعة في المحاورات ما ليس بحقيقةٍ ولا مجازٍ.

___________________

قلت: الواضع وإن كان لا بدّ له {من نصب قرينةٍ إلّا أنّه} أي: نصب القرينة إنّما هو {للدّلالة على ذلك} القصد، وأنّه أراد الوضع بالاستعمال {لا} أنّ القرينة {على إرادة المعنى كما في المجاز}.

ومنه تبيّن الفرق بين القرينتين، لكن يمكن أن يقال: إنّ القرينة الدّالّة على الوضع دالّة على إرادة المعنى أيضاً، ويحتمل أن يكون قولُهُ: {فافهم} إشارةً إلى ذلك.

إن قلت: إنّ الاستعمالَ في غير ما وُضِعَ له بقصد الوضع غيرُ صحيحٍ، إذ هذا الاستعمال ليس بحقيقةٍ؛ لعدم سبقه بالوضع، ولا مجازٍ، لعدم القرينة الصّارفة عن المعنى الحقيقي، أو لعدم لحاظ العلاقة المعتبرة {و} من المعلوم {كون استعمال اللّفظ فيه} أي: في المعنى المراد {كذلك} أي: بقصد الوضع {في غير ما وضع له} اللّفظ أوّلاً {بلا مراعاة ما اعتُبِرَ في المجاز} من العلاقة والقرينة.

{فلا يكون بحقيقةٍ ولا مجازٍ} باطلاً فإن الاستعمال لا بدّ وأن يكون مسبوقاً بالوضع، وحينئذٍ فإمّا أن يستعمل اللّفظ في المعنى الموضوع له فيكون حقيقة، أم لا فيكون مجازاً.

قلت: الاستعمال كذلك {غيرُ ضائرٍ بعد ما كان ممّايقبله الطّبع ولا يستنكره} وما ذُكِرَ في وجه البُطْلانِ غيرُ مستقيمٍ، إذ لم يقم دليلٌ على الحَصْرِ لا عقلاً ولا نقلاً، {وقد عرفت سابقاً} في الأمر الثّالث والرّابع {أنّه في الاستعمالات الشّائعة في المحاورات} العرفيّة {ما ليس بحقيقةٍ ولا مجازٍ} كما إذا أطلق اللّفظ وأُريد به

ص: 102

إذا عرفت هذا، فدعوى الوضع التّعيينيّ في الألفاظ المتداولة في لسان الشّارع هكذا قريبةٌ جدّاً، ومُدَّعِي القطعِ به غير مُجَازِفٍ قطعاً.

ويدلّ عليه تبادر المعاني الشّرعيّة منها في محاوراته.

ويؤيّد ذلك:

___________________

نوعه، أو مثله، أو صنفه، أو شخصه.

{إذا عرفت هذا} الّذي ذكرناه من الأقسام الثّلاثة للوضع وإمكان القسم الثّالث وهو التّعييني الاستعمالي {فدعوى الوضع التّعييني في} جميع {الألفاظ المتداولة في لسان الشّارع هكذا} أي: بنحو الوضع التّعيينيّ الاستعماليّ بنصب القرينة على الوضع، كما لو قال: «صَلُّوْا كما رَأَيْتُمُوْنِي أُصَلِّي»(1)

ثمّ فَعَلَ(صلی الله علیه و آله) الأركان المخصوصة، أو قال: «خُذُوْا عنّي مَنَاسِكَكُمْ»(2)

ثمّ فَعَلَ الأفعال المخصوصة {قريبةٌ جدّاً} وإن لم يقم عليه دليل.

{ومدّعي القطع به} أي: بهذا النّحو من الوضع التّعييني {غيرُمجازف قطعاً} فتأمّل.

{ويدلّ عليه} أي: على هذا النّحو من الوضع التّعييني {تبادر المعاني الشّرعيّة} المجعولة {منها} أي: من هذه الألفاظ {في محاوراته}(صلی الله علیه و آله)، حيث كان الأصحاب يعملون على طبق المخترعات عقيب أمره(صلی الله علیه و آله) إيّاهم بذلك الألفاظ كما يجده المتتبّع في أحواله(صلی الله علیه و آله).

لكن لا يخفى أنّ هذا الدّليل أعمّ من المدّعى، إذ الدّليل إنّما يدلّ على مطلق الوضع، لا الوضع التّعييني الاستعمالي، والّذي يمكن أن يقال: ادّعاء الوضع التّعيّني، إذ التّعييني الدّفعي مستبعد جدّاً، والتّعييني الاستعمالي - بأن كان قصد الشّارع حين الاستعمال الوضع - أبعد {و} إن كان ربّما {يؤيّد ذلك} الوضع

ص: 103


1- غوالي اللئالي 1: 198.
2- السرائر 1: 607.

أنّه ربّما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشّرعيّة واللّغويّة، فأيّ علاقة بين الصّلاة شرعاً والصّلاة بمعنى الدّعاء؟ ومجرّد اشتمال الصّلاة على الدّعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكلّ بينهما، كما لا يخفى.

___________________

الاستعمالي {أنّه ربّما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشّرعيّة} المخترعة {واللّغويّة}.

وجه التّأييد أنّ هذه الألفاظ لو لم تكن موضوعةً للمعاني الشّرعيّة كان استعمالها فيها مجازاً، والمجاز يحتاج إلى العلاقة، وحيث لا علاقة بين المعنى الشّرعيّ واللّغوي فلا مجاز، وإذ لم يكن مجازاً فلا بدّ وأن يكون حقيقةً - كما لا يخفى - .

{فأيّ علاقة بين الصّلاة شرعاً والصّلاة} لغةً، الّتيهي {بمعنى الدّعاء}؟

{و} إن قلت: العلاقة موجودة، إذ الدّعاء جزء الصّلاة المخترعة، فاستعمال الصّلاة في المركّب من الدّعاء وغيره من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ.

قلت: {مجرّد اشتمال الصّلاة على الدّعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكلّ بينهما} إذ شرط هذه العلاقة كون الجزء ممّا ينتفي الكلّ بانتفائه، والدّعاء في الصّلاة ليس بهذه المثابة.

ثمّ إنّه إنّما جَعَلَ هذا مُؤَيِّداً ولم يَجْعَلْهُ دليلاً، لما تقدّم مِن أنّ صحّة استعمال اللّفظ في غير الموضوع له إنّما يكون بالطّبع، لا بالعلائق الّتي ذكروها {كما لا يخفى}.

وقد يرد على هذا التّأييد بأنّ العلاقة موجودة؛ لأنّ الأركان المخصوصة تشبه الدّعاء في كون كلّ منهما غايةَ الخضوع، وعلى تقدير التّسليم فهذا يؤيّد أصل الوضع لا الاستعمالي منه.

ص: 104

هذا كلّه بناءً على كون معانيها مستحدثةً في شرعنا.

وأمّا بناءً على كونها ثابتة في الشّرائع السّابقة - كما هو قضيّة غير واحدٍ من الآيات؛ مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ}(1) الخ، وقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ}(2)، وقوله تعالى: {وَأَوۡصَنِيبِٱلصَّلَوةِ وَٱلزَّكَوةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا}(3) إلى غير ذلك -

___________________

ثمّ {هذا كلّه} أي: الّذي ذكرناه من كون الألفاظ موضوعةً بالوضع التّعييني الاستعمالي {بناءً على كون معانيها مستحدثة في شرعنا} كما هو المشهور {وأمّا بناءً على كونها ثابتة في الشّرائع السّابقة} القريبة - كما ذهب إليه الباقلاني - بحيث كانت هذه الألفاظ تستعمل في هذه المعاني {كما هو قضيّةُ غيرِ واحدٍ من الآيات} المستعملة فيها هذه الألفاظ {مثل قوله - تعالى - : {كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ} عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ} {الخ} فإنّ ظاهرها شرعيّة صوم قريب من كيفيّة صوم المسلمين في الشّرائع السّابقة، إذ لو لم تكن مناسبة بين الكيفيّتين لم يكن للتّشبيه وجه.

{و} كذا {قوله - تعالى - : {وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ}} فإنّ ظاهرها: كون الحجّ أمراً معهوداً بين النّاس قبل تشريع وجوبه، على أنّه يظهر ذلك من كيفيّة إرادة النّبيّ(صلی الله علیه و آله) الحجّ.

{و} كذا {قوله - تعالى - :} حكايةً عن عيسى - على نبيّنا وآله وعليه السّلام - {{وَأَوۡصَنِي بِٱلصَّلَوةِ وَٱلزَّكَوةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا}} فإنّ الصّلاة والزّكاة ظاهرتان في المعنى القريب من معناهما في الإسلام {إلى غير ذلك} من نحو هذه الألفاظ

ص: 105


1- سورة البقرة، الآية: 183.
2- سورة الحج، الآية: 27.
3- سورة مريم، الآية: 31.

فألفاظُها حقائق لغويّة لا شرعيّة.

واختلافُ الشّرائع فيها - جزءاً وشرطاً - لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهيّة؛ إذلعلّه كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحقّقات، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى.

___________________

المستعملة في الكتاب الحكيم {فألفاظها حقائق لغويّة} جواب «أمّا» {لا} تكون حينئذٍ مستحدثات {شرعيّة}.

{و} إن قلت: على فرض كون أصل هذه المعاني في الشّرائع السّابقة موجودةً لا يثبت ما ذكرتم، إذ من البديهيّ اختلافُ الشّرائع في الكيفيّة.

قلت: {اختلاف الشّرائع فيها - جزءاً وشرطاً - لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهيّة، إذ لعلّه} أي: لعلّ الاختلاف بين الشّرائع {كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحقّقات} المندرجة تحت كلّيّ واحد، وذلك لا يوجب الاختلاف في الجامع والاسم ويكون ذلك {كاختلافها} أي: كاختلاف المصاديق {بحسب الحالات في شرعنا} غير الموجب لاختلاف الحقيقة والماهيّة {كما لا يخفى}.

وقد علّق ابن المصنّف(رحمة الله)على هذا الموضع ما لفظه: «لا يخفى عليك أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الآيات هو ثبوت هذه الحقائق والماهيّات في الشّرائع السّابقة، ولا دلالة فيها على أنّ هذه الألفاظ كانت موضوعةً بإزائها فيها، ضرورةَ احتمالِ أنّ الألفاظ الموضوعة لها فيها غيرها، وإنّما وقع التّعبير بها عنها في القرآن، لأجل تداول ذلك وشيوعه في هذه الشّريعة، إمّا على نحو الحقيقة، أو المجاز، وحينئذٍ فللتأمّل في ما استفاده - دام ظلّه - من هذه الآيات الشّريفة مجال واسع، كما لا يخفى»(1).

ص: 106


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 149.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه مع هذا الاحتمال لا مجال لدعوى الوثوق - فضلاً عن القطع - بكونها حقائق شرعيّة، ولا لتوهّم دلالة الوجوه الّتي ذكروها على ثبوتها، لو سلّم دلالتها على الثّبوت لولاه.

ومنه انقدح حال دعوى الوضع التّعيّنيّ معه.

ومع الغضّ عنه، فالإنصاف، أنّ مَنْعَ حُصُوْلِهِ - في زمان الشّارع في لسانه ولسان تابعيه - مكابرةٌ. نعم، حصوله في خصوص لسانه ممنوعٌ، فتأمّل.

___________________

{ثمّ لا يذهب عليك أنّه مع هذا الاحتمال} الّذي ذكره الباقلانيّ من ثبوت هذه الحقائق في الشّرائع السّابقة {لا مجال لدعوى الوثوق، فضلاً عن} دعوى {القطع بكونها} أي: بكون ألفاظ العبادات {حقائق شرعيّة، و} كذا {لا} مجال بعد هذا الاحتمال {لتوهّم دلالة الوجوه الّتي ذكروها} الأصوليّون {على ثبوتها} أي: ثبوت الحقائق الشّرعيّة، و{لو سلّم دلالتها على الثّبوت لولاه} أي: لولا هذا الاحتمال، إذ الكلام في كونها حَقَائِقَ أو مجازاتٍ متفرّع على كونها مخترعات من الشّارع، فلو ذهب الأصل ولو بالاحتمال ذهب الفرع.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من احتمال كون هذه المعاني قديمة، لا حادثة {انقدح حال دعوى الوضع التّعيّني معه} أي: مع هذا الاحتمال {و} أمّا {مع الغضّ عنه} أي: عن هذا الاحتمال {فالإنصافُ أنّ منعَ حصولِهِ} أي: حصول الوضع التّعيّني الغلبي {في زمان الشّارع في لسانه} (صلی الله علیه و آله){ولسان تابعيه مكابرةٌ} هذا عدول عمّا اختاره سابقاً، من كونها موضوعة بالوضع التّعييني الاستعمالي - كما لا يخفى - .

{نعم، حصوله في خصوص لسانه} (صلی الله علیه و آله) {ممنوع} لعدم الدّليل عليه، والاعتبارُ لا يساعده {فتأمّل} حتّى لا تقول: إنّ هذا موجب لثبوت الحقيقة المتشرّعة لا الحقيقة الشّرعيّة - كما هو محلّ الكلام - حيث إنّ النّزاع يدور مدار الثّمرة، والثّمرة تترتّب على مطلق الوضع في زمان الشّارع، فمغايرة العنوان ومصبّ أدلّة

ص: 107

وأمّا الثّمرة بين القولين، فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشّارع - بلا قرينة - على معانيها اللّغويّة مع عدم الثّبوت، وعلى معانيها الشّرعيّة على الثّبوت، في ما إذا علم تأخّر الاستعمال.

وفي ما إذا جهل التّاريخ ففيه إشكال. وأصالةُ تأخّر الاستعمال - مع معارضتها بأصالة تأخّر الوضع - لا دليل على اعتبارها تعبّداً إلّا على القول بالأَصْلِ المُثْبِتِ.

___________________

الطّرفين غير ضائرة.

{وأمّا الثّمرة بين القولين} أي: قول المثبتين مطلقاً بأيّ نحوٍ كان، والنّافين كذلك. {فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشّارع} حيّز الطّلب ونحوه {بلا قرينة على معانيها اللّغويّة مع عدم الثّبوت} للحقيقة الشّرعيّة {وعلى معانيها الشّرعيّة على الثّبوت} إجمالاً.

والتّفصيل أنّه إمّا أن يعلم تاريخ النّقل والاستعمال، وإمّا أن يُجْهَلان، وإمّا أنيُعْلَمَ الأوّل دون الثّاني، وإمّا بالعكس، فعلى الأوّل يحمل على المعنى اللّغويّ في ما إذا علم تأخّر الوضع، وعلى المعنى الشّرعي {في ما إذا علم تأخّر الاستعمال، و} أمّا {في ما إذا جُهِلَ التّاريخ} وهي الأقسام الثّلاثة الباقية {ففيه} أي: في حمل اللّفظ الواقع في كلام الشّارع على المعنى الشّرعي أو اللّغويّ {إشكالٌ، و} تأمّل، إذ لا أصل هنا يعيّن أحدهما:

أمّا {أصالة تأخّر الاستعمال} أي: الاستصحاب الشّرعيّ، فإنّه {مع معارضتها بأصالة تأخّر الوضع} غيرُ مفيدٍ؛ لأنّها على فرض عدم المعارضة إنّما تجري في ما إذا كان للمستصحب أثر شرعيّ بلا واسطةٍ، و{لا دليل على اعتبارها تعبّداً} في ما لو كان الأثر مترتّباً، لكن بالواسطة - كما في المقام - {إلّا على القول بالأصل المُثْبِتِ} ولا نقول به - كما تقرّر في محلّه - .

ص: 108

ولم يَثْبُتْ بناءٌ من العقلاء على التّأخّر مع الشّك. وأصالةُ عدم النّقل إنّما كانت معتبرةً في ما إذا شكّ في أصل النّقل، لا في تأخّره، فتأمّل.

العاشر: أنّه وقع الخلاف في أنّ ألفاظ العبادات أسامٍ لخصوص الصّحيحة، أو الأعمّ منها؟

___________________

{و} أمّا أصالة تأخّر الاستعمال عن الوضع عقلاً، فإنّه {لم يَثْبُتْ بِناءٌ من العقلاء على التّأخّر مع الشّكّ} في كونه مؤخّراً أم لا، مع أنّها أيضاً معارض بأصالة تأخّر الوضع.

{و} أمّا {أصالة عدم النّقل} المشهورة في ألسن القوم المثبتةللمعنى اللّغويّ فلا ارتباط لها بالمقام؛ لأنّها {إنّما كانت معتبرةً في ما إذا شُكَّ في أصل النّقل} من المعنى الأوّل إلى المعنى الثّاني {لا} في مثل ما نحن فيه، ممّا علم فيه النّقل لكن شُكَّ {في تأخّره} عن الاستعمال وتقدّمه عليه {فتأمّل} يمكن أن يكون إشارةً إلى عدم الثّمرة لهذا البحث أصلاً، لعدم وجود ألفاظٍ مشكوكةٍ تقدّمها وتأخّرها عن الوضع في لسان الشّارع(صلی الله علیه و آله)، ويمكن أن يكون إشارة إلى الفرق بين صُوَرِ جَهْلِ التّاريخ، ومن أراد التّفصيل، فليرجع إلى تقريرات الميرزا(رحمة الله) وشرح السّلطان(1).

وبهذا عُلِمَ أنّ اللّفظ المشكوك مُجْمَلٌ، فلا بدّ فيه من الرّجوع إلى الأصول.

[الأمر العاشر: الصحيح والأعم]

اشارة

المقدّمة، الصحيح والأعم

الأمر {العاشر} في الصّحيح والأعمّ، اعلم {أنّه وقع الخلاف في أنّ ألفاظ العبادات} المستعملة في لسان النّبيّ والأئمّة(علیهم السلام) هل هي {أسامٍ لخصوص} العِباداتِ {الصّحيحة، أو الأعمّ منها} ومن الفاسدة؟ حتّى لو قال(علیه السلام): «لا تَنْعَقِدُ جُمْعَتانِ في أقلّ مِنْ فَرْسَخٍ»(2) لم تَصِحّ الثّانية، ولو كانتِ الأُوْلَى باطلةً، لعدم

ص: 109


1- تقريرات المجدد الشيرازي 1: 234؛ أجود التقريرات 1: 33؛ الحاشية على كفاية الأصول 1: 125.
2- ورد في الكافي 3: 419، عن أبي جعفر(علیه السلام) أنه قال: «يكون بين الجماعتين ثلاثة أميال، يعني لا يكون جمعة إلّا في ما بينه وبين ثلاثة أميال، وليس تكون جُمعة إلّا بخطبة»، قال: «فإذا كان بين الجماعتين في الجمعة ثلاثة أميال فلا بأس بأن يجمع هؤلاء ويجمع هؤلاء».

وقبل الخوض في ذكر أدلّة القولين يُذْكَرُ أُمور:

منها: أنّه لا شبهة في تأتّي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشّرعيّة. وفيجَرَيانه على القول بالعدم إشكالٌ.

وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره: أنّ النِّزاع وقع - على هذا - في أنّ الأصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازاً في كلام الشّارع، هو استعمالها في خصوص الصّحيحة أو الأعمّ، بمعنى أن أيّهما قد اعتبرت

___________________

استجماعها للشّرائط {وقبل الخوض في ذكر أدلّة القولين} للصّحيحيّ والأعمّيّ {يُذْكَرُ أُمورٌ} خمسةٌ:

محلّ النّزاع

{منها} في بيان تحرير محلّ النّزاع فنقول: {إنّه لا شبهة في تأتّي الخلاف} بين الصّحيحيّ والأعمّيّ {على القول بثبوت الحقيقة الشّرعيّة} فالصّحيحي يقول بأنّ الشّارع وضع الألفاظ بإِزاء الصّحيح فقط، والأعمّي يقول بوضعها بإِزاء الأعمّ.

{و} أمّا {في جريانه} أي: جريان الخلاف {على القول} الثّاني وهو القول {بالعدم} للحقيقة الشّرعيّة {إشكال} إذ لا تصادم بين الصّحيحي والأعمّي حينئذٍ، إذ كلّ منهما يعترف بصحّة الاستعمال في كلّ واحد من الصّحيح والفاسد، بل يعترف بوقوعه أيضاً، من غير فرقٍ بين أن يكون النّافي للحقيقة الشّرعيّة قائلاً بعدم المخترعات الشّرعيّة أيضاً - كما هو مذهب الباقلاني - أو يكون قائلاً بالمخترعات الشّرعيّة.

{وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره} أي: تصوير النّزاع على القول بعدم الحقيقة الشّرعيّة {أنّ النّزاع وقع على هذا} القول {في أنّ الأصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازاً في كلام الشّارع} هل {هو استعمالها في خصوص الصّحيحة أو الأعمّ} منهاومن الفاسدة {بمعنى أن أيّهما} أي: الصّحيح والأعمّ {قد اعتبرت}

ص: 110

العلاقة بينه وبين المعاني اللّغويّة ابتداءً، وقد استعمل في المعنى الآخر بتبعه ومناسبته، كي ينزّل كلامِه عليه مع القرينة الصّارفة عن المعاني اللّغويّة، وعدم قرينة أُخرى معيّنةٍ للآخر.

وأنت خبير بأنّه لا يكاد يصحّ هذا إلّا إذا علم أنّ العلاقة إنّما اعتبرت كذلك، وأنّ بناء الشّارع في محاوراته استقرّ - عند عدم نصب قرينةٍ أُخرى - على إرادته، بحيث كان هذا

___________________

ابتداءً {العلاقة بينه وبين المعاني اللّغويّة} بحيث إنّ الشّارع إذا صار بصدد الاستعمال في غيره لاحظ العلاقة بين المجاز الأوّل وهذا المعنى، على نحو سبك المجاز من المجاز، مثلاً: لاحظ الشّارع العلاقة بين الأركان المخصوصة الصّحيحة ومطلق الدّعاء {ابتداءً وقد استعمل في المعنى الآخر} وهو الأعمّ من الصّحيح والفاسد {بتبعه} أي: بتبع المعنى الصحيح {ومناسبته} وذلك كما لو لاحظ المستعمل العلاقة بين (زيد) و(الأسد)، ثمّ استعمل (الأسد) في (عمرو) للشّباهة بين (زيد) و(عمرو).

والحاصِلُ: أنّ الشّارع لاحظ العلاقة بين أيّهما والمعنى اللّغوي {كي ينزّل كلامه عليه مع القرينة الصّارفة عن المعاني اللّغويّة وعدم قرينة أُخرى معيّنةٍ للآخر} الّذي لم يلاحظ الشّارع العلاقة بينه وبين المعنى اللّغوي ابتداءً.

هذا كلّه بيان تصوير النّزاع في مقام الثّبوت والإمكان {وأنت خبير بأنّه لا يكاد يصحّ هذا} التّصوير في الإثبات {إلّا إذاعلم أنّ العلاقة إنّما اعتبرت كذلك} بين الصّحيح والمعنى اللّغوي على الصّحيح، وبين الأعمّ والمعنى اللّغويّ، على الأعم. {و} علم أيضاً {أنّ بناء الشّارع في محاوراته} قد {استقرّ عند عدم نصب قرينة أُخرى} صارفة عن المعنى المجازي الأوّل {على إرادته} متعلّق ب «استقر». مثلاً: استقرّ بناء الشّارع على إرادة الأعم الّذي هو المجازي الأوّل عند عدم نصب قرينة على الصّحيح الّذي هو المجازي الثّاني {بحيث كان هذا} البناء المستقر

ص: 111

قرينة عليه من غير حاجة إلى قرينة معيّنة أُخرى، وأنّى لهم بإثبات ذلك؟

وقد انقدح بما ذكرنا تصويرُ النِّزاع على ما نُسِبَ إلى الباقلاني(1)،

وذلك بأن يكون النّزاع في أنّ قضيّةَ القرينة المضبوطة - الّتي لا يتعدّى عنها إلّا بالأُخرى، الدّالّة على أجزاء المأمور به وشرائطه - هو تمام الأجزاء والشّرائط أو هما في الجملة، فلا تغفل.

___________________

منه(صلی الله علیه و آله) {قرينة عليه} أي: على قصده(صلی الله علیه و آله) المعنى المجازي الأوّل كالأعمّ في المثال {من غير حاجةٍ} في إرادته(صلی الله علیه و آله) الأعمّ مثلاً {إلى قرينة معيّنة أُخرى} غير استقرار بنائه.

{و} بهذا الوجه يمكن تصوير النّزاع على القول بعدم الحقيقة الشّرعيّة، ولكن {أنّى لهم بإثبات ذلك} الّذي ذكر من كون الشّارع اعتبرالعلاقة ابتداءً بين الصّحيح أو الأعمّ وبين المعنى اللّغوي، إذ لا طريق لإثبات هذا الممكن؟

{وقد انقدح بما ذكرنا} من تصوير النّزاع على القول بعدم الحقيقة الشّرعيّة {تصوير النّزاع على} مذهب من ينكر استعمال تلك الألفاظ في المعاني الجديدة، إمّا لعدم اختراعها وإمّا لعدم استعمالها فيها، ك {ما نسب إلى الباقلاني} القاضي أبي بكر.

{و} بيان {ذلك بأن} يقال: {يكون} تصوير {النّزاع} على مذهبه {في أنّ} هل {قضيّة القرينة المضبوطة الّتي} اعتبرها الشّارع(صلی الله علیه و آله) بين المعنى اللّغوي وبين ما يريد(صلی الله علیه و آله) من هذه الألفاظ و{لا يتعدّى عنها إلّا بالأُخرى} أي: القرينة الأُخرى {الدّالّة على أجزاء المأمور به وشرائطه} صفة القرينة {هو تمام الأجزاء والشّرائط} حتّى يختصّ بالصحيحة {أو هما في الجملة} أعمّ من الصّحيح والفاسد حتّى يثبت الأعمّ، ولكن لا يخفى أنّ ما أورده(قدس سره) من عدم الطّريق إلى الإثبات وارد هنا أيضاً {فلا تغفل}.

ص: 112


1- الباقلاني: محمّد بن الطّيّب، القاضي أبو بكر المتكلّم الأشعري البصري، توفّي ببغداد سنة 403ه .

ومنها: أنّ الظّاهر أنّ الصّحّة عند الكلّ بمعنىً واحدٍ، وهو التّماميّة. وتفسيرها بإسقاط القضاء - كما

___________________

فتحصّل تصوير النّزاع على المذاهب الثّلاثة:

أمّا على القول بالحقيقة الشّرعيّة فبأن يقال: هل وضعت الألفاظ للصّحيح أو الأعمّ؟

وأمّا على مذهب النّافي للحقيقة الشّرعيّة وكونها مجازات فبأن يقال: هلالشّارع اعتبر العلاقة بين الصّحيح أو بينه وبين الأعمّ؟

وأمّا على مذهب الباقلاني من كون المعاني الشّرعيّة من مصاديق المعاني اللّغويّة فبأن يقال: هل الشّارع عادته الاستعمال في المصداق الصّحيح أو في المصداق الأعم.

وبعبارة أُخرى: أنّ القرينة المنضبطة تدلّ على تمام ما يكون دخيلاً في المطلوب أم تدلّ على بعضه في الجملة؟

ولا يذهب عليك أنّ القرينة على قول الباقلاني ليست قرينة المجاز، بل المراد بها المخصّصة للمراد من العام أو المطلق اللّغوي.

معنى الصّحّة

{ومنها} أي: من الأُمور المذكورة الّتي لا بدّ من بيانها قبل الخوض في البحث في بيان معنى الصّحيح والفاسد المأخوذين في عنوان المبحث، فنقول:

قد اختلف في معنى الصّحّة: فالفقهاء عرّفوا الصّحّة في العبادات بما يكون مسقطاً للقضاء والإعادة، وفي المعاملات بما يكون مثمراً لترتّب الأثر، والمتكلّمون فسّروه بما يكون موافقاً للشّريعة، ولكن {أنّ الظّاهر} عند تتبّع كلمات الأعلام {أنّ الصّحّة عند الكلّ بمعنىً واحدٍ، وهو التّماميّة و} هو المراد منها عند الإطلاق، وأمّا {تفسيرها بإسقاط القضاء} وترتّب الأثر - {كما} حُكِيَ هذا التّعريف

ص: 113

عن الفقهاء - ، أو بموافقة الشّريعة - كما عن المتكلّمين - ، أو غير ذلك إنّما هو بالمهمّ من لوازمها؛ لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الأنظار. وهذا لا يوجب تَعَدُّدَ المَعْنَى، كما لا يوجبه اختلافها بحسب الحالات من السّفر والحضر، والاختيار والاضطرار إلى غير ذلك، كما لا يخفى.

___________________

{عن الفقهاء} - وبموافقة الأمر {أو بموافقة الشّريعة - كما} حكي {عن المتكلّمين} ومن حذا حذوهم - {أو غير ذلك} من سائر التّعاريف، فكلّ هذه التّفسيرات {إنّما هو} التفسير {بالمهم} الّذي يقصد الفقيه والمتكلّم {من لوازمها} لا أنّها تعريفات بما يقابل معنى التّماميّة. وحيث إنّ موضوع كلام الفقيه فعل المكلّف من حيث الأحكام الوضعيّة والتّكليفيّة كان مهمّه سقوط القضاء وترتّب الأثر، وكذا المتكلّم لمّا كان نظره إلى المبدأ - تعالى - وما يوجب الزُّلْفَى لديه كان مهمّه موافقة أوامره - تعالى - .

والحاصل: أنّ للصّحّة معنىً واحداً وآثاراً كثيرة، والتَّفَاسِيْرُ تفاسيرُ لآثارها، واختلاف العلماء في التّفسير لاختلاف أغراضهم {لوضوح اختلافه} أي: المهم {بحسب اختلاف الأنظار} - كما سبق - .

{و} معلوم أنّ {هذا} النّحو من الاختلاف {لا يوجب تعدّد المعنى} إذ تعدّد الغرض واللّازم لا يوجب تعدّد الملزوم {كما لا يوجبه اختلافها} أي: اختلاف الصّحّة {بحسب الحالات} الطّارئة على المكلّف {من السّفر والحضر والاختيار والاضطرار} والثّنائيّة والثّلاثيّة والرّباعيّة والجهر والإخفات والتّقديم والتّأخير {إلى غير ذلك} وهكذا المعاملات {كما لا يخفى} بل كذلك في سائر المركّبات الخارجيّة، وبهذا كلّه تبيّن أنّ معنى الصّحّة هو التّماميّة.

نعم، قد اختلفوا في المراد بالتّمام على أقوال خمسة:

الأوّل: التّماميّة من حيث الأجزاء.

ص: 114

ومنه ينقدح: أنّ الصّحّة والفَسَادَأمران إضافيّان، فيختلف شيءٌ واحدٌ صحّةً وفساداً بحسب الحالات، فيكون تامّاً بحسب حالةٍ، وفاسداً بحسب أُخرى، فتدبّر جيّداً.

___________________

الثّاني: من حيث الأجزاء والشّرائط.

الثّالث: من حيث الأجزاء والشّرائط وعدم المانع.

الرّابع: التّماميّة من حيث الثّلاثة وعدم النّهي عنه.

الخامس: كالرّابع بإضافة قصد القربة. قيل: ولم يعرف للقول الثّالث قائل. ثمّ في المقام كلام طويل موكول إلى التّقريرات(1).

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من أنّ الصّحّة تختلف حسب اختلاف الحالات {ينقدح أنّ الصّحّة والفساد أمران إضافيّان} لا متأصّلان حقيقيّان.

بيان الانقداح: إنّ الأمر الحقيقي لا يتطرّق إليه الاختلاف، فما يتطرّق إليه الاختلاف ليس بحقيقيّ {فيختلف شيء واحد صحّة وفساداً بحسب الحالات} بالنسبة إلى شخصٍ واحدٍ، أو بالنّسبة إلى شخصين. مثلاً: الصّلاة مع التّيمّم شيء يختلف بحسب الأشخاص والحالات {فيكون تامّاً} للشّخص الفاقد للماء، و{بحسب حالة} كالمرض {و} يكون {فاسداً} للشّخص الواجد للماء و{بحسب} حالة {أُخرى} كحالة الصّحّة - مثلاً - {فتدبّر جيّداً} حتّى لا تتوهّم أنّ المراد بكونهما إضافيّين أنّهما من مقولة الإضافة، إذ مقولة الإضافة متقوّمة بالنّسبة المتكرّرة متكافئةً - كالإخوة - أو غير - متكافئةٍ - كالأُبوّة والبنوّة - ولا تكرّر في المقام.

وكذلك ليس المراد من كونهما إضافيّين أنّ بينهما تقابل التّضايف، بل بينهماتقابل العدم والملكة، إذ الفَسَادُ عدمُ الصَّحّةِ عمّا من شأنه أن يكون صحيحاً، لا أنّه أمر وجوديّ، كما لا يخفى.

ص: 115


1- أجود التقريرات 1: 34.

ومنها: أنّه لا بدّ على كلا القولين من قدر جامع في البين، كان هو المسمّى بلفظ كذا.

ولا إشكال في وجوده بين الأفراد الصّحيحة، وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره؛

___________________

الجامع على الصّحيحيّ

{ومنها} أي: من الأُمور المذكورة قبل الخوض في البحث في بيان الجامع بين الأفراد الصّحيحة - على الصّحيح - والأفراد مطلقاً - على الأعمّ - فنقول: ذكر بعض الأفاضل(1)

أنّ الاحتمالات في المقام خمسة:

الأوّل: عدم الوضع للجامع ولا للخصوصيّات.

الثّاني: كون اللّفظ موضوعاً لكلّ واحدٍ على نحو الاشتراك اللّفظيّ.

الثّالث: كونه موضوعاً لواحدة منها ومجازاً في الباقي.

الرّابع: أن يكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً.

الخامس: أن يكونا عامّين والثّلاثة الأُوَل باطلة، بما بيّن في محلّه.

ثمّ {إنّه} بناءً على الاحتمالين الأخيرين {لا بدّ على كلا القولين}: الصّحيح والأعمّ {من قدر جامع} بين الأفراد {في البين} بحيث {كان هو المسمّى بلفظ كذا} كالصّلاة والصّوم ونحوهما، فإنّه لا بدّ من قدر مشترك بين أفراد الصّلاة، بحيث يوضع اللّفظ بإِزائه أو بإِزاء خصوصيّاته، لكن الجامع على الصّحيح أضيق منه علىالأعمّ بداهةً.

{ولا إشكال في وجوده بين الأفراد الصّحيحة} ولو كان بينها غاية الاختلاف، كما بين الصّلاة الجامعة للشّرائط، وبين صلاة الغريق.

{و} لا يلزم العلم تفصيلاً بذلك الجامع، بل {إمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره} كافٍ في مقام التّفهيم والتفهّم.

ص: 116


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 159.

فإنّ الاشتراك في الأثر كاشِفٌ عن الاشتراك في جامعٍ واحدٍ، يؤثّر الكُلُّ فيه بذاك الجامع، فيصحّ تصوير المسمّى بلفظ الصّلاة - مثلاً - ب «النّاهية عن الفحشاء» و«ما هو مِعْراجُ المؤمن»(1) ونحوهما.

___________________

وحيث حَمَلَتِ الآياتُ والأخبارُ آثاراً على الصّلاة وغيرها، من سائر العبادات والمعاملات، وإنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد - على مذاق المصنّف - نستكشف أنّ المؤثّر في هذه الآثار المتحقّقة في جميع أفراد الصّلاة الصّحيحة أمر واحد. {فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد} سار في تمام المصاديق {يؤثّر الكلّ} أي: كلّ فرد {فيه} في ذلك الأثر الواحد {بذاك الجامع} الواحد.

مثلاً: حيث حملت النّهي عن الفحشاء والمنكر على الصّلاة في القرآن، نستكشف عن جامع في جميع أفراد الصّلاة، بسببه يؤثّر كلّ فرد في النّهي عن الفحشاء، وإن كانت المراتب مختلفة فبعضها أقوى من هذا الأثر من بعض.

وعلى فرض استكشاف الجامع {فيصحّ تصوير المسمّى بلفظالصّلاة مثلاً ب «النّاهية عن الفحشاء»} والمنكر {و«ما هو مِعْراج المؤمن»} و«قربان كلّ تقي»(2) {ونحوهما} ك «خير موضوع»(3)

وكذا في سائر العبادات، فالصّوم اسم لما هو «جُنّة من النّار»(4)

وهكذا.

والحاصل: أنّ الآثار الواردة عن الشّارع تجعل مرآتاً للجامع الّذي هو المسمّى.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الجامع الّذي فرضه المصنّف مبنيّ على قاعدة الواحد

ص: 117


1- سفينة البحار 2: 268؛ التفسير الكبير 1: 266.
2- الكافي 3: 265.
3- معاني الأخبار: 332؛ الخصال 2: 523.
4- الكافي 2: 19.

والإشكالُ فيه: «بأنّ الجامع لا يكاد يكون أمراً مركّباً؛ إذ كلّ ما فُرض جامعاً، يمكن أن يكون صحيحاً وفاسداً؛ لما عرفت، ولا أمراً بسيطاً؛ لأنّه لا يخلو: إمّا أن يكون هو عنوان المطلوب، أو ملزوماً مساوياً له:

والأوّل غير معقول؛ لبداهة

___________________

لا يصدر إلّا من الواحد - كما تقدّم بيانه - وهي فاسدة في نفسها، ولو سلّم فرضاً محالاً لا تجري في هذا الموضع ممّا كان من الأُمور المجعولة للّه - تعالى - كما لا يخفى، وإذا هدم المبنى سقط البناء.

{و} إن قلت: يرد {الإشكال فيه} أي: في الجامع الّذي ذكرتم {بأنّ الجامع لا يكاد يكون أمراً مركّباً} ولا أمراً بسيطاً، وعليه فلا يعقل الجامع أصلاً:

أمّا أنّه لا يكون مركّباً {إذ كلّ ما فرض جامعاً يمكنأن يكون صحيحاً وفاسداً؛ لما عرفت} من كونهما إضافيّين، فلا يبقى مركّب يصدق على جميع المراتب يكون هو المسمّى بلفظ (الصّلاة) - مثلاً - المركّب من ثلاثة أشياء لا يشمل صلاة المختار، ومن مائة جزء لا يشمل صلاة الغريق.

{و} أمّا أنّ الجامع {لا} يكون {أمراً بسيطاً} ف {لأنّه لا يخلو} عن أحد أمرين:

{إمّا أن يكون هو عنوان المطلوب} بأن تكون الصّلاة موضوعةً لمطلوب.

{أو} يكون هو {ملزوماً مساوياً له} بأن تكون الصّلاة موضوعةً لفريضة الوقت، أو لذي المصلحة ونحوهما.

{و} لكن هذان باطلان:

أمّا {الأوّل} وهو عنوان المطلوب فكونه جامعاً {غير معقول} إذ هو مستلزم للدّور {لبداهة} أنّ المطلوبيّة متأخّرة عن الأمر، والأمر متأخّر عن الموضوع، فلو أخذت المطلوبيّة في الموضوع لزم توقّف المطلوبيّة على نفسها، ومن الواضح

ص: 118

استحالة أخذ ما لا يتأتّى إلّا من قبل الطّلب في متعلّقه، مع لزوم التّرادف بين لفظة (الصّلاة) و(المطلوب)، وعدمِ جريان البراءة مع الشّكّ في أجزاء العبادات وشرائطها؛ لعدم الإجمال حينئذٍ في المأمور به فيها، وإنّما الإجمال في ما يتحقّق به، وفي مثله لا مجال لها - كما حقّق في محلّه - مع أنّ المشهورَ، القائلين بالصّحيح قائلون بها في الشّكّ فيها.

وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزومالمطلوب أيضاً»(1).

___________________

{استحالة أخذ ما لا يتأتّى إلّا من قبل الطّلب} وبعده {في متعلّقه} وموضوعه.

{مع} أنّه يلزم إشكال آخر، وهو {لزوم التّرادف بين لفظة (الصّلاة) و} لفظ {(المطلوب)} إذ المفروض أنّ الصّلاة موضوعة لمطلوب. ومن المعلوم بطلان التّرادف بينهما، ضرورة أنّه ليس معناها، لا لُغَةً ولا عُرْفاً.

{و} يلزم أيضاً إشكال ثالث، وهو {عدم جريان البراءة مع الشّكّ في أجزاء العبادات وشرائطها} إذ لو كان الموضوع له بسيطاً كان الأجزاء الخارجيّة محصّلة لها، كالطّهارة الحاصلة من أجزاء الوضوء، فلا بدّ من الالتزام بالاشتغال {لعدم الإجمال حينئذٍ في المأمور به فيها} أي: في العبادات، فإنّ المأمور به معلوم، وهو المطلوب {وإنّما الإجمال} والشّكّ في ما هو مصداق المأمور به و{في ما يتحقّق به، و} معلوم أنّ {في مثله} ممّا كان الشّكّ في الامتثال {لا مجال لها} أي: للبراءة، بل يجب الاحتياط {كما حقّق في محلّه}.

والحاصل: أنّ جامع الصّحيحي لو كان هو لفظ مطلوب، لزم الاحتياط حين الشّكّ {مع أنّ المشهور القائلين بالصّحيح} لا يقولون بالاحتياط، بل {قائلون بها} أي: بالبراءة {في} مقام {الشّكّ فيها} أي: في الأجزاء والشّرائط.

{وبهذا} الإشكال الوارد على عنوان المطلوب من الدّور والتّرادفوالاشتغال {يشكل} الشِّقّ الثّاني، وهو ما {لو كان} الجامع {البسيط هو ملزوم المطلوب أيضاً}

ص: 119


1- مطارح الأنظار 1: 4649.

مدفوع: بأنّ الجامع إنّما هو مفهومٌ واحدٌ منتزعٌ عن هذه المركّبات المختلفة - زيادةً ونقيصةً بحسب اختلاف الحالات - ، متّحدٌ معها نحوَ اتّحادٍ، وفي مثله يجري البراءة، وإنّما لا تجري في ما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجيّاً،

___________________

- كما هو واضح - .

قلت: هذا الإشكال {مدفوع} لأنّا نختار أنّ الجامع أمرٌ، واحدٌ، بسيطٌ، ملزومٌ مساوٍ لعنوان المطلوب، وحينئذٍ نقول:

إنّ الجامع البسيط إمّا له وجود ممتاز عن المركّب الخارجي بحيث كان هو المأمور به، والمركّب الخارجي محصّل له، كالطّهارة بالنّسبة إلى الغسلات، وهذا مجرى الاشتغال، إذ مرجعه إلى الشّكّ في الامتثال.

وإمّا ليس كذلك، بل وجوده عين وجود المركّب الخارجي، ومنتزع عنه بحيث كان المركّب مأموراً به حقيقة، من غير فرق بين التّامّ الأجزاء والنّاقص، ك (الإنسان) الموضوع لمفهوم بسيط صادق على الأفراد، سواء كان تامّاً أو ناقصاً، وهذا مجرى البراءة، إذ مرجعه إلى الشّكّ في أصل التّكليف الزّائد، وما نحن فيه من هذا القبيل.

فحاصل الجواب: {بأنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركّبات} الخارجيّة، كصلاة المختار، والمضطرّ، والحاضر، والمسافر وغيرها من سائر الصّلوات {المختلفة زيادةً ونقيصةً، بحسب اختلاف الحالات} ولكن هذه الأجزاء ليست محصّلة لذلك الجامع البسيط، حتّىيكون الشّكّ في الامتثال، بل البسيط {متّحد معها} أي: مع هذه المركّبات {نحو اتّحاد} الكلّي الطّبيعي مع أفراده، كما مثّلنا باتحاد الإنسان مع أفراده {وفي مثله} أي: في مثل البسيط المتحد يكون الشّكّ في اشتغال الذّمّة، و{يجري البراءة} فيه، إذ هو شكّ في أصل التّكليف {وإنّما لا تجري} البراءة {في ما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجيّاً} غير متّحد

ص: 120

مسبَّباً عن مركّبٍ مردَّدٍ بين الأقلّ والأكثر، كالطّهارة المسبَّبَة عن الغُسْلِ والوضوء في ما إذا شكّ في أجزائهما.

هذا على الصّحيح.

وأمّا على الأعمّ، فتصوير الجامع في غاية الإشكال، وما قيل في تصويره أو يقال وجوه:

أحدها: أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة،كالأركان في الصّلاة - مثلاً - و

___________________

مع الأجزاء، بل {مسبّباً عن} سبب خارجي {مركّب} من أجزاء {مردّد بين الأقلّ والأكثر} وذلك {كالطهارة} عن الحدث {المسبّبة عن الغسل والوضوء} والتّيمّم {في ما} لو قلنا: إِنّ الطّهارة أمر بسيط، لا عبارة عن نفس الغسلات والمسحات، فإنّه مجرى الاحتياط {إذا شكّ في أجزائهما} لأنّ مرجع الشّكّ حينئذٍ في الامتثال، لا في أصل التّكليف حتّى يكون مجرى للبراءة - كما لا يخفى - .

ولا يذهب عليك أنّ هذا الجواب لا يصلح لردّ الإشكالين الآخرَين من الدّور والتّرادف.نعم، يمكن دفعهما بأنّ مطابقة شيء لشيء لا يلزم التّرادف، كما أنّ الموضوع له الّذي هو قبل الأمر المتعلّق به الأمر، عنوان لا يتأتّى إلّا من قبل الأمر، فتدبّر.

الجامع على الأعمّي

ثمّ إنّ {هذا} كلّه بيان الجامع {على الصّحيح، وأمّا على الأعمّ فتصوير الجامع} الشّامل لجميع الأفراد الصّحيحة والفاسدة {في غاية الإشكال} لما يأتي في وجه إبطال كلّ جامع ذكروه. {وما قيل في تصويره، أو} يمكن أن {يقال: وجوهٌ} خمسة على ما في هذا الكتاب:

{أحدها: أن يكون} الجامع {عبارة عن جملة من أجزاء العبادة} مأخوذة لا بشرط {كالأركان في الصّلاة - مثلاً - و} ذلك بأن تكون الصّلاة اسماً لتكبيرة الإحرام، والقيام، والرّكوع، والسّجود، والنّيّة بنحو اللّابشرطيّة كي يصدق على مطلق المركّب

ص: 121

كان الزّائد عليها معتبراً في المأمور به، لا في المسمّى(1).

وفيه ما لا يخفى فإنّ التّسمية بها حقيقةً لا تدور مدارها؛ ضرورةَ صدق الصّلاة مع الإخلال ببعض الأركان، بل وعدم الصّدق عليها مع الإخلال بسائر الأجزاء والشّرائط عند الأعمّي، مع أنّه يلزم أن يكون الاستعمال في ما هو المأمور به - بأجزائه وشرائطه - مجازاً عنده، وكان

___________________

منها، سواء كان واجداً لسائر الأجزاء والشّرائط أم لا، بحيث {كان الزّائد عليها} أي: على الأركان {معتبراً فيالمأمور به} فإذا فقد فقد المأمور به {لا} أن يكون معتبراً {في المسمّى} بلفظ (الصّلاة).

{وفيه ما لا يخفى} إذ مقتضى كونها اسماً للأركان، صدقها متى وجدت، وكذبها حيث فقدت، مع أنّه ليس كذلك {فإنّ التّسمية بها} أي: بالصلاة {حقيقة لا تدور مدارها} أي: مدار الأركان لا وجوداً ولا عدماً {ضرورة صدق الصّلاة} ولو {مع الإخلال ببعض الأركان} فإنّ الصّلاة بدون النّيّة صلاة على الأعمّ، بل قد تكون الفاقدة لبعضها صحيحة أيضاً، كمن لا يتمكّن من السّجود، أو المستلقي لمرضٍ ونحوه، ودعوى عدم الصّلاة حينئذٍ غير صحيح، {بل وعدم الصّدق عليها} أي: عدم صدق الصّلاة على الأركان فقط {مع الإخلال بسائر الأجزاء والشّرائط} حتّى {عند الأعمّي} فلو نوى وكبّر وركع وسجد ثمّ ذهب لشغله لا تسمّى صلاة يقيناً.

والحاصل: أنّه قد يصدق الاسم مع عدم وجود جميع الأركان، وقد لا يصدق مع وجود جميع الأركان، {مع أنّه يلزم} على هذا الجامع إشكال آخر، وهو {أن يكون الاستعمال} للصّلاة {في ما هوالمأمور به} المشتمل على الأركان {بأجزائه وشرائطه} المطلوبة {مجازاً عنده} أي: عند الأعمى، {و} ذلك لأنّ اللّفظ {كان} موضوعاً للأركان فقط الّتي هي جزء من الصّلاة المأمور بها، فاستعمالها في الأركان

ص: 122


1- مطارح الأنظار 1: 51.

من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ، لا من باب إطلاق الكلّيّ على الفرد والجزئي - كما هو واضح - ،

___________________

مع الأجزاء والشّرائط يكون {من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ} كاستعمال (الرّقبة) في (الإنسان)، وهو مجاز - كما لا يخفى - .

فإن قلت: {لا} نسلّم أنّه من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ حتّى يلزم مجاز، بل هو {من باب إطلاق الكلّي على الفرد والجزئي} فلا يلزم المجازيّة {كما هو واضح}.

قلت: هذا غير صحيح، إذ المشخّصات الفرديّة ليست داخلةً في حقيقة الكلّي، فإنّ مشخّصات (زيد) ليست داخلةً في مفهوم (الإنسان)، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ الأعمّي يرى أنّ الصّحيحة من حقيقة الصّلاة، وإطلاق الصّلاة عليها، كإطلاقها على الفاسدة.

إن قلت: فلم لا يكون اللّفظ حين استعماله في الصّحيح أيضاً مستعملاً في نفس الأركان، ويكون غيرها من الزّوائد، كالحجر في جنب الإنسان؟

قلت: إنّ الأعمّي يقول: إنّ اللّفظ مستعمل حينئذٍ في الجميع لا في الأركان فقط.

إن قلت: إذا أخذت الأركان لا بشرط - كما تقدّم - كان استعماله في الصّحيح أيضاً استعمالاً في الموضوع له.

قلت: قد أجاب بعض الأفاضل عن هذا بما لفظه: «إنّه ينفع في ما كان المأخوذُ لا بشرطٍ عينَ ما وُجِدَ في الخارج، كالجنس بالنسبة إلى النّوع، وأمّا إذا كان مغايراً معه في الوجود الخارجي، فلا يكون إطلاق اللّفظ على المجموع حقيقةً»(1).

ص: 123


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 167.

ولا يلتزم به القائل بالأعمّ، فافهم.ثانيها: أن تكون موضوعةً لمعظم الأجزاء الّتي تدور مدارها التّسمية عرفاً؛ فصدق الاسم عليه كذلك يكشف عن وجود المسمّى، وعدم صدقه عن عدمه(1).

وفيه: - مضافاً إلى ما أورد على الأوّل أخيراً - أنّه عليه

___________________

فتحصّل أنّه لو كان الجامع هو الأركان لزم المجازيّة في ما لو استعمل اللّفظ في الصّحيح {ولا يلتزمُ به القائل بالأعم} لأنّه يرى اللُفظ حقيقةً في كلّ منهما، وإلّا لزم كونه صحيحيّاً {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى بعض ما تقدّم، أو يكون إشارة إلى ما ذكره بعض المحشّين من أنّ الإشكال الثّاني على هذا الجامع لا يختصّ بما إذا استعمل اللّفظ في الجامع للأجزاء والشّرائط، بل يرد على ما كان مشتملاً على شيء زائداً على الأركان.

{ثانيها} أي: الثّاني من الجوامع الّتي ذكروها {أن تكون} ألفاظ العبادات {موضوعة لمعظم الأجزاء} أعمّ من الأركان وغيرها، لكن لا مطلق معظم الأجزاء، بل {الّتي تدور مدارها التّسمية} بلفظ الصّلاة - مثلاً - {عرفاً، فصدق الاسم عليه} أي: على المعظم {كذلك} أي: عرفاً {يكشف عن وجود المسمّى} خارجاً {وعدم صدقه} عرفاً يكشف {عن عدمه} أي: عدم وجود المسمّى خارجاً.

{وفيه - مضافاً إلى ما أورد على} الجامع {الأوّل أخيراً} من أنّه يلزم حينئذٍ أن يكون الاستعمال في الزّائد على معظم الأجزاء مجازاً، إذ يكون من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ - {أنّه} يرد على هذا الجامع إشكال آخر:وهو أنّ المراد بكونه موضوعاً لمعظم الأجزاء إن كان وضعه لمفهوم (المعظم)، ففيه: أنّه يلزم ترادف لفظ الصّلاة مع لفظ (المعظم)، وهو باطل قطعاً.

وإن أُريد أنّه موضوع لمصداق معظم الأجزاء، ففيه: أنّ {عليه} يلزم إشكالان:

ص: 124


1- مطارح الأنظار 1: 54.

يتبادل ما هو المعتبر في المسمّى؛ فكان شيء واحد داخلاً فيه تارةً، وخارجاً عنه أُخرى، بل مردّداً بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء، وهو كما ترى، سيّما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.

ثالثها: أن يكون وضعها كوضع الأعلام الشّخصيّة ك (زيد)، فكما لا يضرّ في التّسمية فيها تبادل الحالات المختلفة من الصِّغَرِ والكِبَرِ، ونقص بعض الأجزاء وزيادته،

___________________

الأوّل: أن يكون معنى اللّفظ مختلفاً حسب المقامات، من دون مجاز ولا اشتراك، وهو باطل، إذ {يتبادل ما هو المعتبر في المسمّى} بلفظ الصّلاة - مثلاً - {فكان شيء واحد} كالتّسبيحات الأربع {داخلاً فيه تارةً} في صلاة الحاضر {وخارجاً عنه أُخرى} في صلاة المسافر {بل} والمطاردة.

الثّاني: أن يكون معنى اللّفظ في مقامٍ واحدٍ {مردّداً بين أن يكون هو الخارج} عن المعنى {أو غيره} وذلك {عند اجتماع تمام الأجزاء} حين الاستعمال.

مثلاً: لو استعمل الصّلاة في الصّحيحة، احتمل خروجُ كُلِّ واحدٍ من التّكبيرة والرّكوع والسّجود والقيام وغيرها، إذ يتحقّق معظم الأجزاء بغيرها {وهو كما ترى} من البطلان {سيّما إذا لوحظ هذا} التّبادلوالتّرديد {مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش} الحادث {بحسب} تفاوت {الحالات} بالنّسبة إلى شخص واحدٍ، أو أشخاص متعدّدة.

ولا يذهب عليك أنّ كلّ واحد من هذين الجامعين إنّما يصحّ بالنّسبة إلى العبادات المركّبة من الأجزاء.

{ثالثها} أي: الثّالث من الجوامع الّتي ذكرها الأعمّي {أن يكون} ألفاظ العبادات {وضعها كوضع الأعلام الشّخصيّة ك (زيد)} و(عمرو) و(بكر) {فكما لا يضرّ التّسمية فيها} أي: في الأعلام {تبادل الحالات المختلفة} الطّارئة على ذات زيد {من الصِّغَرِ والكِبَرِ}، والصّحّة والسُّقْم، {ونقص بعض الأجزاء وزيادته} والعلم

ص: 125

كذلك فيها.

وفيه: أنّ الأعلام إنّما تكون موضوعةً للأشخاص، والتّشخّص إنّما يكون بالوجود الخاصّ، ويكون الشّخص حقيقةً باقياً مادام وجوده باقياً، وإن تغيّرت عوارضه من الزّيادة والنّقصان وغيرهما من الحالات والكيفيّات، فكما لا يضرّ اختلافها في التّشخّص، لا يضرّ اختلافها في التّسمية.

وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات ممّا كانت موضوعةً للمركّبات والمقيّدات، ولا يكاد يكون موضوعاً له إلّا ما كان جامعاً لشتاتها

___________________

والجهل والغِنَى والفقر، {كذلك} لا يضرّ تبادل الحالات الطّارئة على ذوات العبادات في التّسمية {فيها} أي: في العبادات.

{وفيه} أنّه فرق بين ألفاظ العبادات والأعلام الشّخصيّة، إذ {أنّالأعلام} الشّخصيّة {إنّما تكون موضوعة للأشخاص} الموجودة المتشخّصة بتشخّصات خاصّة {والتّشخّص إنّما يكون} قوامه {بالوجود الخاص} الباقي إلى الموت {و} حينئذٍ {يكون الشّخص حقيقة باقياً مادام وجوده} الخاص {باقياً، وإن تغيّرت عوارضه} القائمة به، من غير فرق بين أن يكون التّغيير {من} قسم {الزّيادة والنّقصان} في الخلقة {و} بين أن يكون من {غيرهما} كالصحّة والمرض {من} سائر {الحالات والكيفيّات} الطّارئة عليه {فكما لا يضرّ اختلافها} أي: اختلاف العوارض {في التّشخّص} فإنّه لا يذهب تشخّصه الخاصّ بهذا الاختلاف كذلك {لا يضرّ اختلافها في التّسمية} إذ العلم موضوع للشّخص، فما بقى الشّخص بقى العلم، {وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات، ممّا} لم تكن موضوعة للأشخاص الخارجيّة، بل {كانت موضوعة للمركّبات والمقيّدات} بقيد التّركّب {و} التّقيّد، فإنّه إذا ذهب بعضُ الأجزاء أو زاد بعض، أو تبدّل ذهب الاسم؛ لأنّه {لا يكاد يكون} شيء {موضوعاً له} أي: للمركّب {إلّا ما كان جامعاً لشتاتها} أي: المركّبات

ص: 126

وحاوياً لمتفرّقاتها، كما عرفت في الصّحيح منها.

___________________

المختلفة {وحاوياً لمتفرّقاتها} بحيث يكون شاملاً لكلّ مركّب مركّب {كما عرفت} بيانه {في} ما تقدّم من {الصّحيح منها} أي: من الجوامع، فإنّ هناك قلنا: إنّ الجامع الموضوع له اللّفظ لا بدّ أن يكون بحيث يشمل جميع المركّبات، حتّى يصحّ إطلاق اللّفظ عليها.وللعلّامة المشكينيّ(قدس سره) في بيان هذا الجامع والجواب عنه والفرق بينه والجامعين الآتيين كلام لا يخلو إيراده من توضيح للمقام، قال(رحمة الله): «وتوضيحه بتحرير منّا، إنّ وضع المركّب في غير المقام على نحوين:

الأوّل: أن يكون الوضع له بحيث يكون لكلّ جزء من أجزائه مدخليّة في الموضوع له ويلزم من انتفائه انتفاؤه، كما في أسامي الأوزان والمعاجين.

الثّاني: أن يوضع له بحيث لا يلزم من انتفاء كلّ جزء انتفاؤه، كما في وضع الأعلام، فإنّ العلم موضوع للمركّب بلا شبهة، ولكن نقصان الأجزاء وتغيّر العوارض لا يقدح في التّسمية قطعاً، وإذا كان كذلك فليكن وضع ألفاظ العبادات من القسم الأخير.

وفيه: أنّ وضع الشّيء للمركّب بما هو مركّب يستلزم انتفاء الموضوع له بمجرّد انتفاء جزء من أجزائه بلا حاجة إلى البرهان.

والأعلام إمّا موضوعة للنّفوس النّاطقة، وهي بما هي نفوس باقية إلى الموت، أو الموجودات الخاصّة والتّشخّصات، بناءً على كونها مغايرة مع النّفوس، فهي - أيضاً - باقية إلى زمان الموت، ولا يضرّ نقصان الأجزاء أو زيادتها أو تغيّر العوارض، وإلّا فلا يعقل عدم الانتفاء عند الانتفاء إذا فرض الوضع للمركّب»(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

ص: 127


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 169.

رابعها: أنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداءً هو الصّحيح التّامّ الواجد لتمام الأجزاء والشّرائط، إلّا أنّ العرف يتسامحون - كما هو دَيْدَنُهُمْ - ويُطْلِقُوْنَ تلك الألفاظ على الفاقد للبعض، تنزيلاً له منزلة الواجد، فلا يكون مجازاً في الكلمة - على ما ذهب إليهالسّكّاكيّ(1) في الاستعارة - ، بل يمكن دعوى صيرورته حقيقةً فيه بعد الاستعمال فيه كذلك دفعةً أو

___________________

{رابعها} أي: الرّابع من الجوامع للأعم {أنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداءً هو} المركّب {الصّحيح التّام الواجد لتمام الأجزاء والشّرائط} كأن تكون الصّلاة ابتداءً موضوعة بإِزاء صلاة الظّهر للمختار الحاضر، وكذلك الحج ونحوه من ألفاظ العبادات المركّبة من الأجزاء {إلّا أنّ العرف يتسامحون} في الموضوع له {كما هو دَيْدَنُهُمْ} وعادتهم في كلّ شيء {ويطلقون تلك الألفاظ} الموضوعة للعبادات {على الفاقد للبعض} من الأجزاء والشّرائط {تنزيلاً له منزلة الواجد} الكامل، أي: الموضوع له الأوّلي، وهذا التّسامح في الإطلاق لا يوجب كون اللّفظ مجازاً في الفاقد، وذلك لأنّه تسامح في أمر عقلي، وهو ادّعاء أنّ لمعنى اللّفظ فردين بادّعاء أنّ النّاقص من جنس الكامل {فلا يكون} هذا الإطلاق {مجازاً في الكلمة} كما ذهب إليه مشهور البيانيّين، بل هو حقيقة ادّعائيّة {على ما ذهب إليه} أبو يعقوب يوسف {السّكّاكي في الاستعارة} - كما أوضحناه في علائم الحقيقة والمجاز - .

{بل يمكن دعوى صيرورته} أي: اللّفظ {حقيقةً فيه} أي: في الفاقد حتّى عند غير السّكّاكيّ، ولكن صيرورته حقيقة في الفاقد كان {بعد الاستعمال فيه كذلك} أي: تنزيلاً للفاقد منزلة الواجد، ويكون ذلك بأنحاء:الأوّل: أن يصير حقيقة في الفاقد {دفعة} وذلك بأن يستعمل فيه بقصد الوضع {أو} نحوه.

ص: 128


1- مفتاح العلوم: 156.

دفعاتٍ، من دون حاجةٍ إلى الكثرة والشُّهْرَةِ؛ للأُنس الحاصل من جهة المشابهة في الصّورة، أو المشاركة في التّأثير، كما في أسامي المعاجين الموضوعة ابتداءً لخصوص مركّبات واجدة لأجزاء خاصّة، حيث يصحّ إطلاقها على الفاقد لبعض الأجزاء المشابه له صورةً، والمشارك في المهمّ أثراً، تنزيلاً أو حقيقةً.

وفيه: أنّه

___________________

الثّاني: أن يكون لأجل الاستعمال {دفعات} متعدّدة {من دون حاجة إلى الكثرة والشّهرة}.

وكلّ من القسمين إمّا أن يكون الاستعمال فيه {للأُنس الحاصل من جهة المشابهة} بين الواجد والفاقد {في الصّورة} فإنّ صورة الفاقد يشبه صورة الواجد {أو} أن يكون للأُنس الحاصل من جهة {المشاركة} بينهما {في التّأثير} في الجملة.

هذا ويحتمل أن يكون قوله: «للأُنس» الخ علّة لعدم الاحتياج إلى الكثرة والشّهرة.

والحاصِلُ: أن يكون لفظ العبادة وضع أوّلاً للجامع للشّرائط والأجزاء ثمّ استعمل في الفاقد {كما في أسامي المعاجين} والأدوية {الموضوعة} تلك الأسامي {ابتداءً، لخصوص مركّبات واجدة لأجزاء خاصّة} بحيث كان لها صورة مخصوصة وتأثير خاصّ {حيث يصحّ إطلاقها} أي: إطلاق تلك الأسامي {على الفاقد لبعض الأجزاء} المشتمل على سائر الأجزاء{المشابه له صورة والمشارك في المهمّ أثراً} بأن يكون الفاقد مشابهاً للواجد في الصّورة، ومشاركاً له في الأثر، فإنّه حينئذٍ يكون إطلاق اسم المعجون على هذا الفاقد حقيقةً إمّا {تنزيلاً} كما هو مذهب السّكّاكيّ في الاستعارة، بادّعاء أنّ الفاقد من أفراد الواجد {أو حقيقةً} حتّى عند غير السّكّاكي - كما تقدّم بيانه - .

{و} لكن {فيه} أنّ هذا الجامع غيرُ صحيحٍ، وقياسه بالمعاجين باطل، إذ {أنّه}

ص: 129

إنّما يتمّ في مثل أسامي المعاجين وسائر المركّبات الخارجيّة، ممّا يكون الموضوع له فيها ابتداءً مركّباً خاصّاً، ولا يكاد يَتِمُّ في مثل العبادات الّتي عرفت أنّ الصّحيح منها يختلف حسب اختلاف الحالات، وكون الصّحيح بحسب حالةٍ فاسداً بحسب حالةٍ أُخرى، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً.

___________________

أي: هذا الكلام في بيان الجامع {إنّما يَتِمُّ في مثل أسامي المعاجين وسائر المركّبات الخارجيّة} الّتي يترتّب عليها أثر خاصّ {ممّا يكون الموضوع له فيها} في تلك المركّبات {ابتداءً مركّباً خاصّاً} له أجزاء خاصّة وأثر خاصّ، ثمّ يستعمل في الفاقد لبعض تلك الأجزاء بعلاقة المشابهة أثراً أو صورةً.

{و} هذا النّحو {لا يكاد يَتِمُّ في مثل العِبادات الّتي عرفت أنّ الصّحيح منها} ابتداءً {يختلف حسب اختلاف الحالات} كصلاة الحاضر والمسافر، بل صلاة الصّبح والظّهر والمغرب، بل والنّافلة والفريضة من دون أن يكون إحداها في طول الأُخرى.

{و} كذا {كون الصّحيح بحسبِ حالةٍ} كالصّلاة مع التّيمّمفي حال فقد الماء يكون {فاسداً بحسب حالةٍ أُخرى} وهي الواجديّة للماءِ.

فحاصل الفرق: أنّ المركّب المعجوني له فرد واحد جامع للشّرائط والأجزاء ابتداءً، بحيث يكون وضع اللّفظ بإِزائه.

أمّا المركّب العبادي فليس له فرد صحيح جامع هو الموضوع له الابتدائي، إذ ليس هناك فرد وضع له اللّفظ ابتداءً حتّى يكون استعمال اللّفظ في غيره تنزيلاً، أو حقيقةً، وهذا واضح {كما لا يخفى} إلّا أن يدّعي أنّها هي صلاة الظّهر للحاضر الجامع للشّرائط؛ لأنّها أوّل صلاة أتى بها جبرئيل(علیه السلام) {فتأمّل جيّداً} هذا تمام الكلام في الرّابع من الجوامع.

ص: 130

خامسها: أن يكون حالها حال أسامي المقادير والأوزان، مثل المِثْقَال، والحُقَّة، والوزنة، إلى غير ذلك ممّا لا شبهة في كونها حقيقة في الزّائد والنّاقص في الجملة، فإنّ الواضع وإن لاحظ مقداراً خاصّاً، إلّا أنّه لم يضع له بخصوصه، بل للأعمّ منه ومن الزّائد والنّاقص، أو أنّه وإن خصّ به أوّلاً إلّا أنّه بالاستعمال كثيراً فيهما - بعناية أنّهما منه - قد صار حقيقةً في الأعمّ ثانياً.

___________________

و{خامسها: أن يكون حالها} أي: حال ألفاظ العبادات {حال أسامي المقادير والأوزان مثل المِثْقَال والحُقَّة والوزنة} والذّرع والرَّطْل {إلى غير ذلك ممّا لا شبهة في كونها حقيقةً في الزّائد والنّاقص في الجملة} فلو زيد على الرّطل درهم، أو نقص منه، سمّي رطلاً بديهةً، وكذا لو زيد على الحُقَّة مثقال أو نقص، والدّليلعلى الحقيقة التّبادر وعدم صحّة السّلب عن النّاقص والزّائد في الجملة {فإنّ الواضع وإن لاحظ مقداراً خاصّاً} حين الوضع {إلّا أنّه لَمْ يَضَعِ} اللّفظ {له} لذلك المعنى الخاص {بخصوصه، بل} وضع {للأعم منه ومن الزّائد والنّاقص} في الجملة.

وبهذا تبيّن الفرق بين هذا الجامع والجامع الرّابع، إذ الوضع في الرّابع كان متعدّداً وفي هذا يكون واحداً، وأمّا الفرق بينه وبين الجامع الثّالث فقد ظهر من كلام العلّامة المشكينيّ المتقدّم {أو أنّه وإن خصّ} الوضع {به} أي: بالمقدار الخاصّ {أوّلاً} حين الوضع {إلّا أنّه بالاستعمال كثيراً فيهما} أي: في الزّائد والنّاقص {بعناية أنّهما منه} أي: من المعنى الحقيقيّ، بجعلهما فردين ادّعائيّين - كما يقول السّكّاكيّ - {قد صار} اللّفظ {حقيقة في الأعمّ} من المعنى الأوّل، والزّائد والنّاقص {ثانياً}.

وعلى هذا الاحتمال يكون الفرق بين الخامس والرّابع عدم احتياج الجامع الرّابع إلى كثرة الاستعمال بخلاف هذا، ولذا قال المصنّف هناك: «من دون حاجة إلى الكثرة» وقال هنا: «بالاستعمال كثيراً».

ص: 131

وفيه: أنّ الصّحيح - كما عرفت في الوجه السّابق - يختلف زيادةً ونقيصةً، فلا يكون هناك ما يلحظ الزّائد والنّاقص بالقياس عليه كي يوضع اللّفظ لما هو الأعمّ، فتدبّر جيّداً.

ومنها:

___________________

{و} في هذا الجامع نظر، إذ {فيه}:

أوّلاً: عدم صحّة المقيس عليه؛ لأنّ الظّاهر عدم وضع اللّفظ للأعمّ من الزّائدوالنّاقص، لا ابتداءً ولا ثانياً، لكثرة الاستعمال، وإنّما يتسامح العرف - كما هو ديدنهم - في الإطلاق في ما علم المراد، وكان ممّا لا يعتنى بشأن الموزون والمكيل وأمثالهما، وأمّا في ما لم يعرف المراد أو عرفت الدّقّة فلا يتسامحون بديهة كما نرى في وزن التّبر، والأدوية السّامّة، ونحوهما.

وثانياً: {أنّ الصّحيح} في العبادات غير الصّحيح في الأوزان، فلا يقاس أحدهما بالآخر.

بيان ذلك: أنّ للمقادير والأوزان فرداً صحيحاً يلحظ ابتداءً، فيوضع له اللّفظ أو للأعمّ منه ومن غيره {كما عرفت} ذلك {في الوجه} الرّابع {السّابق} وهذا بخلاف العبادات، فإنّه ليس هناك فرد واحد صحيح يكون هو الملحوظ ابتداءً، إذ {يختلف} الصّحيح {زيادةً ونقيصةً، فلا يكون هناك} في باب العبادات {ما يلحظ الزّائد والنّاقص بالقياس عليه، كي} يكون كالفرد الصّحيح من المقادير، فيلحظ أوّلاً ثمّ {يوضع اللّفظ لما هو الأعمّ} ابتداءً أو ثانياً {فتدبّر جيّداً} حتّى لا تتوهّم عدم الفرق بين هذا الجامع، والجامع الرّابع على الاحتمال الثّاني، وهو قوله: «أو أنّه وإن خصّ» الخ، كما توهّمه بعض الأعلام.

وضع ألفاظ العبادات

{ومنها} أي: من الأُمور الّتي نذكرها قبل الخوض في البحث في بيان كيفيّة وضع ألفاظ العبادات فنقول: حيث بيّنّا عدم الاشتراك اللّفظيّ في ألفاظ العبادات،

ص: 132

أنّ الظّاهر أن يكون الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامّين. واحتمالُ كون الموضوع له خاصّاً بعيدٌ جدّاً؛ لاستلزامه كَوْنَ استعمالها في الجامع - في مثل:«الصّلاة تنهى عن الفَحْشَاء»(1)

و«الصّلاة معراج المؤمن»(2) و«عَمُوْدُ الدّين»(3)

و«الصَّوْمُ جُنّة من النّار»(4) - مجازاً،

___________________

فلا بدّ من أن يكون الوضع عامّاً والموضوع له إمّا عامّ أو خاصّ، إلّا {أنّ الظّاهر} عند التّأمّل {أن يكون الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامّين} بمعنى أنّه لوحظ كلّيّ الصّلاة ووضع لفظ الصّلاة لذلك الكلّيّ {واحتمال كون} الوضع عامّاً و{الموضوع له خاصّاً بعيد} عن ظاهر الاستعمال {جدّاً} وذلك {لاستلزامه} أي: استلزام {كون} الموضوع له خاصّاً أن يكون {استعمالها} أي: ألفاظ العبادات {في الجامع} الكلّي {في مثل «الصّلاة تنهى عن الفحشاء} والمنكر» {و«الصّلاة معراج المؤمن» و} «الصّلاة {عمود الدّين» و} نحوها، وكذا مثل {«الصّوم جنّة من النّار»} و«الصّوم لي»، ونحوهما كلّها {مجازاً}.

بيان الملازمة: أنّه لو كان الموضوع له خاصّاً كان استعمالها في العام سبباً لتجريد المعنى عن الخصوصيّة، بخلاف ما إذا كان الموضوع له عامّاً، فإنّه يكون هذا الاستعمال حقيقة قطعاً.

إن قلت: لكن يلزم أن يكون استعمالها حينئذٍ في الأفراد مجازاً.قلت: ليس كذلك؛ لأنّه من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد.

فتحصّل أنّ الموضوع له لو كان خاصّاً لزم المجاز لو استعمل في العام

ص: 133


1- إشارة لقوله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّلَوةَ تَنۡهَى عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ}، سورة العنكبوت، الآية: 45.
2- سفينة البحار 2: 268؛ التفسير الكبير 1: 266.
3- المحاسن 1: 44.
4- الكافي 2: 19.

أو مَنْعَ استعمالها فيه في مثلها. وكُلٌّ منهما بعيدٌ إلى الغاية، كما لا يخفى على أُولي النِّهَايَةِ.

ومنها: أنّ ثمرة النِّزاع إجمال الخطاب على قول الصّحيحيّ،

___________________

{أو منع استعمالها} أي: ألفاظ العبادات {فيه} أي: في الجامع {في مثلها} أي: في مثل هذه الأمثلة المتقدّمة، بأن يقال: استعملت الصّلاة في هذه الرّوايات في الأفراد لا في الجامع.

{وكلّ منهما} من المجازيّة والمنع {بعيد إلى الغاية}.

أمّا بُعْدُ المجازيّة، فلمعلوميّة عدم لحاظ العلاقة حين الاستعمال كذلك.

وأمّا بعد كون الاستعمال في الخصوصيّات لا الجامع، فلبداهة كون السّابق إلى الذّهن في مثل هذا التّركيب كلّيُّ الصّلاةِ وطبيعتها لا أفرادها، فهو مساوق لنحو (النّار مُحْرِقة) و(السُّقْمُونيا مسهل الصّفراء)، وإن شئت قلت: إنّ ثبوت المِعْراجيّة - مثلاً - إنّما هي لأجل الصّلاتيّة، لا لأجل أنّ كلّ فردٍ صلاة خاصّة {كما لا يخفى على أُولي النّهاية}.

تنبيه: قد اشتهر في ألسنة الطّلّاب كون لفظ «النّهاية» غلطاً حتّى أُبدل في بعض النّسخ بكلمة «النُّهى»، ولكن لا يخفى أنّ «النّهاية» لغةً بمعنى: غاية الشّيء، وآخره، فيكون معنى العبارة: أصحاب آخر النّظر والدّقّة، وهذا مجاز شائع، مثل (أبناء الآخرة).

ثمرة النّزاع

{ومنها} أي: من الأُمور المذكورة قبل بيان الدّليل في ثمرة هذا الاختلاف، فقد ذهب جماعة إلى {أنّ ثمرة} هذا {النِّزاع} يظهر في ما لو شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته في ما لو كان هناك إطلاق، فإنّه يلزم {إجمال الخطاب على قول الصّحيحي} إذ المأمور به هو مفهوم الصّحيح، وهو معنىً واضح، فلو لم يأت بالجزء المشكوك لم يحرز الخروج عن عهدة التّكليف، وحينئذٍ فالعقل يستقلّ بلزوم إتيانه.

ص: 134

وعدمُ جواز الرّجوع إلى إطلاقه في رفع ما إذا شُكَّ في جزئيّة شيءٍ للمأمور به وشرطيّته أصلاً؛ لاحتمال دخوله في المسمّى كما لا يخفى، وجوازُ الرّجوع إليه في ذلك على قول الأعمّي في غير ما احتمل دخوله فيه ممّا شُكَّ في جزئيّته أو شرطيّته.

نعم، لا بدّ في الرّجوع إليه في ما ذكر

___________________

{و} الحاصِلُ: يكون مرجع الصّحيحيّ الاشتغال، ل {عدم جواز الرّجوع إلى إطلاقه} أي: إطلاق الخطاب {في رفع ما إذا شكّ في جزئيّة شيء للمأمور به وشرطيّته أصلاً؛ لاحتمال دخوله} أي: دخول ذلك المشكوك {في المسمّى} بلفظ الصّلاة - مثلاً - {كما لا يخفى}.

ولا مجالَ لأن يُقَالَ: لا وجه لإجمال الخطاب بعد ورود الرِّوايات البيانيّة فعلاً وقولاً.

لأنّا نقول: إذا فرض الشّكّ في كون الخالية عن ذلك الجزء ناهية عن الفحشاء، فلا جرم يشكّ في صدق الاسم، ومع الشّكّ في أصل التّسمية كيف يتمسّك بالإطلاق في دفع المشكوك. اللّهمّ إلّا أن يحرز من الأخبار البيانيّة كون ذلك المقدار فيها ناهياً عن الفحشاء، فتأمّل.فتبيّن عدم جواز رجوع الصّحيحيّ إلى الإطلاق في الجزء المشكوك {وجواز الرّجوع إليه في ذلك على قول الأعمّي} إذ المسمّى محرز عنده، وإنّما المشكوك هو التّكليف الزّائد ومجراه البراءة، ولكن لا يخفى أنّ رجوع الأعمّي إلى الإطلاق {في غير ما احتمل دخوله فيه} أي: في المسمّى {ممّا شكّ في جزئيّته أو شرطيّته} إذ لا يكون المسمّى محرزاً حينئذٍ، ومع الشّكّ في أصل التّسمية لا يتمسّك بالإطلاق - كما تقدّم - .

{نعم} تمسّك الأعمّيّ بالإطلاق في نفي المشكوك لا يمكن مع الشّكّ في انعقاد الإطلاق، بل {لا بدّ في الرّجوع إليه} أي: إلى الإطلاق {في ما ذكر} أي: في

ص: 135

من كونه وارداً مورد البيان، كما لا بدّ منه في الرّجوع إلى سائر المطلّقات، وبدونه لا مرجع أيضاً إلّا البراءة أو الاشتغال، على الخلاف في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

___________________

نفي المشكوك {من كونه} أي: المطلق {وارداً مورد البيان} بأن تكون مقدّماتُ الحكمةِ تامّةً {كما لا بدّ منه} أي: لا بدّ من الورود مورد البيان {في} جواز {الرّجوع إلى سائر المطلقات} في أبواب العبادات والمعاملات، {و} أمّا {بدونه} بأن لا يكون المطلق وارداً مورد البيان ف {لا مرجع} للأعمى {أيضاً} كالصّحيحيّ في الجزء والشّرط المشكوكين {إلّا البراءة أو الاشتغال} ويبتنى هذا {على الخلاف} الآتي في أصل البراءة {في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين} فمن قال في تلك المسألة بالبراءة قال هنا بالبراءة، ومن قالهناك بالاشتغال قال هنا به، إذ هذه المسألة من صغريات تلك المسألة - كما لا يخفى - .

ثمّ لا بأس بالإشارة إلى مسألة الأقلّ والأكثر توضيحاً للمقام، فنقول: الشّكّ قد يكون في أصل التّكليف، كما لو شكّ في وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال، وهذا مجرى البراءة، وقد يكون في المكلّف به مع العلم بأصل التّكليف، وهو على قسمين:

الأوّل: أن يكون المكلّف به مردّداً بين المتباينين، كما لو شكّ في أنّ المكلّف به، يومَ الجمعة، صلاةُ الظّهر أو صلاةُ الجمعة، وهذا مجرى الاشتغال، فيجب الإتيان بكليهما.

الثّاني: أن يكون المكلّف به مردّداً بين الأقلّ والأكثر، وهو الّذي يندرج أقلّه تحت أكثره، وهذا أيضاً على ضربين:

الأوّل: الأقلّ والأكثر غير الارتباطيّ، وهو ما يمكن التّفكيك بين أجزائه في الامتثال، كما لو شكّ في أنّ الدّين الّذي عليه هل هو مائة أو خمسون، وهذا مجرى

ص: 136

وقد انقدح بذلك: أنّ الرّجوع إلى البراءة أو الاشتغال في موارد إجمال الخطاب أو إهماله

___________________

البراءة، فيُعْطِي المتيقّن ويُجْرِي البراءةَ عن الخمسين المشكوك.

الثّاني: الأقلّ والأكثر الارتباطيّ، وهو ما لا يمكن التّفكيك بين أجزائه في الامتثال، كما لو شكّ في أنّ أجزاء الصّلاة عشرة أو تسعة.

وفي هذه المسألة خلاف، فبعض يقول بالاشتغال، فيوجب الإتيان بالجزء العاشر أيضاً حتّى يتيقّن براءة الذّمّة، وبعض يقول بالبراءة، فيأتي بالأجزاء التّسعة المتيقّنة ويجري البراءة عن الجزء العاشر المشكوك.إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل. ولا يذهب عليك أنّ الابتناء على مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيّ إنّما يكون إذا كانت العبادة ارتباطيّة كالصلاة، فإنّها لو كانت غير ارتباطيّة لم تكن كذلك.

وحاصل الثّمرة: أنّ الصّحيحي لا يجوز له التّمسّك بالإطلاق على تقدير وجوده، ويلزمه الرّجوع إلى الاشتغال، والأعمّي يجوز له التّمسّك به في ما لا يحتمل دَخْله في التّسمية، وأمّا في ما احتمل ذلك فمرجعه الاشتغال أيضاً.

وهذا كلّه على تقدير تماميّة مقدّمات الإطلاق، وإلّا فالمرجع البراءة أو الاشتغال عند الجميع - كما تقدّم - .

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرناه - من أنّ شرط الرّجوع إلى الإطلاق عند الأعمّي تماميّة مقدّمات الحكمة - {أنّ الرّجوع إلى البراءة أو الاشتغال في موارد إجمال الخطاب} بأن كان المتكلّم في مقام إثبات الحكم للطّبيعة في الجملة مع كونه عالماً بكيفيّة تحقّقه ونفس الموضوع إلّا أنّه لم يبيّنهما لأجل مصلحة، كما في قول الطّبيب: (لا بدّ لهذا المرض من شُرْب المسهل) {أو إهماله} وهو إثبات الحكم للطّبيعة من دون علمه بالكيفيّتين، كما في قول غير الطّبيب: (لا بدّ لهذا المرض من شرب الدّواء). كذا قيل في الفرق بين الإهمال والإجمال، لكنّها أعمّ

ص: 137

على القولين؛ فلا وجه لجعل الثّمرة هو الرّجوع إلى البراءة على الأعمّ، والاشتغال على الصّحيح، ولذا ذهب المشهور إلى البراءة مع ذهابهم إلى الصّحيح.

وربّما قيل(1)

بظهور الثّمرة في النّذر أيضاً.قلت: وإن كان تظهر في ما لو نَذَرَ لمن صَلَّى إعطاءَ دِرْهمٍ في البُرْءِ - في ما لو أعطاه لمن صلّى ولو علم

___________________

من ذلك، كما لا يخفى.

والحاصِلُ: أنّ الرّجوع إلى الأصلين في مورد عدم تماميّة الإطلاق لا يختصّ بالأعمّي فقط، بل هو ثابت {على القولين} الصّحيحيّ والأعمّيّ، وهذا خبر قوله: «أنّ الرّجوع» {فلا وجه لجعل الثّمرة هو الرّجوع إلى البراءة} مطلقاً {على الأعم والاشتغال على الصّحيح} حيث إنّ المسمّى والموضوع له وإن كان مبيّناً على الأعمّ ومجملاً على الصّحيح، إلّا أنّه بعد عدم الإطلاق في المأمور به مع كونه مركّباً، يكون متعلّق الأمر مجملاً مردّداً بين الأقلّ والأكثر حتّى على الأعمّ.

{ولذا} الّذي ذكرناه - من أنّ الشّكّ في مصداق الصّحيح مرجعه الأصل - {ذهب المشهور} من العُلَماء الّذين مبناهم في الأقلّ والأكثر الارتباطي إجراءُ البراءة {إلى البراءة} في ما نحن فيه عند الشّكّ {مع ذَهَابهم إلى الصّحيح} فسقطت الثّمرة.

{وربّما قيل بظهور الثّمرة} بين الصّحيحي والأعمّي {في النّذر أيضاً} كما لو نذر إعطاء درهمٍ بمن يأتي بمسمّى الصّلاة، فإنّه يحصل للبرء بإعطاء الدّرهم لمن يرى مصلّياً على الأعمّ، بخلافه على الصّحيح، لعدم إحراز صدق الصّلاة مع الشّكّ في الصّحّة.

{قلت: وإن كان تظهر} الثّمرة على ما قالوا {في ما لو نذر} شخص {لمن صَلَّى إعطاءَ درهمٍ} مفعولُ «نذر» {في البرء} متعلّق ب «تظهر»، فإنّه يبرأ ذمّة النّاذِرُ على الأعمّ {في مالو أعطاه لمن صلّى} أي: أتى بصورة الصّلاة {ولو عَلِمَ} النّاذِرُ

ص: 138


1- قوانين الأصول 1: 43.

بفساد صلاته، لإخلاله بما لا يعتبر في الاسم - على الأعمّ، وعدم البُرْء على الصّحيح، إلّا أنّه ليس بثمرة لمثل هذه المسألة؛ لما عرفت مِن أنّ ثمرة المسألة الأصوليّة هي أن يكون نتيجتها واقعةً في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة،

___________________

{بفساد صلاته} لكن بشرط أن يكون الفساد {لإخلاله بما لا يعتبر في} صدق {الاسم} إذ لو أخلّ بصدق الاسم لم تكن صلاةً، حتّى {على الأعمّ، وعدم البرء} لو أعطاه لذلك الشّخص {على الصّحيح}.

اعلم أنّ الشّكّ في الحكم الشّرعي قد يكون ناشئاً [1] من فِقدان النّصّ، أو إجماله، أو تعارض النّصّين، [2] وقد يكون ناشئاً عن اشتباه الموضوع الخارجيّ.

والقسم الأوّل: هو المسمّى بالشُّبهة الحُكْمِيّة كوجوب صلاة الجمعة، ولا يكون الحكم فيه إلّا كلّيّاً.

والقسم الثّاني: هو المسمّى بالشّبهة الموضوعيّة كوجوب وطئ إحدى الزّوجتين في مورد الحلف، ولا يكون الحكم في هذا القسم إلّا جزئيّاً، والمسألة الأصوليّة - كما عرّفوها - هي الّتي تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي، بخلاف المسألة الفقهيّة، فإنّ المستنتج منها يكون حكماً جزئيّاً.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ ما ذكروه من ظهور ثمرة النّزاع في مسألة النّذر وإن كان صحيحاً في نفسه {إلّا أنّه ليس بثمرةٍ لمثل هذه المسألة} الّتي هي من المسائل الأصوليّة، وذلك {لما عرفت} في أوّل الكتاب وما شرحناه هناك {مِن أنّ ثمرة المسألةالأصوليّة} أي: فائدة البحث الأصولي {هي أن يكون نتيجتها} الحاصلة منها {واقعة في طريق استنباط الأحكام} الكلّيّة {الفرعيّة} لا نفس المسألة الفقهيّة، ومسألة النّذر من هذا القبيل، إذ الحكم المشكوك - أعني: البرء وعدمه بإعطاء الدّرهم للمصلّي فاسداً - حكم جزئيّ فقهيّ، فالمسألة المنتجة له مسألة فقهيّة لا مسألة أُصوليّة.

ص: 139

فافهم.

وكيف كان فقد استدلّ للصّحيحي بوجوه:

أحدها: التّبادر، ودعوى أنّ المنسبق إلى الأذهان منها هو الصّحيح.

___________________

وتوضيحه: أنّ الشّكّ في الوفاء من باب اشتباه الأُمور الخارجيّة. نعم، وجوب الوفاء بالنذر مطلقاً من الأحكام الكلّيّة، فما يتوقّف عليه استنباط هذا الحكم الكلّي يكون من المسائل الأصوليّة، وبهذا البيان سقطت الثّمرة الثّانية أيضاً {فافهم} حتّى لا تشتبه عليك وتقول: إنّ النّذر تابع لقصد النّاذر، فلا مجال لتفريعه على الصّحيح والأعمّ أصلاً.

قال العلّامة الرّشتي(قدس سره): «فالتّحقيق أنّ الثّمرة هو إجمال الخطاب قطعاً على القول بالصّحيح، وعدم جواز الرّجوع إلى الإطلاق عند الشّكّ في الجزئيّة والشّرطيّة، لاحتمال دخول المشكوك في المسمّى، أو اعتباره معه وإمكان الرّجوع إلى إطلاق الخطاب عند الأعمّي، إذا لم يكونا ممّا ينتفي المسمّى بانتفائهما.

وإنّما قلنا بإمكان الرّجوع فإنّه إذا لم نحرز كون الإطلاق في مقام البيان، وبالجملة إذا لم تتمّ مقدّمات الحكمة فلا يكون إطلاق محكّم، فلا بدّ حينئذٍ منالأصل، إمّا البراءة أو الاشتغال»(1)، انتهى.

{وكيف كان} الأمر سواء صحّت الثّمرة أم لا، فلنرجع إلى أصل الكلام {فقد استدلّ للصّحيحي بوجوه} أربعة:

{أحدها: التّبادرُ ودعوى أنّ المنسبق إلى الأذهان منها} أي: من ألفاظ العبادات عند الإطلاق {هو} المعنى {الصّحيح} فقط، والتّبادر آية الحقيقة.

إن قلت: المتيقّن هو حصوله في لساننا، وهو غير مفيد، لإثباته في زمان الشّارع.

ص: 140


1- شرح كفاية الأصول 1: 39.

ولا منافاة بين دعوى ذلك، وبين كون الألفاظ على هذا القول مجملات: فإنّ المنافاة إنّما تكون في ما إذا لم يكن معانيها على هذا الوجه مبيَّنةً بوجهٍ، وقد عرفت كونها مبيّنةً بغير وجهٍ.

ثانيها: صحّة السّلب عن الفاسد بسبب الإخلال ببعض أجزائه أو شرائطه بالمداقّة،

___________________

قلت: أصالةُ عدمِ النّقلِ كافيةٌ لإثبات الحقيقة في زمان الشّارع أيضاً.

إن قلت: إنّ دعوى تبادر الصّحيح ينافي ما تقدّم في بيان الثّمرة من أنّ ألفاظ العبادات على القول الصّحيحي مجملات {و} لا يستفاد منها شيء أصلاً.

قلت: {لا منافاة بين دعوى ذلك} التّبادر {وبين كون الألفاظ على هذا القول} الصّحيحي {مجملات}.

وجه عدم المنافاة أنّه ليس المراد بالتبادر تبادر المعنى التّفصيلي حتّى ينافي كون المعنى مجملاً، بل المراد تبادر المعنى الإجمالي المشار إليه من طريق الخواصّ والآثار، فإنّه يتبادر من الصّلاة ما هو مِعْراج المؤمن، وخير موضوع، وإنكان غير مبيّن من جهة الأجزاء والشّرائط.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: {فإنّ المنافاة إنّما تكون في ما إذا لم يكن معانيها} أي: معاني ألفاظ العبادات {على هذا الوجه} الصّحيحي {مبيّنة بوجه} أصلاً، إذ لو لم تكن مبيّنة حتّى بوجه الإجمال لم يعقل التّبادر. {و} لكن {قد عرفت كونها} أي: كون المعاني {مبيّنة} إجمالاً بالخواص والآثار {بغير وجه} واحد، إذ قد عرفت وجوهاً عديدة من الآثار كلّها تشير إلى المعنى الصّحيح.

فتحصّل أنّ الإجمال بحسب الأجزاء والشّرائط لا ينافي كونها مبيّنة من طرق آثار متعدّدة ولوازم كثيرة.

{ثانيها: صحّة السّلب} أي: سلب اسم العبادة سلباً شائعاً {عن الفاسد بسبب الإخلال ببعض أجزائه أو شرائطه} فإنّه يصحّ السّلب {بالمداقّة} بحسب الواقع قطعاً

ص: 141

وإن صحّ الإطلاق عليه بالعناية.

ثالثها: الأخبار الظّاهرة في إثبات بعض الخواصّ والآثار للمسمّيات، مثل: «الصّلاة عمود الدّين»(1)

أو «معراج المؤمن»(2)

و«الصّوم جُنّة من النّار»(3) إلى غير ذلك،

___________________

{وإن صحّ الإطلاق} أي: إطلاق اسم العبادة {عليه} على الفاسد {بالعناية} مجازاً وتسامحاً بعلاقة المشابهة. هذا كلّه في لساننا ويَتِمُّفي لسان الشّارع(صلی الله علیه و آله) بأصالة عدم النّقل.

ولا يخفى أنّ صحّة السّلب في إثبات الصّحيح، إذ هو ممّا لا خلاف فيه بين الصّحيحي والأعمّي على كلّ حال، فلا نحتاج إلى إثبات عدم صحّة السّلب بالنّسبة إلى الصّحيح.

{ثالثها} الأخبار وهي طائفتان:

الأُولى: {الأخبار الظّاهرة في إثبات بعض الخواصّ والآثار للمسمّيات} أي: لما سمّي باسم العبادة، وذلك {مثل «الصّلاة عمود الدّين» أو} «الصّلاة {مِعْرَاجُ المؤمن» و«الصّوم جُنّة من النّار»} و«الصَّوْمُ لي وأنا أجزي به»(4)

{إلى غير ذلك} من الأخبار الّتي هي من هذا القبيل.

وتقريب الاستدلال: أنّ الّتي هي عمود الدّين، ومِعْرَاجُ المُؤْمِنِ، وجُنّة هي خصوصُ الصّحيح قطعاً لا الفاسد، فلو كانت هذه الألفاظ موضوعةً للأعمّ، لزم التّصرّف فيها في هذه الأخبار، بإرادة الخاصّ من العامّ، فيكون المراد الصّلاة الصّحيحة عمود، أو معراج، والصّوم الصّحيح جُنّة، وهذا التّصرّف خلاف الأصل، فتعيّن القول بأنّها موضوعة للصّحيح، حتّى لا يلزم هذا التّصرّف.

ص: 142


1- وسائل الشيعة 4: 27.
2- سفينة البحار 2: 268؛ التفسير الكبير 1: 266.
3- الكافي 2: 19.
4- من لا يحضره الفقيه 2: 75.

أو نفي ماهيّتها وطبائعها، مثل: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(1)،

ونحوه ممّا كان ظاهراً في نفي الحقيقة بمجرّد فَقْدِ ما يعتبر في الصّحّة شطراً أو شرطاً.

وإرادةُ خصوص الصّحيح من الطّائفةالأُولى، ونفي الصّحّة من الثّانية - لشيوع

___________________

الطّائفة الثّانية: الأخبار الظّاهرة في نفي حقيقة العبادة {أو نفي ماهيّتها وطبائعها} بمجرّد نقصان جزء أو شرط {مثل «لا صلاةَ إلّا بفاتحة الكتاب»} في الجزء، و«لا صلاة إلّا بطهور»(2) في الشّرط {ونحوه ممّا كان ظاهراً في نفي الحقيقة بمجرّد فقد ما يعتبر في الصّحّة} سواء كان المفقود {شطراً} كالمثال الأوّل {أو شرطاً} كالمثال الثّاني.

وتقريب الاستدلال كما تقدّم: فإنّ الصّلاة لو كانت اسماً للأعمّ من الصّحيح والفاسد، لم يصحّ سلبها عن الفاسد لفقد جزء أو شرط.

إن قلتُ: لعلّ هذه الأجزاء دخيلة في الاسم.

قلتُ: فعلى هذا يلزم القول بالصّحيح، إذ الاسم العرفي مع عدم هذا الجزء باقٍ قطعاً.

{و} إن قُلْتَ: {إرادة خصوص الصّحيح من الطّائفة الأُولى ونفي الصّحّة من} الطّائفة {الثّانية} لا مانع منه، وذلك بأن يراد: الصّلاة الصّحيحة عمود الدّين، ولا صلاةَ صحيحةً إلّا بفاتحة الكتاب، ومن الواضح عدم المنافاة بين عدم الصّحّة وصدق الاسم.

ثمّ إنّ إرادة هذا المعنى لا بِدْعَ فيه {لشيوع} استعمال التّركيب الأوّل في الكامل،

ص: 143


1- غوالي اللئالي 1: 196، و 2: 218؛ مستدرك الوسائل 4: 158؛ هداية الأمة إلى أحكام الأئمة(علیهم السلام) 3: 31.
2- وسائل الشّيعة 1: 315.

استعمال هذا التّركيب في نفي مثل الصّحّة أو الكمال - خلاف الظّاهر، لا يصار إليه مع عدم نصب قرينة عليه.بل واستعمال: هذا التّركيب في نفي الصّفة ممكن المنع، حتّى في مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد»(1)

ممّا يعلم أنّ المراد: نفيُ الكمال، بدعوى استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضاً بنحوٍ من العناية، لا على الحقيقة،

___________________

كما يقال: (العالم زيد) وكثرة {استعمال هذا التّركيب} الثّاني {في نفي مثل الصّحّة أو الكمال} كما يقال: (الجبان ليس برجلٍ).

قُلْتُ: إرادة خصوص الصّحيح في الأوّل ونفي الصّحّة في الثّاني {خلاف الظّاهر} المنسبق من اللّفظ حين الإطلاق، و{لا يصار إليه} لأنّه مجاز {مع عدم نصب قرينةٍ عليه}، والشّهرة والشّيوع لم يبلغا حدّاً يصلحان للقرينيّة.

{بل و} يمكن أن يقال: إنّ {استعمال} مثل {هذا التّركيب} دائماً في نفي الحقيقة، واستعماله {في نفي الصّفة} سواء كانت صفة الصحّة أو الكمال {ممكن المنع، حتّى في مثل «لا صلاةَ لجار المسجد إلّا في المسجد» ممّا يعلم} من الخارج {أنّ المراد} منه {نفي الكمال} وذلك {بدعوى استعماله} أي: استعمال هذا التّركيب {في نفي الحقيقة في مثله} أي: في مثل ما كان المراد نفي الكمال {أيضاً} أي: كما يستعمل هذا التّركيب في نفي الحقيقة في ما كان المراد نفي الماهيّة والذّات، لكن فرق بين ما نفى الحقيقة حقيقةً، نحو«لا صلاة إلّا بطهور» وبين ما نفى الحقيقة ادّعاءً، نحو «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» فإنّ هذا {بنحو من العناية} والمجاز {لا على الحقيقة}.

والحاصِلُ: أنّ كلا المثالين نفي للحقيقة، لكن الأوّل حقيقيّ والثّاني ادّعائيّ

ص: 144


1- دعائم الإسلام 1: 148؛ مستدرك الوسائل 3: 356؛ بحار الأنوار 80: 379؛ وفي وسائل الشّيعة 5: 194؛ قال النّبيّ(صلی الله علیه و آله): «لا صلاة لجار المسجد إلّا في مسجده».

وإلّا لما دلّ على المبالغة، فافهم.

رابعها: دعوى القطع بأنّ طريقة الواضعين وديدنَهم: وضعُ الألفاظ للمركّبات التّامّة - كما هو قضيّة الحكمة الدّاعية إليه -

___________________

{وإلّا} يكن المراد في مثل: «لا صلاة لجار المسجد» نفي الحقيقة {لما دلّ على المبالغة} فإنّه لو قال: (لا صلاة كاملة) فأتت المبالغة في تشبيه غير الكاملة بعدم أصل الطّبيعة - كما لا يخفى - {فافهم} إشارة إلى أنّ الاستدلال بالطّائفة الأُولى من الأخبار نحو «الصّلاة عمود الدّين» غير تامّ، وذلك لما تقدّم من أنّه لو لم يعرف المراد كانت أصالة الحقيقة حجّةً على المراد وأمّا في ما عرف المراد ولم يعلم أنّه حقيقة أو مجاز لم يمكن التّمسّك بأصالة الحقيقة لإثبات كونه حقيقة لا مجازاً.

وقد علّق المصنّف على قوله: «فافهم» ما لفظه: «إشارة إلى أنّ الأخبار المثبتة للآثار وإن كانت ظاهرةً في ذلك لمكان أصالة الحقيقة، ولازم ذلك كون الموضوع له الأسماء هو الصّحيح، ضرورة اختصاص تلك الآثار به، إلّا أنّه لا يثبت بأصالتها - كما لا يخفى - لإجرائها العقلاء في إثبات المراد، لا في أنّه على نحو الحقيقة لا المجاز، فتأمّل جيّداً»(1)،

انتهى.{رابعها: دعوى القطع بأنّ طريقة الواضعين ودَيْدَنَهُم وضع الألفاظ} أي: ألفاظ المركّبات {للمركّبات التّامّة} للأجزاء والشّروط {كما هو} أي: الوضع للتّامّ {قضيّةُ الحكمةِ الدّاعية} إلى الوضع، فإنّ الحكمة الداعية {إليه} - وهي التّفهيم - يقتضي الوضع للتّام.

بيان ذلك: أنّ العقلاء يركّبون المركّبات لما يترتّب عليها من الثّمرات، ثمّ لأجل التّفهيم والتّفهّم يضعون اللّفظ بإِزائها طبعاً، ولذا نرى في قواميس اللّغة والطّبّ والصِّناعة وغيرها يذكرون تمام الأجزاء في معنى اللّفظ الموضوع للمركّب.

ص: 145


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 187.

والحاجةُ وإن دعت أحياناً إلى استعمالها في النّاقص أيضاً، إلّا أنّه لا يقتضي أن يكون بنحو الحقيقه، بل - ولو كان - مسامحةٌ، تنزيلاً للفاقد منزلة الواجد. والظّاهر: أنّ الشّارع غير مُتَخَطٍّ عن هذه الطّريقة.

ولا يخفى: أنّ هذه الدّعوى وإن كانت غيرَ بعيدة إلّا أنّها قابلة للمنع، فتأمّل.

وقد استدلّ للأعمّي أيضاً بوجوه:

___________________

{والحاجة وإن دعت أحياناً إلى استعمالها} أي: المركّبات {في النّاقص أيضاً إلّا أنّه} أي: الاستعمال في النّاقصِ لحاجةٍ {لا يقتضي أن يكون} هذا الاستعمال {بنحو الحقيقة} حتّى يكون اللّفظ مشتركاً معنويّاً أو لفظيّاً، فإنّ الاستعمال في النّاقص يصحّ {بل} يحسن {ولو} لم يكن على نحو الحقيقة، بل {كان مسامحة} ومجازاً {تنزيلاً للفاقد} لبعض الأجزاء {منزلة الواجد} لمشابهة في الصّورة أو الخاصيّة {والظّاهر أنّ الشّارع} في أوضاعه {غير مُتَخَطٍّ عنهذه الطّريقة} العرفيّة، فينتج كون ألفاظ العبادات موضوعة للصّحيح.

{ولا يخفى أنّ هذه الدّعوى} أي: دعوى دَيْدَنِ الواضعين ذلك واتّباع الشّارع لهم {وإن كانَتْ غيرَ بعيدةٍ} في نفسها {إلّا أنّها قابلة للمنع} إذ كون دَيْدَنِ الواضعين وضع اللّفظ بإزاء تامّ الأجزاء والشّرائط ممنوع أوّلاً، مثلاً: المفرّح الياقوتيّ الّذي له أجزاء متعدّدة يشترط في تاثيره أن يستعمل في الصّيف، فهذا الشّرط خارج عن الوضع قطعاً، وكون الشّارع مثلهم ممنوع ثانياً، إذ من العبادات ما هو اسم حتّى للفاقد كالحجّ وغيره - كما لا يخفى - {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى ما تقدّم من أنّ ألفاظ العبادات ليست من قبيل ألفاظ المركّبات، لعدم وضع لفظ العبادة للمركّب؛ لأنّه لا جامع لهذه المركّبات المختلفة، بل هو موضوع لمفهومٍ واحدٍ عَرَضَ له مَرَاتِبُ مختلفةٌ، فقياسه على المركّبات في غير محلّه.

هذا تمام الكلام في أدلّة الصّحيحي {وقد استدلّ للأعمّي أيضاً بوجوه} خمسة:

ص: 146

منها: تبادُر الأعمّ.

وفيه: أنّه قد عرفت الإشكال في تصوير الجامع الّذي لا بدّ منه، فكيف يصحّ معه دعوى التّبادر؟

ومنها: عدم صحّة السّلب عن الفاسد.

وفيه منع؛ لما عرفت.

ومنها: صحّة التّقسيم إلى الصّحيح والسّقيم.

___________________

[1] {منها: تبادر الأعمّ} من لفظ (العبادة) {وفيه: أنّه قد عرفت الإشكال في تصوير الجامع} بين الصّحيح والفاسد {الّذي لا بدّ منه} على كلّ حال، وإذا لم يكن هناك جامع فأيّ شيء يتبادر من اللّفظ، وحينئذٍ {فكيف يصحّمعه} أي: مع عدم الجامع {دعوى التّبادر؟} كما لا يخفى.

[2] {ومنها: عدم صحّة السّلب} أي: لا يصحّ سلب لفظ (العبادة) {عن الفاسد} الفاقد لبعض الأجزاء والشّرائط {وفيه: منع لما عرفت} في الجواب عن التّبادر من الإشكال في أصل الجامع، فأيّ معنى يشمل الصّحيح والفاسد حتّى لا يصحّ سلب اللّفظ عن ذلك المعنى؟

وقد يجاب عن هذين الوجهين: بأنّهما على تقدير التّسليم إنّما يفيدان كون اللّفظ حقيقة في الأعمّ في لساننا لا لسان الشّارع.

وفيه: أنّه لو تمّ كونه حقيقة في الأعمّ حينئذٍ، ثبت في لسان الشّارع أيضاً بأصالة عدم النّقل.

[3] {ومنها: صحّة التّقسيم} أي: تقسيم لفظ (العبادة) {إلى الصّحيح والسّقيم} فيقال: الصّلاة إمّا فاسدة وإمّا صحيحة، والتّقسيم علامة كون اللّفظ حقيقةً فيهما، إذ التّقسيم معناه: جعل الشّيء قسماً قسماً، ولا يصحّ جعل الشّيء نفسه وغيره، مثلاً يصحّ تقسيم الاسم إلى المعرب والمبني، ولا يصحّ تقسيمه إلى الفعل والاسم.

وإن شئت قُلْتَ: إنّ التّقسيم يدلّ على وجود قدر مشترك يكون هو المَقْسِمَ.

ص: 147

وفيه: إنّه إنّما يشهد على أنّها للأعمّ لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصّحيح، وقد عرفتها؛ فلا بدّ أن يكون التّقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللّفظ ولو بالعِناية.

ومنها: استعمال الصّلاة وغيرها في غير واحدٍ من الأخبار في الفاسدة:

كقوله عليه الصّلاة والسّلام: «بُني الإسلام على الخمس: الصّلاة والزّكاة والحجّ والصّوموالوِلاية، ولم يُنَادَ أحدٌ بشيءٍ كما نودي بالولاية، فأخذ النّاسُ بالأربع وتركوا هذه»(1)؛

«فلو أنّ أحداً صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية، لم يُقبل له صوم ولا صلاة»(2)

___________________

{وفيه: أنّه} أي: أنّ التّقسيم {إنّما يشهد على أنّها} أي: ألفاظ العبادات موضوعة {للأعمّ لو لم تكن هناك دلالة} من الخارج {على كونها موضوعة للصّحيح} فقط {وقد عرفتها} أي: الدّلالة الخارجيّة وهي الوجوه الأربعة الّتي استُدِلَّ بها للصّحيحي.

وقد عرفت أيضاً الإشكال في أصل الجامع بين الصّحيح والفاسد، فلا جامع حتّى يصحّ تقسيمه.

{فلا بدّ} حينئذٍ من {أن يكون التّقسيم} إلى الصّحيح والفاسد {بملاحظة ما يُستعمل فيه اللّفظ} أعمّ من أن يكون الاستعمال حقيقةً أو مجازاً {ولو بالعِناية}.

والحاصل: أنّ القدر المشترك المستعمل فيه لفظ (الصّلاة) حين التّقسيم معنىً مجازيٌّ على نحو عموم المجاز، والاستعمال أعمّ من الحقيقة.

[4] {ومنها: استعمال الصّلاة، وغيرها} من سائر العبادات - {في غير واحدٍ من الأخبار} الواردة عن الأئمّة الأطهار(علیهم السلام) - {في} الأعمّ من الصّحيح و{الفاسدة} وذلك {كقوله - عليه الصّلاة والسّلام - : «بُنِيَ الإِسْلاَمُ على الخمس: الصَّلاَةُ، والزّكاةُ، والحجُّ،والصّومُ، والوِلايةُ، ولَمْ يُنَادَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ كما نُوْدِيَ بالوِلاية، فَأَخَذَ النّاسُ بالأربعِ وتَرَكُوْا هذه»، «فلو أنّ أحداً صَامَ نَهَارَه وقام لَيْلَهُ وماتَ بغير وِلايةٍ، لم يُقْبَلْ له صَوْمٌ ولا صَلاَةٌ»}

ص: 148


1- الكافي 2: 18.
2- وردت بمضمونه أحاديث كثيرة، راجع بحار الأنوار 27: 166.

فإنّ الأخذ بالأربع لا يكون - بناءً على بطلان عبادات تاركي الولاية - إلّا إذا كانت أسامي للأعم.

وقوله(علیه السلام): «دَعِيْ الصَّلاَةَ أيّام أقرائك»(1)؛

___________________

وجه الاستدلال بهذه الرّواية من وجوه:

الأوّل: قوله(علیه السلام): «فأخذ النّاس بالأربع» المراد به الصّلاة، والزّكاة، والحجّ، والصّوم {فإنّ الأخذ} أي: أخذ العامّة {بالأربع، لا يكون} معقولاً لو كانت الألفاظ موضوعة للصّحيح؛ لأنّ الإيمان شرط في صحّة العبادة نصّاً وفتوىً، خلافاً لقولٍ نادرٍ.

والحاصِلُ: أنّه {بناءً على بطلان عبادات تاركي الوِلاية} لا يستقيم أخذهم بالأربع {إلّا إذا كانت} ألفاظ العبادات {أسامي للأعمّ} إذ لا يمكن للعامّة الأخذ بالصّحيح منها مع تركهم الوِلاية.

الثّاني: قوله(علیه السلام): «فلو أنّ أحداً صام نهاره» فإنّ صوم تارك الولاية لا يعقل إلّا على الأعمّ.

الثّالث: قوله(علیه السلام): «لم يقبل له صوم ولا صلاة» فإنّ المراد منهما ما كان واجداً لجميع ما كان معتبراً فيهما غير الإيمان، فيكون مستعملاً في الفاسد،ويمكن الاستدلال بقوله(علیه السلام): «بني الإسلام» الخ، فإنّه لو كان المراد منها الصّحيحة لم يلائم قوله: «فأخذ النّاس بالأربع» إلّا على طريق الاستخدام وهو خلاف الظّاهر.

تنبيه: يمكن قراءة «نهاره» و«ليله» مرفوعاً ومنصوباً.

{وقوله(علیه السلام): «دَعِي الصَّلاَةَ أيّام أقرائك»} وجه الاستدلال: أنّه لو كان المراد من الصّلاة الصّلاة الصّحيحة، لزم كون الأمر إرشاديّاً، أو أنّ الأمر تعلّق بغير المقدور، وذلك لأنّ الحائض لا تتمكّن من الصّلاة الصّحيحة، فإن أُمِرَتْ حينئذٍ

ص: 149


1- الكافي 3: 85؛ تهذيب الأحكام 1: 382.

ضرورة أنّه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لزم عدم صحّة النّهي عنها؛ لعدم قدرة الحائض على الصّحيحة منها.

وفيه: أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة.

مع أنّ المراد في الرّواية الأُولى هو خصوص الصّحيح، بقرينة أنّها ممّا بني عليها الإسلام.

___________________

بتركها كان من قبيل (لا تَطِرْ)، فلا بدّ أن يراد بالصّلاة الأعمّ من الفاسدة، فيكون المعنى: «دَعِيْ الصَّلاةً» وتنطبق حينئذٍ على الفاسدة، ولأجله تكون الصّورة منهيّاً عنها {ضرورة أنّه لو لم يكن المراد منها} أي: من الصّلاة في «دَعِي الصَّلاَةَ» {الفاسدة لزم عدم صحّة النّهي عنها} إلّا إرشاديّاً، وذلك {لعدم قدرة الحائض} تكويناً {على الصّحيحة منها} كعدم قدرة الجُنُبِ من الصّلاة الصّحيحة تكويناً.

والحاصل: الأمر دائِرٌ بين أن يكون الأمر إرشاديّاً، وبين أن يكون متعلّقاً بغير المقدور، وبين أن يكون لفظ (الصَّلاَة) مستعملاً في الفاسد مجازاً، وبين أنيكون لفظ (الصّلاة) اسماً للأعم، والثّلاثة الأُوَل باطلة، فتعيّن الرّابع.

{وفيه: أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة} فالقدر المسلّم استعمال اللّفظ في الرّوايتين في الأعم، لكن كون هذا الاستعمال حقيقةً لم يدلّ عليه دليلٌ.

وقد تقدّم - غيرَ مرّةٍ - أنّ التّمسّك بأصالة عدم القرينة تجري لإثبات أصل المراد، لا لإثبات أنّه على نحو الحقيقة أو المجاز {مع} أنّا لا نسلّم {أنّ المراد} بهذه الألفاظ الواقعة {في الرّواية الأُولى} هو الأعمّ، بل نقول المراد منها {هو خصوص الصّحيح} وذلك {بقرينة} قوله(علیه السلام): {إنّها ممّا بني عليها الإسلام} فإنّ البناء على الصّحيح بديهةً.

ص: 150

ولا ينافي ذلك بطلان عبادة منكري الولاية؛ إذ لعلّ أخذهم بها إنّما كان بحسب اعتقادهم، لا حقيقةً، وذلك لا يقتضي استعمالها في الفاسد أو الأعمّ. والاستعمال في قوله: «فلو أنّ أحداً صام نهاره» الخ كان كذلك - أي: بحسب اعتقادهم - أو للمشابهة والمشاكلة.

___________________

{و} إن قلت: هذا ينافي قوله(علیه السلام): «فأخذ النّاس» وقوله: «لم يقبل له» وقوله: «فلو أنّ أحداً»، كما تقدّم.

قلتُ: {لا ينافي ذلك} أي: كون المراد بالرواية خصوص الصّحيح {بطلان عبادة منكري الولاية} وجه عدم المنافاة {إذ لعلّ أخذهم بها} أي: بالأربع {إنّما كان بحسب اعتقادهم، لا} في نفس الأمر {حقيقة} فالمراد هو الصّحيح لكنّه اعتقادي {وذلك لا يقتضي استعمالها في الفاسد}مجازاً {أو الأعم} ومثله قوله: «لم يقبل» الخ. وقوله: «فلو أنّ أحداً» الخ.

نعم، يبقى الاستخدام ولا ضير فيه بعد وجود القرينة وهي قوله(علیه السلام): «بني الإسلام»، كما تقدّم.

{و} بهذا تبيّن أنّ {الاستعمال في قوله} (علیه السلام): {«فلو أنّ أحداً صام نهاره» الخ كان كذلك، أي}: أنّ المراد بالصّوم الصّوم الصّحيح، لكن {بحسب اعتقادهم} لا بحسب نفس الأمر حقيقةً {أو للمشابهة والمشاكلة} يعني: أنّ إطلاق ألفاظ العبادات على عبادة العامّة للمشابهة مع الأعمال الصّحيحة.

وكلمة «أو» إمّا عطف على قوله: «بحسب اعتقادهم لا حقيقة» وإمّا عطف على قوله: «أي: بحسب اعتقادهم» والأوّل أصوب، والثّاني أقرب.

وعلى كلّ تقديرٍ، فهذا جوابٌ ثالثٌ عن الرّواية، وحاصله أن يكون الاستعمال في الفاسد، ولكن أُطلق اللّفظ الموضوع للصّحيح عليه باعتبار مشابهة عمل تاركي الولاية صورةً لعمل الآخذين بها.

ص: 151

وفي الرّواية الثّانية، النّهي للإرشاد إلى عدم القدرة على الصّلاة، وإلّا كان الإتيان بالأركان وسائر ما يعتبر في الصّلاة، بل بما يسمّى في العرف بها - ولو أخلّ بما لا يضرّ الإخلال به بالتّسمية عرفاً - محرّماً على الحائض ذاتاً، وإن لم تَقْصِد به القربة. ولا أظنّ أن يلتزم به المستدِلّ بالرّواية، فتأمّل جيّداً.

___________________

{وفي الرّواية الثّانية} أي: مع أنّ الرّواية الثّانية - وهي: «دَعِي الصَّلاَة» - نقول: إنّ الصّلاة مستعملة في الصّحيحة و{النّهيللإرشاد إلى عدم القدرة على الصّلاة} في وقت الحيض، فمفاد «دَعِيْ الصَّلاَة» عدم تمكّن الحائض منها {وإلّا} يكن النّهي للإرشاد - بل كان مولويّاً - لزم حرمة إتيانها بصورة الصّلاة، لتمرين طفلها وغيره.

وبعبارة أُخرى {كان الإتيان بالأركان} الصّلاتيّة {وسائر ما يعتبر في الصّلاة} من الأجزاء والشّرائط {بل} كان الإتيان {بما يسمّى في العرف بها} أي: بالصّلاة {ولو أخلّ بما} هو ركن، لكن بحيث {لا يضرّ الإخلال به بالتّسمية} باسم الصّلاة {عرفاً، محرّماً} خبر «كان» أي: يلزم من كون النّهي مولويّاً حرمة صورة الصّلاة {على الحائض ذاتاً، وإن لم تقصد به} أي: بإتيانها {القربة} حتّى تكون محرّماً تشريعاً.

{ولا أظنّ أن يلتزم به} أي: بكون صورة الصَّلاَة محرّمة على الحائض ذاتاً {المستدِلّ بالرّواية} للأعمّ {فتأمّل جيّداً}.

ولتوضيح المقام لا بأس بالإشارة إلى ما ذكره الشّيخ الأنصاري(قدس سره) في كتاب الطّهارة قال: «ثمّ إنّه لا إشكال في تحريم الصّلاة من حيث التّشريع، وهل هي محرّمة ذاتاً - كقراءة العزائم - أو لا حرمة فيها إلّا من جهة التّشريع بفعل الصّلاة الغير المأمور بها؟ وجهان:

[أ] من التّصريح بعدم الجواز، والأمر بالترك في النّصوص وأكثر معاقد الإجماعات.

ص: 152

ومنها: أنّه

___________________

ففي صحيحة زرارة: «إذا كانت المرأة طامثاً فلا تحلّ لها الصّلاة»(1)، وفي صحيحة أُخرى: «لا تحلّ لها الصّلاة»(2)، وفي أُخرى: «إذا دفقته - يعني الدّم - حرمت عليها الصّلاة»(3)،

ونحوها غيرها(4)،

وفي المنتهى: «يحرم على الحائض الصّلاة والصّوم، وهو مذهب عامّة أهل الإسلام»(5).

[ب] ومن أنّ الظّاهر توجّه التّحريم والأمر بالتّرك في الأدلّة على فعل الصّلاة على وجه التّعبّد والمشروعيّة، كما كانت تفعلها قبل الحيض، ولا كلام في حرمة ذلك؛ لأنّه تشريع وتعبّد بما لم يأمر به الشّارع.

وإنّما تظهر الثّمرة في حسن الاحتياط بها بفعل الصّوم والصّلاة الواجبين أو المندوبين عند الشّكّ في الحيض مع فرض عدم أصل أو عموم يرجع إليه، فإن قلنا بالتّحريم الذّاتي لم يحسن لها الاحتياط سيّما بفعل المندوبة، والأقوى عدمه، للأصل وظهور النّواهي في ما ذكرنا، مع أنّ أوامر التّرك واردة في مقام رفع الوجوب، ولذا أبدل التّحريم في المعتبر(6) والنّافع(7)

بعدم الانعقاد، فقال في المعتبر: «لا تنعقد للحائض صوم ولا صلاة، وعليه الإجماع»(8)، انتهى كلامه.

[5] {ومنها} أي: من الوجوه الّتي استدلّ بها الأعمّي {أنّه} لزم عدم الحِنْثِ والخلف على تقدير كون ألفاظ العبادة موضوعة للصّحيح، وبيان ذلك يتوقّف على

ص: 153


1- وسائل الشيعة 2: 343.
2- وسائل الشيعة 2: 345.
3- وسائل الشيعة 2: 334.
4- وسائل الشيعة 2: 368.
5- منتهى المطلب 2: 343.
6- المعتبر في شرح المختصر 1: 221.
7- المختصر النافع: 10.
8- كتاب الطهارة 3: 374.

لا شبهة في صحّة تعلّق النّذر وشبهه بترك الصّلاة في مكانٍ تَكْرَهُ فيه، وحصولِ الحنث بفعلها، ولو كانت الصّلاة المنذور تركها خصوصَ الصّحيحة لا يكاد يحصل به الحِنْثُ أصلاً؛ لفساد الصّلاة المأتي بها؛ لحرمتها، كما لا يخفى.

بل يلزم المحال؛ فإنّ النّذر - حسب الفرض - قد تعلّق بالصّحيح منها ولا تكاد تكون

___________________

تمهيد مقدّمتين:

الأُولى: أنّه {لا شبهة في صحّة تعلّق النّذر وشبهه} من العهد واليمين {بترك الصّلاة في مكان تكره} الصّلاة {فيه} كالحمّام وغيره.

{و} الثّانية: {حصول الحنث بفعلها} أي: بفعل الصّلاة في تلك الأمكنة المكروهة.

{و} إذا تمهّدت المقدّمتان قلنا: لا بدّ أن تكون الصّلاة موضوعةً للأعمّ من الصّحيح والفاسد حتّى يكون النّذر متعلّقاً بالأعم، إذ {لو كانت الصّلاة المنذور تركها خصوص الصّحيحة} ثمّ صلّى في ذلك المكان، فإمّا أن تكون صلاته صحيحةً، وإمّا أن تكون باطلةً.

أمّا الأوّل: فغير ممكن، إذ النّهي في العبادة يقتضي فسادها.

وأمّا الثّاني: فغير صحيح؛ لأنّه يوجب عدم الحنث أوّلاً، إذ المنذور ترك الصّلاة الصّحيحة وهذه باطلة، وعليه يلزم أنّه {لا يكاد يحصل به} أي: بفعل الصّلاة {الحنث أصلاً} وإنّما يلزم عدم الحنث {لفساد الصّلاة المأتي بها لحرمتها} أي: لحرمة الصّلاة {كما لا يخفى} وذلك للنّهي عنها بعد النّذر المقتضي للفساد - كما تقدّم - وعدمالحنث ينافي المقدّمة الثّانية {بل يلزم} الخلف {المحال} ثانياً، إذ الصّحّة مأخوذة في موضوع النّذر حسب الفرض، فصحّة الصّلاة مقتضية لانعقاد النّذر، وانعقاد النّذر مقتضٍ لبطلانها، لتعلّق النّهي بها {فإنّ النّذر - حسب الفرض - قد تعلّق بالصّحيح منها، ولا تكاد تكون} الصّلاة المأتي

ص: 154

معه صحيحة، وما يلزم من فرض وُجُوْدِهِ عدمُهُ محالٌ.

قلت: لا يخفى أنّه لو صحّ ذلك لا يقتضي إلّا عدم صحّه تعلّق النّذر بالصّحيح، لا عدم وضع اللّفظ له شرعاً، مع أنّ الفساد من قبل النّذر لا ينافي صحّة متعلّقه،

___________________

بها في المكان المكروه {معه} أي: مع النّذر {صحيحة} فيلزم من صحّتها عدم صحّتها {وما يلزم من فرض وجوده عدمه محال}.

وإن شئت قلت: يلزم من تعلّق الحَلْف عدم تعلّق الحَلْف، إذ الحَلْف لا يتعلّق إلّا بالصّحيحة، وحين تعلّق الحَلْف تنقلب فاسدة، للنّهي عنها حينئذٍ، وحيث فسدت لم يعقل بقاؤها متعلّقة للحَلْف.

وأمّا على الأعمّ فلا يلزم شيء من الإشكالين، إذ متعلّق النّذر على الأعمّ هي الطّبيعة المطلقة الممكنة الحصول في ضمن كلّ واحدٍ من الصّحيح والفاسد، وبعد تعلّق النّذر تكون الطّبيعة موجودةً، ويمكن الإتيان بها لكن في ضمن أحد فرديها - أعني: الفاسدة - ، ومعلوم أنّه لا يلزم من انتفاء أحد الفردين انتفاء الطّبيعة، فلو أتى بالصّلاة في الحمّام حنث، لإتيانه بالفرد ولو كانت فاسدة للنّهي عنها.

{قلت} في جواب الإشكالين: {لا يخفى أنّه لو صحّ ذلك} الاستدلال، ولزم الإشكالان على تقدير تعلّق النّذر بالصّحيح، فهو غير ضارّ، إذ {لايقتضي} الاستدلال {إلّا عدم صحّة تعلّق النّذر بالصحيح} فلو كان مراد النّاذر الصّحيح، لم ينعقد النّذر للمحال المتقدّم، {لا} أنّه يقتضي {عدم وضع اللّفظ له} أي: للصّحيح {شرعاً}.

والحاصِلُ: أنّ الإشكال يلزم على تقدير نذر الصّحيح، ولا يلزم على تقدير نذر الأعم، سواء قلنا بالصّحيح أو الأعم، فعدم صحّة تعلّق النّذر بالصّحيح لا يكشف عن عدم وضع اللّفظ للصّحيح، لعدم التّلازم بينهما. {مع أنّ} لنا جواباً آخر عن الإشكال، وهو أنّ {الفساد} الطّارئ على العبادة {من قبل النّذر} وبعده {لا ينافي صحّة متعلّقه} قبل النّذر.

ص: 155

فلا يلزم من فَرْضِ وُجُوْدِها عَدَمُهَا.

ومن هنا انقدح: أنّ حصول الحِنْث إنّما يكون لأجل الصّحّة لولا تعلّقه. نعم، لو فرض تعلّقه بترك الصّلاة المطلوبة بالفعل

___________________

وجه عدم المنافاة: أنّ رتبة الصّلاة الصّحيحة متقدّمة على رتبة الصّلاة الفاسدة، وذلك لأنّ الصّلاة الصّحيحة رتبتها قبل تعلّق النّذر، والصّلاة الفاسدة رتبتها بعد تعلّق النّذر، والمتبادر من إطلاق النّاذر إرادة ترك الصّلاة الصّحيحة لولا النّذر، وإن كانت بعد تعلّق النّذر بها فاسدة، لعموم إمكان اجتماع الأمر المتقدّم على النّذر والنّهي المتأخّر عنه.

وإشكال الخلف إنّما نشأ من الخلط بين الرّتبتين، والنّذر من قبيل سائر العناوين الثّانويّة، كالاضطرار والحرج الّتي هي متوسّطة بين الحرمة المتقدّمة والحلّيّة المتأخّرة، وبهذا تبيّن الجواب عن إشكال الخلف {فلا يلزم من فرض وجودها} أي: وجود الصّحّة {عدمها} أي: عدم الصّحّة، فإنّ عدم الصّحّة بملاحظة النّذر، لا ينافي الصّحّة بملاحظة قبل النّذر.{ومن هنا انقدح} جواب الإشكال الأوّل أيضاً وهو عدم الحِنْث. بيانُهُ: {أنّ حصول الحِنْث إنّما يكون لأجل الصّحّة لولا تعلّقه} أي: تعلّق النّذر، إذ كون الصّلاة صحيحةً في رتبةٍ سابقةٍ على النّذر يوجب إتيانُها في الحمّام الحِنْثَ، وإن كانت فاسدةً بعد تعلّق النّذر.

ولا يخفى أنّ الجواب الأوّل أيضاً يجري فيه، كما ذكره المشكيني(قدس سره)(1)، إذ عدم الحِنْث لو صحّ لا يقتضي إلّا عدم صحّة النّذر بالصّحيح، لا عدم وضع اللّفظ له شرعاً.

{نعم، لو فرض تعلّقه} أي: تعلّق النّذر {بترك الصّلاة المطلوبة بالفعل} كأن نذر

ص: 156


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 195.

لكان مَنْعُ حصول الحِنْثِ بفعلها بمكانٍ من الإمكان.

بقي أُمور:

الأوّل: أنّ أسامي المعاملات إن كانت موضوعة للمسبّبات، فلا مجال للنّزاع في كونها موضوعةً للصّحيحة أو الأعمّ؛ لعدم اتّصافها بهما، كما لا يخفى،

___________________

بأنّه لا يصلّي يوم الجمعة في الحمّام - الصّلاة المطلوبة للشّارع في يوم الجمعة - لم يصحّ هذا النّذر، لورود الإشكالين عليه؛ لأنّه يلزم وجود الصّحّة والفساد في رتبة واحدة - أعني: بعد النّذر - و{لكان منع حصول الحِنْث بفعلها} أي: بفعل الصّلاة في يوم الجمعة في الحمّام {بمكانٍ من الإمكان} لأنّه بعد تعلّق النّذر لو صلّى في الحمّام لم تكن صلاته صحيحةً، إذ النَّذْرُ مقتضٍ للنّهي المقتضي للفساد، وحيث لم تكن الصّلاة صحيحة لم يَحْنَثْ.وقد علّق المصنّف على قوله: «بالفعل» ما لفظه: «أي: ولو مع النّذر، ولكن صحّته كذلك مشكل، لعدم كون الصّلاة معه صحيحة مطلوبة، فتأمّل جيّداً»(1)، انتهى. وهذا ما أشرنا إليه بقولنا: «لم يصحّ هذا النّذر لورود الإشكالين» الخ... .

{بقي} في المقام {أُمور} ثلاثة:

{الأوّل: أنّ أسامي المعاملات} المتداولة في ألسن العرف: كالبيع، والإجارة، والرَّهْن، والنِّكاح، والظّاهر أنّ المراد بالمعاملات هنا الأعمّ من العقود والإيقاعات، بقرينة مقابلتها بالعبادات، فالكلام يشمل حتّى الطّلاق والعتق ونحوهما {إن كانت موضوعةً للمسبّبات} مثل أن يكون البيع عبارةً عن ملكيّة حاصلة من تمليك العين بِعِوَضٍ، والإجارة تمليك المنفعة كذلك، والطّلاق إزالة قيد النّكاح بلا عِوَضٍ {فلا مجال للنّزاع في كونها} أي: كون هذه الألفاظ {موضوعةً للصّحيحة أو الأعمّ} وذلك {لعدم اتصافها} أي: اتّصاف المعاملات {بهما} أي: بالصّحّة والفساد {كما لا يخفى}

ص: 157


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 195.

بل بالوجود تارةً وبالعدم أُخرى.

وأمّا إن كانت موضوعة للأسباب، فللنّزاع فيه مجالٌ.

لكنّه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصّحيحة أيضاً،

___________________

إذ أنّ الصّحّة عبارة عن: تماميّة الشّيء بحيث يترتّب عليه الأثر المطلوب منه، والفساد عبارة عن: عدم التّماميّة بحيث لا يترتّب عليه الأثر المطلوب، وهذا إنّما يتصوّر في ما كان الشّيء مركّباً، وأمّا إذا كان بسيطاً فوجوده وصحّته مساوقان، فلا يمكن فيه الوجود دون الصّحّة حتّى يطرأ عليه الفساد.مثلاً: يعقل في الصّلاة الصّحّة باعتبار اجتماع الأجزاء والشّرائط، والفساد باعتبار وجود بعض الأجزاء، وعدم وجود بعض مثلاً، أمّا كون الشّيء ل (زيد) فلا يتصوّر فيه الفساد أصلاً، إذ الشّيء إمّا ملك ل (زيدٍ) أم لا.

والحاصل: أنّ الشّيء لو كان بسيطاً لا يتّصف بالصّحّة والفساد {بل} يتّصف {بالوجود تارةً} إن كان سببه موجوداً {وبالعدم أُخرى} إن كان سببه مفقوداً.

{وأمّا إن كانت} ألفاظ المعاملات {موضوعةً للأسباب} كأن يكون البيع موضوعاً ل (بِعْتُ) والطّلاق موضوعاً لِ- (هي طالق) وكذا سائر الألفاظ {فللنّزاع فيه} أي: في كونها موضوعة للصّحيح أو الفاسد {مجال} فالصّحيحيّ يقول: إنّها أسامٍ للعقد المؤثّر الّذي هو جامع للأجزاء والشّرائط، والأعمّي يقول: إنّها أسامٍ لمطلق العقد، مؤثّراً كان أم لا، أي: سواء جمع الشّرائط والأجزاء، أم لا.

ثمّ إنّ هنا على الصّحيح احتمالاتٍ ثلاثةً:

الأوّل: أن تكون المعاملات أسامي للسّبب المؤثّر شرعاً وعرفاً.

الثّاني: أن تكون أسامي للسّبب المؤثّر عرفاً فقط.

الثّالث: أن تكون أسامي للمؤثّر شرعاً فقط {لكنّه لا يبعد دعوى كونها} أسامي {موضوعة للصّحيحة} فقط {أيضاً} كما اخترنا ذلك في ألفاظ العبادات والجامع

ص: 158

وأنّ الموضوع له هو العقد المؤثّر لأثر كذا شرعاً وعرفاً.

والاختلافُ بين الشّرع والعرف في ما يعتبر في تأثير العقد، لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى، بل الاختلافَ في المحقّقات والمصاديق،

___________________

بين الأفراد المؤثّرة الصّحيحة واضح، ولو كان الجامع بين أفراد العبادات مشكلاً، وذلك لإمكان تصوّر مفهوم إنشاء المبادلة بين العين والمال في البيع، فيوضع له اللّفظ.

ثمّ إنّ مستند القول بوضعها للصّحيح هو التّبادر من حاقّ لفظة (البيع) وسائر مشتقّاتها، وكذا سائر العقود والإيقاعات، بل يمكن جريان أدلّة الطّرفين الّتي سبق ذكرها في باب العِبادات هنا.

هذا كلّه في مقام أصل كونها للصّحيح أو الفاسد {و} أمّا الاختلاف الثّاني فالظّاهر {أنّ الموضوع له} لهذه الأسامي {هو العقد المؤثّر لأثر كذا} أي: المبادلة وغيرها {شرعاً وعرفاً} إذ الظّاهر عدم ثبوت حقيقة شرعيّة في باب المعاملات، بل كلّها من باب الإمضاء والشّارع استعملها في ما لها من المعاني العرفيّة.

{و} إن قلت: فما هذا الاختلاف الواقع بين الشّرع والعرف في بعض المعاملات، ضرورةَ صحّة المعاملة الرّبويّة، عرفاً لا شرعاً، وكذا بعض أقسام البيع المجهول، والمعاملة مع غير البالغ وغيرها.

قُلْتُ: {الاختلافُ} المُشَاهَدُ {بين الشّرع والعرف في ما} أي: في بعض الأجزاء والشّرائط الّذي {يعتبر في تأثير العقد} كأن يرى الشّارع عدم الزّيادة في الجنس الواحد والبلوغ ونحوهما شرطاً في تأثير العقد دون العرف {لا يوجب الاختلاف بينهما في} أصل {المعنى} بحيث يكون في الشّرع للصّحيح وفي العرف للأعمّ حتّى ينافي ما ادّعيناه {بل الاختلاف} بين الشّرع والعرف في بعض الموارد من باب الاختلاف {في المحقّقات} لذلك الكلّي المتّفق عليه {والمصاديق} له.

ص: 159

وتخطئةَ الشّرعِ العرفَ في تخيّل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره - مُحَقِّقاً لما هو المؤثّر، كما لا يخفى، فافهم.

___________________

والحاصِلُ: أنّه ليس اختلاف في المفهوم، بل الاختلاف في المصداق، وذلك كما إذا اتفق العرف على أنّ مفهوم الماء عبارةٌ عن: الجسم السّيّال البارد بالطّبع، ثمّ قال بعضهم: بأنّ الخَلَّ ليس بماءٍ، وقال آخر: إنّه ماء، ظنّاً منه ذلك لاتّحادهما في الصّورة، وعدم علمه بحقيقة الخَلّ وطعمه ورائحته وخاصيّته.

{و} بهذا تبيّن أنّ {تخطئة الشّرع} لأهل {العرف} في بعض المعاملات إنّما هي {في تخيّل} العرف {كون العقد بدون ما اعتبره} الشّرع من الأجزاء والشّرائط الّذي كان معتبراً {في تأثيره} واقعاً {مُحَقِّقاً} - بصيغة اسم الفاعل - يعني: يتخيّل العرف أنّ العقد بدون الشّرط يحقّق {لما هو المؤثّر} في النّقل والانتقال مثلاً، مع أنّه ليس بمؤثّر واقعاً.

وممّا ذكر تبيّن جواز التّمسّك بالإطلاقات الواردة في بيان المعاملات في ما لو شكّ في شرط أو جزء، وفي المقام كلمات للأعلام وشّحنا بها تقريرات مباحث بعض أساتيدنا - دام ظلّه - .

ثمّ إنّ بعض الأعلام ذكر في وجه التّمسّك بإطلاق المعاملات ما حاصله: أنّ المراد بالمسبّب هو الاعتبار الصّادر من البائع المظهر باللّفظ أو بغيره، والاعتبار أمر قائم بالمعتبر بالمباشرة بلا احتياج إلى سبب أو آلة، وعلى هذا فلو كان دليل الإمضاء من الشّرع وارداً في مقام إمضاء الاعتبارات الصّادرة من المتعاملين، فمقتضى إطلاقه وعدم التّقييد بمظهر خاصّ يثبت عموم الإمضاء لكلّ ما يمكن أن يكون مظهراً له، وبهذا يتمّ وجه التّمسّك بالإطلاق في المعاملات {كما لا يخفى، فافهم} لعلّه إشارة إلى بعد ما ذكره من كون الاختلاف بين الشّرع والعرف إنّما هو في المصاديق، فإنّه لا برهان عليه، بل قد يكون البرهان على خلافه، كما حقّق فيمحلّه.

ص: 160

الثّاني: أنّ كون ألفاظ المعاملات أسامي للصّحيحة لا يوجب إجمالها كألفاظ العبادات، كي لا يصحّ التّمسّك بإطلاقها عند الشّكّ في اعتبار شيء في تأثيرها شرعاً؛ وذلك لأنّ إطلاقها - لو كان مسوقاً في مقام البيان - ينزّل على أنّ المؤثّر عند الشّارع هو المؤثّر عند العرف، ولم يعتبر في تأثيره عنده غير ما اعتبر فيه عندهم،

___________________

{الثّاني} من الأُمور الثّلاثة الباقية في بيان أنّ ما ذكر من الثمرة بين الصّحيحيّ والأعمّي في باب العبادات لا تجري في باب المعاملات، إذ {إنّ كون ألفاظ المعاملات أسامي للصّحيحة لا يوجب إجمالها} بحيث لا يمكن التّمسّك بها عند الشّكّ لما تقدّم، وليست {كألفاظ العبادات} على القول بوضعها للصّحيح {كي لا يصحّ التّمسّك بإطلاقها} أي: بإطلاق ألفاظ المعاملات {عند الشّكّ في اعتبار شيء} من الأجزاء والشّرائط {في تأثيرها شرعاً}.

نعم، قد يستشكل في التّمسّك بالإطلاق بناءً على الوضع للصّحيح الشّرعي فقط، لكن تبيّن الجواب عنه ممّا تقدّم، {وذلك} أي: وجه التّمسّك بالإطلاق مع كونها أسامي للصّحيح {لأنّ إطلاقها} أي: إطلاق ألفاظ المعاملات {لو كان مسوقاً في مقام البيان} بأن تمّت مقدّمات الحكمة {ينزّل} ذلك الإطلاق {على أنّ المؤثّر عند الشّارع هو المؤثّر عند العرف} من غير اختلاف بينهما في المفهوم {و} كشف ذلك الإطلاق عن أنّه {لم يعتبر فيتأثيره} أي: تأثير المؤثّر {عنده}(صلی الله علیه و آله) {غير ما اعتبر فيه} أي: في التّأثير {عندهم} إذ لو كان شيء زائداً على المفهوم العرفي هناك، لزم عليه البيان وإلّا يكون نقضاً لغرضه.

والحاصِلُ: أنّ المعاملات لمّا كانت أُموراً عرفيّة مفهوماً ومصداقاً، يصحّ أن ينزل إطلاق كلام الشّارع على المعاني العرفيّة، وحينئذٍ يكون فهم العرف في التّعيين متّبعاً ما لم يصل من الشّارع اعتبار جزء أو شرط، ومع الاعتبار يقيّد المفهوم العرفي بمقدار ثبوت الخلاف، ويبقى الإطلاق في سائر ما شكّ في دخله

ص: 161

كما ينزّل عليه إطلاق كلام غيره، حيث إنّه منهم، ولو اعتبر في تأثيره ما شكّ في اعتباره كان عليه البيان ونصبُ القرينة عليه، وحيث لم ينصِب بَانَ عدمُ اعتبارِهِ عنده أيضاً؛ ولذا يتمسّكون بالإطلاق في أبواب المعاملات مع ذَهَابهم إلى كون ألفاظها موضوعةً للصّحيح.

___________________

بحاله متّبعاً، كما هو الشّأن في جميع المطلقات.

مثلاً: لو علم من الشّرع اشتراط البلوغ في المتعاقدين قيّد المفهوم العرفي بهذا القيد، ولو شكّ في اشتراط اللّفظ في العقد حتّى لا تصحّ المعاطاة، يتمسّك بإطلاق {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1) أو إطلاق {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(2) في نفي هذا الشّرط، فيحكم بصحّة المعاطاة.

وينزّل كلام الشّارع على الفهم العرفي {كما ينزّل عليه إطلاق كلام غيره} حين الإطلاق {حيث إنّه} (صلی الله علیه وآله) {منهم} أي: من العرف، فكلامه مثل كلامهم، إلّا في ما نصّ على خلافهم {ولو اعتبر} (صلی الله علیه و آله) {في تأثيره} أي: في تأثير العقد {ما شكّ في اعتباره} كاللفظ في البيع ونحوه {كان عليه البيان} لئلّا يكون نقضاً لغرضه {و} وجب {نَصْبُ القرينة عليه} أي: على ما اعتبره زائداً على العرف {وحيث لم ينصب} القرينة على خلاف المفهوم العرفي {بان عدم اعتباره} أي: عدم اعتبار ذلك المشكوك {عنده} (صلی الله علیه و آله) {أيضاً} أي: كما لم يعتبر عند العرف.

{ولذا} أي: ولعدم كون ألفاظ المعاملات موضوعة للصّحيح موجباً لإجمالها ترى الفقهاء من الصّدر الأوّل إلى الحال الحاضر {يتمسّكون بالإطلاق} في نفي الجزئيّة والشّرطيّة المشكوكة {في} جميع {أبواب المعاملات} الأعمّ من العقود والإيقاعات {مع ذَهَابهم} في هذه المسألة {إلى كون ألفاظها} أي: ألفاظ المعاملات {موضوعة للصّحيح} فقط.

ص: 162


1- سورة البقرة، الآية: 275.
2- سورة المائدة، الآية: 1.

نعم، لو شُكَّ في اعتبار شيءٍ فيها عرفاً، فلا مجال للتمسّك بإطلاقها في عدم اعتباره، بل لا بدّ من اعتباره؛ لأصالة عدم الأثر بدونه، فتأمّل جيّداً.

___________________

وبذلك تبيّن أنّ ما توهّمه بعض من أنّ لازم قول الصّحيحي عدم التّمسّك بالإطلاق في غير محلّه.

هذا كلّه في ما لو كان الشّكّ في اعتبار الشّارع شيئاً زائداً على العرف {نعم، لو شُكَّ في اعتبار شيءٍ فيها} أي: في المعاملة {عرفاً} كما لو شكّ في أنّ البيع في مثل الدّار والعَقَار يصدق علىالمعاطاة المجرّدة من اللّفظ أم لا {فلا مجال للتمسّك بإطلاقها} أي: بإطلاق ألفاظ المعاملات {في عدم اعتباره} أي: عدم اعتبار ذلك المشكوك، وذلك لعدم إحراز عنوان المطلق حينئذٍ، بناءً على كونه موضوعاً للصّحيح {بل لا بدّ} حين الشّكّ {من اعتباره} في المعاملة، إذ لو أجرى المعاملة بدون ذلك المشكوك، لم تؤثّر الأثر المطلوب ظاهراً {لأصالة عدم الأثر بدونه} أي: بدون ذلك المشكوك، وهذه هي أصالة الفساد المعروفة في أبواب المعاملات حين الشّكّ {فتأمّل جيّداً}.

ولا يذهب عليك أنّ أصالة الفساد في المعاملة لا تنافي أصالة الصّحّة المشهورة، ولا أصالة اللّزوم الّتي ذكرها غير واحد من العلماء تبعاً للعلّامة(قدس سره)، كما بيّنها الشّيخ(رحمة الله) في باب الخيارات من المكاسب(1).

أمّا الأوّل: فلأنّ أصالة الصّحّة إنّما تجري في الشّبهات المصداقيّة بعد وقوع الفعل، إذ دليلها «ضَعْ أمرَ أخيك على أحسنه»(2) ونحوه، وذلك كما لو عامل معاملة مع العلم بشرائط المعاملة وموانعها، ثمّ شكّ في أنّه هل كانت المعاملة في حال صِغَرِهِ، أو كان الطّرف مأذون التّصرّف ونحوه، فإنّه يجري أصالة الصّحّة،

ص: 163


1- كتاب المكاسب 5: 17.
2- وسائل الشيعة 12: 302.

الثّالث:

___________________

على إشكال في بعض الموارد، كما ذكره الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل(1)،

وأمّا أصالة الفساد فمجراها في الشّبهات المفهوميّة، كما لو شكّ في مدخليّة اللّفظفي عقد البيع ونحوه، والسّرّ فيه أنّه من باب العنوان والمحصّل على ما هو مبنى بعض الأعلام.

وأمّا الثّاني: فلأنّ أصالة اللّزوم فرع أصالة الصّحّة، وحيث انتفى الأصل انتفى الفرع، وفي المقام بحث طويل أوكلناه إلى تقريرات مباحث الأُستاذ.

{الثّالث:} من الأُمور الباقية في المقام بيان كيفيّة دخالة شيءٍ في المركّب بحيث لو انتفى ذلك انتفت التّسمية، وقبل الشّروع في المطلب لا بأس ببيان الفرق بين الجزء والشّرط، فنقول: لو دلّ الدّليل على اعتبار شيءٍ في شيءٍ يكون ذلك الشّيء جزءاً، ولو دلّ الدّليل على تقييده به يكون شرطاً.

قال العلّامة القوچاني(رحمة الله): «إنّ الجزء ما كان داخلاً في أصل قوام المركّب، والشّرط ما كان خارجاً عنه وإن كان منشأ الخَصوصيّة، ويفرق بينهما بأنّ الشّرط ما كان اعتباره لفائدة في غيره، والجزء ما كان اعتباره لفائدة متعلّقة به بذاته، وإن كان تحصيلها منه متوقّفاً على انضمام سائر الأجزاء إليه، وبأنّ الشّرط ما كان صفة وحالة، والجزء ما كان فعلاً، والكلّ متقاربة»(2)،

انتهى كلامه رفع مقامه.

ثمّ إنّه تظهر الثّمرة بين الجزئيّة والشّرطيّة بلزوم قصد القربة في أجزاء العبادة، إذ الأمرُ بالكلّ - المشروط بقصد القربة - عينُ الأمر بالأجزاء بخلاف الشّروط، إلّا أن يدلّ دليل خارج على لزوم قصد القربة في الشّرائط، كما دلّ بالنّسبة إلى الطّهارات الثّلاث، قيل: وتظهر الثمرة في جَرَيان قاعدة التّجاوز ونحوها.

ص: 164


1- فرائد الأصول 3: 353.
2- تعليقة القوچاني على كفاية الأصول 1: 105.

أنّ دَخْلَ شيءٍ وجوديٍّ أو عدميّ في المأمور به.

تارةً: بأن يكون داخلاً في ما يأتلف منه ومن غيره

___________________

ثمّ لا يخفى أنّ المركّب - كما ذكره بعض المحقّقين - على قسمين:

الأوّل: المركّب الحقيقي، وهو ما له نظام ووجود واحد مع التّركيب - كالمادّة والصّورة - وهو مقابل البسيط الحقيقي الّذي له وجود واحد بلا تركيب - كالمادّة المجرّدة - .

الثّاني: المركّب الاعتباري، وهو ما له وجودات حقيقيّة، وإنّما تركيبه ووحدته اعتباريّ، وحيث إنّ كلّ وجودين متقاربين - كالشجر الموضوع بجنب الحجر لا يسمّى مركّباً - ، فلا بدّ في إطلاق الوحدة على الوجودين من أحد أُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يكون اعتبار الوحدة من باب لحاظ الأجزاء بلحاظ واحد وتصوّر واحد، كالدار المركّبة من الغُرَف وغيرها، فاللحاظ واحد والملحوظ مستكثر.

الثّاني: أن يكون اعتبار الوحدة من باب ترتّب غرض واحد على هذه الوجودات، كالمعجون المؤتلف من أشياء متباينة الّذي له أثر كذا، فإنّ هذا المركّب يسمّى واحداً بلحاظ وحدة الأثر.

الثّالث: أن يكون اعتبار الوحدة من باب كون هذه الكثرة تعلّق بها طلب واحد، كالصّلاة الّتي تعلّق طلب واحد بالتكبير والرّكوع والسّجود وغيرها، من أجزائها الأُخر وعلى كلّ حال، فيسمّى كلّ واحد من تلك الكثرة أجزاءً.

إذا عرفت هذا فنقول: {إن دخل شيء وجوديّ} في المأمور به {أو} دخل شيء {عدميّ} فيه يكون على أنحاء، ولا يخفى أنّ المراد بدخل الشّيء العدمي أنّ وجود ذلك الشّيء يكون مخلّاً، لا أنّ العدم مؤثّر فإنّ التّأثير لا يتأتّى من العدم، وبهذا تبيّن سقوط الإشكال، بأنّه كيف يكون العدمي جزءاً أو شرطاً؟

وعلى كلّ تقدير فدخل ما له الدّخل {في المأمور به تارةً بأن يكون داخلاً في ما يأتلف} المطلوب {منه} أي: من هذا الدّخيل {ومن غيره} من سائر الأجزاء

ص: 165

وجُعِلَ جملته متعلّقاً للأمر، فيكون جزءاً له وداخلاً في قوامه.

وأُخرى: بأن يكون خارجاً عنه، لكنّه كان ممّا لا يحصل الخصوصيّة المأخوذة فيه بدونه، كما إذا أُخِذَ شيءٌ - مسبوقاً أو ملحوقاً به أو مقارناً له -

___________________

{و} ذلك حينما يكون {جعل جملته} أي: المركّب من هذا ومن غيره {متعلّقاً للأمر} كما لو أمر بالمركّب من الرّكوع والسّجود والقيام {ف} إنّه لو أمر بهذه الجملة {يكون} كلّ واحد من هذه الثّلاثة {جزءاً له} أي: للمأمور به فالجزئيّة أمر منتزع من ذلك التّكليف بالمجموع {و} يكون كلّ جزء {داخلاً في قوامه} بحيث لو انتفى بعضها انتفى المركّب إلّا بدليل آخر.

ثمّ إنّ الأجزاء قد تكون وجوديّةً، كالرّكوع، والسّجود، والتّشهّد، للصّلاة. وقد تكون عدميّةً كتروك الصّوم. وقد تكون مختلفةً كالأفعال والتّروك الدّخيلة في الحجّ.

{و} تارة {أُخرى} يكون دخل ما له الدّخل {بأن يكون خارجاً عنه} أي: عن المأمور به {لكنّه كان} ذلك المأمور به {ممّا لا يحصل الخصوصيّة المأخوذة فيه} أي: في المأمور به {بدونه} أي: بدون ذلك الخارج {كما إذا أخذ شيء} أي: المأمور به {مسبوقاً} بذلك الأمر الخارج، بأن كان تحقّق المأمور به متوقّفاً على سبق ذلك الخارج عليه، كالوضوء بالنّسبة إلى الصّلاة، فإنّها لا تتحقّق إلّا مسبوقة بالوضوء {أو} أخذ المأمور به {ملحوقاً به} بأن كان الأمر الخارج بعد المأمور به، بحيث لا يتحقّق المطلوب إلّا بشرط تحقّق ذلك الخارج بعد إتيان المكلّف به، وذلك كغسل المستحاضة فياللّيلة الآتية بالنّسبة إلى صوم اليوم المقدّم عليها، كما ذهب إليه بعض {أو} أخذ المأمور به {مقارناً له} كالصّلاة بالنّسبة إلى الطّهارة الخَبَثِيّة، والاستقبال والسِّتر، ونحوها.

ولا يخفى أنّ ما مثّلنا للقسم الأوّل - وهو الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة - إنّما هو

ص: 166

متعلّقاً للأمر، فيكون من مقدّماته لا مقوّماته.

وثالثةً: بأن يكون ممّا يتشخّص به المأمور به، بحيث يصدق على المتشخّص به عنوانُهُ، وربّما يحصل له بسببه مزيّة أو نقيصة.

ودخلُ هذا فيه أيضاً طوراً بنحو الشّطريّة، وآخر بنحو الشّرطيّة،

___________________

بناءً على أنّ الطّهارة المشترطة نفس العمل الخارجي، لا الأثر الحاصل منه، وإلّا كانت كالستر والاستقبال من المقارن.

وعلى كلّ حال فالمأخوذ سابقاً أو لاحقاً أو مقارناً يكون {متعلّقاً للأمر فيكون} ذلك الخارج المأخوذ {من مقدّماته} أي: مقدّمات المأمور به وشرائطه {لا} من {مقوّماته} وأجزائه الدّاخلة فيه.

ولا يخفى أنّ تسمية الشّرط المتأخّر مقدّمة بالعناية والمجاز.

{و} تارةً {ثالثةً} يكون دخل ما له الدّخل {بأن يكون ممّا يتشخّص به المأمور به} بأن يكون لحاظ الخصوصيّة بالإضافة إلى الفرد، أي: الحصّة المتشخّصة من الماهيّة {بحيث يصدق على} الكلّي {المتشخّص به} أي: بهذا التّشخّص {عنوانه} أي: عنوان ذلك الشّيء.

مثلاً: الجماعة ممّا يتشخّص بها الصّلاة المأمور بها، بحيث يصدق على كلّيالصّلاة المتشخّص بها عنوان الجماعة، فيقال: (صلاة الجماعة) {وربّما يحصل له} أي: للمأمور به {بسببه} أي: بسبب ما له دخل في مقام التّشخّص {مزيّة} في المأمور به {أو نقيصة} فيها {ودخل هذا} أي: ما له دخل في مقام التّشخّص {فيه} أي: في المأمور به {أيضاً} على قسمين، كما كانت الخصوصيّة الدّخيلة في أصل الماهيّة على نحوين {طوراً} يكون دخله {بنحو الشّطريّة} والجزئيّة للفرد، {و} طوراً {آخر بنحو الشّرطيّة} والخارجيّة بالنسبة إليه.

والمتحصّل من أوّل المطلب إلى هنا أنّ دَخْلَ ما له الدَّخْل على قسمين:

ص: 167

فيكون الإخلال بما له دَخْلٌ - بأحد النّحوين - في حقيقة المأمور به وماهيّته موجباً لفساده لا محالة، بخلاف ما له الدّخل في تشخّصه وتحقّقه

___________________

الأوّل: أن يكون ملحوظاً بالنسبة إلى الماهيّة.

الثّاني: أن يكون ملحوظاً بالنّسبة إلى الفرد، وكلّ من هذين على ضربين:

الأوّل: أن يكون دخيلاً بنحو الشّرطيّة.

الثّاني: أن يكون دخيلاً بنحو الجزئيّة. ثمّ إنّ الشّرط والجزء الدّخيلين في الفرد قد يكون موجباً للمزيّة، وقد يكون موجباً للنّقيصة، فالأقسام ثمانية:

الأوّل: جزء الماهيّة، ك (الحمد).

الثّاني: شرط الماهيّة المتقدّم، ك (الطّهارة).

الثّالث: شرط الماهيّة المقارن، ك (السِّتر).

الرّابع: شرط الماهيّة المتأخّر، ك (الغسل) للمستحاضة.

الخامس: جزء الفرد الموجب للمزيّة، ك (القنوت).السّادس: جزء الفرد الموجب للنّقيصة، ك (الفرقعة) في الصّلاة.

السّابع: شرط الفرد الموجب للمزيّة، ك (الجماعة).

الثّامن: شرط الفرد الموجب للمنقصة، ك (الحمامية) للصّلاة في الحمّام، فتأمّل.

{فيكون الإخلال بما له دخل بأحد النّحوين} من الشّرطيّة والجزئيّة {في حقيقة المأمور به وماهيّته} كالأربعة الأُوَل من الأقسام الثّمانية {موجباً لفساده} أي: فساد المأمور به {لا محالة} إذ الكلّ عدم عند عدم جزئه، والمشروط عدم عند عدم شرطه، إلّا أن يدلّ من الخارج دليل على الاكتفاء بالناقص في بعض المقامات، كما دلّ في بعض الأجزاء والشّرائط الذّكريّة {بخلاف ما له الدّخل في تشخّصه} أي: تشخّص المأمور به {وتحقّقه} ممّا لوحظ بالنّسبة إلى الفرد، كالأربعة

ص: 168

مطلقاً، - شرطاً كان أو شطراً - حيث لا يكون الإخلال به إلّا إخلالاً بتلك الخصوصيّة، مع تحقّق الماهيّة بخصوصيّة أُخرى غير موجبة لتلك المزيّة، بل كانت موجبة لنقصانها، كما أشرنا إليه، كالصّلاة في الحَمَّام.

ثمّ

___________________

الأخيرة من الأقسام الثّمانية، وإليه أشار بقوله: {مطلقاً} أي: سواء كان {شرطاً} بأن {كان} خارجاً {أو} كان {شطراً} وكان داخلاً، وسواء كان موجباً للمزيّة أو موجباً للمنقصة {حيث} علّة لعدم فساد الماهيّة بسبب الإخلال بالخصوصيّات الفرديّة {لا يكون الإخلال به} أي: بما له الدّخل في التّشخّص {إلّا إخلالاً بتلك الخصوصيّة} الفرديّةالموجبة للمزيّة أو المنقصة {مع تحقّق} أصل {الماهيّة} المطلوبة {بخصوصيّة أُخرى} نهايته أنّ هذه الخصوصيّة الأُخرى {غير موجبة لتلك المزيّة} الّتي كانت للماهيّة المتحقّقة في ضمن الخَصوصيّة الأُولى.

مثلاً: لو لم يأت بالصّلاة في المسجد لم تبطل الصّلاة، وانسلاخها عن خصوصيّة المسجديّة يوجب تحقّقها في ضمن خصوصيّة البيتيّة الّتي لم تكن موجبة للمزيّة ولا للمنقصة.

{بل} قد تحقّق الماهيّة في ضمن خصوصيّة ثابتة {كانت موجبة لنقصانها} عن مرتبتها {كما أشرنا إليه} بقولنا سابقاً: «وربّما يحصل له بسببه مزيّة أو نقيصة» وذلك {كالصلاة في الحمّام} مثلاً للماهيّة المجرّدة مائة درجة من الثّواب، وفي المسجد مائة وعشرة، وفي الحمّام تسعون.

{ثمّ} إنّ ما تقدّم كلّه في صورة دخل شيء في المأمور به على أحد الأنحاء الثّمانية المتقدّمة، ويتصوّر قسم آخر:

وهو أن يكون الشّيء غير دخيل في المأمور به، بل كان المأمور به دخيلاً فيه بأن كان ظرفاً له، ويكون الشّارع قد أمر بفعل ذلك الشّيء في المأمور به، إذ

ص: 169

إنّه ربّما يكون الشّيء ممّا يندب إليه فيه، بلا دخل له أصلاً - لا شطراً ولا شرطاً - في حقيقته، ولا في خصوصيّته وتشخّصه، بل له دَخْلٌ ظرفاً في مطلوبيّته، بحيث لا يكون مطلوباً إلّا إذا وقع في أثنائه، فيكون مطلوباً نفسيّاً في واجب أو مستحب. كما إذا كان مطلوباً كذلك قبل أحدهما أو بعده، فلا يكون الإخلال به موجباً للإخلال به

___________________

{إنّه ربّما يكون الشّيء} الخارج عن المأمور به {ممّا يندب إليه} أي: إلى ذلك الشيء {فيه} أي: في المأمور به بأن يجعل المأمور به ظرفاً لذلك الأمر الخارج {بلا دخل له} في المأمور به {أصلاً} بأن لا يكون دخيلاً في الماهيّة ولا في الفرد {لا شطراً ولا شرطاً} وذلك بأن يكون له دخل {في حقيقته} وماهيّته {ولا} دخل {في خصوصيّته وتشخّصه} الفرديّة.

{بل} كان {له} أي: هذا الخارج {دخل ظرفاً في مطلوبيّته} ومحبوبيّته {بحيث لا يكون} هذا الخارج {مطلوباً} للمولى {إلّا إذا وقع في أثنائه} من غير فرق بين أن يكون هذا المظروف الخارجي واجباً أو مستحبّاً {فيكون} على كلّ تقدير {مطلوباً نفسيّاً في} ضمن أمر {واجب، أو} أمر {مستحبّ} وذلك كالمضمضة والاستنشاق في ضمن الوضوء الواجب أو المستحبّ، وكردّ السّلام في ضمن الصّلاة الواجب أو المستحبّ - كذا قيل - .

وفيه نظر، إذ ردّ السّلام ليس مطلوبيّته مقيّداً بالصّلاة، وكذا المضمضة والاستنشاق جزآن لا خارجان، فتأمّل.

وقد يمثّل بنحو أدعية شهر رمضان بناءً على تقييدها بالصّائم.

وكيف كان، إذا كان شيء مطلوباً في ضمن فعل لا يكون الإخلال به موجباً للإخلال بذلك الفعل {كما إذا كان مطلوباً كذلك} نفسيّاً {قبل أحدهما} أي: قبل واجب أو مستحبّ {أو بعده} أي: بعد أحدهما {فلا يكون الإخلال به} أي: بذلك المظروف أو المعتبر قبل الواجب والمستحبّ أو بعدهما {موجباً للإخلال به}

ص: 170

ماهيّةً ولا تشخّصاً وخصوصيّة أصلاً.

إذا عرفت هذا كلّه، فلا شبهة في عدم دخل ما ندب إليه في العبادات نفسيّاً في التّسمية بأساميها، وكذا في ما له دَخْلٌ في تشخّصها

___________________

أي: بذلك المأمور به المطلوب، فلو وجب أو استحبّ مجيء (زيد) قبل مجيء القوم الواجب أو المستحبّ أو في أثناء مجيئهم أو بعده، فلم يجيء، لم يكن مخلّاً بوجوب مجيء القوم أو استحبابه، إذ لا يخلّ عدمه بذلك المطلوب لا {ماهيّة ولا تشخّصاً وخصوصيّة أصلاً}.

وبهذا كلّه تبيّن أنّ الأقسام المتصوّرة خمسة:

الأوّل: جزء الماهيّة.

الثّاني: شرطها.

الثّالث: أجزاء الفرد.

الرّابع: شرائطها.

الخامس: المطلوب في ضمن الماهيّة.

{إذا عرفت هذا كلّه} فالكلام يقع حينئذٍ في أنّ أيّ الأقسام الخمسة يكون مركزاً للنّزاع بين الصّحيحي والأعمّي.

أمّا القسم الخامس {فلا شبهة في عدم دخل ما ندب إليه} وجوباً أو استحباباً {في العبادات} الواجبة أو المستحبّة حين ما كان دخله {نفسيّاً} لا جزء الماهيّة أو الفرد وشرطهما {في التّسمية بأساميها} متعلّق بقوله: «عدم دخل».

والحاصِلُ: أنّ القسم الخامس لا دخل له بالنزاع بين الصّحيحي والأعمّي، إذ اسم العبادة غير مربوط به يقيناً، لبداهة أنّ مركز الأمر هو المسمّى وحيث لا ربطلذلك المظروف بالمسمّى فلا يقع مورداً للنّزاع.

{وكذا} لا شبهة {في ما له دخل في تشخّصها} أي: تشخّص الماهيّة أي: القسم

ص: 171

مطلقاً.

وأمّا ما له الدّخل شرطاً في أصل ماهيّتها، فيمكن الذَّهَاب أيضاً إلى عدم دخله في التّسمية بها، مع الذّهاب إلى دَخْلِ ما له الدَّخْل جزءاً فيها، فيكون الإخلال بالجزء مخلّاً بها، دون الإخلال بالشّرط، لكنّك عرفت أنّ الصّحيح

___________________

الثّالث، والرّابع، فإنّه خارج عن حريم النّزاع قطعاً، إذ جزء الفرد وشرطه الخارجان عن حقيقة الماهيّة ليسا داخلين في المسمّى بلفظ (الصّلاة) مثلاً، وإن كان الفرد متّحداً مع الماهيّة حال الوجود، فليس الإخلال بهما موجباً للإخلال ببعض ما اعتبر في الماهيّة {مطلقاً} شرطاً كان ذلك المشخّص الفردي، كالجماعة أوجزءاً كالقنوت.

{وأمّا} القسم الثّاني وهو {ما له الدّخل شرطاً في أصل ماهيّتها} أي: ماهيّة العبادة {فيمكن الذَّهَاب أيضاً} كالأقسام السّابقة {إلى عدم} كونه محلّ النّزاع بين الصّحيحي والأعمّي، لعدم {دخله في التّسمية بها} أي: بالعبادة نظراً إلى كون الشّرط خارجاً عن قوام الماهيّة {مع} أنّ الاسم موضوع للماهيّة فينتج عدم دخل الشّرط في الاسم.

وأمّا القسم الأوّل: وهو ما له الدّخل جزءاً في ماهيّة العبادة، فاللّازم {الذَّهَاب إلى} كونه دخيلاً في التّسمية، إذ انتفاء الجزء مستلزم لانتفاء الكلّ قطعاً، فإنّ {دخل ما له الدّخل جزءاً فيها} أي: فيالتّسمية من البديهيّات، فلا إشكال في جَرَيان النّزاع بين الصّحيح والأعمّ فيها {فيكون الإخلال بالجزء مخلّاً بها} أي: بالتّسمية {دون الإخلال بالشرط} فإنّه لا يخلّ بالتّسمية - كما عرفت - .

{لكنّك عرفت} في ما تقدّم {أنّ} لفظ (الصّلاة) على {الصّحيح} موضوع للجامع الّذي يُشار إليه بآثاره كقولنا: (النّاهية عن الفحشاء والمنكر) و(عمود الدّين) و(معراج المؤمن) ونحوها، وحينئذٍ يكون المسمّى بلفظ الصّلاة ملزوم

ص: 172

اعتبارهما فيها.

الحادي عشر:

___________________

النّاهي عن الفحشاء ونحوه، ومن المعلوم أنّ النّاهي عن الفحشاء لا يتحقّق إلّا بتحقّق جميع الأجزاء والشّرائط، وعلى هذا فيجري النّزاع بين الصّحيحيّ والأعمّي في {اعتبارهما} أي: الجزء والشّرط {فيها} أي: في العبادات ولا يختصّ النّزاع بالجزء فقط.

وما ذكر - من كون الشّرط خارجاً عن قوام الماهيّة، فلا دخل له في التّسمية - مردودٌ بأنّ الأدلّة الخاصّة كالتّبادر، وصحّة السّلب، والأخبار الظّاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للماهيّة.

وكذلك الأخبار الدّالّة على نفي الماهيّة بانتفاء جزء أو شرط كلّها دالّة على دخول الشّرط، كالجزء في الطّبيعة الّتي أُطلق الاسم عليها، بل قد يقال: اعتبار الشّرط في التّسمية أولى، حيث إنّ الفاقد للشّرط يكون مبايناً مع المسمّى دون الفاقد للجزء، فإنّه يكون مشتملاً على بعض المسمّى وإن لم يكن مشتملاً على تمامه.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من جريان النّزاع بالنّسبة إلى الشّرائط إنّما هو في ما لا يكون دخيلاً في التّسمية حتّى على الأعمّ، أمّا الشّرط الّذي هو كذلك،كالموالاة ونحوها لا يمكن إخراجه عن التّسمية قطعاً حتّى على الأعمّ، لانمحاء صورة الصّلاة بدونه.

[الأمر الحادي عشر: الاشتراك]

المقدّمة، الاشتراك

الأمر {الحادي عشر} في الاشتراك، اعلم أنّ الاشتراك على قسمين:

الأوّل: المعنوي، وهو ما إذا كان للفظ معنىً واحدٌ، ويكون ذلك المعنى مشتركاً بين أكثر من واحد، كما قالوا في لفظ (العلم)، فإنّ معناه الطّرف الرّاجح وهو

ص: 173

الحقُّ وقوعُ الاشتراكِ؛ للنّقل، والتّبادرِ، وعدم صحّة السّلب بالنّسبة إلى معنيين

___________________

إمّا مع المنع عن النّقيض وهو القطع، أو بدونه وهو الظّنّ، وهذا القسم ليس محلّ الكلام، وإطلاق المشترك غير منصرف إليه.

الثّاني: الاشتراك اللّفظي وهذا مقابل التّرادف، إذ الترادف هو ما يكون لفظان لمعنىً واحدٍ، ك (الأسد) و(اللّيث) للحيوان المفترس الكذائي، والاشتراك هو ما يكون معنيان للفظٍ واحدٍ، بأن يكون اللّفظ موضوعاً لِكُلِّ واحدٍ من المعنيين استقلالاً وضعيّاً تعيينيّاً أو تعيّنيّاً أو بالاختلاف، وهذا القسم هو المنصرف من لفظ المشترك، والكلام فيه، فنقول: اختلفوا في المشترك اللّفظي فذهب بعض إلى استحالته وقوعاً، وآخرون إلى وجوبه، وثالث إلى مكانه، ورابع إلى استحالته في القرآن الحكيم دون غيره، و{الحقّ وقوع الاشتراك للنّقل} من أهل اللّغة، فإنّهم لا يختلفون في أنّ (القُرْء) اسم للحيض والطّهر، وكذا أمثاله، قال التّفتازانيّ:

ده لفظ از نوادر الفاظ برشمر *** هر لفظ را دو معنى وآن ضد يكدگر

(جون) و (صريم) و (سدفه) و (ظن) است و (شفّ) و (بين)

(قرء) است و (هاجد) و (جلل) و (رهوه) اى پسر

1 - الأبيض، والأسود 2 - الصّبح، واللّيل 3 - ضياء الصّبح، والظّلمة 4 - اليقين، والشّكّ 5 - الكثير، والقليل 6 - الوصل، والفراق 7 - الطّهر، والحيض 8 - النّائم، واليقظ 9 - الكبير، والصّغير 10 - المنخفض، والمرتفع.

{والتّبادر} فإنّه يتبادر كلّ من المعنيين عن اللّفظ المشترك بدون قرينة {وعدم صحّة السّلب بالنّسبة إلى معنيين} فإنّه لا يصحّ سلب لفظ (القُرْء) عن الطُّهْر

ص: 174

أو أكثر للفظٍ واحدٍ، وإن أحاله بعض(1)؛

لإخلاله بالتّفهّم المقصود من الوضع؛ لِخَفَاء القرائن.

لمنع الإخلال أوّلاً؛ لإمكان الاتّكال على القرائن الواضحة،

___________________

والحيض، من غير فرق بين أن يكون معنيان {أو أكثر، للفظ واحد} فكما لا يصحّ سلب لفظ (القرء) عنهما، لا يصحّ سلب لفظ (العين) عن الجارية، والباصرة، وغيرهما من المعاني. وقوله: «بالنّسبة إلى معنيين» متعلّق بالنّقل، والتّبادر، وصحّة السّلب - كما لا يخفى - .

{وإن أحاله} أي: الاشتراك {بعض} مستندين إلى أنّه حين الاستعمال إمّا أن يأتي بالقرينة المعيّنة الواضحة أو لا يأتي، والأوّل: موجب للتطويل بلا طائل وهو مخالف لحكمة الواضع، والثّاني: موجب {لإخلالهبالتفهّم المقصود من الوضع} فإنّ غرض كلّ واضع تفهيم المقصود بطريق سهل، فلو وضع المشترك أخلّ بالغرض {لِخَفَاءِ القرائن} أو عدمها حسب الفرض، بل ربّما حكي عن صاحب تشريح الأصول(2) الإشكال في أصل إمكان الاشتراك بناءً على كون الوضع جعل الملازمة الذّهنيّة لا التّعهّد، فالاشتراك مستلزم لتحقّق الملازمتين الذّهنيّتين المستقلّتين وهذا محال.

لكن شيء من هذه الوجوه لا تصلح للاستحالة الوقوعي فضلاً عن الذّاتي {لمنع الإخلال} بالتفهيم {أوّلاً} وذلك {لإمكان الاتّكال} حين الاستعمال {على القرائن الواضحة} الجليّة بحيث لا يلزم نقض الغرض.

وأمّا حديث التّطويل بلا طائل، فيأتي الجواب عنه في ردّ قول المُفَصِّلِ بين القرآن وغيره.

ص: 175


1- مفاتيح الأصول: 23.
2- تشريح الأصول: 47.

ومَنْعِ كونه مخلّاً بالحكمة ثانياً؛ لتعلّق الغرض بالإجمال أحياناً.

كما أنّ استعمال المشترك في القرآن ليس بمحال - كما تُوُهِّمَ(1)

- لأجل لزوم التّطويل بلا طائلٍ مع الاتّكال على القرائن،

___________________

وبهذا سقط الإشكال الأوّل والشِّقّ الأوّل من الإشكال الثّاني {و} أمّا الشِّقّ الثّاني من الإشكال الثّاني ففيه {منع كونه} أي: الإخلال بالتفهيم {مخلّاً بالحكمة} الدّاعية إلى الوضع {ثانياً} إذ لا نسلّم كون حكمة الوضع التّفهيم مطلقاً {لتعلّق الغرض بالإجمال} وعدمتعيين المراد {أحياناً} كما لو لم يعلم المتكلّم أو يقصد الإخفاء من السّامع أو نحو ذلك.

وأمّا المحكي عن صاحب التّشريح، فجوابه عدم التّنافي في حصول المعنيين على نحو الاستقلال في الذّهن عند سماع اللّفظ المشترك، كما في حضور المدركات في الحسّ المشترك دفعةً، إذ الوضع أمر اختراعيّ جعلي، فالعلم الارتكازي بالوضع سبب لانسباق المعنى إلى الذّهن - كما لا يخفى - .

فتبيّن عدم الاستحالة، وبطلان أدلّة القائل بها {كما أنّ} قول المفصِّلِ بين القرآن وغيره باطل، فإنّ {استعمال المشترك في القرآن} الحكيم {ليس بمحالٍ كما توهّم} إذ لا وجه للاستحالة إلّا {لأجل} توهّم أحد أمرين على سبيل البدل:

الأوّل: {لزوم التّطويل بلا طائل} وفائدة {مع الاتّكال على القرائن} المعيّنة للمراد.

ولا يخفى أنّ هذا إنّما يستقيم إذا كان هناك لفظ آخر مرادف للفظ المشترك حتّى يقال: إنّه لو عدل عن اللّفظ المعيّن إلى المشترك لزم التّطويل بلا طائل، وإلّا فلا محيص عن استعماله، فلا يكون حينئذٍ تطويلاً بلا طائل، ويكون من قبيل استعمال اللّفظ الخماسي لتفهيم المراد في ما لا يكون هناك لفظ رباعي أو ثلاثي يفيد المراد.

ص: 176


1- الفصول الغرويّة: 31.

والإجمال في المقال لولا الاتّكال عليها، وكلاهما غير لائق بكلامه - تعالى جل شأنه - ، كما لايخفى.

وذلك لعدم لزوم التّطويل في ما كان الاتّكال على حالٍ أو مقالٍ أُتِي به لغرضٍ آخَرَ،

___________________

{و} الثّاني: لزوم {الإجمال في المقال} المفوِّت لغرضالتّفهيم {لولا الاتّكال عليها} أي: على القرائن.

{و} حيث كان {كلاهما} من التّطويل والإجمال {غير لائق بكلامه - تعالى جلّ شأنه -} إذ الأوّل لغو، والثّاني نقض للغرض، فاللّازم خلوّ القرآن عن المشترك {كما لا يخفى}.

وفيه ما لا يخفى {وذلك} أنّ إتيان القرينة - كما في الشِّقّ الأوّل - لا يلزم منه تطويل بلا طائلٍ؛ لأنّ نفس التّطويل قد يكون موافقاً للغرض في ما لو كان الكلام مع المخاطب مطلوباً، كما قال موسى(علیه السلام): {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مََٔارِبُ أُخۡرَى}(1).

وقد حكي في كشكول شيخنا البهائي في جواب بعض الأعراب لبعض الملوك حين سأله عمّا في يده ما يُقْضَى منه العجب(2)،

مضافاً إلى أنّه ربّما لا يكون تطويلاً ولو مع إتيان القرينة {لعدم لزوم التّطويل في ما كان الاتّكال على حال} كما لو قال لليقظ: هجد، أو قال للحائض: هل تمّ قرئك، {أو} كان الاتّكال في التّفهيم على {مقال أتي به لغرض آخر} كقوله - تعالى - : {عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ}(3) وقوله: {فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ}(4) فإنّ المراد العين الجارية بقرينة «يشرب»

ص: 177


1- سورة طه، الآية: 18.
2- الكشكول 1: 114.
3- سورة الإنسان، الآية: 6.
4- سورة البقرة، الآية: 60.

ومَنْعِ كون الإجمال غيرَ لائقٍ بكلامه - تعالى - مع كونه ممّا يتعلّق به الغرض، وإلّا لما وقع المشتبه في كلامه، وقد أخبر فيكتابه الكريم بوقوعه فيه، قال الله - تعالى - : {ءَايَتٞ مُّحۡكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٞۖ}(1).

___________________

و«انفجرت» مع أنّهما أتى بهما لداع آخر.

وبهذا سقط الشِّقّ الأوّل عن دليل المفصّل {و} يمكن {منع} الشِّقّ الثّاني أيضاً بعدم تسليم {كون الإجمال غير لائق بكلامه - تعالى -} إذ {مع كونه} أي: الإجمال {ممّا يتعلّق به الغرض} لا يكون المقصود التّفهيم حتّى يلزم نقض الغرض {وإلّا} يكن الإجمال لائقاً بكلامه - عزّ شأنه - {لما وقع المشتبه في كلامه} تعالى {وقد أخبر} جلّ وعزّ {في كتابه الكريم بوقوعه} أي: وقوع المشتبه {فيه} بالصّراحة {قال الله - تعالى -} في سورة آل عمران: {هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَبَ مِنۡهُ {ءَايَتٞ مُّحۡكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٞۖ}} الآية.

وأمّا وجه وقوع المشتبه في الكتاب الحكيم، فله وجوه، قال في الصّافي في تفسير الآية {هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَبَ مِنۡهُ ءَايَتٞ مُّحۡكَمَتٌ}: «أُحكمت عباراتها بأن حفظت من الإجمال {هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَبِ} أصله يردّ إليها غيرها {وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٞۖ} محتملات لا يتّضح مقصودها إلّا بالفحص والنّظر، لِيَظْهَرَ فيها فضل العلماء الرّبانيّين في استنباط معانيها وردّها إلى المحكمات، وليتوصّلوا بها إلى معرفة اللّه - تعالى - وتوحيده.

العيّاشي عن الصّادق(علیه السلام)، أنّه سئل عن المحكم والمتشابه؟ فقال:«المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما اشتبه على جاهله»(2)(3).

ص: 178


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- تفسير العياشي 1: 162.
3- تفسير الصافي 1: 317.

وربّما تُوُهِّمَ(1)

وجوبُ وقوعِ الاشتراك في اللّغات؛ لأجل عدم تناهي المعاني، وتناهي الألفاظ المركّبات، فلا بدّ من الاشتراك فيها.

وهو فاسِدٌ؛ لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني؛ لاستدعائه الأوضاع الغير المتناهية، ولو سلّم لم يكد يُجدي إلّا في مقدارٍ متناهٍ، مضافاً إلى تناهي المعاني الكليّة،

___________________

{وربّما توهّم وجوب وقوع الاشتراك في اللّغات} في قبال من توهّم امتناعه، وذلك {لأجل عدم تناهي المعاني} الجزئيّة، مثلاً لجزئيّات الرّائحة ليست أسامي خاصّة مع اختلافها غاية الاختلاف، ولهذا يكون التّفهيم لها بالإضافة إلى ذي الرّائحة، فيقولون: (رائحة الدّهن) و(رائحة اللّحم) و(رائحة الخبز) ونحوها.

والحاصِلُ: أنّ عدم تناهي المعاني {وتناهي الألفاظ المركّبات} موجب لوضع المشترك {فلا بدّ من الاشتراك فيها} أي: في الألفاظ حتّى تطابق المعاني غير المتناهية {وهو} توهّم {فاسد؛ لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني} على فرض عدم تناهيها {لاستدعائه} أي: الاشتراك {الأوضاع الغير المتناهية} وهو محال بالنسبة إلى الواضع الممكن، إذ الممكن متناهٍ - كما لا يخفى - .وقول الحكماء بعدم تناهي النّفوس النّاطقة خالٍ عن الدّليل، بل الحجّة على خلافه.

{ولو سلم} أنّ صدور غير المتناهي من الواضع ممكن - بفرض كون الواضع هو اللّه تعالى - فلا نسلّم أيضاً وضع غير المتناهي ليلزم المشترك، إذ {لم يكد يجدي} غير المتناهي {إلّا في مقدار متناه} من المعاني لعدم استعمال الممكن الأمر غير المتناهي بديهة، فالوضع في المقدار الزّائد من الممكن الاستعمال لغو، إلّا أن يقال: إنّه وضع بالنسبة إلى استعمالات نفسه - تعالى - فتدبّر.

{مضافاً إلى تناهي المعاني الكليّة} كمطلق الرّائحة في المثال المتقدّم

ص: 179


1- الفصول الغرويّة: 31.

وجزئيّاتُهَا وإن كانت غير متناهية إلّا أنّ وضع الألفاظ بإِزاء كلّيّاتها يغني عن وضع لفظٍ بإِزائها، كما لا يخفى، مع أنّ المجازَ بابٌ واسِعٌ، فافهم.

___________________

{وجزئيّاتها} أي: جزئيّات تلك الكليّات {وإن كانت غير متناهية} فرضاً {إلّا أنّ وضع الألفاظ بإِزاء كلّيّاتها} المتناهية قطعاً {يغني عن وضع لفظ بإِزائها} أي: بإِزاء جزئيّات تلك الكليّات {كما لا يخفى} على العارفين باللّسان {مع أنّ} إفهام المتكلّمين المقاصد لا يلزم أن يكون بنحو الحقيقة حتّى يحتاج إلى الوضع بل {المجاز باب واسع} فيمكن التّفهيم بنحو المجاز، ولا يثبت وجوب الاشتراك {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى جواب آخر عن الدّليل، وهو أنّ القول بتناهي الألفاظ ممنوع، إذ تناهي الحروف الهجائيّة لا يلازم تناهي المركّبات، كما في الأعداد، فكان المراد تناهيالمقدار الّذي يسهل معه تفهيم المرادات.

وأمّا ما قد يذكر من احتمال كونه إشارة إلى أنّ الموضوع له لو كان متناهياً، فالمناسب له لا يكون إلّا متناهياً، فلا يفي المجاز بجميع المعاني، فلا يخلو من نظر، إذ لا تلازم بين تناهي الموضوع له وتناهي المناسبة.

ولقد أجاد في التّقريرات حيث أضرب عن هذا البحث بالكليّة وأبدله بقوله: «لا إشكال في إمكان الاشتراك والتّرادف، ووقوعهما في لغة العرب وغيرها، ولا يعتنى ببعض التّسويلات والمغالطات الّتي فسادها غنيّ عن البيان، إنّما الإشكال في منشأهما، فالمعروف أنّه الوضع تعييناً أو تعيّناً، لكنّه يظهر من بعض المؤرّخين أنّهما حدثا من خلط بعض اللّغات ببعض. مثلاً: كان يعبّر عن معنى في لغة الحجاز بلفظ، ويعبّر عن ذلك المعنى في لغة العراق بلفظ آخر، وبذلك اللّفظ عن معنى آخر، ومن جمعهما أخيراً وجعل الكلّ لغة واحدة حدث الاشتراك والتّرادف، ولا فائدة مهمّة في تحقيق ذلك»(1)،

انتهى.

ص: 180


1- أجود التقريرات 1: 51.

الثّاني عشر: أنّه قد اختلفوا في جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً واحدٍ، على سبيل الانفراد والاستقلال - بأن يراد منه كُلُّ واحدٍ كما إذا لم يستعمل إلّا فيه - على أقوالٍ:

___________________

والظّاهر كون الحقّ مع الجانبين جزئيّاً، فبعض التّرادف والاشتراك من قبيل الأوّل وبعضهما من قبيل الثّاني.

[الأمر الثّاني عشر: استعمال اللفظ في أكثر من معنى]

المقدّمة، استعمال اللفظ في أكثر من معنى

الأمر {الثّاني عشر} في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحدمطلقاً سواء كانا حقيقيّين أو مجازيّين أو مختلفين. ثمّ إنّ الاستعمال في أكثر من معنى يتصوّر على وجوه أربعة:

الأوّل: أن يستعمل في معنى يتناول جميع المعاني، كالمشترك المعنوي.

الثّاني: أن يستعمل في الكلّ على سبيل البدل نحو النّكرة، وهذان القسمان ممّا لا خلاف فيهما صحّة ووقوعاً.

الثّالث: أن يستعمل في المجموع من حيث هو مجموع كأنّهما جزئي المعنى، فيدلّ اللّفظ على كلّ واحد بالتضمّن، وقد قيل بالخلاف فيه كالرّابع.

الرّابع: أن يستعمل في كلّ واحد على سبيل الانفراد والاستقلال.

ثمّ {إنّه قد اختلفوا في} هذا القسم وهو {جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد} حقيقيّين كانا أم مجازيّين أم مختلفين - كما تقدّم - بأن يكون كلّ واحد منهما {على سبيل الانفراد والاستقلال} ويلحظ كلّ واحد منهما لحاظاً مستقلّاً {بأن يراد منه} أي: من اللّفظ {كلّ واحد} منهما مستقلّاً بحيث يكون كلّ واحد مدلولاً مطابقيّاً {كما إذا لم يستعمل} اللّفظ {إلّا فيه} أي: في ذلك المعنى الواحد فقط، ولا يذهب عليك أنّ ذلك في ما كان الجمع ممكناً، فلو قال: (زيد هاجد) وأراد معنييه كان من المناقضة البديهيّة البطلان.

والحاصِلُ: أنّه اختلف في القسم الرّابع {على أقوالٍ}:

ص: 181

أظهرها: عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلاً.

وبيانه: أنّ حقيقة الاستعمال لَيْسَ مُجَرَّدَ جعلِ اللّفظِ علامةً لإرادة المعنى، بل جَعْلُهُ وجهاً وعُنْواناً له، بل بوجهٍ نفسُهُ كأنّه الملقى،

___________________

الأوّل: الجواز مطلقاً.

الثّاني: المنع مطلقاً.

الثّالث: الجواز في التّثنية والجمع دون المفرد.

الرّابع: الجواز في النّفي دون الإثبات.

ثمّ المجوّزون بين من قال: إنّه بطريق الحقيقة، وبين من قال: إنّه بطريق المجاز، وبين المفصّل بين التّثنية والجمع، فيكون حقيقةً، وبين المفرد فيكون مجازاً {أظهرها} عند المصنّف {عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلاً} من غير فرقٍ بين النّفي والإثبات والتّثنية والجمع، وهذا قول خامس في المسألة، إذ القول الثّاني - كما يظهر من تعبيرات القوم - في الجواز العرفي بمعنى المطابقة لقواعدهم.

{وبيانه} يتوقّف على تمهيد مقدّمةٍ، وهي: أنّ الاستعمال قد يكون بمعنى كون اللّفظ علامةً لإرادة المعنى بطريق المواضعة.

وقد يكون بمعنى جعل اللّفظ قالباً للمعنى، بحيث يوجد بينهما نحو اتحاد، وهذا هو الّذي اختاره المصنّف(رحمة الله) فقال: {إنّ حقيقة الاستعمال} ومعناه {ليس مجرّد جعل اللّفظ} حين الاستعمال {علامة لإرادة المعنى} كالنُّصَبِ الموضوعة علامة للفراسخ ونحوها من سائر العلامات حتّى يقال: كما يصحّ جعل علامة واحدة لأُمور متعدّدة كذلك يصحّ جعل اللّفظ واستعماله وإِرادة معاني متعدّدة، {بل} استعمال اللّفظ عبارة عن {جعله وجهاً وعنواناً له} أي: للمعنى {بل} اللّفظ {بوجهٍ} صحيحٍ {نفسه} أي: نفس المعنى ومن مراتب وجوده، حتّى {كأنّه} أي: المعنى هو {الملقى} إلى المخاطب.

ص: 182

ولذا يسري إليه قُبْحُهُ وحُسْنُهُ، كما لايخفى.

ولا يكاد يمكن جعل اللّفظ كذلك إلّا لمعنىً واحدٍ؛ ضرورةَ أنّ لحاظه هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر؛ حيث إنّ لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانياً فيه، فناءَ الوجه في ذي الوجه، والعنوان في المعنون، ومعه

___________________

وبالجملة الاستعمال عبارة عن إيجاد المعنى بوجوده اللّفظي، كما أنّ الكتابة عبارة عن إيجاده بوجوده الكتبي {ولذا} نرى أنّ آثار وجود المعنى يترتّب على اللّفظ، فيحكم عليه بأحكام المعنى، فيقال: (زيد قائم) كما يترتّب عليه أحياناً أحكام اللّفظ فيقال: (زيد اسم أو ثلاثي) فيحكم عليه بأحكام اللّفظ و{يسري إليه} أي: إلى اللّفظ {قبحه وحسنه} أي: حسن المعنى وقبحه، فلفظ (الورد) حسن، ولفظ (العذرة) قبيح، وكذلك توجّه المتكلّم والمخاطب حين التّكلّم إلى المعنى لا إلى اللّفظ {كما لا يخفى}.

{و} إذ علمت المقدّمة قلنا: {لا يكاد يمكن جعل اللّفظ كذلك} أي: وجهاً وعنواناً {إلّا لمعنى واحد} فقط، إذ لا يعقل فناء شيء في شيئين {ضرورة أنّ لحاظه} أي: لحاظ اللّفظ {هكذا} وجهاً فانياً {في إرادة معنى} من المعاني {ينافي لحاظه} أي: لحاظ اللّفظ {كذلك} وجهاً وعنواناً وفانياً {في إرادة} المعنى {الآخر} في استعمال واحد.

وبالجملة وحدة الاستعمال تقتضي وحدة المعنى المستعمل فيه {حيث إنّ لحاظه} أي: لحاظ اللّفظ {كذلك} وجهاً وفانياً {لا يكاد يكون} عند الاستعمال {إلّا بتبع لحاظ المعنى} بأن يكون اللّفظ {فانياً فيه} أي: في المعنى نحو {فناء الوجه فيذي الوجه، و} فناء {العنوان في المعنون}.

وقد تبيّن أنّ وجود العنوان مرتبة من وجود المعنون ولكلّ معنى وجود، فلا يمكن اجتماع الوجودين في وجود واحد {ومعه} أي: مع كون اللّفظ فانياً ووجهاً

ص: 183

كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد؟ مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.

وبالجملة: لا يكاد يمكن - في حال استعمال واحد - لحاظُهُ وجهاً لمعنيين وفانياً في الاثنين، إلّا أن يكون اللّاحظ أحوَلَ العينين.

فانقدح بذلك: امتناع استعمال اللّفظ - مفرداً كان أو غيره - في أكثر من معنىً، بنحو الحقيقة أو المجاز.

___________________

{كيف يمكن إرادة} المستعمل {معنى آخر معه} أي: مع المعنى الأوّل بحيث يكون اللّفظ بالنّسبة إلى المعنى الثّاني {كذلك} فانياً فيه ووجهاً له {في استعمال واحد مع استلزامه} أي: استلزام استعمال اللّفظ في المعنى الثّاني {للحاظ آخر} بالنّسبة إليه {غير لحاظه} أي: لحاظ اللّفظ أوّلاً {كذلك} فانياً ووجهاً للمعنى الأوّل {في هذا الحال} الّذي يستعمل اللّفظ فيهما؟

{وبالجملة لا يكاد يمكن} عقلاً {في حال استعمال واحد لحاظه} أي: لحاظ اللّفظ {وجهاً لمعنيين} مستقلّين {وفانياً في الاثنين} بحيث يتّحد وجوده مع وجودهما {إلّا أن يكون اللّاحظ أحول العينين} فيرى اللّفظ الواحد اثنين، فيزعم أنّ كلّ واحد من اللّفظين فانٍفي معنىً واحدٍ من المعنيين.

{فانقدح بذلك امتناع استعمال اللّفظ مفرداً كان أو غيره في أكثر من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز}.

هذا، وقال السّيّد الخوئيّ - مدّ ظلّه - في تعليقته على أجود التّقريرات ما لفظه: «لا استحالة في الجمع بين اللّحاظين، بل هو واقع كثيراً. نعم، يستحيل الجمع بين اللِّحاظين على ملحوظٍ واحدٍ، لكن استعمال اللّفظ الواحد في معنيين لا يستلزمه، بعد ما عرفت مِن أنّ حقيقة الوضع هو التّعهّد والالتزام بأنّه متى ما أراد المتكلّم تفهيم معنى يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً، وعليه فليس شأن

ص: 184

ولولا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه؛

___________________

اللّفظ إلّا أنّه علامة للمعنى، ولا مانع من جعل علامة واحدة لشيئين - كما هو ظاهر - .

نعم، إنّ الاستعمال في أكثر من معنىً واحدٍ خلاف الظّهور العرفيّ، فلا يحمل اللّفظ عليه إلّا مع القرينة.

ثمّ إنّه إذا قام قرينة على ذلك، فإن علم كيفيّة الاستعمال فهو، وإن دار الأمر بين أن يراد من اللّفظ مجموع المعنيين على سبيل المجاز، أو كلّ واحد من المعنيين بنحو التّعدّد في الاستعمال، فإن قلنا بأنّ الاستعمال في أكثر من معنى حقيقة فلا بدّ من الحمل عليه، تقديماً لأصالة الحقيقة على المجاز، وإن قلنا بمجازيّته، فلا محالة يكون اللّفظ من المجملات، فينتهي الأمر إلى الأصول العمليّة»(1). انتهى.

ولقد أجاد في ما أفاد، إذ الوضع اللّفظي - كما أفاده بعض المحقّقين - ليسإلّا اعتبار مقولة الوضع الحقيقي، فإن جعل النُّصَب على الفراسخ علامة وضع حقيقي وجعل اللّفظ على المعنى علامة وضع اعتباريٍّ.

والإيرادُ - بأنّ لازم هذا القول تسمية المعنى موضوعاً عليه لا موضوعاً له، أو أنّ هذا المعنى ممّا لا يلتفت إليه الخواص فكيف بسائر العرف الواضعين - غيرُ سديدٍ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه بما ذكرنا يتبيّن عدم محذور في الجمع بين الإخبار والإنشاء ونحوه - كما سيأتي - .

{و} إذ قد عرفت ما ذكره المصنّف في وجه امتناع استعمال اللّفظ في معنيين، فاعلم أنّه {لولا امتناعه} عقلاً من هذه الجهة {فلا وجه لعدم جوازه} من سائر الجهات الّتي ذكرها القوم، إذ المانع:

ص: 185


1- أجود التقريرات 1: 51.

فإنّ اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع.

وكون الوضع في حال وحدة المعنى وتوقيفيّته لا يقتضي عدم الجواز، بعد ما لم تكن الوحدة قيداً للوضع ولا للموضوع له، كما لا يخفى.

___________________

إمّا ما ذكره القوانين(1)

من تحقّق الوضع حال وحدة المعنى، إذ الواضع إنّما تصوّر المعنى في حال كونه واحداً ووضع له اللّفظ، فلو استعمل في أكثر منه لزم أن يكون مستعملاً في غير الموضوع له.

وإمّا أنّ الوحدة قيد للموضوع له للتّبادر، والاستعمال المذكور موجب لإلغائها - كما سيأتي في دليل صاحب المعالم - .

وكلا الوجهين غيرُ صحيحٍ {فإنّ اعتبار الوحدة في}المعنى {الموضوع له} كما يقوله صاحب المعالم {واضح المنع} فإنّ اللّفظ موضوع لنفس المعنى، كما لا يخفى على من لاحظ وضع الأعلام وغيرها، فالوحدة الّتي ادّعى تبادرها من طوارئ الاستعمال لا من مقوّمات الموضوع له.

{و} أمّا {كون الوضع في حال وحدة المعنى} الموجب لعدم جواز الاستعمال في الأكثر، لعدم جواز التّعدّي عن كيفيّة الوضع {و} ذلك ل {توقيفيّته} كما ذكره صاحب القوانين، ففيه: أنّه {لا يقتضي عدم الجواز} إذ لا يلزم مراعاة الخصوصيّات الموجودة في المعنى حالة الوضع {بعد ما لم تكن} تلك الخصوصيّات الّتي منها {الوحدة} للمعنى {قيداً للوضع ولا للموضوع له، كما لا يخفى} كما لا يلزم مراعاة الخصوصيّات الّتي في الواضعِ، أو اللّفظِ، حالةَ الوضع، مضافاً إلى أنّ الوحدة محفوظة في المقام، إذ المفروض إرادة كلّ من المعنيين على حِدَةٍ.

فإن قلت: إذا كان حال الانضمام غير مشمول للوضع، فيلزم انتفاء الوضع في

ص: 186


1- قوانين الأصول 1: 67.

ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك، فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التّثنية والجمع، وعلى نحو المجاز في المفرد، مستدلّاً على كونه بنحو الحقيقة فيهما؛ بكونهما بمنزلة تكرار اللّفظ،

___________________

هذا الحال، فيكون استعمالاً في غير الموضوع له.

قلت: عدم شمول الوضع في حال الانضمام يقتضي عدم التّرخيص في الاستعمال فيهما معاً، لا انتفاء الوضع عن ذات المعنى، ومن البيّن أنّه إذا كان الاستعمال فيهما معاً مستحسناً عند أرباب اللّسان صحّ الاستعمال ولو منع عنهالواضع، كما تقدّم تقريره في بيان المجاز.

{ثمّ} إنّا {لو تنزّلنا عن ذلك} الّذي ذكرناه - من منع كون الوحدة قيداً - وسلّمنا أنّها قيد للمعنى - كما يقوله صاحب المعالم - فاللّازم القول بالمنع مطلقاً، ولا وجه للتّفصيل الآتي.

تنبيه: قال المشكينيّ: «في العبارة مسامحة، إذ لازم التّنزّل تسليم كون الوحدة قيداً للموضوع له، ومعه لا وجه للاعتراض بأنّ اللّفظ موضوع لنفس المعنى. نعم، الاعتراضات الأُخر واردة عليه بعد التّسليم المذكور»(1)،

انتهى.

وعلى كلّ {فلا وجه للتفصيل} الّذي ذكره صاحب المعالم وهو القول {بالجواز على نحو الحقيقة في} ما إذا كان اللّفظ المستعمل في أكثر من معنى هو {التّثنية والجمع} فلو قال: (عينان) وأراد الجارية والباصرة، أو قال: (أعين) وأراد الشّمس معهما كان حقيقة {وعلى نحو المجاز في المفرد} فلو قال: (عين) وأراد المعنيين كان مجازاً {مستدلّاً على} الشِّقِّ الأوّل، وهو {كونه بنحو الحقيقة فيهما} أي: في التّثنية والجمع {بكونهما بمنزلة تكرار اللّفظ} فكلمة (أعين) بمنزلة: عين، وعين، وعين، وكما أنّه يصحّ إرادة معان متعدّدة من ألفاظ متعدّدة، كذلك يجوز إرادتها ممّا هو بمنزلة ألفاظ متعدّدة.

ص: 187


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 211.

وبنحو المجاز فيه؛ بِكونه موضوعاً للمعنى بقيد الوحدة، فإذا استعمل في الأكثر لزم إلغاء قيد الوحدة، فيكون مستعملاً في جزء المعنى بعلاقة الكلّ والجزء، فيكون مجازاً(1).وذلك لوضوح أنّ الألفاظ لا تكون موضوعة إلّا لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة، وإلّا لما جاز الاستعمال في الأكثر؛ لأنّ الأكثر ليس جُزْءَ المقيّد بالوحدة، بل يباينه مباينة الشّيء بشرط شيء والشّيء بشرط لا،

___________________

{و} استدلّ على الشِّقِّ الثّاني - وهو كون اللّفظ المستعمل في متعدّد {بنحو المجاز فيه} أي: في المفرد - {بكونه} أي: المفرد {موضوعاً للمعنى} الواحد {بقيد الوحدة} بحيث تكون الوحدة شرطاً للمعنى أو جزءاً له، وعلى الثّاني فالوحدة جزء، وعلى الأوّل فالتّقيّد جزء {فإذا استعمل} اللّفظ والحال هذه {في الأكثر لزم إلغاء قيد الوحدة} الّتي كانت دخيلاً في المعنى {فيكون} اللّفظ {مستعملاً في جزء المعنى} الموضوع له أوّلاً، وذلك يكون {بعلاقة الكلّ والجزء} فيستعمل اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء {فيكون} هذا الاستعمال {مجازاً}.

هذا حاصل كلام صاحب المعالم(قدس سره) في الاستدلال على مطلبه، لكنّه غير صحيح {وذلك لوضوح أنّ الألفاظ لا تكون موضوعة إلّا لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة} معه جزءاً أو شرطاً، لما تقدّم من منع التّبادر المدّعى {وإلّا} يكن الأمركما قلناه، بل كان اللّفظ موضوعاً للمعنى بقيد الوحدة {لما جاز الاستعمال في الأكثر} أصلاً ولو بنحو المجازيّة {لأنّ الأكثر ليس جزء المقيّد بالوحدة} حتّى يكون الاستعمال من باب المجاز الّذي يكون من استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء.

{بل} المعنى بقيد الوحدة {يباينه} أي: يباين المعنيين، نحو{مباينة الشّيء} أي: الماهيّة المقيّدة {بشرط شيءٍ، والشّيء بشرط لا} فالموضوع له هو المعنى بشرط

ص: 188


1- معالم الدين: 39.

كما لا يخفى.

والتّثنيةُ والجمعُ وإن كانا بمنزلة التّكرار في اللّفظ، إلّا أنّ

___________________

لا، لكونه مقيّداً بالوحدة، والمستعمل فيه هو بشرط شيء لكونه مقيّداً بشرط معنى آخر، ومن البديهي أن لا علاقة بين هذين القسمين من الماهيّة، فلا علاقة مصحّحة للتجوّز {كما لا يخفى}.

هذا كلّه بالنظر إلى ما أفاده المعالم بالنسبة إلى المجازيّة في المفرد {و} أمّا ما أفاده بالنسبة إلى كون اللّفظ حقيقة في التّثنية والجمع ففيه أنّ {التّثنية والجمع وإن كانا بمنزلة التّكرار في اللّفظ إلّا أنّ} هذا لا يفيد شيئاً لما بناه عليه في المعالم، وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي:

أنّ استعمال تثنية المشترك وجمعه على أنحاء:

منها: أن يراد من لفظ التّثنية معنيان من ماهيّة واحدة، فيراد من العينين فردان من الجارية، وكذا الجمع.

ومنها: أن يراد منهن اثنان من طبيعتين، كأن يراد من العينين الجارية والذّهب، ولا خلاف في جواز هذين القسمين، لكن الأوّل حقيقة والثّاني مجاز، وجه المجازيّة: أنّ علامة التّثنية والجمع لمّا كانت مفيدة لتعدّد المدخول، وكانت العين المدخول عليها العلامة طبيعة واحدة، فلو أُريد طبيعتان لزم التّجوّز ابتداءً، بأن يراد من العين المسمّى بالعين حتّى يكون المعنى بعد العلامة المسمّيين بالعين، كي يصحّ الانطباق على طبيعتين، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ، إن شاء اللّه - تعالى - .

ومنها: أن يراد منه أربعة من طبيعة واحدة أو من طبيعتين، كأن يراد من العينينأربعة أعين جارية أو جاريتان وباصرتان.

ومنها: أن يراد منه اثنان من طبيعتين كالصورة الثّالثة لكن بلا تأويل بالمسمّى ونحوه. وقد وقع الخلاف في هذا القسم بين صاحبي المعالم والقوانين فمنعه الثّاني،

ص: 189

الظّاهر أنّ اللّفظ فيهما كأنّه كرّر، وأُريد من كلّ لفظٍ فردٌ من أفراد معناه، لا أنّه أُريد منه معنىً من معانيه. فإذا قيل مثلاً: (جئني بعينين) أُريد فردان من العين الجارية، لا العين الجارية والعين الباكية. والتّثنيةُ والجمعُ في الأعلام

___________________

وأجازه الأوّل، لما ذكره المصنّف.

إذا عرفت ما تقدّم فنقول: إنّ ما ذكره المعالم من كون التّثنية والجمع بمنزلة التّكرار، فإرادة المعنيين منهما حقيقة، غير مستقيم، إذ {الظّاهر أنّ اللّفظ فيهما كأنّه كرّر وأُريد من كلّ لفظ} من اللّفظين أو الأكثر {فرد من أفراد معناه} الواحد كما تقدّم في النّحو الأوّل، فإنّ المتبادر من العينين - مثلاً - فردان من الجارية، لا فرد من الجارية وفرد من الباصرة {لا أنّه أُريد منه} أي: من كلّ لفظ من لفظي التّثنية {معنى من معانيه} على نحو القسم الرّابع أو القسم الثّاني {فإذا قيل - مثلاً - : (جئني بعينين)} فالمتبادر أنّه {أُريد فردان من العين الجارية} كما تقدّم {لا} أنّه أُريد {العين الجارية والعين الباكية}.

وبالجملة لا بدّ في التّثنية والجمع من اتحاد المعنى وتعدّد مصاديقه، ولايكفي الاتحاد بمجرّد اللّفظ من دون معنى كلّيّ صادق على المتعدّد فيهما.

{و} إن قُلْت: لو لزم في التّثنية والجمع إرادة فردين من معنى كلّيّ صادق على المتعدّد، فكيف يجوز {التّثنية والجمع في الأعلام} مع أنّه ليس هناك كلّيّ صادق عليهما؟

لا يقال فيهما: الكلّي أيضاً موجود، فإنّ (زيدين) فردان من كلّي الإنسان.

لأنّه يقال: المراد من اشتراط وجود الكلّي في صحّة التّثنية والجمع أن يكون اللّفظ المفرد للمثنّى وللجمع بنفسه كلّيّاً له أفراد، ك (العين) فإنّه كلّيّ، بخلاف نحو لفظ (زيد) فإنّه ليس بكلّيّ، وليس المراد من الكلّي المشترط دخول الفردين تحته كلّيّاً في الجملة.

ص: 190

إنّما هما بتأويل المفرد إلى المسمّى بها.

مع أنّه لو قيل بعدم التّأويل، وكفاية الاتّحاد في اللّفظ في استعمالها حقيقةً، بحيث جاز إرادة عين جارية وعين باكية من تثنية (العين) حقيقةً، لما كان هذا من باب استعمال اللّفظ في الأكثر؛ لأنّ

___________________

قُلْتُ: {إنّما} يصحّ تثنية العلم وجمعه؛ لأنّ {هما بتأويل المفرد} الّذي يراد تثنيته أو جمعه {إلى المسمّى بها} أي: بالأعلام، فيُرَادُ من لفظ (زيد): المسمّى بزيد ومعلوم أنّ المسمّى بزيد كلّيّ يصدق على كلّ ذاتٍ اسمُهُ (زيد).

وتوضيح الجواب - بلفظ بعض الأعلام - : أنّ الأعلام المدخولة للعلامة ليست مستعملة في معانيها الحقيقيّة الّتي لا تقبل التّعدّد، وإنّما تستعمل في معنى مجازي، وهو مفهوم المسمّى بزيد مثلاً، فإذا قلت: (زيدان) فالمراد مسمّيان بزيدٍ.

وإن قُلْتَ: أيّة حاجة إلى هذا التّأويل؟قُلْتُ: تبادر ذلك، فإنّك إن قلت: (رجلان) فهم فردان من كلّيّ يصدق عليه أنّه رجل، وهكذا بالنّسبة إلى عينين وامرأتين وكتابين، ولذا قالوا في الأعلام بذلك.

{مع أنّه لو} سلّم و{قيل بعدم} الاحتياج إلى {التّأويل} بالمسمّى في لفظي التّثنية والجمع {و} بنينا على {كفاية الاتحاد في اللّفظ} فقط من دون احتياج إلى معنى كلّيّ صادق على المتعدّد {في استعمالها} فلا يكون ذلك مجازاً، بل {حقيقة بحيث جاز إرادة} (زيد) وزيد من (الزّيدين) بلا تأويل إلى المسمّى، ومن المعلوم أنّ عدم الاحتياج إلى الكلّي الجامع في التّثنية والجمع مستلزم لجواز إرادة {عين جارية وعين باكية من تثنية (العين)} وبالجملة لو سلّمنا جواز هذا الاستعمال {حقيقةً، لما كان} جواب «لو قيل» {هذا} الّذي ذكر من إرادة الجارية والباكية بلا تأويل {من باب استعمال اللّفظ في الأكثر} حتّى يثبت مدّعى صاحب المعالم(قدس

سره) من أنّ الاستعمال في التّثنية والجمع حقيقة {لأنّ} هذا خارج

ص: 191

هيئتهما إنّما تدلّ على إرادة المتعدّد ممّا يراد من مفردهما، فيكون استعمالهما وإرادة المتعدّد من معانيه استعمالاً لهما في معنىً واحدٍ، كما إذا استعملا وأُريد المتعدّد من معنىً واحدٍ منهما، كما لا يخفى.

نعم، لو أُريد - مثلاً - من (عينين): فردان من الجارية وفردان من الباكية كان من استعمال العينين في المعنيين، إلّا أنّ حديث التّكرار لا يكاد يجدي في ذلك أصلاً؛

___________________

عمّا نحن فيه، إذ {هيئتهما إنّما تدلّ على إرادة المتعدّد ممّا يراد من مفردهما} فإرادة الجارية والباكية مثل إرادة الجاريتين، فكما أنّ الثّاني ليس من باب استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، كذلك الأوّل {فيكون استعمالهما} أي: التّثنية والجمع {وإرادة المتعدّد من معانيه} أي: معاني المشترك {استعمالاً لهما في معنى واحد كما} تقدّم مِن أنّه {إذا استعملا وأُريد المتعدّد من معنى واحد منهما} - أي: من التّثنية والجمع - لا يكون من باب استعمال المشترك في أكثر {كما لا يخفى}.

والحاصِلُ: أنّ قولَ صاحب المعالم بكون استعمال المشترك في أكثر من معنىً حقيقةٌ في التّثنية والجمع مردودٌ، أوّلاً بأنّه مؤوَّل بالمسمّى، فلا يكون حقيقة، وثانياً على تقدير كونه حقيقة، ليس من باب استعمال اللّفظ المشترك في أكثر من معنى؛ لأنّ (عينين) عبارة عن: عين وعين، ولكلٍّ معنىً، فكما أنّه لو قال: (عين وعين) وأراد من كلٍّ معنىً لم يكن من باب استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، كذلك لو قال: (عينان) وأراد به معنيين؛ لأنّه بمنزلة (عين وعين).

{نعم، لو أُريد - مثلاً - من (عينين) فردان من الجارية وفردان من الباكية كان من} باب {استعمال} لفظ {العينين في المعنيين، إلّا أنّ حديث التّكرار} الّذي استدلّ به صاحب المعالم على كونه حقيقةً فيهما {لا يكاد يجدي في ذلك} الّذي أراد من كونه حقيقة {أصلاً} فإنّ العلّة الّتي كانت موجبة لمجازيّة المفرد موجودة في التّثنية

ص: 192

فإنّ فيه إلغاء قيد الوحدة المعتبرة أيضاً؛ ضرورةَ أنّ التّثنية عنده إنّما تكونلمعنيين أو لفردين بقيد الوحدة.

والفرقُ بينها وبين المفرد إنّما يكون في أنّه موضوع للطّبيعة، وهي موضوعة لفردين منها أو معنيين، كما هو أوضح من أن يخفى.

___________________

والجمع حينئذٍ {فإنّ فيه} أي: في استعمالهما كذلك {إلغاء قيد الوحدة المعتبرة} في المعنى عند صاحب المعالم {أيضاً} كما كان في المفرد موجباً لإلغائه {ضرورةَ أنّ التّثنية عنده} أي: عند صاحب المعالم {إنّما تكون لمعنيين} كالجارية والباكية {أو لفردين} من كلّيّ واحد، لكن بشرط أن يكون كلّ واحد منهما {بقيد الوحدة} كما بيِّن قبلاً، والتّنافي بين هذا القيد وإرادة معنيين واضح {والفرق بينها} أي: بين التّثنية {وبين المفرد إنّما يكون في أنّه موضوع للطّبيعة} فقط {وهي} أي: التّثنية {موضوعة لفردين منها} أي: من الطّبيعة {أو معنيين} من طبيعة واحدة {كما هو أوضح من أن يخفى} وبالقياس إلى التّثنية يفهم الجمع - كما لا يخفى - .

تنبيه: جعل بعضهم استعمال اللّفظ في المعنى الحقيقي والمجازي من فروع استعمال اللّفظ المشترك في أكثر من معنىً، فمن أجازه أجازه ومن منعه منعه.

وذهب آخرون إلى أنّه لا تلازم بين المسألتين، إذ يمتنع استعمال اللّفظ في الحقيقي والمجازي ولو قلنا بالجواز في المشترك، وبيّن وجه المنع هنا بأنّ الحقيقة والمجاز وصفان متقابلان، فلا يمكن اتصاف اللّفظ الواحد بهما أوّلاً؛ ولأنّ المجاز يحتاج إلى قرينة معاندة للحقيقة، وملزوم معاند الشّيء معاند لذلكالشّيء ثانياً.

والجواب: أمّا عن الأوّل: فلأنّ اتصاف اللّفظ بوصف الحقيقة والمجاز ليس من قبيل اتصاف الجسم بالسواد والبياض، إذ هما وصفان اعتباريّان ولا مانع بتقابل

ص: 193

وهم ودفعٌ:

___________________

الاعتبار، لاختلاف الحيثيّات، كالفوقيّة والتّحتيّة بالنسبة إلى جسم واحد، فإنّهما يجتمعان لاختلاف الحيثيّة.

وأمّا عن الثّاني: فلعدم تسليم احتياج المجاز إلى قرينة معاندة للحقيقة. هذا فتبيّن أنّ المسألتين من وادٍ واحد، وقد تقدّم أنّ الظّاهر جواز كليهما عقلاً، بل استعمالهما خارجاً.

{وهم ودفع} يتعلّق بمعنى البطون للقرآن. روى المجلسي(رحمة الله) في البِحار قال أبو عبداللّه(علیه السلام): «في القرآن ما مضى وما يحدُثُ وما هو كائن» إلى أن قال: «وإنّما الاسم الواحد منه في وجوهٍ لا يحصى يعرِفُ ذلك الوُصَاة»(1).

وروى السيّد البحراني في البرهان، عن فضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر(علیه

السلام) عن هذه الرّواية «ما من آية إلّا ولها ظهر وبطن» قال: «ظَهْرٌ وبَطْنٌ، وهو تأويله منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشّمس والقمر»(2).

وفيه عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «ظَهْرُ القرآن الّذين نزل فيهم، وبطنهالّذين عملوا بمثل أعمالهم»(3).

وفي الصّافي، عن جابرٍ قال: سألت أبا جعفرٍ(علیه السلام) عن شيءٍ من تفسير القرآن فأجابني، ثمّ سألته ثانيةً فأجابني بجوابٍ آخر، فقلت: جعلت فِداك، أَجَبْتَ في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟ فقال لي: «يا جابِرُ، إنّ للقرآن بطناً وللبطن بطن وظهر، وللظّهر ظهر»(4).

وفي حديث آخر، عن أبي عبداللّه(علیه

السلام) قال: «إنّ القرآن نَزَلَ على سبعةِ

ص: 194


1- بحار الأنوار 89: 95.
2- البرهان في تفسير القرآن 1: 44.
3- البرهان في تفسير القرآن 1: 46.
4- تفسير الصافي 1: 29.

لعلّك تتوهّم: أنّ الأخبارالدّالّة على أنّ للقرآن بطوناً - سبعة(1) أو سبعين - تدلّ على وقوع استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً واحدٍ، فضلاً عن جوازه.

ولكنّك غفلت عن أنّه لا دلالة لها أصلاً على أنّ إرادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللّفظ،

___________________

أحرفٍ»(2)،

الحديث.

ولم أعثر على رواية من طريق الخاصّة تدلّ على سبعين بطناً. نعم، في الجواهر(3)

- عند قول المصنّف(رحمة الله): «وكذا إعرابها» في كتاب الصّلاة - نسبة ذلك الخبر. وعلى كلّ تقدير فقد اختلف في معنى سبعة أحرف على مايقرب من أربعين قولاً - كما حكاه في الصّافي(4) - .

ثمّ لا يخفى أنّه على تقدير جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً لا مانع من جواز احتمال ذلك في هذه الرّوايات، وأمّا على القول بعدم الجواز - كما اختاره المصنّف - فتوجيه هذه الرّوايات إذا كان المراد بها المعاني المتعدّدة يحتاج إلى تكلّف، وقد أشار إلى ذلك بقوله: {لعلّك تتوهّم} وتقول: {إنّ الأخبار الدّالّة على أنّ للقرآن بطوناً سبعة أو سبعين تدلّ على} خلاف ما ذهبتم إليه من منع استعمال المشترك في أكثر من معنى، وذلك لدلالتها على {وقوع استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً واحدٍ، فضلاً عن} دلالتها على {جوازه} فإنّ أدلّ الدّليل على إمكان الشّيء وقوعه {ولكنّك غفلت عن أنّه} لا تنافي تلك الأخبار، لما ذكرنا، إذ {لا دلالة لها أصلاً، على أنّ إرادتها} أي: إرادة تلك المعاني {كانت من باب إرادة المعنى من اللّفظ}

ص: 195


1- غوالي اللئالي 4: 107.
2- الكافي 2: 630.
3- جواهر الكلام 9: 295.
4- تفسير الصافي 1: 59.

فلعلّه كان بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى، لا من اللّفظ كما إذا استعمل فيها، أو كان المراد من البطون: لوازم معناه المستعمل فيه اللّفظ، وإن كان أفهامُنَا قاصرةً عن إدراكها.

___________________

حتّى يكون من باب استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً {فلعلّه} أي: لعلّ الشّأن أنّه {كان} الاستعمال {بإرادتها} أي: إرادة تلك المعاني {في أنفسها حال الاستعمال في المعنى} بأن يكون اللّفظقالباً ودالّاً على أحدها وعلامة للباقي {لا} أن يكون المراد {من اللّفظ} معانِيَ سبعةٍ، بحيث يكون اللّفظ {كما إذا استعمل فيها} مستقلّاً بأن يكون قالباً لجميعها {أو كان المراد من البطون} في تلك الأخبار {لوازم معناه} أي: معنى اللّفظ {المستعمل فيه} ذلك {اللّفظ} كالكتابة الّتي هي ذكر الملزوم وإرادة اللّازم، فالمراد أنّ لمعنى الآياتِ القرآنيّة لوازمَ ستّةً أو سبعةً أو أكثَرَ، واستفادة تلك اللّوازم مختصّة بالأذهان العالية {وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها}.

قال المشكينيّ(رحمة الله): «ثمّ إنّ هنا احتمالات أُخر:

منها: أن يكون المستعمل فيه من قبيل المشكّك له سبع مراتب أو سبعون، فلا يكون من الاستعمال في المعنيين.

ومنها: أنّ ألفاظ القرآن نزلت سبع مرّات أو سبعين وفي كلّ مرّة أُريد منها معنىً.

ومنها: أن يراد من كلّ لفظٍ معنىً قابِلُ الانطباق على سبع أو سبعين في نفسه وأُريد على سبيل الاستغراق.

ومنها: أن يراد أحد المعاني مفهوماً لا مصداقاً ولكن يراد استغراقه»(1)،

انتهى.

وذكر الفيض الكاشاني(قدس سره) في المقدّمة الرّابعة من تفسيره الصّافي(2)

كلاماً طويلاً

ص: 196


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 216.
2- تفسير الصافي 1: 28.

___________________

في هذا المقام لم نورده خوفاً من التّطويل، وقد أشار إليه العلّامة الرّشتي بقوله: «أو كان المراد أنّ المستعمل فيه وإن كان معنى واحداً، وهو الطّبيعة الكليّةالنّفس الأمريّة، إلّا أنّ له مع ذلك مراتب» إلى قوله: «مثل لفظ (الميزان) عبارة عمّا يوزن ويقدّر به الشّيء ويتميّز به عن غيره، سواء كان بالآلة المتداولة في النّشأة الأُولى، أو ولاية عليّ(علیه السلام) أو نفسه المولويّة، كما ورد في بعض فقرات زياراته: «السَّلاَمُ على ميزان الأعمال»(1)(2)،

انتهى.

أقول:

چون نيست خواجه حافظ *** معلوم نيست ما را

ولعلّ أن يكون في إبقاء هذا الكلام متشابهاً وجه، فإنّ لكلامهم(علیهم السلام) محكماً ومتشابهاً لمصالح.

ثمّ إنّ هاهنا كلاماً آخر يتفرّع على مسألة جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى، وهو أنّه هل يجوز الجمع بين الإِخبار والإنشاء أم لا؟ ومن صغرياته الجمع بين قصد إنشاء الحمد من سورة الفاتحة وبين قراءتها، وكذلك الجمع بين قراءة {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ}(3) وبين قصد الإنشاء؟

فذهب قوم إلى عدم الجواز، مستدلّاً بأنّ القراءة استعمال اللّفظ في اللّفظ، أي: استعمال اللّفظ وإرادة اللّفظ.

وبعبارة أُخرى: القراءة هي الحكاية عن اللّفظ باللّفظ المماثل، والإنشاء استعمال اللّفظ في المعنى، ولا يعقل استعمالان في استعمال واحد.

ص: 197


1- بحار الأنوار 97: 287.
2- شرح كفاية الأصول 1: 55.
3- سورة الحمد، الآية: 4.

الثّالث عشر: أنّه اختلفوا في أنّ المشتق حقيقةٌ

___________________

وبيانه: أنّه لو استعمل اللّفظ مريداً به المعنى كان إنشاءً، وإن استعمل وأراد بهاللّفظ كان قِراءةً، ففي الإنشاء يكون المحكي عنه هو المعنى، وفي القراءة يكون المحكي عنه هو اللّفظ، وعليه فلا تجتمع القراءة وطلب الهداية بجملة: {ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ}(1).

والأخبار الّتي ظاهرها طلب القارئ الهداية حين الإتيان بهذه الجملة، محمولة على أنّ المراد طلب الهداية قلباً مقارناً للقراءة.

والجوابُ: أنّا لا نسلّم أنّ القراءة عبارة عن حكاية اللّفظ والمماثل للفظ، بحيث يكون المستعمل فيه لفظاً، بل تصدق القراءة بمجرّد إيجاد اللّفظ المماثل لكلام الغير ملتفتاً إلى المماثلة من غير فرق بين إيجاد المعنى به إنشاءً أم لا.

مثلاً: من مدح محبوبه بقصيدة إمرئ القيس، يصدق عليه أنّه قرأ القصيدة، ولهذا نرى صحّة قولنا: (فلان قرأ دعاء الكميل) مع أنّه إنشاء المعنى بألفاظه، بل قد يعدّ إمكان الجمع من البديهيّات.

والحاصِلُ: أنّ القراءة ليست إخباراً حتّى يستشكل بعدم إمكان جمع الإنشاء والإخبار، مضافاً إلى أنّه لا إشكال فيه أيضاً مع القرينة، فالحقّ جواز الجمع وطلب الهداية بجملة {ٱهۡدِنَا}، ولا وجه لحمل تلك الأخبار على خلاف ظاهرها، واللّه - تعالى - العالم.

[الأمر الثّالث عشر: في المشتقّ]

اشارة

المقدّمة، المشتقّ

الأمر {الثّالث عشر} في المشتقّ وتحرير مباحثه، فنقول: {إنّه اختلفوا في أنّ المشتق} الّذي سيأتي بيان المراد منه مفصّلاً {حقيقة} في ما إذا استعمل

ص: 198


1- سورة الحمد، الآية: 5.

في خصوص ما تلبّس بالمبدأ في الحال، أوفي ما يعمّه وما انقضى عنه على أقوال(1)، بعد الاتّفاق على كونه مجازاً في ما يتلبّس به في الاستقبال.

وقبل الخوض في المسألة، وتفصيل الأقوال فيها، وبيان الاستدلال عليها ينبغي تقديم أُمور:

___________________

{في خصوص ما تلبّس بالمبدأ} الّذي اشتقّ منه {في الحال} أي: في حال النّسبة {أو} المشتقّ حقيقة {في ما يعمّه} أي: يعمّ المتلبّس في حال النّسبة، بأن يكون موضوعاً للجامع بين الذّات المتلبّسة {وما انقضى عنه} المبدأ {على أقوالٍ} كثيرة - بعد ما كانت المسألة ذات قولين - .

مثلاً: هل (الضّارب) حقيقة في خصوص المتلبّس بالضّرب حال النّسبة بحيث لو قال: (زيد ضارب) وقد انقضى عنه الضّرب يكون مجازاً، أو هو حقيقة في الأعمّ من المتلبّس والمنقضي عنه الضّرب حتّى يكون المثال حقيقةً {بعد الاتّفاق على كونه} أي: المشتق {مجازاً} إذا استعمل {في ما يتلبّس به} أي: بالمبدأ {في الاستقبال} فلو قال: (زيد ضارب) ولم يضرب بعد كان مجازاً.

ولا يخفى أنّه يمكن أن يقال في نحو {إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ}(2) و(إنّي ناصب زيداً عَلَماً) ونحوهما أنّها غير ظاهر فيها المجازيّة، فتأمّل.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ النّزاع في المشتق في خصوص هيئته كما يرشد إليهلفظ المشتق، فلا نزاع في المادة بوجه أصلاً. {وقبل الخوض في المسألة} وبيان المختار {وتفصيل الأقوال فيها وبيان الاستدلال عليها} أي: على الأقوال {ينبغي تقديم أُمور} ستّة مهمّة:

ص: 199


1- نهاية الدراية 1: 113.
2- سورة البقرة، الآية: 40.

أحدها: أنّ المراد بالمشتقّ هاهنا ليس مطلق المشتقّات، بل خصوص ما يجري منها على الذّوات، ممّا يكون مفهومه منتزعاً من الذّات بملاحظة اتّصافِها بالمبدأ، واتّحادِها معه

___________________

المراد بالمشتقّ

{أحدها} في تنقيح موضوع البحث، فنقول: للمشتقّ إطلاقان:

الأوّل: - وهو المصطلح عند أهل العربيّة - أن يكون لفظ مأخوذاً من لفظ آخر، من غير فرق بين أن يكون المأخوذ والمأخوذ عنه اسماً، أو فعلاً، نحو (ضرب) من (الضّرب)، و(يضرب) من (ضَرَبَ)، و(ضارب) من (يَضْرِبُ)، و(ضاربان) من (ضارب).

الثّاني: - وهو المصطلح عند الأصوليّين أخيراً - أن يكون اللّفظ حاكياً عن الذّات وجارياً عليها باعتبار تلبّسه بعنوان خاصّ يسمّى ذلك العنوان المبدأ، من غير فرق بين أن يكون جامداً أو مشتقّاً، كالزوج والضّارب ونحوهما. وبين هذين القسمين عموم من وجه، لتصادقهما في نحو الضّارب، وصدق الأوّل فقط في الأفعال، والثّاني فقط في الجوامد.

ولا يخفى {أنّ المراد بالمشتقّ هاهنا} أي: في هذا المبحث الاصطلاح الثّاني و{ليس} المراد {مطلق المشتقّات} باصطلاح أهل الأدب {بل خصوص ما يجري منها} أي: من المشتقّات {على الذّوات} بحيث يحمل عليها من دون تجوّز {ممّايكون مفهومه منتزعاً من الذّات} لا عن مقام نفس الذّات، بل {بملاحظة اتّصافها} أي: اتّصاف تلك الذّات {بالمبدأ} لذلك المشتقّ {و} بملاحظة {اتّحادها} أي: اتّحاد الذّات {معه} أي: مع المبدأ.

وإنّما قيّدنا الانتزاع عن الذّات بكونه غير منتزع عن مقام نفس الذّات؛ لأنّ المفاهيم المنتزعة الحاكية عن الشّيء على قسمين:

الأوّل: ما كان منتزعاً عن مقام نفس الذّات بلا اتّصاف بأمر خارج عنها،

ص: 200

بنحوٍ من الاتّحاد، كان بنحو الحلول، أو الانتزاع، أو الصّدور والإيجاد، كأسماء الفاعلين

___________________

ك(الإنسانيّة) المنتزعة عن الإنسان والنّاطقيّة والجسميّة وغيرها، ويلحق بهذا القسم نحو الإمكانيّة والوجوبيّة والامتناعيّة.

الثّاني: ما كان منتزعاً عن مقام اتصاف الذّات بأمر خارج متّحد مع الذّات، ك(الضّاربيّة) الّتي هي منتزعة عن مقام اتصاف الذّات بمبدئها عن الضّرب، وهذا القسم هو محلّ الكلام.

أمّا القسم الأوّل فهو خارج، إذ يشترط في المشتقّ بقاء الذّات، ولا يعقل بقائها مع زوال خصوصيّاتها، كما هو شأن الجوامد، فلو ذهبت الإنسانيّة - بأن صار تراباً - لم يكن إنساناً، وكذا لو ذهب الإمكان فرضاً.

والحاصل: أنّ النّزاع في ما كان منتزعاً عن مقام اتّصاف الذّات ممّا كان متّحداً معها {بنحوٍ من} أنحاء {الاتّحاد} الحقيقي أو العرفي سواء {كان} الاتّحاد {بنحو الحلول} بأن كان المبدأ حالّاً في الذّات، كالأبيض والأسود وغيرهما من الألوان {أو} بنحو {الانتزاع} كالمالك{أو} بنحو {الصّدور} بأن يصدر المبدأ من الذّات كالضارب، فإنّ اتّحاد الذّات بالضّرب صدوري {والإيجاد} عطفه ب«الواو» يدلّ على كونه عطف بيان للصّدور، ويحتمل الفرق بينهما بأن يراد بالأوّل ما كان المبدأ فيه قائماً بغير الفاعل، وإن كان صادراً منه، كالضارب، فإنّ الضّرب صادر عن الفاعل قائم بالمفعول، وبالثّاني ما كان المبدأ قائماً بالفاعل، كالآكل، فإنّ الأكل قائم بنفسه.

ومن المحتمل أن يراد بالصدور ما كان الفاعل معدّاً، كما قيل في جميع أفعال العباد، وبالإيجاد ما كان الفاعل موجداً، كالخالق بالنسبة إلى الباري - سبحانه - .

والحاصل: أنّه لا فرق بين أنحاء الاتصاف، كما لا فرق بين أنحاء المشتق، بل النّزاع جارٍ فيه بأيّ هيئة كان {كأسماء الفاعلين} نحو ضارب

ص: 201

والمفعولين والصّفات المشبّهات، بل وصيغ المبالغة وأسماء الأزمنة والأمكنة والآلات، كما هو ظاهر العُنْوَانات، وصريح بعض المحقّقين(1).

___________________

{والمفعولين} كمضروب {والصّفات المشبّهات} كشريف {بل وصيغ المبالغة} كعلّامة {وأسماء الأزمنة والأمكنة} كمقتل {و} أسماء {الآلات} كمفتاح {كما هو} أي: عدم الفرق {ظاهر العنوانات} الّتي ذكرها القوم، فإنّ لفظ المشتقّ المأخوذ في العنوان يعمّ جميع هذه الأقسام.

{و} كذا {صريح بعض المحقّقين} العموم وإن كان بعضهم لم يسمّ إلّا اسم الفاعل والمفعول والصّفة المشبّهة كصاحب القوانين(رحمة الله)(2).وتوهّم بعض اختصاص النّزاع باسم الفاعل وما أُلحق به، واستدلّ عليه بوجهين:

الأوّل: التّمثيل باسم الفاعل في أثناء احتجاجاتهم..

الثّاني: احتجاج بعضهم على الأعمّ، بإطلاق اسم الفاعل دون إطلاق بقيّة الأسماء.

قال في الفصول ما لفظه: «فهل المراد به ما يعمّ بقيّة المشتقّات من اسمي الفاعل والمفعول والصّفة المشبّهة وما بمعناها وأسماء الزّمان والمكان والآلة وصيغ المبالغة، كما يدلّ عليه إطلاق عناوين كثير منهم، كالحاجبي وغيره، أو يختصّ باسم الفاعل وما بمعناه، كما يدلّ عليه تمثيلهم به واحتجاج بعضهم بإطلاق اسم الفاعل عليه، دون إطلاق بقيّة الأسماء على البواقي، مع إمكان التّمسّك به أيضاً؟ وجهان: أظهرهما الثّاني، لعدم ملائمةِ جميع ما أوردوه في المقام على الأوّل»(3)، انتهى كلامه(رحمة الله).

ص: 202


1- هداية المسترشدين 1: 369.
2- قوانين الأصول 1: 155.
3- الفصول الغرويّة: 60.

مع عدم صلاحيّة ما يوجب اختصاص النّزاع بالبعض إلّا التّمثيل به، وهو غير صالح، كما هو واضح.

فلا وجه لما زعمه بعض الأجلّة من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من الصّفات المشبّهة وما يلحق بها، وخروج سائر الصّفات.

ولعلّ منشأه توهّم كون ما ذكره لكلّ منها - من المعنى - ممّا اتّفق عليه الكلّ، وهو كما ترى.

___________________

ويرد عليه: أنّه يظهر من تفريع جمع من المحقّقين على المسألة كراهة الوضوء بالماء المسخّن بالشّمس بعد زوال حرارته كون النّزاع في اسم المفعول أيضاً، كماصرّح هو(قدس سره) بهذا الإيراد في الحاشية {مع عدم صلاحيّة ما يوجب اختصاص النّزاع بالبعض} الّذي ذكره - أعني: اسم الفاعل وملحقاته - {إلّا التّمثيل به} أي: بذلك البعض في كلام بعض الأعلام {وهو} أي: التّمثيل {غير صالح} للاختصاص، إذ قد جرى ديدنهم على التّمثيل ببعض المصاديق {كما هو واضح}.

وإذ قد عرفت ذلك {فلا وجه} معتدّاً به {لما زعمه بعض الأجلّة} هو صاحب الفصول كما تقدّم {من الاختصاص} للنّزاع {باسم الفاعل وما بمعناه} ممّا يكون متلبّساً بالمبدأ نحو تلبّس اسم الفاعل {من الصّفات المشبّهة} ك (شريف) و(خشن) {وما يلحق بها} كصيغ المبالغة والمصادر المستعملة بمعنى اسم الفاعل {وخروج سائر الصّفات} الجارية على الذّوات، كاسم المفعول والآلة وغيرهما.

{ولعلّ منشأه} أي: منشأ الاختصاص {توهّم كون ما ذكره} أي: صاحب الفصول {لكلّ منها} أي: لكلّ صفة من الصّفات الّتي أخرجها عن كونها محلّ النّزاع {من المعنى} بيان ما {ممّا اتّفق عليه الكلّ} فلا نزاع فيها {وهو كما ترى} إذ كلّها مصبّ النّزاع كما لا يخفى، وهذا إشارة إلى الإيراد الثّاني المتقدّم، كما ذكره المشكيني(رحمة الله).

ص: 203

واختلافُ أنحاء التّلبّسات

___________________

ثمّ قال في الجواب عنه: «إنّ الاحتجاج المذكور لا دلالة له على ذلك، مضافاً إلى أنّه على فرض الدّلالة لا حجيّة في قول هذا البعض»(1)،

انتهى.وجه عدم الحجيّة واضح، إذ عموم النّزاع وخصوصه يتبع عموم الفرض وخصوصه، لا العنوان ولا نحو سوق الأدلّة.

هذا ولا يخفى أنّ كلمات الأعلام هنا لا يخلو عن اضطراب(2).

{واختلاف أنحاء التّلبّسات} في المراد بهذا الكلام اختلاف بين المحشّين، والظّاهر أنّه وجه لقوله: «كما ترى» ومن تتمّة الرّدّ على صاحب الفصول، وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي:

أنّ النّزاع في المشتق ليس في تعيين معنى المادّة ولا في كيفيّة الاشتقاق، إذ الأوّل راجع إلى اللّغة، والثّاني راجع إلى العرف، بل النّزاع في مفاد الهيئة.

ثمّ إنّ مفاد الهيئة ربّما يختلف باختلاف الموادّ، مثلاً تارةً تطلق (الكتابة) ويراد بها ملكتها ثمّ يشتقّ منها الكاتب، ومن البيّن أنّ معناه حينئذٍ المتلبّس بالملكة فيصدق الكاتب ما دامت الملكة باقيةً وإن لم يكن كاتباً بالفعل.

وأُخرى يراد من الكتابة شأنيّتها وقوّتها ثمّ يشتقّ منها الكاتب، ومن البيّن أنّ معناه حينئذٍ المتلبّس بشأنيّة الكتابة، فيصدق الكاتب ما دامت الشّأنيّة باقية وإن كان الشّخص أُمّيّاً.

ص: 204


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 219.
2- فإنّ العلّامة الرّشتي نسب عدم الاختلاف في الصّفة المشبّهة إلى الفصول حين نقل كلام المحشّي وزعم متابعة صاحب الفصول له، والمصنّف نسب الخلاف إليه في الصّفة المشبّهة، والحكيم نسب إلى الفصول ذكر المعنى لكلّ واحدٍ من المشتقّات، والمشكيني حمل قول المصنّف: «لعلّ». الخ على ما أورده في الفصول، والفصول مجمل من بعض الحيثيّات مصرّح بالخلاف بالنسبة إلى البعض الآخر، فراجع.

حَسَبَ تفاوت مبادئ المشتقّات، بحسب الفعليّة والشّأنيّة والصِّناعة والملكة

___________________

وثالثة يراد من الكتابة الحِرْفة ثمّ يشتقّ منها الكاتب، ومن الواضح أنّ معناهحينئذٍ المتلبّس بحرفة الكتابة، فيصدق الكاتب ما دامت الحرفة باقيةً ويذهب إن ذهبت الحرفة وإن كانت الملكة موجودة.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ صاحب الفصول ذكر لكلّ واحدٍ من اسم المفعول وصيغة المبالغة واسم الزّمان واسم المكان واسم الآلة معنىً، وأخرجها عن محلّ النّزاع بزعم أنّ تلك المعاني اتّفاقية، وقال في اسم المفعول: «ثمّ قد يطلق ويتبادر منه ما يعمّ الحال والماضي كقولك: (هذا مقتول زيد أو مصنوعه أو مكتوبه) وقد يختصّ بالحال نحو (هذا مملوك زيد)»(1)

الخ.

والجواب: أنّ النّزاع - كما تقدّم - في مفاد الهيئة لا المادّة، ولا اتّفاق في هذه الخمسة، وأمّا اسم المفعول ف (المقتول) بمعنى: من أُزهِق روحه بسبب القتل، و(المصنوع) بمعنى: ما حدث فيه أثر الصّنع، و(المكتوب) بمعنى: ما وجدت فيه الكتابة، فالمشتق إنّما يصدق في هذه الأمثلة، لأجل أعمّيّة المبدأ مع الفعلي والشّأني والحرفة والملكة والصِّناعة وغيرها، فإنّ اختلاف أنحاء التّلبّس {حسب تفاوت مبادئ المشتقّات بحسب} كون المبدأ بمعنى {الفعليّة} كالقائم {والشّأنيّة} كالكاتب في قولنا: (كلّ إنسان كاتب) {والصِّناعة} كالنجّار، والحرفة كالبقّال، والفرق بينهما أنّ الصِّناعة تحتاج إلى العلم دون الحرفة {والملكة} كالمجتهد، والفرق بين الصِّناعة والملكة: أنّ قوام الأوّل بعدم الإعراض دون الثّاني، فلو أعرض النّجّار من عمله وصار فلّاحاً لا يسمّى نجّاراً، بخلاف المجتهد.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الملكة عبارة عن الكيفيّة النّفسانيّة القارّة وهي في مقابلة

ص: 205


1- الفصول الغرويّة: 59.

- حسب ما يشير إليه - لا يوجب تفاوتاً فيالمهمّ من محلّ النِّزاع هاهنا، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا يبعد أن يراد بالمشتقّ في محلّ النِّزاع مطلق ما كان مفهومه ومعناه جارياً على الذّات ومنتزعاً عنها، بملاحظة اتّصافها بِعَرَضٍ أو عَرَضيٍّ

___________________

الحالّ، فإنّ الكيف النّفسانيّ لو كان راسخاً سُمِّيً مَلَكَةً، وإن لم يكن راسخاً سُمِّيَ حالّاً.

مثلاً: لو مارَسَ شخصٌ قراءةَ سُوْرَةِ الحمد، بحيث يقرأها كلّما أراد، سُمِّيَ ملكة، وإن كان لم يُمَارِسْها بعد، بحيث لا يتمكّن من ذلك، سُمِّيَ حالّاً {حسب ما يشير} صاحب الفصول {إليه} أي: إلى هذا التّفاوت {لا يوجب تفاوتاً في المهم من محلّ النّزاع هاهنا} إذ الكلام في الهيئة لا في المادة {كما لا يخفى} وتقدّم منّا توضيحه.

{ثمّ} إلى هنا كان الكلام حول كون المشتق الأصولي أخصّ من وجه من المشتقّ الأدبي، وأمّا بيان {أنّه} أعمّ من وجه منه، فهو {لا يبعد أن يراد بالمشتق} المبحوث عنه {في محلّ النّزاع مطلق ما كان مفهومه ومعناه جارياً على الذّات ومنتزعاً عنها} سواء صدق عليه المشتقّ باصطلاح أهل العربيّة أم لا، ووجه عدم البعد ما تقدّم مِن أنّ عموم النّزاع وخصوصه يتبع عموم الغرض وخصوصه، وإنّما لم يجزم بذلك، لعدم العلم بكون ذلك مرادهم. وعلى كلٍّ فمرادنا بالمشتقّ ما كان منتزعاً عن الذّات {بملاحظة اتّصافها بِعَرَضٍ أو عَرَضِيّ}.

لا يخفى أنّ مراد المصنّف من العَرَض الأُمور المتأصّلة الّتي لها وجود فيالخارج كالبياض والسّواد، ومراده بالعَرَضِيّ الاعتبارات العقلائيّة أو الشّرعيّة غير المتأصّلة الّتي لا يحاذيها في الخارج شيء كالزوجيّة والملكيّة، كما صرّح هو بذلك في التّنبيه الثّامن من الاستصحاب قال ما لفظه: «أو من أعراضه ممّا كان محمولاً عليه بالضّميمة، كسواده مثلاً أو بياضه» إلى أن قال: «كما أنّ العرضي

ص: 206

ولو كان جامداً، كالزَّوْج والزَّوْجة والرّقّ والحرّ.

فإن أبيت إلّا عن اختصاص النّزاع المعروف بالمشتق - كما هو قضيّة الجمود على ظاهر لفظه - فهذا القسم من الجوامد أيضاً محلّ النّزاع. كما يشهد به ما عن الإيضاح

___________________

كالملكيّة والغصبيّة ونحوهما لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه»(1)،

انتهى.

ولا يخفى أنّ هذا يخالف اصطلاح أهل الميزان والمعقول. قال في المنظومة ما لفظه:

«وعَرَضِيُّ الشَّيْءِ غيرُ العَرَضِ» «ذا كالبياض» إذِ العَرَضُ مأخوذ بشرط لا، ولا يحمل على موضوعه «ذاك مثل الأبيضِ» إذِ العَرَضِيُّ يحمل على معروضه مأخوذ لا بشرط، لكن في المنطق قد يطلق العَرَضُ على العَرَضِيّ، كالعَرَضِ العامّ والعَرَض الخاصّ والعرض اللّازم والعرض المفارق، فلا يراد بها العرض بمعنى الحالّ في المحل المستغنى»(2)،

انتهى.

{ولو كان} ذلك الأمر الجاري المنتزع اسماً {جامداً} باصطلاحالأُدباء {كالزوج والزّوجة والرّقّ والحر} فلو كان شخصٌ عبداً في الزّمان الماضي، ثمّ صار حرّاً فهل يكون إطلاق العبد عليه حقيقةً أم لا، فالمتلبّس بالعبديّة حقيقة، والمنقضي عنه مختلف فيه، والّذي يكون بعداً مجاز طابق النّعل بالنّعل {فإن أبيت إلّا عن اختصاص النِّزاع المعروف} عند القوم {بالمشتقّ} باصطلاح العربيّة {كما هو قضيّة الجمود} أي: مقتضى الجمود {على ظاهر لفظه} أو لفظ المشتق {فهذا القسم من الجوامد} الجارية على الذّات {أيضاً محلّ النّزاع} بين الأعلام، وإن لم يعنونوها في باب المشتق {كما يشهد به ما} حكي {عن الإيضاح} لفخر المحقّقين

ص: 207


1- الوصول إلى كفاية الأصول 5: 163164.
2- شرح المنظومة 1: 178.

في باب الرّضاع، في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصّغيرة، ما هذا لفظه: «تحرم المُرْضِعة الأُولى والصّغيرة مع الدّخول بالكبيرتين. وأمّا المُرْضِعة الأُخرى ففي تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنّف وابن إدريس تحريمها؛ لأنّ هذه يصدق عليها أُمّ زوجته؛ لأنّه لا يشترط في المشتقّ بقاء المشتق منه، هكذا هاهنا»(1).

وما عن المسالك في هذه المسألة: من ابتناء الحكم فيها على الخلاف في مسألة المشتق(2).

___________________

ولد العلّامة الحلّي(رحمة الله) قال: {في باب الرّضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان} وزوجةصغيرة ثمّ {أرضعتا زوجته الصّغيرة} الرّضاع المحرّم {ما هذا لفظه: «تحرم المرضعة الأُولى والصّغيرة مع الدّخول بالكبيرتين} نقل العلّامة القمّي(رحمة الله) عن فوائد المصنّف والبدائع أنّهما نقلا عبارة الإيضاح هكذا: «مع الدّخول بإحدى الكبيرتين» {وأمّا} الزّوجة الكبيرة {المرضعة الأُخرى ففي تحريمها} بسبب رضاعها {خلاف} بين الأعلام {فاختار والدي} العلّامة {المصنّف} إذ الإيضاح شرح على قواعد العلّامة {و} كذا اختار {ابن إدريس تحريمها؛ لأنّ هذه} المرضعة الثّانية {يصدق عليها أُم زوجته} بمجرّد الرّضاع {لأنّه لا يشترط في المشتقّ بقاء المشتق منه} فالزّوجة الّتي هي المشتق تصدق على الصّغيرة، ولو بعد خروجها عن الزّوجيّة وتحريمها برضاع الكبيرة الأولى.

{هكذا} عبارة الإيضاح {هاهنا»، و} كذا يشهد لما ذكرنا من وقوع النّزاع في هذا القسم من الجوامد {ما} حكي {عن المسالك} للشّهيد الثّاني(قدس سره) {في هذه المسألة} الّتي عنونها فخر الدّين {من ابتناء الحكم} بالتحريم {فيها} أي: في المرضعة الثّانية {على الخلاف في مسألة المشتق} فقال ما لفظه:

«بقي الكلام في تحريم الثّانية من الكبيرتين، فقد قيل: إنّها لا تحرم، وإليه مال

ص: 208


1- إيضاح الفوائد 3: 52.
2- مسالك الأفهام 7: 268.

فعليه كلّما كان مفهومه منتزعاً من الذّات بملاحظة اتّصافها بالصفات الخارجة عن الذّاتيّات

___________________

المصنّف، حيث جعل التّحريم أولى، وهو مذهب الشّيخ، وابن الجنيد، لخروجالصّغيرة عن الزّوجيّة إلى البنتيّة، وأُمّ البنت غير محرّمة على أبيها، خصوصاً على القول باشتراط بقاء المعنى المشتقّ منه في صدق الاشتقاق، كما هو رأي جمع من الأصوليّين»، ثمّ ذكر تحريمها إلى أن قال: «لأنّ هذه يصدق عليها أُمّ زوجة وإن كان عقدها قد انفسخ؛ لأنّ الأصحّ أنّه لا يشترط في صدق المشتقّ بقاء المعنى»(1)،

انتهى.

والحاصل: إنّ إرضاع الكبيرة الأولى للصّغيرة محرّم لهما؛ لأنّ الكبيرة تصير أُمّ الزّوجة، والصّغيرة تصير بنت الزّوجة، وكلاهما مسبِّب للتحريم بعد الدّخول بالكبيرة، ثمّ إذا أرضعت هذه الصّغيرة الكبيرة الثّانية، فإن قلنا بصدق المشتق - أي: الزّوجة - على الصّغيرة بعد خروجها عن الزوجيّة، لزم حرمة الكبيرة الثّانية؛ لأنّها برضاعها للصّغيرة تكون أُمّ الزّوجة، وإن لم نقل بالصدق لم تحرم؛ لأنّها لم ترضع الزّوجة وإنّما أرضعت أجنبيّة.

واعلم أنّ الأقسام المتصوّرة في المسألة أربعة: لأنّه إمّا أن تكون كلتاهما أو إحداهما مدخولاً بها أم لا، وعلى كلّ تقدير فإمّا أن يكون اللّبن من هذا الزّوج أم لا، وحيث كانت المسألة خارجة عمّا قصدناه من شرح ألفاظ المتن لم نتعرّض لخصوصيّاتها {فعليه} أي: فعلى ما ذكرنا من وجود الملاك مؤيّداً بتعرّض الأصحاب للتعميم {كلّما كان مفهومه منتزعاً من الذّات} جامداً أو مشتقّاً ولم يكن منتزعاً عن مقام نفس الذّات كالإنسانيّة والنّاطقيّة، بل كان الانتزاع {بملاحظة اتّصافها} أي: الذّات {بالصّفات الخارجة عن الذّاتيّات} الذّاتي له إطلاقان:

[1] إطلاق في باب البرهان، [2] وإطلاق في باب الإيساغوجي - أي: الكليّات

ص: 209


1- مسالك الأفهام 1: 379.

- كانت عَرَضاً أو عَرَضِيّاً، كالزّوجيّة والرّقيّة والحريّة وغيرها من الاعتبارات والإضافات - كان محلّ النِّزاع وإن كان جامداً.

وهذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعاً عن مقام الذّات والذّاتيّات،

___________________

الخمس - والظّاهر أنّ مراد المصنّف كلاهما.

قال في المنظومة ما لفظه: «كذلك الذّاتي» له إطلاقان: أحدهما: «بذا المكان» أي: الذّاتي المستعمل في الكليّات الخمسة، أي: ما ليس خارجاً عن الشّيء «ليس هو الذّاتي في» كتاب البرهان إذ يراد بالذّاتيّ المستعمل هناك ما ينتزع من نفس ذات الشّيء، فيكفي ذاته في انتزاعه كما قلنا:

«من لاحقٍ لذات شَيء من حيث هي بلا توسّط لغير ذاته»

في لحوقه «فمثل الإمكان هو الذّاتيّ» فيقول الحكيم إنّ الإمكان ذاتيّ للماهيّة الإمكانيّة لا غيري بهذا المعنى، كما قلنا: «لا الذّاتي الإيساغوجي، بل ثاني» من المعنيين»(1)،

انتهى.

فالنّوعُ والفصلُ والجنسُ ذاتِيٌّ في باب الإيساغوجي، والإمكانُ والامتناعُ والوجوبُ ذاتِيٌّ في باب البُرْهان.

فتحصّل أنّ ما كان جارياً على الذّات غير الذاتيّات سواء {كانت عَرَضاً} له ما بحذاء في الخارج، كالأسود والأبيض {أو عرضيّاً} ليس له ما بحذاء {كالزوجيّة والرّقيّة والحريّة} والملكيّة والغصبيّة {وغيرها من الاعتبارات} الشّرعيّة أو العقلائيّة الّتي هي قائمة بنفس المعتبِر، ولو لم يكن تصوّرها ووجودها متوقّفاً على الغير{والإضافات} الّتي تتوقّف على الغير {كان} خبر «كلّما كان» {محلّ النِّزاع} في مبحث المشتق {وإن كان جامداً} باصطلاح الأُدباء {وهذا بخلاف ما كان} من الأسماء {مفهومه منتزعاً عن مقام الذّات} كالنّوع مثل الإنسانيّة {والذّاتيّات}

ص: 210


1- شرح المنظومة 1: 179.

فإنّه لا نزاع في كونه حقيقةً في خصوص ما إذا كانت الذَّاتُ باقيةً بذاتيّاتها.

___________________

كالفصل والجنس مثل النّاطقيّة والحيوانيّة، بل والإمكان والوجود والامتناع {فإنّه لا نزاع في كونه} أي: كون المنتزع عن مقام الذّات والذاتيّات {حقيقة في خصوص ما إذا كانت الذّات باقيةً بذاتيّاتها}.

قال في تقريرات الميرزا(رحمة الله) في وجه خروج هذا عن محلّ النّزاع ما لفظه:

«لا إشكال في خروج القسم الأوّل عن محلّ النّزاع، فإنّ شيئيّة الشّيء بصورته - أي: صورته النّوعيّة - لا بمادّته، فإذا فرضنا تبدّل الإنسان بالتّراب فما هو ملاك الإنسانيّة هي الصّورة النّوعيّة(1) وقد زالت، وأمّا المادّة المشتركة الباقية الّتي هيالقوّة الصّرفة لإفاضة الصُّورَ، فهي غير متّصفة بالإنسانيّة في حال من الأحوال. وبالجملة فالمتّصف زائل والباقي غير متّصف»(2)،

انتهى.

أقول: لكن قد يطلق مسامحة، كما يخاطب العظام البالية والتّراب الباقي، فتدبّر.

والّذي يظهر من العلّامة المشكيني(قدس سره) - حيث قال: «والدّليل على خروجه اتفاق العلماء على كونه حقيقة في التلبس»(3)، انتهى - هو جواز الاستعمال مجازاً.

قال العلّامة الرّشتي: «بل قد قيل بأنّ الاستعمال حينئذٍ من الأغلاط ولا يكون

ص: 211


1- قال في المنظومة ما لفظه: «كلّ نوع من أنواع الجسم مختصّ بأحوال معيّنة، ككون بعضها حارّاً، وبعضها بارداً، وبعضها في حيّز معيّن يقتضي السّكون عند حصوله فيه، والحركة إليه عند خروجه عنه وغير ذلك، فالمقتضي لذلك الاختصاص ليس أمراً خارجاً عن ذات الجسم بالضرورة، فهو إمّا الصورة الجسميّة أو الهيولى أو صورة أُخرى طبيعيّة، والأوّلان باطلان لشركة الصّورة الجسميّة بين الأجسام كلّها، والهيولى أي: هيولى عالم العناصر مشتركة أيضاً، فيلزم اشتراك الأجسام كلّها في الآثار، مع كون شأن هذه أي: الهيولى قبولاً والقابل لا يكون فاعلاً، فتعيّن الثّالث وهو المطلوب»، انتهی؛ شرح المنظومة 4: 230.
2- أجود التّقريرات 1: 53.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 224.

ثانيها: قد عرفت أنّه لا وجه لتخصيص النِّزاع ببعض المشتقّات الجارية على الذّوات، إلّا أنّه ربّما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزّمان؛ لأنّ الذّات فيه - وهي الزّمان بنفسه - ينقضي وينصرم، فكيف يمكن أن يقع النِّزاع في أنّ الوصف الجاري عليه حقيقةٌ في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال، أو في ما يعمّ المتلبّس به في المُضِيّ؟

___________________

مجازاً بعلاقة ما كان»(1).

اسم الزّمان

{ثانيها} أي: الثّاني من الأُمور الّتي لا بدّ من تقديمها، في بيان جريان النّزاع في اسم الزّمان {قد عرفت} في الأمر الأوّل {أنّه لا وجه} معتدّاً به {لتخصيص النّزاع ببعض المشتقّات} الاسميّة{الجارية على الذّوات} بل النّزاع يعمّ جميعها، {إلّا أنّه ربّما يشكل بعدم إمكان جريانه في} المشتق الّذي هو {اسم الزّمان} ك(مقتل) بمعنى: زمان القتل، وذلك {لأنّ الذّات فيه} أي: في اسم الزّمان {وهي الزّمان، بنفسه} إذ معنى اسم الزّمان: الزّمان المتلبّس بالقتل في المقتل، وبالولادة في المولد، وهكذا {ينقضي وينصرم} عطف بيان {فكيف يمكن أن يقع النّزاع في أَنَّ الوصف الجاري عليه} ك(المقتل) و(المولد) {حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ} أي: القتل والولادة {في الحال} فقط {أو} يكون حقيقة {في ما يعمّ المتلبّس به في المضي} فيكون في ما مضى حقيقةً كالحال؟

قال العلّامة القمّي(رحمة الله): «توضيح الإشكال أنّه لا بدّ في محلّ النّزاع من المشتقّ أن يكون الذّات المتّصف بالمبدأ باقياً بعد انقضاء المبدأ، حتّى ينازع في أنّ إطلاق المشتقّ على الذّات في ظرف انقضاء المبدأ صحيح أم لا، وأمّا إذا كان الذّات ممّا لا بقاء له ولا استقرار، وكان ينتفي وينقضي مع انقضاء المبدأ فلا مجال للنّزاع في أنّ الموضوع له هو في حال الاتصاف أو الأعم. مثلاً: أسماء الزّمان

ص: 212


1- شرح كفاية الأصول 1: 57.

___________________

- مثل مقتل - موضوع للزّمان الّذي يقع فيه القتل، وهذا الزّمان لا بقاء له بعد انقضاء المبدأ حتّى يطلق اللفظ عليه، فليس منها ما يمكن الإطلاق باعتبار الانقضاء، ففي أسماء الزّمان لا يعقل أن يقال بوضعها للأعم، لعدم إمكان بقائهكذلك»(1)،

انتهى.

وكذلك لا يمكن أن يقال بجواز الإطلاق على الزّمان الثّاني مجازاً، وعلى هذا فيكون اسم الزّمان خارجاً عن محلّ النّزاع. ثمّ إنّ الأقوال في حقيقة الزّمان كثيرة:

[1] فقال بعض: إنّ الزّمان كالحركة له معنيان:

أحدهما: أمر موجود في الخارج غير منقسم، وهو مطابق للحركة بمعنى التّوسّط، ويسمّى بالآن السّيّال أيضاً.

والثّاني: أمر متوهّم لاوجود له في الخارج يعني المطابق للحركة بمعنى القطع.

[2] وقال آخر: إنّ الزّمان مقدار الحركة القطعيّة، بيانه أنّ الموجود قسمان:

الأوّل: ما هو موجود بوجود مصداقه نحو وجود الإنسان وغيره من الأعيان.

والثّاني: ما هو موجود بوجود منشأ انتزاعه، ومن هذا القبيل وجود الإضافات ونحوها، فالقطعيّة موجودة بهذا المعنى. ومن هذا القبيل أيضاً جميع المهيّات والكليّات الطّبيعيّة، فوجودها بمعنى وجود منشأ انتزاعها، أعني: الأشخاص.

[3] وقال المشهور: إنّ الزّمان تجدّد الوضع الفلكي.

[4] وقد نفى رابع الزّمان مطلقاً.

[5] وقال خامس: بأنّ الزّمان هو الحركة نفسها.

[6] وقال سادس: إنّ الزّمان هو الفلك.

ص: 213


1- حاشية الكفاية 1: 86.

ويمكن حلّ الإشكال بأنّ انحصار مفهوم عام بفرد - كما في المقام - لا يوجب أن يكون وضع اللّفظ بإزاء الفرد، دون العام، وإلّا لما وقع الخلاف في ما وضع له لفظ الجلالة، مع أنّ الواجب موضوع للمفهوم العامّ، مع انحصاره فيه تباركوتعالى.

___________________

[7] وذهب سابع إلى ما لا أُحبّ ذكره. وتفصيل الحجج والجواب عنها مذكور في المنظومة في الفريدة الثّالثة(1).

{ويمكن حلّ الإشكال} المتقدّم في اسم الزّمان {بأنّ انحصار مفهوم عامّ} كاسم الزّمان في ما نحن فيه، فإنّ المقتل معناه زمان القتل وهو كلّيّ قابل الانطباق على جزء جزء من الزّمان، فانحصاره {بفرد} في الخارج، كما لو كان زمان القتل الدّقيقة الأُولى من يوم كذا {كما في المقام} فإنّ الّذي نبحث عنه هو اختصاصه بزمان معيّن {لا يوجب} ذلك الانحصار بفرد {أن يكون وضع اللّفظ بإِزاء الفرد} من الزّمان الواقع فيه القتل {دون} أن يكون اللّفظ موضوعاً بإِزاء المعنى {العام} الكلّي.

والحاصل: عدم المنافاة بين كليّة المفهوم وانحصار الوجود الخارجي في الواحد {وإلّا} فلو كان منافاة {لما وقع الخلاف} بين الأعلام {في ما وضع له لفظ الجلالة} فإنّه وقع النّزاع في أنّ لفظ (اللّه) موضوع بإِزاء الكلّي أو علم شخصي، مع أنّه ليس في الخارج إلّا فرد واحد وهو ذاته المقدّسة - جلّ وتقدّس - ولو كان منافاة بينهما وجب الاتفاق على كونه علماً شخصيّاً {مع أنّ الواجب موضوع للمفهوم العام} عند المحقّقين {مع انحصاره} أي: الواجب {فيه - تبارك وتعالى -}.

قال في التّهذيب: «المفهوم إن امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئيّ، وإلّا فكلّيّ امتنعت أفراده، أو أمكنت ولم توجد، أو وجد الواحد فقط مع إمكان الغير،أو امتناعه»(2)،

انتهى.

ص: 214


1- شرح المنظومة 2: 473.
2- الحاشية على تهذيب المنطق: 30.

ثالثها: أنّه من الواضح خروج الأفعال

___________________

وهذا صريح في عدم التّلازم بين الوضع للكلّي وإمكان الفرد فكيف بوجوده.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ قوله: «وإلّا لما وقع» وقوله: «مع أنّ الواجب» الخ جوابان، لا جواب واحد، كما زعم.

قال العلّامة القمّي(رحمة الله): «فانظر إلى الواجب حيث إنّ هذا اللّفظ معناه ذات متّصف بوجوب الوجود وهو كلّي، مع أنّ الفرد الموجود منه منحصر في اللّه - تبارك وتعالى - ، وكذلك اختلفوا في لفظ (اللّه) في أنّه علم شخص أو اسم للذّات المتّصف بجميع صفات الكمال، فعليه يكون كليّاً مع أنّ الموجود منه في الخارج فرد خاص، فمن الممكن أن يقال: إنّ لفظ (المقتل) موضوع للزّمان المتصف بالقتل حالاً أو في ما مضى، وإن لم يتحقّق في الخارج إلّا المتصف به فعلاً»(1).

هذا وأجاب الأُستاذ في الدّرس بما يرجع إلى كلام الميرزا وبيانه: أنّا نفرض يوم الجمعة مثلاً اثنى عشرة ساعةً، ونفرض أنّ قتل زيد وقع في السّاعة الأُولى منها، فحينئذٍ نقول لكلّ ساعة اعتباران: الجزئيّة والكليّة، كما أنّ لزيد وعمرو وبكر جهات جزئيّة تختصّ بكلّ فرد، وجهة جامعة كليّة، والمعروض للقتل الزّمان الكلّي ولا إشكال في بقائه، لا الجزئي الّذي لا إشكال في زواله حتّى يقال: إنّ إطلاق (المقتل) على السّاعة الثّانية من باب إطلاق العالِم الّذي هو وصف ل (زيد) على (عمرو) الجاهل.

الأفعال والمصادر

{ثالثها} أي: الثّالث من الأُمور الّتي لا بدّ من تقديمها، في بيانخروج المصادر والأفعال عن محلّ النّزاع، وفي كيفيّة دلالة الفعل على الزّمان {أنّه من الواضح} المصرّح به في كلام القوم {خروج الأفعال} من الماضي، والمضارع،

ص: 215


1- حاشية الكفاية 1: 86.

والمصادر المزيد فيها عن حريم النِّزاع؛ لكونها غيرَ جاريةٍ على الذّوات؛ ضرورةَ أنّ المصادر المزيد فيها، كالمجرّد في الدّلالة على ما يتّصف به الذّوات ويقوم بها، كما لا يخفى.

___________________

والأمر، وسائر توابع المضارع، عن محلّ النّزاع {و} كذا لا خلاف ولا إشكال في خروج {المصادر} المجرّدة، ك (ضَرْبٍ) و(دِحْراجٍ) و{المزيد فيها} ك (الإكرام) و(الاحرنجام) {عن حريم النّزاع} أمّا المصادر المجرّدة، فلعدم كونها مشتقّات على المذهب الّذي اختاره بعض محقّقي النّحويّين، إذ المصدر على المشهور مبدأ الاشتقاق، قال ابن مالك:

المصدرُ اسمُ ما سِوَى الزَّمانِ مِنْ *** مدلولي الفعل، كَأَمْنِ من أَمِنْ

بِمِثْلِهِ أو فِعِل أو وصفٍ نُصِبْ *** وكونُهُ أصلاً لهذين انْتُخِبْ(1)

وأمّا الأفعال والمصادر المزيد فيها والمصادر المجرّدة - على القول بكون الفعل أصلاً - فخروجها عن محلّ النّزاع {لكونها غيرَ جاريةٍ على الذّوات} وقد عرفت أنّ المشتقّ المبحوث عنه في المقام هو المفهوم الجاري على الذّات المنتزع عنها، بملاحظة اتّصافها بمبدأ الاشتقاق.

ثمّ علّل امتناع جريانها على الذّات بقوله: {ضرورة أنّ المصادر المزيد فيها} الّتي هي مشتقّات اصطلاحاً {ك} المصدر {المجرّد} من غير فرقٍ، فهما سواء {في الدّلالة علىما} أي: المبدأ الّذي {يتّصف به الذّوات ويقوم} ذلك المبدأ {بها} أي: بالذات {كما لا يخفى} وليست جاريةً على الذّات الّذي هو شرط كونه محلّ النّزاع، وأيّد خروج المصادر العلّامة المشكيني بوجهٍ آخَرَ، قال: «الثّاني أنّه لمّا كان مدلوله نفس المبدأ ولا جامع بينه وبين عدمه لم يعقل كونه موضوعاً للأعمّ»(2)، انتهى.

ص: 216


1- البهجة المرضية: 197.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 226.

وأنّ الأفعال إنّما تدلّ على قيام المبادئ بها قيامَ صدورٍ أو حلولٍ، أو طلب فعلها أو تركها منها على اختلافها.

___________________

هذا وجه خروج المصادر {و} أمّا خروج الأفعال فلبداهة أنّ الفعل إنّما يدلّ على قيام المبدأ أو الطّلب، وكلّما كان كذلك فهو غير جارٍ على الذّات، وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {إنّ الأفعال إنّما تدلّ على قيام المبادئ بها} أي: بالذات، فإنّ مدلول (ضرب) نسبة المبدأ - وهو الضَّرْب - إلى الفاعل وقيامه به. من غير فرق بين أن يكون {قيام صدور} ك (ضَرَبَ) {أو حلول} ك (أحمرَّ) أو انتزاع ك(ملك) أو غيرها، من سائر أنحاء القيام.

هذا كلّه في ما إذا كان الفعل خبراً، كفعلي الماضي والمضارع {أو} يدلّ الفعل في الإنشاء على {طلب فعلها} أي: الإتيان بالمبادئ، كما في الأمر، فإنّ معنى (أضْرِبْ): طلب فعل الضَّرْب {أو} يدلّ الفعل على طلب {تركها} أي: ترك المبادئ كما في النّهي، فإنّ معنى (لا تَضْرِبْ): طلب ترك الضَّرْب الّذي هو المبدأ {منها} أي: من الذّات وهو الفاعل أو التّارك {على اختلافها}.والمراد به إمّا اختلاف الأفعال التَّرْكيّة من التّنزيهي والإرشادي والتّحريمي، والفعليّة من الوجوب والاستحباب والإباحة وغيرها.

وإمّا اختلاف مبادئ الأفعال من الملكة والشّأنيّة والفعليّة وغيرها.

وإمّا اختلاف أنحاء طلب التّرك وطلب الفعل بهيئة الأمر أو النّهي او المضارع أو الاستفهام أو غيرها، والظّاهر أنّ المراد به هو اختلاف أنحاء القيام من الصّدور، والحلول، والانتزاع، ونحوها.

قال العلّامة الرّشتي(قدس سره): «وقد فهم من كلام المصنّف هذا أنّ مدلول الأفعال هي المبادئ المنسوبة إلى فواعلها نحواً من الانتساب، وليس الزّمان جزءاً من مدلولها»(1).

ص: 217


1- شرح كفاية الأصول 1: 58.

إزاحة شبهة:

قد اشتهر في ألسِنة النُّحَاة(1):

دلالةُ الفعل على الزّمان، حتّى أخذوا الاقتران بها في تعريفه.

وهو اشتباه؛ ضرورةَ عدم دلالة الأمر ولا النّهي عليه، بل

___________________

ولذا عقّبه بقوله:

دلالة الفعل على الزّمان

{إزاحةُ شُبْهَةٍ} في مدلول الفعل {قد اشتهر في ألسِنَةِ} القُدَمَاءِ من {النُّحاة} وغيرهم {دلالة الفعل على الزّمان} قال ابن مالك: «المصدر اسم...» البيت {حتّى أخذوا الاقتران بها} أي: بالأزمنة الثّلاثة {في تعريفه} وجعلوا الفرق بينه وبين الاسم بذلك.وحجّتهم على ذلك: التّبادُر حينَ الإطلاقِ، فإنّ المنصرف عند قولنا: (ضَرَبَ زيد) أنّه وقع منه الضَّرْبُ في الزّمان الماضي، وعند قولنا: (يَضْرِبُ زيد) أنّه سيقع منه أو واقع منه في الحال، وكذلك الاطّراد، فإنّه يطّرد استعمال الماضي في ما مضى، والمضارع في ما يأتي، أو متلبّس فعلاً، ولا يطّرد العكس، وكذلك النّقل، فإنّ اللّغويّين الّذين بناؤهم ذكر محض اللّغة ذكروا ذلك.

إن قلت: اللّغويّون يذكرون الحقيقة والمجاز، فلا شاهد في قولهم.

قلت: ليس كذلك، ويدلّ عليه أنّهم لا يذكرون أشهر المجازات، فإنّه لم يعهد من لغويّ أن يذكر في معنى (الأسد) الرّجل الشّجاع، مع أنّه أشهر من الشّمس وأبين من الأمس.

وقد يؤيّد هذه الدّعوى من النُّحاة بالإجماع {وهو اشتباهٌ}.

أمّا الأفعال الإنشائيّة فلا تدلّ على الحال أصلاً {ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النّهي} فضلاً عن الاستفهام وغيره {عليه} أي: على الزّمان {بل} إنّما تدلّ هذه

ص: 218


1- شرح كافية ابن الحاجب 4: 5.

على إنشاء طلب الفعل أوالتّرك، غاية الأمر نفس الإنشاء بهما في الحال، كما هو الحال في الإخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما، كما لا يخفى.

بل يمكن منع دلالة غيرهما من الأفعال على الزّمان إلّا بالإطلاق والإسناد إلى الزمانيّات،

___________________

الثّلاثة {على إنشاء طلب الفعل} في الأوّل {أو} طلب {التّرك} في الثّاني أو طلب الفهم في الثّالث.

وقد يستدلّ بأنّ هذه الثّلاثة مشتملة على مادّة وهيئة، والمادّة لا تدلّ إلّا على نفس الماهيّة، والهيئة لا تدلّ إلّا على نفس الطّلب فمن أين الزّمان؟ {غايةالأمر نفس الإنشاء} بالاستفهام و{بهما} أي: الأمر والنّهي {في} زمان {الحال} فإنّ قولنا: (أضْرِبْ) أو (لا تَضْرِبْ) أو (هل تَضْرِبُ) يقع في زمان النّطق الّذي هو الحال النّطقي، وهو ليس مقصود النّحاة {كما هو الحال} أي: الشّأن {في الإخبار} فإنّ الخبر لكونه كلاماً يقع في زمان النّطق الّذي هو الحال، من غير فرق بين أن يكون الإخبار {بالماضي} ك (ضَرَبَ زيد) {أو المستقبل} ك (يضرب زيد) {أو بغيرهما} كالجملة الاسميّة، نحو (زيد ضارب) {كما لا يخفى}.

والتّبادر، والاطّراد، ممنوعان، والإجماع حتّى من اللّغويّين غير ثابت، كيف وقد اختلف في معنى صيغة الأمر هل أنّه للفور أو التّراخي أو لا دلالة لها أصلاً على إحداهما؟

فتحصّل أنّ زمان الحال لا يكون جزءاً لمدلول الإنشاء {بل يمكن منع دلالة غيرهما} أي: غير الأمر والنّهي، وكذا غير الاستفهام {من} سائر {الأفعال} كالماضي والمضارع {على الزّمان} مطلقاً، فلا تدلّ صيغة الماضي على الزّمان الماضي، ولا صيغة المضارع على الحال أو الاستقبال، {إلّا بالإطلاق والإسناد إلى الزّمانيّات} فلو لم يطلق الفعل - بأن كانت هناك قرينة - كما سيأتي من قوله: «يجيئني زيد بعد عام وقد ضرب قبله بأيّام» أو لم يسند إلى الزّمانيّات، بل إلى

ص: 219

وإلّا لزم القول بالمجاز والتّجريد عند الإسناد إلى غيرها من نفس الزّمان والمجرّدات.

___________________

غيرها ممّا يأتي، فلا دلالة له على الزّمان أصلاً {وإلّا} يمنع دلالة الفعل علىالزّمان، بل قلنا بدلالته عليه {لزم القول بالمجاز} في الفعل {والتّجريد} عن جزء معناه الموضوع له {عند الإسناد} أي: إسناد الفعل {إلى غيرها} أي: غير الزّمانيّات {من} غير فرق بين أن يكون غير الزّماني {نفس الزمان} نحو:

مَضَى الزَّمَانُ فقُمْ يا غُلاَمُ واملَأْ جامْ لعلّنا نتلافى سوالِفَ الأَيَّامْ

فإنّه حينئذٍ يجرّد كلمة (مَضَى) من جزء معناه الّذي هو الزّمان على قول النُّحاة، وإلّا لزم كون الزّمان في الزّمان، وكذا لو كان نفس الفعل مسنداً إلى فاعل، مع التّصريح بوقوعه في الزّمان، نحو (ذهب زيد في يوم الجمعة) أو(في الأيّام الخالية).

{و} كذا يلزم التّجريد والمجاز لو أسند الفعل إلى {المجرّدات} نحو علم اللّه، فإنّه لو كان الفعل بمعنى الزّمان لزم كون المجرّد زمانيّاً، على أنّه لا يفرّق العرف بين علم اللّه وعلم زيد من هذه الجهة، مع أنّ لازم قول النُّحاة الفرق بالعناية في الأوّل دون الثّاني.

تنبيه: قوله: «المجرّدات» لم يُعْلَم بعدُ وجودُ مجرّدٍ غيرَ اللّه - سبحانه - وتمام الكلام في الكلام.

وقد يؤيّد عدم دخول الزّمان في مفهوم الفعل بقول أميرالمؤمنين(علیه السلام) في الحديث المشهور: «الاسمُ ما أَنْبَأَ عن المُسَمَّى، والفعلُ ما أَنْبَأَ عن حركةِ المُسَمَّى، والحرفُ ما أوجد معنىً في غيره»(1)، وجه الدّلالة أنّ الإنباء عن الحركة غيرُ الزّمان وإن كان ملازماً له فتدبّر، وفي المقام كلام طويلٌ تَعَرَّضَ لبعضه العلّامة

ص: 220


1- هو الحديث الّذي مرّ سابقاً وقد رواه الزّجاجيّ في أماليه عن أبي الأسود. وراجع الفصول المختارة: 91.

نعم، لا يبعد أن يكون لكلّ من الماضي والمضارع - بحسب المعنى - خصوصيّةٌ أُخرى موجبةٌ للدّلالة على وقوع النّسبة في الزّمان الماضي في الماضي، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع، في ما كان الفاعل من الزّمانيّات.

ويؤيّده: أنّ المضارع يكون مشتركاً معنويّاً بين الحال والاستقبال،

___________________

القمّيّ(1)، والسّلطان(2)، وغيرهما.

{نعم، لا يبعد أن يكون لكلٍّ من} فعلِ {الماضي، والمضارع، بحسب المعنى خصوصيّة أُخرى} غير خصوصيّة نفس المعنى الحدثي، فلفعل الماضي خصوصيّة الدّلالة على أنّ الحدث خارج من القوّة إلى الفعل، ولفعل المضارع خصوصيّة الدّلالة على أنّ الحدث لم يخرج بعد أو خارج بالفعل.

وبعبارةٍ أحسن: إنّ خصوصيّة الماضي هو التّحقّق، وخصوصيّة المضارع هو التّرقّب، وهذه الخصوصيّة {موجبة للدّلالة على وقوع النّسبة} بين الفعل والفاعل {في الزّمان الماضي في} الفعل {الماضي، و} توجب وقوع النّسبة {في} زمان {الحال، أو الاستقبال في} فعل {المضارع، في ما} لم تكن هناك قرينة شخصيّة على الخلاف، كما سيأتي من نحو (يجيء زيد بعد عام وقد ضَرَبَ قبله بأيّام) إذا {كان الفاعل من الزّمانيّات} كالأجسام، ولم يكن الفعل مقيّداً بقيد الزّمان، نحو (ذهب زيد يوم الجمعة)فتكون الدّلالة على الزّمان بهذه الشّروط من قبيل الدّلالة الالتزاميّة، لا التّضمّنيّة الّتي هي ظاهر كلام النّحويّين.

هذا، ولا يخفى أنّ هذه التّكلّفات من قبيل: الفِرار عن المطر إلى المِيْزاب، والمستجِيْرُ من الرَّمضَاءِ بالنّار {ويؤيّده} أي: يؤيّد عدم دلالة الفعل على الزّمان {أنّ المضارع} على قول النُّحاة {يكون مشتركاً معنويّاً بين الحال والاستقبال} ولهذا

ص: 221


1- حاشية الكفاية 1: 8890.
2- الحاشية على كفاية الأصول 1: 216.

ولا معنى له إلّا أن يكون له خصوص معنى صحّ انطباقه على كُلٍّ منهما، لا أنّه يدلّ على مفهومِ زمانٍ يعمّهما، كما أنّ الجملة الاسميّة ك (زيد ضارب) يكون لها معنىً صحّ انطباقه على كلّ واحدٍ من الأزمنة، مع عدم دلالتها على واحدٍ منها أصلاً، فكانت الجملة الفعليّة

___________________

يصحّ انطباقه على كليهما {ولا معنى له} أي: للاشتراك المعنوي، إذ لا جامع بين الحال والاستقبال إلّا مفهوم الزّمان، والمفروض عدم أخذهم المفهوم في معنى الفعل؛ لأنّ مرادهم مصداق الزّمان، فإنّه الّذي يقارن الحدث لا المفهوم.

مضافاً إلى أنّه لو كان معنى المضارع مفهوم الزّمان، لزم جواز إطلاقه على الماضي {إلّا أن يكون} مرادهم أنّ {له} أي: لفعل المضارع {خصوص معنىً، صحّ انطباقه على كلّ منهما} أي: من الحال والاستقبال، و{لا} يكون مرادهم {أنّه يدلّ على مفهوم زمان يعمّهما} لما تقدّم من عدم كونه ظاهر كلامهم، مع أنّه يلزم المحذور المتقدّم {كما أنّ الجملة الاسميّة ك (زيد ضارب)} بل مطلق اسم الفاعل والمفعول {يكون لهامعنىً صحّ انطباقه} أي: انطباق ذلك المعنى {على كلّ واحد من الأزمنة} الثّلاثة الماضي والحال والمستقبل، ولصحّة انطباق ذلك المعنى صحّ انطباق الجملة المشتملة عليه.

لكن يمكن أن يقال: صحّة الانطباق ليست لأجل اشتمال الجملة على خصوصيّة صحيحة الانطباق حتّى تكون كفعل المضارع، بل صحّة الانطباق في اسم الفاعل والمفعول والجملة المركّبة من أحدهما إنّما تكون لأجل كونه معنىً حدثيّاً، فهو من باب اللّابشرط، لا من باب بشرط شيءٍ، فلا يصحّ قياس المضارع - الّذي هو بشرط شيءٍ - عليه.

{مع} أنّهم اتفقوا على {عدم دلالتها} أي: الجملة الاسميّة {على واحدٍ منها} أي: من الأزمنة الثّلاثة {أصلاً} بوجه من الوجوه.

{فكانت الجملة الفعليّة} المصدّرة بالمضارع ك (يضرب زيد) أو (زيد يضرب)

ص: 222

مثلها.

وربّما يؤيّد ذلك: أنّ الزّمان الماضي في فعله، وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع لا يكون ماضياً أو مستقبلاً حقيقةً لا محالة،

___________________

بناءً على أنّ المراد من الجملة الفعليّة الجملة المشتملة على الفعل مجازاً، أو يكون إطلاق الجملة الفعليّة على المشتملة على الفعل حقيقةً، قال ابن الحاجب - على ما في المطوّل - في نحو (زيد قام، وعمرو أكرمته) ما لفظه: «إنّ المعطوف عليه في الوجهين هو جملة (زيد قام) لأنّها ذات وجهين، فالرّفع بالنّظر إلى اسميّتها، والنّصب بالنّظر إلى فعليّتها، والمعطوف عليه في الوجهين واحد، واختلاف الإعرابين باختلاف الاعتبارين، وبهذا يحصل المناسبة».ثمّ قال التّفتازاني: «ولا يخفى على المصنّف لُطْفُ هذا الوجه ودقّته، وإن ذهل عنه الجمهور وخَفِيَ على كثيرٍ من الفُحُول»(1).

{مثلها} أي: مثل الجملة الاسميّة في اشتمالها على خصوصيّة لأجلها يصحّ الانطباق على كلّ من الحال والاستقبال، ومن الواضح أنّ صحّة الانطباق حينئذٍ للفعل لا للاسم فيثبت المطلوب.

{وربّما يؤيّد ذلك} الّذي ذكرناه من اشتمال الفعل على خصوصيّة تنطبق على الزّمان التزاماً، لا كون الزّمان جزء مدلوله تضمّناً {أنّ الزمان الماضي في فعله} أي: في فعل الماضي ك (ضرب) {وزمان الحال، أو الاستقبال في} فعل {المضارع} ك (يضرب) {لا يكون} ذلك الزّمان المدلول عليه بفعل الماضي أو المضارع {ماضياً} وذاهباً قبل زمان النّطق في فعل الماضي {أو مستقبلاً} وآتياً بعد زمان النّطق أو واقعاً في زمان النّطق {حقيقة لا محالة} أي: دائماً، وهذا قيد للمنفي.

ص: 223


1- المطوّل: 271.

بل ربّما يكون في الماضي مستقبلاً حقيقة، وفي المضارع ماضياً كذلك، وإنّما يكون ماضياً أو مستقبلاً في فعلهما بالإضافة، كما يظهر من مثل قوله: (يجيئني زيد بعدَ عامٍ، وقد ضَرَبَ قبله بأيّامٍ)، وقوله: (جاء زيد في شهر كذا وهو يضرب في ذلك الوقت، أو في ما بعده في ما مضى)،

___________________

والحاصِلُ: أنّ فعل الماضي ليس زمانه قبل النّطق في جميع استعمالاته، وكذلك فعل المضارع {بل ربّما يكون} الزّمان {في} فعل {الماضي مستقبلاً} وآتياً بعد زمان النّطق {حقيقةً، و} كذلكيكون الزّمان {في} فعل {المضارع} الاصطلاحي {ماضياً كذلك} أي: حقيقة {وإنّما يكون} الزّمان {ماضياً} وذاهباً {أو مستقبلاً} وآتياً {في فعلهما} أي: فعل الماضي والمستقبل الاصطلاحي {بالإضافة} والنّسبة إلى شيء آخر، لا أن يكون الزّمان ماضياً أو مستقبلاً بالنسبة إلى زمان النّطق {كما يظهر} ذلك {من مثل قوله: (يجيئني زيد بعد عام، وقد ضرب قبله بأيّام)} فإن «ضرب» في الجملة ليس زمانه ماضياً بالنّسبة إلى حال النّطق، بل ماضٍ بالنّسبة إلى بعد عام، ومستقبل بالنّسبة إلى زمان النّطق، هذا في الفعل الماضي {وقوله: (جاء زيد في شهر كذا} قبل عام من الشّهور المنقضية {وهو يضرب في ذلك الوقت} مثال للمضارع بمعنى الحال، ومثال الاستقبال قوله: {أو} وهو يضرب {في ما بعده} أي: ما بعد وقت مجيئه. وعلى كلّ حالٍ كان الضَّرْب منه {في ما مضى)} فإنّ «يضرب» في الجملتين ليس زمانه مستقبلاً أو حالاً بالنّسبة إلى زمان النّطق، بل مستقبل أو حال بالنّسبة إلى قبل عام وماضٍ بالنّسبة إلى زمان النّطق.

قال العلّامة المشكينيّ(رحمة الله) في قوله: «ربّما يؤيّد» الخ: «وجهه أنّ مرادهم من الماضي والحال والمستقبل المأخوذة في الفعل هي الحقيقة منها، كما مرّ، فحينئذٍ يلزم التّجوّز في المثالين، وأهل المحاورة لا يلاحظون في مثلهما علاقة،

ص: 224

فتأمّل جيّداً.

ثمّ لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عمّا عداه بما يناسب المقام؛ لأجل الاطّراد في الاستطراد في تمام الأقسام:

___________________

وهذا بخلاف ما قلنا من دلالته على الزّمان من باب الإطلاق في ما أُسند إلى الزّماني، فإنّ العامل فيهما قرينة على إرادة الماضي والمستقبل الإضافيّين، فلا يجوز التّجوّز كسائر المطلقات المنصرفة - عند عدم قرينة معيّنة - إلى بعض أفرادها المستعملة في غيره بتعدّد الدّال والمدلول بقرينة معيّنة»(1).

ثمّ إنّ ذكره تأييداً لا دليلاً لاحتمال كون مرادهم من الماضي والحال والمستقبل مطلقها، لا الحقيقي منها، ولكنّه خلاف الظّاهر، فصرف الاحتمال لا يخرجه عن الدّليليّة، ولعلّه لهذا أمر بالتأمّل بقوله: {فتأمّل جيّداً} هذا تمام الكلام في دلالة الفعل على الزّمان.

امتياز الحرف عن الأمر والفعل

{ثمّ} حيث انجرّ بنا الكلام إلى هنا {لا بأس بصرف عِنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عمّا عداه} من الاسم والفعل {بما} أي: بمقدار {يناسب المقام} مع ملاحظة الاختصار، وإنّما نذكر الفرق {لأجل الاطّراد} أي: متابعة بعض الكلام بعضاً ممّا بينهما مناسبة {في الاستطراد} وسوق الكلام على وجهٍ يلزم منه كلام آخر، إذ كان المقصود بالأصالة ذكر خروج الأفعال عن عنوان النّزاع في المشتق، ثمّ استطرد ذكر الفرق بين الاسم والفعل، وأنّ الفعل يدلّ على خَصوصيّة تنطبق على الزّمان لا نفس الزمان، بخلاف الاسم، فلا خَصوصيّة فيه كذلك، ثمّ أتبع ذلك بذكر الفرق بين الحرف وغيره لِيُتِمَّ الكلامَ {في تمام الأقسام} الثّلاثة، وحيث سبق ذلك في بيان الوضع، فلا نحتاج إلى تكثير الإيضاح.

ص: 225


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 232.

فاعلم: أنّه وإن اشتهر بين الأعلام(1): أنّالحرف ما دلّ على معنىً في غيره - وقد بيّنّاه في الفوائد(2)

بما لا مزيد عليه - ،

___________________

{فاعلم أنّه وإن اشتهر بين الأعلام} من قديم الزّمان إلى هذه الأيّام {أنّ الحرف ما دلّ على معنىً في غيره} بحيث يكون وجوده آليّاً ومِرآةً لملاحظة حال الغير، حتّى أخذوا في تعريفه ذلك {وقد بيّنّاه في} كتاب {الفوائد} الّتي كتبناه في الأصول قبل الكفاية {بما لا مزيد عليه} وحيث لم يكن بيانه خالياً عن الفائدة نقلناه بلفظه قال:

«ثمّ لا بأس بصرف عِنان الكلام إلى بيان معنى الحرف في المقام استطراداً، كسائر الأقسام، ولنمهّد لذلك مقدّمة وهي: أنّ الموجود الخارجي كما أنّه تارةً يكون موجوداً في نفسه - سواء كان نفسه أو لا - كالواجب - تعالى - والجواهر، وأُخرى يكون موجوداً في غيره، كما في الأعراض، كذلك المتصوّر والموجود الذّهني: فتارةً يكون موجوداً فيه في نفسه، ومتصوّراً على استقلاله ومدركاً بحِياله، وأُخرى يكون موجوداً في غيره، ومتصوّراً بتبعيّته، ومدركاً على أنّه من خصوصيّاته وأحواله.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القسم الأوّل من الذّهني هو المعنى الاسمي المدلول عليه بالأسماء مطلقاً، مطابقة أو تضمّناً أو التزاماً، والأفعال تضمّناً.

والقسم الثّاني هو المعنى الحرفي المدلول عليه بالحروف مطابقة، والأفعال وبعض الأسماء تضمّناً، وهذا معنى أنّ الحرف يدلّ على معنى في غيره، أي: في معنىً آخر يكون قائماً به ومتصوّراً بتبعه، لا أنّه يدلّ على معنىً يكون لغير لفظه،بل للفظٍ آخَرَ كي لا يكون له معنىً، بل مجرّد علامة على دلالة الغير على معناه

ص: 226


1- شرح كافية ابن الحاجب 1: 7.
2- فوائد الأصول : 66.

إلّا أنّك عرفت في ما تقدّم عدم الفرق بينه وبين الاسم بحسب المعنى، وأنه فيهما ما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهوميّة، ولا عدم الاستقلال بها.

وإنّما الفرق هو أنّه وُضِعَ ليُستعمل وأُريد منه معناه حالةً لغيره، وبما هو

___________________

بخصوصيّاته المتقوّمة به الغير المستقلّة بالمفهوميّة - كما توهّم ذلك من كلام بعض المحقّقين - .

والحاصل: أنّ الدّلالة على المعاني الخاصّة في الخصوصيّات الغير المستقلّة بالمفهوميّة بِدَالّينِ، فيكون من باب تعدّد الدّال والمدلول، لا من وحدة الدّال وتعدّده، كيف وهو يستلزم الالتزام بالمجاز في الألفاظ المتعلّقات لو التزم باستعمالها في المعاني الخاصّة بهذه الخَصوصيّات، بداهة عدم وضعها لها، وهو بعيد لا أظنّ أن يلتزم به أحد، وإرادة الخَصوصيّات بلا دلالة لفظٍ عليه، وهو أبعد، ودلالة الحرف عليها لا يكون إلّا من باب تعدّد الدّال والمدلول وهو عين المأمول.

نعم، فرق بين الحرف وغيره، حيث إنّه لا يدلّ على معنى تحت لفظه، بل على ما تحت المتعلّقات، لما عرفت مِن أنّ معناه يكون هو الخصوصيّة المتقوّمة بغيره المتصوّرة بتبعه، فافهم واستقم»(1).

{إلّا أنّك عرفت في ما تقدّم} في الأمر الثّاني في بيان الوضع {عدم الفرق بينه} أي: بين الحرف {وبين الاسم بحسب المعنى} وإن كان بينهما فرق ما بحسب اللّفظ، حيث إنّ غالبوضع الحروف على الحرف الواحد والاثنين - كما قالوا - {وأنه} أي: المعنى {فيهما} في الاسم والحرف {ما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهوميّة} كما ادُّعِيَ في الاسم {ولا عدم الاستقلال بها} أي: بالمفهوميّة كما ادّعي في الحرف، بل المعنى في كليهما واحد {وإنّما الفرق} بينهما {هو أنّه} أي: الحرف {وضع ليستعمل وأُريد منه معناه حالةً لغيره، وبما هو} أي: المعنى

ص: 227


1- فوائد الأصول: 65.

في الغير، ووُضِعَ غيره ليستعمل وأُريد منه معناه بما هو هو.

وعليه، يكون كلّ من الاستقلال بالمفهوميّة وعدم الاستقلال بها إنّما اعتبر في جانب الاستعمال، لا في المستعمل فيه، ليكون بينهما تفاوتٌ بحسب المعنى، فلفظ (الابتداء) لو استعمل في المعنى الآليّ، ولفظة (من) في المعنى الاستقلالي، لما كان مجازاً واستعمالاً له في غير ما وُضِعَ له، وإن كان بغير ما وضع له.

___________________

{في الغير، ووضع غيره} أي: غير الحرف من الاسم والفعل {ليستعمل وأُريد منه معناه} استقلالاً {بما هو هو} وفي نفسه.

{وعليه} أي: على ما ذكرنا {يكون كلّ} واحد {من الاستقلال بالمفهوميّة} الماخوذ في الاسم والفعل {وعدم الاستقلال بها} أي: بالمفهوميّة المأخوذ في الحرف {إنّما اعتبر في جانب الاستعمال} بناءً على شرط الواضع {لا} أنّهما اعتبرا {في المستعمل فيه} ومعنى اللّفظ الموضوع له{ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى} كما يقوله النُّحاة.

والحاصل: أنّ الأسماء كافّة غير الأعلام، وكذلك الحروف موضوعات بالوضع والموضوع له العامّين للكلّيات الطّبيعيّة، من دون أن يكون اللّحاظ - سواء كان آليّاً أو استقلاليّاً - جزءاً أو قيداً للمعنى {فلفظ (الابتداء)} الّذي هو اسم {لو استعمل في المعنى} الإضافي {الآلي} المفيد لصرف الرّبط فقيل: (سرت ابتداء البصرة) مكان (سرت من البصرة).

{و} كذا لو استعمل {لفظة (من) في المعنى الاستقلالي} فقيل: (من) خير من (إلى)، مكان (الابتداء خير من الانتهاء) {لما كان} كلّ واحد من هذين الاستعمالين {مجازاً واستعمالاً له} أي: للّفظ {في غير ما وضع له} إذ الفرض تساوي الموضوع له فيهما {وإن كان} هذا الاستعمال {بغير ما} أي: بغير النّحو الّذي {وضع له} اللّفظ؛ لأنّه قد تقدّم اشتراط الواضع أن يستعمل الحروف في

ص: 228

فالمعنى في كليهما في نفسه كلّيٌّ طبيعيٌّ يصدق على كثيرين، ومقيّداً باللّحاظ الاستقلاليّ أو الآليّ كلّيٌّ عقليٌّ، وإن كان بملاحظة أنّ لِحَاظَهُ وجودُهُ ذهناً كان جزئيّاً ذهنيّاً؛

___________________

الآليّة والأسماء في الاستقلاليّة {فالمعنى} الموضوع له {في كليهما} أي: الاسم والحرف {في نفسه كلّيّ طبيعيّ} أي: نفس الطّبيعة المعروضة للكليّة بما هي طبيعة من دون نظر إلى عارضها {يصدق على كثيرين} كما هو شأن الكلّي {و} إذا لوحظ هذا المعنى الكلّي الطّبيعي في الذّهن - بأن صار موجوداً بالوجود الذّهني - سواء كان{مقيّداً} في الذّهن {باللحاظ الاستقلالي} بأن أُريد الاسم {أو} كان مقيّداً في الذّهن باللّحاظ {الآلي} - بأن أُريد الحرف - فهو {كلّيّ عقلي} أي: أمر كلّيّ مقيّد بأمر ذهني.

ولا يخفى أنّ تسمية الكلّيّ الطّبيعيّ المقيّد بأمر ذهنيّ كليّاً عقليّاً خلاف اصطلاح أهل الميزان.

قال في التّهذيب: «مفهوم الكلّي يسمّى كليّاً منطقيّاً ومعروضه طبيعيّاً والمجموع عقليّاً»(1)،

انتهى.

مثلاً: لو قلنا إنّ الإنسان كلّيّ كان موضوع هذه القضيّة الكلّي الطّبيعي ومحمولها الكلّي المنطقي ومجموع الموضوع والمحمول الكلّي العقلي. وكيف كان فالمعنى الاسمي والحرفي في نفسه كلّيّ طبيعي، وبملاحظة تقيّده بالآليّة والاستقلاليّة كلّيّ عقليّ {وإن كان بملاحظة أنّ لحاظه} عبارة عن {وجوده ذهناً} المستلزم لتشخّصه، إذ الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد لا في الخارج ولا في الذّهن، فبهذا الاعتبار {كان} المعنى الملحوظ {جزئيّاً ذهنيّاً}.

وإن شئت قلت: المعنى الطّبيعي إذا جاء في الذّهن فله اعتباران: الأوّل، اعتبار كونه كليّاً مقيّداً بأمر ذهنيّ ويسمّى حينئذٍ كليّاً عقليّاً، الثّاني: اعتبار كونه موجوداً ذهناً

ص: 229


1- الحاشية على تهذيب المنطق: 48.

فإنّ الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد، وإن كان بالوجود الذّهني.

فافهم وتأمّل في ما وقع في المقام من الأعلام من الخلط والاشتباه، وتَوَهُّمِ كون الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف خاصّاً، بخلاف ما عداه، فإنّه عامّ.وليت شعري، إن كان قصد الآليّة فيها موجباً لكون المعنى جزئيّاً، فلِمَ لا يكون قصد الاستقلاليّة فيه موجباً له؟

___________________

ويسمّى حينئذٍ جزئيّاً ذهنيّاً {فإنّ} هذا الاعتبار لو ضمّ بقاعدة {الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد، وإن كان} ذلك {بالوجود الذّهني} أنتج الجزئيّة الذهنيّة، والفرق بين الاعتبارين ما أشار إليه العلّامة المشكيني(رحمة الله) بقوله: «ثمّ إنّ التّقييد باللحاظ معتبر في كون المعنى كليّاً عقليّاً، لا في كونه جزئيّاً ذهنيّاً؛ لأنّه يكفي فيه حصوله في الذّهن، سواء قيّد باللّحاظ أو لا، كما علم من الأمر الثّالث»(1)،

وهو ما ذكره قبلاً بقوله: «الثّالث: إنّ كلّ ما دخل في حيّز الوجود لا بدّ أن يكون جزئيّاً سواء وجد في الخارج أو الذّهن»، الخ.

{فافهم وتأمّل في ما وقع من المقام من الأعلام} قدّس اللّه أسرارهم {من الخلط والاشتباه}

بين ما يتولّد من الاستعمال وما هو من مقوّمات الموضوع له {وتوهّم كون الموضوع له} كما عن المحقّق الشّريف {أو المستعمل فيه} كما عن التّفتازانيّ {في الحروف} وما أُلحق بها {خاصّاً، بخلاف ما عداه} من سائر الأسماء غير الأعلام {فإنّه عامّ} وأمّا الأعلام فإنّها موضوعات للجزئيّات الطّبيعيّة، فالوضع والموضوع له والمستعمل فيه فيها خاصّة، من دون أن يكون اللّحاظ جزءاً من المعنى أو قيداً له.

هذا، ثمّ أشار المصنّف(رحمة الله) إلى وجه كون المعنى الاسمي وعدم دخل الآليّة والاستقلاليّة في المعنى بقوله: {وليت شعري، إن كان قصد الآليّة فيها} أي: في الحروف {موجباً لكونالمعنى جزئيّاً} وخاصّاً حتّى يوجب خصوص المستعمل فيه أو الموضوع له {فلم لا يكون قصد الاستقلاليّة فيه} أي: في غير الحرف {موجباً له}

ص: 230


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 235.

وهل يكون ذلك إلّا لكون هذا القصد ليس ممّا يعتبر في الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل في الاستعمال؟ فلم لا يكون فيها كذلك؟ كيف؟ وإلّا لزم أن يكون معاني المتعلّقات غير منطبقة على الجزئيّات الخارجيّة؛ لكونها - على هذا - كليّاتٍ عقليّةً، والكلّيّ العقليّ لا موطن له إلّا الذّهن، فالسّيرُ والبَصْرَةُ والكوفةُ في: (سِرْتُ من البصرةِ إلى الكوفة) لا تكاد تصدق على السّير والبصرة والكوفة، لِتَقَيُّدِها بما اعتُبِرَ فيه القَصْدُ،

___________________

أي: لكون المعنى جزئيّاً {وهل يكون ذلك} أي: عدم كون قصد الاستقلاليّة موجباً لجزئيّة المعنى {إلّا لكون هذا القصد} في الاسم {ليس ممّا يعتبر في الموضوع له، ولا} في {المستعمل فيه، بل} هذا القصد معتبر {في الاستعمال} وممّا يتولّد منه {فلم لا يكون} قصد الآليّة {فيها} أي: في الحروف {كذلك} غير مربوط بالموضوع له والمستعمل فيه، بل من ولائد الاستعمال و{كيف} لا يكون قصد الآليّة خارجاً عن المعنى الحرفي؟ {وإلّا} فلو كان اللّحاظ داخلاً {لزم أن يكون معاني المتعلّقات} للحروف {غير منطبقة على الجزئيّات الخارجيّة} وذلك بمقدّمتين:

الأُولى: أنّ اللّحاظ قيد للمعنى الحرفي، والمعنى الحرفي قيد للمعنى الاسمي وقيد القيد قيد، فاللحاظ قيد للمعنى الاسمي.الثّانية: إنّ المعنى الاسمي مقيّد بالأمر الذّهني، وكلّما كان مقيّداً بالأمر الذّهني كان ذهنيّاً، فالمعنى الاسمي ذهنيّ، ومن البديهي أنّ الأُمور الذّهنيّة غير منطبقة على الخارجيّات {لكونها} أي: معاني المتعلّقات {على هذا} الّذي ذكرناه من تقيّدها بالذهن {كليّات عقليّة} أي: أُمور عقليّة كما سبق - لا كلّيّ عقليّ اصطلاحي - .

{والكلّي العقلي لا موطن له إلّا الذّهن} ولا يعقل وجوده في الخارج {فالسّير والبصرة والكوفة في} مثال {(سرت من البصرة إلى الكوفة) لا تكاد تصدق على السّير، والبصرة، والكوفة} الخارجيّات {لتقيّدها} أي: تقيّد هذه الثّلاثة {بما} أي: بحرف وهو (من) و(إلى) {اعتبر فيه القصد} واللّحاظ حسب الفرض، ف (من)

ص: 231

فتصير عقليّة، فيستحيل انطباقُهَا على الأُمور الخارجيّة.

وبما حقّقناه يوفّق بين جزئيّة المعنى الحرفي - بل الاسمي - والصِّدْقِ على الكثيرين، وأنّ الجزئيّة باعتبار تقيّد المعنى باللّحاظ في موارد الاستعمالات - آليّاً أو استقلاليّاً - ، والكليّة بلحاظ نفس المعنى.

___________________

و(إلى) عقليّان لتقيّدهما باللّحاظ {ف} لو قيّد السّير والبصرة والكوفة بهما {تصير عقليّة} إذ المقيّد بالمقيّد، باللّحاظ، مقيّد به - كما تقدّم - {فيستحيل انطباقها} أي: الثّلاثة {على الأُمور الخارجيّة} وعليه يلزم مفسدتان:

الأُولى: كون الأخبار المشتملة على الحروف غير حاكية عن الخارج، وهوخلاف الضّرورة.

الثّانية: عدم إمكان الامتثال في الأوامر والنّواهي المشتملة على الحروف، وهو مقطوع البطلان - كما تقدّم مفصّلاً في الوضع - .

ثمّ إنّه لمّا كان هنا مَظِنَّةُ إيرادٍ - وهو التّنافي بين كون معاني الحروف جزئيّة ذهنيّة وكونها كليّات طبيعيّة الموجبة للصّدق على الكثيرين - أشار إلى دفعه بقوله: {وبما حقّقناه} من كون الموضوع له في الحروف نفس الطّبيعة والجزئيّة عارضة لها من قبل الاستعمال، لاحتياجه إلى اللّحاظ الذّهني {يوفّق بين جزئيّة المعنى الحرفي، بل} جزئيّة المعنى {الاسمي} أيضاً {و} بين {الصّدق على الكثيرين} المقابل للجزئي، إذ المفهوم إن امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئيّ وإلّا فكلّيّ {و} ذلك لما ظهر من {أنّ الجزئيّة} عارضة {باعتبار تقيّد المعنى} الكلّي الّذي هو الموضوع له {باللّحاظ} الذّهني {في موارد الاستعمالات} سواء كان لحاظه {آليّاً} كما في الحروف {أو استقلاليّاً} كما في الأسماء {والكليّة} عطف على الجزئيّة و{بلحاظ نفس المعنى} من غير فرق بين الاسم والحرف. والحاصل: أنّ جزئيّة المعنى عارضيّة وكليّته ذاتيّة.

ص: 232

ومنه ظهر عدم اختصاص الإشكال والدّفع بالحرف، بل يعمّ غيرَه. فتأمّل في المقام، فإنّه دقيق ومزالّ الأقدام للأعلام، وقد سبق في بعض الأُمور بعض الكلام، والإعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة والإفادة، فافهم.

رابعها:

___________________

وأُبدل قوله: «وبما حقّقناه» إلى قوله: «ومنه ظهر» في نسخة أُخرى بهذهالعبارة: «ثمّ إنّه قد انقدح بما ذكرنا أنّ المعنى - بما هو معنى اسمي وملحوظ استقلالي، أو بما هو معنى حرفي وملحوظ آليّ - كلّيّ عقليّ في غير الأعلام الشّخصيّة، وفيها جزئي كذلك، وبما هو هو - أي: بلا أحد اللّحاظين - كلّيّ طبيعيّ، أو جزئيّ خارجيّ، وبه يوفق...»(1)،

قوله: «أو جزئيّ خارجي» أي: في الأعلام الشّخصيّة.

{ومنه} أي: ممّا حقّقناه {ظهر عدم اختصاص} هذا {الإشكال} السّابق من التّنافي بين كليّة المعنى وجزئيّته {والدّفع} الّذي ذكرناه من كون الكليّة ذاتيّة والجزئيّة عارضيّة {بالحرف} فقط {بل يعمّ غيره} أي: الاسم {فتأمّل في المقام فإنّه دقيق ومزالّ} جمع مزلّة وهي موضع الزَّلَل، أي: هنا تزِلّ {الأقدام للأعلام، وقد سبق في بعض الأُمور} وهو الأمر الثّاني {بعض الكلام} في الفرق بين الاسم والحرف {والإعادة مع ذلك} الّذي سبق {لما فيها} أي: في الإعادة {من الفائدة والإفادة} وهي بيان الإشكال والدّفع الّذي أشار إليه في بحث الوضع بقوله: «ولذا التجأ بعض الفحول» الخ {فافهم} ذلك واحفظه. وإن شئت زيادة التّوضيح فراجع كتاب الفوائد للمصنّف(رحمة الله)، فإنّه أوضح هناك الإشكال والدّفع.

اختلاف مبادئ المشتقّات

{رابعها} أي: الرّابع من الأُمور الّتي ينبغي تقديمها على البحث في بيان دفع ما

ص: 233


1- حقائق الأصول 1: 106.

أنّ اختلاف المشتقّات في المبادئ - وكون المبدأ في بعضها حِرْفةً وصِناعةً، وفيبعضها قُوَّةً ومَلَكةً، وفي بعضها فعليّاً - لا يوجب اختلافاً في دلالتها بحسب الهيئة أصلاً، ولا تفاوتاً في الجهة المبحوث عنها، كما لا يخفى.

غاية الأمر أنّه يختلف التّلبّس به في المضيّ أو الحال، فيكون التّلبّس به فعلاً لو أُخِذَ حِرْفةً أو مَلَكةً، ولو لم يتلبّس به إلى الحال أو انقضى عنه، ويكون ممّا مضى أو يأتي لو أُخِذَ

___________________

ربّما يتوهّم من كون بعض المشتقّات حقيقةً في الأعمّ اتفاقاً، نظير الكاتب والمثمر والمجتهد. لا يخفى {أنّ اختلاف المشتقّات في المبادئ} الّتي هي مادّة المشتقّات {وكون المبدأ في بعضها حرفةً} كالبقّال {وصِناعةً} كالنّجّار {وفي بعضها قوّة} كالكاتب بالقوّة للإنسان ولو كان أُمّيّاً {وملكة} كالمجتهد والشّاعر {وفي بعضها فعليّاً} كالحيّ {لا يوجب} أي: اختلاف المواد {اختلافاً في دلالتها} أي: دلالة المشتقّات {بحسب الهيئة أصلاً} كما عن صاحب الفصول والفاضل التوني رحمهما اللّه {و} كذا {لا} يوجب ذلك {تفاوتاً في الجهة المبحوث عنها} الّتي هي كيفيّة دلالة الهيئة، وأنّها أعمّ من المتلبّس أم لا {كما لا يخفى} على المتأمّل.

{غاية الأمر أنّه يختلف التّلبّس به} أي: بالمبدأ {في المُضِي، أو الحال} بسبب اختلاف أوضاع المبادئ {فيكون التّلبّس به} أي: بالمبدأ {فعلاً} ولو لم يكن مشتغلاً بالمبدأ {لو أخذ} المبدأ {حِرْفةً أو ملكةً} فالمجتهد والبقّال متلبّسان بالمبدأ حتّى في حال النّوم، إذ ليس المراد بالبقّال بائع البَقْلِ فعلاً، ولابالمجتهد الكادح في الاستنباط حالاً، بل مَنْ حرفتُهُ بيعُ البَقْلِ ومن له قوّة الاستنباط، ومن البديهي تلبّس النّائم بهما، بل {ولو لم يتلبّس به} أي: بالاجتهاد والبيع {إلى الحال} أي: حال الإسناد {أو انقضى} المبدأ الفعلي {عنه} أي: عن ذي الملكة والحرفة بأن باع واجتهد في الزّمان السّابق {ويكون} عطف على «فيكون التّلبّس به» أي: يكون التّلبّس غير فعليّ، بل {ممّا مضى أو يأتي لو أخذ} المبدأ

ص: 234

فعليّاً، فلا يتفاوت فيها أنحاء التّلبّسات وأنواع التعلّقات، كما أشرنا إليه.

خامسها: أنّ المراد بالحال - في عنوان المسألة - هو حال التّلبّس،

___________________

{فعليّاً} ك (الضّارب) فإنّه غير متلبّس بالضَّرْب حال النّطق لو انقضى عنه الضَّرْب، أي: لم يضرب بعد {فلا يتفاوت فيها} أي: في الجهة المبحوث عنها وهي دلالة الهيئة {أنحاء التّلبّسات وأنواع التعلّقات، كما أشرنا إليه} في الأمر الأوّل، وقد تقدّم منّا هناك عند قوله: «واختلاف أنحاء التّلبّسات» ما يوضح المطلب.

قال المصنّف في الفوائد: «رابعها: أنّه ليس اختلاف المشتقّات في الدّلالة على التّلبّس بالمبدأ فعلاً تارةً، واستعداداً أو قوّةً أُخرى بحسب الهيئة، بل من حيث المادّة حيث يراد منها تارةً فعليّة المبدأ، وأُخرى قوّتُهُ واستعدادُهُ، فيراد من الكتابة في الكاتب تارةً فعليّتها، وأُخرى صنعتها وحرفتها، فلا يكون ذلك موجباً لاختلاف الهيئة بحسب الدّلالة أصلاً - كما لا يخفى - .

ومن هنا انقدح أنّ الأوصاف المأخوذة من المبادئ الّتي تكون حرفة وصنعة أو استعداداً وقوّة، كما هو الحال غالباً في أسامي الآلات وأحياناً في أسامي الأزمنةوالأمكنة حالها حال سائر الأوصاف الجارية على الذّوات في الدّلالة على التّلبّس بالمبدأ على أنحائه المختلفة - كما مرّت إليه الإشارة - .

وبالجملة اختلاف المشتقّات من حيث المبادئ أو أنحاء التّلبّسات لا يوجب تفاوتاً في الجهة المبحوث عنها فيها هاهنا، كما لا يخفى»(1).

المراد بالحال

{خامسها} أي: الخامس من الأمور الّتي ينبغي تقديمها على البحث في بيان المراد من لفظ الحال في قولهم: «إنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس بالمبدأ في الحال» فنقول: {إنّ المراد بالحال في عنوان المسألة} كما تقدّم {هو حال التّلبّس} والمراد به حال

ص: 235


1- فوائد الأصول: 68.

لا حال النّطق؛ ضرورةَ أنّ مثل: (كان زيدٌ ضارِباً أَمْسِ)،

___________________

النّسبة والجَرْي {لا} أنّ المراد بالحال {حال النّطق} - كما توهّم بعض - .

بيان ذلك - كما في حواشي بعض الأعلام - : «إذا قيل: (زيد عالم) فهناك أحوال ثلاثة: حال النّطق، وحال التّلبّس، أعني: تلبّس زيد بالعلم، وحال الجَرْي، وهو حال النّسبة الإيقاعيّة»(1)،

انتهى.

وتوضيحه: أنّ حال النّطق عبارة عن الزّمان الّذي يتفوّه الإنسان بقول: (زيد عالم) وهو الزّمان المتوسّط بين الزّمان الماضي وبين الزّمان المستقبل، وحال التّلبّس عبارة عن الوقت الّذي كان زيد متلبّساً بلباس العلم ومقترناً معه، وحال الجَرْي والنّسبة عبارة عن الوقت الّذي أراد المتكلّم جري العلم على (زيد) فيذلك الوقت.

مثلاً: لو كان زيد عالماً يوم الخميس، ثمّ قال المتكلّم في يوم السّبت: (زيد عالم أمس) فحال النُّطْق يوم السّبت، وحال الجَرْي يوم الجمعة، إذ أجرى المتكلّم العلم على زيد فيه بقرينة قوله: (أمس) وحال التّلبّس يوم الخميس إذا كان زيد متلبّساً بلباس العلم فيه.

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا أجرى المتكلّم العلم على (زيد) في يوم الخميس فهو حقيقة اتفاقاً، وإذا أجراه عليه في يوم الأربعاء فهو مجاز اتفاقاً، وإذا أجراه عليه في يوم الجمعة فهو مختلف فيه(2){ضرورة أنّ مثل: (كان زيد ضارباً أمس)} إذا كان

ص: 236


1- حقائق الأصول 1: 107.
2- لا يخفى أنّ الحال في اصطلاح النُّحاة أيضاً غير الحال بمعنى الزّمان كما صرّح به جملة منهم. نعم، زعم السّخاوي - كما في المطوّل - اتحادهما، قال: «إنّك إذا قلت: (جئت وقد كتب زيد) فلا يجوز أن يكون حالاً إن كانت الكتابة قد انقضت، ويجوز أن يكون حالاً إذا شرع في الكتابة وقد قضى منها جزء إلّا أنّه متلبّس بها مستديم لها، فالانقضاء جزء منها جيء بالماضي ولتلبّسه بها ودوامه عليها صحّ أن يكون لفظ الماضي حالاً لاتّصاله بالحال»، انتهى. المطوّل: 271.

أو (سيكون غداً ضارباً) حقيقةٌ إذا كان متلبّساً بالضّرب في الأمس في المثال الأوّل، ومتلبّساً به في الغد في الثّاني، فجَرْيُ المشتقّ حيث كان بلحاظ حال التّلبّس - وإن مضى زمانه في أحدهما، ولم يأت بعدُ في الآخر - كان حقيقة بلا خلاف.

ولا ينافيه الاتّفاق على أنّ مثل: (زيد ضارب غداً) مجازٌ؛ فإنّ الظّاهر أنّه في ما إذا

___________________

متلبّساً بالضّرب فيه {أو (سيكون} زيد {غداً ضارباً)} إذا كان متلبّساً بالضَّرْب فيه {حقيقةٌ} لا مجاز {إذا كان} زيد {متلبّساًبالضَّرْب في الأمس في المثال الأوّل ومتلبّساً به} أي: بالضّرب {في الغد في} المثال {الثّاني} مع أنّه لو كان المعيار زمان النُّطْق لزم كون المثالين مجازاً، لعدم تلبّس زيد بلباس الضَّرْبِ في حال النُّطْقِ، وأمّا حيث كان المِعْيَارُ زمان الجري والمتكلّم أجرى الضَّرْبَ عليه في زمان تلبّسه الحقيقي كانا حقيقة {فجرى المشتقّ حيث كان بلحاظ حال التّلبّس} بأن أجرى المتكلّم المشتقّ على الذّات بحيث كان الجري في زمان التّلبّس {وإن مضى زمانه} أي: زمان التّلبّس {في أحدهما} أي: في أحد المثالين، وهو الأوّل {ولم يأت} زمان التّلبّس {بعد في} المثال {الآخر كان} المشتق {حقيقة} عند الكلّ {بلا خلاف} ولا إشكال {ولا} يخفى أنّ عدم الخلاف هنا ينافي ما تقدّم من البعض من كون المراد بالحال حال النّطق.

إن قلت: ما ذكرتم من عدم الخلاف في كون المثالين حقيقة {ينافيه الاتفاق} الّذي ادّعى {على أنّ مثل: (زيد ضارِبٌ غداً)} ليس بحقيقة، بل هو {مجاز}.

قلت: أوّلاً لا نسلّم الاتفاق المذكور، بل ادّعى بعض أنّ مستند هذا الإجماع توهّم أنّ المراد من الحال حال النّطق، وثانياً لا تنافي بين كون المثال حقيقة باعتبار ومجازاً باعتبار آخر {فإنّ الظّاهر أنّه} أي: الاتّفاق على كون المثال مجازاً {في ما إذا} تخلّف التّلبّس عن الجري - بأن يكون التّلبّس في الاستقبال -

ص: 237

كان الجَرْيُ في الحال - كما هو قضيّة الإطلاق - ، والغد إنّما يكون لبيان زمان التّلبّس، فيكون الجَرْيُ والاتّصافُ في الحال، والتّلبّسُ في الاستقبال.

ومن هنا ظهر الحال في مثل: (زَيْدٌ ضارِبٌ أَمْسِ) وأنّه داخل في محلّ الخلاف والإشكال.ولو كانت لفظة (أمس) أو (غد) قرينةً على تعيين زمان

___________________

و{كان الجري في الحال} بأن أجرى المتكلّم المشتقّ على الذّات فعلاً في زمان النّطق {كما هو} أي: كون الجري في الحال {قضيّة} ظاهر {الإطلاق} فإنّ من يقول: (زيد ضارب) يطلق الضّاربيّة على (زيد) في الحال {و} كلمة {(الغد) إنّما يكون لبيان زمان التّلبّس} لا الجري {فيكون الجَرْي والاتّصاف} بصفة الضّاربيّة {في الحال} بحكم الإطلاق {و} يكون {التّلبّس} بها {في الاستقبال}.

فمحصّل الجواب: أنّ (زيد ضارب غداً) يمكن فيه اعتباران:

الأوّل: أن يكون الجري في الحال، و(غداً) قرينة لوقت التّلبّس.

الثّاني: أن يكون الجري في الاستقبال، و(غداً) قرينة لوقت الجري، فعلى الأوّل يكون المشتق مجازاً، وعلى الثّاني يكون حقيقةً. فمراد القوم من المجازيّة هو التّقدير الأوّل، ومرادنا هو التّقدير الثّاني.

{ومن هنا} ارتفع المنافاة من البين و{ظهر الحال في} ما إذا كان المشتق جارياً على من تلبّس بالمبدأ في الزّمان السّابق {مثل: (زيد ضارب أمس) و} ظهر {أنّه داخل في محلّ الخلاف} بين الأعمّيّ وغيره، إذ قد يكون (أمس) قرينةً للتلبّس مع أنّ الجَرْي في الحال. وقد يكون قرينةً للجَرْي، فعلى الأوّل يكون محلّاً للخلافِ {والإشكالِ} فالأعمّيّ يراه حقيقةً، ومن يشترط التّلبّس الفعلي يراه مجازاً، وعلى الثّاني يكون حقيقةً بقولٍ واحدٍ.

{و} حاصل الكلام في المثالين: أنّه {لو كانت لفظة (أمس) أو (غد) قرينة على تعيين زمان} التّلبّس، يكونالأوّل مختلفاً فيه، والثّاني مجازاً، ولو كانت قرينة على

ص: 238

النّسبة والجَرْيِ أيضاً كان المثالان حقيقةً.

وبالجملة: لا ينبغي الإشكالُ في كون المشتق حقيقةً في ما إذا جرى على الذّات بلحاظ حال التّلبّس، ولو كان في المُضِيّ أو الاستقبال. وإنّما الخِلاف في كونه حقيقةً في خصوصه، أو في ما يعمّ ما إذا جرى عليها في الحال، بعد ما انقضى عنها التّلبّس، بعد الفراغ عن كونه مجازاً في ما إذا جرى عليها فعلاً بلحاظ حال التّلبّس في الاستقبال.

___________________

تعيين زمان {النّسبة والجَرْي أيضاً} كما يعيّن زمان التّلبّس {كان المثالان حقيقة} بالاتفاق، لاتحاد زمان الجري والتّلبّس الّذي كان معياراً لكون المشتقّ حقيقةً.

{وبالجملة} الأقسام أربعة: إذ كلّ واحد من لفظي (أمس) و(غد) إمّا أن يكون قرينة لحال الجري، وإمّا أن يكون قرينة لحال التّلبّس {لا ينبغي الإشكال في كون المشتقّ حقيقةً في} اثنين منها، وهما {ما إذا جرى} المشتقّ {على الذّات بلحاظ حال التّلبّس} بأن يكون لفظ (أمس) و(غد) قرينتين على الجري والتّلبّس معاً.

{ولو كان} التّلبّس {في المضي} كما في الأوّل {أو الاستقبال} كما في الثّاني {وإنّما الخلاف في كونه} أي: المشتق {حقيقة في خصوصه} أي: خصوص التّلبّس بالمبدأ {أو في ما يعمّ} المتلبّس والمنقضي في القسم الثّالث، وهو {ما إذا جرى} المشتقّ {عليها} أي: على الذّات {في الحال بعد ما انقضى عنها} أي: عن الذّات {التّلبّس} بالمبدأ،كما لو قال: (زيد ضارب أمس) فأجرى (الضّارب) على (زيد) في الحال، وجعل (أمس) قرينة لوقت التّلبّس {بعد الفراغ} أي: أنّ الخلاف في القسم الثّالث بعد الفراغ {عن} القسم الرّابع والحكم فيه ب {كونه} أي: المشتق {مجازاً في ما إذا جرى عليها} أي: على الذّات {فعلاً بلحاظ حال التّلبّس} الّذي يأتي {في الاستقبال} كما لو قال: (زيد ضارب غداً) فأجرى (الضّارب) على (زيد) في الحال، وجعل (غداً) قرينة لوقت التّلبّس، فالصورتان الأُوْلَيَانِ حقيقة قطعاً، والصّورة الرّابعة مجاز قطعاً، والصّورة الثّالثة مختلف فيها.

ص: 239

ويُؤَيِّدُ ذلك: اتّفاقُ أهلِ العربيّة على عدم دلالة الاسم على الزّمان، ومنه الصّفات الجارية على الذّوات.

ولا ينافيه اشتراط العمل في بعضها بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال؛

___________________

{ويؤيّد ذلك} أي: كون المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التّلبّس، لا حال النّطق {اتّفاقُ أهلِ العربيّة على عدم دلالة الاسم على الزّمان} حتّى أخذوا ذلك في تعريفه فقالوا: «الاسم ما دلّ على معنى مستقلّ في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثّلاثة» {ومنه} أي: ومن الاسم {الصّفات الجارية على الذّوات} كاسم الفاعل، والمفعول، والصّفة المشبّهة، وصورة القياس هكذا: الصّفاتُ الجارِيةُ اسم، والاسم لا يدلّ على الزّمان، فهي لا تدلّ عليه.

وجه التّأييد: أنّ مرادهم بالزّمان هو الماضي والمستقبل والحال، بقرينة قولهم: «الفعل يدلّ على الزّمان» حال إرادتهم أحد الأزمنة الثّلاثة، فإنّهم صرّحوا بأنّ المراد هي الحقيقيّة من تلك الأزمنة لا المفهوم، وحيث نفى أن يكون الاسم دالّاً على الزّمان، لزم أن لا يدلّ على حال النّطق.والحاصل: أنّ الاتّفاق على عدم دلالة الاسم على الزّمان، والاتفاق على دلالة المشتقّ على الحال حقيقة مُشعر بأنّ المراد بالحال غير الزّمان، وإلّا لكان بين الاتفاقين تناقض.

ثمّ وجه كون هذا الاتفاق مؤيّداً لا دليلاً عدم كون مثل هذا الاتفاق حجّة. مضافاً إلى بعض احتمالات أُخر في الجمع ذكرها العلّامة المشكيني(رحمة الله)، فراجع(1).

{و} إن قلت: إنّ القياس السّابق أنتج أنّ الصّفات {لا} تدلّ على الزّمان و{ينافيه} ما ذكره النُّحاة من {اشتراط العمل في بعضها} كاسم الفاعل {بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال} قال ابن مالك:

ص: 240


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 243.

ضرورةَ أنّ المراد: الدّلالة على أحدهما بقرينةٍ، كيف لا، وقد اتّفقوا على كونه مجازاً في الاستقبال؟

لا يقال: يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه، كما هو الظّاهر منه عند إطلاقه،

___________________

كفعله اسم فاعل في العَمَلِ إن كان عن مُضِيِّه بِمَعْزِلِ(1)

قلت: لا تنافي بين عدم الدّلالة على الزّمان وبين اشتراط العمل بالزمان {ضرورة أنّ المراد} بهذا الشّرط {الدّلالة على أحدهما} أي: دلالة اسم الفاعل ونحوه على أحد الزّمانين {بقرينة} خارجيّة على نحو تعدّد الدّال والمدلول نحو (زيد ضارب الآن أو غداً) و{كيف لا} يكون الدّلالة على الزّمان بدالّ آخر {وقد اتّفقوا علىكونه مجازاً} في ما إذا استعمل {في الاستقبال؟} - كما تقدّم في أوّل بحث المشتق - فهذا الاتفاق يكشف عن كون الاستقبال المشروط به العمل ليس جزءاً من مدلول المشتق وإلّا لزم التّناقض.

قال في الفوائد في جواب الإشكال: «ضرورة أنّ الغرض أن يراد أحدهما بدالٍّ آخَرَ، مع أنّه لو كان بدلالته فهو أعمّ من أن يكون على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز، كيف وقد اتّفقوا على كونه مجازاً في الاستقبال»(2).

{لا يقال: يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه} أي: زمان الحال المتوسّط بين زماني الماضي والمستقبل، لا ما ادّعيتم من كون المراد بالحال حال الجَرْي والنّسبة، وذلك لوجهين:

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: {كما هو} أي: زمان الحال {الظّاهر منه عند إطلاقه} أي: إطلاق لفظ الحال، فإنّ الظّاهر من لفظ الحال هو زمان النّطق.

ص: 241


1- البهجة المرضية: 288.
2- فوائد الأصول: 68.

وادّعي(1)

أنّه الظّاهرُ في المشتقّات، إمّا لدعوى الانسباق من الإطلاق، أو بمعونة قرينة الحكمة.

لأنّا نقول: هذا الانسباق وإن كان ما لا ينكر، إلّا أنّهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتقّ، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه.

___________________

{و} الثّاني ما {ادُّعِيَ} من {أنّه الظّاهر فيالمشتقّات} إذ الظّاهر من الحال هنا هو حال النّطق. ثمّ إنّ مستند هذا الظّهور {إمّا لدعوى الانسباق من الإطلاق} فإنّ لفظ «الحال» وإن كان يشمل حال النُّطْق وحال الجَرْي إلّا أنّ المنصرف منه هو الأوّل، {أو} أنّ الإطلاق لا يشمل غير حال النّطق {بمعونة قرينة الحكمة}.

وبيانه - بلفظ العلّامة الرّشتي(رحمة الله) - : «بإجراء مقدّماتها:

[1] من كون المتكلّم بصدد البيان ظاهراً.

[2] وانتفاء القدر المتيقّن بحسب مقام التّخاطب.

[3] وانتفاء ما يدلّ على تعيين حال النّسبة، فيحمل على الزّمان المقابل للزّمانين، صوناً لكلام الحكيم عن اللّغويّة، والزّمان المخصوص المقابل للزّمانين وإن كان نحواً من التّعيين، إلّا أنّ اللّفظ قالب له مفيد إيّاه بنفسه، بخلاف النّسبة، فإنّه ليس اللّفظ بنفسه قالباً له مفيداً إيّاه، فلو كان المراد حال النّسبة لكان اللّازم إضافة لفظ الحال إليها»(2).

{لأنّا نقول: هذا الانسباق} المدّعى {وإن كان ممّا لا ينكر، إلّا} أنّه ليس بمفيدٍ، إذ {أنّهم في هذا العنوان} أي: عنوان مبحث المشتقّ {بصدد تعيين ما وضع له المشتقّ} وأنّه موضوع للمتلبّس أو المنقضي عنه {لا} في مقام {تعيين ما يراد بالقرينة منه}.

قال بعض الأعلام: «يعني: أنّ لفظ الحال يذكر في مقامين:

ص: 242


1- الفصول الغرويّة: 60.
2- شرح كفاية الأصول 1: 63.

سادسها: أنّه

___________________

أحدهما: مقام ما وضع له المشتق.وثانيهما: مقام ما يكون المشتق دالّاً عليه ولو بالقرينة. وظهور لفظ (الحال) في المقام الثّاني في حال النُّطْقِ لا يقتضي ظهور لفظ (الحال) في المقام الأوّل فيه»(1)،

انتهى.

أقول: قد أوضحنا المتن من قوله: «لا يقال» إلى هنا على مذاق بعض الشّرّاح والمحشّين، لكن الظّاهر من العبارة - مؤيّداً بما في فوائد المصنّف(رحمة الله) - عدم كون المراد ما ذكر، بل المراد من قوله: «وادُّعِيَ» الخ ظهور نفس لفظ المشتقّ في حال النّطق، وقوله: «إمّا لدعوى» الخ مستنداً لكلا الوجهين - أعني: ظهور لفظ الحال وظهور لفظ المشتقّ - وحينئذٍ فيكون حاصل الجواب عن الإشكال الثّاني: أنّنا في صدد تعيين موضوع له المشتق، لا في صدد تعيين المراد منه بقرينة الانصراف أو الحكمة. وقد أوضح العلّامة المشكيني(رحمة الله) الإشكال والجواب على النّحو الثّاني، فراجع(2).

قال في الفوائد - في مقام الجواب عن الإشكال المتقدّم - ما لفظه: «لأنّا نقول: الظّاهر أنّهم في مقام تعيين ما وضع له، لا ما ينصرف إليه بإطلاقه ولو بمؤونة مقدّمات الحكمة، فإنّه لا ننكر السّياق التّلبّس في الحال عند الإطلاق، كما أنّه غالباً قضيّة مقدّمات الحكمة، كما لا يخفى»(3)، انتهى، فتأمّل.

تأسيس الأصل

{سادسها} أي: السّادس من الأُمور الّتي ينبغي تقديمها في بيان {أنّه} هل في

ص: 243


1- حقائق الأصول 1: 109.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 244.
3- فوائد الأصول: 69.

لا أصل في نفس هذه المسألة يعوّل عليه عند الشّك.وأصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة - مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم -

___________________

المقام أصل لفظيّ أو أصل عمليّ يفيد كون المشتقّ موضوعاً لخصوص المتلبّس بالمبدأ، أو للأعمّ منه ومن المنقضي عنه أم لا؟ فنقول: {لا أصل} لفظيّاً {في نفس هذه المسألة} حتّى {يعوّل عليه عند الشّك} في معنى المشتقّ.

{و} إن قلت: لا مانع من إجراء {أصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة} التّلبسيّة حال الوضع، فيثبت كون الوضع للأعم، إذ مثبتتات الأصول اللّفظيّة حجّة.

قلت: يرد عليه اقتران الأوّل ما أشار إليه بقوله: {مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم} إذ كما أنّ الأصل عدم ملاحظة الخصوص، الأصل عدم ملاحظة العموم، فإنّ لحاظ العموم والخصوص أمران حادثان، فالأصل عدمهما.

لا يقال: الخاص متيقّن إذ الخاص موضوع له على كلّ تقدير بخلاف العام.

لأنّا نقول: إنّ القدر المتيقّن لا يفيد تعيين الموضوع له، بل مفيد لتعيين المراد وليس الكلام فيه.

لا يقال: العام متيقّن؛ لأنّه إذا كان هناك مفهومان أحدهما عامّ والآخر خاصّ، فبالنّسبة إلى العام متيقّن، وبالنسبة إلى الخاص مشكوك؛ لأنّ العامّ موضوع له إمّا استقلالاً وإمّا ضمناً بخلاف الخاصّ.

لأنّا نقول: هذا إنّما يصحّ إذا كان هناك مفهومان، أحدهما بسيط والآخر مركّب، وأمّا إذا كان كلّ واحد منهما بسيطاً - كما في ما نحن فيه - لبساطة مفهوم المشتقّ فلا؛ لأنّه يكون بينهما تباين - كما لا يخفى - وللمحقّق الإصفهاني(رحمةالله) هاهنا جواب أدقّ لا مجال لإيراده(1).

ص: 244


1- نهاية الدّراية 1: 194.

لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له.

وأمّا ترجيح الاشتراك المعنويّ على الحقيقة والمجاز - إذا دار الأمر بينهما - لأجل الغلبة، فممنوعٌ؛

___________________

الثّاني: أنّه {لا دليل على اعتبارها} أي: اعتبار أصالة العدم {في تعيين الموضوع له} وذلك لعدم إحراز بناء العقلاء، لما تقدّم مِن أنّ مجرى أصالة العدم العقلائيّة في تعيين المراد بعد العلم بالوضع، لا في تعيين كيفيّة الاستعمال وأنّه حقيقة أو مجاز بعد معلوميّة المعنى المراد.

مثلاً: لو علمنا أنّ المشتقّ موضوع للخصوص ومجاز في العموم ثمّ شككنا في أنّ مراد المتكلّم من (الضّارب) المتلبّس أو المنقضي جرت أصالة عدم القرينة، وبها يتعيّن كون المراد المتلبّس، أمّا لو علمنا أنّه أراد من (الضّارب) المنقضي، ولم نعلم أنّه حقيقة حينئذٍ أو مجاز، فلا مسرح لأصالة العدم حتّى يتعيّن كونه حقيقةً.

هذا كلّه لو أُريد بأصالة العدم الأصل العقلائي، وأمّا لو أُريد الاستصحاب فهو أوّلاً معارض، وثانياً مثبت - كما لا يخفى - .

{وأمّا} أصل {ترجيح الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز} بتقريب أنّ المشتقّ يستعمل في المنقضي وفي المتلبّس كثيراً، فالأمر دائر بين أن يكون اللّفظ حقيقةً في أحدهما ومجازاً في الآخر، وبين أن يكون مشتركاً لفظيّاً بينهما، وبين أن يكون مشتركاً معنويّاً بينهما - بأن وضع للمتلبّس بالمبدأ آناً ما الجامع بين المنقضي والمتلبّس - .ولا شكّ أنّ المشترك المعنوي خير منهما {إذا دار الأمر بينهما} أي: بين الاشتراك المعنوي وبين الحقيقة والمجاز، وذلك لما تقرّر في بحث تعارض الأحوال بأنّه متقدّم عليهما {لأجل الغلبة} فإنّ الغالب في الألفاظ المستعملة في أكثر من معنىً كونه مشتركاً معنويّاً بينهما {فممنوع} جواب «أمّا».

ص: 245

لمنع الغلبة أوّلاً، ومنعِ نهوض حجّة على التّرجيح بها ثانياً.

وأمّا الأصل العملي فيختلف في الموارد، فأصالة البراءة في مثل: (أكرِمْ كُلَّ عالمٍ)، يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الإيجاب،

___________________

وبيان وجه المنع {لمنع الغلبة} المذكورة: {أوّلاً} إذ المجاز أكثر من الحقيقة، ولذا قيل: أكثر لغة العرب المجازات {ومنع نهوض حجّةٍ على التّرجيح بها} أي: بالغلبة على فرض تسليمها {ثانياً} وذلك لما سبق في الأمر الثّامن من أنّ الغلبة وغيرها - من الوجوه الّتي ذكروها لترجيح بعض الأحوال على بعض - غير مفيد؛ لأنّها وجوه استحسانيّة لا اعتبار بها، إلّا إذا كانت موجبة لظهور اللّفظ في المعنى، لعدم دليل على اعتبارها بدون الظّهور العرفي.

هذا تمام الكلام في بيان الأصول الجارية لتعيين معنى المشتق.

{وأمّا} لو شكّ ولم يعلم الموضوع له فلا بدّ من الرّجوع إلى {الأصل العملي} الجاري في كلّ مقام {فيختلف في الموارد} فلو كان (زيد) في يوم الخميس عالماً ثمّ جهل، وأمر المولى يوم الجمعة بإكرام العلماء، فشكّ في أنّه هل يجب إكرام زيد - لكون المشتقّ حقيقةً في المنقضي - أم لا يجب، لكونه حقيقةً في المتلبّس فقط {فأصالة البراءة} عنوجوب إكرامه {في مثل} ما تقدّم من قول المولى: {(أكرم كلّ عالم) يقتضي عدم وجوب إكرام ما} أيّ: شخص {انقضى عنه المبدأُ قبل الإيجاب} لمكان الشّبهة البدويّة، فإنّ العلم بالوجوب منحلّ إلى يقينيّ تفصيليّ وشكّ بدوي.

فإن قلت: إذا كان مسرح للاستصحاب الموضوعي، لم تصل النّوبة إلى البراءة، فإنّ الشّكّ في وجوب إكرام زيد ناشٍ من الشّكّ في كونه مصداق العالم، وحيث كان سابقاً عالماً فاستصحاب عالميّته موجب لوجوب الإكرام.

قلت: لا يجري الاستصحاب للشّكّ في الموضوع، وإذا سقط الاستصحاب

ص: 246

كما أنّ قضيّة الاستصحاب وجوبه لو كان الإيجاب قبل الانقضاء.

فإذا عرفت ما تلونا عليك، فاعلم: أنّ الأقوال في المسألة وإن كثرت، إلّا أنّها حدثت بين المتأخّرين - بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدّمين(1)-

،

___________________

الموضوعي جرت البراءة. فتحصّل أنّه لا يجب إكرام زيد لو كان الوجوب بعد الانقضاء {كما أنّ قضيّة الاستصحاب وجوبه} أي: وجوب الإكرام {لو} انعكس الفرض الأوّل بأن {كان الإيجاب قبل الانقضاء} فأمر بوجوب إكرام العلماء يوم الخميس، وكان فيه (زيد) منهم، ثمّ جهل يوم الجمعة.

ولا يتوهّم جريان البراءة، لعدم جريانها مع وجود الاستصحاب.

والحاصل: أنّ المتّبع هو الأصل العملي الجاري في كلّ مقام.

الخلاف في المشتق

{فإذا عرفت ما تلونا عليك} من الأُمور السّتّة المتقدّمة على البحث {فاعلم أنّ الأقوال في} هذه {المسألة وإن كثرت إلّا أنّها حدثت بين المتأخّرين بعد ما كانت} المسألة {ذات قولين بين المتقدّمين} قال في القوانين ما لفظه: «والمشهور بينهم في محلّ الخلاف قولان:

[1] المجاز مطلقاً وهو مذهب أكثر الأشاعرة.

[2] والحقيقة مطلقاً وهو المشهور من الشّيعة والمعتزلة.

وهناك أقوال أُخر منتشرة - والظّاهر أنّها محدثة من إلجاء كلّ واحدٍ من الطّرفين في مقام العجز عن ردّ شبهة خصمه - :

[1] ففصل جماعة وفرّقوا بين ما كان المبدأ من المصادر السّيّالة، كالتّكلّم والإخبار وغيره، فاشترطوا البقاء فيه دون الأوّل.

[2] وأُخرى ففرّقوا بين ما لو كان المبدأ حدوثيّاً أو ثبوتيّاً، فاشترطوا البقاء في

ص: 247


1- قوانين الأصول 1: 76.

لأجل توهّم اختلاف المشتقّ باختلاف مباديه في المعنى، أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال.

وقد مرّت الإشارة إلى أنّه لا يوجب التفاوت في ما نحن بصدده،

___________________

الأوّل دون الثّاني.

[3] وأُخرى ففرّقوا بين ما لو طرأ الضّدّ الوجوديّ على المحل، سواء ناقض الضّدّ الأوّل، كالحركة والسّكون، أو ضادّه وغيره، فاشترطوا البقاء في الأوّل دون الثّاني.[4] وفصّل بعضهم بين ما كان المشتقّ محكوماً عليه أو به، فاشترط في الثّاني دون الأوّل»(1)، انتهى.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه التّفاصيل نشأت من أحد أمرين:

[1] إمّا {لأجل توهّم اختلاف المشتقّ باختلاف مباديه في المعنى} كما في غير التّفصيلين الأخيرين، ونشأ من هذا التّوهّم أيضاً تفصيل آخر لم يذكره صاحب القوانين وهو الفرق بين ما كان مبادئها ملكات نحو (الخيّاط) و(الكاتب) وبين غيرها، فالمشتقّ في الأوّل حقيقة ولو انقضى عنه الخياطة والكتابة، بخلاف غيره نحو (الضّارب) و(القائم).

[2] {أو} لأجل توهّم اختلافه {بتفاوت ما يعتريه من الأحوال} كما في التّفصيلين الأخيرين {وقد مرّت الإشارة} في رابع المقدّمات وقبله {إلى أنّه} أي: اختلاف المبادئ وأنحاء التّعلّق {لا يوجب التّفاوت في ما نحن بصدده} من دلالة هيئة المشتقّ على خصوص المتلبّس أو الأعم، فكما أنّ اختلاف معنى (قتل) و(ضرب) غير موجب للتفاوت في الجهة المبحوث عنها، كذلك اختلاف نحو التّلبّس والتّعلّق.

ص: 248


1- قوانين الأصول 1: 76.

ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار، وهو اعتبار التّلبّس في الحال، وفاقاً لمتأخّري الأصحاب والأشاعرة، وخلافاً لمتقدّميهم والمعتزلة.

ويَدُلُّ عليه: تبادُرُ خصوص المُتَلَبِّس بالمبدأ في الحال.

وصحّةُ السّلب مطلقاً عمّا انقضي عنه - كالمتلبّس به في الاستقبال - ؛

___________________

{ويأتي له} أي: لعدم التّفاوت بسبب اختلاف المبادئ والحالات {مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار وهو} أي: المذهب المختار {اعتبار التّلبّس} بالمبدأ {في الحال} حتّى يكون حقيقة ولو استعمل في المنقضي كان مجازاً {وفاقاً لمتأخّري الأصحاب و} أكثر {الأشاعرة} من العامّة {وخلافاً لمتقدّميهم} أي: متقدّمي الأصحاب {والمعتزلة} كما تقدّم نقله عن صاحب القوانين(قدس

سره).

{ويدلّ عليه} أي: على كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس فقط أُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّ المشتقّ بسيط - كما سيأتي - فهو عين المبدأ باختلافٍ مّا، وحيث انقضى المبدأ فلا مبدأ حتّى يحمل على الذّات، فتأمّل.

تبادر التّلبّس

الثّاني: مركّب من جزءٍ ثبوتي وجزء سلبي، فالثّبوتي هو {تبادر خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال} فإنّه إذا قال المولى لعبده: (اذهب إلى السّوق واضرِب كلّ قائم فيه، وأعطِ درهماً لكلّ قاعد) فإنّه يتبادر خصوص القائمين فعلاً حين عبوره على السّوق والقاعدين كذلك، وكذا لو قال: (جئني برجل أبيض) ونحوه ممّا لا يخفى بأدنى توجّه، وأمّا الجزء السّلبي للدّليل فهو ما أشار إليه بقوله:

صحّة السّلب عن المنقضي

{وصحّة السّلب مطلقاً} من غير تقييدٍ بزمانٍ بأن يقول: أكرم العالم في الحال أو في الزّمان الماضي أو مطلقاً {عمّا} أي: عن ذات {انقضي} المبدأ {عنه} فالمتلبّس بالمبدأ في الماضي {كالمتلبّس به في الاستقبال} من حيث المجازيّة.

ص: 249

وذلك لوضوح أنّ مثل: (القائم والضّارب والعالم) - وما يرادفها من سائر اللّغات - لا يصدق على من لم يكن متلبّساً بالمبادئ، وإن كان متلبّساً بها قبل الجري والانتساب، ويصحّ سلبها عنه، كيف؟ وما يضادّها بحسب ما ارتكز من معناها في الأذهان يصدق عليه؛ ضرورةَ صدق القاعد عليه في حال تلبّسه بالقعود بعد انقضاء تلبّسه بالقيام،

___________________

ثمّ إنّ جعلَ صحّةِ السّلب من تتمّة التّبادر، وجعل الدّليل الثّاني مركّباً منهما متينٌ - على ما قرّره بعض الأعلام - ويمكن أن يجعل كلّ واحد دليلاً مستقلّاً، فإنّ تبادر المتلبّس في الحال فقط، كما يثبت كون المشتقّ حقيقة بالنسبة إلى المتلبّس، يثبت كونه مجازاً في المنقضي، إذ لو كان فيه حقيقة أيضاً لتبادر، وكذا صحّة السّلب عن المنقضي مقتضٍ لمجازيّة المنقضي، وبضميمة دوران الأمر بين المتلبّس والمنقضي تثبت كون المتلبّس حقيقة - كما لا يخفى - .

ثمّ قد يستدلّ على وجود التّبادر بالنسبة إلى المتلبّس ووجود صحّة السّلب بالنسبة إلى المنقضي بدليلٍ {وذلك لوضوح أنّ مثل: (القائم والضّارب والعالم) وما} يشبهها من سائر الصّفات والمشتقّات، بل وما {يرادفها من سائر اللّغات} نحو (ايستاده و زننده و دانا) {لا يصدق على من لم يكن متلبّساً بالمبادئ} فعلاً، كالقيام والضّرب والعلم {وإن كان متلبّساً بها} أي: بالمبادئ {قبل الجري} والنّسبة، كما لو كان زمان التّلبّس يوم الخميس وزمان الجري {والانتساب} يوم الجمعة {ويصحّ سلبها عنه}.

و{كيف} يصدق المشتقّ على من ليس متلبّساً فعلاً {و} الحال أنّ {مايضادّها} أي: يضادّ تلك المبادئ أو يناقضها {بحسب ما ارتكز من معناها} أي: معنى تلك المبادئ {في الأذهان يصدق عليه} أي: على غير المتلبّس فعلاً {ضرورة صدق القاعد عليه في حال تلبّسه بالقعود بعد انقضاء تلبّسه بالقيام} هذا في الضّدّين.

ص: 250

مع وضوح التّضاد بين (القاعد والقائم) بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى.

___________________

وكذا في النّقيضين، كما لو كان عالماً ثمّ جهل، فإنّه لا يصدق عليه العالم، ضرورة أنّ نقيض العالم وهو الجاهل يصدق عليه حينئذٍ {مع وضوح التّضاد بين (القاعد والقائم)} في المثال الأوّل، و(العالم والجاهل) في المثال الثّاني {بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى} وسيظهر وجه هذا القيد.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من مثال التّناقض جرى على العرف، وإلّا فهو من قبيل العدم والملكة.

بيانه: أنّ التّقابل - وهو كون أمرين على نحو لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد في زمان واحد من جهة واحدة - على أربعة أقسام: لأنّه إمّا أن يؤخذ التّقابل باعتبار القول، وإمّا أن يؤخذ بحسب الحقائق.

والأوّل هو تقابل السّلب والإيجاب - ويسمّى بتقابل النّقيضين - كقولنا: (زيد كاتب. زيد ليس بكاتب).

والثّاني وهو ما أخذه بحسب الحقائق على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: أن يكون أحدهما عدميّاً والآخر وجوديّاً، كالعمى والبصر، ويسمّى بتقابل العدم والملكة، وهذا يقارب من تقابل السّلب والإيجاب، لكن الفرقبينهما أنّ السّلب والإيجاب في الأوّل مأخوذ باعتبار مطلق، ولهذا لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، وفي الثّاني مأخوذ باعتبار شيء واحد، ولهذا يمكن ارتفاعهما، إذ الملكة هو وجود الشّيء في نفسه، والعدم هو انتفاء تلك الملكة عن شيء من شأنه أن يكون له.

الثّاني: أن يكون كلاهما وجوديّاً، وكان بحيث لا يمكن تعقّل أحدهما بدون تعقّل الآخر، كالأُبوّة والبنوّة - ويسمّى تقابل التّضايف - والمتضايفان متكافئان قوّة وفعلاً.

ص: 251

وقد يقرّر هذا وجهاً على حِدَةٍ، ويقال: لا ريب في مضادّة الصّفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادّة على ما ارتكز لها من المعاني، فلو كان المشتقّ حقيقةً في الأعمّ لما كان بينها مضادّة، بل مخالفة؛

___________________

الثّالث: أن يكون كلاهما وجوديّاً ولا يتوقّف تصوّر أحدهما على تصوّر الآخر، كالسواد والبياض - ويسمّى تقابل التّضاد - .

قال المحقّق نصير الدّين(قدس سره) في التّجريد ما لفظه: «التقابل المتنوّع إلى أنواعه الأربعة: أعني: تقابل السّلب والإيجاب - وهو راجع إلى القول والعقد - والعدم والملكة، وهو الأوّل مأخوذاً باعتبار خصوصيّة ما، وتقابل الضّدّين وهما وجوديّان إلى أن قال: وتقابل التّضايف» (1)،

انتهى. فتحصّل أنّ أقسام التّقابل أربعة: تقابل النّقيضين والضّدّين والعدم والملكة والمتضايفين.

إذا عرفت ذلك تبيّن لك أنّ قوله: «وما يضادّها» الخ من باب المثال، أو أراد المضادّة العرفيّة الشّاملة لأخواتها.{وقد يقرّر هذا} الّذي ذكرناه من مضادّة الصّفات دليلاً على التّبادر وصحّة السّلب {وجهاً على حدة} من دون ضميمة إلى الوجه الثّاني {ويقال}:

المضادة دليل الاشتراط

الثّالث: من الأدلّة الدّالّة على كون المشتق حقيقةً في المتلبّس فقط هو أنّه {لا ريب في مضادّة الصّفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادّة} ك (القائم، والقاعد، والعالم، والجاهل، والفوق، والتّحت) وغيرها، فإنّها متقابلة {على ما ارتكز لها من المعاني} في الأذهان {فلو كان المشتقّ حقيقةً في الأعم} من المتلبّس والمنقضي {لما كان بينها} أي: بين الصّفات المتقابلة {مضادّة، بل} كان بينها {مخالفة} إذ الأُمور المضادّة المتقابلة لا تتصادق أصلاً، وهذه الصّفات حسب

ص: 252


1- تجريد الاعتقاد: 129.

لتصادقها في ما انقضى عنه المبدأ وتَلَبَّسَ بالمبدأ الآخر.

ولا يرد على هذا التّقرير ما أورده بعضُ الأَجِلَّةِ من المعاصرين(1)،

___________________

الفرض ليست كذلك {لتصادقها في ما انقضى عنه المبدأ وتلبّس بالمبدأ الآخر}.

وهذا الدّليل الثّالث يشبه قياس الخلف، وهو ما يقصد فيه إثبات المطلوب بإبطال نقيضه.

وصورة القياس أنّه: لو صدقت الصّفة المنقضية على الذّات في ظرف صدقالصّفة الموجودة، مع تسلّم مضادّتهما لزم عدم مضادّتهما، لكن عدم المضادّة باطلة، فصدق الصّفة المنقضية باطل، ولا يمكن انقلاب الدّعوى، لضرورة صدق الصّفة الموجودة.

وحيث ذكر المصنّف لزوم التّخالف على تقدير عدم التّضاد، فلا بدّ من بيان معنى المخالفة، فنقول: قال في المعالم: «إنّ كلّ متغايرين إمّا أن يكونا متساويين في الصّفات النّفسيّة أو لا» إلى أن قال: «فإن تساويا فيها فمثلان كسوادين وبياضين وإلّا فإمّا أن يتنافيا بأنفسهما - بأن يمتنع اجتماعهما في محلّ واحد بالنظر إلى ذاتيهما - أو لا، فإن تنافيا كذلك فضدّان، كالسواد والبياض، وإلّا فخلافان، كالسواد والحلاوة»(2)،

انتهى.

فالمتخالفان هما الأمران اللّذان يجتمع كلّ واحد منهما مع الآخر ومع ضدّه، فإنّ الحلاوة في المثال يجتمع مع السّواد والبياض، كما أنّ السّواد يجتمع مع الحلاوة والحموضة.

{ولا يرد على هذا التّقرير} الّذي ذكرنا لبرهان التّضاد {ما أورده بعض الأجلّة من المعاصرين} وهو - كما يظهر من العلّامة القمّي(رحمة

الله) - صاحبُ البدائع، الحاج

ص: 253


1- بدائع الأفكار: 181.
2- معالم الدين: 65.

من عدم التّضادّ على القول بعدم الاشتراط؛ لما عرفت من ارتكازه بينها، كما في مبادئها.

إن قلت: لعلّ ارتكازها لأجل الانسباق من الإطلاق، لا الاشتراط.

___________________

ميرزا حبيب اللّه الرّشتي(قدس سره) {من عدم التّضاد} بين الصّفات الّتي مبدأها متضادّة {على القول بعدم الاشتراط} أي:اشتراط التّلبّس، يعني: أنّا لو اشترطنا في صدق المشتقّ التّلبّس الفعلي كان بين العالم والجاهل مثلاً مضادّة؛ لأنّ الذّات لا يتلبّس بهما فعلا.

أمّا لو لم نشترط في الصّدق التّلبّس الفعلي صدقا على الذّات معاً، فالتّضاد متوقّف على اشتراط التّلبّس، فلو استدلّ لاشتراط التّلبّس بالتضاد لزم الدّور.

لكن هذا الإيراد مدفوع {لما عرفت من ارتكازه} أي: ارتكاز التّضاد {بينها} أي: بين الصّفات الّتي مبدؤها متضادّة {كما} كان التّضاد مرتكزاً {في مبادئها} فالمضادّة الارتكازيّة تكشف عن اعتبار خصوص المتلبّس، وبهذا تبيّن عدم لزوم الدّور، إذ إنّما نشترط التّلبّس بدليل التّضاد، والتّضاد معلوم بالارتكاز وليس مستنداً إلى الاشتراط.

وإن شئت قلت: إنّ التّضاد معلوم ارتكازاً، والاشتراط مجهول ابتداءً، فنكتشف هذا المجهول بذاك المعلوم، لا أنّه نرفع اليد عن ذاك المعلوم بهذا المجهول.

{إن قلت: لعلّ ارتكازها} أي: المضادّة {لأجل الانسباق} وتبادر خصوص المتلبّس {من الإطلاق} فيكون تبادراً إطلاقيّاً وهو ليس بحجّة {لا} أنّ التّبادر لأجل {الاشتراط} أي: اشتراط التّلبّس حتّى يكون التّبادر من حاق اللّفظ ويكون علامة للوضع.

والحاصل: أنّا وإن سلّمنا كون المرتكز من معنى المشتقّ هو المتلبّس بالمبدأ في الحال، لكن لا نسلّم أنّ هذا الارتكاز علامة الوضع، لاحتمال أن يكون بسبب الانصراف.

ص: 254

قلت: لا يكاد يكون لذلك؛ لكثرة استعمال المشتقّ في موارد الانقضاء، لو لم يكن بأكثر.

إن قلت: على هذا، يلزم أن يكون في الغالب أو الأغلب مجازاً، وهذا بعيد وربّما لا يلائمه حكمة الوضع. لا يقال: كيف؟ وقد قيل بأنّ أكثر المحاوراتمجازاتٌ؛

___________________

{قلت: لا يكاد يكون} الانسباق {لذلك} الّذي ذكرتم من الانصراف؛ لأنّ الانصراف لا يحصل إلّا في ما لو كان فرد كثير الوجود أو كثير الاستعمال، والمتلبّس ليس أكثر وجوداً من المنقضي، ولا استعمال المشتقّ في المتلبّس أكثر {لكثرة استعمال المشتقّ في موارد الانقضاء} فيتساوى الاستعمالان {لو لم يكن} استعماله في المنقضي {بأكثر} وحين إذ لم يكن الانسباق لغلبة الوجود ولا لغلبة الاستعمال تعيّن أن يكون من حاق اللّفظ، وهو دليل كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس فقط.

{إن قلت: على هذا} الّذي ذكرتم من كثرة استعمال المشتق في مورد الانقضاء أو أكثريّته {يلزم أن يكون} المشتق {في الغالب} بناءً على الكثرة {أو الأغلب} بناءً على الأكثريّة {مجازاً} لأنّ المنقضي غير موضوع له، {وهذا} أي: غلبة المجاز {بعيد} عن الاستعمالات العرفيّة، إذ المجاز يحتاج إلى تكلّف القرينة {وربّما لا يلائمه حكمة الوضع} إذ حكمة الوضع التّسهيل في التّفهيم والتّفهّم، فلو كان المشتقّ حقيقة في الأعمّ لم يحتج الاستعمال إلى قرينة، ولو كان لخصوص المتلبّس احتيج إلى القرينة وهو خلاف التّسهيل، بل لو كان الاستعمال في المنقضي أكثر لزم محذور آخر، إذ الوضع لما لا يحتاج إليه إلّا قليلاً، وتركه بالنسبة إلى ما هو أكثر احتياجاً ترجيح للمرجوح على الرّاجح.

ثمّ أورد هذا المستشكل على نفسه إشكالاً فقال: {لا يقال} هذا الإيراد غير مستقيم، فإنّه {كيف} يستبعد كثرة المجاز {وقد قيل بأنّ أكثر المحاورات مجازات}؟

ص: 255

فإنّ ذلك - لو سلم - فإنّما هو لأجل تعدّدالمعاني المجازيّة بالنّسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد. نعم، ربّما يتّفق ذلك بالنّسبة إلى معنى مجازي، لكثرة الحاجة إلى التّعبير عنه، لكن أين هذا ممّا إذا كان دائماً كذلك؟ فافهم.

___________________

لأنّا نقول: {فإنّ ذلك} القول {لو سلم} ولم نناقش في عدم مطابقته للواقع {فإنّما هو لأجل تعدّد المعاني المجازيّة بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد} كصيغة (إفْعَل) الّذي له معنى حقيقيّ واحد - وهو الوجوب - وأربعة عشر مجازات من التّهديد والاستحباب وغيرهما ممّا هو مذكور في حاشية المعالم(1)،

وكهمزة الاستفهام الّتي لها معنى حقيقيّ واحد - وهو طلب الفهم - وترد لثمانية معان مجازاً، كما في المغني(2)، وعلى كلّ إنّ كثرة المعنى المجازي خارج عن محلّ الكلام، إذ الكلام في كون الاستعمال في المعنى المجازي أكثر من الاستعمال في المعنى الحقيقي.

{نعم، ربّما يتّفق ذلك} أي: الاستعمال كثيراً {بالنسبة إلى معنى مجازي لكثرة الحاجة إلى التّعبير عنه} أي: عن ذلك المعنى المجازي {لكن أين هذا} الاتّفاق النّادر {ممّا إذا كان} الاستعمال المجازي {دائماً كذلك} كثيراً أو أكثر كما هو المدّعى؟

وحاصل «إن قلت» إلى هنا - بلفظ العلّامة القوچاني - : «إنّ ما ذكر من كثرة الاستعمال في مورد الانقضاء - على فرض كونه مجازاً - يستلزم كثرة المجاز،فينافي حكمة الوضع، ولا يجديه القول بكون أكثر لغات العرب مجازات؛ لأنّه باعتبار كثرة المعاني المجازيّة، لا في معنى مجازي واحد»(3)، انتهى {فافهم} قال

ص: 256


1- حاشية السلطان على معالم الدين: 271.
2- مغني اللبيب 1: 13.
3- تعليقة القوچاني على كفاية الأصول 1: 125.

قلت: - مضافاً إلى أنّ مجرّد الاستبعاد غيرُ ضائر بالمراد بعدَ مساعدة الوجوه المتقدّمة عليه - إنّ ذلك إنّما يلزم لو لم يكن استعماله في ما انقضى بلحاظ حال التّلبّس، مع أنّه بمكان من الإمكان، فيراد من (جاء الضّارب)، أو (الشّارب) - وقد انقضى عنه الضَّرْب والشُّرب - : جاء الّذي كان ضارباً وشارباً قبل مجيئه حالَ التّلبّس بالمبدأ، لا حينه بعد الانقضاء، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال،

___________________

العلّامة المشكيني: «لعلّه إشارة إلى أنّه إذا فرض عدم جواز مخالفة حكمة الوضع فلا فرق بين الواحد والكثير»(1).

{قلت} - في ردّ «إن قلت» {مضافاً إلى أنّ} ما ذكرتم من كون غلبة المجاز بعيداً {مجرّد الاستبعاد} وهو {غير ضائر بالمراد} أي: كون المشتق حقيقة في المتلبّس فقط {بعد مساعدة الوجوه المتقدّمة} من التّبادر وصحّة السّلب والتّضاد {عليه} أي: على المراد - : {إنّ ذلك} المذكور من غلبة المجاز {إنّما يلزم لو لم يكن استعماله في ما انقضى} المبدأ عنه {بلحاظ حال التّلبّس} بأن يتّحد زمان الجري وزمان التّلبّس {مع أنّه} أي: هذا اللّحاظ {بمكانمن الإمكان} من دون محذور أصلاً {فيراد من (جاء الضّارب)، أو} جاء {(الشّارب) - و} الحال أنّ الفاعل {قد انقضى عنه الضّرب والشّرب - : جاء الّذي} نائب الفاعل لقوله: «فيراد» أي: بأن يريد المتكلّم من المشتقّ الشّخص الّذي {كان ضارباً وشارباً قبل مجيئه} مثلاً بأن أجرى الضّرب والشّرب على الذّات {حال التّلبّس بالمبدأ} فلو ضرب يوم الجمعة وقال المتكلّم في يوم السّبت، وأراد بالضّاربِ الضّاربَ يومَ الجمعة - {لا حينه} أي: حين المجيء - كان حقيقةً، لا أن يريد إجراء الضّرب في هذا الحال {بعد الانقضاء كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال} فيكون مجازاً.

ص: 257


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 251.

وجعلُهُ معنوناً بهذا العنوان فعلاً بمجرّد تلبّسه قبل مجيئه؛ ضرورة أنّه لو كان للأعم لصحّ استعماله بلحاظ كلا الحالين.

وبالجملة كثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التّلبّس من الإطلاق؛

___________________

{و} بعبارة أُخرى: لا يريد المتكلّم {جعله} أي: الشّخص {معنوناً بهذا العنوان} الشّربي أو الضّربي {فعلاً} في زمان المتكلّم {بمجرّد تلبّسه} بالضرب والشّرب {قبل مجيئه} في الزّمان الماضي، {ضرورة أنّه} أي: المشتق {لو كان للأعم} بأن أمكن جريه بلحاظ حال التّلبّس الموجب للحقيقيّة، وبلحاظ حال التّكلّم الموجب للمجازيّة {لصحّ استعماله بلحاظ كلا الحالين} وحينئذٍ فلا يتعيّن كونه مجازاً، حتّى يرد أنّه يلزم كون المجازأكثر من الحقيقة.

{وبالجملة} فالجواب عن قولكم: «إن قلت لعلّ ارتكازها» الخ - الرّاجع إلى أنّ تبادر المتلبّس مستند إلى الانصراف لا الوضع - أنّ {كثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى} ما تقدّم من كون {انسباق خصوص حال التّلبّس} ناشٍ {من الإطلاق} والانصراف، فلا يكون تبادراً وضعيّاً حتّى يدلّ على كون المشتق حقيقةً في خصوص المتلبّس.

هذا على ما سلكه العلّامة القمّي في معنى قوله: «وبالجملة»، ثمّ أورد عليه بما لفظه: «فتأمّل في كلامه من جهة عدم انطباق الدّليل على المدّعى؛ لأنّ المدّعى عدم كون التّبادر إطلاقيّاً مع كثرة الاستعمال في ما انقضى، ودليل هذا المدّعى ووجهه أنّ الإطلاق إذا كان أكثريّاً في مورد يمكن أن يكون سبباً للتبادر، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، بل كان استعمال الأكثر في ما انقضى، وأمّا الدّليل فمفاده أنّ الاستعمال في ما انقضى لا يجب أن يكون مجازاً»، إلى أن قال: «وفي العبارة مقدّمة مطويّةٌ لم يذكرها، فاندمجت العبارة، وحقّ الكلام أن يقول: وبالجملة

ص: 258

إذ مع عموم المعنى وقابليّة كونه حقيقة في المورد - ولو بالانطباق -

___________________

فكثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التّلبّس من الإطلاق، ولا يستلزم كثرة الاستعمال كذلك مجازيّة المشتقّ في الأكثر، إذ مع عموم المعنى، الخ، فيكون التّعليل تعليلاً للمقدّمة المطويّة»(1)، انتهى. ومراده بالمقدّمة المطويّة قوله: «ولا يستلزم كثرة الاستعمال كذلكمجازيّة المشتقّ في الأكثر».

هذا، ولكن يمكن أن لا يكون قول المصنّف: «وبالجملة» الخ بياناً لجواب «إن قلت» حتّى يرد عليه هذا المحذور، بل المراد به تتميم قوله: «قلت: مضافاً» الخ، وبيانه: أنّ للمشتقّ استعمالات ثلاثة:

الأوّل: أن يطلق على المنقضي عنه بلحاظ حال التّلبّس، بأن يكون الجري في زمان التّلبّس وهذا حقيقة.

الثّاني: أن يطلق على المنقضي عنه بلحاظ حال النّسبة، بأن يكون الجري في زمان التّكلّم وهذا مختلف فيه.

الثّالث: أن يكون إطلاق المشتقّ على المتلبّس بالمبدأ في الحال، وهذا حقيقة بالاتفاق.

إذا عرفت ذلك قلنا: «وبالجملة كثرة الاستعمال في حال الانقضاء» على نحو الحقيقة تارةً والمجاز أُخرى «تمنع عن دعوى انسباق خصوص» نحوه المجازي أعني: ما كان الجري في «حال التّلبّس» حتّى يرد بأنّه لا يلائمه حكمة الوضع، بل يمكن أن يكون المراد «من» المشتقّ حين «الإطلاق» على المنقضي المعنى الحقيقي {إذ مع عموم المعنى} في المنقضي {وقابليّة كونه} أي: المشتقّ {حقيقة في المورد} الّذي انقضى عنه المبدأ {ولو بالانطباق} بأن ينطبق الجري على حال

ص: 259


1- حاشية الكفاية 1: 99.

لا وجه لملاحظة حالٍ أُخرى، كما لا يخفى. بخلاف ما إذا لم يكن له العموم، فإنّ استعماله حينئذٍ مجازاً لحاظ حال الانقضاء وإن كان ممكناً، إلّا أنّه لمّا كان بلحاظ حال التّلبّس على نحو الحقيقة بمكان من الإمكان، فلا وجه لاستعماله وجريه على الذّات مجازاً وبالعناية وملاحظة العلاقة، وهذا غير استعمال اللّفظ في ما لا يصحّاستعماله فيه حقيقة،

___________________

التّلبّس {لا وجه لملاحظة حال أُخرى} الموجبة للمجازيّة في المنقضي بأن يريد الجري في زمان التّكلّم {كما لا يخفى}.

وبهذا تبيّن أنّ المجاز ليس أكثر من الحقيقة {بخلاف ما إذا لم يكن له} أي: للمشتقّ المستعمل في المنقضي {العموم} بحيث يقتضي حقيقة تارة ومجازيّة أُخرى، فإنّ المجاز حينئذٍ يكون أكثر من الحقيقة {فإنّ استعماله حينئذٍ} أي: حين كان له عموم {مجازاً لحاظ حال الانقضاء} بأن يكون الجري في حال التّلبّس بعد انقضائه {وإن كان ممكناً} لفرض جوازه {إلّا أنّه} أي: أنّ الاستعمال في المنقضي {لمّا كان بلحاظ حال التّلبّس على نحو الحقيقة} بأن يتّحد زمان الجري والتّلبّس {بمكان من الإمكان} لما تقدّم من العموم {فلا وجه لاستعماله} أي: استعمال المشتق {وجريه على الذّات} بلحاظ حال التّكلّم حتّى يكون {مجازاً وبالعناية وملاحظة العلاقة}.

والمتحصّل أنّ جواز الاستعمال على نحو الحقيقة والمجاز في المنقضي يمنع من الحمل على المجاز حتّى يكون المجاز أكثر، فيرد علينا أنّ وضع المشتق للمتلبّس الّذي هو أقلّ استعمالاً وترك الوضع المنقضي الّذي هو أكثر استعمالاً مخالف لحكمة الوضع الّتي تقتضي أن يكون اللّفظ موضوعاً لما كانت الحاجة إلى التّعبير عنه أكثر.

{وهذا} المورد الّذي يجوز فيه الحمل على الحقيقة، فيصحّ استعمال اللّفظ فيه حقيقة {غير استعمال اللّفظ في ما} أي: في معنى {لا يصحّ استعماله فيه حقيقة}

ص: 260

كما لا يخفى، فافهم.ثمّ إنّه ربّما أورد(1)

على الاستدلال بصحّة السّلب بما حاصله: أنّه إن أُريد بصحّة السّلب صحّته مطلقاً، فغير سديدٍ،

___________________

فإنّ هذا المقام لا بدّ من الالتزام بالمجاز لعدم المحيص عنه، بخلاف المقام الأوّل لجواز الحقيقة فيه {كما لا يخفى} على أُولي النُّهى {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ جواز الأمرين لا يفيد ظهور اللّفظ في الحقيقة، بل ظهوره في المجاز باقٍ بحاله.

إشكال على صحّة السّلب

{ثمّ} إنّ في المقام إشكالاً يحتاج بيانه إلى تمهيد مقدّمة، وهي: أنّه إذا توجّه قيد إلى قضيّة سالبة، فالقيد يحتمل اُموراً ثلاثة:

الأوّل: تقييد الموضوع.

الثّاني: تقييد المحمول.

الثّالث: تقييد السّلب.

فلو قيل: (زيد ليس بضارب في الحال) فهذا الظّرف يحتمل أن يكون قيداً لزيد، ومعناه: زيد الواقع في الحال ليس بضارب، ويحتمل أن يكون قيداً لضارب، فمعناه: زيد ليس متلبّساً بالضرب الحالي، ويحتمل أن يكون قيداً لمفاد كلمة (ليس) فمعناه: أنّ هذا العدم متحقّق في الحال.

إذا عرفت ذلك فاعلم {أنّه ربّما أُورد على الاستدلال} لكون المشتقّ حقيقة في المتلبّس ومجازاً في المنقضي {بصحّة السّلب} الّتي تقدّم بيانها {بما حاصله} أي: أورد بما حاصله {أنّه إن أُريد بصحّة السّلب} المجعول علامة المجازيّة المنقضي {صحّته مطلقاً} بأن يقال: زيد المنقضي عنه القيامليس بقائم لا في الماضي ولا في الحال ولا في الاستقبال {فغير سديد} إذ هو بديهي البطلان؛ لأنّ

ص: 261


1- الفصول الغرويّة: 60؛ بدائع الأفكار: 180.

وإن أُريد مقيّداً، فغيرُ مفيدٍ؛ لأنّ علامة المجاز هي صحّة السّلب المطلق.

وفيه: أنّه إن أُريد بالتّقييد تقييدُ المسلوب - الّذي يكون سلبه أعمّ من سلب المطلق، كما هو واضح - فصحّة سلبه وإن لم تكن علامةً على كون المطلق مجازاً فيه، إلّا أنّ تقييده ممنوع.

___________________

زيداً يصدق عليه القائم في الماضي {وإن أُريد} بصحّة السّلب عن المنقضي صحّة سلب المشتقّ عنه {مقيّداً} بقيد الانقضاء كأن يقال: (زيد ليس بضارب في حال الانقضاء) ونحوه {فغيرُ مفيدٍ} لكون المنقضي مجازاً {لأنّ علامة المجاز هي صحّة السّلب المطلق} مثل قولنا: (زيد ليس بتراب) وإلّا فلو كان سلب المقيّد علامة، لزم عدم صحّة سلب التّراب عنه لعدم صحّة قولنا: (زيد ليس بتراب بعد الموت أو قبل تكوّنه)، فتحصّل أنّه لا يمكن التّمسّك بصحّة السّلب لإثبات مجازيّة المنقضي.

{وفيه} أنّا نختار الشِّقّ الثّاني - أعني: صحّة السّلب مقيّداً - وقولكم: «إنّ صحّة السّلب المقيّد غير مفيدٍ» مخدوش، وجه الخدشة {أنّه إن أُريد بالتقييد تقييد المسلوب} أي: المحمول بأن يقال: (زيد ليس بضارب بالضرب الفعلي) وهذا هو {الّذي يكون سلبه أعمّ من سلب المطلق} - أعني: (زيد ليس بضارب) - ووجه الأعمّيّة إمكان صدق الأوّل دون الثّاني، فإنّه يصدق زيد ليس بضارب بالضرب الفعلي، ولا يصدق زيد ليس بضارب في الماضي والحال والاستقبال{كما هو} شأن كل مطلق ومقيد، وذلك {واضح} بأدنى تأمّل {فصحّة سلبه} أي: سلب المحمول المقيّد {وإن لم تكن علامة على كون} المحمول {المطلق مجازاً فيه} أي: في المنقضي كما قاله المورد {إلّا أنّ تقييده} أي: تقييد المحمول {ممنوع} فإنّا لا نريد بصحّه السّلب صحّته مقيّداً بهذا النّحو من القيد.

ص: 262

وإن أُريد تقييد السّلب، فغير ضائرٍ بكونها علامة؛ ضرورةَ صدق المطلق على أفراده على كلّ حالٍ، مع إمكان منع تقييده أيضاً، بأن يلحظ حال الانقضاء في طرف الذّات الجاري عليها المشتقّ، فيصحّ سلبه مطلقاً بلحاظ هذا الحال، كما لا يصحّ سلبه بلحاظ حال التّلبّس،

___________________

{وإن أُريد} بالتقييد {تقييد السّلب} بأن يقال: (زيد ليس في حال الانقضاء بضارب) بمعنى تحقّق العدم في هذا الحال {فغير ضائرٍ} هذا التّقييد {بكونها} أي: بكون صحّة السّلب {علامة} للمجاز {ضرورة صدق المطلق} أعني: المحمول وهو المشتق {على أفراده} الحقيقيّة {على كلّ حال} فلو سلب المشتقّ بما له من المعنى عن فرد في حال تبيين عدم صدقه على ذلك الفرد في هذا الحال وذلك يوجب المجازيّة، فقولنا: (زيد ليس في حال الانقضاء بضارب) مفيد لسلب الضّاربيّة عن زيد في حال انقضاء المبدأ عنه، فيكون إطلاق الضّارب على زيد في هذا الحال مجازاً ويثبت المطلوب.

هذا ثمّ أجاب المصنّف(رحمة الله) عن الشّقّ الأوّل من الإشكال وهو قوله: «إن أُريد بصحّه السّلب صحّته مطلقاً، فغير سديد» فقال: {مع إمكان}إطلاق السّلب و{منع تقييده أيضاً} كما لم يقيّد المسلوب.

والحاصل: أن لا يجعل القيد للنّسبة السّلبيّة ولا للمحمول، بل {بأن يلحظ} قيد {حال الانقضاء في طرف} الموضوع أي: {الذّات الجاري عليها المشتق} فيقال: (زيد في حال الانقضاء ليس بقائم مطلقاً) وما ذكرتم من أنّه غير سديد، فاسدٌ، إذ لا مانع منه، {فيصحّ سلبه} أي: سلب المشتق {مطلقاً} في جميع الأزمنة الثّلاثة، لكن {بلحاظ} تقييد الموضوع ب {هذا الحال} الانقضائي، أي: يصحّ سلب القيام في الماضي والمستقبل والحال عن الذّات المقيّد بهذا الحال، إذ من البديهيّ أنّ زيداً الّذي في حال الانقضاء ليس بقائمٍ في ما قبل، وإلّا لزم اتّحاد زماني الانقضاء وعدمه {كما لا يصحّ سلبه} أي: سلب المشتق عن الذّات {بلحاظ حال التّلبّس} فلا

ص: 263

فتدبّر جيّداً.

ثمّ لا يخفى:

___________________

يصحّ أن يقال: (زيد في حال التّلبّس ليس بقائم).

فتحصّل من جميع ذلك أنّ قيد الانقضاء لو كان للموضوع صحّ سلب المشتقّ ويكون علامة للمجازيّة، وإن كان قيداً للسّلب صحّ سلب المشتق وكان علامة للمجازيّة أيضاً، وإن كان قيداً للمحمول لم يصحّ سلب المشتقّ لكنّا لا ندّعي ذلك {فتدبّر جيّداً} يمكن أن يكون إشارة إلى ما ذكره العلّامة القوچاني(رحمة الله)(1) من منع إطلاق تسليم المصنّف عدم العلاميّة على تقدير كونه قيداً للمسلوب، وتوضيحه بلفظ المشكيني:

«الرّابع: أن يكون المسلوب مقيّداً باعتبار معنى هيئته، نحو (زيد ليس بضاربفي حال الانقضاء) وهذا أيضاً صحيح وعلامة للمجازيّة، إذ لو كان للأعم لما صحّ السّلب المذكور.

الخامس: الصّورة مع كونه قيداً له باعتبار معناه المادّي، يعني إنّ زيداً ليس بضارب بالضرب الفعلي، وهو صحيح ولكن ليست علامة، لصحّته بناءً على الأعم أيضاً.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ تسليم المصنّف عدم العلاميّة على تقدير كونه قيداً للمسلوب على الإطلاق وقع في غير محلّه، لكونها علامة إذا كان ذلك باعتبار هيئته، بل هذا هو محلّ النّقض والإبرام. ويحتمل أن يكون أمره بالتدبّر إشارة إليه»(2)، انتهى كلامه.

{ثمّ لا يخفى} عليك أنّ صاحب الفصول(قدس سره) ذهب في هذه المسألة إلى التّفصيل بين المتعدّي واللّازم، فقال ما لفظه:

ص: 264


1- تعليقه القوچاني على كفاية الأصول 1: 126.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 255.

أنّه لا يتفاوت في صحّة السّلب عمّا انقضى عنه المبدأ، بين كون المشتقّ لازماً وكونه متعدّياً؛ لصحّة سلب الضّارب عمّن يكون فعلاً غير متلبّس بالضّرب، وكان متلبّساً به سابقاً.

وأمّا إطلاقه عليه في الحال، فإن كان بلحاظ حال التّلبّس فلا إشكال كما عرفت،

___________________

«الحقّ أنّ المشتقّ إن كان مأخوذاً من المبادئ المتعدية إلى الغير، كان حقيقة في الحال والماضي - أعني: في القدر المشترك بينهما - وإلّا كان حقيقة في الحال فقط. لنا على ذلك الاستقراء، فإنّ الضّارب والقاتل والسّاكب الخ ونحوها إذا أُطلق تبادر منها ما اتّصف بالمبدأ لحال الاتصاف وما بعدها، وإنّ نحو عالم وجاهل وحسن الخ إلى غير ذلك يتبادر منها المتصف بالمبدأ حال الاتصاففقط، وقد سبق أنّ التّبادر من آيات الحقيقة»(1)،

انتهى كلامه.

لكن في هذا التّفصيل نظر، ضرورةَ {أنّه لا يتفاوت في صحّة السّلب} للمشتقّ {عمّا انقضى عنه المبدأ بين كون المشتقّ لازماً} كذاهب {و} بين {كونه متعدّياً} كضارب، وذلك {لصحّة سلب الضّارب عمّن يكون فعلاً غير متلبّس بالضّرب، و} إن {كان متلبّساً به سابقاً} وكذا غير ضارب من سائر الأفعال المتعدّية.

{وأمّا} إن قلت: فكيف نرى صحّة {إطلاقه} أي: إطلاق المشتقّ {عليه} أي: على المنقضي {في الحال} فإنّه يصحّ أن نقول: (في يوم الجمعة زيد ضارب) مع أنّه كان ضارباً يوم الخميس؟

قلت: إطلاقه على المنقضي قسمان:

الأوّل: أن يكون بلحاظ حال التّلبّس.

الثّاني: أن يكون بلحاظ الحال.

{فإن كان بلحاظ حال التّلبّس فلا إشكال} في كونه حقيقة، وذلك لا يدلّ على مطلوبكم، إذ النّزاع في ما كان الإطلاق بلحاظ حال الجري {كما عرفت} سابقاً.

ص: 265


1- الفصول الغرويّة: 60.

وإن كان بلحاظ الحال فهو وإن كان صحيحاً، إلّا أنّه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة؛ لكون الاستعمال أعمّ منها، كما لا يخفى.

كما لا يتفاوت في صحّة السّلب عنه بين تلبّسه بضدّ المبدأ وعدم تلبّسه، لما عرفت من وضوح صحّته مع عدم التّلبّس أيضاً، وإن كان معه أوضح.

___________________

{و} أمّا {إن كان} الإطلاق على النّحو الثّاني - بأن يكون {بلحاظ الحال - فهو} أي: هذا الإطلاق {وإن كان صحيحاً إلّا أنّه} مجاز، و{لا دلالة} للاستعمال {على كونه بنحو الحقيقة لكون الاستعمال أعمّ منها} أي: من الحقيقة {كما لا يخفى}.

وحيث إنّا استدللنا على كونه حقيقةً في خصوص المتلبّس فقط، تعيّن أن يكون في المنقضي مجازاً، وبهذا سقط تفصيل الفصول، وظهر أنّه لا يتفاوت في محلّ البحث كون المبدأ متعدّياً أو لازماً {كما لا يتفاوت في صحّة السّلب عنه} أي: عن المنقضي {بين تلبّسه بضدّ المبدأ وعدم تلبّسه} فإنّ الشّهيد الثّاني وغيره فصّلوا بين ما لو طرأ الضّد الوجودي على الحمل وغيره، فاشترطوا البقاء في الأوّل دون الثّاني، واحتجّ لهم في القوانين(1) بأنّه لو لم يكن الصّدق مشروطاً بعدم طريان الضّدّ، لزم كون إطلاق النّائم على اليقظان والحامض على الحلو باعتبار النّوم السّابق والحموضة السّابقة حقيقة، وهو خلاف الإجماع. وأيضاً لزم أن يكون أكابر الصّحابة كفّاراً حقيقة، انتهى.

ولكن هذا التّفصيل أيضاً ساقط {لما عرفت} في ما سبق {من وضوح صحّته} أي: صحّة السّلب {مع عدم التّلبّس} بالضد {أيضاً} كما كان يصحّ السّلب مع التّلبّس بالضد {وإن كان} سلب الصّفة المنقضية عن الذّات {معه} أي: مع التّلبّس بالضد {أوضح}.

ص: 266


1- قوانين الأصول 1: 77.

وممّا ذكرنا ظهر حال كثير من التّفاصيل، فلا نطيل بذكرها على التّفصيل.

حجّة القول بعدم الاشتراط وجوه:الأوّل: التّبادر.

وقد عرفت أنّ المتبادر هو خصوص حال التّلبّس.

الثّاني: عدم صحّة السّلب في (مضروب) و(مقتول) عمّن انقضى عنه المبدأ.

___________________

والحاصل: أنّه لو زال البياض عن الجسم، لم يصحّ إطلاق أبيض عليه، سواء تلبّس بالسواد الّذي هو ضدّ البياض، أو لم يتلبّس بلون أصلاً، بأن صار عديم اللّون. نعم، صحّة السّلب في الصّورة الأُولى أوضح.

{وممّا ذكرنا} من صحّة السّلب بالنسبة إلى المنقضي {ظهر حال كثير من التّفاصيل} بل جميعها، فإنّه حيثما قيل بكون المشتقّ على نحو الحقيقة في المنقضي أجرينا صحّة السّلب {فلا نطيل} المقام {بذكرها} وبيان حججها {على التّفصيل}.

أدلّة كون المشتق حقيقة في المنقضي

هذا وأمّا {حجّة القول بعدم الاشتراط} وكون المشتقّ حقيقةً في المنقضي، كما هو حقيقة في المتلبّس فيه {وجوه} ثلاثة:

{الأوّل: التّبادر} فإنّ المشتقّ يتبادر منه الذّات المتلبّس بالمبدأ آناً ما، {وقد عرفت أنّ المتبادر هو خصوص حال التّلبّس} وهذا أمر وجداني لا يمكن إقامة الدّليل عليه، فإنّ كلّ ما بالغير ينتهي إلى ما بالذات ولو احتاج ما بالذات إلى غيره تسلسل - كما لا يخفى - والمرجع في التّبادر لدى التّشاحّ العرف لا غير.

{الثّاني} من أدلّتهم: {عدم صحّة السّلب في} مثل {(مضروب) و(مقتول)} وغيرهما {عمّن انقضى عنه المبدأ} وذلك علامة الحقيقة.

ص: 267

وفيه: أنّ عدم صحّته في مثلهما إنّما هو لأجل أنّه أُريد من المبدأ معنى يكون التّلبّس به باقياً في الحال ولو مجازاً، وقد انقدح من بعض المقدّمات: أنّه لا يتفاوت الحال - في ما هو المهمّ في محلّ البحث والكلام، ومورد النّقض والإبرام - اختلاف ما يراد من المبدأ في كونه حقيقة أو مجازاً.

___________________

{وفيه} أوّلاً أنّ عدم صحّة السّلب في بعض الموارد، لا يلازم عدم صحّة السّلب في الجميع، وإلّا لكان الدّليل منقلباً عليهم بصحّة السّلب في نحو الأبيض إذا ذهب بياضه وطرأ عليه السّواد.

وثانياً {أنّ عدم صحّته} أي: عدم صحّة السّلب {في مثلهما} أي: مثل (مضروب) و(مقتول) وما شابههما من نحو (مصنوع) و(مكتوب) {إنّما هو لأجل أنّه أُريد من المبدأ معنى} وسيع بحيث {يكون التّلبّس به باقياً} ما دامت الذّات موجودة، فصدق المشتقّ {في الحال} لأجل بقاء المبدأ {ولو مجازاً} تجوّزاً في المادة لا في الهيئة، وذلك بأن يراد من الضّرب والقتل والصّنع والكتابة لوازمها الباقية أبداً، وإلّا فإن أُريد بها المعاني الحقيقيّة صحّ السّلب، ضرورة صدق انّه ليس بمضروب الآن.

والحاصل: إنّ دعوى عدم صحّة السّلب متوقّف على ثلاثة أُمور:

[1] كون المبدأ مأخوذاً على نحو الفعليّة.

[2] وكون الجري بلحاظ حال الانقضاء لا بلحاظ حال التّلبّس.

[3] وكون الإطلاق حقيقة لا بمعونة قرينة. وأنّى لهم بإثباتها.

{وقد انقدح من بعض المقدّمات:} السّابقة وهيالرّابعة {أنّه لا يتفاوت الحال في ما هو المهم في محلّ البحث والكلام ومورد النّقض والإبرام} في المشتق {اختلاف} فاعل «لا يتفاوت» {ما يراد من المبدأ} للمشتق، فإنّ اختلاف المبادئ لا يؤثّر {في كونه حقيقة} في المنقضي {أو مجازاً}.

والحاصل: أنّا ندّعي أنّ المبدأ في مثل: (مضروب) و(مقتول) معنى عام يشمل

ص: 268

وأمّا لو أُريد منه نفس ما وقع على الذّات ممّا صدر عن الفاعل، فإنّما لا يصحّ السّلب في ما لو كان بلحاظ حال التّلبّس والوقوع - كما عرفت - ، لا بلحاظ الحال أيضاً؛ لوضوح صحّة أن يقال: (إنّه ليس بمضروبٍ الآنَ، بل كان).

الثّالث: استدلال الإمام - عليه الصّلاة والسّلام - تأسّياً بالنّبيّ - صلوات الله عليه - كما عن غير واحد من الأخبار، بقوله: {لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّلِمِينَ} على عدم لياقة مَنْ عَبَدَ صَنَماً أو وثناً لمنصِبِ الإمامة والخلافة، تعريضاً بمن تصدّى لها ممّن عبد الصّنم مُدَّةً مديدةً.

___________________

حتّى حالة انقضاء فري الأوداج والإيلام.

{وأمّا لو} سلّمنا ذلك وقلنا أنّ المبدأ {أُريد منه نفس} الإيلام وفري الأوداج فهو {ما وقع على الذّات} في الزّمان الماضي {ممّا صدر عن الفاعل} حين الفعل {فإنّما} نقول: إنّ ما ذكرتم مِن أنّه {لا يصحّ السّلب} عن المنقضي إنّما يتمّ {في ما لو كان} جري المشتقّ على الذّات {بلحاظ حال التّلبّسوالوقوع} بأن يريد من (المقتول) حالة جري القتل {كما عرفت} من أنّ المشتقّ حقيقة في المنقضي إذا كان بلحاظ حال التّلبّس.

ولكن هذا النّحو من الجري ليس محلّ الكلام {لا} عطف على «في ما لو كان» أي: ما ذكر من عدم صحّة السّلب إنّما كان بلحاظ حال التّلبّس لا {بلحاظ الحال أيضاً} بل يصحّ السّلب بلحاظ حال الانقضاء {لوضوح صحّة أن يقال: (إنّه} أي: المنقضي عنه {ليس بمضروب الآن، بل كان)} مضروباً في سالف الزّمان.

{الثّالث} من أدلّة القائلين بكون المشتقّ حقيقةً في ما انقضى: {استدلال الإمام - عليه الصّلاة والسّلام - تأسّياً بالنّبيّ - صلوات الله عليه - كما عن غير واحد من الأخبار، بقوله} - عزّ اسمه - : {{لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّلِمِينَ}(1) على عدم لياقة مَن عَبَدَ صَنَماً أو وثناً لمنصِب الإمامة والخلافة تعريضاً بمن تصدّى لها} أي: للخلافة {ممّن عبد الصّنم مُدّةً مديدةً}.

ص: 269


1- سورة البقرة، الآية: 124.

___________________

في تفسير البرهان، عن أمالي الشّيخ عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أنا دعوة أبي إبراهيم»، قلنا: يا رسول اللّه، وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: «أوحى اللّه - عزّ وجلّ - إلى إبراهيم {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ}(1) فاستخفّ إبراهيم الفرح، فقال: يا ربّ، ومن ذريّتي أئمّة مثلي؟ فأوحى اللّه - عزّ وجلّ - إليه: أنْ يا إبراهيم إنّي لا أعطيك عهداً لا أفيلك به. قال: يا ربّ، ما العهد الّذي لا تفي لي به؟ قال: لا أعطيك عهداً لظالم من ذريّتك. قال: يا ربّ، ومن الظّالم من ولدي الّذي لا ينال عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماماً أبداً، ولا يصلح أن يكون إماماً، قال إبراهيم: {وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ ٭ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ}(2)». ومن ثمّ قال النبيّ(صلی الله علیه و آله): «فانتهت الدّعوة إليّ وإلى أخي عليّ، لم يسجد أحدٌ منّا لصنم قطّ، واتّخذني اللّه نبيّاً وعليّاً وصيّاً (وليّاً - خ ل)»(3).

ومن طريق المخالفين ما رواه الشّافعي ابن المغازلي في كتاب المناقب، بإسناده يرفعه إلى عبداللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أنا دعوة أبي إبراهيم». قلت: يا رسول اللّه، وكيف صرت دعوة إبراهيم أبيك... وساق الحديث السّابق بعينه إلى قوله(صلی الله علیه و آله): «فانتهت الدّعوة إليّ وإلى عليّ(علیه السلام) لم يسجد أحدنا لصنم قطّ فاتّخذني نبيّاً واتّخذ عليّاً وصيّاً»(4)،

انتهى.

وبهذا سقط قول بعض الأعلام: «لم أظفر باستدلاله(صلی الله علیه و آله) بهذه الآية على عدم

ص: 270


1- سورة البقرة، الآية: 124.
2- سورة إبراهيم، الآية: 35 - 36.
3- البرهان في تفسير القرآن 1: 325؛ عن الأمالي (للشيخ الطوسي): 379.
4- مناقب علي بن أبي طالب(علیه السلام): 224.

ومن الواضح توقّف ذلك على كون المشتقّ موضوعاً للأعمّ، وإلّا لما صحّ التّعريض؛ لانقضاء تلبّسهم بالظّلم وعبادتهم للصّنم حين التّصدّي للخلافة.

___________________

نيل الظّالم للخلافة، ولكنّه لا يدلّ على عدم الوجود، وهو أعلم بما قاله»(1)، انتهى.

وأمّا استدلال الأئمّة - عليهم الصّلاة والسّلام - بذلك فكثير ففي البرهان، عن أبي منصور قال: قال أبو عبداللّه(علیه

السلام): «قد كان إبراهيم نبيّاً وليس بإمام حتّى قال اللّه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ} فقال اللّه - تعالى - : {لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّلِمِينَ}(2) من عبد صنماً أو وثناً، لا يكون إماماً»(3)، وبهذا المضمون روايات كثيرة.

ثمّ إنّ وجه الاستدلال بهذه الآية - منضمّةً إلى الرّواية على الأعمّ - ما ذكره المصنّف بقوله: {ومن الواضح توقّف ذلك} الاستدلال {على كون المشتقّ موضوعاً للأعمّ} من المتلبّس والمنقضي حتّى يشمل الخلفاء الظّالمين حال تلبّسهم بالخلافة والإمامة {وإلّا} فلو كان المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس {لما صحّ التّعريض} من الإمام(علیه السلام) بالثلاثة {لانقضاء تلبّسهم بالظّلم و} انقضاء {عبادتهم للصّنم} ظاهراً {حين التّصدّي للخلافة} فلو كان المشتقّ حقيقة فيخصوص المتلبّس، لصحّ للخصم أن يقول: لا تشملهم الآية حين الخلافة.

إن قلت: لعلّ استدلال الإمام(علیه السلام) بهذه الآية لما كان يعلمه الخواصّ من عبادتهم للصّنم خَفَاءً حتّى حين تصدّيهم، فالاستدلال يَتِمُّ وإن لم نَقُلْ بكون المشتقّ حقيقةً في المنقضي؟

قلت: استدلال الإمام(علیه السلام) في مقام الاحتجاج كما يفصح عن ذلكاستدلال النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، ومن المعلوم أنّ العامّة تنكر عبادتهم للصّنم حين التّصدّي.

ص: 271


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 260.
2- سورة البقرة، الآية: 124.
3- البرهان في تفسير القرآن 1: 325.

___________________

ثمّ لا يخفى أنّ الاستدلال بهذه الآية الشّريفة على عدم لياقتهم من وجوهٍ خمسة:

الأوّل: ما نسب إلى كفاية الموحّدين وغيره من أنّ إبراهيم(علیه السلام) أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للظّالم حين الظّلم، فلا بدّ وأن يكون سؤاله عن إمامة غير الظّالم وهو على قسمين:

الأوّل: غير الظّالم مطلقاً.

الثّاني: غير الظّالم في حال تصدّي الإمامة فقط، وحيث نفى اللّه - تعالى - الظّالم بقي الأوّل.

ولا مجال لأن يقال: كلام إبراهيم(علیه السلام) مهمل من هذا الحيث، إذ الانصراف لو كان فهذا أظهر مصاديقه وهو(علیه السلام) ملتفت حكيم قطعاً(1).

ص: 272


1- قال الطّباطبائي(قدس سره) في الميزان 1: 274: وقد سُئل بعض أساتيذنا(رحمة الله) عن تقريب دلالة الآية على عصمة الإمام. فأجاب: إنّ النّاس على أربعة أقسام: الظّالم في جميع العمر، وعكسه، والظّالم في أوّل العمر دون آخره، وعكسه، وإبراهيم(علیه السلام) أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل والرّابع من ذريّته، فبقي قسمان وقد نفى اللّه أحدهما وهو الثّالث فبقي الثّاني وهو المعصوم، انتهى ملخّصاً. وفي مواهب الرحمن 2: 13 «الناس بالنسبة إلى الظلم وعدمه على أربعة أقسام: الأوّل: من اتصف بالطاعة والارتباط مع اللّه تعالى من أول عمره إلى آخر ارتحاله. الثّاني: من اتصف بالظلم والمخالفة كذلك. الثّالث: من يكون مثل الأوّل في أول عمره، ومثل الثّاني في آخر عمره. الرّابع: من يكون مثل الثّاني في أول عمره، ومثل الأوّل في آخر عمره. ولا يليق بمنصب الغيب المكنون، والسر المصون والإمامة العظمى إلّا الأوّل، وإن إطلاق الآية الشريفة ينفي بقية الأقسام. كما أن إطلاقها يشمل جميع أقسام الظلم سواء كان شركا أو غيره، وما ورد في بعض الأخبار أنه عبادة الصنم إنما هو من التطبيق على بعض المصاديق. ومما تقدم يعلم أنه لا حاجة إلى إدخال المقام في مسألة المشتق المعنونة في الكتب الأدبية والأصولية، وأطيل القول فيها من أنه لو كان المشتق حقيقة في الأعم من المتلبس بالمبدأ وما انقضى عند المبدأ، فلا يليق بالإمامة من ظلم ثم تاب، وأما إذا كان حقيقة في خصوص المتلبس فقط فلا يصح الاستدلال بالآية المباركة بالنسبة إلى من تاب وآمن»، انتهى.

والجواب: منع التّوقّف على ذلك، بل يتمّ الاستدلال ولو كان موضوعاً لخصوص المتلبّس.

وتوضيح ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ الأوصاف العنوانيّة - الّتي تؤخذ في موضوعات الأحكام - تكون على أقسام:

___________________

الثّاني: أنّ أبا بكر وعمر كانا كافرين، فيقال: كانا حال كفرهما ظالمَيْن، فوجب أن يصدق عليهما في تلك الحالة أنّهما لا ينالان الإمامة البتّة ولا في شيء من الأوقات، فثبت أنّهما لا يصلحان للإمامة.

الثّالث: أنّ من كان مذنباً في الباطن كان من الظّالمين، فإذا لم نعرف أنّهما كانا من غير الظّالمين المذنبين ظاهراً وباطناً، وجب أن لا نحكم بإمامتهما وذلك إنّما يثبت في من يثبت عصمته، ولمّا لم يكونا معصومين بالاتفاق، وجب أن لا تتحقّق إمامتهما البتّة.

الرّابع: أنّهم كانوا مشركين، وكلّ مشرك ظالم، والظّالم لا ينال عهد الإمامة، فوجب أن لا ينالوا عهد الإمامة، أمّا الأوّل فبالاتّفاق، وأمّا الثّاني فلقوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ}(1) وأمّا الثّالث فبهذه الآية، وهذه الوجوه الثّلاثة منسوبة إلى الرّازي.

الخامس: ما سيأتي من المصنّف {و} حاصل {الجواب} عن إشكال: أنّ الاستدلال يتوقّف على الأعم {منع التّوقّف على ذلك،بل يتمّ الاستدلال} بالآية على عدم لياقة الثّلاثة {ولو كان} المشتقّ {موضوعاً لخصوص المتلبّس} بالمبدأ.

{وتوضيح ذلك} الجواب {يتوقّف على تمهيد مقدّمة} مفيدة في كثير من الموارد {وهي: أنّ الأوصاف العنوانيّة الّتي} بها يعنون الموضوع و{تؤخذ في موضوعات الأحكام} الشّرعيّة والعقلائيّة {تكون على} ثلاثة {أقسام} في الغالب:

ص: 273


1- سورة لقمان، الآية: 13.

أحدها: أن يكون أخذ العنوان لمجرّد الإشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوعٌ للحكم؛ لمعهوديّته بهذا العنوان، من دون دَخْلٍ لاتّصافه به في الحكم أصلاً.

ثانيها: أن يكون لأجل الإشارة إلى علّية المبدأ للحكم، مع كفاية مجرّد صحّة جَرْيِ المشتقّ عليه ولو في ما مضى.

___________________

{أحدها: أن يكون أخذ العنوان} في موضوع الحكم {لمجرّد الإشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوع للحكم} وإنّما أخذ هذا العنوان {لمعهوديّته} أي: معهوديّة الموضوع {بهذا العنوان} فيكون تمام الموضوع للحكم هو المشار إليه والمعنون {من دون دَخْلٍ لاتّصافه} أي: اتصاف الموضوع {به} أي: بهذا العنوان {في الحكم أصلاً} فلا يكون العنوان دخيلاً في الموضوع ولا علّة للحكم، كما لو قال المولى لعبده: (أكرم هذا الجالس) حيث كان موضوع الإكرام ذات (زيدٍ) وعلّته علمه، وإنّما الجلوس عنوان لتفهيم العبد فقط، ومثله قول النّبيّ(صلی الله علیه و آله): «وصيّي خاصفالنّعل»(1)،

مشيراً إلى عليّ(علیه السلام) مع معلوميّة عدم دخالة هذا الوصف في الخلافة.

{ثانيها: أن يكون} أخذ العنوان في موضوع الحكم {لأجل الإشارة إلى علّية المبدأ} أي: علّية مبدأ العنوان {للحكم} المرتّب عليه، لكن {مع كفاية مجرّد صحّة جري المشتقّ عليه} بأن يكفي في الحكم مطلقاً ثبوت العنوان للموضوع {ولو} آناً ما {في ما مضى} فلا يناط بقاء الحكم ببقاء العنوان نحو (الماءُ المتغيّر بالنَّجَاسة نَجِسٌ) فإنّ عنوان التّغيّر مأخوذ في الموضوع، لأجل الإشارة إلى علّية التّغيير للنّجاسة، ومن المعلوم كفاية حدوث هذا العنوان ولو في آنٍ لإثبات الحكم

ص: 274


1- الكافي 5: 1011. وفيه: عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: سأل رجل أبي(علیه السلام) عن حروب أمير المؤمنين(علیه السلام) وكان السائل من محبينا، فقال له أبو جعفر(علیه السلام): ... قال اللّه عز وجلّ: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَى فَقَتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّى تَفِيٓءَ إِلَىٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ} فلمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إنّ منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل» فسئل النبي(صلی الله علیه و آله) من هو؟ فقال: «خاصف النعل» يعني أمير المؤمنين(علیه السلام) ... .

ثالثها: أن يكون لذلك مع عدم الكفاية، بل كان الحكم دائراً مدار صحّةِ الجري عليه، واتّصافه به حدوثاً وبقاءً.

إذا عرفتَ هذا فنقول: إنّ الاستدلال بهذا الوجه إنّما يِتِمُّ لو كان أخذ العُنْوان في الآية الشّريفة على النّحو الأخير؛ ضرورةَ أنّه لو لم يكن المشتقّ للأعمّ لما تمّ،

___________________

دائماً، فلو زال التّغيّر من نفسه، بقيت النّجاسة ما لم يرفعها رافع على المشهور.{ثالثها: أن يكون} أخذ العنوان في موضوع الحكم {لذلك} أي: لأجل الإشارة إلى علّية المبدأ للحكم، ويمتاز عن القسم الثّاني بأنّه {مع عدم الكفاية} أي: عدم كفاية اتّصاف الموضوع بالعنوان لبقاء الحكم دائماً {بل كان الحكم} المترتّب على الموضوع {دائراً مدار صحّة الجري عليه} أي: جري العنوان على الموضوع، بحيث يكون جري الوصف على الذّات {واتّصافه به} أي: اتصاف الموضوع بالعنوان {حدوثاً وبقاءً} مناطاً للحكم ولا يكفي مجرّد الحدوث.

والحاصل: بقاء الحكم منوط ببقاء العنوان نحو (صلّ خلف العادل) فإنّ جواز الصّلاة خلف الشّخص منوط بالعدالة حدوثاً وبقاءً، فلا تكفي العدالة آناً ما لجواز الصّلاة دائماً ولو ذهبت العدالة.

{إذا عرفت هذا} المطلب {فنقول}: إنّ عنوان الظّالم في الآية الشّريفة مأخوذ بأحد الأنحاء الثّلاثة. ثمّ إنّه ليس مأخوذاً على النّحو الأوّل، بأن لا يكون الظّلم دخيلاً في عدم النّيل أصلاً، للعلم الضّروري بدخالة هذا العنوان في عدم النّيل، وليس على نحو الإشارة فقط، وإذا سقط الوجه الأوّل فالأمر دائر بين الاحتمالين الأخيرين، فنقول: {إنّ الاستدلال} للأعمّ {بهذا الوجه} الثّالث - أعني: آية {لَا يَنَالُ عَهۡدِي} - {إنّما يتمّ لو كان أخذ العنوان} الظّلمي {في} موضوع {الآية الشّريفة على النّحو الأخير} بأن يكون صدق الظّلم علّة لعدم النّيل، بحيث يدور عدم النّيل مداره وجوداً وعدماً {ضرورة أنّه لو لم يكن المشتق} موضوعاً {للأعمّ لما تمّ}

ص: 275

بعد عدم التّلبّس بالمبدأ ظاهراً حين التّصدّي، فلا بدّ أن يكون للأعمّ، ليكون حين التّصدّي حقيقةً من الظّالمين، ولو انقضىعنهم التّلبّس بالظّلم، وأمّا إذا كان على النّحو الثّاني، فلا، كما لا يخفى.

___________________

استدلال الإمام(علیه السلام) بالآية {بعد عدم التّلبّس} من الثّلاثة {بالمبدأ} أي: الظّلم {ظاهراً حين التّصدّي} للخلافة {فلا بدّ أن يكون للأعمّ ليكون حين التّصدّي} من الظّالمين.

والحاصل: إنّ استدلال الإمام(علیه السلام) يتوقّف على مقدّمتين:

الأُولى: أنّ هؤلاء حين التّصدّي ظالمون.

والثّانية: أنّ الظّالم لا يناله العهد. أمّا الثّانية فمسلّمة، وأمّا الأُولى فصدق الظّالم على هؤلاء حين التّصدّي إمّا لتلبّسهم بالظلم، وإمّا لصدق المشتقّ على ما انقضى حقيقة، أمّا تلبّسهم بالظلم فالخصم منكره، فتعيّن أن يكون لصدق المشتقّ على ما انقضى. هذا حاصل استدلال الأعمّي بالآية.

وحاصل جواب المصنّف: أنّ دوران المقدّمة الأُولى بين التّلبّس بالظلم وبين صدق المشتقّ على ما انقضى حقيقةً ممنوع، إذ لو كان الظّلم من قبيل القسم الثّالث - أي: ممّا هو علّة حدوثاً وبقاءً - احتجنا إلى صدق الظّلم {حقيقة} ليكون المتصدّون {من} مصاديق {الظّالمين} حين التّصدّي {ولو انقضى عنهم التّلبّس بالظلم} في الظّاهر.

{وأمّا إذا كان} أخذ العنوان الظّلمي في الآية الشّريفة {على النّحو الثّاني} ممّا يكون علّة حدوثاً لا بقاءً كالماء المتغيّر {فلا} يتمّ الاستدلال بالآية للأعمّ {كما لا يخفى} لأنّا لا نحتاج حينئذٍ إلى صدق الظّلم حقيقة في مقام الاستدلال لعدم لياقة الثّلاثة.

وإن شئت قلت: الأمر دائر بين أن يكون الظّلم من قبيل العادل في (صلّ خلف

ص: 276

ولا قرينة على أنّه على النّحو الأوّل، لو لم نقل بنهوضها على النّحو الثّاني؛ فإنّ الآية الشّريفة في بيان جلالة قدر الإمامة والخلافة، وعِظَمِ خَطَرِها، ورِفْعَةِ محلّها، وأنّ لها خصوصيّة من بين المناصب الإلهيّة، ومن المعلوم أنّ المناسب لذلك

___________________

العادل)، وبين أن يكون من قبيل المتغيّر في (الماء المتغيّر نجس).

فإن كان من قبيل الأوّل لزم كون المشتقّ حقيقةً في الأعمّ حتّى يتمّ استدلال الإمام(علیه السلام)(1).

وإن كان من قبيل الثّاني يتمّ استدلال الإمام وإن كان المشتقّ حقيقةً في خصوص المتلبّس(2).

{ولا قرينة على أنّه على النّحو الأوّل} وهو القسم الثّالث حتّى يتمّ استدلالكم بالآية على الأعمّ {لو لم نقل بنهوضها} أي: نهوض القرينة على أنّه {على النّحو الثّاني} فلا يتمّ الاستدلال على الأعمّ.

إن قلت: فما هي القرينة المعيّنة لكون ترتّب عدم النّيل على الظّلم في آنٍ مّا حتّى يكون من قبيل الماء المتغيّر؟قلت: القرينة في نفس الآية {فإنّ الآية الشّريفة في بيان جلالة قدر الإمامة} العامّة {والخلافة} الإلهيّة {وعِظَمِ خطرها ورِفْعَة محلّها وأنّ لها خصوصيّةً من بين المناصب الإلهيّة} فضلاً عن المناصب العقلائيّة {ومن المعلوم} بداهة {أنّ المناسب لذلك}

ص: 277


1- لأنّ المشتق لو كان حقيقةً في خصوص المتلبّس وقد انقضى عنهم الظّلم ظاهراً انتفى الموضوع - أي: الظّالميّة - وبانتفائه ينتفي الحكم - أي: عدم نيل العهد - ، فلا يمكن الاستدلال بالآية لو كان المشتقّ حقيقةً في خصوص المتلبّس وكان الظّلم من قبيل العدالة وكان قد انقضى عنهم الظّلم بزعم الخصم.
2- لأنّ المشتقّ لو كان حقيقة في خصوص المتلبّس أيضاً ثبت المطلوب، إذ على فرض انقضاء ظلمهم لا يصلحون للخلافة ونيل العهد لتلبّسهم بالظلم ولو في الماضي، وهو كاف في عدم النّيل إلى الأبد، كالنجاسة الكافية في ثبوتها أبداً تلبّس الماء بالتغيّر آناً ما.

هو أن لا يكون المتقمّص بها متلبّساً بالظّلم أصلاً، كما لا يخفى.

إن قلت: نعم، ولكن الظّاهر أنّ الإمام(علیه السلام) إنّما استدلّ بما هو قضيّة ظاهر العُنْوان وضعاً، لا بقرينة المقام مجازاً، فلا بدّ أن يكون للأعمّ، وإلّا لما تمّ.

قلت: لو سلّم، لم يكن يستلزم جري المشتقّ على النّحو الثّاني

___________________

المنصب الخطير {هو أن لا يكون المتقمّص بها متلبّساً بالظلم} في آنٍ من الآنات {أصلاً، كما لا يخفى}.

وقد كفانا حجّة في الرّدّ نصّ الكتاب لا ينال عهدي

{إن قلت: نعم} المناسب لكون الإمامة منصباً إلهيّاً عدم نيل الظّالم لها ولو انقضى عنه الظّلم، وبه يتمّ استدلال الإمام(علیه السلام) {ولكن} هذا الحمل مجاز، إذ على تقدير كون المشتقّ حقيقةً في المتلبّس - ثمّ أُريد المنقضي من لفظ الظّالم - يوجب المجازيّة، و{الظّاهر أنّ الإمام(علیه السلام)} تبعاً للنّبيّ(صلی الله علیه و آله) {إنّما استدلّ بما هو قضيّة ظاهر العنوان} الظّلمي {وضعاً لا بقرينة المقام} حتّى يكون المشتقّ {مجازاً} وعلى هذا {فلا بدّ أنيكون} المشتقّ {للأعمّ وإلّا لما تمّ} استدلال الإمام.

والحاصل: أنّ ما ذكرتم - من دوران الأمر بين كون الظّلم من قبيل العدالة، بضميمة كون المشتقّ للأعمّ، وبين كونه من قبيل التّغيّر بضميمة كون المشتقّ للمتلبّس - صحيح، لكن ما اخترتم من الثّاني فاسد، للزوم المجاز، وهو خلاف الظّاهر فتعيّن الأوّل، فيثبت كون المشتقّ للأعمّ وهو المطلوب.

{قلت}: أوّلاً لا نسلّم أنّ الإمام(علیه السلام) استدلّ بما هو مقتضى ظاهر العنوان وضعاً، بل هو استدلّ بالظهور الّذي هو حجّة عند العقلاء - سواء كان مستنداً إلى الوضع أو إلى القرينة الّتي عرفت وجودها - .

وثانياً {لو سلم} أنّ الإمام(علیه السلام) استدلّ بما هو الظّاهر وضعاً، لكن {لم يكن يستلزم جري المشتق على النّحو الثّاني} وهو ما كان حقيقةً في خصوص المتلبّس،

ص: 278

كونَهُ مجازاً، بل يكون حقيقةً لو كان بلحاظ حال التّلبّس - كما عرفت - فيكون معنى الآية - والله العالم - : من كان ظالماً، ولو آناً في زمانٍ سابقٍ لا ينال عهدي أبداً. ومن الواضح أنّ إرادة هذا المعنى لا تستلزم الاستعمال لا بلحاظ حال التّلبّس.

ومنه قد انقدح ما في الاستدلال على التّفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به - باختيار عدم الاشتراط في الأوّل(1)

-

___________________

بضميمة كون الظّلم من قبيل التّغيّر {كونه} أي: المشتق {مجازاً، بل يكون حقيقةً لو كان} الجري {بلحاظ حال التّلبّس - كما عرفت} في ما تقدّم - فالأمر دائر بين حقيقتينوالقرينة معنىً، لا بين حقيقة ومجاز - كما زعمتم - {فيكون معنى الآية} بناءً على ما سلكناه من كون المشتق حقيقة في المتلبّس فقط، وعنوان الظّلم كاف حدوثاً لا بقاءً {والله العالم} بمراده {من كان ظالماً ولو آناً} ما {في زمانٍ سابقٍ لا ينال عهدي أبداً}.

{و} لا يخفى أنّ {من الواضح أنّ إرادة هذا المعنى} الّذي ذكرنا للآية {لا تستلزم الاستعمال} للمشتقّ بلحاظ هذا الحال {لا بلحاظ حال التّلبّس} حتّى يكون مجازاً، بل استعمل بلحاظ حال التّلبّس، فهو حقيقة من غير محذور، ومن ذلك كلّه ظهر بطلان قول من ذهب إلى أنّ المشتقّ حقيقة في الأعم.

دليل المفصّل

{ومنه} أي: ممّا تقدّم من أنحاء العناوين وكون المشتق - ولو كان حقيقةً في خصوص المتلبّس - جاز كونه حقيقةً في الماضي إذا أخذ بلحاظ التّلبّس {قد انقدح ما في الاستدلال على التّفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به} كما حكي عن الغزالي والأشنوي {باختيار عدم الاشتراط} أي: كون المشتقّ حقيقةً في الأعمّ {في الأوّل} وحقيقةً في خصوص المتلبّس في الثّاني، واستدلّ لهم

ص: 279


1- هداية المسترشدين 1: 370؛ تقريرات المجدد الشيرازي 1: 252.

بآية حدّ السّارق والسّارقة، والزّاني والزّانية.

وذلك حيث ظهر أنّه لا ينافي إرادةُ خصوص حال التّلبّس دلالَتَها على ثبوت القطع والجلد مطلقاً ولو بعد انقضاء المبدأ، مضافاً إلى وضوح بطلان تعدّد الوضع حسب وقوعه محكوماً عليه أو به، كما لا يخفى.

___________________

{بآية حدّ السّارق والسّارقة والزّاني والزّانية} وجه الاستدلال أنّه لو اشترط البقاء في المحكوم عليه لزم عدم جواز الاستدلال بمثل قوله - تعالى - : {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ}(1)، و{ٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ}(2) على وجوب إجراء الحدّ على من انقضى عنه الزّنا والسّرقة، مع بداهة أنّ وجه إجراء الحدّ ليس إلّا هذه الآية وأمثالها، فالمشتقّ في الآية أعمّ من المنقضي عنه المبدأ.

{وذلك} أي: وجه الانقداح {حيث ظهر أنّه لا ينافي إرادة خصوص حال التّلبّس} من المشتقّ مع {دلالتها} أي: الآية {على ثبوت القطع والجلد مطلقاً} في الحال والاستقبال {ولو بعد انقضاء المبدأ} أي: الزّنا والسّرقة.

والحاصل: أنّ الزّنا والسَّرِقة ونحوهما عناوين توجب حدوثها الحكم، فبمجرّد ما حدثت السّرقة وجب القطع، وما لم يجر الحدّ لا يسقط الحكم.

ثمّ إنّ استعمال (السّارق) في من انقضى عنه المبدأ حقيقة باعتبار حال التّلبّس، فلا يستلزم القولُ بالخصوص المجازيّةَ {مضافاً إلى} أنّ هذا التّفصيل موجب لتعدّد الوضع في المشتقّ، و{وضوح بطلان تعدّد الوضع حسب وقوعه محكوماً عليه، أو} محكوماً {به} غنيّ عن البيان {كما لا يخفى} لبداهة أنّ (السّارق) ونحوه له معنىً واحد وقع محكوماً عليه أو به.

ثمّ إنّ هذا التّفصيل ناقص في نفسه؛ لأنّه لم يبيّن حال المشتقّ في غير هذين

ص: 280


1- سورة النّور، الآية: 2.
2- سورة المائدة، الآية: 38.

ومن مطاوي ما ذكرنا - هاهنا وفيالمقدّمات - ظهر حال سائر الأقوال، وما ذكر لها من الاستدلال، ولا يسع المجال لتفصيلها، ومن أراد الاطّلاع عليها فعليه بالمطوّلات.

بقي أُمور:

الأوّل:

___________________

الصّورتين نحو قولك: (اقطع يد السّارق) إلّا أن يتكلّف بإرجاعه إلى أحدهما.

وقد أورد على هذا التّفصيل إشكالان آخران:

الأوّل: النّقض بمثل: (العادل يجوز الصّلاة خلفه).

الثّاني: أنّه يلزم من هذا الكلام القول بكون المشتقّ حقيقةً في المستقبل أيضاً.

{ومن مطاوي ما ذكرنا هاهنا} في حجج قول المختار وردّ غيره {و} ما ذكرنا {في المقدّمات} من عدم الفرق بين المبادئ وغير ذلك {ظهر حال سائر الأقوال} المفصّلة {و} ظهر الجواب عن {ما ذكر لها} أي: لتلك الأقوال {من الاستدلال، ولا يسع المجال لتفصيلها، ومن أراد الاطّلاع عليها فعليه بالمطوّلات} كالقوانين والفصول وغيرهما من كتب الأصول.

مفهوم المشتق

{بقي} في المقام {أُمور} مهمّة: {الأوّل} في مفهوم المشتق، ولا بدّ قبل التّعرّض للشّرح من ذكر كلام المحقّق الشّريف فنقول: قال شارح المطالع(1) ما لفظه: «والإشكال الّذي استصعبه قوم بأنّه(2) لا يتناول التّعريفَ بالفصل وحده ولا بالخاصّة وحدها، مع أنّه يصحّ التّعريف بأحدهما علىرأي المتأخّرين - حتّى غيّروا التّعريف إلى تحصيل أمرٍ، أو ترتيب أُمورٍ - فليس من تلك الصّعوبة في شيء:

ص: 281


1- في أوائل شرحه عند قول المصنّف: «وليس الكلّ من كلّ منهما ضروريّاً».
2- أي: تعريف الكلّ بأنّه ترتيب أُمور معلومة لتحصيل المجهول.

أنّ مفهوم المشتق - على ما حقّقه المحقّق الشّريف في بعض حواشيه - بسيطٌ منتزعٌ عن الذّات، باعتبار تلبّسها بالمبدأ واتّصافها به، غيرُ مركّب.

وقد أفاد في وجه ذلك: «أنّ

___________________

أمّا أوّلاً فلأنّ التّعريف بالمفردات إنّما يكون بالمشتقّات، ك (النّاطق) و(الضّاحك)، والمشتقّ وإن كان في اللّفظ مفرداً إلّا أنّ معناه شيء له المشتقّ منه، فيكون من حيث المعنى مركّباً»(1)، انتهى كلامه.

وعلّق المحقّق الشّريف على قوله: «إلّا أنّ معناه شيء له المشتقّ منه» ما لفظه: «يرد عليه أنّ مفهوم (الشّيء) لا يعتبر في معنى (النّاطق) - مثلاً - وإلّا لكان العرض العام داخلاً في الفصل، ولو اعتبر في المشتق ما صدق عليه الشّيء انقلب مادّة الإمكان الخاص ضروريّةً، فإنّ الشّيء الّذي له (الضّحك) هو الإنسان، وثبوت الشّيء لنفسه ضروريّ، فذكر الشّيء في تفسير المشتقّات بيان لما يرجع إليه الضّمير الّذي يذكر فيه»(2)،

انتهى.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: {إنّ مفهوم المشتق على ما حقّقه المحقّق الشّريف في بعض حواشيه} على شرح المطالع {بسيط منتزع عن الذّات} لكن الانتزاع {باعتبار تلبّسها} أي: تلبّس الذّات {بالمبدأ} للمشتق {واتّصافها به} من غير فرقٍ بين أن يكون المبدأ ذاتيّاً كالنطق أوعرضيّاً ك (الضحك) {غير مركّب}.

ولا يخفى أنّ المراد كون ما ذكر مفهوم كلامه، وإلّا فقد تقدّم كلامه حرفيّاً {وقد أفاد} المحقّق الشّريف {في وجه ذلك} الّذي ذكر من بساطة مفهوم المشتق {«أنّ} المشتق لو كان مركّباً فالجزء الآخر غير المبدأ إمّا أن يكون مفهوم الشّيء أو مصداقه، وكلاهما غير صحيح، وإذا بطل اللّازم بطل الملزوم. أمّا وجه

ص: 282


1- شرح المطالع: 11.
2- شرح المطالع: 11.

مفهوم (الشّيء) لا يعتبر في مفهوم (النّاطق) - مثلاً - ، وإلّا لكان العَرَضُ العامّ داخلاً في الفَصْلِ، ولو اعتبر فيه ما صدق عليه الشّيء، انقلبت مادّة الإمكان الخاصّ ضرورةً؛ فإنّ الشّيء الّذي له الضّحك هو الإنسان، وثبوتُ الشّيءِ لنفسه ضروريّ»(1).

هذا ملخّص ما أفاده الشّريف على ما لخّصه بعض الأعاظم(2).

___________________

بطلان أخذ {مفهوم (الشّيء)} في المشتقّ فلأنّه {لا يعتبر في مفهوم (النّاطق) مثلاً} وكذا غيره من سائر الفصول {وإلّا لكان العرض العام} الّذي هو عبارة عن مفهوم الشّيء العارض لجميع موجودات العالم {داخلاً في الفصل، و} هو باطل؛ لأنّ الفصل مقوّم، والعرض العام غير مقوّم والمركّب من الخارج والدّاخل خارج على اصطلاحهم.

وأمّا وجه بطلان أخذ مصداق الشّيء في المشتق فلأنّه {لو اعتبرفيه} أي: في المشتق {ما صدق عليه الشّيء} بأن يكون المراد من الضّاحك الإنسان الضّاحك {انقلبت مادّة الإمكان الخاص} إلى {ضرورة} وإنّما قال: «مادة الإمكان» لما تقرّر في المنطق من أنّ النّسبة الواقعيّة الّتي بين الموضوع والمحمول - من الضّرورة والإمكان والامتناع - تسمّى مادة القضيّة، واللّفظ الدّال على المادّة تسمّى جهة القضيّة. هذا ثمّ بيّن وجه الانقلاب بقوله: {فإنّ الشّيء الّذي له الضّحك هو الإنسان وثبوت الشّيء} كالإنسان في المثال {لنفسه ضروريّ»} فيلزم أن يصير قولنا: (الإنسان ضاحك) ضروريّة، مع أنّه ممكنة خاصّة. وإنّما خصّ الإمكان بالخاصّ، لبداهة أنّ المضادّة إنّما هي بين الإمكان الخاص والضّرورة، وإلّا فالإمكان العام مَقْسِمٌ للضّرورة وغيرها.

{هذا ملخّص ما أفاده} المحقّق {الشّريف على ما لخّصه بعض الأعاظم} والانصاف

ص: 283


1- شرح المطالع: 11.
2- الفصول الغرويّة: 61.

وقد أورد عليه في الفُصُوْل ب : «أنّه يمكن أن يختار الشِّقَّ الأوّل، ويدفع الإشكال بأنّ كون (النّاطق) - مثلاً - فصلاً مبنيٌّ على عرف المنطقيّين، حيث اعتبروه مجرّداً عن مفهوم الذّات، وذلك لا يوجب وضعه لغةً كذلك»(1).

___________________

أنّه تطويل لا تلخيص {وقد أورد عليه} الشّيخ محمّد حسين {في الفصول ب «أنّه يمكن أن يختار الشّقّ الأوّل} وهو اعتبار مفهوم الشّيء في المشتقّ {ويدفع الإشكال} المتقدّم من دخول العرض العام في الفصل {بأنّ كون (النّاطق)مثلاً} وغيره {فصلاً} للإنسان {مبنيّ على عرف المنطقيّين(2)} المتداول في ألسنتهم {حيث اعتبروه} أي: اعتبروا النّاطق {مجرّداً عن مفهوم الذّات} ومصداقه {وذلك} الاعتبار المنطقي {لا يوجب وضعه لغة كذلك»} مجرّداً عن مفهوم الذّات ومصداقه.

والحاصل: أنّ معنى النّاطق وغيره من الفصول المشتقّة عند المنطقيّين معناه عند اللّغويّين، فإنّ المنطقيّين يعتبرون النّاطق مجرّداً، واللّغويّين يعتبرونه مركّباً، وبهذا البيان يسقط الإشكال؛ لأنّ الكلام في مفهوم المشتق لغة لا اصطلاحاً.

إن قلت: هذا الجواب لا يدفع الإشكال عن شارح المطالع؛ لأنّ كلامه كان في الفصل المنطقي الّذي يكون معرّفاً.

ص: 284


1- الفصول الغرويّة: 61.
2- فذلكة: قال في شرح المطالع: 15 «وإنّما سمّي هذا الفنّ منطقاً؛ لأنّ النطق يطلق على النطق الخارجي الّذي هو اللّفظ وعلى الدّاخلي وهو إدراك الكليّات وعلى مصدر ذلك الفعل ومظهر هذا الانفعال، ولمّا كان هذا الفنّ يقوي الأوّل ويسلك بالثّاني مسلك السّداد ويحصل بسببه كمالات الثّالث لا جرم اشتقّ له اسم منه وهو المنطق» انتهى. والغرض من هذا بيان معنى المنطق ولا يخفى أنّ جعل (الناطق) فصلاً أمر صوريّ، وإلّا فمعرفة حقائق الأشياء إن لم يكن مستحيلاً ففي غاية الإشكال - كما صرّح به في الكبرى وحاشية الشّمسيّة وغيرهما - فتأمّل.

وفيه: أنّه من المقطوع أنّ مثل: (النّاطق) قد اعتبر فصلاً بلا تصرّف في معناه أصلاً، بل بما له من المعنى، كما لا يخفى.

والتّحقيق أن يقال: إنّ مثل: (النّاطق) ليس بفصلٍ حقيقيٍّ، بل لازِمُ ما هو الفصل وأظهر خواصّه،

___________________

قلت: لسنا نحن بصدد تصحيح كلام المطالع، وإنّما الغرض دفع الإشكالالوارد على المشهور من قولهم: «إنّ معنى المشتقّ ذات أو شيء له المبدأ».

قال في الفصول ما لفظه: «مفهوم المشتقّ عند بعض المحقّقين معنى بسيط منتزع عن الذّات باعتبار قيام المبدأ بها ومتّحد معها في الوجود الخارجي، فما اشتهر في العبائر والألسنة من أنّ معنى المشتق ذات أو شيء له المبدأ، فإمّا مسامحة منهم في التّعبير وتفسير للشّيء بلوازمه أو وارد على خلاف التّحقيق»(1)،

انتهى.

{وفيه} أي: في ما ذكره الفصول من الجواب نظر، إذ {أنّه من المقطوع أنّ مثل: (النّاطق)} وغيره ممّا يسمّى فصلاً {قد اعتبر} في عرف أهل الميزان {فصلاً، بلا تصرّف في معناه أصلاً} فلا اختلاف بين المعنى المنطقي واللّغوي {بل} كونه فصلاً {بما له من المعنى} اللّغوي {كما لا يخفى} لمن راجع.

{والتّحقيق} في الجواب عن الشِّقِّ الأوّل {أن يقال}: الإشكال مبنيّ على {أنّ مثل: (النّاطق)} فصل حقيقيّ، لكنّا لا نسلّم ذلك؛ لأنّه {ليس بفصل حقيقي} بحيث يكون قوام النّوع به {بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصّه}.

قال شارح المطالع - قبيل الفصل السّادس - ما لفظه: «واعلم أنّ اقتناص العلم بأجناس المهيّات المتحقّقة في الخارج وفصولها وعرضيّاتها في غاية الصّعوبة، وأمّا بالقياس إلى المعاني المعقولة الوضعيّة فسهل؛ لأنّا إذا تعقّلنا معاني ووضعنا

ص: 285


1- الفصول الغرويّة: 61.

وإنّما يكون فصلاً مشهوريّاً منطقيّاً يوضع مكانه إذا لم يُعلم نفسه، بل لا يكاديُعلم، كما حقّق في محلّه،

___________________

لجملتها اسماً كان القدر المشترك منها جنساً والقدر المميّز فصلاً والخارج عنها عرضاً»(1)،

انتهى.

وعلّق المحقّق الشّريف على قوله: «في غاية الصّعوبة» ما لفظه: «فإنّ أجناس تلك الحقائق تشتبه بأعراضِها وفصولها بخواصِّها، والتّمييزُ بينهما بما ذكر من خواصّ الذّاتيّات مشكل جدّاً، كيف؟ وأكثرها مشتركة بينهما وبين الأعراض اللّازمة، وهذا هو مراد الشّيخ من صعوبة معرفتها»(2)، انتهى. فتبيّن أنّ (النّاطق) ليس فصلاً حقيقيّاً {وإنّما يكون فصلاً مشهوريّاً منطقيّاً يوضع مكانه} أي: مكان الفصل الحقيقي {إذا لم يعلم نفسه} كما أنّ الجنس والنّوع والعرض الخاص والعام كذلك {بل لا يكاد يعلم} قال المشكيني(رحمة

الله): «وإمّا إشارة إلى ما حقّقه صدر المتألّهين من أنّ الفصول الحقيقيّة أنحاء الوجودات والوجود غير معلوم بالكنه لغير علّام الغيوب»(3)،

انتهى.

أقول: ولهذا قال السّبزواري:

«مُعَرِّفُ الوجودِ شرحُ الاسمِ *** وليس بالحَدِّ ولا بالرَّسْمِ

مفهومُهُ مِنْ أَعْرَفِ الأَشْيَاءِ *** وكُنْهَهُ في غَايَةِ الخَفَاءِ»

قال الشّيخ الرّئيس في النجاة: «إنّ الوجود لا يمكن أن يشرح بغير الاسم؛ لأنّه مبدأ أوّل لكلّ شرح، فلا شرح له، بل صورته تقوم في النّفس بلا توسّط شيء»(4)، انتهى.

{كما حقّق في محلّه} ممّا سبق بعضه، وقد بسط المحقّقالسّلطان في حاشيته

ص: 286


1- شرح المطالع: 100.
2- شرح المطالع: 100.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 274.
4- النجاة: 496؛ شرح المنظومة 2: 61.

ولذا ربّما يجعل لازمان مكانه، إذا كانا متساويي النّسبة إليه، كالحسّاس والمتحرّك بالإرادة في الحيوان.

___________________

طرفاً من الكلام، فراجع(1).

{ولذا} أي: ولأجل أنّ الأُمور المدّعى كونها فصولاً ليست بفصول حقيقيّة ترى أنّه {ربّما يجعل} فصلان لشيءٍ واحدٍ، ولو كان الأمران فصلين حقيقيّين استحال ذلك - كما سيأتي - . ومن ذلك يكشف أنّهما {لازمان مكانه} أي: مكان الفصل الحقيقي {إذا كانا}: اللّازمان {متساويي النّسبة إليه} أي: إلى الفصل الحقيقي - بأن لا يكون أحدهما في طول الآخر، بل في عرضه - وذلك {كالحسّاس والمتحرّك بالإرادة} المجهولين {في} مكان فصل {الحيوان} وأمّا وجه استحالة أن يكون لشيء واحد فصلان فيظهر بملاحظة ما نذكره.

قال في المطالع ما لفظه: «قال الشّيخ: ويجب كونه - أي: الفصل - علّة لوجودها - أي: حصّة الجنس وهو ما في النّوع - لأنّ أحدهما لمّا لم يكن علّة لوجود الآخر استغنى كلّ واحد عن صاحبه، وليس الجنس علّة للفصل وإلّا استلزمه فتعيّن العكس...» إلى أن قال: «ويتفرّع على العلّية كذا وكذا ولا يكون القريب إلّا واحداً لئلّا يتوارد علّتان على معلول واحد بالذّات»(2)، انتهى.

وقال العلّامة في كشف المراد: «قال: وكلّ فصل تامّ فهو واحد، أقول: الفصلمنه ما هو تامّ وهو كمال الجزء المميّز، ومنه غير تامّ وهو المميّز الذّاتي مطلقاً، والأوّل لا يكون إلّا واحداً؛ لأنّه لو تعدّد لزم امتياز المركّب بكلّ واحد منهما، فيستغني عن الآخر في التّميز فلا يكون فصلاً؛ ولأنّ الفصل علّة للحصّة فيلزم تعدّد العلل على المعلول الواحد وهو محال، أمّا الفصل النّاقص وهو جزء الفصل،

ص: 287


1- الحاشية على كفاية الأصول 1: 252.
2- شرح المطالع: 91.

وعليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشّيء في مثل (النّاطق)، فإنّه وإن كان عَرَضاً عامّاً، لا فصلاً مقوِّماً للإنسان، إلّا أنّه بعد تقييده بالنُّطْق واتّصافه به كان من أظهر خواصّه.

وبالجملة: لا يلزم من أخذ مفهوم الشّيء في معنى المشتقّ إلّا دخول العرض في الخاصّة الّتي هي من العرضيّ، لا في الفصل الحقيقيّ الّذي هو من الذّاتيّ، فتدبّر جيّداً.

___________________

فإنّه يكون متعدّداً»(1)، انتهى.

أقول: وفي هذه الكلمات إشكالات مذكورة في شرح المطالع وغيره، فراجع.

{وعليه} أي: بناءً على أنّ النّاطق وأمثاله ليست فصولاً حقيقة {فلا بأس بأخذ مفهوم الشّيء} ونحوه {في مثل (النّاطق)} وغيره من الفصول المشهوريّة {فإنّه} أي: مفهوم الشّيء {وإن كان عرضاً عامّاً} للإنسان وغيره {لا فصلاً مقوّماً للإنسان إلّا أنّه} أي: مفهوم الشّيء {بعد تقييده بالنطق} بأن يقال شيء له النّطق {واتصافه به} أي: اتّصاف الشّيء بالنّطق {كان} هذا المفهوم {من أظهر خواصّه} أي: خواص الإنسان.{وبالجملة} نقول في الجواب عن الشِّقِّ الأوّل من إشكال الشّريف: {لا يلزم من أخذ مفهوم الشّيء في معنى المشتق} الّذي اعتبروه فصلاً {إلّا دخول العرض} العام {في الخاصّة الّتي} ليست من الذّاتى المستلزم للمحذور، بل {هي من العرضي} والمراد بالعرضي المشتق مقابل العرض الّذي هو مبدأ الاشتقاق كما تقدّم، و{لا} يستلزم ذلك دخول العرض العام {في الفصل الحقيقي الّذي هو من الذّاتي} وعلى هذا فلا محذور أصلاً، ولا إشكال في ما اشتهر في لسان القوم، وإن كان هذا الجواب كجواب صاحب الفصول لا يرفع إشكال السّيّد الشّريف على شارح المطالع الملتزم بكون (النّاطق) فصلاً حقيقيّاً كما سبق، اللّهمّ إلّا أن يرفع اليد عن ذلك كما يلوح إليه قوله المتقدّم: «إنّ معرفة الفصولِ في كمال الصّعوبة» {فتدبّر جيّداً} حتّى لا تغفل عن عدم استقامة غالب الكلمات في هذا الباب.

ص: 288


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 94.

ثمّ قال: «إنّه يمكن أن يختار الوجه الثّاني أيضاً، ويجاب بأنّ المحمول ليس مصداق الشّيء والذّات مطلقاً، بل مقيّداً بالوصف، وليس ثبوته للموضوع حينئذٍ بالضّرورة؛ لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريّاً»(1)،

انتهى.

ويمكن أن يقال:

___________________

{ثمّ} إنّ صاحب الفصول لمّا فرغ عن جواب الشّقّ الأوّل من الإشكال شرع في الجواب عن الشِّقّ الثّاني و{قال: «إنّه يمكن أن يختار الوجه الثّاني أيضاً} بأن يقال: يعتبر في المشتقّ مصداق الشّيء {ويجاب} عن إشكال الإنقلاب {بأنّ المحمول} في مثل:(زيد كاتب) {ليس مصداق الشّيء والذّات مطلقاً} حتّى يكون ضروري الثّبوت للموضوع ويلزم الانقلاب، {بل} المحمول مصداق الشّيء {مقيّداً بالوصف} كالكتابة في المثال {و} حينئذٍ تبقى الممكنة ممكنة، إذ {ليس ثبوته} أي: ثبوت الذّات المقيّد بالوصف {للموضوع حينئذٍ بالضرورة} دائماً، بل ضروريّة المحمول وإمكانه يتّبع الوصف، ولهذا يبطل دعوى الشّريف الانقلاب مطلقاً {لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريّاً»} فنحو (زيد كاتب) ممكنة لانحلاله إلى (زيد زيد له الكتابة) ونحو (زيد ناطق) ضروريّة، لانحلاله إلى (زيد زيد له النّطق) {انتهى} كلام الفصول.

{و} لكن {يمكن أن يقال} في ردّه ما سيأتي، ويحتاج بيانه إلى تمهيد مقدّمة ذكرها المشكيني، وهي بتلخيص: إنّ حمل المشتق - بناءً على التّركيب وأخذ المصداق في معنى المشتق - يكون من قبيل حمل المقيّد، وهو بحسب التّصوير العقلي على أقسام أربعة:

الأوّل: أن يكون المحمول نفس المقيّد لا التّقييد ولا القيد. نعم، التّقييد مِرْآة وإشارة إلى تعيين المحمول كقولك: (هذا زيد الّذي سلّم عليك أمس) فإنّ الغرض

ص: 289


1- الفصول الغرويّة: 61.

إنّ عدم كون ثبوت القيد ضروريّاً لا يَضُرُّ بدعوى الانقلاب؛ فإنّ المحمول: إن كان ذات المقيّد، وكان القيد خارجاً - وإن كان التّقيّد داخلاً بما هو معنىً حرفي -

___________________

حمل (زيد) على هذا وتقييده به لمجرّد التّعيين.

الثّاني: أن يكون المحمول ذات المقيّد مع التّقييد، وهو غير صحيح؛ لأنّ التّقييد جزء ذهني لا يتّحد مع الخارجيّات، اللّهمّ إلّا أن يكون المراد منه هي الخَصوصيّة المنتزعة عن القيد الخارجي لا نفس التّقييد، فحينئذٍ يصحّ الحمل فيكون الحاصلفي المثال المذكور (الإنسان إنسان متخصّص بخصوصيّة الكتابة).

الثّالث: أن يكون القيد داخلاً في الحمل عرضاً، كقولك: (هذا حلو حامض)، فيصير معنى (الإنسان كاتب): (الإنسان إنسان وكتابة).

الرّابع: أن يكون الدّخول طوليّاً، فيكون حاصل معنى المثال: الإنسان إنسان له الكتابة، فيكون في القضيّة نسبة تامّة خبريّة، وهي: نسبة الإنسان إلى الإنسان، ونسبة ناقصة وصفيّة، وهي: نسبة له الكتابة إلى الإنسان(1).

إذا عرفت ذلك فنقول: {إنّ} ما ذكره في الفصول من {عدم كون ثبوت القيد ضروريّاً} فلا يلزم من أخذ المصداق في المشتق الانقلاب الّذي ادّعاه الشّريف غير تامّ، إذ عدم ضروريّة القيد {لا يضرّ بدعوى الانقلاب} بل يلزم الانقلاب لو لم يكن القيد ضروريّاً، {فإنّ المحمول} الّذي هو المشتقّ لا يخلو عن أحد الأُمور الأربعة الّتي تقدّم بيانها.

فهو {إن كان ذات المقيّد وكان القيد خارجاً} كالتقييد - وهو القسم الأوّل - فهذا لا يضرّ بدعوى الانقلاب، إذ المقيّد فقط عين الموضوع وضروري الثّبوت له.

وإن كان المحمول ذات المقيّد وكان القيد خارجاً {وإن كان التّقيّد داخلاً} - وهو القسم الثّاني - ومعنى دخول التّقيّد كونه جزء القضيّة {بما هو معنى حرفي} فإنّ التّقيّد

ص: 290


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 275.

فالقضيّةُ لا محالة تكون ضروريّةً؛ ضرورةَ ضروريّة ثبوت الإنسان الّذي يكون مقيّداً بالنّطق للإنسان.

وإن كان المقيّد به بما هو مقيّد - علىأن يكون القيد داخلاً - فقضيّة (الإنسان ناطق) تنحلّ - في الحقيقة - إلى قضيّتين: إحداهما: قضيّة (الإنسان إنسان) وهي ضروريّة، والأُخرى

___________________

نسبة بين القيد والمقيّد مقصود في الحمل، كسائر المعاني الحرفيّة {فالقضيّة} المركّبة من الموضوع والتّقيّد وذات المقيّد {لا محالة تكون ضروريّة} فيلزم الانقلاب {ضرورة ضروريّة ثبوت الإنسان الّذي يكون مقيّداً بالنطق للإنسان} فلم يَتِمُّ كلام الفصول.

أقول: الظّاهر أنّ كلمة (بالنطق) من سهو القلم والصّواب مكانه (بالضحك) كما يدلّ عليه سوق كلام الفصول وتصريح الشّريف، فتأمّل.

وأشكل بعض الأعلام بأنّ المقيّد بالإمكاني لا يكون إلّا إمكانيّاً، فدعوى الفصول في هذه الصّورة حقّ.

{وإن كان} المحمول هو {المقيّد بما هو مقيّد على أن يكون القيد داخلاً} كالمقيّد والتّقيّد وكان الدّخول عرضيّاً - وهو القسم الثّالث - فهذا باطل من أصله، لعدم صحّة حمل المبدأ على الذّات، فلا يكون هذا مورد كلام الفصول حتّى يضرّ بدعوى الانقلاب أو لا يضر.

وإن كان المحمول هو المقيّد بما هو مقيّد، على أن يكون القيد والمقيّد والتّقيّد كلّها داخلات، وكان دخول القيد طوليّاً - وهو القسم الرّابع - {فقضيّة (الإنسان ناطق} أو ضاحك) كما سبق {تنحلّ في الحقيقة إلى قضيّتين}:

{إحداهما} مركّبة من الموضوع وذات المحمول، وهي {قضيّة(الإنسان إنسان) وهي ضروريّة}.

{و} القضيّة {الأُخرى} مركّبة من ذات المحمول ووصف المحمول، وهي

ص: 291

قضيّة (الإنسان له النّطق)، وهي ممكنة؛ وذلك لأنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار، كما أنّ الأخبار بعد العلم بها تكون أوصافاً، فعقد الحمل ينحلّ إلى القضيّة، كما أنّ عقد الوضع

___________________

{قضيّة (الإنسان له النّطق) وهي ممكنة} وحينئذٍ فلا يتمّ كلام الفصول بعدم الانقلاب، إذ القضيّة الممكنة المحضة انقلبت إلى ضروريّة وممكنة، وإن أشكل عليه بعض الأعلام بما لا مجال لذكره في المقام.

وعلى كلّ حال ففي القسم الرّابع تنحلّ القضيّة إلى قضيّتين: فللأُولى نسبة تامّة خبريّة، وللثّانية نسبة ناقصة وصفيّة، وهي بالالتزام تدلّ على نسبة تامّة خبريّة {وذلك} أي: إنّما تنحلّ القضيّة إلى هاتين القضيّتين {لأنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار، كما أنّ الأخبار بعد العلم بها تكون أوصافاً} وتوضيحه - كما في حاشية السّلطان - : إنّه إذا لم يكن المخاطب عالماً بثبوت الوصف للموصوف، فلا جرم أنّ المتكلّم يجعله خبراً فيقول: (الإنسان شاعر) مثلاً، ومع علمه بثبوته له يجعله وصفاً، فيقول: (الإنسان الشّاعر كاتب) مثلاً، وحينئذٍ فإذا كان الوصف مشتقّاً فهو باعتبار الموضوع خبر، لعدم العلم به وباعتبار ذات المحمول وصف للعلم به.

وبهذا ظهر وجه انحلال القضيّة إلى قضيّتين، وهذا الانحلال إنّما يكون في طرف المحمول {فعقد الحمل ينحلّ إلى القضيّة} وذلك لما تقدّم من أنّ المحمول مشتمل على نسبة ناقصة مستلزمة لنسبة خبريّة{كما أنّ عقد الوضع} ينحلّ إلى قضيّة.

بيانه: - كما ذكروا في علم الميزان - : أنّا إذا قلنا: (الإنسان حيوان) فكلّ من الموضوع والمحمول ينحلّ إلى جزءين: الذّات والوصف، فمعنى (الإنسان): ذات له الإنسانيّة، ومعنى (الحيوان): ذات له الحيوانيّة، والحمل لا يعقل أن يكون بين ذات المحمول وذات الموضوع؛ لأنّ إثبات الذّات لنفسه ضروريّ، وحينئذٍ فنقول: إنّ ذات الموضوع كما يتّصف بوصف وعنوانه الّذي هو عينه أو جزؤه أو خارجه،

ص: 292

ينحلّ إلى قضيّةٍ مطلقةٍ عامّة عند الشّيخ، وقضيّةٍ ممكنة عند الفارابي(1)،

___________________

كذلك يتّصف بوصف المحمول، ويسمّى الأوّل عقد الوضع، والثّاني عقد الحمل، والأوّل تركيب تقييدي، والثّاني تركيب خبري.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) أضاف إلى ذلك عقداً ثالثاً سمّاه عقد الحمل، وهو انحلال نفس المحمول إلى ذات ووصف، وهذا أيضاً تركيب تقييدي مستلزم لنسبة خبريّة.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ عقد الحمل على اصطلاح المشهور مكيّف بإحدى الكيفيّات الثّمانية - أعني: الضّروره والدّوام والإمكان وغيرها - وأمّا عقد الوضع ففيه خلاف بين الشّيخ الرّئيس أبي علي ابن سينا وبين المعلّم الثّاني أبي نصر الفارابي، فإنّه {ينحلّ إلى قضيّة مطلقة عامّة عند الشّيخ} فيلزم فيه الفعليّة، من غير فرق بين أن يكون في الماضي أو الحال أو المستقبل، حتّى أنّه لا يصحّ الحكم بالمحمول على ما لا يتّصف بوصف الموضوع دائماً {وقضيّة ممكنة عند الفارابي} فلا يلزمالفعليّة بل يكفي الإمكان.

مثلاً لو قلنا: (كلّ أبيض كذا) فعلى رأي الشّيخ إنّ الحكم بالكذائيّة على كلّ ما اتصف بالبياض في أحد الأزمنة الثّلاثة، وعلى مذهب الفارابي إنّه على كلّ ما أمكن أن يتّصف بالبياض ولو لم يتّصف به في زمن أصلاً، فعلى مذهبه يتناول الحكم الزّنوج، بخلافه على مذهب الشّيخ.

ولا يذهب عليك أنّ مراد الفارابي من الإمكان العام المقيّد بجانب الوجود المقابل للامتناع، فلا يرد عليه ما قيل: إِنّه إن أراد الإمكان الخاص خرجت القضايا الّتي كان اتصاف الموضوع بالعنوان فيها ضروريّاً، كقولنا: (كلّ إنسان حيوان) و(كلّ حجر جماد) ونظائرهما، وإن أراد به الإمكان العام لا يصدق قضيّة

ص: 293


1- شرح المطالع: 128.

فتأمّل.

لكنّه(قدس

سره) تنظّر في ما أفاده بقوله: «وفيه نظر؛ لأنّ الذّات المأخوذة مقيّدةً بالوصف - قوّة أو فعلاً - إن كانت مقيّدةً به واقعاً صَدَقَ الإيجابُ بالضّرورة، وإلّا صَدَقَ السَّلْبُ بالضّرورة،

___________________

كليّة أصلاً، لشمولها حينئذٍ الأفراد الّتي يمتنع اتصافها بالوصف العنواني. وكذا ليس المراد بالإمكان القوّة - كما توهّم - ، فلا ينتقض بلزوم صدق كلّ إنسان حيوان على النّطفة، مع أنّها ليست بحيوان بديهة.

ولا يخفى أنّ مذهب الشّيخ هو المختار؛ لأنّه المتبادر في العرف واللّغة {فتأمّل} يمكن أن يكون أمره بالتأمّل إشارة إلى ما تقدّم من الإشكال في الشّقّ الأوّل، وما أُشير إليه من الإشكال في الشّقّ الثّاني، فراجع.

{لكنّه} أي: صاحب الفصول {(قدس سره) تنظّر في ماأفاده بقوله: «وفيه نظر} وبيان ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ الموضوع قد يؤخذ بشرط المحمول، وقد يؤخذ بشرط عدم المحمول، وقد يؤخذ لا بشرط.

مثلاً قولنا: (زيد كاتب) فزيد قد يؤخذ بشرط الكتابة، فيكون المحمول ضروريّاً، لعدم تعقّل انفكاك زيد الكاتب عن الكتابة، وقد يؤخذ بشرط عدم الكتابة، فيكون سلب المحمول ضروريّاً، لعدم تعقّل اتصاف زيد اللّا كاتب بالكتابة، وقد يؤخذ لا بشرط الكتابة ولا بشرط عدمها، وهذا ممكن الاتّصاف بكلّ منهما.

إذا عرفت ذلك تبيّن لك أنّ قول صاحب الفصول: «وليس ثبوته حينئذٍ بالضرورة» في الجواب عن الشّقّ الثّاني، غير مستقيم {لأنّ الذّات المأخوذة مقيّدة بالوصف قوّة أو فعلاً إن كانت مقيّدة به واقعاً} بأن أخذ بشرط المحمول {صدق الإيجاب بالضرورة} فيصحّ الانقلاب الّذي ذكره الشّريف {وإلّا} يكن مقيّدة بالوصف بل مقيّدة بعدم الوصف {صدق السّلب بالضرورة} كما أنّه إذا أخذ لا بشرط

ص: 294

مثلاً لا يصدق: (زيد كاتب بالضّرورة) لكن يصدق: (زيد الكاتب بالقوّة أو بالفعل بالضّرورة)»(1)،

___________________

لا يصدق أحدهما {مثلاً لا يصدق (زيد كاتب بالضرورة)} لعدم أخذ المحمول في الموضوع {لكن يصدق (زيد الكاتب بالقوّة أو بالفعل بالضرورة)»} لأخذ المحمول في الموضوع.هذا مراد الفصول على مشرب بعض، ومعناه على مشرب بعض آخر هكذا: «لأنّ الذّات المأخوذة مقيّدة بالوصف» أي: وصف المحمول سواء كان الوصف «قوّة» نحو (زيد الأُمّي كاتب بالإمكان)، «أو فعلاً» من غير فرقٍ في الفعليّة بين الملكة والصّنعة والتّلبّس «إن كانت» هذه الذّات «مقيّدة به» أي: بالوصف «واقعاً» بأن أخذ الوصف مقيّداً بمادّة نسبته الواقعيّة «صدق الإيجاب بالضرورة»، مثلاً: ذات زيد إذا كانت كاتبة بالإمكان، صَدَقَ (زيد كاتب بالإمكان) ويلزم صدق (زيد الكاتب بالإمكان بالضرورة) - يعني أنّ إمكان الكتابة لزيد ضروريّ - وحينئذٍ يلزم الانقلاب الّذي ذكره الشّريف «وإلّا» تكن الذّات المقيّدة بالوصف مقيّدة به واقعاً، كأن لم تكن ذات زيد كاتبة بالإمكان «صدق السّلب بالضرورة» إذ يصدق (زيد ليس بكاتب بالإمكان) المستلزم لصدق (زيد ليس بكاتب بالإمكان بالضّرورة).

ولا يذهب عليك أنّ هذه الضّرورة في الإيجاب والسّلب بيان للصّدق وعدم الصّدق، لا بيان لكيفيّة النّسبة بين الموضوع والمحمول، ولهذا - مثلاً - لا يصدق زيد كاتب بالضرورة؛ لأنّ ظاهر كلمة «بالضّرورة» كونها بياناً للنّسبة، مع أنّ النّسبة ليست ضروريّة، و«لكن يصدق زيد الكاتب بالقوّة» في الأُمّي «أو بالفعل» في غيره «بالضّرورة» لأنّ ظاهر كلمة «الضّرورة» حينئذٍ - بعد بيان كيفيّة

ص: 295


1- الفصول الغرويّة: 61.

انتهى.

ولا يذهب عليك: أنّ صدق الإيجاب بالضّرورة - بشرط كونه مقيّداً به واقعاً - لا يصحّح دعوى الانقلاب إلى الضّروريّة؛ ضرورةَ صدق الإيجاب بالضّرورة بشرط المحمول في كُلِّ قضيّةٍ ولو كانت ممكنة،

___________________

النّسبة - كونها بياناً للصّدق، يعني: أنّ إمكان الكتابة لزيد أو فعليّتها ضروري.وبهذا تبيّن أنّ ما ثبت في نسخ الكفاية - من قوله: «زيد الكاتب بالقوّة أو بالفعل كاتب بالضرورة» - غلط، مع أنّه مخالف لعبارة الفصول، فراجع {انتهى} كلام الفصول مع تفسيريه.

ثمّ إنّ المصنّف اختار الوجه الأوّل من التّفسيرين، ولهذا أجاب بقوله: {ولا يذهب عليك أنّ صدق الإيجاب بالضرورة بشرط كونه} أي: كون الموضوع {مقيّداً به واقعاً} أي: بالمحمول - على ما تقدّم بيانه - خارج عن محلّ البحث في المقام، إذ البحث في أنّ أخذ الذّات في مفهوم المشتق يوجب انقلاب القضيّة الممكنة إلى الضّروريّة أم لا؟ وأمّا ما ذكره صاحب الفصول من الانقلاب فليس من جهة أخذ الذّات في مفهوم المشتقّ، بل من جهة أخذ المحمول شرطاً في الموضوع.

والحاصل: أنّ الانقلاب الّذي ذكره الشّريف آتٍ من جهة أخذ الموضوع في المحمول، والانقلاب الّذي ذكره الفصول آتٍ من جهة أخذ المحمول في الموضوع، فمصبّهما مختلف، فلا يكون أحدهما مؤيّداً للآخر، فإنّ أخذ المحمول في الموضوع {لا يصحّح دعوى الانقلاب إلى الضّروريّة} الّذي رامه الشّريف {ضرورة صدق الإيجاب بالضّرورة بشرط المحمول في كلّ قضيّة ولو كانت ممكنة} ولو لم يؤخذ الذّات في مفهوم المشتق، بل ولو لم يكن المحمول مشتقّاً أصلاً.

ص: 296

كما لا يكاد يضرّ بها صدق السّلب كذلك بشرط عدم كونه مقيّداً به واقعاً؛ لضرورة السّلب بهذا الشّرط.

وذلك لوضوح أنّ المناط في الجهات وموادّ القضايا إنّما هو بملاحظة أنّ نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجّهة بأيّ جهةٍ منها، ومع أيّةٍ منها في نفسها صادقةٌ، لا بملاحظة ثبوتها له واقعاً أو عدم ثبوتهاله كذلك، وإلّا كانت الجهة منحصرةً بالضّرورة؛

___________________

فصدق هذه الضّرورة لا تضرّ بالممكنة {كما لا يكاد يَضُرُّ بها صدق السّلب كذلك} أي: بهذه الضّرورة {بشرط عدم كونه} أي: عدم كون الموضوع {مقيّداً به} أي: مقيّداً بالمحمول {واقعاً} والأحسن في العبارة أن يقول: «بشرط تقيّده بالعدم» فإنّه مفاد بشرط لا، وأمّا عدم التّقيّد فهو مفاد اللّابشرطيّة وكأنّ المصنّف(رحمة الله) راعى المقابلة بينه وبين قوله - في السّابق - : «بشرط كونه مقيّداً به».

وعلى كلّ تقدير فاللّازم ملاحظة الموضوع في نفسه، لا بشرط المحمول ليكون ضروري الإيجاب، ولا بشرط عدم المحمول {لضرورة السّلب بهذا الشّرط، و} وجه {ذلك} الّذي ذكرنا من عدم تصحيح الانقلاب بأخذ الموضوع بشرط المحمول في الموجبة وعدم المضرّة في السّالبة {لوضوح أنّ المناط في الجهات} اللّفظيّة(1) {وموادّ القضايا} الواقعيّة {إنّما هو بملاحظة} أخذ الموضوع لا بشرط وتصوّر {أنّ نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجّهة بأيّ جهة منها} أي: من الجهات والمواد الثّمانية، {ومع أيّة منها في نفسها صادقة، لا} أنّ المناط في الجهات {بملاحظة} أخذ الموضوع بشرط شيءٍ في الموجبة، أي: بشرط {ثبوتها} أي: ثبوت المحمولات {له} أي: للموضوع {واقعاً، أو} بملاحظة أخذ الموضوع بشرط لا في السّالبة، أي: بشرط {عدم ثبوتها له كذلك} واقعاً {وإلّا} يكن الموضوعلا بشرطٍ {كانت الجهة} في جميع القضايا {منحصرة بالضرورة} في الإيجاب

ص: 297


1- قد تقدّم أنّ كيفيّة النّسبة الواقعيّة تسمّى بالمادّة واللّفظيّة تسمّى بالجهة.

ضرورةَ صيرورة الإيجاب أو السّلب - بلحاظ الثّبوت وعدمه - واقعاً ضروريّاً، ويكون من باب الضّرورة بشرط المحمول.

وبالجملة: الدّعوى هو انقلاب مادّة الإمكان بالضّرورة في ما ليست مادّته واقعاً في نفسه وبلا شرط غيرَ الإمكان.

___________________

والسّلب {ضرورة صيرورة الإيجاب أو السّلب بلحاظ الثّبوت} أي: ثبوت المحمول في الموجبة {وعدمه واقعاً} أي: بلحاظ عدم ثبوت المحمول في السّالبة {ضروريّاً} خبر صار {ويكون} حينئذٍ {من باب الضّرورة بشرط المحمول} وهو ساقط عن درجة الاعتبار.

{وبالجملة الدّعوى} أي: دعوى الشّريف {هو انقلاب مادّة الإمكان بالضرورة} إذا أخذ في المشتق مصداق الذّات {في ما} أي: في قضيّة {ليست مادّته واقعاً في نفسه وبلا شرط} محمول {غير الإمكان} نحو (زيد كاتب) وتأييد الفصول هو انقلاب مادّة الإمكان إلى الضّروره في ما أخذ الموضوع بشرط المحمول وبينهما بون بعيد.

هذا كلّه جواب المصنّف(رحمة الله) على تقدير إرادة صاحب الفصول التّفسير الأوّل.

وأمّا على تقدير إرادته التّفسير الثّاني، فالجواب عنه - كما في حاشية بعضالأعلام(1) بتوضيح منّا - : أنّه لا دخل له بأخذ الذّات في مفهوم المشتق، إذ ليس انقلاب الممكنة إلى الضّروريّة جاء من قِبَل أخذ الذّات في مفهوم المشتق - الّذي هو المدّعى للمحقّق الشّريف - ، وإنّما جاء من قبل تقييد الوصف بمادّة نسبته واقعاً، ولذا لو فرض إخلاء القضيّة من لفظ المشتق كان اللّازم ذلك - الّذي ذكره صاحب الفصول - إذ كلّما صدق (زيد له الكتابة بالإمكان) يصدق (زيد له الكتابة الممكنة بالضرورة) وأين هذا ممّا نحن فيه، انتهى.

ولا يذهب عليك أنّ جواب المصنّف صار موقع اشتباه لبعض المحشّين، فزعم

ص: 298


1- راجع ما أفاده السلطان في الحاشية على كفاية الأصول 1: 265.

___________________

أنّ ما يقوله المصنّف وينسبه إلى صاحب الفصول من الضّرورة بشرط المحمول موافق لكلام السُّهْرَوَرْدِيّ، فلا يخلو التّنبيه عليه من فائدة، فنقول:

الممكن محفوف بوجوبين وبعدمين.

أمّا الوجوب الأوّل: فهو الوجوب السّابق الّذي يثبت من ناحية علّته، ومن هنا يقولون: «إنّ الشّيء ما لم يجب لم يوجد» أي: ما لم تصر علّته تامّة ولم ينسدّ جميع أنحاء عدمه من طرف العلّة، وإلّا لزم التّرجيح من غير مرجّح وهو محال.

وأمّا الوجوب الثّاني: فهو الوجوب اللّاحق الّذي هو الضّرورة بشرط المحمول، فإنّ الموضوع بشرط ثبوت المحمول له بحسب الواقع يمتنع ثبوت نقيضه له.

وأمّا العدم الأوّل: فهو عدمه من ناحية عدم العلّة.

وأمّا العدم الثّاني: فهو العدم محمولٍ خاصٍّ له.

ثمّ إنّ الشيخ الإشراقي شِهاب الدّين السّهرورديّ أرجع جميع الموجّهات إلى الضّروريّة وقال في محكي حكمة الإشراق ما لفظه: «لمّا كان الممكن إمكانهضروريّاً،

والممتنع امتناعه ضروريّاً، والواجب وجوبه أيضاً كذلك، فالأولى أن يجعل الجهات - من الوجوب وقسيميه - أجزاءً للمحمولات، حتّى تصير القضيّة على جميع الأحوال ضروريّة، كما تقول: (كلّ إنسان بالضرورة هو يمكن أن يكون كاتباً، أو يجب أن يكون حيواناً، أو يمتنع أن يكون حجراً)، فهذه هي الضّرورة البتّانة، فإنّا إذا طلبنا في العلوم إمكان شيء أو امتناعه فهو جزء مطلوبنا - أي: لا أنّه جهة له، بل الجهة في الكلّ هي الضّرورة المطلقة - ولا يمكننا أن نحكم حكماً جازماً إلّا ممّا نعلم أنّه بالضرورة كذا، فلا نورد من القضايا إلّا البتّانة»(1)،

انتهى.

قال السّبزواري في ردّه:

ص: 299


1- شرح المنظومة 1: 263.

___________________

«لكنّنا قد اقتفينا إثرهم إذ ذلك التّفصيل شرح ما حتم

أي: للضّرورة مراتب متفاوتة، فينبغي أن ينبّه على أنّ الضّرورة الذّاتيّة غير الضّرورة الوصفيّة وغير الضّرورة الموقّتة، وإنّ الّتي مع استحالة الانفكاك غير الّتي في ضمن الدّوام الّذي لا معها وقس عليها. نعم، مطلق الضّرورة أصل محفوظ فيها»(1)، انتهى.

إذا عرفت هذين الأمرين علمت أنّ الضّرورة بشرط المحمول الّذي ادّعاها المصنّف(رحمة الله) غير الضّرورة الّتي ادّعاها شيخ الإشراق، إذ معنى الأوّل ضرورة ثبوت المحمول للموضوع وحمله عليه، ومعنى الثّاني ضرورة إمكان المحمول للموضوع. وإنّما أطلنا الكلام في المقام لما رأينا من صعوبة بعض هذه الاصطلاحات الدّائرة في الأصول على بعض الأذهان.

وقد تحصّل من الأمر الأوّل إلى هنا كلام الشّريف بشقّيه، وإشكال الفصول علىشقّة الأوّل، وإشكال المصنّف على ردّ الفصول وجواب المصنّف عن الشّقّ الأوّل وجواب الفصول عن الشّقّ الثّاني من كلام الشّريف، وردّ المصنّف على جواب الفصول وإشكال الفصول على جوابه عن الشّقّ الثّاني، وإشكال المصنّف عليه(2).

ص: 300


1- شرح المنظومة 1: 264.
2- فالشقّ الأوّل هو قوله: «إنّ مفهوم الشّيء...»، والشّقّ الثّاني هو قوله: «ولو اعتبر فيه...»، وإشكال الفصول هو قوله: «وقد أورد عليه في الفصول...، وإشكال المصنّف على ردّ الفصول هو قوله: «وفيه أنّه من المقطوع...»، وجواب المصنّف على الشِّقّ الأوّل هو قوله: «والتّحقيق أن يقال...»، وجواب الفصول عن الشّقّ الثّاني هو قوله: «ثمّ قال إنّه يمكن أن يختار...»، وردّ المصنّف على جواب الفصول هو قوله: «ويمكن أن يقال إنّ عدم...»، وإشكال الفصول على جوابه عن الشّقّ الثّاني هو قوله: «لكن(قدس سره) تنظّر...»، وإشكال المصنّف عليه هو قوله: «ولا يذهب عليك أنّ صدق...». ثمّ إنّ هنا كلامين آخرين يأتي: الأوّل: إشكال الفصول على الشّريف بأنّه لم جعل التّالي في الشّرطيّة الثّانية خاصّاً بهما، فهذا التّالي يجري في الشّرطيّة الأُولى أيضاً، وأشار إليه بقوله: «وقد انقدح بذلك عدم نهوض...». الثّاني: جواب المصنّف عن هذا الإشكال، وأشار إليه بقوله: «فإنّ لحوق مفهوم الشّيء...» فتلك عشرة كاملة.

___________________

ولمّا تنظّر الفصول في ما أورده على الوجه الثّاني المنقول عن الشّريف أنّ الانقلاب الّذي ادّعاه الشّريف موجود، ولا يدفعه تقييد الموضوع قال ما لفظه: «ولا يذهب عليك أنّه يمكن التّمسّك بالبيان المذكور على إبطال الوجه الأوّل أيضاً؛ لأنّ لحوق مفهوم الذّات أو الشّيء لمصداقيهما أيضاً ضروريّ ولا وجه لتخصيصه بالوجه الثّاني»(1)،

انتهى(2).وحاصله: على ما أظنّ أنّه(رحمة

الله) أجرى إشكال الانقلاب الّذي أورده الشّريف على الشّقّ الثّاني في الشّقّ الأوّل، وهو ما إذا أخذ مفهوم الشّيء في معنى المشتق وهناك مقدّمة مطويّة وهي: أنّه كما يلزم من دخول الذّات في المشتق الانقلاب، كذلك يلزم من دخول المفهوم في المشتق الانقلاب، إلّا أنّ الأوّل انقلاب الضّروريّة - كالفصل - إلى الممكنة، والثّاني انقلاب الممكنة - كالكاتب - إلى الضّروريّة.

وهذا هو المراد بقوله: «ولا وجه» الخ، أي: لا وجه لتخصيص الشّريف الانقلاب بالوجه الثّاني وهو أخذ الذّات في المشتق، بل يجري الانقلاب في الوجه الأوّل وهو أخذ المفهوم في المشتق.

ص: 301


1- الفصول الغرويّة: 62.
2- وبيانه - كما في حاشية السّلطان دام بقاه - : «أنّه لو كان مفهوم الشّيء مأخوذاً في المشتق كقولنا: (الإنسان ضاحك) لزم كون هذه القضيّة ضروريّة؛ لأنّ مفهوم الشّيء وإن لم يكن ذاتيّاً للأشياء بالمعنى الإيساغوجي الّذي هو الجنس والفصل، لكنّه ذاتيّ بالمعنى المصطلح عليه في كتاب البرهان، بمعنى كونه منتزعاً عن مقام ذات الأشياء بلا واسطة، فيكون لحوقه لها ضروريّاً ولو كان مقيّداً بالضحك فضلاً عن كونه مقيّداً بالنطق فيلزم الانقلاب. وفيه ما أفاده الأستاذ من أنّ لحوق الشّيء المطلق ضروريّ لا الشّيء المقيّد بالضحك مثلاً. اللّهمّ إلّا أن يجعل المحمول قيداً للموضوع فيصير ضرورة بشرط المحمول وهذا خروج عمّا نحن فيه؛ لأنّ المدّعى انقلاب مادّة الإمكان بالضرورة في ما ليست مادّته واقعاً في نفسه - مع قطع النّظر عن الشّرط المذكور - غير الإمكان»؛ الحاشية على كفاية الأصول 1: 265.

وقد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده(رحمة الله) بإبطال الوجه الأوّل - كما زعمه(قدس سره) - فإنّ لحوق مفهوم الشّيء والذّات لمصاديقهما إنّما يكون ضروريّاً مع إطلاقهما، لا مطلقاً

___________________

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من ردّ قول الفصول بالانقلاب {عدم نهوض ما أفاده(رحمة الله)} صاحب الفصول من جعل الضّرورة بشرط المحمول {بإبطال الوجه الأوّل} أي: إبطال أخذ مفهوم الشّيء في المشتق {كما زعمه(قدس سره)} حيث قال: «ولا يذهب عليك أنّه يمكن» الخ(1).ووجه عدم النّهوض يحتاج إلى تمهيد مقدّمةٍ، وهي: أنّ مفهوم الشّيء الدّاخل في معنى المشتق على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: الشّيء مطلقاً الأعمّ من المطلق والمقيّد.

الثّاني: الشّيء المطلق.

الثّالث: الشّيء المقيّد.

فالأوّل لا بشرط، والثّاني بشرط لا، أي: بشرط عدم التّقييد، والثّالث بشرط شيء.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ ما زعمه الفصول - من أنّ أخذ مفهوم الشّيء في المشتقّ يوجب الانقلاب - غيرُ صحيح، {فإنّ} الفصول إن أراد من لحوق الشّيء بالمشتق {لحوق مفهوم الشّيء، و} مفهوم {الذّات لمصاديقهما} فهو {إنّما يكون ضروريّاً مع إطلاقهما} أي: إطلاق مفهوم الشّيء والذّات وهو القسم الثّاني، وحينئذٍ فضروريّته مسلّم لكن ليس محلّ الكلام، إذ لا يحمل الشّيء المطلق على الذّات، فليس معنى (الإنسان كاتب): الإنسان شيء مطلق.

والحاصل: أنّ مفهوم الشّيء المطلق ضروريّ {لا مطلقاً} أعمّ من المطلق والمقيّد

ص: 302


1- هذا على مذاق المصنّف من تفسيره لكلام الفصول ويظهر الوجه الآخر من التّفسير ممّا تقدّم، فتدبّر.

ولو مع التّقيّد، إلّا بشرط تقيّد المصاديق به أيضاً، وقد عرفت حال الشّرط، فافهم.

ثمّ إنّه لو جَعَلَ التّالي في الشّرطيّة الثّانية

___________________

وهو القسم الأوّل، فإنّ صاحب الفصول لو أراده كان باطلاً، إذ مفهوم الشّيءبمعناه الأوّل ليس ضروريّاً(1).

كيف والحال أنّ الشّيء مطلقاً يصدق {ولو مع التّقيّد} فإنّ المقيّد أحد افراد المطلق، ومن البديهي عدم ضروريّة المقيّد، فإنّ الشّي الكاتب ليس ضروريّاً للإنسان، وببطلان ضروريّة المطلق تبيّن بطلان ضروريّة القسم الثّالث، وهو: الشّيء بقيد الكاتب.

اللّهمّ {إلّا} أن يقال بضروريّة الشّيء المقيّد للموضوع {بشرط تقيّد المصاديق} أي: أفراد الموضوع {به} أي: بالمحمول {أيضاً} كما كان الشّيء مقيّداً به، وحينئذٍ تتحقّق الضّرورة بشرط المحمول، {و} لكن أخذ الموضوع بشرط المحمول غيرُ صحيحٍ، لما {قد عرفت} من {حال الشّرط} وأنّه لا يصحّح الانقلاب {فافهم} لعلّه إشارة إلى ما تقدّم من أنّ ظاهر عبارة الفصول ليس الضّرورة بشرط المحمول، حتّى يرد عليه بأنّ الكلام ليس في هذه الضّرورة، بل ظاهر كلامه ضرورة النّسبة الواقعيّة أعمّ من الإمكان وغيره، وحينئذٍ فجوابه ما تقدّم مِن أنّ صيرورة القضيّة ضروريّةً ليست لأجل أخذ المفهوم في المشتق، بل لأجل تقيّد الموضوع بالمحمول وهو خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّ الكلام في الانقلاب إلى الضّروريّة لأجل أخذ مفهوم الشّيء.

{ثمّ إنّه} أي: الشّريف {لو جعل التّالي في الشّرطيّة الثّانية} وهو قوله: «ولو اعتبر فيه ما صدق عليه الشّيء، انقلبت مادّة الإمكان الخاص ضرورة»

ص: 303


1- والحاصل: أنّ الشّيء مطلقاً ولو كان ضروريّاً ولكن ليس محلّ الكلام، والشّيء المطلق والشّيء المقيّد هما محلّ الكلام لكنّهما ليسا بضروريّ، فالضروريّ غير محلّ الكلام ومحلّ الكلام ليس بضروريّ.

لزومَ أخذِ النَّوْعِ في الفصل - ضرورةَ أنّ مصداق الشّيء الّذي له النّطق هو الإنسان -

كان أليق بالشّرطيّة الأُولى، بل كان أولى؛لفساده مطلقاً ولو لم يكن مثل: (النّاطق) بفصلٍ حقيقيٍّ؛ ضرورةَ بطلان أخذ الشّيء في لازمه وخاصّته، فتأمّل جيّداً.

___________________

{لزوم أخذ النّوع في الفصل، ضرورة أنّ مصداق الشّيء الّذي له النّطق هو الإنسان} فلو كان الإنسان داخلاً في النّاطق لزم ما ذكر {كان} هذا التّالي {أليق ب} التّالي في {الشّرطيّة الأُولى} إذ تالي الشّرطيّة الأُولى لزوم أخذ العرض العام في الفصل، ووجه الأولويّة كون كلا المحذورين واردين في مثال واحد.

{بل كان} هذا التّالي الّذي ذكرنا {أولى} من جعل التّالي في الشّرطيّة الأُولى دخول العرض العام في الفصل {لفساده} أي: فساد ما ذكرنا من التّالي {مطلقاً} سواء كان النّاطق فصلاً حقيقيّاً أم لم يكن {و} ذلك بخلاف التّالي الّذي ذكره الشّريف، فإنّه {لو لم يكن مثل: (النّاطق) بفصل حقيقي} لم يكن التّالي باطلاً - كما تقدّم - أمّا وجه فساد ما ذكرنا من التّالي مطلقاً فل {ضرورة بطلان أخذ} مفهوم {الشّيء في لازمه وخاصّته} فإنّ النّاطق ولو لم يكن فصلاً لكنّه لازم وخاصّة للفصل يقيناً {فتأمّل جيّداً} حتّى لا تشتبه عليك الكلمات وهي عشرة كاملات - كما سبق في الحاشية - .

قال المشكيني(رحمة الله): «وقد تبيّن من جميع ما ذكرنا أنّه لا يتمّ البرهان الّذي ذكره الشّريف، أمّا الشّقّ الأوّل فلأنّ اللّازم أخذ العرض في الخاصّة، وأمّا الشّقّ الثّاني فلأنّك قد عرفت عدم الانقلاب أصلاً، على أنّك قد عرفت سابقاً أنّ المأخوذ هو المفهوم لا المصداق؛ لأنّه لا صحّة له في نفسه، ومنه يظهر عدملزوم أخذ النّوع في العرض أو هو في الفصل»(1)،

انتهى.

ص: 304


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 283.

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على البساطة بضرورة عدم تكرار الموصوف في مثل: (زيد الكاتب)، ولزومُهُ من التّركّب وأخذِ الشّيء - مصداقاً أو مفهوماً - في مفهومه.

إرشاد

___________________

{ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على البساطة} أي: بساطة مفهوم المشتقّ بما استدلّ به المحقّق الدّواني(1)

{بضرورة عدم تكرّر الموصوف في} المشتقّات المحمولة {مثل: (زيد الكاتب) ولزومه} أي: مع أنّه يلزم التّكرار {من التّركّب} قطعاً، إذ يكون هناك موصوف أوّل وهو المبتدأ وموصوف ثان وهو الجزء الأوّل من المحمول المركّب {و} ذلك من غير فرقٍ بين {أخذ الشّيء} - وهو الموصوف الثّاني {مصداقاً أو مفهوماً - في مفهومه} أي: في مفهوم المشتق، لوضوح أنّه لو دخل في مفهوم (الأبيض) الشّيء كان معنى قولك: (الثّوب الأبيض) الثّوب الشيء الأبيض، ولو دخل فيه مصداق الشّيء - وهو الثّوب في المثال - كان معنى الجملة الثّوب الثّوب الأبيض، وكلاهما ضروري البطلان لتبادر خلافهما.

[إرشاد]

{إرشاد} في معنى بساطة المشتق، اعلم أنّ البساطة تطلق على معنيين:

الأوّل: البساطة بحسب المفهوم، والمراد بها كون حضور المفهوم في الذّهنحضوراً لمعنى واحد ك(الإنسان)، ويقابل هذا القسم المركّب بحسب المفهوم، وهو الّذي يكون حضوره حضوراً للمتعدد نحو (رامي الحجارة).

الثّاني: البساطة بحسب الحقيقة، والمراد بها عدم انحلال المفهوم ولو بالتّعمّل العقلي، ويقابل هذا القسم المركّب بحسب الحقيقة، وهو ما ينحلّ بنظر العقل وتعمّله ولو إلى الجنس والفصل، ف(الإنسان) مركّب بهذا الاعتبار و(النّاطق)

ص: 305


1- استدلّ بهذا الدليل في حاشيته على شرح التجريد للقوشجي، كما واستدلّ به المحقّق السبزواري في تعليقته على الأسفار.

لا يخفى: أنّ معنى البساطة - بحسب المفهوم - وحدتُهُ إدراكاً وتصوّراً، بحيث لا يتصوّر عند تصوّره إلّا شيءٌ واحدٌ، لا شيئان، وإن انحلّ بتعمّل من العقل إلى شيئين، كانحلال مفهوم الحجر والشّجر إلى شيءٍ له الحجريّة أو الشجريّة، مع وضوح بساطة مفهومها.

وبالجملة لا ينثلم - بالانحلال إلى الاثنينيّة بالتّعمّل العقليّ - وحدةُ المعنى وبساطةُ المفهوم، كما لا يخفى.

___________________

بسيط - على قولهم - فالبسيط المفهومي أعمّ من البسيط الحقيقي، والمركّب الحقيقي أعمّ من المركّب المفهومي، فبين البسيطين والمركّبين عموم مطلق لكن متعاكساً.

ثمّ {لا يخفى أنّ معنى البساطة بحسب المفهوم} الّذي ندّعيه في المشتق {وحدته} أي: وحدة المعنى {إدراكاً وتصوّراً} فإنّ حضور المشتق في الذّهن حضور شيء واحد {بحيث لا يتصوّر عند تصوّره إلّا شيء واحدٌ} فتصوّر (الأبيض والأسود والضّارب) يرادف تصوّر (سفيد و سياه و زننده) في الفارسيّة، و{لا} يحضر {شيئان} بالوِجدان {وإن} كان هذا البسيط المفهومي مركّباً حقيقيّاً، بأن {انحلّ بتعمّل من العقلإلى شيئين} فلا تنافي بينهما، إذ البساطةُ في حاق الذّهن، والتّركيبُ في ظرف التحليل، وذلك {كانحلال مفهوم الحجر والشّجر} مع أنّهما بسيطان مفهوماً {إلى شيء له الحجريّة أو الشّجريّة} فهما منحلّان تعمّلاً {مع وضوح بساطة مفهومها} ذهناً.

وبهذا تبيّن الجواب عن الكلام الّذي ذكره الفصول في أوّل المبحث من التّنافي بين ما اشتهر من تركيب المشتق وبين بساطته.

والحاصل: أنّه لا منافاة بين البساطة الذّهنيّة والتّركيب العقلي، فلا يرد على البساطة ما يذكره القوم من أنّ الضّارب معناه شيء له الضّرب {وبالجملة لا ينثلم بالانحلال} أي: انحلال المشتق كغيره {إلى الاثنينيّة بالتعمّل العقلي وحدة المعنى وبساطة المفهوم} في ظرف الذّهن {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

ص: 306

وإلى ذلك يرجع الإجمال والتّفصيل الفارقان بين المحدود والحدّ، مع ما هما عليه من الاتّحاد ذاتاً، فالعقل بالتّعمّل يحلّل النّوع ويفصّله إلى جنسٍ وفَصْلٍ، بعدَ ما كان أمراً واحداً إدراكاً، وشيئاً فارداً تصوّراً، فالتّحليل يوجب فَتْقَ ما هو عليه من الجمع والرّتق.

___________________

{وإلى ذلك} الّذي ذكرنا من البساطة في حاق الذّهن والتّركيب في ظرف التّحليل العقلي {يرجع الإجمال والتفصيل الفارقان بين المحدود والحد، مع ما هما} أي: الحد والمحدود {عليه، من الاتحاد ذاتاً}.

وبهذا يرتفع الإشكال الوارد بأنّ الحد لو كان عين المحدود، لزم إحالةتعريف الشّيء على نفسه، وإن كان بجزئه كان تعريفاً بجزء نفسه الأخفى، وإن كان بخارجه، فإنّ المباين لا يصير معرّفاً، وإلّا لعرف كلّ شيء كلّ شيء.

بيان الرّفع: أنّ المحدود عين الحد ذاتاً وغيره تصوّراً {فالعقل بالتعمّل} والتّكلّف {يحلّل النّوع ويفصّله إلى جنس وفصل} فما يجتمع فيه مع مشاركاته يجعله جنساً وما يختصّ به يجعله فصلاً {بعد ما كان} النّوع {أمراً واحداً إدراكاً} أي: بسيطاً مفهوميّاً {وشيئاً فارداً تصوّراً}.

والحاصل: أنّ التّحليل العقلي في المشتق - كما في الحدّ - لا ينافي وحدة المفهوم {فالتحليل يوجب فتق} أي: تفصيل {ما} أي: المعنى الّذي {هو} أي: المحدود {عليه من الجمع والرّتق} ذهناً، قال في المنظومة:

«فالحدّ بالتركّب اقتناصه *** وذا بأن تستشرفوا أشخاصه

حتّى تروا من أيّ الأجناس العشر *** فتأخذوا مقوّماتها الأُخر

فغبّما رتّب كلّما وجد *** حملاً ومعنى ساوت المحدود حد»(1)

وقال في حاشيته في دفع التّركيب الخارجي في المحدود: «قلت: أخذهما على الوجه المذكور من الماهيّة البسيطة إنّما هو بالتعمّل العقلي، فإنّ البسيط لا

ص: 307


1- شرح المنظومة 1: 185.

الثّاني: الفرق بين المشتقّ ومبدئه مفهوماً: أنّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبّس بالمبدأ، ولا يَعْصِي عن الجري عليه؛ لما هما عليه من نحو من الاتّحاد، بخلاف المبدأ، فإنّه بمعناه يأبى عن ذلك، بل إذا قيس

___________________

مادّة له ولا صورة له إلّا بمجرّد اعتبار العقل، فالتركيب في الحد لا يوجب التّركيب في المحدود وإن كان الحد عين المحدود، إذ التّفاوت بالإجمال والتّفصيل إنّما هو في الملاحظة لا في الملحوظ، لإمكان أخذ المعاني الكثيرة من ذات واحدة»(1)، انتهى. هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل من الأُمور الباقية.

الفرق بين المشتق والمبدأ

الأمر {الثّاني}: في دفع إشكال ورد على المختار في الأمر الأوّل، وحاصله: أنّ من ذهب إلى تركيب المشتق من الذّات والمبدأ صحّ عنده الفرق بين المشتق ومبدئه، وأوجب هذا الفرق صحّة الحمل في أحدهما دون الآخر. وأمّا المصنّف(رحمة الله) وغيره ممّن يرى بساطة المشتق فقد يشكل عليهم بأنّ المشتقّ لمّا لم يكن مأخوذاً فيه الذّات كان عين المبدأ بإضافة النّسبة، فكما لا يصحّ حمل المبدأ على الذّات يلزم أن لا يصحّ حمل المشتق.

والجواب عنه يظهر بعد بيان الفرق بين المشتق والمبدأ فنقول: {الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوماً} بعد عدم اعتبار الذّات فيه {أنّه} أي: المشتق {بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما} أي: على شيء {تلبّس بالمبدأ ولا يعصي عن الجري عليه} وذلك {لما هما عليه من نحو} خاص {من الاتحاد} بحسب الذّات أو بحسب الوجود، فالمشتق موضوع للمبدأ المنتزع عن الذّات، وهذا أوجب صحّة الحمل فيه {بخلاف المبدأ فإنّه بمعناه} الموضوع له {يأبى عن ذلك} الحمل والجري على الموصوف لكونه موضوعاً لنفس المبدأ {بل} المبدأ {إذا قيس} إلى

ص: 308


1- شرح المنظومة (الطبعة الحجرية): 44؛ الشواهد الربوبيّة: 127.

ونسب إليه كان غيره، لا هو هو، وملاك الحمل والجري إنّما هو نحو من الاتّحاد والهوهويّة.

وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما مِن أنّ المشتقّ يكون لا بشرطٍ، والمبدأ يكون بشرطِ لا، أي: يكون مفهوم المشتق غيرَ آبٍ عن الحمل، ومفهوم المبدأ يكون آبياً عنه.

___________________

الموصوف {ونسب إليه كان غيره} لبداهة أنّ الضّرب غير زيد {لا هو هو، و} منتزعاً عنه حتّى يتمّ {ملاك الحمل والجري} إذ ملاك الحمل {إنّما هو نحو من الاتحاد} بين المحمول والمحمول عليه {والهوهويّة} مصدر جعلي من هو هو، فقد تبيّن بما ذكر أنّ المغايرة بينهما مغايرة وضعيّة واقعيّة، بحيث لا يصحّ جعل أحدهما مكان الآخر إلّا بورود خاصّ أو عناية خاصّة.

{وإلى هذا} الفرق الواقعي {يرجع ما ذكره أهل العقول في} مقام {الفرق بينهما من أنّ المشتق يكون لا بشرط، والمبدأ يكون بشرط لا} ومرادهم بهذا الفرق ما تقدّم {أي: يكون مفهوم المشتقّ غير آبٍ عن الحمل} فيصحّ حمله ويصحّ عدم حمله فهو لا بشرط {ومفهوم المبدأ يكون آبياً عنه} فلا يصحّ حمله فهو بشرط لا.

قال الميرزا: «إنّ وجودات الأعراض - كما ثبت في محلّه - في حدّ أنفسها عين وجوداتها لموضوعاتها، بمعنى أنّ العرض غير موجود بوجودين؛ بل وجوده النّفسي عين وجوده الرّبطي، فوجودها في الخارج هو الرّابط بين ماهيّاتها وموضوعاتها، وإلّا فالموضوعات في ذواتها أجنبيّة عن ماهيّاتها ولا رابط بينهماإلّا الوجودات العرضيّة، وحينئذٍ فقد يلاحظ العرض على واقعه بلا مؤونة أُخرى، فحيث إنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه، فلا محالة يكون مرآةً ومعرّفاً لموضوعه ونعتاً له وفانياً فيه، حيث إنّه من أطواره وشئونه، وبهذا الاعتبار يكون عرضيّاً ومشتقّاً، وأُخرى يلاحظ لا كذلك بل بإسقاط تلك الحصّة - وهي كونه

ص: 309

وصاحب الفصول(رحمة الله) - حيث توهّم أنّ مرادهم إنّما هو بيان التّفرقة بهذين الاعتبارين، بلحاظ الطّوارئ والعوارِضِ الخارجيّة مع حفظ مفهومٍ واحدٍ - أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك؛ لأجل امتناع حمل العلم والحركة على الذّات وإن اعتبرا لا بشرطٍ،

___________________

لموضوعه - ويلاحظ بما هو شيء من الأشياء الخارجيّة، فيكون عرضاً مبايناً غير محمول، حيث إنّه بهذه الملاحظة غير موضوعه، فكيف يكون عينه ويعبّر عنه بالمصدر أو اسم المصدر؟» إلى أن يقول: «ولا فرق في ما ذكرنا بين أنحاء الأعراض، فإنّ الجهة المذكورة - وهي كون وجوداتها في أنفسها وجوداً لموضوعاتها - مشتركة بين الجميع، سواء كان قيامها بنحو الصّدور أو الحلول»(1)، انتهى.

{وصاحب الفصول(رحمة الله) حيث توهّم أنّ مرادهم} من اللّابشرطيّة في المشتق وبشرط اللّائيّة في المبدأ {إنّما هو بيان التّفرقة} بين المشتق ومبدئه {بهذين الاعتبارين} من غير دخالة لهما في قوام ذاتي المشتق والمبدأ، بل الفرق {بلحاظ الطّوارئ والعوارض الخارجيّة} عن المعنى الموضوع له {مع حفظ مفهوم واحد} فيهما {أوردعليهم بعدم استقامة الفرق} بين المشتق ومبدئه {بذلك} اللّابشرطيّة وبشرط اللّائيّة الطّارئة، وذلك {لأجل} أنّه لو كان الفرق اعتباريّاً محضاً من دون دخل في قوام المعنى لجاز استعمال كلّ واحد من المشتق والمبدأ في موضع الآخر، إذا لوحظ المشتق بشرط لا والمبدأ لا بشرط.

كما أنّ وحدة المعنى في المطلق والمقيّد موجب لاستعمال كلّ في مقام الآخر إذا جرّد المطلق عن الإطلاق والمقيّد عن التّقييد، مع أنّا نرى من {امتناع حمل العلم والحركة على الذّات} فلا يقال: (زيد علم أو حركة) {وإن اعتبر لا بشرط} وكذلك في عكسه يمتنع أن يقال: (العالم من مقولة الكيف) و(المتحرّك من مقولة كذا) وإن اعتبرا بشرط لا.

ص: 310


1- أجود التّقريرات 1: 73.

وغفل عن أنّ المراد ما ذكرنا، كما يظهر منهم من بيان الفرق بين الجنس والفصل، وبين المادّة والصّورة، فراجع.

___________________

{و} لكنّه(قدس سره) {غفل عن أنّ المراد} بقولهم: «لا بشرط وبشرط لا» {ما ذكرنا} من دخالتهما في قوام المعنى، لا أنّهما طوارئ خارجة عن ذات المعنى {كما يظهر} دخالة الخصوصيّة في المعنى {منهم، من بيان الفرق بين الجنس والفصل، وبين المادّة والصّورة، فراجع}(1).

والحاصل: أنّ تمثيلهم المبدأ والمشتق بالجنس والمادّة والفصل والصّورة - مع أنّ الفرق بينهما حقيقيّ وواقعي - يدلّ على أنّ مرادهم الفرق بين المبدأ والمشتقبالفرق الحقيقي الواقعي لا الاعتباري، وتوضيح المقام يتمّ ببيان أمرين:

الأوّل: بيان الفرق بين اللّابشرط وقسيميه في الذّهن وبينها في الخارج.

الثّاني: بيان الفرق بين المادّة والجنس والفصل والصّورة.

أمّا الأوّل فنقول: قال بعض الأعلام: «اعتبارات الماهية الثّلاثة - أعني: لا بشرطٍ، وبشرط شيءٍ، وبشرطِ لا - تارةً تكون بلحاظ الخارج، كما يقال: الماء - لا بشرط، أو بشرط البرودة، أو بشرط عدم الحرارة - رافِعٌ للعطش.

وأُخرى تكون بلحاظ الاعتبار، فيكون معنى بشرط شيءٍ: الشّيء الملحوظ معه شيء، ومعنى بشرط لا: الملحوظ وحده، ومعنى لا بشرط: الشّيء الملحوظ مع تجويز كونه وحده ولا وحده»(2)،

انتهى.

وأمّا الثّاني فنقول: قال صدر المتألّهين في محكي تعليقه على الشِّفاء ما لفظه:

ص: 311


1- قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «مع وضوح إنّ الجنس من الأجزاء الذّهنيّة والمادّة من الأجزاء الخارجيّة وكذا الفصل والصّورة، وممّن صرّح بأنّ الفرق بينهما بالذات لا بالاعتبار هو الشّيخ الرّئيس في كتاب الشّفا وإن خالفه المحقّق الدّواني وتبعه سيّد المدققين»، انتهى. شرح كفاية الأصول 1: 78.
2- حقائق الأصول 1: 131.

___________________

«اعلم أنّ كلّاً من الجنس والفصل إذا أُخذ لا بشرط شيءٍ كان مبهم الوجود يحتمل أن يصير عين الآخر في الوجود، ولذلك يحملان على شيء واحد ويحمل كلّ منهما على الآخر لاتحادهما في الوجود، وأمّا إذا أُخذ كلّ منهما أو أحدهما بشرط عدم دخول الآخر في وجوده فيصير جزءاً للنّوع المركّب منهما»(1)،

انتهى.

ومراده أنّه لو لوحظ كلّ منهما بنفسه مع قطع النّظر عن الآخر كان بشرط لا، ويعبّر عنهما حينئذٍ بالنفس والبدل، ولو لوحظ كلّ منهما مبهماً، بحيث إذا أُضيف إليه الآخر كان عينه كانا لا بشرط، ويعبّر عنهما حينئذٍ بالجنس والفصل.ثمّ إنّ اعتبار المادّة والصّورة إنّما يكون بالنظر إلى كون كلّ منهما معنى تامّاً في نفسه، ومأخذ هذا الاعتبار كون المادّة قوّة والصّورة فعليّة، كما أنّ اعتبار الجنس والفصل إنّما يكون بالنظر إلى اندكاك كلّ منهما في الآخر، ومأخذ هذا الاعتبار كونهما موجودين بوجود واحد، وهكذا الحال في البياض والأبيض بالنسبة إلى الثّوب.

والحاصل: أنّ المادّة والصّورة موضوعتان للجزء فقط، والجنس والفصل موضوعان للجزء المطلق.

قال السّبزواري في حاشية قوله: «إنّ كلّاً من هاتين - المادّة والصّورة - مع كلّ من هذين - الجنس والفصل - مختلف اعتباراً» ما لفظه: «أي: المادّة متحدة مع الجنس الطّبيعي ذاتاً ومختلفة معه باعتباري بشرط لا ولا بشرط، وكذا الصّورة مع الفصل الطّبيعي»(2)،

انتهى.

ص: 312


1- الحاشية على إلهيات الشفاء: 208.
2- شرح المنظومة 2: 351.

الثّالِثُ: مِلاكُ الحمِل - كما أشرنا إليه - هو الهوهويّة والاتّحاد من وجهٍ، والمغايرة من وجهٍ آخَرَ، كما يكون بين المشتقّات والذّوات.

ولا يعتبر معه ملاحظة التّركيب بين المتغايرين، واعتبار كون مجموعهما - بما هو كذلك - واحداً، بل يكون لحاظ ذلك مخلّاً؛ لاستلزامه المغايرة بالجزئيّة والكليّة.

___________________

دفع اشتباه الفصول

{الثّالث} من الأُمور الباقية في دفع اشتباه وقع من الفصول في بيان الحمل فنقول: {ملاك الحمل} المصحّح له {كما أشرناإليه} في الأمر الثّاني {هو الهوهويّة} بأن يكون الموضوع نفس المحمول {و} أن يكون {الاتحاد} بينهما {من وجهٍ} كالاتحاد الذّاتي {والمغايرة من وجهٍ آخَرَ} كالمفهومي {كما يكون} هذا النّحو من الاتحاد والمغايرة {بين المشتقّات} المحمولة {والذّوات} الموضوعة، ففي قولنا: (زيد كاتب) ذات واحد ومفهومان، قال في المنظومة:

«بكثرة تعلّقت غيريّة *** كذاك بالوحدة هو هويّة

هذي هي الحمل وفيه اعتبر *** جهتي الوحدة والتّكثّر»(1)

ولا يفرق في هذا الحكم بين أقسام الحمل من الذّاتي والشّائع وغيرهما. نعم، يكفي المغايرة الاعتباريّة، ولهذا يقال: (الإنسان إنسان) في مقام توهّم المغايرة في مقام الجعل.

{ولا يعتبر معه} أي: مع ما ذكر من الاتحاد والمغايرة ما ذكره في الفصول من {ملاحظة التّركيب بين المتغايرين} بأن يجعل كلّ واحد من الموضوع والمحمول جزء مركّب {واعتبار كون مجموعهما بما هو كذلك} مجموع {واحداً} اعتباريّاً {بل يكون لحاظ ذلك} التّركيب {مخلّاً} بالحمل {لاستلزامه} أي: التّركيب الّذي ادّعاه الفصول {المغايرة بالجزئيّة والكليّة} فكلّ من الموضوع والمحمول جزء،

ص: 313


1- شرح المنظومة 2: 390.

ومن الواضح أنّ مِلاكَ الحَمْلِ لحاظُ بنحو الاتّحادٍ بين الموضوع والمحمول، مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التّحديدات وسائر القضايا في طرف الموضوعات، بل لا يُلحظ في طرفها إلّا نفس معانيها، كما هو الحالفي طرف المحمولات، ولا يكون حملها عليها إلّا بملاحظة ما هما عليه من نحوٍ من الاتّحاد، مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحوٍ من الاعتبار.

___________________

وكلاهما كلّ، ومن البديهي عدم صحّة حمل أحد جزئي المركّب على الآخر، فإنّه لا يصحّ حمل الماء على اللّحم ولا العكس في المركّب منهما {ومن الواضح أنّ ملاك الحمل لحاظ} الطّرفين {بنحو الاتحاد بين الموضوع والمحمول} كما سبق.

هذا {مع} أنّ التّركيب خلاف الوجدان، ل {وضوح عدم لحاظ ذلك} التّركيب {في التّحديدات} أي: المعرّفات، بل {وسائر القضايا} المستعملة، فإنّ التّركيب غير ملحوظ {في طرف الموضوعات} الواقعة في التّحديدات وغيرها {بل لا يلحظ في طرفها إلّا نفس معانيها} الحاصلة قبل التّركيب، فالإنسان بما له من المعنى موضوع في قولنا: (الإنسان حيوان ناطق) {كما هو الحال في طرف المحمولات} إذ المفرد بما له من المعنى يقع محمولاً {ولا يكون حملها} أي: المحمولات {عليها} أي: على الموضوعات {إلّا بملاحظة ما هما عليه من نحو من الاتحاد} الوجودي في الحمل الشّائع، والماهوي في الحمل الأوّلي {مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحو من الاعتبار} فالتغاير في الحمل الشّائع في المفهوم والمعنى، وفي الحمل الأوّلي مفهوميّ فقط ولو اعتباراً ولهذا قيل: إنّ الموضوع في (زيد إنسان) هو زيد المنخلع عنه الإنسانيّة الملحوظ فيه الجسميّة حتّى لا يلزم حمل الشّيء على نفسه.قال المصنّف(رحمة الله) في الفوائد: «ثمّ لا يخفى تحقّق ملاك الحمل وهو الاتحاد من وجه والمغايرة من آخَرَ بين المشتقّات والذّوات المتصفة بالمبادئ، ولا يعتبر

ص: 314

___________________

معه ملاحظة التّركيب بين المتغايرين كذلك، واعتبار كون المجموع منهما بما هو مجموع واحداً، بل يكفي ملاحظة اتحادهما ذاتاً، كما في حمل الذّاتيّات واتحادهما وجوداً، كما في حمل العرضيّات. كيف؟ ولو كان الملحوظ في طرف الموضوع أخذ المجموع من حيث المجموع واحداً لا ذات المجموع، لما كان الحدّ التّامّ في ما إذا حمل على المحدود مساوياً أجزاءً، ولزم زيادة جزء اعتباريّ في المحدود، وهو ملاحظة مجموعهما من حيث المجموع واحداً في طرفه، مع بداهة لزوم مساواة الحد ومحدوده.

هذا مضافاً إلى وضوح أنّ الموضوع في التّحديدات وغيرها من القضايا ليس إلّا نفس معاني ألفاظها ومن المعلوم أنّها ليس إلّا ذاتها لا مع لحاظ اتحادها وتركيبها مع محمولاتها.

وبالجملة المعتبر في الحمل مع المغايرة من وجه الاتحاد ذاتاً، كما في الحمل الأوّلي الذّاتي، أو وجوداً، كما في الحمل الشّائع الصّناعي، والتّركيب الاعتباري لو لم يخلّ بالاتحاد المعتبر - لاستلزامه المغايرة بالجزئيّة والكليّة - لا دخل له في حصوله وتحقّقه»(1)،

انتهى.

فالمتحصّل من إشكالات المصنّف على الفصول في كتابيه ثلاثة:

الأوّل: ما أشار إليه من أنّ الحمل يقتضي الاتحاد الخ، إذ بعد الاتحاد الحقيقي لا حاجة إلى ملاحظة التّركيب الاعتباري.الثّاني: ما أشار إليه بقوله: «بل يكون لحاظ ذلك مخلّاً الخ، إذ هذا اللّحاظ مستلزم لكون الموضوع والمحمول جُزْأَي مركّبٍ، ومن البديهي عدم جواز حمل أحد الجزأين على الآخر.

ص: 315


1- فوائد الأصول: 76.

فانقدح بذلك فساد ما جعله في الفصول(1) تحقيقاً للمقام. وفي كلامه مواردُ للنّظر تظهر بالتّأمّل وإمعان النّظر.

الرّابع: لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ

___________________

الثّالث: ما أشار إليه بقوله: «مع وضوح عدم» الخ، وهذا منحلّ إلى إشكالين:

الأوّل: أنّه خلاف الوجدان، إذ المفرد بما له من المعنى موضوع أو محمول، لا أنّ المفرد الّذي له مزيّة التّركيب كذلك.

الثّاني: ما بيانه يحتاج إلى تمهيد مقدّمة وهي: أنّ الأمرين إذا تركّبا حصل هناك أربعة أمور: ذاتا الجزأين وهما حقيقيّان، ومزيّتا الجزأين الحاصلتان بسبب التّركيب وهما اعتباريّان.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّه إذا اعتبر التّركيب في الحد والمحدود لزم عدم مساواتهما؛ لأنّ المحدود حينئذٍ الذّات مع الجزء الاعتباري، والحد هو الذّات فقط إذ جزؤه الاعتباري ليس بحدٍّ، فإنّ الحيوان النّاطق المنسلخ عن جميع الخصوصيّات حدّ للإنسان لا المقيّد بالتركيب، وإلى هذا أشار في الفوائد بقوله: «كيف ولو كان الملحوظ» الخ، فتأمّل.

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من بطلان مملاحظة التّركيب في الحمل {فساد ما جعله} الشّيخ محمّد حسين(قدس سره) {في الفصول تحقيقاً للمقام} من ملاحظة التّركيب {وفي كلامه} (قدس سره) {موارد للنّظر تظهر بالتأمّلوإمعان النّظر} وحيث ذكره - بما فيه - غالبُ الشّرّاح والمحشّين أضربنا عن تفصيله صفحاً.

كيفيّة جري الصّفات على اللّه تعالى

{الرّابع:} من الأُمور الباقية في دفع اشتباه وقع من الفصول في كيفيّة جري الصّفات على اللّه تعالى سبحانه، فنقول: {لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ} للمشتق

ص: 316


1- الفصول الغرويّة: 62.

مع ما يجري المشتق عليه مفهوماً، وإن اتّحدا عيناً وخارجاً، فصِدْقُ الصِّفَاتِ - مثل: العالِمِ والقادِرِ والرّحيم والكريم إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال

___________________

{مع ما يجري المشتق عليه} من الموصوف {مفهوماً، وإن اتحدا} أي: الموصوف ومبدأ المشتق {عيناً وخارجاً} بأن كان المبدأ عين الموصوف وبالعكس {فصدق الصّفات} الثّبوتيّة للّه - تعالى - {مثل: العالم والقادر} والحي والمريد والمدرك {والرّحيم والكريم، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال}.

قال في حقّ اليقين - للسّيّد الشّبّر(رحمة

الله) - ما لفظه: «قال بعض العارفين: «إِنّ الأسماء تنقسم باعتبار الهيئة إلى جماليّة، كاللّطيف والغفّار، وجلاليّة، كالمنتقم والقهّار»(1)،

انتهى، فكأنّ المصنّف جرى على هذا الاصطلاح، واللّه العالم.

قال العلّامة المشكيني: «لا يخفى أنّ صفات الجلال هي الصّفات السّلبيّة، وهي ليست عين الذّات، فالظاهر أنّه تفسير للكمال، وليس المراد منه ما هوالمصطلح»(2)،

انتهى.

أقول: توضيحه أنّه قد جرى اصطلاح المتكلّمين على تقسيم صفات اللّه - تعالى - إلى قسمين:

الأوّل: الصّفات الثّبوتيّة، وهي ما اجتمع في قوله:

عالم وقادر وحىّ است و مريد و مدرك *** هم قديم و ازلى، دان متكلّم، صادق

ويعبّر عن هذه بصفات الكمال لكونها كمالاً للمتّصف بها.

الثّاني: الصّفات السّلبيّة وهي ما اجتمع في قوله:

ص: 317


1- حقّ اليقين في معرفة أصول الدين 1: 53.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 292.

عليه تعالى - على ما ذهب إليه أهل الحق من عينيّة صفاته - يكون على الحقيقة،

___________________

نه مركّب بود و جسم نه مرئى نه محل *** بى شريك است و معانى، تو غنى دان خالق

ويعبّر عن هذه بصفات الجلال، لكون المتّصف أجلّ وأقدس من أن يتّصف بها.

ولا يخفى أنّ حصر الصّفات في هذه المذكورات صدرت عن المتكلّمين؛ لأنّ مقصودهم بيان الحق من الصّفات المختلف فيها، لا بيان كلّ صفة من صفاته - تعالى - وعلى هذا فصفات الجلال سلوب، ولا معنى لاتحاد السّلب مع الذّات، ولهذا حمل كلامه على خلاف المصطلح.

وعلى كلّ حال، فصدق الصّفات {عليه - تعالى - على ما ذهب إليه أهل الحق} من الشّيعة ومن تبِعهم في هذهالمسألة {من عينيّة صفاته يكون على الحقيقة}.

قال السّيّد الشَّبّر في حقّ اليقين ما لفظه: «الصّفات الكماليّة - كالعلم والقدرة والاختيار والحياة والإرادة والكراهة والسّمع والبصر والسّرمديّة ونحوها - هي عين ذاته - تعالى - وجوداً وعيناً وفعلاً وتأثيراً، بمعنى أنّ ذاته - تعالى - بذاته يترتّب عليه آثار جميع الكمالات، ويكون هو من حيث ذاته مبدءاً لانتزاعها منه ومصداقاً لحملها عليه، وإن كانت هي غيره من حيث المفهوم والمعنى، وذلك لجواز أن يوجد الأشياء المختلفة والحقائق المتباينة بوجود واحد، ونظير ذلك للأفهامِ المخلوقُ، فإنّه مع كونه واحداً يصدق عليه أنّه مقدور ومعلوم ومحييً ومراد ومخلوق ومرزوق باعتبارات متعدّدة وحيثيّات مختلفة.

وبالجملة فليست صفاته - تعالى - مغايرة للذّات كما في صفاتنا، فإنّ علمنا وقدرتنا وحياتنا مثلاً غير ذواتنا، بل زائدة عليها ضرورة، فإنّا كنّا معدومين ثمّ وجدنا، وكنّا جاهلين فعلمنا، وكنّا عاجزين فقدرنا وهكذا».

ص: 318

فإنّ المبدأ فيها وإن كان عين ذاته تعالى خارجاً، إلّا أنّه غيرُ ذاته مفهوماً.

ومنه قد انقدح ما في الفصول من الالتزام بالنّقل أو التّجوّز في ألفاظ الصّفات الجارية عليه تعالى

___________________

ثمّ أقام أدلّة عقليّة وغيرها على ذلك، إلى أن قال: «ونعم ما يقول:

عباراتنا شتّى وحسنك واحد *** وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

قال أميرالمؤمنين(علیه السلام): «من وصف اللّه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله»(1)،

يعني من وصف اللّه - تعالى - بصفة مغايرة لذاته، فقد جعله مقارناً لغيره وهو الصّفة، ومن جعله مغايراً لغيره منالصّفة فقد ثنّاه، إذ الموصوف أوّل والوصف ثان، ومن ثنّاه فقد جزّأه، أي: جعله ذات جزء مركّب من ذات وصفة، ومن قال بأنّه ذا جزء لم يعرفه؛ لأنّ اللّه واحد أحد»(2)،

انتهى.

{فإنّ المبدأ فيها} أي: في صفاته كالعلم والقدرة والحياة {وإن كان عين ذاته - تعالى - خارجاً} بحيث إنّه سميع بما يبصر وبصير بما يسمع {إلّا أنّه} أي: المبدأ {غير ذاته مفهوماً} إذ المفهوم من العلم غير المفهوم من الذّات، كما أنّ - في المثال المتقدّم - مفهوم المعلوم غير مفهوم المخلوق، وإن كانت الذّات واحدة.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من كفاية المغايرة مفهوماً {قد انقدح} فساد {ما} ذهب إليه {في الفصول من الالتزام بالنقل أو التّجوّز في ألفاظ الصّفات الجارية عليه - تعالى -} فإنّه بعد ما اشترط قيام مبدأ الاشتقاق بالموصوف في صدق المشتق قال:

«وخالف في ذلك جماعة فلم يعتبروا قيام المبدأ في صدق المشتق...» إلى أن قال: «وانتصر لهم بعض أفاضل المتأخّرين بصدق العالم والقادر ونحوهما عليه

ص: 319


1- نهج البلاغة، الخطبة الأُولى.
2- حقّ اليقين في معرفة أصول الدين 1: 3436.

- بِناءً على الحقّ من العينيّة - لعدم المغايرة المعتبرة بالاتّفاق.

وذلك لِمَا عَرَفْتَ من كفاية المغايرة مفهوماً، ولا اتّفاق على اعتبار غيرها، إن لم نقل بحصول الاتّفاق على عدم اعتباره، كما لا يخفى. وقد عرفت ثبوت المغايرة كذلكبين الذّات

___________________

- تعالى - مع عينيّة صفاته - تعالى - كما هو الحقّ»(1)،

ثمّ أجاب عن هذا الانتصار بقوله: «الظّاهر إطباق الفريقين على أنّ المبدأ لا بدّ أن يكون مغايراً لذي المبدأ، وإنّما اختلفوا في وجوب قيامه به وعدمه، فالوجه التزام وقوع النّقل في تلك الألفاظ بالنسبة إليه - تعالى - {بِناءً على الحقّ من العينيّة} وإنّما قال بالنقل {لعدم المغايرة المعتبرة} بين المبدأ والذّات {بالاتفاق}.

والحاصل: أنّه بعد التزامه بوجوب المغايرة بين المبدأ والموصوف حقيقةً والتزامه بما هو الحقّ من العينيّة لم يتمكّن إلّا من الالتزام بكون إطلاق العالم ونحوه على اللّه - تعالى - ليس حقيقة أوّليّاً، بل الألفاظ منقولة عن معناها اللّغوي، وإنّما أضاف المصنّف(رحمة الله) المجازيّة لما فهمه من ملاك كلام الفصول {و} لكن نحن في مندوحة عن هذا الالتزام و{ذلك لما عرفت} في أوّل هذا الأمر {من كفاية المغايرة} بين الذّات والمبدأ {مفهوماً} فقط، وإن كان اتحاد في العين {و} أمّا ما ادّعاه الفصول من الاتّفاق على لزوم المغايرة بقوله: «الظّاهر إطباق الفريقين» الخ، فغير مسلّم، إذ {لا اتفاق على اعتبار غيرها} أي: غير المغايرة الاعتباريّة، فلا دليل على وجوب المغايرة الحقيقيّة {إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره} أي: على عدم اعتبار غير المغايرة المفهوميّة {كما لا يخفى} على من راجع كلماتهم في الحمل.

{و} حينئذٍ فإطلاق الصّفات عليه - تعالى - يكون من دون نقل ولا تجوّز،لما {قد عرفت} من {ثبوت المغايرة كذلك} أي: الاعتباريّة المفهوميّة {بين الذّات} للّه

ص: 320


1- الفصول الغرويّة: 62.

ومبادئ الصّفات.

الخامس:

___________________

- تعالى - {ومبادئ الصّفات} كالعلم والقدرة وغيرهما كما هو بديهي.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ نظر الأصولي في هذه المسألة إلى إمكان اتصاف الذّات بتلك المفاهيم بمعانيها العامّة، لكي يتوصّل إلى جواز إجراء أسماء اللّه المشتقّة عليه - تعالى - بما لها من المعاني، ونظر المتكلّم إلى إثبات كونها بأيّ معنىً صفةُ كمالٍ لائقة به - تعالى - .

كيفيّة قيام المبادئ بالذات

{الخامس:} من الأُمور الباقية في تحقيق الحق الّذي وقع فيه النّزاع بين الأشاعرة والمعتزلة في كيفيّة قيام المبادئ بالذات لصدق المشتق عليها. واعلم أنّ الأقوال في المسألة أربعة:

الأوّل: ما ذهب إليه الأشعري من اعتبار القيام الحلولي، وبهذا السّبب قالوا: إنّ صفات اللّه - تعالى - زائدة عليه، ونقل عنهم في محكي المواقف ما لفظه: «لا شكّ أنّ علّة كون الشّيء عالماً هي العلم، وحدّ العالم من قام به العلم، وشرط صدق المشتق على واحد منّا ثبوت أصله له، فكذا شرطه في من غاب وهكذا سائر الصّفات»(1)،

انتهى، وبهذا الدّليل نفسه خرجوا الكلام على النّفس لمنافاة الكلام الخارجي الحادث لذاته - تعالى - .

الثّاني: ما ذهب إليه المعتزلي من عدم اعتبار القيام الحلولي، ولهذا ذهبوا إلىنفي الصّفات الزّائدة عن اللّه - جلّ وعلا - واستدلّ لهم بصدق الضّارب والمؤلم

على الفاعل مع قيام الضّرب والإيلام بالمضروب والمؤلم، وجعلوا من هذا لباب إطلاق المتكلّم عليه - تعالى - حيث إنّ الكلام مخلوق في الهواء.

ص: 321


1- شرح المواقف 8: 44.

أنّه وقع الخلاف - بعد الاتّفاق على اعتبار المغايرة كما عرفت بين المبدأ وما يجري عليه المشتق - في اعتبار قيام المبدأ به في صدقه على نحو الحقيقة.

وقد استدلّ من قال بعدم الاعتبار بصدق (الضّارب) و(المُؤْلِمِ) مع قيام الضَّرْبِ والأَلَمِ بالمضروب والمُؤْلَم - بالفتح - .

والتّحقيق: أنّه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أُولي الألباب، في أنّه يعتبر في صدق المشتقّ على الذّات وجريه عليها

___________________

الثّالث: ما ذهب إليه في الفصول من التّفصيل بين ما كان المبدأ ذاتاً، فلا يعتبر فيه القيام، وبين ما لم يكن المبدأ ذاتاً، فيعتبر فيه القيام بالمعنى الأعمّ من الحلول والصّدور وغيرهما.

الرّابع: ما اختاره المصنّف(رحمة الله) من اعتبار قيام المبدأ، لكن أنحاء القيام مختلفة، كما سيأتي.

وإلى ما ذكر أشار بقوله: {أنّه وقع الخلاف} المذكور {بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة} في الجملة {كما عرفت} في الأمر الرّابع {بين المبدأ وما يجري عليه المشتق} من الذّوات {في اعتبار قيام المبدأ} الظّرف يتعلّق ب «الخلاف».

والحاصل: أنّهم بعد ما اتفقوا على اعتبار المغايرة بين المبدأ وما يجري على المشتق، اختلفوا في أنّه هل يعتبر قيام المبدأ {به} أي: بما يجري عليه المشتق{في صدقه} أي: صدق المشتق {على نحو الحقيقة} أم لا يعتبر القيام في الصّدق {وقد استدلّ من قال بعدم الاعتبار} وهو القول الثّاني {بصدق (الضّارب) و(المؤلم)} على الفاعل {مع قيام} المبدأ - وهو {الضّرب والألم - بالمضروب والمؤْلَم - بالفتح -} وهو المفعول.

{والتّحقيق أنّه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أُولي الألباب في} بطلان هذا القول، بل {إنّه يعتبر في صدق المشتق على الذّات وجريه عليها} أيّ نحوٍ كان المشتق، وأيّ

ص: 322

من التَّلَبُّسِ بالمبدأ بنحوٍ خاصٍّ، على اختلاف أنحائه - النّاشئة من اختلاف الموادّ تارةً، واختلاف الهيئات أُخرى - من القيام صدوراً، أو حلولاً، أو وقوعاً عليه أو فيه، أو انتزاعه

___________________

قسم كان الذّات، وأيّ شيء كان المبدأ {من التّلبّس بالمبدأ بنحو خاص على اختلاف أنحائه} أي: أنحاء التّلبّس {النّاشئة} هذه الأنحاء {من اختلاف المواد} والمبادئ {تارة} فإنّ المصدر قد يكون بمعنى القوّة، وقد يكون بمعنى الملكة، وقد يكون بمعنى الصّفة، وقد يكون بمعنى الفعليّة، كما تقدّم من مثال الكاتب، فإنّه إذا كان بمعنى القوّة لزم تلبّس المبدأ به قوّة ولو كان الشّخص أُميّاً، فيصحّ أن يقال: (زيد كاتب) ولا يصحّ أن يقال: (الحمار كاتب)، وإذا كان بمعنى الملكة لزم تلبّس المبدأ به ملكة، فلا يصحّ إطلاق الكاتب بالنسبة إلى الأُمّي، ويصحّ بالنسبة إلى من له ملكته، وإن لم تكن صفته ولا فعلاً مشغولاً بها، وهكذا الصّفة والفعليّة.

{و} من {اختلاف الهيئات} تارة {أُخرى} فإنّ التّلبّس يختلفعلى حسب اختلاف هيئة المشتق، وإن اتحدت المادّة {من القيام} أي: قيام المبدأ بالذات {صدوراً} نحو (المميت) {أو} قيام المبدأ {حلولاً} في الذّات نحو (الميّت) {أو} قيامه {وقوعاً عليه} نحو (الممات) {أو} قيامه وقوعاً {فيه} (كالممات) بمعنى زمان الموت.

هذا معنى العبارة على تقدير أن يكون قوله: «من القيام» الخ بياناً، لاختلاف الهيئة وهو الظّاهر، ويحتمل أن يكون بياناً للأمرين، فيكون قوله: «صدوراً كالضارب وحلولاً كالأبيض» بالنسبة إلى اختلاف المواد {أو انتزاعه} الظّاهر من سوق العبارة أن يكون عطفاً على قوله: «صدوراً» الخ، فيكون المعنى: أنّ بعض المواد يفيد التّلبّس بالمبدأ على انتزاع المبدأ عن الذّات، ومن المحتمل بعيداً أن يكون عطفاً على «اختلاف المواد» الخ، ويكون حاصله أنّه يجب التّلبّس بالمبدأ ولا يؤثّر فيه اختلاف المواد ولا اختلاف الهيئات ولا اختلاف الذّوات، فإنّ

ص: 323

عنه مفهوماً، مع اتحاده معه خارجاً، كما في صفاته تعالى - على ما أشرنا إليه آنفاً - ، أو مع عدم تَحَقُّقٍ إلّا للمنتزع عنه، كما في الإضافات والاعتبارات

___________________

التّلبّس يختلف حسب اختلاف الذّات، ففي صفاته - عزّ اسمه - يكون الاتّصاف بنحو العينيّة، وفي غيره - تعالى - بنحو الغيريّة.

والحاصل: أنّه قد يختلف التّلبّس باختلاف الهيئة، مع وحدة الذّات والمادّة نحو (ضارب) و(مضروب) بالنسبة إلى شخص واحد، وقد يختلف التّلبّس باختلاف المادّة مع وحدة الهيئة والذّات نحو (المالك) و(الضّارب) وقد يختلف التّلبّس باختلاف الذّات مع وحدة الهيئة والمادّة، نحو (العالم) بالنسبة إلى اللّه - سبحانه - وبالنسبة إلى غيره.ونحن نسوق العبارة على ظاهرها فنقول: «أو انتزاعه» أي: انتزاع المبدأ {عنه} أي: عن الموصوف وهو الذّات {مفهوماً} أي: انتزاعاً مفهوميّاً، بأن يكون الذّات لبعض الاعتبارات ينتزع عنها المشتق {مع اتحاده} أي: المبدأ {معه} أي: الموصوف {خارجاً} وعيناً {كما في صفاته - تعالى} وتقدّس - {على ما أشرنا إليه آنفاً} في الأمر الرّابع وأوضحناه {أو مع عدم} عطف على «مع اتحاده».

والحاصل: أنّ الانتزاع على قسمين:

الأوّل: أن يكون المشتق منتزعاً، بمعنى أنّ الذّات تكون منشأً لانتزاع المبدأ منها مفهوماً مع كونه عينها وجوداً، كما في صفات اللّه - سبحانه - .

الثّاني: أن يكون المشتق منتزعاً، بمعنى أنّ الذّات تكون منشأً لانتزاع المبدأ، ولكن لا تحقّق للمبدأ أصلاً، بمعنى أنّه ليس ما بحذاء المبدأ شيء، كالأُمور الاعتباريّة مثل الملكيّة والزّوجيّة ونحوهما، فإنّه لا {تحقّق} في الخارج {إلّا للمنتزع عنه} هذا المبدأ الاعتباري، أي: الموصوف {كما في الإضافات} الّتي لا بدّ في تحقّقها من طرفين {والاعتبارات} الّتي يكفي فيها طرف واحد، ويمكن الفرق:

ص: 324

الّتي لا تحقّق لها، ولا يكون بحذائها في الخارج شَيْءٌ، وتكون من الخارج المحمول لا المحمول بالضّميمة.

ففي صفاته الجارية عليه - تعالى - يكون المبدأ مغايراً له - تعالى - مفهوماً، وقائماً به عيناً، لكنّه بنحوٍ من القيام، لا بأن يكون هناك

___________________

بأنّ الأوّل له تحقّق من دون اعتبار المُعْتَبِرِ، والثّاني تحقّقه بالاعتبار، والجامعبينهما أنّها الأُمور {الّتي لا تحقّق لها} في الكون {ولا يكون بحذائها في} ظرف {الخارج} العين {شيء، وتكون} هذه المشتقّات الاعتباريّة الّتي لا تحقّق لها في الخارج {من الخارج المحمول} أي: المحمولات المعبّر عنها بخارج المحمول {لا المحمول بالضميمة}.

قال في المنظومة: «والخارج المحمول من صميمه» متعلّق بالخارج، أي: خارج من حاق ذات المعروض «يغاير المحمول بالضّميمة» أي: قد يقال: العرضي، ويراد به أنّه خارج عن الشّيء ومحمول عليه، كالوجود والموجود، والوحدة والتّشخّص، ونحوها ممّا يقال أنّها عرضيّات لمعروضاتها، فإنّ مفاهيمها خارجة عنها، وليست محمولات بالضّمائم، وقد يقال: العَرَضِيّ، ويراد به المحمول بالضميمة، كالأبيض والأسود في الأجسام والعالم المدرك في النّفوس»(1)، انتهى.

ومحصّله: أنّ العارض الاعتباري يسمّى بالخارج المحمول والعارض المتأصّل يسمّى بالمحمول بالضميمة.

{ففي صفاته الجارية عليه - تعالى} وتقدّس - {يكون المبدأ مغايراً له - تعالى - مفهوماً} فمفهوم العلم غير مفهوم الذّات، فإنّ ما يفهم من أحدهما غير ما يفهم من الآخر {و} إن كان المبدأ {قائماً به} تعالى {عيناً} وخارجاً {لكنّه} يكون {بنحو من القيام} الاعتباري، والتّعبير بالقيام من باب ضيق اللّفظ {لا بأن يكون هناك}

ص: 325


1- شرح المنظومة 1: 179.

اثنينيّة، وكان ما بحذائه غير الذّات، بل بنحو الاتّحاد والعينيّة، وكان ما بحذائه عين الذّات.وعدم اطّلاع العرف على مثل هذا التّلبّس من الأُمور الخفيّة، لا يضرّ بصدقها عليه - تعالى - على نحو الحقيقة، إذا كان لها مفهومٌ صادِقٌ عليه - تعالى - حقيقةً ولو بتأمّل وتعمّل من العقل. والعرف إنّما يكون مرجعاً في تعيين المفاهيم، لا في تطبيقها على مصاديقها.

___________________

قيام حقيقي و{اثنينيّة} واقعيّة أي: الذّات {و} الصّفة بحيث {كان ما بحذائه} أي: ما بحذاء الوصف {غير الذّات} البسيط {بل} يكون القيام {بنحو الاتحاد} بين الذّات والصّفة {والعينيّة وكان ما بحذائه} أي: الوصف {عين الذّات} فصفات اللّه - تعالى - ليست من قبيل الزّوجيّة الّتي لا ما بحذاء لها أصلاً، وليست من قبيل صفاتنا، كالعلم الّذي له ما بحذاء مغاير للذّات.

{و} إن قلت: المرجع في الألفاظ العرف، وهو إمّا أن يعتبر القيام أو لا يعتبر، وعلى الأوّل فيكون إجراء الصّفات على اللّه - تعالى - مجازاً، لعدم قيام المبدأ به - تعالى - حقيقةً، وعلى الثّاني فلا يعتبر القيام مطلقاً، فكيف يمكن الجمع بين قولكم: باعتبار القيام، وبين قولكم: بأنّ إجراء صفات اللّه - تعالى - حقيقة؟

قلت: نلتزم باعتبار القيام و{عدم اطلاع العرف على مثل هذا التّلبّس} والقيام العيني {من الأُمور الخفيّة لا يضرّ بصدقها} أي: صدق الصّفات {عليه - تعالى - على نحو الحقيقة إذا كان لها مفهوم صادق عليه - تعالى - حقيقةً، ولو} لم يكن القيام خارجاً بل كان {بتأمّل وتعمّل من العقل. و} ما ذكرتم من أنّ العرف هو المرجع مخدوش، فإنّ {العرف إنّما يكونمرجعاً في تعيين المفاهيم} بأن يقول: المشتقّ هو الذّات المتلبّس بالعلم فعلاً، و{لا} يكون مرجعاً {في تطبيقها على مصاديقها} بأن يقول: هنا يصدق العالم حقيقة للتلبّس والمغايرة الحقيقيّة، وهنا لا يصدق لعدم التّغاير.

ص: 326

وبالجملة: يكون مثل: (العالم والعادل) وغيرهما من الصّفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره، جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد، وإن اختلفا في ما يعتبر في الجري من الاتّحاد وكيفيّة التّلبّس بالمبدأ، حيث إنّه بنحو العينيّة فيه - تعالى - ، وبنحو الحلول أو الصّدور في غيره.

فلا وجه لما التزم به في الفصول(1) من نَقْلِ الصّفات الجارية عليه - تعالى - عمّا هي عليها من المعنى،

___________________

وعلى هذا فلو لم ير العرف التّغاير في ذات الباري - تعالى - وصفاته لم يكن له حقّ في أن يقول: إطلاق الصّفات من باب المجاز.

والحاصل: أنّ العرف مرجع في تحديد المفهوم لا في تحديد المصداق، بل لا بدّ في تحديد المصداق من المداقّة العقليّة ومراعاة الواقع.

{وبالجملة يكون مثل: (العالم، والعادل) وغيرهما، من} سائر {الصّفات الجارية عليه - تعالى} وتقدّس - {وعلى غيره} من سائر الذّوات {جارية عليهما بمفهومٍ واحدٍ ومعنىً فاردٍ} فالعالم المنكشف لديه الأشياء مطلقاً {وإناختلفا} أي: اللّه سبحانه وسائر الممكنات {في ما يعتبر في الجري من الاتحاد} بيان «ما»، أي: وإن اختلفا في ما هو شرط جري المشتق {و} هو الاتحاد بين الذّات والمبدأ حيث إنّ {كيفيّة التّلبّس بالمبدأ} مختلف فيهما {حيث إنّه} أي: التّلبّس {بنحو العينيّة فيه - تعالى} وتقدّس - {وبنحو الحلول} كالمريض {أو الصّدور} كالضارب {في غيره} - تعالى - من سائر الممكنات، وبهذا تبيّن أنّ إطلاق العالم على اللّه حقيقة كإطلاقه على غيره وإنّما التّلبّس مختلف {فلا وجه لما التزم به في الفصول من نقل الصّفات} المشتقّة {الجارية عليه - تعالى - عمّا هي} أي: تلك {عليها من المعنى} اللّغوي والعرفي. وبرهانه على النّقل أمران:

ص: 327


1- الفصول الغرويّة: 62.

كما لا يخفى. كيف؟ ولو كانت بغير معانيها العامّة جاريةً عليه - تعالى - كانت صرف لقلقة اللّسان وألفاظ بلا معنىً، فإنّ غير تلك المفاهيم العامّة الجارية على غيره - تعالى - غيرُ مفهومٍ ولا معلومٍ إلّا بما يقابلها، ففي مثل ما إذا قلنا: (إنّه - تعالى - عالم) إمّا أن نعني أنّه من ينكشف لديه الشّيء، فهو ذاك المعنى العامّ، أو أنّه مصداق لما يقابل ذاك المعنى، فتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

___________________

الأوّل: عدم القيام المعتبر في الحمل.

الثّاني: عدم المغايرة بين المبدأ والذّات.

والجواب أمّا عن الأوّل: فبوجود القيام العيني، وأمّا عن الثّاني: فبوجودالمغايرة المفهوميّة، وهذا المقدار من القيام والمغايرة كافٍ في كونه حقيقةً {كما لا يخفى} وتقدّم بيانه.

ونزيد جواباً آخر عنه وهو: أنّه {كيف} يكون إطلاق المشتقّات مجازاً عليه - تعالى - لكونها بغير معناها العرفي {و} الحال أنّها {لو كانت بغير معانيها العامّة} المعروفة {جارية عليه - تعالى - كانت صرف لقلقة اللّسان وألفاظ} مقولة {بلا} فهم {معنى، فإنّ غير تلك المفاهيم العامّة} كالعلم والقدرة والحياة وغيرها {الجارية على غيره - تعالى -} من سائر الممكنات {غير مفهوم ولا معلوم إلّا بما يقابلها} من الجهل والعجز والموت وغيرها، وحينئذٍ فتنعقد قضيّة منفصلة حقيقيّة في ردّ الفصول وهي هذه {ففي مثل ما إذا قلنا: (إنّه - تعالى} وتقدّس - {عالم) إمّا أن نعني أنّه من ينكشف لديه الشّيء فهو ذاك المعنى العام} المفهوم في الممكن، وعليه يبطل كلام الفصول مِن أنّه بالنسبة إلى اللّه - تعالى - منقول، ويثبت مطلوبنا وهو أنّ المعنى في الواجب والممكن واحد {أو} نعني من العالم فيه - تعالى - {أنّه} جلّ شأنه {مصداق لما} أي: لوصف {يقابل ذاك المعنى} الانكشافي، فيراد من العالم الجاهل {فتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً} اللّه لا إله إلّا

ص: 328

وإمّا أن لا نعني شيئاً، فتكون - كما قلناه - من كونها صرف اللّقلقة وكونها بلا معنى، كما لا يخفى.

والعجب أنّه جعل ذلك علّةً لعدم صدقِها في حقّ غيره، وهو كما ترى.

وبالتّأمّل في ما ذكرنا ظهر الخَلَلُ في مااستُدِلّ من الجانبين

___________________

هو عالم الغيب ولا يعزب عنه شيء.

{وإمّا أن لا نعني} من قولنا: العالم {شيئاً} معلوماً لنا {فتكون كما قلناه} قبيل هذا {من كونها} أي: كون الألفاظ المشتقّة {صرف اللّقلقة وكونها بلا معنى} مفهوم {كما لا يخفى} وحيث إنّ الفصول لا يقول بالشقّين الأخيرين من هذه المنفصلة فلا بدّ له من الالتزام بالشّقّ الأوّل، وهو مبطل لكلامه ومثبت لمطلوبنا - كما تقدّم بيانه - .

{والعجب أنّه} أي: صاحب الفصول {جعل ذلك} النّقل بالنسبة إليه - تعالى - {علّة لعدم صدقها} أي: صدق الصّفات بما لها من المعنى حين إطلاقها على اللّه - تعالى - {في حقّ غيره} - تعالى - أي: لا تصدق في حقّ غيره بالنحو الّذي تصدق به في حقّه - سبحانه - .

والحاصل: أنّ العالم - مثلاً - يطلق على اللّه وعلى غيره، وبمعناه المطلق على اللّه لا يطلق على غيره، وبمعناه المطلق على غيره لا يطلق على اللّه، ووجه العجب ما تقدّم مِن أنّ الإطلاق بمعنى واحد {وهو كما ترى} أي: عدم جواز الإطلاق في حقّ غيره بمعناه المطلق عليه - تعالى - .

{وبالتّأمّل في ما ذكرنا ظهر الخلل في ما استدلّ من الجانبين} أي: جانب صاحب الفصول المفصّل، وجانب من قال بعدم اعتبار القيام مطلقاً، أو المراد: القائلين باعتبار القيام مطلقاً كالأشعري والقائلين بعدمه كالمعتزلي(1)

ص: 329


1- أو أنّ من اعتبر قيام المبدأ إن أراد ما يعمّ القيام بنحو العينيّة فهو صحيح، وإن أراد القيام مع التّغاير فغير صحيح.

والمحاكمة بين الطّرفين، فتأمّل.

___________________

{والمحاكمة بين الطّرفين} إمّا عطف على الخلل، أي: ظهر من كلامنا المحاكمة بين النّافي والمثبت، وتوضيحه: أنّه لو أراد النّافي لاعتبار القيام نفي القيام مع المغايرة بين المبدأ والذّات فالحقّ معه، وإن أراد نفي القيام مطلقاً - بمعنى نفي اعتبار التّلبّس بالمرّة - فالحقّ مع المثبت.

وإمّا عطف على لفظة «ما استدلّ»(1) أي: ظهر الخلل في المحاكمة، فيكون المعنى ظهر خلل محاكمة صاحب الفصول بين النّافي والمثبت بما فصّله، وتوضيحه ما تقدّم من الجواب عن صاحب الفصول {فتأمّل}.

قال العلّامة المشكيني(رحمة الله) ما لفظه: «لعلّه إشارة إلى ضعف المحاكمة - وهذا بناءً على المعنى الأوّل كما لا يخفى - بأن يقال: إنّ مراد القائلين بالاعتبار اعتباره بمعنى التّلبّس، ومراد القائلين بعدم اعتباره هو عدم اعتباره بمعنى الحلول؛ لأنّ كلام الأشعري ظاهر بل صريح في اعتبار القيام الحلولي، ولذا التجأوا إلى إثبات الكلام النّفسي فالنزاع معنويّ بينهما»(2)،

انتهى.

ولا بدّ هنا من التّنبيه على أمر مهمّ جدّاً، وهو أنّه: قد قامت البراهين العقليّة والنّقليّه الكثيرة على أنّه لا يمكن معرفة كنه ذات اللّه وصفاته ولا يجوز إطلاق اسم أو وصف عليه - تعالى - لم يرد في كتاب أو سنّة، حتّى أنّ بعضاً منع من إطلاق كلمة الواجب أو واجب الوجود عليه - تعالى - وإن كان معناه حاصلاً، كما أنّه لا يجوز إطلاق المنبت والزّارع عليه تقدّس مع قوله: {أَنۢبَتۡنَا}(3)وقوله:

ص: 330


1- ويؤيّد هذا الوجه قول المصنّف(قدس سره) في الفوائد: 78 «فقد انقدح بما حقّقناه ما في الاستدلال من الجانبين وفي المحاكمة بين الطّرفين».
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 88.
3- سورة الحجر، الآية: 19؛ سورة الشّعراء، الآية: 7؛ سورة النّمل، الآية: 60؛ سورة لقمان، الآية: 10؛ سورة الصّافّات، الآية: 146.

___________________

{أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّرِعُونَ}(1) وهكذا، فهو يأبى الحدّ والتّوصيف والتّفكّر في كنه ذاته.

قال السّيّد الشّبّر - قدّس اللّه سرّه - في حقّ اليقين ما لفظه: «اعلم أنّه لا سبيل للمخلوق إلى معرفة كنه الخالق وحقيقته والإحاطة به، جلّ شأنه، كما قال - عزّ وجلّ - : {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِۦ عِلۡمٗا}(2) وقال - تعالى - : {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ}(3) في الدّعاء: «سبحان من لا يعلم ما هو إلّا هو»، وقال أميرالمؤمنين(علیه السلام): «لا تقدّر عظمة اللّه على قدر عقلك فتكون من الهالكين...»(4) إلى أن قال: «وقال(صلی الله علیه و آله): «إنّ اللّه احتجب عن العقول، كما احتجب عن الأبصار، وإنّ الملأ الأعلى يطلبونه، كما تطلبونه أنتم»(5).

أقول: وروى ثقة الإسلام في الكافي، عن أبي بصير، عن الباقر(علیه السلام) قال: «تكلّموا في خلق اللّه ولا تتكلّموا في اللّه - تعالى - فإنّ الكلام في اللّه لا يزداد صاحبه إلّا تحيّراً»(6).

وعن الصّادق(علیه السلام) قال: «إنّ اللّه يقول: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَٱلۡمُنتَهَى}(7) فإذا انتهى الكلام إلى اللّه فأمسكوا»(8).

وعن محمّد بن مسلم قال: قال أبو عبداللّه(علیه السلام): «يا محمّد، إنّ النّاس لا يزال

ص: 331


1- سورة الواقعة، الآية: 64.
2- سورة طه، الآية: 110.
3- سورة الأنعام، الآية: 91.
4- تفسير العياشي 1: 163.
5- بحار الأنوار 66: 292.
6- الكافي 1: 92.
7- سورة النّجم، الآية: 42.
8- الكافي 1: 92.

___________________

بهم المنّطق حتّى يتكلّموا في اللّه، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا إله إلّا اللّه الّذي ليس كمثله شيء»(1).

وعن محمّد بن مسلم عن الباقر(علیه السلام) قال: «إيّاكم والتّفكّر في اللّه، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه(2)...» إلى أن قال: «وأمّا اتساع المعرفة فإنّما يكون في معرفة أسمائه وصفاته، وبها تتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفة اللّه - عزّ وجلّ - فليس من يعلم أنّه قادر عالم على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السّماوات والأرض وخلق الأرواح والأجساد واطّلع على بدائع المملكة وغرائب الصّنعة...» إلى أن قال: «وللّه درّ من قال:

واللّه لا موسى ولا *** عيسى المسيح ولا محمّد

علموا ولا جبريل وه ***و إلى محلّ القدس يصعد

كلّا ولا الّنفس البسي ***طة لا ولا العقل المجرّد

من كنه ذاتك، غير أَنْ*** نَكَ أوحديّ الذّات سرمد»

إلى أن قال: «وكما يمتنع على غير اللّه - تعالى - معرفة كنه ذاته فكذا يمتنعمعرفة كنه صفاته؛ لأنّ صفاته، تعالى - كما عرفت - عين ذاته، وكلّما وصفه به العقلاء فإنّما هو على قدر أفهامهم وبحسب وسعهم، فإنّهم إنّما يصفونه بالصفات الّتي ألفوها وشاهدوها في أنفسهم، مع سلب النّقائص النّاشئة عن انتسابها إليهم بنوع من المقايسة، ولو ذكر لهم من صفاته - عزّ وجلّ - ما ليس لهم ما يناسبه بعض المناسبة لم يفهموه، ككونه - تعالى - لا أوّل له، ولا آخر ولا

ص: 332


1- الكافي 1: 92.
2- الكافي 1: 93.

___________________

جزء له، وليس في مكان ولا زمان، وكان ولم يكن معه شيء، من زمان أو مكان أو ليل أو نهار أو ظلمة أو ضياء لحاروا وتحيّروا وعجزوا ولم يفهموا شيئاً، فتوصيفهم إيّاه - سبحانه - بأشرف طرفي النّقيض كالعلم والجهل والقدرة والعجز والحياة والموت، إنّما هو على قدرهم لا قدره وبحسبهم لا بحسبه، فسبحانه عمّا يصفون وتعالى شأنه عمّا يقولون.

ولذا قال باقر العلوم(علیه السلام): «هل سمّي عالماً قادراً إلّا لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين، وكلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم» والباري - تعالى - واهب الحياة ومقدّر الموت «ولعلّ النّمل الصّغار تتوهّم أنّ للّه زُبَانَيَيْنِ - أي: قرنين - فإنّهما كمالها، وتتصوّر أنّ عدمهما نقصان لمن لا يكونان له»(1)،

ولعلّ حال كثير من العقلاء كذلك في ما يصفون اللّه - تعالى - به {سُبۡحَنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}(2)، ولذا ورد النّهي عن وصفه - تعالى - بغير ما وصف به نفسه».

ثمّ قال: «اعلم أنّ كلّما تطلق عليه - سبحانه - وعلى غيره، فإنّما تطلق عليهمابمعنيين مختلفين ليسا في درجة واحدة، حتّى أنّ الوجود الّذي هو أعمّ الأشياء اشتراكاً لا يشمله وغيره على نهج واحد...».

إلى أن قال: «وهكذا في سائر صفاته، كالعلم والقدرة والإرادة...».

إلى أن قال: «وواضع اللّغات وضع هذه الأسامي أوّلاً للخلق؛ لأنّها أسبق إلى العقول والأفهام، وفهم معانيها في حقّه - تعالى - عسر جدّاً وبيانها أعسر منه، بل كلّما قيل في تقريبها إلى الأفهام فهو تبعيد له من وجه، كما تقدّم في كلام

ص: 333


1- بحار الأنوار 66: 293.
2- سورة الصّافّات، الآية: 180.

السّادس:

___________________

أميرالمؤمنين(علیه السلام)، إن قيل كان ففي تأويل أزليّة الوجود وإن قيل لم يزل فعلى تأويل نفي العدم»(1)،

انتهى كلامه رفع مقامه.

وعلى هذا فالكفّ عن هذا البحث كسائر الأُمور الّتي ذكرها المصنّف(رحمة الله) بقوله: «بقي أُمور» أليق؛ لأنّها لا ترتبط بالأصول.

في الإسناد المجازي للمشتق

{السّادس:} من الأُمور الباقية في دفع اشتباه وقع من الفصول وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي:

أنّه لو استند المشتق إلى شيء كان هناك ثلاثة أُمور يصلح كلّ واحد منها أن يكون حقيقة ويصلح أن يكون مجازاً:

الأوّل: الإسناد.

الثّاني: معنى المشتق.

الثّالث: فعليّة المشتق.

مثلاً لو قلنا: (الماءُ جارٍ) وكان فعلاً جارياً كانت الثّلاثة حقيقة، وإن لم يكنفعلاً جارياً كان المشتق مجازاً بالنسبة إلى الثّالث، وحقيقة بالنسبة إلى الأوّلين، ولو قلنا للماء الرّاكد: (الماء جار) لمشابهته بالماء الجاري بواسطة تموّجه فعلاً بالرياح، كان المشتق بالنسبة إلى الأوّل والثّالث حقيقة وبالنسبة إلى الثّاني مجازاً لعدم استعمال الجاري في معناه، ولو قلنا في حين جريان المطر من الميزاب: (الميزاب جار) كان المشتق حقيقة بالنسبة إلى الثّاني والثّالث؛ لأنّه أُريد نفس الجريان الحقيقي فعلاً، ومجازاً بالنسبة إلى الأوّل؛ لأنّه إسناد إلى غير ما هو له.

ص: 334


1- حقّ اليقين في معرفة أصول الدين 1: 4448.

الظّاهر أنّه لا يعتبر في صدق المشتقّ وجريه على الذّات حقيقةً، التّلبّسُ بالمبدأ حقيقةً، وبلا واسطةٍ في العُرُوْضِ - كما في الماء الجاري - بل يكفي التّلبّس به ولو مجازاً ومع هذه الواسطة، كما في الميزاب الجاري، فإسناد الجريان إلى الميزاب وإن كان إسناداً إلى غير ما هو له وبالمجاز، إلّا أنّه في الإسناد، لا في الكلمة. فالمشتق في مثل المثال بما هو مشتقّ قد استعمل في معناه الحقيقي، وإن كان مبدؤه مسنداً إلى الميزاب بالإسناد المجازي، ولا منافاة بينهما أصلاً، كما لا يخفى.

___________________

إذا عرفت ذلك قلنا: محلّ الكلام في مسألة المشتق في المجاز في الكلمة - أعني: الثّاني - لا في المجاز في الإسناد - أي: الأوّل - فإنّ {الظّاهر أنّه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذّات حقيقة التّلبّس} أي: تلبّس المشتق {بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض} فلا يشترط أن يكون {كما في الماء الجاري} الّذي كان المشتق حقيقةً، لأجلقيام الجَرَيان بالماء حقيقةً {بل يكفي} في صدق المشتق على نحو الحقيقة {التّلبّس به} أي: تلبّس الذّات بالمبدأ {ولو} كان تلبّسها به {مجازاً، و} كان {مع هذه الواسطة} أي: الواسطة في العروض {كما في الميزاب الجاري} فإنّ الجاري هنا حقيقة قيام مبدئه - وهو الجريان - بالذات الّتي هي الميزاب وإن كان قيامه بها بواسطة الماء {فإسناد الجريان إلى الميزاب وإن كان إسناداً إلى غير ما هو له وبالمجاز} كما هو ظاهر {إلّا أنّه} مجاز {في الإسناد} نحو (أنبت الرّبيع البقل) {لا} أنه مجاز {في الكلمة} نحو (أسد يرمي) {فالمشتق} كالجاري {في مثل} هذا {المثال بما هو مشتقّ} وكلمة {قد استعمل في معناه الحقيقي} الموضوع له لغة، إذ معنى الجاري هنا ذات ثبت لها الجري {وإن كان مبدؤه} وهو الجريان {مسنداً إلى الميزاب بالإسناد المجازي} الّذي يسمّى بالمجاز العقلي في علم البلاغة {ولا منافاة بينهما} أي: بين كون الكلمة حقيقةً والإسناد مجازاً {أصلاً، كما لا يخفى}

ص: 335

ولكن ظاهر الفصول - بل صريحه - اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقةً، وكأنّه من باب الخلط بين المجاز في الإسناد والمجاز في الكلمة، وهو - هاهنا -

___________________

بأدنى تأمّل، فإنّ كلّ واحد من الحقيقة العقليّة والمجاز العقلي ينقسم باعتبار الطّرفين إلى أربعة أقسام:

حقيقيّة كلٍّ منهما لغةً نحو (أنبت الرّبيع) و(أنبت اللّه).ومجازيّتهما نحو (أحيى شباب الزّمان) و(أحيى أمر اللّه).

وحقيقيّة الأوّل مع مجازيّة الثّاني نحو (أنبت شباب الزّمان) و(أنبت أمر اللّه).

وبالعكس نحو (أحيى الرّبيع) و(أحيى اللّه).

{ولكن ظاهر الفصول - بل صريحه - اعتبار الإسناد الحقيقي} بين مبدأ المشتق والذّات {في} ما إذا أُريد {صدق المشتق حقيقة} فإنّه قال ما لفظه: «الثّالث يشترط في صدق المشتق على شيءٍ حقيقةً قيامُ مبدأ الاشتقاق به من دون واسطة في العروض». ثمّ قال: «وإنّما قلنا: من دون واسطةٍ، في المقام، احترازاً عن القائم بواسطة، فإنّه لا يصدق إلّا مجازاً، كالشدّة والسّرعة القائمتين بالجسم بواسطة الحركة واللّون، فإنّه يقال: الحركة سريعة واللّون شديد، ولا يقال: الجسم سريع أو شديد»(1)، انتهى.

{وكأنّه} أي: اشتراط الفصول {من باب الخلط بين المجاز في الإسناد} الّذي لا يضرّ بكون الكلمة حقيقة {و} بين {المجاز في الكلمة}.

والحاصل: أنّه لم يفرق بين المقام الأوّل والثّاني، فجعل مجازيّة المقام الأوّل موجباً لمجازيّة الثّاني {وهو} أي: المجاز في الكلمة {هاهنا} أي: في بحث

ص: 336


1- الفصول الغرويّة: 62.

محلّ الكلام بين الأعلام، والحمد للّه، وهو خير خِتام.

___________________

المشتق {محلّ الكلام بين الأعلام} لا المجاز في الإسناد(1)

{والحمد للّه} ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين، واللّعنة على أعدائهم أجمعين {وهو خير ختام}.

ص: 337


1- قال العلّامة المشكيني(رحمة الله): «فهنا مقامان الأوّل: استعمال المشتق في مفهومه، الثّاني: تطبيقه على الموضوع الّذي هو عبارة عن الإسناد والصّدق، فالظاهر أنّ النّزاع بينهما في المقام الأوّل، فالحقّ مع المصنّف؛ لأنّ كون الإسناد والتّطبيق مجازاً لا يستلزم تجوّزاً في الكلمة». كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 300.

ص: 338

المقصد الأوّل: في الأوامر

اشارة

ص: 339

ص: 340

المقصد الأوّل: في الأوامر وفيه فصول:

الأوّل: في ما يتعلّق بمادّة الأمر من الجِهَاتِ، وهي عديدة:

الأُولى: أنّه قد ذكر للفظ الأمر معانٍ متعدّدةٌ:

منها: الطّلب، كما يقال: (أمره بكذا).

ومنها: الشّأن، كما يقال: (شغله أمرُ كذا).

ومنها: الفعل، كما في قوله تعالى: {وَمَآ أَمۡرُ فِرۡعَوۡنَ بِرَشِيدٖ}(1).

___________________

[المقصد الأوّل في الأوامر وفيه فصول]

{المقصد الأوّل في الأوامر وفيه فصول:}

[الفصل الأوّل في ما يتعلّق بمادّة الأمر]

اشارة

الفصل {الأوّل في ما يتعلّق بمادّة الأمر} أي: أ، م، ر {من الجهات وهي عديدة} والمذكور منها هنا أربعة:

[معنى مادة الأمر]
اشارة

المقصد الأوّل: في الأوامر، ما يتعلق بمادة الأمر

الجهة {الأُولى} في معاني لفظ الأمر. اعلم {أنّه قد ذكر للفظ الأمر معانٍ متعدّدةٌ: منها الطّلب} بحيث يكون معنى (أَمَرَ): طَلَبَ {كما يقال: (أمَرَهُ بكذا)} بمعنىطَلَبَهُ منه، {ومنها الشّأن} ومعناه بديهيّ، وقد يفسّر بالحال {كما يقال: (شغله أمر كذا)} أي: شأنه.

{ومنها: الفعل} مطلقاً بمعناه اللّغوي {كما في قوله - تعالى - : {وَمَآ أَمۡرُ فِرۡعَوۡنَ بِرَشِيدٖ}}

ص: 341


1- سورة هود، الآية: 97.

ومنها: الفعل العجيب، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا}(1).

ومنها: الشّيء، كما تقول: (رأيتُ اليَوْمَ أمراً عجيباً).

ومنها: الحادثة.

ومنها: الغرض، كما تقول: (جاء زيدٌ لأمر كذا).

ولا يخفى: أنّ عدّ بعضِها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم؛ ضرورةَ أنّ الأمر في (جاء زيدٌ لأمرِ كذا) ما استعمل في معنى الغرض، بل (اللّام) قد دلّ على الغرض،

___________________

أي: فعله، {ومنها الفعل العجيب} وهو أخصّ ممّا قبله {كما في قوله - تعالى - : {فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا}} أي: فعلنا العجيب، {ومنها الشّيء} مطلقاً {كما تقول: (رأيت اليوم أمراً عجيباً)} أي: شيئاً عجيباً {ومنها الحادثة} نحو (وقع في البلد أمر) أي: حادثة، {ومنها الغرض، كما تقول: (جاء زيد لأمر كذا)} أي: للغرض الفلاني.{ولا يخفى أن عدّ بعضها من معانيه من} باب {اشتباه المصداق بالمفهوم} المصداق ما يصدق عليه اللّفظ. والمفهوم ما يفهم من اللّفظ، أي: معناه، فلو قيل: (جاءني رجل) كان المفهوم من لفظة (رجل) فرد من أفراد الإنسان المذكّر المرادف لقولنا في الفارسيّة: (مرد)، ومصداقه أي: الّذي جاء خارجاً يمكن أن يكون زيداً أو غيره.

إذا عرفت ذلك فنقول: الرّجل مستعمل في هذا المصداق الخاص، ولا يلزم منه أن يكون مفهوم الرّجل زيداً، فلو عدّ أحد من معاني الرّجل زيداً كان خطأ؛ لأنّه جعل المصداق مكان المفهوم، وفي ما نحن فيه كذلك {ضرورة أنّ} لفظ {الأمر في} مثال {(جاء زيد لأمر كذا)} الّذي تقدّم {ما استعمل} أي: لم يستعمل {في معنى الغرض، بل (اللّام) قد دلّ على} مفهوم {الغرض} والأمر مستعمل بمعنى الشّيء.

ص: 342


1- سورة هود، الآية: 66، 82.

نعم، يكون مدخوله مصداقه،فافهم.

وهكذا الحال في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا}(1)، يكون مصداقاً للتّعجّب، لا مستعملاً في مفهومه. وكذا في الحادثة والشّأن.

وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول(2)

من كون لفظ الأمر حقيقةً في المعنيين الأوّلين.

ولا يبعد دعوى كونه حقيقةً في

___________________

{نعم، يكون مدخوله} أي: مدخول اللّام {مصداقه} أي: مصداق الغرض، فلو قال: (جئت لأمر) وكان جائياً للزّيارة، فالزّيارة مصداقالغرض الكلّي.

والحاصل: أنّ هنا كليّاً هو الغرض الصّادق على جزئيّات الأغراض، ومصداقاً وهو الزّيارة، ولفظ الأمر في المثال مستعمل في الفرد لا في الكلّي {فافهم}.

قال العلّامة القوچاني: «لعلّه إشارة إلى أنّه كذلك إذا استعمل بلا إضافة إلى شيء، وأمّا إذا استعمل معها كقولك: (جئتك لأمر كذا) فلا يبعد استعماله في مفهوم الغرض؛ لأنّه بمنزلة أن يقال: (لغرض كذا)»(3)، انتهى.

{وهكذا الحال في قوله - تعالى - : {فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا}} الّذي ادعي أنّه بمعنى الفعل العجيب، فإنّه غير صحيح، إذ الأمر في الآية {يكون مصداقاً للتعجّب} أي: ما يتعجّب منه {لا مستعملاً في مفهومه} كما توهّم {وكذا} الحال {في الحادثة والشّأن} فإنّ عدّهما من معاني الأمر من باب اشتباه المفهوم بالمصداق {وبذلك} الّذي ذكرنا من الفرق بين المفهوم والمصداق {ظهر ما في دعوى الفصول من كون لفظ الأمر حقيقةً في المعنيين الأوّلين} فقط، أي: الطّلب والشّأن، وقد ادّعي التّبادر والنّقل عن اللّغويّين بالنسبة إليهما {ولا يبعد} بقرينة التّبادر {دعوى كونه حقيقة في}

ص: 343


1- سورة هود، الآية: 66، 82.
2- الفصول الغرويّة: 62.
3- تعليقة القوچاني على كفاية الأصول 1: 153.

الطّلب - في الجملة - والشّيء.

هذا بحسب العرف واللّغة.

وأمّا بحسب الاصطلاح، فقد نُقِلَ الاتّفاق على أنّه حقيقةٌ في القول المخصوص، ومجازٌ فيغيره(1).

ولا يخفى: أنّه عليه لا يمكن منه الاشتقاق؛

___________________

معنيين: الأوّل: {الطّلب} وهو المعنى الأوّل لكن لا مطلقاً، بل {في الجملة} بحسب الخصوصيّات الّتي سنذكرها من كون الطّلب بالصيغة ونحوه.

{و} الثّاني: {الشّيء} من غير فرق بين أن يكون غرضاً أو حادثة أو غيرهما، وأمّا بقيّة المعاني الّتي أنهاها بعضهم إلى أربعة عشر - كما عن البدائع(2)

وغيره - فإن دخل تحت أحد هذين فهو وإلّا كان مجازاً.

و{هذا} الّذي ذكرنا من اختصاصه بهذين المعنيين إنّما هو {بحسب العرف واللّغة} فتأمّل.

{وأمّا} معنى الأمر {بحسب الاصطلاح} المتداول في ألسنة الفقهاء والأصوليّين {فقد نقل الاتفاق على أنّه حقيقة في القول المخصوص} وهي صيغة (إفعل) {ومجاز في غيره} مطلقاً.

{ولا يخفى} عليك {أنّه عليه} أي: أنّ الأمر بناءً على كونه موضوعاً للقول المخصوص {لا يمكن منه الاشتقاق} كأن يقال - مثلاً - : (أمر) بمعنى: قال القول المخصوص، و(يأمر) بمعنى: يقول القول المخصوص، وهكذا.

هذا إذا كان المراد وضعه للقول بمعنى المصدر، أي: التّلفّظ بالصيغة واضح؛أنّه حينئذٍ يكون من قبيل الإعلام فكما لا يمكن الاشتقاق من (زيد) و(عمرو)

ص: 344


1- الفصول الغرويّة: 63.
2- بدائع الأفكار: 198.

فإنّ معناه حينئذٍ لا يكون معنى حدثيّاً، مع أنّ الاشتقاقات منه - ظاهراً - تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم، لا بالمعنى الآخر، فتدبّر.

___________________

كذلك من الأمر.

وأمّا إذا كان المراد وضعه للقول بمعنى اسم المصدر - وهو مجرّد اللّفظ الخاص - فوجه عدم الاشتقاق أوضح، إذ يكون حال لفظ الأمر حال لفظ الاسم والفعل والحرف حيث يكون اسماً، كسائر أسماء الأجناس، فكما لا يصحّ الاشتقاق من لفظ الاسم بالنسبة إلى من تلفّظ أو يتلفّظ به، كذلك لا يصحّ الاشتقاق من لفظ الأمر بالنسبة إلى من يتلفّظ أو تلفّظ به، {فإنّ معناه} أي: معنى الأمر {حينئذٍ} أي: حين وضعه للقول المخصوص {لا يكون معنى حدثيّاً} وكلّ غير حدثيّ لا يشتقّ منه بداهة {مع} أنّ ما ذكر غير مستقيم، لبداهة صحّة الاشتقاق من الأمر.

والحاصل: أنّ الأمر لو كان موضوعاً للقول المخصوص لزم عدم الاشتقاق منه، لكن اللّازم باطل، فالملزوم مثله، بيان بطلان اللّازم: {أنّ الاشتقاقات منه} أي: من لفظ الأمر {ظاهراً تكون} من الأمر الّذي هو {بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم} فإنّهم إذا قالوا: (أمر) أرادوا أنّه تلفّظ بالقول المخصوص، وهكذا، و{لا} يكون الاشتقاقات من الأمر {بالمعنى الآخر} غير المصطلح {فتدبّر}.

قال المشكيني(رحمة الله): «فيه منع الظّهور المذكور أوّلاً، وظهور كونالاشتقاق منه بما له من المعنى العرفي ثانياً»(1)،

انتهى. ويمكن أن يكون وجهه أنّ لفظ الأمر المصطلح مصدر، بمعنى: التّلفّظ بلفظ دالّ على الطّلب من حيث صدوره من المتكلّم، فيكون معنى لفظ الأمر معنى حدثيّاً قابلاً للاشتقاق منه، وتفصيل ذلك موكول إلى حاشية السُّلْطَان.

ص: 345


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 309.

ويمكن أن يكون مرادهم به هو: الطّلب بالقول، لا نفسه - تعبيراً عنه بما يدلّ عليه - . نعم، القول المخصوص - أي: صيغة الأمر - إذا أراد العالي بها الطّلب يكون من مصاديق الأمر، لكنّه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.

___________________

{و} لكن {يمكن} الجواب عمّا تقدّم من أنّه لو كان موضوعاً للقول كيف يصحّ الاشتقاق منه؟ بما حاصله: {أن يكون مرادهم به} أي: بما ذكروا من كون لفظ الأمر موضوعاً للقول {هو الطّلب بالقول} فهو مدلول الأمر {لا نفسه} أي: نفس القول حتّى يكون جامداً، وإنّما ذكروا القول مكان الطّلب بالقول {تعبيراً عنه} أي: عن الطّلب {بما} أي: القول {يدلّ عليه} أي: على الطّلب، فذكروا القول الّذي يدلّ على الطّلب وأرادوا الطّلب.

وحيث بيّن أنّ معنى الأمر اصطلاحاً هو الطّلب بالقول استدرك بقوله: {نعم} قد يطلق الأمر على نفس {القول المخصوص، أي: صيغة الأمر} ك (إضرب) مثلاً، لكن {إذا أراد} الشّخص {العالي بها} أي: بهذه الصّيغة {الطّلب} من السّافل، ولا يخفى أنّ إطلاق الأمر حينئذٍ على القول؛ لأنّه {يكون من مصاديقالأمر} كما هو من مصاديق الطّلب.

والحاصل: أنّه لمّا وضع الأمر للطّلب بالقول كان مصداق الطّلب مصداقاً للأمر، لبداهة أنّ مصداق أحد المتساويين مصداق للآخر.

{لكنّه} أي: لكن هذا القول المخصوص يكون من مصاديق الأمر {بما هو} مصداق من مصاديق {طلب مطلق} من غير نظر إلى جهة علوّ الطّالب {أو} بما هو مصداق من مصاديق طلب {مخصوص} بالنظر إلى طلب العالي، وقوله: «بما هو» الخ أي: صدق الأمر عليه بما هو طلب، لا بما هو قول مخصوص؛ لأنّا أنكرنا كون الأمر موضوعاً للقول، ومثال ذلك: أنّه لو وضع العالم للمتلبّس بالعلم، فصدق العالم على زيد إنّما هو بملاحظة تلبّسه بالعلم، لا بما هو زيد،

ص: 346

وكيف كان، فالأمر سَهْلٌ لو ثبت النّقل، ولا مشاحّة في الاصطلاح، وإنّما المُهِمُّ بيان ما هو معناه عرفاً ولغةً ليحمل عليه في ما إذا ورد بلا قرينة.

وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسّنّة، ولا حجّة على أنّه على نحو الاشتراك اللّفظيّ أو المعنويّ أو الحقيقة والمجاز.

وما ذكر في التّرجيح عند تعارض هذه الأحوال - لو سلّم،

___________________

لعدم وضع العالِمِ لزيد، فتبصّر.

{وكيف كان، فالأمر سهل لو ثبت النّقل} عن معناه العرفي واللّغوي إلى الاصطلاحي كما تقدّم {ولا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح} لو ثبت، ووجه سهولة الأمر عدم الاهتمام بمعناه الاصطلاحي، لعدم ترتّب فائدة عليه {وإنّما المهم} الّذي يجب البحث عنه{بيان ما هو معناه عرفاً ولغة} إذ محطّ النّظر هو الخِطابات الشّرعيّة الّتي وردت على مقتضى العرف حسب قوله - تعالى - : {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1) فاللّازم أن يبيّن معنى الأمر في عرف الشّارع {ليحمل عليه} أي: على ذلك المعنى {في ما إذا ورد} الأمر {بلا قرينة} تفيد المراد منه {و} نحن بعد التّتبّع وجدنا أنّه {قد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب} الحكيم {والسّنّة} المقدّسة.

{ولا حجّة على أنّه على نحو الاشتراك اللّفظي} بأن يكون اللّفظ موضوعاً لكلّ واحد من تلك المعاني ابتداءً {أو} الاشتراك {المعنوي} بأن يكون اللّفظ موضوعاً لمعنى واحد جامع بين تلك المعاني {أو} أنّ اللّفظ بنحو {الحقيقة} في بعض {والمجاز} في بعض آخر {وما ذكر في} الأمر الثّامن من {التّرجيح عند تعارض هذه الأحوال} الثّلاثة وغيرها {لو سلم} كونها مرجّحة في نفسها

ص: 347


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

ولم يعارَض بمثله - فلا دليل على التّرجيح به، فلا بدّ مع التّعارض من الرّجوع إلى الأصل في مقام العمل.

نعم، لو علم ظهوره في أحد معانيه - ولو احتمل أنّه كان للانسباق من الإطلاق - فليحمل عليه، وإن لم يعلم أنّه حقيقة فيه بالخصوص أو في ما يعمّه، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأوّل.

الجهة الثّانية:

___________________

{ولم يعارض بمثله} كما تقدّم بيانه {فلا دليل على التّرجيح به} ما لم يوجب ظهور اللّفظ {فلا بدّ من التّعارض} بين احتمالي الحقيقية والمجاز، أو الاشتراك اللّفظي والمعنوي {من الرّجوع إلى الأصل في مقام العمل} من البراءة والاستصحاب وغيرهما حسب اختلاف المقامات.

{نعم، لو علم ظهوره} أي: ظهور لفظ الأمر {في أحد معانيه ولو احتمل أنّه} أي: الظّهور {كان للانسباق من الإطلاق} بأن لم يعلم أنّ هذا الظّهور ناش من الوضع، أو ناش من الانصراف لكثرة الاستعمال، مع عدم كون اللّفظ موضوعاً له بالخصوص {فليحمل} اللّفظ {عليه} أي: على ذلك المعنى الظّاهر لكون الظّهور حجّة، وحينئذٍ فلا مجال للأصل العملي {وإن لم يعلم أنّه} أي: الأمر {حقيقة فيه} أي: في هذا المعنى الظّاهر {بالخصوص أو} حقيقة {في ما يعمّه} بل ولو احتمل كون الظّهور لأجل قرينة عامّة، بأن كان اللّفظ مجازاً فيه {كما لا يبعد أن يكون} لفظ الأمر {كذلك} أي: ظاهراً {في المعنى الأوّل} وهو الطّلب.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الكلام ظاهر التّنافي لما تقدّم منه(قدس سره) من قوله: «ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطّلب في الجملة والشّيء»، فتأمّل.

اعتبار العلو

{الجهة الثّانية} في أنّ الطّلب الّذي هو معنى الأمر يعتبر فيه كونه من العالي أم

ص: 348

الظّاهر: اعتبار العلوّ في معنى الأمر، فلا يكون الطّلب من السّافل أو المساوي أمراً، ولو أُطلق عليه كان بنحوٍ من العناية.كما أنّ الظّاهر: عدم اعتبار الاستعلاء، فيكون الطّلب من العالي أمراً، ولو كان مستخفضاً لِجَنَاحِهِ.

وأمّا احتمال اعتبار أحدهما(1)

___________________

لا؟ و{الظّاهر} بقرينة التّبادر {اعتبار العلو في معنى الأمر} فإنّه إذا قيل: (أمر زيد عمرواً بكذا) فهم منه أنّ زيداً عالٍ - ولو كان السّامع لا يعرف زيداً ولا عمرواً - فملاك صدق الأمر وجود جهة العلو في الأمر بأن يصدر الطّلب منه {فلا يكون الطّلب من} الشّخص {السّافل أو المساوي} بالنسبة إلى المطلوب منه {أمراً} في الاصطلاح {ولو أُطلق عليه} أي: على طلبهما لفظ الأمر {كان بنحو من العناية} والمجاز، وذلك للمشابهة في الصّورة لكن قد جرى اصطلاح النّحاة على تسمية مطلق ما كان بصيغة (إفعل) بالأمر - كما لا يخفى - .

ثمّ هل يعتبر في صدق الأمر علاوة على علوّ الطّالب استعلاؤه، بأن يطلب بعنوان المولويّة والسّيادة {كما} اعتبر علوّه أم لا يعتبر؟ {إنّ الظّاهر} بقرينة التّبادر أيضاً {عدم اعتبار الاستعلاء} نعم، يعتبر عدم كونه على نحو الإرشاد والشّفاعة، وعلى هذا {فيكون الطّلب من} الشّخص {العالي أمراً ولو، كان} في مقام الطّلب {مستخفضاً لِجَنَاحِهِ}.

فائدة: استخفاض الجناح كنايةٌ عن التّذلّل والخضوع، وهو مأخوذ من خضوع الطّائر لأُمّه بخفض جناحه.

ثمّ إنّه تحصّل ممّا تقدّم اعتبار العلوّ في الأمر، لا الاستعلاء {وأمّااحتمال اعتبار أحدهما} على سبيل منع الخلو، بأن يكون الشّرط في صدق الأمر إمّا اعتبار العلوّ

ص: 349


1- قوانين الأصول 1: 81؛ هداية المسترشدين 1: 577.

فضعيف، وتقبيحُ الطّالب السّافل من العالي المستعلى عليه وتوبيخه - بمثل: (إنّك لِمَ تَأْمُرُه؟) - إنّما هو على استعلائه، لا على أمره حقيقة بعد استعلائه، وإنّما يكون إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضيّة استعلائه.

وكيف كان، ففي صحّة سلب الأمر عن طلب السّافل - ولو كان مستعلياً - كفايةٌ.

___________________

ولو استخفض الطّالب، وإمّا الاستعلاء ولو لم يكن عالياً - كما ذهب إليه بعض الأساطين - بدليل تقبيح السّافل المستعلي بقولهم لم تأمره؟ فيعلم من ذلك كفاية الاستعلاء في صدق الأمر {فضعيف} لم يقم عليه دليل، بل صحّة السّلب دليل عدمه.

{و} أمّا ما استدلّ به من {تقبيح} العقلاء فعل {الطّالب السّافل من العالي} حين كان بصورة {المستعلى عليه وتوبيخه بمثل (إنّك لم تأمره؟)} فغير صحيح وبيانه يحتاج إلى مقدّمة، وهي: أنّ موضع الاستدلال بهذا الدّليل أمران:

الأوّل: تقبيح العقلاء، وجه الدّلالة أنّ التّقبيح إمّا راجع إلى المادّة وعدم قبحها بديهيّ، وإمّا راجع إلى الهيئة، وهي إمّا أمر أو التماس، وحيث لا قبح في الثّاني فلا بدّ أن يكون في الأوّل.

الثّاني: تسمية العقلاء هذا الطّلب أمراً.

إذا عرفت ذلك قلنا: هذا الاستدلال غير مستقيم، أمّا التّقبيح ف {إنّما هو على استعلائه لا على أمره حقيقة بعد استعلائه} فلا يكون دليلاً على صدق الأمر.{و} أمّا تسمية العقلاء ذلك الطّلب أمراً فنقول: {إنّما يكون إطلاق الأمر على طلبه} مجازاً لا حقيقة {بحسب ما هو قضيّة} أي: مقتضى {استعلائه} وعلاقة المجاز المشابهة بين العالي والمستعلي، مع أنّه لو لم نعلم كون لفظ الأمر هنا حقيقة أو مجازاً لم يمكن التّمسّك به لإثبات الحقيقة، إذ الاستعمال أعمّ.

{وكيف كان} المطلب {ففي صحّة سلب الأمرعن طلب} الشّخص {السّافل ولو كان مستعلياً} في مقام الطّلب {كفاية} لإثبات مجازيّة إطلاق الأمر عليه.

ص: 350

الجهة الثّالثة: لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقةً في الوجوب؛ لانسباقه عنه عند إطلاقه.

ويؤيّده قوله - تعالى - : {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ}(1)؛

___________________

إفادة الأمر الوجوب

{الجهة الثّالثة} في معنى مادّة الأمر {لا يبعد كون لفظ الأمر} أي: أ، م، ر {حقيقة في الوجوب} فقط، فلو قال: (أمره) كان المعنى: أوجب عليه، وذلك {لانسباقه} أي: الوجوب {عنه} أي: عن لفظ الأمر {عند إطلاقه} من دون قرينة، بل وصحّة الحمل - كما قيل - .

{ويؤيّده} أي: كون الأمر للوجوب بعض الاستعمالات نحو {قوله - تعالى - : {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ}}.وجه الدّلالة ما ذكره في المعالم من قوله: «حيث هدّد سبحانه مخالف الأمر، والتّهديد دليل الوجوب.

فإن قيل: الآية إنّما دلّت على أنّ مخالف الأمر مأمور بالحذر، ولا دلالة في ذلك على وجوبه إلّا بتقدير كون الأمر للوجوب وهو عين المتنازع فيه.

قلنا: هذا الأمر للإيجاب والإلزام قطعاً، إذ لا معنى لندب الحذر عن العذاب أو إباحته، ومع التّنزّل عن كونه للوجوب فلا أقلّ من دلالته على حسن الحذر، ولا ريب إنّه إنّما يحسن عند قيام المقتضي للعذاب، إذ لو لم يوجد المقتضي لكان الحذر عنه سفهاً وعبثاً، وذلك محال على اللّه - سبحانه - وإذا ثبت وجود المقتضي ثبت أنّ الأمر للوجوب؛ لأنّ المقتضي للعذاب هو مخالفة الواجب لا المندوب»(2)،

انتهى.

ثمّ إنّ وجه كون الآية مؤيّدة لا دليلاً أنّ غاية ما يدلّ أنّه استعمل الأمر للوجوب

ص: 351


1- سورة النّور، الآية: 63.
2- معالم الدين: 47.

وقوله(صلی الله علیه و آله): «لولا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسِّواك»(1)؛ وقوله(صلی الله علیه و آله) لبريرة

___________________

والاستعمال أعمّ من الحقيقة - كما لا يخفى - بل قد عرفت أنّ فهم الوجوب هنا بقرينة مادّة (الحذر).

{وقوله(صلی الله علیه و آله)} في الحديث المشهور: {«لولا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسواك»} وجه الدّلالة أنّ المشقّة إنّما تكون في الإلزام لا في النّدب، فلو لم يكن الأمر للوجوب لم تكنالمشقّة مانعة عنه، ووجه عدم كونه دليلاً أنّه استعمال وهو أعمّ كما تقدّم، مع أنّه فهم الوجوب بقرينة المشقّة.

{وقوله(صلی الله علیه و آله)} أيضاً {لبريرة} في ما رواه في مستدرك الوسائل في الباب السّادس والثّلاثين من أبواب نكاح العبيد والإماء، عن غَوَالي اللّئالي ما لفظه: «روى ابن عبّاس أنّ زوج بريرة كان عبداً أسود، يقال له: مغيث، كأنّي أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تجري على لحيته.

فقال النّبيّ(صلی الله علیه و آله) للعبّاس: يا عبّاس، ألا تعجب من حبّ مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثاً؟ فقال لها النّبيّ(صلی الله علیه و آله): لو راجعته فإنّه أبو ولدك. فقالت: يا رسول اللّه تأمرني؟ قال: لا، إنّما أنا شفيع. فقالت: لا حاجة لي فيه»(2)، انتهى.

وقصّة بريرة - كما رواها في الوسائل - أنّ بريرة كانت عند زوج لها وهي مملوكة، فاشترتها عائشة وأعتقتها، فخيّرها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقال: «إن شاءت أن تقرّ عند زوجها وإن شاءت فارقته»(3)،

انتهى.

أقول: إنّما خيّرها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لأنّ الأمة إذا كانت زوجة العبد ثمّ أُعتقت، تخيّرت في فسخ عقدها وعدمه.

ص: 352


1- الكافي 3: 22.
2- غوالي اللّئالي 3: 349.
3- وسائل الشّيعة 21: 162.

- بعد قولها: أتأمرني يا رسول الله؟ - : «لا، بل إنّما أنا شافع»(1)

إلى غير ذلك؛ وصحّةُ الاحتجاج على العبد ومؤاخذتِهِ بمجرّد مخالفة أمره، وتوبيخه على مجرّد مخالفته، كما

___________________

ثمّ إنّ وجه الاستدلال بهذا الحديث أنّ قوله(صلی الله علیه و آله) لبريرة {بعد قولها: أتأمرني يا رسول الله؟ - : «لا، بل إنّما أنا شافع»} أو: لا إنّما أنا شافع - كما في لفظ الرّواية تدلّ على أنّ الأمر للوجوب، إذ لو لم يكن للوجوب ما كان لاستفهام بريرة معنىً، وكذلك لقول النّبيّ(صلی الله علیه و آله): لا، ووجه كونه مؤيّداً لا دليلاً - بعد كون الاستعمال أعمّ من الحقيقة - وجود القرينة وهي مقابلته بالشفاعة ثمّ إنّ الشّفاعة طلب يرجع فائدته إلى ثالث، وجعلها بعضهم مقابلاً للأمر والالتماس والسّؤال، نظراً إلى عدم انحصارها في العالي أو الدّاني أو المساوي الّتي كانت شرائط للثّلاثة الأُوَل(2){إلى غير ذلك}.

فإن قلت: ما وجه جعلكم الأدلّة الثّلاثة مؤيّدات مع أنّ أصالة عدم القرينة تفيد الحقيقة؟

قلت: أصالة عدم القرينة إنّما تكون لتعيين المراد، لا لكون الاستعمال بعد معلوميّة المراد على وجه الحقيقة أو المجاز {وصحّة الاحتجاج} عطف على «لانسباقه» وعلى هذا يكون دليلاً، والظّاهر أنّه عطف على قوله: «قوله - تعالى - {فَلۡيَحۡذَرِ}» فيكون مؤيّداً، أي: يدلّ على كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب صحّة احتجاج المولى {على العبد ومؤاخذته بمجرّد مخالفة أمره} في ما لو طلب منه شيئاً بلفظ الأمر فلم يفعل فإنّه يحسن عند العقلاء عقوبته {وتوبيخه على مجرّد مخالفته} ولو لم يكن قرينة أصلاً {كما} ترى أنّ اللّه - سبحانه - لامإبليس

ص: 353


1- مستدرك الوسائل 15: 32.
2- قال العلّامة المشكيني: «ربّما يقال بسلامة خبر بريرة عنها؛ لأنّ الاستشهاد فيه بفهم النبيّ(صلی الله علیه و آله) للوجوب من إطلاقه لا بأصالة عدم القرينة، والظاهر كون فهمه(صلی الله علیه و آله) مستنداً إلى حاق اللفظ»، انتهى. كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 319.

في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ}(1).

___________________

{في قوله - تعالى - : {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ}} وجه الدّلالة أنّه - تعالى - رتّب الذّمّ على مجرّد مخالفة الأمر ولو كان الأمر أعمّ من الوجوب لم يكن مرتّباً، فإنّ ما يرتّب على الخاصّ لا يصحّ ترتّبه على العامّ إلّا مجازاً.

مثلاً: لو كان المحظور إدخال الإنسان في الدّار لم يصحّ في مقام المؤاخذة أن يقول المولى لعبده: (لم أدخلت الحيوان) إلّا توسّعاً، ووجه كونه مؤيّداً لا دليلاً ما تقدّم من كون الاستعمال أعمّ مضافاً إلى وجود القرينة.

ثمّ إنّ وجه الاستدلال بهذه الآية على كون المادّة للوجوب - كما هنا - غير الاستدلال على كون الصّيغة للوجوب كما في المعالم(2).

تنبيه: قال في المغني في باب اللّام: «الثّالث: لا الزّائدة الدّاخلة في الكلام لمجرّد تقويته وتوكيده، نحو: {مَا مَنَعَكَ إِذۡ رَأَيۡتَهُمۡ ضَلُّوٓاْ ٭ أَلَّا تَتَّبِعَنِۖ}(3)، {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ}(4). وتوضحه الآية الأُخرى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ}»(5)(6)،

انتهى.وقال في الغنية - بعد نقله الإشكال عن الرّازي في زيادة اللّام - : «فأوّل على أنّ ما استفهاميّة للإنكار، معناه: أيّ شيء منعك عن السّجود، أو على أنّه ذكر المنع وأُريد الدّاعي، فكأنّه قيل: ما دعاك إلى أن لا تسجد».

ص: 354


1- سورة الأعراف، الآية: 12.
2- معالم الدين: 47.
3- سورة طه، الآية: 92 - 93.
4- سورة الأعراف، الآية: 12.
5- سورة ص، الآية: 75.
6- مغني اللبيب 1: 248.

وتقسيمُه إلى الإيجاب والاستحباب إنّما يكون قرينةً على إرادة المعنى الأعمّ منه في مقام تقسيمه، وصحّة الاستعمال في معنى أَعَمُّ من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى.

وأمّا ما أُفيد من أنّ الاستعمال فيهما ثابت، فلو لم يكن موضوعاً للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز(1)، فهو غير مفيد؛ لما مرّت الإشارة إليه في الجهة الأُولى،

___________________

{و} اعلم أنّه قد ذهب جماعة إلى أنّ الأمر حقيقة في الأعم من الوجوب والاستحباب على نحو الاشتراك المعنوي، واستدلّوا لذلك بصحّة {تقسيمه إلى الإيجاب والاستحباب} بأن يقال: الأمر إمّا واجب أو مستحب، ولولا أنّه كان مشتركاً لم يصحّ التّقسيم، إذ تقسيم الشّيء إلى نفسه وغيره محال، وفيه أنّه {إنّما يكون قرينة على إرادة المعنى الأعمّ منه} أي: من الإيجاب {في مقام تقسيمه، و} هذا لا يوجب كونه مشتركاً، إذ هذا التّقسيم إنّما يثبت {صحّة الاستعمال في معنى} مشترك، وصحّة الاستعمال {أعمّ من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى} ومرّ غير مرّة. نعم، إذا أحرز أنّ التّقسيم بلا عناية كان مفيداً، وأنّى لهم بإثبات ذلك.{وأمّا ما أُفيد} في وجه الاشتراك المعنوي {من أنّ الاستعمال فيهما} أي: الوجوب والنّدب {ثابت} قطعاً {فلو لم يكن موضوعاً للقدر المشترك بينهما لزم} أحد أمرين: {الاشتراك} اللّفظي، إذا كان لكلّ واحدٍ منهما وضع على حدّه. {أو} الحقيقة و{المجاز} إذا كان الوضع لأحدهما فقط، وحين دار الأمر بين هذه الثّلاثة فالاشتراك المعنوي خير من قسيميه - كما تقرّر في بحث تعارض الأحوال - فلا بدّ من الاشتراك المعنوي ترجيحاً للرّاجح على المرجوح {فهو غير مفيد} جواب «أمّا» {لما مرّت الإشارة إليه في الجهة الأُولى} من قوله: «وما ذكرت في

ص: 355


1- مبادئ الأصول: 93.

وفي تعارض الأحوال، فراجع.

والاستدلالُ بأنّ فعل المندوب طاعة، وكلّ طاعة فهو فعل المأمور به(1)،

فيه ما لا يخفى من منع الكبرى لو أُريد من المأمور به معناه الحقيقي، وإلّا لا يفيد المدّعى.

___________________

التّرجيح عند تعارض هذه الأحوال» الخ {وفي} الأمر الثّامن في بحث {تعارض الأحوال} من أنّ هذه الوجوه الاستحسانيّة لا تثبت الوضع، وإنّما الملاك هو حصول الظّهور {فراجع} وتذكّر.

{و} أمّا ما ذكروا أيضاً من {الاستدلال} على الاشتراك المعنوي {بأنّ فعل المندوب طاعة وكلّ طاعة فهو فعل المأمور به} فالمندوب مأمور به بعد حذف المضافين، فيرد عليه بأنّ {فيه ما لا يخفى من} الإشكال، إذ لنا {منع الكبرى}أي: قوله: «وكلّ طاعة» الخ {لو أُريد من المأمور به معناه الحقيقي} إذ لا نسلّم أنّ كلّ طاعة فهو فعل المأمور به الحقيقي، فإنّ بين الطّاعة وبينه عموماً مطلقاً {وإلّا} يرد من المأمور به معناه الحقيقي، بل أُريد معنى يساوي الطّاعة ف {لا يفيد المدّعي} أي: الاشتراك المعنوي؛ لأنّ صدق المأمور به بالمعنى الأعم على المندوب لا يلزم صدق المأمور به الحقيقي عليه، إذ ليس كلّما صدق العام صدق الخاص - كما لا يخفى - .

تنبيه: ذكر بعض المحقّقين: «أنّ العلوّ والاستعلاء والالتماس والسّؤال، عناوين منتزعة من أحوال الطّالبين علوّاً ودنوّاً وتساوياً، والوجوب والنّدب ونحوهما، منتزعة من نفس الطّلب المدلول عليه بالصيغة، وتقابل الالتماس والدّعاء للعلوّ ليس باعتبار الإلزام وعدمه، لوضوح أنّ الملتمس والسّائل ربّما لا يرضون بترك المطلوب، كما أنّ العالي ربّما لا يكون مقصوده الإيجاب والإلزام»(2)،

انتهى.

ص: 356


1- قوانين الأصول 1: 82.
2- الحاشية على كفاية الأصول 2: 9.

الجهة الرّابعة: الظّاهر أنّ الطّلب الّذي يكون هو معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقيّ - الّذي يكون طلباً بالحمل الشّائع الصِّناعي - ، بل الطّلب الإنشائيّ - الّذي لا يكون بهذا الحمل طلباً مطلقاً، بل طلباً إنشائيّاً - ،

___________________

الطّلب والإرادة

{الجهة الرّابعة} في الطّلب والإرادة وبيان الحقّ في أنّ الطّلب هل هو عين الإرادة - كما نسب إلى العدليّة من الشّيعة والمعتزلة - أو أنّ الطّلب غير الإرادة - كما نسب إلى الأشاعرة - ؟مقدّمة: اعلم أنّ الطّلب مقول بالاشتراك على ثلاثة أنواع:

الأوّل: الطّلب الّذي يكون من صفات النّفس الّتي له وجود في الخارج وهو من الكيفيّات النّفسانيّة.

الثّاني: الطّلب الإنشائي المنتزع عن مقام إظهار الإرادة باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة، مثلاً صيغة (إفعل) طلب إنشائي لكونه مظهراً للإرادة.

الثّالث: مفهوم الطّلب الجامع بين النّوعين الأوّلين.

إذا عرفت ذلك، فاعلم {الظّاهر أنّ الطّلب الّذي يكون هو معنى} مادّة {الأمر} لغة وعرفاً، ولذا لو قال: (آمرك بكذا) فسّره العرف بأنّه طلب منه {ليس هو الطّلب الحقيقي} القائم بالنفس ومن صفاتها الخارجيّة، أي: النّوع الأوّل {الّذي يكون طلباً بالحمل الشّائع الصِّناعي} الّذي تقدّم أنّ ملاكه الاتحاد بحسب الوجود، وأمّا عدم كونه طلباً بالحمل الأوّلي الذّاتي الّذي ملاكه الاتحاد المفهومي فبديهيّ لا يخفى.

وكذا ليس الطّلب الّذي هو معنى الأمر النّوع الثّالث - أعني: مفهوم الطّلب الجامع بين النّوعين - {بل} معنى مادّة الأمر هو {الطّلب الإنشائي} أي: النّوع الثّاني {الّذي لا يكون بهذا الحمل} الشّائع {طلباً مطلقاً} من غير تقييد {بل} كان {طلباً إنشائيّاً}.

ص: 357

سواء أنشأ بصيغة (إفْعَل)، أو بمادّة الطّلب، أو بمادّة الأمر، أو بغيرها.

___________________

والحاصل: أنّ قولهم: «الأمر معناه الطّلب» يراد منه أنّ الأمر معناه الطّلب الإنشائي، ولا يراد منه أنّ الأمر معناه الطّلب الحقيقي، أو الطّلب المفهومي الجامع.والدّليل على ما ذكر أنّ الطّلب الحقيقي إنّما يوجد بأسبابه الخاصّة، كما أنّ العلم يوجد بأسبابه الخاصّة، وأمّا الطّلب الإنشائي فإنّه يوجد باللفظ، فما يوجد بلفظ الأمر لا يمكن أن يكون طلباً حقيقيّاً، ولذا ترى أنّ المولى قد يأمر عبده من غير قيام طلب حقيقيّ بنفسه، وأمّا النّوع الثّالث - أعني: مفهوم الطّلب - فإنّه لا يوجد إلّا بأحد فرديه - كما لا يخفى - وعليه فلا يمكن أن يكون لفظ الأمر الموضوع لأحد فرديه أعني: الإنشائي دالّاً عليه.

تنبيه: قول المصنّف: «الّذي يكون طلباً بالحمل» الخ، وقوله: «الّذي لا يكون بهذا الحمل طلباً» الخ، فيه مسامحة، إذ الحمل لا بدّ له من محمول ومحمول عليه، والطّلب حقيقيّة وإنشائيّة لا يحملان على شيء، فالأحسن أن يقول: «المعبّر عنه بلفظ الطّلب مطلقاً» عوض العبارة الأُولى، ويقول: «الّذي لا يعبّر عنه بلفظ الطّلب مطلقاً، بل يعبّر عنه بلفظ الطّلب الإنشائي» عوض العبارة الثّانية، فتأمّل(1).

ولا يذهب عليك أنّ الطّلب إذا لم يكن مفهوميّاً ولا حقيقيّاً كان إنشائيّاً {سواء أنشأ بصيغة (إفعل)} ك (إضرب) {أو} أُنشأ {بمادّة الطّلب} نحو (اطلب) {أو} أنشأ {بمادّة الأمر} الّذي هو محلّ الكلام نحو (أمر) {أو} أنشأ {بغيرها} كالإشارة والكتابة.

ص: 358


1- راجع حاشية المشكيني مع قول المصنّف: «إنّ الطّلب الّذي يكون هو معنى الأمر». كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 321.

ولو أبيت إلّا عن كونه موضوعاً للطّلب، فلا أقلّ من كونه منصرفاً إلى الإنشائي منه عند إطلاقه، كما هو الحال في لفظ الطّلب أيضاً، وذلك لكثرة الاستعمال في الطّلب الإنشائي.

كما أنّ الأمر في لفظ الإرادة على عكسلفظ الطّلب،

___________________

{ولو أبيت إلّا عن كونه} أي: كون لفظ الأمر {موضوعاً للطّلب} بقول مطلق من غير تقييد بالإنشائي {فلا أقلّ من كونه} أي: الأمر {منصرفاً إلى الإنشائي منه} أي: من الطّلب {عند إطلاقه} أي: إطلاق الأمر، ولذا ترى أنّ الشّوق المؤكّد القائم بنفس المولى - الّذي هو طلب حقيقي - لا يسمّى أمراً {كما هو الحال في لفظ الطّلب} فإنّه - وإن كان موضوعاً للمفهومي الجامع بين قسمي الطّلب الإنشائي والحقيقي {أيضاً} - لكنّه حين الإطلاق ينصرف من: (طلب فلان من فلان شيئاً) الطّلب الإنشائي فتأمّل {وذلك} الانصراف في لفظ الأمر إنّما كان {لكثرة الاستعمال في الإنشائي}.

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وممّا يدلّ على ما ذكر صحّة سلب الأمر عن الكيفيّة القائمة بالنفس الموجودة بوجود سببها ما لم ينشأ المولى بصيغة (إفعل) أو ما هو بمعناها، ضرورة أنّه عند الشّوق المتأكّد الموجود في نفس المولى وعدم إنشائه بعد، يصحّ أن يقال أنّه ليس بآمر والعبد ليس بمأمور وتلك الكيفيّة ليست بأمر»(1)، انتهى.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه يوجب الحقيقة الثّانويّة، وخروج المعنى الأوّل عن الحقيقة، والظّاهر أنّ مراد المصنّف(رحمة الله) ليس ذلك.

فتحصّل ممّا تقدّم أنّ لفظ الطّلب منصرف إلى الإنشائي {كما أنّ الأمر} أي: الشّأن {في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطّلب} فإنّ الإرادة - وإن كانت على ثلاثة أنواع: المفهومي الجامع،والحقيقي، والإنشائي - .

ص: 359


1- شرح كفاية الأصول 1: 87.

والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة.

واختلافُهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا(1)

إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطّلب والإرادة، خلافاً لقاطبة أهل الحقّ والمعتزلة من اتّحادهما(2).

___________________

{و} لكن {المنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة} القائمة بالنفس، بل يمكن ادّعاء صحّة سلب الإرادة عن الإنشائي منها، لبداهة أنّ المولى إذا أمر عبده من دون إرادة قلبيّة يصحّ أن يقال أنّه ليس بمريد، فتدبّر.

وهذا أوان الشّروع في ما هو خارج عن البحث من بيان معنى الطّلب والإرادة وكان الأولى طرح هذا عن الكتاب إلى أوّل الفصل الثّاني: {واختلافهما} أي: الطّلب والإرادة {في ذلك} الانصراف المذكور صار سبباً لاشتباه بعض، قال المشكيني: «حيث إنّهم تخيّلوا أنّ المتبادر من كلّ منهما معنى حقيقيّ له، ولا شبهة في تغاير الطّلب الإنشائي مع الإرادة الحقيقيّة، ولم يتفطّنوا أنّه من باب الانصراف، وأنّ المدّعى هو الاتحاد مع حفظ المرتبة، كما سيأتي بيانه»(3).

والحاصل: أنّ الانصراف {ألجأ بعض أصحابنا} كالسيّد في المحصول وشيخ المحقّقين في هداية المسترشدين {إلى الميلإلى ما ذهب إليه الأشاعرة}(4)

من العامّة {من المغايرة بين الطّلب والإرادة} حقيقة {خلافاً لقاطبة أهل الحق} وهم الشّيعة {والمعتزلة من} العامّة، فإنّهم ذهبوا إلى {اتحادهما}.

ص: 360


1- هداية المسترشدين 1: 586.
2- كشف المراد: 223.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 326.
4- لا يخفى أنّ العامّة في الأصول على مذهبين: الأشعري والمعتزلي، وفي الفروع على أربعة مذاهب: الحنفي والحنبلي والمالكي والشّافعي، وقد يقال: إنّ أقربهم إلى الشّيعة في الأصول المعتزلة وفي الفروع الشّافعيّة.

فلا بأس بصرف عِنان الكلام إلى بيان ما هو الحقّ في المقام، وإن حقّقناه في بعض فوائدنا(1)

إلّا أنّ الحوالة لمّا لم تكن عن المحذور خالية، والإعادة ليست بلا فائدة ولا إفادة، كان المناسب هو التّعرّض هاهنا أيضاً.

فاعلم: أنّ الحقّ كما عليه أهله - وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة - هو اتّحاد الطّلب والإرادة، بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بإِزاء مفهوم واحد، وما بإِزاء أحدهما في الخارج يكون بإِزاء الآخر، والطّلب المُنْشَأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة.

___________________

وحيث انجرّ بنا البحث إلى هذا المقام {فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحقّ} من الاتحاد وعدمه {في} هذا {المقام، وإن حقّقناه في بعض فوائدنا} المطبوعة مع حواشي الفرائد {إلّا أنّ الحوالة} على ذلك الكتاب {لمّا لم تكن عن المحذور خالية}لإجمال عبارة الفوائد أو عدم حضور نسختها عند كلّ أحد {والإعادة} عطف على «الحوالة» {ليست بلا فائدة} بالنسبة إلى العالم {ولا إفادة} بالنسبة إلى المتعلّم {كان المناسب هو التّعرّض هاهنا أيضاً: فاعلم أنّ الحقّ - كما عليه أهله} أي: الشّيعة {وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة - هو اتحاد الطّلب والإرادة} معنىً {بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بإِزاء مفهوم واحد} فهما مترادفان {و} يكون {ما بإِزاء أحدهما في} العقل وفي {الخارج} هو الّذي {يكون بإِزاء الآخر} كما هو شأن كلّ أمرين مترادفين.

{و} على هذا فيكون {الطّلب المنشأ بلفظه} أي: بلفظ الطّلب، نحو (اطلب) {أو بغيره} نحو (مُرْ، وإضْرِبْ، وليفعل) {عين الإرادة الإنشائيّة} فالفرد الخارجي لأحدهما هو الفرد الخارجي للآخر، فمصداق أحدهما مجمع العنوانين.

ص: 361


1- فوائد الأصول: 23.

وبالجملة: هما متّحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، لا أنّ الطّلب الإنشائي الّذي هو المنصرف إليه إطلاقه - كما عرفت - متّحد مع الإرادة الحقيقيّة الّتي ينصرف إليها إطلاقها أيضاً؛ ضرورةَ أنّ المغايرة بينهما أظهر من الشّمس، وأبين من الأمس.

فإذا عرفت المراد من حديث العينيّة والاتّحاد، ففي

___________________

{وبالجملة هما} أي: الطّلب والإرادة {متّحدان مفهوماً} أي: مفهومهما الجامع بين الأقسام الثّلاثة الآتية {وإنشاءً}فإنشاء الطّلب هو إنشاء الإرادة {وخارجاً} فإنّ الصّفة القائمة بالنفس الّتي تسمّى بالإرادة هي الطّلب، وذهناً فإنّ تصوّر الطّلب هو تصوّر الإرادة.

ولا يخفى أنّ بين المفهوم وبين الثّلاثة الأُخر عموماً مطلقاً، فكلّ واحد من الثّلاثة يصدق عليه مفهوم الطّلب ولا عكس {لا أنّ الطّلب} عطف على قوله: «إنّ لفظيهما موضوعان» الخ.

والحاصل: أنّ كلّ مرتبة من مراتب الطّلب متّحدة مع تلك المرتبة من مراتب الإرادة فالطلب الحقيقي متّحد مع الإرادة الحقيقيّة، والطّلب الإنشائي متّحد مع الإرادة الإنشائيّة، لا أنّ الطّلب {الإنشائي الّذي هو المنصرف إليه إطلاقه} أي: إطلاق الطّلب {كما عرفت} سابقاً {متّحد مع الإرادة الحقيقيّة الّتي ينصرف إليها إطلاقها} أي: إطلاق الإرادة - كما تقدّم - {أيضاً} ووجه عدم الاتحاد بين الطّلب والإرادة مع اختلاف المرتبة في كمال الوضوح.

{ضرورة أنّ المغايرة بينهما} حينئذٍ {أظهر من الشّمس وأبين من الأمس} فإنّ الإرادة الحقيقيّة - كما في المثال - أمر متأصّل خارجيّ قائم بالنفس لها أسباب خاصّة، والطّلب الإنشائي أمر غير متأصّل ولا قائم بالنفس له أسباب مغايرة لأسباب الإرادة.

{فإذا عرفت المراد من حديث العينيّة والاتحاد} بين الطّلب والإرادة {ففي} مقام

ص: 362

مراجعة الوِجْدان - عند طلب شيء والأمر به حقيقةً - كفايةٌ، فلا يحتاج إلى مزيد بيانٍ وإقامة برهانٍ؛ فإنّ الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنّفس صفةً أُخرى قائمةً بها يكون هو الطّلب غيرها، سوى ما هو مقدّمةُ تحقّقها عند خطور الشّيء، والميل وهيجان الرّغبة إليه، والتّصديق لفائدته،وهو الجزم بدفع ما يوجب توقّفه عن طلبه لأجلها.

___________________

الدّليل لذلك نقول في {مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقة} لا امتحاناً {كفاية} فإنّ الصّفة القائمة بالنفس واحدة ويعبّر عنها بالإرادة تارة وبالطلب أُخرى {فلا يحتاج} في إثبات العينيّة والاتحاد بعد الوجدان الّذي هو أدلّ دليل على الشّيء {إلى مزيد بيان وإقامة برهان}.

ثمّ بيّن دلالة الوجدان بقوله: {فإنّ الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنّفس صفة أُخرى قائمة بها} أي: بالنّفس {يكون هو الطّلب غيرها} أي: غير الإرادة، خلافاً للأشاعرة القائلين بمغايرة الطّلب للإرادة {سوى ما هو مقدّمة تحقّقها عند خطور الشّيء}.

والحاصل: أنّا لا نجد سوى الإرادة ومقدّماتها صفةً تسمّى بالطّلب، وأمّا مقدّمات الإرادة فهي خمسة:

الأُولى: ما أشار إليه بقوله: «عند خطور الشّيء» وبعبارة أُخرى: العلم بالشّيء.

{و} الثّالثة: {الميل} إلى الشّيء.

{و} الرّابعة والخامسة: {هَيَجان الرّغبة إليه} المنحلّ إلى الجزم والعزم على اصطلاحهم.

{و} الثّانية: {التّصديق لفائدته} وإنّما أخّرنا الثّانية تبعاً للمصنّف(رحمة الله) {وهو} أي: ما هو مقدّمة تحقّقها عبارة عن {الجزم بدفع ما يوجب توقّفه} أي: توقّف المريد {عن طلبه} أي: طلب المراد {لأجلها} أي: لأجل الإرادة.

ص: 363

وبالجملة: لا يكاد يكون غير الصّفات المعروفة

___________________

ولا يخفى أنّ في الإرادة بحثاً طويلاً لا بأس بالإشارة إلى ما هو مربوط بالمطلب قال السّبزواريّ: «إنّ الإرادة فينا شوق مؤكّد يحصل عقيب داع هو إدراك الشّيء الملائم إدراكاً يقينيّاً أو ظنيّاً أو تخيّليّاً موجباً لتحريك الأعضاء لأجل تحصيل ذلك الشّيء»(1).

وقال في الحاشية: «قد عرّفت بتعريفات شتّى: فقيل: إنّها اعتقاد المنفعة، وقيل: إنّها ميل يتبع اعتقاد المنفعة، وقيل: إنّها صفة مخصّصة لأحد المقدورين، وقيل: إنّها القصد المتعقّب للعزم المتعقّب للجزم وتوطين النّفس على الفعل المتعقّب للميل المتعقّب للتصديق بالغاية المتعقّب لتصوّر الفعل»(2)،

انتهى.

وذكر في درر الفوائد ما حاصله: أنّ بيان مصداق الإرادة في الممكنات يحتاج إلى تفصيل، فأوّل ما يحتاج إليه في الفعل الاختياري هو العلم المسمّى بالداعي، كما قال الشّاعر:

بلى اين حرف نقش هر خَيَال است

كه نادانسته را جستن محال است

ثمّ الشّوق المؤكّد نحو وجوده إن كان ملائماً بطبع الفاعل المسمّى بالإرادة، ثمّ تصميم النّفس نحو فعله بعد حصول التّحيّر والتّردّد برفع التّحيّر والبناء على إيجاده بترجيح جانب وجوده ومقتضيات وجوده على عدمه، وهذا هو المسمّى بالإجماع، ثمّ حركة العضل فالفعل مترتّب على حركة العضل، بل هو نفس حركة العضل، وعند تمام هذه المقدّمات يقال: إنّه فعل بالإرادة.{وبالجملة لا يكاد يكون غير الصّفات المعروفة} الّتي هي مقدّمات الإرادة

ص: 364


1- شرح المنظومة 3: 648.
2- شرح المنظومة 3: 647.

والإرادة هناك صفة أُخرى قائمة بها يكون هو الطّلب، فلا محيص إلّا عن اتّحاد الإرادة والطّلب، وأن يكون ذاك الشّوق المؤكّد - المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لأمر عبيده به في ما لو أراده لا كذلك - مسمّىً بالطّلب والإرادة، كما يعبّر به تارةً وبها أُخرى، كما لا يخفى.

وكذا الحال في سائر الصّيغ الإنشائيّة

___________________

{و} غير {الإرادة هناك} في صقع النّفس {صفة أُخرى قائمة بها} بحيث {يكون هو الطّلب} وحيث لم يكن كذلك {فلا محيص إلّا عن اتّحاد الإرادة والطّلب} حقيقةً.

{و} على هذا فلا بدّ و{أن يكون ذاك الشّوق المؤكّد} الحاصل في النّفس {المستتبع لتحريك العضلات} نحو المطلوب {في إرادة} الشّخص {فعله} أي: فعل نفسه {بالمباشرة، أو} الشّوق المؤكّد {المستتبع لأمر عبيده به} أي: بالمطلوب المستفاد من الكلام {في ما لو أراده لا كذلك} أي: لا بالمباشرة {مسمّى بالطلب والإرادة} خبر «يكون».

والحاصل: أنّ الشّوق المؤكّد على قسميه يسمّى بالطلب تارةً وبالإرادة أُخرى، فيكونان من قبيل المترادفين {كما} تقدّم، ولهذا {يعبّر} عن هذا الشّوق {به} أي: بالطلب {تارةً، وبها} أي: بالإرادة تارة {أُخرى،كما لا يخفى} هذا حاصل البرهان الوجداني على اتحاد الطّلب والإرادة.

ولا يذهب عليك أنّ النّزاع في اتحاد الطّلب والإرادة وعدمه ليس بحثاً لغويّاً راجعاً إلى أنّهما لفظان مترادفان لمعنىً واحدٍ أم لا، بل النّزاع معنوي راجع إلى المعنى أوّلاً وبالذات وإلى اللّفظ ثانياً وبالعرض، فالنزاع واقع في أنّه هل هناك وصفان حقيقيّان متغايران ولو من وجه قد وضع لأحدهما الطّلب وللآخر الإرادة أم لا، بل ليس في النّفس إلّا صفة واحدة؟

{وكذا الحال في سائر الصّيغ الإنشائيّة} سواء كانت طلبيّة كالنهي والاستفهام أو

ص: 365

والجُمَل الخبريّة، فإنّه لا يكون غير الصّفات المعروفة القائمة بالنّفس - من التّرجّي والتّمنّي والعلم إلى غير ذلك - صفة أُخرى، كانت قائمة بالنّفس وقد دلّ اللّفظ عليها، كما قيل:

إنّ الكلام لفي الفُؤَادِ وإنّما جُعِلَ اللِّسانُ على الفُؤادِ دليلاً(1)

___________________

غير طلبيّة، كالتمنّي والتّرجّي والمدح والذّمّ والدّعاء والعقود والإيقاعات، وسائر الإنشاءات، كالسخريّة ونحوها.

{و} كذلك {الجمل الخبريّة} من الاسميّة والفعليّة والظّرفيّة والشّرطيّة والماضويّة والحاليّة والاستقباليّة، فإنّ بين الأشعري وغيره في جميع ذلك خلافاً، فالأشعري يرى أنّ غير العلم في الأخبار وغير التّمنّي والتّرجّي الخ في الإنشاء يكون هناك صفة قائمة بالنفس، ويعبّر عنها بالكلام النّفسي، وغير الأشعري ينكر ذلك {فإنّه لا يكون غير الصّفاتالمعروفة القائمة بالنفس من التّرجّي والتّمنّي} في الإنشاء {والعلم} في الإخبار {إلى غير ذلك} من سائر الصّفات القائمة بالنفس من المدح والذّمّ وسائر ما ذكر {صفة أُخرى} خبر «يكون» بحيث {كانت} تلك الصّفة {قائمة بالنفس وقد دلّ اللّفظ عليها} أي: على الصّفة {كما} يقوله الأشعري.

و{قيل} نظماً في بيان الكلام النّفسي:

{إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جعل اللّسان على الفؤاد دليلاً}

فقد استدلّ الأشاعرة بهذا البيت على الكلام النّفسي، وفيه - مع أنّه لا يستشهد بمثله - أنّه من القريب جدّاً أنّ مراد الشّاعر أنّ الكلام اللّفظي كاشف بالالتزام عن قيام الصّفات الحقيقيّة بالنفس، فقول القائل: (اضرب) أو (ليت كذا) أو (زيد قائم) يكشف عن قيام الطّلب والتّمنّي والعلم بنفسه، ولهذا يكذب في مقاله إذا ظهر عدم قيام تلك الصّفات بنفسه، كما لا يخفى.

ص: 366


1- القائل هو الأخطل النّصرانيّ شاعر الأمويين - لعنهم اللّه - .

وقد انقدح بما حقّقناه ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة - بالأمر مع عدم الإرادة، كما في صورتَي الاختبار والاعتذار -

___________________

تذنيب: الإنشاء ضربان: الأوّل: الطّلب، والثّاني: غير الطّلب وهو كأفعال المقاربة وأفعال المدح والذّمّ وصيغ العقود والإيقاعات والقسم و(لعلّ) و(رُبّ) و(كم) الخبريّة ونحو ذلك. وأمّا الطّلب فهو خمسة أقسام، ووجه الحصر أنّه إمّا أن يقتضي كون مطلوبه ممكناً أو لا، الثّاني التّمنّي، والأوّلُ إن كان المطلوب به حصول أمرٍ في ذهن الطّالب فهو الاستفهام، وإن كان المطلوب به حصول الأمر في الخارج فإن كان ذلك الأمر انتفاء فعلٍ فهو النّهي، وإن كان ثبوته فإن كان بإحدى حروفالنّداء فهو النّداء، وإلّا فهو الأمر، هذا ما ذكره في المطوّل(1)، وفيه مواقع للنّظر.

ثمّ إنّ ما ادّعاه الأشاعرة من المغايرة بين الطّلب والإرادة، تارةً قرّروه من طريق الالتزام بالكلام النّفسي وسيأتي بما فيه، وأُخرى قرّروه من طريق افتراق الطّلب عن الإرادة مورداً ولو لم يكن هناك كلام نفسي {وقد انقدح ممّا حقّقناه} من اتّحاد الطّلب والإرادة {ما في استدلال الأشاعرة على} ما ادّعوه من {المغايرة} بين الطّلب والإرادة {بالأمر مع عدم الإرادة، كما في صورتَي الاختبار والاعتذار} فإنّ فيهما طلباً ولا إرادة، وهذا هو الدّليل الثّاني، وتوضيحه: أنّ الأمر قد يكون مع إرادة الآمر للفعل، وقد يكون بلا إرادة للفعل، وهذا على قسمين:

الأوّل: الأمر الاختباري المعبّر عنه بالامتحاني، وهذا القسم من الأمر يصدر لاستخبار حال العبد في كونه مطيعاً أو عاصياً مع عدم إرادة الفعل.

الثّاني: الأمر الاعتذاري وهذا يصدر لتسجيل العصيان على العبد، فيجعل المولى مخالفة العبد عذراً حتّى يحسن عقوبته، والحاصل: أنّ في المقامين طلباً ولا إرادة.

ص: 367


1- المطوّل: 224.

من الخلل؛ فإنّه كما لا إرادة حقيقةً في الصّورتين لا طلب كذلك فيهما، والّذي يكون فيهما، إنّما هو الطّلب الإنشائيّ الإيقاعيّ الّذي هو مدلول الصّيغة أو المادّة، ولم يكن بيّناً ولا مبيّناً في الاستدلال مغايرتُهُ مع الإرادة الإنشائيّة.

وبالجملة: الّذي يتكفّله الدّليل ليس إلّا الانفكاك بين الإرادة الحقيقيّة والطّلب المنشأ بالصّيغة، الكاشف عن مغايرتهما،وهو ممّا لا محيصَ عن الالتزام به - كما عرفت - ،

___________________

ثمّ ذكروا بعض الموارد الّتي تكون الإرادة بلا طلب. قال التّفتازاني في محكي شرح المقاصد - في بيان مغايرة الطّلب للإرادة - : «بأنّ السّيّد قد يأمر العبد بالفعل ويطلبه منه ولا يريده، وذلك عند الاعتذار من ضربه بأنّه يعصيه»(1)، انتهى.

ولكن لا يخفى ما في هذا الدّليل {من الخلل، فإنّه كما لا إرادة حقيقة في الصّورتين} الاختبار والاعتذار {لا طلب كذلك} حقيقة {فيهما} إذ لا صفة قائمة بالنفس تصدق عليه الإرادة والطّلب {و} الطّلب {الّذي يكون فيهما} لا ينافي ما ذكر؛ لأنّه {إنّما هو الطّلب الإنشائي الإيقاعيّ الّذي هو مدلول الصّيغة} إذ أُنْشِئَ الطّلب بصيغة (إفعل) {أو} مدلول {المادّة} في ما أُنْشِئَ الطلب بمادّة الأمر.

{و} الحاصل: أنّ الطّلب الموجود هو الإنشائي وهو متّحد مع الإرادة الإنشائيّة وهو المطلوب، و{لم يكن بيّناً ولا مبيّناً في الاستدلال} المذكور {مغايرته} أي: الطّلب الإنشائي {مع الإرادة الإنشائيّة} كما هو مطلوب الأشاعرة.

{وبالجملة الّذي يتكفّله} هذا {الدّليل} للأشاعرة {ليس إلّا الانفكاك بين الإرادة الحقيقيّة والطّلّب المنشأ بالصّيغة الكاشف} صفة «الانفكاك»، أي: إنّ هذا الانفكاك إنّما يكشف {عن مغايرتهما} أي: الإرادة الحقيقيّة والطّلب الإنشائي {وهو ممّا لا محيص عنالالتزام به} وذلك لا يفيد مدّعى الأشاعرة {كما عرفت} لأنّهم في صدد

ص: 368


1- شرح المقاصد 2: 101.

ولكنّه لا يضرّ بدعوى الاتّحاد أصلاً؛ لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطّلب الحقيقيّ والإنشائيّ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه يمكن - ممّا حقّقناه - أن يقع الصّلح بين الطّرفين، ولم يكن نزاع في البين، بأن يكون المراد بحديث الاتّحاد ما عرفت من العينيّة مفهوماً ووجوداً، حقيقيّاً وإنشائيّاً، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينيّة هو اثنينيّة الإنشائي من الطّلب - كما هو كثيراً مّا يراد من إطلاق لفظه - والحقيقيّ من الإرادة - كما هو المراد غالباً منها حين إطلاقها - ،

___________________

تغاير الإرادة الحقيقيّة والطّلب الحقيقي {ولكنّه لا يضرّ بدعوى الاتّحاد أصلاً؛ لمكان} أي: لكون وجود {هذه المغايرة والانفكاك} ثابت {بين الطّلب الحقيقي و} الطّلب {الإنشائي، كما لا يخفى} فكما أنّ مغايرة الطّلب الحقيقي للطّلب الإنشائي غير مضرّ، ولا يلزم منه سلب الشّيء عن نفسه، لتعدّد المرتبة، كذلك مغايرة الطّلب الإنشائي والإرادة الحقيقيّة غير مضرّ بدعوى الاتحاد، لتعدّد المرتبة.

{ثمّ إنّه يمكن ممّا حقّقناه} من تعدّد مراتب الطّلب والإرادة {أن يقع الصّلح بين الطّرفين} العدليّة والأشاعرة {و} ذلك بأن يحمل مراد كلّ طرف على شيء بحيث {لم يكن نزاع} معنويّ {في البين} فيرجع النّزاع لفظيّاً {بأن يكونالمراد بحديث الاتحاد} بين الطّلب والإرادة الّذي تدّعيه العدليّة {ما عرفت من العينيّة مفهوماً ووجوداً حقيقيّاً} الّذي هو صفة النّفس {و} وجوداً {إنشائيّاً} ووجوداً ذهنيّاً - كما تقدّم - .

والحاصل: أنّ كلّ مرتبة من الإرادة متّحدة مع تلك المرتبة من الطّلب {ويكون المراد بالمغايرة والاثنينيّة} الّتي تدّعيها الأشاعرة {هو اثنينيّة الإنشائي من الطّلب، كما هو} أي: الإنشائي {كثيراً ما يراد من إطلاق لفظه} أي: لفظ الطّلب {والحقيقي من الإرادة كما هو} أي: الحقيقي {المراد غالباً منها} أي: من الإرادة {حين إطلاقها} بدون قرينة - كما تقدّم في أوائل هذا المبحث - .

ص: 369

فيرجِعُ النِّزاعُ لفظيّاً، فافهم.

___________________

والحاصل: أنّ كلّ مرتبة من الإرادة مغايرة لمرتبة أُخرى من الطّلب {فيرجع النّزاع لفظيّاً} لتسليم كلّ فريق مراد الآخر {فافهم} إشارة إلى عدم كون النّزاع لفظيّاً والصّلح من غير رضا الطّرفين، فإنّ المحكي عن العلّامة(قدس سره) أنّ الطّلب الّذي هو مدلول الأمر هي الإرادة الواقعيّة، والأشعري قائل بأنّ مدلول الصّيغة طلب حاصل في النّفس سواء كان هناك إرادة أم لا.

ثمّ إنّ أدلّة الطّرفين والتّفاريع المتفرّعة على القولين من أقوى الشّواهد على معنويّة النّزاع، فراجع.

هذا تمام الكلام في الدّليل الثّاني للأشاعرة الّذي استدلّوا به على مغايرة الطّلب والإرادة، وقد عرفت الجواب عنه، وأمّا الكلام في الدّليل الأوّل لهم - وهو إثباتالمغايرة من طريق الالتزام بالكلام النّفسي(1) - فبيانه يحتاج إلى تمهيد مقدّمةٍ، وهي: أنّ من صفات اللّه - تعالى - المسلّمة عند الكلّ كونه - تعالى - متكلّماً.

قال العلّامة (رحمة الله) في الباب الحادي عشر: «السّابعة: أنّه - تعالى - متكلّم بالإجماع»(2)،

انتهى.

ثمّ إنّه قد اختلف في كلامه - تعالى - في مقامات:

ص: 370


1- قال العلّامة القمّي(رحمة الله): «قد اختلف تعبيرات القائلين بالكلام النّفسيّ، ففسّر تارةً بمدلول الكلام اللّفظي، وتارةً بالقضيّة المعقولة، وتارةً بحديث النّفس، وتارةً بالكلام القائم بالذات الأزليّة المدلول عليه بالخطاب اللّفظي، وتارةً بالنسبة الخبريّة والإنشائيّة، هذا مع تصريحهم بأنّه غير العلم والقدرة والإرادة وسائر الصّفات النّفسانيّة المعروفة»، انتهى. حاشية الكفاية 1: 113. ولا يخفى أنّ للسيّد علي(رحمة الله) كلاماً في حاشية القوانين أوضح فيه الكلام النّفسي وردّه في الجملة تركنا ذكره. ثمّ إنّ استحالة الكلام النّفسي بالنسبة إلى اللّه - تعالى - لا يلزم منه استحالة مطلق الكلام النّفسي، كما لا يخفى.
2- الباب الحادي عشر: 4.

___________________

الأوّل: في كونه متكلّماً عقليّ أو سمعيّ، والحق الثّاني لعدم دليل عقليّ على ذلك، وقوله - تعالى - : {وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَى تَكۡلِيمٗا}(1).

الثّاني: في ماهية كلامه - تعالى - فالأشاعرة على أنّه معنى قديم قائم بذاته مغاير للعلم والقدرة وليس بحرف ولا صوت ولا أمر ولا نهي ولا خبر ولا إنشاء، والشّيعة على أنّ كلامه - تعالى - عبارة عن خلق الأصوات والحروف.

الثّالث: في أنّ كلامه حادث أو قديم، فالأشاعرة على قدمه، والشّيعة على حدوثه.

الرّابع: في ما يقوم به الكلام، فالأشاعرة على أنّه قائم بذاته - تعالى - والشّيعة على أنّه قائم بغيره كما أوجد الكلام في الشّجرة فسمعه موسى(علیه السلام).إذا عرفت هذا فنقول: إنّ الأشاعرة اصطلحوا على تسمية هذا النّحو من الكلام بالكلام النّفسيّ، وجعلوا الكلام النّفسي المرتّب في ذهن أحدنا لدى إرادته التّكلّم الّذي يمتاز عن العلم والإرادة طريقاً إلى إثباته له - تعالى - ومن هنا التزموا بمغايرة الطّلب والإرادة، ودليلهم على مغايرتهما من طريق الكلام النّفسي ما ذكره التّفتازاني في محكي شرح المقاصد بما لفظه: «إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك يجد في نفسه - معاني ثمّ يعبّر عنها بالألفاظ الّتي نسمّيها بالكلام الحسّي، فالمعنى الّذي يجده في نفسه - ويدور في خَلَده ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات، يقصد المتكلّم حصولها في نفس السّامع ليجري على موجبها، هو الّذي نسمّيه كلام النّفس وحديثها، وربّما يعترف به أبو هاشم ويسمّيها الخواطر، ومغايرته للعلم والإرادة سيّما في الإخبار والإنشاء الغير الطّلبي في غاية الظّهور. نعم، قد يتوهّم أنّ الطّلب النّفسي هو الإرادة وأنّ قولنا: (أُريد منك هذا الفعل ولا أطلبه) أو (أطلب

ص: 371


1- سورة النّساء، الآية: 164.

دفع وهم: لا يخفى أنّه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة من نفي غير الصّفات المشهورة، - وأنّه ليس صفة أُخرى قائمة بالنّفس، كانت كلاماً نفسيّاً مدلولاً للكلام اللّفظيّ، كما يقول به

___________________

منك الفعل ولا أُريده) تناقض، وسيأتي في فصل الأفعال»(1)،

انتهى.

والحاصل: أنّ الأشاعره حيث ذهبوا إلى الكلام النّفسي، وأنّه معنى قائم بذات اللّه - تعالى - قديم معه، ثمّ لم يتمكّنوا من جعله العلم أو الإرادة ونحوهما - لبداهة أنّ هذه الصّفات ليست كلاماً، ولا يصحّ إطلاقه عليها - اضطرّوا إلى القول بأنّالكلام النّفسي الخبري هو النّسبة، والكلام النّفسي الإنشائي هو الطّلب القائمان بالنّفس، ومن هنا تشكّل القياس بأنّ الطّلب هو الكلام النّفسي، والكلام النّفسي غير الإرادة، فالطّلب غير الإرادة.

هذا ولكن الكلام النّفسي باطل، وما ذكروا من الأدلّة لإثباته مردود، كما بيّن في محلّه في الكتب الكلاميّة وغيرها.

[دفع وهم]

{دفع وهم} ربّما يرد من ردّ الأصحاب للكلام النّفسي، وتوضيح الوهم: أنّ للكلام اللّفظي لا بدّ أن يكون مدلولاً، فإن كان هو الكلام النّفسي ثبت مدّعى الأشاعرة، وإن كان غيره لزم أن يكون إحدى الصّفات المشهورة، لكن كون الصّفة مدلولة للكلام باطل، فيثبت الكلام النّفسي. وتوضيح الدّفع ما {لا يخفى} من {أنّه ليس غرض الأصحاب} رضوان اللّه عليهم {والمعتزلة} من العامّة - {من نفي غير الصّفات المشهورة} من العلم والإرادة ونحوهما {و} كذا ليس غرضهم حيث ذهبوا إلى {أنّه ليس صفة أُخرى قائمة بالنّفس} بحيث {كانت كلاماً نفسيّاً مدلولاً للكلام اللّفظي، كما يقول به} أي: بالكلام النّفسي

ص: 372


1- شرح المقاصد 2: 101.

الأشاعرة - أنّ هذه الصّفات المشهورة مدلولات للكلام.

إن قلت: فماذا يكون مدلولاً عليه عند الأصحاب والمعتزلة؟

قلت: أمّا الجمل الخبريّة فهي دالّة على ثبوت النّسبة بين طرفيها، أو نفيها في نفس الأمر من ذهنٍ أوخارجٍ، ك (الإنساننوع) أو (كاتب). وأمّا الصّيغ الإنشائيّة فهي - على ما حقّقناه في بعض فوائدنا(1)

- مُوْجِدَةٌ لمعانيها في نفس الأمر

___________________

{الأشاعرة} من العامّة - {أنّ هذه الصّفات} خبر قوله: «ليس غرض الأصحاب» أي: أنّ الأصحاب لا يقولون بأنّ الصّفات {المشهورة} القائمة بالنفس {مدلولات للكلام} اللّفظي.

{إن قلت}: إذا أنكر الأصحاب الكلام النّفسي رأساً، وأنكروا كون الصّفات القائمة بالنفس مدلولات للكلام اللّفظي {فماذا يكون مدلولاً عليه عند الأصحاب والمعتزلة؟}.

والحاصل: أنّ الأشاعرة استراحوا إلى جعل الكلام النّفسي مدلولاً للكلام اللّفظي، وأمّا المنكر للكلام النّفسي فماذا يكون عنده مدلولاً للفظي؟

{قلت: أمّا الجمل الخبريّة فهي دالّة على ثبوت النّسبة بين طرفيها} المحكوم عليه والمحكوم به هذا في القضيّة الموجبة {أو} تدلّ على {نفيها} أي: نفي النّسبة بين الطّرفين في القضيّة السّالبة {في نفس الأمر} متعلّق بثبوت النّسبة أو نفيها {من ذهن أو خارج} بيان نفس الأمر {ك (الإنسان نوع)} فإنّ هذه الجملة تدلّ على ثبوت النّسبة بين النّوع والإنسان في الذّهن {أو} (الإنسان {كاتب)} فإنّ الجملة تدلّ على ثبوت النّسبة بينهما في الخارج، وكذا قولنا: (ليس الإنسان بحجر) في الخارجيّة، و(ليست النّار بمحرقة) في الذّهنيّة، ولا يذهب عليك أنّ بين الذّهنيّة والخارجيّة عموماً من وجه.

{وأمّا الصّيغ الإنشائيّة} لا تدلّ على شيء أصلاً، بل {فهي على ما حقّقناه في بعض فوائدنا} تكون{موجدة لمعانيها في نفس الأمر}.

ص: 373


1- فوائد الأصول: 17.

- أي: قصد ثبوت معانيها وتحقّقها بها - ، وهذا نحوٌ من الوجود،

___________________

قال في الفوائد: «اعلم أنّ الإنشاء هو القول الّذي يقصد به إيجاد المعنى في نفس الأمر، لا الحكاية عن ثبوته وتحقّقه في موطنه من ذهن أو خارج، ولهذا لا يتّصف بصدق ولا كذب، بخلاف الخبر، فإنّه تقرير للثّابت في موطنه، وحكاية عن ثبوته في ظرفه ومحلّه، فيتّصف بأحدهما لا محالة، والمراد من وجوده في نفس الأمر هو ما لا يكون بمجرّد فرض الفارض، لا ما يكون بحذائه شيء من الخارج، بل بأن يكون منشأ انتزاعه فيه، مثلاً: ملكيّة المشتري للمبيع قبل إنشاء التّمليك، والبيع بصيغته لم يكن لها ثبوت أصلاً، إلّا بالفرض كفرض الإنسان جماداً أو الجماد إنساناً، وبعد ما حصل لها خرجت عن مجرّد الفرض وحصلت لها واقعيّة ما كانت لها بدونه، وبالجملة لا نعني من وجودها بالصيغة إلّا مجرّد التّحقّق الإنشائي لها الموجب مع الشّرائط لنحو وجودها الحاصل بغيرها من الأسباب الاختياريّة، كحيازة المباحات، أو الاضطراريّة، كالإرث وغيرها»(1).

وقال في موضع آخر: «فالمدلول بها إنّما هو ثبوت المعاني في نفس الأمر الّذي هو مفاد كان التّامّة إثباتاً وإيجاداً، لا ثبوت شيءٍ لشيءٍ الّذي هو مفاد كان النّاقصة تقريراً وحكاية، ومن هنا ظهر الفرق بين الإنشاء والخبر من وجهين:

أحدهما: أنّ مفاد الإنشاء مفاد كان التّامّة لا مفاد كان النّاقصة.

ثانيهما: أنّ مفاد الإنشاء يوجد ويحدث بعد أن لم يكن، ومفاد الخبر يحكى به بعد أن كان أو يكون»(2)، انتهى.

فتبيّن معنى الخبر والإنشاء وأنّ الأوّل حاكٍ والثّاني موجد {أي: قصد}بالبناء المفعول {ثبوت معانيها وتحقّقها} أي: تحقّق المعاني {بها} أي: بالصّيغ الإنشائيّة {وهذا} الوجود الإنشائي {نحو من الوجود} غير الوجود الذّهني والخارجي

ص: 374


1- فوائد الأصول: 17.
2- فوائد الأصول: 26.

وربّما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبارٍ مترتب عليه - شرعاً أو عرفاً - آثارٌ، كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات.

نعم، لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطّلب والاستفهام والتّرجّي والتّمنّي - بالدّلالة الالتزاميّة - على ثبوت هذه الصّفات حقيقةً، إمّا لأجل وضعها لإيقاعها - في ما إذا كان الدّاعي إليه ثبوت هذه الصّفات - ، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصّورة، فلو لم تكن هناك قرينة كان إنشاء الطّلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها لأجل قيام الطّلب

___________________

{وربّما يكون هذا} الوجود الإنشائي {منشأ لانتزاع اعتبار مترتّب عليه} أي: مترتّب على هذا الوجود {شرعاً أو عرفاً} على سبيل منع الخلو {آثار} فاعل «مترتّب» أي: يترتّب عليه آثار شرعيّة أو عرفيّة {كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات} والفرقُ بينهما: أنّ الأوّل ما توقّف على الطّرفين، كالبيع والنِّكاح ونحوهما، والثّاني: ما توقّف على طرف واحد كالطلاق والعتق، وهكذا الحال في باب الأوامر والنّواهي، فإنّها صيغ إنشائيّة تترتّب عليها آثار شرعيّة أو عرفيّة.

{نعم} كما أنّ الجملة الخبريّة دالّة بالالتزام على حصول العلم لقائلها، كذلك {لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطّلب والاستفهام والتّرجّي والتّمنّي} وغيرها من سائرالإنشاءات {بالدلالة الالتزاميّة على ثبوت هذه الصّفات} أي: الطّلب الحقيقي في الأمر والنّهي والاستفهام والرّجاء الحقيقي والميل الحقيقي {حقيقة} حتّى أنّه لو طلب من دون الطّلب الحقيقي كان خارجاً عن متفاهم العرف.

ثمّ إنّ هذه الدّلالة {إمّا لأجل وضعها} أي: وضع صيغ الإنشائيّة {لإيقاعها} واستعمالها {في ما إذا كان الدّاعي إليه} إلى الإيقاع {ثبوت هذه الصّفات} بحيث يكون قيداً للوضع {أو} لأجل {انصراف إطلاقها} أي: إطلاق الصّيغ بدون قرينة {إلى هذه الصّورة} وهي صورة قيام الصّفات بالنفس حقيقة {فلو لم تكن هناك قرينة} صارفة عن هذا الظّهور {كان إنشاء الطّلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها لأجل قيام الطّلب}

ص: 375

والاستفهام وغيرهما بالنّفس وضعاً، أو إطلاقاً.

إشكال ودفع: أمّا الإشكال فهو: أنّه يلزم - بناءً على اتّحاد الطّلب والإرادة - في تكليف الكفّار بالإيمان، بل مطلق أهل العِصْيان في العمل بالأركان، إمّا أن لا يكون هناك تكليف جدّيّ، إن لم يكن هنا إرادة؛ حيث إنّه لا يكون حينئذٍ طلبٌ حقيقيٌّ، واعتباره في الطّلب الجدّيّ ربّما يكون من البديهيّ، وإن كان هناك إرادة فكيف تتخلّف

___________________

التّكويني {والاستفهام وغيرهما} من سائر الصّفات {بالنفس واضعاً أو إطلاقاً} بسبب الانصراف.

والحاصل: أنّ هذه الإنشاءات تكشف عن قيام الصّفات بالنفس كشفاً وضعيّاًأو انصرافيّاً، وهذا غير ما يقوله الأشاعرة من الكلام النّفسي.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه قد يقال: أنّ ما ذكره المصنّف(رحمة الله) من الفَرْقِ بين الخبر والإنشاء هنا ينافي ما ذكره في مبحث الإنشاء والخبر ثانياً، فراجع وتبصّر.

[إشكال ودفع]

{إشكال ودفع} في ما يقوله الأصحاب والمعتزلة من اتّحاد الطّلب والإرادة {أمّا الإشكال فهو أنّه يلزم - بناءً على اتحاد الطّلب والإرادة - في} مورد {تكليف الكفّار بالإيمان} وكذا بسائر الفروع {بل} تكليف {مطلق أهل العصيان} ولو كان من أهل الإيمان {في العمل بالأركان} متعلّق بال«تكليف»، أي: تكليفهم بالنسبة إلى العمل الجوارحي {إمّا أن لا يكون هناك} لدى الأمر {تكليف جدّي} وطلب حقيقي {إن لم يكن هنا إرادة} للإيمان أو العمل {حيث إنّه} أي: الشّأن {لا يكون حينئذٍ} أي: حين عدم الإرادة {طلب حقيقي، و} من المعلوم أنّه يشترط {اعتباره} أي: الطّلب الحقيقي {في الطّلب الجدّي} بل {ربّما يكون} هذا الشّرط {من البديهي} الّذي لا يحتاج إلى برهان {وإن كان هناك} بالنسبة إلى أمر الكفّار والعصاة {إرادة} الإيمان والإطاعة من البارئ - سبحانه - {فكيف} تقع المخالفة و{تتخلّف} إرادته - سبحانه -

ص: 376

عن المراد؟ ولا يكاد يختلف، إذا أراد الله شيئاً يقول له: كن، فيكون.

وأمّا الدّفع فهو:

___________________

{عن المراد؟ و} الحال أنّه {لا يكاد يتخلّف} بالعقل والنّقل {إذا أراد الله شيئاً يقول له كن فيكون}.والحاصل: أنّ طلب اللّه - سبحانه - عن الكافر الإيمان إمّا أن يكون بدون إرادة، فهذا ينافي ما قلتم من اتحاد الطّلب والإرادة، وإمّا أن يكون مع الإرادة وهذا ينافي ما ثبت بالضرورة من أنّ إرادته - سبحانه - لا تتخلّف عن المراد، وأمّا الأشاعرة فإنّهم في مندوحة عن هذا الإشكال إذ يلتزمون بالشِّقِّ الأوّل، لكن يرد عليهم إشكال آخر وهو أنّه لو كان في تكليف الكافر طلب بدون إرادة، وقد ثبت أنّ شيئاً لا يقع إلّا بإرادة البارئ - سبحانه - يلزم التّكليف بالمحال ويكون كما قال الشّاعر:

ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له *** إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء

لكنّهم حيث بنوا مذهبهم على إنكار الحسن والقبح، لا يقبّحون التّكليف بالمحال، كما ثبت في محلّه.

{وأمّا الدّفع فهو} يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ الإرادة - كما بيّنّاها في بعض متفرّقاتنا - في المخلوق من أوضح الواضحات ومن الوِجْدانيّات وقد تقدّم شطر من الكلام فيها، وأمّا الإرادة الّتي هي أحد صفات اللّه - سبحانه - الثّبوتيّة ففيها أقوال، والمشهور بين المتكلّمين أنّها عبارة عن علمه الخاص، وذهب جمع - منهم صاحب كفاية الموحّدين - إلى أنّ الإرادة عبارة عن الإيجاد والإحداث، واستدلّ على ذلك بأخبار.

ولكن لي بعد في كلا المعنيين تأمّلاً، إذ الظّاهر من قوله - تعالى - : {إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ}(1)، وقوله: {وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ

ص: 377


1- سورة يس، الآية: 82.

___________________

قَرۡيَةً}(1)، ونحوهما من أمثال هذه الآيات والرّوايات الّتي دلّت على تعقّبالإيجاد وكونه بعد الإرادة أنّ الإرادة غير العلم وغير الإيجاد، أمّا كونها غير العلم؛ فلأنّ الإرادة لو كانت هي العلم الخاص - كما ذكروا - لم يصحّ تعليق الإيجاد بالإرادة وتعليق الإهلاك بها، إذ من البديهي أنّه لا يصحّ أن يقال: إذا علم شيئاً بالعلم الخاص قال له كن، إذ العلم الخاص أزليّ لكونه عين الذّات، كالعلم المطلق، فلو كان العلم هو العلّة للإيجاد لزم وجود الأشياء من الأزل إلى الأبد.

لا يقال: العلم الخاص سبب لوجود الشّيء في وقت المصلحة وموطنها لا مطلقاً؟

لأنّا نقول: ظاهر قوله - تعالى - : {إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا} الآية، تعقّب القول للإرادة لا انفصاله عنها، وأمّا كونها غير الإيجاد فلأنّ ظاهر الآية الكريمة أنّ الإرادة مقدّمة على قول: {كُن} أو ما هو بمنزلته المقدّم على {فَيَكُونُ}، وعلى تقدير كون الإرادة هي الإيجاد كما ادّعى يلزم اتصال الإرادة لقوله: {فَيَكُونُ}.

والحاصل: أنّ ظاهر الآية أنّ هناك أُموراً ثلاثة: [1] الإرادة، [2] وقول: {كُن}، [3] والوجود المعبّر عنه بقوله: {فَيَكُونُ}. أمّا لو كانت هي الإيجاد كان هناك أمران: [1] الإرادة، أي: الإيجاد، [2] والوجود.

أضف إلى ذلك أنّ ظاهر الإرادة هي المعنى المعلوم منها المتفاهم لدى العرف، وقوله - سبحانه - : {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(2) يدلّ على إرادة المعاني المتعارفة من تلك الآيات المباركات وأمثالها، كما لا يخفى.

ثمّ من البديهي عدم استقامة إذا أوجد شيئاً أن يقول له كن، ومثل هذا الكلام

ص: 378


1- سورة الإسراء، الآية: 16.
2- سورة إبراهيم، الآية: 4.

___________________

بعينه جارٍ في {وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً}(1) والّذي أرى - وإن كان بعد يحتاج إلى التّأمّل - أنّ الإرادة صفة على حِيالها معنىً - كالعلم - لا يلزم تغيّرها بتغيّر الأشياء وليست بعلم ولا بإيجاد.

نعم، إنّا لا نتمكّن من تعقّل حقيقتها، ولا بدع فإنّ الذّات والصّفات كلّها غير ممكن التّعقّل ولا يلزم من عدم التّعقّل إرجاعها إلى شيء آخر.

والحاصل: أنّ العقل والنّقل متطابقان على كون اللّه - سبحانه - مريداً، ولا خلاف في أنّها غير الموجودات، وأمّا أنّها هي العلم أو الإيجاد فخلاف ظواهر الآيات والأخبار ففي حديث بكير بن أعين عن الصّادق(علیه السلام) فقال: «العلم ليس هو المشيئة»(2)، الحديث.

وما ورد في بعض الأخبار مِن أنّ إرادة اللّه إيجاده كقول الصّادق(علیه السلام): «وأمّا من اللّه - عزّ وجلّ - فالإرادة للفعل إحداثه»(3)

الحديث، فاللّازم حمله على ما لا ينافي ظواهر تلك الآيات، كأن يقال: إِنّ المراد عدم الهمامة والتّصوّر والتّصديق ونحوها، كما قال الصّادق(علیه السلام) في ذيل الحديث المتقدّم: «إنّما يقول له كن فيكون بلا تَعَبٍ ولا كيف».

والحاصِلُ: أَنَّ هذا الخبر كقول الباقر(علیه السلام): «هل سمّي عالماً قادراً إلّا لأنّه وَهَبَ العلم للعُلَمَاء»(4)،

الحديث يلزم توجيهه بما لا ينافي ما تقدّم. نعم، إنّ كون اللّه - سبحانه - مريداً من الأزل بديهي البطلان، والّذي أظنّ أنّ الأئمّة - صلوات اللّه عليهم أجمعين - إنّما تكلّموا على قدر فهم الرُّوَاة، فإنّهم(علیهمالسلام) مأمورون بأن يكلّموا

ص: 379


1- سورة الإسراء، الآية: 16.
2- الكافي 1: 109.
3- بحار الأنوار 3: 196.
4- عوالم العلوم 19: 207.

___________________

النّاس على قدر عقولهم(1).

ثمّ إنّ ما ذكره جمع من المتكلّمين وغيرهم من تقسيم الإرادة إلى التّكوينيّة والتّشريعيّة ممّا لم أجد به نصّاً لهذا التعبير. نعم، يشعر به بعض الأخبار، والمقصود بالإرادة التّكوينيّة الإرادة المتعلّقة بتكوين الأشياء وإيجادها، وبالإرادة التّشريعيّة الإرادة المتعلّقة بأفعال العباد فعلاً أو تركاً، والمقصود بهذه الإرادة الأمر بها والنّهي عنها.

ثمّ لا بأسَ بالإشارة إلى معنى حبّ اللّه وبغضه ورضاه وسخطه لأجل الاطّراد في الاستطراد، فنقول: قد اشتهر بين المتكلّمين أنّ المراد بهذه الصّفات نتائجها، ولذا قيل: «خذ الغايات واترك المبادئ» فمعنى رِضى اللّه بالفعل الكذائي أنّ اللّه - سبحانه - يعامل فاعله معاملة الرّاضي من الإحسان والإكرام، وكذا معنى سخطه معاملة السّاخط، وذلك لاستحاطة طروّ العوارض عليه - سبحانه - وهكذا المراد بالرحمانيّة والعطوفة.

وقد استدلّوا لذلك بأمرين:

الأوّل: ظواهر بعض الأخبار الدّالّة على إرادة الغايات من هذه الصّفات.

الثّاني: أنّ هذه الصّفات حوادث، واللّه - سبحانه - منزَّه عنها.

ولكنّ لي في هذا المعنى تأمّلاً، إذ الظّاهر من الآيات والأخبار كون هذه الصّفات أُموراً سابقة على غاياتها: قال - سبحانه - في الحديث القدسي: «كنتُ كنزاً مخفيّاً، فأحببت أن أُعرَف، فخلقت الخلق لكي أُعرَف»(2)، فإنّ الصّريحمنه

ص: 380


1- الكافي 1: 23.
2- الحديث بنحو الإرسال معروف، راجع مشارق أنوار اليقين: 41؛ وفي كتاب التوحيد عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «إن اللّه تبارك وتعالى لا تقدر قدرته، ولا يقدر العباد على صفته، ولا يبلغون كنه علمه، ولا مبلغ عظمته، وليس شي ء غيره، هو نور ليس فيه ظلمة، وصدق ليس فيه كذب، وعدل ليس فيه جور، وحق ليس فيه باطل، كذلك لم يزل ولا يزال أبد الآبدين، وكذلك كان، إذ لم يكن أرض ولا سماء، ولا ليل ولا نهار، ولا شمس ولا قمر، ولا نجوم ولا سحاب، ولا مطر ولا رياح، ثم إن اللّه تبارك وتعالى أحب أن يخلق خلقاً يعظمون عظمته، ويكبرون كبرياءه، ويجلون جلاله، فقال: كونا ظلّين، فكانا كما قال اللّه تبارك وتعالى». التوحيد: 128.

أنّ استحاله التّخلّف إنّما تكون في الإرادة التّكوينيّة - وهو العلم بالنّظام على النّحو الكامل التّام -

___________________

أنّ محبّة العرفان قبل الخلق لا أنّها هي الخلق ولو كان معنى «فأحببت» فخلقت؛ لأنّ الخلقة غاية الحبّ، وعدم استقامة هذا المعنى بديهيّ، ونحوه قوله - تعالى - : {فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ}(1)، فإنّ الظّاهر أنّ الانتقام بعد الإيساف وحصوله.

وما ورد في بعض الرّوايات عن الصّادق(علیه السلام) في تفسير الآية من قوله: «إنّ اللّه لا يأسف كأسفنا، ولكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون»(2)

الحديث، فهو محمول على ما تقدّم بشهادة قوله: «كأسفنا».

والحاصل: أنّ المقصود من هذه الأحاديث نفي أن يكون صفاته - تعالى - كصفاتنا، وربّما يستأنس لما ذكرنا بقوله(صلی الله علیه و آله): «إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»(3)،

فإنّ فاطمة إحدى الأولياء، فلو كان المراد من رضا اللّه رضا فاطمة لزم أن يكون المعنى أنّ فاطمة ترضى لرضى فاطمة.

والمتحصّل أنّ للّه إرادةً ورِضىً وسخطاً بحيث لا يلزم كونه محلّاً للحوادث وما في الأخبار لوازم تلك الصّفات، فتدبّر.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول: {إنّ} ما ذكرتم من {استحالةالتّخلّف إنّما تكون في الإرادة التّكوينيّة} فلا يعقل إرادة اللّه - تعالى - شيئاً ثمّ لا يكون، {و} قد عرفت أنّ الإرادة وقع في معناها الاختلاف، والّذي ذهب إليه جمع أنّها {هو العلم} الخاص {بالنِّظام على النّحو الكامل التّامّ} قال الفاضل السّيوري - بعد إبطال كون الإرادة القدرة أو العلم المطلق أو باقي الصّفات - ما لفظه: «فإذن المخصّص هو

ص: 381


1- سورة الزّخرف، الآية: 55.
2- الكافي 1: 144؛ التوحيد: 168؛ معاني الأخبار: 19.
3- معاني الأخبار: 303.

دون الإرادة التشريعيّة - وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف - وما لا محيصَ عنه في التّكليف إنّما هو هذه الإرادة التّشريعيّة، لا التّكوينيّة،

___________________

علم خاصّ مقتضى لتعيين الممكن ووجوب صدوره عنه، وهو العلم باشتماله على مصلحة لا تحصل إلّا في ذلك الوقت أو على ذلك الوجه، وذلك المخصّص هو الإرادة »(1)، انتهى.

ولكنّك قد عرفت ما فيه وعلى كلّ حال فتخلّف الإرادة التّكوينيّة عن المراد محال {دون الإرادة التّشريعيّة} فإنّ تخلّفها عن المكلّف غير مستحيل، أمّا على تقدير كونها عبارة عن الأمر والنّهي والرِّضا والغضب فعدم استحالة التّخلّف بديهيّ، إذ الأمر التّشريعي لا يكون موجباً للكون.

{و} أمّا على تقدير أن تكون {هو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف} فأوضح، فإنّ العلم بالمصلحة التّقديريّة لا يلازم التّقدير {وما لا محيص عنه في التّكليف إنّما هو هذه الإرادة التّشريعيّة} فلا يعقل التّكليف بدونها إلّا امتحاناً و{لا} يشترط في التّكليف الإرادة {التّكوينيّة}.فتحصّل من هذا الدّفع أنّ ما ذكرتم من أنّه «لو كان في تكليف الكافر إرادة لزم تخلّف الإرادة عن المراد وهو محال» غير صحيح، إذ الإرادة المدّعاة اتحادها مع الطّلب هي الإرادة التّشريعيّة وتخلّفها عن الفعل غير مستحيل.

ثمّ إنّ الإرادة قد تتعلّق بوجود شيء، وقد تتعلّق بعدمه، وقد لا تتعلّق أصلاً، وهذا ظاهر في المخلوق، فإنّ النّفس إذا توجّهت إلى الشّيء فإمّا أن تريده وإمّا أن لا تريده، وإذا سهت عن الشّيء فهو عدم الإرادة، وإن شئت قلت: إنّ الإرادة إمّا أن تكون موجودة أو لا، والأوّل إمّا أن تكون متعلّقة بالفعل أو متعلّقة بالترك.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ اللّه - سبحانه - قد يريد وجود شيء تكويناً، وحينئذٍ فلا بدّ

ص: 382


1- شرح الباب الحادي عشر: 15.

فإذا توافقتا فلا بدّ من الإطاعة والإيمان، وإذا تخالفتا فلا محيصَ عن أن يختار الكفر والعِصْيان.

إن قلت: إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان بإرادته - تعالى - الّتي لا تكاد تتخلّف عن المراد، فلا يصحّ أن يتعلّق بها التّكليف؛ لكونها

___________________

أن يوجد، وقد يريد عدم شيء، وحينئذٍ فلا بدّ أن يعدم، أي: لا يوجد، وقد لا تتعلّق إرادته بشيء لا وجوداً ولا عدماً، وذلك كأفعال العباد، فإنّ اللّه - تعالى - أراد صدورها أو عدم صدورها عن اختيارهم، لا أنّه يريد صدورها إلجاءً ولا أنّه يريد عدم صدورها جبراً.

وبعبارةٍ أُخرى: الإرادة التّكوينيّة بالنسبة إلى أفعال العباد من باب لا بشرط، لا من باب بشرط شيء، أو بشرط لا، وبهذا التّقرير ينحسم مادّة الإشكال الآتي، إذ هو مبنيّ على المنفصلة الّتي ذكرها المصنّف دائرة بين تخالف الإرادتين وتوافقهما والمنفصلة لها شقّ ثالث - كما بيّنّا - .نعم، على فرض الانحصار فيهما محالاً {فإذا توافقتا} أي: الإرادة التّكوينيّة والتّشريعيّة، بأن كان الواجب الشّرعي مراداً بالإرادة التّكوينيّة {فلا بدّ من الإطاعة والإيمان} لأنّ الإرادة التّكوينيّة على مذاق المصنّف هو العلم الخاص، ولا يعقل تخلّف علمه - سبحانه - عن المعلوم، وأمّا على مذاق من يقول: إِنّ الإرادة هي الإيجاد فأوضح {وإذا تخالفتا} بأن كانت الإرادة التّكوينيّة مخالفة للإرادة التّشريعيّة {فلا محيص عن أن يختار} المكلّف {الكفر والعصيان} وإلّا لزم تخلّف العلم عن المعلوم أو الإيجاد عن الموجود.

{إن قلت: إذا كان الكفر والعصيان} في الكافر والعاصي {والإطاعة والإيمان} في المؤمن والمطيع {بإرادته - تعالى -} التّكوينيّة {الّتي لا تكاد تتخلّف عن المراد} كما سبق {فلا يصحّ أن يتعلّق بها} أي: بالإطاعة {التّكليف} التّشريعي {لكونها}

ص: 383

خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلاً.

قلت: إنّما يخرج بذلك عن الاختيار لو لم يكن تعلّق الإرادة بها مسبوقةً بمقدّماتها الاختياريّة، وإلّا فلا بدّ من صدورها بالاختيار،

___________________

أي: الإطاعة {خارجة عن الاختيار} الّذي كان هو {المعتبر فيه} أي: في التّكليف {عقلاً}.

والحاصل: أنّ الإرادة التّشريعيّة بعد تعلّقها بالإطاعة والإيمان لا يخلو إمّا أن تتعلّق الإرادة التّكوينيّة أيضاً بها - ولا كلام فيه - وإمّا أن لا تتعلّق الإرادة التّكوينيّة، كما في الكافر والعاصي، وحينئذٍ كانت المعصية خارجة عن قدرةالعبد وعليه، فلا يصحّ العقاب.

{قلت}: الصّحيح في الجواب ما تقدّم من أنّ أفعال العباد لا تتعلّق بها الإرادة التّكوينيّة لا وجوداً ولا عدماً، بل تعلّق الإرادة التّكوينيّة يجعل صفة الاختيار في العبد بحيث إنّه يفعله باختياره أو يتركه باختياره، وأمّا على قول من يجعل الإرادة التّكوينيّة هي الإيجاد، فالأمر أوضح، إذ اللّه - سبحانه - لا يوجد فعل العبد، ولا يمنع عن فعل العبد.

وأمّا على مذاق المصنّف فنقول: فعل المعصية {إنّما يخرج بذلك} التّخالف بين الإرادة التّشريعيّة والتّكوينيّة {عن الاختيار لو لم يكن تعلّق الإرادة} التّكوينيّة من اللّه - سبحانه - {بها} أي: بالمعصية {مسبوقة بمقدّماتها الاختياريّة} من العبد {وإلّا} فإن كان تعلّق إرادته - تعالى - بها مسبوقة بمقدّماتها الاختياريّة {فلا بدّ من صدورها بالاختيار} من العبد.

وتوضيحه بلفظ بعض الأعلام: أنّ تعلّق الإرادة التّكوينيّة بالعناوين المذكورة يكون على نحوين:

أحدهما: أن تتعلّق بها بلا توسّط إرادة العبد، كتعلّقها بسائرالممكنات الموجودة.

ص: 384

وإلّا لزم تخلّف إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

إن قلت: إنّ الكفر والعِصْيان - من الكافر والعاصي - ولو كانا

___________________

وثانيهما: أن تتعلّق بها بتوسّط إرادة العبد - مثلاً - يكون خصوص الكفر الصّادر عن إرادة الكافر متعلّقاً للإرادة التّكوينيّة الإلهيّة لا مطلق الكفر، فإن كانالتّعلّق على النّحو الأوّل أوجب كون صدور العناوين المذكورة من العباد بلا اختيار منهم - كما ذكر في الإشكال - أمّا لو كان التّعلّق على النّحو الثّاني وجب أن يكون صدورها عن إرادة العبد واختياره {وإلّا} فلو كان إرادة اللّه صدور الكفر باختيار العبد ثمّ لم يحصل باختياره {لزم تخلّف إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً}.

لكن في هذا الجواب نظر، إذ لم يعلم إرادة اللّه صدور الكفر خاصّة عن الكافر باختياره. نعم، يعلم اللّه ذلك علماً تابعاً للمعلوم لا سبباً له، وهذا مراد المحقّق نصير الدّين(قدس سره) حيث قال في جواب الخيّام البيتين المعروفين(1).

{إن قلت}: هذا الجواب إنّما يدلّ على {أنّ الكفر والعصيان من الكافر والعاصي} مسبوقان بإرادتهما، ونحن نسلّم ذلك ولكن نقول: إنّهما {ولو كانا} أي:

ص: 385


1- قال الخيّام: من مى خورم و هر كه چه من اهل بود *** مى خوردن من بنزد او سهل بود مى خوردن من حق زازل مى دانست *** گر مى نخورم علم خدا جهل بود وقال المحقّق في جوابه: اين نكته نگويد آنكه او اهل بود *** زيرا كه جواب شبهه اش سهل بود علم ازلى علّت عصيان كردن *** نزد عقلا زغايت جهل بود وأيضاً قال أبو سعيد: آن كس كه زروی علم و دين اهل بود *** داند كه جواب شبهه بس سهل بود علم ازلی علت عصيان بودن *** پيش حكما زغايت جهل بود

مسبوقين بإرادتهما، إلّا أنّهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف؟ وقد سبقهما الإرادةُ الأزليّة والمشيئة الإلهيّة، ومعهكيف تصحّ المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا اختيار؟

قلت: العِقابُ إنّما يتبع الكفر والعِصْيان التّابعين للاختيار، النّاشئ عن مقدّماته، النّاشئة عن شقاوتهما الذّاتيّة

___________________

الكفر والعصيان {مسبوقين بإرادتهما} أي: إرادة الكافر والعاصي {إلّا أنّهما منتهيان إلى} إرادة اللّه التّكوينيّة الّتي هي من {ما لا بالاختيار} و{كيف} لا ينتهي الكفر والعصيان إلى شيء ليس باختيار المكلّف {وقد سبقهما الإرادة} التّكوينيّة {الأزليّة} كما هو مذاق المصنّف {والمشيّة الإلهيّة؟ ومعه} أي: مع سبق الإرادة التّكوينيّة {كيف تصحّ المؤاخذة على} العصيان الّذي هو من {ما يكون بالآخرة بلا اختيار} العاصي؟

وحاصل هذا الإشكال: أنّ العصيان تابع لإرادة العبد، وإرادةُ العبد لكونها ممكناً - وكلّ ممكن يلزم أن ينتهي إلى الواجب؛ لأنّ كلّ ما بالغير لا بدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات - تابعة للإرادة التّكوينيّة للباري - تعالى - وهذا مستلزم للجبر.

{قلت}: إنّ الإرادة صفة كمال أودعها اللّه في الإنسان، وبهذه الصّفة يتحقّق الاختيار ويحسن الثّواب والعقاب، أمّا أنّ الإرادة مسبوقة بإرادة اللّه - تعالى - فهو باطل.

أمّا على ما تقدّم منّا، فلعدم تعلّق الإرادة من اللّه - سبحانه - لا بالفعل ولا بالترك وإنّما يكون من جانب اللّه هو الأمر والنّهي.

وأمّا على قول من يجعل الإرادة التّكوينيّة عبارة عن الإيجاد - كما تقدّم عن صاحب كفاية الموحّدين وغيره - فأوضح؛ لأنّ اللّه لم يخلق أفعال العباد ولا خلق ما يلجأهم إليه.

وأمّا ما ذكره المصنّف في الجواب من أنّ {العقاب إنّما يتبع الكفر والعصيان التّابعين للاختيارالنّاشئ} هذا الاختيار {عن مقدّماته النّاشئة} تلك المقدّمات {عن شقاوتهما الذّاتيّة} فغير مستقيم، إذ حاصل جوابه(رحمة الله) أنّ العقاب ليس ناشئاً عن

ص: 386

اللّازمة لخصوص ذاتهما، فإنّ السَّعِيْدَ سَعِيْدٌ في بطن أُمّه والشَّقِيّ شقيّ في بطن أُمّه(1)،

___________________

الاستحقاق حتّى يقال: «استحقاق العقاب على ما لا يكون بالاختيار قبيح» بل العقاب من توابع الشّقاوة الّتي هي من اللّوازم الذّاتيّة للذّات، كلزوم الزّوجيّة، وحينئذٍ فترتّب العقاب من باب ترتّب المعلول على علّته.

ووجه عدم استقامته أنّ العقاب إنّما يكون بالاستحقاق، وأنّ الشّقاوة ليست من لوازم الذّات بالضرورة، وإلّا لبطل التّكليف ولم يكن فرق بين الاختيار والاضطرار.

وبما ذكر تبيّن بطلان جعل الشّقاوة من الأُمور {اللّازمة لخصوص ذاتهما} أي: ذات الكافر والعاصي {فإنّ} الذّات ليست علّة لشيء من السّعادة والشّقاوة، وما ورد من الأخبار بمضمون أنّ {السّعيد سعيد في بطن أُمّه والشّقيّ شقيّ في بطن أُمّه} فهو مفسَّر في الأحاديث بما لا ينافي الاختيار، ففي المجلّد الثّالث من البحار، عن التّوحيد بإسناده عن ابن أبي عمير قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر(علیه السلام) عن معنى قول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) «الشّقيّ من شقيّ في بطن أُمّه والسّعيد من سعد في بطن أُمّه»، فقال: «الشّقيّ من علم اللّه وهو في بطن أُمّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء، والسّعيد من علم اللّه وهو في بطن أُمّه أنّه سيعمل أعمال السّعداء».

قلت له: فما معنى قوله(صلی الله علیه و آله): «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلقله»؟ فقال: إنّ اللّه - عزّ وجلّ - خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه، وذلك قوله - عزّ وجلّ - : {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ}(2)، فيسّر كلّاً لما خلق له، فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى»(3)، انتهى. وبهذا المضمون أحاديثُ أُخر، فراجع.

ص: 387


1- ورد بهذا المضمون في التوحيد: 356357.
2- سورة الذّاريات، الآية: 56.
3- التّوحيد: 356؛ بحار الأنوار 5: 157.

و«النّاسَ معادِنُ كمعادن الذّهب والفضّة» - كما في الخبر(1)

- والذّاتيّ لا يعلّل،

___________________

{و} مثل هذا الحديث ما ورد في حديث آخر من أنّ {«النّاس معادن كمعادن الذّهب والفضّة»} مع أنّه لو أُريد ظاهره لم يكن به بأساً فإنّه لا ربط له بالعصيان، بل بيّن فيه استعدادات الأشخاص بالنسبة إلى الخيرات، كما أنّ الذّهب والفضّة كليهما خير، بل هذا الحديث يناقض الشّقاوة الذّاتيّة وإلّا لزم أن يقول: معادن كمعادن الذّهب والقير.

قال في مجمع البحرين في معنى الحديث: «إنّ النّاس يتفاوتون في مكارم الأخلاق ومحاسن الصّفات وفي ما يذكر عنهم من المآثر على حسب الاستعدادات ومقدار الشّرف تفاوتَ المعادِنِ، فيها الرّدي والجيّد»(2)،

انتهى.

والحاصل: أنّ ما في هذا الخبر {كما في الخبر} الأوّل لا يثبت مطلوب المصنّف.

{و} بما ذكرنا ظهر ضعف الاستشهاد لهذا المقام بما ذكره العلماء من أنّ {الذّاتي لا يعلّل} لأنّه ممنوع صغرى وكبرى.ولا بدّ في توضيح ذلك من بيان الكلام في مقامات ثلاث:

المقام الأوّل: في المراد بهذه الجملة، قال السّبزواري في منظومته ما لفظه: «ذاتيّ شيء لم يكن معلّلا» حتّى عرف الذّاتي بما لا يعلّل والعرضي بما يعلّل «وكان» خاصّته الأُخرى «أنّه ما يسبقه تعقّلا»(3)،

انتهى.

وقال شارح الإشارات في بيان خواص الذّاتي: «وثانيها أنّ الشّيء لا يحتاج في اتصافه بما هو ذاتيّ له إلى علّة مغايرة لذاته، فإنّ السّواد هو لون لذاته لا شيء آخر يجعله لوناً، فإنّ ما جعله سواداً جعله أوّلاً لوناً» إلى أن قال: «فإنّ الاثنين لا

ص: 388


1- الكافي 8: 177.
2- مجمع البحرين 6: 281.
3- شرح المنظومة 1: 177.

___________________

يحتاج في اتّصافه بالزوجيّة إلى علّة غير ذاته»(1)، انتهى.

المقام الثّاني: في بيان بطلان أنّ الذّاتي لا يعلّل، أي: منع الكبرى، وذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ الحكماء ذهبوا إلى أنّ اللّه - سبحانه - لم يجعل الماهيّة ماهيّة، بل أوجدها. والماهيّة مختلفة فبعضها مظلمة وبعضها مضيئة، وبعد الوجود يعمل كلّ على مقتضى فطرته ثمّ يعاقب بمقتضى ذاته. قال بعض: «فمن أساء عمله وأظلم جوهر نفسه وكدّر مرآة فطرته وأخطأ في اعتقاده واحتجب عن مراده بحسب مقتضى أصل استعداده، فقد ظلم نفسه بظلمة جوهره وبطلان استعداده فكان أهلاً للشّقاوة»(2)،

الخ.

إذا عرفت المقدّمة قلنا: هذا الكلام باطل بداهة ونكتفي في بيان بطلانه بعد الضّرورة بما ذكره المجلسي(رحمة الله) في المجلّد الرّابع عشر من كتاب بحارالأنوار قال بما لفظه: «اعلم أنّ الّذي يستفاد من الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة هو أنّ تأثيره - سبحانه - في الممكنات لا يتوقّف على المواد والاستعدادات و{إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ}(3) وهو - سبحانه - جعل للأشياء منافع وتأثيرات وخواصّ أودعها فيها وتأثيراتها مشروطة بإذن اللّه - تعالى - وعدم تعلّق إرادته القاهرة بخلافها، كما أنّه أجرى عادته بخلق الإنسان من اجتماع الذّكر والأُنثى وتولّد النّطفة منهما وقرارها في رحم الأُنثى وتدرّجها علقة ومضغة وهكذا، فإذا أراد غير ذلك فهو قادر على أن يخلق من غير أب كعيسى، ومن غير أُمّ أيضاً كآدم وحوّاء، وكخفّاش عيسى وطير إبراهيم، وغير ذلك من المعجزات

ص: 389


1- شرح الإشارات والتنبيهات 1: 4041.
2- شرح كفاية الأصول 1: 93.
3- سورة يس، الآية: 82.

فانقطع سؤال: أنّه لِمَ جُعِلَ السّعيدُ سعيداً والشّقيّ شقيّاً؟ فإنّ السّعيد سعيد بنفسه والشّقيّ شقيّ كذلك، وإنّما أوجدهما الله - تعالى - .

___________________

المتواترات عن الأنبياء في إحياء الموتى، وجعل الإحراق في النّار، فلمّا أراد غير ذلك قال للنّار: {كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَمًا عَلَىٓ إِبۡرَهِيمَ}(1)، وجعل الثّقيل يرسب في الماء وينحدر من الهواء، فأظهر قدرته بمشي كثير على الماء ورفعهم إلى السّماء، وجعل في طبع الماء الانحدار فأجرى حكمه عليه بأن تقف أمثال الجبال منه في الهواء، حتّى تعبر بنو إسرائيل من البحر، ومع عدم القول بذلك لا يمكن تصديق شيء من المعجزات اليقينيّة المتواترة عن الأنبياء والأوصياء، وكذا أجرى عادته على انعقاد الجواهر في المعادن بأسباب من المؤثّرات الأرضيّة والسّماويّة لبعض المصالح، فإذا أراد إظهار كمال قدرته ورفعشأن وليّه يجعل الحصى في كفّه دفعة جوهراً ثميناً، والحديد في يد نبيّه عجيناً، ويخرج الأجساد البالية من التّراب في يوم الحساب، فهذه كلّها وأمثالها لا تستقيم مع الإذعان بقواعدهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة»(2)، انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

المقام الثّالث: في بيان منع الصّغرى فنقول: على تقدير أن تتمّ الكبرى ويصحّ أنّ الذّاتي لا يعلّل، ولا يمكن الانقلاب منه كما زعموا، فالصغرى ممنوعة، إذ لا نسلّم أنّ السّعادة والشّقاوة من الذّاتيّات، بل هما من قبيل سائر العوارض الّتي لا ربط لها بالذات، فإنّ كونهما ذاتيّاً لم يقم عليه برهان، بل قام الدّليل من العقل والنّقل على خلافه، وبهذا ظهر ضعف ما أخذه المصنّف نتيجة للكلام بقوله: {فانقطع سؤال: أنّه لم جُعِلَ السّعيد سعيداً والشّقيّ شقيّاً؟ فإنّ} علّة انقطاع السّؤال {السّعيد سعيد بنفسه والشّقيّ شقيّ كذلك} بنفسه {وإنّما أوجدهما الله - تعالى -}.

ص: 390


1- سورة الأنبياء، الآية: 69.
2- بحار الأنوار 57: 187.

قلم اينجا رسيد و سر بشكست(1).

قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربّما لا يسعه كثير من الأفهام، ومن الله الرّشد والهداية، وبه الاعتصام.

___________________

وحيث تفرّع على هذا القول بطلان بعض الأصول مع أنّه كان مسلماً عنده(قدس

سره) قال:

{قلم اينجا رسيد و سر بشكست} چون كهبيرون زحد خود بنوشت

{قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربّما لا يسعه كثير من الأفهام} خصوصاً بمثل ما قرّبه المصنّف(رحمة الله) {ومن الله الرّشد والهداية وبه الاعتصام}.

ولا بأس بالإشارة إلى ما كتبته في حاشية هذا المقام في غابر الأيّام لرفع الإشكال وهو أنّ اللّه خلق العبد وأودع فيه الاختيار، كما خلقه وأودع فيه البصر والشّمّ والذّوق والسّمع واللّمس وغيرها من القوى، ولا ماهيّة متحقّقة حتّى يكون الخلق للماهيّة كتبييض الجدار، بل جعل الماهيّة وخلقها وكونها عين إيجادها، فقول المصنّف: «إنّما أوجدهما اللّه» غير مستقيم، فإنّ الماهيّة من المعقولات الثّانية الّتي ليس لها في الخارج ما بحذاء، بل الماهيّة مفهوم ذهناً وصورة خياليّة.

والحاصل: ليست الماهيّات كالزجاجات المتلوّنة في الظّلمة حتّى يكون الوجود بالنسبة إليها، كضوء الشّمس بالنسبة إليها حتّى لا يكون الألوان من قبل الضّوء وطرفه ويكون لون الزّجاج الأسود من نفسه وبتلألئه بالسّواد من خبيث ذاته - كما زعموا - ، بل كلّ ما كان فهو من اللّه - تعالى - الأصل والفرع واللّازم والملزوم، ومن البديهي أنّه لو كان الشّقاء لازم الماهيّة كان العذاب من أقبح الظّلم، تعالى عن ذلك ربّنا علوّاً كبيراً، ولهذا ترى العلماء يأوّلون بعض الأخبار الواردة في الطّينة المتشابهة.

ص: 391


1- البيت من الخاقاني الشّروانيّ حيث يقول: قصّ-ه اى مى نوشت خاقانى قلم اينجا رسيد و سر بشكست

___________________

ولا يخفى أنّ الانطباع على بعض الصّفات مع وجود الإرادة والاختيار - كما هو المشاهد - لا يكون سبباً للإلجاء والاضطرار، كما هو بديهيّ لدى الوجدان، بل غالب الصّفات قابلة للتغيير بالمجاهدة، كما برهن عليه في أوّل جامعالسّعادات(1)

وسائر كتب الأخلاق.

وبناءً على ما ذكرنا اختيار شخص للعصيان وشخص آخر للطّاعة إنّما يكون بسبب الإرادة والاختيار الّتي زمامها بيد الشّخص {إِنَّا هَدَيۡنَهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا}(2)، وليس هناك أمر في النّفس يلزمه الإطاعة أو العصيان كلزوم الزوجية والفرديّة للواحد والاثنين، واختيار الشّخص لهما بعين اختياره المأكل والملبس والمشرب والمسكن وغيرها، وكما لا يصحّ لعاقل أن يحكم بأنّ اختيار زيد في هذا اليوم اللّحم بسبب أمر ذاتيّ، فكذلك ليس اختياره للزّنا بسبب أمر ذاتي، ولو كانت الأُمور مستندة إلى الذّات لم يعقل اختيار الكافر الإيمان ولا العاصي الإطاعة وكذلك العكس مع ضرورة ذلك.

بقي أمران لا بدّ من التّنبيه عليهما:

الأوّل: أنّ ما ذكره المصنّف من الإشكال جمع بين إشكالين:

الأوّل: استناد المعصية إلى الإرادة التّكوينيّة.

الثّاني: استنادها إلى الذّات. وقد تبيّن الجواب عنهما.

الأمر الثّاني: إنّ ما ذكره المصنّف هنا وفي بعض مباحث الجلد الثّاني ممّا يشمّ منه بعض الأُمور ليس موجباً للقدح في عقائده أصلاً، إذ مع العلم بمبناه في الأصول الشّرعيّة يؤوّل ما كان متشابهاً من كلامه، مع أنّ العصمة من الزّلل مختصّة

ص: 392


1- جامع السعادات 1: 41.
2- سورة الإنسان، الآية: 3.

وهمٌ ودفعٌ: لعلّك تقول: إذا كانت الإرادة التّشريعيّة منه - تعالى - عين علمه بصلاح الفعل لزم - بناءً على أنتكون عين الطّلب - كونُ المنشأ بالصّيغة في الخطابات الإلهيّة هو العلم، وهو بمكانٍ من البُطْلاَن.

___________________

بمن عصمه اللّه - تعالى - واللّه المستعان.

[وهم ودفع]

{وهم ودفع} أورد على كون المقصود بالإرادة التّشريعيّة العلم الخاص {لعلّك تقول: إذا كانت الإرادة التّشريعيّة منه} أي: من اللّه - سبحانه و{تعالى - عين علمه بصلاح الفعل} في الواجب وصلاح التّرك في المحرّم {لزم بناءً على أن تكون} الإرادة {عين الطّلب} تالٍ فاسد، وهو {كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الإلهيّة هو العلم} وذلك لتشكيل قياس بهذه الصّورة: المنشأ بالصيغة هو الطّلب، والطّلب هو الإرادة، فالمنشأ بالصيغة هو الإرادة ثمّ نجعل هذه النّتيجة صغرى ونقول: المنشأ بالصيغة هو الإرادة، والإرادة هو العلم، فالمنشأ بالصيغة هو العلم {وهو بمكان من البطلان} إذ المنشأ بالصّيغة قابلة للإنشاء، والعلم غير قابل للإنشاء، بيان ذلك أنّ المفهوم على أربعة أقسام: لأنّه إمّا أن يكون له أفراد متأصّلة في الخارج، كالجوهر وبعض أقسام العرض أم لا، وكلّ من القسمين إمّا أن يكون قابلاً للإنشاء أم لا:

الأوّل: ما له أفراد متأصّلة وقابل للإنشاء، ومن هذا القسم مفهوم الطّلب، فإنّ الشّوق المؤكّد القائم بالنفس أمر متأصّل، مع أنّه قابل للإنشاء أيضاً.

الثّاني: ما له أفراد متأصّلة وليس قابلاً للإنشاء، ومن هذا القسم الجواهر كلّها، فالإنسان - مثلاً - له أفراد في الخارج، وليس قابلاً للإنشاء، فلا يعقل إنشاء الإنسان بكلمة (صر)، وكذا كلّما قيل: (جعلت هذا الشّيء أسود أو رطباً) لايصير كذلك.

ص: 393

لكنّك غفلت عن أنّ اتّحاد الإرادة مع العلم بالصلاح إنّما يكون خارجاً لا مفهوماً، وقد عرفت: أنّ المنشأ ليس إلّا المفهوم، لا الطّلب الخارجيّ، ولا غَرْوَ أصلاً في اتّحاد الإرادة والعلم عيناً وخارجاً، بل لا محيصَ عنه

___________________

الثّالث: ما ليس له أفراد متأصّلة ويقبل الإنشاء، ومن هذا القسم كافّة الأُمور الاعتباريّة، كالملكيّة والزّوجيّة والولاية والقضاء والوكالة ونحوها، فإنّه لو قال: (بعتك) الخ صار ملكاً للمشتري، وكذا لو قال: (جعلت فلاناً قاضياً). ومن البديهي، لزوم قابليّة المنشئ لذلك شرعاً أو عرفاً.

الرّابع: ما ليس له أفراد متأصّلة ولا يقبل الإنشاء، وذلك كالاعتبارات الّتي لها أسباب تكوينيّة، وليس له ما بحذاء في الخارج، كالأُبوّة والبنوّة والأُخوّة والفوقيّة والتّحتيّة، إذا عرفت ذلك علمت أنّ العلم من القسم الثّاني، فلا يوجد العلم بالإنشاء التّشريعي.

هذا هو الوهم وأمّا الدّفع فقد أشار إليه بقوله: {لكنّك غفلت عن أنّ اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح إنّما يكون خارجاً لا مفهوماً} لأنّ صفاته - سبحانه - عين ذاته في الخارج، وأمّا المفاهيم فهي متغايرة {وقد عرفت} في أوائل البحث {أنّ المنشأ ليس إلّا المفهوم لا الطّلب الخارجي} والحاصل: أنّا نمنع إحدى المقدّمتين المذكورتين في القياس.

أمّا قولكم: «المنشأ بالصيغة هو الطّلب» إن أُريد بالطلب القائم بالنفس لبداهة أنّ الصّفة النّفسانيّة غير قابلة للإنشاء.

وأمّا قولكم: «والإرادة هو العلم» إن كان المقصود بالإرادة مفهوم الإرادة،لبداهة أنّ مفهوم الإرادة ليس هو العلم للتغاير المفهومي بينهما.

نعم، حكي عن كثير من المعتزلة القول بذلك وهو في كمال السّخافة. {ولا غرو أصلاً في اتحاد الإرادة والعلم عيناً وخارجاً} مع المغايرة مفهوماً {بل لا محيص عنه}

ص: 394

في جميع صفاته - تعالى - ؛ لرجوع الصّفات إلى ذاته المقدّسة. قال أميرالمؤمنين(علیه السلام): «وكمالُ توحيده الإخلاصُ له، وكمالُ الإخلاص له نفيُ الصّفاتِ عنه»(1).

الفصل الثّاني، في ما يتعلّق بصيغة الأمر، وفيه مباحث:

الأوّل: أنّه ربّما يذكر للصّيغة معانٍ قد استعملت فيها، وقد عُدّ منها: التّرجّي، والتّمنّي، والتهديد، والإنذار، والإهانة، والاحتقار، والتّعجيز، والتّسخير إلى غير ذلك.

___________________

على المذهب الصّحيح {في جميع صفاته - تعالى -} وذلك {لرجوع الصّفات إلى ذاته المقدّسة} فالصفات لكونها عين الذّات كان بعضها عين بعض، كما تواترت بذلك الرّوايات، ودلّ البرهان القطعي عليه، وكفاك ما {قال أميرالمؤمنين(علیه السلام)} كما في أوّل خطبة ذكرها في نهج البلاغة: {«وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه} لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة، فمن وصف اللّه - سبحانه - فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه»، الخطبة.

[الفصل الثّاني في ما يتعلّق بصيغة الأمر]

اشارة

المقصد الأوّل: في الأوامر، ما يتعلق بصيغة الأمر

{الفصل الثّاني: في ما يتعلّق بصيغة الأمر، وفيه مباحث} تسعة:

[المبحث الأوّل: معنى صيغة الأمر]
اشارة

المبحث {الأوّل} في معاني صيغة الأمر، فاعلم {أنّه ربّما يذكر للصّيغة معانٍ} أنهاها بعضهم إلى نيّف وعشرين، و{قد استعملت} الصّيغة {فيها، وقد عدّ منها التّرجّي والتّمنّي والتّهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتّعجيز والتّسخير إلى غير ذلك} من المعاني.

قال العلّامة المولى صالح(رحمة الله) في حاشية المعالم ما لفظه: «صيغة (إفعل) تستعمل في خمسة عشر معنىً:

ص: 395


1- نهج البلاغة، الخطبة الأُولى.

___________________

(1) الوجوب، نحو: {أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوةَ}(1).

(2) النّدب، نحو: {فَكَاتِبُوهُمۡ}(2)، فإنّ الكتابة لمّا كانت مقتضية للثّواب وليس في تركها عقاب كانت مندوبة.

(3) الإباحة، نحو: {كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ}(3).

(4) التّهديد، نحو: {ٱعۡمَلُواْ مَا شِئۡتُمۡ}(4)، ويقرب منه الإنذار،نحو: {قُلۡ تَمَتَّعُواْ}(5)، وبعضهم جعله قسماً على حدة.

(5) الإرشاد، نحو: {وَٱسۡتَشۡهِدُواْ}(6)، فإنّ اللّه - تعالى - أرشد العباد عند المداينة إلى الاستشهاد رعاية لمصلحتهم، قيل: الفرق بينه وبين النّدب أنّ النّدب لثواب الآخرة والاستشهاد لمنافع الدّنيا، إذ لا ينقص الثّواب بترك الإشهاد في المداينة ولا يزيد بفعله.

(6) الامتنان، نحو: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ}(7)، بالأمر يدلّ على الامتنان عليهم.

(7) الإكرام للمأمور، نحو: {ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَمٍ ءَامِنِينَ}(8)، فإنّ ضمّ السّلامة والأمن عند الأمر بدخول الجنّة قرينة الإكرام.

ص: 396


1- سورة البقرة، الآية: 110.
2- سورة النور، الآية: 33.
3- سورة البقرة، الآية: 60.
4- سورة فصّلت، الآية: 40.
5- سورة إبراهيم، الآية: 30.
6- سورة البقرة، الآية: 282.
7- سورة المائدة، الآية: 88.
8- سورة الحجر، الآية: 46.

وهذا كما ترى؛ ضرورةَ أنّ الصّيغة ما استعملت في واحدٍ منها،

___________________

(8) التّسخير، نحو: {كُونُواْ قِرَدَةً خَسِِٔينَ}(1)، لأنّ مخاطبتهم بذلك في معرض تذليلهم.

(9) التّعجيز، نحو: {فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ}(2)، عجّزهم بطلب المعارضة عن الإتيان بمثله.

(10) الإهانة، نحو: {ذُقۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡكَرِيمُ}(3).(11) التّسوية، نحو: {فَٱصۡبِرُوٓاْ أَوۡ لَا تَصۡبِرُواْ}(4)، فإنّه أُريد التّسوية في عدم النّفع بين الصّبر وعدمه.

(12) الدّعاء، نحو: (اللّهمّ اغفر لي).

(13) التّمنّي، نحو: (ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلي)، فإنّ السّاهر لمّا عدّ اللّيل الطّويل مستحيل الانجلاء يتمنّى انجلاءه.

(14) الاحتقار، نحو: {أَلۡقُواْ مَآ أَنتُم مُّلۡقُونَ}(5)، بقرينة مقابلة سحرهم بالمعجزة.

(15) التّكوين وهو الإيجاد، نحو: {كُن فَيَكُونُۚ}»(6)،

انتهى(7).

{وهذا} المطلب وهو أن يكون هذه المعاني للصّيغة {كما ترى} غير مستقيم {ضرورة أنّ الصّيغة ما استعملت في واحد منها} على نحو الحقيقة أو المجاز بأن

ص: 397


1- سورة البقرة، الآية: 65.
2- سورة البقرة، الآية: 23.
3- سورة الدّخان، الآية: 49.
4- سورة الطّور، الآية: 16.
5- سورة يونس، الآية: 80.
6- سورة الأنعام، الآية: 73.
7- حاشية معالم الدين: 56.

بل لم تستعمل إلّا في إنشاء الطّلب، إلّا أنّ الدّاعي إلى ذلك كما يكون تارةً هو البعث والتّحريك نحو المطلوب الواقعي، يكون أُخرى أحد هذه الأُمور، كما لا يخفى.

وقُصَارَى ما يمكن أن يُدَّعَى أن تكون الصّيغة موضوعةً لإنشاء الطّلب في ما إذا كان بداعي البعث والتّحريك، لا بِدَاعٍ آخَرَ منها، فيكون إنشاء الطّلب بها بعثاً حقيقةً، وإنشاؤه بها تهديداً مجازاً. وهذا غير كونها مستعملةً في التّهديد وغيره،

___________________

يكون معنى الصّيغة في {ٱعۡمَلُواْ مَا شِئۡتُمۡ} - مثلاً - التّهديد وهكذا غيره {بل لم تستعمل} الصّيغة {إلّا في إنشاء الطّلب} فالمستعمل فيه هو الطّلب الإنشائي {إلّا أنّ الدّاعي إلى ذلك} الاستعمال {كما يكون تارةً هو البعث والتّحريك} للعبد {نحو المطلوب الواقعي} نحو {أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوةَ} المحرّك نحو الصّلاة كذلك {يكون} الدّاعي من الاستعمال تارةً {أُخرى أحد هذه الأُمور} المذكورة {كما لا يخفى}.

والحاصل: أنّ الدّاعي مختلف لا أنّ مدلول الصّيغة مختلف، فالصيغة في الجميع مستعملة في الطّلب، لكن الدّاعي قد يكون التّمنّي وقد يكون التّرجّي وقد يكون التّهديد إلى آخر ما ذكر.

{وقُصَارَى ما يمكن أن يدّعى} في وجه مجازيّة ما عدا ما إذا كان المطلوب بها التّحريك هو {أن تكون الصّيغة موضوعة لإنشاء الطّلب} لكن لا مطلقاً حتّى يكون جميع المعاني حقيقةً، بل {في ما إذا كان} الاستعمال {بداعي البعث والتّحريك} للعبد نحو المطلوب {لا} إذا استعملت {بداع آخر منها} أي: من تلك الدّواعي، وعلى هذا {فيكون إنشاء الطّلب بها} أي: بالصيغة {بعثاً} أي: لأجل البعث والتّحريك {حقيقة} خبر «يكون» {وإنشاؤه بها تهديداً} أي: لأجل التّهديد {مجازاً} كغير التّهديد من سائر المعاني المذكورة.

{وهذا} الّذي ذكرنا من كون المستعمل فيه هو الطّلب دائماً وتلك الأُمور دواعي للإنشاء {غير كونها} أي: الصّيغة {مستعملة في التّهديد وغيره} كما ذكره

ص: 398

فلا تغفل.

إيقاظ: لا يخفى: أنّ ما ذكرناه في صيغة الأمر جارٍ في سائر الصّيغ الإنشائيّة، فكما يكون الدّاعي إلى إنشاء التّمنّي أو التّرجّي أو الاستفهام بصيغها تارةً هو ثبوت هذه الصّفات حقيقةً، يكون الدّاعي غيرَها أُخرى.

فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها واستعمالها في غيرها، إذا وقعت في كلامه تعالى - لاستحالة مثل هذه المعاني في حقّه تبارك وتعالى، ممّا لازمه العجز أو الجهل - ،

___________________

القوم {فلا تغفل} هذا تمام الكلام في صيغة الأمر، ولا بأس بالإشارة إلى حال سائر الإنشاءات، فنقول:

[إيقاظ]

{إيقاظ: لا يخفى أنّ ما ذكرناه في صيغة الأمر} من كون المعنى واحداً وإنّما الدّواعي مختلفة {جارٍ في سائر الصّيغ الإنشائيّة} خلافاً للقوم، حيث زعموا أنّ تلك الصّيغ تستعمل في معاني متعدّدة، ولكن الصّحيح هو أنّ المعنى واحد والدّاعي متعدّد {فكما يكون الدّاعي إلى إنشاء التّمنّي أو التّرجّي أو الاستفهام} أو غيرها {بصيغها} الموضوعة لها {تارةً هو ثبوت هذه الصّفات} في النّفس {حقيقة} كذلك {يكون الدّاعي غيرها} أي: غير هذه الصّفات تارةً {أُخرى} مع أنّ المعنى واحد فيهما {فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها} وألفاظها {عنها} أي: عن معانيها الموضوعة لها {واستعمالها} أي: الصّيغ {في غيرها} أي: غير المعاني {إذا وقعت في كلامه - تعالى -} وإنّما التزم القوم بالانسلاخ في كلامه - تعالى - {لاستحالةمثل هذه المعاني} من التّمنّي والتّرجّي والاستفهام والتّعجّب وغيرها {في حقّه - تبارك وتعالى -} لبداهة أنّ هذه الأُمور {ممّا لازمه العجز أو الجهل} أو كونه - تعالى - محلّاً للحوادث.

بيان ذلك: أنّ التّمنّي - كما في المطوّل(1) - هو طلب محال أو ممكن لا طماعية

ص: 399


1- المطوّل: 226.

وأنّه لا وجه له؛ فإنّ المستحيل إنّما هو الحقيقيّ منها، لا الإنشائي الإيقاعي الّذي يكون بمجرّد قصد حصوله بالصّيغة، كما عرفت.

ففي كلامه - تعالى - قد استعملت في معانيها الإيقاعيّة الإنشائيّة أيضاً، لا لإظهار ثبوتها حقيقةً، بل

___________________

في وقوعه، والتّرجّي هو ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله، والاستفهام طلب حضوره في الذّهن، والتّعجّب هو انفعال نفساني يعتري الشّخص عند استعظامه أو استطرافه أو إنكاره ما يرد عليه.

ومن الواضح أنّ التّمنّي مستلزم للعجز، فإنّ القادر يفعل متمنّاه، والتّرجّي والاستفهام مستلزمان للجهل، إذ العالم يعلم حصول الشّيء وحاصل لديه المعلوم، والتّعجّب يستلزم تبديل الحال، وجميع اللّوازم محال في حقّه - تعالى - . {وأنّه لا وجه له} تأكيد لقوله: «فلا وجه للالتزام» ومن البعيد أن يكون المراد أنّ ما لازمه العجز والجهل لا وجه له بالنسبة إلى الباري - سبحانه - .

ثمّ بيّن المصنّف وجه عدم الانسلاخ بقوله: {فإنّ المستحيل} في حقّه - تعالى - {إنّما هو الحقيقي منها} أي: من التّمنّيوالتّرجّي والاستفهام {لا الإنشائي الإيقاعي} أي: إنشاء مفهوم التّمنّي - مثلاً - وإيقاع هذه النّسبة خاصّة {الّذي يكون بمجرّد قصد حصوله بالصيغة} ولكن بدواعي مختلفة غير إظهار ثبوت حقيقة هذه الصّفات {كما عرفت} غير مرّة.

{ف} الحاصل: أنّ هذه الصّيغ الواقعة {في كلامه - تعالى - قد استعملت في معانيها الإيقاعيّة الإنشائيّة أيضاً} كما هي مستعملة في كلام غيره - تعالى - وإنّما الفرق أنّ الدّاعي في غيره يمكن أن يكون إظهار ثبوت هذه الصّفات حقيقة، ويمكن أن يكون غيره، وفي كلامه - تعالى - {لا} يستعمل {لإظهار ثبوتها} أي: الصّفات {حقيقةً} بحيث تكون الصّفة موجودة في ذاته {بل} الاستعمال

ص: 400

لأمرٍ آخَرَ - حَسَبَ ما يقتضيه الحال - من إظهار المحبّة أو الإنكار أو التّقرير إلى غير ذلك.

___________________

{لأمر آخر حسب ما يقتضيه الحال} وعيّن ذلك بالقرينة {من إظهار المحبّة}.

قال المحقّق السّلطان: «كقوله - تعالى - : {وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَمُوسَى}(1)، فإنّ تنزيل المتكلّم نفسه منزلة المتردّد الشّاكّ في ما يكون بمرأىً منه ومن المخاطب يستلزم حبّ المكالمة معه المستلزم لكون المخاطب محبوباً عنده، ومن البيّن أنّه لا فرق في ذلك بين العالم بحقائق الأشياء وبين غيره في هذا التّنزيل إذا كان ذلك الشّيء معلوماً عنده وعند مخاطبه {أو} إظهار {الإنكار}».وقال أيضاً: «كقوله - تعالى - : {أَءِلَهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ}(2)، وإنكار الشّيء كراهة والنفرة عن وقوعه وادّعاء أنّه ممّا لا ينبغي أن يقع أصلاً، وهذا مما يستلزم عدم توجّه الذّهن إليه، وبهذا الاعتبار ينزل المتكلّم نفسه منزلة المتردّد الشّاك {أو التّقرير}».

وقال أيضاً: «فالمقصود منه جعل المخاطب مقرّاً لكي يأخذه بإقراره، فينزل المتكلّم العالم بالواقعة نفسه منزلة المتردّد الشّاكّ لكي يتوصّل إلى ذلك المقصود، ومن ثَمّ يجب إيلاء المُقَرِّبه للأداة كما في قوله - تعالى - : {ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَذَا بَِٔالِهَتِنَا يَٓإِبۡرَهِيمُ}(3)، بناءً على علمهم سابقاً بما يفعله بقوله - تعالى - : {وَتَٱللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصۡنَمَكُم}(4) {إلى غير ذلك} من المعاني المذكورة في الإنشاءات، وما ذكرنا من الأمثلة وإن كان للاستفهام إلّا أنّ حال التّمنّي والتّرجّي كذلك».

ص: 401


1- سورة طه، الآية: 17.
2- سورة النّمل، الآية: 60، 61، 62، 63، 64.
3- سورة الأنبياء، الآية: 62.
4- سورة الأنبياء، الآية: 57.

ومنه ظهر: أنّ ما ذُكِرَ من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضاً.

المبحث الثّاني: في أنّ الصّيغة حقيقةٌ في الوجوب، أو في النّدب، أو فيهما، أو في المشترك بينهما؟ وجوهٌ، بل أقوالٌ.

___________________

{ومنه} أي: من هذا الإيقاظ {ظهر أنّ ما ذكر من المعاني الكثيرة} الثّمانية - كما في المغني - أو أكثر {لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضاً} كما لم يكن ما ذكر للأمر من المعنى على ما ينبغي.ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما ذكره المصنّف(رحمة

الله) في هذا الباب ممّا تعرّض له بعض أهل البيان، قال ابو القاسم المحشّي على المطوّل معلِّقاً على قول الخطيب القزويني: «ثمّ هذه الكلمات كثيراً ما تستعمل في غير الاستفهام» ما لفظه: «القول باستعمال هذه الكلمات في المولّدات المذكورة حتّى يكون مجازات محلّ إشكال...» إلى أن قال: «اللّهمّ إلّا أن يقال اللّفظ مستعمل في ما وضع له لكن لا لذاته، بل لحصول هذه المولّدات، والقرينة إنّما تمنع عن إرادة ما وضع لذاته»(1)، انتهى.

ومن أراد الاطّلاع على علائق المجازيّة فيها فليرجع إلى تعليقة الشّريف وغيره على المطوّل في بحث الإنشاء(2).

[المبحث الثّاني: الصيغة حقيقة في الوجوب]

{المبحث الثّاني} من الفصل الثّاني {في أنّ الصّيغة حقيقة} في أيّ شيء {في الوجوب} فقط {أو في النّدب} فقط {أو فيهما} على نحو الاشتراك اللّفظي، بأن وضع اللّفظ مرّة لهذا ومرّة لذاك {أو في} القدر {المشترك بينهما} على نحو الاشتراك المعنوي بأن يكون موضوعاً لرجحان الفعل مطلقاً؟ {وجوه، بل أقوال} لا يهمّنا التّعرّض لتفصيلها.

ص: 402


1- المطوّل: 235.
2- المطوّل: 224.

ولا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة. ويؤيّده: عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة النّدب، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحالٍ أو مقالٍ.

وكثرةُ الاستعمال

___________________

{و} المختار الأوّل، إذ {لا يبعد تبادر الوجوب} منها {عند استعمالها بلا قرينة} على الوجوب ولا على غيره. ومن المحتمل أن يكون وجه عدم جزم المصنّف بذلك ما ذكره بعض من أنّ الأمر إنّما يظهر إرادة المريد للفعل وإرادته الفعل أعمّ من التّرخيص في التّرك المساوق للاستحباب وعدمه المساوق للوجوب.

قال في الدّرر - بعد ما اختار أنّ الصّيغة مشتركة بين الوجوب والنّدب اشتراكاً معنويّاً - ما لفظه: «ولكنّها عند الإطلاق تحمل على الأوّل، ولعلّ السّرّ في ذلك أنّ الإرادة المتوجّهة إلى الفعل تقتضي وجوده ليس إلّا، والنّدب إنّما يأتي من قبل الإذن في التّرك منضمّاً إلى الإرادة المذكورة، فاحتاج النّدب إلى قيد زائد بخلاف الوجوب، فإنّه يكفي فيه تحقّق الإرادة وعدم انضمام الرّخصة في التّرك إليها»(1)،

انتهى.

{ويؤيّده} أي: تبادر الوجوب بلا قرينة {عدم صحّة الاعتذار} من العبد {عن المخالفة} لأمرالمولى {باحتمال} متعلّق بالاعتذار {إرادة النّدب مع الاعتراف} من العبد {بعدم دلالته عليه} أي: دلالة الأمر على النّدب {بحال أو مقال}.

والحاصل: أنّ العبد مع اعترافه بعدم وجود القرينة على النّدب لا يصحّ منه الاعتذار لتركه أمر المولى باحتماله النّدب ولو كان مشتركاً صحّ منه الاعتذار.

وإنّما جعل هذا الوجه مؤيّداً ولم يجعله دليلاً، لاحتمال أن يكون عدم صحّة الاعتذار مستنداً إلى ما قاله في الدّرر، لا كونه للوجوب فقط.

{وكثرة الاستعمال} قال صاحب المعالم - بعد ما اختار أنّالأمر حقيقة في

ص: 403


1- درر الفوائد: 75.

فيه في الكتاب والسّنّة وغيرهما لا توجب نَقْلَهُ إليه، أو حَمْلَهُ عليه؛ لكثرة استعماله في الوجوب أيضاً، مع أنّ الاستعمال وإن كثر فيه إلّا أنّه كان مع القرينة المصحوبة، وكثرةُ الاستعمال كذلك

___________________

الوجوب - ما لفظه: «فائدة: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمّة - عليهم الصّلاة والسّلام - أنّ استعمال صيغة الأمر في النّدب كان شائعاً في عرفهم بحيث صار من المجازات الرّاجحة المساوي احتمالها من اللّفظ لاحتمال الحقيقة، عند انتفاء المرجّح الخارجي، فيشكل التّعلّق في إثبات وجود أمر بمجرّد ورود الأمر منهم(علیهم السلام)»(1)،

انتهى.

وهذا الكلام من المصنّف إشارة إلى جوابه، إذ كثرة استعمال الأمر {فيه} أي: في النّدب {في الكتاب والسّنّة وغيرهما} من الاستعمالات المولويّة {لا توجب نقله} أي: الأمر {إليه} إلى النّدب {أو حمله عليه} والفرق بين النّقل والحمل أنّ الأوّل موجب لصيرورة الاستحباب معنى حقيقيّاً، والثّاني موجب لكون الاستحباب مجازاً مشهوراً، وصاحب المعالم إنّما ادّعى الثّاني لا الأوّل.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) أجاب عن كلامه بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ كثرة الاستعمال في النّدب لا يوجب ما ذكره {لكثرة استعماله في الوجوب أيضاً} وحاصله: أنّ المحقّق كثرة الاستعمال في النّدب وكثرة الاستعمال كذلك لا توجب الشّهرة، بل إذا لم يكن الاستعمال في المعنى الحقيقي أيضاً كثيراً وهو ممنوع لكثرة الاستعمال فيالوجوب.

الثّاني: ما ذكره بقوله: {مع أنّ الاستعمال وإن كثر فيه} أي: في النّدب {إلّا أنّه} إنّما يفيد إذا لم يكن مع القرينة، أمّا إذا {كان مع القرينة المصحوبة} للاستعمال فلا يفيد الشّهرة الموجبة للوقف {و} ذلك لأنّ {كثرة الاستعمال كذلك} مع القرينة

ص: 404


1- معالم الدين: 53.

في المعنى المجازيّ لا توجب صيرورته مشهوراً فيه، ليرجّح أو يتوقّف - على الخلاف في المجاز المشهور - كيف؟ وقد كُثر استعمال العامّ في الخاصّ حتّى قيل: «ما مِنْ عامٍّ إلّا وقَدْ خُصَّ» ولم ينثلم به ظهورُه في العموم، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.

___________________

{في المعنى المجازي لا توجب صيرورته} أي: اللّفظ {مشهوراً فيه} أي: في ذلك المعنى المجازي {ليرجّح} المجاز على الحقيقة حينما استعمل اللّفظ {أو يتوقّف} في أنّه ما هو المراد {على الخلاف في المجاز المشهور} من أنّه موجب للوقف أو التّرجيح.

الثّالث: النّقض بصيغة العموم وهو ما أشار إليه بقوله: {كيف} يكون كثرة الاستعمال موجباً للوقف أو ترجيح المجاز {و} الحال أنّه {قد كثر استعمال العام في الخاص حتّى قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خُصَّ»} حتّى نفس هذا العموم {و} الحال أنّه {لم ينثلم به} أي: بهذا الاستعمال الكثير في الخصوص {ظهوره في العموم} الموضوع له {بل يحمل} العام {عليه} أي: على العموم {ما لم تقم قرينةبالخصوص} سوى كثرة الاستعمال {على إرادة} المتكلّم من العام {الخصوص} وبهذا كلّه سقط كلام المعالم فاللّازم التّمسّك بظاهر الصّيغة ما لم يقم دليل خاصّ يفيد النّدب، كما هو بناء الفقهاء في الأوامر الواردة في أبواب الفقه.

نعم، وردت جملة كثيرة من الأوامر بحيث تساوي الأوامر الوجوبيّة أو تزيد عليها حَمَلَهَا الفقهاءُ على النّدب بلا وجود قرينة صارفة، كما يظهر ذلك لمن راجع الأخبار الّتي جمعها المجلسي(رحمة الله) في كتاب حلية المتقين وبعض مجلّدات البحار وكذا غيره، اللّهمّ إلّا أن يقال بعدم صحّة سندها أو إعراض العلماء عن ظاهرها.

ثمّ إنّ جماعةً استدلّوا لكون الأمر للوجوب بأُمور: منها قوله - تعالى - : {مَا مَنَعَكَ

ص: 405

المبحث الثّالث: هل الجمل الخبريّة الّتي تستعمل في مقام الطّلب والبعث - مثل: (يغتسل) و(يتوضّأ) و(يعيد) - ظاهرةٌ في الوجوب، أو لا؟؛ لتعدّد المجازات فيها، وليس الوجوب بأقواها، بعدَ تَعَذُّرِ حملها على معناها من الإخبار بثبوت النّسبة، والحكاية

___________________

أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ}(1)، ومنها قوله - تعالى - : {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ}(2)، ومنها قوله - تعالى - : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا يَرۡكَعُونَ}(3)، ومنها غير ذلك، والكلّ كماترى إذ بعضها خلط وبعضها لا دلالة فيها.

نعم، إذا ثبت التّلازم بين الصّيغة وبين مادّة الأمر كانت الأدلّة الدّالّة على كون المادّة للوجوب دالّة على كون الصّيغة للوجوب.

[المبحث الثّالث: الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب ظاهرة في الوجوب]

{المبحث الثّالث} في حال الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الطّلب {هل الجمل الخبريّة الّتي تستعمل في مقام الطّلب والبعث مثل} كلمة {(يغتسل) و(يتوضّأ) و(يعيد)} الصّلاة، ونحوها المستعملات في مقام طلب الغسل والوضوء والإعادة {ظاهرة في الوجوب} كما كانت الصّيغة كذلك {أو لا} تكون ظاهرة في الوجوب؟ وذلك لأنّ للجملة الخبريّة معنى حقيقي وهو الإخبار عن النّسبة وإذا لم يُرَدْ ذلك منها كانت مجملة {لتعدّد المجازات فيها} من النّدب ومطلق الطّلب والوجوب {و} لا يمكن القول بأنّه إذا تعذّرت الحقيقة حملت على أقوى المجازات وهو الوجوب، إذ {ليس الوجوب بأقواها} وأقربها إلى الحقيقة {بعد تعذّر حملها} أي: الجملة {على معناها} الحقيقي.

ثمّ بيّن معنى الحقيقي للجملة بقوله: {من الإخبار بثبوت النّسبة والحكاية} عطف

ص: 406


1- سورة الأعراف، الآية: 12.
2- سورة النّور، الآية: 63.
3- سورة المرسلات، الآية: 48.

عن وقوعها:

الظّاهر: الأوّل، بل يكون أظهر من الصّيغة.

ولكنّه لا يخفى: أنّه ليست الجمل الخبريّة الواقعة في ذلك المقام - أي: الطّلب - مستعملةً في غير معناها، بل تكون مستعملةً فيه، إلّا أنّه ليس بداعي الإعلام، بل بداعي البعث بنحوٍ الآكد؛ حيث إنّهأخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه، إظهاراً بأنّه لا يرضى إلّا بوقوعه، فيكون آكَدَ في البعث من الصّيغة،

___________________

على الإخبار {عن وقوعها} أي: النّسبة {الظّاهر} هو {الأوّل} وهو ظهور الجملة في الوجوب، وذلك لانسباق الوجوب من الإطلاق عند تعذّر الحقيقة {بل يكون} الجملة {أظهر من الصّيغة} في إفادة الوجوب {ولكنّه لا يخفى أنّه ليست الجمل الخبريّة الواقعة في ذلك المقام - أي: الطّلب - مستعملةً في} مفهوم الطّلب الّتي هي {غير معناها} الحقيقي كما ذهب إليه المشهور.

{بل} التّحقيق أنّ الجمل حينئذٍ {تكون مستعملة فيه} أي: في معناها الحقيقي {إلّا أنّه ليس} الاستعمال {بداعي الإعلام، بل بداعي البعث} نحو المطلوب {بنحو الآكد} من صيغة الأمر.

والحاصل: أنّ المستعمل فيه واحد والدّاعي مختلف وإنّما كان الطّلب بالجملة الخبريّة آكد من صيغة الطّلب {حيث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام} يريد {طلبه إظهاراً} أي: لأجل الإظهار {بأنّه لا يرضى إلّا بوقوعه} لأنّ الإخبار بوقوع المطلوب في الخارج يدلّ على عدم تطرّق نقيضه عند الأمر {فيكون آكد في البعث من الصّيغة}.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من إقامة الجملة الخبريّة مقام الإنشاء لا يفرق فيه بين الفعل الماضي - كما إذا سُئِل عن الإمام(علیه السلام) عن الشّكّ في عدد الرّكعات في الثّنائيّة فقال: «أعاد» - وبين الفعل المضارع - كما تقدّم - .

ص: 407

كما هو الحال في الصّيغ الإنشائيّة - علىما عرفت من أنّها أبداً تستعمل في معانيها الإيقاعيّة لكن بدواعٍ أُخَرَ - ، كما مرّ.

___________________

نعم، ليس من محلّ الكلام ما إذا كانت الجملة مشتملة على لفظ (الطّلب) أو (الوجوب) نحو (الصّلاة واجبة) أو (أطلب منك الفعل) أو (آمرك بكذا) لأنّ ذلك كلّه حكاية عن الأمر.

ثمّ إنّ استعمال الجملة في مقام الطّلب من البلاغة بمنزلة رفيعة. قال في المطوّل: «ثمّ الخبر قد يقع موقع الإنشاء، إمّا للتفأل بلفظ الماضي على أنّه من الأُمور الحاصلة الّتي حقّها أن يخبر عنها بأفعال ماضية كقولك: (وفّقك اللّه للتقوى) أو لإظهار الحرص في وقوعه...» إلى أن قال: «أو لحمل المخاطب على المطلوب بأن يكون المخاطب ممّن لا يحبّ أن يكذّب الطّالب - أي: ينسب إلى الكذب - كقولك. - لصاحبك الّذي لا يحبّ تكذيبك - : (تأتيني غداً) مقام (ائتني) تحمله بألطفِ وجهٍ على الإتيان؛ لأنّه إن لم يأتك غداً صرتَ كاذباً من حيث الظّاهر، لكون كلامك في صورة الخبر...» إلى أن قال: «ومن الاعتبارات المناسبة لإيقاع الخبر موقع الإنشاء القصد إلى المبالغة في الطّلب حتّى كأنّ المخاطب سارع في الامتثال»(1)،

انتهى.

ثمّ إنّ استعمال الجملة لغير داعي الإعلام {كما هو الحال في الصّيغ الإنشائيّة} المستعملة لغير داعي معناها الأصلي كالاستفهام المستعمل لغير داعي الفهم، والأمر المستعمل لغير داعي الجِدّ، وإن كانا مستعملين في معناهما {على ما عرفت من أنّها} أي: الصّيغ الإنشائيّة {أبداً تستعمل في معانيهاالإيقاعيّة لكن بدواعٍ أُخَرَ} غير الدّاعي الأصلي {كما مرّ} تفصيله.

ص: 408


1- المطوّل: 246.

لا يقال: كيف؟ ويلزم الكذب كثيراً؛ لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج، تعالى الله وأوليائه عن ذلك علوّاً كبيراً.

فإنّه يقال: إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار والإعلام، لا لداعي البعث. كيف؟ وإلّا يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل: (زيد كثير الرّماد) أو(مهزول الفصيل) لا يكون كذباً إذا قيل كنايةً عن جُوْدِهِ،

___________________

{لا يقال: كيف} يجوز الإخبار بوقوع المطلوب في مقام الطّلب {و} الحال أنّه {يلزم الكذب كثيراً} وذلك {لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك} أي: بالطلب التّشريعي، بخلاف الطّلب التّكويني المنشأ بلفظ الخبر، فإنّ المطلوب به يقع لا محالة {في الخارج} وعدم وقوع المطلوب التّشريعي في ظرف الإخبار به ممّا {تعالى الله وأوليائه عن ذلك علوّاً كبيراً} إذ الكذب ملزوم العجز أو الجهل المنفيَين عنهم؟

{فإنّه يقال: إنّما يلزم الكذب} في صورة عدم الوقوع {إذا أتى بها} أي: بالجملة {بداعي الإخبار والإعلام} عن النّسبة في الخارج {لا} إذا أتى بالجملة {لداعي البعث} نحو المطلوب إنشاءً، فإنّ الإنشاء ممّا لا يتطرّق إليه الصّدق والكذب و{كيف} تكون الجملة في صورة عدم الوقوع كذباً {وإلّا يلزم الكذب في غالب الكنايات} المستعملة لإفادة الملزوم فقطلا اللّازم والملزوم معاً، فإنّه جائز عند أهل البيان، وقد جعلوا جواز الجمع بينهما فارقاً بين الكناية والمجاز عندهم ملزوم قرينة معاندة للحقيقة بخلاف الكناية، فراجع {فمثل (زيد كثير الرّماد) أو} (جبان الكلب) أو {(مهزول الفصيل)} ونحوها {لا يكون كذباً إذا قيل كنايةً عن جوده}.

تذكرة: إنّما تكون هذه الأمثلة الثّلاثة كناية عن الجود.

أمّا الأوّل، فلأنّ الجود مستلزم لكثرة الأضياف المستلزم لكثرة الطّبخ المستلزم لكثرة الرّماد.

ص: 409

وإن لم يكن له رَمَادٌ أو فصيلٌ أصلاً، وإنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد، فيكون الطّلب بالخبر في مقام التّأكيد أبلغ؛ فإنّه مقال بمقتضى الحال،

___________________

وأمّا الثّاني، فلأنّ الجود مستلزم لكثرة الأضياف المستلزم لكثرة زجر الكلب المستلزم لجبنه، إذ من لا يمرّ عليه الضّيف يكون كلبه جريئاً.

وأمّا الثّالث، فلأنّ الجود مستلزم لكثرة الضّيف المستلزم لإعطاء لبن النّاقة للأضياف المستلزم لهزال فصيلها.

والحاصل: أنّ هذه الجمل صادقة {وإن لم يكن له رماد، أو} كلب، أو {فصيل، أصلاً، وإنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد} الّذي هو المقصود من الكلام، أو لم يكن له هذه الثّلاثة وقد استعمل اللّفظ في اللّازم والملزوم كما تقدّم، أو لم يستعمل بداعي التّهكّم من باب استعمال الضّدّ في الضّدّ لقصد الاستهزاء.

فتبيّن أنّ النّسبة الأوليّة في الجملة الخبريّة إنّما تتصف بالصدق والكذب بشرطين:الأوّل: عدم الإتيان بها بداعي الإنشاء، فلو أتى بها بداعي الطّلب أو التّهكّم أو المدح والذّمّ وأمثالها لم تتصف بهما.

الثّاني: عدم الإتيان بها بداعي الكناية في الجملة، فلو أتى بها بداعي الكناية فقط لم تتصف بالنسبة الأوليّة بهما وإنّما المتصف حينئذٍ المعنى المقصود الكنائي - كما عرفت - .

{ف} قد تحصل من جميع ما تقدّم أنّه {يكون الطّلب بالخبر في مقام التّأكيد} لمضمون الطّلب {أبلغ} وذلك {فإنّه مقال بمقتضى الحال} (1)

إذن الطّلب المؤكّد في الخارج أقرب إلى الصّدور، فكأنّه مستلزم للصّدور، والصّدور مضمون الجملة، فذكر الجملة وإرادة الطّلب يكون من باب ذكر اللّازم وإرادة الملزوم،

ص: 410


1- مقتضى الحال تأكيد الطّلب والمقال المطابق له الكناية.

هذا.

مع أنّه إذا أتى بها في مقام البيان فمقدّمات الحكمة مقتضيةٌ لحملها على الوجوب؛ فإنّ تلك النّكتة إن لم تكن موجبةً لظهورها فيه فلا أقلّ من كونها موجبةً لِتَعَيُّنِهِ من بين محتملات ما هو بصدده، فإنّ شدّة مناسبة الإِخبار بالوقوع مع الوجوب، موجبةٌ لتعيُّنِ إرادته إذا كان

___________________

وهذا هو الكناية الّتي هي أبلغ من التّصريح.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ وجه كون الكناية أبلغ أنّ الكناية تضمن ذكر المدّعى مع الدّليل، فإنّ من يقول: (زيد كثير الرّماد) فهو بمنزلة أن يقول: زيد كريم بدليل كثرة رماده، فكانت كذكر الشّيء ببيّنة وبرهان، ولا يخفى لطفه.{هذا مع أنّه} لو سلّمنا أنّ الجملة حين عدم إرادة الإخبار منها ليست ظاهرةً في الوجوب، فنقول: إنّ القرينة العامّة قائمة على إفادتها الوجوب حينئذٍ. بيان ذلك: أنّه {إذا أتى} المولى {بها} أي: بالجملة الخبريّة {في مقام البيان فمقدّمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب} إذ الأمر دائر حين عدم إرادة الإعلام بين إرادة مطلق الطّلب أو الوجوب أو النّدب، لا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّ مطلق الطّلب مساوق لعدم البيان، والمفروض أنّ المولى في مقام البيان، وحينئذٍ يدور الأمر بين الوجوب والنّدب والأوّل مقدّم {فإنّ تلك النّكتة} الّتي تقدّمت من صيانة الكلام عن الكذب {إن لم تكن موجبة لظهورها} أي: الجملة {فيه} أي: في وجوب {فلا أقلّ من كونها} أي: تلك النّكتة {موجبة لتعيّنه} أي: الوجوب {من بين محتملات ما هو بصدده} أي: محتملات الطّلب، وهي الوجوب والنّدب الّتي كان المولى بصدد بيان ذلك الطّلب، ووجه تقديم الوجوب على النّدب ما ذكره بقوله: {فإنّ} الحقيقة حينما تعذّرت كانت {شدّة مناسبة الإخبار بالوقوع} الّذي هو المعنى الحقيقي {مع الوجوب} دون النّدب {موجبة لتعيّن إرادته إذا كان} المولى

ص: 411

بصدد البيان، مع عدم نصب قرينة خاصّة على غيره، فافهم.

المبحث الرّابع: أنّه إذا سلّم أنّ الصّيغة لا تكون حقيقةً في الوجوب، هل لا تكون ظاهرةً فيه أيضاً، أو تكون؟

قيل بظهورها فيه؛ إمّا لغلبة الاستعمال فيه، أو لغلبة وجوده، أو أكمليّته.

___________________

{بصدد البيان} للحكم {مع عدم نصب قرينة خاصّة على غيره} أي: غير الوجوب. وإنّما كان الوجوب أشدّ مناسبة لمعنى الجملة الّتي هي مفيدة للوقوع؛ لأنّ الوجوب أقرب إلى الوقوع من النّدب، كما لا يخفى {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الأمر دائر مدار الظّهور العرفي، ونحو هذه الاستحسانات لا تكون سبباً له.

ثمّ لا يخفى أنّ الكلام في النّواهي الصّادرة بلفظ الخبر نحو (لا يعيد) كالكلام في الأوامر.

[المبحث الرّابع: ظهور صيغة الأمر في الوجوب]

{المبحث الرّابع} في دلالة صيغة الأمر على الوجوب من غير طريق الوضع له، والأولى تقديم هذا المبحث على المبحث الثّالث؛ لأنّه من تتمّة المبحث الثّاني، وعلى كلّ حال فاعلم {أنّه إذا سلم أنّ الصّيغة لا تكون حقيقة في الوجوب} فقط بأن كانت حقيقة في النّدب فقط أو مشتركة بينهما لفظاً أو معنى، فحينئذٍ {هل لا تكون ظاهرة فيه} أي: في الوجوب {أيضاً} كما لا تكون حقيقة في الوجوب فقط {أو تكون} ظاهرة في الوجوب؟ {قيل بظهورها} أي: الصّيغة {فيه} وذلك الظّهور {إمّا لغلبة الاستعمال فيه أو لغلبة وجوده أو أكمليّته} الضّمائر راجعة إلى «الوجوب».

ولا يخفى أنّ بين هذه الثّلاثة عموماً من وجه، كالعادل والأبيض والعالم لاجتماعها في العالم الأبيض العادل، وافتراق الأوّل في العادل الأسود الجاهل، والثّاني في الأبيض الفاسق الجاهل، والثّالث في العالم الأسود الفاسق، وحينئذٍ فلو

ص: 412

والكلّ كما ترى؛ ضرورةَ أنّ الاستعمال في النّدب، وكذا وجوده ليس بأقلّ لو لم يكن بأكثر.

وأمّا الأكمليّةُ فغيرُ موجبةٍ للظّهور؛ إذ الظّهور لا يكاد يكون إلّا لشدّة أُنس اللّفظ بالمعنى، بحيث يصير وجهاً له، ومجرّد الأكمليّة لا يوجبه،

___________________

فرض وضع الجسم لكلّ واحد منها وكان الأوّل أكمل أفراده والثّاني أغلب أفراده وجوداً والثّالث أغلبها استعمالاً فيه كان، كما نحن فيه.

{و} لكن {الكلّ كما ترى} غير صحيح، أمّا غلبة الوجود فل {ضرورة أنّ الاستعمال في النّدب وكذا وجوده ليس بأقلّ} من الاستعمال في الوجوب ووجوده {لو لم يكن بأكثر} فإنّ استعمال الصّيغة في النّدب، وكذا وجود النّدب، ولو لم يكن مستفاداً من الصّيغة، بل من الجملة الخبريّة ونحوها كثير في الأخبار جدّاً، كما يظهر ذلك لمن راجعها.

{وأمّا الأكمليّة} ففيه: أوّلاً أنّ كون الوجوب أكمل ممنوع، إذ معنى الأكمليّة الطّلب الأكيد بالنسبة إلى الاستحباب الّذي هو طلب ضعيف، فالوجوب بالنسبة إليه كاللون الشّديد بالنسبة إلى اللّون الضّعيف، وهذا غير مستقيم، إذ الفارق بينهما جواز التّرك وعدمه لا الشّدّة والضّعف، فتأمّل.

وثانياً على تقدير تسليم الأكمليّة {فغير موجبة للظّهور} في الوجوب عند الإطلاق {إذ الظّهور لا يكاد يكون إلّا لشدّة أُنس اللّفظ بالمعنى بحيث يصير} اللّفظ مرآة و{وجهاً له} أي: للمعنى حتّى يرى صورة المعنى في اللّفظ.

{و} من المعلوم أنّ {مجرّد الأكمليّة لا يوجبه} أي: لايوجب هذا النّحو من الظّهور، كيف ولو كان كذلك لزم تبادر المراتب الشّديدة من الألوان عند إطلاق اسمها؟ والسّرّ في ذلك ما ذكره العلّامة المشكيني(رحمة الله) بقوله: «لأنّ المسلّم كما له ثبوتاً لا إثباتاً والتّشكيك الثّبوتي لا يستلزم التّشكيك اللّفظي الحاصل من شدّة

ص: 413

كما لا يخفى.

نعم، في ما كان الآمِر بصدد البيان فقضيّة مقدّمات الحكمة هو الحمل على الوجوب؛ فإنّ النّدب كأنّه يحتاج إلى مؤونة بيان التّحديد،

___________________

الأُنس في مقام القابليّة»(1) {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{نعم، في ما} تمّت مقدّمات الحكمة بأن {كان الآمر بصدد البيان} ولم ينصب قرينة على الطّرف المقابل {فقضيّة مقدّمات الحكمة هو الحمل على الوجوب} سواء قلنا بالاشتراك أو بوضع الصّيغة للنّدب {فإنّ النّدب كأنّه يحتاج إلى مؤونة بيان التّحديد} وقد أفاده الميرزا المجدّد الشّيرازي(قدس

سره) في محكي كلامه بقوله: «إنّ حقيقة الوجوب إنّما هو الطّلب الخالص عن شوب الرّجوع، وحقيقة النّدب إنّما هي الطّلب المشوب بالرجوع والإذن في التّرك، إذ لا ريب أنّ الإذن فيه بعد الطّلب رجوع عن الطّلب، إذ ليس الطّلب إلّا البعث والتّحريك، وهو ينافي الإذن في التّرك، إذ معه لم يبق الطّلب بحاله، وإنّما الباقي مجرّد الميل إلى الفعل.

والحاصل: أنّ في الطّلب النّدبي أمرين: الطّلب والإذن في التّرك، ولا ريب أنّ الصّيغة بنفسها لا تنهض على إفادة الثّاني، بل لا بدّ في ذلك من إيراد دالّ آخرمن القرائن، وهذا بخلاف ما لو أمر به بالأمر الوجوبي، فإنّ القصد حينئذٍ إنّما هو الطّلب مع عدم قصد الرّجوع عنه، فيكون مفاد الصّيغة حينئذٍ هو الطّلب الخالص عن شوب الإذن في التّرك، ولا ريب أنّه يكفي في إفادة الصّيغة بنفسها فإذا أُطلقت الصّيغة فهي تفيد الطّلب، ومع عدم نصب القرينة على الإذن في التّرك يكون مفادها هو الطّلب الخالص وهو الوجوب»(2)، انتهى.

ص: 414


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 354.
2- تقريرات المجدد الشيرازي 2: 29.

والتّقييد بعدم المنع من التّرك، بخلاف الوجوب، فإنّه لا تحديد فيه للطّلب ولا تقييد، فإطلاقُ اللّفظ وعدم تقييده مع كون المُطْلِقِ في مقام البيان كافٍ في بيانه، فافهم.

المبحث الخامس:

___________________

{و} الحاصل: أنّ إطلاق الصّيغة منزَّل على الوجوب؛ لأنّ النّدب يحتاج إلى {التّقييد بعدم المنع من التّرك} وحيث لا تحديد ولا تقييد فلا ندب، وذلك {بخلاف الوجوب فإنّه لا تحديد فيه للطّلب ولا تقييد} فإنّه محض الطّلب.

وعلى هذا {فإطلاق اللّفظ وعدم تقييده} بالإذن في التّرك {مع كون المطلق في مقام البيان كافٍ في بيانه} أي: بيان الوجوب {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ الطّلب لمّا كان مشتركاً بين الوجوب والاستحباب والوجوب يحتاج إلى أمر زائد وهو شدّة الطّلب، فمقتضى الأخذ بالمتيقّن الّذي هو الطّلب وترك المشكوك الّذي هو الشّدّة، أن يحمل الأمر المطلق على النّدب، إلّا أن يدلّ دليل على الوجوب هذا إذا قيل بالاشتراك، ولو قيل بوضع الصّيغة للنّدب فقط والوجوب مجازاً فالأمرأظهر، إذ لا يعدل عن الحقيقة إلّا بدليل.

ولا يخفى أنّ الكلام في الجملة الخبريّة المفاد بها الطّلب، كالكلام في أصل دلالة الأمر، والكلام في النّهي، كالكلام في الأمر.

[المبحث الخامس: ما تقتضيه الصيغة من التوصلية أو التعبدية]

{المبحث الخامس} في التّعبديّة والتّوصليّة، والكلام في هذا المبحث يقع في مواضع أربعة:

الأوّل: مقتضى الأصل اللّفظي بالنسبة إلى الصّيغة.

الثّاني: مقتضى الأصل اللّفظي بالنسبة إلى غير الصّيغة من الأدلّة.

الثّالث: مقتضى الأصل العملي بالنسبة إلى الصّيغة.

الرّابع: مقتضى الأصل العملي بالنسبة إلى غير الصّيغة.

ص: 415

أنّ إطلاق الصّيغة هل يقتضي كون الوجوب توصّليّاً - فيُجْزِي إتيانه مطلقاً، ولو بدون قصد القربة - أو لا - فلا بدّ من الرّجوع في ما شكّ في تعبديّته وتوصليّته إلى الأصل - ؟

___________________

وحيث إنّ المصنّف(رحمة الله) تعرّض لما عدا الثّاني، فالأنسب التّعرّض الإجمالي له ثمّ الشّروع في الشّرح.

قال شيخنا المرتضى - قدّس اللّه سرّه - في الطّهارة في هذا المقام ما لفظه: «وقد اشتهر الاستدلال على ذلك - قبل الإجماع - بقوله - تعالى - : {وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ}(1)،وقوله(صلی الله علیه و آله): «إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئ ما نوى»(2)، وقوله(علیه السلام): «لا عمل إلّا بنيّة»(3)،

والآية ظاهرة في التّوحيد ونفي الشّرك من وجوه»، ثمّ ذكر الوجوه، إلى أن قال: «وأمّا الأخبار فحملها على ظاهرها ممتنع وعلى نفي الصّحّة - بمعنى ترتّب الأثر - موجب للتخصيص الملحق للكلام بالهزل»(4)، الخ.

وأمّا المقام الأوّل فنقول: {إنّ إطلاق الصّيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليّاً فيجزي إتيانه} أي: الواجب {مطلقاً} أي: {ولو بدون قصد القربة} فلو أمر بوجوب غسل الجنابة هل يجزي غسل الأعضاء ولو كان غافلاً عن وجوب الغسل عليه أو اغتسل في ماء مغصوب أو كان نائماً فوقع في الماء؟ والحاصل: أنّ حاله حال تطهير النّجس {أو لا} إطلاق للصّيغة من جهة قصد القربة، ولو قلنا بعدم الإطلاق فما كان من الأوامر معلوم حاله، وأنّه مشروط بقصد القربة أو غير مشروط فهو، وإلّا {فلا بدّ من الرّجوع في ما شكّ في تعبديّته وتوصليّته إلى الأصل}

ص: 416


1- سورة البيّنة، الآية: 5.
2- وسائل الشيعة 1: 49.
3- وسائل الشّيعة 1: 46.
4- كتاب الطهارة 2: 1113.

لا بدّ في تحقيق ذلك من تمهيد مقدّمات:

إحداها: الوجوبُ التّوصّلي هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّد حصول الواجب، ويسقط بمجرّد وجوده، بخلاف التّعبّدي، فإنّ الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لا بدّ - في سقوطه وحصول غرضه - من الإتيان به متقرّباً به منه - تعالى - .

___________________

العملي من البراءة أو الاشتغال على ما يأتي تفصيله؟ و{لا بدّ في تحقيق ذلك من تمهيد مقدّمات} ثلاثة:

{إحداها} أنّ الوجوب من حيث اعتبار قصد القربة في الواجب وعدمه ينقسم إلى قسمين: الأوّل: التّوصّلي، والثّاني: التّعبّدي، و{الوجوب التوصّلي} قد عرف بتعاريف أظهرها أنّه {هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّد حصول الواجب ويسقط} الغرض {بمجرّد وجوده} من دون أن يكون قصد القربة دخيلاً فيه وإن كان إتيانه بقصد القربة ممكناً، بل موجباً لمزيد الثّواب.

والحاصل: أنّ الواجب التّوصّلي ما يكون مسلوباً عنه الخصوصيّات الزّائدة عن أصل وجوده، بحيث لا يكون المقصود منه إلّا أصل وجوده في الخارج، سواء وقع من الفاعل أو من غيره باختيار أو بدونه بقصد القربة أو بدونها، وذلك كتطهير النّجس مقدّمة للصّلاة، فإنّه واجب سواء وقع من المصلّي أم غيره ولو من الرّيح، ولو وقع من المصلّي لا يفرق فيه بين وقوعه عن اختيار أم لا كما لو وقع في الماء، وإذا وقع بالاختيار لا يفرق فيه بين قصد القربة وعدمه {بخلاف} الواجب {التّعبّدي} كالصلاة {فإنّ الغرض منه} الدّاعي إلى إيجابه {لا يكاد يحصل بذلك} أي: بمجرّد وجوده في الخارج {بل لا بدّ في سقوطه} أي: الواجب التّعبّدي {وحصول غرضه من الإتيان به} من شخص الفاعل بالاختيار {متقرّباً به منه - تعالى} شأنه - .

ثمّ إنّ التّوصّلي والتّعبّدي لها إطلاقات لا حاجة لنا في إيرادها.

ص: 417

ثانيتها: إنّ التّقرّب المعتبر في التّعبّديّ إن كان بمعنى قصد الامتثال، والإتيان بالواجب بداعي أمره، كان

___________________

ولا يذهب عليك أنّ التّسمية بالتوصّلي لأجل كون الواجب جعل وصلة إلى الغرض من دون ملاحظة شيء آخر، وبالتعبّدي لأجل كون الواجب عبادة بمعناها الاصطلاحي(1)،

والعبادة مأخوذ فيها قصد القربة بالإجماع وبعض الأدلّة المتقدّمة على القول بدلالتها، وإلّا فكلّ ممّا اعتبر فيه قصد القربة وغيره يصلح تسميته بالتوصّلي والتّعبّدي - كما لا يخفى - .

ثمّ إنّ القربة عبارة عمّا يترتّب على الإطاعة من القرب المعنوي والمحبوبيّة عند اللّه - تعالى - .

{ثانيتها: إنّ التّقرّب المعتبر في التّعبّدي} عبارة عن إتيانه بنحو قربي، وذلك يتصوّر على وجوه:

الأوّل: كون الفعل ناشئاً عن داعي أمره، فالصلاة - مثلاً - لا يترتّب عليها القرب إلّا إذا أتى بها بداعي امتثال الأمر المتعلّق بها.

الثّاني: إتيانه بداعي حسنه.

الثّالث: إتيانه بداعي كونه ذا مصلحة.

الرّابع: إتيانه للّه - تعالى - إلى غير ذلك.

ثمّ {إن كان} المراد من التّقرّب المعنى الأوّل {بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره كان} هذا التّقسيم إلى التّوصّلي والتّعبّدي تقسيماً بعد تعلّق الأمر لا تقسيماً لموضوع الأمر، وذلك يتّضح ببيان مقدّمة وهي: أنّ المولى لو قال: (يجب عليك الصّلاة) فهنا أمران: الأوّل الموضوع وهو الصّلاة، والثّاني الحكم وهو الوجوب، ورتبة الأوّل مقدّم على الثّاني، بمعنى أنّ العقل يرى توقّف

ص: 418


1- وأمّا معناها اللّغوي فالعبادة مأخوذة من العبوديّة المأخوذة من العبد.

ممّا يعتبر في الطّاعة عقلاً، لا ممّا أُخِذ في نفس العبادة شرعاً؛ وذلك لاستحالة أخذ مالا يكاد يتأتّى إلّا مِن قِبَل الأمر بشيءٍ في متعلّق ذاك الأمر مطلقاً - شرطاً أو شطراً - . فما لم تكن نفس الصّلاة متعلّقةً للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها.

___________________

الثّاني على الأوّل، كتوقّف الضّوء على الشّعلة وإن اتحدا زماناً. ثمّ إنّه بعد ما أوجب الشّارع الصّلاة يحكم العقل بوجوب الإطاعة، ومعنى حكم العقل - على مبنى بعض المحقّقين - رؤية الحسن والثّواب في الفعل والقبح والعقاب في التّرك، فالعقل كالعين لكن يرى المعقولات والعين ترى المحسوسات.

إذا عرفت ذلك قلنا: قد يطرأ التّقسيم على الموضوع - أعني: الصّلاة - وقد يطرأ التّقسيم على الإطاعة، والانقسام إلى التّعبّدي والتّوصّلي ممّا يطرأ على الثّاني وقصد الامتثال الّذي هو محلّ الكلام {ممّا يعتبر في الطّاعة عقلاً} وكان ممّا يحكم به العقل لأجل تحصيل غرض المولى {لا ممّا أخذ في نفس العبادة شرعاً} بأن يكون دخيلاً في الموضوع، بل لا يمكن أخذ قصد الامتثال في جانب الموضوع، {وذلك} لأنّ قصد امتثال الأمر متوقّف على الأمر، والأمر متوقّف على الموضوع فلا يمكن أخذه في الموضوع، بمعنى تعلّق الأمر بالصلاة المقيّدة بقصد الامتثال {لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى إلّا مِن قِبَل الأمر بشيء في متعلّق ذاك الأمر مطلقاً} أي: سواء أخذ {شرطاً أو شطراً} فلا يعقل أن يقول: (الصّلاة بشرط الامتثال واجبة) أو (الصّلاة مع قصد الامتثال واجبة).

والحاصل: أنّ قصد الامتثال بعد الأمر، والأمر بعد الصّلاة، فلا يمكن أن يكون قصد الامتثال في مرتبة الصّلاة بحيث يتعلّق الأمر بمجموعهما؛ لأنّ ذلك دور، فإنّ قصد الامتثال لكونه متولّداً من الأمر يتوقّف على الأمر، ولكونه فيموضوع الأمر يتوقّف الأمر عليه {فما لم تكن نفس الصّلاة متعلّقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها}.

ص: 419

وتَوَهُّمُ إمكان تعلّق الأمر بفعل الصّلاة بداعي الأمر، وإمكان الإتيان بها بهذا الدّاعي؛ - ضرورةَ إمكان تصوّر الآمِرِ لها مقيّدةً، والتّمكّن من إتيانها كذلك بعد تَعَلُّقِ الأمر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً في صحّة الأمر إنّما هو في حال الامتثال، لا حال الأمر - .

___________________

قال بعض الأعلام: «إنّ هذا الكلام إشارة إلى محذور آخر، وهو أنّ الأمر إذا لم يتعلّق بذات المأمور به بل بها مقيّدة بداعي الأمر امتنع الإتيان بها لأمرها لعدم الأمر بها، فيكون التّكليف بها لأمرها تكليفاً بغير المقدور»(1)، انتهى.

ويتّضح هذا بما لو قال زيد لعبده: (جئني بالماء بداعي أمر عمرو) فإنّ العبد يمتنع في حقّه الإتيان بالماء بهذا الدّاعي إذا لم يكن عمرو أمره.

{و} قد حاول بعض الجواب عن الإشكالين: أمّا عن الأوّل - أي: لزوم الدّور - فب {توهّم إمكان تعلّق الأمر بفعل الصّلاة بداعي الأمر} لما سيأتي.

{و} أمّا عن الثّاني - أي: لزوم التّكليف بغير المقدور - فبتوهّم {إمكان الإتيان بها} أي: بالعبادة {بهذا الدّاعي} أي: داعي امتثال الأمر.

واحتجّ للأوّل بأنّ المولى كما يتصوّر موضوع حكمه بسائر أجزائه وشرائطه كذلك يتصوّر هذا الشّرط {ضرورة إمكان تصوّر الأمربها} أي: بالعبادة {مقيّدة} بشرط قصد الامتثال. مثلاً: يتصوّر الصّلاة مع الطّهارة والسّتر والقبلة بشرط قصد الامتثال ثمّ يأمر بها، وهذا لا محذور فيه، إذ التّصوّر خفيف المؤونة.

{و} احتجّ للثّاني بأنّا نمنع كون التّقييد بقصد الامتثال يوجب عدم قدرة العبد، إذ له {التّمكّن من إتيانها كذلك} مقيّدة {بعد تعلّق الأمر بها، و} ذلك لأنّ {المعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً في صحّة الأمر إنّما هو} القدرة {في حال الامتثال} والمفروض أنّ العبد قادر، و{لا} يعتبر القدرة {حال الأمر} فإنّه يصحّ أن

ص: 420


1- حقائق الأصول 1: 167.

واضِحُ الفساد؛ ضرورةَ أنّه وإن كان تصوّرها كذلك بمكانٍ من الإمكان، إلّا أنّه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها؛ لعدم الأمر بها، فإنّ الأمر حسب الفرض تَعَلَّقَ بها مقيّدةً بداعي الأمر، ولا يكاد يدعو الأمر إلّا إلى ما تعلّق به، لا إلى غيره.

___________________

يأمر المولى فاقد الماء قبل الزّوال بالتوضّي بعد الزوال إذا كان واجداً للماء.

والحاصل: أنّ بعد أمر المولى بالصلاة المقيّدة تكون الصّلاة مأموراً بها، فيتمكّن العبد من الإتيان بالصلاة المأمور بها، وإن كان حال الأمر لم تكن الصّلاة مأموراً بها.

ولكن كلا التّوهّمين {واضح الفساد، ضرورة أنّه وإن كان تصوّرها كذلك} مقيّدة بمفهوم امتثال أمرها بالنسبة إلى المولى وإتيانها بعد تصوّر هذا المفهوم بالنسبة إلى العبد {بمكانٍ من الإمكان} فيتصوّر المولى الصّلاة المقيّدة، ثمّ يقول: (ائت بها) ثمّ يتصوّرالعبد (إنّي آتي بالصّلاة المقيّدة) ثمّ يأتي بها {إلّا} أنّ التّصوّر غير مفيد في دفع ما ذكرنا من الإشكالين:

أمّا إشكال الدّور؛ فلأنّ الداعي الّذي هو قيد للإيجاد والامتثال المترتّب على الحكم لا يكاد يمكن دخله في المأمور به، إذ لا معنى لتعقّل المولى الصّلاة المقيّدة امتثالها بداعي أمره ثمّ يأمر بها، فتأمّل.

والمصنّف(رحمة الله) أضرب عن دفع الإشكال الأوّل للمتوهّم واشتغل بدفع الثّاني - أعني: توهّم قدرة العبد - ، وحاصله {أنّه لا يكاد يمكن الإتيان بها} أي: بذات العبادة {بداعي أمرها لعدم الأمر بها} أي: بذات العبادة مجرّدة {فإنّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقيّدة بداعي الأمر، و} ذلك لأنّ المفروض أنّ المولى أوجب الصّلاة بداعي الأمر لا الصّلاة المجرّدة، فالأمر تعلّق بشيئين ذات الصّلاة مع الدّاعي، فالأمر يدعو إليهما معاً لا إلى أحدهما مجرّداً، إذ {لا يكاد يدعو الأمر إلّا إلى ما تعلّق به} وهو المركّب أو المقيّد و{لا} يدعو {إلى غيره} وهو ذات العبادة

ص: 421

إن قلت: نعم، ولكن نفس الصّلاة أيضاً صارت مأموراً بها بالأمر بها مقيّدةً.

قلت: كلّا؛ لأنّ ذات المقيّد لا تكون مأموراً بها؛ فإنّ الجزء التّحليليّ العقليّ لا يتّصف بالوجوب أصلاً، فإنّه ليس إلّا وجودٌ واحدٌ واجبٌ بالوجوب النّفسيّ، كما ربّما يأتي في باب المقدّمة.

___________________

بدون الدّاعي، وبما ذكر تبيّن عدم قدرة العبد إلى الأبد.

والحاصل: أنّ العبد إمّا أن يأتي بالصلاة مع أجزائها وشروطها الّتي منها داعيالأمر، وإمّا أن يأتي بالصلاة فقط بداعي الأمر، والأوّل غير ممكن، لأنّ داعي الأمر إنّما كان متعلّقاً بذات الصّلاة لا بالصلاة مع الدّاعي، اللّهمّ إلّا أن يكون هناك أمران كما سيأتي، والثّاني غير مقدور؛ لأنّ الصّلاة فقط لم تكن واجبة حتّى يأتي بها بداعي أمرها.

{إن قلت: نعم} الصّلاة فقط لم تكن واجبة {ولكن} يمكن الإتيان بها بداعي أمرها؛ لأنّ {نفس الصّلاة} حيث كانت جزءاً من المأمور به تعلّق الأمر بها {أيضاً} كما تعلّق بالكلّ، وبهذا {صارت مأموراً بها} لكن لا بالأمر الاستقلالي، بل {بالأمر بها مقيّدة} فإنّ جزء المأمور به مأمور به.

{قلت: كلّا} ليس جزء المأمور به مأموراً به {لأنّ ذات المقيّد لا تكون مأموراً بها} مستقلّاً حتّى يكون الآتي بها آتياً بجزء المأمور به، ألا ترى لو أمر المولى بعتق رقبة مؤمنة فأعتق الرّقبة المجرّدة لم يكن آتياً بشيء من المأمور به أصلاً {فإنّ الجزء التّحليلي العقلي} كذات المقيّد {لا يتّصف بالوجوب أصلاً} نعم، توهّم بعض اتصافه بالوجوب المقدّمي حيث كان في ضمن الكلّ {فإنّه} أي: المأمور به {ليس إلّا وجود واحد واجب بالوجوب النّفسي} الواحد {كما ربّما يأتي في باب المقدّمة} توضيحه إن شاء اللّه - تعالى - .

ص: 422

إن قلت: نعم، لكنّه إذا أُخِذ قصد الامتثال شرطاً، وأمّا إذا أُخِذ شطراً فلا محالة نفس الفعل الّذي تعلّق الوجوبُ به مع هذا القصد يكون متعلّقاً للوجوب؛ إذ المركّب ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر، ويكون تَعَلُّقُهُ بكلٍّ بعين تعلّقه بالكلّ، ويصحّ أنيؤتى به بداعي ذاك الوجوب. ضرورة صحّة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه.

___________________

{إن قلت: نعم} إنّ ذات المقيّد لا تتصف بالوجوب بدون القيد، فالصلاة لا تكون مأموراً بها {لكنّه} إنّما تكون غير مأمور بها {إذا أخذ قصد الامتثال شرطاً} حتّى يكون من باب المقيّد والقيد {وأمّا إذا أخذ} قصد الامتثال {شطراً} وجزءاً {فلا محالة} تكون ذات العبادة جزءاً، ويكون من باب الكلّ والجزء لا المقيّد والقيد، ف {نفس الفعل الّذي تعلّق الوجوب به مع هذا القصد} أي: قصد الامتثال {يكون متعلّقاً للوجوب} بحيث يرد عليهما وجوب منبسط {إذ المركّب} المتعلّق للوجوب {ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر} وبالتمام {ويكون تعلّقه} أي: الوجوب حين التّركيب {بكلٍّ} من جزئيه {بعين تعلّقه بالكلّ} من حيث هو كلّ، والحاصل: أنّ المأمور به لو كان مركّباً ينحلّ الأمر بالكلّ إلى أوامر ضمنيّة يتعلّق كلّ واحد منها بواحد من الأجزاء.

{و} على هذا {يصحّ أن يؤتى به} أي: بالفعل نفسه {بداعي ذاك الوجوب} الّذي تعلّق بهذا الجزء {ضرورة صحّة الإتيان بأجزاء الواجب} بنحو أن يأتي بكلّ جزء {بداعي وجوبه} ومن هذا يمكن تشكيل القياس هكذا: ذات الفعل جزء من الواجب، وكلّ جزء من أجزاء الواجب يجوز إتيانه بداعي وجوب نفسه، فينتج: أنّ ذات الفعل يجوز إتيانها بداعي وجوب نفسها.

ولا يخفى أنّ الصّغرى متوقّفة على إثبات كون ذات الفعل جزءاً لا قيداً، والكبرى متوقّفة على تماميّة كليّتها، بأن يثبت أنّ كلّ جزء سواء كان مستقلّاً أو في ضمنالواجب يجوز إتيانه بقصد وجوب نفسه. وحيث إنّ المصنّف(رحمة الله) سلّم الصّغرى

ص: 423

قلت: مع امتناع اعتباره كذلك؛ فإنّه يوجب تعلّق الوجوب بأمرٍ غير اختياريٍّ؛ فإنّ الفعل وإن كان بالإرادة اختياريّاً إلّا أنّ إرادته - حيث لا تكون بإرادة أُخرى، وإلّا لتسلسلت - ليست باختياريّة، - كما لا يخفى - إنّما يصحّ

___________________

أبطل كليّة الكبرى، كما ستعرف.

{قلت}: لا يمكن أن يكون الوجوب تعلّق بذات الواجب {مع} قصد الامتثال معاً على نحو التّركيب؛ لأنّ قصد الامتثال عبارة عن إرادة الفعل النّاشئ عن الأمر، فمعنى تعلّق الوجوب بقصد الامتثال تعلّقه بالإرادة، و{امتناع اعتباره} أي: قصد الامتثال، أي: الإرادة {كذلك} أي: جزءاً ومتعلّقاً للوجوب واضح {فإنّه} أي: كون الإرادة جزءاً {يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري} للمكلّف {فإنّ الفعل} وهو ذات الواجب {وإن كان بالإرادة} أي: بسبب إرادته {اختياريّاً} ولهذا يحسن الأمر بالفعل {إلّا أنّ إرادته} الّتي هي الجزء الآخر للمركّب الواجب حسب الفرض {حيث لا تكون بإرادة أُخرى - وإلّا} فإن كانت بإرادة أُخرى {لتسلسلت - ليست باختياريّة} وعلى هذا فلا يمكن تعلّق الأمر بها، فلا يكون الواجب مركّباً.

وبعبارة أوضح: إنّ الأمر إنّما يتعلّق بما هو اختياري للمكلّف وقصد الامتثال غير اختياريٍّ للمكلّف، فلا يتعلّق به الأمر، أمّا الصّغرى فواضح وأمّا الكبرى؛ فلأنّ القصد عبارة عن الإرادة غير اختياريّة. ويدلّ على كون الإرادة غير اختياريّةأنّ كلّ أمر اختياري مسبوق بإرادة والمسبوق بإرادة اختياريّة يلزم كونها مسبوقاً بإرادة أُخرى وحيث إنّ الإرادة المتقدّمة أيضاً اختياريّة لزم سبقها بإرادة ثالثة إلى غير النّهاية، وذلك مستلزم للتسلسل(1){كما لا يخفى} فتأمّل {إنّما يصحّ} متعلّق

ص: 424


1- في هذا الكلام نظر؛ لأنّ كون الإرادة اختياريّة لا يلازم سبقها بإرادة أُخرى، فإنّ اختياريّة كلّ شيء بالإرادة، واختياريّة الإرادة بنفسها، كما أنّ ضوء كلّ شيء بالنور، وضوء النّور بنفسه، فتأمّل. مع أنّه كما إذا تعلّق التّكليف بالفعل أراده العبد كذلك إذا تعلّق بالإرادة أرادها الشّخص، ولا يلازم التّسلسل أصلاً، بل ينقطع بانقطاع الاعتبار، فتدبّر.

الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الدّاعي، ولا يكاد يمكن الإتيانُ بالمركّب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره.

___________________

بقوله: «مع امتناع» وهذا جواب آخر عن الإشكال، وحاصله منع الكبرى المتقدّمة، بيانه: أنّ ما ذكرتم من جواز الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه لا يصحّ على إطلاقه، بل إنّما يصحّ {الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه} أي: تمام الواجب {بهذا الدّاعي} كأن يأتي بغسل الوجه بداعي وجوبه في ضمن الإتيان بتمام الوضوء بداعي وجوبه، وأمّا إذا لم يمكن الإتيان بجميع أجزاء الواجب بداعي الوجوب أو أمكن ولم يرد المكلّف إلّا الإتيان بالبعض، فلا يصحّ الإتيان بجزء الواجب بداعي الوجوب {و} ما نحن فيه من قبيل الأوّل، إذ {لا يكاد يمكن الإتيان بالمركّب} الّذي تركّب {من قصد الامتثال} ومن ذات الفعل {بداعي امتثال أمره} أي: أمر ذلك المركّب، وإذا لم يمكن الإتيان بالمركّب لم يمكن الإتيان بجزئه الّذيهو أصل الفعل في ضمن الكلّ بداعي وجوبه.

والحاصل: أنّ الإتيان بالصلاة بداعي الأمر لا يمكن؛ لأنّه إمّا أن يؤتى بها مجرّدة عن الجزء الآخر، فيكون كإتيان غسل الوجه فقط بداعي الوجوب وهو باطل قطعاً، وإمّا أن يؤتى بها مع جزئها الآخر بهذا الدّاعي - بأن يقول: (إفعل الصّلاة بداعي الأمر) - بحيث يتعلّق الدّاعي بأصل الصّلاة وداعيها، وهذا أيضاً باطل؛ لأنّ الدّاعي لا يتعلّق بالداعي وإلّا تسلسل.

إن قلت: إذا لم يمكن تعلّق الأمر بأحد الجزأين لا محذور في تعلّقه بالجزء الآخر - أعني: ذات الفعل - .

قلت: الأمر بالكلّ لا يصير داعياً إلى البعض عند عدم كونه داعياً إلى البعض الآخر ولا يصحّ التّفكيك بين الجزأين بأن يكون الفعل تعبّديّاً والجزء الآخر توصّليّاً.

ص: 425

إن قلت: نعم، لكن هذا كلّه إذا كان اعتباره في المأمور به بأمرٍ واحدٍ، وأمّا إذا كان بأمرين - تعلّق أحدهما بذات الفعل، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره - فلا محذور أصلاً، كما لا يخفى، فللآمر أن يتوسّل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده بلا منعة.

قلتُ: - مضافاً إلى القطع بأنّه ليس في العبادات إلّا أمر واحد، كغيرها من الواجبات والمستحبّات، غاية الأمر يدور مدار الامتثال وجوداً وعدماً فيها المثوبات والعقوبات، بخلاف ما عداها،

___________________

{إن قلت(1): نعم} لا يمكن أخذ التّقرّب في المأمور به شرعاً بماقدّمتم من البيان {لكن هذا كلّه إذا كان اعتباره} أي: التّقرّب {في المأمور به بأمر واحد، وأمّا إذا كان} اعتبار القربة {بأمرين: تعلّق أحدهما بذات الفعل} فتحقّق به أصل وجوبه {و} تعلّق {ثانيهما بإتيانه} أي: الفعل {بداعي أمره} الأوّل، فيتحقّق به وجوب إتيانه بقصد القربة {فلا محذور أصلاً} في جعل التّقرّب بمعنى قصد امتثال الأمر معتبراً في المأمور به شرعاً {كما لا يخفى} فيأمر أوّلاً بإتيانها بداعي أمرها الأوّل {فللآمر أن يتوسّل بذلك} أي: بتعدّد الأمر {في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده} الّذي لا يحصل بأصل إتيان الفعل مجرّداً عن قصد القربة، وبهذا يحصل مقصده {بلا منعة} وتبعة.

{قلت: مضافاً إلى القطع بأنّه ليس في العبادات} واجبها ومستحبّها {إلّا أمر واحد كغيرها من الواجبات والمستحبّات} التّوصليّة {غاية الأمر} في الفرق بين التّوصّلي والتّعبّدي أنّه {يدور مدار الامتثال وجوداً وعدماً فيها} أي: في التّعبديّات {المثوبات والعقوبات} فاعل «يدور» فإذا أتى بالفعل بقصد الامتثال كان مثاباً وإذا لم يأت بالفعل بقصد الامتثال كان معاقباً، سواء لم يأت بأصل الفعل أو لم يأت بقصد الامتثال مع إتيانه بأصل الفعل {بخلاف ما عداها} أي: ما عدا العبادات

ص: 426


1- هذا راجع إلى أصل المطلب لا إلى ما تقدّمه من الجواب، كما لا يخفى.

فيدور فيه خصوص المثوبات، وأمّا العقوبة فمترتّبة على ترك الطّاعة ومطلق الموافقة - إنّ الأمر الأوّل:

إن كان يسقط بمجرّد موافقته ولو لميقصد به الامتثال - كما هو قضيّة الأمر الثّاني - فلا يبقى مجال لموافقة الثّاني، مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله، فلا يتوسّل الآمِرُ إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة، وإن لم يكد يسقط

___________________

من التّوصليّات {فيدور فيه} أي: في ما عداها {خصوص المثوبات} فلو أُمِر بكفن الميّت فكفّنه بقصد الامتثال كان مثاباً ولو لم يقصد الامتثال لم يكن مثاباً، مع أنّه في كلا الحالين أتى بالواجب وأمن من تبعة العقاب {وأمّا العقوبة} في الواجب التّوصّلي {فمترتّبة على ترك الطّاعة} بأن لم يكفّن الميّت أصلاً {و} ترك {مطلق الموافقة} فهذا هو الفرق بين التّوصّلي والتّعبّدي، لا أنّ التّعبّدي فيه أمران وفي التّوصّلي أمر واحد.

ولا يخفى أنّ ما ذكره من الفرق في مسئلة العقاب مختصّ بالواجب لا المستحب {إنّ الأمر الأوّل} مفعول «قلت» والمراد بالأمر الأوّل هو المتعلّق بذات العبادة {إن كان يسقط بمجرّد موافقته} بأن أتى بذات الصّلاة {ولو لم يقصد به الامتثال} كسائر التّوصليّات {كما هو قضيّة الأمر الثّاني} أي: مقتضى الأمر الثّاني سقوطه إذا أتى به بقصد الامتثال لا بمجرّد موافقته، وعلى هذا {فلا يبقى مجال لموافقة} الأمر {الثّاني مع موافقة} الأمر {الأوّل بدون قصد امتثاله} أي: بدون قصد امتثال الأمر الأوّل، ووجه عدم بقاء مجال الموافقة عدم بقاء الموضوع بعد إتيانه {فلا يتوسّل} المولى {الآمر إلى غرضه} الّذي هو الإتيان بالفعل بداعي القربة {بهذه الحيلة والوسيلة} أعني: تعدّد الأمر.والحاصل: أنّه إذا أتى العبد بمتعلّق الأمر الأوّل بدون قصد القربة، فإن سقط غرض المولى فلا مجال للأمر الثّاني وكان لغواً {وإن لم يكد يسقط} الأمر الأوّل

ص: 427

بذلك، فلا يكاد يكون له وجهٌ إلّا عدمُ حصول غرضه بذلك من أمره، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله،

وإلّا لما كان موجباً لحدوثه، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدّد الأمر؛ لاستقلال العقل - مع عدم حصول غرض الآمر بمجرّد موافقة الأمر - بوجوب الموافقة على نحوٍ يحصل به غرضه، فيسقط أمره.

___________________

{بذلك} أي: بمجرّد موافقته {فلا يكاد يكون له} أي: لعدم السّقوط {وجه إلّا عدم حصول غرضه} الباعث للأمر {بذلك} أي: بمجرّد الموافقة {من أمره} ثمّ علّل عدم سقوط الأمر في صورة عدم حصول الغرض بقوله: {لاستحالة سقوطه} أي: الأمر الأوّل {مع عدم حصوله} أي: عدم حصول الغرض من مجرّد موافقته {وإلّا} فلو سقط الأمر مع عدم حصول الغرض {لما كان} الغرض {موجباً لحدوثه} أي: حدوث الأمر، إذ الأمر إنّما ينشأ من المصلحة الملزمة فلو كانت باقية لا يعقل عدم الأمر، فعدم الأمر مع بقاء المصلحة كاشف عن ضعف المصلحة وأنّها ليست بحيث يوجب الأمر.

{وعليه} أي: على التّقدير الثّاني - وهو عدم سقوط الأمر الأوّل بمجرّد موافقته لعدم حصول غرضه - {فلا حاجة} للمولى {في الوصول إلى غرضه} الّذي هو الإتيان بداعي القربة {إلى وسيلة تعدّد الأمر} وإنّما لا يحتاج إلى تعدّد الأمر {لاستقلال العقلمع عدم حصول غرض} المولى {الآمر بمجرّد موافقة الأمر} الأوّل {بوجوب} متعلّق بالاستقلال، أي: إنّ العقل يستقلّ حينئذٍ بوجوب {الموافقة} والإتيان بالواجب {على نحو يحصل به} أي: بذلك الإتيان - المفهوم من الموافقة - {غرضه} وإذا أتى العبد بهذا النّحو للفعل {فيسقط أمره} لحصول غرضه ولا يبقى مجال للأمر الثّاني.

قال السّيّد الحكيم معلِّقاً على قوله: «وإن لم يكد» ما لفظه: «يعني إذا كان الأمر

ص: 428

هذا كلّه إذا كان التّقرّب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال.

وأمّا إذا كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه، أو كونه ذا مصلحةٍ، أو له - تعالى - فاعتباره في متعلّق الأمر وإن كان بمكانٍ من الإمكان، إلّا أنّه غير معتبر فيه قطعاً، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال،

___________________

لا يسقط بمجرّد موافقته، فلا بدّ أن يكون بقاؤه لأجل عدم حصول الغرض، وحينئذٍ لا حاجة إلى الأمر الثّاني، لكفاية حكم العقل بوجوب تحصيل الغرض ولو بالإتيان بالمأمور به بداعي أمره.

أقول: هذا يتمّ مع العلم بعدم حصول الغرض، وكذا مع الشّكّ لو قيل بحكم العقل بالاحتياط، أمّا لو قيل بحكمه بالبرائة في المقام - كما سيأتي - فلا مانع من الأمر الثّاني مولويّاً ليكون رافعاً لحكم العقل، كما في سائر موارده»(1)، انتهى.

{هذا} الكلام {كلّه} من أوّل قوله: «ثانيتها» إلى هنا كان في بيان عدمإمكان أخذ التّقرّب في العبادة شرعاً في ما {إذا كان التّقرّب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال} - كما سبق - .

{وأمّا إذا كان} التّقرّب المعتبر في العبادة {بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه} كأن يقول: (أصوم) لكونه حسناً {أو كونه ذا مصلحة أو له - تعالى -} كما تقدّم في أوّل البحث من تفسير القربة بها {فاعتباره} أي: التّقرّب بهذا المعنى {في متعلّق الأمر} وموضوعه {وإن كان بمكانٍ من الإمكان} لعدم لزوم الإشكالين المتقدّمين - أعني: الدّور وعدم قدرة المكلّف - {إلّا أنّه غير معتبر فيه قطعاً} لأنّ كلّ واحد من الأُمور المذكورة إمّا يعتبر تعييناً أو يعتبر تخييراً بينه وبين قصد الامتثال، والأوّل باطل قطعاً {لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال} في مقام العمل بلا خلاف، والثّاني باطل أيضا؛ لأنّ قصد الامتثال كما لا يمكن أخذه تعييناً لا يمكن

ص: 429


1- حقائق الأصول 1: 172.

الّذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه بديهة.

تأمّل في ما ذكرنا في المقام، تعرف حقيقة المرام، كيلا تقع في ما وقع فيه من الاشتباه بعضُ الأعلام.

ثالثتها: أنّه إذا عرفت - بما لا مزيد عليه - عدمَ إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلاً، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه - ولو كان مسوقاً في مقام البيان - على عدم اعتباره، كما هو أوضح من أن يخفى، فلا يكاد يصحّ التّمسّك به إلّا في ما يمكن اعتباره فيه.

___________________

أخذه تخييراً، فأخذه بأيّ وجه كان موجب لعود المحذور {الّذي عرفت}من الدّور وعدم قدرة المكلّف الموجبين ل {عدم إمكان أخذه فيه} أي: في متعلّق التّكليف {بديهة} كما تقدّم {تأمّل في ما ذكرناه في المقام تعرف حقيقة المرام} وكيفيّة النّقض والإبرام {كيلا تقع في ما وقع فيه من الاشتباه} بيان «ما» {بعضُ الأعلام}.

هذا كلّه في بيان إمكان أخذ التّقرّب في متعلّق التّكليف شرعاً وعدمه، وحيث ثبت عدم إمكانه في مقام الثّبوت، لا مجال للبحث عنه في مقام الإثبات، إذ مقام الإثبات فرع الثّبوت، كما هو بديهيّ. هذا تمام الكلام في المقدّمة الثّانية.

{ثالثتها} في عدم جواز التّمسّك بإطلاق الصّيغة لإثبات التّوصليّة {أنّه إذا عرفت بما لا مزيد عليه عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلاً} وكذا سائر القصود الّتي فسّرنا التّقرّب بها {فلا مجال للاستدلال بإطلاقه} أي: إطلاق المأمور به {ولو كان مسوقاً في مقام البيان} وتمّت مقدّمات الحكمة {على عدم اعتباره} متعلّق باستدلال {كما هو أوضح من أن يخفى}.

وسرّه أنّ الإطلاق والتّقييد من باب العدم والملكة، وهما - كما قرّر في موضعه - يحتاجان إلى الموضوع القابل، ومتعلّق التّكليف حيث لم يكن قابلاً للإطلاق {فلا يكاد يصحّ التّمسّك به} أي: بإطلاق دليل المأمور به {إلّا في ما} أي: جزء أو شرط {يمكن اعتباره فيه} أي: في المأمور به.

ص: 430

فانقدح بذلك: أنّه لا وجه لاستظهار التّوصّليّة من إطلاق الصّيغة بمادّتها، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه - ممّا هوناشٍ من قِبَل الأمر - من إطلاق المادّة في العبادة

___________________

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من عدم جواز التّمسّك بالإطلاق {أنّه لا وجه لاستظهار التّوصليّة من إطلاق الصّيغة بمادّتها} وإنّما قال: «بمادّتها» لأنّ المادّة هي متعلّق التّكليف.

بيانه: أنّ التّكليف قد يستفاد من الجملة الخبريّة نحو (يجب عليك الصّلاة) ونحوها، وقد عرفت أنّ المكلّف به هي (الصّلاة) الّتي قد يطلق عليها الموضوع، وقد يطلق عليها متعلّق التّكليف(1).

وقد يستفاد التّكليف من صيغة الأمر ونحوها كقوله: (صلِّ)، فالوجوب أو الحرمة المستفادان من الهيئة حكم، والمادّة الّتي تعلّق بها الهيئة وطولبت من العبد، كالصلاة في المثال موضوع ومتعلّق للتكليف.

ثمّ إنّ الإطلاق والتّقييد قد يكونان بالنسبة إلى الهيئة فإنّ (صلّ) مطلق و(حجّ إن استطعت) مقيّد، إذ الوجوب في الأوّل لم يقيّد بالاستطاعة وفي الثّاني قيّد بها.

وقد يكونان بالنسبة إلى المادّة، فنحو (صلّ الظّهر مع الطّهارة) مقيّد، و(صلّ للميّت) مطلق، إذ المادّة - أعني: الصّلاة في الأوّل - مقيّدة بالطهارة، فالصلاة مع الطّهارة واجبة، وفي الثّاني مطلق من حيث الطّهارة.

{و} كما لا وجه لاستظهار التّوصليّة من إطلاق المادّة كذا {لا} وجه {لاستظهار عدم اعتبار مثل} قصد {الوجه} أعني:قصد الوجوب والنّدب وغيره {ممّا هو ناشٍ من قِبَل الأمر} أي: بعده رتبة {من إطلاق المادّة في العبادة} المعلوم

ص: 431


1- لا يذهب عليك أنّه قد يفرّق بين الموضوع والمتعلّق بأنّ الموضوع هو الذي أخذ مفروض الوجود في متعلّق الحكم كالعاقل البالغ، والمتعلّق هو ما يطالب العبد به من الفعل أو الترك كالصلاة والزنا.

لو شكّ في اعتباره فيها.

نعم،

___________________

كونها عبادة من الخارج {لو شكّ في اعتباره} أي: اعتبار مثل الوجه {فيها} أي: في العبادات.

والحاصل: أنّ كُلَّ ما كان مترتّباً على الأمر ومنتزعاً منه لا يعقل أن يؤخذ إثباتاً أو نفياً في الموضوع، للزوم الدّور المتقدّم. مثلاً: قصد الوجوب لو اعتبر في موضوع الحكم لزم الدّور؛ لأنّ هذا القصد متوقّف على الحكم؛ لأنّه ناشٍ منه، والحكم متوقّف عليه؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه.

{نعم} يمكن التّمسّك لعدم اعتبار قصد الوجه والامتثال في المأمور به بوجهٍ آخر قرّره العلّامة الكاظمي(قدس سره) بما لفظه:

«نعم، لو كان للأمر إطلاق أمكن تعيين المأمور به من نفس الإطلاق حسب ما يقتضيه مقدّمات الحكمة، والمفروض أنّه ليس للأمر إطلاق بالنسبة إلى قصد الامتثال، لامتناع التّقييد به الملازم لامتناع الإطلاق - كما تقدّم - فالأمر من هذه الجهة يكون مهملاً لا إطلاق فيه ولا تقييد، كما كان بالنسبة إلى العلم والجهل مهملاً لا إطلاق فيه ولا تقييد. هذا بحسب عالم الجعل والتّشريع، وأمّا بحسب الثّبوت والواقع، فلا بدّ إمّا من نتيجة الإطلاق، وإمّا من نتيجة التّقييد، والسّرّ في ذلك هو أنّه في الواقع وفي عالم الثّبوت إمّا أن يكون ملاك الحكم والجعل محفوظاً في كلتا حالتي العلم والجهل وكلتا حالتي قصد الامتثال وعدمه، وإمّا أن يكون مختصّاً في أحد الحالين، فالأوّل يكون نتيجة الإطلاق، والثّاني يكون نتيجة التّقييد. وليس مرادنا من الإهمال هو الإهمال بحسب الملاك، فإنّ ذلكغير معقول، بل المراد الإهمال في مقام الجعل والتّشريع حيث لا يمكن فيه الإطلاق والتّقييد - كماتقدّم - .

ص: 432

___________________

إذا عرفت ذلك كلّه، فيقع الكلام في كيفيّة اعتبار قصد الامتثال على وجه نتيجة التّقييد من دون أن يستلزم فيه محذوراً، وكيفيّة استكشاف نتيجة الإطلاق وعدم اختيار قصد الامتثال، فنقول: أمّا طريق استكشاف نتيجة الإطلاق فليس هو على حذو طريق استكشاف الإطلاق في سائر المقامات بالنسبة إلى الانقسامات السّابقة على الحكم، فإنّ استكشاف الإطلاق في تلك المقامات إنّما هو لمكان السّكوت في مقام البيان بعد ورود الحكم على المقسم، كقوله: (أعتق رقبة) الّتي تكون مقسماً للإيمان وغيره، فحيث ورد الحكم على نفس المقسم وسكت عن بيان خصوص أحد القسمين - مع أنّه كان في مقام البيان - فلا بدّ أن يكون مراده نفس المقسم من دون اعتبار خصوص أحد القسمين، وهو معنى الإطلاق.

ولكن هذا البيان في المقام لا يجري، إذ الحكم لم يرد على المقسم؛ لأنّ انقسام الصّلاة إلى ما يقصد بها امتثال الأمر وما لا يقصد بها ذلك إنّما يكون بعد الأمر بها، فليست الصّلاة مع قطع النّظر عن الأمر مقسماً لهذين القسمين حتّى يكون السّكوت وعدم التّعرّض لأحد القسمين دليلاً على الإطلاق.

نعم، سكوته عن اعتبار قصد الامتثال في مرتبة تحقّق الانقسام يستكشف منه نتيجة الإطلاق.

وبعبارة أُخرى: عدم ذكر متمّم الجعل - على ما سيأتي بيانه - في المرتبة القابلة لجعل المتمّم يكون دليلاً على نتيجة الإطلاق، والفرق بين استكشاف نتيجة الإطلاق في المقام واستكشاف الإطلاق في سائر المقامات هو أنّ من عدم ذكر القيد في سائر المقامات يستكشف أنّ مراده من الأمر هو الإطلاق، وهذابخلاف المقام، فإنّ من عدم ذكر متمّم الجعل لا يستكشف أنّ مراده من الأمر هو الإطلاق، لما عرفت من أنّه لا يمكن أن يكون مراده من الأمر الإطلاق، بل من

ص: 433

___________________

عدم ذكر متمّم الجعل يستكشف أنّه ليس له مراد آخر سوى ما تعلّق به الأمر.

وبعبارة أُخرى: من عدم ذكر متمّم الجعل في مرتبة وصول النّوبة إليه يستكشف أنّ الملاك لا يختصّ بصورة قصد الامتثال، بل يعمّ الحالين، فيحصل نتيجة الإطلاق»(1).

إلى أن قال: «وحينئذٍ يبقى الكلام في كيفيّة تعلّق الجعل والأمر المولوي باعتبار قصد الامتثال على وجه يسلم عن كلّ محذور.

والتّحقيق في المقام: أنّه ينحصر كيفيّة الاعتبار بمتمّم الجعل ولا علاج له سوى ذلك، فلا بدّ للمولى الّذي لا يحصل غرضه إلّا بقصد الامتثال من تعدّد الأمر، بعد ما لا يمكن أن يستوفي غرضه بأمر واحد، فيحتال في الوصول إلى غرضه، وليس هذان الأمران عن ملاك يخصّ بكلّ واحد منهما حتّى يكون من قبيل الواجب في واجب، بل هناك ملاك واحد لا يمكن أن يستوفي بأمر واحد.

ومن هنا اصطلحنا عليه بمتمّم الجعل، فإنّ معناه هو تتميم الجعل الأُولى الّذي لم يستوف تمام غرض المولى فليس للأمرين إلّا امتثال واحد وعقاب واحد...»(2).

إلى أن قال: «ثمّ إنّ متمّم الجعل تارة ينتج نتيجة الإطلاق وأُخرى ينتج نتيجةالتّقييد، فالأوّل كمسألة اشتراك الأحكام بالنسبة إلى العالم والجاهل، حيث حكي تواتر الأخبار على الاشتراك، والثّاني، كمسألة قصد الامتثال في موارد اعتباره»(3)،

انتهى كلامه رفع مقامه. وإنّما نقلناه بطوله لكثرة فوائده.

ص: 434


1- فوائد الأصول 1: 158 - 160.
2- فوائد الأصول 1: 161 - 162.
3- فوائد الأصول 1: 162.

إذا كان الآمِرُ في مقامٍ بصدد بيان تمام ما له دَخْلٌ في حصول غرضه، وإن لم يكن له دَخْلٌ في متعلّق أمره، ومعه سكت في المقام، ولم ينصب دلالةً على دَخْلِ قصد الامتثال في حصوله، كان هذا قرينةً على عدم دخله في غرضه، وإلّا لكان سكوته نقضاً له وخلافَ الحكمة.

فلا بدّ عند الشّكّ وعدم إحراز هذا المقام من الرّجوع إلى ما يقتضيه الأصل، ويستقلّ به العقل.

فاعلم: أنّه لا مجال هاهنا إلّا لأصالة الاشتغال

___________________

فإذا عرفت ذلك، فلنرجع إلى شرح المتن، فنقول: {إذا كان الآمر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه} من الأمر {وإن لم يكن له} أي: لما له دخل في الغرض {دخل في متعلّق أمره} كقصد الامتثال في المثال، فإنّه دخيل في الغرض لا في المتعلّق {ومعه} أي: مع كونه في مقام البيان {سكت في المقام ولم ينصب دلالة على دخل قصد} الوجه و{الامتثال في حصوله} أي: حصول الغرض {كان هذا} السّكوت وعدم نصب الدّلالة {قرينة على عدم دخله في غرضه} من الأمر {وإلّا} فلو كان لذلك القصد مدخلاً فيحصول غرض المولى {لكان سكوته} في مقام البيان {نقضاً له وخلاف الحكمة} ونقض الغرض قبيح.

هذا كلّه إذا أحرز أنّ المولى في مقام البيان وإلّا {فلا بدّ عند الشّكّ وعدم إحراز هذا المقام من الرّجوع إلى ما يقتضيه الأصل} العملي {ويستقلّ به العقل} فنشرع حينئذٍ في الموضوع الثّالث والرّابع اللّذين أشرنا إليهما في أوّل المبحث، - أعني: ما يقتضيه الأصل بالنسبة إلى الصّيغة وغيرها في ما إذا لم يكن المولى في مقام البيان أو شكّ كونه في مقام البيان أم لا - {فاعلم أنّه لا مجال هاهنا} في ما لم يعلم كون الأمر بصدد البيان {إلّا لأصالة الاشتغال} فيلزم أن يؤتى بما يحتمل دخله في حصول الغرض.

ص: 435

- ولو قيل بأصالة البراءة في ما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين - : وذلك لأنّ الشّكّ هاهنا في الخروج عن عهدة التّكليف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فلا يكون العقابُ - مع الشّكّ وعدم إحراز الخروج - عقاباً بلا بيان، والمؤاخذة عليه بلا برهان؛

___________________

{ولو} كان الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر، و{قيل بأصالة البراءة في ما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين} فالكلام حينئذٍ يقع في وجه عدم كون هذه المسألة من صغريات مسئلة الأقلّ والأكثر، مع أنّه بحسب الظّاهر كذلك، إذ أجزاء العبادة غير قصد الوجه - مثلاً - متيقّن، وقصد الوجه مشكوك، فيلزم جريان البراءة عنه {و} بيان {ذلك} يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، وهي أنّ الشّكّ على قسمين:

الأوّل: الشّكّ في نفس التّكليف، كأن يتردّد أمر الصّلاة بين كونها مع السّورة أو بدونها.الثّاني: الشّكّ في الامتثال، كأن يعلم بوجوب الصّلاة وخصوصيّاتها ثمّ يشكّ في أنّه هل امتثلها أم لا.

والأوّل مجرى البراءة؛ لأنّ الشّكّ في الحقيقة راجع إلى الشّكّ في وجوب الجزء أو الشّرط المشكوك، كالسورة في المثال المتقدّم.

والثّاني مجرى الاحتياط؛ لأنّ التّكليف معلوم وإنّما الشّكّ في سقوطه، ومقامنا من القسم الثّاني {لأنّ الشّكّ هاهنا في الخروج عن عهدة التّكليف المعلوم مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها} وليس الشّكّ في أصل ثبوت التّكليف؛ لأنّه يعلم بأنّه مكلّف بالصلاة - مثلاً - ولا يدري أنّه لو صلّى بغير قصد الوجه خرج عن عهدة التّكليف أم لا؟! إذ الاشتغال اليقيني يحتاج إلى البراءة اليقينيّة {فلا يكون العقاب مع الشّك} في حصول الامتثال {وعدم إحراز الخروج} عن عهدة التّكليف {عقاباً بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان} حتّى يكون مورداً لأدلّة البراءة

ص: 436

ضرورة أنّه بالعلم بالتكليف تصحّ المؤاخذة على المخالفة، وعدم الخروج عن العهدة، لو اتّفق عدم الخروج عنها بمجرّد الموافقة بلا قصد القربة.

وهكذا الحال في كلّ ما شكّ دَخْلُهُ في الطّاعة والخروج به عن العُهْدَة، ممّا لا يمكن اعتباره في المأمور به، كالوجه والتّمييز.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ كلّما يحتمل بدواً دخله في امتثال أمرٍ، وكان ممّا يغفل عنه غالباً العامّةُ، كان على الآمر بيانه ونصب قرينةٍ على دَخْلِهِ واقعاً، وإلّا لأخلّ بما هو همّه وغرضه، أمّا إذا لم يَنْصِبْدلالةً على دخله كَشَفَ عن عدم دخله.

___________________

{ضرورة أنّه بالعلم بالتكليف تصحّ المؤاخذة على المخالفة و} على {عدم الخروج عن العهدة لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرّد الموافقة} لأصل التّكليف {بلا قصد القربة} بأيّ معنىً فسّر.

{وهكذا الحال في كلّ ما} أي: كلّ شرط أو جزء {شكّ دخله في الطّاعة} ومقام الامتثال {والخروج به عن العهدة} فيجب الاحتياط فيه بإتيانه إذا كان {ممّا لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه والتّمييز} ممّا هو ناشٍ عن مقام الأمر، فلا يمكن أخذه في متعلّقه.

{نعم} لنا منع إطلاق لزوم الإتيان بالمشكوك ولو كان الشّكّ في مقام الامتثال، إذ {يمكن} التّفصيل في المقام ب {أن يقال: إنّ كلّما يحتمل بدواً دخله في امتثال أمر} بحيث لم يكن مقروناً بالعلم الإجمالي {وكان} ذلك المشكوك {ممّا يغفل عنه غالباً العامّةُ} فاعل «يغفل» {كان على} المولى {الآمر بيانه ونصب قرينة على دخله} في حصول الغرض {واقعاً} ومقام الثّبوت وإن كان لم يمكن بيانه في مقام التّشريع ومتعلّق التّكليف {وإلّا} فلو كان دخيلاً ولم يبيّن المولى في فرض غفلة العامّة {لأخلّ بما هو همّه وغرضه} والإخلال بالغرض قبيح، كما تقدّم {وأمّا إذا لم ينصب دلالة على دخله كشف} عدم النّصب {عن عدم دخله} في

ص: 437

وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتّمييز في الطّاعة بالعبادة، حيث ليسمنهما عينٌ ولا أثر في الأخبار والآثار، وكانا ممّا تغفل عنه العامّة، وإن احتمل اعتبارَه بعضُ الخاصّة(1)،

فتدبّر جيّداً.

ثمّ

___________________

الغرض واقعاً كشفاً إنيّاً، وهذا هو الإطلاق المقامي المشتهر في ألسنة الأصوليّين، وقد تقدّم توضيحه في كلام الكاظمي(رحمة الله).

{وبذلك} الّذي ذكرناه من كشف عدم البيان عن عدم الدّخل {يمكن القطع بعدم دخل} قصد {الوجه والتّمييز} ونحوهما {في الطّاعة بالعبادة} كما أنّه لا دخل لهما في الطّاعة بالتوصّلي. وفي بعض النّسخ: «في الإطاعه بالعبادة» وإنّما نقول بعدم دخلها {حيث ليس منهما عين ولا أثر في الأخبار والآثار} الواردة عن الأئمّة الأطهار {وكانا ممّا يغفل عنه العامّة} ضمير «عنه» راجع إلى «ما» وإن كان مصداقه المثنّى، إذ يجوز في ضمير «من» و«ما» مراعاة اللّفظ والمعنى - كما لا يخفى - {وإن احتمل اعتباره} الضّمير أيضاً راجع إلى «ما» {بعض الخاصّة} من المتكلّمين وغيرهم.

هذا كلّه في ما يغفل عنه العامّة وأمّا ما ليس تغفل عنه فلا مجال لإطلاق المقام، لاحتمال إحالة الشّارع ذلك بما هو مركوز في الأذهان {فتدبّر جيّداً} حتّى تعرف ما تغفل عنه عمّا لا تغفل عنه.

{ثمّ} لا يذهب عليك أنّ المصنّف(رحمة الله) اختار في باب الأقلّ والأكثر الاحتياط عقلاً والبراءة شرعاً، قال:

«الثّاني: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، والحقّ أنّ العلمبثبوت التّكليف بينهما أيضاً يوجب الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر»(2).

ص: 438


1- مفتاح الكرامة 2: 314؛ جواهر الكلام 9: 160163.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 4: 368.

إنّه لا أظنّك أن تتوهّم وتقول: «إنّ أدلّة البراءة الشّرعيّة مقتضية لعدم الاعتبار، وإن كان قضيّة الاشتغال عقلاً هو الاعتبار» لوضوح أنّه لا بدّ في عمومها

___________________

ثمّ شرع في الاستدلال إلى أن قال: «وأمّا النّقل فالظّاهر أنّ عموم مثل حديث الرّفع قاضٍ برفع جزئيّة ما شكّ في جزئيّته» إلى أن قال: «إنّه ظهر ممّا مرّ حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه»(1)،

انتهى.

وحيث كان المقام محلّ توهّم جريان البراءة الشّرعيّة، كما اختاره هناك دفعه بقوله: {إنّه لا أظنّك أن تتوهّم وتقول إنّ أدلّة البراءة الشّرعيّة} ك «رفع ما لا يعلمون»(2)،

و«النّاس في سعة ما لا يعلمون»(3)، و«ما حجب اللّه عن العباد فهو موضوع عنهم»(4)، وغيرها {مقتضية لعدم الاعتبار} للمشكوك فلا يلزم الإتيان به {وإن كان قضيّة الاشتغال} أي: مقتضى قاعدة الاشتغال {عقلاً} كما تقدّم مِن أنّه شكّ في سقوط التّكليف {هو الاعتبار} للأمر المشكوك، فلا يجب الإتيان به لكفاية أدلّة البراءة في الإِعذار، وقاعدة الاشتغال العقلي غير منجّز حينئذٍ {لوضوح} تعليل لقوله: «لا أظنّك» وبيان وجه عدم جريان البراءة الشّرعيّة هو {أنّه لا بدّ في عمومها}أي: شمول البراءة الشّرعيّة للمقام من ثلاثة أُمور:

الأوّل: كون الشّيء مجهولاً.

الثّاني: كونه قابلاً للوضع والرّفع.

الثّالث: كون رفعه امتناناً وبانتفاء كلّ واحد من الأُمور المذكورة تنتفي البراءة الشّرعيّة، وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى الأمر الثّاني لكونه محلّ الكلام فقال: لا بدّ في

ص: 439


1- الوصول إلى كفاية الأصول 4: 386.
2- الخصال 2: 417؛ التّوحيد: 353.
3- جامع أحاديث الشيعة 30: 546، وفيه: «إن الناس في سعة ما لم يعلموا».
4- الكافي 1: 164.

من شَيْءٍ قابلٍ للرّفع والوضع شرعاً، وليس هاهنا؛ فإن دَخْلَ قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعيّ، بل واقعيٌّ.

ودَخْلُ الجزء والشّرط فيه وإن كان كذلك، إلّا أنّهما قابلان للوضع والرّفع شرعاً،

___________________

عمومها {من شيءٍ قابل للرّفع والوضع شرعاً} بأن كان رفعه ووضعه بيد الشّارع بما هو شارع {وليس هاهنا} في مقامنا كذلك {فإنّ} المشكوك هو التّقرّب، ومعلوم أنّ {دخل قصد القربة ونحوها} من الوجه والتّمييز {في} حصول {الغرض ليس بشرعيّ} يتبع الجعل الشّرعي {بل} هو {واقعيّ}.

والحاصل: أنّ قصد القربة إمّا أن يكون دخيلاً في المأمور به، وإمّا أن يكون دخيلاً في الغرض:

أمّا الأوّل: فقد عرفت أنّه غير معقول.

وأمّا الثّاني: فإنّه - وإن كان ممكناً - إلّا أنّ البراءة الشّرعيّة غير شاملة له، إذ الدّخول حينئذٍ من قبيل دخل العلّة في المعلول فهو داخل واقعيّ ليس بيد الشّارع، وقد تقدّم اشتراط جريان البراءة بكون وضعه ورفعه بيد الشّارع.

{و} إن قلت: إذا كان {دخل} شيء في شيء واقعيّاً موجباً لعدم جريان أدلّةالبراءة فيه فكيف تجرون البراءة في {الجزء والشّرط} المشكوكين مع أنّ دخلهما {فيه} أي: في الغرض واقعيّ، كما هو مبنى المصنّف(رحمة الله)؟

قلت: {وإن كان} دخلهما في الغرض {كذلك} واقعيّ لا شرعيّ {إلّا أنّهما قابلان للوضع والرّفع شرعاً} تبعاً لمنشأ انتزاعهما، أي: إذا شمل حديث الرّفع - مثلاً - للجزء أو الشّرط المشكوك فرفعه كشف ذلك الرّفع كشفاً إنّيّاً عن عدم دخالة ذلك المشكوك في الغرض.

إن قلت: فليكن مقامنا كذلك، فشمول أدلّة الرّفع لقصد التّقرّب كاشف عن عدم دخله في الغرض إنّاً.

ص: 440

فبدليل الرّفع - ولو كان أصلاً - يُكشف أنّه ليس هناك أمر فعليّ بما يعتبر فيه المشكوك، يجب الخروج عن عهدته عقلاً، بخلاف المقام، فإنّه علم بثبوت الأمر الفعليّ، كما عرفت، فافهم.

___________________

قلت: قد تقدّم أنّه ليس جعل قصد القربة دخيلاً في المأمور به بيد الشّارع حتّى يكون رفعه بيده فيشمله أدلّة الرّفع، بخلاف الجزء والشّرط لأنّهما كانا بيد الشّارع.

{فبدليل الرّفع ولو كان أصلاً} عمليّاً {يكشف أنّه ليس هناك أمر فعليّ بما} أي: بكلّ {يعتبر فيه المشكوك} بحيث لو أتى بغير المشكوك لم يكن مُجْزِياً ومعذّراً حتّى {يجب الخروج عن عهدته} أي: عهدة ذلك الأمر بالكلّ {عقلاً} وذلك {بخلاف المقام} ممّا شكّ في ما لا يمكن أخذه في متعلّق التّكليف {فإنّه علم بثبوت الأمر الفعلي} ولا يمكنه الخروج عن عهدته يقيناً إلّا بإتيان المشكوك - أعني: قصد الامتثال - {كماعرفت} الفرق بينهما سابقاً {فافهم} يحتمل أن يكون إشارة إلى أنّ الفرق في أدلّة البراءة بين الشّرعيّة والعقليّة في الجزء والشّرط لا وجه له أصلاً.

قال السّيّد الخوئيّ - دام بقاه - في تعليقته على التّقريرات ما لفظه: «ولكن التّحقيق عدم صحّة التّفرقة المزبورة، فإنّا إذا بنينا على عدم جريان البراءة العقليّة في مسألة الأقلّ والأكثر من جهة حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض، فلا يبقى مجال للرّجوع إلى البراءة الشّرعيّة فيها بعد فرض أنّه لا يثبت بها ترتّب الغرض على الأقل، كما أنّه إذا بنينا على جريان البراءة العقليّة في تلك المسألة، كما هو الصّحيح من جهة أنّه لا يلزم من تحصيل الغرض بحكم العقل إلّا المقدار الواصل إلى المكلّف وما تصدّى المولى لبيانه، فالعقاب على ترك ما يحتمل دخله في غرض المولى واقعاً مع عدم قيام الحجّة عليه لا يكون محتملاً من جهة استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، فلا بدّ من القول بالبراءة في المقام أيضاً».

ثمّ أشكل على نفسه بأنّ المولى لا يتمكّن من البيان في المقام، فلا تجري البراءة.

ص: 441

المبحث السّادس: قضيّة إطلاق الصّيغة كون الوجوب نفسيّاً، تَعْيِيْنيّاً، عينيّاً؛ لكون كلّ واحد ممّا يقابلها يكون فيه تقيّد الوجوب وتضيّق دائرته.

___________________

وأجاب بأنّ المفروض عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر، وأمّا بيان دخل قصد القربة في الغرض فهو ممكن(1)،

انتهى.

[المبحث السّادس:] مقتضى إطلاق الصّيغة

{المبحث السّادس} في ما يستفاد من إطلاق الصّيغة {قضيّة إطلاق الصّيغة} وسعة الطّلب الإنشائي من غير تقييد بالجواز بوجهأصلاً، وليس المراد من الإطلاق الإطلاق المفهومي، بمعنى الشّمول للأفراد في مقابلة التّقييد كإطلاق العالم الشّامل للعادل وغيره مقابل تقييده بالعادل.

والحاصل: أنّ مقتضى عدم ثبوت الوجوب بالجواز {كون الوجوب نفسيّاً} لا غيريّاً {تعيينيّاً} لا تخييريّاً {عينيّاً} لا كفائيّاً {لكون كلّ واحد ممّا يقابلها يكون فيه تقيّد الوجوب وتضيّق دائرته}.

فإنّ الواجب النّفسي: هو الّذي يجب لنفسه لا مقدّمةً لغيره، كالصّلاة الواجبة بنفسها.

والواجب الغيري: هو الّذي يجب لغيره مقدّمةً له لا لنفسه، كالطّهارة بالنّسبة إلى الصّلاة.

والواجب التّعييني: هو الّذي يجب معيّناً ولا بدّ من الإتيان لشخصه لا به أو بدله، كصوم شهر رمضان.

والواجب التّخييري: هو الّذي يجب هو أو بدله، فيلزم على المكلّف الإتيان بأحدهما نحو: كفّارة الإفطار في شهر رمضان المخيّرة بين العتق والصّيام والإطعام.

ص: 442


1- أجود التّقريرات 1: 118.

فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينةً عليه، فالحكمة تقتضي كونَه مطلقاً، وجب هناك شَيْءٌ آخر أو لا، أتى بشيءٍ آخر أو لا، أتى به آخَرُ أو لا،

___________________

والواجب العيني: هو الّذي يجب على شخص المكلّف فيلزم عليه الإتيان به بنفسه، ولا يكون بحيث إن أتى به شخص آخر سقط عن المكلّف وذلك، كالصلاة اليوميّة.

والواجب الكفائي: هو الّذي لا يجب على شخص المكلّف فقط، بل يجبعلى المكلّفين على سبيل البدل، فإن أتى به شخص آخر سقط عن هذا المكلّف، كصلاة الميّت.

ومن الواضح أنّ كلّ واحد من الثّلاثة الأُخر أضيق دائرة من الثّلاثة الأُوَل، فإنّ الواجب الغيري مقيّد بوجوب الغير - أعني: ذا المقدّمة - والواجب التّخييري مقيّد بعدم الإتيان ببدله الآخر، والواجب الكفائي مقيّد بعدم إتيان شخص آخر بالواجب - كما لا يخفى - .

{فإذا كان} المولى {في مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه} أي: على تقيّد الوجوب بالغيريّة والتّخييريّة والكفائيّة {فالحكمة تقتضي كونه} أو الوجوب {مطلقاً} أي: إنّ هذا المدلول للصّيغة واجب بعينه على هذا المكلّف المخاطب من غير فرق بين أن يكون {وجب هناك شيء آخر} حتّى يكون مدلول الصّيغة مقدّمة له {أو لا} ولا بين أن يكون {أتى} المكلّف {بشيء آخر} حتّى يكون المدلول معيّناً عليه {أو لا} ولا بين أن يكون {أتى به} أي: بالواجب شخص {آخر} حتّى يكون عينيّاً {أو لا} بل ادّعى بعض المحشّين عدم الحاجة إلى مقدّمات الحكمة بعد تعارف التّعبير عن الواجب المطلق عرفاً بالصيغة المجرّدة عن القيود، فكأنّها عبارة عنها وضعاً بلا مؤونة.

ولا يذهب عليك أنّ هذا النّحو من الإطلاق أيضاً تكون في الاستحباب، فظاهر

ص: 443

كما هو واضح لا يخفى.

المبحث السّابع: أنّه اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب - وضعاً أو إطلاقاً - في ما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهّمه

___________________

الأمر المندوب كونه نفسيّاً عينيّاً تعيينيّاً {كما هو واضح لا يخفى} بل يمكن تصويره في النّهي أيضاً تحريماً وتنزيهاً. نعم، إذا لم يكن هناك إطلاق فالمرجع الأصل العملي وهو يختلف بحسب الموارد، فتدبّر جيّداً.

[المبحث السّابع:] الأمر عقيب الحظر

{المبحث السّابع} في الأمر الواقع عقيب الحظر. اعلم {أنّه} قد {اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب وضعاً} يعني أنّها موضوعة للوجوب {أو إطلاقاً} يعني أنّ الصّيغة منصرفة إليه - كما تقدّم - {في ما} متعلّق ب «اختلف» {إذا وقع} الأمر {عقيب الحظر أو في مقام توهّمه}.

فالأوّل: نحو قوله - تعالى - {وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ}(1) بعد قوله - تعالى - : {يَٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ}(2)، فإنّ الأمر بالاصطياد واقع عقيب حرمة الاصطياد في حال الإحرام.

والثّاني: كما لو سئل العبد عن حلّيّة فعل فقال المولى: (إفعل). ولا يخفى أنّ التّمثيل بقوله: {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ}(3) الآية للأمر الواقع عقيب الحظر محلّ تأمّل.

قال المحقّق السّلطان: «والمراد من الأمر الواقع عقيب الحظر هو الأمر المتجدّد بعد النّهي، لا الأمر الباقي الحاصل قبل النّهي الشّامل بعمومه أو إطلاقه لما بعد

ص: 444


1- سورة المائدة، الآية: 2.
2- سورة المائدة، الآية: 95.
3- سورة التّوبة، الآية: 5.

على أقوال: نسب إلى المشهور: ظهورها فيالإباحة(1). وإلى بعض العامّة: ظهورها في الوجوب(2). وإلى بعض: تبعيّتها لما قبل النّهي إن علّق الأمر بزوال علّة النّهي،

___________________

النّهي، بحيث يكون نسبة النّهي إلى ذلك الأمر نسبة التّخصيص أو التّقييد فيخرج من محلّ النّزاع، نحو قوله - تعالى - : {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ}(3) فإنّ عموم قوله - تعالى - : {وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ}(4) مخصّص بحرمة القتل في الأشهر الحرم بناء على كون العموم عموماً أزمانيّاً»(5)، انتهى {على أقوال} والمذكور منها هنا ثلاثة:

الأوّل: - وهو الّذي {نسب إلى المشهور - : ظهورها} حينئذٍ {في الإباحة} فالوقوع عقيب الحظر أو في مقام توهّمه قرينة عامّة صارفة عن معناها الحقيقي الّذي هو الوجوب. وهذه القرينة تعيّن أحد المجازات وهو الإباحة.

{و} القول الثّاني: - وهو الّذي نسب {إلى بعض العامّة - : ظهورها في الوجوب} كما لو لم تقع في مقام توهم الحظر.

{و} القول الثّالث: - وهو الّذي نسب {إلى بعض} وهو العضدي(6) - : {تبعيّتها} أي: صيغة الأمر في إفادة الوجوب أو غيره {لما قبلالنّهي} فإن كان حكم ما قبل النّهي الوجوب كان الأمر الوارد بعد النّهي مفيداً للوجوب، وإن كان الحكم الإباحة كان مفيداً للإباحة، ولكن ليس مطلقاً، بل {إن علّق الأمر} الوارد بعد الحظر {بزوال علّة النّهي}

ص: 445


1- العدة في أصول الفقه 1: 183.
2- المحصول 2: 96.
3- سورة التوبة، الآية: 5.
4- سورة النساء، الآية: 89.
5- الحاشية على كفاية الأصول 2: 105.
6- شرح مختصر الأصول: 205.

إلى غير ذلك.

والتّحقيق: أنّه لا مجال للتّشبّث بموارد الاستعمال؛ فإنّه قلّ مورد منها يكون خالياً عن قرينةٍ على الوجوب، أو الإباحة أو التّبعيّة. ومع فرض التّجريد عنها لم يظهر بعدُ كونّها عقيب الحظر موجباً لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه،

___________________

ومثل له بعض بقوله - تعالى - : {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ}(1) حيث علّق أمر «اقتلوا» بزوال علّة التّحريم - أعني: وجود الأشهر الحرم - فتأمّل(2).

ولا يذهب عليك أنّ هذا التّفصيل إنّما هو في ما إذا كان الحظر محقّقاً، أمّا إذا كان توهّم الحظر فلا يستقيم هذا التّفصيل، فتدبّر.

ثمّ إنّه إذا لم يكن الأمر الوارد عقيب الحظر معلّقاً بزوال علّة التّحريم، فهو ظاهر في الوجوب لدى هذا المفصّل - كما لا يخفى - {إلى غير ذلك} من التّفاصيل المذكورة في المقام.

{والتّحقيق أنّه لا مجال} للاستدلال على المطلب بما ورد من الاستعمالات - كما قد تشبّث بها القائلون بتلك الأقوال - ، إذ لا مسرح {للتشبّث بموارد الاستعمال} في أيّ مقام، فإنّ الاستعمال أعمّ من الظّهور المطلوب وضعاً أو بالقرينة العامّة وما نحن فيه كذلك {فإنّهقلّ مورد منها يكون خالياً عن قرينة على الوجوب أو الإباحة أو التّبعيّة} لما قبل النّهي كما يشهد بذلك الأمثلة الّتي استدلّوا بها على المطلب {ومع فرض التّجريد عنها} أي: تجريد تلك الموارد عن القرينة المعيّنة {لم يظهر} لنا {بعد} هذا أن {كونها عقيب الحظر موجباً لظهورها} أي: الصّيغة {في غير ما تكون ظاهرة فيه} حينما كان مجرّداً عن الوقوع عقيب الحظر.

والحاصل: أنّ في تلك الأوامر الواقعة عقيب الحظر إمّا أن توجد القرينة على

ص: 446


1- سورة التّوبة، الآية: 5.
2- وجهه ما نقلناه عن السّلطان.

غاية الأمر يكون موجباً لإجمالها، غيرُ ظاهرةٍ في واحدٍ منها إلّا بقرينة أُخرى، كما أشرنا.

المبحث الثّامن:

___________________

معنىً أم لا.

وعلى الأوّل: فالظهور مستند إلى القرينة ولا يفيد هذا النّحو من الظّهور للمستدلّ شيئاً.

وعلى الثّاني: فلا نسلّم عدم ظهور الصّيغة في الوجوب، وعلى فرض تسليم عدم ظهورها في الوجوب فلا نسلّم ظهورها في غيره، إذ {غاية الأمر يكون} الوقوع عقيب الحظر {موجباً لإجمالها} لاحتفاف الكلام بما يحتمل القرينيّة، فلا تجرى أصاله عدم القرينة؛ لأنّ موضع هذه الأصالة هو الشّكّ في وجود القرينة لا في قرينيّة الموجود - كما لا يخفى - .

وعلى هذا فتكون الصّيغة {غير ظاهرة في واحد منها} أي: من المعاني المذكورة {إلّا بقرينة أُخرى} تعيّن المراد {كما أشرنا} إلى وجود القرينة في موارد الاستعمالات.قال المحقّق السّلطان: «ثمّ مع الشّكّ في الوجوب فالأصل البراءة، إلّا أنّه يمكن أن يقال: في ما إذا علم الحالة السّابقة قبل النّهي إنّه يجري الاستصحاب بناءً على جريانه في الكلّي من القسم الثّاني نظراً إلى احتمال كون النّهي بالنسبة إلى الحكم السّابق تخصيصاً أو تقييداً، فيكون شخص ذلك الحكم باقياً ولو كان النّهي نسخاً له لم يكن باقياً. وتمام الكلام موكول إلى محلّه. نعم، لو كان الدّوران بين الوجوب والإباحة خاصّة كان مجرى البراءة»(1)،

انتهى.

[المبحث الثّامن:] المرّة والتّكرار
اشارة

{المبحث الثّامن} في المرّة والتّكرار، وقد اختلفوا في هذا المبحث على أقوالٍ:

ص: 447


1- الحاشية على كفاية الأصول 2: 109.

الحقّ أنّ صيغة الأمر مطلقاً لا دلالة لها على المرّة ولا التّكرار؛ فإنّ المنصرف عنها ليس إلّا طلب إيجاد الطّبيعة المأمور بها، فلا دلالة لها على أحدهما، لا بهيئتها ولا بمادتها.

والاكتفاء بالمرّة فإنّما هو لحصول الامتثال بها في الأمر بالطّبيعة، كما لا يخفى.

___________________

فذهب جمع من المحقّقين إلى عدم دلالة الصّيغة على أحدهما، وآخرون إلى أنّها تفيد التّكرار، وثالث إلى المرّة، ورابع إلى اشتراكها بينهما، وخامس إلى الوقف. وحيث إنّ هذه الأقوال الأربعة الأخيرة بمعزِلٍ عن التّحقيق أضرب المصنّف عنها وبيّن ما هو الحقّ عنده فقال: {الحقّ أنّ صيغة الأمر مطلقاً} بدون القرينة والتّقييد بالمرّة أو التّكرار {لا دلالة لها} لا بمادّتها ولا بهيئتها {على المرّة ولا التّكرار}، والمرادبالتكرار ما فوق المرّة سواء كان إلى الأبد كما هو قول أم لا {فإنّ المنصرف عنها ليس إلّا طلب إيجاد الطّبيعة المأمور بها} أي: طلب إيجاد المادّة في الخارج {فلا دلالة لها على أحدهما} أي: المرّة أو التّكرار، ولا دلالة في ما أقاموه من الأدلّة على أحدهما كما لا يخفى لمن راجعها {لا بهيئتها} إذ هي موضوعة لإفادة نسبة الطّلب إلى المخاطب {ولا بمادّتها} إذ هي موضوعة لصرف الماهيّة لا بشرط، ومن الواضح عدم مدخليّة المرّة والتّكرار في أحدهما.

{و} إن قلت: الصّيغة موضوعة للمرّة والدّليل على ذلك {الاكتفاء} في مقام الطّاعة بها وإلّا فلا وجه للإتيان {بالمرّة} الواحدة.

قلت: الاكتفاء {فإنّما هو لحصول الامتثال بها} أي: بالمرّة {في الأمر بالطبيعة} فإنّ الطّبيعة تتحقّق بالمرّة {كما لا يخفى}.

لا يقال: لو كان المرّة خارجة عن مدلول الأمر وكان الطّلب منصبّاً على صرف الطّبيعة جاز الإتيان بالطبيعة مرّة ثانية، مع أنّا نرى أنّه لو أمر المولى عبده بشيء بحيث لم يعرف من القرينة الخارجيّة إرادته المرّة ومع ذلك أتى العبد بالطّبيعة أكثر من مرّة كان عند العقلاء مستحقّاً للذّم، بل في العبادات كان تشريعاً عند أهل

ص: 448

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ الاتّفاق على أنّ المصدر المجرّد عن اللّام والتّنوين لا يدلّ إلّا على الماهيّة - على ما حكاه السّكّاكيّ(1) - لا يوجب كون النّزاع هاهنافي الهيئة - كما

___________________

الشّرع؛ لأنّا نقول: الظّاهر من الطّلب هو الطّبيعة كما تقدّم، وحيث أتى العبد بالطبيعة سقط الطّلب لفرض وجود متعلّقه، وعلى هذا فلا طلب بعد المرّة، ولذلك كان العبد مذموماً ومشرعاً، فتدبّر.

{ثمّ} إنّ صاحب الفصول(قدس سره) جعل هذا النّزاع في هيئة الأمر، يعني أنّ الاختلاف واقع في أنّ هيئة (إفعل) تدلّ على المرّة أو التّكرار - كما أنّ الخلاف في المشتق واقع في هيئته وأنّها دالّة على خصوص المتلبّس أو الأعم - واستدلّ(رحمة الله) لكون النّزاع في الهيئة لا في المادّة بثلاثة أُمور:

الأوّل: نصّ جماعة من العلماء عليه.

الثّاني: أنّ الأكثر حرّروا النّزاع في الصّيغة، وصريح كون النّزاع في الصّيغة أنّه نزاع في الهيئة إذ الصّيغة عبارة عن الهيئة.

الثّالث: أنّ السّكّاكي حكى اتفاق العلماء على أنّ المادّة - وهي المصدر المجرّد عن اللّام والتّنوين - لا تدلّ إلّا على الماهيّة من حيث هي هي، ومن البديهي أنّ المرّة والتّكرار خارجان عن الماهيّة، إذ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي.

و{لا يذهب عليك أنّ} هذه الأدلّة لا تفي بمقصوده: أمّا الأوّل والثّاني فلعدم الحجيّة فيهما، وأمّا الدّليل الثّالث وهو {الاتفاق على أنّ المصدر المجرّد عن اللّام والتّنوين لا يدلّ إلّا على الماهيّة} المجرّدة {على ما حكاه السّكّاكي} فلأنّه {لا يوجب كون النّزاع هاهنا} في مسألة المرّة والتّكرار {في الهيئة} لا في المادّة {كما}

ص: 449


1- مفتاح العلوم: 93.

في الفصول(1) - ، فإنّه غفلة وذهول عن أنّ كون المصدر كذلك لا يوجب الاتّفاق على أنّ مادّة الصّيغة لا تدلّ إلّا على الماهيّة، ضرورةَ أنّ المصدر ليس مادّة لسائر المشتقّات، بل هو صيغة مثلها. كيف؟ وقد عرفت في باب المشتق(2)

مباينة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنى،

___________________

زعم التّلازم أو الاتحاد {في الفصول} وسبق بيانه {فإنّه غفلة وذهول عن أنّ كون المصدر كذلك} أي: لا يدلّ إلّا على الماهيّة {لا يوجب الاتفاق على أنّ مادّة الصّيغة لا تدلّ إلّا على الماهيّة} إذ لا تلازم بين المصدر وبين مادّة الصّيغة، ولا اتحاد حتّى يكون مفاد المادّة مفاد المصدر، أمّا عدم التّلازم بينهما؛ فلأنّ ما زعم في وجه التّلازم هو أنّ المصدر إذا لم يدلّ على المرّة والتّكرار دلّ ذلك على عدم دلالة مادّة عليهما، فيصحّ للاستدلال به على عدم دلالة مادّة (إفعل) عليهما.

وفيه: أنّ عدم دلالة المصدر لا يلزم منه عدم دلالة مطلق المادّة، إذ من الممكن ذهاب هيئة المصدر ببعض مدلولات مادّة نفسه، كما أنّ المادّة لا بشرط والهيئة تذهب بها.

وأمّا عدم الاتحاد فل {ضرورة أنّ المصدر ليس مادّة لسائر المشتقّات} حتّى يكون متّحداً معها ويكون مفاده مفادها {بل هو صيغة مثلها} لأنّ له هيئة مستقلّةً والمادّة يلزم أن لا يكون لها هيئة، إذ المادّتان المقترنتان بالهيئة لا أولويّة في جعل أحدهما مادّةللأُخرى من العكس.

بل {كيف} يكون المصدر مادّة لصيغة (إفعل) أو غيرها {وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنى} إذ قلنا هناك أنّ معنى المصدر هو بشرط لا عن الحمل فلا يحمل على شيء، ومعنى المشتقّات هو اللّابشرطيّة،

ص: 450


1- الفصول الغرويّة: 71.
2- في ثاني تنبيهات المشتق (راجع الصفحة 308).

فكيف بمعناه يكون مادّة لها؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرّة والتّكرار في مادّتها، كما لا يخفى.

إن قلت: فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلاً في الكلام؟

قلت: - مع أنّه محلّ الخلاف - معناه: أنّ الّذي وضع أوّلاً بالوضع الشّخصي، ثمّ بملاحظته وُضِعَ - نوعيّاً أو شخصيّاً

___________________

فلذا يحمل، ومن البديهي مباينة لا بشرط مع بشرط لا {فكيف} المصدر {بمعناه} المباين {يكون مادّةً لها} أي: للمشتقّات أو لصيغة (إفعل)؟ {فعليه} أي: بناءً على تغاير المصدر ومادّة (إفعل) {يمكن دعوى اعتبار المرّة والتّكرار في مادّتها} وإن كان المصدر لا مرّة ولا تكرار له {كما لا يخفى} لكن الانصاف ظهور التّلازم بينهما إن لم يكن اتحاد، وقد ذكرنا في بعض المباحث وجود الاتّحاد، فراجع.

{إن قلت}: إذا لم يكن المصدر مادّة للمشتقّات {فما معنى ما اشتهر} في ألسنة غير الكوفيّين {من كون المصدر أصلاً في الكلام} فإنّ معنى كونه أصلاً كونه مبدءاً ومادّة لسائر المشتقّات؟

{قلت: مع أنّه محلّ الخلاف} إذ الكوفيّون بنوا على كونالفعل أصلاً، واستدلّوا لذلك بعمل الفعل في المصدر نحو (قعدت قعوداً) إذ العامل قبل المعمول فالشهرة مع عدم حجيّتها ليست حاصلة في المقام {معناه أنّ الّذي وضع أوّلاً بالوضع الشّخصي} مادّة وهيئة {ثمّ بملاحظته} أي: بملاحظة ذلك الموضوع أوّلاً {وضع نوعيّاً أو شخصيّاً} كلمة «أو» بمعنى (الواو). قال ابن مالك:

أو ربّما عاقبتِ الواوَ إذا

لم

يُلْفِ ذو النّطقِ لِلَبْسِ منفذا(1)

قال المشكيني(رحمة الله): «الأوّل بالنسبة إلى المادّة والثّاني بالنسبة إلى الهيئة»(2)،

انتهى.

ص: 451


1- البهجة المرضية: 355.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 392.

- سائرُ الصِّيغ الّتي تناسبه - ممّا جمعه معه مادّةُ لفظٍ متصوّرةٌ في كلٍّ منها ومنه بصورةٍ، ومعنى كذلك - هو المصدر أو الفعل،

___________________

فالواضع بعد ما وضع (الضّرب) وغيره من المصادر وضع هيئة الفاعل الشّخصي لكلّ من تلبّس بأحد الموادّ المذكورة، فالهيئة موضوعة شخصيّاً؛ لأنّها عبارة عن هيئة (فاعل) لا غير، والمادّة موضوعة نوعيّاً؛ لأنّها عبارة عن كلّ مادّة وضع مصدرها ك (الضّرب) و(الشّرب) و(الأكل) وغيرها {سائر الصّيغ} نائب عن فاعل «وضع» {الّتي تناسبه} أي: تناسب سائرالصّيغ ما وضع أوّلاً {ممّا جمعه} بيان سائر الصّيغ الّتي جمعها {معه} أي: مع ما وضع أوّلاً {مادّة لفظ متصوّرة} فاعل «جمعه» أي: كانت الجهة الجامعة بين الموضوع أوّلاً وسائر الصّيغ مادّة اللّفظ، فهما مشتركان فيها.

لكن الفرق بين المادّتين أنّ كلّاً من المادّتين متصوّرة {في كلّ} واحد{منها ومنه} أي: من الصّيغ والموضوع أوّلاً {بصورة} إذ صورة الموضوع أوّلاً غير صورة سائر الصّيغ {ومعنىً كذلك} عطف على «مادّة لفظ» يعنى: أنّ سائر الصيغ مجتمعة مع الموضوع أوّلاً في مادّة اللّفظ وفي المعنى، يعني: أنّ المعنى نحو (زدن) في معنى الضّرب متّحد في الموضوع أوّلاً وسائر الصّيغ.

والأصل اجتماعهما في مادّة اللّفظ ومعنى اللّفظ {هو المصدر أو الفعل} خبر قوله: «إنّ الّذي وضع أوّلاً».

والحاصل بلفظ العلّامة الرّشتي: «أنّ المصدر هو اللّفظ الّذي وضع أوّلاً بالوضع الشّخصي لمعنىً، ثمّ بملاحظته وضع شخصيّاً أو نوعيّاً سائر الألفاظ الّتي لها هيئات خاصّة أُخرى غير هيئة المصدر، لكن تناسبه في المادّة والمعنى»(1)،

انتهى.

ص: 452


1- شرح كفاية الأصول 1: 110.

فافهم.

ثمّ

___________________

والأصوب أن يقال(1):

إنّ أيّاً من المصدر والفعل هو اللّفظ الّذي، الخ.

أقول: ليس كلام المصنّف(رحمة الله) بأقلّ في التّعقيد من قوله:

وما مثله في النّاس إلّا مملّكاً

أبو أُمّه حيّ أبوه يقاربه(2)

بل الشّعر أسهل من العبارة بكثير {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ قولهم: الأصل هو المصدر أو الفعل، لا يعنون به ما ذكر من المعنى، بل ظاهر قولهم هو الاشتقاق الحقيقي، كما يُرشد إليه كلمات شارح الأمثلة وغيره فيكيفيّة الاشتقاق، فراجع.

المراد بالتّكرار

{ثمّ} لا يذهب عليك أنّه فرق بين الفرد والأفراد والدّفعة والدّفعات، إذ الفرد: عبارة عن وقوع الفعل غير متعدّد - سواء كان في زمان واحد أو في أزمنة متعدّدة، كما في الفرد الممتد - .

والأفراد: عبارة عن وقوع الفعل متعدّداً من غير فرق في الزّمان بين الواحد والمتعدّد أيضاً.

والدّفعة: عبارة عن وقوع الفعل في زمان واحد متعدّداً كان الفعل أم غير متعدّد.

والدّفعات: عبارة عن وقوع الفعل في أزمنة متعدّدة سواء كان فعلاً واحداً أم متعدّداً.

وعلى هذا تحقّق أنّ بين كلّ من الدّفعة والفرد وكلّ من الأفراد والدّفعات عموماً

ص: 453


1- مكان قوله: «إنّ الّذي وضع أوّلاً» الخ، ثمّ يسقط قوله: «أخيراً هو المصدر أو الفعل».
2- هو من أبيات الفرزدق المتوفّى 110، يمدح بها إبراهيم بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك.

المراد بالمرّة والتّكرار هل هو الدّفعة والدّفعات، أو الفرد والأفراد؟

والتّحقيق: أن يقعا بكلا المعنيين محلّ النّزاع، وإن كان لفظهما ظاهراً في المعنى الأوّل.

وتَوَهُّمُ: أنّه لو أُريد بالمرّة الفرد

___________________

من وجهٍ، فلو جاء بإنائين في زمانين تحقّق الفردان والدّفعتان، ولو جاء بإنائين في زمان واحد تحقّق الفردان دون الدّفعتين، ولو جاء بإناء واحد في زمان ممتدّ تحقّق الدّفعتان دون الفردين، وفيه تأمّل، بل الظّاهر أنّ الدّفعة أعمّ من الفرد مطلقاً، والأفراد أعمّ من الدّفعات مطلقاً، فتدبّر.

وعلى كلّ حال {المراد بالمرّة والتّكرار} في موردالخلاف {هل هو الدّفعة والدّفعات أو الفرد والأفراد؟} والفرق ظهر ممّا تقدّم {والتّحقيق أن يقعا} المرّة والتّكرار {بكلا المعنيين محلّ النّزاع} في هذا المبحث {وإن كان لفظهما ظاهراً في المعنى الأوّل} فإنّه إذا قيل: (إضرب زيداً مرّة) كان ظاهراً في الدّفعة، حتّى لو ضربه بفردين من الضّرب لم يكن معاقباً، وكذا التّكرار.

{وتوهُّمُ أنّه لو أُريد بالمرّة الفرد} إشارة إلى قول صاحب الفصول(رحمة الله) حيث ذهب إلى كون النّزاع في المرّة والتّكرار بمعنى الدّفعة والدّفعات لا فقط بمعنى الفرد والأفراد، فقال ما لفظه:

«ثمّ هل المراد بالمرّة الفردُ الواحد وبالتكرار الأفراد، أو المراد بها الدّفعة الواحدة وبالتكرار الدّفعات؟ وجهان استظهر الأوّل منها بعض المعاصرين ولم نقف له على مأخذ، والتّحقيق عندي هو الثّاني لمساعدة ظاهر اللّفظين عليه، فإنّه لا يقال لمن ضرب بسوطين دفعةً: إنّه ضرب مرّتين أو مكرّراً، بل مرّة واحدة».

ثمّ ذكر بعض الشّواهد على ما ادّعاه إلى أن قال: «مع أنّهم لو أرادوا بالمرّة الفرد

ص: 454

«لكان الأنسب، - بل اللّازم - أن يجعل هذا المبحث تتمّةً للمبحث الآتي: مِن أنّ الأمر هل يتعلّق بالطّبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك: «وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التّعلّق بالفرد الواحد أو المتعدّد، أو لا يقتضي شيئاً منهما؟ ولم يحتج إلى إِفراد كلٍّ منهما بالبحث كما فعلوه».

وأمّا لو أُريد بها الدّفعة فلا عُلْقَةَ بين المسألتين، كما لا يخفى.فاسِدٌ؛ لعدم العُلْقَةِ بينهما

___________________

{لكان الأنسب - بل اللّازم - أن يجعل هذا المبحث تتمّة للمبحث الآتي مِن أنّ الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التّعلّق بالفرد الواحد أو المتعدّد أو لا يقتضي شيئاً منهما؟ ولم يحتج إلى إِفراد كلّ منهما بالبحث كما فعلوه، وأمّا لو أُريد بها الدّفعة فلا علقة بين المسألتين، كما لا يخفى}»(1)،

انتهى كلام الفصول. وحاصله: الاستدلال على مطلبه بأمرين:

الأوّل: ظهور المرّة والتّكرار في الدّفعة والدّفعات، والثّاني: أنّ كلّ مسألة لا بدّ وأن تجري على جميع تقارير المسألة الأُخرى بأن يكون بينهما عموم من وجه وبين الدّفعة والمسألة الآتية كذلك، إذ كلّ من القائل بالدفعة والدّفعات يمكن أن يقول بالطبيعة وبالفرد وبالعكس، وليس كذلك لو كان المراد من هذه المسألة الفرد، إذ على تقدير أن يقال في هذه المسألة بالفرد لا يمكن أن يقال في المسألة الآتية بالطبيعة، ولكن كلّ من الدّليلين {فاسد}:

أمّا الأوّل؛ فلأنّ ظهور لفظٍ في أمرٍ لا يقتضي اختصاص الكلام به لما تقدّم من وقوعهما بكلا المعنيين محلّ النّزاع.

وأمّا الثّاني؛ فلأنّ ما زعمه من عدم العلقة بين المسألتين لو أُريد الدّفعة بخلاف ما لو أُريد الفرد غير صحيح {لعدم العلقة بينهما} أي: بين مسألة المرّة والتّكرار

ص: 455


1- الفصول الغرويّة: 71.

لو أُريد بها الفرد أيضاً، فإنّ الطّلب - على القول بالطّبيعة - إنّما يتعلّق بهاباعتبار وجودها في الخارج؛ ضرورةَ أنّ الطّبيعة من حيث هي ليست إلّا هي، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة.

وبهذا الاعتبار كانت مردّدة بين المرّة والتّكرار بكلا المعنيين. فيصحّ النّزاع في دلالة الصّيغة على المرّة والتّكرار بالمعنيين وعدمها:

أمّا بالمعنى الأوّل فواضِحٌ.

___________________

ومسألة الطّبيعة والفرد {لو أُريد بها} أي: المسألة الأُولى {الفرد أيضاً} لا الدّفعة، {فإنّ الطّلب على القول بالطبيعة} في المسألة الآتية {إنّما يتعلّق بها باعتبار وجودها في الخارج} لا من حيث إنّها طبيعة محضة ومجرّدة عن ظرف الخارج {ضرورة أنّ الطّبيعة من حيث هي} طبيعة {ليست إلّا هي} أي: تكون مجرّدة عن جميع الخصوصيّات لا موجودة ولا معدومة لا واحدة ولا متعدّدة {لا مطلوبة ولا غير مطلوبة} والبرهان لتجرّد الطّبيعة عن جميع الخصوصيّات أنّها تنقسم إليها، فلو كانت الطّبيعة موجودة - مثلاً - لم يعقل تقسيمها إلى الموجودة والمعدومة، ولو كانت مطلوبة لم يعقل تقسيمها إلى المطلوبة وغير المطلوبة، وذلك لبداهة أنّه يلزم منه تقسيم الشّيء إلى نفسه وغيره حينئذٍ.

{وبهذا الاعتبار} الّذي ذكرنا من تعلّق الطّلب بالطبيعة باعتبار وجودها الخارجي {كانت} الطّبيعة {مردّدة بين المرّة والتّكرار بكلا المعنيين} الفرد والأفراد والدّفعة والدّفعات {فيصحّ النّزاع} على القول بالطبيعة {في دلالة الصّيغة على المرّة والتّكرار بالمعنيين وعدمها} أي: عدم دلالة الصّيغة على أحدهما، بل الصّيغة لا مرّة فيها ولا تكرار - كما اختارهالمصنّف(رحمة الله) في أوّل البحث - . {أمّا} تأتّي النّزاع على القول بالمرّة والتّكرار {بالمعنى الأوّل} أي: الدّفعة والدّفعات {فواضح} إذ يقال: بعد ما اخترنا في المسألة الآتية أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة لا الفرد

ص: 456

وأمّا بالمعنى الثّاني فلوضوح أنّ المراد من الفرد أو الأفراد وجودٌ واحدٌ أو وجودات، وإنّما عُبِّرَ بالفرد؛ لأنّ وجود الطّبيعة في الخارج هو الفرد، غاية الأمر خصوصيّته وتشخّصه - على القول بتعلّق الأمر بالطّبائع - يلازم المطلوب وخارجٌ عنه، بخلاف القول بتعلّقه بالأفراد، فإنّه ممّا يقوّمه.

___________________

هل يجب الإتيان بالطبيعة دفعة واحدة أو دفعات.

{وأمّا} تأتّي النِّزاع على القول بالمرّة والتّكرار {بالمعنى الثّاني} أي: الفرد والأفراد، وهذا هو محلّ إشكال صاحب الفصول {فلوضوح أنّ المراد من الفرد أو الأفراد} في مسألة المرّة والتّكرار غير المراد من الفرد في مسألة الطّبيعة والفرد لا أنّ المراد بهما واحد حتّى لا يتأتّى نزاع الفرد والأفراد على القول بالطبيعة.

بيان ذلك: أنّ المراد بالفرد في مقابل الطّبيعة أنّ الخصوصيّات الفرديّة داخلة تحت الطّلب أم لا، والمراد بالفرد والأفراد هنا {وجود واحد أو وجودات} متعدّدة، ومن البديهي أنّه على القول بخروج الخصوصيّات الفرديّة عن الطّلب - أي: القول بالطبيعة - يمكن أن يقع النّزاع في أنّه هل يكفي الإتيان بالطبيعة في ضمن وجود واحد أو يلزم الإتيان بها في ضمن وجودات متعدّدة {وإنّما عبّر} عن الوجود الواحد {بالفرد} وعن الوجودات بالأفراد {لأنّ وجود الطّبيعة في الخارج هو الفرد} فلا يفرق التّعبير عنه بالفرد أو الوجود {غاية الأمر} في الفرق بين تعلّق الأمربالطبيعة وبين تعلّق الأمر بالفرد، كما في المسألة الآتية أنّ {خصوصيّته} أي: خصوصيّة الفرد {وتشخّصه} الفرديّة {على القول بتعلّق الأمر بالطبائع يلازم المطلوب، و} ذلك لعدم إمكان وجود الطّبيعة بدون تشخّص ما، فإنّ الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد ولكن هذا التّشخّص {خارج عنه} أي: عن المطلوب لعدم كونه في حيّز الطّلب {بخلاف القول بتعلّقه} أي: الأمر {بالأفراد فإنّه} أي: التّشخّص {ممّا يقوّمه} أي: المطلوب، إذ أحد التّشخّصات على سبيل البدل واقع في حيّز الطّلب.

ص: 457

تنبيه: لا إشكال بناءً على القول بالمرّة في الامتثال، وأنّه لا مجال للإتيان بالمأمور به ثانياً على أن يكون أيضاً به الامتثال؛ فإنّه من الامتثال بعد الامتثال.

وأمّا على المختار - من دلالته على طلب الطّبيعة من دون دلالة على المرّة ولا على التّكرار - فلا يخلو الحالُ: إمّا أن لا يكون هناك إطلاق الصّيغة في مقام البيان - بل في مقام الإهمال أو الإجمال - ، فالمرجع هو الأصل،

___________________

فتحصّل أنّه لا فرق بين القول بتعلّق الأمر بالطبيعة وبين القول بتعلّقه بالفرد في إتيان الخلاف في أنّ الأمر يدلّ على المرّة أو التّكرار بكلا المعنيين، وإنّما الفرق في كون التّشخّص الفردي خارج عن الطّلب أو في حيّز الطّلب.

في ما يحصل به الامتثال

{تنبيه}: في قدر ما يحصل به الامتثال {لا إشكال بناءً على القول بالمرّة} أي: بدلالة الصّيغة على المرّة {في} حصول {الامتثال} إذا أتى بالمأمور به مرّة واحدة {وأنّه لا مجال للإتيان بالمأمور به ثانياً على أنيكون} الثّاني {أيضاً} كالأوّل ممّا يحصل {به الامتثال فإنّه} غير معقول، إذ هو {من الامتثال بعد الامتثال} وحيث كان بالامتثال الأوّل سقط الأمر، فلا أمر حتّى يكون الامتثال الثّاني امتثالاً حقيقة، وبهذا اتضح أنّ تسميته امتثالاً مجاز.

{وأمّا} بناءً {على المختار} عندنا {من دلالته على طلب} صرف {الطّبيعة من دون دلالة} له {على المرّة ولا} دلالة له {على التّكرار} كما تقدّم {فلا يخلو الحال} من أحد أمرين: لأنّه {إمّا أن لا يكون هناك إطلاق الصّيغة في مقام البيان، بل} كان المولى {في مقام الإهمال أو الإجمال} وقد تقدّم الفرق بينهما، وقد يفرق بينهما بأنّ الأوّل ما لا يتعلّق الغرض لا ببيانه ولا بإخفائه، والثّاني ما يتعلّق الغرض بإخفائه، وحينئذٍ {فالمرجع هو الأصل} العملي بالنسبة إلى الزّائد عن المرّة الواحدة الموجدة للطّبيعة، إذ هي معلومة والزّائد مشكوك، فيجري الأصل

ص: 458

وإمّا أن يكون إطلاقها في ذلك المقام، فلا إشكال في الاكتفاء بالمرّة في الامتثال.

وإنّما الإشكال في جواز أن لا يقتصر عليها، فإنّ لازم إطلاق الطّبيعة المأمور بها هو الإتيان بها مرّة أو مراراً، لا لزوم الاقتصار على المرّة، كما لا يخفى.

والتّحقيق: أنّ قضيّة الإطلاق إنّما هو جواز الإتيان بها مرّة في ضمن فرد أو أفراد،

___________________

والغالب هو أصل البراءة، كما لا يخفى.

{وإمّا أن يكون إطلاقها} أي: الصّيغة {في ذلكالمقام} أي: مقام البيان - بأن تمّت مقدّمات الحكمة - {فلا إشكال} حينئذٍ على ما اخترناه {في الاكتفاء بالمرّة في} حصول {الامتثال} إذ لو أُريد غيرها لزم البيان، فالسكوت كاشف عن عدمه {وإنّما الإشكال في جواز أن لا يقتصر عليها} فيأتي بالطبيعة مرّة أُخرى فقد توهّم جواز الإتيان بالطبيعة أكثر من مرّة بقصد الامتثال {فإنّ لازم إطلاق الطّبيعة} الملقاة على المخاطب {المأمور بها هو الإتيان بها مرّة} واحدة {أو مراراً} عديدة؛ لأنّ جميع الأفراد أفراد الطّبيعة والمفروض أنّ الطّبيعة مأمور بها فالأفراد مشمولة للأمر، و{لا} حجر في الزّائد على المرّة لعدم {لزوم الاقتصار على المرّة، كما لا يخفى} ومثل ذلك ما لو أمر المولى بإتيان الماء، فكما يجوز للعبد الإتيان برطل من الماء، مع جواز الإتيان بنصفه لتحقّق الطّبيعة بكلّ واحد منهما، والمفروض أنّ النّصف الزّائد منضمّاً إلى النّصف الأوّل امتثال، فكذا في ما كان الزّائد مستقلّاً. والحاصل: عدم الفرق بين الانضمام والاستقلال، فكما يجوز الانضمام يجوز الاستقلال، وكما يكون المنضمّ امتثالاً فكذا يكون المستقلّ امتثالاً.

هذا غاية ما يمكن أن يوجّه به هذا القول {و} لكن {التّحقيق} خلافه و{أنّ} مع الإتيان الأوّل لا يبقى مجال للثّاني، إذ {قضيّة الإطلاق} أي: إطلاق الطّبيعة وعدم تقييدها بالمرّة {إنّما هو جواز الإتيان بها مرّةً} واحدةً. نعم، هو مخيَّر في الإتيان بها {في ضمن فرد أو أفراد} في ما يمكن جمع أفرادها في الوجود، كما لو أمر

ص: 459

فيكون إيجادها في ضمنها نحواً من الامتثال، كإيجادها في ضمن الواحد، لا جواز الإتيان بها مرّةً ومرّاتٍ؛ فإنّه مع الإتيان بها مرّةً لا محالة يحصل الامتثال،ويسقط به الأمر، في ما إذا كان امتثال الأمر علّةً تامّةً لحصول الغرض الأقصى، بحيث يحصل بمجرّده، فلا يبقى معه

___________________

المولى بإطعام الفقير فأطعم في وقت واحد فقراء متعدّدة فإنّ كلّها امتثال، إذ لا أولويّة لكون بعض امتثالاً دون بعض {فيكون إيجادها في ضمنها} أي: إيجاد الطّبيعة في ضمن الأفراد العرضيّة {نحواً من الامتثال كإيجادها في ضمن} الفرد {الواحد} مع أنّ فيه أيضاً مناقشة، إذ كون الجميع امتثالاً غير معلوم بل الواحد على سبيل البدل {لا جواز الإتيان بها مرّةً ومرّاتٍ} تدريجاً، سواء كانت ممّا يمكن اجتماعها كالإطعام أو لا كالصيام، فلو أمر المولى بإطعام فقير أو صيام يوم ففعل ذلك مرّةً لم يبق مجال للامتثال الثّاني {فإنّه مع الإتيان بها} أي: بالطبيعة {مرّةً لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الأمر} لما تقدّم من أنّ الامتثال ملازم لسقوط الغرض الملازم لسقوط الأمر.

هذا {في ما إذا كان امتثال الأمر} أي: الإتيان بالمأمور به {علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى} وإنّما عبّر بالغرض الأقصى لأنّ الغرض على قسمين:

الأوّل: الغرض الابتدائي الّذي هو أوّل في التّصوّر وآخر في العمل.

الثّاني: الغرض الّذي هو مقدّمة لذلك الغرض.

مثلاً: الغرض المقدّمي للمولى من أمره بإحضار الماء هو حضور الماء عنده وغرضه الأقصى هو رفع عطشه، فإحضار العبد في هذا المثال ليس يترتّب عليه الغرض الأقصى بنحو العليّة، إذ هو متوقّف على ما هو خارج عن يد العبد - أعني: شرب المولى - وهذا بخلاف ما لو كان غرضه إيلام زيد فأمر عبده بضربه، فإنّالضّرب علّةٌ تامّة لحصول هذا الغرض {بحيث يحصل بمجرّده، فلا يبقى معه} أي:

ص: 460

مجال لإتيانه ثانياً بداعي امتثال آخر، أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالاً واحداً؛ لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها، وسقوط الغرض معها، وسقوط الأمر بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلاً.

وأمّا إذا لم يكن الامتثال علّةً تامّةً لحصول الغرض، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضّأ، فأُتِيَ به ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلاً، فلا يبعد صحّة تبديل الامتثال بإتيان فردٍ آخَرَ أحسنَ منه، بل مطلقاً، كما كان له ذلك قبله، على ما يأتي بيانه في الإجزاء.

___________________

مع حصول الغرض {مجال لإتيانه} أي: إتيان الفعل المأمور به، كالضرب في المثال {ثانياً بداعي امتثال آخر} أو بداعي أن يكون الثّاني امتثالاً دون الأوّل {أو بداعي أن يكون} كلّ واحد من الإتيانين جزء الامتثال بحيث يسقط نصف الامتثال الأوّل عن كونه امتثالاً، فيكون {الإتيانان امتثالاً واحداً} وذلك {لما عرفت من حصول الموافقة} للأمر {بإتيانها} أي: الصّيغة {وسقوط الغرض معها} أي: مع الموافقة {وسقوط الأمر بسقوطه} أي: بسقوط الغرض {فلا يبقى مجال لامتثاله أصلاً} بعد سقوط الأمر لحصول الطّبيعة.

{وأمّا إذا لم يكن الامتثال} بالإتيان بالمأمور به {علّة تامّة لحصول الغرض} الأقصى {كما إذاأمر} المولى {بالماء ليشرب أو يتوضّأ} أو غيرهما ممّا يكون شيء آخر فاصلاً بين الامتثال وبين حصول الغرض الأقصى {فأتى} العبد {به} أي: بالماء {ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلاً} بحيث يحصل الغرض {فلا يبعد صحّة تبديل الامتثال} بأن يذهب بهذا الماء المأتي به ثمّ يبدله {بإتيان فرد آخر} من الطّبيعة {أحسن منه} أي: من الفرد الأوّل {بل مطلقاً} ولو كان مساوياً أو أدون {كما كان له} أي: للعبد {ذلك} أي: إتيان أيّ: فرد شاء {قبله} أي: قبل الإتيان بالفرد الأوّل {على ما يأتي بيانه في الإجزاء} إن شاء اللّه - تعالى - .

ص: 461

___________________

وإنّما قيّدنا صحّة التّبديل بصورة الذّهاب بالماء الأوّل؛ لأنّ في صورة عدمه لا يكون الثّاني امتثالاً، لما عرفت من أنّ الامتثال لا يكون بدون الأمر، أمّا مع الذّهاب به، فإنّه يعود الأمر لعود الغرض.

ثمّ إنّ هذا كلّه في مقام الثّبوت، وأمّا الإثبات فلا يمكن قصد التّبديل سواء أبطل الأوّل أم لا إلّا مع القطع بالغرض والقطع بعدم مضرّية إبطال الأوّل لاحتمال كونه مضرّاً، ألا ترى أنّه لو أمر المولى بضرب زيد فضربه ثمّ رآه العبد غير مؤدّب فاحتمل كون الأمر بالضرب للتأديب وبقاء غرض المولى لم يجز له الضّرب ثانياً تحصيلاً للغرض، فلو ضربه كان معاقباً إذا لم يكن الغرض التّأديب.

قال الفقيه الحاج آقا رضا الهمداني(قدس

سره) في كتاب الصّلاة: يجوز الاحتياط بقضاء صلاة احتمل اشتمالها على خلل ولو مع وجود دليل اجتهادي قاضٍ بصحّتها، أو احتمل بعد خروج الوقت فوتها أو شكّ في صحّتها بعد الفراغ، فإنّ رعاية الاحتياط بتحصيل القطع بالفراغ عمّا هو تكليفه في الواقع وإن كان معذوراً فيمخالفته في الظّاهر راجح عقلاً وشرعاً جزماً. ثمّ أورد على نفسه احتمال كونه تشريعاً، ودفعه بأنّه من باب الاحتياط، ثمّ استشهد بإعادة المنفرد صلاته جماعة الخ(1).

لكن للتوقّف في ذلك مجالاً، إذ مع احتمال ما تقدّم من المضرّية لا مجال للاحتياط مع أنّ العبادات توقيفيّة، وقد ورد النّهي في كثير من الموارد كتسمية النّبيّ(صلی

الله علیه و آله) بعض من صام في السّفر من العصاة(2)،

وكنهي الإمام(علیه السلام) عمّن زاد في الدّعاء كلمة و«الإبصار» بعد «يا مقلّب القلوب»(3)،

وكقول الحجّة(علیه السلام) في الرّدع:

ص: 462


1- مصباح الفقيه 10: 136.
2- وسائل الشّيعة 10: 200.
3- كمال الدين 2: 352.

المبحث التّاسع: الحقّ أنّه لا دلالة للصّيغة على الفور ولا على التّراخي. نعم، قضيّة إطلاقها جواز التّراخي.

والدّليل عليه: تبادُرُ طَلَبِ إيجاد الطّبيعة منها بلا دلالةٍ على تقييدها بأحدهما،

___________________

«لا لأمره تعقلون ولا من أوليائه تقبلون»(1)

الخ، مع بداهة أنّ كلّاً من هؤلاء كانوا يحتملون المحبوبيّة وفعلوا ما فعلوا رجاء الثّواب وإدراك الواقع، والاستشهاد بإعادة المنفرد بعد هذا الاحتمال المقرون بالشواهد المذكورة لا مجال له، فتدبّر، وللكلام مقام آخر.

[المبحث التّاسع:]
اشارة

الفور والتّراخي{المبحث التّاسع} اختلفوا في دلالة الأمر على الفور والتّراخي فذهب الشّيخ إلى الأوّل وجماعة إلى التّوقّف والسّيّد إلى الاشتراك بينهما، ثمّ اختلف أهل الوقف فبعض قال: يلزم التّقديم تحصيلاً للبراءة القطعيّة، وآخر قال بعكس ذلك، و{الحقّ} بطلان الجميع و{أنّه لا دلالة للصّيغة لا على الفور ولا على التّراخي} لا من جهة الاشتراك، بل لأنّها تدلّ على طلب الطّبيعة المجرّدة، كما تقدّم في بحث المرّة والتّكرار.

ثمّ النّزاع بيننا وبين صاحب الفصول في كون النّزاع في الهيئة أم لا كما تقدّم {نعم، قضيّة إطلاقها} وعدم تقييدها بأحدهما {جواز التّراخي} إذ لو كان المراد الفور كان على المولى البيان، فإنّ الفور قيد زائد على أصل الطّبيعة المدلولة للأمر فإنّ الطّبيعة كما تقدّم خالية عن جميع القيود {والدّليل عليه} أي: على عدم دلالة الصّيغة على أحدهما {تبادر طلب إيجاد الطّبيعة} فقط {منها بلا دلالة على تقييدها} أي: تقييد الطّبيعة {بأحدهما} من الفور والتّراخي، وحينما كانت الصّيغة

ص: 463


1- بحار الأنوار 53: 171.

فلا بدّ في التّقييد من دلالةٍ أُخرى، كما ادُّعِيَ دلالةُ غيرِ واحدٍ من الآيات على الفوريّة. وفيه منع؛ ضرورةَ أنّ سياق آية {وَسَارِعُوٓاْ إِلَى مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ}(1) وكذا آية {فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَتِۚ}(2) إنّما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة

___________________

غير دالّة على أحدهما {فلا بدّ في التّقييد} أي: لا بدّ لمن يدّعي كون الصّيغة تدلّ على الفور أو على التّراخي {من} إقامة {دلالة أُخرى} وبرهان من الخارج، بحيث يفيد ذلك البرهان على أنّ كلّ ما ورد من الأوامر الشّرعيّة يراد بها الفور أو يراد بها التّراخي.

والحاصل: أنّ المدّعي لأحدهما قد يتمسّك بظهور الصّيغة، وهذا مردود بما تقدّم من أنّ المتبادر صرف الطّبيعة، وقد يتمسّك بالأدلّة الخارجيّة {كما} أنّه تمسّك و{ادّعى دلالة غير واحد من الآيات على الفوريّة} قال في المعالم في عداد أدلّة القائلين بالفور: «الرّابع قوله - تعالى - : {وَسَارِعُوٓاْ إِلَى مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ} فإنّ المراد بالمغفرة سببها وهو فعل المأمور به لا حقيقتها؛ لأنّها فعل اللّه - سبحانه - فيستحيل مسارعة العبد إليها، وحينئذٍ فيجب المسارعة إلى فعل المأمور به.

وقوله - تعالى - : {فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَتِۚ} فإنّ فعل المأمور به من الخيرات فيجب الاستباق إليه، وإنّما يتحقّق المسارعة والاستباق بأن يفعل بالفور»(3).

{و} لكن {فيه} أي: في هذا المدّعى {منع} ظاهر {ضرورة أنّ سياق آية {وَسَارِعُوٓاْ إِلَى مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ} وكذا آية {فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَتِۚ} إنّما هو البعث} للعبد {نحو المسارعة إلى} سبب {المغفرة} الّذي هو أمران: التّوبة وفعل المأمور به.

ص: 464


1- سورة آل عمران، الآية: 133.
2- سورة البقرة، الآية: 148؛ سورة المائدة، الآية: 48.
3- معالم الدين: 57.

والاستباق إلى الخير، من دون استتباع تركهما للغضب والشّرّ؛ ضرورةَ أنّ تركهما لو كان مستتبعاً للغضب والشّرّ كان البعثبالتحذير عنهما أنسب، كما لا يخفى، فافهم.

مع لزوم كثرة تخصيصه

___________________

{و} كذا الآية الثّانية فإنّ سياقها البعث نحو {الاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشّرّ} فغاية ما تدلّ عليه الآيتان استحباب السّرعة والاستباق {ضرورة أنّ تركهما لو كان} سبباً للعقاب و{مستتبعاً للغضب والشّرّ كان البعث بالتحذير عنهما} أي: عن ترك المسارعة والاستباق {أنسب} كأن يقول: فليحذر الّذين لا يسارعون، و: فليخش الّذين لا يستبقون.

ووجه كون هذا أنسب يحتاج إلى مقدّمة مسلّمة عند المتأخّرين تقريباً، وهي: أنّ المولى لمّا وجب عليه بحكم العقل تقريب النّاس إلى الطّاعة وتبعيدهم عن المعصية ببيان التّكاليف - كما تقرّر ذلك في بيان قاعدة اللّطف - فاللّازم حينئذٍ بيان الأحكام بنحو مقرِّب، ففي المستحبّات يلزم بيان الثّواب لترغب النّفوس نحو تحصيله، وفي المحرّمات يلزم بيان العقاب أو عدم بيان شيء لتحذر النّفوس عن اقترافه، فمهما ورد أمر ذكر فيه بيان الثّواب فقط دلّ على الاستحباب لو لم يقع إجماع أو غيره على الوجوب وهكذا في طرف المكروه والمحرّم.

إذا عرفت ذلك اتضح لك أنّ الآيتين لمّا ذكر فيهما المغفرة والخيرات ناسبتا الاستحباب {كما لا يخفى} لدى التّأمّل {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ المقدّمة المذكورة غير تامّة، إذ كثيراً ما ورد الأمر الواجب مقروناً بالثواب والأمر الاستحبابي مجرّداً عن ذكره، ولو كان المناط ذكر الثّواب وعدمه لسقط ظهور الأمر في الوجوب - كما لا يخفى - .

{مع} أنّه لو كانت دلالة في الآيتين على الفور في مطلق الأمر لزمالاستهجان، بداهة {لزوم كثرة تخصيصه} أي: تخصيص ما استفيد من الآيتين

ص: 465

في المستحبّات وكثير من الواجبات، بل أكثرها، فلا بدّ من حمل الصّيغة فيهما على خصوص النَّدْبِ أو مطلق الطّلب.

ولا يبعد دعوى: استقلال العقل بحُسن المسارعة والاستباق، وكان ما ورد من الآيات والرّوايات الواردة في مقام البعث نحوه إرشاداً إلى ذلك - كالآيات والرّوايات الواردة في الحثّ على أصل الإطاعة - ، فيكون الأمر فيها لما يترتّب على المادّة بنفسها،

___________________

{في المستحبّات} الموسّعة والمضيّقة {وكثير من الواجبات، بل أكثرها} إذ الغالب عدم لزوم الفور {فلا بدّ} فراراً عن محذور الاستهجان {من حمل الصّيغة فيهما} أي: في الآيتين {على خصوص النّدب} فلا يفيد وجوب الفور الّذي هو مطلوب المستدل {أو} الحمل على {مطلق الطّلب} حتّى يطابق وجوب الفور في الواجبات المضيّقة واستحباب الفور في الواجبات الموسّعة والمستحبّات مضيّقها وموسّعها، وهذا أيضاً لا يفيد المستدل.

{ولا يبعد دعوى} كون الأمر في الآيتين للإرشاد لا للوجوب ولا للاستحباب لضرورة {استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق، و} المبادرة نحو الخير، فإنّ خير الخير ما كان عاجله.

وعلى هذا {كان ما ورد من الآيات والرّوايات الواردة في مقام البعث نحوه} أي: نحو الاستباق والمسارعة {إرشاداً} خبر «كان» {إلى ذلك} الحكم العقليفتكون هاتان الآيتان {كالآيات والرّوايات الواردة في الحثّ على أصل الإطاعة} كقوله - تعالى - : {يَٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(1) {فيكون الأمر فيها} أي: في تلك الآيات والرّوايات الواردة في الحثّ على المسارعة {لما يترتّب على المادّة بنفسها} مع قطع النّظر عن تعلّق الأمر بها

ص: 466


1- سورة النساء، الآية: 59.

ولو لم يكن هناك أمرٌ بها، كما هو الشّأن في الأوامر الإرشاديّة، فافهم.

___________________

{ولو لم يكن هناك أمر بها} أي: بالمادّة {كما هو الشّأن في الأوامر الإرشاديّة} فإنّ مادّتها لو كانت واجبة أفادت الوجوب ولو كانت مستحبّة كانت للاستحباب من دون مدخليّة للهيئة فيها {فافهم} إشارة إلى أنّ استقلال العقل بالحسن لا يكفي في كون الأمر للإرشاد.

ثمّ إنّ هذا المقام يتّضح ببيان أُمور ثلاثة:

الأوّل: توضيح الأمر الإرشادي وبيان الفرق بينه وبين الأمر المولوي.

الثّاني: بيان كون أوامر الإطاعة من الإرشاديّة لا المولويّة.

الثّالث: كون أوامر الاستباق كأوامر الطّاعة إرشاديّة.

أمّا المقام الأوّل، فنقول: للأمر مادّة وهي السّارية في جميع المشتقّات وهيئة تختصّ به، والمادّة تفيد متعلّق الإيجاب والهيئة تفيد الإيجاب، فلو قال المولى لعبده: (إضرب) أفاد وجوب الضّرب.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الأمر على قسمين: الأوّل الأمر المولوي، والثّاني الأمرالإرشادي.

فالأوّل: هو الّذي يترتّب على مخالفته العقاب وعلى إطاعته الثّواب، بحيث إنّه لولا الأمر لم يكن ثواب ولا عقاب.

والثّاني: هو الّذي لا يترتّب على موافقته الثواب ولا على مخالفته العقاب، بحيث إنّ وجود الأمر كعدمه، وإنّما يترتّب المصلحة على فعل المادّة والمفسدة على تركها، وذلك نحو قول الطّبيب للمريض: (إشرب المسهل) فإنّه لو لم يشرب لم يكن هناك عقاب، ولو شرب لم يكن هناك ثواب، وإنّما يترتّب على الشّرب مصلحة الصّحّة وعلى التّرك مفسدة المرض.

نعم، قد يجتمع المولويّة لهيئة الأمر والإرشاديّة لمادّته، كما لو قال المولى لعبده

ص: 467

___________________

المريض: (إشرب الدّواء) مع إيجابه عليه، فإنّه يترتّب على الشّرب الصّحّة والثّواب، وعلى التّرك المرض والعقاب.

ثمّ إنّه لو شكّ في أنّ الأمر مولويّ أو إرشاديّ لزم حمله على المولويّة - كما تقرّر في الكتب المفصّلة - .

ولا يذهب عليك أنّ الأمر الإرشادي يمكن أن يكون مع علم المأمور بمصلحة المادّة، كما في ما لو علم بمصلحة شرب الدّواء ولكن لا يشربه ويمكن أن يكون مع جهله.

ثمّ إنّ الأمر الإرشادي مستعمل في الطّلب لكن أُريد منه إفادة كون الفعل ذا مصلحة عائدة على المخاطب بطريق الكناية، نظراً إلى أنّ لازم كون الشّيء مطلوباً كونه ذا مصلحة، فهو من أقسام الإنشاء لا الإخبار.

وأمّا المقام الثّاني - وهو كون أوامر الطّاعة للإرشاديّة لا للمولويّة - فنقول:الأمر المولوي لا بدّ أن يكون باعثاً شأنيّاً للمكلّف نحو المادّة مع ترتّب الثّواب على الهيئة - كما تقدّم - فلو اختلّ أحد الشّرطين انقلب إلى الإرشاد، وأوامر الطّاعة حيث لا يترتّب على هيئتها الثّواب، ولا يكون لها باعثيّة فلا تكون مولويّة.

أمّا عدم ترتّب الثّواب على موافقتها، فلبداهة أنّ فعل الطّاعة كالصلاة - مثلاً - لا يكون له ثوابان ثواب أصل الصّلاة، - أعني: المرتّب على قوله: {أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوةَ} - وثواب إطاعة الصّلاة، - أعني: المرتّب على قوله: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ} - .

وأمّا عدم باعثيّتها فلضرورة أنّ الأمر بالصلاة إن كان باعثاً لم يحتج إلى أمر آخر وكان لغواً، وإن لم يكن باعثاً لعصيان المكلّف لم يكن الأمر بالطاعة أيضاً باعثاً.

ولكن لي في هذين الكلامين تأمّلاً:

أمّا الأوّل: فلعدم محذور في ترتّب الثّوابين على أنّ الأدلّة الشّرعيّة تساعد ذلك،

ص: 468

تتمّة: بناءً على القول بالفور، فهل قضيّة الأمر الإتيان فوراً ففوراً - بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به فوراً أيضاً في الزّمان الثّاني - أو لا؟ وجهان مبنيّان على أنّ مفاد الصّيغة - على هذا القول - هو وحدة المطلوب،

___________________

فقد ذكر الصّدوق - عليه الرّحمة - في كتاب ثواب الأعمال وعقابها(1)

رواية تدلّ على أنّ المطيع يعطى أجراً لكونه مطيعاً علاوة على أجر أصل الفعل، ولا يحضرني الآن حتّى أنقلها بلفظها.وأمّا الثّاني: فلإمكان الباعثيّة، إذ نرى في العرف أنّ المأمور قد لا ينبعث بمجرّد الأمر الأوّل ويحتاج إلى التّكرار، فتأمّل.

وأمّا المقام الثّالث - وهو كون أوامر الاستباق للإرشاد - : فلمّا ذكره المصنّف(رحمة الله) من أنّ العقل يحكم بحسن المسارعة كما يحكم بوجوب الإطاعة، فالأمر الوارد في مثله في الإرشاديّة.

وفي هذا أيضاً نظر، إذ الحكم العقلي بقبح شيء أو حسنه لا ينافي ورود الحكم الشّرعي على طبقه، كما نرى في الأمر بالإحسان والنّهي عن الظّلم، كما لا يخفى.

الإتيان فوراً ففوراً

{تتمّة} للقول بدلالة الأمر على الفور {بناءً على القول بالفور فهل قضيّة الأمر} أي: مقتضاه {الإتيان} بالفعل {فوراً ففوراً بحيث لو عصى} في الزّمان الأوّل {لوجب عليه} بمقتضى نفس الأمر الأوّل {الإتيان به فوراً أيضاً} كالزمان الأوّل {في الزّمان الثّاني} وهكذا بالنسبة إلى الزّمان الثّالث والرّابع {أو لا} يقتضي الأمر إلّا الإتيان فوراً، فلو عصى لم يجب الإتيان في الزّمان الثّاني أصلاً؟ {وجهان} بل قولان {مبنيّان على أنّ مفاد الصّيغة على هذا القول} أي: القول بالفور {هو وحدة المطلوب}

ص: 469


1- ورد: «... من قرأ كثيراً وتعاهده من شدّة حفظه، أعطاه اللّه أجر هذا مرّتين»، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: 101.

أو تعدّده؟

ولا يخفى: أنّه لو قيل بدلالتها على الفوريّة لما كان لها دلالةٌ على نحو المطلوب من وحدته أو تعدّده، فتدبّر جيّداً.

___________________

وهذا هو وجه القول الثّاني.وحاصله: أنّ الفوريّة مقوّمة لأصل المصلحة، فبفوات الفوريّة تفوت المصلحة؛ لأنّ معنى (إفعل) حينئذٍ: إفعل في الآن المتصل بزمان التّكلّم، فحين انقضاء ذلك الآن لا أمر فلا إطاعة {أو تعدّده} وهذا هو وجه القول الأوّل.

وحاصله: أنّ هناك مصلحتين: الأُولى: قائمة بذات الفعل في أيّ وقت وجد، والثّانية: قائمة بالفوريّة في الزّمان الأوّل، وحين انقضاء الزّمان الأوّل إنّما تفوت المصلحة الثّانية والمصلحة الأُولى باقية بحالها، فيجب تداركها، فتأمّل(1).

وقد يستدلّ لذلك: بأنّ الأمر يقتضي كون المأمور فاعلاً على الإطلاق، وذلك يوجب استمرار الأمر، وهناك احتمال ثالث وهو كون الأمر في أوّل الأزمنة يقتضي الفوريّة، فلو عصى كان مكلّفاً بالإتيان به في ما بعد، لا على الفور كما هو مقتضى القول الأوّل، ولا أنّه يسقط الأمر بالمرّة، كما هو مقتضى القول الثّاني.

{ولا يخفى أنّه لو قيل بدلالتها} أي: الصّيغة {على الفوريّة لما كان} جواب «لو» {لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته} الّذي هو مقتضى القول الثّاني {أو تعدّده} مع كونه في الآن الثّاني فوريّاً، أي: فوراً ففوراً كما هو مقتضى القول الأوّل، أو تعدّده مع كونه في الآن الثّاني مطلقاً، كما هو مقتضى القول الثّالث، وعلى هذا فالمرجع عند الشّكّ هو الأصول العمليّة إن لم تفد مقدّمات الحكمة شيئاً، والتّفصيل موكول إلى المفصّلات {فتدبّر جيّداً}.

ص: 470


1- وجه التّأمّل: أنّ وحدة المطلوب وتعدّده لا ترتبط بالفوريّة في الزّمان الثّاني، وإنّما ترتبط بأصل الفعل في الزّمان الثّاني.

الفصل الثّالث: الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة بلا شبهة.وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النّقض والإبرام ينبغي تقديم أُمور:

أحدها: الظّاهر أنّ المراد من «وجهه» - في العنوان - هو النّهج الّذي ينبغي أن يؤتى به على ذلك النّهج شرعاً وعقلاً، مثل أن يؤتى به بقصد التّقرّب في العبادة.

___________________

[الفصل الثّالث] الإجزاء

اشارة

المقصد الأوّل: في الأوامر، الإجزاء

{الفصل الثّالث} من الفصول المذكورة في المقصد الأوّل المتعلّق بمباحث الأوامر، وفي هذا الفصل يبحث عن مسألة الإجزاء.

فاعلم أنّ {الإتيان بالمأمور به على وجهه} متعلّق بالإتيان {يقتضي الإجزاء في الجملة} إمّا متعلّق ب «يقتضي» فيكون المعنى اقتضاؤه في الجملة، أي: في بعض الموارد، فلا يقتضي الإجزاء في بعض الموارد الأُخر أصلاً.

وإمّا متعلّق بالإجزاء فيكون المعنى إجزاؤه في الجملة بالنسبة إلى مورد الإجزاء، بحيث إنّ الإتيان يكفي عن بعض الملاك ويبقى بعض الملاك غير حاصل، فتدبّر.

ثمّ إنّ اقتضاء الإتيان بالمأمور به الإجزاء في الجملة {بلا شبهة} من أحد، وإنّما الاختلاف في التّفاصيل، كما سيبيّن {وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النّقض والإبرام ينبغي تقديم أُمور} مهمّة:

{أحدها} في تفسير عنوان المبحث - أي: الكلمات الواقعة فيه - فنقول: {الظّاهر} أي: المكتشف لدى التّأمّل في هذا المبحث {أنّ المراد من} كلمة {«وجهه» في العنوان} المتقدّم {هو النّهج الّذي ينبغي} لزوماً {أن يؤتى به} أي:بالمأمور به {على ذلك النّهج شرعاً} من أجزاء المأمور به وشرائطه وغير ذلك ممّا اعتبره الشّارع مقوّماً له {وعقلاً} من الخصوصيّات المعتبرة لدى العقل {مثل أن يؤتى به} أي: بالمأمور به {بقصد التّقرّب في العبادة} وهذا مثال لما اعتبر عقلاً، وذلك

ص: 471

لا خصوص الكيفيّة المعتبرة في المأمور به شرعاً، فإنّه عليه يكون «على وجهه» قيداً توضيحيّاً، وهو بعيدٌ، مع أنّه يلزم خروج التّعبّديّات عن حريم النّزاع، بِناءً على المختار - كما تقدّم - من أنّ قصد القربة من كيفيّات الإطاعة عقلاً، لا من قيود المأمور به شرعاً.

___________________

لما تقدّم من أنّ قصد التّقرّب لا يمكن أخذه في المأمور به {لا} أنّ المراد بكلمة «وجهه» {خصوص الكيفيّة المعتبرة في المأمور به شرعاً} فقط بحيث لا يشمل الخصوصيّات العقليّة {فإنّه} علّة لقوله: «لا خصوص» الخ {عليه} أي: على أن يكون المراد ب «وجهه» خصوص الكيفيّات الشّرعيّة {يكون} قيد {«على وجهه» قيداً توضيحيّاً} فيكون تأكيداً، بخلاف ما لو كان قيد «على وجهه» أعمّ؛ لأنّه يكون حينئذٍ تأسيساً، والتّأسيس خير من التّأكيد.

وجه ذلك: أنّ ذكر المأمور به يشمل قيوده الشّرعيّة، فلو كان قيد «على وجهه» لإفادة هذا فقط كان مستغنى عنه، بخلاف القيود العقليّة فإنّ ذكر المأمور به لا يغني عنها {وهو} أي: كون القيد توضيحيّاً {بعيد} لا يصار إليه بدون ضرورة {مع أنّه} بناءً على كون المراد من القيد الكيفيّات الشّرعيّة فقط {يلزم} محذور آخر وهو {خروج التّعبديّات عن حريم} هذا {النّزاع} الواقع في الإجزاء {بناءً على} المذهب{المختار - كما تقدّم - من أنّ قصد القربة من كيفيّات الإطاعة عقلاً لا من قيود المأمور به شرعاً} وذلك لأنّ الآتي بالمأمور به العبادي مع جميع الأجزاء والشّرائط الشّرعيّة يصدق أنّه أتى بالمأمور به «على وجهه» مع أنّ هذا لا يقتضي الإجزاء قطعاً إذا كان بدون قصد التّقرّب، وإذا لم يكن مقتضياً للإجزاء إجماعاً لا معنى لكونه محلّ النّزاع بين القوم في الإجزاء وعدمه.

إن قلت: لا يلزم خروج التّعبديّات مطلقاً؛ لأنّه يبقى في مورد النّزاع ما كان مع قصد التّقرّب.

قلت: المفروض كون مصبّ النّزاع هو الإتيان بالمأمور به على وجهه فقط من

ص: 472

ولا الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب(1)، فإنّه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلّا في خصوص العبادات، لا مطلق الواجبات - لا وجه لاختصاصه بالذّكر على تقدير الاعتبار؛

___________________

دون ضمّ شيء خارجي.

ثمّ إنّما قيّده المصنّف بقوله: «على المختار» لأنّه على قول من يرى كون قصد التّقرّب من كيفيّة المأمور به تكون العبادة داخلة في مورد النّزاع لشمول العنوان لها {ولا الوجه} عطف على قوله: «لا خصوص الكيفيّة» الخ، يعني ليس المراد من كلمة «وجهه» في العنوان خصوص الوجه {المعتبر عند بعض الأصحاب} أي: الوجوب والنّدب {فإنّه مع عدم اعتباره عند المعظم} فلا وجه لأخذه في عنوان النّزاع الواقعبين الكلّ، إذ لو كان المراد من الوجه الوجوب والنّدب كان هذا القيد في العنوان زائداً عند من لا يشترط قصدهما في العبادة وموجباً لتخصيص النّزاع بما إذا أتى بالعبادة بقصدهما، فيخرج عن مورد النّزاع ما إذا أتى بالعبادة بدونها مع أنّه من موضع النّزاع.

{و} مع {عدم اعتباره عند من اعتبره إلّا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات} هذا إشكالٌ ثانٍ على كون المراد من كلمة «وجهه» في العنوان الوجوب والنّدب.

وحاصله أنّه لو كان المراد من «وجهه» خصوصهما لزم خروج التّوصليّات عن محلّ النّزاع، إذ يصير النّزاع خاصّاً بالعبادة؛ لأنّ معنى العنوان حينئذٍ الإتيان بالمأمور به مع قصد الوجوب أو النّدب مقتضي للإجزاء، ومن البديهي أنّه حينئذٍ يكون المأمور به الّذي لا يقصد فيه أحدهما خارجاً {لا وجه لاختصاصه بالذكر} خبر قوله: «فإنّه مع» الخ وهذا إشكال ثالث، وحاصله أنّ ذكر هذا القيد {على تقدير الاعتبار} أي: اعتبار قصد الوجه في العبادة دون سائر القيود من القربة وغيرها

ص: 473


1- مفتاح الكرامة 2: 314.

فلا بدّ من إرادة ما يندرج فيه من المعنى، وهو ما ذكرناه، كما لا يخفى.

ثانيها: الظّاهر أنّ المراد من «الاقتضاء» هاهنا الاقتضاء بنحو العليّة والتّأثير، لا بنحو الكشف والدّلالة، ولذا نُسِبَ إلى الإتيان، لا إلى الصّيغة.

___________________

لا وجه له، وحين أبطلنا كون المراد من قيد ل«وجهه» خصوص الكيفيّة الشّرعيّة وكون المراد منه خصوص الوجوب والنّدب {فلا بدّ من إرادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه} فيعمّ جميع القيود الشّرعيّة والعقليّة ويعمّ العنوان العبادات والتّوصليّات، وفيهذا الكلام مواقع للنّظر {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{ثانيها} في تفسير كلمة «الاقتضاء» الواقعة في عنوان المبحث {الظّاهر أنّ المراد من «الاقتضاء» هاهنا} في العنوان {الاقتضاء بنحو العليّة والتّأثير} فيكون الإتيان علّة تامّة للسّقوط {لا} أنّ المراد من الاقتضاء الاقتضاء {بنحو الكشف والدّلالة} فيكون الإتيان علّة للعلم بسقوطه {ولذا} لمّا كان الاقتضاء بنحو العليّة {نسب} اقتضاء الإجزاء {إلى الإتيان} فإن يقتضي خبر «الإتيان» {لا إلى الصّيغة} فلم يقل الصّيغة تقتضي الإجزاء، مع أنّه لو كان المراد من الاقتضاء الكشف والدّلالة لزم نسبة الاقتضاء إلى الصّيغة. توضيح ذلك أنّ للاقتضاء إطلاقين:

الأوّل: الاقتضاء بنحو الكشف، كما يقال: إنّ الآية الفلانيّة تقتضي الوجوب، يعني تكشف عن وجوب الحكم على المكلّف.

الثّاني: الاقتضاء بنحو العليّة كما يقال: النّار تقتضي الإحراق، والصّيغة حيث لا معنى لتأثيرها في الإجزاء فلا بدّ من حملها على الدّلالة، بخلاف الإتيان فإنّه حيث لا معنى لدلالته فلا بدّ من حمله على التّأثير.

قال السّيّد الحكيم: «وحيث إنّه لا معنى لتأثير الأمر في الإجزاء وجب حمله على الدّلالة، يعنى يدلّ الأمر على أنّ موضوعه وافٍ بتمام المصلحة، بخلاف الإتيان فإنّ تأثيره في الإجزاء ظاهر، إذ لولا كونه علّة لحصول الغرض لما كان

ص: 474

إن قلت: هذا إنّما يكون كذلك بالنّسبة إلى أمره، وأمّا بالنسبة إلى أمرٍ آخر - كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظّاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي - فالنّزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما علىاعتباره، بنحوٍ يفيد الإجزاء، أو بنحوٍ آخر لا يفيده.

___________________

مأموراً به»(1).

{إن قلت: هذا} الّذي ذكرتم من كون الاقتضاء بمعنى العليّة {إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره} إذ الإتيان علّة ومقتضي لسقوط الأمر المتعلّق بالمأتي به، مثلاً الإتيان بالفعل الاختياري مقتضي وعلّة لسقوط الأمر الاختياري والإتيان بالأمر الاضطراري علّةٌ لسقوط الأمر الاضطراري.

{وأمّا} الاقتضاء {بالنسبة إلى أمر آخر كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري، أو} الإتيان بالمأمور به بالأمر {الظّاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي} كأن يقال: الإتيان بالمأمور به بالأمر الظّاهري أو الاضطراري يقتضي الإجزاء أم لا؟ {فالنزاع} هنا ليس في الاقتضاء بمعنى العليّة بل محلّ الكلام {في الحقيقة في دلالة دليلهما} وأنّه هل يكشف الأمر الاضطراري والظّاهري {على اعتباره} أي: اعتبار دليلهما {بنحو يفيد الإجزاء} عن الأمر الواقعي {أو بنحو آخر لا يفيده} أي: لا يفيد الإجزاء، وتظهر الثّمرة في القضاء والإعادة، فلو صلّى بمقتضى استصحاب الطّهارة عن الخبث الّذي هو حكم ظاهري، أو صلّى بالصلاة الاضطراريّة بمقتضى أمره ثمّ تبيّن نجاسة ثوبه أو رفع الاضطرار، فعلى القول بالإجزاء وأنّ الأمر الظّاهري والاضطراري يكفي عن الأمر الواقعي لا يلزم القضاء والإعادة، وعلى القول بعدمالإجزاء يجب القضاء والإعادة، هذا مع قطع النّظر عن قاعدة الفراغ ونحوها.

ص: 475


1- حقائق الأصول 1: 192.

قلت: نعم، لكنّه لا ينافي كون النّزاع فيهما كان في الاقتضاء بمعنى المتقدّم، غايتُهُ

___________________

فتحصّل من هذا الإشكال: أنّ «الاقتضاء» في العنوان ليس بمعنى العليّة مطلقاً، بل يكون أعمّ من العليّة والكشف.

{قلت: نعم} إنّ النّزاع قد يكون في دلالة الدّليل. توضيحه: أنّ هنا مقامات أربعة حسب الحصر العقلي:

الأوّل: أنّ الإتيان بالأمر الواقعي علّة للإجزاء عن الأمر الواقعي.

الثّاني: أنّ الإتيان بالأمر غير الواقعي من الاضطراري والظّاهري علّة للإجزاء عن الأمر غير الواقعي، والاقتضاء في هذين المقامين بمعنى العليّة والنّزاع فيهما كبروي.

الثّالث: أنّ الأمر الواقعي كاشف عن أنّ موضوعه وافٍ بتمام مصلحة الأمر غير الواقعي من الاضطراري والظّاهري، أو وافٍ لمقدار لا يبقى مجال لاستيفاء الباقي.

الرّابع: أنّ الأمر غير الواقعي كاشف عن أنّ موضوعه وافٍ بتمام مصلحة الأمر الواقعي أو وافٍ لمقدار الخ، والاقتضاء في هذين المقامين بمعنى الكشف والدّلالة والنّزاع فيهما صغرويّ. وصورة القياس أنّ الأمر سواء كان واقعيّاً أم لا كاشف عن كون موضوعه وافٍ بتمام المصلحة أو بمقدار لا يبقى مجال لاستيفاء الباقي، وكلّ كاشف كذلك علّة للإجزاء.

إذا عرفت هذا قلنا: لم يقع النّزاع في المقام الثّالث أصلاً، فالنزاع في الأمر الواقعي كبرويّ فقط وهو المقام الأوّل، وفي الأمر غير الواقعي صغرويّ وهو المقام الرّابع وكبرويّ وهو المقام الثّاني.

ثمّ إنّ النّزاع في الصّغرى بالنسبة إلى الأمر الظّاهري والاضطراري وإن كانواقعاً {لكنّه لا ينافي كون النّزاع فيهما} كبرويّاً أيضاً بأن {كان في الاقتضاء بمعنى المتقدّم} أي: العليّة، فكون الاقتضاء بمعنى العليّة يكون في الأمر الظّاهري والاضطراري، كما يكون في الأمر الواقعي {غايته} أي: غاية المطلب أنّ النّزاع

ص: 476

أنّ العمدة في سبب الاختلاف فيهما إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما - هل أنّه على نحو يستقلّ العقل بأنّ الإتيان به موجب للإجزاء ويؤثّر فيه - وعدم دلالته، ويكون النّزاع فيه صغرويّاً أيضاً. بخلافه في الإجزاء بالإضافة إلى أمره، فإنّه لا يكون إلّا كبرويّاً لو كان هناك نزاع، كما نُقِلَ عن بعضٍ(1)،

___________________

الكبروي فيهما ناشٍ عن النّزاع الصّغروي، إذ {أنّ العمدة في سبب الاختلاف فيهما} أي: في الأمر الظّاهري والاضطراري {إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما} فيبتنى النّزاع في الكبرى: أعني: الإجزاء - على النّزاع في الصّغرى - أعني: دلالة دليلهما {هل أنّه} أي: دليلهما {على نحوٍ يستقلّ العقل بأنّ الإتيان به موجب للإجزاء} بحيث لا يحتاج إلى الإعادة والقضاء {ويؤثّر فيه} أي: في الإجزاء {وعدم دلالته} أي: دليلهما للإجزاء.

والحاصل: أنّ إجزاء الأمر الاضطراري والظّاهري - وهو الكبرى - موقوف على إحراز الاشتمال على تمام مصلحة الواقع أو مقدار كافٍ منها بدلالة دليل الأمرين وهو الصّغرى {ويكون النّزاع فيه} أي: في إجزاء الأمر غير الواقعيبالنسبة إلى الأمر الواقعي {صغرويّاً} أي: في دلالة الدّليل {أيضاً} كما أنّه كبرويّ - أي: علّة لسقوط التّكليف بالواقع - {بخلافه} أي: بخلاف النّزاع {في الإجزاء} أي: إجزاء الأمر غير الواقعي {بالإضافة إلى أمره} بأن يكون الآتي بالأمر الاضطراري أو الظّاهري كافياً عن الإتيان بنفسه ثانياً {فإنّه لا يكون} النّزاع فيه {إلّا} في العليّة للسّقوط فيكون {كبرويّاً} فقط {لو كان هناك} في الكبرى {نزاع، كما نقل عن بعض}.

وهذا إشارة إلى أنّ النّزاع في الكبرى غير مهمّ، إذ العقل حاكم بأنّ الإتيان بمتعلّق كلّ أمرٍ مُجْزٍ بالنسبة إلى أمر نفسه ولا يحتاج إلى الإتيان ثانياً، نعم، خالف بعض العامّة هنا أيضاً ولا يعتدّ به.

ص: 477


1- مفاتيح الأصول: 126.

فافهم.

ثالثها: الظّاهر: أنّ «الإجزاء» هاهنا بمعناه لغةً؛ وهو الكفاية، وإن كان يختلف ما يكفي عنه؛ فإنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يكفي، فيسقط به التّعبّد به ثانياً، وبالأمر الاضطراري أو الظّاهري الجعلي فيسقط به القضاء،

___________________

ثمّ لا يذهب عليك أنّ النّزاع في الصّغرى ليس شأن الأصولي، فعلى تقدير تسليم كون النّزاع في الأمر الظّاهري والاضطراري في دلالة دليلهما لا يكون الاقتضاء في العنوان بمعنى الدّلالة؛ لأنّ الدّلالة مربوطة بالصّغرى، فلا يرد إيراد المستشكل على كلّ حالٍ، ويمكن أن يكون قوله: {فافهم} إشارة إلى هذا.

ثمّ لا يخفى أنّ خروج المقام الثّالث عن محلّ النّزاع ممّا لا وجه له لعدم معلوميّة إجزاء الإتيان بالأمر الواقعي عن الاضطراري، كما استشكل بعض في مسألة الوقوف بعرفات يوم التّاسع في ما اختلفت العامّة والخاصّة في الهلال،وكذا بعض المسائل الأُخر في التّقيّة، فراجع.

{ثالثها} أي: ثالث الأُمور الّتي نقدّمها على البحث في معنى كلمة «الإجزاء» في العنوان. {الظّاهر أنّ الإجزاء هاهنا} في عنوان البحث {بمعناه} المعروف {لغةً} وعرفاً {وهو الكفاية} وليس له معنى اصطلاحي، فيكون بمعنى سقوط القضاء أو سقوط التّعبّد، كما زعم {وإن كان يختلف ما يكفي عنه} الّذي هو متعلّق الكفاية والإجزاء {فإنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي} والظّاهري والاضطراري {يكفي} في مقام الامتثال {فيسقط به التّعبّد به ثانياً} فلا يجب الإتيان بالوضوء الظّاهري والاضطراري ثانياً، كما لا يجب الإتيان بالوضوء الواقعي ثانياً.

{و} الإتيان بالمأمور به {بالأمر الاضطراري أو الظّاهري الجعلي} يكفي {فيسقط به} أي: بهذا الإتيان {القضاء} وإنّما عبّر المصنّف في الأوّل بقوله: «فيسقط التّعبّد به» وفي الثّاني بقوله: «فيسقط به القضاء» مع أنّ سقوط التّعبّد والقضاء مشترك

ص: 478

لا أنّه يكون هاهنا اصطلاحاً - بمعنى إسقاط التّعبّد أو القضاء - ، فإنّه بعيد جدّاً.

___________________

بينهما؛ لأنّ الكلام في الأوّل كان في كفاية الإتيان بالأمر عن نفسه، ومن المعلوم أنّه لو أتى بالمأمور به سقط الغرض الباعث على الأمر، ولسقوط الغرض يسقط الأمر، وإذا سقط الأمر لم يكن مجال لإعادة الفعل إلّا بالتعبّد ثانياً، والمفروض أنّ الغرض حاصل فلا تعبّد ثانياً، وحيث لم يكن التّعبّد الثّانوي لم يكن مجال للقضاء أصلاً، إذ القضاء فرع التّعبّد الّذي هو فرع لبقاء الغرض.

والحاصل: أنّه مع ذكر سقوط التّعبّد لا يحتاج إلى ذكر سقوط القضاء.

هذا وجه الأوّل، وأمّا وجه الثّاني فلأنّ الكلام في كفاية الأمر غير الواقعي عنالأمر الواقعي، ومعلوم أنّ الكفاية ليست لأجل حصول الغرض بالتمام وإلّا لكان واجباً تخييراً من أوّل الأمر بين الواقعي وغيره، وحين لم يمكن استيفاء الغرض في حال الضّرورة وحالة التّكليف بالظاهر، فلو كان هناك شيء لكان عبارة عن القضاء الأعمّ من القضاء والإعادة، وأمّا التّعبّد ثانياً فلغو محض؛ لأنّه مع التّمكّن في الوقت وعدم حصول الغرض كانت الإعادة بالأمر الأوّل، ومعهما في خارج الوقت كان قضاءً لعدم حصول الغرض، ومع حصول الغرض لم تكن إعادة ولا قضاء، وعلى كلّ تقدير لم يكن تعبّد ثانٍ.

والحاصل: أنّه لا مجال للتعبّد الثّانوي في مقام الأمر الاضطراري والظّاهري، فتأمّل.

فتبيّن ممّا تقدّم أنّ الاختلاف في ما عنه الكفاية {لا أنّه} اختلاف في نفس الكفاية فلا {يكون} الإجزاء {هاهنا} في صدر العنوان {اصطلاحاً} جديداً {بمعنى إسقاط التّعبّد، أو} بمعنى إسقاط {القضاء} الأعمّ من الإعادة {فإنّه بعيد جدّاً} إذ إرادة معنى جديد يحتاج إلى نقل ولا أقلّ من كونه مجازاً، وكلاهما خلاف الأصل - كما لا يخفى - .

ص: 479

رابعها: الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرّة والتّكرار لا يكاد يخفى؛ فإنّ البحث هاهنا في أنّ الإتيان بما هو المأمور به يجزي عقلاً؟ بخلافه في تلك المسألة، فإنّه في تعيين ما هو المأمور به شرعاً بحسب دلالة الصّيغة بنفسها، أو بدلالة أُخرى. نعم، كان التّكرار عملاً موافقاً لعدم الإجزاء، لكنّه لا بملاكه.

___________________

{رابعها} في بيان الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة المرّة والتّكرار دفعاًلتوهّم أنّ الإجزاء هو القول بالمرّة وعدم الإجزاء هو القول بالتكرار، ولكن هذا التّوهّم في كمال الفساد، إذ {الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرّة والتّكرار لا يكاد يخفى} بأدنى التفات {فإنّ البحث هاهنا} في مسألة الإجزاء {في} الأمر العقلي و{أنّ الإتيان بما هو المأمور به يجزي عقلاً} أم لا؟ {بخلافه في تلك المسألة، فإنّه} بحث لفظي، إذ الكلام في مسألة المرّة والتّكرار {في تعيين ما هو المأمور به شرعاً}.

والحاصل: أنّ النّزاع في بحث المرّة والتّكرار من صغريات بحث الإجزاء، وذلك أنّه سواء قلنا إنّ الأمر للمرّة أو قلنا إنّ الأمر للتكرار يلزم التّكلّم في أنّ إتيان الفعل مرّة أو مكرّراً مجزٍ أم لا، فللقائل بالمرّة في تلك المسألة أن يقول بالإجزاء وبعدمه في هذه المسألة، وكذا يقول بالتكرار جاز له القول بالإجزاء وعدمه في هذه المسألة، وإنّما قلنا من صغريات بحث الإجزاء؛ لأنّ الكلام في بحث المرّة والتّكرار {بحسب دلالة الصّيغة} على أحدهما {بنفسها أو بدلالة أُخرى} وقرينة خارجيّة عامّة، ومن البديهي أنّه لو لم يكن هناك لفظ أصلاً بأن استفيد الطّلب من الإجماع جرت مسألة الإجزاء.

{نعم، كان التّكرار عملاً موافقاً لعدم الإجزاء} لأنّه لو أجزأت المرأة الواحدة لم يكن مجال للتكرار، فالتكرار وعدم الإجزاء من حيث العمل سواء {لكنّه لا بملاكه} أي: لكن التّكرار ليس بملاك عدم الإجزاء، فإنّ ملاك التّكرار ظهور الأمر وملاك عدم الإجزاء حكم العقل.

ص: 480

وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعيّة القضاء للأداء؛ فإنّ البحث في تلكالمسألة في دلالة الصّيغة على التّبعيّة وعدمها. بخلاف هذه المسألة، فإنّه - كما عرفت - في أنّ الإتيان بالمأمور به يجزي عقلاً عن إتيانه ثانياً

___________________

قال في التّقريرات في الفرق بين المسألتين: «الكلام في مسألة المرّة والتّكرار إنّما هو في تشخيص مدلول الأمر من الدّلالة على المرّة والتّكرار أو عدم الدّلالة على شيء منهما، والكلام في المقام إنّما هو في أنّ الإتيان بمدلول الأمر على القول بالمرّة أو التّكرار أو الماهيّة هل يقتضي الكفاية والإجزاء عن الإتيان به على الوجوه ثانياً أو لا؟ فلا ربط بين المسألتين مفهوماً، وأمّا مصداقاً فقد يكون القول بعدم الإجزاء ملازماً للقول بالتكرار»(1).

{وهكذا الفرق بينها} أي: بين مسألة الإجزاء {وبين مسألة تبعيّة القضاء للأداء} لا يكاد يخفى وليس اتحاد بين المسألتين، كما زعم {فإنّ البحث في تلك المسألة في دلالة الصّيغة على التّبعيّة وعدمها} فالقائل بالتبعيّة يقول بتعدّد المطلوب وإنّ صيغة (إفعل) بمنزلة أن يقول المولى: (إفعل المطلوب في داخل الوقت، فإن فاتك فأت به في خارج الوقت) فالمطلوب متعدّد:

الأوّل: أصل الفعل في أيّ وقت اتفق، والثّاني: إتيان هذا المطلوب المطلق في حدّ ذاته داخل الوقت، وذلك حيث كان هناك غرض في أصل الفعل وغرض آخر في وقته.

والقائل بعدم التّبعيّة يقول بوحدة المطلوب وإنّ صيغة (إفعل) لا تدلّ إلّا على الإتيان بالمأمور به داخل الوقت فقط {بخلاف هذه المسألة} فإنّ مسألة الإجزاء بمنزلة الكبرى بالنسبة إلى مسألة التّبعيّة {فإنّه} أي: البحث{كما عرفت} سابقاً {في أنّ الإتيان بالمأمور به} سواء كان على نحو تعدّد المطلوب أو على نحو وحدة المطلوب {يجزي عقلاً عن إتيانه ثانياً} فبعد الإتيان الأوّل لا يجب إتيان آخر

ص: 481


1- مطارح الأنظار 1: 113.

- أداءً أو قضاءً - أو لا يجزي؟ فلا عُلْقَةَ بين المسألة والمسألتين أصلاً.

إذا عرفت هذه الأُمور، فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين:

الأوّل: إنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ، - بل بالأمر الاضطراري أو الظّاهري أيضاً - يُجزي عن التّعبّد به ثانياً؛

___________________

{أداءً} في داخل الوقت {أو قضاءً} في خارجه {أو لا يجزي} فيجب الإتيان ثانياً.

قال في التّقريرات: و«أمّا الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تبعيّة القضاء للأداء، فلا يكاد يخفى، إذ من المعلوم أنّ المراد بالقضاء في المقام هو الإتيان بالفعل ثانياً - سواء كان في الوقت أو في خارجه - بعد الإتيان به أوّلاً في الوقت، والمراد منه في تلك المسألة هو الإتيان بالفعل الفائت في الوقت، فما أبعد إحدى المسألتين من الأُخرى»(1)،

انتهى.

وبهذا كلّه ظهر افتراق المباحث الثّلاثة {فلا علقة بين المسألة} الإجزائيّة {و} بين {المسألتين} مسألة المرّة والتّكرار ومسألة التّبعيّة {أصلاً} وتبيّن أنّ النّسبة عموم من وجه اختياراً(2).{إذا عرفت هذه الأُمور} الأربعة {فتحقيق المقام} في الإجزاء وعدمه {يستدعي البحث والكلام في موضعين}:

الموضع {الأوّل}: في بيان كفاية كلّ ما أتى به عن أمر نفسه، وبذلك يسقط الغرض وبسقوط الغرض لا مجال للتعبّد ثانياً، فنقول: {إنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي، بل بالأمر الاضطراري أو الظّاهري أيضاً} كالأمر الواقعي {يجزي عن التّعبّد به ثانياً} وحيث لا تعبد فلا يجب الإتيان به ثانياً؛ لأنّ الأمر الأوّل ساقط حسب الفرض، والأمر الثّاني غير متحقّق فلا يلزم الفعل ثانياً، هذا كلّه بالنسبة

ص: 482


1- مطارح الأنظار 1: 114.
2- أي: من حيث صحّة اختيار كلّ شخص طرفاً من كلّ مسألة بلا تلازم أصلاً.

لاستقلال العقل بأنّه لا مجال - مع موافقة الأمر بإتيان المأمور به على وجهه - لاقتضاء التّعبّد به ثانياً.

نعم، لا يبعد أن يقال بأنّه يكون للعبد تبديل الامتثال والتّعبّد ثانياً، بدلاً عن التّعبّد به أوّلاً، لا منضمّاً إليه - كما أشرنا إليه في المسألة السّابقة - . وذلك في ما علم أنّ مجرّد امتثاله لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض،

___________________

إلى أمر نفسه، يعني لو أتى بالفعل الواقعي لا يلزم الإتيان بالفعل الواقعي ثانياً، وكذا لو أتى بالفعل الاضطراري أو الظّاهري لا يلزم الإتيان بالفعل كذلك ثانياً.

وإنّما أتى بكلمة «بل» فيهما لاحتمال التّوهّم البدوي بعدم الإجزاء فيهما دون الأمر الواقعي، فالإجزاء قطعيّ بديهيّ.

ولا يذهب عليك أنّ الكلام في ما لم يكن هناك غرض ثان وأمر ثان، وإلّا لكان هناك أمران ويلزمهما امتثالان، وهو خارج عن محلّ الكلام.ثمّ إنّا نقول بالإجزاء في الموارد المذكورة {لاستقلال العقل بأنّه لا مجال مع موافقة الأمر} الموجبة لحصول الغرض {بإتيان المأمور به على وجهه} المعتبر عقلاً وشرعاً، والجار الأوّل متعلّق بالموافقة والثّاني بالإتيان {لاقتضاء التّعبّد به} أي: بالمأمور به {ثانياً} وقوله: «لاقتضاء» متعلّق بقوله: «لا مجال».

والحاصل: أنّ الأمر مفروض السّقوط، ولا مجال للإتيان الثّاني لعدم بقاء الغرض.

{نعم، لا يبعد أن يقال بأنّه يكون للعبد} ويجوز له {تبديل} الفرد الّذي جاء به على وجه {الامتثال} بفرد آخر في ما أمكن {و} يكون {التّعبّد ثانياً بدلاً عن التّعبّد به أوّلاً} لعدم حصول الغرض {لا منضمّاً إليه} حتّى يكون امتثالان {كما أشرنا إليه} أي: إلى جواز تبديل الامتثال {في المسألة السّابقة} في التّنبيه المذكور في المبحث الثّامن {وذلك} التّبديل إنّما يجوز {في ما علم} من الخارج {أنّ مجرّد امتثاله} أي: امتثال الأمر {لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض} أو على نحو آخر بحيث

ص: 483

وإن كان وافياً به لو اكتفى به، كما إذا أتى بماءٍ أَمَرَ به مولاه ليشربه فلم يشربه بعدُ؛ فإنّ الأمر بحقيقته وملاكه فلم يسقط بعدُ، ولذا لو أُهرق الماء واطّلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً، كما إذا لم يأت به أوّلاً؛ ضرورةَ بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الدّاعي إليه، وإلّا لما أوجب حدوثه، فحينئذٍ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر

___________________

لا يمكن تبديله {وإن كان} وصليّة، أي: لا يكون الفعل علّة تامّة وإن كان {وافياً به} أي: بالغرض {لو اكتفى به} ولم يبدله بغيره {كما إذا أتى} العبد {بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه} المولى {بعد} - بالقطع عن الإضافة - {فإنّ الأمر بحقيقته وملاكه} عطف بيان {لم يسقط بعد} لبقاء الملاك، وهو الغرض الدّاعي إلى الأمر كرفع العطش في المثال {ولذا} الّذي ذكرنا من بقاء الملاك وعدم سقوط حقيقة الأمر {لو أهرق الماء واطّلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً} ويكون الحال بعد الإهراق في وجوب الإتيان {كما إذا لم يأت به أوّلاً}.

ثمّ بيان وجه وجوب الإتيان بعد الإهراق بقوله: {ضرورة بقاء طلبه} أي: طلب المولى للماء {ما لم يحصل غرضه} من رفع العطش {الدّاعي إليه} أي: إلى الأمر {وإلّا} فلو سقط الأمر مع بقاء الغرض {لما أوجب} الغرض {حدوثه} إذ عدم الأمر حينئذٍ يكشف عن عدم أهميّة الغرض بحيث يوجب الفعل، لكن فيه تأمّل، إذ يمكن تعارض الغرض بقاعدة التّسهيل على العبد بعد الإتيان الأوّل، فإنّ في الفعل مرّتين مشقّة ليست في المرّة الأُولى - كما لا يخفى - .

والحاصل: أنّ الإتيان الثّاني يحتاج إلى أمرين: بقاء الغرض وعدم مزاحمته بشيء موجب لعدم تأثيره في البعث {فحينئذٍ} أي: حين لم يكن الإتيان علّة تامّة لحصول الغرض {يكون له} أي: للعبد {الإتيان بماء آخر موافق للأمر} مع الذّهاب بالماء الأوّل وإلّا لم يصدق التّبديل، ويكون هذا الإتيان بالماء الثّاني

ص: 484

- كما كان له قبل إتيانه الأوّل - بدلاًعنه.

نعم، كان الإِتْيانُ علّةً تامّةً لحصول الغرض، فلا يبقى موقع للتّبديل، كما إذا أُمِرَ بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه.

بل لو لم يعلم أنّه من أيّ القبيل، فله التّبديل باحتمال أن لا يكون علّة، فله إليه سبيل.

ويؤيّد ذلك - بل يدلّ عليه - ما ورد من الرّوايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعةً، وأنّ الله - تعالى - يختار أحبّهما إليه(1).

___________________

{كما كان له} الإتيان به {قبل إتيانه الأوّل}.

مثلاً: لو أتى أوّلاً بالماء في الإناء الأحمر، ثمّ أتى بالماء في الإناء الأبيض، فإنّه يجوز هذا الإتيان الثّاني، كما كان يجوز له الإتيان بالأبيض من أوّل الأمر لكن في الصّورة الأُولى يكون الإناء الأبيض {بدلاً عنه} أي: عن الإتيان الأوّل وفي الصّورة الثّانية يكون مستقلّاً.

{نعم، في ما كان الإتيان} بالفعل {علّة تامّة لحصول الغرض} أو كان بحيث لا يمكن تبديله {فلا يبقى موقع للتبديل} وذلك {كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه} فإنّه لا موقع للتبديل {بل لو لم يعلم أنّه} أي: المأمور به {من أيّ القبيل} ممّا يجوز تبديله بأن لم يكن علّةً للغرض أو ممّا لا يجوز تبديله بأن كان علّة للغرض {فله التّبديل باحتمال أن لايكون} الفعل {علّة} تامّة لحصول الغرض {فله} أي: للعبد {إليه} أي: إلى التّبديل {سبيل} لكفاية الاحتمال هنا.

{ويؤيّد ذلك} الّذي ذكرنا من جواز تبديل الامتثال {بل يدلّ عليه ما ورد من الرّوايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعة وأنّ الله - تعالى - يختار أحبّهما إليه} كرواية أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللّه(علیه السلام): أُصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصّلاة

ص: 485


1- وسائل الشيعة 8: 401403.

الموضع الثّاني: وفيه مقامان:

المقام الأوّل: في أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري هل يجزي عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ثانياً بعد رفع الاضطرار - في الوقت إعادةً وفي خارجه قضاءً - أو لا يجزي؟

تحقيق الكلام فيه يستدعي التّكلّم فيه:

تارةً في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء،

___________________

وقد صلّيتُ؟ فقال(علیه السلام): «صلّ معهم، يختار اللّه أحبّهما إليه»(1).

وفي مرسلة الصّدوق: «يحسب له أفضلهما وأتمّهما»(2).

ولا يذهب عليك أنّ هذه الرّوايات وأمثالها لا تدلّ على تبديل الامتثال في موردها فضلاً عن الدّلالة على التّبديل في غيره - كما لا يخفى - .

{الموضع الثّاني} في بيان كفاية كلّ من الأمر الاضطراري والظّاهري عن الأمر الواقعي وعدمها {وفيه مقامان}:{المقام الأوّل في} بيان {أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري} كالصلاة مع التّيمّم {هل يجزي عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي} كالصلاة مع الوضوء بحيث لا تجب الصّلاة الاختياريّة {ثانياً بعد رفع الاضطرار} سواء كان رفع الاضطرار {في الوقت} فلا تجب الصّلاة {إعادة} أ {و في خارجه} فلا تجب {قضاءً أو لا يجزي} الفعل الاضطراري عن الاختياري؟

و{تحقيق الكلام فيه} أي: في هذا المقام {يستدعي التّكلّم فيه تارة في} مقام الثّبوت، أي: {بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء} والوجوه من

ص: 486


1- تهذيب الأحكام 3: 270؛ الكافي 3: 379.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 384.

وبيان ما هو قضيّةُ كلٍّ منها من الإجزاء وعدمه.

وأُخرى في تعيين ما وقع عليه.

فاعلم: أنّه يمكن أن يكون التّكليف الاضطراري في حال الاضطرار - كالتكليف الاختياري في حال الاختيار - وافياً بتمام المصلحة وكفاياً في ما هو المهم والغرض. ويمكن أن لا يكون وافياً به كذلك، بل يبقى منه شيءٌ أمكن استيفاؤه، أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه، أو يكون بمقدار يستحب.

___________________

الوفاء بتمام المصلحة أو بعضها، وهكذا {وبيان ما هو قضيّة كلّ منها من الإجزاء وعدمه} بيان «ما» {و} التّكلّم تارة {أُخرى في} مقام الإثبات، أي: {تعيين ما وقع عليه} الأمر الاضطراري من الأنحاء في الشّريعة المقدّسة.إذا عرفت ذلك {فاعلم أنّه يمكن} في مقام الثّبوت {أن يكون التّكليف الاضطراري في حال الاضطرار} على خمسة وجوه:

الأوّل: أن يكون {كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافياً بتمام المصلحة} من غير نقص شيء {وكافياً في ما هو المهم} للمولى {و} ما هو {الغرض} له وإنّما لم يجب من أوّل الأمر تخييراً لعدم وفائه في حال الاختيار بتمام المصلحة.

{ويمكن أن لا يكون وافياً به} أي: بتمام المصلحة {كذلك} أي: كالقسم الأوّل الّذي كان وافياً {بل يبقى منه} أي: من تمام المصلحة {شيء} إمّا {أمكن استيفاؤه} وسيأتي {أو لا يمكن} استيفاؤه.

فحاصل القسم الثّاني هو: ما لا يكون وافياً بتمام الغرض وليس يمكن استيفاء الباقي مع حرمة التّفويت {وما أمكن} استيفاؤه على ضربين؛ لأنّه إمّا {كان بمقدار يجب تداركه} وهو الثّالث {أو يكون} الباقي {بمقدار يستحبّ} تداركه وهو القسم الرّابع.

الخامس: ما لا يكون وافياً بتمام الغرض وليس يمكن استيفاء الباقي مع عدم

ص: 487

ولا يخفى: أنّه إن كان وافياً به

___________________

حرمة التّفويت.

وإن شئت قلت: إنّ الفعل الاضطراري: إمّا أن يكون وافياً بتمام الغرض أو لا، وما لا يكون وافياً بتمام الغرض إمّا يمكن استيفاء الباقي أو لا، وما يمكن استيفاءالباقي إمّا أن يكون الاستيفاء واجباً أو مستحبّاً، وما لا يمكن استيفاء الباقي إمّا مع حرمة التّفويت أم لا.

مثلاً: لو فرض أنّ هناك مزرعة لزم سقيها بماء عذب ماؤه كرّ ثمّ لم يتمكّن السّاقي من ذلك واضطرّ إلى سقيها بالماء الأُجاج بذلك المقدار فهناك خمس صور:

الأوّل: أن يكون الأُجاج وافياً بتمام الغرض في هذا الحال.

الثّاني: أن يكون وافياً بنصف الغرض ويمكن استيفاء النّصف الآخر مع وجوبه.

الثّالث: إمكان الاستيفاء مع استحبابه.

الرّابع: أن يكون الأُجاج وافياً بنصف الغرض ولا يمكن استيفاء الباقي مع حرمة هذا التّفويت.

الخامس: عدم إمكان الاستيفاء بدون حرمة التّفويت.

هذا كلّه في مقام الثّبوت والواقع من جهة فرض الأقسام، وأمّا مواقع الكلام في هذه الأقسام الخمسة فثلاثة:

الأوّل: بيان أجزاء كلّ قسم وعدمه.

الثّاني: إمكان تشريع البدار في كلّ قسم وعدمه.

الثّالث: جواز تشريع التّخيير بين الاضطراري في الوقت والاختياري في خارجه في كلّ قسم وعدمه {ولا يخفى أنّه إن كان} الفعل الاضطراري {وافياً به}

ص: 488

فيجزي، فلا يبقى مجال أصلاً للتدارك، لا قضاء ولا إعادةً.

وكذا لو لم يكن وافياً، ولكن لا يمكن تداركه.

ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصّورةإلّا لمصلحة، كانت فيه؛ لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة، لولا مراعاة ما هو فيه من الأهمّ، فافهم.

لا يقال: عليه، فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار؛

___________________

أي: بتمام الغرض وهو القسم الأوّل {فيجزي} عن الواقع {فلا يبقى مجال أصلاً للتدارك لا قضاء ولا إعادة} وأمّا جواز البدار فسيشير إليه بقوله: «وأمّا تسويغ البدار» الخ وأمّا التّخيير فلا مانع منه في ما إذا كان مصلحة الوقت مكافئاً لمصلحة كمال الغرض.

{وكذا} يجزي الفعل الاضطراري {لو لم يكن وافياً ولكن لا يمكن تداركه} مع حرمة التّفويت، وهو القسم الثّاني في المتن والرّابع في الشّرح {ولا يكاد يسوغ له} أي: للمولى تجويز {البدار} والمسارعة بإتيان الفعل في أوّل الوقت {في هذه الصّورة} الثّانية {إلّا لمصلحة كانت فيه} أي: في البدار {لما فيه} أي: في تجويز البدار {من نقض الغرض} في ما لو بادر العبد ثمّ تمكّن من الفعل الاختياري، {و} ذلك لأنّ فيه {تفويت مقدار من المصلحة} غير المتداركة {لولا مراعاة} المولى {ما هو فيه} أي: المصلحة الّتي هي في البدار {من} فضيلة أوّل الوقت - مثلاً - الّتي هي {الأهم} من تلك المصلحة الفائتة، وأمّا التّخيير فلا مانع منه مع تكافئ المصلحتين - كما لا يخفى - {فافهم} لعلّه إشارة إلى القسم الخامس وأنّه يجوز تشريع البدار فيه، فليس قوله: «وكذا لم يكن وافياً» الخ على إطلاقه في عدم إمكان تشريع البدار.

{لا يقال: عليه} أي: بناء على فرض لزوم نقض الغرض من القسم الثّاني {فلا مجال لتشريعه} أي: تشريع هذا القسم{ولو} من دون بدار، أي: {بشرط الانتظار} إلى آخر الوقت.

ص: 489

لإمكان استيفاء الغرض بالقضاء.

فإنّه يقال: هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت.

وأمّا تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار في الصّورة الأُولى، فيدورُ مدار كون العمل بمجرّد الاضطرار - مطلقاً، أو بشرط الانتظار،

___________________

والحاصل: أنّ البدل الاضطراري إذا كان غير واف بتمام الغرض الحاصل من الفعل الاختياري كيف يجوز تشريعه ولو في آخر الوقت، بل اللّازم عدم تشريعه أصلاً؟ {لإمكان استيفاء الغرض} بتمامه {بالقضاء} فمع إمكان الاستيفاء يكون في تشريع النّاقص نقضاً للغرض وهو قبيح.

{فإنّه يقال} في الجواب: {هذا} الّذي ذكرتم من عدم جواز التّشريع في القسم الثّاني {كذلك} كما ذكرتم صحيح {لولا المزاحمة بمصلحة الوقت} وأمّا لو زوحم بأن دار الأمر بين تشريع الفعل في الوقت الموجب لفوت بعض الغرض مع درك مصلحة الوقت وبين عدم تشريع الفعل، بل إيجاب القضاء الموجب لحصول تمام الغرض، لكن مع فوت مصلحة الوقت، فاللّازم حينئذٍ ملاحظة أهمّ هذين الأمرين، فإن كان الأوّل أهمّ شرع الأداء، وإن كان الثّاني أهم شرع القضاء وإن لم يكن أحدهما أهمّ، بل تكافي الأمران لزم التّخيير.

{وأمّا} ما أشرنا إليه سابقاً من {تسويغ} تجويز المولى {البدار} بالفعل {أو} عدم جواز تسويغه بل {إيجاب الانتظار} إلى آخر الوقت {في الصّورة الأُولى} وهي ما كان الفعل الاضطراري في الوقت وافياً بتمام الغرض {فيدور مدار} أحدالملاكات الثّلاث:

الأوّل: {كون العمل بمجرّد الاضطرار مطلقاً} سواء يَئِسَ عن طروّ الاختيار {أو} لا ذا مصلحة، وحينئذٍ يسوغ للمولى تجويز المبادرة إلى الفعل مطلقاً.

الثّاني: كون العمل {بشرط الانتظار} إلى آخر الوقت ذا مصلحة، وحينئذٍ فلا يسوغ

ص: 490

أو مع اليأس عن طروّ الاختيار - ذا مصلحة ووافياً بالغرض.

وإن لم يكن وافياً وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت، أو مطلقاً ولو بالقضاء خارج الوقت، فإن كان الباقي ممّا يجب تداركه فلا يجزي، فلا بدّ من إيجاب الإعادة أو القضاء، وإلّا فيجزي.

ولا مانع عن البدار في الصّورتين.

___________________

للمولى تجويز المبادرة إلى الفعل مطلقاً مع اليأس عن طروّ الاختيار {أو} بدونه.

الثّالث: كون العمل {مع اليأس} للعبد {عن طروّ الاختيار ذا مصلحة} بأن كان ليأس العبد مدخلاً في المصلحة، فإن يئس كان الفعل تامّ المصلحة {ووافياً بالغرض} وإن لم ييأس لم يكن الفعل وافياً، وحينئذٍ يسوغ للمولى تجويز البدار مع اليأس وعدم تجويزه مع عدم اليأس.

{وإن لم يكن} الفعل الاضطراري {وافياً} بتمام الغرض عطف على قوله: «ولا يخفى أنّه إن كان وافياً به فيجزي» الخ {وقد أمكن تدارك الباقي} الفائت {في الوقت} فقط دون خارج الوقت {أو} أمكن تدارك الفائت {مطلقاً ولو بالقضاء خارجالوقت} فله صورتان:

الأُولى: أن يكون الباقي واجب التّدارك.

الثّانية: أن يكون مستحبّ التّدارك، {فإن كان الباقي ممّا يجب تداركه} وهو القسم الثّالث في المتن والثّاني في الشّرح {فلا يجزي} الفعل الاضطراري وحينئذٍ {فلا بدّ من إيجاب الإعادة} إذا تمكّن في الوقت {أو القضاء} إذا تمكّن خارجه {وإلّا} بأن كان الباقي لا يجب تداركه، بل يستحبّ في ما كان الفعل وافياً ببعض الغرض وكان الباقي ممكن التّدارك وهو القسم الرّابع في المتن والثّالث في الشّرح {فيجزي} الفعل الاضطراري ولا مانع في عدم إيجاب القضاء والإعادة {ولا مانع عن} تسويغ المولى {البدار في الصّورتين} الثّالثة والرّابعة - أعني: صورتي

ص: 491

غاية الأمر يتخيّر في الصّورة الأُولى بين البدار والإتيان بعملين: - العمل الاضطراري في هذا الحال، والعملِ الاختياري بعد رفع الاضطرار - أو الانتظار والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار. وفي الصّورة الثّانية يتعيّن عليه البدار(1)،

ويستحبّ إعادته بعد طروّ الاختيار.

___________________

وجوب التّدارك واستحبابه - {غاية الأمر يتخيّر في الصّورة الأُولى} وهي الممكن التّدارك واجباً {بين البدار} بالفعل الاضطراري {و} ذلك بشرط {الإتيان بعملين} حتّى يحرز تمام المصلحة بعضها بسبب {العمل الاضطراري في هذا الحال} أي: أوّل الوقت وهو حال الاضطرار {و} بعضها الآخر بسبب{العمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو} بين {الانتظار} لوقت الاختيار {والاقتصار بإتيان ما هو تكليف} الشّخص {المختار} ووجه التّخيير واضح، إذ يمكن تحصيل الغرض في الصّورتين {وفي الصّورة الثّانية} وهي الممكن التّدارك مستحبّاً{يتعيّن عليه البدار} بالفعل الاضطراري بحيث يقع في الوقت ملاحظة لمصلحة الوقت {ويستحبّ إعادته بعد طروّ الاختيار(2)} في خارج الوقت لاستيفاء بقيّة المصلحة غير الملزمة.

وأمّا القسم الخامس: وهو ما لا يكون وافياً مع عدم حرمة تفويت الباقي - فإنّه يجزي الفعل الاضطراري لدرك المقدار اللّازم من المصلحة ويسوغ البدار في الوقت، وأمّا التّخيير بينه وبين خارج الوقت، فيتوقّف على تكافؤ مصلحة الوقت ومصلحة بقيّة الغرض.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ المصنّف استعمل البدار تارة بمعنى أوّل الوقت في قوله:

ص: 492


1- وفي النّسخة الأصليّة: «يتعيّن عليه استحباب البدار، وإعادته بعد طروء الاختيار».
2- ما ذكرناه من العبارة مطابق لكفاية القوچاني والمشكيني، وفي كفاية الحكيم العبارة هكذا: «يتعيّن عليه استحباب البدار» الخ، وفي كفاية الرّشتي هكذا: «البدار ويستحبّ الإعادة».

هذا كلّه في ما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الأنحاء.

وأمّا ما وقع عليه: فظاهر إطلاق دليله - مثل قوله، تعالى: {فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا}(1)، وقوله(علیه السلام): «التّراب أحد الطَّهُورين»(2)

و«يكفيك عشر سنين»(3) - هوالإجزاء

___________________

«ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصّورة» الخ، والدّليل على ذلك قوله بعد: «لا يقال عليه» الخ؛ لأنّه لو كان المراد من البدار الوقت كان معنى قول المصنّف(رحمة الله) لا يكاد يسوغ تشريع الفعل في الوقت فلا مجال لهذا الإشكال، وكذا المراد من البدار في قوله: «وأمّا تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار» الخ بقرينة قوله بعد: «أو بشرط الانتظار» الخ.

واستعمله تارة بمعنى تمام الوقت مقابل القضاء في قوله: «وفي الصّورة الثّانية يتعيّن عليه البدار» الخ، والدّليل على ذلك أنّ الصّورة الثّانية وهي الممكن التّدارك مستحبّاً لا يجب فعله في أوّل الوقت بل يجزي إتيانه في أيّ جزء من تمام الوقت.

وقد تحصّل ممّا ذكر أنّ الأقسام خمسة وأنّ في كلّ قسم جهات ثلاثة من الكلام الإجزاء وجواز البدار والتّخيير.

{هذا كلّه في ما يمكن أن يقع عليه} الفعل {الاضطراري من الأنحاء} في مقام الثّبوت {وأمّا ما وقع عليه} الفعل الاضطراري وثبت بالدليل النّقلي {فظاهر إطلاق} الدّليل في بعض الأوامر الاضطراريّة ما خلا التّيمّم ظاهر {دليله مثل قوله - تعالى - : {فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا} وقوله(علیه السلام): «التّراب أحد الطّهورين» و«يكفيك عشر سنين» هو الإجزاء}.

ص: 493


1- سورة النّساء، الآية: 43؛ سورة المائدة، الآية: 6.
2- الكافي 3: 64، وفيه: «إن التيمم...».
3- من لا يحضره الفقيه 1: 108، وفيه: «يكفيك الصعيد...».

وعدمُ وجوب الإعادة أو القضاء، ولا بدّ في إيجاب الإتيان به ثانياً من دلالة دليلبالخصوص.

وبالجملة: فالمتّبع هو الإطلاق لو كان، وإلّا فالأصل، وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة؛ لكونه شكّاً في أصل التّكليف، وكذا من إيجاب القضاء بطريق أولى.

___________________

أمّا إطلاق الآية فحيث كان المولى في مقام البيان لتمام ما له دخل في حصول الغرض المترتّب على الفعل الاختياري ومع ذلك لم يأمر بالقضاء والإعادة كشف ذلك عن كفايته بهذا البدل، وأمّا إطلاق قوله(علیه السلام): «التّراب أحد الطّهورين»؛ فلأنّ إطلاق البدليّة يقتضي قيام البدل مقام المبدل منه في جميع الآثار والخواص، وأمّا إطلاق قوله(علیه السلام): «يكفيك عشر سنين» فواضح وإن كان في الكلّ تأمّل.

وعلى كلّ حال فلو انعقد لدليل الاضطرار إطلاق كان مقتضاه هو الإجزاء {وعدم وجوب الإعادة} في الوقت لو تمكّن من الفعل الاختياري {أو القضاء} في خارجه كذلك.

{و} على هذا {لا بدّ في إيجاب} المولى {الإتيان به ثانياً} في حال الاختيار {من دلالة دليل بالخصوص} ولا يمكن الاكتفاء بإطلاق دليل المبدل، إذ هو ساقط لحكومة دليل البدل عليه.

{وبالجملة فالمتّبع هو الإطلاق} لدليل البدل المقتضي للإجزاء {لو كان} هناك إطلاق ولو مقاميّاً {وإلّا} يكن إطلاق لفظيّ أو مقامي {فالأصل} العملي يكون المرجع {وهو يقتضي البراءة من إيجاب} المولى {الإعادة} في الوقت {لكونه شكّاً في أصل التّكليف} إذ التّكليف الاختياري سقط بالاضطرار وعدم الإمكان، والتّكليف الاضطراري سقط بالإتيان.{وكذا} الأصل يقتضي البراءة {من إيجاب القضاء بطريق أولى} لأنّ عدم وجوب

ص: 494

نعم، لو دلّ دليله على أنّ سببه فوت الواقع - ولو لم يكن هو فريضة - كان القضاء واجباً عليه؛ لِتَحَقُّقِ سَبَبهِ وإن أتى بالغرض، لكنّه مجرّد الفرض.

___________________

الإعادة في الوقت في ما لو ارتفع الاضطرار يكشف عن وفاء الاضطرار بتمام الغرض ومع الوفاء بتمام الغرض لا مجال أصلاً لإيجاب القضاء، وهذا بخلاف العكس فإنّ عدم إيجاب القضاء لا يكشف عن عدم إيجاب الإعادة.

وإن شئت قلت: إنّه كلّما وجب القضاء وجبت الإعادة، وهذه قضيّة شرطيّة متصلة بحسب الفهم العرفي فتنتج وضع المقدّم ورفع التّالي، فتدبّر.

{نعم} قد لا يكون مسرح لأصل البراءة، وذلك في ما {لو دلّ دليله} أي: دليل القضاء {على أنّ سببه} أي: سبب القضاء {فوت الواقع} وعدم الإتيان به بحيث إنّه يجب القضاء كلّما لم يؤت بالواقع {ولو لم يكن هو فريضة} في حال الاضطرار {كان} جواب «نعم» {القضاء واجباً عليه لتحقّق سببه} الّذي هو عدم فعل الواقع {وإن أتى} المكلّف {بالغرض} الباعث للأمر الاختياري و{لكنّه} أي: كون دليل القضاء كذلك {مجرّد الفرض} والإمكان في مكان الواقع.

وأمّا ما ورد من الأدلّة فلا تدلّ إلّا على وجوب قضاء ما فات من الفريضة والمفروض في المقام عدم الفريضة، ففي النّبوي المشهور - كما في مصباح الفقيه - : «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته»(1)، وفي تعليقة العلّامة الرّشتيقوله(علیه السلام): «ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك»(2).

ولا يذهب عليك عدم تماميّة هذا الكلام، إذ ليس المراد من الحديث فوت الفريضة الفعليّة فقط، فإنّ النّائم - مثلاً - ليس عليه فريضة فعليّة، مع أنّهم يتمسّكون لوجوب القضاء عليه بهذا الحديث وكذا غيره من ذوي الأعذار، فراجع.

ص: 495


1- غوالي اللئالي 2: 54؛ مصباح الفقيه 6: 338.
2- شرح كفاية الأصول 1: 118.

المقام الثّاني: في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظّاهريّ وعدمه.

___________________

{المقام الثّاني} من الموضع الثّاني {في} بيان {إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظّاهري} عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ثانياً - بعد كشف الواقع - في الوقت إعادة وفي خارجه قضاءً {وعدمه} فيجب الإعادة والقضاء بعد الانكشاف.

وقبل الشّروع في الكلام لا بدّ من بيان أقسام الحكم، فنقول: الحكم على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الحكم الواقعي وينقسم إلى أفراد طوليّة كالحكم الواقعي الاختياري والحكم الواقعي الاضطراري، فوجوب الصّلاة مع الطّهارة للشّخص المختار حكم واقعيّ أوّليّ ووجوبها، مع التّيمّم للمضطرّ حكم واقعيّ ثانوي، وهذا القسم من الأحكام لا يجوز للمكلّف إخراج نفسه من الأوّلي إلى الثّانوي، ولهذا سمّي طوليّاً.

وإلى أفراد عرضيّة كالحكم للحاضر والمسافر والغنيّ والفقير، فوجوب التّمام على الحاضر والخمس على الغني حكم لموضوع ووجوب القصر على المسافر وعدم وجوب الخمس على الفقير حكم لموضوع آخر، وهذا القسم من الأحكاميجوز للمكلّف إخراج نفسه من أحدهما إلى الآخر، ولهذا سمّي عرضيّاً.

الثّاني: الحكم الظّاهري وله إطلاقان: الأوّل ما كان للجهل مدخل فيه بخلاف الحكم الواقعي الّذي لا مدخل للجهل فيه.

ثمّ إنّ مدخليّة الجهل في الحكم الظّاهري قد يكون بنحوٍ أخذ ظرفاً وهي محلّ الأدلّة الاجتهاديّة، وتنقسم إلى الحكميّة كأخبار الآحاد والموضوعيّة كالبيّنة.

وقد يكون بنحو أخذ جزءاً للموضوع وهي مجرى الأصول العمليّة، وتنقسم إلى

ص: 496

والتّحقيق: أنّ ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التّكليف

___________________

ما له كشف ناقص عن الواقع، كالاستصحاب، وما ليس له ذلك، كالبراءة والاحتياط والتّخيير.

وتنقسم بتقسيم آخر إلى الأصول الحكميّة الكليّة، كحليّة شرب التّتن، والموضوعيّة الخارجيّة، كحليّة هذا البيع الموجود والحكميّة الجزئيّة، كأصل الصّحّة واليد وسوق المسلمين. الثّاني من إطلاقي الحكم الظّاهري إطلاقه على ما يقابل الأدلّة الاجتهاديّة، فتختصّ بموارد الأصول العمليّة فقط.

الثّالث: الحكم التّخيّلي كالقطع فإنّه ليس مجعولاً، بل هو طريق بنفسه - كما سيأتي في المجلّد الثّاني - إن شاء اللّه تعالى.

والمراد من الأمر الظّاهري في كلام المصنّف(رحمة الله) ما سوى الواقعي والتّخيّلي، أمّا الواقعي فاختياريّه خارج عن مبحث الإجزاء، واضطراريّه تقدّم الكلام فيه في المقام الأوّل، وأمّا التّخيّلي فسيأتي الكلام فيه في التّذنيب الأوّل، فالكلام الآن في الأمر الظّاهري بإطلاقه الأوّل، فاعلم أنّ الأمر الظّاهري على نحوين:الأوّل: الأصل وهو ما يكون مفاد دليله جعل نفس موضوع الحكم الشّرعي حقيقة - بمعنى الاتساع في موضوع الحكم - فلو قال: (صلّ مع طهارة اللّباس) ثمّ قال: (المشكوك طاهر) كان مفاد الدّليلين جواز الصّلاة في الطّاهر الواقعي ومشكوك الطّهارة.

الثّاني: الأمارة وهو ما يكون مفاد دليله ثبوت موضوعه الواقعي - بمعنى أنّ الشّارع جعل بعض الأُمور كاشفاً عن موضوع حكمه - فلو قال: (صلّ مع الوضوء) ثمّ قال: (البيّنة حجّة) لم يكن مفاد الدّليلين أزيد من جواز الصّلاة مع الوضوء الواقعي وإنّما البيّنة طريق إليه، كالقطع.

{و} إذا عرفت ما تقدّم، فاعلم {التّحقيق أنّ} الأمر الظّاهري {ما كان منه يجري} أي: يكون مجعولاً {في تنقيح ما هو موضوع التّكليف} وهو النّحو الأوّل

ص: 497

وتحقيق متعلّقه، وكان بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره - كقاعدة الطّهارة أو الحليّة، بل واستصحابهما، في وجهٍ قويّ، ونحوهما بالنّسبة إلى كلّ ما اشترط بالطّهارة أو الحليّة - يجزي؛ فإنّ دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط،

___________________

{وتحقيق متعلّقه و} ذلك بأن {كان} الأمر الظّاهري {بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره} أي: جزؤه {كقاعدة الطّهارة} أي: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» {أو} قاعدة {الحليّة} أي: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» {بل واستصحابهما} والفرق بين القاعدتين واستصحابهما أنّ القاعدة لا تحتاج إلى سابقة الطّهارة والحليّة والاستصحاب يحتاج إليها، وكلّما اجتمع الاستصحاب والقاعدة كان الاستصحاب مقدّماً؛ لأنّ الاستصحاب رافعلموضوع الشّكّ، وهذا بعكس استصحاب عدم الحجيّة والشّكّ في عدم الحجيّة فإنّ الاستصحاب ساقط، كما لا يخفى، إذ الأثر للشّكّ لا للمشكوك {في وجه قوي} وهو كون الاستصحاب جعل للمؤدّى كما هو مختار المصنّف(رحمة الله)، مقابل من يقول بأنّه تنزيل بلحاظ العمل {ونحوهما} أي: نحو القاعدتين والاستصحابين ممّا هو جعل لموضوع الحكم حقيقة، كقاعدة الفراغ {بالنسبة إلى كلّ ما اشترط بالطّهارة} عن الخبث {أو الحليّة} كالصلاة والطّواف ونحوهما، والجار في قوله: «بالنسبة» متعلّق بقوله: «كقاعدة الطّهارة» {يجزي} خبر قوله: «إنّ ما كان» {فإنّ} علّة للإجزاء {دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط} أي: دليل قاعدة الطّهارة والحليّة ونحوهما حاكم على دليل اشتراط الصّلاة بالطهارة الخبثيّة وحليّة لباس المصلّي ومكانه.

ومعنى الحكومة: أن يكون أحد الدّليلين ناظراً إلى الدّليل الآخر ويكون موسّعاً لموضوعه أو مضيِّقاً له، مثلاً: قال المولى: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (زيد عالم) - في ما كان جاهلاً خارجاً - كان قوله: (زيد عالم) حاكماً على دليل (أكرم

ص: 498

ومبيِّناً لدائرة الشّرط، وأنّه أعمّ من الطّهارة الواقعيّة والظّاهريّة، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنّسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل.

___________________

العلماء) لأنّه وسّع دائرة العلماء.

وهكذا لو قال بعد قوله: (أكرم العلماء): (عمرو ليس بعالم) - في ما كانعالماً خارجاً - فإنّه حاكم على دليل (أكرم العلماء) لأنّه ضيّق دائرة العلماء.

وفي ما نحن فيه كذلك، إذ الدّليل القائل بوجوب كون الصّلاة مع الطّهارة، ومع حليّة اللّباس محكوم بدليل «كلّ شيء لك طاهر» و«كلّ شيء لك حلال»، إذ هما يوسّعان دائرة الطّهارة والحليّة فكلّ من دليل القاعدتين يكون حاكماً موسّعاً {ومبيّناً لدائرة الشّرط} أي: شرط الطّهارة والحليّة في الصّلاة {وأنّه} أي: الشّرط {أعمّ من الطّهارة الواقعيّة} والحليّة الواقعيّة {و} من الطّهارة والحليّة {الظّاهريّة} ولو كان نجساً وحراماً واقعاً.

وعلى هذا التّقدير - وهو أن يكون الشّرط أعمّ من الواقع والظّاهر - {فانكشاف الخلاف فيه} أي: في الشّرط بأن تبيّن بعد الصّلاة نجاسة الثّوب المشكوك أو حرمته {لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه} حتّى تجب الإعادة والقضاء {بل} العمل بعد انكشاف الخلاف {بالنسبة إليه} أي: إلى الشّرط {يكون من قبيل ارتفاعه} أي: ارتفاع الحكم {من حين ارتفاع الجهل} فكما أنّ تبدّل الموضوع بموضوع آخر في سائر الموارد لا يضرّ بالعمل الّذي أتى به في حال وجود الموضوع الأوّل - مثل ما لو صلّى في السّفر ثمّ صار حاضراً فإن بدّل موضوع المسافر إلى الحاضر غير ضائر بالصلاة المأتي بها في حال السّفر - كذلك تبدّل الجهل بالنجاسة إلى العلم بها لا يضرّ بالعمل الّذي أتى به في حال الجهل، فالصلاة المأتي بها في حال الشّك في الحليّه صحيحة ولا تحتاج إلى الإعادة إذا تبيّن حرمة اللّباس.

ص: 499

وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنّه ما هو الشّرط واقعاً - كما هو لسان الأمارات - ، فلا يجزي؛ فإنّ دليل حجيّته حيث كان بلسان أنّه واجِدٌ لما هو شرطه الواقعيّ،فبارتفاع الجهل ينكشف أنّه لم يكن كذلك، بل كان لشرطه فاقداً.

هذا على ما هو الأظهر الأقوى في الطّرق والأمارات، من أنّ حجيّتها ليست بنحو السّببيّة.

___________________

{وهذا} إنّما يتمّ في الأمر الظّاهري الّذي كان بلسان تحقيق شرط التّكليف وشطره {بخلاف ما كان منها} أي: من الأوامر الظّاهريّة {بلسان} الكشف عن الواقع {أنّه ما هو الشّرط واقعاً} وهو النّحو الثّاني على ما تقدّم {كما هو} أي: النّحو الثّاني {لسان الأمارات} كالبيّنة وغيرها، وكذلك الاستصحاب في وجه غير قوي عند المصنّف، فإنّ الأمارة إذا قامت على وجود الشّرط - مثلاً - ثمّ انكشف الخلاف {فلا يجزي} بل يجب الإتيان بالعمل ثانياً أداءً أو قضاءً، وذلك {فإنّ دليل حجيّته} أي: حجيّة النّحو الثّاني وهو مصداق ما في قوله: «ما كان منها بلسان» الخ {حيث كان بلسان أنّه واجد لما هو شرطه الواقعي} فإنّ البيّنة القائمة على كون زيد متوضّئاً تقول بوجود الوضوء الواقعي الّذي هو شرط الصّلاة {فبارتفاع الجهل} وتبيّن اشتباه البيّنة {ينكشف أنّه لم يكن} العمل {كذلك} واجداً للشّرط الواقعي {بل كان لشرطه فاقداً} فلم ينعقد العمل صحيحاً حتّى لا يجب التّدارك.

{هذا} أي: ما ذكرنا من عدم الإجزاء في ما كان بلسان أنّه ما هو الشّرط واقعاً مبنيّ {على ما هو الأظهر الأقوى} عندنا {في الطّرق والأمارات} والفرق بينهما أنّ الطّرق في الأحكام والأمارات في الموضوعات {من أنّ حجيّتها ليست بنحو السّببيّة}.اعلم أنّ التّعبّد بالأمر الظّنّي سواء كان في الأحكام أو في الموضوعات يتصوّر على وجهين:

ص: 500

وأمّا بناءً عليها - وأنّ العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره يصير حقيقة صحيحاً، كأنّه واجد له، مع كونه فاقِدَهُ - فيجزي لو كان الفاقد معه -

___________________

الأوّل: الطّريقيّة، وهو أنّه يجب العمل به لمجرّد كونه طريقاً إلى الواقع وكاشفاً ظنيّاً عنه، بحيث لم يلاحظ فيه سوى الكشف عن الواقع وإصابته، فإن صادفه أحرز مصلحة الواقع وإن لم يصادفه لم يكن له شيء.

الثّاني: السّببيّة، وهو أنّه يجب العمل به لأجل أنّه يحدث فيه بسبب قيام الطّريق مصلحة مساوية أو راجحة على المصلحة الواقعيّة الّتي تفوت عند مخالفة تلك الطّريق للواقع.

مثلاً: إذا أوجب المولى على عبده إطاعة زيد ثمّ أرشده زيد إلى إرادة المولى منه تحصيل الغِذاء الكذائي، فعلى الأوّل لو كان زيد خاطئاً لم يكن للعبد أجر تحصيل ذلك الغِذاء للمولى. نعم، لا يكون معاقباً حينئذٍ، وعلى الثّاني كان للعبد الأجر المساوي أو الأكثر على الأجر الّذي كان له لو صادف الواقع.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الإجزاء وعدمه مبتنٍ على القولين، فمن يقول بأنّ حجيّة الأمارات من باب الطّريقيّة - ومنهم المصنّف(رحمة الله) - يرى عدم الإجزاء في ما لو قامت الأمارة على شيء ثمّ تبيّن الخلاف، إذ المصلحة الواقعيّة غير محرزة والواقع على حاله.

{وأمّا بناءً عليها} أي: على السّببيّة وهو القول الثّاني {و} ذلك بمعنى {أنّ العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره يصير حقيقة صحيحاً}ويكون {كأنّه} أي: العمل {واجد له مع كونه فاقده} في الحقيقة، ففي الإجزاء وعدمه تفصيل، إذ الأقسام المتصوّرة حينئذٍ أربعة: لأنّ المأتيّ به إمّا وافٍ بتمام الغرض أو لا، وعلى الثّاني فالباقي من الغرض إمّا يمكن استيفاؤه أم لا، والممكن الاستيفاء إمّا واجب استيفاؤه أو مستحبّ {فيجزي لو كان الفاقد} للشّرط أو الشّطر {معه}

ص: 501

في هذا الحال - كالواجد، في كونه وافياً بتمام الغرض، ولا يجزي لو لم يكن كذلك.

ويجب الإتيان بالواجد لاستيفاء الباقي إن وجب، وإلّا لاستحبّ.

هذا مع إمكان استيفائه، وإلّا فلا مجال لإتيانه، كما عرفت في الأمر الاضطراري.

ولا يخفى: أنّ قضيّة إطلاق دليل الحجيّة على هذا هو الاجتزاء بموافقته أيضاً.

هذا في ما إذا أُحْرِزَ أنّ الحجيّة بنحو الكشف والطّريقيّة، أو بنحو الموضوعيّة والسّببيّة.

___________________

أي: مع كونه فاقداً {في هذا الحال} أي: في حال قيام الأمارة {كالواجد في كونه وافياً بتمام الغرض} وهي الصّورة الأُولى {ولا يجزي لو لم يكن} العمل الفاقد {كذلك} وافياً بتمام الغرض {و} حين عدم الوفاء بتمامه {يجب الإتيان بالواجد} ثانياً {لاستيفاء الباقي إن وجب} الاستيفاء وهي الصّورة الثّالثة {وإلّا} يجب الاستيفاء {لاستحبّ} الإتيان ثانياً وهي الصّورة الرّابعة.

{هذا} كلّه {مع إمكان استيفائه} الباقي {وإلّا} يمكن الاستيفاء {فلا مجال لإتيانه} ثانياً وهي الصّورة الثّانية {كماعرفت} الصّور الأربعة وأحكامها {في الأمر الاضطراري} فراجع، وفي كلام المصنّف مواقع للتأمّل.

{ولا يخفى أنّ} الاحتمالات وإن كانت أربعة في مقام الثّبوت لكن {قضيّة إطلاق دليل الحجيّة} للأمارة {على هذا} القول وهو السّببيّة {هو الاجتزاء بموافقته} أي: موافقة دليل الحجيّة {أيضاً} كما كان بعض صور مقام الثّبوت مقتضياً للإجزاء.

ثمّ {هذا} الكلام الّذي ذكرنا من عدم الإجزاء على الطّريقيّة والإجزاء على السّببيّة في بعض الصور {في ما إذا أحرز أنّ الحجيّة} في باب الطّرق والأمارات {بنحو الكشف والطّريقيّة} كما هو مسلك المشهور {أو بنحو الموضوعيّة والسّببيّة}

ص: 502

وأمّا إذا شكّ ولم يحرز أنّها على أيّ الوجهين، فأصالةُ عدم الإتيان بما يسقط معه التّكليف مقتضيةٌ للإعادة في الوقت.

واستصحاب عدم كون التّكليف بالواقع فعليّاً في الوقت لا يُجْدِي، ولا يُثبت كونَ ما أتى به مسقطاً، إلّا على القول بالأصل المثبت، وقد علم اشتغال ذمّته بما يشكّ في فراغها عنه

___________________

كما هو مسلك بعض {وأمّا إذا شكّ ولم يحرز أنّها} أي: الحجيّة {على أيّ الوجهين} من الطّريقيّة والموضوعيّة بعد إحراز الإجزاء بناءً على السّببيّة {فأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التّكليف} أي: بالفعل المسقط للأمر {مقتضية للإعادة في الوقت} في ما إذا انكشف الواقع بعد الإتيان بالفعل موافقاً للأمر الظّاهري، وذلك لأنّ الواقع لا يسقط عن الفعليّة بقيام الأمارة علىخلافها بناءً على الطّريقيّة وإن سقط عن التّخيير.

وعلى هذا فالتكليف مردّد بين الواقع على الطّريقيّة وبين الظّاهر على السّببيّة، فأصالة بقائه جارية {واستصحاب عدم كون التّكليف بالواقع فعليّاً في الوقت} بأن يقال: إنّه لو انكشف الخلاف في الوقت يرجع إلى استصحاب عدم فعليّة التّكليف، إذ في حال الجهل بالتكليف الواقعي وقيام الحجّة على خلافه لم يكن ملزماً بالإتيان بالواقع، فلو شكّ في صورة الانكشاف جرى الاستصحاب.

ولكن هذا الاستصحاب {لا يجدي ولا يُثْبِتُ كون ما أتى به مسقطاً} لأنّه من اللّوازم غير الشّرعيّة وهو لا يثبت الاستصحاب {إلّا على القول بالأصل المثبت} وهو خلاف التّحقيق، إذ الأصل كما ثبت في محلّه إنّما يترتّب عليه الآثار الشّرعيّة دون العادية والعقليّة، فاستصحاب عدم فعليّة التّكليف بالواقع لا يثبت إجزاء ما أتى به.

{و} على تقدير عدم إفادة الأصل الإجزاء كان اللّازم الإتيان بالفعل ثانياً؛ لأنّه {قد علم اشتغال ذمّته بما} أي: بتكليف {يشكّ في فراغها} أي: الذّمّة {عنه} أي:

ص: 503

بذلك المأتي.

وهذا بخلاف إذا علم أنّه مأمورٌ به واقعاً، وشكّ في أنّه يجزي عمّا هو المأمور به الواقعي الأوّلي - كما في الأوامر الاضطراريّة أو الظّاهريّة، بناءً على أن يكون الحجيّة على نحو السّببيّة - ، فقضيّة الأصل فيها - كما أشرنا إليه - عدمُ وجوب الإعادة؛ للإتيان بما اشتغلت به الذّمّة يقيناً،

___________________

عن ذلك التّكليف {بذلك} الفعل الظّاهري {المأتي} به، والمرجع في ذلك أصالة عدم الإتيان - كما لا يخفى - .

{وهذا} الّذي ذكرنا من كون الشّكّ في الإجزاء للشّكّ في الطّريقيّة والموضوعيّة مجراه الاشتغال {بخلاف} ما إذا كان الشّكّ في الإجزاء للشّكّ في وفاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظّاهري بناءً على السّببيّة، فإنّ المرجع فيهما البراءة بعد ارتفاع الاضطرار أو انكشاف الخلاف، وأشار إليه بقوله: بخلاف ما {إذا علم أنّه مأمور به واقعاً} ثانويّاً {وشكّ في أنّه يجزي عمّا هو المأمور به الواقعي الأوّلي} أم لا {كما في الأوامر الاضطراريّة أو} الأوامر {الظّاهريّة} وليس المراد بها الأمر الظّاهري بناءً على الطّريقيّة؛ لأنّه على هذا ليس مأموراً به بالأمر الواقعي، بل {بناءً على أن يكون الحجيّة} في الأوامر الظّاهريّة {على نحو السّببيّة} والموضوعيّة {فقضيّة الأصل فيها} أي: في الاضطراريّة والظّاهريّة {كما أشرنا إليه} في المقام الأوّل {عدم وجوب الإعادة} لو ارتفع الاضطرار وانكشف الواقع في الوقت.

والفرقُ بين الشّكّ في الطّريقيّة والسّببيّة، الموجب للإعادة، وبين الشّكّ بعد رفع الاضطرار وانكشاف الخلاف الّذي لا يوجب الإعادة: أنّه في الأوّل قطع بالاشتغال فيستصحب عدم إتيان متعلّقه، وأمّا الثّاني فلا يجب {للإتيان بما اشتغلت به الذّمّة يقيناً} من الأمر الاضطراري والظّاهري.

ص: 504

وأصالةِ عدم فعليّة التّكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف.

وأمّا القضاء به فلا يجب، بناءً على أنّه فرضٌ جديدٌ وكان الفوتُ المعلّق عليه وجوبهلا يثبت بأصالة عدم الإتيان إلّا على القول بالأصل المثبت، وإلّا فهو

___________________

{و} إن قلت: هنا أيضاً قطع بالاشتغال فيستصحب عدم إتيان متعلّقه.

قلت: بل الأمر بالعكس، إذ {أصالة عدم فعليّة التّكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف} محكمة - كما لا يخفى - .

هذا كلّه حال الأداء بالنسبة إلى الأُمور المذكورة {وأمّا القضاء به} فحاله حال الأداء بناءً على تبعيّة القضاء للأداء {فلا يجب} في بعض الصّور ويجب في بعضها الآخر على ما تقدّم، وعدم وجوبه يكون {بناءً على أنّه فرض جديد} وهذا هو الّذي اختاره المحقّقون.

{و} إن قلت: بل يجب القضاء وإن قلنا أنّه بأمر جديد؛ لأنّ الأصل عدم الإتيان بالتكليف، وإذا ثبت فوت التّكليف وانضمّ إليه قوله(علیه السلام) «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته»(1)، أنتج وجوب القضاء، فموضوع الوجوب - وهو الفوت - يثبت بالأصل ومحموله وهو الوجوب يثبت بالحديث.

قلت: موضوع قوله: «من فاتته» الخ {كان} هو {الفوت المعلّق عليه وجوبه} أي: وجوب القضاء، ومن الواضح أنّه أمر وجودي، وذلك {لا يثبت بأصالة عدم الإتيان إلّا على القول بالأصل المثبت} إذ استصحاب الأمر العدمي لإثبات أمر وجوديّ من أظهر مصاديق الأصل المثبت، بأن يقال: لم يأت بالتكليف، فثبت الفوت.

وقد تقدّم ويأتي عدم جريان الأصل، لإفادة لازمه العادي والعقلي {وإلّا} يكن الأمر كذلك، بأن كان القضاء تابعاً للأداء، أو قلنا بأنّ الفوت عبارة عن عدم الإتيان لا أنّه أمر وجودي، أو قلنا: إنّ الأصل المثبت حجّة {فهو} أي:القضاء

ص: 505


1- غوالي اللئالي 2: 54؛ و ورد بمضمونه في وسائل الشيعة 8: 268.

واجب، كما لا يخفى على المتأمّل، فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّ هذا كلّه في ما يجري في متعلّق التّكاليف، من الأمارات الشّرعيّة والأصول العمليّة.

وأمّا ما يجري في إثبات أصل التّكليف - كما إذا قام الطّريق أو الأصلُ على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها وجوبُ صلاة الظّهر في زمانها - فلا وجه لإجزائها مطلقاً،

___________________

{واجب} بعد رفع الاضطرار أو انكشاف الخلاف خارج الوقت {كما لا يخفى على المتأمّل} وذلك لعين الدّليل الّذي ذكر في الأداء.

{فتأمّل جيّداً} يمكن أن يكون وجهه ما أشار إليه السّيّد الحكيم بأنّ: «موضوع القضاء لا يختصّ بالفوت، بل المذكور في جملة من نصوصه نسيان الفريضة أو النّوم عنها أو نحو ذلك، ممّا يفهم منه كون الموضوع تركها في تمام الوقت، فلو جرت أصالة عدم الإتيان في نفسها كفت في وجوب القضاء»(1)،

فراجع.

{ثمّ إنّ هذا} الكلام الّذي ذكر بالنسبة إلى الإعادة والقضاء {كلّه في ما يجري في متعلّق التّكاليف} ثمّ بيّن مصداق كلمة «ما» في قوله: «في ما» بقوله: {من الأمارات الشّرعيّة والأصول العمليّة} أي: كان الكلام إلى الحال في الأمارات والأصول المتعلّقة بالموضوعات بعد الفراغ عن ثبوت أصل التّكليف.

{وأمّا ما يجري} من الأمارات والأصول {في إثباتأصل التّكليف كما إذا قام الطّريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظّهر في زمانها} سواء كان الانكشاف في الوقت أو في خارجه {فلا وجه لإجزائها} أي: صلاة الجمعة عن صلاة الظّهر {مطلقاً} سواء قلنا بالطريقيّة أم بالسببيّة:

أمّا إذا قلنا بالطريقيّة فواضح، إذ تبيّن خطأ الطّريق فلم يحرز المكلّف المصلحة

ص: 506


1- حقائق الأصول 1: 212.

غاية الأمر أن تصير صلاة الجمعة فيها أيضاً ذات مصلحة لذلك، ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظّهر على ما هي عليه من المصلحة، كما لا يخفى، إلّا أن يقوم دليلٌ بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

___________________

الواقعيّة.

وأمّا إذا قلنا بالسببيّة فلأنّ قيام الطّريق إنّما تجعل الجمعة ذات مصلحة، لا أنّ الطّريق يسقط الغرض المتعلّق بصلاة الظّهر.

هذا كلّه في الأداء، وأمّا القضاء فلأنّ الواقع فائت قطعاً فيشمله قوله(علیه السلام): «من فاتته» الخ.

وإلى ما تقدّم من قولنا: «وأمّا إذا قلنا بالسببيّة فلأن» الخ أشار المصنّف بقوله: {غاية الأمر أن تصير صلاة الجمعة فيها} أي: في الجمعة يعني يومها {أيضاً ذات مصلحة} كما كان صلاة الظّهر ذات مصلحة {لذلك} أي: لأجل تعلّق الأمارة بوجوبها على تقدير القول بالسببيّة {ولا ينافي هذا} الّذي ذكرنا من صيرورة صلاة الجمعة ذات مصلحة {بقاء صلاة الظّهر على ما هي عليه} في الواقع {منالمصلحة} لعدم المحذور في اجتماع المصلحتين الملزمتين في يوم واحد {كما لا يخفى} فمصلحة الظّهر واقعيّة ومصلحة الجمعة سببيّة {إلّا أن يقوم دليل بالخصوص} من الخارج {على عدم وجوب صلاتين} الأعمّ من الوجوب الواقعي والأماري {في يوم واحد} إذ لو قام دليل كذلك وقع التّنافي بين وجوب الظّهر بعد وجوب الجمعة، فإذا ثبت وجوب إحداهما بالأصل أو الأمارة ثبت عدم وجوب الأُخرى، فحيث أتى بالجمعة ثمّ انكشف الخلاف لم تجب الظّهر لا أداءً ولا قضاءً؛ لأنّ وجوب إحداهما يلازم عدم وجوب الأُخرى حسب الفرض، لكن ليس في الأدلّة ما يفيد ذلك، إذ غاية ما يستفاد من الضّرورة أو الإجماع عدم وجوب صلاتين واقعيّتين في يوم واحد لا عدم الوجوب في الأعمّ من الواقعي والأماري، فلاحظ.

ص: 507

تذنيبان:

الأوّل: لا ينبغي توهّم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ؛ فإنّه لا يكون موافقة للأمر فيها، وبقي الأمر بلا موافقة أصلاً، وهو أوضح من أن يخفى.

نعم، ربّما يكون ما قطع بكونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة في هذا الحال، أو على مقدارٍ منها ولو في غير الحال،

___________________

[تذنيبان]

{تذنيبان} (التّذنيب) جعل الشّيء ذُنابةً للشّيء، وعن الصّحاح: الذّناب - بالكسر - عقيب كلّ شيء، وذنابة الوادي: الموضع الّذي ينتهي إليه سيله، وكذا الذّنابة - بالضمّ - ، والذّانب: التّابع(1).التّذنيب {الأوّل} في الأمر التخيّلي {لا ينبغي توهّم الإجزاء في} ما لو فعل بسبب {القطع بالأمر} فإنّه لا يجزي {في صورة} كشف {الخطأ، فإنّه} أي: الفعل المأتي به {لا يكون موافقة للأمر فيها} أي: في صورة الخطأ {وبقي الأمر} الواقعي {بلا موافقة أصلاً، وهو أوضح من أن يخفى} إذ القطع إنّما هو منجّز في صورة الإصابة ومعذّر في صورة الخطأ - كما تقرّر في محلّه - والإجزاء إنّما يكون في ما لو كشف الأمر الشّرعي عن مصلحة في متعلّقه، فحيث لا أمر كما في صورة القطع لا إجزاء بعد انكشاف الخطأ.

{نعم، ربّما يكون ما قطع بكونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة في هذا الحال} أي: حال القطع.

وإنّما قيّده بذلك؛ لأنّ المقطوع لو كان مشتملاً على المصلحة مطلقاً كان واجباً في عرض الواجب الواقعي، فكان الإجزاء فيه معلوماً {أو} كان المقطوع مشتملاً {على مقدار منها} أي: المصلحة الواقعيّة {ولو في غير الحال} أي: غير حال

ص: 508


1- الصحاح 1: 125.

غير ممكن مع استيفائه استيفاءُ الباقي منه، ومعه لا يبقى مجال لامتثال الأمر الواقعي، وهكذا الحال في الطّرق.

فالإجزاء ليس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعي أو الطّريقي للإجزاء، بل إنّما هو لخصوصيّة اتفاقيّة في متعلّقهما،

___________________

القطع بأن كان مشتملاً على بعض المصلحة في كلّ حال حال القطع وعدمه لكن بشرطين:الأوّل: أن لا يكون هذا المقدار من المصلحة وافياً بالغرض.

الثّاني: أن يكون هذا المقدار {غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منه}.

أمّا الأوّل، فلأنّه لو كان وافياً بالغرض كان واجباً تخييراً بينه وبين الواجب الواقعي.

وأمّا الثّاني، فلأنّه لو كان الباقي ممكن الاستيفاء لكان اللّازم التّخيير دائماً بين الواقع وبين متعلّق القطع بشرط استيفاء الباقي.

{ومعه} أي: مع كون المقطوع به مشتملاً على تمام المصلحة أو على مقدار لا يمكن استيفاء الباقي {لا يبقى مجال لامتثال الأمر الواقعي} بعد الإتيان بالمقطوع ويكون مجزياً في الصّورتين {وهكذا الحال في الطّرق} فلو قطع بطريقيّة شيء ثمّ عمل على طبقه فإن كان بلا مصلحة لم يُجْزِ، وإن كان في حال القطع ذا مصلحة أو وافياً ببعض المصلحة في جميع الأحوال أجزأ.

والحاصل: أنّه لا يفرق بين كون متعلّق القطع طريقاً وبين كونه حكماً {فالإجزاء} في الصّورتين {ليس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعي} في القطع بالحكم {أو الطّريقي} في القطع بالطريق {للإجزاء} كما توهّم بعض {بل} الإجزاء {إنّما هو لخصوصيّة اتفاقيّة} وصدفة {في متعلّقهما} أي: متعلّق القطع بالحكم أو الطّريق، والخصوصيّة الاتفاقيّة ما تقدّم من الاشتمال على المصلحة في حال القطع أو على بعضها دائماً بحيث لا يمكن استيفاء الباقي

ص: 509

كما في الإتمام والقصر، والإخفات والجهر.

الثّاني: لا يذهب عليك أنّ الإجزاء في بعض موارد الأصول والطّرق والأمارات - على ما عرفت تفصيله - لا يوجبُ التّصويبَ المجمعَعلى بطلانه

___________________

{كما في الإتمام والقصر والإخفات والجهر} فمن أتمّ في موضوع القصر جاهلاً أجزء.

وكذا لو جهر في موضع الإخفات نسياناً أو أخفت في موضع الجهر ولا يجب الإعادة ولا القضاء لو علم بعد ذلك أو تذكّر، ويدلّ على الحكم الأوّل - قبل الإجماع - روايات:

منها: صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم، عن الباقر(علیه السلام) قالا: قلنا رجل صلّى في السّفر أربعاً أيُعيد أم لا؟ قال: «إن كان قُرئت عليه آية التّقصير وفُسِّرت له فصلّى أربعاً أعاد، وإن لم يكن قُرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة»(1).

ويدلّ على الحكم الثّاني - قبل إجماع التذكرة والرّياض(2)

وعدم الخلاف فيه في الجملة - صحيحة زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام) في رجل جهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه وأخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه؟ فقال: «أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، وإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته»(3).

التّذنيب {الثّاني} في بيان عدم المنافاة بين التخطئة والإجزاء {لا يذهب عليك أنّ الإجزاء في بعض موارد الأصول والطّرق والأمارات} كما تقدّم {على ما عرفت تفصيله لا يوجب التّصويب المجمع على بطلانه} وبيانه يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ الشّيعة ذهبوا إلى التّخطئةوالعامّة ذهبوا إلى التّصويب، فالأوّلون قائلون

ص: 510


1- تهذيب الأحكام 3: 226؛ من لا يحضره الفقيه 1: 435.
2- تذكرة الفقهاء 3: 153؛ رياض المسائل 3: 162.
3- تهذيب الأحكام 2: 162؛ من لا يحضره الفقيه 1: 344.

___________________

بعدم إصابة كلّ مجتهد، بل المجتهد عندهم قد يكون مصيباً وقد لا يكون؛ لأنّه لا يكون عنده الحكم معلوماً، والآخرون يقولون بإصابة كلّ مجتهد، والتّصويب على أقسام ذكرها المشكيني في حاشية هذا المقام(1)،

والمجمع على بطلانه منها هو خلوّ الواقعة عن الحكم غير ما أدّت إليه الأمارة، والأخبار ببطلان هذا القسم متظافرة والإجماع محقّق، ولا بأس بذكر رواية منها:

قال أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليه - كما في نهج البلاغة وغيره: «ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الّذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعاً، وإلههم واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد، أفأمرهم اللّه - سبحانه - بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه ديناً تامّاً فقصّر الرّسول(صلی الله علیه و آله) عن تبليغه وأدائه؟ واللّه - سبحانه - يقول: {مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَبِ مِن شَيۡءٖۚ}(2) وفيه تبيان كلّ شيء، وذكر أنّ الكتاب يصدِّق بعضه بعضاً وأنّه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: {وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَفٗا كَثِيرٗا}(3) وأنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظّلمات إلّا به»(4).أقول: لا يخفى أنّ هذا الكلام لا يشمل فقهاء الشّيعة المختلفين بوجهٍ أصلاً بقرينة قوله(علیه السلام): «فيصوّب آراءهم» فإنّه طريق المصوّبة لا المخطئة. وللعلّامة المجلسي(رحمة

الله)

ص: 511


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 443.
2- سورة الأنعام، الآية: 38.
3- سورة النّساء، الآية: 82.
4- نهج البلاغة، الخطبة: 18.

في تلك الموارد؛ فإنّ الحكم الواقعي بمرتبته محفوظٌ فيها؛ فإنّ الحكم المشترك بين العالم والجاهل، والملتفت والغافل، ليس إلّا الحكم الإنشائيّ المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأوّليّة، بحسب ما يكون فيها من المقتضيات، وهو ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الأمارات. وإنّما المنفي فيها ليس إلّا الحكم الفعلي البعثي،

___________________

هنا بيان(1)

ذكره يوجب التّطويل.

إذا عرفت ما ذكرناه فنقول: حكي عن تمهيد القواعد أنّ الإجزاء لازم مساوٍ للتصويب الباطل، وعدمه لازم مساوٍ للتخطئة، ولكنّه غير مستقيم، إذ الإجزاء {في تلك الموارد} المتقدّمة لا يوجب التّصويب، إذ التّصويب يلازم عدم الحكم الواقعي والإجزاء بالعكس {فإنّ الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ فيها} أي: في موارد الإجزاء {فإنّ الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ليس إلّا الحكم الإنشائي} ويقول به المخطئة حتّى في موارد الإجزاء.

بيان ذلك: أنّ للحكم مراتب أربع كما سيأتي: الاقتضاء والإنشاء والفعليّة والتّنجّز، والمخطئة مطبقون على وجود الحكم الإنشائي {المدلولعليه بالخطابات المشتملة على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأوليّة} لا الثّانويّة كالحرج والاضطرار ونحوهما، فالحكم للموضوعات موجود {بحسب ما يكون فيها من المقتضيات} فالموضوع المقتضي للوجوب محكوم عليه بالوجوب إنشاءً، والموضوع المقتضي للحرمة محكوم عليه بالحرمة كذلك، وكذا موضوعات سائر الأحكام {وهو} أي: الحكم الإنشائي {ثابت في تلك الموارد} أي: موارد الأجزاء المتقدّمة {كسائر موارد الأمارات} الّتي لا نقول بالإجزاء فيها {وإنّما المنفي فيها} أي: في موارد الأمارات غير المصيبة {ليس إلّا الحكم الفعلي البعثي} فلا

ص: 512


1- بحار الأنوار 2: 284.

وهو منفيّ في غير موارد الإصابة، وإن لم نقل بالإجزاء.

فلا فرق بين الإجزاء وعدمه إلّا في سقوط التّكليف بالواقع بموافقة الأمر الظّاهري، وعدم سقوطه بعد انكشاف عدم الإصابة.

وسقوطُ التّكليف - بحصول غرضه، أو لعدم إمكان تحصيله - غيرُ التّصويب المجمع على بطلانه - وهو خلوّ الواقعة عن الحكم غير ما أدّت إليه الأمارة - كيف؟ وكان الجهل بها - بخصوصيّتها

___________________

بعث فعلاً لا أنّه لا حكم كما تقول المصوّبة {و} عدم الحكم الفعلي في موارد الإجزاء غير مستغرب، بل {هو} أي: الحكم الفعلي {منفيّ في غير موارد الإصابة} للأمارة مطلقاً {وإن لم نقل بالإجزاء} إذ الحكم إنّما يصير فعليّاً إذا كان هناك بيان، والمفروض عدم البيان بالنسبة إلى الحكم الواقعي في مورد أدّت الأمارة إلى خلافه {فلا فرق} في مورد خطأ الأمارة {بين الإجزاء وعدمه} في عدمالحكم الفعلي {إلّا} أنّ الفرق بينهما موجود {في} أمر آخر وهو {سقوط التّكليف بالواقع بموافقة الأمر الظّاهري} في مورد الإجزاء {وعدم سقوطه} في غيره، وقوله: {بعد انكشاف عدم الإصابة} تنازع فيه قوله: «إلّا في سقوط التّكليف» وقوله: «وعدم سقوطه» أي: يتبيّن السّقوط وعدمه حال الانكشاف.

{و} من البديهي أنّ {سقوط التّكليف بحصول غرضه} كما في موارد الأصول بناءً على جعل الحكم وكما في موارد الطّريق بناءً على السّببيّة {أو لعدم إمكان تحصيله} كما إذا لم يمكن استيفاء الباقي {غير التّصويب المجمع على بطلانه وهو خلوّ الواقعة عن الحكم غير ما أدّت إليه الأمارة} وكذا تعدّد الحكم على حسب تعداد آراء المجتهدين أو غيرهما.

و{كيف} يكون الإجزاء تصويباً مجمعاً على بطلانه {و} قد {كان} مقابلاً للتصويب، فإنّه كان {الجهل بها} أي: بالواقعة {بخصوصيّتها} كما في الشّبهة

ص: 513

أو بحكمها - مأخوذاً في موضوعها، فلا بدّ مِن أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته محفوظاً فيها، كما لا يخفى.

___________________

الموضوعيّة {أو بحكمها} كما في الشّبهة الحكميّة {مأخوذاً في موضوعها} أي: في موضوع الأمارات والأصول {فلا بدّ من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته} الإنشائيّة.

{محفوظاً فيها} أي: في موارد الأمارات والأصول {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل. ولا يذهب عليك أنّ المصنّف جمع في كلامه بين الرّدّ على المصوّبة وبين عدم التّلازم بين الإجزاء والتّصويب، وفيه أيضاً ردّ علىشيخنا المرتضى(قدس سره)، وبالتّأمّل في كلامه يعرف عدم استقامة الرّد، واللّه العالم.

ص: 514

فهرس المحتويات

كلمة الناشر..... 7

المقدمة

الأمر الأوّل: موضوع العلم ومسائله وموضوع علم الأصول وتعريفه.... 15

موضوع العلم..... 17

المسائل ... 19

المبادئ .... 23

موضوع الأصول .... 25

تعريف الأصول ...... 34

الأمر الثّاني: الوضع وأقسامه ...... 37

المعنى الحرفي ... 43

الخبر والإنشاء ... 54

أسماء الإشارة والضمائر ..... 55

الأمر الثّالث: استعمال اللفظ في ما يناسب معناه ...... 59

الأمر الرّابع: إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه ... 62

الأمر الخامس: وضع الألفاظ لذوات المعاني ... 71

توجيه ما حُكي عن الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي ... 75

الأمر السّادس: وضع المركّبات ..... 79

الأمر السّابع: أمارات الوضع ... 82

التّنصيص ..... 83

ص: 515

التّبادر ..... 83

صحّة السّلب ...... 87

الاطّراد ... 94

الأمر الثّامن: أحوال اللفظ ... 97

تعارض الأحوال ..... 99

الأمر التّاسع: الحقيقة الشرعية ... 100

الأمر العاشر: الصحيح والأعم .... 109

محلّ النّزاع ..... 110

معنى الصّحّة ... 113

الجامع على الصّحيحيّ ..... 116

الجامع على الأعمّي .... 121

وضع ألفاظ العبادات .... 132

فائدة لغوية حول كلمة النهاية ...... 134

ثمرة النّزاع ..... 134

وجوه القول بالصحيح ...... 140

وجوه القول بالأعم ...... 146

الكلام في أسامي المعاملات .... 157

عدم الإجمال في أسامي المعاملات بناءً على وضعها للصحيح ...... 161

أنحاء دخل الشيء في المأمور به ...... 164

الأمر الحادي عشر: الاشتراك ..... 173

توهم استحالة وقوع الاشتراك والجواب عنه ...... 174

توهم منع استعمال المشترك في القرآن والجواب عنه .... 176

توهم لزوم وقوع الاشتراك في اللغات والجواب عنه ..... 179

الأمر الثّاني عشر: استعمال اللفظ في أكثر من معنى .... 181

الأظهر عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلاً ..... 182

القول بالتفصيل بين التثنية والجمع وبين المفرد والمناقشة فيه ... 187

ص: 516

المقصود من بطون القرآن ..... 195

الأمر الثّالث عشر: في المشتقّ ... 198

المراد بالمشتقّ ...... 200

عدم اختصاص النزاع باسم الفاعل وما بمعناه .... 203

مراد المصنف من العرض والعرضي..... 206

شمول النزاع لبعض الجوامد ... 207

اسم الزّمان ...... 212

الأفعال والمصادر ...... 215

دلالة الفعل على الزّمان .... 218

امتياز الحرف عن الأمر والفعل ... 225

اختلاف مبادئ المشتقّات ... 233

المراد بالحال .... 235

تأسيس الأصل ...... 243

الخلاف في المشتق ..... 247

تبادر التّلبّس ..... 249

صحّة السّلب عن المنقضي .... 249

المضادة دليل الاشتراط ..... 252

إشكال على صحّة السّلب ... 261

عدم الفرق بين المشتق اللازم والمتعدّي.... 264

عدم الفرق بين المتلبّس بضد المبدأ وغير المتلبس .... 266

أدلّة كون المشتق حقيقة في المنقضي ...... 267

دليل المفصّل .... 279

مفهوم المشتق ... 281

بيان في معنى عقد الوضع وعقد الحمل ... 292

إرشاد في معنى بساطة المشتق .... 305

الفرق بين المشتق والمبدأ ...... 308

ص: 517

دفع اشتباه الفصول ..... 313

كيفيّة جري الصّفات على اللّه تعالى .... 316

كيفيّة قيام المبادئ بالذات ... 321

معنى الخارج المحمول والمحمول بالضميمة ...... 325

الكلام في الصفات الجارية عليه تعالى .... 325

كلام الفصول في صفاته تعالى ومناقشته ...... 327

في الإسناد المجازي للمشتق ... 334

المقصد الأوّل: في الأوامر

المقصد الأوّل: في الأوامر وفيه فصول ...... 339

الفصل الأوّل : في ما يتعلّق بمادّة الأمر ...... 341

معاني لفظ الأمر في اللغة والعرف .... 341

معنى لفظ الأمر في الاصطلاح .... 344

تعدد موارد استعمال الأمر في الكتاب والسنة ..... 347

اعتبار العلو ..... 348

إفادة الأمر الوجوب...... 351

الطّلب والإرادة...... 357

اتحاد الطلب والإرادة.... 361

دفع وهم...... 372

مدلول الجملات الخبرية والإنشائية عند الأصحاب والمعتزلة..... 373

إشكال ودفع ..... 376

شبهة الجبر وردّها ...... 383

الإشكال في عقاب العاصي والجواب عنه ..... 385

وهم ودفع ... 393

الفصل الثّاني: في ما يتعلّق بصيغة الأمر .... 395

المبحث الأوّل: معنى صيغة الأمر ..... 395

ص: 518

إيقاظ: توهم انسلاخ صيغ الإنشاء عن معانيها إذا وقعت في كلامه تعالى والجواب عنه ...... 399

المبحث الثّاني: الصيغة حقيقة في الوجوب ...... 402

المبحث الثّالث: الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب ظاهرة في الوجوب ... 406

المبحث الرّابع: ظهور صيغة الأمر في الوجوب ..... 412

المبحث الخامس: ما تقتضيه الصيغة من التوصلية أو التعبدية .... 415

معنى الواجب التوصلي والتعبدي ...... 417

امتناع أخذ قصد الامتثال شرعاً في متعلق الأمر ...... 418

توهم إمكان اعتبار قصد القربة في العبادة والمناقشة فيه ..... 420

امتناع التمسك بإطلاق الأمر لإثبات التوصلية .... 430

إمكان التمسك بالإطلاق المقامي لإثبات التوصلية ..... 432

مقتضى الأصول العمليّة: الاشتغال .... 435

عدم جريان البراءة الشرعية في المقام .... 438

المبحث السّادس: مقتضى إطلاق الصّيغة .... 442

المبحث السّابع: الأمر عقيب الحظر ...... 444

المبحث الثّامن: المرّة والتّكرار ... 447

المراد بالتّكرار ..... 453

في ما يحصل به الامتثال ... 458

المبحث التّاسع: الفور والتّراخي ...... 463

الإتيان فوراً ففوراً ...... 469

الفصل الثّالث: الإجزاء ..... 471

المراد من كلمة (وجهه) .... 471

المراد من كلمة (الاقتضاء) .... 474

المراد من كلمة (الإجزاء) ..... 478

الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة المرّة والتكرار ..... 480

الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة تبعيّة القضاء للأداء .... 481

تحقيق مسألة الإجزاء في موضعين ...... 482

ص: 519

الموضع الأوّل: إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمر نفسه دون غيره .... 482

الموضع الثّاني: إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمر غيره .... 486

في إجزاء الأمر الاضطراري ..... 486

أنحاء الأمر الاضطراري وحكم كل واحد منها.... 487

تعيين ما وقع عليه الأمر الاضطراري .... 492

في إجزاء الأمر الظاهري ..... 496

الإجزاء في الأصول المنقّحة لموضوع التكليف ...... 497

في إجزاء الأمارات المنقّحة لموضوع التكليف بناءً على الطريقية ...... 500

في إجزاء الأمارات بناءً على السببية ..... 501

حكم الإجزاء في ما إذا شك في السببية والطريقية .... 502

عدم الإجزاء في الأصول والأمارات الجارية في إثبات أصل التكليف .. 506

تذنيبان: عدم الإجزاء في صورة القطع بالأمر خطأً ..... 508

الإجزاء لا يوجب التصويب ... 510

فهرس المحتويات ...... 515

ص: 520

المجلد 2

هویة الکتاب

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : کفایه الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصول الی کفایه الاصول/ السیدمحمد الحسینی الشیرازی ؛ [برای] الشجرةالطیبه.

مشخصات نشر : قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.= 1399.

مشخصات ظاهری : 5ج.

شابک : دوره:9789642045242 ؛ ج.2:9789642045228 ؛ ج.2:9789642045235 ؛ ج.3:9789642045259 ؛ ج.4:9789642045266 ؛ ج.5:9789642045273

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : این کتاب شرحی بر کفایه الاصول، آخوند خراسانی است.

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

موضوع : اصول فقه شیعه -- قرن 14

Islamic law, shiites -- Interpretation and construction -- 20th century

شناسه افزوده : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

شناسه افزوده : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

شناسه افزوده : موسسه شجره طیبه(قم)

رده بندی کنگره : BP159/8

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 6131319

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا

ص: 1

اشارة

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمة الله)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة:السابعة والأربعون، الأولى

للناشر - 1441ه .ق

-------------------

شابك (الدورة): 2204524964978

شابك (المجلد الرابع): 6204526964978

-------------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم قم

المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

وبعد:

فهذا الجزء الثّاني من الوصول في شرح كفاية الأصول، للمحقّق آية اللّه الخراساني+ كتبته للإيضاح، واللّه أسأل التوفيق والتمام والثّواب، إنّه وليّ ذلك، وهو المستعان.

كربلاء المقدّسة

محمّد بن المهدي

ص: 3

ص: 4

المقصد الأوّل: في الأوامر، مقدّمة الواجب

اشارة

فصل في مقدّمة الواجب.

وقبل الخوض في المقصود ينبغي رسم أُمور:

الأوّل: الظاهر أنّ المهمّ المبحوث عنه في هذه المسألة البحث عن الملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّمته، فتكون مسألة أُصوليّة. لا عن نفس وجوبها - كما هو المتوهّم من بعض العناوين(1) - كي تكون فرعيّة؛

___________________________________________

[الفصل الرّابع في مقدّمة الواجب]

المقصد الأوّل: في الأوامر، مقدّمة الواجب

{فصل في مقدّمة الواجب، وقبل الخوض في المقصود ينبغي رسم أُمور}:

[الأمر الأوّل: المسألة أصولية عقلية]

الأمر {الأوّل} في كون هذه المسألة أُصوليّة أم لا، وعلى كلّ فهل هي عقليّة أو لفظيّة؟ فنقول: {الظاهر أنّ المهمّ} للأُصولي {المبحوث عنه في هذه المسألة البحث عن الملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّمته} وهذه الجهة تقع في طريق الاستنباط، فيقال بعد ثبوت الوجوب: هذه مقدّمة، وكلّ مقدّمة تجب للملازمة بين وجوبها ووجوب ذيها - مثلاً - {فتكون مسألة أُصوليّة} لما تقدّم من أنّ المسألة الأصوليّة ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشّرعي، و{لا} يكون البحث في هذه المسألة {عن نفسوجوبها} أي: وجوب المقدّمة - بأن يكون البحث في أنّ المقدّمة واجبة أم لا - {كما هو المتوهّم من بعض العناوين} من جعل مدار البحث وجوب المقدّمة {كي تكون} مسألة {فرعيّة} ولا تكون مربوطة بعلم الأصول.

ص: 5


1- كما في تعليقة السيد القزويني على القوانين: 99.

وذلك لوضوح أنّ البحث كذلك لا يناسب الأصوليّ، والاستطراد لا وجه له، بعد إمكان أن يكون البحث على وجهٍ تكون عن المسائل الأصوليّة.

ثمّ الظاهر أيضاً: أنّ المسألة عقليّة، والكلامَ في استقلال العقل بالملازمة وعدمِه، لا لفظيّة - كما ربما يظهر من صاحب المعالم(1)،حيث استدلّ على النّفي

___________________________________________

وإن شئت قلت: إنّ المسألة الفقهيّة موضوعها فعل المكلّف، فلو كان البحث عن الوجوب كانت مسألة فقهيّة، بخلاف ما لو كان البحث عن الملازمة، فإنّ الملازمة ليست من عوارض فعل المكلّف - كما لا يخفى - .

{و} إنّما جعلنا البحث في {ذلك} التلازم دون الوجوب {لوضوح أنّ البحث كذلك} أي: عن الوجوب الّذي يجعل المسألة فقهيّة {لا يناسب الأصولي} إذ الأصولي محطّ نظره تنقيح مسائله دون مسائل الفقه.

{و} إن قلت: يمكن جعل البحث في وجوب المقدّمة ويكون ذكره في الأصول لأجل {الاستطراد}.

قلت: ذلك ممّا {لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون عن المسائل الأصوليّة} إذ الاستطراد خلاف الأصل.هذا تمام الكلام في بيان الجهة الأُولى {ثمّ الظاهر أيضاً} كظهور كون المسألة أُصوليّة {أنّ المسألة عقليّة} وأنّ العقل يحكم بالملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّماته ولو ثبت الوجوب بالإجماع ونحوه ممّا ليس بلفظ.

{و} الحاصل: أنّ {الكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه، لا} أنّ المسألة {لفظيّة} وأنّ اللفظ الدالّ على وجوب الشّيء دالّ على وجوب مقدّماته.

{كما ربّما يظهر} كون المسألة لفظيّة {من صاحب المعالم} وإن لم يكن كلامه صريحاً في ذلك، وجه الظهور {حيث استدلّ على النّفي} أي: نفي وجوب المقدّمة

ص: 6


1- معالم الدين: 60.

بانتفاء الدلالات الثّلاث، مضافاً إلى أنّه ذكرها في مباحث الألفاظ - ؛ ضرورةَ أنّه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّمته ثبوتاً محلَّ الإشكال، فلا مجال لتحرير النّزاع في الإثبات والدلالة عليها بإحدى الدلالات الثّلاث، كما لا يخفى.

___________________________________________

{بانتفاء الدلالات الثّلاث} المطابقة والتضمّن والالتزام.

{مضافاً إلى أنّه ذكرها في مباحث الألفاظ} ووجه عدم صراحة كلامه في كون المسألة لفظيّة: احتمال أن يكون الاستدلال المذكور جزءاً للدليل، بمعنى أنّه دليل لعدم دلالة اللفظ ويحتاج إلى دليل آخر لعدم دلالة العقل.

وأمّا الذكر في مباحث الألفاظ فإنّما يكون تبعاً للقوم فلا يدلّ على شيء، كما أنّ المصنّف(رحمة الله) ذكرها في مبحث الألفاظ، مضافاً إلى أنّ المعالم ليس مبوّباً، فباب للألفاظ وباب للأدلّة العقليّة - كما لا يخفى - .

{ضرورة أنّه} تعليل لقوله: «ثمّ الظاهر أيضاً» وحاصل الدليل: أنّ وضعاللفظ للمعنى فرع ثبوت المعنى في الخارج، فإذا أردنا أن نثبت كون اللفظ موضوعاً للملازمة بالمطابقة أو التضمّن أو الالتزام فلا بدّ من ثبوت الملازمة في الخارج أوّلاً حتّى ينازع في أنّ اللفظ موضوع لها أم لا، و{إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّمته ثبوتاً محلّ الإشكال} بأن لم يتحقّق بعد الملازمة {فلا مجال لتحرير النّزاع في الإثبات و} البحث في أنّه هل للفظ الأمر {الدلالة عليها} أي: على الملازمة {بإحدى الدلالات الثّلاث} أم لا {كما لا يخفى}.

وقد أورد عليه المشكيني(رحمة الله) بما لفظه: «وفيه أوّلاً: أنّ إمكان المعنى لا يشترط في الوضع فضلاً عن تحقّقه الخارجي، لما ترى من حصول الوضع للممتنعات.

وثانياً: أنّ المقام ليس من قبيل تعيين الموضوع له، بل من قبيل تعيين المدلول الالتزامي، ويمكن تحقّق الدلالة الالتزاميّة مع عدم الملازمة ثبوتاً، كما في موارد

ص: 7

الأمر الثّاني: أنّه ربّما تقسّم المقدّمة إلى تقسيمات:

منها: تقسيمها إلى الداخليّة، وهي: الأجزاء المأخوذة في الماهيّة المأمور بها، والخارجيّة، وهي: الأُمور الخارجة عن ماهيّته

___________________________________________

الملازمة العرفيّة»(1)،

انتهى.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الفرق بين دلالة الالتزام اللفظي وبين اللزوم العقلي - المدّعى كونه محلّ النّزاع - ما ذكره بعض الأعلام من أنّ الدلالة الالتزاميّة يعتبرفيها إمّا اللزوم العرفي أو العقلي البيّن بالمعنى الأخصّ، بحيث يلزم من تصوّر الملزوم تصوّر اللّازم، واللزوم العقلي في كلام المصنّف أعمّ من ذلك ومن البيّن بالمعنى الأعمّ وهو ما يجب معه الحكم باللزوم عند تصوّر الطرفين، ومن غير البيّن وهو ما لا يكون كذلك.

[الأمر الثّاني:] أقسام المقدّمة

اشارة

{الأمر الثّاني} من الأُمور المذكورة قبل الخوض في المقصود {أنّه ربّما تقسم المقدّمة إلى تقسيمات} عديدة باعتبارات شتّى.

ولا يخفى أنّ (المقدّمة) مأخوذة من (مقدّمة الجيش) للجماعة المتقدّمة، ويصحّ فيها كسر الدال إذا كانت من (قدّم) بمعنى تقدّم، وفتحها إذا كانت من (قدّم) المتعدّي، وتاؤها للمح الأصل؛ لأنّها صفة للجماعة، وعلى كلّ حالٍ فالمقدّمة الّتي هي مصبّ التقسيمات المذكورة عبارة عن مطلق ما يتوقّف عليه الشّيء.

المقدّمة الداخليّة والخارجيّة

{منها: تقسيمها إلى} المقدّمة {الداخليّة وهي الأجزاء المأخوذة في الماهيّة المأمور بها} كالركوع والسّجود بالنسبة إلى الصلاة {و} إلى المقدّمة {الخارجيّة وهي الأُمور الخارجة عن ماهيّته} مع ارتباط لتلك الأُمور بالماهيّة

ص: 8


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 449.

ممّا لا يكاد يوجد بدونه.

وربّما يشكل(1) في كون الأجزاء مقدّمةً له وسابقةً عليه، بأنّ المركّب ليس إلّا نفسَ الأجزاء بأسرها.

والحلّ: أنّ المقدّمة هي نفس الأجزاء بالأسر، وذو المقدّمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع، فيحصل المغايرة بينهما.

___________________________________________

{ممّا لا يكاد يوجد بدونه} أي: من الأُمور الّتي لا يكاد يوجد المأمور به بدون تلك الأُمور، وذلك كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، وكذا غيرها من سائر الشّروط والمقتضيات والمعدّات ونحوها.

{وربّما يشكل} على ما حكي عن الشّيخ محمّد تقي صاحب الحاشية {في كون الأجزاء مقدّمة} داخليّة {له} أي: للمأمور به {و} كونها {سابقة عليه} في الوجود الذهني والخارجي، كما هو شأن المقدّمة {بأنّ المركّب ليس إلّا نفس الأجزاء بأسرها} وتمامها، فيلزم من كون الأجزاء مقدّمة للكلّ تقدّم الشّيء على نفسه، بيانه:

أنّ الأجزاء بما هي مقدّمة يلزم تقدّمها على ذيها، وبما هي نفس ذي المقدّمة يلزم تأخّرها فيلزم أن يكون الشّيء الواحد في حالة واحدة متقدّماً ومتأخّراً.

وإن شئت قلت: إنّ الأجزاء لمّا كانت نفس المركّب لم يكن اثنينيّة بينها وبين المركّب، ومن البديهي لزوم الاثنينيّة بين المقدّمة وذيها.

{والحلّ} للإشكال {أنّ المقدّمة هي نفس الأجزاء بالأسر} بمعنى لحاظها لا بشرط الانفراد ولا بشرط الاجتماع، إذ شرط الانفراد يخرجها عن المقدّمة وشرط الاجتماع موجب لكونها عين الكلّ فلا تكون مقدّمة أيضاً {وذو المقدّمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع} وبشطر الاجتماع حتّى يكون الاجتماع جزءاً.

وعلى كلّ حال {فيحصل المغايرة بينهما} أي: بين الأجزاء والكلّ ويوجب تقدّم

ص: 9


1- هداية المسترشدين 2: 164.

وبذلك ظهر: أنّه لا بدّ في اعتبار الجزئيّة أخذ الشّيء بلا شرط، كما لا بدّ في اعتبار الكليّة من اعتبار اشتراط الاجتماع.

وكونُ الأجزاء الخارجيّة - كالهيولى والصورة - هي الماهيّةالمأخوذة بشرط لا، لا ينافي ذلك؛ فإنّه إنّما يكون في مقام الفرق بين نفس الأجزاء الخارجيّة والتحليليّة - من الجنس والفصل - وأنّ الماهيّة إذا أُخذت بشرط لا، تكون هيولى أو صورة، و

___________________________________________

الجزء على الكلّ، إذ الأجزاء لا بشرط الاجتماع مغاير مع الأجزاء بشرط الاجتماع ومقدّم عليه.

{وبذلك} الّذي ذكرنا في وجه التغاير بين المقدّمة الداخليّة وذيها {ظهر أنّه لا بدّ في اعتبار الجزئيّة أخذ الشّيء بلا شرط، كما لا بدّ في اعتبار الكليّة من اعتبار اشتراط الاجتماع} وانضمام بعض الأجزاء إلى بعض.

وجه الظهور: أنّ المقدّمة الداخليّة هي الأجزاء، وحيث تبيّن الفرق بين المقدّمة الداخليّة والكليّة ظهر الفرق بين الجزء والكلّ، وبظهور الفرق بينهما ظهر خاصيّة كلّ منهما إجمالاً.

{و} إن قلت: ذكر أهل المعقول أنّ الأجزاء الخارجيّة مأخوذة بشرط لا، وهذا ينافي ما ذكرتم من أنّ الجزء مأخوذ لا بشرط.

قلت: {كون الأجزاء الخارجيّة كالهيولى} وهي محلّ الصورة النّوعيّة {والصورة} الّتي هي حالة في الهيولى {هي الماهيّة المأخوذة بشرط لا} على ما يقوله أهل المعقول {لا ينافي ذلك} الّذي ذكرناه - أعني: كون الجزء لا بشرط - فإنّ جعلهم الجزء بشرط لا في مقام، وجعلنا الجزء لا بشرط في مقام آخر {فإنّه} أي: جعلهم الجزء بشرط لا {إنّما يكون في مقام الفرق بين نفس الأجزاء الخارجيّة} من الهيولى والصورة {و} بين الأجزاء {التحليليّة من الجنس والفصل، و} مقصودهم {أنّ الماهيّةإذا أُخذت بشرط لا تكون هيولى أو صورة، و} ذلك في

ص: 10

إذا أُخذت لا بشرط تكون جنساً أو فصلاً، لا بإضافة إلى المركّب، فافهم.

ثمّ لا يخفى: أنّه ينبغي خروج الأجزاء عن محلّ النّزاع

___________________________________________

قبال ما {إذا أُخذت لا بشرط} الّتي {تكون} حينئذٍ {جنساً أو فصلاً} فالجزء الخارجي بشرط لا الاعتباري، والجزء الداخلي لا بشرط الاعتباري {لا بإضافة إلى المركّب} عطف على قوله: «إنّما يكون في مقام الفرق» الخ، يعني: إن جعلنا الجزء لا بشرط في مقام الفرق بين الكلّ والجزء فلا تنافي بين جعلهم وجعلنا، إذ التنافي إنّما يحصل إذا كان قولهم: بشرط لا، وقولنا: لا بشرط، بالنسبة إلى شيء واحد، مثلاً: كون الصلاة بالنسبة إلى الوضوء بشرط شيء لا ينافي كون قراءة القرآن بالنسبة إليه لا بشرط، وإنّما تقع المنافاة لو كان فعل الصلاة بالنسبة إلى الوضوء عند شخص لا بشرط، وعند آخر بشرط لا كما لا يخفى.

فالجزء لا بشرط بالنسبة إلى الكلّ كما نقوله، والجزء الخارجي بشرط لا بالنسبة إلى الجزء الداخلي كما يقولونه، وقد تقدّم ما يفيد المقام في التنبيه الثّاني من مبحث المشتقّ، فراجع.

{فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ أخذ أهل المعقول الجزء بشرط لا - حتّى بالنسبة إلى الكلّ - كما نسب إلى ظاهرهم بل صريحهم، ومن البديهي أنّ كون الجزء بشرط لا بالنسبة إلى الكلّ كما يقولون ينافي كون الجزء لا بشرط بالنسبة إلى الكلّ كما نقول، والعلّامة الرّشتي ذكر عند قوله: «لا بالإضافة إلىالمركّب» ما يوضح الفرق بين المادّة والجنس، فراجع(1).

خروج الأجزاء عن المتنازع فيه

{ثمّ لا يخفى أنّه ينبغي خروج الأجزاء عن محلّ النّزاع} في وجوب المقدّمة وعدمه

ص: 11


1- شرح كفاية الأصول 1: 124.

- كما صرّح به بعض -(1)؛ وذلك لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتاً، وإنّما كانت المغايرة بينهما اعتباراً، فتكون واجبةً بعين وجوبه، ومبعوثاً إليها بنفس الأمر الباعث إليه، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر؛ لامتناع اجتماع المثلين، ولو قيل بكفاية تعدّد الجهة وجواز اجتماع الأمر والنّهي معه؛

___________________________________________

{كما صرّح به} أي: بالخروج {بعض} الأعلام، فلا يقع النّزاع في وجوب الأجزاء بالوجوب المقدّمي الغيري، بل الأجزاء واجبة بالوجوب النّفسي فقط {وذلك} أي: وجه خروج الأجزاء عن محلّ النّزاع {لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتاً} فذات الكلّ هي ذات الجزء {وإنّما كانت المغايرة بينهما اعتباراً} فقيد الاجتماع والانضمام مأخوذ في الكلّ دون الجزء وعلى هذا {فتكون} الأجزاء {واجبة بعين وجوبه} أي: وجوب الكلّ {و} تكون {مبعوثاً إليها بنفس الأمر الباعث إليه} لكونهما شيئاً واحداً كما هو المفروض، وإذا كانت الأجزاء واجبة بالوجوب النّفسي المتوجّه إلى الكلّ {فلا تكاد تكون} الأجزا {واجبة بوجوب آخر} غيريّ مقدّمي {لامتناع اجتماع المثلين} - أعني: إجماع الوجوب النّفسيوالغيري في الجزء - .

{و} إن قلت: لا مانع من اجتماع المثلين {لو قيل بكفاية تعدّد الجهة وجواز اجتماع الأمر والنّهي معه} أي: مع تعدّد الجهة، فاجتماع المثلين، كاجتماع الأمر والنّهي، فمن يقول بجواز اجتماعهما في ظرف تعدّد الجهة جاز له أن يقول بجواز اجتماع الوجهين أيضاً في ما إذا تعدّدت الجهة، وحيث إنّ في الجزء تعدّد الجهات من كونه مقدّمة للكلّ وكون الكلّ منطبقاً عليه أمكن القول بوجوبه الغيري والنّفسي.

قلت: لا يفيد هذا في ما نحن فيه ولو قلنا بجواز الاجتماع مع تعدّد الجهة

ص: 12


1- هداية المسترشدين 2: 165.

لعدم تعدّدها هاهنا؛ لأنّ الواجب بالوجوب الغيريّ - لو كان - إنّما هو نفس الأجزاء، لا عنوان مقدّميّتها والتوسّل بها إلى المركّب المأمور به؛ ضرورةَ أنّ الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشّائع مقدّمةً؛ لأنّه المتوقّف عليه، لا عنوانها. نعم، يكون هذا العنوان علّةً لترشُّحِ الوجوب على المعنون.

___________________________________________

{لعدم تعدّدها} أي: الجهة {هاهنا} في الجزء {لأنّ الواجب بالوجوب الغيري لو كان} فمصبّه {إنّما هو نفس الأجزاء لا عنوان مقدّميّتها} فإنّ المقدّميّة علّة للوجوب لا أنّ الوجوب منصبّ على المقدّمة، ومن البديهي أنّ الوجوب النّفسي أيضاً مصبّه نفس الجزء، فلم يتعدّد محلّ الوجوب وجهته المصحّح للاجتماع.

{و} الحاصل: أنّه كما أنّ الواجب بالوجوب النّفسي نفس الجزء كذلك الواجب بالوجوب الغيري، وليس الواجب بالوجوب الغيري عنوان {التوسّلبها إلى المركّب المأمور به} كما توهّم {ضرورة أنّ الواجب بهذا الوجوب} الغيري {ما كان} أي: الشّيء الّذي كان {بالحمل الشّائع مقدّمة؛ لأنّه المتوقّف عليه} الواجب النّفسي وهو نفس المقدّمة {لا عنوانها} كي يتعدّد جهة الوجوب.

{نعم، يكون هذا العنوان} أي: المقدّميّة {علّةً لترشّح الوجوب على المعنون} لكنّه غير مفيد لتعدّد الجهة المصحّح للاجتماع.

إن قلت: ما الفرق بين الجهتين اللتين في المقدّمة والجهتين اللتين في الصلاة في الدار المغصوبة، فكما أنّ على القول بالاجتماع يجتمع في الصلاة الحرمة لكونها غصباً والوجوب لكونها صلاة كذلك فليكن الجزء واجباً نفسيّاً لكونه جزءاً ومقوّماً للكلّ وواجباً غيريّاً لكونه مقدّمة داخليّة، فقول المصنّف: «لعدم تعدّدها» هاهنا غير مستقيم.

قلت: الفرق هو أنّ الوجوب والحرمة في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة منصبّان على هذين العنوانين، إذ الدليل إنّما دلّ على وجوب الصلاة وحرمة الغصب،

ص: 13

فانقدح بذلك فساد توهّم اتّصاف كلّ جزءٍ من أجزاء الواجب بالوجوب النّفسيّ والغيريّ باعتبارين؛ فباعتبار كونه في ضمن الكلّ واجبٌ نفسيّ، وباعتبار كونه ممّا يتوسّل به إلى الكلّ واجبٌ غيريّ.

___________________________________________

لا أنّه دلّ على وجوب الكون لكونه صلاة وحرمة الكون لكونه غصباً حتّى يقال: إنّ الكون واجب وحرام والجهتان تعليليّتان فتتّحد الجهة، فلا يمكن اجتماع الأمر والنّهي؛ لأنّ الاجتماع شرطه - عند القائل به - تعدّدها، بخلاف مسألة المقدّمة، فإنّ المقدّميّة جهة تعليليّة لا تقييديّة، فمصبّ الوجوب ذات المقدّمة لاعنوان المقدّميّة.

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من امتناع اجتماع المثلين الوجوب النّفسي والوجوب الغيري - ولو قلنا بكفاية تعدّد الجهة في الاجتماع - {فساد توهّم اتصاف كلّ جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النّفسي و} الوجوب {الغيري باعتبارين}:

أمّا وجه كلامه من جعله كذلك، فهو ما ذكره بقوله: {فباعتبار كونه} أي: الجزء {في ضمن الكلّ واجب نفسي} لتوجّه الوجوب إليه وانصبابه عليه {وباعتبار كونه ممّا يتوسّل به إلى الكلّ} ويتوقّف عليه الكلّ {واجب غيري}.

وأمّا وجه الفساد فلأنّه حيث لا يمكن أن يكون اعتبار المقدّميّة مصبّاً للوجوب الغيري - إذ الذات مقدّمة وواجبة لا العنوان - فلا بدّ من أن يكون نفس الذات مورداً للوجوب الغيري، ومنه يلزم اجتماع المثلين الّذي هو مستحيل.

إن قلت: أوّلاً إنّ اجتماع المثلين ليس كاجتماع الضدّين في الاستحالة.

وثانياً ليس الوجوب النّفسي مماثلاً للوجوب الغيري حتّى يلزم من اجتماعهما اجتماع المثلين.

وثالثاً على فرض المماثلة، فلا مانع لإمكان كون أحدهما تأكيداً للآخر.

قلت: أمّا استحالة اجتماع المثلين فهو من أوضح الواضحات، لبداهة أنّه لا

ص: 14

اللّهمّ إلّا أن يريد: أنّ فيه ملاك الوجوبين، وإن كان واجباً بوجوب واحد نفسيّ، لسبقه،

___________________________________________

يعقل أن يجتمع أمران مماثلان في الصفات والخصوصيّات في محلّ واحد؛ لأنّهيلزم منه اتحاد الوجودين وهو بديهي البطلان، إذ بعد الاجتماع - كأن كان ورق - مثلاً - ملوّناً ببياضين في عرض واحد - إن بقي المثلان موجودين بوجودين كان خلفاً؛ لأنّ الفرض اجتماعهما لا بقاؤهما على استقلالهما، وإن عدما كان لا شيء فلا يصحّ القول باجتماعهما أيضاً، وإن بقي أحدهما وعدم الآخر لم يكن اجتماع، بل شيء واحد، كما لا يخفى.

وأمّا عدم المماثلة بين الوجوبين فباطل، إذ معنى الوجوب - وهو المرتبة الأكيدة من الطلب - موجود فيهما، غاية الأمر أنّ في ترك الوجوب النّفسي عقاباً دون ترك الوجوب الغيري، وذلك لكون الغرض منهما واحداً فلا تعدّد في العقاب.

وأمّا إمكان كون أحدهما تأكيداً للآخر فهو - وإن كان في نفسه صحيحاً، كما ربّما يقال في صلاة الظهر بالنسبة إلى العصر فإنّها واجبة لنفسها ومقدّمة لصلاة العصر - إلّا أنّ في المقام محذوراً آخر أشرنا إليه من لزوم التقدّم والتأخّر، فتدبّر.

{اللّهمّ إلّا أن يريد} القائل بكون الجزء واجباً نفسيّاً وواجباً غيريّاً {أنّ فيه ملاك الوجوبين} لا وجوبين فعليّين {وإن كان} الجزء فعلاً {واجباً بوجوب واحد نفسي} من دون الوجوب الغيري، كما يقال: إنّ صلاة الجماعة - مثلاً - فيها ملاك الاستحباب لا أنّها مستحبّة فعلاً، بحيث يكون الآتي بها آتياً بالمستحبّ.

وإنّما قلنا بفعليّة الوجوب النّفسي {لسبقه} على الوجوب الغيري، إذ الجزء لم يمكن فيه اجتماع الوجوبين فلا بدّ من أحد الوجوبين، وحيث إنّ الوجوب النّفسي لا يتوقّف على شيء - بخلاف الوجوب الغيري، فإنّه يتوقّف على سبق وجوب - كان الجزء مصبّاً للوجوب النّفسي.

وإن شئت قلت: حيث إنّ المترشّح منه مقدّم على المترشّح عليه كان واجباً

ص: 15

فتأمّل.

هذا كلّه في المقدّمة الداخليّة.

وأمّا المقدّمة الخارجيّة: فهي ما كان خارجاً عن المأمور به، وكان له دخلٌ في تحقّقه، لا يكاد يتحقّق بدونه. وقد ذكر لها أقسام، وأُطيل الكلام في تحديدها

___________________________________________

نفسيّاً، وإذا صار واجباً نفسيّاً امتنع فيه الوجوب الغيري، لاستحالة اجتماع المثلين - كما تقدّم - .

{فتأمّل} وجهه منع كون الجزء فيه ملاك الوجوب الغيري؛ لأنّ المقدّميّة تتوقّف على تعدّد الوجود لها ولذيها، وحيث لا تعدّد لا يكون ملاكان.

وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى ما ذكرنا في وجه التأمّل بقوله: «وجهه أنّه لا يكون فيه - أيضاً - ملاك الوجوب الغيري، حيث إنّه لا وجود له» أي: للجزء «غير وجوده» أي: غير وجود نفس الجزء الّذي هو واجب نفسي «وبدونه» أي: بدون تعدّد الوجود «لا وجه لكونه» أي: الجزء «مقدّمة كي يجب» الجزء «بوجوبه» أي: الوجوب الغيري «أصلاً، كما لا يخفى.

وبالجملة لا يكاد يجدي تعدّد الاعتبار الموجب للمغايرة بين الأجزاء والكلّ في هذا الباب، وحصول ملاك الوجوب الغيري المترشّح من وجوب ذي المقدّمة عليها، لو قيل بوجوبها، فافهم»(1).

المقدّمة الخارجيّة

{هذا} الكلام {كلّه في المقدّمة الداخليّة، وأمّا المقدّمة الخارجيّة فهي ما كان خارجاً عن} حقيقة {المأمور به و} لكن {كان له دخل في تحقّقه} بحيث {لا يكاد يتحقّق بدونه} فالتّقيّد داخل والقيدخارج {وقد ذكر لها أقسام} كالشرط والسّبب والمعدّ وعدم المانع {وأُطيل الكلام في تحديدها} فقد عُرِّفَ الشّرط بأنّه: «ما يلزم

ص: 16


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 456.

بالنقض والإبرام، إلّا أنّه غير مهمّ في المقام.

___________________________________________

من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجوده» كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، فمع عدمها لا يمكن تحقّق الصلاة أمّا مع وجودها لا يلزم وجود الصلاة، كما لو تطهّر ولم يصلّ.

وعرّف السّبب بأنّه: «ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته» كالصيغة بالنسبة إلى العتق، فإنّ مع وجود الصيغة يلزم وجود العتق ومع عدمها يلزم عدمه.

وقولنا في التعريف: «لذاته» احتراز عن مقارنة وجود السّبب عدم الشّرط أو وجود المانع، فلا يلزم الوجود، أو قيام سبب آخر حالة عدم الأوّل مقامه، فلا يلزم العدم.

وعرّف المُعِدّ بأنّه: «ما يلزم من مجموع وجوده وعدمه الوجود» كالذهاب بالنسبه إلى الكون في محلّ مخصوص، فإنّ إيجاد الخطوه وإعدامها موجب للوصول.

وعرّف المانع بأنّه: «ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه الوجود» كاستدبار القبلة بالنّسبة إلى الصلاة، فإنّه يلزم من وجوده عدم الصلاة ولا يلزم من عدمه وجودها.

وقد أطالوا {بالنقض والإبرام} في هذه التحديدات، كما في التقريرات وغيره {إلّا أنّه غير مهمّ في المقام} إذ التحديد لا ربط له بالوجوب وعدمه،وقد ذكر في التقريرات(1)

بأنّ الموجب لهذا التفصيل بيان مراد المفصّل بين السّبب وغيره، يعني أنّه لا ربط له بالمقام في نفسه.

ص: 17


1- مطارح الأنظار 1: 204.

ومنها: تقسيمها إلى العقليّة، والشّرعيّة، والعاديّة:

فالعقليّة: هي ما استحيل واقعاً وجود ذي المقدّمة بدونه.

والشّرعيّة - على ما قيل - : ما استحيل وجوده بدونه شرعاً.

ولكنّه لا يخفى رجوع الشّرعيّة إلى العقليّة؛ ضرورةَ أنّه لا يكاد يكون مستحيلاً ذلك شرعاً إلّا إذا أُخذ فيه شرطاً وقيداً، واستحالة المشروط والمقيّد بدون شرطه وقيده يكون عقليّاً.

___________________________________________

المقدّمة العقليّة والشّرعيّة والعادّية

{ومنها} أي: ومن التقسيمات للمقدّمة {تقسيمها إلى العقليّة والشّرعيّة والعادّية، ف-} المقدّمة {العقليّة هي ما استحيل واقعاً} تكويناً {وجود ذي المقدّمة بدونه} أي: بدون وجود المقدّمة، ومثّل لها في القوانين(1) بالنظر المحصّل للعلم الواجب.

ولا يذهب عليك أنّ الاستحالة أعمّ من الاستحالة العقليّة، كاجتماع النّقيضين، والاستحالة الوقوعيّة، كالطّيران إلى السّماء.

{و} المقدّمة {الشّرعيّة - على ما قيل -} هي {ما استحيل وجوده} أي: وجود ذي المقدّمة {بدونه} أي: بدون وجود المقدّمة {شرعاً} كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة الّتي يستحيل وجودها بدونها {ولكنّه لا يخفى رجوع}المقدّمة {الشّرعيّة إلى} المقدّمة {العقليّة ضروره أنّه لا يكاد يكون مستحيلاً ذلك شرعاً} أي: وجود ذي المقدّمة بدون مقدّمته الشّرعيّة {إلّا إذا أُخذ} وجود المقدّمة {فيه} أي: في وجود ذي المقدّمة {شرطاً وقيداً} بحيث كان وجود الواجب مشروطاً ومقيّداً بها {و} إذا كان الواجب مقيّداً اتضح رجوع الشّرعيّة إلى العقليّة؛ لأنّ {استحالة المشروط والمقيّد بدون شرطه وقيده يكون عقليّاً} فلو توقّفت الصلاة في الشّريعة

ص: 18


1- قوانين الأصول 1: 208.

وأمّا العاديّة:

___________________________________________

على الطهارة حكم العقل بتوقّف الصلاة عليها مثل ما يحكم بتوقّف الصعود على نصب السُلَّم، نهايته أنّ الارتباط بين الصعود ونصب السُلّم ممّا لا يحتاج إلى جعل شرعي، بخلاف الارتباط بين الصلاة والطهارة فإنّه يحتاج إلى جعل شرعي، وكأنّ النّزاع لفظيّ فمن يفرق بين المقدّمة العقليّة والشّرعيّة يرى أصل الارتباط وأنّه تارة تكوينيّ وأُخرى جعليّ، ومن لا يفرّق بينهما يرى بعد الارتباط. هذا كلّه في المقدّمة العقليّة والشّرعيّة.

{وأمّا} المقدّمة {العادية} فتنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون التوقّف على الجامع عادة لا عقلاً كتوقّف الكون في محلّ بعيد على ركوب الحمار، فإنّ التوقّف على الجامع بين الحمار وغيره - أعني: مركوبٍ ما - عادي، إذ يمكن الذَّهاب بالرِّجْل.

الثّاني: أن يكون التوقّف على الخصوصيّة عادة وعلى الجامع عقلاً، كتوقّف الكون في محلّ بعيد وراء البحر على الرّكوب في سفينة خاصّة، فإنّ خصوصيّة الرّكوب في سفينة كذا عادي، وأمّا الجامع - أعني: طيّ المسافة ولو في سفينة أُخرى - عقلي.الثّالث: أن يكون التوقّف على الفرد عقلاً كنصب السُلّم ونحوه للصعود على السّطح، فهذا وإن كان عقليّاً فهو عادي أيضاً.

والحاصل: أنّ التوقّف على الفرد إمّا عقليّ وإمّا عادي، وعلى التقدير الثّاني فالتوقّف على الجامع إمّا عقليّ وإمّا عادي، فالأوّل كنصب السُلّم فجامعه الأعم من الطيران والصعود، والثّاني كالحركة مع هذه السّفينة والجامع هو العبور مع مطلق السّفن، والثّالث هو السّير مع الحمار والجامع هو السّير مع مطلق المركوب، فتدبّر.

ص: 19

فإن كانت بمعنى أن يكون التوقّف عليها بحسب العادة - بحيث يمكن تحقّق ذيها بدونها، إلّا أنّ العادة جرت على الإتيان به بواسطتها - فهي وإن كانت غير راجعة إلى العقليّة، إلّا أنّه لا ينبغي توهّم دخولها في محلّ النّزاع.

وإن كانت بمعنى أنّ التوقّف عليها وإن كان فعلاً واقعيّاً - كنصب السُلّم ونحوه للصعود على السّطح - ، إلّا أنّه لأجل عدم التمكّن عادةً من الطيران الممكن عقلاً، فهي أيضاً راجعة إلى العقليّة؛ ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النّصب عقلاً لغير الطائر فعلاً،

___________________________________________

إذا عرفت الأقسام فنقول: {فإن كانت} المقدّمة العادية المعدّة في أقسام المقدّمة من القسمين الأوّلين {بمعنى أن يكون التوقّف عليها} جامعاً أو فرداً {بحسب العادة بحيث يمكن تحقّق ذيها بدونها} كعدم التوقّف على الجامع في الأوّل وعلى الفرد في الثّاني {إلّا أنّ العادة جرت على الإتيان به} أي: بذي المقدّمة {بواسطتها} كالإتيان بواسطة جامع الرّكوب في القسم الأوّل وخصوصيّة الرّكوب في الثّاني {فهي} جواب «إن».{وإن كانت} هذه المقدّمة العادية {غير راجعة إلى العقليّة} لعدم التوقّف على الجامع في الأوّل وعلى الخصوصيّة في الثّاني {إلّا أنّه لا ينبغي توهّم دخولها} أي: دخول هذه المقدّمة العادية المنقسمة إلى القسمين الأوّلين {في محلّ النّزاع} لعدم وجوبها قطعاً {وإن كانت} المقدّمة العادية القسم الثّالث {بمعنى أنّ التوقّف عليها وإن كان فعلاً} في ظرف عدم القدرة على غيرها {واقعيّاً} بحيث لا يتحقّق ذوها بدونها {كنصب السُلّم ونحوه للصعود على السّطح}.

إذ النّصب في ظرف العجز عن الطيران واقعيّ عاديّ {إلّا أنّه} أي: التوقّف فعلاً {لأجل عدم التمكّن عادة من الطيران الممكن عقلاً} بالجناح ونحوه {فهي أيضاً راجعة إلى العقليّة} لكن على نحو الاستحالة الوقوعيّة لا الاستحالة العقليّة كما تقدّم {ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النّصب عقلاً لغير الطائر فعلاً} في ظرف

ص: 20

وإن كان طيرانه ممكناً ذاتاً، فافهم.

ومنها: تقسيمها إلى مقدّمة الوجود، ومقدّمة الصحّة، ومقدّمة الوجوب، ومقدّمة العلم.

___________________________________________

عدم إمكان الطيران {وإن كان طيرانه ممكناً ذاتاً} وليس من قبيل اجتماع النّقيضين ونحوه من المستحيلات الذاتيّة.

{فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الفرق بين المقدّمة العقليّة والعادية هو أنّ العقليّة يستحيل ذاتاً وجود ذيها بدونها، والعادية ما يستحيل عادة مع الإمكان ذاتاً، فالنزاع بين المصنّف الملحق للمقدّمة العادية بالعقليّة وبين غيره لفظي.ويمكن أن نتحصّل من جميع هذا المبحث أنّ المقدّمة الشّرعيّة ما كان الارتباط شرعيّاً والعقليّة ما كان التوقّف عقلاً بحيث لا يمكن خلافه كاجتماع النّقيضين، والعادية ما كان التوقّف عقلاً بحيث يمكن خلافه إمكاناً ولكن لا وقوع له، فتدبّر جيّداً.

مقدّمة الوجود والصحّة والوجوب والعلم

{ومنها} أي: ومن التقسيمات للمقدّمة {تقسيمها إلى مقدّمة الوجود} وهي الّتي يتوقّف عليها وجود الواجب، كنصب السُلّم بالنسبة إلى الكون في السطح {ومقدّمة الصحّة} وهي الّتي يتوقّف عليها صحّة الواجب، كالطهارة للصلاة على القول بأنّ العبادات أسامي للأعم، فإنّ ذات الصلاة على هذا القول لا تتوقّف على الطهارة وإنّما صحّتها متوقّفة عليها.

{ومقدّمة الوجوب} وهي الّتي يتوقّف عليها وجوب الشّيء، كالنِّصاب بالنسبة إلى الزكاة {ومقدّمة العلم} وهي الّتي يتوقّف عليها العلم بوجود الواجب، كتوقّف العلم بالإتيان بالصلاة إلى القبلة عند اشتباهها على الإتيان بأكثر من صلاة واحدة.

ص: 21

لا يخفى رجوع مقدّمة الصحّة إلى مقدّمة الوجود - ولو على القول بكون الأسامي موضوعة للأعمّ - ضرورةَ أنّ الكلام في مقدّمة الواجب لا في مقدّمة المسمّى بأحدها، كما لا يخفى.

ولا إشكال في خروج مقدّمة الوجوب عن محلّ النّزاع، بداهة عدم اتّصافها بالوجوب من قِبَل الوجوب المشروط بها.

___________________________________________

و{لا يخفى رجوع مقدّمة الصحّة إلى مقدّمة الوجود ولو على القول بكون الأسامي موضوعة للأعم} من الصحيح والفاسد:

أمّا على القول بكون الأسامي موضوعة للصحيح فقط فواضح، إذ لا وجودللماهيّة إلّا وهي صحيحة، فالطهارة الّتي هي مقدّمة إن تحقّقت تحقّقت الصحّة والوجود وإن لم تتحقّق لم تكن صحّة ولا وجود، فمقدّمة الصحّة على القول بالصحيح مقدّمة للوجود، فهما أمر واحد لا أمران، فلا معنى لجعل أحدهما في قبال الآخر.

وأمّا على القول بكون الأسامي موضوعة للأعمّ، فواضح أيضاً {ضرورة أنّ الكلام في مقدّمة الواجب لا في مقدّمة المسمّى بأحدها} أي: أحد الأسامي {كما لا يخفى}.

والحاصل: أنّه - وإن كانت الطهارة مقدّمة للصحّة وليست مقدّمة للوجود - لكن الكلام حيث كان في مقدّمة الواجب وليس العمل بدون الطهارة واجباً، لم يتحقّق مورد الافتراق بأن تكون مقدّمة للصحّة دون الوجود، لتصادقها في الواجب دائماً، وبهذا كلّه سقط مقدّمة الصحّة.

{ولا إشكال في خروج مقدّمة الوجوب عن محلّ النّزاع} في مبحث مقدّمة الواجب {و} ذلك {بداهة عدم اتصافها} أي: مقدّمة الوجوب كالنِّصاب {بالوجوب} المقدّمي المترشّح {من قبل الوجوب} لذي المقدّمة {المشروط بها} أي: بهذه المقدّمة.

ص: 22

وكذلك المقدّمة العلميّة وإن استقلّ العقل بوجوبها، إلّا أنّه من باب وجوب الإطاعة إرشاداً، ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجّز، لا مولويّاً من باب الملازمة، وترشُّحِ الوجوب عليها من قِبَل وجوب ذي المقدّمة.

___________________________________________

والحاصل: أنّه قبل حصول النِّصاب لا وجوب للزكاة حتّى يترشّح منه الوجوب على حصول النِّصاب، وبعد وجوب الزكاة فالنِّصاب حاصل لا يعقل وجوبه بعد حصوله. وبهذا كلّه سقط مقدّمة الوجوب أيضاً.{وكذلك} ليست {المقدّمة العلميّة} محلّاً للنزاع {وإن استقلّ العقل بوجوبها إلّا أنّه} فرق بين الوجوبين، أي: وجوب المقدّمة الّذي هو محلّ البحث ووجوب الإتيان بأطراف العلم الإجمالي المسمّى بالمقدّمة العلميّة، فإنّ ملاك وجوبها غير ملاك وجوب المقدّمة لأنّ وجوب المقدّمة العلميّة {من باب وجوب الإطاعة إرشاداً} فالعقل يرى الملازمة بين الوجوبين، أي: الوجوب الإرشادي للإطاعة والوجوب المقدّمي فحكم الإطاعة عقليّ، وحيث لا يتمكّن من الإتيان على طبق هذا الوجوب العقلي يرى وجوب الإتيان بالأطراف {ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجّز، لا مولويّاً} عطف على «إرشاداً» يعني ليس وجوب المقدّمة العلميّة من باب أنّه مقدّمة للوجوب المولوي {من باب الملازمة} بين الوجوب المولوي النّفسي.

{و} الوجوب الغيري فليس وجوبها من باب {ترشّح الوجوب عليها} أي: على المقدّمة العلميّة {من قبل وجوب ذي المقدّمة} فتبيّن الفرق بين الملازمتين وأنّ الملازمة في المقدّمة العلميّة بين الوجوب العقلي الإرشادي والوجوب الغيري، والملازمة في مقدّمة الوجود بين المولوي والغيري. وبهذا أيضاً سقط مقدّمة العلم، فانحصرت المقدّمة المبحوث عنها في مقدّمة الوجود.

ص: 23

ومنها: تقسيمها إلى المتقدّم، والمقارن، والمتأخّر، بحسب الوجود بالإضافة إلى ذي المقدّمة.

وحيث إنّها كانت من أجزاء العلّة - ولا بدّ من تقدّمها بجميع أجزائها على المعلول - أُشكل الأمر في المقدّمة المتأخّرة، كالأغسال الليليّة

___________________________________________

تقسيم المقدّمة إلى المتقدّم والمقارن والمتأخّر

{ومنها} أي: ومن التقسيمات للمقدّمة {تقسيمها إلى المتقدّم} كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة {والمقارن} كالاستقبال لها {والمتأخّر} كغسل الليلة الآتية بالنسبة إلى صوم اليوم الماضي.

ثمّ حيث إنّ للتقدّم وأخويه كان أقساماً بيّن أنّ المراد هنا بالتقدّم والتقارن والتأخّر {بحسب الوجود} لا بالشرف والرّتبة ونحوهما، وحيث إنّها من الأُمور الإضافية المحتاجة إلى المضاف إليه قال: {بالإضافة إلى ذي المقدّمة} كالصلاة والصوم في المثال {وحيث إنّها} أي: المقدّمة {كانت من أجزاء العلّة و} قد تقرّر في المعقول أنّ العلّة {لا بدّ من تقدّمها بجميع أجزائها على المعلول} رتبة وإن وجب تقارنهما زماناً، والسّرّ في وجوب التقدّم الرّتبي أنّه لولاه لم يكن أحدهما أولى بالعلّيّة والآخر بالمعلوليّة من العكس.

ووجه وجوب التقارن الزماني ما أشار إليه العلّامة المشكيني(رحمة الله) بقوله: «والسّرّ فيه أنّه لو تقدّم زماناً أو تأخّر يكون وجود المعلول معدوماً، فحينئذٍ إن فرض عدم تأثيره فيه لزم الخلف، إذ المفروض أنّه مؤثّر، أو جزء مؤثّر، أو له دخل في التأثير، وإن فرض التأثير لزم تأثير المعدوم في الموجود، وبداهة العقل تحكم ببطلانه»(1) {أشكل الأمر} خبر «حيث» {في المقدّمة المتأخّرة كالأغسال الليليّة}

ص: 24


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 466.

المعتبرة في صحّة صوم المستحاضة عندبعض(1)، والإجازةِ في صحّة العقد على الكشف كذلك، بل في الشّرط أو المقتضي المتقدّم على المشروط زماناً، المتصرّم حينه، كالعقد في الوصيّة والصرف والسّلم، بل في كلّ عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه؛ لتصرّمها حين تأثيره،

___________________________________________

الآتية {المعتبرة في صحّة صوم المستحاضة} لليوم السّابق {عند بعض} ممّن اشترط صحّة صوم اليوم الماضي بغسل الليلة الآتية.

{و} كذلك {الإجازة} المتأخّرة {في صحّة العقد} الواقع فضولاً بناءً {على الكشف} الحقيقي، إذ بعضهم ذهب إلى النّقل وأنّ الإجازة المتأخّرة موجبة لإيجاد العلقة ابتداءً، وبعضهم ذهب إلى الكشف الحقيقي وأنّ الإجازة المتأخّرة مؤثّرة في انعقاد العقد المتقدّم، وذهب جمع من المحقّقين إلى الكشف الحكمي، والتفصيل مذكور في مكاسب الشّيخ(رحمة الله)(2) وغيره {كذلك} أي: عند بعض.

{بل} يشكل الأمر {في الشّرط أو المقتضي المتقدّم على المشروط زماناً المتصرّم} أي: المنقضي ذلك الشّرط {حينه} أي: حين المشروط {كالعقد في الوصيّة} فإنّ ملك الموصى له بعد الموت، فالعقد مقدّم والملك متأخّر {و} كذلك العقد في بيع {الصرف} وهو بيع الأثمان {و} في {السّلم} وهو مقابل النّسيئة، فإن ملك المشتري متوقف على القبض، فالعقد فيها مقدّم والملك متأخّر.{بل} يشكل الأمر {في كلّ عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه لتصرّمها} أي: انقضاء تلك الأجزاء {حين تأثيره} أي: تأثير العقد.

مثلاً: لو قال البائع للمشتري: (بعتك هذا الكتاب بدينار) فقال المشتري: (قبلت) وقع الملك بعد التاء في القبول مع أنّ ما قبلها قد انصرم ومضى، فيدور الأمر حينئذٍ بين القول بعدم تأثيره، فيلزم عدم انعقاد البيع وهو باطل، وبين الانعقاد

ص: 25


1- السرائر 1: 407؛ شرائع الإسلام 1: 197.
2- كتاب المكاسب 3: 408.

مع ضرورةِ اعتبار مقارنتها معه زماناً.

فليس إشكال انخرام القاعدة العقليّة مختصّاً بالشرط المتأخّر في الشّرعيّات - كما اشتهر في الألسنة - ، بل يعمّ الشّرطَ والمقتضي المتقدّمين المتصرّمين حين الأثر.

والتحقيق في رفع هذا الإشكال أن يقال: إنّ الموارد الّتي توهم انخرام القاعدة فيها لا تخلو: إمّا أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف، أو الوضع، أو المأمور به.

___________________________________________

فيلزم تاثير المعدوم في الموجود {مع ضرورة اعتبار مقارنتها} أي: مقارنة العلّة {معه} أي: مع الأثر {زماناً} كما تقدّم في كلام المشكيني(رحمة الله) {فليس إشكال انخرام القاعدة العقليّة} وهي لزوم تقدّم العلّة رتبة وتقارنها زماناً مع المعلول {مختصّاً بالشرط المتأخّر في الشّرعيّات، كما اشتهر} هذا الاختصاص {في الألسنة، بل يعمّ} الإشكال {الشّرط والمقتضي المتقدّمين المتصرّمين حين الأثر} كما يعمّ غير الشّرعي منهما. ولا يذهب عليك أنّه لا مجال للقول بالإمكان الشّرعي بعد ثبوت الاستحالة العقليّة، إذ المحالات التكوينيّة لا تصير ممكنة تشريعاً.{والتحقيق في رفع هذا الإشكال} عن جميع الموارد {أن يقال: إنّ الموارد الّتي توهم انخرام القاعدة فيها لا تخلو} عن ثلاثة أُمور:

لأنّه {إمّا أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف} بمعنى أنّه دخيل في أمر الآمر به {أو الوضع} بمعنى أنّه دخيل في صحّة انتزاعه لدى الحاكم بالوضع {أو المأمور به} بمعنى أنّه بسبب هذا الشّرط يحصل لمتعلّق الأمر خصوصيّة بحيث لولا هذه الخصوصيّة لم تقع متعلّقة للأمر، هذا وفي بعض نسخ الكتاب عطف «الوضع» بالواو، وهذا هو الأنسب بما سيفصّله من القسمين وجعل الوضع في الأمر الأوّل:

ص: 26

أمّا الأوّل: فكونُ أحدهما شرطاً له ليس إلّا أنّ للحاظه دخلاً في تكليف الأمِرِ، كالشرط المقارن بعينه، فكما أنّ اشتراطه بما يقارنه ليس إلّا أنّ لتصوّره دخلاً في أمره، بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر، كذلك المتقدّم أو المتأخّر.

وبالجملة: حيث كان الأمر من الأفعال الاختياريّة، كان من مبادئه - بما هو كذلك - تصوّرُ الشّيء بأطرافه، ليرغب في طلبه والأمر به،

___________________________________________

{أمّا الأوّل} وهو ما كان المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف أو الوضع {فكون أحدهما شرطاً له} أي: للتكليف {ليس إلّا أنّ للحاظه} أي: للحاظ ذلك الشّرط {دخلاً في تكليف الآمِر} بصيغة الفاعل، بمعنى أنّ الوجود العيني للشرط المتقدّم أو المتأخّر ليس دخيلاً في المشروط حتّى يستشكل بلزوم تأثير المعدوم في الموجود، بل المراد بكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً أنّ أمر الآمر إنّما تعلّق بهذه الذات لوجود ذلك الأمر المتقدّم أو المتأخّر، بحيث لو لم يكن لم تتعلّق الإرادة، فيكون الشّرط المتقدّم أوالمتأخّر {كالشرط المقارن بعينه} من غير فرق بينهما.

{فكما أنّ اشتراطه} أي: التكليف {بما يقارنه ليس إلّا} بمعنى {أنّ لتصوّره} أي: تصوّر ذلك المقارن {دخلاً في أمره} بمعنى أنّ العلم بكونه في الخارج صار سبباً للأمر بالمشروط لا أنّ وجوده يؤثّر في المشروط {بحيث لولاه} أي: لولا وجود الشّرط خارجاً {لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر كذلك} يكون حال الشّرط {المتقدّم أو المتأخّر} فالشرط الشّرعي ليس من صغريات العلّة التكوينيّة حتّى يلزم تقارنه مع المعلول زماناً، بل إنّ وجوده في الخارج كان سبباً لأمر المولى.

{وبالجملة حيث كان الأمر من الأفعال الاختياريّة} للمولى {كان من مبادئه} أي: مبادئ الأمر {بما هو كذلك} اختياري {تصوّر الشّيء} المأمور به {بأطرافه} المقدّم منه والمؤخّر والمقارن {ليرغب في طلبه} إذ بدون ملاحظة الأطراف لا يعلم الفائدة غير المزاحمة بالمفسدة، فيتوقّف الرّغبة {والأمر به} على ملاحظة الأطراف

ص: 27

بحيث لولاه لما رغب فيه، ولما أراده واختاره، فيسمّى كلّ واحد من هذه الأطراف - الّتي لتصوّرها دخلٌ في حصول الرّغبة فيه وإرادته - : شرطاً؛ لأجل دخْلِ لحاظه في حصوله، كان مقارناً له أو لم يكن كذلك، متقدّماً أو متأخّراً، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطاً، كان فيهما كذلك، فلا إشكال.

___________________________________________

{بحيث لولاه لما رغب فيه ولما أراده واختاره} إلّا إذا كان سفيهاً {فيسمّى كلّ واحد من هذه الأطراف} الثّلاثة {الّتي لتصوّرها} أي: وجودها في الخارج المتعلّق للتصوّر {دخل في حصول الرّغبة فيه} أي:الرّغبة في الطلب {وإرادته} عطف على «حصول» {شرطاً} مفعول «يسمّى».

وإنّما يسمّى الأطراف الدخيلة شرطاً {لأجل دخل لحاظه في حصوله} أي: حصول الطلب والإرادة والرّغبة سواء {كان} ذلك المتصور في الخارج {مقارناً له} أي: للمأمور به {أو لم يكن كذلك} أي: مقارناً، وحينئذٍ كان {متقدّماً أو متأخّراً} عنه {فكما في} الشّرط {المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطاً} لا أنّ وجوده الخارجي مؤثّر في المشروط {كان فيهما} أي: المتقدّم والمتأخّر {كذلك} لحاظهما شرطاً لا وجودهما {فلا إشكال} على القاعدة العقليّة القائلة بلزوم تقارن المعلول مع العلّة. هذا كلّه في شرط التكليف إذا كان متقدّماً أو متأخّراً.

ولا يذهب عليك أنّه قد يعبّر بكون الشّرط الوجود العلمي والتصوّر الذهني، وقد يعبّر بكون الشّرط نفس الوجود الخارجي، بمعنى أنّه لولاه لم يأمر المولى، والمراد بالعبارتين واحد إذ المقصود نفي كون الشّرط علّة فاعليّة للمشروط، وهذا يؤدّي بكلّ من العبارتين وإن كان التعبير الأوّل أولى، إذ الوجود العلمي هو المدار في الأمر، بيان ذلك: أنّ المولى إنّما يأمر إذا علم بوجود ذلك الشّرط سواء كان واقعاً موجوداً أم لا، وكذلك لا يأمر إذا علم بعدم ذلك الشّرط سواء كان موجوداً واقعاً أم لا.

ص: 28

وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقاً، ولو كان مقارناً؛ فإنّ دَخْلَ شيءٍ في الحكم به، وصحّةِ انتزاعه لدى الحاكم به، ليس إلّا ما كان بلحاظه يصحّ انتزاعه، وبدونه لا يكاد يصحّ انتزاعه عنده، فيكون دخل كلّ من المقارن وغيره بتصوّره ولحاظه، وهو مقارن. فأين انخرام القاعدة العقليّة في غير المقارن؟ فتأمّل تعرف.

___________________________________________

والحاصل: أنّ بين الشّرط العلمي والشّرط الخارجي عموماً من وجه، والمدار على العلم لا على الخارج، فتدبّر.

{وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقاً} أي: {ولو كان مقارناً} للمشروط، إذ الوضع كالملكيّة والزوجيّة والطهارة والنّجاسة ونحوها اعتبارات من المعتبر، والاعتبار أيضاً فعل اختياري ينشأ عن الإرادة النّاشئة عن تصوّر المصلحة، وذلك يتحقّق بعد تحقّق الوجود العلمي للشرط {فإن دخل شيء} من الشّروط {في الحكم به} أي: بالوضع {و} في {صحّة انتزاعه لدى الحاكم به} الّذي لوضعه اعتبار عقلائي {ليس} ذلك الدخل {إلّا ما} أي: الشّرط الّذي {كان بلحاظه} ووجوده العلمي {يصحّ انتزاعه} أي: انتزاع ذلك الأمر الوضعي كالملكيّة {وبدونه} أي: بدون اللحاظ {لا يكاد يصحّ انتزاعه عنده} أي: عند الحاكم.

والحاصل: أنّ وجوده العلمي دخيل في الانتزاع، لا أنّ وجوده الخارجي علّة حتّى يشكّل لزوم تخلّف العلّة عن المعلول {فيكون دخل كلّ من} الشّرط {المقارن وغيره} من المتقدّم والمتأخّر {بتصوّره} أي: إنّ الدخيل هو تصوّر الشّرط {ولحاظه وهو} أي: اللحاظ {مقارن} للمشروط، فما كان علّة للحكم مقارن له وما كان غير مقارن ليس علّة {فأين انخرام القاعدة العقليّة} القائلة بلزوم التقارب بين العلّة والمعلول {في} الشّرط {غير المقارن} في التكليف والوضع؟ {فتأمّل} في المقام {تعرف} حقيقة المرام.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه في الجواب لا يفرق فيه بين كون المكلّف والواضع هو

ص: 29

وأمّا الثّاني: فكون شيء شرطاً للمأمور به ليس إلّا ما يحصللذات المأمور به بالإضافة إليه وجهاً وعنواناً، به يكون حسناً أو متعلّقاً للغرض، بحيث لولاها لما كان كذلك.

___________________________________________

الشّارع أو غيره. نعم، سوق الكلام في الشّارع غير سوقه في غيره.

ثمّ إنّ اللّه - سبحانه - لمّا كان منزّهاً عن التصوّر واللحاظ كان ما ذكر بالنسبة إليه - سبحانه - مثل الإرادة بالنسبة إليه - تعالى - .

{وأمّا الثّاني} وهو ما كان المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للمأمور به {فكون شيء شرطاً للمأمور به ليس} بمعنى أنّ له دخلاً في تحقّق ذات المأمور به، بحيث لولا هذا الشّرط لم يتحقّق الذات، مثل المحاذاة بالنسبة إلى الإحراق، فإنّه شرط لحصول ذات الإحراق، بل المراد بكون الشّيء شرطاً للمأمور به ليس {إلّا ما} أي: الشّيء الّذي {يحصل لذات المأمور به بالإضافة} والنّسبة {إليه} أي: إلى ذلك الشّيء {وجهاً وعنواناً به يكون حسناً} على قول العدليّة {أو} به يكون {متعلّقاً للغرض} وإن لم يكن حسن بناءً على قول الأشعري {بحيث لولاها} أي: لولا هذه الإضافة والنّسبة {لما كان} المأمور به {كذلك} حسناً ومتعلّقاً للغرض.

ثمّ إنّ هذه الإضافة الحاصلة بواسطة أمر خارج عن الشّيء - الّتي بسببها صار الشّيء حسناً ومتعلّقاً للغرض - على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: أن تكون الإضافة إلى أمر متقدّم، مثل: أنّ الضرب المسمّى بالقصاص المسبوق بالاعتداء حسن، فالحسن طرأ على الضرب لإضافته إلى أمر متقدّم عليه.

الثّاني: أن تكون الإضافة إلى أمر متأخّر مثل: أنّ الغسل بماء الحمّام الملحوق بإعطاء الدرهم للحمّامي حسن، فالحسن طرأ على الغسل لإضافته إلى أمر متأخّر عنه.

الثّالث: أن تكون الإضافة إلى أمر مقارن، مثل: أنّ التطهير المقارن لصحّة البدن

ص: 30

واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات النّاشئة من الإضافات، ممّا لا شبهة فيه ولا شكّ يعتريه.

والإضافة كما تكون إلى المقارن، تكون إلى المتأخّر أو المتقدّم بلا تفاوت أصلاً، كما لا يخفى على المتأمّل.

فكما تكون إضافة شيء إلى مقارن له موجباً لكونه معنوناً بعنوان، يكون بذلك العنوان حسناً ومتعلّقاً للغرض، كذلك إضافته إلى متأخّر أو متقدّم؛

___________________________________________

حسن، فالحسن طرأ على التطهير لإضافته إلى أمر مقارن له، أعني: صحّة البدن.

{و} إن قلت: هل الحسن والقبح كما هما ذاتيّان في بعض الموارد كذلك يكونان بالوجوه والإضافات في بعض الموارد أم لا؟

قلت: {اختلاف الحسن والقبح و} كذلك اختلاف {الغرض} التابع لهما {باختلاف الوجوه والاعتبارات النّاشئة من الإضافات ممّا لا شبهة فيه ولا شكّ يعتريه} لبداهة أنّ ضرب اليتيم لغير التأديب قبيح وللتأديب حسن، مع أنّ الضرب والضارب والمضروب وآلة الضرب وزمانه ومكانه وسائر أطرافه واحد.

{و} إذا تحقّقت هاتان المقدّمتان - أعني: اختلاف الوجوه باختلاف الإضافة واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه - فنقول: {الإضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخّر أو المتقدّم} كما تقدّم من الأمثلة {بلا تفاوت} في الإضافات الثّلاثة {أصلاً} فكلّ من المتقدّم والمتأخّر والمقارن يوجب الإضافة والإضافة توجب الوجه والوجه يوجب الحسن - مثلاً -وبالحسن يتعلّق الغرض وذلك يوجب الأمر به {كما لا يخفى على المتأمّل} قليلاً.

ومن الواضح أنّه لا يفرق في ذلك المتقدّم وأخواه {فكما تكون إضافة شيء إلى} أمر {مقارن له موجباً لكونه} أي: ذلك الشّيء {معنوناً بعنوان يكون بذلك العنوان} أي: بسببه {حسناً ومتعلّقاً للغرض} الموجب للأمر به {كذلك إضافته إلى متأخّر أو متقدّم}

ص: 31

بداهةَ أنّ الإضافة إلى أحدهما ربّما توجب ذلك أيضاً، فلولا حدوث المتأخّر في محلّه لما كانت للمتقدّم تلك الإضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والأمر به، كما هو الحال في المقارن أيضاً، ولذلك أُطلق عليه الشّرط مثله، بلا انخرام للقاعدة أصلاً؛ لأنّ المتقدّم أو المتأخّر - كالمقارن - ليس إِلّا طَرَفَ الإضافةِ الموجبة للخصوصيّة الموجبة للحسن، وقد حقّق في محلّه أنّه بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح أنّها تكون بالإضافات.

فمنشأ توهّم الانخرام: إطلاق الشّرط على المتأخّر،

___________________________________________

موجب لكون ذلك الشّيء موجّهاً بوجه يكون بسبب ذلك الوجه حسناً ومتعلّقاً للغرض من غير فرق {بداهة أنّ الإضافة إلى أحدهما ربّما توجب ذلك} العنوان الحسن {أيضاً، فلولا حدوث المتأخّر في محلّه} كإعطاء الدرهم للحمّامي {لما كانت للمتقدّم} كالغسل بماء الحمّام {تلك الإضافة} بأن يقال: إنّه غسل ملحوق بإعطاء الدرهم {الموجبة لحسنه} وذلك الحسن {الموجب لطلبه والأمر به} بأن يقول: (اغتسل)، {كما هوالحال في} الأمر {المقارن أيضاً} فإنّه موجب للعنوان الحسن مثلاً {ولذلك} الّذي قلنا من حصول الحسن لحصول الوجه الحاصل من الإضافة إلى المتقدّم أو المتأخّر {أُطلق عليه} أي: على كلّ واحد من المتقدّم والمتأخّر {الشّرط مثله} أي: مثل: المقارن {بلا انخرام للقاعدة} العقليّة المتقدّمة {أصلاً} كما لا يخفى، وذلك {لأنّ} الأمر {المتقدّم أو المتأخّر كالمقارن ليس} وجودها علّة فاعليّة للمأمور به حتّى يلزم التقارن الزماني، بل لا يكون كلّ واحد منها {إلّا طرف الإضافة} للمأمور به {الموجبة للخصوصيّة الموجبة} تلك الخصوصيّة {للحسن} أو القبح - مثلاً - .

{وقد حقّق في محلّه} كعلم الكلام والحكمة {أنّه بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح أنّها} أي: الاعتبارات والوجوه {تكون بالإضافات} كما تقدّم في مثال التأديب وغيره {فمنشأ توهّم الانخرام} للقاعدة العقليّة {إطلاق الشّرط على المتأخّر} فيتوهّم

ص: 32

وقد عرفت أنّ إطلاقه عليه فيه - كإطلاقه على المقارن - إنّما يكون لأجل كونه طرفاً للإضافة الموجبة للوجه، الّذي يكون بذلك الوجه مرغوباً ومطلوباً، كما كان في الحكم لأجل دَخْل تصوّره فيه، كدخل تصوّر سائر الأطراف والحدود الّتي لولا لحاظُها لما حصل له الرّغبة في التكليف، أو لما صحّ عنده الوضع.

___________________________________________

أنّ المراد به العلّة {وقد عرفت} أنّه ليس كذلك و{أنّ إطلاقه} أي: الشّرط {عليه} أي: على المتأخّر {فيه} أي: في ما كان شرطاً للمأمور به {كإطلاقه} أي: الشّرط {على المقارن إنّما يكون لأجل كونه طرفاً للإضافةالموجبة للوجه الّذي يكون} الشّيء {بذلك الوجه مرغوباً ومطلوباً} فالمتقدّم أو المتأخّر ليس مؤثّراً في الذات، بل هما مؤثّران في الإضافة فقط، وحيث إنّها خفيفة المؤونة فلا بأس بكون المتأخّر او المتقدّم سبباً، لانتزاع عنوان حسن أو قبيح يوجب تعلّق الغرض به أمراً أو زجراً {كما كان} إطلاق الشّرط {في الحكم} الوضعي والتكليفي في الأمر الأوّل {لأجل دخل تصوّره} أي: ذلك المتقدّم أو المتأخّر {فيه} أي: في الحكم.

والحاصل: أنّ دخلهما في الحكم {كدخل تصوّر سائر الأطراف والحدود الّتي لولا لحاظها} حين إرادة الحكم {لما حصل له الرّغبة في التكليف أو لما صحّ عنده الوضع} وقوله: «كدخل» الخ من تتمّة المشبّه به - أعني: الحكم - لا المشبّه، - أعني: المأمور به - .

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «مثلاً إذا فرض اشتراط صوم المستحاضة بالاستحاضة الكبرى بغسل الليلة الآتية يكون دخل الغسل حينئذٍ في الصوم عبارة عن أنّه بملاحظة الغسل المزبور يحصل لصومها خصوصيّة بها يصير ذا مصلحة مقتضية، لإيجابه عليها بهذه الخَصُوصيّة، فيأمر بذلك الخاصّ، فيجب عليها الصوم في النّهار والغسل في الليلة الآتية»(1)، الخ.

ص: 33


1- شرح كفاية الأصول 1: 130.

وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الإشكال في بعض فوائدنا(1)، ولم يسبقني إليه أحد - في ما أعلم - فافهم واغتنم.

ولا يخفى: أنّها بجميع أقسامها داخلة في محلّ النّزاع، وبناءً على الملازمة يتصف اللّاحق بالوجوب، كالمقارن والسّابق؛

___________________________________________

{وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الإشكال في بعض فوائدنا} المطبوعة مع حاشيتنا على رسائل الشّيخ(رحمة الله) {ولم يسبقني إليه أحد في ما أعلم} وإن أجاب عن هذا الإشكال جماعة آخرون إلّا أنّه ليس بهذه الكيفيّة {فافهم واغتنم} ذلك.

فالمتحصّل من الإشكال: أنّ الشّرط من أجزاء العلّة الحقيقيّة، فلا يعقل تقدّمها ولا تأخّرها.

وحاصل الجواب: أنّ العلّة في التكليف والوضع الصورة الذهنيّة وهي مقارنة، وفي المأمور به الوجه والعنوان وهما مقارنان وإن كان منشأهما مقدّماً أو مؤخّراً.

{ولا يخفى أنّها} أي: شرائط المأمور به {بجميع أقسامها} من المتقدّم والمتأخّر والمقارن {داخلة في محلّ النّزاع} في أنّها واجبة أم لا؟ فمن ذهب إلى وجوب المقدّمة قال بوجوبها، ومن ذهب إلى العدم قال بعدم وجوبها.

قال المشكيني: «وأمّا شروط التكليف فلا يعقل اتصافها بالوجوب كما سيأتي، وشروط الوضع خارجة أيضاً لعدم وجوبه حتّى تتصف مقدّماته به على الملازمة. نعم، ربّما يتعلّق به الأمر، فيدخل في محلّ النّزاع»(2).

{و} من كلّ ما تقدّم ظهر أنّ مقدّمات المأمور به وشرائطه {بناءً على الملازمة يتصف اللّاحق} منها {بالوجوب كالمقارن والسّابق} فإنّها من مقدّمات المأمور به

ص: 34


1- فوائد الأصول: 59-60.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 477.

إذ بدونه لا يكاد يحصل الموافقة، ويكون سقوط الأمر بإتيان المشروط به مراعًى بإتيانه، فلولا اغتسالها في الليل - على القولبالاشتراط - لما صحّ الصوم في اليوم.

الأمر الثّالث: في تقسيمات الواجب.

منها: تقسيمه إلى المطلق والمشروط.

وقد ذكر لكلّ منهما تعريفات وحدود، تختلف بحسب ما أُخذ فيها من القيود،

___________________________________________

{إذ بدونه لا يكاد يحصل الموافقة} له {ويكون سقوط الأمر} المتوجّه إلى المكلّف {بإتيان} المأمور به {المشروط به} أي: بهذا الشّرط {مراعى بإتيانه} قبلاً أو بعداً أو مقارناً {فلولا اغتسالها في الليل} المتقدّم واليوم والليل الآتي {على القول بالاشتراط} بالغسل في الليل الآتي أيضاً {لما صحّ الصوم في اليوم} المتقدّم، ولولا الإجازة اللّاحقة والقبض اللّاحق لما صحّ العقد المتقدّم.

الأمر الثّالث: [في تقسيمات الواجب]

اشارة

{الأمر الثّالث} من الأمور الّتي لا بدّ من بيانها قبل الخوض في المقصود من مقدّمة الواجب {في تقسيمات الواجب} وإنّما قدّمها لدخالتها في المقصد.

قال في التقريرات: «قد عرفت تحقيق القول في تقسيم المقدّمة وما هو ينبغي أن يكون محلّاً للخلاف من تلك الأقسام، فيعرّف الآن محلّ الخلاف من الواجب الّذي أُضيف إليه لفظ المقدّمة»(1)،

انتهى.

[التقسيم الأوّل:] الواجب المطلق والمشروط
اشارة

{منها تقسيمه إلى} الواجب {المطلق والمشروط، وقدذكر لكلّ منهما تعريفات وحدود تختلف} تلك التعريفات {بحسب ما أُخذ فيها من القيود}:

فعن بعضٍ تعريف الواجب المطلق بأنّه: «ما لا يتوقّف وجوبه على أمر زائد على

ص: 35


1- مطارح الأنظار 1: 223.

وربّما أُطيل الكلام بالنقض والإبرام في النّقض على الطرد والعكس(1)، مع أنّها - كما لا يخفى - تعريفات لفظيّة لشرح الاسم، وليست بالحدّ ولا بالرسم.

___________________________________________

الأُمور المعتبرة في التكليف من العلم والعقل والقدرة والبلوغ، والمشروط بخلافه»(2)،

وقال صاحب الحاشية ما لفظه: «إنّ الواجب باعتبار ما يتوقّف عليه في الجملة قسمان:

أحدهما: أن يتوقّف وجوده عليه من غير أن يتوقّف عليه وجوبه، كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة.

وثانيهما: أن يتوقّف وجوبه عليه سواء توقّف عليه وجوده، كالعقل بالنسبة إلى العبادات الشّرعيّة، أو لم يتوقّف عليه، كالبلوغ بالنسبة إليها، بناءً على القول بصحّة عبادات الصّبيّ»(3).

وعن بعضٍ آخر: أنّ الواجب المشروط ما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده، والواجب المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده.

{وربّما أُطيل الكلام بالنّقض والإبرام في النّقض على الطرد} وعدم منع الأغيار {والعكس} بعدمجمع الأفراد. وحاصل معنى العبارة أنّهم نقضوا وأشكلوا على طرد التعاريف وعكسها، ثمّ بعض آخر أشكلوا على الإشكال وبعضهم صحّحوا الإشكال {مع} أنّه لا وقع لهذه الإشكالات أصلاً، إذ {أنّها - كما لا يخفى - تعريفات لفظيّة لشرح الاسم} إجمالاً نحو (سعدانة نبت) {وليست بالحد} المبيّن للجنس والفصل {ولا بالرسم} المبيّن للجنس والخاصّة.

ص: 36


1- مطارح الأنظار 1: 223؛ بدائع الأفكار: 304.
2- حقائق الأصول 1: 230.
3- هداية المسترشدين 2: 86.

والظّاهر: أنّه ليس لهم اصطلاح جديدٌ في لفظ المطلق والمشروط، بل يطلق كلّ منهما بما له من معناه العرفي.

كما أنّ الظاهر: أنّ وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيّان، لا حقيقيّان، وإلّا لم يكد يوجد واجب مطلق؛ ضرورة اشتراط وجوب كلّ واجب ببعض الأُمور، لا أقلّ من الشّرائط العامّة، كالبلوغ والعقل.

___________________________________________

{والظّاهر} بحسب تعريفاتهم {أنّه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط} يريدون بيان ذلك الاصطلاح بهذه التعريفات، إذ لو كان هناك اصطلاح لم يكن وقع للإشكال، إذ لا مشاحّة فيه، فتدبّر {بل يطلق كلّ منهما} في ألسنة الفقهاء والأصوليّين {بما له من معناه العرفي} المطابق للمعنى اللغوي وأحد صغرياته - أعني: ما كان الوجوب غير منوط بشيء وما كان منوطاً به - .

{كما أنّ الظاهر} بحسب تتبّع مطلقات الشّرع ومشروطاته الّتي انصبّ عليها كلام الفقهاء والأصوليّين {أنّ وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيّان} فالواجب بالنسبة إلى مقدّمةمطلق وبالنسبة إلى مقدّمة أُخرى مشروط.

مثلاً: الصلاة بالنسبة إلى الطهارة مطلق وبالنسبة إلى العقل مشروط، وكذا الحج بالنسبة إلى الاستطاعة مشروط وبالنسبة إلى السّير مطلق {لا حقيقيّان} بحيث يكون واجب مطلقاً من جميع الجهات، وواجب مشروطاً من جميع الجهات {وإلّا} يكن الوصفان إضافيّين لم يكن وجه للبحث عن الواجب المطلق أصلاً، إذ {لم يكد يوجد واجب مطلق} من جميع الجهات {ضرورة اشتراط وجوب كلّ واجب ببعض الأُمور} و{لا أقلّ من الشّرائط العامّة كالبلوغ والعقل} فإنّ كلّ واجب مشروط بالنسبة إليها. والشّرائط العامّة أربعة، وهي ما ذكره المصنّف(رحمة الله) بإضافة القدرة والعلم، فتأمّل.

ص: 37

فالحريّ أن يقال: إنّ الواجب مع كلّ شيء يلاحظ معه: إن كان وجوبه غيرَ مشروط به فهو مطلق بالإضافة إليه، وإلّا فمشروط كذلك، وإن كان بالقياس إلى شيء آخر بالعكس.

ثمّ

___________________________________________

وعلى كلّ حال {فالحريّ أن يقال: إنّ الواجب مع كلّ شيء} من مقدّماته الّذي {يلاحظ} الواجب {معه إن كان وجوبه غير مشروط به} بأن كان المولى يريد الواجب على كلّ حال {فهو مطلق بالإضافة إليه} أي: إلى ذلك الشّيء - أعني: المقدّمة - {وإلّا} يكن كذلك - بأن كان وجوب الواجب بشرط وجود تلك المقدّمة - {فمشروط كذلك} بالإضافة إلى تلك المقدّمة.

{وإن كان} كلّ من الواجبين المطلق بالإضافة والمشروط بالإضافة{بالقياس إلى شيء آخر} من المقدّمات {بالعكس} فالمطلق مشروط والمشروط مطلق، فالصلاة بالإضافة إلى الطهارة واجب مطلق والحجّ بالإضافة إلى الزاد مشروط، وإن كانت الصلاة بالإضافة إلى شيء آخر، كالوقت مشروطاً والحجّ بالإضافة إلى شيء آخر، كالسير مطلقاً.

{ثمّ} إنّ في الواجب المشروط نزاعاً بين الشّيخ الأعظم+ وبين المصنّف(رحمة الله) وبيان ذلك يتوقّف على مقدّمة، وهي: أنّ للأمر - مثلاً - هيئةً تفيد الوجوب ومادّةً هي متعلّق الوجوب، فإذا قيّد الأمر بقيد كان حتماً ظرف الفعل في زمان حصول ذلك الشّرط.

إذا تبيّن ذلك فنقول: مبنى الشّيخ(رحمة الله) على أنّ القيد ينصبّ على المادّة والهيئة تبقى على إطلاقها، فالوجوب في الحال وإنّما الواجب متأخّر، فإذا قال: (حجّ إن استطعت) وجب على المكلّف في الحال الحجّ الواقع بعد الاستطاعة، ومبنى المصنّف على أنّ القيد ينصبّ على الهيئة والمادّة تتقيّد بتبعها، فالوجوب كالواجب

ص: 38

الظاهر: أنّ الواجب المشروط - كما أشرنا إليه - نفسُ الوجوب فيه مشروط بالشرط، بحيث لا وجوب حقيقة ولا طلبَ واقعاً قبل حصول الشّرط، كما هو ظاهر الخطاب التعليقي؛ ضرورة أنّ ظاهر خطاب (إن جاءك زيد فأكرمه) كونُ الشّرط من قيود الهيئة، وأنّ طلب الإكرام وإيجابَه معلّقٌ على المجيء، لا أنّ الواجب فيه يكون مقيّداً به - بحيث يكون الطلب والإيجاب في الخطاب فعليّاً ومطلقاً، وإنّما الواجب يكون خاصّاً ومقيّداً - ، وهو

___________________________________________

متأخّر، فلا يجب في الحال وإنّما بعد الاستطاعة يجب الحج. والفرق بين القولين يظهر في بعض المواضع.وعلى هذا كان {الظاهر} عند المصنّف {أنّ الواجب المشروط كما أشرنا إليه} بقولنا: «إن كان وجوبه غير مشروط به» الخ {نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط، بحيث لا وجوب حقيقة} في الحال {ولا طلب واقعاً قبل حصول الشّرط} بل الواجب والوجوب متأخّران {كما هو ظاهر الخطاب التعليقي} الّذي يعلّق الجملة الإنشائيّة بالشرط.

{ضرورة أنّ ظاهر خطاب (إن جاءك زيد فأكرمه) كون الشّرط} أي: إن جاءك {من قيود الهيئة} الجزائيّة، أي: (أكرم) فإنّ (أكرم) عند التحليل: وجوب الإكرام.

ومن البديهي أنّه لو قيل: وجوب الإكرام مشروط بالمجيء فهم العرف منه أنّ المضاف - أعني: لفظ (وجوب) - مقيّد بالمجيء، لا أنّ المضاف إليه - أعني: لفظ (أكرم) - مقيّد به.

{و} الحاصل: الظاهر عند العرف {أنّ طلب الإكرام وإيجابه معلّق على المجيء} فمع عدم المجيء لا إيجاب ولا وجوب {لا أنّ الواجب} أي: الإكرام {فيه} أي: في هذا الطلب {يكون مقيّداً به} أي: بالمجيء {بحيث يكون الطلب والإيجاب في الخطاب} الصادر من المولى {فعليّاً ومطلقاً} كما يقول الشّيخ {وإنّما الواجب يكون خاصّاً} أي: مخصوصاً بزمان المجيء {ومقيّداً} به {وهو}

ص: 39

الإكرام على تقدير المجيء، فيكون الشّرط من قيود المادّة لا الهيئة، كما نُسب ذلك إلى شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه(1)

- مدّعياً لامتناع كون الشّرط من قيود الهيئةواقعاً، ولزومَ كونه من قيود المادّة لُبّاً، مع الاعتراف بأنّ قضيّة القواعد العربيّة أنّه من قيود الهيئة ظاهراً.

أمّا امتناع كونه من قيود الهيئة: فلأنّه لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب المتعلّق بالفعل المنشأ بالهيئة،

___________________________________________

أي: كون الواجب المقيّد {الإكرام على تقدير المجيء فيكون} على هذا {الشّرط من قيود المادّة} أي: الإكرام {لا الهيئة} أي: الوجوب {كما نسب ذلك} أي: رجوع الشّرط إلى المادّة، والنّاسب هو التقريرات {إلى شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - مدّعياً لامتناع كون الشّرط من قيود الهيئة واقعاً} في مقام الثّبوت.

{ولزوم} عطف على «امتناع» {كونه} أي: الشّرط {من قيود المادّة لُبّاً} يعني: أنّ العقل حاكم بلزوم كون الشّرط من قيود المادّة لا الهيئة، كما أشار إليه بقوله: {مع الاعتراف} من الشّيخ {بأنّ قضيّة القواعد العربيّة أنّه} أي: الشّرط {من قيود الهيئة ظاهراً} أي: بحسب ظاهر اللفظ.

وقوله: «باقتضاء القواعد العربيّة» يمكن أن يكون لما تقدّم من أنّ الأمر عند الانحلال يكون مضافاً ومضافاً إليه، والحال وسائر القيود يرجع إلى المضاف، بل لا يجوز الإتيان بالقيد للمضاف إليه إلّا مع القرينة، كما قال ابن مالك: «ولا تجز حالاً من المضاف له» الخ.

{أمّا امتناع كونه من قيود الهيئة فلأنّه} كان هذا الطلب فرداً من مطلق الطّلب، و{لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب} المطلق {المتعلّقبالفعل} أي: بالمادّة {المنشأ بالهيئة} إذ هيئة الأمر موضوعة بالوضع النّوعي العام والموضوع له الخاص لخصوصيّات أفراد الطلب، فالموضوع له والمستعمل فيه فرد خاصّ من

ص: 40


1- مطارح الأنظار 1: 237.

حتّى يصحّ القول بتقييده بشرط ونحوه، فكُلُّ ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الّذي يدلّ عليه الهيئة، فهو - عند التحقيق - راجعٌ إلى نفس المادّة.

وأمّا لزوم كونه من قيود المادّة لُبّاً: فلأنّ العاقل إذا توجّه إلى شيء والتفت إليه: فإمّا أن يتعلّق طلبه به، أو لا يتعلّق به طلبه أصلاً، لا كلام على الثّاني.

وعلى الأوّل: فإمّا أن يكون ذاك الشّيء مورداً لطلبه وأمره مطلقاً على اختلاف طوارئه، أو على تقدير خاصّ، وذلك التّقدير:

___________________________________________

الطلب ولا إطلاق فيه {حتّى يصحّ القول بتقييده بشرط ونحوه} من الغاية والصفة.

والحاصل: أنّه حال الإطلاق أي: قبل التشخّص لا طلب إنشائيّاً وبعد الطلب الإنشائي المتشخّص لا إطلاق حتّى يقيّد، وعلى هذا {فكلّ ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الّذي يدلّ عليه الهيئة} إذ مفاد الهيئة هو الطلب {فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادّة} الّتي هي متعلّق الطلب.

{وأمّا لزوم كونه من قيود المادّة لُبّاً} هذا دليل ثان على أصل الطّلب لا أنّه جزء الدليل الأوّل، إذ بعد دوران الأمر بين الرّجوع إلى المادّة أو الهيئة وامتناع الرّجوع إلى الهيئة يتعيّن الرّجوع إلى المادّة - كما لا يخفى - .ويمكن أن يجعل الدليلان طوليّين بأن يكون المدّعى أوّلاً امتناع الرّجوع إلى الهيئة، وثانياً أنّه لو فرض عدم الامتناع وكون الهيئة قابلاً للتقييد وجب أيضاً القول بتقييد المادّة {فلأنّ العاقل إذا توجّه إلى شيء} وتصوّره {والتفت إليه فإمّا أن يتعلّق طلبه به أو لا يتعلّق به طلبه أصلاً، لا كلام على الثّاني} وهو صورة عدم تعلّق الطلب، {وعلى الأوّل} - أعني: تعلّق الطلب - {فإمّا أن يكون ذاك الشّيء} المتصوّر {مورداً لطلبه وأمره مطلقاً على اختلاف طوارئه أو} لا يكون مورداً لطلبه مطلقاً بل {على تقدير خاصّ} لا كلام في ما كان مورداً للطلب مطلقاً.

{و} إنّما الكلام في ما كان مورداً للطلب على {ذلك التقدير} الخاص، وهو

ص: 41

تارةً يكون من الأُمور الاختياريّة، وأُخرى لا يكون كذلك.

وما كان من الأُمور الاختياريّة: قد يكون مأخوذاً فيه على نحوٍ يكون مورداً للتكليف، وقد لا يكون كذلك - على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه والأمر به - من غير فرقٍ في ذلك بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، والقول بعدم التبعيّة، كما لا يخفى.

هذا موافق لما أفاده بعض الأفاضل المقرّر لبحثه بأدنى تفاوت(1).

___________________________________________

{تارةً يكون من الأُمور الاختياريّة} كالطّهارة بالنسبة إلى الصلاة، والاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ في ما كانت اختياريّة {وأُخرىلا يكون} ذلك التقدير {كذلك} أي: من الأُمور الاختياريّة كالوقت بالنسبة إلى الصلاة، لا كلام في هذا القسم وإنّما الكلام في الأوّل.

{و} هو {ما كان من الأُمور الاختياريّة} للمكلّف، وهذا الأمر الاختياري {قد يكون مأخوذاً فيه} أي: في الطلب {على نحو يكون مورداً للتكليف} بحيث يتوجّه التكليف إلى هذا المورد الخاص، فيجب تحصيل ذلك الشّيء مقدّمةً وهو الواجب المطلق.

{وقد لا يكون كذلك} فلا يتوجّه التكليف إلى المقدّمة، بل يجب الإتيان بالواجب على تقدير حصول المقدّمة وهو الواجب المشروط {على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه والأمر به} فربّما يكون الغرض طلبه مطلقاً وربّما يكون مشروطاً {من غير فرقٍ في ذلك} الدليل الّذي ذكرناه {بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد} كما يقوله العدليّة {والقول بعدم التبعيّة} كما يقوله الأشاعرة {كما لا يخفى} إذ الفرق في وجود المصلحة وعدمها لا في تعلّق الطلب، إذ الطلب متعلّق على كلا القولين، لكن العدليّة تقول بتبعيّته للمصلحة والأشعري لا يقول بها {هذا موافق لما أفاده بعض الأفاضل المقرّر لبحثه بأدنى تفاوت} يظهر ذلك

ص: 42


1- مطارح الأنظار 1: 267.

ولا يخفى ما فيه:

أمّا حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة: فقد حقّقناه سابقاً(1): أنّ كلّ واحد من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكونعامّاً كوضعها، وإنّما الخصوصيّة من قبل الاستعمال كالأسماء، وإنّما الفرق بينهما أنّها وضعت لتستعمل وتقصد بها المعنى بما هو هو، والحروف وضعت لتستعمل وتقصد بها معانيها بما هي آلة وحالة لمعاني المتعلّقات.

فلحاظ الآليّة - كلحاظ الاستقلاليّة - ليس من طوارئ المعنى، بل من مشخّصات الاستعمال - كما لا يخفى على أُولي الدراية والنُّهى - ، و

___________________________________________

لمن راجع التّقريرات.

{ولا يخفى ما فيه: أمّا} في الدليل الأوّل وهو {حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة} فهو مبنيّ على كون الهيئة من الحروف وكون الموضوع له في الحروف خاصّاً ولا نسلّم المقدّمة الثّانية {فقد حقّقناه سابقاً} مكرّراً {أنّ كلّ واحدٍ من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكون عامّاً كوضعها} الّذي هو عامّ {و} قلنا: {إنّما الخصوصيّة من قبل الاستعمال كالأسماء} الّذي كان الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عامّاً فيها {وإنّما الفرق بينهما} في شرط الواضع و{أنّها وضعت لتستعمل وتقصد بها المعنى بما هو هو} وفي نفسه {والحروف وضعت لتستعمل وتقصد بها معانيها بما هي آلة وحالة} ومرآة {لمعاني المتعلّقات، فلحاظ الآليّة} في الحروف {كلحاظ الاستقلاليّة} في الأسماء {ليس من طوارئ المعنى} حتّى يكون جزئيّاً {بل من مشخّصات الاستعمال - كما لا يخفى على أُولي الدراية والنُّهى -}.وبهذا تبيّن أنّ المعنى الحرفي كلّيّ طبيعيّ قابل للتقييد كما كان المعنى الاسمي كذلك {و} حينئذٍ فنقول في جواب الشّيخ(رحمة

الله) القائل بعدم قابليّة تقييد الهيئة: أنّ

ص: 43


1- في الأمر الثّاني من الأمور المذكورة في المقدمة، راجع الوصول إلى كفاية الأصول 1: 45-54.

الطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلقٌ قابلٌ لأن يقيّد.

مع أنّه لو سلم أنّه فردٌ، فإنّما يمنع عن التّقييد لو أنشأ أوّلاً غيرَ مقيّد، لا ما إذا أنشأ من الأوّل مقيّداً، غاية الأمر قد دُلَّ عليه بدالّين، وهو غير إنشائه أوّلاً ثمّ تقييده ثانياً، فافهم.

فإن قلت: على ذلك يلزم تفكيك الإنشاء من المنشأ؛ حيث لا طلبَ قبل حصول الشّرط.

___________________________________________

{الطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق قابل لأن يقيّد} وليس بفرد حتّى لا يكون قابلاً للتقييد.

{مع} أنّ لنا جواباً آخر عن دليله الأوّل، وهو {أنّه لو سلم أنّه} أي: الطلب المفاد من الهيئة {فرد} وليس بمطلق لكن نقول: إنّ كلّ كلّيّ يقبل الإنشاء مثل الزوجيّة والطلب إذا أنشأ أوّلاً من دون لحاظ تقييد فيه، فلا يمكن عروض التقييد له ثانياً، إذ بمجرّد الإنشاء يتشخّص بتشخّص خاصّ ولا يعقل انقلاب الشّخص، بخلاف ما إذا أنشأ من أوّل الأمر مقيّداً بحيث يلحظ القيد والمقيّد، فيصبّ عليهما الإنشاء مرّة واحدة.

وهذا هو المراد بقوله: {فإنّما يمنع عن التّقييد لو أنشأ أوّلاً غير مقيّد، لا ما إذا أنشأ من الأوّل مقيّداً، غاية الأمر قد دُلَّ عليه} أي: المقيّد {بدالّين}: الأوّل الهيئة وهي تدلّ على المطلق، والثّاني الشّرط وهو يدلّ على التقييد {وهو} أي: ما ذكرنا من الإنشاء أوّلاً مقيّداً {غير} ما يرد عليه إيراد الشّيخ، إذ لا يلزم منه محذور {إنشائه أوّلاً ثمّتقييده ثانياً} الّذي سبق أنّه يلزم منه الانقلاب {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ هذين الإيرادين إنّما يردان لو كان مراد الشّيخ من الجزئيّة الذهنيّة، أمّا لو كان مراده الجزئيّة الخارجيّة - كما استظهر من كلام التقريرات - فلا يردان.

{فإن قلت: على ذلك} الّذي ذكرت من كون الشّرط قيداً للطلب {يلزم تفكيك الإنشاء من المنشأ حيث لا طلب} على قولكم {قبل حصول الشّرط} والتفكيك مستحيل؛ لأنّ الإنشاء علّة تامّة لحصول المنشأ، فلو كان الطلب مقيّداً بقيد فلازمه

ص: 44

قلت: المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله، فلا بدّ أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث، وإلّا لتخلّف عن إنشائه، وإنشاءُ أمرٍ على تقديرٍ - كالإخبار به - بمكانٍ من الإمكان، كما يشهد به الوجدان، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

حصوله بعده، فيتخلّف عن الإنشاء زماناً.

{قلت: المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله} إذ المفروض ورود الإنشاء على القيد والمقيّد جميعاً كان الأمر بعكس ما زعم {فلا بدّ أن لا يكون قبل حصوله} أي: حصول الشّرط {طلب وبعث، وإلّا} فلو كان طلب قبل حصول الشّرط {لتخلّف} المنشأ {عن إنشائه} إذ إنشاء الطلب بعد الشّرط لا قبله.

{و} إن قلت: تقييد المنشأ بالشرط يستلزم تقييد الإنشاء، والإنشاء حيث كان نحواً من الوجود لا يعقل تقييده، كالإيجاد التكويني، فكما لا يعقل الإيجاد في الحال بشرط كذا، كذلك لا يعقل الإنشاء في الحال بشرط كذا.

قلت: ليس التعليق في الإنشاء، بل هو حاليّ وإنّما التعليق في المتعلّق، إذ{إنشاء أمرٍ على تقديرٍ كالإخبار به بمكانٍ من الإمكان، كما يشهد به الوجدان} فكما يصحّ التعليق في متعلّق الإِخبار بأن يقول: (جاء زيد يكرمه عمرو) ولا يستلزمه تعليق الإخبار كذلك الإنشاء طابق النّعل بالنعل.

{فتأمّل جيّداً} يمكن أن يكون إشارة إلى إشكال وجواب: فالأوّل أنّ المنشأ إذا كان بعد حصول الشّرط يلزم تأثير المعدوم في الموجود، إذ الإنشاء حين وجود الشّرط معدوم.

والثّاني أوّلاً بالنقض، وهو أنّ المنشأ إذا كان قبل حصول الشّرط يلزم تأثير المعدوم في الموجود، إذ المفروض أنّ الشّرط أيضاً جزء من العلّة فلولاه لم يكن وجوب. وثانياً بالحلّ، وهو أنّ المنشأ أمر اعتباريّ، فيصحّ أن يكون منشؤه متقدّماً، كما تقدّم بيانه في تصوير الشّرط المتأخّر.

ص: 45

وأمّا حديث لزوم رجوع الشّرط إلى المادّة لُبّاً ففيه: أنّ الشّيء إذا توجّه إليه، وكان موافقاً للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها، كما يمكن أن يبعث فعلاً إليه ويطلبه حالاً؛ لعدم مانع عن طلبه، كذلك يمكن أن يبعث إليه معلّقاً، ويطلبه استقبالاً، على تقدير شرطٍ متوقّع الحصول، لأجل مانع عن الطلب والبعث فعلاً قبل حصوله، فلا يصحّ منه إلّا الطلبُ والبعث معلّقاً بحصوله، لا مطلقاً ولو متعلّقاً بذاك على التقدير، فيصحّ منه طلب الإكرام

___________________________________________

هذا كلّه في الجواب عن الدليل الأوّل للشيخ {وأمّا} الجواب عن دليله الثّاني وهو {حديث لزوم رجوع الشّرط إلى المادّة لُبّاً} كما تقدّم مستوفى {ففيه} أنّ صرف التوجّه لو كان كافياً صحّ ماذكر، إذ التوجّه حاصل بمجرّد الالتفات والتصوّر، ولا يعقل تقييد التوجّه بزمان حصول الشّرط فلا بدّ أن يكون المتوجّه إليه مقيّداً بزمان حصول الشّرط بأن يتوجّه في الحال إلى الأمر الاستقبالي، لكن صرف التوجّه ليس تكليفاً وإنشاءً، بل لا بدّ من البعث والطلب وهو قابل للإطلاق وللتقييد، إذ {أنّ الشّيء إذا توجّه} المولى {إليه وكان موافقاً للغرض بحسب ما فيه من المصلحة} كما يقوله العدليّة {أو غيرها} من مطلق الجهة الموجبة للطلب - كما يقوله الأشعري - {كما يمكن أن يبعث فعلاً إليه ويطلبه حالاً} من غير تقييد بشرط {لعدم مانع عن طلبه} فعلاً {كذلك يمكن أن يبعث إليه معلّقاً} بحصول الشّرط {ويطلبه استقبالاً على تقدير شرطٍ متوقّع الحصول} وإنّما لم يبعث إليه فعلاً {لأجل مانع عن الطلب والبعث فعلاً قبل حصوله} أي: حصول الشّرط {فلا يصحّ منه} أي: من المولى {إلّا الطلب والبعث معلّقاً بحصوله، لا مطلقاً} عطف على «معلّقاً» أي: لا يصحّ الطلب المطلق {ولو} كان هذا الطلب المطلق {متعلّقاً بذاك} الشّيء المأمور به {على التقدير} أي: تقدير حصول الشّرط، أي: يلزم الطلب المقيّد حينئذٍ ولا يصحّ الطلب المطلق ولو كان منصبّاً على المادّة المقيّدة {فيصحّ منه طلب الإكرام} المقيّد هذا الطلب بكونه

ص: 46

بعد مجيء زيد، ولا يصحّ منه الطلب المطلق الحالي للإكرام المقيّد بالمجيء.

هذا بناءً على تبعيّة الأحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح.وأمّا بناءً على تبعيّتها للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها فكذلك؛ ضرورة أنّ التبعيّة كذلك إنّما تكون في الأحكام الواقعيّة، بما هي واقعيّة لا بما هي فعليّة،

___________________________________________

{بعد مجيء زيد، ولا يصحّ منه الطلب المطلق الحالي للإكرام المقيّد} هذا الطلب {بالمجيء}.

ولا يذهب عليك أنّ الأقسام أربعة؛ لأنّ المصلحة إمّا مطلقاً وإمّا في الإطلاق وإمّا في التقييد، وعلى الثّالث فإمّا في التقييد قبل حصول القيد وإمّا بعده، وحكم الأقسام الأربعة واحد.

{هذا بناءً على تبعيّة الأحكام لمصالح فيها} أي: في نفس الأحكام {في غاية الوضوح} لوضوح إمكان كون المصلحة في الإطلاق وإمكان كونها في التقييد، بأن يكون مانع عن الإطلاق مثلاً {وأمّا بناءً على تبعيّتها للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها} أي: في متعلّق الأحكام {فكذلك} في غاية الوضوح، وإن كان ربّما يتوهّم أنّه بناءً على ذلك يستقيم ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) من كون القيود راجعة إلى المادّة.

وتقريره: أنّ الحكم تابع للمتعلّق وهو حسن أو قبيح بحسب ذاته فلا معنى لمنع المانع، لكن هذا توهّم فاسد {ضرورة أنّ التبعيّة كذلك} للمصلحة في المتعلّق {إنّما تكون في الأحكام الواقعيّة بما هي واقعيّة، لا} أنّ التبعيّة لمصلحة المتعلّق في الأحكام {بما هي فعليّة} بل الأحكام الفعليّة تابعة لما فيها من المصالح، وعليه فقد يمنع من فعليّة الطلب مانع فلا يكون الحكم فعليّاً، بل معلّقاً، فلا يتمّمدّعى الشّيخ(رحمة الله). وممّا يدلّ على جواز تقييد الفعليّة بوجودات متأخّرة أُمور ثلاثة

ص: 47

فإنّ المنع عن فعليّة تلك الأحكام غير عزيزٍ، كما في موارد الأصول والأمارات على خلافها، وفي بعض الأحكام في أوّل البعثة، بل إلى يوم قيام القائم(عجل الله تعالی فرجه الشریف)، مع أنّ «حلال محمّد(صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(1). ومع ذلك ربّما يكون المانع عن فعليّة بعض الأحكام باقياً مرّ الليالي والأيّام، إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع الظلام، كما يظهر من الأخبار المرويّة عن الأئمّة(علیهم السلام)(2).

___________________________________________

{فإنّ المنع عن فعليّة تلك الأحكام} الواقعيّة {غير عزيز} في الشّريعة المقدّسة.

وأمّا الأُمور الثّلاثة فقد أشار المصنّف إلى الأوّل منها بقوله: {كما في موارد الأصول والأمارات على خلافها} أي: خلاف الأحكام الواقعيّة، فإنّ مصلحة التسهيل أو غيره مانعة عن فعليّة الحكم الواقعي.

وإلى الثّاني بقوله: {وفي بعض الأحكام في أوّل البعثة} فإنّها لم تكن فعليّة لعدم استعداد المكلّفين، وقد أشار النّبيّ(صلی

الله علیه و آله) في بعض الأخبار إلى ذلك، وكذلك في بعض أخبار الخمر الدالّ على بناء اللّه تحريم الخمر إذا أكمل الدين.

وإلى الثّالث بقوله: {بل إلى يوم قيام القائم(عجل اللهتعالی فرجه الشریف)} فإنّها بعد ظهوره تكون فعليّة بعد ما لم تكن.

إِن قلت: لعلّ ذلك زمان أصل الحكم؟

قلت: ينافي هذا {مع} ما تواتر مضموناً، بل لفظاً من {أنّ «حلال محمّد(صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» ومع ذلك} الاستمرار من أوّل البعثة في الواقع {ربّما يكون المانع عن فعليّة بعض الأحكام باقياً مرّ الليالي والأيّام إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع الظّلام، كما يظهر من الأخبار المرويّة عن الأئمّة(علیهم السلام)} كما يظهر ذلك لمن راجع الأخبار.

ص: 48


1- الكافي 1: 58.
2- بحار الأنوار 52: 325.

فإن قلت: فما فائدة الإنشاء إذا لم يكن المنشأ به طلباً فعليّاً وبعثاً حاليّاً؟

قلت: كفى فائدة له أنّه يصير بعثاً فعليّاً بعد حصول الشّرط، بلا حاجة إلى خطاب آخر، بحيث لولاه لما كان فعلاً متمكّناً من الخطاب، هذا.

مع شمول الخطاب كذلك للإيجاب فعلاً بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون بعثاً فعليّاً بالإضافة إليه، وتقديريّاً بالنسبة إلى الفاقد له،

___________________________________________

{فإن قلت}: إذا كان الطلب مطلقاً كما يقوله الشّيخ يصحّ إنشاء الطلب فعلاً قبل زمان الشّرط لما فيه من فائدة وجوب المقدّمة ونحوه، وأمّا إذا كان الطلب مقيّداً بما بعد وجود الشّرط كما تقولون به {فما فائدة الإنشاء} في الحال {إذا لم يكن المنشأ به} أي: بهذا الإنشاء {طلباً فعليّاً وبعثاً حاليّاً} بل اللّازم حينئذٍ تأخير الطلب إلى وقت وجود الشّرط؟

مثلاً: إذا كان وجوب ذهاب زيد إلى دار عمرو مقيّداً بطلوع الشّمس كان أمرالمولى في الليل له بالذهاب كذلك لغواً لعدم وجه للعجلة، بل اللّازم أمره بذلك بعد طلوع الشّمس.

{قلت}: أوّلاً بعد ما لزم الإنشاء في وقت مّا لم يكن فرق بين التقديم والتأخير، فترجيح الثّاني على الأوّل ترجيح بلا مرجّح.

وثانياً {كفى فائدة له أنّه} بالإنشاء المتقدّم {يصير بعثاً فعليّاً بعد حصول الشّرط بلا حاجة إلى خطاب آخر، بحيث لولاه لما كان} المولى {فعلاً} بعد حصول الشّرط {متمكّناً من الخطاب} بأن كان محذور في التأخير، كما يتفق كثيراً في موارد العقلاء.

{هذا مع} أنّ للتقديم فائدةً أُخرى تكثر في خطابات النّبيّ(صلی الله علیه و آله) والأئمّة(علیهم السلام) وهي {شمول الخطاب كذلك} أي: المقيّد بالشرط {للإيجاب فعلاً} في حال الخطاب {بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون بعثاً فعليّاً بالإضافة إليه} لفرض وجود الشّرط {و} يكون بعثاً {تقديريّاً بالنسبة إلى الفاقد له} أي: للشرط في حال

ص: 49

فافهم وتأمّل جيّداً.

ثمّ الظّاهر دخول المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط في محلّ النّزاع أيضاً، فلا وجه لتخصيصه بمقدّمات الواجب المطلق، غاية الأمر تكون في الإطلاق والاشتراط تابعةً لذي المقدّمة، كأصل الوجوب، بناءً على وجوبها من باب الملازمة.

وأمّا الشّرط المعلّق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب،

___________________________________________

الخطاب، فيكون فائدة الإنشاء عدم تكرار الخطاب {فافهم وتأمّل جيّداً} وراجع التقريرات حتّى تعرف عدم ورود الكلام عليه.

{ثمّ} إذا عرفت الفرق بين الواجب المطلق وبين الواجب المشروط فاعلم: أنّ {الظّاهر دخول المقدّمات الوجوديّة} الّتي يتوقّف عليها وجود الواجب لا وجوبه {للواجب المشروط في محلّ النّزاع أيضاً} لأنّه بعد حصول مقدّمات وجوبه يكون الواجب فعليّاً فيأتي النّزاع في مقدّماته، فإذا تحقّقت الاستطاعة كان الحجّ بالنسبة إلى الذَّهَاب كالصلاة بالنسبة إلى الوضوء من غير فرق أصلاً {فلا وجه لتخصيصه} أي: تخصيص النّزاع {بمقدّمات الواجب المطلق، غاية الأمر تكون} المقدّمات الوجوديّة {في الإطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدّمة} فإن كان ذو المقدّمة مطلقاً كانت مقدّماته مطلقة وإن كان مشروطاً كانت مقدّماته مشروطة، فالصلاة مطلقة والوضوء مطلق والحجّ مشروط بالاستطاعة وشراء الزاد والرّاحلة مشروط بها {كأصل الوجوب} الّذي قد يكون مطلقاً وقد يكون مشروطاً.

والحاصل: أنّ الوجوب الغيري للمقدّمة {بناءً على وجوبها من باب الملازمة} تابع للوجوب النّفسي لذي المقدّمة، فالوجوب الغيري مطلق أو مشروط، كما أنّ الوجوب النّفسي كذلك.

هذا حال المقدّمات الوجوديّة {وأمّا} المقدّمة الوجوبيّة المعبّر عنها ب- {الشّرط المعلّق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب} كالاستطاعة المعلّق عليها وجوب الحج في

ص: 50

فخروجه ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب:

أمّا على ما هو ظاهر المشهور المنصور، فلكونه مقدّمة وجوبيّة.وأمّا على المختار لشيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - فلأنّه وإن كان من المقدّمات الوجوديّة للواجب، إلّا أنّه أخذ على نحو لا يكاد يترشّح عليه الوجوب منه؛ فإنّه جعل

___________________________________________

قوله: (حجّ إن استطعت) قال اللّه - تعالى - : {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ}(1) {فخروجه} أي: خروج هذا الشّرط - أعني: مقدّمة الوجوب عن محلّ النّزاع - {ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب} لأحد {أمّا} خروجه بناءً {على ما هو ظاهر المشهور المنصور} عندنا من رجوع القيد إلى الهيئة، أي: الوجوب، لا المادّة، أي: الواجب {فلكونه مقدّمة وجوبيّة} بمعنى أنّ الوجوب متوقّف عليه، فلا يعقل أن يكون متوقّفاً على الوجوب، وإن شئت قلت: إنّه تحصيل الحاصل.

{وأمّا} خروجه {على المختار لشيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه -} من رجوع القيد إلى المادّة لا الهيئة، بل الوجوب من حين الإنشاء {فلأنّه} أي: الشّرط {وإن كان} على هذا المبنى {من المقدّمات الوجوديّة للواجب} لا الوجوبيّة؛ إذ الوجوب حاصل بدونه وإنّما المتوقّف على هذا الشّرط وجود ذي المقدّمة {إلّا أنّه} مع ذلك الّذي ذكر أنّه مقدّمة للوجود {أخذ على نحو لا يكاد يترشّح عليه الوجوب منه} أي: من ذي المقدّمة، وليس كسائر المقدّمات الوجوديّة بحيث يجب تحصيلها بسبب ترشّح الوجوب عليها من ذيها.

فإن قلت: إذا فرض كون الشّرط من المقدّمات، فكيف لا يتعلّق به الوجوبالغيري؟

قلت: {فإنّه} الضمير للشأن {جعل} بصيغة الفعل المجهول لا المصدر،

ص: 51


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

الشّيء واجباً على تقدير حصول ذاك الشّرط، فمعه كيف يترشّح عليه الوجوب ويتعلّق به الطلب؟ وهل هو إلّا طلب الحاصل؟

نعم، على مختاره(قدس سره) لو كانت له مقدّمات وجوديّة غير معلّق عليها وجوبُه لتعلّق بها الطلب في الحال، على تقدير اتفاق وجود الشّرط في الاستقبال؛ وذلك لأنّ إيجاب ذي المقدّمة على ذلك حاليّ، والواجب إنّما هو استقباليّ - كما يأتي في الواجب المعلّق - ؛

___________________________________________

والحاصل أنّ الشّارع بعد ما جعل {الشّيء} كالحجّ مثلاً {واجباً على تقدير حصول ذاك الشّرط} كالاستطاعة {فمعه} أي: مع هذا النّحو من الجعل {كيف يترشّح عليه الوجوب ويتعلّق به الطلب} فإنّه قبل حصول الاستطاعة ليس الحجّ واجباً حتّى يجب مقدّمته {و} بعد وجوبه كانت المقدّمة حاصلة، فلا يعقل إيجاب الشّارع لها، و{هل هو إلّا طلب الحاصل؟} فتدبّر.

{نعم} بعد ما ثبت أنّه ليس فرق بين مبنى الشّيخ وبين مبنى المصنّف في مقدّمة الوجوب نقول: إنّ الفرق بين القولين يظهر في سائر المقدّمات الوجوديّة، فإنّه {على مختاره+ لو كانت له مقدّمات وجوديّة غير معلّق عليها وجوبه} كالتحفّظ على الرّاحلة الموجودة بعدم بيعها ونحوه {لتعلّق بها} أي: بتلك المقدّمات {الطلب في} هذا {الحال} الّذي لم تحصل الاستطاعة فيه {على تقدير اتّفاق وجود الشّرط في الاستقبال} فلو علم المكلّف بحصول الشرطفي المستقبل لم يجب تحصيل سائر المقدّمات في الحال على مبنى المصنّف ووجب على مبنى الشّيخ.

{وذلك} الإيجاب للمقدّمة إنّما يكون في الحال {لأنّ إيجاب ذي المقدّمة على ذلك} القول للشيخ {حاليّ والواجب إنّما هو استقباليّ، كما يأتي} بيان هذا {في الواجب المعلّق}.

فإن قلت: لا صلة بين الواجب المعلّق والواجب المشروط، إذ القيد في الأوّل للمادّة وفي الثّاني للهيئة، فقياس المشروط بالمعلّق لا وجه له؟

ص: 52

فإنّ الواجب المشروط على مختاره هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلّق، فلا تغفل.

هذا في غير المعرفة والتعلّم من المقدّمات.

وأمّا المعرفة فلا يبعد القول بوجوبها، حتّى في الواجب المشروط - بالمعنى المختار - ،

___________________________________________

قلت: ليس الأمر كذلك {فإنّ الواجب المشروط على مختاره} + {هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلّق} فالواجب المعلّق عند صاحب الفصول المراد به تقييد المادّة هو الواجب المشروط عند الشّيخ - كما تقدّم بيان مراده من المشروط - {فلا تغفل}.

ثمّ إنّ {هذا} الكلام الّذي ذكرناه من أنّ المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط كنفس الواجب مشروطة بحصول الشّرط، بحيث إنّه لولا الشّرط لم يجب ذو المقدّمة ولم تجب مقدّماتها {في غير المعرفة والتعلّم من المقدّمات} فوجوبها تابع لوجوب ذي المقدّمة {وأمّا المعرفة} أي: تعلّم مسائل الواجب ففيها إشكال على سبيلمنع الخلوّ؛ لأنّ الأمر دائر بين القول بوجوب تعلّم المسائل للحجّ مثلاً قبل حصول شرطه، فيرد عليه أنّه قبل وجوب ذي المقدّمة كيف يعقل وجوب المقدّمة، إذ المفروض ترشّح الوجوب من ذيها وبين القول بعدم وجوب تعلّم المسائل حينئذٍ، فيرد عليه أنّه كيف يجوز الترك في ما لو تأدّى ترك التعلّم إلى ترك الواجب، مثلما إذا استطاع في حال سير القافلة ولا يتمكّن من التعلّم فإنّه يفضي إلى ترك واجبات الحجّ - مثلاً - .

وقد أجابوا عن هذا الإشكال بوجوه، والمصنّف اختار الشّقّ الأوّل من الترديد ولذا قال: {فلا يبعد القول بوجوبها} أي: وجوب المعرفة {حتّى في الواجب المشروط بالمعنى المختار} له من تعلّق الوجوب بالشرط.

وأمّا على مختار الشّيخ من تعلّق الواجب وفعليّة الوجوب فلا يرد الإشكال، إذ

ص: 53

قبل حصول شرطه، لكنّه لا بالملازمة، بل من باب استقلال العقل بتنجّز الأحكام على الأنام بمجرّد قيام احتمالها، إلّا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف، فيستقلّ بعده بالبراءة، وأنّ العقوبة على المخالفة بلا حجّة وبيان، والمؤاخذةَ عليها بلا برهان، فافهم.

تذنيب:

___________________________________________

الوجوب فعليّ ومنه يترشّح على المعرفة والتعلّم، فلا يلزم من الوجوب الغيري إشكال أنّه كيف يجب المقدّمة قبل ذيها، وأمّا على مختارنا فإنّا نقول بوجوب التعلّم {قبل حصول شرطه لكنّه لا بالملازمة} حتّى يقال: إنّ ذي المقدّمة بعد غير واجب {بل} وجوب المعرفة حينئذٍ {من باب استقلال العقل بتنجّز الأحكام على الأنامبمجرّد قيام احتمالها إلّا مع الفحص واليأس عن الظّفر بالدّليل على التكليف} متعلّق بالدليل.

والحاصل: أنّ الملاك الموجب للفحص عن الدليل في مقام الاحتمال هو بعينه موجود في المقام، إذ الملاك هو الاحتمال وإنّما الفرق أنّ هناك احتمال تكليف لم يطّلع على دليله وهنا احتمال حدوث تكليف بعد، والمكلّف قادر على الإطاعة في الأوّل بالفحص وفي الثّاني بتمهيد المقدّمة من الآن، وكما يجب الفحص هناك {فيستقلّ} العقل {بعده بالبراءة وأنّ العقوبة} حينئذٍ {على المخالفة بلا حجّة وبيان والمؤاخذة عليها بلا برهان} كذلك هنا يجب تعلّم المسائل حتّى يحكم العقل بالبراءة وأنّه مأمون عن العقوبة قطعاً.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ وجوب التعلّم حينئذٍ في ما علم عدم قدرته على التعلّم بعد حصول الشّرط ليس مطلقاً، إذ لو علم المكلّف بقدرته على الاحتياط لم يجب التعلّم عند من لا يعتبر قصد الوجه ونحوه.

[تذنيب]

{تذنيب} في أنّه كيف يصحّ إطلاق الواجب المشروط قبل حصول الشّرط مع

ص: 54

لا يخفى أنّ إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال حصول الشّرط على الحقيقة مطلقاً.

وأمّا بلحاظ حال قبل حصوله فكذلك - على الحقيقة - على مختاره(قدس سره) في الواجب المشروط؛ لأنّ الواجب وإن كان أمراً استقباليّاً عليه، إلّا أنّ تلبّسه بالوجوب في الحال. ومجاز على المختار؛ حيث لا تلبّس بالوجوب عليه قبله، كما عنالبهائي(1) تصريحه بأنّ لفظ الواجب مجاز في المشروط بعلاقة الأَول

___________________________________________

أنّه ليس بواجب فعلاً؟ {لا يخفى أنّ إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال حصول الشّرط} أعني: بعد حصول الاستطاعة مثلاً {على} نحو {الحقيقة} لما سبق في باب المشتقّ من أنّ استعمال المشتقّ بلحاظ حال التّلبّس حقيقة {مطلقاً} من غير فرق في ذلك بين مذهب المشهور، بكون القيد للهيئة، وبين مذهب الشّيخ، بكون القيد للمادّة.

{وأمّا} إطلاقه {بلحاظ حال قبل حصوله} أي: حصول الشّرط {فكذلك} كبعد الحصول {على} نحو {الحقيقة} بناءً {على مختاره(قدس سره) في الواجب المشروط} وذلك {لأنّ الواجب وإن كان أمراً استقباليّاً} معلّقاً على حصول الشّرط {عليه} أي: على مختار الشّيخ {إلّا أنّ تلبّسه بالوجوب في الحال} لفرض إطلاق الهيئة {ومجاز} عطف معنويّ على قوله: «على الحقيقة» المذكور ثانياً {على المختار} عندنا من كون الوجوب معلّقاً {حيث لا تلبس بالوجوب عليه} أي: على المختار {قبله} أي: قبل حصول الشّرط، فيكون من باب استعمال المشتقّ في المستقبل.

وهذا متفق على مجازيّته كما سبق {كما عن} الشّيخ {البهائي تصريحه بأنّ لفظ الواجب مجاز في} الواجب {المشروط بعلاقة الأَول} على وزن (القول) وهي: ما

ص: 55


1- زبدة الأصول: 46؛ مطارح الأنظار 1: 229.

أو المشارفة.وأمّا الصيغة مع الشّرط فهي حقيقةٌ على كلّ حال؛ لاستعمالها على مختاره(قدس سره) في الطلب المطلق، وعلى المختار في الطلب المقيّد، على نحو تعدّد الدالّ والمدلول. كما هو الحال في ما إذا أُريد منها المطلق المقابل للمقيّد، لا المبهم المقسم،

___________________________________________

إذا كانت المناسبة بين ذاتين، فيسمّى الذات في الحالة الأُولى باسمها في الحالة الثّانية، كأن يسمّى الإنسان تراباً بعلاقة أَوْلِهِ إليه {أو المشارفة} وهي: ما إذا كانت المناسبة بين الزمانين، بأن يُسَمَّى الشّيء - مثلاً - في هذا الحال باسمه في الحال الثّاني لتقارب الزمانين.

{وأمّا الصّيغة مع الشّرط} كما لو قال: (حجّ إن استطعت) {فهي حقيقة على كلّ حال} وذلك {لاستعمالها على مختاره(قدس سره) في الطلب المطلق} إذ الهيئة الّتي تفيد الطلب غير مقيّد بالشرط وإنّما المادّة مقيّدة به {وعلى المختار} عندنا استعملت {في الطلب المقيّد} لأنّ الهيئة مقيّدة، لكن الاستعمال {على نحو تعدّد الدالّ والمدلول}.

فصيغة الأمر تدلّ على الطلب والشّرط يدلّ على القيد {كما هو الحال} أي: تكون الصيغة حقيقة {في ما إذا أُريد منها المطلق المقابل للمقيّد} أي: المقيّد بالإطلاق والإرسال، إذ الدلالة على الإطلاق أيضاً بنحو تعدّد الدالّ والمدلول، فإنّ الصيغة تدلّ على الطلب ومقدّمات الحكمة تدلّ على الإطلاق.

والحاصل: أنّ مفاد الصّيغة على كلّ حال أمر واحد - وهو أصل الطلب - مندون دلالة على الإطلاق أو التقييد، وإنّما يكونان مستفادين من دالّ آخر، فاستفادة التقييد من الشّرط ونحوه واستفادة الإطلاق من مقدّمات الحكمة ونحوها {لا المبهم المقسم} عطف على قوله: «في الطلب المقيّد» أي: إنّ الصيغة على مختارنا لم تستعمل في الطلب المبهم الّذي يكون معرضاً للإطلاق والتقييد

ص: 56

فافهم.

ومنها: تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز.

قال في الفصول: «إنّه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف، ولا يتوقّف حصوله على أمرٍ غير مقدورٍ له، كالمعرفة وليُسَمَّ: منجّزاً، وإلى ما يتعلّق وجوبه به، ويتوقّف حصوله على أمرٍ غير مقدورٍ له، وليسمّ: معلّقاً، كالحجّ، فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة، أو خروج الرّفقة، ويتوقّف فعله على مجيء وقته، وهو غير مقدور له.

___________________________________________

ومقسماً بالنسبة إليهما، إذ ليس الأمر في صدد الإبهام بل في صدد التقييد لكن بدالّين على نحو المجاز {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ التقييد لمّا كان يحتاج إلى قرينة لفظيّة، كان أقرب إلى المجاز.

[التقسيم الثّاني: تقسيم الواجب إلى معلّق ومنجّز]
اشارة

{ومنها} أي: من تقسيمات الواجب {تقسيمه إلى} الواجب {المعلّق و} إلى الواجب {المنجّز. قال في الفصول: «إنّه} أي: الواجب {ينقسم باعتبار آخر} غير الاعتبار الّذي به ينقسم إلى المطلق والمشروط ونحوه {إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمرٍ غير مقدورٍله} أي: المكلّف {كالمعرفة} في أُصول الدين {وليسمّ} هذا القسم {منجّزاً} لتنجيز التكليف وثبوته {وإلى ما يتعلّق وجوبه به} أي: بالمكلّف {ويتوقّف حصوله على أمرٍ غير مقدورٍ له وليسمّ} هذا القسم {معلّقاً كالحجّ، فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة، أو خروج الرّفقة} لا قبله كما هو مبنى المشهور، خلافاً للشيخ من تعلّق الوجوب بالمكلّف من أوّل الأمر وإنّما الظرف متأخّر كما تقدّم ذلك مستقصىً.

{و} لكن {يتوقّف فعله على مجيء وقته، وهو} أي: مجيء الوقت {غير مقدور له} أي: للمكلّف.

ص: 57

والفرق بين هذا النّوع وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف هناك للوجوب، وهنا للفعل»(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

لا يخفى: أنّ شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه، حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى، وجعل الشّرط لزوماً

___________________________________________

{والفرق بين هذا النّوع} أي: الواجب المعلّق {وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف هناك} أي: في الواجب المشروط {للوجوب} فالوجوب متوقّف على الشّرط، بحيث إنّه لا وجوب قبل حصوله {و} التوقّف {هنا} أي: في الواجب المعلّق {للفعل»} فظرف الفعل بعد حصول الشّرط وإن كان الوجوب ثابتاً من قبل {انتهى كلامه رفع مقامه}.

وعلى هذا فبين المعلّق والمشروط عموم من وجه، فيجتمعان في ما إذا كانتالمادّة والهيئة متوقّفتين على شيء كالحجّ، فالهيئة - أي: الوجوب - متوقّف على الاستطاعة، والمادة - أي: الفعل - متوقّف على الوقت.

ويفترقان فيكون الواجب مشروطاً لا معلّقاً في ما إذا كانت الهيئة - أي: الوجوب - فقط متوقّفاً، كما إذا قال المولى: (إذا جاء زيد فأكرمه) فإنّ وجوب الإكرام متوقّف على المجيء، وأمّا نفس الإكرام فلا توقّف له على شيء.

ويكون الواجب معلّقاً لا مشروطاً في ما إذا كانت المادّة - أي: الفعل - فقط متوقّفاً، كما إذا قال المولى: (يجب عليك الإكرام المتوقّف على المجيء) فإنّ الإكرام متوقّف، وأمّا الوجوب فلا توقّف له على شيء.

هذا كلّه على مبنى المشهور في الواجب المشروط منضمّاً إلى مبنى صاحب الفصول في الواجب المعلّق، و{لا يخفى أنّ شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - حيث اختار في الواجب المشروط ذلك المعنى} أعني: تقيّد المادّة {وجعل الشّرط لزوماً}

ص: 58


1- الفصول الغرويّة: 79.

من قيود المادّة ثبوتاً وإثباتاً؛ حيث ادّعى امتناع كونهِ من قيود الهيئة كذلك، أي: إثباتاً وثبوتاً، على خلاف القواعد العربيّة وظاهر المشهور، كما يشهد به ما تقدّم آنفاً عن البهائي - ، أنكر على الفصول هذا التقسيم(1)؛ ضرورة أنّ المعلّق بما فسّره يكون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلك، كما هو واضح، حيث لا يكون حينئذٍ هناك معنى آخر معقول، كان هو المعلّق المقابل للمشروط.

ومن هنا

___________________________________________

وقطعاً {من قيود المادّة ثبوتاً} أي: لبّاً وواقعاً كما هو مقتضى دليله الثّاني {وإثباتاً} أي: لفظاً ودليلاً كما هو مقتضى دليله الأوّل {حيث ادّعى امتناع كونه} أي: الشّرط {من قيود الهيئة كذلك، أي: إثباتاً وثبوتاً} مع اعتراف-ه بأنّ رجوع القيد إلى المادّة {على خلاف القواعد العربيّة و} خلاف {ظاهر المشهور كما يشهد به} أي: بأنّه خلاف ظاهر المشهور {ما تقدّم آنفاً عن} الشّيخ {البهائي} من أنّ استعمال الواجب مجاز في المشروط، ووجه الاستشهاد واضح إذ استعمال الواجب في المشروط على مبنى الشّيخ ليس بمجاز كما لا يخفى.

{أنكر} خبر «أنّ شيخنا العلّامة» الخ {على الفصول هذا التقسيم، ضرورة أنّ المعلّق بما فسّره} صاحب الفصول من تقيّد المادّة دون الهيئة {يكون من} الواجب {المشروط بما اختار} الشّيخ {له} أي: للمشروط {من المعنى} بيان «ما» {على ذلك} البيان المتقدّم في كلام الشّيخ {كما هو واضح، حيث لا يكون حينئذٍ} أي: حين تفسير المشروط بتقييد المادّة {هناك} أي: في الواجبات {معنىً آخر معقول كان هو المعلّق المقابل للمشروط}.

{ومن هنا} أي: كون الواجب المشروط بتفسير الشّيخ هو الواجب المعلّق بتفسير

ص: 59


1- مطارح الأنظار 1: 263.

انقدح: أنّه في الحقيقة إنّما أنكر الواجب المشروط بالمعنى الّذي يكون هو ظاهر المشهور والقواعد العربيّة، لا الواجبَ المعلّق بالتفسير المذكور.وحيث قد عرفت - بما لا مزيد عليه - إمكانَ رجوع الشّرط إلى الهيئة - كما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد - فلا يكون مجال لإنكاره عليه.

نعم، يمكن أن يقال: إنّه لا وقع لهذا التقسيم؛ لأنّه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط، وخصوصيّة كونه حالياً أو استقبالياً لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم، وإلّا لكثر تقسيماته؛ لكثرة الخصوصيّات، ولا اختلاف فيه؛

___________________________________________

صاحب الفصول {انقدح أنّه} أي: الشّيخ {في الحقيقة إنّما أنكر الواجب المشروط بالمعنى الّذي يكون هو ظاهر المشهور و} ظاهر {القواعد العربيّة} - أعني: تقييد الهيئة - {لا} أنّه أنكر {الواجب المعلّق بالتفسير المذكور} في كلام صاحب الفصول من تقييد المادّة.

والحاصل: أنّ الشّيخ التزم بالواجب المعلّق ولكن سمّاه مشروطاً.

{وحيث قد عرفت - بما لا مزيد عليه - إمكان رجوع الشّرط إلى الهيئة كما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد فلا يكون مجال لإنكاره} أي: المعلّق {عليه} أي: على صاحب الفصول، إذ المعلّق ما قيّد مادّته والمشروط ما قيّد هيئته.

{نعم، يمكن أن يقال} في ردّ صاحب الفصول: {إنّه لا وقع لهذا التقسيم} إلى المعلّق والمنجّز {لأنّه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط} فلا ثمرة؛ لأنّ وجوب مقدّمة المعلّق فعلاً من آثار حاليّة وجوبه لا استقباليّة الواجب،والأُولى مشتركة بين المنجّز والمعلّق {وخصوصيّة كونه} أي: الواجب {حاليّاً} في المنجّز {أو استقباليّاً} في المعلّق {لا توجبه} أي: التقسيم {ما لم توجب الاختلاف في} الأثر {المهم} أعني: وجوب المقدّمة وعدمه {وإلّا} فلو كانت كلّ خصوصيّة موجبة للتقسيم {لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيّات ولا اختلاف فيه}

ص: 60

فإنّ ما رتّبه عليه من وجوب المقدّمة فعلاً - كما يأتي - إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليّته، لا من استقباليّة الواجب، فافهم.

ثمّ إنّه ربّما حكي عن بعض أهل النّظر من أهل العصر(1) إشكالٌ في الواجب المعلّق، وهو: أنّ الطلب والإيجاب إنّما يكون بإزاء الإرادة المحرّكة للعضلات نحو المراد،

___________________________________________

أي: في المهم {فإنّ ما رتّبه} صاحب الفصول {عليه} أي: على المعلّق {من وجوب المقدّمة فعلاً - كما يأتي} بيانه - {إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه} وعدم تقييد هيئته {وحاليّته} الجامع بينه وبين غيره {لا من استقباليّة الواجب} ومن البديهي أنّ التقسيم إنّما يصحّ إذا كان فرق بين الأقسام في الأثر، وحيث لا فرق بين المعلّق والمنجّز في وجوب المقدّمة لم يكن للتقسيم وقع.

{فافهم} قال المشكيني: «وفيه أوّلاً: أنّه+ رتّب هذه الثّمرة على المعلّق في مقابل المشروط، لا مقابل المنجّز، وقسّم المطلق إلى معلّق ومنجّزدفعاً لتوهّم كون الأوّل من قبيل المشروط.

وثانياً: أنّ الثّمرة في التقسيم المذكور موجودة بين القسمين أيضاً؛ لأنّ المقدّمة المعلّق عليها غير واجبة في المعلّق بخلاف المنجّز، فإنّ جميع مقدّماته واجبة»(2).

{ثمّ إنّه ربّما حكي عن بعض أهل النّظر} وهو المحقّق النهاوندي على ما قيل {من أهل العصر إشكال} ثالث غير إشكال الشّيخ والمصنّف {في الواجب المعلّق وهو أنّ الطلب والإيجاب إنّما يكون بإزاء الإرادة المحرّكة للعضلات نحو المراد} والفرق أنّ الإرادة تكوينيّ والطلب تشريعي.

والحاصل: أنّ الإرادة التكوينيّة نحو المطلوب والإرادة التشريعيّة نوعان من

ص: 61


1- تشريح الأصول: 191.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 510.

فكما لا يكاد يكون الإرادة منفكّة عن المراد، فليكن الإيجاب غيرَ منفكّ عمّا تتعلّق به، فكيف يتعلّق بأمر استقباليّ؟ فلا يكاد يصحّ الطلب والبعث فعلاً نحوَ أمر متأخّر.

قلت: فيه أنّ الإرادة تتعلّق بأمر متأخّر استقباليّ، كما تتعلّق بأمر حالي، وهو أوضح من أن يخفى على عاقل، فضلاً عن فاضل؛ ضرورة أنّ تحمّل المشاقّ في تحصيل المقدّمات - في ما إذا كان المقصود بعيدة المسافة وكثيرة المؤونة - ليس إلّا لأجل تعلّق إرادته به، وكونه مريداً له قاصداً إيّاه، لا يكاد يحمله على التحمّل إلّا ذلك.

___________________________________________

الإرادة تحتاجان إلى العلم والتصديق والميل وتحريك العضلات، ولا فرق بينهما إلّا في كون التكوينيّة متعلّقة بفعل نفس المريد والتشريعيّة متعلّقة بفعل الغير {فكما لا يكاد يكون الإرادة} التكوينيّة {منفكّة عن المراد} فلا يعقل انفكاك التحريك المنبعث عن الإرادة عن الفعل، بأن يحرّك العضلات فعلاً ويتكوّن الفعل بعداً {فليكن الإيجاب} المنبعث عن الإرادة التشريعيّة {غير منفكّ عمّا تتعلّق به فكيف يتعلّق} الإيجاب الحالي {بأمر استقبالي} حتّى يتحقّق الواجب المعلّق {فلا يكاد يصحّ الطلب والبعث فعلاً نحو أمر متأخّر} عن زمان البعث؟

{قلت}: هذا الإشكال على الواجب المعلّق غير صحيح، إذ {فيه} عدم صحّة الكلام في المقيس عليه، لوضوح {أنّ الإرادة} التكوينيّة {تتعلّق بأمر متأخّر استقبالي كما تتعلّق بأمر حالي} فقد يريد الإنسان السّفر في حال الإرادة وقد يريد في يوم آخر {وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلاً عن فاضل، ضرورة أنّ} المقصود لو كان له مقدّمات كان {تحمّل المشاقّ في تحصيل المقدّمات في ما إذا كان المقصود بعيدة المسافة وكثيرة المؤونة ليس} ذلك التحمّل {إلّا لأجل تعلّق إرادته به} أي: بذلك المقصود {وكونه} عطف على «تعلّق إرادته» {مريداً له قاصداً إيّاه لا يكاد يحمله على التحمّل} لتلك المقدّمات {إلّا ذلك} المقصود البعيد.

ص: 62

ولعلّ الّذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادةبالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحوَ المراد(1)، وتوهّم أنّ تحريكها نحو المتأخّر ممّا لا يكاد.

وقد غفل عن أنّ كونه محرّكاً نحوه يختلف حسب اختلافه، في كونه ممّا لا مؤونة له كحركة نفس العضلات،

___________________________________________

قال المحقّق الطوسي في التجريد: «والحركة الاختياريّة إلى مكان تتبع إرادة بحسبها، وجزئيّات تلك الحركة تتبع تخيّلات وإرادات جزئيّة يكون السّابق من هذه علّة للسابق من تلك المعدّة لحصول تخيّلات وإرادات أُخرى فتتصل الإرادات في النّفس والحركات في المسافة إلى آخرها»(2)، انتهى كلامه رفع مقامه.

فتحصّل من الجواب على هذا الإشكال: أنّ الإرادة التكوينيّة كما تنفكّ عن المراد كذلك الإرادة التشريعيّة يمكن انفكاكها عن المراد، فلا إشكال في الواجب المعلّق من هذا الحيث.

{ولعلّ الّذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادة بالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد} فظنّ أنّ تحريك العضلة متصل بالفعل الّذي هو مقصود أصليّ قطعاً وإلّا لكان التحريك لغواً {وتوهّم أنّ تحريكها نحو} الأمر {المتأخّر ممّا لا يكاد} يعقل {وقد غفل عن أنّ كونه محرّكاً نحوه} لا يلزم منه التحريك نحو المراد الأصلي، بل قد يكون نحو المراد الأصلي إذا لم تكن له مقدّمات، وقد يكون نحو مقدّمات المراد - أي: المراد التبعي - في ما كان لهمقدّمات.

والحاصل: أنّه {يختلف} التحريك {حسب اختلافه} أي: اختلاف المراد {في كونه} متعلّق ب- «اختلافه» {ممّا لا مؤونة له} أصلاً {كحركة نفس العضلات}

ص: 63


1- شرح المنظومة 3: 646.
2- كشف المراد: 124؛ القول السديد: 111.

أو ممّا له مؤونة ومقدّمات قليلة أو كثيرة. فحركة العضلات تكون أعمّ من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدّمة له، والجامع أن يكون نحو المقصود.

بل مرادهم من هذا الوصف - في تعريف الإرادة - بيان مرتبة الشّوق الّذي يكون هو الإرادة، وإن لم يكن هناك فعلا تحريك؛ لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق، أمراً استقباليّاً غير محتاج إلى تهيئة مؤونة أو تمهيد مقدّمة؛ ضرورةَ أنّ شوقه إليه ربّما يكون أشدّ من الشّوق المحرّك فعلاً نحو أمر حاليّ أو استقباليّ

___________________________________________

في ما لو كانت بنفسها مقصودة {أو ممّا له مؤونة ومقدّمات} سواء كانت {قليلة أو كثيرة، فحركة العضلات} في تعريف الإرادة {تكون أعمّ من أن تكون بنفسها مقصودة} فلا يكون هناك مقدّمة أصلاً {أو} تكون حركه العضلات {مقدّمة له} أي: للمقصود.

{والجامع} بين الحركتين {أن يكون نحو المقصود} سواء كان بمقدّمة أم بدونها {بل مرادهم من هذا الوصف} أي: الشّوق المؤكّد المحرّك للعضلات {في تعريف الإرادة بيان مرتبة الشّوق الّذي يكون هو الإرادة} فيريدون بيان أنّ الإرادة مرتبة أكيدة من الشّوق بحيث تبعث على حركةالعضلات نحو المراد في وقته حاليّاً كان أو استقباليّاً {وإن لم يكن هناك فعلا} في حال الإرادة {تحريك، لكون المراد و} هو {ما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمراً استقباليّاً غير محتاج إلى تهيئة مؤونة أو تمهيد مقدّمة} في الزمان الحاضر، فلا يكون تحريك فعليّ لا إلى نفس المراد لكونه استقباليّاً ولا إلى مقدّماته لعدم الاحتياج إلى مقدّمة أصلاً، أو كانت المقدّمات كنفس المراد استقباليّة.

وإنّما قلنا: إِنّ الإرادة في هذا الحال موجودة، ولم لا يجوز أن يقال بعدم وجود الإرادة حال عدم التحريك {ضرورة أنّ شوقه إليه} أي: إلى المقصود الاستقبالي {ربّما يكون أشدّ من الشّوق المحرّك فعلاً نحو أمر حالي} بلا مقدّمة {أو استقبالي}

ص: 64

محتاج إلى ذلك، هذا.

مع أنّه لا يكاد يتعلّق البعث إلّا بأمر متأخّر عن زمان البعث، ضرورةَ أنّ البعث إنّما يكون لإحداث الداعي للمكلّف إلى المكلّف به، بأن يتصوّره بما يترتّب عليه من المثوبة، وعلى تركه من العقوبة، ولا يكاد يكون هذا إلّا بعد البعث بزمانٍ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخّر عنه بالزمان، ولا يتفاوت طوله وقِصَره - في ما هو ملاك الاستحالة والإمكان - في نظر العقل الحاكم في هذا الباب.

___________________________________________

مع المقدّمة الفعليّة بحيث هو {محتاج إلى ذلك} التحريك فعلا، فالإرادة لمّا كانت عين الشّوق والشّوق بالنسبة إلى المستقبل موجود قطعاً لامجال للقول بعدم الإرادة فعلاً.

{هذا} كلّه جواب العلّامة النّهاوندي {مع أنّه} يمكن جواب آخر عنه، وحاصله: منع عدم الانفكاك بين الإرادة التشريعيّة والمراد فيمكن الانفكاك بينهما وإن كان الانفكاك في الإرادة التكوينيّة محالاً، وذلك لأنّه {لا يكاد يتعلّق البعث} التشريعي {إلّا بأمر متأخّر عن زمان البعث، ضرورة أنّ البعث إنّما يكون لإحداث الداعي للمكلّف إلى المكلّف به} والداعي عبارة عن توجّه المكلّف نحو المأمور به {بأن يتصوّره بما يترتّب عليه من المثوبة وعلى تركه من العقوبة، و} من المعلوم أنّه {لا يكاد يكون هذا} التصوّر المعبّر عنه بالداعي {إلّا بعد البعث بزمان} قليل أو كثير؛ لأنّ هناك بعث ثمّ تصوّر فتصديق بالثواب والعقاب فميل فإرادة فتحريك، وبعد ذلك كلّه يفعل الفعل {فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخّر عنه بالزمان}.

{و} إن قلت: في الواجب المنجّز الزمان الفاصل بين الإرادة والفعل قصير وفي الواجب المعلّق طويل.

قلت: {لا يتفاوت طوله وقصره في ما هو ملاك الاستحالة والإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب} أي: باب الإرادة، فإن أمكن التفكيك بين الإرادة والمراد جاز

ص: 65

ولعمري ما ذكرناه واضح لا سُتْرَةَ عليه، والإطناب إنّما هو لأجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلّاب.

وربّما أُشكل على المعلّق أيضاً

___________________________________________

ولو مع طول الزمان، وإن لم يمكن لم يجز ولو مع قصره.

ونحن نذكر فهرس المطالب ثانياً توضيحاً، فنقول: أنكر النّهاوندي الواجب المعلّق محتجّاً بأنّ فيه تفكيك الإرادة عن المراد وكما لا يمكن التفكيك في الإرادة التكوينيّة لا يمكن في الإرادة التشريعيّة، وأشكل عليه المصنّف بإشكالات ثلاث:

الأوّل: عدم لزوم التحريك الفعلي في الإرادة التكوينيّة، فيمكن التفكيك بين الإرادة التكوينيّة والمراد فكذلك التشريعيّة، وقد أشار المصنّف إلى هذا بقوله: «بل مرادهم من هذا الوصف» الخ.

الثّاني: على فرض تسليم كون التحريك فعليّاً لا نسلّم لزوم كون التحريك نحو المراد الأصلي، بل يجوز نحو المراد التبعي، فأمكن التفكيك بين الإرادة التكوينيّة والمراد أيضاً فكذلك التشريعيّة، وأشار إليه بقوله: «وقد غفل عن أنّ كونه» الخ.

الثّالث: إذا فرض تسليم المقيس عليه وقلنا بلزوم اتصال الإرادة التكوينيّة بالمراد الأصلي، لكن لا نسلّم ذلك في الإرادة التشريعيّة، بل هي لا تتصل بالمراد دائماً، وأشار إليه بقوله: «هذا مع أنّه لا يكاد يتعلّق البعث» الخ. ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تعليقة العلّامة المشكيني(1).

{ولعمري ما ذكرناه واضح لا سُتْرَةَ عليه، والإطناب} في عبارات الكتاب {إنّما هو لأجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلّاب}.

هذا {وربّما أُشكل على} الواجب {المعلّق} برابع الإشكالات {أيضاً} وذلك

ص: 66


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 515.

بعدم القدرة على المكلّف به في حال البعث، مع أنّها منالشّرائط العامّة.

وفيه: أنّ الشّرط إنّما هو القدرة على الواجب في زمانه، لا في زمان الإيجاب والتكليف، غاية الأمر يكون من باب الشّرط المتأخّر، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّه كالمقارن، من غير انخرام للقاعدة العقليّة أصلاً، فراجع.

ثمّ لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور، بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخّر، أُخذ على نحو لا يكون مورداً للتكليف،

___________________________________________

{بعدم القدرة على المكلّف به في حال البعث مع أنّها من الشّرائط العامّة} للتكليف {وفيه أنّ الشّرط} للتكليف ليس هو القدرة مطلقاً ولا القدرة حال الأمر، بل الشّرط {إنّما هو القدرة على الواجب في زمانه لا في زمان الإيجاب والتكليف} بل لم يشترطه أحد {غاية الأمر يكون} القدرة على التكليف في زمانه {من باب الشّرط المتأخّر} فإنّ حسن التكليف في الحال مشروط بلحاظ القدرة الاستقباليّة أو مشروط بإضافته إلى القدرة المتأخّرة، فالتكليف المتعقّب بالقدرة حسن.

{وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّه} أي: الشّرط المتأخّر {كالمقارن من غير انخرام للقاعدة العقليّة} - أعني: قاعدة تقارن العلّة مع المعلول - {أصلاً} كما لا يخفى {فراجع} ما تقدّم.

{ثمّ} إنّه يرد على ما ذكره الفصول من الواجب المعلّق إشكال خامس، وهو أنّه{لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور} كما تقدّم من عبارة الفصول {بل ينبغي تعميمه إلى} ما يتوقّف حصوله على {أمرٍ مقدورٍ متأخّرٍ} كما لو قال: (يجب عليك الآن إكرام زيد بعد زيارتك له) {أُخذ على نحو لا يكون مورداً للتكليف} اختلفت النّسخ في حذف حرف النفي - أعني: كلمة «لا» - وإثباته، والمعنى واحد على التقديرين، إذ لو كان هذا نفياً كان قوله بعدُ: «أو لا» إثباتاً؛ لأنّه نفي للنفي، وإن كان هذا إثباتاً كان قوله: «أو لا» نفياً، والمعنى أنّه لا يفرق في تعلّق

ص: 67

ويترشّح عليه الوجوب من الواجب، أو لا؛ لعدم تفاوت في ما يهمّه من وجوب تحصيل المقدّمات الّتي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب على المعلّق، دون المشروط؛ لثبوت الوجوب الحالي فيه، فيترشّح منه الوجوب على المقدّمة - بناءً على الملازمة - دونه؛ لعدم ثبوته فيه إلّا بعد الشّرط.

___________________________________________

الواجب بأمر مقدّر متأخّر بين أن لا يكون ذلك الأمر المتأخّراً مورداً للتكليف.

{ويترشّح عليه الوجوب من الواجب} بأن كان المعلّق عليه للإكرام في المثال المتقدّم الزيارة الحاصلة من باب الاتفاق، وبهذا المعنى يكون قوله: «ويترشّح» عطفاً على «يكون» أي: لا يترشّح {أو لا} يكون كذلك، بل كان مورداً للتكليف بحيث يترشّح عليه الوجوب، بأن كان المعلّق عليه للإكرام في المثال الزيارة الّتي هي واجبة مقدّمة لحصول الإكرام.

وإنّما قلنا بعدم الفرق في المعلّق بين المقدور وغيره {لعدم تفاوت في ما يهمّه} أي: يهمّ صاحب الفصول {من وجوب تحصيل المقدّمات} بيان «ما يهمّه» {الّتي لا يكاد يقدرعليها في زمان الواجب} صفة المقدّمات {على المعلّق} متعلّق ب- «تفاوت» أي: لا تفاوت على القول بالواجب المعلّق {دون} الواجب {المشروط} بين كون الأمر المتأخّر مقدوراً وبين كونه غير مقدور.

ووجه عدم الفرق ما ذكره بقوله: {لثبوت الوجوب الحالي فيه} أي: في الواجب المعلّق على تقديري القدرة وعدمها {فيترشّح منه} أي: من المعلّق {الوجوب على المقدّمة} الّتي هي قبل زمان الواجب {بناءً على الملازمة} بين وجوب المقدّمة وذيها {دونه} أي: دون الواجب المشروط، فإنّه لا يترشّح الوجوب من ذي المقدّمة على مقدّماتها قبل وجود الشّرط {لعدم ثبوته} أي: الوجوب {فيه} أي: في المشروط {إلّا بعد الشّرط} فكيف يترشّح على المقدّمة؟

والحاصل: من هذا المطلب أنّ المهم الّذي أوجب على صاحب الفصول القول

ص: 68

نعم، لو كان الشّرط على نحو الشّرط المتأخّر، وفُرِض وجوده، كان الوجوب المشروط به حاليّاً أيضاً، فيكون وجوب سائر المقدّمات الوجوديّة للواجب أيضاً حاليّاً، وليس الفرق بينه وبين المعلّق حينئذٍ إلّا كونَه مرتبطاً بالشرط، بخلافه وإن ارتبط به الواجب.

___________________________________________

بالمعلّق هو وجوب المقدّمة، وفي هذا المهم لا يفرق بين كون الأمر المتأخّر مقدوراً أو غير مقدور، فمحطّ نظره كون الواجب معلّقاً لا مشروطاً.

{نعم} قد يمكن كون الواجب مشروطاً لا معلّقاً ومع ذلك يتعدّى الوجوب إلى المقدّمات، وذلك في ما {لو كان الشّرط على نحوالشّرط المتأخّر} - بأن كان وجوب الواجب في الحال لإضافة إلى ما بعده من الشّرط مثلاً {وفرض وجوده} أي: وجود الشّرط في ظرفه، ليصحّ الإضافة - {كان الوجوب المشروط به حاليّاً} قبل زمان الواجب {أيضاً} كما كان الوجوب في المعلّق حاليّاً، وبسبب كون الوجوب حاليّاً يترشّح إلى المقدّمات الوجوديّة {فيكون وجوب سائر المقدّمات الوجوديّة} لا الوجوبيّة {للواجب أيضاً حاليّاً} كما كان أصل وجوب الواجب حاليّاً.

وحينئذٍ فمهمّ صاحب الفصول - أعني: وجوب المقدّمات قبل ظرف الواجب - يحصل بكلّ من الواجب المعلّق ومن الواجب المشروط بنحو الشّرط المتأخّر {وليس الفرق بينه} أي: بين هذا القسم من المشروط {وبين} الواجب {المعلّق حينئذٍ} أي: حين كان المشروط بنحو الشّرط المتأخّر {إلّا كونه} أي: الوجوب {مرتبطاً بالشرط} في المشروط بحيث لولا الشّرط لم يكن وجوب {بخلافه} أي: بخلاف المعلّق، فإنّ الوجوب فيه ليس مرتبطاً بالشرط {وإن ارتبط به الواجب} بحيث كان ظرف الواجب بعد حصول الشّرط.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ هذا الإشكال الخامس غير وارد على الفصول كما قاله بعض المحشّين(1)

وتبعه السّيّد الحكيم بقوله: «أقول صرّح في الفصول بعدم الفرق

ص: 69


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 509.

تنبيهٌ: قد انقدح - من مطاوي ما ذكرناه - : أنّ المناط في فعليّة وجوب المقدّمة الوجوديّة، وكونه في الحال بحيث يجب على المكلّف تحصيلها، هي فعليّة وجوب ذيها، ولو كان أمراً استقباليّاً -كالصوم في الغد والمناسك في الموسم - ، كان وجوبه مشروطاً - بشرط موجود أخذ فيه ولو متأخّراً - ، أو مطلقاً - منجّزاً كان أو معلّقاً - في ما إذا لم يكن مقدّمة للوجوب أيضاً، أو مأخوذة

___________________________________________

بين غير المقدور والمقدور، ومثّل للثاني بما لو توقّف الحجّ المنذور على ركوب الدابّة المغصوبة»(1)،

فراجع.

{تنبيه}: في بيان مناط وجوب المقدّمة وعدم الفرق بين أنحاء الواجب في ذلك {قد انقدح من مطاوي ما ذكرناه أنّ المناط في فعليّة وجوب المقدّمة الوجوديّة وكونه في الحال بحيث يجب على المكلّف تحصيلها} بناءً على وجوب المقدّمة {هي فعليّة وجوب ذيها} خبر «أنّ»، وتأنيث الضمير باعتبار الخبر {ولو كان} الواجب {أمراً استقباليّاً} وذلك {كالصوم في الغد} فيجب الغسل في الليل مقدّمة له {والمناسك في الموسم} فيجب طيّ الطريق مقدّمةً لها سواء {كان وجوبه} أي: وجوب الواجب {مشروطاً بشرط موجود أخذ فيه} أي: في الوجوب {ولو} كان الشّرط {متأخّراً} عن زمان الوجوب {أو مطلقاً} عطف على «مشروطاً» {منجّزاً كان} هذا الواجب المطلق - بأن كانت الهيئة والمادّة مطلقتين - {أو معلّقاً} بأن كانت المادّة مقيّدة لكن إنّما يكون وجوب الواجب فعليّاً فيتبعه وجوب المقدّمة {في ما إذا لم يكن} المقدّمة {مقدّمة للوجوب أيضاً} كما كان مقدّمة للواجب، إذ لو كانت مقدّمة للوجوب لم يكن الوجوب فعليّاً {أو مأخوذة} عطف على «مقدّمة» أي: أنّ وجوب الواجب فعليّ بشرطين:الأوّل: عدم كون المقدّمة مقدّمة للوجوب.

ص: 70


1- حقائق الأصول 1: 248.

في الواجب على نحو يستحيل أن يكون مورداً للتكليف، كما إذا أخذ عنواناً للمكلّف، كالمسافر والحاضر والمستطيع إلى غير ذلك، أو جعل الفعلُ المقيّد باتفاق حصوله وتقدير وجوده - بلا اختيار أو باختياره - مورداً للتكليف؛

___________________________________________

الثّاني: عدم كون المقدّمة مأخوذة {في الواجب على نحو يستحيل أن يكون مورداً للتكليف} ثمّ مثّل لما أخذ مورداً للتكليف بقوله: {كما إذا أخذ عنواناً للمكلّف كالمسافر والحاضر والمستطيع} في قوله: (المسافر يقصّر، والحاضر يتمّ، والمستطيع يحجّ) فإنّ السّفر والحضور والاستطاعة مقدّمات لتلك التكاليف، لكنّها أخذت مورداً لها لانصباب التكليف عليها {إلى غير ذلك} من الأمثلة الّتي أخذت المقدّمة فيها مورداً للتكليف {أو جعل} عطف على قوله: «أخذ عنواناً» الخ، يعني: أنّ المقدّمة لا تكون واجبة إذا كانت مورداً للتكليف من غير فرق بين كونها عنواناً للمكلّف وبين كونها على نحو جعل {الفعل المقيّد باتفاق حصوله وتقدير وجوده} سواء كان الحصول {بلا اختيار} للمكلّف {أو} كان {باختياره مورداً للتكليف} مفعول «جعل».

مثال الأوّل - ما لو قال المولى - : (أوجبت عليك الحجّ) على تقدير حصول الاستطاعة بالإرث.

ومثال الثّاني: (أوجبتُ عليك الحجّ) على تقدير حصول الاستطاعة بالكسب، فإنّ فيهما جعل الحجّ المقيّد باتفاق حصول الاستطاعة الّتي هي مقدّمة بلا اختيار أو باختيار مورداً للتكليف، بحيث لا تكليف بدونه.فتحصّل من عبارة المصنّف: أنّه لا تجب هذه الأقسام الأربعة للمقدّمة الوجوديّة:

الأوّل: مقدّمة الوجوب.

الثّاني: مقدّمة كانت عنواناً للمكلّف.

الثّالث: مقدّمة كانت قيداً للمادّة بوجودها الاتفاقي الّذي هو خارج عن الاختيار.

ص: 71

ضرورةَ أنّه لو كان مقدّمة الوجوب أيضاً لا يكاد يكون هناك وجوب إلّا بعد حصوله، وبعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل، كما أنّه إذا أخذ على أحد النّحوين يكون كذلك، فلو لم يحصل لما كان الفعل مورداً للتكليف، ومع حصوله لا يكاد يصحّ تعلّقه به، فافهم.

إذا عرفت ذلك

___________________________________________

الرّابع: كالثّالث مع كونها داخلة تحت الاختيار.

ثمّ إنّ المصنّف بيّن وجه قوله: «في ما إذا لم يكن» الخ، أي: وجه عدم وجوب هذه المقدّمات الأربع بقوله: {ضرورة أنّه لو كان} مقدّمة الوجود {مقدّمة الوجوب أيضاً} كما في القسم الأوّل {لا يكاد يكون هناك وجوب إلّا بعد حصوله} لفرض توقّف الوجوب عليه {وبعد الحصول} أيضاً لا تكون واجبة؛ لأنّه {يكون وجوبه} حينئذٍ {طلب الحاصل} وهو محال {كما أنّه إذا أُخذ} المقدّمة {على أحد النّحوين} المذكورين في المتن، أعني: ما أُخذ عنواناً للمكلّف وهو القسم الثّاني وما جعل الفعل المقيّد الخ، وهو المنقسم إلى الثّالث والرّابع {يكون كذلك} أي: لا يكاد يكون هناك الخ، وبيّنه بقوله: {فلو لم يحصل} هذا المورد للتكليف الّذي هو مقدّمة {لما كان الفعل مورداًللتكليف} فلا تجب مقدّمته {ومع حصوله} أي: حصول المورد بأن صار مسافراً أو مستطيعاً {لا يكاد يصحّ تعلّقه} أي: الوجوب {به} أي: بما هو مورد للتكليف الحاصل فعلاً؛ لأنّه تحصيل للحاصل وهو محال {فافهم} لعلّه إشارة إلى ما ذكره المشكيني(1)،

فراجع.

{إذا عرفت ذلك} فاعلم أنّه قد قام الإجماع، بل الضرورة على وجوب بعض المقدّمات قبل زمان حضور الواجب، كالغسل في الليل للصوم في الغد، وكتحصيل الزاد والرّاحلة قبل مجيء موسم الحجّ، فوقع الإشكال من جهة أنّه كيف تجب المقدّمة قبل وجوب ذيها مع أنّ وجوبها تابع لوجوبه؟ وللعلماء وجوه في

ص: 72


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 523.

فقد عرفت: أنّه لا إشكال أصلاً في لزوم الإتيان بالمقدّمة قبل زمان الواجب، إذا لم يقدر عليه بعد زمانه في ما كان وجوبه حاليّاً مطلقاً، ولو كان مشروطاً بشرط متأخّر كان معلومَ الوجود في ما بعد، كما لا يخفى؛ ضرورةَ فعليّة وجوبه وتنجّزه بالقدرة عليه

___________________________________________

التخلّص من هذا الإشكال:

[1] فالشيخ ذهب إلى أنّ الشّرط من قيود المادّة لا الهيئة، فالوجوب للفعل ثابت من أوّل الأمر ومنه يترشّح إلى المقدّمة، فالصوم واجب والوجوب ثابت من الليل، ووجوب الحجّ من حين الاستطاعة، وهكذا.

[2] وصاحب الفصول ذهب إلى القول بالواجب المعلّق، كما تقدّم بيانهما، وسبق أنّ المشروط عند الشّيخ هو المعلّق عند صاحب الفصول.

[3] والمصنّف ذهب إلى القول بالواجب المشروط بنحو الشّرط المتأخّر إذاعلم وجود الشّرط في ما بعد.

{فقد عرفت} بذلك كلّه {أنّه لا إشكال أصلاً في لزوم الإتيان بالمقدّمة قبل زمان} حضور {الواجب} لكن إنّما يجب الإتيان بها قبلاً {إذا لم يقدر عليه} أي: على الإتيان بالمقدّمة {بعد زمانه} أي: زمان الواجب {في ما كان وجوبه حاليّاً} الظرف متعلّق ب-«لزوم الإتيان»، أي: يجب الإتيان بها في ما كان وجوب الواجب حاليّاً {مطلقاً} أي: حاليّة وجوب الواجب بأيّ نحو كان، سواء كان بنحو التعليق كما في الفصول أو بنحو الواجب المشروط مع حصول الشّرط، بل {ولو كان} الواجب {مشروطاً بشرط متأخّر} لكن {كان} الشّرط {معلوم الوجود في ما بعد - كما لا يخفى} على المتأمّل - فلو علم بحضور وقت الصلاة في ما بعد وعلم بفقد الماء حينه لزم عليه التحفّظ على الماء.

وإنّما قلنا لا إشكال أصلاً في لزوم الإتيان بالمقدّمة {ضرورة فعليّة وجوبه} أي: وجوب الواجب {وتنجّزه بالقدرة عليه} أي: إنّ صيروة التنجّز بسبب القدرة

ص: 73

بتمهيد مقدّمته، فيترشّح منه الوجوب عليها - على الملازمة - .

ولا يلزم منه محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها، وإنّما اللّازم الإتيان بها قبل الإتيان به، بل لزوم الإتيان بها عقلاً - ولو لم نقل بالملازمة - لا يحتاج إلى مزيد بيان ومؤونة برهان، كالإتيان بسائر المقدّمات في زمان الواجب قبل إتيانه.

فانقدح بذلك: أنّه لا ينحصر التفصّي عن هذه العويصة بالتعلّق بالتعليق، أو بمايرجع إليه،

___________________________________________

{بتمهيد مقدّمته} متعلّق ب- «القدرة» {فيترشّح منه} أي: من هذا الواجب المنجّز {الوجوب عليها} بناءً {على الملازمة} بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها {ولا يلزم منه} أي: من وجوب المقدّمة {محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها} كي يقال: كيف يترشّح الوجوب من ذي مقدّمة ليس هو بواجب؟ {وإنّما اللّازم} من وجوب المقدّمة في هذا الحال {الإتيان بها قبل الإتيان به} ولا محذور فيه أصلاً.

والحاصل: أنّ الوجوب لذي المقدّمة حالي لكنّه على نحو المشروط بالشرط المتأخّر {بل لزوم الإتيان بها} أي: بالمقدّمة حين وجوب ذيها على نحو الشّرط المتأخّر {عقلاً - ولو لم نقل بالملازمة} الشّرعيّة - كما تقدّم في المعرفة من أنّ العقل يحكم بوجوب الإتيان بهذه المقدّمة كي لا يفوته المكلّف به المنجّز ويعاقب عليه، وهذا {لا يحتاج إلى مزيد بيان ومؤونة برهان} والإتيان بهذه المقدّمة ليس إلّا {كالإتيان بسائر المقدّمات في زمان الواجب قبل إتيانه} فإنّه واجب عقلاً بلا ريب، فإنّه لو لم يأت بها فترك الواجب بسبب تركها كان معاقباً على ترك الواجب الّذي كان مقدوراً له.

{فانقدح بذلك} التقريب - أعني: كون الواجب مشروطاً بنحو الشّرط المتأخّر، فيترشّح منه الوجوب على المقدّمات - {أنّه لا ينحصر التفصّي عن هذه العويصة} أعني: إشكال لزوم المقدّمة قبل زمان الواجب {بالتعلّق} والتشبّث {بالتعليق} كما فعله الفصول {أو} التعلّق {بما يرجع إليه} أي: إلى الواجبالمعلّق

ص: 74

من جعل الشّرط من قيود المادّة في المشروط.

فانقدح بذلك: أنّه لا إشكال في الموارد الّتي يجب في الشّريعة الإتيان بالمقدّمة قبل زمان الواجب، كالغسل في اللّيل في شهر رمضان وغيره ممّا وجب عليه الصّوم في الغد؛ إذ يكشف به بطريق الإِنِّ عن سبق وجوب الواجب، وإنّما المتأخّر هو زمان إتيانه، ولا محذور فيه أصلاً.

ولو فرض العلم بعدم سبقه لاستحال اتّصاف مقدّمته بالوجوب الغيري، فلو نهض

___________________________________________

{من جعل الشّرط من قيود المادّة في} الواجب{المشروط} كما صنعه الشّيخ، بل لنا جواب ثالث - وهو كون الوجوب فعليّاً ومشروطاً بنحو الشّرط المتأخّر - .

{فانقدح بذلك} الجواب لنا {أنّه لا إشكال في الموارد الّتي يجب في الشّريعة} المقدّسة {الإتيان بالمقدّمة قبل زمان الواجب، كالغسل في الليل في شهر رمضان وغيره} أي: غير هذا المثال، كما تقدّم من مثال الحجّ والوضوء، أو المراد غير رمضان {ممّا وجب عليه الصوم في الغد}.

إن قلت: من أين نعلم وجوب ذي المقدّمة قبل زمانه؟ قلت: {إذ يكشف به} أي: بوجوب المقدّمة المعلوم بالضرورة والإجماع {بطريق الإِنِّ} أي: الانتقال من وجوب المقدّمة المعلول إلى وجوب ذيها {عن سَبْقِ وجوب الواجب} أي: عن وجوب ذي المقدّمة الّذي هو علّة.

والحاصل: أنّ وجوب الواجب مقدّم على زمان إتيانه {وإنّماالمتأخّر هو زمان إتيانه ولا محذور فيه} أي: في تقدّم الوجوب وتأخّر زمان الواجب {أصلاً، و} أمّا {لو فرض العلم بعدم سَبْقِهِ} أي: سبق وجوب ذي المقدّمة {لاستحالة اتصاف مقدّمته بالوجوب الغيري} لأنّ الوجوب الغيري فرع الوجوب النّفسي، فحيث لا وجوب نفسيّاً لم يكن وجوب غيري {فلو نهض} حين العلم بعدم سبق وجوب ذيها

ص: 75

دليل على وجوبها فلا محالة يكون وجوبها نفسيّاً، ولو تَهَيُّئِياً، ليتهيّأ بإتيانها واستعد لإيجاب ذي المقدّمة عليه، فلا محذور أيضاً.

إن قلت: لو كان وجوب المقدّمة في زمان كاشفاً عن سَبْقِ وجوب ذي المقدّمة لزم وجوب جميع مقدّماته ولو موسّعاً،

___________________________________________

{دليل على وجوبها، فلا محالة يكون وجوبها نفسيّاً} لذاتها أو {ولو تَهَيُئِيّاً، ليتهيّأ بإتيانها} أي: بسبب يصير متهيّأ إتيان المقدّمة {واستعدّ لإيجاب ذي المقدّمة عليه فلا محذور} في وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها {أيضاً} كما لم يكن محذور في وجوبها قبل زمان ذيها، وعن هذا الإشكال بعض أجوبة أُخرى أضربنا منها خوف التطويل.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) بعد ما أشكل على صاحب الفصول والشّيخ، بأنّه لا ينحصر التفصّي عن محذور لزوم المقدّمة قبل ذيها بعدم انحصار الجواب في ما ذكراه، أورد عليهم إشكالاً ثانياً حكاه المشكيني عن التقريرات(1)، وحاصله: «أنّه يلزم على القول بسبق الوجوب وجوب سائر مقدّمات الواجب غير المقدّمةالّتي قام الدليل على وجوبها قبل الوقت إمّا موسّعاً لو كانت مقدورة في زمان الواجب أيضاً أو مضيّقاً لو لم تكن مقدورة إلّا قبله»(2)،

فكما يجب التحفّظ على الماء قبل الظهر يجب تعيين القبلة وتحصيل السّاتر ونحو ذلك.

وقد أشار إليه بقوله: {إن قلت: لو كان وجوب المقدّمة في زمان كاشفاً عن سبق وجوب ذي المقدّمة لزم وجوب جميع مقدّماته} في ذلك الزمان {ولو} وجوباً {موسّعاً} بحيث يجوز له الإتيان بتلك المقدّمة في حال الوجوب وفي زمان الواجب، لكن التوسعة إنّما تكون في ما لو أمكن الإتيان بالمقدّمة في ظرف الواجب،

ص: 76


1- مطارح الأنظار 1: 272.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 526.

وليس كذلك، بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكّنه منها لو لم يبادر.

قلت: لا محيص عنه، إلّا إذا أخذ في الواجب - من قبل سائر المقدّمات - قدرة خاصّة، وهي: القدرة عليه بعد مجيء زمانه، لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه،

___________________________________________

كما لو أمكن العلم بالقبلة خارج الوقت وداخله، وأمّا لو لم يمكن العلم داخل الوقت لانفراده في بيداء في الوقت وجب التعلّم مضيّقاً {و} الحال أنّه {ليس كذلك} يجب تحصيل المقدّمات قبل الوقت {بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكّنه منها} أي: من تلك المقدّمة {لو لم يبادر} إذ الواجب الموسّع يتضيّق بتضيّق وقته.

{قلت: لا محيص عنه} أي: عن الالتزام بوجوب جميع المقدّمات قبل الوقت وجوباً غيريّاً، إذ وجوب المقدّمة يكشف عن وجوب ذيها،وحيث إنّ وجوب ذي المقدّمة يلازم وجوب جميع المقدّمات يكشف عن وجوب ذي المقدّمة وجوب سائر مقدّماتها، فالبرهان مركّب من الإنّيّ وهو الانتقال من وجوب هذه المقدّمة إلى وجوب ذيها، ومن اللمِّي وهو الانتقال من وجوب ذي المقدّمة إلى وجوب سائر مقدّماتها.

نعم، إن قام دليل على أنّ سائر المقدّمات إنّما تجب حين دخول الوقت نلتزم بعدم وجوبها حال الوجوب قبل الوقت، فتتبعّض المقدّمات قبل الوقت فبعضها واجبة وبعضها غير واجبة.

وإلى هذا الاستثناء أشار المصنّف بقوله: {إلّا إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدّمات} غير المقدّمة الواجبة قبل الوقت بسبب الدليل الخاصّ {قدرة خاصّة، وهي القدرة عليه} أي: على سائر المقدّمات {بعد مجيء زمانه} أي: زمان الواجب {لا} أن يكون مناط وجوب سائر المقدّمات الأُخر {القدرة عليه في زمانه} أي: زمان الواجب مبتدءاً {من زمان وجوبه} أي: قام الدليل على أنّ سائر

ص: 77

فتدبّر جيّداً.

تتمّة: قد عرفت اختلافَ القيود في وجوب التحصيل، وكونهِ مورداً للتكليف وعدمه، فإن عُلم حال قيد فلا إشكال، وإن دار أمره ثبوتاً بين أن يكون راجعاً إلى الهيئة - نحو الشّرط المتأخّر أو المقارن - ، وأن يكون راجعاً إلى المادّة - على نهجٍ يجب تحصيله أو لا يجب - ،

___________________________________________

المقدّمات ليست واجبة من زمان الوجوب، فحينئذٍ لا تجب تلك المقدّمات الأُخر {فتدبّر جيّداً} حتّى لا تقول: كيف يمكن قيام الدليل على عدم وجوبالمقدّمة في زمان وجوب ذيها، المستلزم للتفكيك بين الوجوب النّفسي والغيري؟

[تتمّة]

{تتمّة} في بيان دوران الأمر بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادّة {قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل وكونه مورداً للتكليف} عطف بيان {وعدمه} فقيد الواجب يجب تحصيله وقيد الوجوب لا يجب تحصيله {فإن علم حال قيد} وأنّه قيد الواجب أو قيد الوجوب {فلا إشكال} في لزوم اتّباعه {وإن دار أمره ثبوتاً بين أن يكون راجعاً إلى الهيئة} بأن يكون قيداً للوجوب ثمّ كونه شرطاً للوجوب يدور بين أن يكون على {نحو الشّرط المتأخّر} فيكون الوجوب فعلاً {أو} الشّرط {المقارن} فيكون الوجوب بعد حصول الشّرط {وأن يكون راجعاً إلى المادّة} عطف على «بين أن يكون راجعاً إلى الهيئة».

ثمّ رجوعه إلى المادّة بمعنى كونه شرط الواجب يدور بين أن يكون {على نهجٍ يجب تحصيله} أي: تحصيل القيد، فيكون الواجب واجباً تحصيله بعد تحصيل قيده {أو لا يجب} تحصيل ذلك القيد، فيكون الواجب واجباً تحصيله بعد فرض اتفاق حصول قيده، فلو قال المولى: (حجّ بعد أن تتحصّل الاستطاعة) فالاحتمالات أربع:

ص: 78

فإن كان في مقام الإثبات ما يعيّن حالَهُ، وأنّه راجع إلى أيّهما من القواعد العربيّة، فهو، وإلّا فالمرجع هو الأصول العمليّة.

وربّما قيل(1) - في الدوران بين الرّجوع إلى الهيئة والمادّة - ،بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة، وتقييد المادّة، بوجهين:

___________________________________________

الأوّل: أن يكون الوجوب فعلاً على نحو الشّرط المتأخّر، فيجب تحصيل المقدّمات من الزاد والرّاحلة.

الثّاني: أن يكون الوجوب بعد تحصيل الاستطاعة، فلا يجب تحصيل المقدّمات.

الثّالث: أن يكون الوجوب فعلاً والواجب متأخّراً مع أنّه يجب تحصيل الاستطاعة، والفرق بين هذا والأوّل أنّ الوجوب في الأوّل مرتبط بالشرط بحيث لولا الشّرط في موطنه لم يكن واجباً، بخلاف هذا فالوجوب غير مرتبط.

الرّابع: هو الثّالث مع أنّه لا يجب تحصيل الاستطاعة.

هذه كلّها في مقام الثّبوت {فإن كان في مقام الإثبات ما يعيّن حاله} أي: حال القيد {وأنّه راجع إلى أيّهما} المادّة أو الهيئة {من القواعد العربيّة} بيان ما يعيّن {فهو} المرجع {وإلّا} يكن ما يعيّن حال القيد {فالمرجع} لدى الشّكّ {هو الأصول العمليّة} وفي تفصيلها طول لا يناسب المقام.

{وربّما قيل} والقائل هو التقريرات على ما حكي {في} ظرف {الدوران بين الرّجوع إلى الهيئة والمادّة بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة وتقييد المادّة} الوجوب حاليّ والواجب استقباليّ، وذلك {بوجهين} على حسب الأصول اللفظيّة من دون أن تصل النّوبة إلى الأصول العمليّة:

ص: 79


1- مطارح الأنظار 1: 251.

أحدهما: أنّ إطلاق الهيئة يكون شموليّاً، كما في شمول العام لأفراده؛ فإنّ وجوب الإكرام - على تقدير الإطلاق - يشمل جميعالتّقادير الّتي يمكن أن يكون تقديراً له، وإطلاقَ المادّة يكون بدليّاً غيرَ شامل لفردين في حالة واحدة.

___________________________________________

{أحدهما: أنّ إطلاق الهيئة يكون شموليّاً، كما في شمول العام لأفراده، فإنّ وجوب الإكرام} في (أكرم زيداً إن زرته) {على تقدير الإطلاق} في الوجوب {يشمل جميع التقادير الّتي يمكن أن يكون تقديراً له} فإذا وجب إكرام زيد وشكّ في أنّ الزيارة شرط للوجوب أو للواجب، فإذا كانت قيداً للواجب وبقي الوجوب في إطلاقه - بأن كان المراد أنّ إكرام زيد المتّصف بكونه بعد الزيارة واجب - كان إطلاق الوجوب شموليّاً، بمعنى أنّ الوجوب ثابت سواء زرته أم لم تزره، فلا يختصّ بوجوب بإحدى الحالتين لا على التعيين ولا على البدل، بل يشمل الحالتين كلتيهما.

{و} أمّا لو عكسنا الأمر بأن قيّدنا الهيئة فمن الواضح أنّ {إطلاق المادّة يكون بدليّاً غير شامل لفردين في حالة واحدة} إذ لو كانت الزيارة قيداً للوجوب وبقي الواجب على إطلاقه، بأن كان المراد: يجب بعد الزيارة إكرام زيد، كان إطلاق الواجب - أي الإكرام - بدليّاً، فإنّه يدلّ على كون الواجب صرف الطبيعة، فإذا كان في حال الزيارة تحقّقت الطبيعة المأمور بها وامتنع الإتيان بفرد آخر منه قبل الزيارة.

ثمّ حيث كان الإطلاق الشّمولي أقوى من إطلاق البدلي كان التقييد ألصق بالبدلي لضعفه.

والمراد بقوله: «الّتي يمكن أن يكون تقديراً له» حالتي وجود الشّرط وعدمه سائر الحالات، واحترز بذلك عن التّقادير الّتي لا يمكن أن يكون تقديراً له كتقدير حرمة الإكرام ونحوه.

ص: 80

ثانيهما: أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلانَ محلّ الإطلاق في المادّة، ويرتفع به مورده، بخلاف العكس، وكلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك، كان التقييد الّذي لا يوجب بطلان الآخر أولى:

أمّا الصغرى: فلأجل أنّه لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ حاجة وبيانٍ لإطلاق المادّة؛ لأنّها لا محالة لا تنفكّ عن وجود قيد الهيئة، بخلاف تقييد المادّة، فإنّ محلّ الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه.

___________________________________________

{ثانيهما} أي: الدليل الثّاني على ترجيح إطلاق الهيئة على إطلاق المادّة {أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة ويرتفع به} أي: بتقييد الهيئة {مورده} أي: مورد إطلاق المادّة {بخلاف العكس} فإنّ تقييد المادّة لا يوجب تقييد الهيئة.

والحاصل: أنّ في تقييد الهيئة تقييد المادّة أيضاً، وفي تقييد المادّة ليس تقييد للهيئة {وكلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك} أحدهما موجب لتقييدين والآخر موجب لتقييد واحد {كان التقييد الّذي لا يوجب بطلان الآخر أولى} من التقييد الّذي يوجب بطلان الآخر.

{أمّا الصغرى} وهي أنّ تقييد الهيئة مبطل لإطلاق المادّة دون العكس {فلأجل أنّه لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ حاجة وبيانٍ لإطلاق المادّة؛ لأنّها} أي: المادّة {لا محالة لا تنفكّ عن وجود قيد الهيئة} فإنّه يستحيل تقييد الهيئة وجوداً بدون تقييد المادّة، فإذا كان وجوب الحجّ بعد الاستطاعة كان ظرف فعل الحجّ بعدها قطعاً، وإلّا فلو أتى بالحجّ قبلها لم يأتبالواجب {بخلاف تقييد المادّة، فإنّ محلّ الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله} فلو كان الحجّ مقيّداً بكونه بعد الاستطاعة كان الوجوب مردّداً {فيمكن الحكم} من الشّارع {بالوجوب على تقدير وجود القيد} بأن لم يكن وجوب قبل الاستطاعة، فلا تجب المقدّمات ليكون من الواجب المشروط عند المشهور {وعدمه} بأن يكون وجوب قبل الاستطاعة فتجب

ص: 81

وأمّا الكبرى: فلأنّ التقييد وإن لم يكن مجازاً، إلّا أنّه خلاف الأصل، ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الإطلاق، وبين أن يعمل عملاً يشترك مع التقييد في الأثر، وبطلانِ العمل به.

___________________________________________

المقدّمات ويكون من الواجب المعلّق مثلاً.

{وأمّا الكبرى} وهي قوله: «وكلّما دار الأمر» الخ، وحاصلها أولويّة تقييد واحد حاصل من تقييد المادّة على تقييدين حاصلين من تقييد الهيئة {فلأنّ التقييد وإن لم يكن مجازاً} على مبنى المحقّقين، إذ اسم الجنس ونحوه موضوع للماهيّة اللّابشرط المقسمي، والتقييد والإرسال كلاهما بدال آخر على نحو تعدّد الدالّ والمدلول.

فإن قلت: إذا لم يكن التقييد مجازاً فلا مانع من تعدّده؟

قلت: إنّه وإن لم يكن مجازاً {إلّا أنّه خلاف الأصل}.

قال الشّيخ - على ما في التقريرات - : «إنّ نسبة المطلق إلى الدليل المقيّد نسبة الأصل إلى الدليل؛ لأنّه إذا كان الإطلاق مستنداً إلى مقدّمات الحكمة الّتي هي كون المتكلّم في مقام البيان وعدم القرينة على التقييد، فإذا ورد الدليل المقيّد فقد دلّ على انتفاء أحدهما، فيرتفع مقتضى الإطلاق من أصله لا أنّالدليل المقيّد من قبيل المعارض»(1) الخ.

{و} إن قلت: إنّ تقييد الهيئة لا يوجب تقييد المادّة، لعدم إطلاق سابق لها فتقييد الهيئة أيضاً موجب لتقييد واحد.

قلت: {لا فرق في الحقيقة} والواقع {بين تقييد الإطلاق} بعد انعقاده {وبين أن يعمل عملاً يشترك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل به} أي: بالإطلاق، والعمل المشترك مع التقييد هو تضييق الدائرة بحيث لا يبقى شمول وسريان، وما نحن فيه كذلك إذ تقييد الهيئة موجب لبطلان إطلاق المادّة فلا شمول لها ولا سريان، إذ لا تشمل المادّة حينئذٍ حال قبل وجود الشّرط، بخلاف تقييد المادّة، فإنّ الهيئة

ص: 82


1- كما هو المحكي في حقائق الأصول 1: 558.

وما ذكرناه من الوجهين موافقٌ لما أفاده بعض مقرّري بحث الأُستاذ العلّامة - أعلى اللّه مقامه(1) - .

وأنت خبير بما فيهما:

أمّا في الأوّل: فلأنّ مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليّاً بخلاف المادّة، إلّا أنّه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها؛ لأنّه أيضاً كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، غاية الأمر أنّها تارة تقتضي العموم الشّمولي،

___________________________________________

تشمل حال قبل وجود الشّرط.

{وما ذكرناه من الوجهين} المرجّحين لتقييد المادّة دون الهيئة {موافق لما أفاده بعض مقرّري بحثالأُستاذ العلّامة} الشّيخ المرتضى الأنصاري {أعلى اللّه مقامه} وعلى تقدير تماميّة الوجهين لا تصل النّوبة إلى الأصول العمليّة، كما تقدّم.

{و} لكن {أنت خبير بما فيهما، أمّا في الأوّل} أعني: كون إطلاق الهيئة شموليّاً وإطلاق المادّة بدليّاً {فلأنّ مفاد إطلاق الهيئة - وإن كان شموليّاً بخلاف المادّة -} كما تقدّم تقريره {إلّا أنّه} كون إطلاق الهيئة شموليّاً {لا يوجب ترجيحه} أي: ترجيح إطلاق الهيئة الشّمولي {على إطلاقها} أي: إطلاق المادّة البدلي {لأنّه} أي: عموم الشّمولي للهيئة {أيضاً} كالعموم البدلي للمادّة {كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة} لا بالوضع، فالإطلاقان متساويان لاستفادة كلّ واحد منهما من مقدّمات الحكمة فلا أقوائيّة لأحدهما على الآخر. نعم، لو كان إطلاق الهيئة بالوضع وإطلاق المادّة بمقدّمات الحكمة أمكن تقديم الأوّل على الثّاني.

{غاية الأمر} في الفرق بين هذين الإطلاقين المستفادين من المقدّمات {أنّها} أي: مقدّمات الحكمة {تاره تقتضي العموم الشّمولي} بحيث يشمل جميع

ص: 83


1- مطارح الأنظار 1: 251.

وأُخرى البدلي، كما ربّما تقتضي التعيين أحياناً، كما لا يخفى.

وترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل كون دلالته بالوضع، لا لكونه شموليّاً، بخلاف المطلق، فإنّه بالحكمة فيكون العام أظهر منه، فيقدّم عليه.

فلو فُرض أنّهما في ذلك على العكس

___________________________________________

الأفراد، مثل {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1)، فإنّ البيع مطلق، وحيث إنّه ورد في مقام الامتنان يستفاد منه حلية جميع أفراد البيع ما خلا المنصوص على حرمته، كالكالي بالكالي ونحوه {وأُخرى} تقتضي مقدّمات الحكمة العموم {البدلي} كغالب الطبائع الواقعة، فيحيّز الأمر نحو (أعتق رقبة) {كما} أنّ المقدّمات {ربّما تقتضي التعيين أحياناً} كما تقدّم في المبحث السّادس من أنّ إطلاق صيغة الأمر يقتضي الوجوب النّفسي التعييني العيني {كما لا يخفى}.

{و} إن قلت: إذا لم يرجّح الشّمولي على البدلي فلم نرى القوم يقدّمون العام على المطلق في ما إذا وقع التعارض بينهما، كما لو قال: (أكرم العلماء ولا تكرم الفاسق) فالعالم الفاسق الّذي هو مورد الاجتماع يلحق في الحكم بالعادل فيكرم، فتأمّل.

قلت: {ترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل كون دلالته} أي: العام {بالوضع، لا} أنّ التقديم {لكونه} أي: العام {شموليّاً بخلاف المطلق} الّذي هو بدلي.

والحاصل: أنّ المناط ليس الشّموليّة والبدليّة حتّى يتعدّى إلى ما نحن فيه، بل المناط كون أحدهما وضعيّاً والآخر بالمقدّمات {فإنّه بالحكمة} أي: إطلاق المطلق بمقدّمات الحكمة {فيكون العام أظهر منه فيقدَّم عليه. فلو فرض أنّهما} أي: العام والمطلق {في ذلك} أي: في الشّموليّة والبدليّة {على العكس} ممّا تقدّم

ص: 84


1- سورة البقرة، الآية: 275.

- فكان عامّ بالوضع دلّ على العموم البدلي، ومطلق بإطلاقه دلّعلى الشّمول - لكان العامّ يقدّم بلا كلام.

وأمّا في الثّاني: فلأنّ التقييد وإن كان خلافَ الأصل، إلّا أنّ العمل الّذي يوجب عدمَ جريان مقدّمات الحكمة، وانتفاء بعض مقدّماتها لا يكون على خلاف الأصل أصلاً؛ إذ معه لا يكون هناك إطلاق، كي يكون بطلانُ العمل به في الحقيقة مثل التقييد الّذي يكون على خلاف الأصل.

___________________________________________

{فكان عامّ بالوضع دلّ على العموم البدلي ومطلق بإطلاقه دلّ على} العموم و{الشّمول لكان العامّ يقدّم بلا كلام} فمن ذلك يتبيّن أنّ مناط التقدّم الوضع لا الشّمول.

ولكن لا يذهب عليك أنّ المناط في التقديم ليس هو الشّموليّة كما عن الشّيخ(رحمة الله)، ولا الوضعيّة كما ذهب إليه المصنّف(رحمة الله)، بل المناط هو الأظهريّة كما ذهب إليه بعض المحشّين(1).

{وأمّا الثّاني} من دليل الشّيخ {فلأنّ} ما ذكره من كون {التقييد} في الهيئة يوجب بطلان الإطلاق في المادّة وهو خلاف الأصل {وإن كان} تماماً لو كان هناك تقييد في المادّة لوضوح كون تقييد مطلق {خلاف الأصل إلّا} أنّ ما نحن فيه ليس من تقييد المطلق في شيء، بل تقييد الهيئة يوجب عدم انعقاد الإطلاق في المادّة، ومن المعلوم {أنّ العمل الّذي يوجب عدم جريان مقدّمات الحكمة وانتفاء بعض مقدّماتها} عطف بيان لقوله: «عدم جريان» الخ {لا يكون على خلاف الأصل أصلاً} فقول الشّيخ في بيان الكبرى:«ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الإطلاق وبين أن يعمل عملاً يشترك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل به» غير مستقيم {إذ معه} أي: مع انتفاء بعض مقدّمات الحكمة {لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به} أي: بالإطلاق {في الحقيقة} والواقع {مثل التقييد الّذي يكون على خلاف الأصل} فالقياس

ص: 85


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 533.

وبالجملة: لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلّا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدّمات الحكمة، ومع انتفاء المقدّمات لا يكاد ينعقد له هناك ظهور ليكون ذلك العمل - المشارك مع التقييد في الأثر، وبطلان العمل بإطلاق المطلق - مشاركاً معه في خلاف الأصل أيضاً.

وكأنّه توهّم: أنّ إطلاق المطلق كعموم العام ثابتٌ، ورفعَ اليد عن العمل به: تارة لأجل التقييد، وأُخرى بالعمل المبطل للعمل به.

___________________________________________

بينهما مع الفارق.

{وبالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلّا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدّمات الحكمة، و} من المعلوم أنّه {مع انتفاء المقدّمات} ولو بانتفاء بعضها {لا يكاد ينعقد له هناك ظهور} أصلاً {ليكون ذلك العمل} تفريع على «لا ينعقد».

والحاصل: أنّه حين لم ينعقد للمادّة ظهور في الإطلاق لم يكن ذلك العمل الّذي هو تقييد الهيئة الموجب لعدم إطلاق المادّة {المشارك مع التقييد} للمادّة {في الأثر} لعدم الفرق بين عدم انعقاد الإطلاقوبين التقييد {وبطلان العمل بإطلاق المطلق} عطف على «في الأثر» {مشاركاً} خبر «ليكون ذلك العمل» {معه} أي: مع التقييد {في خلاف الأصل أيضاً} كما هو مدّعى الشّيخ.

وفي بعض النّسخ - مكان قوله: «ليكون ذلك العمل» - : «كان ذلك العمل» والمراد واحد وإن كان لفظ «ليكون» أقرب إلى الصّواب.

{وكأنّه} أي: الشّيخ {توهّم أنّ إطلاق المطلق كعموم العام ثابت} على كلّ حال {ورفع اليد عن العمل به تارة لأجل التقييد} في ما انعقد الإطلاق {وأُخرى بالعمل المبطل للعمل به} أي: بالإطلاق في ما لم ينعقد الإطلاق - كما في ما نحن فيه - .

ص: 86

وهو فاسد؛ لأنّه لا يكون إطلاق إلّا في ما جرت هناك المقدّمات.

نعم، إذا كان التقييد بمنفصل، ودار الأمر بين الرّجوع إلى المادّة أو الهيئة، كان لهذا التوهّم مجال؛ حيث انعقد للمطلق إطلاق، وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة الحكمة، فتأمّل.

ومنها: تقسيمه إلى النّفسي والغيري.

وحيث كان طلبُ شيء وإيجابه لا يكاد يكون بلا داعٍ، فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكاد التوصّل بدونه إليه

___________________________________________

{وهو} أي: توهّم أنّ إطلاق المطلق كالعموم {فاسد} وذلك {لأنّه لا يكون إطلاق إلّا في ما جرت هناك المقدّمات} والمفروض عدم جريانها في المادّة بعد تقييد الهيئة.

{نعم} قد يكون إطلاق العموم كعموم العام، وذلك في ما {إذا كانالتقييد} للمطلق {بمنفصل ودار الأمر بين الرّجوع إلى المادّة} الموجب لتقييد واحد {أو الهيئة} الموجب لتقييدين {كان لهذا التوهّم} الّذي هو دوران الأمر بين تقييد غير مبطل لآخر وبين تقييد مبطل {مجال حيث انعقد للمطلق إطلاق} بالنسبة إلى الهيئة والمادّة معاً {وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة الحكمة} إذ لا فرق في الظهور بين كونه ناشئاً عن الوضع أو الإطلاق {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنَّ قولنا: «نعم» الخ غير صحيح، لعدم الفرق بين التّقييد بمنفصل وبين التّقييد بمتّصل.

[التقسيم الثّالث: تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري]
اشارة

{ومنها} أي: ومن تقسيمات الواجب {تقسيمه إلى} الواجب {النّفسي، و} إلى الواجب {الغيري، و} اللّازم ابتداءً تعريفهما ليعلم المراد منهما فنقول: {حيث كان طلب شيء وإيجابه لا يكاد يكون بلا داعٍ} إذا كان الطالب والموجب حكيماً {فإن كان الداعي فيه} أي: في الطلب والإيجاب {هو التوصّل به إلى واجب} متّصف بأنّه {لا يكاد التوصّل بدونه} أي: بدون هذا الواجب الأوّل {إليه} أي: إلى

ص: 87

- لتوقّفه عليه - ، فالواجب غيري،

وإلّا فهو نفسي، سواء كان الداعي محبوبيّة الواجب بنفسه، كالمعرفة باللّه، أو محبوبيّته بما له من فائدة مترتّبة عليه، كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليّات،

___________________________________________

الواجب الثّاني المذكور في العبارة صريحاً {لتوقّفه} أي: الواجب الثّاني {عليه} أي: على الواجب الأوّل {فالواجب} الموقوف عليه {غيري} لأنّه أمر به لغيره، بحيث لولا ذلك الغير لم يؤمر به - كالطهارات الثّلاث مثلاً - فإنّ الداعي في طلبها هو التوصّل بها إلى الصلاة ونحوها، فإنّه لا يكاد التوصّل بدون الطهارات إلى الصلاة لكونها متوقّفة على الطهارة - كما لا يخفى - .

{وإلّا} يكن الداعي من الإيجاب هو التوصّل به إلى الغير {فهو نفسي} لأنّه أمر به لنفسه سواء كان هناك شيء آخر أم لا، و{سواء كان الداعي} إلى إيجاب الواجب النّفسي {محبوبيّة الواجب بنفسه كالمعرفة باللّه} - سبحانه - فإنّها واجبة لذاتها، بل إليها يرجع خلق الكون وجعل التكليف، كما في الحديث القدسي المشتهر: «كنت كنزاً مخفيّاً، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف»(1)،

وإرجاعها إلى الشّكر ونحوه في غير محلّه {أو} كان الداعي {محبوبيّته بما له من فائدة مترتّبة عليه} بحيث لولا تلك الفائدة لم تجب {كأكثر الواجبات من العبادات} المشترطة بقصد القربة {و} من {التوصليّات} غير المشترطة بها، فإنّ لكلّ واحدٍ من العبادات والتوصليّات مصالح قد بيّن في الأخبار بعضها، كخطبة الصدّيقة الطاهرة وخبر الرّضا‘ وغيرهما ممّا هو مذكور في علل الشّرائع ونحوه. وإنّما قال: «كأكثر الواجبات» لأنّ غير الأكثر واجبات لكن مع كون محبوبيّته بنفسه - كما تقدّم - .

ص: 88


1- مشارق أنوار اليقين: 41.

هذا.

لكنّه لا يخفى: أنّ الداعي لو كان هو محبوبيّته كذلك - أي: بما له من الفائدة المترتّبة عليه - كان الواجب في الحقيقة واجباً غيريّاً؛ فإنّه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازماً لما دعا إلى إيجاب ذي الفائدة.

فإن قلت: نعم، وإن كان وجودها محبوباً لزوماً،

___________________________________________

{هذا} ما ذكره القوم في وجه تقسيم الواجب إلى النّفسي والغيري {لكنّه لا يخفى} ما فيه، إذ {أنّ} القسم الثّاني من الواجب النّفسي - وهو ما كان الداعي إلى إيجابه ما يترتّب عليه من الفائدة - مطابق للواجب الغيري؛ لأنّ {الداعي} من الواجب النّفسي {لو كان هو محبوبيّته كذلك - أي: بما له من الفائدة المترتّبة عليه - كان الواجب في الحقيقة واجباً غيريّاً} لا نفسيّاً، وينطبق على هذا المقسم تعريف الواجب الغيري {فإنّه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازماً لما دعا إلى إيجاب ذي الفائدة} ومنتهى الفرق بينهما أنّ الفائدة هنا لا يمكن للمكلّف الإتيان بها بخلاف الواجب الغيري، فإنّ ذيه مقدور للمكلّف.

والحاصل من إشكال المصنّف: أنّه يلزم أن يكون غالب الواجبات غيريّة على هذا التعريف.

{فإن قلت}: لا يلزم من هذا التعريف دخول الواجبات النّفسيّة في تعريف الواجب الغيري؛ لأنّا ذكرنا في تعريف الواجب الغيري أنّه ما كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى الواجب، ومن المعلوم أنّ الواجبات النّفسيّة ليست كذلك،إذ الخواصّ والآثار المترتّبة عليها ليست واجبات، لعدم دخولها تحت قدرة المكلّف، فلا يصدق على الواجب النّفسي أنّه بداعي التوصّل إلى الواجب.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: {نعم} الواجبات النّفسيّة وصلة إلى الفوائد وتلك الفوائد {وإن كان وجودها محبوباً لزوماً} بحيث كان الداعي إلى إيجاب

ص: 89

إلّا أنّه حيث كانت من الخواصّ المترتّبة على الأفعال الّتي ليست داخلة تحت قدرة المكلّف، لما كاد يتعلّق بها الإيجاب.

قلت: بل هي داخلة تحت القدرة؛ لدخول أسبابها تحتها، والقدرة على السّبب قدرةٌ على المسبّب، وهو واضح، وإلّا لما صحّ وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق إلى غير ذلك من المسبّبات، مورداً لحكم من الأحكام التكليفيّة.

___________________________________________

الواجب تحصيل تلك الفوائد {إلّا أنّه حيث كانت} تلك الفوائد {من الخواصّ المترتّبة على الأفعال الّتي} صفة خواصّ {ليست داخلة تحت قدرة المكلّف} فلا يتمكّن من الإتيان بها {لما كاد يتعلّق بها} أي: بتلك الخواصّ {الإيجاب} وإذا لم يتعلّق بها الإيجاب لم يكن الأفعال واجبات غيريّة، لعدم كون الداعي من إيجاب تلك الأفعال الوصلة إلى واجبٍ - كما ذكرنا - .

{قلت}: ما ذكرتم من أنّ الواجبات ليست غيريّة - لعدم دخول الخواصّ والفوائد تحت القدرة - غير مستقيم {بل هي} أي: الخواص {داخلة تحت القدرة لدخول أسبابها} الّتي هي الأفعال {تحتها، والقدرة على السّبب قدرة علىالمسبّب، وهو واضح} ولذا قالوا: «المقدور بالواسطة مقدور» {وإلّا} فلو لم يكن القدرة على السبب قدرة على المسبّب {لما صحّ وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق إلى غير ذلك من المسبّبات مورداً لحكم من الأحكام التكليفيّة} لعدم القدرة عليها ابتداءً، بل المقدور في التطهير إنّما هو الغسلات والمسحات وفي البواقي إجراء الألفاظ الخاصّة المشتملة على الشّرائط، فكما أنّ هذه الأُمور مورداً للأحكام التكليفيّة - لدخولها تحت القدرة بالواسطة - كذلك الآثار والخواصّ المترتّبة على الواجبات النّفسيّة واجبة، لدخولها تحت القدرة بالواسطة، وحيث كانت تلك الخواص واجبة صدق على الواجبات النّفسيّة تعريف الواجب الغيري؛ لأنّ الداعي فيها هو التوصّل إلى واجب.

ص: 90

فالأولى أن يقال: إنّ الأثر المترتّب عليه وإن كان لازماً، إلّا أنّ ذا الأثر لمّا كان معنوناً بعنوانٍ حسنٍ - يستقلّ العقل بمدح فاعله، بل وبذمّ تاركه - صار متعلّقاً للإيجاب بما هو كذلك، ولا ينافيه كونه مقدّمة لأمر مطلوبٍ واقعاً.

بخلاف الواجب الغيري؛ لتمحّض وجوبه في أنّه لكونه مقدّمةً لواجب نفسي، وهذا أيضاً لا ينافي أن يكون معنوناً بعنوان حسن في نفسه، إلّا أنّه لا دخل له في إيجابه الغيري.

___________________________________________

وحيث لم يتمّ إيراد «فإن قلت» على ما ذكرناه من الإشكال على تعريف الواجب النّفسي والغيري {فالأولى أن يقال} في دفع ما ذكرناه من الإشكال بقولنا: «لكنّه لا يخفى» الخ: {إنّ الأثر المترتّب عليه} أي: على الواجب النّفسي {وإن كان لازماً} في نظرالمولى بحيث يجب تحصيله {إلّا أنّ} الفعل {ذا الأثر لمّا كان} هو بنفسه مع قطع النّظر عن أثره {معنوناً بعنوانٍ حسنٍ} بحيث {يستقلّ العقل بمدح فاعله، بل وبذمّ تاركه} وإنّما أضرب ب- «بل» لأنّ استقلال العقل بالمدح أعمّ من الإيجاب {صار متعلّقاً للإيجاب بما هو كذلك} محبوب في نفسه {ولا ينافيه} أي: محبوبيّته النّفسيّة {كونه مقدّمة لأمر مطلوب واقعاً} وحينئذٍ يكون واجباً نفسيّاً وغيريّاً، وهذا {بخلاف الواجب الغيري لتمحّض وجوبه في أنّه لكونه مقدّمة لواجب نفسي، و} من المعلوم أنّ {هذا} الوجوب الغيري {أيضاً} كالوجوب النّفسي {لا ينافي أن يكون} هذا الواجب الغيري {معنوناً بعنوان حسن في نفسه إلّا أنّه} أي: ذلك العنوان الحسن {لا دخل له في إيجابه الغيري}.

والحاصل: أنّه يمكن أن يكون كلّ واحد من الواجبات النّفسيّة والواجبات الغيريّة مشتملة على جهتين:

الجهة الأُولى: محبوبيّتها النّفسيّة.

والجهة الثّانية: محبوبيّتها الغيريّة - أي: المقدّميّة - كالصلاة والطهارة.

وإنّما الفرق أنّ الواجب النّفسي كان وجوبه بملاحظة الجهة الأُولى، أي:

ص: 91

ولعلّه مراد من فسّرهما بما أمر به لنفسه، وما أمر به لأجل غيره(1).فلا يتوجّه عليه الاعتراض بأنّ جلّ الواجبات - لولا الكلّ - يلزم أن يكون من الواجبات الغيريّة؛ فإنّ المطلوب النّفسي قلّ ما يوجد في الأوامر، فإنّ جلّها مطلوبات لأجل الغايات الّتي هي خارجة عن حقيقتها، فتأمّل.

___________________________________________

محبوبيّته النّفسيّة، والواجب الغيري كان وجوبه بملاحظة الجهة الثّانية، أي: محبوبيّته الغيريّة.

{ولعلّه} أي: لعلّ ما ذكرنا من الفرق {مراد من فسّرهما بما أمر به لنفسه} في الواجب النّفسي {وما أمر به لأجل غيره} في الواجب الغيري {فلا يتوجّه عليه} أي: على هذا التعريف {الاعتراض} الّذي ذكره في التقريرات {بأنّ جلّ الواجبات لولا الكلّ يلزم أن يكون} على هذا التعريف {من الواجبات الغيريّة، فإنّ المطلوب النّفسي قلّ ما يوجد في الأوامر} كالمعرفة وقد أشكل في كونها مطلوباً لنفسها أيضاً {فإنّ جلّها} لولا الكلّ {مطلوبات لأجل الغايات الّتي هي خارجة عن حقيقتها}.

إن قلت: كيف يمكن اجتماع الوجوب النّفسي والغيري؟

قلت: لا يجتمعان بل لأحدهما ملاك وللآخر فعليّة، فالصلاة مثلاً واجب نفسي فعلاً وفيها ملاك الوجوب الغيري بالنسبة إلى المعراجيّة ونحوها، والطهارة واجب غيري فعلاً وفيها ملاك الوجوب النّفسي؛ لأنّها في حدّ نفسها معنونة بعنوان حسن.

ولكن لا يذهب عليك أنّ ما ذكره المصنّف من التقريب خلاف ظاهر القوم، مع أنّه لم يقم عليه دليل، مضافاً إلى المطالبة بوجه فعليّته النّفسيّة في بعض،وفعليّته الغيريّة في آخر مع فرض وجود الملاكين فيهما.

{فتأمّل} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ تفسير «ما أمر به لنفسه» و«ما أمر به

ص: 92


1- الفصول الغرويّة: 80.

ثمّ إنّه لا إشكال في ما إذا علم بأحد القسمين.

وأمّا إذا شكّ في واجبٍ أنّه نفسيّ أو غيريّ: فالتحقيق: أنّ الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمّها، إلّا أنّ إطلاقها يقتضي كونَه نفسيّاً؛ فإنّه لو كان شرطاً لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلّم الحكيم.

___________________________________________

لأجل غيره» بما ذكره المصنّف خلاف الظاهر - كما ذكرنا - بل ظاهره أنّ الوجوب كان بملاحظة تلك الغايات، وقد ذكر في وجهه أُمور أُخر.

{ثمّ} إنّ هذا كلّه في الفرق بين الواجب النّفسي والغيري في مقام الثّبوت و{إنّه لا إشكال في ما إذا علم بأحد القسمين} في مقام الإثبات من غير فرق بين أسباب العلم {وأمّا إذا شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيري} ولم يكن هناك مبيِّن قطعيّ ففيه أقوال:

الأوّل: - الظهور في الوجوب الغيري، وهو المنسوب إلى الشّهيدين والمحقّق الثّاني، واستدلّوا بكثرة الغيري، إذ ما من واجب نفسي إلّا وله مقدّمات.

الثّاني: - الظهور في الوجوب النّفسي، ثمّ اختلفوا، فقال بعضهم بالوضع، وآخر إلى أنّه بالانصراف، وثالث إلى أنّه بسبب إطلاق الهيئة، ورابع إلى أنّه بسبب إطلاق المادّة، وقد وقع الخلاف بين المصنّف وبين التقريرات في جواز التمسّك بإطلاق الهيئة لتعيين النّفسيّة والغيريّة {فالتحقيق} عند المصنّف {أنّ الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمّها} إذ المتبادر منها ليس إلّا الطلب الحتمي وهو مشترك بين ما كان لنفسه ولغيره {إلّاأنّ إطلاقها} في ما تمّت مقدّمات الحكمة {يقتضي كونه} أي: الواجب {نفسيّاً، فإنّه لو كان} الواجب {شرطاً} ومقدّمة {لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلّم الحكيم} الّذي هو بصدد البيان.

والحاصل: أنّ الواجب النّفسي خفيف المؤونة بالنسبة إلى الواجب الغيري، إذ في الغيري يلزم تقييد أحد الواجبين أمّا القيد بكونه قيداً أو المقيّد بكونه مقيّداً،

ص: 93

وأمّا ما قيل من: «أنّه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشّكّ المذكور، بعد كون مفادها الأفراد الّتي لا يعقل فيها التقييد. نعم، لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صحّ القول بالإطلاق. لكنّه بمراحل عن الواقع؛ إذ لا شكّ في اتّصاف الفعل بالمطلوبيّة بالطلب المستفاد من الأمر، ولا يعقل اتّصاف المطلوب بالمطلوبيّة بواسطة مفهوم الطلب؛ فإنّ الفعل يصير مراداً بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها، لا بواسطة مفهومها.

___________________________________________

وحيث لا يوجد ما يصلح لبيان التقييد لزم الأخذ بالإطلاق، وبهذا تبيّن إمكان التمسّك بالإطلاق لدفع الشّكّ.

{وأمّا ما قيل} والقائل التقريرات {من «أنّه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشّكّ المذكور} الواقع في كون الواجب نفسيّاً أو غيريّاً {بعد} ما ثبت من {كون مفادها الأفراد} يعني أنّ مفاد الهيئة أفراد الطلب الخارجيّة {الّتي لا يعقل فيها} الإطلاق و{التقييد} لما تقدّم من أنّ وضع الهيئة كوضع الحروف، فلا يقبل الإطلاق والتقييد {نعم،لو كان مفاد} هيئة {الأمر هو مفهوم الطلب} الكلّيّ الّذي هو معنى اسمي {صحّ القول بالإطلاق} إذ هو كلّيّ قابل للإطلاق والتقييد {لكنّه} أي: كون مفاد الأمر هو الطلب {بمراحل} كثيرة {عن الواقع}.

وعلّل كونه بعيداً بمراحل من الواقع بقوله: {إذ لا شكّ في اتصاف الفعل}

الّذي هو مادّة الأمر - ك- (الضّرب) مثلاً - {بالمطلوبيّة بالطلب المستفاد من} هيئة {الأمر} إذ هيئة الأمر تنصب على مادّته وتتعلّق بها وذلك يفيد مطلوبيّة المادّة.

{و} إذا ثبت هذا فنقول: الطلب المنصب على الفعل يدور أمره بين أن يكون مفهوم الطلب الّذي له إطلاق وبين أن يكون خارج الطلب الّذي لا إطلاق له لكن يتعيّن الثّاني، إذ {لا يعقل اتصاف} الفعل {المطلوب بالمطلوبيّة بواسطة مفهوم الطلب، فإنّ} - وجه لا يعقل - {الفعل يصير مراداً بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها} المنقدحة في النّفس الّتي لا يقبل الإطلاق والتقييد {لا بواسطة مفهومها}

ص: 94

وذلك واضح لا يعتريه ريب»(1).

ففيه: أنّ مفاد الهيئة - كما مرّت الإشارة إليه - ليس الأفراد، بل هو مفهوم الطلب - كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف - ، ولا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي، والّذي يكون بالحمل الشّائع طلباً،

___________________________________________

الّذي يقبلهما {وذلك واضح لا يعتريه ريب»} بشهادة الوجدان.

وتوضيح كلام التقريرات - بلفظ السّيّد الحكيم - : «أنّ الفعل المأمور به يتّصف بكونه مطلوباً بالطلب الّذي هو مدلول الأمر، والمطلوب بمعنى ما تعلّق به الطلب والمتعلّق بالفعل من الطلب هو الطلب الخارجي لا المفهوم، فيدلّ على أنّه مدلول الأمر لا المفهوم»(2)،

انتهى.

وبعبارة أُخرى لا إطلاق للهيئة، إذ الهيئة تفيد الطلب الشّخصي غير القابل للإطلاق والتقييد ولا تفيد الطلب المفهومي القابل لهما.

{ففيه} جواب قوله: «وأمّا ما قيل» وحاصل الجواب - بلفظ العلّامة المشكيني - : «أنّ مفاد الحروف كلّيّ ومنها هيئة الأمر، وعلى تقدير تسليم الجزئيّة في سائر الحروف فلا بدّ أن يكون كليّاً فيها؛ لأنّه لا إشكال في ورود الإنشاء عليه وهو لا يتعلّق إلّا بالمفاهيم»(3)،

إذ {أنّ مفاد الهيئة - كما مرّت الإشارة إليه - ليس الأفراد} الخارجي للطلب حتّى لا يقبل الإطلاق والتقييد {بل هو} أي: مفاد الهيئة {مفهوم الطلب} الكلّي {كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف} وذلك كلّيّ يقبلهما.

{و} على تقدير تسليم الجزئيّة في سائر الحروف فلا بدّ أن يكون الهيئة كليّاً، إذ {لا يكاد يكون} مفاد الهيئة {فرد الطلب الحقيقي، والّذي يكون بالحمل الشّائع طلباً}

ص: 95


1- مطارح الأنظار 1: 333.
2- حقائق الأصول 1: 260.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 544.

وإلّا لما صحّ إنشاؤه بها؛ ضرورةَ أنّه من الصفات الخارجيّة النّاشئة من الأسباب الخاصّة. نعم، ربّما يكون هو السّبب لإنشائه، كمايكون غيره أحياناً.

واتّصاف الفعل بالمطلوبيّة الواقعيّة والإرادة الحقيقيّة - الداعيةِ إلى إيقاع طلبه، وإنشاء إرادته بعثاً نحو مطلوبه الحقيقي، وتحريكاً إلى مراده الواقعي - لا ينافي اتصافه بالطلب الإنشائي أيضاً.

___________________________________________

عطف بيان لقوله: «فرد الطلب» الخ {وإلّا} فلو كان مفاد الهيئة فرد الطلب {لما صحّ إنشاؤه} أي: إنشاء هذا المفاد {بها} أي: بالهيئة {ضرورة أنّه} أي: فرد الطلب {من الصفات الخارجيّة النّاشئة من الأسباب} الخارجيّة المحتاجة إلى التكوين {الخاصّة} كسائر الصفات الخارجيّة، وحيث لا يعقل أن يكون مفاد الهيئة هو الطلب الخارجي - كما يقوله الشّيخ - فلا بدّ أن يكون مفادها هو الطلب المفهومي القابل للإطلاق والتقييد.

{نعم} قد يكون مناسبة بين الطلب المفهومي والطلب الخارجي، إذ {ربّما يكون هو} أي: الطلب الحقيقي القائم بالنفس خارجاً {السّبب لإنشائه} أي: إنشاء مفهوم الطلب {كما يكون} السّبب لإنشاء مفهوم الطلب {غيره} أي: غير الطلب الحقيقي كالتهديد والامتحان {أحياناً، و} أمّا ما استدلّ به الشّيخ لكون مفاد الأمر ليس هو مفهوم الطلب بقوله: «إذ لا شكّ في اتصاف» الخ. ففيه أنّ ما ذكره الشّيخ من أنّ اتصاف الفعل بالمطلوبيّة إنّما يكون بواسطة تعلّق الطلب الخارجي ليس إلّا، غيرُ مستقيمٍ، إذ {اتصاف الفعل بالمطلوبيّة الواقعيّة والإرادة الحقيقيّة} الخارجيّة - {الداعية إلى إيقاع طلبه} أي: طلب الفعل الإنشائي {و} الداعية إلى {إنشاء إرادته بعثاً} أي: لأجل بعث العبد{نحو مطلوبه الحقيقي وتحريكاً إلى مراده الواقعي - لا ينافي} ما ذكرنا من {اتصافه} أي: الفعل {بالطلب} المفهومي الكلّي {الإنشائي أيضاً} فحصر الشّيخ المطلوبيّة بما يكون الطلب فيه

ص: 96

والوجودُ الإنشائي لكلّ شيء ليس إلّا قصد حصول مفهومه بلفظه، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن، بل كان إنشاؤه بسبب آخر.

ولعلّ منشأ الخلط والاشتباه: تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق، فتوهّم منه أنّ مفاد الصيغة يكون طلباً حقيقيّاً، يصدق عليه الطلب بالحمل الشّائع.

___________________________________________

خارجيّاً فقط غير صحيح، إذ الفعل متصف بالمطلوبيّة الخارجيّة والمطلوبيّة الإنشائيّة الّتي هي معنى الأمر. وقوله: «لا ينافي» خبر لقوله: «واتصاف الفعل».

{و} إن قلت: كيف يجتمع الطلبان الحقيقي والإنشائي؟ قلت: {الوجود الإنشائي لكلّ شيء} سهل المؤونة، إذ {ليس} هو {إلّا قصد حصول مفهومه بلفظه} سواء {كان هناك طلب حقيقي} كما في موارد الجد {أو لم يكن، بل كان إنشاؤه بسبب آخر} كالتهديد أو الامتحان.

والحاصل: أنّ بين الطلبين عموماً من وجه، فيجتمعان في إنشاء الطلب بقصد الجدّ ويفترق الإنشائي عن الحقيقي في إنشاء الطلب بقصد الامتحان ويفترق الحقيقي عن الإنشائي في ما أحرز الإرادة من غير إنشاء {ولعلّ منشأ الخلط والاشتباه} من التقريرات المدّعي لحصر اتصاف المطلوببالطلب الحقيقي هو {تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق} من غير تقييد بالإنشائي، فإنّهم يقولون: «صيغة الأمر تفيد الطلب» وحيث إنّ الطلب منصرف إلى الطلب الخارجي {فتوهّم منه} أي: من هذا التعارف بضميمة ذلك الانصراف {أنّ مفاد الصيغة} هو الطلب الخارجي الّذي {يكون طلباً حقيقيّاً يصدق عليه الطلب بالحمل الشّائع}.

وصورة القياس أنّ مفاد الصيغة هو الطلب، والطلب - حين يذكر بدون تقييد - هو الخارجي، فينتج أنّ مفاد الصيغة هو الخارجي.

ص: 97

ولعمري إنّه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق، فالطلب الحقيقي إذا لم يكن قابلاً للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة قابلاً له، وإنّ تعارف تسميته بالطلب أيضاً، وعدم تقييده بالإنشائي لوضوح إرادة خصوصه، وأنّ الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها، كما لا يخفى.

___________________________________________

{ولعمري إنّه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق} إذ الطلب الحقيقي من مصاديق مفهوم الطلب، والشّيخ(رحمة الله) أجرى حكم مصداق الطلب - الّذي هو عدم إمكان تقييده - على مفهوم الطلب - الّذي هو مفاد الأمر - مع أنّ المفهوم ليس محكوماً بحكم المصداق.

أو قل: إنّ ما هو مفهوم الطلب حكم عليه بأنّه مصداق الطلب {فالطلب الحقيقي إذا لم يكن قابلاً للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة} الّذي هو مفهوم الطلب {قابلاً له} أي: للتقييد، إذ لا تلازم بين عدم إمكان التقييد فيالحقيقي وبين عدم إمكان التقييد في المفهومي.

والحاصل: أنّه لا تلازم بين حكميهما {وإنّ تعارف تسميته} أي: المفهومي {بالطلب أيضاً} كما تعارف تسمية الحقيقي بالطلب، فوحدة الاسم لا تلازم وحدة الحكم {وعدم تقييده بالإنشائي} فلا يقال: مفاد صيغة الأمر الطلب الإنشائي، وقوله: «وعدم تقييده» بالرفع عطف على «تسميته»، ويمكن أن يكون مبتدأ خبره قوله: «لوضوح» الخ.

ثمّ بيّن المصنّف(رحمة الله) وجه عدم تقييد الطلب بالإنشائي بقوله: {لوضوح إرادة خصوصه} أي: خصوص الطلب الإنشائي من الطلب المطلق في قولهم: «مفاد الصيغة هو الطلب» {و} وجه الوضوح هو {أنّ الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها} أي: بالصيغة {كما لا يخفى} إذ الأمر التكويني المتوقّف على أسبابه الخاصّ لا يعقل إنشاؤه.

ص: 98

فانقدح بذلك: صحّة تقييد مفاد الصيغة بالشرط، - كما مرّ هاهنا بعض الكلام - وقد تقدّم في مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما يجدي في المقام.

هذا إذا كان هناك إطلاق، وأمّا إذا لم يكن، فلا بدّ من الإتيان به في ما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطاً له فعليّاً؛

___________________________________________

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من كون مفاد الصيغة قابلاً للإطلاق والتقييد {صحّة تقييد مفاد الصيغة بالشرط} بأن يقول: إنّ هذا الواجب غيري ومقدّمة لذلك الواجب، وحيث أمكن التقييد فلو لم يقيّد في مقام البيان تبيّن من الإطلاق أنّ الواجب نفسيّ لا غيري {كما مرّهاهنا بعض الكلام} في كون مفاد الهيئة قابلاً للإطلاق والتقييد، {وقد تقدّم في مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما يجدي في المقام} حيث بيّنّا هناك عند بيان معنى الحمل أنّ معنى هيئة الأمر هو مفهوم الطلب الإنشائي، لا الطلب الحقيقي، كما يقوله الشّيخ(رحمة الله).

هذا، وقد رأيت في بعض الحواشي إرجاع قوله: «فانقدح» إلى الواجب المشروط، وفي آخَرَ جعل - «هنا» - إشارة إليه، وفي كليهما نظرٌ، فتبصّر.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرنا من التمسّك بالإطلاق حين الشّكّ في النّفسيّة والغيريّة إنّما يتمّ فيهما {إذا كان هناك إطلاق} بأن تمّت مقدّمات الحكمة {وأمّا إذا لم يكن} إطلاق ولو بفقد بعض المقدّمات، فالأمر يدور بين اثنين.

مثلاً: لو علم بوجوب الطهارة وشكّ في كونها واجبة لأجل الصلاة حتّى يكون غيريّاً وفي كونها واجبة مستقلّة حتّى تكون نفسيّاً، فحينئذٍ إمّا أن يعلم وجوب الصلاة أو لا {فلا بدّ من الإتيان به} أي: بهذا الواجب الّذي هو الطهارة في المثال {في ما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطاً له فعليّاً} وهي الصورة الأُولى، أي: ما علم وجوب الصلاة، ومصداق «ما» في العبارة ذو المقدّمة كالصلاة في المثال، وهو مرجع ضمير «له» ومرجع ضمير «كونه» الواجب المردّد بين كونه

ص: 99

للعلم بوجوبه فعلاً، وإن لم يعلم جهة وجوبه، وإلّا فلا؛ لصيرورة الشّكّ فيه بدويّاً، كما لا يخفى.

تذنيبان:

الأوّل: لا ريب في استحقاق الثّواب علىامتثال الأمر النّفسي وموافقته، واستحقاق العقاب على عصيانه

___________________________________________

نفسيّاً وغيريّاً، كالطهارة في المثال.

وإنّما قلنا بوجوب الطهارة في صورة العلم بوجوب الصلاة {للعلم بوجوبه} أي: بوجوب هذا الواجب، أي: الطهارة {فعلاً} لأنّها سواء كانت نفسيّة أو غيريّة فقد وجبت {وإن لم يعلم جهة وجوبه، وإلّا} فإن لم يكن التكليف بما احتمل كون الطهارة شرطاً له فعليّاً، كما لو علم بعدم وجوب الصلاة أو شكّ في وجوبها {فلا} يلزم الإتيان بالطهارة {لصيرورة الشّكّ فيه بدويّاً - كما لا يخفى -} لعدم وجوب الطهارة على تقدير كونها غيريّاً في صورة عدم وجوب الصلاة أو الشّكّ في وجوب الصلاة الّذي هو مجرى البراءة أيضاً. ولكن لا يخفى أنّ إجراء البراءة إنّما يكون في ما إذا لم يكن هناك علم إجمالي من الخارج.

[تذنيبان]

{تذنيبان} من توابع النّفسي والغيري، التذنيب {الأوّل}: في بيان الثّواب والعقاب على الأمر النّفسي، وبيان حال الغيري فنقول: {لا ريب في استحقاق الثّواب على امتثال الأمر النّفسي وموافقته} وإن أشكل فيه بأنّ الأوامر لتنظيم أُمور المأمور كأوامر الطبيب بالنسبة إلى المريض، فالأمر يستحقّ أجراً لا المأمور، مضافاً إلى أنّ العبد يلزم بحكم العقل أن يصرف جميع شؤونه في جهة مولاه، فالثواب تفضّل محض، وفي الكلام بسط ليس المقام محلّ إيراده والمتكفّل له كتب الكلام المبسوطة.

{و} لا ريب في {استحقاق العقاب على عصيانه} أي: عصيان الأمر النّفسي

ص: 100

ومخالفته عقلاً.

وأمّا استحقاقهما على امتثال الغيري ومخالفته ففيه إشكالٌ، وإن كان التّحقيق عدمَ الاستحقاق على موافقته ومخالفته بما هو موافقة ومخالفة؛ ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلّا لعقابٍ واحدٍ، أو لثوابٍ كذلك، في ما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدّماته على كثرتها، أو وافقه وأتى به بما له من المقدّمات.

نعم، لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدّمة، و

___________________________________________

{ومخالفته عقلاً} وشرعاً بلا خلاف من المحقّقين وإن خالف بعض الصوفيّة موضوعاً وحكماً، لكنّه على خلاف ضرورة العقل والشّرع {وأمّا استحقاقهما} أي: الثّواب أو العقاب {على امتثال} الأمر {الغيري ومخالفته ففيه إشكال} بل أقوال: [1] فقال قوم بالاستحقاق مطلقاً، [2] وقال آخرون بعدمه مطلقاً، [3] وفصّل ثالث فوافق الأوّل في العقاب والثّاني في الثّواب {وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق} مطلقاً، لا {على موافقته و} لا على {مخالفته بما هو موافقة ومخالفة} للأمر الغيري في قبال الأمر النّفسي، وإلّا فيمكن العقاب لأداء تركه إلى ترك النّفسي والثّواب لصيرورة النّفسي أصعب من باب أفضل الأعمال أحمزها.

وإنّما قلنا بعدم استحقاق الثّواب والعقاب {ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلّا لعقاب واحد أو لثواب كذلك} واحد {في ما خالف الواجب} النّفسي {ولم يأت بواحدة من مقدّماته على كثرتها} هذا مربوط بقوله: «إلّا لعقاب واحد» {أو وافقه} أي: الواجبالنّفسي {وأتى به بما له من المقدّمات} هذا مربوط بقوله: «أو لثواب كذلك». ومن الواضح أنّ هذا الثّواب الواحد من جهة أصل الواجب، وكذلك العقاب الواحد من جهة أصل تركه.

{نعم، لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة} للواجب النّفسي {عند ترك المقدّمة} لكن العقاب عند ترك الغيري لا على ترك الغيري {و} كذلك لا بأس

ص: 101

بزيادة المثوبة على الموافقة في ما لو أتى بالمقدّمات بما هي مقدّمات له، من باب أنّه يصير حينئذٍ من أفضل الأعمال، حيث صار أشقّها. وعليه يُنزّل ما ورد في الأخبار من الثّواب على المقدّمات(1)، أو على التفضّل، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

{بزيادة المثوبة على الموافقة} للواجب النّفسي {في ما لو أتى بالمقدّمات} لكن كان إتيانه بالمقدّمات {بما هي مقدّمات له} لا في ما إذا أتى بها لا بقصد الواجب، فإنّه لا يزداد الثّواب في صورة عدم القصد، والوجه في زيادة ثواب الواجب حينما أتى بالمقدّمات بقصده {من باب أنّه يصير} الواجب {حينئذٍ} أي: حين أتى بالمقدّمات مع القصد {من أفضل الأعمال، حيث صار} بسبب المقدّمات {أشقّها، وعليه} أي: على كون الثّواب على الواجب بسبب المشقّة {ينزّل ما ورد في الأخبار من الثّواب على المقدّمات} كما ورد في زيارة الحسين(علیه السلام) من أنّ لكلّ قدم كذا، وما ورد في الحجّ، وصلة الرّحمونحوها {أو} ينزّل {على التفضّل} لا على الاستحقاق، بل لا بدّ من التنزيل على التفضّل في ما لو لم يوفّق للواجب، كما سُئل عن الإمام(علیه السلام) في من سافر إلى الحجّ في طريق البحر وإنّه قد يغرق؟ قال(علیه السلام): «لا بأس يكفأ في الجنّة»(2)، ونحوه غيره من بعض أخبار زيارة الحسين(3)، في ما ذكره تأمّل {فتأمّل جيّداً} وراجع ما ذكره الأعلام في هذا المقام.

ص: 102


1- وسائل الشيعة 14: 380.
2- لم أعثر على الرواية، ولكن ورد عن أبي عبد اللّه× : «ضمان الحاج والمعتمر على اللّه إن أبقاه بلغه أهله، وإن أماته أدخله الجنة»، و«الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة، اللازم لهما في ضمان اللّه، إن أبقاه أداه إلى عياله، وإن أماته أدخله الجنة». الكافي 4: 253-255.
3- عن عبد اللّه بن النجار قال: قال لي أبو عبد اللّه×: «تزورون الحسين× وتركبون السفن؟» فقلت: نعم، قال: «أما علمت أنها إذا انكفت بكم نوديتم ألا طبتم وطابت لكم الجنة». كامل الزيارات: 135.

وذلك لبداهة أنّ موافقة الأمر الغيري - بما هو أمر، لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النّفسي - لا يوجب قرباً، ولا مخالفته - بما هو كذلك - بُعداً، والمثوبة والعقوبة إنّما تكونان من تبعات القرب والبعد.

___________________________________________

{وذلك} تعليل لوجوب التّنزيل وإعادة لما سبق من ضروريّة استقلال العقل {لبداهة أنّ موافقة الأمر الغيري بما هو أمر} غيري في قبال النّفسي {لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النّفسي لا يوجب قرباً} لعدم محبوبيّته في نفسه والمقرِّب إنّما هو من توابعها {و} كذلك {لا} يوجب {مخالفته بما هو كذلك} أمر غيري {بُعداً} لعدم مبغوضيّته في نفسه والبعدإنّما هو من توابعها {والمثوبة والعقوبة إنّما تكونان من تبعات القرب والبُعد} التابعين للحبّ والبغض، فمن أحبّ شيئاً أدناه ومن أبغض شيئاً أقصاه.

والّذي أظنّ في المقام التفصيل بين ما ورد في الآيات والأخبار من ثواب أو عقاب على المقدّمات، مثل قوله - تعالى - : {مَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ}(1)، وقوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا يُصِيبُهُمۡ ظَمَأٞ وَلَا نَصَبٞ وَلَا مَخۡمَصَةٞ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَُٔونَ مَوۡطِئٗا يَغِيظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّٖ نَّيۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٞ صَٰلِحٌۚ}(2) الخ، وكذلك الرّوايات الواردة من هذا القبيل. وفي طرف العقاب ما ورد من لعن غارس شجر الخمر الخ ونحوه، فاللّازم القول بكون الثّواب والعقاب فيها كالثواب والعقاب على سائر الواجبات والمحرّمات النّفسيّة طابق النّعل بالنّعل لعدم الداعي للتّنزيل، ولا فارق بين المقامين أصلاً وبين ما لم يرد فيه من الشّرع شيء، ففيه توقّف وتردّد، واللّه - تعالى - هو العالم.

ص: 103


1- سورة النّساء، الآية: 100.
2- سورة التوبة، الآية: 120.

إشكالٌ ودفع:

أمّا الأوّل: فهو أنّه إذا كان الأمر الغيري - بما هو - لا إطاعة له، ولا قُرب في موافقته، ولا مثوبة على امتثاله، فكيف حال بعض المقدّمات، كالطهارات، حيث لا شبهة في حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها؟ هذا.

مضافاً إلى أنّ الأمر الغيري لا شبهة في كونه توصليّاً، وقد اعتبرفي صحّتها إتيانها بقصد القربة.

وأمّا الثّاني: فالتحقيق أن يقال: إنّ المقدّمة فيها بنفسها مستحبّة وعبادة، وغايتها

___________________________________________

[إشكالٌ ودفع]

{إشكال ودفع} من تتمّة التذنيب الأوّل {أمّا الأوّل} أي: الإشكال {فهو أنّه إذا كان الأمر الغيري بما هو} أمر غيري {لا إطاعة له ولا قرب في موافقته ولا مثوبة على امتثاله} كما ذهبتم إليه {فكيف حال بعض المقدّمات كالطهارات} الثّلاث {حيث لا شبهة} بالإجماع والضّرورة والأخبار {في حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها؟} مع عدم الشّكّ في كونها واجبات غيريّة {هذا مضافاً إلى} أنّه يرد إشكال آخر بالنسبة إلى الطهارات الثّلاث، وهو {أنّ الأمر الغيري لا شبهة في كونه توصليّاً} والتوصّلي - كما تقدّم - لا يعتبر فيه قصد القربة {وقد اعتبر في صحّتها إتيانها بقصد القربة} والحاصل: أنّه كيف يجمع بين حصول القرب واشتراط قصد القربة وبين التوصليّة والغيريّة في الطهارات الثّلاث من الغسل والوضوء والتيمّم؟

{وأمّا الثّاني} أي: الدفع {فالتحقيق} في الجواب عن الإشكالين {أن يقال: إنّ المقدّمة فيها} أي: في الطهارات الثّلاث {بنفسها مستحبّة وعبادة} لكونها معنونة بعنوانات حسنة في حدّ نفسها {وغايتها} أي: منتهى الكلام في مقدّميّتها أنّها

ص: 104

إنّما تكون متوقّفة على إحدى هذه العبادات، فلا بدّ أن يؤتى بهاعبادةً، وإلّا فلم يؤت بما هو مقدّمة لها. فقصد القربة فيها إنّما هو لأجل كونها في نفسها أُموراً عباديّة ومستحبّات نفسيّة، لا لكونها مطلوبات غيريّة.

والاكتفاء بقصد أمرها الغيري، فإنّما هو لأجل أنّه

___________________________________________

{إنّما تكون متوقّفة} خبر «تكون» {على إحدى هذه} الطهارات {العبادات} اسم «تكون» فالقربة والمثوبة ليستا بسبب موافقة الأمر الغيري، بل هما لأجل أنّها مستحبّات شرعيّة فهي عبادات نفسيّة استحبابيّة ومقدّمات غيريّة، وجوبيّة، ولذا اجتمع فيها خاصيّة العبادة وخاصيّة المقدّميّة.

والحاصل: أنّ الأمر المقدّمي قد تعلّق في المقام بما هي عبادة في نفسها {فلا بدّ أن يؤتى بها} أي: بالطهارات {عبادة} حتّى يكون آتياً بالمقدّمة، فيتمكّن من التوصّل إلى ذيها {وإلّا} يأت بها عبادة {فلم يؤت بما هو مقدّمة لها} أي: لتلك العبادات النّفسيّة، كالصّلاة والطّواف {فقصد القربة فيها إنّما هو لأجل كونها في نفسها أُموراً عباديّة ومستحبّات نفسيّة، لا لكونها مطلوبات غيريّة} حتّى يرد أنّه كيف يجتمع الغيريّة وقصد القربة؟

{و} إن قلت: ما ذكرتم من الجواب غير كافٍ، لما ذكر في التقريرات من أنّ هذا لا يدفع الإشكال، إذ لا أقلّ من أن يكون اللّازم على ذلك التقدير هو القصد إلى الطلب النّفسي ولو في ضمن الطلب الوجوبي، والمعلوم من طريقة الفقهاء هو القول بترتّب الثّواب على الطهارات، وإن انحصر الداعي إلى إيجادها في الأمر المقدّمي على وجه لو لم يعلم باستحبابها النّفسي أيضاً يكون كافياً في ذلك.

والحاصل: أنّه لو كان بهذه الطهارات أمر نفسي بحيث كان هو الموجبلعباديّتها، فكيف يجوز الاكتفاء بقصد الأمر الغيري؟

قلت: {الاكتفاء بقصد أم-رها الغيري فإنّما ه-و لأجل أنّه} أي: الأم-ر الغيري

ص: 105

يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه، لا حيث إنّه لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدّمة، فافهم.

وقد تُفُصِّيَ عن الإشكال بوجهين آخرين:

أحدهما: ما ملخّصه: أنّ الحركات الخاصّة ربّما لا تكون محصّلة لما هو المقصود منها، من العنوان

___________________________________________

{يدعو إلى ما هو كذلك} أي: عبادة {في نفسه} فالأمر الغيري يقول: (ائت بالعبادة) فلو قصد الأمر الغيري كان قاصداً لما هو مقدّمة وهي العبادة، فقصد الغيريّة متضمّن لقصد العباديّة {لا حيث إنّه} أي: الأمر الغيري {لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدّمة} والحاصل أنّ الاكتفاء لأجل كونه طريقاً إلى قصد العباديّة {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ ما ذكرتم في الدفع من كون الطهارات الثّلاث بنفسها مستحبّة غيرُ مستقيمٍ، إذ لا استحباب للتيمّم نفسيّاً.

{وقد تُفُصِّيَ عن} هذا {الإشكال بوجهين آخرين} ذكرهما في التقريرات(1).

{أحدهما ما ملخّصه: أنّ الحركات الخاصّة} الّتي هي مقدّمة للواجب على قسمين:

الأوّل: ما يكون بذاتها مقدّمة من غير احتياج إلى قصد أصلاً، كالذَّهَاب الّذي هو مقدّمة للحجّ، فإنّه لا يحتاج إلى قصد أصلاً، بل إن حصل الذَّهاب ولو بلااختيار، أو في حال الإغماء حصلت المقدّمة.

الثّاني: ما يحتاج في كونها مقدّمة إلى قصد عنوان خاص، بحيث إنّه لولا القصد لم تحصل المقدّمة.

ثمّ إنّ هذا القسم على نحوين: فقد يكون ذلك العنوان الّذي يلزم قصده معلوماً للمكلّف فيقصده بعنوانه التفصيلي، و{ربّما} لا يكون معلوماً بعنوانه التفصيلي فيلزم الإشارة إلى عنوانه إجمالاً حتّى يكون مقدّمة، والمدّعى أنّ الطّهارات من هذا القبيل فإنّ هذه الحركات {لا تكون محصّلة لما هو المقصود منها من العنوان}

ص: 106


1- مطارح الأنظار 1: 348.

الّذي يكون بهذا العنوان مقدّمة وموقوفاً عليها، فلا بدّ في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها؛ لكونه لا يدعو إلّا إلى ما هو الموقوف عليه، فيكون عنواناً إجماليّاً ومرآةً لها، فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لأمرها، ليس لأجل أنّ أمرها المقدّمي يقضي بالإتيان كذلك، بل إنّما كان لأجل إحراز نفس العنوان، الّذي تكون بذاك العنوان موقوفاً عليها.

وفيه - مضافاً إلى أنّ ذلك لا يقتضي الإتيان بها كذلك؛

___________________________________________

بيان «ما» أي: لا تكون بذاتها محصّلة للعنوان {الّذي يكون بهذا العنوان مقدّمة} للواجب {وموقوفاً عليها} وإنّما نقول بذلك لأنّها لو كانت بذاتها مقدّمة لم يحتج إلى القصد أصلاً، وعلى هذا {فلا بدّ في إتيانها} أي: إتيان تلك الحركات {بذاك العنوان} حتّى يكون مقدّمة {من قصد أمرها} وإنّما اشترطنا قصد الأمر {لكونه} أي: الأمر {لا يدعو إلّا إلى ما هو الموقوف عليه} إذ الأمر إنّما يتوجّه إلى المقدّمة، فقصد الأمر عبارةأُخرى عن قصد المقدّمة {فيكون} هذا القصد {عنواناً إجماليّاً ومرآةً لها} أي: للمقدّمة {فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لأمرها} المقدّمي {ليس لأجل أنّ أمرها المقدّمي يقضي بالإتيان كذلك} أي: بقصد الأمر حتّى يقال: إنّ الأمر الغيري كيف يجتمع مع العباديّة؟ كما سبق في الإشكال {بل إنّما كان} إتيان الطهارات عبادة وبقصد الأمر {لأجل إحراز نفس العنوان} الواقعي المجهول {الّذي تكون} تلك الحركات {بذاك العنوان موقوفاً عليها} ومقدّمة للواجب.

{وفيه مضافاً إلى} أنّه لو كان قصد الأمر لأجل إحراز العنوان الّذي به تكون الحركات مقدّمة يلزم كفاية قصد الإتيان بالعنوان الواجب بالوجوب الغيري، وإن كان الباعث له على فعله غير الأمر الشّرعي فلا يكون عبادة، مع أنّه لا إشكال في وجوب الإتيان بالطهارات بعنوان العبادة، إذ {أنّ ذلك} الجواب الّذي ذكره الشّيخ(رحمة الله) {لا يقتضي الإتيان بها كذلك} أي: الإتيان بالحركات، بقصد الأمر

ص: 107

لإمكان الإِشارة إلى عناوينها الّتي تكون بتلك العناوين موقوفاً عليها بنحو آخر، ولو بقصد أمرها وصفاً، لا غايةً وداعياً، بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأموراً بها شيئاً آخر غيرَ أمرها - ؛ أنّه غيرُ وافٍ بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها، كما لا يخفى.

وثانيهما: ما محصّله: أنّ لزوم وقوع الطهارات عبادة، إنّما يكون لأجل أنّ الغرض من الأمر النّفسي بغاياتها كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرّب بموافقته،

___________________________________________

{لإمكان الإشارة إلى عناوينها} أي: عناوين تلك الحركات {الّتي تكون بتلك العناوين موقوفاً عليها بنحو آخر} متعلّق ب-«الإشارة».

{ولو بقصد أمرها وصفاً} بأن ينوي الإتيان بما هو المأمور به بالأمر الغيري بأيّ عنوان كان {لا غايةً وداعياً} بأن ينوي الإتيان بالحركات الخاصّة لكونها مأموراً بها حتّى تكون عبادة {بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأموراً بها شيئاً آخر} من الدواعي الشّهويّة أو غيرها الموجبة، لعدم كونها عبادة {غير أمرها} الموجب لكونها عبادة {أنّه غيرُ وافٍ} أي: وفيه مضافاً إلى كذا أنّ هذا الجواب - على تقدير تسليم كونه وافياً بدفع إشكال عباديّة الطهارات - لا يفي {بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها} أي: على الطهارات {كما لا يخفى} إذ غاية مفاد هذا الجواب دفع إشكال عباديّة الطهارات، فيبقى إشكال أنّه كيف يترتّب على الأمر الغيري ثواب - كما تقدّم تقريره - .

{وثانيهما} أي: الجواب الثّاني الّذي ذكره التقريرات في التفصّي عن الإشكال {ما محصّله: أنّ لزوم وقوع الطهارات عبادة} ليس لأجل أمرها الغيري حتّى يقال: إِنّ الأمر الغيري ينافي العباديّة، بل {إنّما يكون لأجل أنّ الغرض من الأمر النّفسي بغاياتها} كالأمر النّفسي المتوجّه إلى الصلاة والطواف ونحوهما ممّا يشترط بالطهارة {كما لا يكاد يحصل} ذلك الأمر النّفسي {بدون قصد التقرّب بموافقته}

ص: 108

كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها كذلك، لا باقتضاء أمرها الغيري.

وبالجملة: وجه لزوم إتيانها عبادة، إنّما هو لأجل أنّ الغرضفي الغايات لا يحصل إلّا بإتيان خصوص الطّهارات من بين مقدّماتها أيضاً بقصد الإطاعة.

وفيه أيضاً: أنّه غير وافٍ بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها.

___________________________________________

أي: بموافقة الأمر النّفسي بالغايات، إذ من البديهي عدم الإطاعة لأمر الصلاة بدون قصد التقرّب {كذلك لا يحصل} ذلك الأمر بالغاية {ما لم يؤت بها} أي: بالطهارات {كذلك} أي: بقصد القربة، فلزم قصد القربة في الطهارة باقتضاء الأمر النّفسي بالصلاة {لا باقتضاء أمرها الغيري}.

{و} حاصل الجواب {بالجملة}: أنّ {وجه لزوم إتيانها عبادة إنّما هو لأجل أنّ الغرض في الغايات لا يحصل إلّا بإتيان خصوص الطهارات} الثّلاث {من بين مقدّماتها} من السّتر والاستقبال {أيضاً بقصد الإطاعة} كما يلزم الإتيان بنفس الغايات بقصد الإطاعة.

{وفيه أيضاً} ما ذكرنا في التفصّي الأوّل، من {أنّه غيرُ وافٍ بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها} أي: على الطهارات، وإن كان وافياً بدفع إشكال لزوم قصد الإطاعة.

ووجه عدم وفائه بدفع إشكال ترتّب الثّواب: أنّه لا يمكن أن يكون الأمر الغيري موجباً للثواب، لكن المحكي عن التّقريرات أنّه بصدد دفع إشكال لزوم قصد الطاعة لا بصدد دفع إشكال ترتّب المثوبة.

ولا يذهب عليك أنّ لزوم قصد الإطاعة في المقدّمة لا يحتاج إلى تكلّف القول بانبساط الأمر النّفسي المتعلّق بالغاية على القيد، كانبساطه على الجزء، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ جماعةً توهّموا أنّ اعتبار الأمرين كافٍ في دفع إشكال لزوم قصدالقربة

ص: 109

وأمّا ما ربّما قيل في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات - من الالتزام بأمرين: أحدهما كان متعلّقاً بذات العمل، والثّاني بإتيانه بداعي امتثال الأوّل - لا يكاد يجدي في تصحيح اعتبارها في الطهارات؛ إذ لو لم تكن بنفسها مقدّمات لغاياتها لا يكاد يتعلّق بها أمر من قبل الأمر بالغايات، فمن أين يجيء طلب آخر من سِنخ الطلب الغيري متعلّق بذاتها، ليتمكّن به من المقدّمة في الخارج؟

___________________________________________

في الطهارة، وذلك ببيان أنّ الأمر المقدّمي توجّه ابتداءً إلى الطهارات، ومقتضى هذا الأمر الإتيان بذواتها من دون قصد الإطاعة، ثمّ توجّه أمر آخر إليها - بأن يأتي بها بقصد امتثال أمرها الأوّل - فاعتبار قصد التقرّب إنّما أتى به من ناحية هذا الأمر الثّاني لا من ناحية الأمر الأوّل المقدّمي.

وقد أشار المصنّف إلى هذا بقوله: {وأمّا ما ربّما قيل في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات} كما تقدّم في بحث التوصّلي والتعبّدي {من الالتزام بأمرين: أحدهما كان متعلّقاً بذات العمل} وهذا لا يقتضي قصد الإطاعة {والثّاني} كان متعلّقاً {بإتيانه بداعي امتثال} الأمر {الأوّل} وهذا يقتضي قصد الإطاعة {لا يكاد يجدي} القول بتعدّد الأمر {في تصحيح اعتبارها} أي: اعتبار القربة {في الطهارات} فإنّه على تقدير تصحيح قصد القربة في الأمر النّفسيّ بتعدّد الأمرين لا يمكن تصحيح القربة في الأمر الغيري بتعدّده {إذ} على تقدير لزوم اعتبار القربة في مقدّمتيها لم تكن بنفسها مقدّمة {لو لم تكن} الطهارات {بنفسها مقدّمات لغاياتها لا يكاديتعلّق} ويترشّح {بها أمر من قبل الأمر بالغايات} لأنّ ذات الطهارات ليست مقدّمة حتّى يترشّح إليها أمر غيري {فمن أين يجيء طلب آخر} غير الطلب النّفسي {من سنخ الطلب الغيري متعلّق بذاتها} أي: ذات الطهارات {ليتمكّن} المكلّف {به} أي: بسبب هذا الأمر الغيري {من المقدّمة في الخارج} أي: يكون بهذا الأمر الغيري ذوات الطهارات مقدّمة خارجيّة، ثمّ يتوجّه

ص: 110

هذا.

مع أنّ في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة، على ما عرفته مفصّلاً سابقاً، فتذكّر.

الثّاني: أنّه قد انقدح ممّا هو التحقيق في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات، صحّتُها ولو لم يؤت بها بقصد التوصّل بها إلى غاية من غاياتها.

نعم، لو كان المصحّح لاعتبار قصد القربة فيها أمرها الغيري،

___________________________________________

إليها أمر ثانوي بحيث يصحّح قصد الإطاعة فيها.

{هذا، مع أنّ في هذا الالتزام} أي: الالتزام بتعدّد الأمر لتصحيح قصد الامتثال في الطهارات {ما} تقدّم من الإشكال {في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة، على ما عرفته مفصّلاً سابقاً} في بحث التوصّلي والتعبّدي {فتذكّر} وراجع.

التّذنيب {الثّاني} في بيان اعتبار قصد التوصّل في الطهارات وعدمه {أنّه قد انقدح ممّا هو التحقيق في وجه اعتبار قصد القربة فيالطهارات} وأنّها بنفسها مستحبّة قد جعلت مع وصف عباديّتها واستحبابها مقدّمة لواجب نفسيّ عبادي {صحّتها ولو لم يؤت بها بقصد التوصّل بها إلى غاية من غاياتها}.

والحاصل: أنّ للطهارات صوراً ثلاث:

الأُولى: الإتيان بها بقصد التوصّل إلى غاية من غاياتها مع الإتيان بها في الخارج، كما لو توضّأ للتوصّل به إلى الصلاة وصلّى.

الثّانية: الصوره الأُولى مع عدم الإتيان بالغاية، كما لو توضّأ للصلاة ثمّ لم يصلّ.

الثّالثة: الإتيان بها لا بقصد التوصّل، كما لو توضّأ لكونه نوراً.

ولا يخفى أنّه على ما ذكرنا في وجه تصحيح قصد الإطاعة فيها صحّة الصور الثّلاث؛ لأنّ الطهارة مستحبّة في نفسها، والأمر الاستحبابي لا يرتبط بالغاية.

{نعم، لو كان المصحّح لاعتبار قصد القربة فيها} أي: في الطهارات {أمرها الغيري}

ص: 111

لكان قصد الغاية ممّا لا بدّ منه في وقوعها صحيحة؛ فإنّ الأمر الغيري لا يكاد يمتثل إلّا إذا قصد التوصّل إلى الغير، حيث لا يكاد يصير داعياً إلّا مع هذا القصد،

___________________________________________

بأن يكون لزوم قصد القربة فيها لأجل عدم تحقّق غايتها بدون القصد مثلاً {لكان قصد الغاية ممّا لا بدّ منه في وقوعها صحيحة} في الخارج، سواء أتى بالغاية كالصورة الأُولى أم لم يأت بها كالصورة الثّانية، وجه التلازم بين ما ذكره بعد قوله: «نعم» ما أشار إليه بقوله: {فإنّ الأمر الغيري لا يكاد يمتثل إلّا إذا قصد التوصّل إلى الغير، حيث لا يكاد يصير} الأمر الغيري {داعياً إلّا مع هذا القصد} أي:قصد التوصّل.

وحاصل بيان هذا الدليل: أنّ الأمر الّذي تعلّق بالطهارات غيريّ حسب الفرض وحيث إنّ المقصود من الوجوب الغيري التوصّل إلى الغير، فلا بدّ في ما إذا أُريد تحقّق امتثال الأمر الغيري من قصد التوصّل إلى الغير، فإنّ قصد القربة بامتثال الأمر الغيري يتوقّف على قصده على وجهه وصفته.

هذا، وقد يقرّر وجه عدم امتثال الأمر الغيري - في صورة عدم قصد التوصّل - بهذا البيان، وهو: أنّ الأمر الغيري لا إطاعة له في نفسه ولا امتثال، وحينئذٍ فلا بدّ من ضمّ قصد التوصّل إلى قصد الأمر الغيري في كونه ذا امتثال.

أمّا وجه كون الأمر الغيري لا امتثال له فلأنّ الأمر لا بدّ فيه من غاية تدعو تلك الغاية إلى الأمر، إذ بدون الغاية كان الأمر لغواً، والغاية عبارة عن إحداث الداعي في نفس المكلّف.

ومن المعلوم أنّ الداعي إلى الأمر النّفسي والغيري معاً هو إحداث الداعي في نفسه إلى إتيان المطلوب النّفسي، ومعه كيف يمكن للعبد إتيان المقدّمة بداعي أمرها المقدّمي؟ وعليه فلا امتثال للأمر المقدّمي، إذ الامتثال عبارة عن إتيان الشّيء بداعي أمره.

ص: 112

بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدّمة عبادة ولو لم يقصد أمرها، بل ولو لم نقل بتعلّق الطلب بها أصلاً.

وهذا هو السّرّ في اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة عبادة.

___________________________________________

وأمّا وجه لزوم كون الأمر الغيري ذا امتثال في الطهارات - فهو أنّه يلزم كونه ذا امتثال حتّى يتحقّق القرب الموجب للثواب لكي تكون عبادة صحيحة.

فتحصّل من قوله: «نعم» أُمور:الأوّل: أنّ الغاية - أعني: الصلاة - لا تحصل إلّا في ما كانت المقدّمة - أعني: الطهارة - عبادة.

الثّاني: أنّ عباديّتها تتوقّف على كونها امتثالاً.

الثّالث: أنّ كونها امتثالاً لا يتحقّق إلّا إذا قصد التوصّل، وحيث يلزم تحصيل الغاية يلزم قصد التوصّل في الطهارة.

أمّا وجه التلازم الأوّل فقد تقدّم في قول المصنّف: «وقد تفصّى عن الإشكال بوجهين آخرين» الخ.

وأمّا وجه التلازم الثّاني والثّالث فواضح ممّا تقدّم {بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدّمة عبادة} يعني أنّ قصد التوصّل إلى الغاية هو ملاك عباديّة المقدّمة، إذ بذلك القصد يكون الشّارع في المقدّمة، كالشارع في نفس الغاية {ولو لم يقصد أمرها} المقدّمي، إذ قصد الأمر الغيري في جنب قصد التوصّل، كالحجر في جنب الإنسان، فإنّ المحصّل للقرب هو قصد التوصّل ليس إلّا {بل ولو لم نقل بتعلّق الطلب بها أصلاً} فإنّ وجود الطلب بالنسبة إلى المقدّمة لا مدخليّة له في المقرّبيّة.

{وهذا} الّذي ذكرنا من كون الملاك لوقوع المقدّمة عبادة هو قصد التوصّل {هو السّرّ في اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة عبادة} فإنّه حيث اعتبار عباديّة

ص: 113

لا ما تُوُهِّمَ(1) مِن أنّ المقدّمة إنّما تكون مأموراً بها بعنوان المقدّمة، فلا بدّ عند إرادة الامتثال بالمقدّمة من قصد هذا العنوان، وقصدُها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصّل إلىذي المقدّمة بها.

فإنّه فاسد جدّاً؛ ضرورةَ أنّ عنوان المقدّمية ليس بموقوف عليه الواجب، ولا بالحمل الشّائع مقدّمة له، وإنّما كان المقدّمة هو نفس المعنونات بعناوينها الأوّليّة، والمقدّميّة إنّما تكون علّة لوجوبها.

___________________________________________

المقدّمة ولم تكن عبادة إلّا بقصد التوصّل لزم قصد التوصّل {لا ما توهّم} كما في التقريرات {من أنّ} السّرّ في اعتبار قصد التوصّل ضمّ أُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّ {المقدّمة إنّما تكون مأموراً بها بعنوان المقدّمة} فعنوان المقدّمة مأخوذ في متعلّق الأمر الغيري، نظير عنوان الظهر في متعلّق الأمر المتعلّق بصلاة الظهر.

الثّاني: أنّ عنوان المقدّمة لمّا كان مأخوذاً {فلا بدّ عند إرادة الامتثال بالمقدّمة من قصد هذا العنوان} فلو أراد كون الطهارة مثلاً عبادة - بمعنى كونها مقربة ذات ثواب - لزم قصد عنوان متعلّق الأمر.

{و} الثّالث: أنّ {قصدها كذلك} أي: قصد المقدّمة بعنوانها {لا يكاد يكون بدون قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة بها} متعلّق ب- «قصد» أي: لا يكون بدون قد التوصّل بهذه المقدّمة إلى ذيها {فإنّه} أي: إِنّ ما ذكره التقريرات من سرّ لزوم قصد التوصّل {فاسد جدّاً، ضرورة} بطلان الأمر الأوّل، إذ {أنّ عنوان المقدّمية ليس بموقوف عليه الواجب} فإنّ المقدّمة إنّما تكون مأموراً بها بذاتها لا بعنوان المقدّمة.{و} كذلك {لا} يكون عنوان المقدّمة {بالحمل الشّائع مقدّمة له} بل ذاتها مقدّمة بالحمل الشّائع {وإنّما كان المقدّمة هو نفس المعنونات بعناوينها الأوّليّة} كذات الغسلات والمسحات {و} عنوان {المقدّميّة إنّما تكون علّة لوجوبها} أي:

ص: 114


1- مطارح الأنظار 1: 354.

الأمر الرّابع: لا شبهة في أنّ وجوب المقدّمة - بناءً على الملازمة - يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوبَ ذي المقدّمة، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا. ولا يكون مشروطاً بإرادته، كما يُوهمه ظاهرُ عبارة صاحب المعالم (رحمة الله) في بحث الضدّ، قال: «وأيضاً فحجّة القول بوجوب المقدّمة - على تقدير تسليمها - إنّما تنهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النّظر»(1).

___________________________________________

وجوب ذات المقدّمة.

[الأمر الرّابع: في ما هو الواجب في باب المقدّمة]

اشارة

{الأمر الرّابع} من الأُمور الّتي لا بدّ من بيانها في مبحث مقدّمة الواجب قبل الخوض في المقصود في بيان تبعيّة المقدّمة لذيها في الإطلاق والاشتراط، فنقول: {لا شبهة في أنّ وجوب المقدّمة بناءً على} القول ب- {الملازمة} بين المقدّمة وذيها {يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدّمة، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا} وذلك لأنّوجوب المقدّمة معلول للوجوب النّفسي المتوجّه إلى ذيها، ولو كان الوجوب النّفسي في الحال تبعه معلوله وإن كان في الاستقبال فكذلك، فلو كان وجوب الحجّ بعد الاستطاعة كان وجوب السّير بعدها، وإن كان وجوب الصلاة في الحال كان وجوب الوضوء فيها.

{ولا يكون} وجوب المقدّمة {مشروطاً بإرادته} أي: إرادة ذي المقدّمة {كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم (رحمة الله) في بحث الضدّ، قال} ما هذا لفظه: {«وأيضاً فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما تنهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها} أي: حجّة القول بالوجوب {حقّ النّظر»} وتقريبه:

أنّه لو لم يرد المكلّف فعل ذي المقدّمة كان إيجاب المقدّمة لغواً؛ لأنّ إيجابها

ص: 115


1- معالم الدين: 71.

وأنت خبير بأنّ نهوضها على التبعيّة واضح لا يكاد يخفى، وإن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة، كما لا يخفى.

وهل يُعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، كما يظهر ممّا نسبه إلى شيخنا العلّامة أعلى اللّه مقامه بعض أفاضل مقرّري بحثه(1)؟

أو ترتّب ذي المقدّمة عليها، بحيث لو لم يترتّب عليها يكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب،

___________________________________________

إنّما هو للتوصّل ومع الصارف لا توصّل قطعاً.{و} لكن {أنت خبير بأنّ} حجّة القول بوجوب المقدّمة {نهوضها على التبعيّة} للواجب النّفسي مطلقاً سواء أراد الإتيان بالواجب أم لا {واضح، لا يكاد يخفى} إذ الملاك في وجوب المقدّمة توقّف ذيها عليها والتوقّف مستمرّ سواء أراد الإتيان بالواجب أم لا {وإن كان نهوضها} أي: حجّة القول بالوجوب {على أصل الملازمة} بين الوجوب للمقدّمة وذيها {لم يكن بهذه المثابة} من الوضوح، كما سيأتي بيانه في الاحتجاج {كما لا يخفى}.

ثمّ إنّ هنا نزاعاً بين الشّيخ وصاحب الفصول والمصنّف رحمهم اللّه {و} هو أنّه {هل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصّل بها إلى ذي المقدّمة؟} فلا تكون المقدّمة واجبة في ما إذا أتى بها لا بداعي التوصّل، كما لو سار إلى ناحية الجنوب، فإذن رأى نفسه عند الميقات - {كما يظهر ممّا نسبه إلى شيخنا العلّامة، أعلى اللّه مقامه، بعض أفاضل مقرّري بحثه - أو} يعتبر في اتصال المقدّمة بالوجوب {ترتّب ذي المقدّمة} خارجاً {عليها} سواء قصد التوصّل أم لا {بحيث لو لم يترتّب} ذو المقدّمة {عليها يكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب}

ص: 116


1- مطارح الأنظار 1: 354.

كما زعمه صاحب الفصول(قدس سره)(1)؟

أو لا يعتبر في وقوعها كذلك شيء منهما؟

الظّاهر: عدم الاعتبار:

أمّا عدم اعتبار قصد التوصّل: فلأجل أنّالوجوب لم يكن بحكم العقل إلّا لأجل المقدّميّة والتوقّف، وعدم دخل قصد التوصّل فيه واضحٌ،

___________________________________________

وإن قصد التوصّل حين الإتيان بها - {كما زعمه صاحب الفصول+ - أو لا يعتبر في وقوعها كذلك} أي: في وقوع المقدّمة متّصفاً بالوجوب {شيء منهما} لا قصد التوصّل ولا التوصّل الخارجي.

ثمّ إنّ الفرق بين قول صاحب المعالم وبين قول الشّيخ(رحمة الله) هو أنّ صاحب المعالم يرى الوجوب للمقدّمة مشروطاً بالإرادة، والشّيخ يرى المقدّمة الواجبة مشروطة بها، ويظهر الفرق في ما لو ترك الواجب والمقدّمة كليهما، فصاحب المعالم يراه تاركاً لواجب نفسيّ واحد، والشّيخ يراه تاركاً لواجب نفسيّ وواجب غيريّ.

وكذلك الفرق بين صاحب المعالم وبين صاحب الفصول، مع أنّ هنا فرقاً آخر، إذ بين القولين عموم من وجه، لانفراد المعالم في ما لو أراد الواجب، ففعل المقدّمة ولم يفعل الواجب، وانفراد الفصول في ما لو فعل الواجب والمقدّمة بدون إرادة الواجب حال فعل المقدّمة، واجتماعهما في ما لو أراد وفعل، فتبصّر.

و{الظاهر} عند المصنّف {عدم الاعتبار} لما اشترطه الشّيخ وصاحب الفصول {أمّا عدم اعتبار قصد التوصّل} الّذي اعتبره الشّيخ {فلأجل أنّ الوجوب لم يكن بحكم العقل إلّا لأجل المقدّميّة و} لأجل {التوقّف وعدم دخل قصد التوصّل فيه} أي: في التوقّف {واضح} فإنّ الصعود واقعاً متوقّف على نصب السُلّم ونصب السُلّم مقدّمة له سواء قصد التوصّل أم لا، بل ولو قصد عدم التوصّل أيضاً.

ص: 117


1- الفصول الغرويّة: 81.

ولذا اعترف(1) بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدّمات العباديّة؛ لحصول ذات الواجب، فيكون تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصّل من المقدّمة بلا مخصّص، فافهم.

نعم، إنّما اعتبر ذلك في الامتثال،

___________________________________________

{ولذا} الّذي ذكرنا من عدم دخل قصد التوصّل {اعترف} الشّيخ {بالاجتزاء بما} أي: بالمقدّمة المأتيّ بها الّتي {لم يقصد به} يرجع إلى «ما» {ذلك} التوصّل لكن {في غير المقدّمات العباديّة} كالسّتر بالنسبة إلى الصّلاة.

وإنّما قال بالاجتزاء هنا {لحصول ذات الواجب} وإن لم يقصد {فيكون تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصّل من المقدّمة} بيان «ما» {بلا مخصّص} إذ بعد ما تقدّم من أنّ ملاك الوجوب التوقّف، فإدخال ما ليس من شؤون التوقّف بلا وجه.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى ضعف نسبة هذا القول إلى الشّيخ، إذ ذهب في الطهارة إلى ما يوافق مذهب المصنّف حيث قال ما حاصله على ما لخّصه بعض(2):

«إنّ قصد القربة اللّازم في المقدّمات إن كان بلحاظ أمرها الغيري يلزم قصد التوصّل فيها، حيث إنّه لا يعدّ إطاعة لذلك الأمر الغيري إلّا بهذا القصد، وإن كان ذلك باعتبار رجحانها الذاتي لا بلحاظ وجوبها المقدّمي لا حاجة إلى قصد التوصّل في صحّته واتصافه بالوجوب»(3)، انتهى.

وحيث إنّ هذا الكلام مخالف لما في التقريرات، احتمل أن يكون ذلك اشتباهاً من المقرّر وإن كان من المحتمل تبدّل الرّأي، واللّه العالم.{نعم، إنّما اعتبر ذلك} أي: قصد التوصّل {في} مقام {الامتثال} يعني أنّ قصد

ص: 118


1- مطارح الأنظار 1: 354.
2- حاشية الكفاية 1: 175.
3- كتاب الطهارة 2: 60.

لما عرفت مِن أنّه لا يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلاً لأمرها، وآخذاً في امتثال الأمر بذيها، فيثاب بثواب أشقّ الأعمال. فيقع الفعل المقدّمي

___________________________________________

التوصّل يشترط في إطاعة الأمر الغيري {لما عرفت} في التذنيب الثّاني {من أنّه لا يكاد يكون الآتي بها} أي: بالمقدّمة {بدونه} أي: بدون قصد التوصّل {ممتثلاً لأمرها} المقدّمي.

{و} كذلك لا يكون بدون قصد التوصّل {آخذاً في امتثال الأمر بذيها} إذ من البديهي أنّه لو أمر المولى بالحجّ فاشترى العبد الزاد والرّاحلة لزيارة الرّضا(علیه السلام) لم يكن ممتثلاً لأمر المولى {فيثاب} أي: حتّى يثاب لأجل مشقّة المقدّمة {بثواب أشقّ الأعمال} فلو فرض أنّه ذهب بهذا الزاد والرّاحلة إلى الحجّ كان له ثواب أصل الحج.

كما أنّه لو قصد من النّجف الأشرف الذهاب إلى النّخيلة لبعض حوائجه ثمّ بعدما وصل إليها بدا له في زيارة الحسين(علیه

السلام) لم يكن لكلّ خطوة من خطاه الواقعة بين النّجف والنّخيلة ما لكلّ خطوة من زوّار الحسين(علیه السلام) بمقتضى الدليل.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ مجرّد القصد إلى التوصّل لا يستلزم الامتثال، وبيان ذلك أنّ قصد التوصّل إلى الواجب على نحوين:

الأوّل: على نحو التوصيف، بأن يجعل التوصّل إلى ذي المقدّمة عنواناً لذات المقدّمة لكن كان الداعي أمراً آخر، كأن يقول: (اشترى الرّاحلة والزاد المتّصفينبالإيصال إلى الحجّ لكن بداعي زيارة الرّضا(علیه السلام)) ومن الواضح أنّ هذا ليس امتثالاً.

الثّاني: على نحو الداعويّة، كأن يشتريهما بداعي الإيصال.

ولا يخفى أنّ المعتبر عند القائلين باعتبار قصد التوصّل هو الوجه الثّاني.

{فيقع الفعل المقدّمي} هذا تفريع على أصل المقصود، وهو عدم اعتبار قصد

ص: 119

على صفة الوجوب: ولو لم يقصد به التوصّل - كسائر الواجبات التوصليّة - ، لا على حكمه السّابق الثّابت له لولا عروض صفة توقّف الواجب الفعلي المنجّز عليه.

فيقع الدخول في ملك الغير واجباً إذا كانت مقدّمةً لإنقاذ غريقٍ أو إطفاء حريقٍ واجبٍ فعليٍّ، لا

___________________________________________

التوصّل في وجوب المقدّمة {على صفة الوجوب ولو لم يقصد به التوصّل} كما لو اشترى الزاد والرّاحلة بلا قصد الحجّ سواء قصد الخلاف كزيارة الرّضا(علیه السلام) أم لا، بل كان بلا قصد أصلاً، وعلى كلا الحالين يكون واجباً وإن لم يكن طاعة وعبادة {كسائر الواجبات التوصليّة} الّتي لا يتوقّف وجوبها على القصد {لا على حكمه} عطف على قوله: «على صفة الوجوب» أي: لا يقع الفعل المقدّميّ في صورة عدم قصد التوصّل على حكمه {السّابق} من الحرمة والكراهة والإباحة والاستحباب {الثّابت له} أي: لهذا الفعل المقدّمي {لولا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجّز عليه}.

والحاصل: أنّ التقريرات ذكر أنّه لو لم يقصد الشّخص التوصّل لم يطرأ علىالفعل المقدّمي عنوان الوجوب، فيبقى على حكمه الّذي كان له سابقاً.

مثلاً: لو كان بين الشّطّ وبين الشّخص أرض مغصوبة ثمّ غرق أحد في الشّطّ، فإن مشى الشّخص في تلك الأرض بقصد التوصّل إلى إنقاذ الغريق الّذي هو واجب فعليّ منجّز عليه صار هذا المشي واجباً، فتسقط الحرمة الأوليّة بسبب عروض هذا الوجوب، وأمّا لو مشى لا بقصد التوصّل إلى إنقاذ الغريق لم يطرأ على هذا المشي عنوان الوجوب، فيبقى المشي على عنوانه الأوّلي من الحرمة.

والمصنّف أنكر على الشّيخ هذا التفصيل ويقول بوجوب المشي في الصورتين {فيقع} هذا {الدخول في ملك الغير واجباً إذا كانت مقدّمة لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب فعلي} صفة الإنقاذ والإطفاء، و{لا} يقع هذا الدخول

ص: 120

حراماً، وإن لم يلتفت إلى التوقّف والمقدّميّة. غاية الأمر يكون حينئذٍ متجرّياً فيه.

كما أنّه مع الالتفات يتجرّى بالنّسبة إلى ذي المقدّمة، في ما لم يقصد التوصّل إليه أصلاً.

وأمّا إذا قصده ولكنّه لم يأت بها بهذا الداعي، بل بداعٍ آخَرَ أكّده بقصد التوصّل، فلا يكون متجرّياً أصلاً.

___________________________________________

{حراماً وإن لم يلتفت إلى التوقّف والمقدّميّة} سواء علم بوجوب إنقاذ الغريق أم لم يعلم ومع العلم بالوجوب سواء كان قاصداً إلى الإنقاذ، لكنّه لا يعلم توقّفه على هذا الدخول أم لم يكن قاصداً. {غاية الأمر يكون} الشّخص الداخل {حينئذٍ} أي: حين عدم الالتفات إلى التوقّف {متجرّياً فيه} أي: في هذا الدخول لأنّه باعتقاده يرتكب الحرام {كما أنّه مع الالتفات} إلى توقّفالإنقاذ على الدخول {يتجرّى بالنّسبة إلى ذي المقدّمة} أعني: الإنقاذ {في ما لم يقصد التوصّل إليه أصلاً} بأن دخل الأرض عالماً بالغريق بانياً على عدم إنقاذه ثمّ أنقذه، فإنّ بناءه كان تجرّياً.

وإنّما قلنا بأنّه أنقذه؛ لأنّه لو لم ينقذه أصلاً كان فاعلاً للحرام القطعي، وقد يجتمع التجرّي بالنّسبة إلى المقدّمة والتجرّي بالنسبة إلى ذي المقدّمة، وذلك في ما لو علم بالغريق وكان بناؤه على عدم إنقاذه ثمّ دخل الأرض ولم يكن ملتفتاً إلى توقّف الإنقاذ على الدخول وكان عالماً بغصبيّة الأرض.

{وأمّا إذا} التفت إلى حرمة الأرض وعلم بالغريق وبتوقّف الإنقاذ على الدخول و{قصده} أي: قصد التوصّل بهذا الدخول إلى الإنقاذ {ولكنّه لم يأت بها} أي: بالمقدّمة {بهذا الداعي} أي: بداعي الإنقاذ فقط {بل} دخل {بداعٍ آخر} كسقي زرعه، ولكن {أكّده} أي: أكّد داعي السّقي {ب-} ضمّ {قصد التوصّل فلا يكون متجرّياً أصلاً} لا بالنسبة إلى المقدّمة لالتفاته إلى التوقّف ولا بالنسبة إلى ذيها لقصده الإنقاذ.

والحاصل: أنّه كان ملتفتاً إلى الواجب وكان من قصده التوصّل إليه ولكنّه أتى

ص: 121

وبالجملة: يكون التوصّل بها إلى ذي المقدّمة من الفوائد المترتّبة على المقدّمة الواجبة، لا أن يكون قصده قيداً وشرطاً لوقوعها على صفة الوجوب؛ لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه أصلاً، وإلّا لما حصل ذات الواجب، ولما سقط الوجوب به، كما لا يخفى.

___________________________________________

بالمقدّمة بداعي شيء آخر، بحيث كان قصد التوصّل غير مستقلّ في كونه داعياً، بل المستقلّ ذلك الأمر وقصد التوصّل مؤكّد له. وإذا تحقّق عدم التجرّي في هذه الصورة ففي صورة تساوي الداعيين وصورة مؤكّديّة الأمر الخارجي بطريق أولى.

{وبالجملة يكون التوصّل بها} أي: بهذه المقدّمة الّتي أتى بها بداعٍ آخَرَ وأكّده بقصد التوصّل {إلى ذي المقدّمة من الفوائد المترتّبة على المقدّمة الواجبة} فالمقدّمة وقعت على صفة الوجوب وإن لم يقصد التوصّل.

{لا أن يكون قصده} أي: قصد التوصّل {قيداً وشرطاً لوقوعها على صفة الوجوب} بحيث لم تكن واجبة لو لم يقصد.

وإنّما قلنا بوجوب المقدّمة وإن لم يقصد {لثبوت ملاك الوجوب} وهو عنوان المقدّميّة {في نفسها} أي: إنّ نفس المقدّمة مشتملة على ملاك الوجوب {بلا دخل له} أي: للقصد {فيه} أي: في الملاك {أصلاً، وإلّا} فلو كان للقصد مدخل في الوجوب {لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به} أي: بهذا الفعل المقدّمي الّذي لم يقصد التوصّل به {كما لا يخفى}.

قال المحقّق القمّي المحشّي(رحمة الله): «هذا وجه آخر لإبطال كلام الشّيخ، وبيانه: أنّ قصد التوصّل لو كان داخلاً في الواجب بحيث كان وقوعه في الخارج على صفة الوجوب متوقّفاً به ففي ما إذا لم يأت به كذلك لم يكن آتياً بذات الواجب، فيكون عليه الإعادة ثانياً مع التزامه بعدم لزوم الإعادة»(1)،

انتهى.

ص: 122


1- حاشية الكفاية 1: 176.

ولا يقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرّم منها؛ حيث يسقط بهالوجوب مع أنّه ليس بواجب؛ وذلك لأنّ الفرد المحرم إنّما يسقط به الوجوب لكونه كغيره في حصول الغرض به بلا تفاوت أصلاً، إلّا أنّه لأجل وقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب.

___________________________________________

{و} إن قلت: قولكم: «وإلّا لما حصل» ألخ غيرُ تامٍّ، إذ لا تلازم بين عدم وجوب المقدّمة وبين عدم السّقوط، فيمكن أن يكون المقدّمة الّتي لم يقصد بها التوصّل غير واجبة، ومع ذلك إذا أتى بها سقط الوجوب، وممّا يوضح عدم التّلازم ما إذا كان للمقدّمة فردان: أحدهما مباح والآخر حرام، فلو أتى بالمقدّمة الّتي هي حرام سقط بها الوجوب الغيري مع أنّ المقدّمة المحرّمة ليست بواجبة.

مثلاً: لو كان لإنقاذ الغريق طريقان: الأوّل الأرض الغصبيّة، والثّاني المباحة، فذهب من الطريق الغصبي إلى الغريق فأنقذه كانت المقدّمة محرّمة قطعاً، مع أنّه يسقط وجوب المقدّمة بها، أمّا أنّها حرام فلعدم التوقّف عليها حتّى يغلب وجوبها المقدّمي على حرمتها الأوّليّة، وأمّا أنّها يسقط الوجوب، فلأنّه لا محلّ لها.

قلت: {لا يقاس} المقدّمة المأتي بها لا بقصد التوصّل {على ما إذا أتى بالفرد المحرّم منها} وجه القياس {حيث يسقط به الوجوب مع أنّه ليس بواجب، و} وجه عدم القياس أنّ الفرد المحرّم من المقدّمة لم يسر الوجوب من ذي المقدّمة إليه، بخلاف الفرد المباح، كما في ما نحن فيه فإنّه يسري الوجوب إليه، وعدم قصد التوصّل غير مانع من السّراية.

بيان {ذلك: لأنّ الفرد المحرّم} من المقدّمة، كدخول الأرض المغصوبة {إنّما يسقط به الوجوب لكونه كغيره في حصول الغرض به بلا تفاوت أصلاً} في حصول الغرض بين المحرّم وغيره {إلّا أنّه لأجلوقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب} للزوم اجتماع الأمر والنّهي الممتنع عندنا، ولا يفرق في الامتناع

ص: 123

وهذا بخلاف هاهنا، فإنّه إن كان كغيره ممّا يقصد به التوصّل في حصول الغرض، فلا بدّ أن يقع على صفة الوجوب مثله؛ لثبوت المقتضي فيه بلا مانع، وإلّا لما كان يسقط به الوجوب ضرورةً، والتالي باطل بداهةً، فيكشف هذا عن عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعاً، وانتظر لذلك تتمّة توضيح.

والعجب أنّه شدّد النّكير على القول بالمقدّمة الموصلة، واعتبار ترتّب ذي المقدّمة عليها

___________________________________________

بين كون الوجوب والحرمة نفسيّين أو غيريّين أو مختلفين، كما سيأتي - إن شاء اللّه تعالى - .

{وهذا بخلاف} ما {هاهنا} أعني: المقدّمة المباحة الّتي لم يقصد بها التوصّل {فإنّه إن كان كغيره} من سائر أفراد المقدّمة {ممّا يقصد به التوصّل في حصول الغرض} الظرف متعلّق بقوله: «كغيره» {فلا بدّ أن يقع} هذه الّتي لم يقصد التوصّل بها {على صفة الوجوب مثله} أي: مثل ما قصد به التوصّل، وإنّما تقع على صفة الوجوب {لثبوت المقتضي} للوجوب {فيه} وهو إمكان التوصّل {بلا مانع} من حرمة ونحوها {وإلّا} يمكن حصول الغرض به {لما كان يسقط به الوجوب ضرورة} لعدم حصول الغرض {والتالي} وهو عدم سقوط الوجوب بالمقدّمة الّتي لم يقصد بها التوصّل {باطل بداهة} لسقوط الوجوب، إذ بقاء الإيجاب لغو محض {فيكشف هذا} السّقوط {عن عدماعتبار قصده} أي: قصد التوصّل {في الوقوع} أي: وقوع المقدّمة {على صفة الوجوب قطعاً} بمقتضى التلازم المذكور {وانتظر لذلك تتمّة توضيح} في قوله: «إن قلت» وجوابه حينما يستشكل على صاحب الفصول.

{والعجب} من الشّيخ حيث {أنّه شدّد النّكير على القول بالمقدّمة الموصلة واعتبار} عطف بيان ل-«لمقدّمة الموصلة» {ترتّب ذي المقدّمة عليها} أي: على

ص: 124

في وقوعها على صفة الوجوب(1) - على ما حرّره بعض مقرّري بحثه+(2) - بما يتوجّه على اعتبار قصد التوصّل في وقوعها كذلك، فراجع تمام كلامه - زيد في علوّ مقامه - وتأمّل في نقضه وإبرامه.

وأمّا عدم اعتبار ترتّبِ ذي المقدّمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب:

___________________________________________

المقدّمة {في وقوعها على صفة الوجوب} الظرف متعلّق بالمقدّمة الموصلة {على ما حرّره بعض مقرّري بحثه+} الجارّ متعلّق ب-«شدّد النّكير» {بما}(3)

أي: أنكر الشّيخ على المقدّمة الموصلة بنفس الإشكال الّذي{يتوجّه على} قوله: من {اعتبار قصد التوصّل في وقوعها كذلك} أي: وقوع المقدّمة على صفة الوجوب، {فراجع تمام كلامه، زيد في علوّ مقامه، وتأمّل في نقضه وإبرامه}.

هذا كلّه في نقد كلام الشّيخ من القائل بلزوم قصد التوصّل حتّى تتّصف المقدّمة بالوجوب، {وأمّا} وجه بطلان ما قاله في الفصول من وجوب المقدّمة الموصلة وبيان {عدم اعتبار ترتّب ذي المقدّمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب} بمعنى أنّ المقدّمة تقع على صفة الوجوب سواء ترتّب عليها ذو المقدّمة أم لا، فهو يحتاج إلى بيان أُمور.

ص: 125


1- الفصول الغرويّة: 81.
2- مطارح الأنظار 1: 368.
3- قد علّق السّيّد الحكيم على قوله: «بما يتوجّه على اعتبار» ما لفظه: «فإنّه قد استشكل على الفصول من جهات ثلاث: ملخّص الأُولى: منها أنّ الوجه في حكم العقل بوجوب المقدّمة ليس إلّا أنّ عدمها يوجب العدم. وملخّص الثّانية: أنّ القول بوجوب المقدّمة الموصلة يوجب القول بوجوب مطلق المقدّمة؛ لأنّ الأمر بالمقيّد بقيد خارجي يستتبع الأمر بذات المقيّد. وملخّص الثّالثة: دعوى الوجدان بسقوط الطلب بعد وجودها من غير انتظار ترتّب ذي المقدّمة، ولولا أنّ لوجودها بذاتها مدخلاً في المطلوبيّة لم يكن وجه للسقوط. وهذه الجهات كما ترى واردة بعينها على دعوى اعتبار قصد التوصّل»، انتهى. حقائق الأصول 1: 274.

فلأنّه لا يكاد يعتبر في الواجب إلّا ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه، والباعث على طلبه، وليس الغرض من المقدّمة إلّا حصول ما

___________________________________________

الأوّل: أنّ الأمر تابع للغرض.

الثّاني: أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة ليس نفس وجود ذيها، إذ وجود ذيها ليس أثراً لوجود المقدّمة، بل الغرض سدّ باب العدم من ناحية هذه المقدّمة، بمعنى أنّه حيث لا يمكن إيجاد ذي المقدّمة بدونها أراد المولى التمكّن منه بواسطة الإتيان بالمقدّمة.

الثّالث: أنّ الغرض الّذي دعا إلى إيجاب شيء لا بدّ وأن يحصل من ذاكالشّيء لا من غيره، مثلاً لو كان الغرض الداعي إلى إيجاب الصلاة هو المعراجيّة يلزم حصولها من نفس الصلاة لا من شيء آخر.

إذا عرفت هذه الأُمور فنقول: الغرض من المقدّمة إمّا أن يكون وجود ذيها، وهذا غير تام، إذ هذا الغرض لا يترتّب على المقدّمة بل يترتّب على الإرادة ونحوها وقد قلنا في الأمر الثّالث أنّ الغرض من إيجاب شيء لا بدّ وأن يترتّب على نفس ذلك الشّيء.

وإمّا أن يكون إمكان وجود ذيها بعدها، وعلى هذا فلا يفرق بين الموصلة وغيرها؛ لأنّ إمكان وجود ذيها كما يترتّب على الموصلة يترتّب على غيرها.

وقد اختصرنا الدليل وحذفنا بعض مقدّماته، وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {فلأنّه لا يكاد يعتبر في الواجب إلّا ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه والباعث على طلبه} مثلاً: إذا كان الغرض من المقدّمة إمكان الإيصال إلى ذيها ولم يكن الغرض من المقدّمة الإيصال الخارجي، فالمعتبر في المقدّمة الواجبة إمكان الإيصال الّذي هو دخيل في الغرض، وليس المعتبر في المقدّمة الإيصال الّذي لا دخل له في الغرض وقوله: «الداعي» صفة للغرض {وليس الغرض من المقدّمة إلّا حصول ما}

ص: 126

لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة؛ ضرورة أنّه لا يكاد يكون الغرض إلّا ما يترتّب عليه من فائدته وأثره، ولا يترتّب على المقدّمة إلّا ذلك، ولا تفاوت فيه بين ما يترتّب عليه الواجب، وما لا يترتّب عليه أصلاً، وأنّه لا محالة يترتّب عليهما، كما لا يخفى.

وأمّا ترتّب الواجب، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها والباعث على طلبها؛

___________________________________________

أي: حصول وجود مقدّمي بحيث {لولاه} أى: لولا هذا الوجود {لما أمكن حصول ذي المقدّمة} فالغرض من الطهارة حصول نظافة للنفس لولاها لما أمكن حصول الصلاة.

إن قلت: لم لا يكون الغرض من المقدّمة حصول نفس ذيها؟

قلت: لا يمكن ذلك {ضرورة أنّه لا يكاد يكون الغرض إلّا ما يترتّب عليه من فائدته وأثره} فالغرض من كلّ شيء ما يترتّب عليه وإلّا لكان كلّ شيء غرضاً من كلّ شيء، وهو بديهيّ البطلان {ولا يترتّب على المقدّمة إلّا ذلك} الّذي ذكرنا من التمكّن على ذيها بعدها لا وجود ذيها.

{و} إذا تمّت هذه المقدّمات فنقول: {لا تفاوت فيه} أي: في هذا الغرض - أعني: التمكّن من ذيها - {بين ما} أي: المقدّمة الّتي {يترتّب عليه الواجب} وهي الموصلة {و} بين {ما لا يترتّب} الواجب {عليه أصلاً} وهي غير الموصلة {وأنّه} أي: أثر المقدّمة والغرض منها وهو التمكّن {لا محالة يترتّب عليهما} أي: على الموصلة وغيرها {كما لا يخفى} على أحد.

{وأمّا ترتّب الواجب فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها والباعث على طلبها} أي: إيجاب المقدّمة وطلبها، بمعنى أنّه لا يعقل أن يكون غرض المولى من إيجاب المقدّمة ترتّب الواجب عليها، وإذا لم يكن غرض المولى ترتّب الواجب فلا يعتبر ذلك في المقدّمة، وذلك يحتاج إلى بيان مقدّمة، وهي أنّ الفعل على قسمين:

ص: 127

فإنّه ليس بأثر تمام المقدّمات - فضلاً عن إحداها - في غالب الواجبات؛ فإنّ الواجب - إلّا ما قلّ - في الشّرعيّات والعرفيّات فعلٌاختياري يختار المكلّف تارةً إتيانه بعدَ وجود تمام مقدّماته، وأُخرى عدمَ إتيانه، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضاً من إيجاب كلّ واحدة من مقدّماته، مع عدم ترتّبه على تمامها،

___________________________________________

الأوّل: الفعل المباشري - وهو الّذي يختار الإنسان الفعل أو عدمه - بعد تمام المقدّمات، كالصلاة مثلاً، فإنّ الشّخص بعد تحصيل الطهارة الحدثيّة والخبثيّة والسّتر والاستقبال وإباحة المكان وغير ذلك إمّا أن يختار الفعل أو يختار الترك.

الثّاني: الفعل التوليدي - وهو الّذي إذا تمّت المقدّمات حصل الفعل لا محالة - كالإحراق فإنّه بعد تحصيل النّار وتجفيف الورق وإلقائه في النّار يحصل الإحراق ولا مدخليّة للاختيار بعد تماميّة المقدّمات.

إذا عرفت ذلك قلنا: قد تقدّم أنّ الغرض الداعي إلى الإيجاب لا بدّ أن يترتّب على الشّيء، وحيث لا يترتّب الفعل على المقدّمة لا يكون الغرض من إيجاب المقدّمة هو ترتّب ذيها {فإنّه} أي: ترتّب الواجب {ليس بأثر تمام المقدّمات فضلاً عن إحداها في غالب الواجبات} أي: فضلاً عن أن يكون أثر إحدى المقدّمات، وإنّما لم يكن الواجب أثر المقدّمات {فإنّ الواجب - إلّا ما قلّ في الشّرعيّات والعرفيّات - فعل اختياري} مباشري {يختار المكلّف تارةً إتيانه بعد وجود تمام مقدّماته} كما لو صلّى بعد حصول المقدّمات المذكورة {و} يختار تارة {أُخرى عدم إتيانه} كما هو شأن الأفعال المباشريّة الّتي تقدّم بيانها.

وعلى هذا فلم يترتّب الفعل على المقدّمات حتّى يكون الغرض من إيجاب المقدّمات ترتّب الفعل ليكون هذا الترتّب معتبراً في وجوب المقدّمة {فكيفيكون اختيار إتيانه} أي: إتيان ذي المقدّمة {غرضاً من إيجاب كلّ واحدة من مقدّماته مع عدم ترتّبه} أي: ترتّب ذي المقدّمة {على تمامها} أي: تمام المقدّمات

ص: 128

فضلاً عن كلّ واحدة منها؟

نعم، في ما كان الواجب من الأفعال التسببيّة والتوليديّة، كان مترتّباً - لا محالة - على تمام مقدّماته؛ لعدم تخلّف المعلول عن علّته.

ومن هنا قد انقدح: أنّ القول بالمقدّمة الموصلة يستلزم إنكارَ وجوب المقدّمة في غالب الواجبات، والقولَ بوجوب خصوص العلّة التامّة في خصوص الواجبات التوليديّة.

___________________________________________

{فضلاً عن كلّ واحدة منها}.

هذا كلّه في القسم الأوّل من الأفعال - أعني: الأفعال المباشريّة - {نعم، في ما كان الواجب} مثل الإحراق في العرفيّات والطهارات بناءً على كون الغسلات مقدّمة لها في الشّرعيّات {من الأفعال التسببيّة والتوليديّة} الّتي إنّما يأتي المكلّف بسببها ومولدها لأنفسها {كان} الفعل {مترتّباً لا محالة على تمام مقدّماته، لعدم} إمكان {تخلّف المعلول عن علّته} بل فيها أيضاً إنّما يترتّب الفعل على الجزء الأخير منها كإلقاء الحطب في النّار وإيصال اليد إلى الكعب في الرّجل اليسرى، فيصحّ القول بالمقدّمة الموصلة في هذا المورد الشّاذّ النّادر.

{ومن} قولنا: «وأمّا ترتّب الواجب فلا يعقل» إلى {هنا قد انقدح أنّ القول بالمقدّمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدّمة في غالبالواجبات} أمّا الأفعال المباشريّة فتمام مقدّماتها منفردة أو مجموعة، وأمّا التوليديّة فتمام مقدّماتها منفردة {و} يستلزم {القول بوجوب خصوص العلّة التامّة} أي: المجموع من المقدّمات {في خصوص الواجبات التوليديّة} مع أنّ صاحب الفصول يقول بوجوب تمام المقدّمات عند إيصالها إلى الواجب.

ووجه الانقداح أنّ المقدّمة الواجبة - على هذا القول - هي المقدّمة الموصلة، والمقدّمة الموصلة لا توجد في الأفعال المباشريّة أصلاً، وفي الأفعال التوليديّة لا تكون إلّا في المجموع من حيث المجموع.

ص: 129

فإن قلت: ما من واجب إلّا وله علّة تامّة؛ ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها، فالتخصيص بالواجبات التوليديّة بلا مخصّص.

قلت: نعم، وإن استحال صدور الممكن بلا علّة، إلّا أنّ مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء علّته، وهي لا تكاد تتّصف بالوجوب؛ لعدم كونها بالاختيار، وإلّا لتسلسل، كما هو واضح لمن تأمّل.

___________________________________________

{فإن قلت}: ليس الأمر كما زعمتم من أنّه يلزم وجوب خصوص مقدّمات الواجبات التوليديّة على قول صاحب الفصول، إذ {ما من واجب إلّا وله علّة تامّة، ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها} فالعلّة التامّة الّتي تكون للواجبات التوليديّة وللواجبات المباشريّة هي المقدّمة الموصلة الّتي يقول صاحب الفصول بوجوبها {فالتخصيص} الّذي ذكرتم، أي: تخصيص وجوب المقدّمة {بالواجبات التوليديّة بلا مخصّص} بل لكلّ واجب مقدّمة موصلة.

{قلت: نعم، وإن استحال صدور الممكن بلاعلّة} فكلّ واجب يحتاج إلى علّة تامّة هي المقدّمة الموصلة {إلّا أنّ} الأفعال المباشريّة لا يعقل أن يكون علّتها التامّة واجبة؛ لأنّ {مبادئ اختيار الفعل الاختياري} - أعني: التصوّر والتصديق والميل والجزم والعزم والإرادة - كلّها {من أجزاء علّته} أي: اجزاء علّة الفعل الاختياري {وهي} أي: المبادئ {لا تكاد تتّصف بالوجوب، لعدم كونها بالاختيار، وإلّا} فلو كان مبادئ الاختيار أيضاً مستندة إلى الاختيار {لتسلسل} إذ الفعل الاختياري مستند إلى الإرادة، فلو كانت الإرادة أيضاً اختياريّة لاستندت إلى إرادة أُخرى، وحينئذٍ فالإرادة الثّانية لا يخلو إمّا أن تكون اختياريّة مستندة إلى إرادة ثالثة، وهكذا فيلزم التسلسل {كما هو واضح لمن تأمّل} وإمّا أن لا تكون الإرادة الثّانية اختياريّة، وهذا باطل للزوم الانفكاك بين الأشياء.

وقد تحقّق أنّ حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز سواء، مثلاً: هذا البياض

ص: 130

___________________________________________

إذا كان من طبعه القيام بغيره وكان من طبعه أيضاً عدم إمكانه انتقاله من محلّه إلى محلّ آخر، فالبياض الثّاني الّذي هو مثل هذا البياض الأوّل في ما يجوز - أعني: القيام بالغير - وفي ما لا يجوز - أعني: عدم الانتقال - سواء، وهذا حكم بضرورة العقل مع قيام البرهان عليه أيضاً في محلّه.

فتحصّل من قوله: «قلت» الخ، أنّه فرق بين الواجبات التوليديّة والواجبات المباشريّة، فالواجبات التوليديّة حيث لم تكن الإرادة دخيلة فيها، فالمجموع من المقدّمات تكون علّة تامّة وهي واجبة بالغير وتكون مقدّمة موصلة، وأمّا الواجبات المباشريّة فحيث كانت الإرادة دخيلة فيها، فالمجموع من المقدّماتالّتي في ضمنها الإرادة لا تكون واجبة؛ لأنّ الوجوب إنّما يتعلّق بالأمر الاختياري، ومجموع المقدّمات ليست اختياريّة لتضمّنها للإرادة الّتي لا يعقل اختياريّتها.

وإن شئت قلت: إنّ الموصلة من مقدّمات الأفعال المباشريّة هي الإرادة ولا يعقل وجوبها، وغيرها لا تكون موصلة حتّى يكون واجباً.

هذا تقرير كلام المصنّف+، لكنّك خبير بفساد الكلام من وجهين:

الأوّل: أنّه لو كان عدم اختياريّة بعض المقدّمات موجبة لعدم توجّه الأمر إلى مجموع المقدّمات، فما الفرق بين الأفعال التوليديّة والمباشريّة؟ إذ الإرادة ولو لم تكن بالنسبة إلى نفس الفعل التوليدي لكنّها داخلة في ضمن المقدّمات، كما لا يخفى، فاللّازم القول بعدم وجوب مقدّمة الفعل التوليدي أيضاً، مع أنّ المصنّف فرّق بينهما فقبل المقدّمة الموصلة في التوليدي دون المباشري.

الثّاني: ما تقدّم سابقاً من بطلان كون الإرادة ليست بالاختيار، بل قلنا إنّه على هذا يلزم الجبر المحال، وقد بسطنا الكلام في تقريرات بعض أساتيذنا في هذا

ص: 131

ولأنّه لو كان معتبراً فيه التّرتّب لما كان الطلب يسقط بمجرّد الإتيان بها، من دون انتظار لترتّب الواجب عليها، بحيث لا يبقى في البين إلّا طلبُه وإيجابه، كما إذا لم يكن هذه بمقدّمة، أو كانت حاصلة من الأوّل قبل إيجابه، مع أنّ الطلب لا يكاد يسقط إلّا

___________________________________________

المقام، فراجع(1).

هذا تمام الكلام في الإشكال الأوّل على صاحب الفصول القائل بالمقدّمةالموصلة {و} هنا إشكال آخر، وحاصله - كما في تعليقة القمّي - : «أنّه لا شبهة في أنّه إذا أتى بالمقدّمة وبعد لم يأت بذيها يسقط الأمر بالمقدّمة، لظهور أنّه لا يكلّف حينئذٍ بالإتيان بما أتى به فيكون حاله كحال ما إذا لم يكن هذه بمقدّمة أصلاً، وسقوط الطلب والأمر إمّا بالعصيان المعلوم أنّ مقامنا ليس منه، وإمّا بارتفاع الموضوع المقطوع أنّ الأمر ليس كذلك، فلا بدّ أن يكون بالموافقة وهو المطلوب»(2)،

انتهى.

وقد بيّن المصنّف هذا الإشكال في طيّ مقدّمتين:

الأُولى: ما أشار إليه بقوله: و{لأنّه لو كان معتبراً فيه} أي: في الوجوب الغيري للمقدّمة {الترتّب} لذي المقدّمة عليها بحيث تكون موصلة {لما كان الطلب} للمقدّمة {يسقط بمجرّد الإتيان بها من دون انتظار لترتّب الواجب عليها، بحيث} يكون الواجب الغيري ساقطاً بالمرّة، و{لا يبقى في البين إلّا طلبه} أي: طلب الواجب النّفسي {وإيجابه كما إذا لم يكن هذه} المقدّمة المأتي بها {بمقدّمة} أصلاً {أو} كما {كانت حاصلة من الأوّل قبل إيجابه} أي: قبل إيجاب الواجب النّفسي.

والمقدّمة الثّانية: ما أشار إليه بقوله: {مع أنّ الطلب لا يكاد يسقط إلّا} بأحد أُمور

ص: 132


1- مخطوطة.
2- حاشية الكفاية 1: 179.

بالموافقة، أو بالعصيان والمخالفة، أو بارتفاع موضوع التكليف - كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن بسبب غرق الميّت أحياناً أو حرقه - ، ولا يكون الإتيانبها - بالضرورة - من هذه الأُمور غير الموافقة.

إن قلت: كما يسقط الأمر بتلك الأُمور، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به في ما يحصل به الغرض منه،

___________________________________________

ثلاثة: [1] {بالموافقة} للتكليف [2] {أو بالعصيان والمخالفة} له [3] {أو بارتفاع موضوع التكليف} ومثَّل لارتفاع موضوع التكليف بقوله: {كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن بسبب} ارتفاع موضوعهما. مثل ما إذا اتفق {غرق الميّت أحياناً أو حرقه} فلا يبقى التكليف بالكفن والغسل والصلاة والدفن، لانعدام موضوع التكليف.

وهنا مقدّمة ثالثة طواها المصنّف، وهي: لكن الطلب بالمقدّمة بمجرّد الإتيان بها ساقط {ولا يكون} السّقوط بسبب {الإتيان بها بالضرورة من} أجل {هذه الأُمور} الثّلاثة المذكورة في المقدّمة الثّانية {غير الموافقة} فيكون السّقوط مستنداً إلى الموافقة وهو المطلوب.

والحاصل: أنّ المسقط للتكليف أحد أُمور ثلاثة، ولا ريب أنّ الوجوب الغيري يسقط بإتيان المقدّمة، كما لا ريب في أنّ السّقوط ليس مستنداً إلى العصيان أو انتفاء الموضوع، فتعيّن أن يكون مستنداً إلى الموافقة، وحيث لم يكن حينئذٍ إيصال، فاللّازم كون غير الموصلة أيضاً واجباً، وهو المطلوب.

{إن قلت}: سلّمنا سقوط التكليف الغيري لكن ليس سقوطه مستنداً إلى الموافقة حتّى يتمّ مطلوبكم، إذ لا ينحصر سقوط الواجب في الأُمور الثّلاثة المذكورة، بل {كما يسقط الأمر} الواجب {بتلك الأُمور} الثّلاثة {كذلك يسقط} بشيء رابع، وهناً منه، لبداهة أنّ التكليف قد يسقط{بما ليس بالمأمور به في ما يحصل به} الضّمير راجع إلى «ما» {الغرض منه} الضمير راجع إلى «المأمور به»،

ص: 133

كسقوطه في التوصليّات بفعل الغير أو المحرّمات.

قلت: نعم، ولكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض، من الفعل الاختياري للمكلّف متعلّقاً للطلب في ما لم يكن فيه مانع - وهو كونه بالفعل محرّماً - ؛ ضرورةَ أنّه لا يكون بينهما تفاوت أصلاً، فكيف يكون أحدهما متعلّقاً له فعلاً، دون الآخر؟

___________________________________________

يعني أنّ المسقط للتكليف قد يكون حصول الغرض {كسقوطه في التوصليّات بفعل الغير} فإنّ المولى لو أمر عبده زيداً بسقي خالد، فبادر عمرو وسقاه، سقط التكليف عن زيد، مع أنّه لم يوافق ولم يعص ولم ينتف موضوع التكليف لبقاء خالد، فتأمّل.

وإنّما المسقط هنا حصول الغرض {أو} بفعل {المحرّمات} كما لو ركب الدابّة الغصبيّة وقطع المسافة إلى الحجّ، فإنّ التكليف بالقطع ساقط قطعاً.

ولا يخفى أنّ هذا العصيان غير العصيان السّابق، إذ المراد بالعصيان في السّابق فوت وقت التكليف، كما لو لم يذهب حتّى فات الحجّ فإنّ التكليف بقطع المسافة ساقط، والمراد بالعصيان هنا إتيان المقدّمة على وجه المعصية، فتبصّر.

{قلت: نعم} إنّ التكليف قد يسقط بغير الأُمور الثّلاثة إذا كان يحصل به الغرض {ولكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض من الفعل الاختياري للمكلّف} بيان «ما» {متعلّقاً للطلب} خبر «يكون» {في ما لم يكنفيه مانع} متعلّق بقوله: «متعلّقاً» ثمّ بيّن المانع بقوله: {وهو كونه بالفعل محرّماً} واستدلّ لوجوب تعلّق الطلب بالفعل المحصّل للغرض بقوله: {ضرورة أنّه لا يكون بينهما} أي: بين المأمور به وبين المحصّل للغرض {تفاوت أصلاً، فكيف يكون أحدهما متعلّقاً له فعلاً دون الآخر} مع فرض كون كليهما محصّلاً للغرض؟

والحاصل: أنّ الإتيان بالمقدّمة مسقط للتكليف، وإسقاطه مستند إلى الموافقة لا إلى حصول الغرض بدون الموافقة؛ لأنّ المحصّل للغرض بدون الموافقة إنّما يتصوّر في موردين:

ص: 134

وقد استدلّ صاحب الفصول على ما ذهب إليه بوجوه، حيث قال - بعد بيان أنّ التوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها، لا من قبيل شرط الوجوب - ما هذا لفظه: «والّذي يدلّك على هذا - يعني الاشتراط بالتوصّل - أنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة،

___________________________________________

الأوّل: أن يحصل الغرض بفعل الغير، كما لو أمر زيداً بإتيان الماء فأتى به عمرو.

والثّاني: أن يحصل الغرض بفعل المحرّم، كما لو أمر السّير إلى الحجّ مقدّمة فسار بالدابّة المغصوبة، وإلّا فلو كان الفعل لنفس الشّخص ولم يكن محرّماً فمع كونه محصّلاً للغرض يلزم أن يكون مأموراً به، إذ لا ترجيح لأحد محصّلي الغرض على الآخر.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ ما نحن فيه من هذا القبيل، إذ مع عدم الفرق بين المقدّمة الموصلة وغيرها في إمكان الإتيان بذيها لم يكن وجه لوجوب الموصلةدون غيرها حتّى يقال: إنّ غير الموصلة ليست واجبة ولكنّها محصّلة للغرض، ولهذا يسقط التكليف.

{وقد استدلّ صاحب الفصول} + {على ما ذهب إليه} من القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط {بوجوهٍ، حيث قال - بعد بيان أنّ التوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب} يعني أنّه يشترط في وجود المقدّمة بعنوان المقدّميّة التوصّل بها إلى الواجب، بحيث لو أتى بذات المقدّمة بدون ذيها لم تكن تلك الذات مقدّمة، وليس وجوب المقدّمة مشروطاً بالتوصّل بحيث لو لم يتوصّل كانت مقدّمة ولم تكن واجبة، إذ لو كان وجوب المقدّمة مشروطاً بوجود ذي المقدّمة ووجود ذي المقدّمة مشروطاً بوجود المقدّمة لزم كون وجوب المقدّمة مشروطاً بوجودها وهو تحصيل الحاصل، كما لا يخفى {ما هذا لفظه: «والّذي يدلّك على هذا - يعني الاشتراط بالتوصّل - أنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة} بين

ص: 135

فالعقل لا يدلّ عليه زائداً على القدر المذكور.

وأيضاً لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم: أُريد الحجّ، وأُريد المسير الّذي يتوصّل به إلى فعل الواجب، دون ما لم يتوصّل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعد مطلوبيّتها له مطلقاً، أو على تقدير التوصّل بها إليه، وذلك آيةُ عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه.

___________________________________________

المقدّمة وذيها {فالعقل لا يدلّ عليه} أي: على الوجوب {زائداً على القدر المذكور} أعني: الموصلة، إذ القدر المتيقّن من حكم العقل هو وجوب الموصلة، إمّا هي بالخصوص أو الأعمّ، فهي متيقّن الوجوب وغيرها مشكوك، فعلى المدّعي الإثبات.

{وأيضاً لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم: أُريد الحجّ وأُريد المسير الّذي يتوصّل به إلى فعل الواجب، دون ما} أي: المسير الّذي {لم يتوصّل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمِر} الحكيم {بمثل ذلك، كما أنّها قاضية بقبح التصريح} من الآمِر الحكيم {بعد مطلوبيّتها له} أي: بعد مطلوبيّة المقدّمة للحجّ {مطلقاً} سواء كانت موصلة أم لا {أو على تقدير التوصّل بها إليه، وذلك} أي: عدم إباء العقل وحكم الضرورة {آية عدم الملازمة بين وجوبه} أي: وجوب الموصل من المقدّمات.

والظاهر رجوع الضمير إلى ذي المقدّمة، أي: لا تلازم بين وجوب ذي المقدّمة {و} بين {وجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه} فيظهر أنّ الواجب خصوص الموصلة دون غيرها. وإنّما أضرب بقوله: «بل الضرورة» الخ بكلمة «بل» إذ عدم إباء العقل يمكن لعدم اطّلاعه على الطرفين، بخلاف قضاء الضرورة، فإنّ ذلك بعد الاطّلاع.

ص: 136

وأيضاً حيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله، فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصولُه معتبراً في مطلوبيّتها، فلا تكون مطلوبةً إذا انفكّت عنه، وصريح الوجدان قاضٍ بأنّ من يريد شيئاً بمجرّد حصول شيءٍ آخر، لا يريده إذاوقع مجرّداً عنه، ويلزم منه أن يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطاً بحصوله»(1)، انتهى موضعُ الحاجة من كلامه، زيد في علوّ مقامه.

وقد عرفت - بما لا مزيد عليه - أنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدّمة،

___________________________________________

{وأيضاً} إنّ الغرض الداعي إلى إيجاب المقدّمة حيث كان هو التوصّل وغير الموصلة حيث لا توصّل فيها لا تكون متعلّقة للغرض، فلا تكون واجبة. توضيحه: أنّه {حيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله} عطف على «التوصّل» {فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصوله معتبراً في مطلوبيّتها}.

وعلى هذا {فلا تكون} المقدّمة {مطلوبة إذا انفكّت عنه} أي: عن التوصّل {وصريح الوجدان قاضٍ بأنّ من يريد شيئاً بمجرّد حصول شيء آخر لا يريده} خبر «أنّ» {إذا وقع مجرّداً عنه، ويلزم منه} أي: ممّا ذكرنا من صريح الوجدان {أن يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطاً بحصوله»} مثلاً: لو أراد السّير لحصول الحجّ كان وقوع السّير على الوجه المطلوب منوطاً بحصول الحجّ، فلو لم يحصل لم يكن السّير مطلوباً {انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علوّ مقامه}.

{و} لكن لا يخفى ما في أدلّته الثّلاثة من الخدشة: أمّا الجواب عن الدليلين الأوّلين - أعني: قوله: «والّذي يدلّك» الخ وقوله: «وأيضاً لا يأبى العقل» الخ -فلما {قد عرفت بما لا مزيد عليه} من {أنّ العقل الحاكم بالملازمة} بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها {دلّ على وجوب مطلق المقدّمة} أعمّ من الموصلة وغيرها

ص: 137


1- الفصول الغرويّة: 86، مع اختلاف يسير.

لا خصوص ما إذا ترتّب عليها الواجب، في ما لم يكن هناك مانع عن وجوبه - كما إذا كان بعض مصاديقه محكوماً فعلاً بالحرمة - ؛ لثبوت مناط الوجوب حينئذٍ في مطلقها، وعدمِ اختصاصه بالمقيّد بذلك منها.

وقد انقدح منه: أنّه ليس للآمر الحكيم - الغير المجازف بالقول - ذلك التصريح، وأنّ دعوى: أنّ الضرورة قاضية بجوازه، مجازفة. كيف يكون ذا،

___________________________________________

و{لا} يدلّ على وجوب {خصوص ما إذا ترتّب عليها الواجب} أي: الموصلة فقط {في ما لم يكن هناك مانع عن وجوبه}.

وقوله: «في ما» يتعلّق بقوله: «دلّ على وجوب» ثمّ مثل لما كان هناك مانع بقوله: {كما إذا كان بعض مصاديقه} أي: مصاديق مطلق المقدّمة {محكوماً فعلاً بالحرمة} فإنّ المحكوم بالحرمة، كالسير على الدابّة الغصبيّة لا يعقل أن يكون واجباً، لما تقدّم من لزوم اجتماع الأمر والنّهي.

وإنّما نقول بوجوب مطلق المقدّمة غير المحرّمة {لثبوت مناط الوجوب} وهو إمكان التوصّل {حينئذٍ} أي: حين عدم المانع عن الوجوب {في مطلقها} أعمّ من الموصلة وغيرها {وعدم اختصاصه} أي: المناط {بالمقيّد بذلك} الإيصال إلى الواجب {منها} أي: من المقدّمات.وبهذا كلّه تبيّن الجواب عن دليله الأوّل، وأنّ قوله: «إنّ العقل لا يدلّ على وجوب أزيد من الموصلة» باطل، بل العقل دالّ على أزيد منها.

ثمّ شرع المصنّف(رحمة الله) في الجواب عن دليله الثّاني بقوله: {وقد انقدح منه} أي: من حكم العقل بإطلاق وجوب المقدّمة {أنّه ليس للآمِرِ الحكيم الغير المجازف بالقول ذلك التصريح} بأن يقول: لا أُريد المقدّمة الّتي لا يتوصّل بها إلى الواجب {و} انقدح أيضاً {أنّ دعوى} الفصول {أنّ الضرورة قاضية بجوازه مجازفة} فإنّه تصريح بخلاف حكم العقل، و{كيف يكون ذا} التصريح من المولى جائزاً

ص: 138

مع ثبوت الملاك في الصورتين بلا تفاوت أصلاً؟ كما عرفت.

نعم، إنّما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النّفسي في إحداهما، وعدم حصوله في الأُخرى، من دون دخل لها في ذلك أصلاً، بل كان بحسن اختيار المكلّف وسوء اختياره، وجاز للآمر أن يصرّح بحصول هذا المطلوب في إحداهما، وعدم حصوله في الأُخرى.

بل من حيث إنّ الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب - وإنّما كان الواجب الغيري ملحوظاً إجمالاً بتبعه، كما يأتي أنّ وجوب المقدّمة على الملازمة تبعيّ - جاز في صورة عدم حصول المطلوب النّفسي التصريحُ

___________________________________________

{مع ثبوت الملاك} لوجوب المقدّمة {في الصورتين} الموصلة وغيرها {بلا تفاوت أصلاً؟ - كما عرفت} بما لا مزيد عليه - .

{نعم، إنّما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النّفسي في إحداهما وعدم حصوله في الأُخرى من دون دخل لها} أي:للمقدّمة {في ذلك} الحصول وعدمه {أصلاً} لأنّ ما كان من طرف المقدّمة تامّ فيهما {بل كان} حصول الواجب النّفسي وعدمه {بحسن اختيار المكلّف} حيث أتى بذيها {وسوء اختياره} حيث لم يأت {و} الحاصل عدم جواز تصريح الأمر بوجوب الموصلة دون غيرها.

نعم {جاز للآمر أن يصرّح بحصول هذا المطلوب} النّفسي {في إحداهما} وهي الموصلة {وعدم حصوله في الأُخرى} وهي غير الموصلة، وكذلك يجوز له التصريح بشيء آخر بينه بقوله: {بل من حيث إِنّ الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب} النّفسي {وإنّما كان الواجب الغيري ملحوظاً إجمالاً بتبعه} ومندرجاً في أمره {كما يأتي أنّ وجوب المقدّمة على الملازمة} بين الوجوبين {تبعيّ جاز} هذا هو مدخول «بل» أي: بل جاز كذا من حيث إنّ الملحوظ الخ، فيكون قوله: «من حيث» تعليلاً لهذا الجواز، كما لا يخفى.

والحاصل: أنّه يجوز للآمر {في صورة عدم حصول المطلوب النّفسي التصريح}

ص: 139

بعدم حصول المطلوب أصلاً؛ لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدّمة، فضلاً عن كونها مطلوبة، كما جاز التصريح بحصول الغيري مع عدم فائدته لو التفت إليها، كما لا يخفى، فافهم.

إن قلت: لعلّ التفاوت بينهما في صحّة اتصاف إحداهما بعنوان الموصليّة دون الأُخرى، أوجب التفاوت بينهما في المطلوبيّة وعدمِها، وجواز التصريح بهما، وإن لم يكن بينهما تفاوت في الأثر، كما مرّ.

___________________________________________

فاعل «جاز» {بعدم حصول المطلوب أصلاً} وإنّما يجوز هذاالتصريح {لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدّمة فضلاً عن} الالتفات إلى {كونها مطلوبة} إذ مع عدم الالتفات إلى أصل الشّيء لا التفات إلى صفته {كما جاز التصريح بحصول الغيري} فقط {مع عدم فائدته لو التفت إليها} أي: إلى المقدّمة {كما لا يخفى، فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ التصريح بعدم حصول المطلوب أصلاً من باب التوسّع، إذ قد حصل المطلوب بالوجوب الغيري.

{إن قلت:} ما ذكرتم من عدم التفاوت بين ا لموصلة وغيرها غير مستقيم، ف-{لعلّ التفاوت بينهما في صحّة اتصاف إحداهما بعنوان الموصليّة دون الأُخرى أوجب} خبر «لعلّ» أي: إنّ التفاوت بين الصفتين أوجب {التفاوت بينهما} أي: بين المقدّمتين {في المطلوبيّة وعدمها}.

وقوله: {وجواز} عطف على «المطلوبيّة» أي: إنّ التفاوت بين الصفتين أوجب أمرين: الأوّل: التفاوت في المطلوبيّة، والثّاني: التفاوت في جواز {التصريح بهما}، فيصرّح المولى بأنّ الموصلة مطلوبة وغيرها ليست بمطلوبة - كما قاله الفصول - {وإن لم يكن بينهما} أي: الموصلة وغيرها {تفاوت في الأثر} الّذي صار سبباً لإيجاب المقدّمة وهو إمكان التوصّل {كما مرّ} غير مرّة.

ص: 140

قلت: إنّما يوجب ذلك تفاوتاً فيهما لوكان ذلك لأجل تفاوتٍ في ناحية المقدّمة، لا في ما إذا لم يكن في ناحيتها أصلاً، كما هاهنا؛ ضرورة أنّ الموصليّة إنّما تنتزع من وجود الواجب وترتّبه عليها، من دون اختلاف في ناحيتها وكونها في كلتا الصورتينعلى نحوٍ واحد وخصوصيّةٍ واحدة؛ ضرورةَ أنّ الإتيان بالواجب بعد الإتيان بها بالاختيار تارةً، وعدَم الإتيان به كذلك أُخرى، لا يوجب تفاوتاً فيها، كما لا يخفى.

___________________________________________

{قلت}: التفاوت في الموصليّة لا يوجب التفاوت في المطلوبيّة؛ لأنّه {إنّما يوجب ذلك} التفاوت في الموصليّة {تفاوتاً فيهما} أي: في المطلوبيّة وعدمها {لو كان ذلك} التفاوت في الموصليّة {لأجل تفاوت في ناحية المقدّمة} بحيث كان في ذات مقدّمة الموصلة خصوصيّة لم تكن في ذات غير الموصلة، و{لا} يوجب التفاوت في المطلوبيّة {في ما إذا لم يكن} تفاوت {في ناحيتها} وذاتها {أصلاً كما هاهنا، ضرورة أنّ} عنوان {الموصليّة إنّما تنتزع من وجود الواجب وترتّبه عليها} أي: على المقدّمة {من دون اختلاف في ناحيتها} فالموصليّة عنوان انتزاعي من أمر متأخّر عن المقدّمة، ومن البديهي أنّ الأُمور الانتزاعيّة لا دخل لها في ذات المعنون {وكونها} عطف على قوله: «أنّ الموصليّة»، أي: وضرورة كون المقدّمة {في كلتا الصورتين} الإيصال وعدمه {على نحو واحد وخصوصيّة واحدة} من دون تغيير في ذاتها وماهيّتها ولا في صفاتها الحقيقيّة الخارجيّة، فالإيصال وعدمه ليسا من قبيل النّاطق والنّاهق ولا من قبيل الأسود والأبيض، فليست في الموصلة خصوصيّة توجب الإيصال ولا أنّ غير الموصلة فاقدة لتلك الخصوصيّة {ضرورة أنّ الإتيان بالواجب بعد الإتيان بها} أي: بالمقدّمة{بالاختيار تارةً وعدم الإتيان به كذلك} بالاختيار تارةً {أُخرى لا يوجب تفاوتاً فيها} أي: في نفس المقدّمة {كما لا يخفى}.

ص: 141

وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ مطلوبيّة المقدّمة حيث كانت بمجرّد التوصّل بها، فلا جرم يكون التوصّل بها إلى الواجب معتبراً فيها.

ففيه: أنّه إنّما كانت مطلوبيّتها لأجل عدم التمكّن من التوصّل بدونها، لا لأجل التوصّل بها؛ لما عرفت من أنّه ليس من آثارها، بل ممّا يترتّب عليها أحياناً بالاختيار بمقدّمات أُخرى - وهي مبادئ اختياره - ، ولا يكاد يكون مثل ذا غايةً لمطلوبيّتها، وداعياً إلى إيجابها.

___________________________________________

وبهذا كلّه تبيّن الجواب عن دليله الثّاني، ثمّ شرع في الجواب عن دليله الثّالث - أعني، قوله: «وأيضاً حيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل» الخ - فقال: {وأمّا ما أفاده + من أنّ مطلوبيّة المقدّمة حيث كانت بمجرّد التوصّل بها فلا جرم يكون التوصّل بها إلى الواجب معتبراً فيها} أي: في المقدّمة المتّصفة بالوجوب {ففيه أنّه} غير تامّ؛ لأنّه {إنّما كانت مطلوبيّتها لأجل عدم التمكّن من التوصّل} إلى ذيها {بدونها، لا} أنّ مطلوبيّتها {لأجل التوصّل بها} فعلاً إلى ذيها قهراً كالسبب والمسبّب، وذلك {لما عرفت من أنّه} أي: التوصّل فعلاً {ليس من آثارها} أي: آثار المقدّمة دائماً {بل} التوصّل {ممّا يترتّب عليها أحياناً} ويكون الترتّب {بالاختيار} في الفعل المباشري مصاحباً{بمقدّمات أُخرى وهي مبادئ اختياره} وفي الفعل التوليدي يكون الترتيب متوقّفاً على هذه المقدّمة الموصلة وسائر المقدّمات {ولا يكاد يكون مثل ذا} التوصّل الفعلي {غاية لمطلوبيّتها وداعياً إلى إيجابها} إذ ما لا يكون أثر الشّيء لا يكون غاية له، فالتّبريد إذا لم يكن أثراً للنار لا يكون الأمر بالنار لأجل التبريد، وحيث إنّ التوصّل لا يكون أثراً للمقدّمة لا يكون غاية من إيجابها.

قال العلّامة القمّي(رحمة الله) في توضيح هذا الجواب ما لفظه: «توضيح الدفع أنّه لا إشكال في أنّ المقدّمة ليست ممّا يلزم من وجودها الوجود، لعدم جريان الملازمة

ص: 142

وصريح الوجدان

___________________________________________

الوجوديّة إلّا في العلّة التامّة على ما تقدّم، والحكم العقلي بوجوب المقدّمة لا يكاد يكون بهذا الملاك لعدمه في الجميع مع حكمه في الجميع بالفرض، فلا بدّ أن يكون بملاك آخر جار في الجميع وليس إلّا الملازمة العدميّة، أي: ما يلزم من عدمه العدم لكون المقدّمات بحذافيرها كذلك، يعني كون عدمه علّة لعدم ذي المقدّمة.

وأمّا في طرف الوجود فليس إلّا التمكّن، إذ مع العدم لا يتمكّن من الإتيان به، فإذا كان مناط الحكم العقلي هو الملازمة العدميّة، فيجري في جميع المقدّمات دون بعض وهو الموصلة منها فقط»(1)،

انتهى.

ثمّ شرع المصنّف(رحمة الله) في وجهٍ ثانٍ لردّ الدليل الثّالث للفصول بقوله: {و} يدلّ على عدم دخل وصف الموصليّة في وجوب المقدّمة {صريحالوجدان} بيان ذلك أنّ الجهة على نحوين:

الأوّل: الجهة التعليليّة، وهي عبارة عن الجهة الّتي سبّبت اتصاف الفعل بالوجوب مثلاً، ولا تكون هذه الجهة قيداً.

الثّاني: الجهة التقييديّة، وهي عبارة عن الجهة الّتي أُخذت قيداً في الفعل، والتعليليّة لو ذهبت أمكن بقاء المعلّل لإمكان مدخليّة العليّة حدوثاً لا بقاءً، كنجاسة الماء المتغيّر، فإنّ النّجاسة مستندة إلى التغيّر، ومع ذلك لو ذهب التغيّر بقيت النّجاسة، بخلاف الحيث التقييدي، فإنّه لو ذهب القيد ذهب المقيّد، ولو شكّ بقي الحكم في التعليلي لجريان الاستصحاب دون التقييدي لتبدّل الموضوع.

إذا عرفت ذلك قلنا: لو سلّمنا كون الغرض من إيجاب المقدّمة هو التوصّل لكن

ص: 143


1- حاشية الكفاية 1: 183.

إنّما يقضى بأنّ ما أُريد لأجل غايةٍ، وتَجَرَّدَ عن الغاية - بسبب عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها - ، يقعُ على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة، كيف؟ وإلّا يلزم أن يكون وجودها من قيوده، ومقدّمةً لوقوعه على نحو تكون الملازمة بين وجوبه بذاك النّحو ووجوبها، وهو كما ترى؛ ضرورة أنّ الغاية لا تكاد تكون قيداً لذي الغاية، بحيث كان تخلّفها موجباً لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة، وإلّا

___________________________________________

نقول: هذا على نحو الجهة التعليليّة لا التقييديّة، إذ الوجدان {إنّما يقضي بأنّ ما أُريد لأجل غاية وتجرّد عن الغاية} بأن لم توجد الغاية في الخارج {بسبب عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها} أي: الغاية {يقع} خبر«بأنّ» أي: يقع ذلك المراد لأجل الغاية {على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة} فنصب السُلّم الواجب غيريّاً لأجل الكون على السطح يقع واجباً وإن لم يحصل الكون على السّطح بسبب مانع آخر.

و{كيف} يكون عدم وجود ذي المقدّمة سبباً لعدم وجوب ما أتى به من المقدّمة {وإلّا} فلوكان عدم وجود ذي المقدّمة مغيّراً للمقدّمة {يلزم أن يكون وجودها} الخارجي {من قيوده} أي: قيود ذلك الواجب الغيري المقدّمي {ومقدّمة لوقوعه على نحو تكون الملازمة بين وجوبه} أي: وجوب الواجب الغيري {بذاك النّحو} أي: بنحو الوجوب الغيري {ووجوبها} أي: وجوب الغاية.

والحاصل: أنّه لو كان وقوع الواجب في الخارج شرطاً لوجوب مقدّمته لزم الدور؛ لأنّ وجوب المقدّمة متوقّف على وجوب ذي المقدّمة، فلو كان ذو المقدّمة من قيود المقدّمة صار مقدّمة للمقدّمة، فيتوقّف وجوبه على وجوب مقدّمته {وهو كما ترى} باطل {ضرورة أنّ الغاية} أي: ذا المقدّمة {لا تكاد تكون قيداً لذي الغاية} أي: المقدّمة {بحيث كان تخلّفها موجباً لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة} كما يقوله الفصول {وإلّا} فلو كان تخلّف الغاية

ص: 144

يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه كسائر قيوده، فلا يكون وقوعه على هذه الصفة منوطاً بحصولها، كما أفاده.

ولعلّ منشأ توهّمه: خَلطُه بين الجهة التقييديّة والتعليليّة، هذا.

مع ما عرفت من عدم التخلّف هاهنا، و

___________________________________________

وعدم وجودها موجباً لسقوط المقدّمة عن الوجوب {يلزم أن تكون}الغاية {مطلوبة بطلبه} أي: بطلب ذي الغاية {كسائر قيوده} أي: قيود ذي الغاية المطلوبة بطلبه.

وهذا هو ما ذكرناه من الدور المستحيل، وحيث إنّ الدور باطل {فلا يكون وقوعه} أي: وقوع ذي الغاية وهو المقدّمة {على هذه الصفة} أي: الوجوب الغيري {منوطاً بحصولها} أي: حصول الغاية في الخارج {كما أفاده} في الفصول(1).

{ولعلّ منشأ توهّمه خلطه بين الجهة التقييديّة والتعليليّة} فالتوصّل إلى الواجب جهة تعليليّة بحيث لولاها لما أوجب المولى المقدّمة، وليس جهة تقييديّة بحيث تكون دخيلة وقيداً لوجوب المقدّمة، وقد بيّنّا سابقاً أنّ مع انتفاء الجهة التعليليّة يبقى الحكم بخلاف الجهة التقييديّة، فبانتفائها ينتفي الحكم.

وبعبارة أوضح: وجوب المقدّمة كنجاسة الماء المتغيّر والعلّة للوجوب هو التوصّل، فكما أنّه لو زال التغيّر لم تزل النّجاسة، كذلك لو زال التوصّل لم يزل الوجوب، فالمقدّمة واجبة لكونها موصلة لا أنّ المقدّمة الموصلة فعلاً واجبة، فصاحب الفصول ظنّ أنّ التوصّل جهة تقييديّة للوجوب وبانتفائها ينتفي الوجوب، والحال أنّ التوصّل جهة تعليليّة وبانتفائها لا ينتفي الوجوب.

{هذا} كلّه على تقدير تسليم أنّ جهة وجوب المقدّمة هي التوصّل {مع} أنّه غير تامّ، ل- {ما عرفت من عدم التخلّف هاهنا، و} ذلك لأنّ جهة وجوب المقدّمة

ص: 145


1- الفصول الغرويّة: 86.

أنّ الغاية إنّما هو حصول ما لولاه لما تمكّن من التوصّل إلى المطلوب النّفسي، فافهم واغتنم.ثمّ إنّه لا شهادة على الاعتبار في صحّة منع المولى من مقدّماته بأنحائها، إلّا في ما إذا رتّب عليه الواجب

___________________________________________

وغايته ليست هي التوصّل، بل {إنّ الغاية} لوجوب المقدّمة {إنّما هو حصول ما لولاه لما تمكّن من التوصّل إلى المطلوب النّفسي} وهذه الغاية في المقام موجودة.

مثلاً: لو نصب السُلّم ولم يصعد فالنصب واجب، إذ لولا النّصب لما تمكّن من الصعود الّذي هو واجب نفسي، فالغاية هي إمكان التوصّل وهي موجودة وليست الغاية التوصّل الفعلي، كما يقوله الفصول {فافهم واغتنم}.

والمتحصّل أنّ للفصول كلامين:

الأوّل: أنّ الغاية لوجوب المقدّمة هي التوصّل.

الثّاني: أنّ التوصّل غير حاصل في ما إذا لم يأت بذي المقدّمة، فلا تكون المقدّمة حينئذٍ واجبة.

والجواب عن الأوّل: أنّ الغاية هي إمكان التوصّل. وعن الثّاني: أنّه على تقدير كون الغاية هي التوصّل لكن التوصّل على نحو الجهة التعليليّة، فالمقدّمة تكون واجبة ولو لم يأت بذيها في الخارج.

{ثمّ إنّه} قد يستدلّ على اعتبار الإيصال في المقدّمة الواجبة بأنّه يصحّ أن ينهى المولى من غير الموصل من المقدّمات ولو كانت المقدّمة مطلقاً واجبة لم يصحّ النّهي؛ لأنّه يقع التزاحم بين الوجوب والحرمة.

والحاصل: أنّ صحّة النّهي عن غير الموصلة دليل على وجوب الموصلة فقط، ولكن هذا الدليل غير تامّ، إذ {لا شهادة على الاعتبار} أي: على اعتبار وجوب الموصل فقط {في} الدليل الّذي ذكرتم من {صحّة منعالمولى من مقدّماته بأنحائها، إلّا} استثناء عن المنع، أي: يمنع المولى إلّا {في ما إذا رتّب عليه الواجب} في الخارج

ص: 146

- لو سلّم - أصلاً؛ ضرورة أنّه وإن لم يكن الواجب منها حينئذٍ غيرَ الموصلة، إلّا أنّه ليس لأجل اختصاص الوجوب بها في باب المقدّمة، بل لأجل المنع من غيرها المانع من الاتصاف بالوجوب هاهنا، كما لا يخفى.

مع أنّ في صحّة المنع منه كذلك نظراً، وجهُه: أنّه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذٍ مخالفة وعصياناً؛ لعدم التمكّن شرعاً منه؛

___________________________________________

{لو سلّم} جواز هذا المنع {أصلاً} متعلّق بقوله: «لا شهادة» {ضرورة أنّه وإن لم يكن الواجب منها} أي: من المقدّمات {حينئذٍ} أي: حين منع المولى عن المقدّمات إلّا ما يترتّب عليه الواجب {غير الموصلة} لاقتضاء النّهي {إلّا أنّه} أي: أنّ اختصاص الوجوب بالموصلة حين المنع {ليس لأجل اختصاص الوجوب بها} أي: بالمقدّمة الموصلة {في باب المقدّمة} مطلقاً سواء منع عن غير الموصلة أم لا {بل} اختصاص الوجوب {لأجل المنع من غيرها المانع} صفة المنع {من الاتصاف بالوجوب هاهنا} في مورد المنع {كما لا يخفى} فإنّ المضادّة بين الوجوب والحرمة في المقام أوجبت رفع الوجوب، حيث كانت الحرمة عينيّة والوجوب تخييريّاً، فما ذكرتم من عدم وجوب المقدّمة للنهي عنها غير مرتبط بالمدّعى - وهو عدم وجوب غير الموصلة مطلقاً - .{مع أنّ في صحّة المنع منه كذلك} بأن يقول المولى أُريد الصعود ولا أُريد إلّا نصب السُلّم الّذي يترتّب عليه الصعود {نظراً} وهذا ما أشرنا إليه بقولنا: «لو سلّم» {وجهه أنّه يلزم} من منع المولى عن جميع المقدّمات غير الموصلة {أن لا يكون ترك الواجب} النّفسي {حينئذٍ} أي: حين المنع {مخالفة وعصياناً} والتالي باطل فالمقدّم مثله. بيان الملازمة: أنّه إذا كان جواز المقدّمة متوقّفاً على الإتيان بالواجب فقبل الإتيان بالواجب لا جواز للمقدّمة، وحيث لا يجوز للمقدّمة يكون ذو المقدّمة غير مقدور {لعدم التمكّن شرعاً منه} والممتنع شرعاً

ص: 147

لاختصاص جواز مقدّمته بصورة الإتيان به.

وبالجملة: يلزم أن يكون الإيجاب مختصّاً بصورة الإتيان؛ لاختصاص جواز المقدّمة بها، وهو محال، فإنّه يكون من طلب الحاصل المحال،

___________________________________________

كالممتنع عقلاً.

والحاصل: أنّ الواجب النّفسي يكون ممتنعاً شرعاً {لاختصاص جواز مقدّمته بصورة الإتيان به} أي: بالواجب، والإتيان بالواجب متوقّف على جواز المقدّمة.

إن قلت: قولكم: «لعدم التمكّن شرعاً منه» غير صحيح، إذ المكلّف متمكّن من الإتيان بالواجب بسبب الإتيان بمقدّمته الموصلة، والمقدّمة الموصلة حيث لم يمتنع عنها كانت مقدورة للمكلّف شرعاً.

قلت: ليس الأمر كذلك، وتقريره - بلفظ الرّشتي - : «أنّه على تقدير محرميّة جميع أفراد مقدّمات الواجب إلّا المقدّمة الموصلة، فإمّا أن لا يأتي المكلّفبالواجب فحينئذٍ تكون المقدّمة محرّمة حسب الفرض، فيمتنع الواجب شرعاً بامتناع مقدّمته شرعاً فلا يكون واجباً، وإمّا أن يأتي المكلّف به فحينئذٍ - وإن كانت المقدّمة غير محرّمة - إلّا أنّه لا يصحّ للمولى طلب ذي المقدّمة كي يترشّح منه الوجوب على المقدمة، ضرورة أنّه طلب الحاصل، فكأنّه قال المولى: على تقدير كونك على السّطح ليصير نصب السُلّم مقدوراً لك شرعاً فكن على السطح»(1).

{وبالجملة يلزم} من منع المولى عن جميع المقدّمات غير المقدّمة الموصلة {أن يكون الإيجاب} النّفسي {مختصّاً بصورة الإتيان} بالواجب النّفسي {لاختصاص جواز المقدّمة بها} أي: بصورة الإتيان {وهو} أي: هذا النّحو من الإيجاب {محال، فإنّه يكون من طلب الحاصل المحال}.

ص: 148


1- شرح كفاية الأصول 1: 161.

فتدبّر جيّداً.

بقي شيء: وهو أنّ ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة هو: تصحيح العبادة الّتي يتوقّف على تركها فعل الواجب، بناءً على كون ترك الضدّ ممّا يتوقّف على فعل ضدّه؛ فإنّ تركها - على هذا القول - لا يكون مطلقاً واجباً، - ليكون فعلها محرّماً، فتكون فاسدةً - ، بل في ما يترتّب عليه الضدّ الواجب،

___________________________________________

وبيانه - كما قرّره في الهامش - بما لفظه: «حيث كان الإيجاب فعلاً متوقّفاً على جواز المقدّمة شرعاً، جوازها كذلك كان متوقّفاً على إيصالها، المتوقّفعلى الإتيان بذي المقدّمة بداهة، فلا محيص إلّا عن كون إيجابه على تقدير الإتيان به، وهو من طلب الحاصل الباطل»(1)

{فتدبّر جيّداً} ولا تغفل عن أنّ في الكلام خلطاً حيث إنّ المقدّمة الجائزة هي الّتي يكون بعدها الواجب، لا أنّ المقدّمة تكون جائزة بشرط الإتيان بذيها حتّى يكون من طلب الحاصل، وأقوى الشّواهد على الإمكان مراجعة الوجدان، فإنّه لو كان في المقدّمة ضرر يتداركه نفع الواجب صحّ المنع عنها سوى الموصلة منها.

{بقي شيء: وهو أنّ ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة هو تصحيح العبادة الّتي يتوقّف على تركها فعل الواجب} كالصلاة بالنسبة إلى إزالة النّجاسة عن المسجد، لكن هذه الثّمرة {بناءً على كون ترك الضد} كالصّلاة {ممّا يتوقّف على فعل ضدّه} كإزالة النّجاسة.

والحاصل: أنّا لو قلنا بأنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ظهرت ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة {فإنّ تركها} أي: ترك العبادة كالصلاة {على هذا القول لا يكون مطلقاً واجباً} سواء فعل الضدّ الآخر كالإزالة أم لا {ليكون فعلها} أي: العبادة {محرّماً} مطلقاً {فتكون فاسدة، بل} ترك العبادة يكون واجباً {في ما يترتّب عليه} فعل {الضدّ الواجب} فترك الصلاة واجب في مورد يترتّب على هذا

ص: 149


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 586.

ومع الإتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتّب، فلا يكون تركها مع ذلك واجباً، فلا يكون فعلها منهيّاً عنه، فلا تكون فاسدة.

وربّما أُورد(1) على تفريع هذه الثّمرة بما حاصله:أنّ فعل الضدّ وإن لم يكن نقيضاً للترك الواجب مقدّمةً - بناءً على المقدّمة الموصلة - ،

___________________________________________

الترك فعل الإزالة {ومع} عدم الإزالة و{الإتيان بها} أي: بالعبادة كالصلاة {لا يكاد يكون هناك ترتّب} للإزالة على ترك الصلاة {فلا يكون تركها} أي: العبادة {مع ذلك} أى: مع عدم ترتّب الضدّ الواجب - أعني: الإزالة - {واجباً} ومع عدم وجوب ترك الصلاة مثلاً {فلا يكون فعلها منهيّاً عنه} وإذا لم تكن منهيّاً عنها {فلا تكون فاسدة}.

هذا كلّه على تقدير القول بوجوب المقدّمة الموصلة، وأمّا على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً فالصلاة باطلة، إذ ترك الصلاة واجب؛ لأنّ هذا الترك مقدّمة لفعل الإزالة، وحيث إنّ الترك واجب ففعل الصلاة مطلقاً منهيّ عنه، وهو يوجب الفساد إذ النّهي في العبادة مقتضٍ لفسادها.

{وربّما أورد} الشّيخ المرتضى(رحمة الله) - على ما عن التقريرات - {على تفريع هذه الثّمرة} على القول بالمقدّمة الموصلة {بما حاصله} أنّ الصلاة باطلة ولو على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط، فهي باطلة على كلّ حال، سواء قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة فقط أو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، وذلك بتقرير {أنّ فعل الضد} كالصلاة {وإن لم يكن نقيضاً للترك الواجب مقدّمة} إذ المقدّمة هي ترك الصلاة الموصل {بناءً على المقدّمة الموصلة} ونقيض هذه المقدّمة هي ترك ترك الصلاة الموصل، إذ نقيض كلّ شيء رفعه، ويدلّ على أنّ الصلاة ليست نقيضاً للترك الموصل إمكان ارتفاعهما، فلو لم يصل المكلّف ولم يزل النّجاسة لم

ص: 150


1- مطارح الأنظار 1: 378.

إلّا أنّه لازم لما هو من أفراد النّقيض؛ حيث إنّ نقيض ذاك الترك الخاص رفعُهُ، وهو أعمّ من الفعل والترك الآخر المجرّد.

وهذا يكفي في إثبات الحرمة، وإلّا لم يكن الفعل المطلق محرّماً في ما إذا كان الترك المطلق واجباً؛ لأنّ الفعل أيضاً ليس نقيضاً للترك؛ لأنّه أمر وجوديّ، ونقيض الترك إنّما هو رفعه، ورفع الترك إنّما يلازم الفعل مصداقاً، وليس عينه، فكما أنّ هذه الملازمة

___________________________________________

تكن صلاة ولا ترك موصل.

وعلى هذا فليست الصلاة نقيضاً للمقدّمة الواجب حتّى تحرم وتفسد من هذه الجهة {إلّا أنّه} أي: الضدّ الّذي هو الصلاة {لازم لما هو من أفراد النّقيض، حيث إِنّ نقيض ذاك الترك الخاص} الواجب {رفعه} خبر «أنّ» {وهو} أي: الرّفع {أعمّ من الفعل} كالصلاة {والترك الآخر المجرّد} عن الصلاة.

والحاصل: أنّ المقدّمة الواجبة لفعل الإزالة هي: «ترك الصلاة الموصل»، ونقيض هذا الترك محرّم وهو يتحقّق في ضمن أحد فردين: الأوّل الصلاة، الثّاني الترك المطلق، فكلاهما رفع لذلك الترك الواجب مقدّمة، وهو كاف في حرمتيهما.

{وهذا} أي: كون الصلاة لازماً لفرد النّقيض {يكفي في إثبات الحرمة} للصلاة، وليس يلزم في إثبات الحرمة كونه نقيضاً صريحاً {وإلّا} فلو كان مناط الحرمة كون الشّيء نقيضاً صريحاً للواجب {لم يكن الفعل المطلق محرّماً في ما إذا كان الترك المطلق واجباً} مثلاً: لو كان ترك الصلاة مطلقاً - موصلاًأم لا - واجباً لم يكن فعل الصلاة محرّماً {لأنّ الفعل أيضاً} في هذه الصورة كالصورة السّابقة {ليس نقيضاً} صريحاً {للترك؛ لأنّه} أي: الفعل {أمر وجوديّ ونقيض الترك إنّما هو رفعه، ورفع الترك إنّما يلازم الفعل مصداقاً} فكلّما رفع ترك الصلاة تحقّق فعل الصلاة {وليس} رفع الترك {عينه} أي: عين الفعل {فكما أنّ هذه الملازمة} بين

ص: 151

تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل، فكذلك تكفي في المقام. غاية الأمر أنّ ما هو النّقيض في مطلق الترك إنّما ينحصر مصداقه في الفعل فقط، وأمّا النّقيض للترك الخاصّ فله فردان، وذلك لا يوجب فرقاً في ما نحن بصدده، كما لا يخفى.

قلت: وأنت خبير بما بينهما من الفرق؛

___________________________________________

رفع الترك والفعل {تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل} وسرايتها من رفع الترك إلى ملازمه الّذي هو فعل الصلاة {فكذلك} الملازمة بين الصلاة ورفع الترك الموصل {تكفي في المقام} لسراية الحرمة إلى الصلاة، إذ ترك الصلاة على كلا القولين - القول بكون المقدّمة لترك المطلق للصلاة والقول بكونها الترك الموصل - مقدّمة، وفعل الصلاة على كلا القولين ملازم إمّا لرفع الترك المطلق وإمّا لرفع الترك الموصل.

{غاية الأمر أنّ ما هو النّقيض} للمقدّمة الواجبة {في} ما كانت المقدّمة {مطلق الترك إنّما ينحصر مصداقه} أي: مصداق النّقيض {في الفعل فقط، وأمّا النّقيض للترك الخاصّ} في ما كانت المقدّمة الترك الموصل {فله فردان}: الأوّل فعل الصلاة، الثّاني الترك المطلق بأن لا يصلّي ولايزيل النّجاسة - كما تقدّم - {وذلك} التفاوت بأن يكون للنقيض فرد أو فردان {لا يوجب فرقاً في ما نحن بصدده} من حرمة الملازمة للنقيض {كما لا يخفى}.

وبهذا كلّه تبيّن أنّ ما ذكره الفصول من ثمرة القول بوجوب المقدّمة الموصلة لم تتمّ، بل اللّازم إمّا القول بكون الصلاة منهيّاً عنها حتّى على القول بالمقدّمة الموصلة، وإمّا القول بعدم النّهي عن الصلاة حتّى على القول بوجوب مطلق المقدّمة.

{قلت}: إشكال الشّيخ(رحمة الله) على صاحب الفصول غير وارد، بل ما ذكره الفصول من الثّمرة صحيح {و} ذلك لأنّك {أنت خبير بما بينهما} أي: بين القول بوجوب الموصلة فقط وبين القول بوجوب مطلق المقدّمة {من الفرق} الواضح

ص: 152

فإنّ الفعل في الأوّل لا يكون إلّا مقارناً لما هو النّقيض، من رفع الترك المجامع معه تارةً، ومع الترك المجرّد أُخرى، ولا يكاد يسري حرمة الشّيء إلى ما يلازمه، فضلاً عمّا يقارنه أحياناً. نعم. لا بدّ أن يكون الملازم محكوماً فعلاً بحكم آخر على خلاف حكمه، لا أن يكون محكوماً بحكمه.

وهذا بخلاف الفعل في الثّاني؛ فإنّه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه، لا ملازم لمعانده ومنافيه،

___________________________________________

{فإنّ الفعل في الأوّل} الّذي كانت الموصلة واجبة {لا يكون إلّا مقارناً لما هو النّقيض} إذ المقدّمة الواجبة حينئذٍ هي ترك الصلاة الموصل إلى إزالة النّجاسة {من} المسجد، ونقيض هذه المقدّمة الواجبة عبارة عن {رفع الترك المجامع} هذا الرّفع{معه} أي: مع فعل الصلاة {تارةً، ومع الترك المجرّد} عن الصلاة تارةً {أُخرى} كما هو واضح {ولا يكاد يسري حرمة الشّيء} كرفع الترك في المثال {إلى ما يلازمه فضلاً عمّا يقارنه أحياناً} كما في ما نحن فيه، فإنّ الصلاة تقارن رفع الترك أحياناً.

{نعم} لو تحقّق التلازم بين شيئين ف- {لا بدّ أن لا يكون الملازم محكوماً فعلاً بحكم آخر على خلاف حكمه لا أن يكون محكوماً بحكمه} بل إمّا أن لا يكون له حكم أصلاً أو له حكم موافق لحكم ملازمه، وهذا غير مسألة السّراية، وسيأتي شرحه في مبحث الضدّ عند قول المصنّف(رحمة الله) - قبيل الأمر الثّالث - : «وأمّا من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم» الخ.

{وهذا} الّذي ذكرنا من مقارنة الفعل للنقيض على القول بالموصلة {بخلاف الفعل في الثّاني} الّذي كان مطلق المقدّمة واجباً {فإنّه} أي: الفعل {بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه} حقيقة، ففعل الصلاة بنفسه ضدّ للمقدّمة الواجبة الّتي هي ترك الصلاة مطلقاً {لا} أنّ فعل الصلاة {ملازم لمعانده و} ل- {منافيه} كما كان

ص: 153

فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً، لكنّه متّحد معه عيناً وخارجاً. فإذا كان الترك واجباً فلا محالة يكون الفعل منهيّاً عنه قطعاً، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

في الصورة الأُولى {فلو لم يكن} فعل الصلاة {عين ما يناقضه} أي: يناقض الترك {بحسب الاصطلاح مفهوماً} حيثإنّهم اصطلحوا على أنّ «نقيض كلّ شيء رفعه» فنقيض الترك الواجب ترك الترك لا الفعل {لكنّه} أي: الفعل {متّحد معه} أي: مع النّقيض {عيناً وخارجاً} فإنّ ترك الترك في ظرف الخارج والعين عبارة أُخرى عن الفعل {فإذا كان الترك واجباً} من باب المقدّمة {فلا محالة يكون الفعل} الّذي هو عين هذا الترك {منهيّاً عنه قطعاً} لبداهة أنّ الترك لو كان محبوباً كان الفعل مبغوضاً {فتدبّر جيّداً}.

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وقوله: (فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح) إشارة إلى ما ذكره بعض المحقّقين من أنّ الرّفع المأخوذ في تعريف النّقيض في قولهم: (نقيض كلّ شيء رفعه) هو القدر المشترك بين المصدر المبني للفاعل والمصدر المبني للمفعول، أي: الرّفع بالمعنى الأعمّ من الرّفعيّة والمرفوعيّة، فعلى هذا كما يكون السّلب نقيضاً للإيجاب لكونه رفعاً له، كذلك الإيجاب نقيض للسلب حقيقة لكونه مرفوعاً به»(1)، انتهى.

قال السّبزواري(رحمة الله): «لمّا قال بعضهم: (نقيض كلّ شيء رفعه) وفهم منه التخصيص بمثل اللّاإنسان ولم يشمل عين الشّيء بدّل بعضهم هذا بقوله: (رفع كلّ شيء نقيضه) وبعضهم عمّم الرّفع بأنّ المصدر بمعنى القدر المشترك بين المبني للفاعل والمبنيّ للمفعول»(2).

ص: 154


1- شرح كفاية الأصول 1: 163.
2- شرح المنظومة 1: 266.

ومنها: تقسيمه إلى الأصلي والتبعي.

والظاهر أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعيّة في الواقع ومقامالثّبوت؛

___________________________________________

[التقسيم الرّابع: تقسيم الواجب إلى الواجب الأصلي والتبعي]

{ومنها} أي: ومن تقسيمات الواجب المذكورة في الأمر الثّالث {تقسيمه إلى} الواجب {الأصلي و} الواجب {التبعي} ولا يخفى أنّ تقسيم الواجب إليهما يمكن أن يكون بلحاظ حال الثّبوت والواقع، وأن يكون بلحاظ حال الإثبات والدليل.

والمراد بالأوّل: أنّ الواجب قد يكون مراد المولى بحيث كان المولى ملتفتاً إليه، وهذا يتصوّر في الواجب النّفسي والغيري، وقد يكون بخلاف ذلك بحيث لم يكن المولى ملتفتاً إليه، وهذا يتصوّر في الواجب الغيري فقط، إذ لو لم يكن المولى ملتفتاً إلى الواجب النّفسي لم يكن هناك وجوب أصلاً.

والمراد بالثّاني: أنّ الواجب قد يكون مستفاداً من الدليل بالاستقلال، وقد لا يفهم من الدليل كذلك، بل بالتبع، وبهذا المعنى ينقسم كلّ من الواجب النّفسي والغيري إلى الأصلي والتبعي، فالأقسام إذن سبعة: الأوّل والثّاني الواجب النّفسي الأصلي في مقام الثّبوت والإثبات، الثّالث والرّابع الواجب الغيري الأصلي في مقام الثّبوت والإثبات، الخامس والسّادس الواجب الغيري التبعي في مقام الثّبوت والإثبات، السّابع الواجب النّفسي التبعي في مقدّمات الإثبات. وأمّا القسم الثّامن - أعني: الواجب النّفسي التبعي في مقام الثبوت - فغير معقول، كما سيأتي - إن شاء اللّه - .

{و} إذا عرفت ما ذكرناه فنقول: {الظاهر أن يكون هذا التقسيم} للواجب إلى الأصلي والتبعي {بلحاظ الإصالة والتبعيّة في الواقع ومقام الثّبوت} لما سيأتي في التنبيه الأوّل.

ص: 155

حيث يكون الشّيء تارةً متعلّقاً للإرادة والطلب مستقلّاً؛ للالتفات إليه بما هو عليه ممّا يوجب طلبه، فيطلبه - كان طلبه نفسيّاً أو غيريّاً - وأُخرى متعلّقاً للإرادة تبعاً لإرادة غيره، لأجل كون إرادته لازمة لإرادته، من دون التفات إليه بما يوجب إرادته.

لا بلحاظ الأصالة والتبعيّة في مقام الدلالة والإثبات؛ فإنّه يكون في هذا المقام أيضاً تارةً مقصوداً بالإفادة، وأُخرى غير مقصود بها

___________________________________________

ثمّ بيّن+ معنى الأمرين بقوله: {حيث يكون الشّيء} في الواقع ونفس الأمر {تارة متعلّقاً للإرادة والطلب مستقلّاً} بأن يريده المولى {للالتفات إليه بما هو عليه} أي: يلتفت المولى إليه بصفته الّتي تقتضي إيجابه {ممّا يوجب طلبه} بيان لقوله: «بما هو عليه» {فيطلبه} ويأمر به، وهذا هو المسمّى بالواجب الأصلي من غير فرق بين ما {كان طلبه نفسيّاً} بأن يطلبه لنفسه {أو} كان طلبه {غيريّاً} ومقدّميّاً بأن يطلبه لغيره {وأُخرى} أي: ويكون الشّيء المطلوب تارة أُخرى {متعلّقاً للإرادة تبعاً لإرادة غيره} بأن يكون مراداً للمولى {لأجل كون إرادته} أي: إرادة هذا المطلوب التبعي {لازمة لإرادته} أي: إرادة ذلك الغير الأصلي، ولكن يكون إرادته لهذا التبعي {من دون التفات إليه، بما} أي: بنحو التفات {يوجب إرادته} مستقلّاً وأصلاً، وهذا هو المسمّى بالواجب التبعي، وله قسم واحد، إذ لا يمكن إلّا أن يكون واجباً غيريّاً، فإنّ الواجب النّفسي لا يعقل بدون الالتفات في مقام الثّبوت {لا بلحاظ الأصالة والتبعيّةفي مقام الدلالة والإثبات} هذا الكلام عطف على قوله: «والظاهر أن يكون هذا التقسيم» الخ.

فإن قلت: هل يتصوّر الأصالة والتبعيّة في مقام الإثبات؟

قلت: نعم {فإنّه} أي: الشّيء المطلوب {يكون في هذا المقام أيضاً} كمقام الثّبوت {تارة مقصوداً بالإفادة} بأن يكون سوق الكلام لإفادته، فتكون دلالة الكلام على طلبه استقلالاً {وأُخرى} يكون طلبه {غير مقصود بها} أي: بالإفادة

ص: 156

على حدة، إلّا أنّه لازم الخطاب، كما في دلالة الإشارة ونحوها.

وعلى ذلك، فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إليهما، واتصافه بالأصالة والتبعيّة كلتيهما، حيث يكون متعلّقاً للإرادة على حدة عند الالتفات إليه بما هو مقدّمة، وأُخرى لا يكون متعلّقاً لها كذلك عند عدم الالتفات إليه كذلك، فإنّه يكون لا محالة مراداً تبعاً لإرادة ذي المقدّمة على الملازمة.

كما لا شبهة في اتصاف النّفسي أيضاً بالأصالة، ولكنّه

___________________________________________

{على حدة} فلا يكون الكلام مسوقاً لإفادته {إلّا أنّه لازم الخطاب} ومستفاد من لحنه وإن لم يقصده المتكلّم استقلالاً {كما في دلالة الإشارة} وهي ما يكون المدلول فيها غير مقصود بالخطاب، كدلالة الآيتين الآتيتين على أقلّ الحمل {ونحوها} كدلالة المفاهيم - على ما قيل - وسنمثّل، إن شاء اللّه.

{وعلى ذلك} أي: بناءً على ما ذكرنا من كون التقسيم إلى الأصليوالتبعي بملاحظة حال الواقع لا بملاحظة حال الإثبات {فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إليهما، واتصافه} أي: الغيري {بالأصالة والتبعيّة كلتيهما} فهو تارة يكون واجباً أصليّاً {حيث يكون متعلّقاً للإرادة على حدة} مستقلّاً، وذلك يكون {عند الالتفات إليه بما هو مقدّمة} لواجب نفسي.

{و} تارة {أُخرى لا يكون} الواجب المقدّمي {متعلّقاً لها} أي: للإرادة {كذلك} أي: مستقلّاً {عند عدم الالتفات إليه كذلك} أي: بما هو مقدّمة {فإنّه} وإن لم يكن ملتفتاً إليه إلّا أنّه {يكون لا محالة مراداً} للمولى {تبعاً لإرادة ذي المقدّمة} فإنّه لا ينفكّ إرادة المقدّمة ارتكازاً وإجمالاً عن إرادة ذي المقدّمة بناءً {على الملازمة} بينهما، فتحصّل من هذا كلّه أنّ الواجب الغيري يتصف بالأصالة والتبعيّة في مرحلة الواقع ومقام الثّبوت {كما لا شبهة في اتصاف} الواجب {النّفسي أيضاً} كالغيري {بالأصالة} حينما لحظ المولى الشّيء وطلبه نفسيّاً {ولكنّه} أي: النّفسي

ص: 157

لا يتصف بالتبعيّة؛ ضرورةَ أنّه لا يكاد يتعلّق به الطلب النّفسي ما لم يكن فيه المصلحة النّفسيّة، ومعها يتعلّق الطّلب بها مستقلّاً، ولو لم يكن هنا شيءٌ آخر مطلوب أصلاً، كما لا يخفى.

نعم، لو كان الاتّصاف بهما بلحاظ الدلالة، اتّصف النّفسيّ بهما أيضاً؛ ضرورة أنّه قد يكون غير مقصود بالإفادة، بل أُفيد بتبع غيره المقصود بها.

لكن الظاهر : - كما مرّ - أنّ الاتصاف بهما إنّما هو في نفسه، لا بلحاظ حالالدلالة عليه،

___________________________________________

{لا يتصف بالتبعيّة} بأن لا يكون ملحوظاً للمولى {ضرورة أنّه لا يكاد يتعلّق به الطلب النّفسي ما لم يكن فيه المصلحة النّفسيّة، ومعها} أي: مع المصلحة النّفسيّة {يتعلّق الطلب بها} أي: بهذه المصلحة النّفسيّة {مستقلّاً، ولو لم يكن هنا شيء آخر مطلوب أصلاً}.

والحاصل: أنّه إمّا أن يلتفت المولى إلى هذه المصلحة النّفسيّة. وإمّا أن لا يلتفت فعلى الأوّل يطلبه مستقلّاً لا مقدّمة لشيء آخر، وعلى الثّاني فلا طلب أصلاً، لا أصلاً ولا تبعاً {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{نعم، لو كان الاتصاف بهما بلحاظ} مقام الإثبات وحال {الدلالة اتصف} الواجب {النّفسي} كالواجب الغيري {بهما أيضاً} فيكون الأقسام أربعة {ضرورة أنّه قد يكون} الواجب النّفسي {غير مقصود بالإفادة} مستقلّاً {بل أُفيد بتبع غيره المقصود} ذلك الغير {بها} أي: بالإفادة، كما تقدّم من دلالة الإشارة ونحوها.

تنبيهان

الأوّل: قد تقدّم أنّ التقسيم إلى الأصلي والتبعي يمكن أن يكون بلحاظ حال الثّبوت ويمكن أن يكون بلحاظ حال الإثبات {لكن الظّاهر - كما مرّ} في صدر المبحث - {أنّ الاتّصاف بهما إنّما هو في نفسه} فالواجب في نفسه إمّا أصليّ وإمّا تبعيّ سواء دلّ دليل لفظيّ على هذا الواجب أم لا {لا بلحاظ حال الدلالة عليه}

ص: 158

وإلّا لما اتصف بواحد منهما إذا لم يكن بعدُ مفاد دليل، وهو كماترى.

___________________________________________

فليس المقصود من البحث أنّ الدليل الدالّ على الواجب إمّا يدلّ عليه مستقلّاً وإمّا يدلّ عليه ضمناً وإشارة {وإلّا} فلو كان المراد بالتقسيم بلحاظ حال الدلالة {لما اتصف} الواجب {بواحد منهما إذا لم يكن بعد مفاد دليل} والحال أنّ تقسيم الواجب إليهما لا يتوقّف على وجود دليل، فمن ذلك يتبيّن أنّ هذا التقسيم للواجب في مقام الثّبوت، مع قطع النّظر عن وجود دليل.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكره المصنّف(رحمة الله) خلاف ما يظهر من عناوينهم، قال في الفصول: «وينقسم الواجب باعتبار آخر إلى أصليّ وتبعي: فالأصلي ما فهم وجوبه بخطاب مستقلّ، أي: غير لازم لخطاب آخر وإن كان وجوبه تابعاً لوجوب غيره، والتبعي بخلافه وهو ما فهم وجوبه تبعاً لخطاب آخر وإن كان وجوبه مستقلّاً، كما في المفاهيم، والمراد بالخطاب هنا ما دلّ على الحكم الشّرعي فيعمّ اللفظي وغيره»(1)،

انتهى.

{وهو كما ترى} صريح في جعل محلّ الكلام في مقام الإثبات لا الثّبوت، والأولى جعل المقسم مطلق الواجب أعمّ من محلّ الإثبات والثّبوت، فتدبّر.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه كما يمكن تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي بلحاظ حال الثّبوت وبلحاظ حال الإثبات كذلك يمكن تقسيم الواجب إليهما بحسب اختلاف خصوصيّة اللحاظ من حيث كون المراد ملحوظاً تفصيلاً أو لا.

التّنبيه الثّاني: في أمثلة الأقسام السّبعة:فالواجب النّفسي الأصلي في مقام الثّبوت أن يتصوّر المولى الصلاة، وفي مقام الإثبات أن يقول: (صلّ).

والواجب الغيري الأصلي في مقام الثّبوت أن يلتفت إلى الوضوء، وفي مقام

ص: 159


1- الفصول الغرويّة: 82.

___________________________________________

الإثبات قوله - تعالى - : {إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ}(1) الخ.

والواجب النّفسي التبعي في مقام الثّبوت غير معقول، وفي مقام الإثبات نحو دلالة الآيتين على أقلّ الحمل، توضيحه ما ذكره السّيّد الأمين(رحمة الله) في كتابه عجائب أحكام أميرالمؤمنين بما لفظه: قال المفيد: روي عن يونس بن الحسن أنّ عمر أُتي بامرأة قد ولدت لستّة أشهر، فهمّ برجمها، فقال له أميرالمؤمنين: إن خاصمتك بكتاب اللّه خصمتك إنّ اللّه - تعالى - يقول: {وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ}(2)، ويقول عزّ وجلّ قائلاً: {وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَۚ}(3). فإذا كانت مدّة الرّضاعة حولين كاملين، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً كان الحمل منها ستّة أشهر، فخلّى عمر سبيل المرأة وثبت الحكم بذلك، فعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنهم إلى يومنا هذا»(4)،

انتهى.ومثله دلالة المفهوم كقوله(علیه السلام): «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(5)، فمفهومه تنجّس الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ.

والواجب الغيري التبعي في مقام الثّبوت هي مقدّمات الواجب النّفسي الّتي لم يلتفت إليها المولى، ولو التفت إليها لطلبها كما لو أراد المولى أن يطعمه العبد غير ملتفت إلى احتياج الإطعام إلى إيقاد النّار، وفي مقام الإثبات كما لو قال: (أطعمني) ولم يتعرّض إلى مقدّماته.

ص: 160


1- سورة المائدة، الآية: 6.
2- سورة الأحقاف، الآية: 15.
3- سورة البقرة، الآية: 233.
4- عجائب أحكام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×: 59؛ عن الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد 1: 206؛ ورواه العامة أيضاً، راجع ذخائر العقبى 1: 393؛ الاستيعاب 3: 1103؛ الوافي بالوفيات 21: 179.
5- هكذا ورد في الكافي 3: 2 «إذا كان الماء قدر كرٍ لم ينجسه شيء».

ثمّ إنّه إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلّق به إرادة مستقلّة، فإذا شكّ في واجب أنّه أصليّ أو تبعيّ، فبأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به يثبت أنّه تبعيّ ويترتّب عليه آثاره، إذا فرض له أثر شرعي، كسائر الموضوعات المتقوّمة بأُمور عدميّة.

نعم، لو كان التبعي أمراً وجوديّاً خاصّاً غيرَ متقوّم بعدمي - وإن كان يلزمه - لما كان يثبت بها

___________________________________________

ثمّ لا يخفى أنّه لو فسّرنا التبعي في مقام الثّبوت بأنّه ما لا يلتفت إليه المولى لم يوجد شيء منه في الواجبات الشّرعيّة، إذ تعالى اللّه وأولياؤه عن مثل ذلك، ولا يذهب عليك أنّ بعض الأمثلة خارج عن المورد.

{ثمّ إنّه} يحتمل أن يكون الواجب التبعي أمراً عدميّاً، فيكون عبارة عمّا لم يتعلّق به إرادة مستقلّة، ويحتمل أن يكون أمراً وجوديّاً، فيكون نحواً من الإرادة، كما أنّ الأصلي نحو آخر منها {إذا} عرفت ما ذكرنا فنقول: إذا {كان الواجب التبعي ما لم يتعلّق به إرادة مستقلّة، فإذا شكّ في واجب أنّه أصليّ أو تبعيّ فبأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به}إذ التبعي على هذا أمر عدميّ موافق للأصل {يثبت أنّه تبعيّ ويترتّب عليه آثاره إذا فرض له أثر شرعي} وذلك لأنّ أصل الوجوب ثابت بالوجدان وتبعيّته ثابت بالأصل، فهو {كسائر الموضوعات المتقوّمة بأُمور عدميّة} الّتي يثبت أحد جزأيها بالوجدان والجزء الآخر بالأصل.

مثلاً: لو قلنا: (إنّ الماء غير الكرّ ينجس بملاقاة النّجاسة) ثمّ شكّ في ماء لاقى النّجس إنّه قليل أو كثير حكم بنجاسته؛ لأنّ كونه ماءً لاقى النّجس ثابت بالوجدان، وقلّته تثبت بأصل عدم الكريّة.

{نعم، لو كان التبعي أمراً وجوديّاً خاصّاً} مقابلاً للأصلي - بأن كان التبعي نحواً من الإرادة - {غير متقوّم بعدمي وإن كان} هذا الوجود الخاص {يلزمه} أي: يلزم عدم الأصلي {لما كان} التبعي {يثبت بها} أي: بأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة،

ص: 161

إلّا على القول بالأصل المثبت، كما هو واضح، فافهم.

تذنيب: في بيان الثّمرة، وهي في المسألة الأصوليّة - كما عرفت سابقاً(1) - ليست إلّا أن يكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد

___________________________________________

إذ كلّ من الأصلي والتبعي حينئذٍ خلاف الأصل، فلا يمكن أن يثبت بأصالة عدم أحدهما وجود الآخر {إلّا على القول بالأصل المثبت} فيقال: الأصل عدم تعلّق إرادة مستقلّة، فاللّازم أن تكون إرادة تبعيّة {كما هو واضح} بأدنى تأمّل {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ العدم ملازمللتبعي، فهما متلازمان، والقائل بالمثبت لا يقول إلّا بترتّب أثر اللّازم، لا أثر الملزوم، وعليه فلا يتحقّق التبعي بالأصل ولو على القول بالأصل المثبت، والّذي يهوّن الأمر عدم ترتّب أثر شرعيّ على الواجب التبعي.

ثمّ لا يخفى أنّ بين الأصلي والتبعي عموماً من وجه، كما يشعر بذلك الفصول حيث قال(رحمة الله): «ثمّ الأصالة والتبعيّة قد يفترقان بالمورد وقد يفترقان بالاعتبار، كما لو صرّح بوجوب بعض المقدّمات من الشّرائط الجعليّة وغيرها، فإنّ وجوبها من حيث كونها مستفاداً من وجوب ذي المقدّمة ولو بعد ثبوت الشّرطيّة تبعي ومن حيث كونه مصرّحاً بخطاب مستقلّ أصلي»(2)،

انتهى.

[تذنيب: في ثمرة مسألة مقدمة الواجب]

{تذنيب: في بيان الثّمرة} المترتّبة على وجوب المقدّمة {وهي في المسألة الأصوليّة كما عرفت سابقاً} في مبحث الصحيح والأعمّ حيث قال - قبل الاستدلال للصحيحي - : إنّ ثمرة المسألة الأصوليّة هي أن يكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة {ليست إلّا أن يكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد} بأن تجعل النّتيجة كبرى القياس، وتضمّ إليها صغرى من الخارج

ص: 162


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 35.
2- الفصول الغرويّة: 82.

واستنباط حكم فرعي، كما لو قيل بالملازمة في المسألة، فإنّه بضميمة مقدّمة كون شيء مقدّمة لواجب، يستنتج أنّه واجب.

ومنه قد انقدح: أنّه ليس منها مثل برء النّذر بإتيان مقدّمة واجب، عند نذر الواجب،

___________________________________________

{و} بتشكيل القياس منهما يستعان على {استنباط حكم فرعي} مجهول، ففي مسألة مقدّمة الواجب إمّا أن نقول بالملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّماته، وإمّا أن نقول بعدم الملازمة بينهما، وعلى كلّ حال تقع هذه النّتيجة كبرى القياس {كما} لا يخفى.

مثلاً: {لو قيل بالملازمة في} هذه {المسألة فإنّه بضميمة مقدّمة} وجدانيّة وهي {كون شيء مقدّمة لواجب يستنتج أنّه واجب} مثلاً يقال: المشي مقدّمة للحجّ وهو مقدّمة للواجب فهو واجب لوجود الملازمة بين الشّيء وبين مقدّماته فالمشي واجب، فالصغرى - أعني: المشي مقدّمة الخ - وجدانيّة والكبرى - أعني: وكلّ مقدّمة للواجب الخ - برهانيّة، وهي نتيجة البحث عن مقدّمة الواجب، وبتشكيل القياس منهما يستنتج الحكم الشّرعي الفرعي. ولكن العلّامة المشكيني(رحمة الله) أشكل على ذلك بأنّ المسألة الأصوليّة ليست إحدى مقدّمتي القياس بل علّة للكبرى(1)، فتدبّر.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من أنّ نتيجة المسألة الأصوليّة ما يقع في طريق الاستنباط {قد انقدح أنّه ليس منها} أي: من ثمرة مسألة مقدّمة الواجب {مثل برء النّذر بإتيان مقدّمة واجب عند نذر الواجب} كما توهّم من أنّه لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب ثمّ نذر شخص أن يفعل واجباً كان بإتيانه مقدّمة واجب موفياً بنذره، ولو قلنا بعدم وجوب مقدّمة الواجب لم يكن موفياً.

ص: 163


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 596.

وحصول الفسق بترك واجبٍ واحدٍ بمقدّماته، إذا كانت لهمقدّمات كثيرة؛ لصدق الإصرار على الحرام بذلك، وعدم جواز أخذ الأُجرة على المقدّمة.

___________________________________________

{و} كذلك ليست ثمرة هذه المسألة مثل {حصول الفسق بترك واجب واحد بمقدّماته} أي: مع ترك مقدّماته {إذا كانت له مقدّمات كثيرة} كما زعم من أنّه لو قلنا بوجوب المقدمة كان التارك للواجب والمقدّمات تاركاً لواجبات كثيرة، والتارك للواجبات فاسق {لصدق الإصرار على الحرام} الموجب للفسق {بذلك}.

ولا يخفى أنّه إنّما يتصوّر في ما كان ترك الواجب ذو المقدّمات صغيرة، أمّا لو كان تركه من الكبائر كفى الترك في الفسق ولا يحتاج إلى ضميمة ترك المقدّمات.

{و} كذلك ليست ثمرة هذه المسألة مثل {عدم جواز أخذ الأُجرة على المقدّمة} (1)

كما قيل من أنّه لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب لم يجز أخذ الأُجرة على المقدّمات، لما تقرّر في الفقه من أنّ الواجبات يحرم أخذ الأُجرة عليها.

ثمّ إنّ وجه عدم كون هذه المسائل الثّلاث ثمرةً واضحٌ؛ لأنّها لا تقع في طريق استنباط الحكم الفرعي، بل ينقح بهذه المسائل موضوعات الحكم الفرعي:

أمّا مسألة برء النّذر فلأنّه بعد ما ورد وجوب الوفاء بالنذر لا يعلم أنّ الإتيان بالمقدّمة وفاء أم لا، فبمعونة وجوب المقدّمة ينقّح أنّه وفاء، وذلك مثل ما لو علمنا وجوب إكرام (زيد) ثمّ قمنا له في المجلس وشككنا أنّ القيام إكرام أم لا، فإنّ الدليل الدالّ على أنّه إكرام منقّح للموضوع لا أنّه واقع في طريق إثباتالحكم الفرعي.

وأمّا مسألة حصول الفسق فلأنّه بعد ما ورد أنّ المصرّ فاسق لا يعلم أنّ هذا التارك للمقدّمات مصرّ أم لا، فبمعونة وجوب المقدّمة ينقّح أنّه مصرّ.

ص: 164


1- قوله: «وعدم جواز» بالجرّ عطف على «برء النّذر».

مع أنّ البرء وعدمه إنّما يتبعان قصد النّاذر، فلا برء بإتيان المقدّمة لو قصد الوجوب النّفسي - كما هو المنصرف عند إطلاقه - ولو قيل بالملازمة. وربّما يحصل البرء به لو قصد

___________________________________________

وأمّا مسألة عدم جواز أخذ الأُجرة فلأنّه بعد ما ورد عدم جواز أخذ الأُجرة لا يعلم جواز أخذ الأُجرة على المقدّمة، فبمعونة وجوب المقدّمة ينقّح أنّه أخذ الأُجرة على الواجب.

والحاصل: أنّ الحكم الفرعي الكلّي هو وجوب الوفاء وقادحيّة الإصرار في العداله وحرمة أخذ الأُجرة، وليس من الحكم الفرعي أنّ هذا وفاء، والشّخص الفلاني فاسق، وأخذ الأُجرة على الفعل الفلاني حرام. وقد أطنبنا الكلام في المقام لما رأينا من بُعْدِ مرام المصنّف(رحمة الله) عن بعض الأفهام.

{مع أنّ} في كون الثّمرات المذكورة صحيحة في نفسها إشكالاً، إذ نتيجة هذا البحث لا ينقّح موضوعات الحكم الفرعي أيضاً.

وبعبارة أُخرى: نمنع الصغرى، توضيحه: أنّا أوّلاً منعنا كون نتيجة البحث مثبتة للحكم الفرعي الكلّي، وقلنا: بل هي تنقّح موضوع الحكم الفرعي، والحال نريد منع ذلك أيضاً، فإنّ {البرء وعدمه} المذكورين في الثّمرة الأُولى {إنّما يتبعان قصد النّاذر} وليس لوجوب المقدّمة وعدمه دخل فيهما، وذلك لأنّ قصد النّاذر إمّا أن يكون الإتيان بالواجب النّفسي أو الإتيان بالواجب مطلقاً {فلا برء بإتيان المقدّمة لو قصد الوجوب النّفسي} بل وكذا لو لم يقصد شيئاً {كما هو}المتعارف، إذ {المنصرف عند إطلاقه} هو النّفسي، كما لا يخفى.

والحاصل: أنّه لا برء في الصورتين {ولو قيل بالملازمة} بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، وذلك لأنّ متعلّق النّذر هو النّفسي فلا يبرأ بالإتيان بالغيري.

{وربّما يحصل البرء به} أي: بإتيان المقدّمة {لو قصد} حين النّذر الإتيان بالواجب

ص: 165

ما يعمّ المقدّمة ولو قيل بعدمها، كما لا يخفى.

ولا يكاد يحصل الإصرارُ على الحرام بترك واجب، ولو كانت له مقدّمات غير عديدة، لحصول العصيان بترك أوّل مقدّمة لا يتمكّن معه من الواجب، فلا يكون ترك سائر المقدّمات بحرام أصلاً؛ لسقوط التّكليف حينئذٍ، كما هو واضح لا يخفى.

___________________________________________

مطلقاً، أعني: {ما يعمّ المقدّمة - ولو قيل بعدمها -} أي: بعدم الملازمة وعدم وجوب المقدّمة شرعاً، وذلك لأنّه نذر الإتيان بالواجب والمقدّمة واجبة عقلاً ولو لم تكن واجبة شرعاً {كما لا يخفى} فتبيّن أنّ برء النّذر وعدمه تابعان لقصد النّاذر، وليسا ثمرة وجوب المقدّمة وعدم وجوبها. لكن لا يخفى أنّه لو قصد النّاذر مطلق الواجب شرعاً ترتّب البرء وعدمه على مسألة المقدّمة.

وحيث فرغ المصنّف(رحمة الله) من الإشكال على الثّمرة الأُولى شرع في الإشكال على الثّمرة الثّانية بقوله: {ولا يكاد يحصل الإصرار على الحرام بترك واجب} واحد {ولو كانت له مقدّمات غير عديدة} أي: متكثّرة {لحصول العصيان} للواجب النّفسي {بترك أوّل مقدّمة} من مقدّماته الّتي {لايتمكّن} الشّخص {معه} أي: مع ترك تلك المقدّمة {من} فعل {الواجب} إذ بمجرّد ترك إحدى المقدّمات لا يتمكّن من ذي المقدّمة فيحصل عصيانه، ومع العصيان يسقط التكليف، وإذ سقط التكليف لا يكون واجب نفسي حتّى يترشّح الوجوب منه إلى سائر المقدّمات {فلا يكون ترك سائر المقدّمات بحرام أصلاً لسقوط التكليف} النّفسي والمقدّمي {حينئذٍ} أي: حين ترك إحدى المقدّمات، فلا يحصل الإصرار على المعصية {كما هو واضح لا يخفى}.

فتدبّر، إذ ما ذكره المصنّف(رحمة الله) - من سقوط الأمر بالعصيان - لا يوجب عدم الإصرار، فإنّ سقوط الأمر بهذه الواجبات المتعدّدة إنّما نشأ من العصيان فتحقّق الإصرار على المعصية، غاية الأمر أنّ الإصرار دفعيّ لا تدريجي.

ص: 166

وأخذ الأُجرة على الواجب لا بأس به إذا لم يكن إيجابُه على المكلّف مجّاناً وبلا عوض، بل كان وجوده المطلق مطلوباً، كالصناعات الواجبة كفائيّة الّتي لا يكاد ينتظم بدونها البلاد، ويختلّ لولاها معاش العباد، بل ربّما يجب أخذ الأُجرة عليها لذلك - أي: لزوم الاختلال وعدم الانتظام لولا أخذها - . هذا في الواجبات التوصليّة.

وأمّا الواجبات التعبديّة: فيمكن أن يقال بجواز أخذ الأُجرة على إتيانها بداعي امتثالها،

___________________________________________

{و} يرد على الثّمرة الثّانية أنّ {أخذ الأُجرة على الواجب لا بأس به إذا لم يكن إيجابه على المكلّف مجّاناً وبلا عوض} فإنّ أصل الوجوب لا ينافي أخذ الأُجرة حتّى يكون القول بوجوب المقدّمة مستلزماً لعدم جواز أخذ الأُجرة، بل حرمة أخذ الأُجرةمبنيّة على ما إذا فهم من دليل الواجب أنّ الشّارع أوجبه على المكلّف مجّاناً وبلا عوض، أمّا لو لم يفهم من دليل الواجب ذلك {بل كان وجوده المطلق} سواء بعوض أو بدونه {مطلوباً} للشارع لم يحرم أخذ الأُجرة، وذلك {كالصِّناعات الواجبة} على المكلّفين {كفائيّةً، الّتي لا يكاد ينتظم بدونها البلاد ويختلّ لولاها معاش العباد} من الفلاحة والبناء ونحوها.

{بل ربّما} يقال بأنّه {يجب أخذ الأُجرة عليها} أي: على هذه الصِّناعات {لذلك} الدليل الدالّ على وجوبها الكفائي {أي: لزوم الاختلال وعدم الانتظام لولا أخذها} فكما يختلّ النِّظام لو لم يقم بهذه الصِّناعات أحد، كذلك يختلّ النِّظام لو لم يأخذ الأُجرة عليها أحد، فلو لم يأخذ الفلّاح مثلاً الأُجرة على عمله لم ينتظم معاشه.

{هذا} كلّه {في الواجبات التوصليّة} - الّتي لا تحتاج إلى قصد القربة - ظاهِرٌ وإن كان للتدبّر مجالاً.

{وأمّا الواجبات التّعبديّة} المحتاجة إلى قصد القربة {فيمكن أن يقال بجواز أخذ الأُجرة على إتيانها بداعي امتثالها} كالحجّ والصوم والصلاة الاستيجاري، وذلك بأن تكون الأُجرة داعية لإتيان العمل للّه ومتقرّباً به.

ص: 167

لا على نفس الإتيان كي ينافي عباديّتها، فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي. غاية الأمر يعتبر فيها - كغيرها - أن يكون فيها منفعة عائدة إلى المستأجر، كيلا تكون المعاملة سفهيّةً، وأخذ الأُجرة عليها أكلاً بالباطل.

___________________________________________

نعم {لا} يصحّ أن تكون الأُجرة {على نفس الإتيان} بأن يأتي بالعمل للأُجرة {كي ينافي} هذا الداعي {عباديّتها}.

والحاصل: أنّه يشترط في العبادات أن يكون العمل للّه - تعالى - وأمّا كون هذا العمل القربي بأيّ داعٍ فلا {فيكون} أخذ الأُجرة {من قبيل الداعي إلى الداعي} فالداعي إلى العمل التقرّب والداعي إلى هذا العمل القربي هو الأُجرة، فكما يصحّ العمل القربي بداعي الوصول إلى الجنّة أو الفرار من النّار أو سعة الرّزق، كذلك يصحّ العمل القربي بداعي الأُجرة، ولا ضير فيه.

أضف إلى ذلك ما ورد في بعض الرّوايات من جواز ذلك، كما ورد في استيجار مولانا الصادق(علیه السلام) للحجّ عن ولده إسماعيل(1)

{غاية الأمر} أنّه {يعتبر فيها} أي: في العبادات الاستيجاريّة {كغيرها} من سائر التوصليّات {أن يكون فيها منفعة عائدة إلى المستأجر} ولو منفعة بعيدة، كما لو استأجر أجنبيّ شخصاً لقضاء صلاة ميّت لا ربط بينهما، بل لأجل كونه مؤمناً، فيستحبّ الإحسان إليه.

وإنّما شرطنا وجود المنفعة {كيلا تكون المعاملة سفهيّة، و} لا يكون {أخذ الأُجرة عليها أكلاً} للمال {بالباطل} المنهي عنه في قوله - تعالى - : {وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ}(2)، فإنّه يشترط في كلّ معاملة اشتمالها على منفعة دنيويّة أو أُخرويّة، ولا يختصّ هذا بالواجبات التعبديّة، بل يجري في التوصليّات والمباحات والمستحبّات،وتفصيل هذا الكلام موكول إلى مكاسب الشّيخ(رحمة الله)(3)

ص: 168


1- وسائل الشيعة 11: 163 و 165.
2- سورة البقرة، الآية: 188.
3- كتاب المكاسب 2: 129-130.

وربّما يجعل من الثّمرة اجتماع الوجوب والحرمة إذا قيل بالملازمة في ما إذا كانت المقدّمة محرّمة، فيبتنى على جواز اجتماع الأمر والنّهي وعدمه، بخلاف ما لوقيل بعدمها.

وفيه أوّلاً: أنّه لا يكون من باب الاجتماع كي يكون مبتنية عليه؛

___________________________________________

ونحوه، فراجع.

{وربّما يجعل من الثّمرة} لبحث مقدّمة الواجب - والجاعل هو الوحيد البهبهاني+ على ما حكي(1)

- {اجتماع الوجوب والحرمة} في المقدّمة {إذا قيل بالملازمة} بين وجوب المقدّمة وذيها، وذلك {في ما إذا كانت المقدّمة} للواجب {محرّمة} كما لو ركب الدابّة الغصبيّة للذهاب إلى الحجّ {فيبتنى} وجوب هذه المقدّمة وعدمه {على جواز اجتماع الأمر والنّهي وعدمه} فإنّه لو قلنا بجواز الاجتماع كانت المقدّمة واجباً غيريّاً وحراماً نفسيّاً، ولو قلنا بعدم الاجتماع كان الحكم للراجح، فتأمّل.

{بخلاف ما لو قيل بعدمها} أي: بعدم الملازمة، فإنّ المقدّمة حينئذٍ حرام صرف ولا دخل لها بمسألة اجتماع الأمر والنّهي، فحاصل ثمرة مقدّمة الواجب هو اجتماع الأمر والنّهي في المقدّمة المحرّمة، بناءً على القول بوجوب المقدّمة.{وفيه أوّلاً: أنّه لا يكون من باب الاجتماع كي يكون} اجتماع الوجوب والحرمة في المقدّمة {مبتنية عليه} أي: على جواز اجتماع الأمر والنّهي، بل ركوب الدابّة الغصبيّة بناءً على وجوب المقدّمة داخل في مسألة النّهي عن العبادة لا في مسألة اجتماع الأمر والنّهي، إذ باب الاجتماع المختلف فيه بين الأعلام هو ما إذا تعلّق الأمر بعنوان وتعلّق النّهي بعنوان آخر - كالصلاة والغصب - ثمّ تصادق العنوانان في موضوع واحد - كالصلاة في الدار المغصوبة - وباب النّهي عن العبادة هو ما

ص: 169


1- الرسائل الأصولية: 234؛ وعنه مطارح الأنظار 1: 396؛ وبدائع الأفكار: 346.

لما أشرنا إليه غير مرّة: أنّ الواجب ما هو بالحمل الشّائع مقدّمة، لا بعنوان المقدّمة، فيكون على الملازمة من باب النّهي في العبادة والمعاملة.

وثانياً: لا يكاد يلزم الاجتماع أصلاً؛

___________________________________________

إذا تعلّق النّهي بفرد من أفراد المأمور به بعنوانه، كما لو قال: (صلّ ولا تصلّ في النّجس) ومسألة المقدّمة من هذا القبيل، إذ النّهي تعلّق بعنوان الغصب الّذي هو الرّكوب، والأمر متعلّق بعنوان الرّكوب بما هو ركوب، وليس للركوب عنوان آخر به كان واجباً حتّى يكون من قبيل اجتماع الأمر والنّهي.

إن قلت: بل مسألة المقدّمة من باب اجتماع الأمر والنّهي؛ لأنّ الرّكوب بعنوان الغصبيّة محرّم وبعنوان المقدّمة واجب.

قلت: ليس كذلك {لما أشرنا إليه غير مرّة} ومنها في جواب صاحب الفصول في المقدّمة الموصلة {أنّ الواجب ما هو بالحمل الشّائع مقدّمة لا بعنوان المقدّمة} فالركوب الذى: هو بالحمل الشّائع مقدّمة واجب وليست المقدّميّة عنواناً وقيداًللموضوع، بل المقدّميّة جهة حدوث الحكم بالوجوب، فإنّها جهة تعليليّة لا تقييديّة.

والحاصل: أنّ الحرمة والوجوب متوجّهان إلى هذا الرّكوب {فيكون} بناءً {على} القول بوجوب المقدّمة، لأجل {الملازمة من باب النّهي في العبادة والمعاملة} لا من باب اجتماع الأمر والنّهي، وعليه فالركوب محرّم مطلقاً سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم قلنا بعدم وجوبها.

وبهذا كلّه تبيّن سقوط ما ذكره الوحيد من أنّه بناءً على وجوب المقدّمة يكون من باب اجتماع الأمر والنّهي، وسيأتي زيادة توضيح لهذا المقام عند التعرّض للفرق بين مسألة اجتماع الأمر والنّهي وبين مسألة النّهي في العبادة.

{وثانياً:} على تقدير تسليم كون عنواني المقدّمة والغصب كعنواني الصلاة والغصب من باب اجتماع الأمر والنّهي، ولكن {لا يكاد يلزم الاجتماع} هنا {أصلاً}

ص: 170

لاختصاص الوجوب بغير المحرّم في غير صورة الانحصار به، وفيها إمّا لا وجوب للمقدّمة، لعدم وجوب ذي المقدّمة؛ لأجل المزاحمة، وإمّا لا حرمة لها، كذلك، كما لا يخفى.

___________________________________________

إذ الرّكوب على الدابّة الغصبيّة إمّا أن يكون في حال انحصار المقدّمة فيه وإمّا أن يكون في غير حال الانحصار، أمّا لو لم يكن انحصار، فلأنّ ركوب المغصوب محرّم غير واجب {لاختصاص الوجوب} الغيري {بغير} الفرد {المحرّم} لوضوح أنّه {في غير صورة الانحصار به} كانت الحرمة مانعة عن تعلّق الوجوب بهذا الفرد من المقدّمة.

{و} أمّا {فيها} أي: في صورة انحصار المقدّمة بهذا الفرد المحرّم - كأن لا يتمكّن المستطيع من السّير إلّا بركوب الدابّة المغصوبة - فمن البديهي أنّه لايجتمع الوجوب والحرمة؛ لأنّه {إمّا لا وجوب للمقدّمة، لعدم وجوب ذي المقدّمة، لأجل المزاحمة} فإنّه يقع التزاحم بين دليل الحجّ ودليل الغصب، فلو قدّم دليل الغصب فلا وجوب للحجّ، وحيث لا وجوب للحجّ، لم تكن مقدّمته واجبة، فتبقى الحرمة بلا مزاحمة وجوب {وإمّا لا حرمة لها} أي: للمقدّمة {كذلك} أي: لأجل المزاحمة، بأن يقدّم دليل الحجّ فلا حرمة للغصب، وحينئذٍ يبقى الوجوب بلا مزاحمة الحرمة {كما لا يخفى} وهذا الجواب محتاج إلى تدبّر.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه سقط هذا الجواب عن شرح العلّامة الرّشتي(رحمة الله)، وكذلك عن شرح السّيّد الحكيم، وعن المحشّاة بحاشية الخالصي(رحمة الله)، فراجع.

ويدلّ على كونه من المصنّف(رحمة الله) غالب الكتب، كالكفاية المحشّاة بحاشية العلّامة القوچاني، والمحشّاة بحاشية العلّامة المشكيني، وكذلك هو مذكور في الشّرح الفارسي للعلّامة الخوئيني(رحمة

الله)، لكن ذكر بعضهم أنّه قد شطب عليه في

ص: 171

وثالثاً: أنّ الاجتماع

___________________________________________

الدورة الأخيرة(1).

{وثالثاً: أنّ الاجتماع} حيث إنّ هذا الجواب مجمل فاللّازم بيان المراد أوّلاً ثمّ شرح العبارة، فنقول: مراد المصنّف أنّ الاجتماعوعدمه ليسا من ثمرة هذا البحث؛ لأنّ المقدّمة إمّا توصّليّة، كالسير للحجّ، وإمّا تعبديّة، كالوضوء للصلاة، وعلى كلّ حالٍ فالمطلوب من المقدّمة هو التوصّل إلى ذي المقدّمة، ولا دخل للقول بالملازمة وعدمها في التوصّل المذكور، ففي المقدّمة التوصليّة - سواء قلنا بالاجتماع أم لا - يمكن التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، ولا يتفاوت الحال في هذا التوصّل بين القول بوجوب المقدّمة وعدمه، ولا بين القول بجواز الاجتماع وعدمه، إذ أنّ الإنسان إذا أتى بالمقدّمة تمكّن من التوصّل إلى ذيها - على جميع الأقوال - وأنّ من ركب الدابّة الغصبيّة وسار إلى الحجّ توصّل بهذه المقدّمة إلى الواجب قطعاً.

وفي المقدّمة التعبديّة كالوضوء ولو أنّه يفرق فيها بين جواز الاجتماع وعدمه، إذ لو توضّأ بالماء المغصوب أمكن التوصّل بهذا الوضوء إلى الصلاة على القول بالاجتماع ولم يمكن على القول بالامتناع، لكن إمكان التوصّل على الجواز وعدمه على الامتناع من ثمرات مسألة جواز اجتماع الأمر والنّهي وعدم جواز اجتماعهما، وليس من ثمرات مسألة وجوب مقدّمة الواجب وعدم وجوبها، وذلك لما ظهر من أنّه على القول بالامتناع لا يمكن التوصّل - سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لا - وعلى القول بالاجتماع يمكن التوصّل - سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لا - .

ص: 172


1- حاصل كلام الوحيد هو: أنّ الثّمرة لزوم اجتماع الأمر والنّهي في المقدّمة المحرّمة على القول بوجوب المقدّمة، وحاصل هذا الجواب أنّ صيرورة المسألة من صغريات مسألة الاجتماع لا يصلح أن تكون ثمرة للمسألة الأصوليّة.

وعدمه لا دخل له في التوصّل بالمقدّمة المحرّمة وعدمه أصلاً؛ فإنّه يمكن التوصّل بها إن كانت توصليّة، ولو لم نقل بجواز الاجتماع، وعدمُ جواز التوصّل بها إن كانت تعبديّة على القول بالامتناع - قيل بوجوب المقدّمة أو بعدمه - ، وجوازُ التوصّل بها على القول بالجواز كذلك - أي: قيل بوجوب المقدّمة أو بعدمه - .

وبالجملة: لا يتفاوت الحال في جواز التوصّل بها وعدم جوازه أصلاً بين أن يقال بالوجوب أو يقال بعدمه، كما لا يخفى.

___________________________________________

والحاصل: أنّ اجتماع الأمر والنّهي {وعدمه لا دخل له في التوصّل بالمقدّمة المحرّمة وعدمه أصلاً} فإنّ المقدّمة إمّا توصليّة مطلقاً وإمّا تعبديّة ونقول بامتناع اجتماع الأمر والنّهي، وإمّا تعبديّة ونقول بجواز اجتماع الأمر والنّهي، وفي تمام هذه الصور الثّلاث لا دخل للملازمة وعدمها في المهمّ الّذي هو إمكان التوصّل إلى ذي المقدّمة {فإنّه يمكن التوصّل بها} إلى ذيها {إن كانت} المقدّمة {توصليّة} كالسير للحجّ {ولو لم نقل بجواز الاجتماع} وذلك لأنّ الغرض - وهو التوصّل - حاصل ولو بالمقدّمة المحرّمة المحضة.

{وعدم جواز التوصّل بها} أي: بالمقدّمة المحرّمة {إن كانت} المقدّمة {تعبديّة} كالوضوء للصلاة بناءً {على القول بالامتناع} سواء {قيل بوجوب المقدّمة، أو} قيل {بعدمه} إذ الحرمة تنافي قصد القربة {وجواز التوصّل بها} أي: بالمقدّمة المحرّمة إذا كانت تعبديّة {على القول بالجواز} أي: جواز اجتماع الأمر والنّهي {كذلك، أي:} سواء {قيل بوجوب المقدّمة أو بعدمه} كما هو واضح.

{وبالجملة لا يتفاوت الحال في جواز التوصّل بها} أي: بالمقدّمة المحرّمة {وعدم جوازه} أي: عدم جواز التوصّل بالمقدّمة المحرّمة {أصلاً} متعلّق ب- «لا يتفاوت» {بين أن يقال بالوجوب} أي: وجوب المقدّمة {أو يقال بعدمه، كما لا يخفى}.

وحقّ العبارة أن يقال: «ولا يجوز التوصّل» مكان «وعدم جواز التوصّل»وكذلك

ص: 173

في تأسيس الأصل في المسألة:

اعلم: أنّه لا أصل في محلّ البحث في المسألة؛ فإنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة وعدمها ليست لها حالة سابقة، بل تكون الملازمة أو عدمُها أزليّة.

___________________________________________

«ويجوز التوصّل» مكان «وجواز التوصّل».

[تأسيس الأصل في المسألة]

{في تأسيس الأصل في المسألة} حتّى يرجع إليه عند الشّكّ {اعلم أنّه لا أصل في محلّ البحث في} هذه {المسألة فإنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة} المقتضية للوجوب {وعدمها} أي: عدم الملازمة المقتضي لعدم وجوب المقدّمة {ليست لها حالة سابقة} حتّى تستصحب تلك الحالة {بل تكون الملازمة أو عدمها أزليّة} فليس هناك زمان يوجد فيه وجوب الشّيء ولا تكون فيه الملازمة حتّى يقال: وجوب الشّيء مسلّم والملازمة مشكوكة فالأصل عدمها، وكذلك العكس - أي: ليس هناك زمان توجد فيه الملازمة ولا يكون وجوب الشّيء حتّى يقال بعد ما وجب الشّيء: الوجوب مسلّم والملازمة مشكوكة فالأصل بقاؤها - .

والحاصل: أنّه لا يعلم أنّ وجوب الشّيء بأيّ نحو هل وجوبه ملازم لوجوب مقدّماته أم لا؟ قال العلّامة المشكيني(رحمة الله): «إذ ليست الملازمة دائرة مدار وجوب الطرفين ولا إمكانهما، بل تصدق مع الامتناع أيضاً.

وبعبارة أُخرى: هي من قبيل لوازم الماهيّة كالزوجيّة تجتمع مع الوجوبوالامتناع والإمكان والوجود والعدم، فليس لها حالة سابقة لا بنحو النّاقصة ولا بنحو التامّة لا وجوداً ولا عدماً»(1).

ص: 174


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 604.

نعم، نفس وجوب المقدّمة يكون مسبوقاً بالعدم، حيث يكون حادثاً بحدوث وجوب ذي المقدّمة، فالأصل عدم وجوبها.

وتوهّم: عدم جريانه؛ لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم الماهيّة غير مجعولة،

___________________________________________

{نعم، نفس وجوب المقدّمة} الّتي هي مسألة فرعيّة، وقد تقدّم أنّه ليس مبحوثاً عنه في المسألة {يكون مسبوقاً بالعدم} مثلاً: الزمان الّذي لم يكن الحجّ واجباً على هذا الشّخص لم يكن ركوب الدابّة الّذي هو مقدّمته واجباً، فإذا وجب الحجّ وشككنا في وجوب الرّكوب، فالأصل عدمه {حيث يكون حادثاً} وجوب المقدّمة {بحدوث وجوب ذي المقدّمة، فالأصل} أي: الاستصحاب يقتضي {عدم وجوبها} بعد وجوب ذيها {وتوهّم عدم جريانه} أي: عدم جريان الاستصحاب لرفع وجوب المقدّمة {لكون وجوبها} بناءً {على الملازمة من قبيل لوازم الماهية}.

اعلم أنّ اللّازم على قسمين:

الأوّل: لازم الماهيّة، وهو ما ينتزع عنها بدون مدخليّة للوجود الذهني أو الخارجي في هذا الانتزاع، خلافاً للعلّامة الدواني الّذي حكم بأنّ لازم الماهيّة عبارة عن لازم كلا الوجودين. وعلى كلّ حال فهو كالإمكان للماهيّة والزوجيّة للأربعة.الثّاني: لازم الوجود الخارجي، كالحرارة للنار، أو الذهني، كالكليّة للإنسان.

إذا عرفت هذا فنقول: لوازم الماهيّة {غير مجعولة} مستقلّاً بلا جعلها بجعل منشأ انتزاعها. مثلاً: ليست الأربعة مجعولة بجعلين: الأوّل جعل ذاتها، والثّاني جعل زوجيّتها، بل زوجيّتها مجعولة تبعاً بجعل ذاتها، فإنّ الجعل التأليفي لا يكون إلّا في العرضيّات المفارقة. أمّا بين الشّيء ونفسه - ك- (الإنسان إنسانٌ) وبينه وبين ذاتيّاته ك- (الإنسان حيوان) وبينه وبين عوارضه اللّازمة، ك- (الأربعة زوج) - فليس

ص: 175

ولا أثر آخرمجعول مترتّب عليه، ولو كان لم يكن بمهمّ هاهنا.

مدفوع: بأنّه وإن كان غير مجعول بالذات، - لا بالجعل البسيط الّذي هو مفاد كان التامّة، ولا بالجعل التأليفي الّذي هو مفاد كان النّاقصة - ، إلّا أنّه مجعول بالعرض، ويتبع جعل وجوب ذي المقدّمة، وهو كافٍ في جريان الأصل.

و

___________________________________________

جعل، بل الجعل فيها بسيط. وبهذا كلّه تبيّن معنى كون وجوب المقدّمة على الملازمة من قبيل لوازم الماهيّة وكونه غير مجعولة.

والحاصل: أنّ وجوب المقدّمة غير مجعول بنفسه شرعاً {ولا أثر آخر مجعول} شرعاً {مترتّب عليه} فلا يجري فيه استصحاب العدم؛ لأنّه يعتبر في مجرى الاستصحاب أن يكون إمّا أثراً شرعيّاً أو ذا أثر شرعيّ، كما هو مسلّم {ولو كان} لوجوب المقدّمة أثر شرعيّ فرضاً، كبرء النّذر {لم يكن بمهمّ هاهنا} لما تقدّم {مدفوعٌ بأنّه} أي: وجوب المقدّمة بناءً على الملازمة {وإن كان غير مجعول} مستقلّاً و{بالذات، لا بالجعل البسيط الّذي هو} عبارة عنإعطاء الوجود بشيء بأن يكون {مفاد كان التامّة} كأن يقال: (كان زيد) أي: وجد {ولا بالجعل التأليفي} المعبّر عنه بالجعل المركّب {الّذي هو} عبارة عن جعل الشّيء متصفاً بصفة بأن يكون {مفاد كان النّاقصة} ك- (كان زيد قائماً) {إلّا أنّه} أي: وجوب المقدّمة {مجعول بالعرض} أي: بسبب جعل الملزوم {ويتبع جعل وجوب ذي المقدّمة} كما أنّ الزوجيّة مجعولة بتبع جعل الأربعة {وهو} أي: هذا المقدار من الجعل {كافٍ في جريان الأصل} عندئذٍ لا يلزم في صحّة الاستصحاب كون المستصحب مجعولاً مستقلّاً، بل اللّازم كونه مجعولاً للشارع ولو تبعاً - كما قرّر في محلّه - .

{و} إن قلت: بناءً على جواز جريان استصحاب عدم وجوب المقدّمة يلزم التفكيك بين الملزوم واللّازم، إذ وجوب الحجّ مثلاً ثابت ومقدّميّة الرّكوب مقطوع

ص: 176

لزومُ التفكيك بين الوجوبين مع الشّكّ لا محالة؛ - لأصالة عدم وجوب المقدّمة مع وجوب ذي المقدّمة - لا ينافي الملازمة بين الواقعيّين، وإنّما ينافي الملازمة بين الفعليّين.

نعم، لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتّى في المرتبة الفعليّة، لما صحّ التمسّك بالأصل،

___________________________________________

والملازم بين وجوب الحجّ وبين وجوب المقدّمة مفروضة، فأصل عدم وجوب الرّكوب في هذا الحال مستلزم للتفكيك بين الملزوم واللّازم.

قلت: {لزوم التفكيك بين الوجوبين} أي: وجوب المقدّمة ووجوب ذيها {مع} فرض {الشّكّ} في وجوب المقدّمة {لا محالة، لأصالة عدم وجوب المقدّمة مع وجوبذي المقدّمة لا ينافي الملازمة بين} الوجوبين {الواقعيّين} فإنّه بإجراء أصالة عدم وجوب المقدّمة لا تخرج المقدّمة عن وجوبها الواقعي {وإنّما ينافي} هذا التفكيك {الملازمة بين} الوجوبين {الفعليّين} في الظاهر، ولا غرو، إذ هذا النّحو من التفكيك بين اللوازم والملزومات في الأحكام الظاهريّة كثيرة، ألا ترى أنّهم يحكمون بطهارة أعضاء الوضوء مع حكمهم بالحدث في ما لو توضّأ بأحد الإناءين المشتبهين بالنّجس لاستصحاب الطّهارة واستصحاب الحدث، مع أنّه في الواقع إمّا نجس محدث وإمّا طاهر متطهّر، وكذلك في استصحابي حياة الشّخص الغائب وعدم التحائه.

{نعم، لو كانت الدعوى} في مسألة مقدّمة الواجب {هي الملازمة المطلقة حتّى في المرتبة الفعليّة} بأن يكون وجوب ذي المقدّمة في الواقع ملازماً لوجوب المقدّمة واقعاً، ووجوب ذيها في الظاهر ملازماً لوجوبها ظاهراً {لما صحّ التّمسّك بالأصل} أي: بأصل عدم وجوب المقدّمة، إذ لا يجتمع حكمان فعليّان للزوم التّناقض.

وفي بعض النّسخ مكان «لما صحّ» الخ: «لصحّ التّمسّك بذلك» أي: بالتلازم الظاهري، «في إثبات بطلانها» أي: بطلان أصالة عدم وجوب المقدّمة

ص: 177

كما لا يخفى.

إذا عرفت ما ذكرنا: فقد تصدّى غير واحد من الأفاضل(1) لإقامة البرهان على الملازمة، وما أتى منهم بواحد خال عنالخلل.

والأَوْلى: إحالة ذلك إلى الوجدان؛ حيث إنّه أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات، أراد تلك المقدّمات

___________________________________________

{كما لا يخفى}.

أقول: قد قرّر هذا الإشكال والجواب السّيّد الحكيم - دام ظلّه - بلفظ أوضح فقال معلّقاً على قوله: «ولزوم التفكيك» الخ إشارة إلى إشكال آخر، وهو أنّ إجراء أصالة عدم وجوب المقدّمة يقتضي الحكم بعدم وجوبها، فيحصل العلم بالتفكيك بين الوجوب النّفسي والوجوب الغيري، والعلم المذكور ينافي احتمال الملازمة، فإذا فرض ثبوت احتمال الملازمة ثبت امتناع العلم بالتفكيك الحاصل من جريان الأصل، فيقتضي عدم جريانه.

ودفع الإشكال بقوله: «إنّ الأصل إنّما يوجب العلم بالانفكاك ظاهراً، وهو لا ينافي احتمال الملازمة بينهما واقعاً، وإنّما ينافي احتمال الملازمة بينهما ظاهراً، وهو غير المدّعى»(2)،

انتهى.

{إذا عرفت ما ذكرنا} من الأُمور {فقد تصدّى غير واحد من الأفاضل لإقامة البرهان على الملازمة} بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها {وما أتى} أحد {منهم ب-} برهان {واحدٍ خالٍ عن الخلل} لا داعي لإيرادها.

{والأولى إحالة ذلك إلى الوجدان حيث إنّه أقوى شاهد على} المطلب، بيانه: {أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً} وكان {له مقدّمات أراد تلكالمقدّمات} أراد غيريّة ارتكازيّة

ص: 178


1- مطارح الأنظار 1: 407، حيث نسبه إلى أبي الحسن البصري وجماعة.
2- حقائق الأصول 1: 296.

لو التفت إليها، بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله، ويقول مولوياً: (ادخل السّوق واشتر اللحم) - مثلاً - ؛ بداهَة أنّ الطلب المنشأ بخطاب: (ادخل) مثل المُنشأ بخطاب (اشتر) في كونه بعثاً مولويّاً، وأنّه حيث تعلّقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء، ترشّحت منها له إرادة أُخرى بدخول السّوق، بعد الالتفات إليه، وأنّه يكون مقدّمة له، كما لا يخفى.

ويؤيّد الوجدانَ - بل يكون من أوضح البرهان - : وجودُ الأوامر الغيريّة في الشّرعيّات والعرفيّات؛

___________________________________________

مع عدم الالتفات وفعليّة {لو التفت إليها} أي: إلى كونها مقدّمات لمراده الأصلي {بحيث ربّما يجعلها} أي: المقدّمات {في قالب الطلب مثله} أي: مثل أصل الواجب المجعول في قالبه {ويقول مولويّاً} لا إرشاديّاً: {(ادخُل السّوق واشتر اللّحم) مثلاً} مع أنّ الواجب النّفسي المقصود ابتداءً هو اشتراء اللحم، وإنّما دخول السّوق مقدّمة وتوصل إليه.

إن قلت: ليس خطاب (ادخل) مولويّاً بل هو إرشاديّ من قبيل {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ}.

قلت: بل هو مولويّ {بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب (ادخل) مثل المنشأ بخطاب (اشتر) في كونه بعثاً مولويّاً، و} الفرق في أنّ (اشتر) ابتدائيّ بخلاف (ادخل) ف- {إنّه حيث تعلّقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشّحت منها له} أي: للمولى {إرادة أُخرى بدخول السّوق بعد الالتفات إليه، و} تكون الإرادة ارتكازيّة فيصورة عدم الالتفات.

نعم، لا يكفي مجرّد الالتفات إلى ذات المقدّمة في إرادتها، بل يلزم الالتفات إلى {أنّه يكون مقدّمة له} أيضاً {كما لا يخفى} على المتأمّل.

{ويؤيّد الوجدان، بل يكون من أوضح البرهان} على إرادة المقدّمات والملازمة المذكورة {وجود الأوامر} المولويّة {الغيريّة في الشّرعيّات} كالوضوء ونحوه {والعرفيّات} الّتي لا تكاد تحصى.

ص: 179

لوضوح أنّه لا يكاد يتعلّق بمقدّمة أمرٌ غيريٌّ إلّا إذا كان فيها مناطُه. وإذا كان فيها كان في مثلها، فيصحّ تعلّقه به أيضاً؛ لتحقّق ملاكه ومناطه.

و

___________________________________________

إن قلت: وجود الأمر الغيري في بعض المقدّمات لا يلازم وجوده في تمامها.

قلت: بل وجود الأمر الغيري في البعض يلازم وجوده في الجميع.

بيانه: أنّ الأمر الغيري لا يتعلّق بشيء إلّا إذا كان فيه مناط الغيريّة والمقدّميّة، وعلى هذا كلّما توجّه الأمر الغيري إلى شيء لا بدّ وأن يكون لمقدّميّته، وحيث كان مناط الأمر الغيري المقدّميّة - والمقدّميّة موجودة في جميع المقدّمات - فاللّازم توجّه الأمر الغيري إلى جميعها، ولنوضح المطلب بمثال، وهو أنّه لو قال المولى: (أكرم زيداً) ثمّ علمنا أنّ سبب إكرامه هو علمه، فاللّازم إكرام جميع العلماء لوجود مناط وجوب الإكرام في الجميع.

وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى هذا الجواب بقوله: {لوضوح} وهذا علّة لقوله: «ويؤيّد الوجدان» {أنّه لا يكاد يتعلّق بمقدّمةأمر غيري إلّا إذا كان فيها} أي: في تلك المقدّمة {مناطه} أي: مناط الأمر الغيري، وهو توقّف المأمور به عليها {وإذا كان} المناط {فيها} أي: في هذه المقدّمة المأمور بها {كان في مثلها} من سائر المقدّمات الّتي لم يؤمر بها {فيصحّ تعلّقه} أي: الأمر {به} أي: بمثلها {أيضاً لتحقّق ملاكه ومناطه} الّذي هو التوقّف، فيثبت عموم الحكم للجميع.

{و} إن قلت: ليس مناط الوجوب في الوضوء ونحوه هو المقدّميّة حتّى يتعدّى منه إلى جميع المقدّمات، بل يحتمل أن يكون المناط في ما وجب من المقدّمات كونها سبباً أو شرطاً شرعيّاً أو نحوهما، وذلك يقتضي وجوب كلّ مقدّمة سببي أو شرط شرعي فقط، فلا يثبت مطلوبكم - أعني: وجوب المقدّمات كافّة - .

قلت: لا خصوصيّة ف-ي المقدّمة السّببي ونحوها تقتضي وجوبها فقط، فإنّ

ص: 180

التّفصيل بين السّبب وغيره(1)، والشّرط الشّرعي وغيره(2) سيأتي بطلانَه، وأنّه لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدّمة ومقدّمة.

ولا بأس بذكر الاستدلال الّذي هو كالأصل لغيره ممّا ذكره الأفاضل من الاستدلالات، وهو ما ذكره أبو الحسن البصري(3)، وهو: أنّه لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها، وحينئذٍ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، وإلّا خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً.وفيه - بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشّرعي من التّالي

___________________________________________

{التفصيل بين السّبب وغيره والشّرط الشّرعي وغيره} لا وجه له أصلاً، و{سيأتي بطلانه وأنّه لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدّمة ومقدّمة} بل يلزم القول بوجوب الجميع أو بعدم وجوب الجميع.

{ولا بأس بذكر الاستدلال الّذي هو كالأصل لغيره} من سائر الاستدلالات المنشعبة منه {ممّا ذكره الأفاضل من الاستدلالات} بيان «غيره» {وهو ما ذكره أبو الحسن البصري، وهو أنّه لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها، وحينئذٍ} أي: حين جواز التّرك - أو حين التّرك على ما يأتي - {فإن بقي الواجب على وجوبه} كما كان {يلزم التكليف بما لا يطاق} إذ التكليف بذي المقدّمة في ظرف عدم وجود مقدّمته غير مقدور {وإلّا} فلو لم يبق الواجب على وجوبه {خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً} وهو خلف.

والحاصل: أنّ عدم وجوب المقدّمة مستلزم لأحد محذورين: التكليف بغير المقدور أو الخلف. وحيث إنّ كليهما باطلان فعدم وجوب المقدّمة أيضاً باطل.

{وفيه بعد إصلاحه} أوّلاً {بإرادة عدم المنع الشّرعي من التالي} أي: قوله: «لجاز

ص: 181


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 83.
2- هداية المسترشدين 2: 104؛ مطارح الأنظار 1: 447.
3- حكي عنه في مطارح الأنظار 1: 407.

في الشّرطيّة الأُولى، لا الإباحة الشّرعيّة، وإلّا كانت الملازمة واضحةَ البطلان، وإرادة الترك عمّا أُضيف إليه الظرف، لا نفس الجواز، وإلّا فبمجرّد الجواز بدون الترك، لا يكاد يتوهّم صدق القضيّة الشّرطيّة الثّانية - : ما لا يخفى: فإنّ الترك بمجرّد عدم المنعشرعاً لا يوجب صدق إحدى الشّرطيّتين ولا يلزم أحد المحذورين؛

___________________________________________

تركها» {في الشّرطيّة الأُولى} وهي قوله: «لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها» فيكون المراد من الجملة الشّرطيّة الأُولى أنّه لو لم يجب المقدّمة لم يكن منع شرعيّ عن تركها، و{لا} يمكن أن يراد من جواز الترك {الإباحة الشّرعيّة} حتّى يكون هكذا: لو لم يجب لأُبيح تركه {وإلّا} فلو أُريد الإباحة {كانت الملازمة} بين المقدّم والتالي {واضحة البطلان} إذ انتفاء الوجوب الشّرعي لا يقتضي ثبوت الإباحة الشّرعيّة، بل يتردّد بين الأحكام الأربعة: الحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة {و} إصلاحه ثانياً ب- {إرادة الترك عمّا أُضيف إليه الظرف} وهو «حين» فيكون معنى «وحينئذٍ»: حين الترك كما تقدّم، و{لا} يمكن أن يكون المراد من مضاف إليه الظرف {نفس الجواز} حتّى يكون المعنى: «وحين جواز التّرك» {وإلّا} فلو أُريد جواز الترك {فبمجرّد الجواز بدون الترك لا يكاد يتوهّم صدق القضيّة الشّرطيّة الثّانية} وهي قوله: «فإن بقي الواجب» الخ.

قال العلّامة الرّشتي: «ضرورة أنّ أحد المحذورين إنّما يترتّب على ترك المقدّمة في الخارج لا على مجرّد جوازه وإن أتى بها في الخارج.

وقوله {ما لا يخفى} مبتدأ، خبره ما تقدّم من قوله: «وفيه بعد إصلاحه»(1)، انتهى.

{فإنّ الترك بمجرّد عدم المنع شرعاً لا يوجب صدق إحدى الشّرطيّتين ولا يلزم أحد المحذورين} وهما خروج الواجب عنكونه واجباً ولزوم تكليف ما لا يطاق

ص: 182


1- شرح كفاية الأصول 1: 171.

فإنّه وإن لم يبق له وجوب معه، إلّا أنّه كان ذلك بالعصيان؛ لكونه متمكّناً من الإطاعة والإتيان، وقد اختار تركه بترك مقدّمته بسوء اختياره، مع حكم العقل بلزوم، إتيانها، إرشاداً إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب.

نعم، لو كان المراد من الجواز جواز الترك شرعاً وعقلاً لزم أحد المحذورين، إلّا أنّ الملازمة على هذا

___________________________________________

{فإنّه وإن لم يبق له} أي: لذي المقدّمة {وجوب معه} أي: مع ترك المقدّمة {إلّا أنّه كان ذلك} أي: سقوط الوجوب عن ذي المقدّمة {بالعصيان لكونه متمكّناً} حين الترك {من الإطاعة والإتيان} بالمأمور به {وقد اختار تركه ب-} سبب {ترك مقدّمته بسوء اختياره} فيكون تاركاً للواجب في ظرف القدرة {مع حكم العقل بلزوم إتيانها} أي: المقدّمة {إرشاداً إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب}.

فتحصّل من الجواب: أنّ المقدّمة الأُولى - أعني: قوله: «لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها» - مسلّمة، ولكن المقدّمة الثّانية - أعني: قوله: «ولو ترك لزم إمّا الخلف أو التكليف بما لا يطاق» - غيرُ صحيحٍ، إذ بالترك يسقط التكليف عصياناً، فإنّ المقدّمة مقدورة والعقل حكم بلزوم الإتيان بها إرشاداً فلم يخرج الواجب المطلق عن كونه واجباً.

ومن هذا كلّه تحقّق أنّ جواز ترك المقدّمة شرعاً - في ظرف وجوب الإتيان بها عقلاً - غير مستلزم لأحد المحذورين.{نعم، لو كان المراد من الجواز} في الشّرطيّة الأُولى {جواز الترك شرعاً وعقلاً يلزم أحد المحذورين} من تكليف ما لا يطاق أو الخلف، ووجه لزوم أحد المحذورين حينئذٍ أنّه يكون في ترك المقدّمة معذوراً، فلا عقوبة على ترك ذي المقدّمة المستند إليه، فتأمّل.

{إلّا أنّ الملازمة} في الشّرطيّة الأُولى {على هذا} أي: على تقدير أن يكون المراد

ص: 183

في الشّرطيّة الأُولى ممنوعة؛ بداهة أنّه لو لم يجب شرعاً لا يلزم أن يكون جائزاً شرعاً وعقلاً؛ لإمكان أن لا يكون محكوماً بحكم شرعاً وإن كان واجباً عقلاً إرشاداً، وهذا واضح لا سترة عليه.

وأمّا التفصيل بين السّبب وغيره(1): فقد استدلّ على وجوب السّبب بأنّ التكليف لا يكاد يتعلّق إلّا بالمقدور، والمقدور لا يكون إلّا هو السّبب، وإنّما المسبّب من آثاره المترتّبة عليه قهراً، ولا يكون من أفعال المكلّف وحركاته أو سكناته، فلا بدّ من صرف الأمر المتوجّه إليه عنه إلى سببه.

___________________________________________

من الجواز جواز الترك شرعاً وعقلاً {في الشّرطيّة الأُولى ممنوعة، بداهة أنّه لو لم يجب شرعاً لا يلزم أن يكون جائزاً شرعاً وعقلاً} لعدم التلازم بين عدم الوجوب شرعاً وعدم الوجوب عقلاً حتّى يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر {لإمكان} وجه لا يلزم {أن لا يكون} فعل المقدّمة {محكوماً بحكم شرعاً وإن كان واجباً عقلاً إرشاداً}.فتلخّص ورود أحد الإشكالين على استدلال أبي الحسن البصري: إمّا منع الشّرطيّة الأُولى - وهي لو لم يجب لجاز تركها - لو كان المراد جواز الترك شرعاً وعقلاً، وإمّا منع الشّرطيّة الثّانية - وهي وحينئذٍ الخ - لو كان المراد جواز الترك شرعاً {وهذا واضح لا سترة عليه}.

{وأمّا التفصيل بين السّبب وغيره} والقول بوجوب المقدّمة السببيّة دون غيرها {فقد استدلّ على وجوب السّبب بأنّ التكليف} الشّرعي {لا يكاد يتعلّق إلّا بالمقدور، و} المسبّب غير مقدور، فإنّ {المقدور لا يكون إلّا هو السّبب، وإنّما المسبّب من آثاره} القهريّة {المترتّبة عليه قهراً، ولا يكون} المسبّب {من أفعال المكلّف وحركاته أو سكناته} حتّى يصحّ تعلّق الأمر به {فلا بدّ من صرف الأمر المتوجّه إليه} ظاهراً نحو «تزوّج» {عنه} أي: عن المسبّب {إلى سببه} فيلزم صرف

ص: 184


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 83.

ولا يخفى ما فيه: من أنّه ليس بدليل على التفصيل، بل على أنّ الأمر النّفسي إنّما يكون متعلّقاً بالسبب دون المسبّب، مع وضوح فساده؛ ضرورةَ أنّ المسبّب مقدور للمكلّف، وهو متمكّن عنه بواسطة السّبب، ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة - كانت بلا واسطة أو معها - كما لا يخفى.

وأمّا التفصيل بين الشّرط الشّرعي وغيره(1):

___________________________________________

الأمر المذكور إلى العقد، وكذا صرف الأمر بالإحراق والتطهّر إلى الإلقاء في النّار والغسلات والمسحات.ومن هذا كلّه تبيّن وجوب المقدّمة السّببيّة لتوجّه الأمر بالمسبّب إليها حقيقة، وأمّا غير السّبب من سائر المقدّمات، فلا دليل على وجوبه.

{ولا يخفى ما فيه} فإنّ هذا الإستدلال بنفسه غير تامّ، وعلى فرض تماميّته لا يكون تفصيلاً في المسألة بين السّبب وغيره: أمّا الثّاني فلما أشار إليه بقوله: {من أنّه ليس بدليل على التفصيل} بين السّبب وغيره {بل} هذا الدليل يدلّ {على أنّ الأمر النّفسيّ إنّما يكون متعلّقاً بالسبب دون المسبّب} فالمدّعى كون المقدّمة السّببيّة واجباً غيريّاً، والدليل يدلّ على وجوبها النّفسي، وكم فرق بينهما، كما لا يخفى.

وأمّا الأوّل فلما أشار إليه بقوله: {مع وضوح فساده} أي: فساد هذا الاستدلال بنفسه {ضرورة أنّ المسبّب مقدور للمكلّف، وهو} أي: المكلّف {متمكّن عنه بواسطة السّبب، ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة} سواء {كانت بلا واسطة} كالفعل المباشري {أو معها} كالمسبّبات {كما لا يخفى} فإنّ المقدور بالواسطة مقدور بديهة، فلا وجه للقول بأنّ التكليف بالتطهّر والتزوّج والإحراق ونحوها يرجع إلى أسبابها، بل التكليف بنفسها حقيقة.

{وأم--ّا التفصيل بين الشّرط الشّرع-ي} ك--الوضوء {وغي-ره} كالسير للحجّ

ص: 185


1- هداية المسترشدين 2: 104؛ مطارح الأنظار 1: 447.

فقد استدلّ على الوجوب في الأوّل: بأنّه لولا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً؛ حيث إنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلاً أو عادة.

وفيه - مضافاً إلى ما عرفت من رجوع الشّرط الشّرعي إلى العقلي - : أنّه لا يكاد يتعلّق الأمر الغيري إلّا بما هو مقدّمةالواجب، ولو كان مقدّميّته متوقّفة على تعلّقه بها لدار.

___________________________________________

{فقد استدلّ على الوجوب في الأوّل بأنّه لولا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً} للمأمور به {حيث إنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلاً أو عادة} بضميمة دوران الأمر بين هذه الثّلاثة، وهذا الدليل يشبه قياس الخلف الّذي هو عبارة عن إثبات المطلوب بإبطال نقيضه.

بيان ذلك: أنّ الشّرطيّة إمّا بحكم العقل وإمّا بحكم العادة وإمّا بحكم الشّرع، فإذا انتفى الأوّلان ثبت الثّالث، وإذا ثبتت الشّرطيّة الشّرعيّة نقول: لا بدّ وأن يكون الشّرط واجباً غيريّاً وإلّا لم يحكم به الشّارع.

{وفيه مضافاً إلى ما عرفت} في تقسيم المقدّمات {من رجوع الشّرط الشّرعي إلى العقلي} والفرق إنّما هو درك الشّارع له دون العقل، وبعد بيان الشّارع يكون كالعقلي في انتفاء المشروط بانتفائه.

وعلى هذا فلو كان الشّرط الشّرعي واجباً كان غير الشّرعي أيضاً واجباً لعدم التفاوت بينهما، فلا يمكن التفصيل والقول بوجوب أحدهما دون الآخر {أنّه لا يكاد يتعلّق الأمر الغيري إلّا بما هو مقدّمة الواجب، ولو كان مقدّميّته متوقّفة على تعلّقه بها لدار}.

وحاصله: الإشكال على قوله في الاستدلال: «لو لم يكن واجباً لما كان مقدّمة» توضيح الدور: أنّ هذا الدليل بضميمة مطلب آخر وجداني وهو «لو لم يكن الشّرط مقدّمة لما أمر به» ينتج الدور، إذ لا شكّ في أنّ الأمر الغيري لا يتعلّق إلّا بما هو مقدّمة ودخيل في الواجب، فلو كانت المقدّميّة والشّرطيّة متوقّفة

ص: 186

والشّرطيّة وإن كانت منتزعة عن التكليف، إلّا أنّه عن التكليف النّفسي المتعلّق بما قيّد بالشرط، لا عن الغيري، فافهم.

___________________________________________

على الأمر الغيري دار، وحيث إنّ الدور باطل لا بدّ وأن يكون إحدى المقدّمتين كاذبة. لا سبيل إلى كذب المقدّمة الوجدانيّة - أعني: لو لم يكن الشّرط مقدّمة لما أمر به - فاللّازم كذب المقدّمة المذكورة في الاستدلال - أعني: لو لم يكن واجباً لما كان مقدّمة - فلا موجب لوجوب الشّرط الشّرعي دون غيره.

إن قلت: هذا الدور بعينه وارد عليكم؛ لأنّ الشّرطيّة متوقّفة على الأمر الغيري، إذ لولا الأمر الغيري لم يعلم الشّرطيّة، والأمر الغيري متوقّف على ثبوت الشّرطيّة، إذ لولا الشّرطيّة لم يأمر المولى بالشرط {و} هذا دور صريح.

قلت: المقدّمة الأُولى ممنوعة؛ لأنّ {الشّرطيّة وإن كانت منتزعة عن التكليف} لأنّها مجعولة تبعاً لا مستقلّاً، كما هو رأى المصنّف في هذا القسم من الأحكام الوضعيّة بحيث لولا التكليف لم يصحّ انتزاعها {إلّا أنّه} أي: انتزاع الشّرطيّة {عن التكليف النّفسي المتعلّق بما قيّد بالشرط} كقوله: (صلّ عن طهارة) المنتزع منه وجوب الطهارة، و{لا} تكون الشّرطيّة منتزعة {عن} التكليف {الغيري} فلا تتوقّف الشّرطيّة على الأمر الغيري حتّى يتمّ الدور المذكور.

وقد يجاب عن الدور: بأنّ الشّرطيّة متوقّفة إثباتاً على الأمر الغيري، والأمر الغيري متوقّف ثبوتاً على الشّرطيّة، فلا دور {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ قولكم: «والشّرطيّة وإن كانت» الخ لا يدفع الدور؛ لأنّ الأمر النّفسي بالصلاة مع الطهارة متوقّف على مدخليّة الطهارة ومقدّميّتها، إذ لولا المقدّميّة لم يأمر بالصلاة مع الطهارة، ومدخليّة الطهارة متوقّفة على الأمر النّفسيّ بالصلاة مع الطهارة، إذ لولا هذا الأمر لم تكن للطهارة مدخليّة، وهذا دور واضح، غاية الأمرأنّ الدور في التقرير السّابق كان مع الأمر الغيري وهاهنا كان مع الأمر النّفسي.

ص: 187

تتمّة: لا شبهة في أنّ مقدّمة المستحب كمقدّمة الواجب؛ فتكون مستحبّة لو قيل بالملازمة.

وأمّا مقدّمة الحرام والمكروه فلا تكاد تتّصف بالحرمة أو الكراهة، إذ منها ما يتمكّن معه من ترك الحرام أو المكروه اختياراً، كما كان متمكّناً قبله، فلا دَخل له أصلاً في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه، فلم يترشّح من طلبه طلب ترك مقدّمتهما.

___________________________________________

[تتمّة]

{تتمّة: لا شبهة في أنّ مقدّمة المستحب} كالمشي لزيارة الحسين(علیه السلام) أو أحد كبراء الدين(علیهم السلام) {كمقدّمة الواجب، فتكون مستحبّة لو قيل بالملازمة} في مقدّمة الواجب، وذلك لاتحاد المناط في المقامين، فإنّ الواجب كما كان متوقّفاً كذلك المستحبّ متوقّف، فلا فرق بين الطلب الوجوبي والاستحبابي عند العقل.

{وأمّا مقدّمة الحرام} كالمشي للزنا {و} مقدّمة {المكروه} كالمشي للطلاق {فلا تكاد تتصف بالحرمة أو الكراهة} مطلقاً، بل فرق بين المقدّمات {إذ منها ما يتمكّن معه من ترك الحرام أو المكروه اختياراً} فلا يسلب الاختيار بفعل تلك المقدّمة {كما كان متمكّناً قبله} ففي المثال المشي وعدمه متساويان بالنسبة إلى الزنا، فإنّ من ذهب إلى دار الزانية مختار في الزنا كأن كان قبل المشي مختاراً {فلا دخل له أصلاًفي حصول ما هو المطلوب} للمولى {من ترك الحرام أو المكروه} بيان للمطلوب، وحيث لا مدخليّة للمقدّمة {فلم يترشّح من طلبه} أي: طلب ترك الحرام والمكروه {طلب ترك مقدّمتهما} إذ ترك مقدّمة واحدة كافٍ في ترك الحرام أو المكروه، فالواجب الغيري ترك مقدّمة واحدة على البدل، فالمحرّم فعل أحدها لا كلّ واحد منها، إلّا أن يقال: إنّ فعل كلّ مقدّمة إعانة على المحرّم، فيشمله قوله - تعالى - : {وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ}(1) بناءً على شمول الآية

ص: 188


1- سورة المائدة، الآية: 2.

نعم، ما لم يتمكّن معه من الترك المطلوب، لا محالة يكون مطلوبَ الترك، ويترشّح من طلب تركهما طَلَبُ تركِ خصوص هذه المقدّمة، فلو لم يكن للحرام مقدّمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدّمةٌ من مقدّماته.

لا يقال: كيف؟ ولا يكاد يكون فعل إلّا عن مقدّمة لا محالة معها يوجد؛ ضرورة أنّ الشّيء ما لم يجب لم يوجد.

___________________________________________

لفعل النّفس، فتدبّر.

{نعم، ما لم يتمكّن معه من الترك المطلوب} أي: المقدّمة الّتي هي علّة تامّة لفعل الحرام أو المكروه {لا محالة يكون مطلوب الترك} كالحرام النّفسي والمكروه النّفسيّ {ويترشّح من طلب تركهما} ترك الحرام والمكروه {طلب ترك خصوص هذه المقدّمة} الّتي هي علّة تامّة، أمّا الشّرط والمقتضي والمعدّ والسّبب من مقدّمات الحرام والمكروه، فليستبمطلوبات الترك.

وعلى هذا {فلو لم يكن للحرام مقدّمة} تكون علّة تامّة له - بحيث {لا يبقى معها اختيار تركه - لما اتّصف بالحرمة مقدّمة من مقدّماته} أصلاً؛ لأنّه مادام الاختيار باقياً لم تحصل العلّة التامّة، وغير العلّة التامّة ليس محرّماً - كما تقرّر - .

{لا يقال: كيف} قلتم بعدم اتصاف أيّ مقدّمة بالحرمة مع وجود الحرام في الخارج، فإنّ هذا يستلزم وجود الشّيء بدون علّته التامّة. {و} الحال أنّه {لا يكاد يكون فعل إلّا عن مقدّمة} هي علّة تامّة {لا محالة معها يوجد} ذلك الفعل {ضرورة أنّ الشّيء ما لم يجب} أي: ما لم يوجد علّته التامّة {لم يوجد}.

والحاصل: أنّه لمّا استفيد من آخر كلام المصنّف أنّه لو لم يكن للحرام علّة تامّة لم يكن أحد مقدّماته حراماً اعترض عليه هذا القائل بأنّه كيف يمكن أن يوجد فعل في الخارج ولا يكون له علّة تامّة والحال أنّ الشّيء ما لم يجب - بسبب وجود علّته التامّة - لم يوجد؟ وعلى هذا فلا بدّ وأن يكون لكلّ محرّم موجود علّة تامّة،

ص: 189

فإنّه يقال: نعم، لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام، لكنّه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدّمات الاختياريّة، بل من المقدّمات الغير الاختياريّة، كمبادئ الاختيار الّتي لا تكون بالاختيار، وإلّا لتسلسل، فلا تغفل وتأمّل.

___________________________________________

وتلك العلّة التامّة محرّمة.

ولكن هذا الإشكال غير وارد {فإنّه يقال} في الجواب عنه: {نعم} لا يمكن وجود شيء بلا علّة تامّة، بل {لا محالة يكونمن جملتها} أي: من جملة المقدّمات {ما يجب معه صدور الحرام} في الخارج {لكنّه لا يلزم أن يكون ذلك} الشّيء الّذي يجب معه صدور الحرام {من المقدّمات الاختياريّة} حتّى يكون قابلاً للحرمة التكليفيّة.

{بل} يمكن أن يكون الجزء الأخير من العلّة التامّة {من المقدّمات الغير الاختياريّة} وذلك {كمبادئ الاختيار} أعني: الإرادة ونحوها {الّتي لا تكون بالاختيار وإلّا لتسلسل} إذ لو كانت الإرادة اختياريّة لزم أن يكون مسبوقاً بإرادة أُخرى وهكذا، فالفعل الحرام المتوقّف على مقدّمات لا يلازم كون بعض مقدّماته محرّماً.

فتحصّل من ذلك كلّه: أنّ لكلّ حرام علّة تامّة لكنّها على قسمين:

الأوّل: أن تكون بتمامها اختياريّاً، مثل إلقاء الحطب في النّار لأجل الإحراق والعلّة التامّة في هذا القسم محرّم.

الثّاني: أن تكون مركّبة من بعض الأفعال المقدّمي والإرادة فهذا العلّة التامّة ليست محرّمة، إذ الإرادة ليست قابلة للحرمة التكليفيّة.

ولكن لا يخفى أنّه قد سبق الإشكال في عدم اختياريّة الإرادة، بل الحقّ أنّها اختياريّة {فلا تغفل} عمّا ذكرناه هناك {وتأمّل} حتّى تعلم، واللّه وليّ التوفيق.

تنبيه: لا يترشّح الإباحة من المباح إلى مقدّماته. نعم، لا يتصف ما يلازمه بغير

ص: 190

فصل: الأمر بالشيء هل يقتضي النّهي عن ضدّه أو لا؟فيه أقوال(1): وتحقيق الحال يستدعي رسم أُمور:

الأوّل: الاقتضاء في العنوان أعمّ من أن يكون بنحو العينيّة(2)، أو الجزئيّة، أو اللزوم من جهة التلازم بين طلب أحد الضدّين وطلب ترك الآخر(3)، أو المقدّميّة،

___________________________________________

الإباحة من الأحكام لعدم جواز اختلاف المتلازمين.

[الفصل الخامس الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده؟]

اشارة

المقصد الأوّل: في الأوامر، الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده؟

{فصل: الأمر بالشيء هل يقتضي النّهي عن ضدّه} بأن يقتضي الأمر بالإزالة مثلاً النّهي عن تركها أو عن الصلاة {أو لا؟ فيه أقوال، وتحقيق الحال} في هذه المسألة {يستدعي رسم أُمور} مقدّمة على المطلب:

الأمر {الأوّل: الاقتضاء في العنوان} أعني: قولهم: «يقتضي النّهي» الخ {أعمّ من أن يكون بنحو العينيّة} بأن يكون (صلّ في المسجد) - مثلاً - عين (لا تترك الصلاة في المسجد) مصداقاً {أو الجزئيّة} بأن يكون الأمر بالشيء دالّاً بالتضمّن على النّهي عن ضدّه، إذ الأمر عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك، فالنهي عن الترك - الّذي هو عبارة عن الضدّ - جزء مدلول الأمر {أو اللزوم} بأن يكون الأمر بالشيء دالّاً على النّهي عن الضدّ بالدلالة الالتزاميّة.ثمّ إنّ وجه اللزوم أحد أمرين: [1] فإمّا {من جهة التلازم بين طلب أحد الضدّين وطلب ترك} الضدّ {الآخر} ومن البديهي أنّ وجود أحد المتلازمين يستدعي وجود الملازم الآخر [2] {أو} من جهة {المقدّميّة} بمعنى أنّ ترك الضدّ من مقدّمات المأمور به بضميمة ما تقدّم من أنّ طلب شيء يلازم طلب مقدّماته

ص: 191


1- مطارح الأنظار 1: 554.
2- الفصول الغرويّة: 92.
3- قوانين الأصول 1: 108 و 113؛ مناهج الأحكام والأصول: 61.

على ما سيظهر.

كما أنّ المراد بالضدّ هاهنا هو: مطلق المعاند والمنافي، وجوديّاً كان أو عدميّاً.

الثّاني: أنّ الجهة المبحوث عنها في المسألة، وإن كانت أنّه هل يكون للأمر اقتضاء بنحو من الأنحاء المذكورة؟ إلّا أنّه لمّا كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ، إنّما ذهبوا إليه لأجل توهّم

___________________________________________

{على ما سيظهر} هذا متعلّق بقوله: «أعمّ من أن يكون» الخ.

والّذي يظهر بعد هو أنّ هذه الاحتمالات كلّها أقوال في المسألة، فلو لم يكن المراد بالاقتضاء هذا المعنى العام يلزم خروج بعض الأقوال عن محلّ النّزاع ولا داعي له {كما أنّ المراد بالضدّ هاهنا} في مصطلح الأصوليّين {هو مطلق المعاند والمنافي} للمأمور به {وجوديّاً كان} كالضدّ الخاص {أو عدميّاً} كالضدّ العام.

وليس المراد بالضدّ الضدّ المصطلح عند أهل المعقول الّذي هو عبارة عن الأمر الوجودي المقابل لأمر وجوديّ آخر بحيث لا يجتمعان في محلّ واحد.

ويدلّ على كون المراد من الضدّ مطلق المعاند إطلاقهم الضدّ العام على الترك، وإلّا فلو كان المراد به هو مصطلح المعقول لزم خروج بعض الأقوال، كما لا يخفى.وللعلّامة المشكيني(رحمة الله) على قوله: «كما أنّ المراد» الخ، تعليقة نافعة، فراجع(1).

الأمر {الثّاني: أنّ الجهة المبحوث عنها في المسألة وإن كانت} في مطلق الاقتضاء و{أنّه هل يكون للأمر اقتضاء بنحو من الأنحاء المذكورة} العينيّة والتضمّن والالتزام بنحو التلازم أو المقدّميّة، كما سبق؟ {إلّا أنّه لمّا كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ إنّما ذهبوا إليه لأجل توهّم} الاقتضاء بالنّحو الرّابع

ص: 192


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 13.

مقدّميّة ترك الضدّ، كان المهمّ صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال وتحقيق المقال في المقدّميّة وعدمها، فنقول - وعلى اللّه الاتكال - :

إنّ توهّم(1) توقّف الشّيء على ترك ضدّه ليس إلّا من جهة المضادّة والمعاندة بين الوجودين، وقضيّتها الممانعة بينهما، ومن الواضحات أنّ عدم المانع من المقدّمات.

وهو توهّمٌ فاسدٌ، وذلك لأنّ المعاندة والمنافرة بين الشّيئين لا يقتضي إلّا عدم اجتماعهما في التحقّق،

___________________________________________

أعني: الالتزام بنحو {مقدّميّة ترك الضدّ} لفعل المأمور به {كان المهم} جواب «لمّا» {صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال وتحقيق المقال في المقدّميّة وعدمها} مثلاً: هل إزالة النّجاسة عن المسجد منمقدّماتها ترك الصلاة أم لا، فلو كان مقدّمة كان مطلوباً للأمر الغيري المترشّح من الأمر بالإزالة فيكون فعل الصلاة منهيّاً عنه، وذلك بخلاف ما لم نقل بمقدّميّة ترك الصلاة للإزالة فلا تكون الصلاة منهيّاً عنها.

{فنقول وعلى اللّه الاتكال: إنّ توهّم} مقدّميّة ترك الضدّ لفعل الضدّ الآخر، أي: {توقّف الشّيء على ترك ضدّه ليس إلّا من جهة المضادّة والمعاندة بين الوجودين} كالصلاة والإزالة {وقضيّتها} أي: مقتضى المضادّة {الممانعة بينهما} أي: مانعيّة وجود كلّ منهما عن وجود الآخر {ومن الواضحات أنّ عدم المانع من المقدّمات}.

والحاصل: أنّ مقتضى التضادّ الممانعة، ومقتضى الممانعة مانعيّة كلّ عن وجود الآخر، وحيث كان عدم المانع من المقدّمات، فاللّازم وجوب عدم المانع، ففي المثال بين الإزالة والصلاة تضادّ وتمانع فترك الصلاة - لكونه عدم المانع - يكون من مقدّمات الإزالة.

{وهو توهّم فاسد، وذلك لأنّ المعاندة والمنافرة بين الشّيئين لا تقتضي إلّا عدم اجتماعهما في التحقّق} في محلّ واحد في زمان واحد، ولا يقتضي أن يكون عدم

ص: 193


1- والمتوهّم هو الحاجبي والعضدي، راجع شرح مختصر الأصول 1: 90 و 96-97 و 119.

وحيث لا منافاة أصلاً بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديلُه، بل بينهما كمال الملائمة، كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة، من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر، كما لا يخفى.

فكما أنّ قضيّة المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدّمَ ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر،

___________________________________________

أحدهما مقدّمة لوجود الآخر.بل نقول: مقتضى المعاندة عدم المقدّميّة، إذ يشترك في المقدّمة التقدّم على ذي المقدّمة ولو رتبةً، وهنا ليس ترك أحد الضدّين متقدّماً على الضدّ الآخر.

{وحيث لا منافاة أصلاً بين أحد العينين} كإزالة النّجاسة {و} بين {ما هو نقيض} الضدّ {الآخر وبديله} كعدم الصلاة {بل بينهما كمال الملائمة} والموافقة {كان} متعلّق «حيث» {أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة}.

توضيحه - بلفظ العلّامة القوچاني - هو: «أنّ الملائمة بحسب الوجدان بين عدم أحدهما مع وجود الآخر في الرّتبة، النّاشئة من المعاندة بين الوجودين بلا توهّم التنافر، يكفي في إنكار المقدّميّة حيث إنّها متوقّفة على تقدّم العدم عليه؛ لأنّه بناءً عليه من أجزاء علّة الوجود، ولا إشكال في تقدّمها بجميع أجزائها على المعلول رتبة، ومع الملائمة بينهما في الاجتماع، فلا تقدّم لأحدهما على الآخر، ولا أقلّ من عدم العلم بتحقّقه، فعلى مدّعيه الإثبات»(1)،

انتهى. فكونهما في مرتبة واحدة {من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر} من أقوى الأدلّة على عدم مقدّميّة ترك أحدهما لفعل الآخر {كما لا يخفى}.

ثمّ أشار المصنّف(رحمة الله) إلى برهان آخر لردّ توهّم المقدّميّة بقوله: {فكما أنّ قضيّة المنافاة بين المتناقضين} المعبّر عنه بتقابل الإيجاب والسّلب {لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر} بل ارتفاع أحدهما وثبوت الآخر في رتبة واحدة

ص: 194


1- تعليقة القوچاني على كفاية الأصول 1: 314.

كذلك في المتضادّين.

كيف؟ ولو اقتضى التضادّ توقّف وجود الشّيء على عدم ضدّه - توقّف الشّيء على عدم مانعه - لاقتضى توقّفَ عدم الضدّ على وجود الشّيء - توقّف عدم الشّيء على مانعه - ؛

___________________________________________

{كذلك في المتضادّين} ليس ارتفاع أحدهما مقدّماً على الآخر بل في رتبته، وهذا البرهان يتوقّف على مقدّمتين: الأُولى: صحّة تنظير الضدّين بالنقيضين. والثّانية: نفي المقدّميّه في النّقيضين. ثمّ يلزم بعدهما تشكيل قياس حتّى يتمّ المطلوب:

أمّا المقدّمة الأُولى: فلأنّ مرجع الضدّين إلى النّقيضين - على ما قالوا - فإنّ تقابل البياض بالسواد من جهة أنّ البياض في قوّة اللّاسواد.

وأمّا الثّانية: فلأنّ النّقيضين في مرتبة واحدة ولا يمكن أن يكون أحدهما مقدّماً على الآخر حتّى لو فرض ذلك لزم ارتفاع النّقيضين، فهما متبادلان في التحقّق ولا يجتمعان ولا يعقل أن يرتفع أحدهما أوّلاً ثمّ يتحقّق الآخر.

إذا عرفت المقدّمتين نقول: ترك أحد الضدّين في مرتبة وجوده ووجوده في مرتبة الضدّ الآخر، فترك أحد الضدّين في مرتبة الضدّ الآخر. مثلاً: ترك الصلاة في مرتبة الصلاة، والصلاة في مرتبة الإزالة، فترك الصلاة في مرتبة الإزالة، فلا يكون ترك الصلاة مقدّمة لفعل الإزالة.

ثمّ أشار المصنّف(رحمة الله) إلى برهان آخر ذكره سلطان العلماء(رحمة الله)(1) بقوله: {كيف} يكون عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر {و} الحال أنّه {لو اقتضى التضادّ} بين شيئين {توقّف وجودالشّيء على عدم ضدّه} على نحو {توقّف الشّيء على عدم مانعه} كتوقّف الإحراق على عدم الرّطوبة {لاقتضى توقّف عدم الضدّ} أيضاً {على وجود الشّيء} على نحو {توقّف عدم الشّيء على مانعه} فكما أنّ عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر كذلك وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر

ص: 195


1- حاشية السلطان على معالم الدين: 284-285.

بداهة ثبوت المانعيّة في الطرفين، وكون المطاردة من الجانبين، وهو دور واضح.

وما قيل(1) - في التفصّي عن هذا الدور - بأنّ التوقّف من طرف الوجود فعليّ، بخلاف التوقّف من طرف العدم،

___________________________________________

{بداهة ثبوت المانعيّة في الطّرفين} أي: الوجودين أو وجود أحدهما وعدم الآخر {وكون المطاردة من الجانبين، وهو دور واضح} وحيث إنّ الدور باطل، فالتوقّف والمقدّميّة أيضاً باطل.

والحاصل: أنّه لو كانت الإزالة مثلاً متوقّفة على عدم الصلاة - إذ الصلاة مانع والشّيء موقوف على عدم مانعه - كان عدم الصلاة أيضاً موقوفاً على الإزالة - إذ الإزالة مانعة وعدم الشّيء متوقّف على وجود مانعه - . مثلاً: الرّطوبة مانعة وعدم الإحراق متوقّف على الرّطوبة.

وبهذا يحصل التوقّف من الطرفين ويكون وجود الإزالة مستحيلاً؛ لأنّه مستلزم للدور، ومن هذا يتبيّن أنّ التمانع في الوجود لا يقتضي المقدّميّة.

{وما قيل} والقائل هو المحقّق الخوانساري(رحمة الله) {في التفصّي عن هذا الدور بأنّ} الدور مسلّم لو كانت الإزالةموقوفة على عدم الصلاة فعلاً وعدم الصلاة موقوفاً على الإزالة فعلاً، ولكن ليس الأمر كذلك فإنّ هذا {التوقّف من طرف الوجود فعليّ} فالإزالة متوقّفة على عدم الصلاة فعلاً، بمعنى أنّ مقتضى وجود الإزالة موجود، وإنّما الباقي هو عدم المانع - أي: عدم الصلاة - فالإزالة فعلاً متوقّفة على عدم الصلاة {بخلاف التوقّف من طرف العدم} فليس عدم الصلاة متوقّفاً على وجود الإزالة فعلاً، بل توقّف عدم الصلاة على وجود الإزالة شأني، إذ عدم الصلاة يمكن أن يستند إلى عدم المقتضي لها بأن لا يريد المكلّف الصلاة، ويمكن أن يستند إلى المانع، كالإزالة، كما أنّ عدم الإحراق يكون تارةً لعدم النّار

ص: 196


1- مطارح الأنظار 1: 524؛ والقائل هو المحقق الخوانساري في الرسائل: 149.

فإنّه يتوقّف على فرض ثبوت المقتضي له، مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضدّه، ولعلّه كان محالاً، لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدّين - مع وجود الآخر - إلى عدم تعلّق الإرادة الأزليّة به، وتعلّقها بالآخر حَسَبَ ما اقتضته الحكمة البالغة، فيكون العدم دائماً مستنداً إلى عدم المقتضي، فلا يكاد يكون

___________________________________________

وأُخرى لرطوبة الحطب. فحاصل معنى الشّأنيّة: أنّ الإزالة لها شأنيّه المنع - أي: تكون مانعاً في صورة وجود المقتضي - وليس لها فعليّة المنع.

{فإنّه} أي: عدم الضدّ الأوّل إنّما {يتوقّف} على وجود الضدّ الآخر {على فرض ثبوت المقتضي له} أي: لوجود الضدّ الأوّل {مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضدّه} مثلاً: عدم الصلاة إنّما يتوقّف على وجود الإزالة، على فرض ثبوت المقتضي لوجود الصلاة، كالإرادة، مع وجود شرائط الصلاة، كالطهارة واللباس والنّظافة، غير أنّها لا تتحقّق لوجود ضدّها الّتي هي الإزالة، بحيث لولا الإزالة لوجدت الصلاة،ففي مثل هذا المقام يقال: عدم الصلاة متوقّف على الإزالة، بمعنى أنّ الإزالة علّة لعدم الصلاة.

{ولعلّه} أي: ثبوت المقتضي مع شراشر الشّرائط {كان محالاً} فعدم الصلاة دائماً مستند إلى عدم تماميّة المقتضي، ولا يكون متوقّفاً على الإزالة حتّى يقال: عدم الصلاة متوقّف على الإزالة وعدم الإزالة متوقّف على الصلاة، فيلزم الدور.

وإنّما كان ثبوت المقتضي مع شراشر الشّرائط محالاً {لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدّين} كعدم الصلاة {مع وجود} الضدّ {الآخر} كالإزالة {إلى عدم تعلّق الإرادة الأزليّة به} أي: بأحد الضدّين، كالصلاة {وتعلّقها بالآخر} كالإزالة {حسب ما اقتضته الحكمة البالغة} للحكم والمصالح الّتي عنده - تعالى - .

وعلى هذا {فيكون العدم} للصلاة مثلاً {دائماً مستنداً إلى عدم المقتضي} أي: عدم إرادة المكلّف المستند إلى عدم تعلّق إرادة اللّه به {فلا يكاد يكون} عدم

ص: 197

مستنداً إلى وجود المانع، كي يلزم الدور.

إن قلت: هذا إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد. وأمّا إذا كان كلّ منهما متعلّقاً لإرادة شخص، فأراد - مثلاً - أحد الشّخصين حركة شيء، وأراد الآخرُ سكونَه، فيكون المقتضي لكلّ منهما حينئذٍ موجوداً، فالعدم - لا محالة - يكون فعلاً مستنداً إلى وجود المانع.

قلت: هاهنا أيضاً

___________________________________________

الصلاة {مستنداً إلى وجود المانع} كالإزالة {كي يلزم الدور}.

فتبيّن من ذلك كلّه أنّ الإزالة متوقّفة على عدم الصلاة، ولا محذور في هذا التوقّف إلّا توهّم الدور بسبب توقّف عدم الصلاة على الإزالة، وقد أبطلناه، فتدبّر.

ولمّا كان هاهنا محلّ توهّم يرد على هذا المجيب بنفسه بيّنه المجيب وقال: {إن قلت: هذا} الّذي ذكرتم في دفع الدور من التغاير بالشأنيّة والفعليّة ليس مستقيماً في جميع الموارد، بل التغاير المذكور إنّما يكون {إذا لوحظا} أي: وجود أحد الضدّين، كالإزالة، وعدم الآخر، كعدم الصلاة {منتهيين إلى إرادة شخص واحد} فإنّ هناك يكون عدم أحدهما لعدم المقتضي، فالإزالة متوقّفة على ترك الصلاة، وترك الصلاة لعدم إرادة الفاعل لها.

{وأمّا إذا كان كلّ منهما} أي: من الضدّين {متعلّق-اً لإرادة شخص ف-أراد - مثلاً - أحد الشّخصين} كزيد مثلاً {حركة شيء وأراد الآخر} كعمرو {سكونه فيكون المقتضي لكلّ منهما} أي: من الضدّين {حينئذٍ} أي: حين كان كلّ منهما متعلّقاً لإرادة شخص {موجوداً فالعدم لا محالة يكون فعلاً} أي: لا شأناً {مستنداً إلى وجود المانع} فالحركة متوقّفة على عدم سكونه - لتوقّف الشّيء على عدم مانعه - وعدم السّكون متوقّف على الحركة، إذ المقتضي للسكون موجود وإنّما منع عنه المانع - أعني: الحركة - فيأتي الدور المذكور للتوقّف الفعلي من الطرفين.

{قلت: هاهنا} في ما أراد شخصان الضدّين {أيضاً} - كما لو انتهيا إلى إرادة

ص: 198

مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما في إرادته - وهي ممّا لا بدّ منه في وجود المراد ولا يكاد يكون بمجرّد الإرادة بدونها - ، لا إلى وجود الضدّ؛ لكونه مسبوقاً بعدم قدرته، كما لا يخفى.

غيرُ سديدٍ؛

___________________________________________

شخص - العدم {مستند} إلى عدم المقتضي وليس مستنداً {إلى} عدم المانع، إذ عدم السّكون في المثال ل- {عدم قدرة} الشّخص {المغلوب منهما في إرادته} فإنّ مقتضى السّكون الّتي هي الإرادة إنّما يكون تامّاً إذا وجد شرطه الّذي هو عدم مغلوبيّتها بسبب إرادة غيره {وهي} أي: قدرة المغلوب {ممّا لا بدّ منه في وجود المراد} فعلاً {ولا يكاد يكون} أي: يتحقّق المراد {بمجرّد الإرادة بدونها} أي: بدون القدرة.

فتحصّل: أنّ عدم أحد الضدّين مستند إلى عدم تماميّة المقتضي {لا إلى وجود الضدّ} الآخر.

إن قلت: هذا العدم يمكن استناده إلى عدم المقتضي وهي القدرة، ويمكن استناده إلى وجود المانع وهو وجود الضدّ الآخر، والقول باستناده إلى عدم القدرة ترجيح بلا مرجّح.

قلت: لا يصحّ استناده إلى المانع {لكونه} أي: وجود الضدّ {مسبوقاً بعدم قدرته} أي: قدرة الشّخص {كما لا يخفى} فإنّ تعليل العدم بعدم المقتضي أولى من تعليله بعدم المانع، فإذا كان هناك ثوب رطب ولم تكن نار يقال: (لم يحرق الثّوب لعدم النّار) ولا يصحّ أن يقال: (لم يحرق للرطوبة). وفي ما نحن فيه كذلك، فإنّ عدم السّكون لا بدّ وأن يعلّل بعدم تماميّة مقتضيه - أعني: قدرة مريد السّكون - ولا يصحّ أن يعلّل بوجودالمانع - أعني: حركة الجسم - .

فبهذا كلّه تحقّق أنّ عدم السّكون مستند إلى عدم المقتضي والحركة مستندة إلى عدم السّكون فلا دور {غير سديد} خبر لقوله: «ما قيل في التفصّي»

ص: 199

فإنّه وإن كان قد ارتفع به الدور، إلّا أنّ غائلة لزوم توقّف الشّيء على ما يصلح أن يتوقّف عليه على حالها؛ لاستحالة أن يكون الشّيءُ الصالحُ لأن يكون موقوفاً عليه الشّيء، موقوفاً عليه؛ ضرورةَ أنّه لو كان في مرتبة يصلح لأن يُستند عليه لمّا كاد يصحّ أن يستند فعلاً إليه.

___________________________________________

{فإنّه وإن كان قد ارتفع به} أي: بهذا التفصّي {الدور} إذ ثبت أنّ توقّف وجود الضدّ على عدم الآخر فعلي وتوقّف عدم الآخر على وجود الضدّ شأني {إلّا أنّ غائلة لزوم توقّف الشّيء على ما يصلح أن يتوقّف عليه على حالها} فإنّ عدم الصّلاة ولو لم يتوقّف فعلاً على إزالة النّجاسة لكن يصلح عدم الصلاة أن يتوقّف عليها باعتراف المتفصّي، إذ هو يسلم بأنّه لو كان للصّلاة مقتضٍ كان عدمها متوقّفاً على المانع - أي: الإزالة - والشّيء كما لا يمكن أن يكون متوقّفاً على أمر يتوقّف ذلك الأمر على ذلك الشّيء كذلك لا يمكن أن يكون متوقّفاً على أمر يصحّ أن يتوقّف ذلك الأمر على ذلك الشّيء.

وقد أشار المصنّف إلى ما ذكرناه من علّة بقاء الغائلة بقوله(1):{لاستحالة أن يكون الشّيء الصالح لأن يكون موقوفاً عليه الشّيء} «الشّيء» الثّاني اسم ل- «يكون» الثّاني، وموقوفاً خبره{موقوفاً عليه} خبر «يكون» الأوّل.

مثلاً: الإزالة الصالحة لأن يتوقّف عليها عدم الصلاة يستحيل أن تكون متوقّفة على عدم الصلاة {ضرورة أنّه لو كان في مرتبة يصلح لأن يستند عليه لما كاد يصحّ أن يستند فعلاً إليه} هذا برهان للاستحالة.

مثلاً: لو كانت الإزالة في مرتبة متقدّمة على عدم الصلاة حتّى تصلح لاستناد عدم الصلاة عليها يستحيل أن تستند هذه الإزالة المتقدّمة رتبة على عدم الصلاة فعلاً.

ص: 200


1- للقائل أن يتمثّل بقوله: «سبوح لها منها عليها شواهد». وقوله: «وما مثله في النّاس» البيت.

والمنعُ عن صلوحه لذلك بدعوى: أنّ قضيّة كون العدم مستنداً إلى وجود الضدّ - لو كان مجتمعاً مع وجود المقتضي - وإن كانت صادقة، إلّا أنّ صدقها لا يقتضي كون الضدّ صالحاً لذلك؛ لعدم اقتضاء صدق الشّرطيّة صدق طرفيها.

___________________________________________

والحاصل: أنّ الإزالة المتقدّمة شأناً لا تكون متأخّرة فعلاً.

وبعبارة أوضح: بعد الاعتراف بكون عدم الصلاة صالحاً لذي المقدّميّة لا يمكن بأن يقال: عدم الصلاة مقدّمة فعلاً، فإنّه يلزم أن يكون شيء واحد رتبة متقدّماً ومتأخّراً رتبة، وهذا بديهي الاستحالة.

{والمنع عن صلوحه لذلك} هذا إشكال على قوله: «إلّا أنّ غائلة» الخ، وحاصله منع لزوم أن يكون شيء واحد متقدّماً تارة ومتأخّراً أُخرى، فإنّا نمنع صلاحيّة عدم الصلاة لذي المقدّمة {بدعوى أنّ قضيّة كون العدم} للصلاة {مستنداً إلى وجود الضدّ} أعني: الإزالة {لو كان مجتمعاً} هذا العدم {مع وجود المقتضي} للصلاة. و«لو» وصليّة {وإن كانت صادقة} متعلّق بقوله: «قضيّة»{إلّا أنّ صدقها} في نفسها {لا يقتضي كون الضدّ} أعني: الإزالة {صالحاً لذلك} أي: لأن يستند إليه عدم الصلاة {لعدم اقتضاء صدق} القضيّة {الشّرطيّة صدق طرفيها} المقدّم والتالي.

توضيح الإشكال هو: أنّا نمنع أن يكون عدم الصلاة صالحاً لأن يكون ذا المقدّمة للإزالة، إذ أنّ القضيّة الشّرطيّة المذكورة - أعني: لو كان المقتضي لوجود الصلاة موجوداً لكان عدمها مستنداً إلى الإزالة - ولو كانت صادقة. ولكن صدق القضيّة الشّرطيّة لا يستلزم صدق المقدّم والتالي، فإنّه يصحّ أن يقال للحجر: لو كان هذا إنساناً لكان ناطقاً، مع أنّ المقدّم وهو الإنسانيّة وكذا التالي منتفيان. ففي ما نحن فيه كذلك إذ الشّرطيّة المذكورة، وهي: «لو كان المقتضي» الخ لا تستلزم صدق المقدّم والتالي، أعني: وجود المقتضي والصلاحيّة لأن يكون عدم الصلاة ذا المقدّمة.

ص: 201

مساوقٌ لمنع مانعيّة الضدّ، وهو يوجب رفع التوقّف رأساً من البين؛ ضرورةَ أنّه لا منشأ لتوهّم توقّف أحد الضدّين على عدم الآخر إلّا توهّم مانعيّة الضدّ - كما أشرنا إليه - وصلوحه لها.

___________________________________________

ومن هذا البيان ظهر توقّف الإزالة فعلاً على عدم الصلاة، وأمّا صلاحيّة توقّف عدم الصلاة على الإزالة فلم يثبت، فلا دور ولا غائلته {مساوق لمنع مانعيّة الضدّ} خبر لقوله: «والمنع عن صلوحه» وجواب عنه.

بيان ذلك: أنّ ما ذكره المستشكل من عدم توقّف صدق القضيّة الشّرطيّة على صدق المقدّم والتالي صحيح، إلّا أنّا نقول في شرطيّتنا المذكورة خصوصيّة تقتضي تلك الخصوصيّة صدق تاليها، إذ لو لم تكن الإزالة مانعة عن الصلاة - حتّى يكونعدم الصلاة مستنداً إلى الإزالة - في صورة تحقّق مقتضى الصلاة يلزم أن لا يكون الضدّ مانعاً، وإذا لم يكن الضدّ مانعاً لم يكن وجه للقول بأنّ الإزالة متوقّفة على عدم الصلاة، فلا يكون توقّف لا من طرف الوجود ولا من طرف العدم، وهذا خلف؛ لأنّ المفروض توقّف الإزالة على عدم الصلاة.

والحاصل: أنّ القول بعدم استناد عدم الصلاة إلى الإزالة في صورة وجود مقتضي الصلاة مساوٍ لمنع مانعيّة الضدّ من الطرفين {وهو} أي: هذا المنع {يوجب رفع التوقّف رأساً من البين} فلا يكون للإزالة توقّف على عدم الصلاة ولا لعدم الصلاة توقّف على الإزالة {ضرورة أنّه لا منشأ لتوهّم توقّف أحد الضدّين على عدم الآخر} كتوقّف الإزالة على عدم الصلاة {إلّا توهّم مانعيّة الضدّ} كمانعيّة الصلاة عن الإزالة {كما أشرنا} سابقاً {إليه} أي: إلى أنّه لا منشأ لتوهّم ذلك {وصلوحه لها} عطف على المستثنى، أي: إلّا توهّم صلاحيّة الضدّ للمانعيّة.

وكان من اللّازم إلحاق هذه العبارة: «وإذا لم يكن الضدّ مانعاً - بأن لم تكن الإزالة مانعة في صورة وجود المقتضي للصلاة - فلا وجه للتوقّف أصلاً، فلا توقّف

ص: 202

___________________________________________

للإزالة على عدم الصلاة».

ثمّ إنّ هذا الجواب - أعني: قوله: «مساوق» الخ - مبنيّ على تسليم الرّبط في القضيّة الشّرطيّة القائلة: بأنّه لو كان وجود المقتضي لأحد الضدّين ثابتاً لكان وجود الضدّ الآخر مانعاً عنه، ولكنّا(1) نمنع صدق هذه القضيّة؛ لأنّ المعلّق علىالشّرط في هذه القضيّة إن كان هو التأثير الفعلي، فاللّازم منه بقاء الاستحالة، وإن كان المعلّق على الشّرط أصل الصلاحيّة، ففيه أنّ الشّرط الّذي هو المقتضي يقتضي وجود مقتضاه، فكيف يقتضي استناد عدم مقتضاه إلى وجود ضدّ هذا المقتضي.

مثلاً: وجود المقتضي للصلاة - أعني: الإرادة - يقتضي وجود الصلاة لا أنّه يقتضي استناد عدم الصلاة إلى وجود ضدّها - أعني: الإزالة - فتأمّل.

وإلى هذا الجواب الثّاني أشار المصنّف(رحمة الله) في تعليقة له على قوله: «مساوق لمنع» الخ نذكرها مع شرح مختصر: «مع أنّ حديث عدم اقتضاء صدق الشّرطيّة لصدق طرفيها» الّذي ذكره المستشكل «وإن كان صحيحاً» في نفسه «إلّا أنّ الشّرطيّة هاهنا غير صحيحة» لخصوصيّة اقتضاها المقام «فإنّ وجود المقتضي للضدّ» كالإرادة المقتضية للصلاة: «لا يستلزم بوجه» من الوجوه «استناد عدمه إلى ضدّه» أي: استناد عدم الصلاة مثلاً إلى الإزالة «ولا يكون الاستناد» أي: استناد عدمه إلى ضدّه «مترتّباً على وجوده» أي: على وجود المقتضي بالكسر «ضرورة أنّ المقتضي» للصلاة، كالإرادة «لا يكاد يقتضي وجود ما يمنع عمّا يقتضيه أصلاً»

ص: 203


1- توضيح هذا الجواب مذكور في حاشية القوچاني على قوله: «مساوق لمنع»، وفي حاشية المشكيني(رحمة الله) على قوله: «والمنع عن صلوحه»، وفي حاشية الرّشتي على قوله: «والمنع عن صلوحه»، فمن أراد الزيادة على ما ذكرنا فليرجع إليها. تعليقة القوچاني على كفاية الأصول 1: 320؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 22؛ شرح كفاية الأصول 1: 179.

إن قلت: التمانع بين الضدّين كالنار على المنار، بل كالشمس في رابعة النّهار،

___________________________________________

فالإرادة للصلاة لا تقتضي وجود الإزالة المانعة عن الصلاة «كما لا يخفى» لأنّه مستلزم لاقتضاء المقتضي وجود مقتضاه وعدمه وهو محال، فتأمّل.«فليكن المقتضي لاستناد عدم الضد» كعدم الصلاة «إلى وجود ضدّه» كالإزالة «فعلاً عند ثبوت مقتضي وجوده» أي: عند ثبوت الإرادة المقتضية لوجود الصلاة «هو الخصوصيّة الّتي فيه» أي: في الضدّ الّذي هو الإزالة.

والحاصل: أنّ المانع عن الصلاة هو الخصوصيّة الموجودة في الإزالة وليس المانع عنها وجود المقتضي للصلاة الّذي هو الإزالة «الموجبة» تلك الخصوصيّة التي في الإزالة «للمنع عن اقتضاء مقتضية» أي: عن اقتضاء مقتضى الصلاة الّذي هو الإرادة «كما هو الحال في كلّ مانع» حيث إنّ خصوصيّة المانع يمنع عن الممنوع لا مقتضى وجود الممنوع «وليست في الضدّ» الّذي هو الصلاة «تلك الخصوصيّة» المانعة «كيف؟ وقد عرفت أنّه لا يكاد يكون مانعاً إلّا على وجه دائر.

نعم، إنّما المانع عن الضدّ» كالصلاة «هو العلّة التامّة لضدّه» كالإرادة «لاقتضائها ما يعانده وينافيه» أي: اقتضاء علّة الإزالة ما يعاند الصلاة «فيكون عدمه» أي: عدم الصلاة «كوجود ضدّه» أي: كوجود الإزالة «مستنداً إليها» إلى تلك العلّة «فافهم»(1)

يمكن أن يكون إشارة إلى ما ذكره المشكيني(رحمة الله) من الإشكال على هذه التعليقة في حاشية قوله: «والمنع عن صلوحه» الخ(2).

{إن قلت}: إنّ لنا مقدّمتين واضحتين، وهاتان المقدّمتان تنتجان توقّف المأمور به على ترك ضدّه، فالأولى وهو {التمانع بين الضدّين} في الوضوح {كالنار على المنار، بل كالشمس في رابعة النّهار} فإنّه كلّما تحقّق أحد الضدّين لم يكن مجال

ص: 204


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 24.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 26.

وكذا كون عدم المانع ممّا يتوقّف عليه، ممّا لا يقبل الإنكار، فليسما ذكر إلّا شبهة في مقابل البديهة.

قلت: التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، إلّا أنّه لا يقتضي إلّا امتناع الاجتماع، وعدمَ وجود أحدهما إلّا مع عدم الآخر الّذي هو بديلُ وجودِهِ المعاند له، فيكون في مرتبته، لا مقدّماً عليه ولو طبعاً.

___________________________________________

للآخر {وكذا} المقدّمة الثّانية، أعني: {كون عدم المانع ممّا يتوقّف عليه} المأمور به {ممّا لا يقبل الإنكار} فهاتان المقدّمتان تثبتان مطلوب الخصم، أي: إنّ ترك الضدّ من مقدّمات المأمور به، وإذا ثبت مقدّميّته ثبت وجوبه؛ لأنّ مقدّمة الواجب واجبة {فليس ما ذكر} من لزوم الدور، وتوقّف الشّيء على ما يصلح أن يتوقّف عليه {إلّا شبهة في مقابل البديهة} ولا اعتناء بهذا النّحو من الشّبهة وإن عجز الشّخص عن جوابها.

{قلت}: لا نسلّم كليّة المقدّمة الثّانية، فإنّ عدم المانع يكون من مقدّمات المأمور به في ما لو كان متقدّماً على المأمور به، أمّا لو كان في عرض المأمور به فلا. بيان ذلك: أنّ {التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع} بين الضدّين {ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه} فكلّ واحد من الوجودين مانع عن الآخر {إلّا أنّه} أي: هذا التمانع {لا يقتضي إلّا امتناع الاجتماع و} إلّا {عدم وجود أحدهما إلّا مع عدم الآخر الّذي هو بديل وجوده المعاند له} صفة لوجوده {فيكون} الضدّ المانع {في مرتبته} أي: مرتبة الضدّ المأمور به {لا مقدّماً عليه ولوطبعاً}.

التقدّم على خمسة أقسام، والتقدّم الطبعي في مصطلح أهل المعقول هو تقدّم جزء العلّة على المعلول، أمّا تقدّم نفس العلّة فيسمّى التقدّم بالعليّة، يظهر ذلك لمن راجع شرح التجريد(1) ونحوه، فقوله: «ولو طبعاً» يعني أنّه لا يتقدّم بالعلّية ولا بالطبع.

ص: 205


1- كشف المراد: 57.

والمانع الّذي يكون موقوفاً عليه الوجود هو ما كان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره، لا ما يعاند الشّيء ويزاحمه في وجوده.

نعم، العلّة التامّة لأحد الضدّين ربّما تكون مانعاً عن الآخر، ومزاحماً لمقتضيه في تأثيره، مثلاً:

___________________________________________

{والمانع الّذي يكون موقوفاً عليه الوجود} أي: يكون وجود المأمور به موقوفاً على عدمه بحيث يكون عدمه مقدّمة {هو ما كان ينافي ويزاحم المقتضي} بالكسر {في تأثيره} بأن كان منافياً لعلّة الشّيء، فلعدمه دخل في قابليّة المقتضي للتأثير {لا ما يعاند الشّيء ويزاحمه في وجوده} أي: يزاحم وجود المقتضى بالفتح.

وبعبارة أوضح: عدم المانع الّذي هو مقدّمة في عرض المانع، إذ عدم كلّ شيء في عرض وجوده، فمقتضى كون عدم المانع مقدّماً أن يكون المانع أيضاً مقدّماً، ومعنى تقدّمه أن يكون في عرض المقتضي - بالكسر - لا أن يكون في عرض المقتضى - بالفتح - ، والفارق بين المانع والضدّ أنّ المانع لعدمه دخل في فاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل والضدّ ليس كذلك.والحاصل: أنّ عدم الضدّ ليس مقدّماً في الرّتبة، إذ الضدّ عبارة عن الصلاة في زمان الإزالة وعدم هذه الصلاة عدم المانع، أمّا الصلاة قبل زمان الإزالة، فليست مانعاً حتّى يكون عدمها عدم المانع، فما هو ضدّ عدمه مقارن فليس مقدّمة، وما يمكن أن يكون مقدّمة ليس ضدّاً.

{نعم} إذا كان مانع في رتبة المقتضي صحّ أن يعدّ عدمه من المقدّمات، مثلاً: {العلّة التامّة لأحد الضدّين ربّما تكون مانعاً عن} الضدّ {الآخر ومزاحماً لمقتضيه} بالكسر {في تأثيره} فتمنع العلّة التامّة لهذا الضدّ عن تأثير مقتضى الضدّ الآخر، وحينئذٍ يكون عدم هذه العلّة التامّة من مقدّمات الضدّ الآخر {مثلاً} إذا كان لشخص أخ و ولد وكان شفيقاً عليهما بحيث لو غرق كلّ واحد منهما أنقذه، ولكن

ص: 206

يكون شدّة الشّفقة على الولد الغريق وكثرة المحبّة له، تمنع عن أن يؤثّر ما في الأخ الغريق من المحبّة والشّفقة، لإرادة إنقاذه مع المزاحمة، فينقذ الولد دونه، فتأمّل جيّداً.

وممّا ذكرنا ظهر: أنّه لا فرق بين الضدّ الموجود والمعدوم، في أنّ عدمه - الملائم للشيء المناقض

___________________________________________

كان شفقته على الولد أكثر ثمّ غرقا معاً، فحينئذٍ {يكون شدّة الشّفقة على الولد الغريق وكثرة المحبّة له تمنع عن أن يؤثّر ما في الأخ الغريق من المحبّة والشّفقة} بيان «ما» {لإرادة إنقاذه} متعلّق ب-«المحبّة والشّفقة» {مع المزاحمة} متعلّق ب- «يؤثّر» يعني محبّة الولد تمنع عن تأثير محبّة الأخ في صورة التزاحم بينهما {فينقذ الولد دونه} فإنّ إنقاذ الأخ وإنقاذ الولد ضدّان والعلّة فيهما المحبّة، وهنا تمنع العلّة التامّة لإنقاذالولد عن تأثير المحبّة المقتضية لإنقاذ الأخ، فيكون عدم محبّة الولد من مقدّمات إنقاذ الأخ، إذ المانع وهو محبّة الولد في رتبة المقتضي لإنقاذ الأخ، فعدم هذا النّحو من المانع من المقدّمات {فتأمّل جيّداً} حتّى تعرف الفرق بين عدم هذا النّحو من المانع الّذي يصحّ عدّه من المقدّمات وبين عدم مانع يكون في رتبة الضدّ الّذي لا يصحّ عدّه من المقدّمات.

{وممّا ذكرنا} من أنّ عدم الضدّ ليس من مقدّمات الضدّ الآخر {ظهر} حال الأقوال الأربعة الأُخر:

الأوّل: توقّف الفعل على الترك فقط.

الثّاني: توقّف الترك على فعل الضدّ.

الثّالث: التوقّف من الجانبين.

الرّابع: التفصيل الّذي أشار إليه المصنّف بقوله: {إنّه لا فرق بين الضدّ الموجود والمعدوم في أنّ عدمه} أي: عدم الضدّ الأوّل، والجار يتعلّق بقوله: «لا فرق» {الملائم} هذا العدم {للشيء} الّذي هو الضدّ الآخر {المناقض} ذلك العدم

ص: 207

لوجوده المعاند لذاك - لا بدّ أن يجامع معه من غير مقتضٍ لسبقه، بل قد عرفت ما يقتضي عدم سبقه.

فانقدح بذلك ما في تفصيل بعض الأعلام(1)، حيث قال بالتوقّف على رفع الضدّ الموجود، وعدمِ التوقّف على عدم الضدّ المعدوم،

___________________________________________

{لوجوده} أي: لوجود الضدّ الأوّل {المعاند} هذا الوجود الضدّ الأوّل {لذاك} الّذي هو الضدّ الآخر {لا بدّ أن يجامع} هذاالعدم {معه} أي: مع الشّيء الّذي هو الضدّ الآخر {من غير مقتض لسبقه} أي: سبق هذا العدم على وجود الضدّ الآخر - كما عرفت عدم الاقتضاء - حيث قلنا: «لأنّ المعاندة» الخ.

{بل قد عرفت ما يقتضي عدم سبقه} حيث قلنا: «كيف ولو اقتضى» الخ.

توضيح العبارة بالمثال: عدم البياض الملائم هذا العدم للسواد المناقض هذا العدم لوجود البياض المعاند وجود البياض للسواد لا بدّ أن يجامع عدم البياض مع السّواد وليس سابقاً على السّواد، وقوله: «لا بدّ أن يجامع» خبر لقوله: «في أنّ عدمه».

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من عدم الفرق {ما في تفصيل بعض الأعلام} وهو المحقّق الخوانساري(رحمة الله) على ما يحكى عنه {حيث قال بالتوقّف} أي: توقّف الضدّ {على رفع الضدّ الموجود} فرفع الضدّ الموجود مقدّمة لوجود الضدّ الآخر {وعدم التوقّف على عدم الضدّ المعدوم} فعدم الضدّ المعدوم ليس مقدّمة لوجود الضدّ الآخر.

وقد يقرّر هذا التفصيل بأنّ المحلّ، كالكاغذ، إذا حلّ فيه أحد الضدّين، كالسواد، فلا يكون قابلاً لحلول الضدّ الآخر، كالبياض، إلّا بعد ارتفاع السّواد، فعلى هذا يكون من مقدّمات وجود البياض عدم الضدّ الموجود الّذي هو السّواد، بخلاف ما إذا لم يكن واحد منهما موجوداً، بأن كان المحلّ بغير لون، فإنّ

ص: 208


1- مطارح الأنظار 1: 524؛ نقلاً عن الخوانساري في الرسائل: 149.

فتأمّل في أطراف ما ذكرناه، فإنّه دقيق، وبذلك حقيق.

فقد ظهر عدمُ حرمة الضدّ من جهة المقدّميّة.

وأمّا من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود فيالحكم،

___________________________________________

حلول البياض لا يتوقّف على عدم السّواد حينئذٍ.

والجواب عن هذا التفصيل ما تبيّن سابقاً من أنّ: ضدّ البياض هو السّواد في حال البياض وعدم السّواد ليس مقدّمة للبياض، بل عدمه في عرض البياض ومقارن له. وقد تقدّم أنّ المقارن لا يعقل أن يكون مقدّمة. نعم، المقدّمة للبياض هو عدم السّواد السّابق لكن السّواد السّابق ليس ضدّاً للبياض اللّاحق.

والحاصل: أنّ عدم السّواد المقارن - وإن كان ضدّاً - لكنّه ليس بمقدّمة، وعدم السّواد السّابق - وإن كان مقدّمة - لكنّه ليس بضدّ.

ومن هذا كلّه تبيّن أنّ الضدّ سواء كان موجوداً أو معدوماً ليس عدمه مقدّمة للضدّ الآخر {فتأمّل في أطراف ما ذكرناه فإنّه دقيق، وبذلك} التأمّل {حقيق}.

{فقد ظهر} لك {عدم حرمة الضدّ من جهة المقدّميّة} كما أشرنا إليه في الأمر الأوّل حيث قلنا: أو المقدّميّة على ما سيظهر.

{وأمّا} القول بوجوب ترك الضدّ {من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود} متعلّق ب-«المتلازمين» {في الحكم} متعلّق بال-«اختلاف»، فتوضيحه: أنّا لو سلّمنا أنّ عدم الضدّ ليس مقدّمة فلا يكون واجباً بالوجوب المقدّمي، فلا أقلّ من أنّ عدم الضدّ ملازم لوجود الضدّ الآخر الواجب، وملازم الواجب واجب.

مثلاً: عدم الصلاة في المسجد ملازم للإزالة، وحيث كانت الإزالة واجبة، فعدم الصلاة أيضاً واجب فيكون فعل الصلاة حراماً.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه لو تمّ اقتضى وجوب ترك الضدّ بالوجوب النّفسيوأمّا الوجه الأوّل فقد كان مقتضاه الوجوب الغيري.

ص: 209

فغايته أن لا يكون أحدهما فعلاً محكوماً بغير ما حكم الآخر به، لا أن يكون محكوماً بحكمه.

وعدم خلوّ الواقعة عن الحكم، فهو إنّما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي، فلا حرمة للضدّ من هذه الجهة أيضاً،

___________________________________________

والجواب عن هذا الدليل: منع الكبرى إذ الدليل كان مؤلّفاً من صغرى هي «عدم الضدّ ملازم لوجود الضدّ الآخر» ومن كبرى هي «ملازم الواجب واجب» وجه المنع ما أشار إليه المصنّف(رحمة الله) بقوله: {فغايته} أي: غاية لزوم عدم اختلاف المتلازمين {أن لا يكون أحدهما فعلاً} في الظاهر {محكوماً بغير ما حكم} الملازم {الآخر به} فلا يمكن أن تكون الإزالة واجبة وعدم الصلاة حراماً، إذ التلازم يقتضي عدم اختلاف الحكمين، و{لا} يقتضي التلازم {أن يكون} الملازم الآخر {محكوماً بحكمه} بأن يكون عدم الصلاة واجباً كالإزالة.

{و} إن قلت: عدم الصلاة لا يخلو عن ثلاثة أحوال: الأوّل: الوجوب، فيثبت المطلوب. الثّاني: غير الوجوب من سائر الأحكام، فيلزم اختلاف المتلازمين في الحكم وهو باطل. الثّالث: أن لا يكون له حكم أصلاً، وهذا غير صحيح؛ لأنّه يلزم خلوّ الواقعة عن الحكم.

قلت: نلتزم بالثّالث ونقول بخلوّ الحكم لعدم الصلاة، و{عدم خلوّ الواقعة عن الحكم فهو} غير ضارّ؛ لأنّه {إنّما يكون} مستحيلاً {بحسب الحكم الواقعي} فلكلّ واقعة حكم واقعيّ لا محالة على مذهب الخاصّة خلافاً للعامّة، و{لا} يكون خلوّ الواقعة عن الحكم الظاهري {الفعلي} بمستحيل، فعدم الصلاة ولو كان حكمهالواقعي الحرمة ولكن حيث صار ملازماً للإزالة الواجبة لا حكم لها فعلاً، وحيث لا وجوب لعدم الصلاة {فلا حرمة للضدّ} الّذي هو الصلاة {من هذه الجهة} أي: من جهة التلازم {أيضاً} كما لم تكن للصلاة الحرمة من جهة

ص: 210

بل على ما هو عليه - لولا الابتلاءُ بالمضادّة للواجب الفعلي - من الحكم الواقعي.

الأمر الثّالث: أنّه قيل بدلالة الأمر بالشيء بالتضمّن على النّهي عن الضدّ العام - بمعنى الترك - ، حيث إنّه يدلّ على الوجوب المركّب من طلب الفعل والمنع عن الترك.

والتحقيق: أنّه لا يكون الوجوب إلّا طلباً بسيطاً، ومرتبةً وحيدةً أكيدةً من الطلب، لا مركّباً من طلبين. نعم، في مقام تحديد تلك المرتبة وتعيينها ربّما يقال: «الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترك»(1)

___________________________________________

المقدّميّة {بل} الضدّ الّذي هو الصلاة {على ما هو عليه} في الواقع {لولا الابتلاء بالمضادّة للواجب الفعلي} أعني: الإزالة {من الحكم الواقعي} بيان «ما هو عليه»، فالصلاة محبوبة واقعاً لكنّه لا يبعث المولى نحوها لأشدّيّة محبوبيّة الإزالة الّتي بعث المولى نحوها، وعلى هذا فلا حكم للصلاة فعلاً وإن كانت محكومة بالوجوب في الواقع.

{الأمر الثّالث: أنّه قيل بدلالة الأمر بالشيء بالتضمّن} أي:بالدلالة التّضمّنيّة {على النّهي عن الضدّ العام} الّذي هو {بمعنى الترك} واستدلّوا على ذلك بقولهم: {حيث إنّه} أي: الأمر {يدلّ على الوجوب المركّب من طلب الفعل والمنع عن الترك} فالمنع عن الترك جزء معنى الأمر.

{والتحقيق} بطلان هذا القول، حيث {إنّه لا يكون الوجوب} الّذي هو مدلول الأمر {إلّا طلباً بسيطاً ومرتبة وحيدة أكيدة من الطلب} و{لا} يكون {مركّباً من طلبين} طلب الفعل وطلب المنع من الترك، فالوجوب للطلب الأكيد والاستحباب للطلب الضعيف.

{نعم، في مقام تحديد تلك المرتبة} الأكيدة من الطلب {وتعيينها ربّما} يعرف باللّازم، و{يقال: «الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترك»} مقابل

ص: 211


1- معالم الدين: 64.

ويتخيّل منه أنّه يذكر له حدّاً.

فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب ومقوّماته، بل من خواصّه ولوازمه، بمعنى: أنّه لو التفت الأمر إلى الترك لما كان راضياً به لا محالة، وكان يبغضه البتّة.

ومن هنا انقدح: أنّه لا وجه لدعوى العينيّة؛ ضرورة أنّ اللزوم يقتضي الاثنينيّة لا الاتحاد والعينيّة.

نعم، لا بأس بها، بأن يكون المراد بها أنّه يكون هناك طلب واحد، وهو كما يكون حقيقة منسوباً إلى الوجود وبعثاً إليه،

___________________________________________

الاستحباب الّذي لازمه طلب الفعل مع جواز الترك {ويتخيّل منه أنّه يذكر له حدّاً} مركّباً من الجنس والفصل. ونائب فاعل «يذكر» الضمير الرّاجع إلىالتعريف المفهوم من الكلام، كما أنّ ضمير «أنّه» راجع إليه و«حداً» حال {فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب ومقوّماته} وإلّا كان قائماً بالوجود والعدم {بل من خواصّه ولوازمه} ثمّ فسّر كونه من الخواصّ بقوله: {بمعنى أنّه لو التفت الأمر إلى الترك لما كان راضياً به لا محالة وكان يبغضه البتّة} وهذا يكشف عن عدم الرّضا.

{ومن هنا} أي: ممّا ذكرنا من أنّ الوجوب بسيط ولازمه المنع من الترك {انقدح أنّه لا وجه لدعوى العينيّة} أي: كون الأمر بالشّيء عين النّهي عن ضدّه، ثمّ بيّن وجه الانقداح بقوله: {ضرورة أنّ اللزوم} أي لزوم الأمر بالشّيء للمنع عن الترك {يقتضي الاثنينيّة لا الاتّحاد والعينيّة}.

والحاصل: أنّ المنع من الترك لازم معنى الوجوب والمتلازمان لا بدّ وأن يكونا اثنين، إذ لا يعقل أن يكون الشّيء لازم نفسه.

{نعم، لا بأس بها} أي: بالعينيّة {بأن يكون المراد بها أنّه يكون هناك طلب واحد} نحو (أزل النّجاسة) {وهو كما يكون حقيقة منسوباً إلى الوجود وبعثاً إليه}

ص: 212

كذلك يصحّ أن ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز، ويكون زجراً وردعاً عنه، فافهم.

الأمر الرّابع: تظهر الثّمرة في أنّ نتيجة المسألة - وهي النّهي عن الضدّ، بناءً على الاقتضاء - بضميمة أنّ النّهي في العبادات يقتضي الفساد، يُنتج فساده إذا كان عبادة.وعن البهائي(رحمة الله)(1) أنّه أنكر الثّمرة، بدعوى أنّه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النّهي عن الضدّ، بل يكفي عدم الأمر به؛ لاحتياج العبادة إلى الأمر.

___________________________________________

فإنّ حقيقة طلب الفعل الّذي هو الإزالة {كذلك يصحّ أن ينسب} هذا الطلب {إلى الترك} فيكون معنى (أزل): لا تترك الإزالة {بالعرض والمجاز ويكون زجراً وردعاً عنه} ولكن هذا النّحو من العينيّة لا يفيد المستدلّ {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ المراد من العينيّة المصداقيّة ولا مانع منها.

{الأمر الرّابع: تظهر الثّمرة في أنّ نتيجة} هذه {المسألة - وهي النّهي عن الضدّ - بناءً على الاقتضاء} تجعل صغرى، و{بضميمة} كبرى مسلّمة وهي: {أنّ النّهي في العبادات يقتضي الفساد ينتج فساده} أي: فساد الضدّ {إذا كان عبادة} فيقال: الصلاة عبادة منهيّ عنها، لاقتضاء الأمر بالشيء النّهي عن الضدّ، وكلّ عبادة منهي عنها فاسدة، فالصلاة فاسدة. وهذا بخلاف ما لو لم نقل بالاقتضاء، فالصلاة صحيحة.

{وعن} الشّيخ {البهائي(رحمة الله) أنّه أنكر} هذه {الثّمرة، بدعوى أنّه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النّهي عن الضدّ} فبطلان العبادة لا يتوقّف على القول بالاقتضاء بل العبادة فاسده ولو قلنا بعدم اقتضاء الأمر بالشيء النّهي عن الضدّ {بل يكفي} في الفساد {عدم الأمر به} أي: بالضدّ {لاحتياج العبادة إلى الأمر} والأمر بالنسبة إلى الصلاةلفرض وجود الأمر بضدّها - أعني: الإزالة - ولا يمكن أن يأمر بالصلاة في عرض الأمر بالإزالة.

ص: 213


1- زبدة الأصول: 118.

وفيه: أنّه يكفي مجرّد الرّجحان والمحبوبيّة للمولى، فإنّه يصحّ منه أن يتقرّب به منه، كما لا يخفى. والضدّ - بناءً على عدم حرمته - يكون كذلك؛ فإنّ المزاحمة - على هذا - لا توجب إلّا ارتفاع الأمر المتعلّق به فعلاً، مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه

___________________________________________

{وفيه أنّه} لا يلزم وجود الأمر في صحّة العبادة، بل {يكفي مجرّد الرّجحان والمحبوبيّة للمولى} فلو لم يكن الأمر مقتضياً للنهي عن الضدّ كان للصلاة محبوبيّتها الذاتيّة، وهذه المحبوبيّة كافية في صحّتها {فإنّه يصحّ منه} أي: من العبد {أن يتقرّب به} أي: بهذا الضدّ كالصلاة {منه} أي: من المولى {كما لا يخفى} وسيأتي دليله في محلّه.

وهذا بخلاف ما لو قلنا بأنّ الأمر يقتضي النّهي عن ضدّه، إذ الصلاة حينئذٍ منهيّ عنها فتقع باطلة.

نعم، على قول من يقول بلزوم الأمر في صحّة العبادة كان ما ذكره الشّيخ البهائي(رحمة الله) تماماً، لكن المصنّف(رحمة الله) لم يرتض هذا القول بل بناؤه على كفاية المحبوبيّة في صحّة العبادة {والضدّ} كالصلاة - {بناءً على عدم حرمته - يكون كذلك} محبوباً غير مأمور به فيصحّ.

إن قلت: إذا ارتفع الأمر عن الصلاة فأنّى لكم بإثبات بقاء المحبوبيّة حتّى يحكم بصحّتها لبقاء المحبوبيّة؟قلت: إنّما ارتفع الأمر بسبب المزاحمة، والمزاحمة لا تقتضي ارتفاع المحبوبيّة {فإنّ المزاحمة على هذا} القول - أي: عدم اقتضاء الأمر النّهي عن الضدّ - {لا توجب إلّا ارتفاع الأمر المتعلّق به} أي: بالضدّ كالصلاة {فعلاً} أي: ارتفاع الحكم الفعلي {مع بقائه} أي: الضدّ {على ما هو عليه من ملاكه} لعدم التضاد بين ملاكي الوجوب في الضدّين حتّى يرتفع ملاك الصلاة بسبب ملاك

ص: 214

من المصلحة - كما هو مذهب العدليّة - أو غيرها، أيّ شيء كان - كما هو مذهب الأشاعرة - ، وعدمِ حدوث ما يوجب مبغوضيّته وخروجَه عن قابليّة التقرّب به، كما حدث بناءً على الاقتضاء.

ثمّ إنّه تصدّى جماعة من الأفاضل(1) لتصحيح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب

___________________________________________

الإزالة أو أمرها {من المصلحة} بيان الملاك {كما هو مذهب العدليّة} من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعيّة {أو غيرها} عطف على «المصلحة» {أيّ شيء كان} ذلك الغير {كما هو مذهب الأشاعرة} النّافين للمصالح والمفاسد.

والحاصل: أنّه بعد سقوط الأمر يبقى الملاك، سواء كان الملاك المصلحة والمفسدة، كما يقوله العدليّة أو كان غيرها، كما يقوله الأشاعرة، وهذا الملاك يكفي في صحّة العبادة.

{وعدم حدوث} عطف بيان لقوله: «بقائه على ما هو عليه» الخ، أي: إنّ الضدّ باق على ما هو عليه من الملاك، ولم يحدث فيه {ما يوجبمبغوضيّته، و} يوجب {خروجه عن قابليّة التقرّب به، كما حدث} ما يوجب مبغوضيّته {بناءً على} القول ب- {الاقتضاء}.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّا إمّا أن نقول باقتضاء الأمر بالشيء النّهي عن الضدّ، فالعبادة باطلة، وإمّا أن نقول بعدم الاقتضاء، وعلى هذا فإمّا أن نقول بعدم كفاية المحبوبيّة كما يقوله البهائي(رحمة الله)، فالعبادة باطلة أيضاً، وإمّا أن نقول بكفاية المحبوبيّة، فالعبادة صحيحة، ولكن في بقاء المحبوبيّة ثمّ في كفايتها على تقدير البقاء إشكال، فتأمّل.

[بحث الترتب]

{ثمّ إنّه تصدّى جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب} ولنوضح

ص: 215


1- جامع المقاصد 5: 12؛ كشف الغطاء 1: 171؛ تقريرات المجدد الشيرازي 2: 273.

- على العصيان وعدم إطاعة الأمر بالشيء بنحو الشّرط المتأخّر، أو البناء على المعصية بنحو الشّرط المتقدّم أو المقارن - ،

___________________________________________

المطلب أوّلاً ثمّ نشرع في شرح المتن، فنقول: على القول بعدم اقتضاء الأمر بالشيء النّهي عن الضدّ، فقال جمع بعدم صحّة العبادة لعدم الأمر، وقال جمع بصحّة العبادة لكفاية المحبوبيّة، وقال جمع بوجود الأمر على نحو الترتّب، وهذا القول عن كاشف الغطاء(رحمة الله) وغيره.

مثال ذلك: أنّ المكلّف إذا دخل المسجد وقت الصلاة، فعلى تقدير أن تكون الإزالة أهمّ توجّه إليه أمر (أَزِلِ النَّجَاسَةَ) فلو ترك الإزالة واشتغل بالصلاة كانت الصلاة عند هؤلاء صحيحة مأموراً بها على نحو الترتّب، فلكلّ واحد من الضدّين - أعني: الإزالة والصلاة - أمر، ولكن أمر الإزالة مطلق، وعلى جميع التقادير بلا شرط، وأمّا أمر الصلاة مشروط ومعلّق على عصيان أمر الإزالة على نحو الشّرطالمتأخّر مثل: (إن عصيت أمر الإزالة فصلّ) أو معلّق على إرادة المعصية على نحو الشّرط المقدّم أو المقارن مثل: (إن زعمت على عصيان أمر الإزالة فصلّ) فيكون الأمر بالضدّ الّذي هو الصلاة بنحو الترتّب {على العصيان} أي: عصيان أمر الإزالة {و} على {عدم إطاعة الأمر بالشيء} وهذا عطف بيان للعصيان {بنحو الشّرط المتأخّر} متعلّق ب- «الترتّب» أي: إنّ الترتّب يكون بنحو الشّرط المتأخّر.

وقوله: {أو البناء على المعصية بنحو الشّرط المتقدّم أو المقارن} عطف على قوله: «على العصيان» أي: إنّ الأمر بالضدّ مرتّب على البناء على المعصية.

ثمّ إنّ الضدّين إمّا أن لا يكون أحدهما أهمّ من الآخر ولا كلام فيه، وإمّا أن يكون أحدهما أهمّ من الآخر كالإزالة فرضاً، وتصوير الترتّب في هذا القسم من الضدّين على ستّة أنحاء: لأنّ الأمر بالمهمّ إمّا أن يترتّب على عصيان الأهمّ بنحو

ص: 216

___________________________________________

الشّرط المتقدّم أو المقارن أو المتأخّر، وإمّا أن يترتّب على العزم على عصيان الأمر بالأهمّ بنحو الشّرط المتقدّم أو المقارن أو المتأخّر، وتفصيل ذلك:

الأوّل: أن يكون المهمّ مرتّباً على عصيان الأهمّ بنحو الشّرط المتقدّم، كأن يقول: (أزل وإن عصيت فصلّ بعده) وهذا خارج عمّا نحن فيه؛ لأنّ الأمر بالضدّين في زمانين، فإنّه بعد سقوط الأمر بالأهمّ يثبت الأمر بالمهمّ.

الثّاني: أن يكون مرتّباً على عصيان الأهمّ بنحو الشّرط المقارن، كأن يقول: (أزل وإن عصيت فصلّ مقارناً للعصيان) وهذا خارج عمّا نحن فيه أيضاً، كالأوّل؛ لأنّ العصيان إذا قارن الأمر بالمهمّ كان سقوط الأمر بالمهمّ الملازم للعصيانمقارناً للأمر بالمهمّ، فلا يقترن الأمران في زمان واحد.

الثّالث: أن يكون مرتّباً على عصيان الأهمّ بنحو الشّرط المتأخّر، كأن يقول: (أزل وإن عصيت بعداً فصلّ) وهذا داخل في مسألة الترتّب، وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إليه بقوله: «بنحو الترتّب على العصيان» الخ، وحيث إنّ تحقّق العصيان مؤخّر وجوداً عن زمان الصلاة، إذ بعد الصلاة يتحقّق عصيان أمر الإزالة، فلا بدّ أن يكون العصيان بالنسبة إلى الصلاة بنحو الشّرط المتأخّر، ومرجع الشّرط المتأخّر إلى التصوّر واللحاظ للشرط، كما تقدّم، فيأمر المولى بالصلاة حيث يلحظ عصيان أمر الإزالة، كما يحكم بصحّة العقد الفضولي حيث يلحظ الإجازة المتأخّرة.

الرّابع: أن يكون المهمّ مرتّباً على بناء معصية الأهمّ بنحو الشّرط المتقدّم، كأن يقول: (أزل وإن بنيت على المعصية فصلّ بعده).

الخامس: أن يكون المهمّ مرتّباً على بناء معصية الأهمّ بنحو الشّرط المقارن كأن يقول: (أزل وإن بنيت على المعصية فصلّ مقارناً للبناء) وهذان داخلان في مسألة

ص: 217

بدعوى أنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدّين كذلك، - أي: بأن يكون الأمر بالأهمّ مطلقاً، والأمر بغيره معلّقاً على عصيان ذاك الأمر، أو البناء والعزم عليه - ، بل هو واقعٌ كثيراً عرفاً.

___________________________________________

الترتّب، وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إليهما بقوله: «أو البناء على المعصية» الخ.

السّادس: أن يكون المهمّ مرتّباً على بناء معصية الأهمّ بنحو الشّرط المتأخّر كأن يقول: (أزل وإن بنيت على المعصية بعد فصلّ) وهذا من الترتّب وإن لم يذكره المصنّف، وهذه الصور السّتّة مختلف فيها: فبعضهم عدّ خمسة منها منالترتّب، وبعضهم أربعة، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم اثنين، فتأمّل.

وعلى كلّ حال فالقائل بصحّة الترتّب يقول بصحّة بعضها في الجملة {بدعوى أنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدّين كذلك، أي: بأن يكون الأمر بالأهمّ مطلقاً} بلا شرط {والأمر بغيره} أعني: المهم {معلّقاً على عصيان ذاك الأمر} بالأهمّ {أو البناء والعزم عليه} أي: على العصيان، وذلك لأنّ الوجه في امتناع الأمر بالضدّين عدم إمكان البعث نحوهما لفرض عدم إمكان اجتماعهما بخلاف ما لو قلنا بالترتّب، فإنّ أحد الضدّين - وهو المهم - مشروط بعدم الأهمّ بالعصيان أو البناء عليه، فمادام كان الأمر بالأهمّ موجوداً لم يكن هناك أمر بالمهمّ لعدم وجود شرطه، وإذا وجد شرط الأمر بالمهمّ سقط الأمر بالأهمّ بالعصيان ونحوه.

وعلى هذا فالأمر بالضدّين بهذا النّحو ممكن {بل هو واقع كثيراً عرفاً} فإنّه يأمر المولى عبده بإنقاذ ولده الغريق فإذا علم منه المعصية أو كان العبد بانياً على العصيان يقول له المولى: (إن لم تنقذ الولد فأنقذ الأخ) مع أنّه لو أنقذ الأخ صحّ منه العقوبة على عدم إنقاذ الولد، ولا يرى العرف هذا المولى آمراً بالضدّين القبيح، ولا يعدّون تعذيبه لعدم إنقاذ الولد ظلماً وعدواناً.

ص: 218

قلت: ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرضٍ واحدٍ آتٍ في طلبهما كذلك؛ فإنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ اجتماع طلبهما؛ إلّا أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما، بداهة فعليّة الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة، وعدمِ سقوطه بعدُ بمجرّد المعصية في ما بعد - ما لم يعص - ، أو العزم عليها، مع فعليّةالأمر بغيره أيضاً؛ لتحقّق ما هو شرط فعليّته فرضاً.

___________________________________________

{قلت: ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرض واحد آتٍ في طلبهما كذلك} أي: على نحو الترتّب، فلا فرق بين الترتّب وغيره في عدم المعقوليّة {فإنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ اجتماع طلبهما} إذ الأمر بالمهمّ مشروط بالعصيان أو البناء عليه فيكون متأخّراً عنهما، والعصيان متأخّر عن الأمر بالأهمّ، فيكون هناك أمر بالأهمّ ثمّ عصيانه أو إرادة عصيانه ثمّ أمر بالمهمّ {إلّا أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره} أي: المهمّ {اجتماعهما، بداهة فعليّة الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة} أي: مرتبة الأمر بالمهمّ، إذ بتنجّز الأمر بالمهمّ لا يسقط الأمر بالأهمّ عن التنجّز، فيلزم طلب الضدّين {وعدم سقوطه} أي: الأمر بالأهمّ، وهذا عطف على قوله: «فعليّة الأمر بالأهمّ» {بعد} بالقطع عن الإضافة {بمجرّد المعصية في ما بعد} على نحو الشّرط المتأخّر {ما لم يعص} حتّى يكون ساقطاً {أو العزم عليها} عطف على قوله: «المعصية». وعليه فلا يكون الأمر بالأهمّ ساقطاً، بل كان فعليّاً {مع} فرض {فعليّة الأمر بغيره} أي: المهمّ {أيضاً لتحقّق ما هو شرط فعليّته فرضاً}.

والحاصل: أنّ مجرّد تحقّق المعصية في ما بعد أو العزم على المعصية فعلاً لا يسقط الأمر بالأهم، إذ المسقط للأمر إمّا الامتثال، وإمّا المعصية، وإمّا حصول الغرض، والأمر بالأهم لم يحصل أحد الثّلاثة بالنسبة إليه، فهو باق على حاله. هذا من طرف، والأمر بالمهم موجود حسب الفرض من طرف آخر،فيجتمعان.

ص: 219

لا يقال: نعم، ولكنّه بسوء اختيار المكلّف، حيث يعصى في ما بعدُ بالاختيار، فلولاه لما كان متوجّهاً إليه إلّا الطلب بالأهمّ، ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار.

فإنّه يقال: استحالة طلب الضدّين ليست إلّا لأجل استحالة طلب المحال، واستحالةُ طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليّته لا تختصّ بحالٍ دون حالٍ،

___________________________________________

{لا يقال: نعم} نسلّم ثبوت الأمر بالضدّين في مرتبة الأمر بالمهم {ولكنّه} لا محذور فيه؛ لأنّه كان {بسوء اختيار المكلّف حيث يعصي في ما بعد بالاختيار} أو حيث عزم على المعصية {فلولاه} أي: لولا عصيانه في ما بعد أو عزمه على المعصية {لما كان متوجّهاً إليه إلّا الطلب بالأهمّ} فقط.

والحاصل: أنّ المكلّف إنّما توجّه إليه الأمر بالأهمّ فقط، وهو بسوء اختياره أوجد شرط الأمر بالمهمّ فتوجّه إليه الأمر بالمهمّ، فالمكلّف بنفسه صار سبباً لطلب الضدّين منه {ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار} وذلك مثل أنّه لو دخل الدار المغصوبة حتّى توسّطها وحينئذٍ يتوجّه إليه (لا تغصب في الخروج عن الدار، ولا تغصب في البقاء في الدار) فيكون كلّ من بقائه وخروجه محرّماً مع أنّه لا يتمكّن إلّا من أحدهما، فتحريم كليهما تحريم للضدّين اللّذين لا ثالث لهما ممّا لا يخلو المكلّف منهما على سبيل منع الخلوّ، فكما أنّ تحريم الضدّين النّاشئ من سوء الاختيار غير مستحيل كذلك طلب الضدّين النّاشئ منه.

{فإنّه يقال: استحالة طلب الضدّين ليستإلّا لأجل استحالة طلب المحال} في نفسه - سواء كان الباعث على الطلب هو العبد أو المولى - وذلك لما ذكروا من أنّ الطلب عبارة عن البعث إلى المأمور به ولا يعقل البعث نحو المحال مطلقاً {و} ذلك لأنّ {استحالة طلبه} أي: طلب المحال {من الحكيم الملتفت إلى محاليّته لا تختصّ بحال دون حال} كأن يكون طلب المحال جائزاً في ما كان بسوء

ص: 220

وإلّا لصحّ في ما علّق على أمر اختياري في عرضٍ واحدٍ، بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتّب، مع أنّه محال بلا ريب ولا إشكال.

إن قلت: فرق بين الاجتماع في عرضٍ واحد والاجتماع كذلك؛ فإنّ الطلب في كلٍّ منهما في الأوّل يطارد الآخر،

___________________________________________

اختيار العبد، وممتنعاً في ما كان من المولى ابتداءً {وإلّا} فلو جاز طلب المحال في صورة سوء اختيار العبد {لصحّ} طلب المحال {في ما علّق على أمر اختياري} كأن يقول: «إذا زرت زيداً فأكرمه وأهنه في حال واحد» {في عرض واحد} بأن يكون الأمر بالضدّ الأوّل في حال الضدّ الثّاني وبالعكس {بلا حاجة في تصحيحه} أي: تصحيح طلب الضدّين {إلى الترتّب} الّذي لا يكون الضدّان في عرض واحد، بل كان المهمّ في عرض الأهمّ ولكن الأهمّ ليس في عرض المهمّ {مع أنّه} أي: طلب الضدّين معلّقاً على أمر اختياري {محال بلا ريب ولا إشكال}.

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وحديث: الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، أجنبيّ عن المقام، فإنّ معناه أنّ المكلّف في صورة تنجّز التكليف عليه لو صيّره محالاً على نفسه ولو بترك مقدّمة من مقدّماته عمداً لا يسقط عنه العقاب، وليس معناه أنّ كون الشّيء اختياريّاً على المكلّف في زمان يصحّح أمرالمولى به وإن كان فعلاً محالاً عليه»(1)،

انتهى.

ومن هذا يظهر اندفاع المثال الّذي تقدّم سابقاً في من توسّط الدار المغصوبة، فإنّه من قبيل الامتناع بالاختيار الخ، لا من قبيل ما نحن فيه، مع أنّ في هذا النّحو من التكليف بالضدّين كلاماً يأتي - إن شاء اللّه تعالى - .

{إن قلت}: إنّكم قسّمتم الترتّب على الأمر بالضدّين، والحال أنّه {فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك} على نحو الترتّب {فإنّ الطلب في كلّ منهما في الأوّل} أعني: الاجتماع في عرض واحد {يطارد} الطلب {الآخر} ويمانعه،

ص: 221


1- شرح كفاية الأصول 1: 185.

بخلافه في الثّاني؛ فإنّ الطلب بغير الأهمّ لا يطارد طلب الأهمّ؛ فإنّه يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهمّ، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه، وعدم عصيان أمره.

قلت: ليت شعري كيف لا يطارده الأمر بغير الأهمّ؟ وهل يكون طرده له إلّا من جهة فعليّته، ومضادّة متعلّقه له.

___________________________________________

فلا يمكن الأمر بهما {بخلافه} أي: الطلب {في الثّاني} أعني: الترتّب {فإنّ الطلب بغير الأهمّ} أي: المهمّ {لا يطارد طلب الأهمّ، فإنّه} أي: طلب المهمّ {يكون} مشروطاً ومعلّقاً {على تقدير عدم الإتيان بالأهم} فهو متأخّر عن الأهمّ رتبة كما سبق {فلا يكاد يريد} الآمِرُ {غيره} أي: غير الأهمّ {على تقدير إتيانه وعدم عصيان أمره} ولذلك ترى الفرق الظاهر بين قول المولى: (قم واقعد) فإنّه يعدّ في العرف أمراًبالمستحيل، وبين قوله: (قم وإن عصيت أو أردت العصيان فاقعد) فإنّه يعدّ أمراً ممكناً.

{قلت: ليت شعري كيف} يكون فرق بين طلب الضدّين ابتداءً وطلبهما على نحو الترتّب، إذ كما يكون بين الضدّين ابتداءً مطاردة كذلك بينهما على نحو الترتّب، فإنّ الأمر بالأهمّ كيف {لا يطارده الأمر بغير الأهمّ} أي: المهمّ {وهل يكون طرده} أي: المهم {له} أي: للأهم {إلّا من جهة فعليّته} أي: المهمّ {ومضادّة متعلّقه} أي: المهم {له} أي: الأهم.

والحاصل: أنّ المستشكل لمّا سلّم مطاردة الأهم للمهمّ ومنع مطاردة المهمّ للأهم أراد المصنّف(رحمة الله) ردّ هذا المنع وأنّ المهمّ أيضاً يطارد الأهمّ، فكما أنّ الأمر بالإزالة يطارد الأمر بالصلاة كذلك الأمر بالصلاة يطارد الأمر بالإزالة، وكيف يكون الأمر بالصلاة غير مطارد للأمر بالإزالة والحال أنّه تعلّق بضدّ الإزالة. ومن البديهي أنّ الأمرين اللّذين تعلّق كلّ واحد منهما بضدّ الآخر يتطاردان من الجانبين.

ص: 222

وعدم إرادة غير الأهمّ على تقدير الإتيان به، لا يوجب عدمَ طرده لطلبه، مع تحقّقه على تقدير عدم الإتيان به وعصيان أمره، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير، مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المضادّة بين المتعلّقين.

مع أنّه يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهمّ؛

___________________________________________

{و} إن قلت: نسلّم التطارد إذا أتى الشّخص بالمهمّ، كأن صلّى - مثلاً - إذ يجتمع الأمران، وليس كذلك إذا أتى بالأهمّ كما لو أزال النّجاسة؛ لأنّه لا أمر بالمهمّ حينئذٍ فلا مطاردة.قلت: {عدم إرادة} المولى للمهمّ، أي: {غير الأهمّ على تقدير الإتيان به} أي: بالأهم {لا يوجب عدم طرده} أي: طلب المهمّ {لطلبه} أي: الأهمّ {مع تحقّقه} أي: تحقّق طلب المهمّ {على تقدير عدم الإتيان به} أي: بالأهمّ {وعصيان أمره}.

والحاصل: أنّ الإشكال على الترتّب ليس في صورة الإتيان بالأهمّ والإتيان بالمهم، بل يكفي في عدم صحّة الترتّب ورود الإشكال في صورة واحدة، وهي ما إذا أتى بالمهمّ {ف-} إنّه {يلزم اجتماعهما} أي: الطلبان {على هذا التقدير} أي: تقدير الإتيان بالمهم {مع ما هما عليه من المطاردة} والممانعة الحاصلة {من جهة المضادّة بين المتعلّقين} أي: متعلّق الطلبين كالإزالة والصلاة، فإذا أتى الشّخص بالصلاة تطارد الأمران إذ أمر الإزالة مراد على كلّ حال حسب الفرض وأمر الصلاة مراد في هذا الحال لوجود شرطه {مع أنّه} لو سلّمنا عدم مطاردة الأمر بالمهمّ للأمر بالأهمّ - حتّى في هذا الحال الّذي أتى بالمهمّ - فلنا أيضاً منع الترتّب، وذلك لأنّه {يكفي الطرد من طرف} واحد، وهو طرف {الأمر بالأهم} إذ ليست الاستحالة مبتنية على المطاردة من الطرفين، بل الاستحالة تكون لأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: المطاردة من الجانبين في جميع الأحوال، كما يكون في الأمر بالضدّين ابتداءً.

ص: 223

فإنّه - على هذا الحال - يكون طارداً لطلب الضدّ، كما كان في غير هذا الحال، فلا يكون له معه أصلاً بمحالٍ.

إن قلت: فما الحيلة في ما وقع كذلك من طلب الضدّين في العرفيّات؟

___________________________________________

الثّاني: المطاردة من الجانبين في بعض الأحوال، كما لو قلنا بذلك في الترتّب - في صورة الإتيان بالمهم - وإن تكن مطاردة في حال الإتيان بالأهم.

الثّالث: طرد أحد الجانبين للآخر في بعض الأحوال، كما في الترتّب -(1)حتّى على قول الخصم - كما لو أتى بالمهم {فإنّه} أي: الأمر بالأهم {على هذا الحال يكون طارداً لطلب الضدّ} الّذي هو المهم {كما كان} الأهم طارداً للمهم {في غير هذا الحال} أي: بمجرّد وجود الأمر بالأهم وإن لم يوجد بعد الأمر بالمهم ولم يأت المكلّف إلّا بالأهم. ومعنى طرد الأهم حينئذٍ أن يكون مانعاً لحدوث الأمر بالمهم {فلا يكون له} أي: للأمر بالمهم {معه} أي: مع الأمر بالأهم {أصلاً بمحالٍ}.

وممّا ذكرنا من معنى طرد الأهم للمهمّ ظهر لك بطلان الإشكال على المصنّف(رحمة الله) بأنّه لا يعقل أن يكون الطرد من طرف واحد.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا في تفسير العبارة أقرب ممّا ذكره بعض الشّرّاح والمحشّين، فراجع(2).

{إن قلت}: إذا منعتم الترتّب {فما الحيلة في ما وقع كذلك} على نحو الترتّب {من طلب الضدّين} بيان ل- «ما وقع» {في العرفيّات} حتّى ادّعى أنّه فوق حدّ الإحصاء، كما يقول المولى: (حجّ وإن لم تفعل فزر) ونحو ذلك؟

ص: 224


1- حيث سلّم هو طرد الأهم للمهم بقوله في «إن قلت»: «فإنّ الطلب بغير الأهمّ لا يطارد طلب الأهم» الخ.
2- حيث فسّروا قوله: «على هذا الحال» بحال الترتّب. وفسّروا قوله: «في غير هذا الحال» يعني عرض واحد، وهذان التفسيران لا يلائمان مع قوله: «مع أنّه يكفي» الخ. راجع كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 39؛ شرح كفاية الأصول 1: 186.

قلت: لا يخلو: إمّا أن يكون الأمر بغير الأهمّ بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقيقة، وإمّا أن يكون الأمر به إرشاداً إلى محبوبيّته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة، وأنّ الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة، فيذهب بها بعضُ ما استحقّه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهمّ، لا أنّه أمر مولويّ فعليّ كالأمر به، فافهم وتأمّل جيّداً.

___________________________________________

{قلت}: ما يترائى أنّه من قبيل الترتّب يلزم صرفه عن ظاهره بعد قيام الدليل العقلي على استحالته، فإنّ الظاهر يدفع بالقاطع، فحينئذٍ {لا يخلو إمّا أن يكون الأمر بغير الأهم بعد التجاوز عن الأمر به} أي: بالأهم {وطلبه حقيقة} عطف على «الأمر به» فلا يكون في البين إلّا أمر واحد بالمهم، ويكون صرف النّظر عن الأهم توسعة وتفضّلاً على العباد، ولكن هذا خارج عمّا نحن فيه، إذ المفروض عدم الإغماض عن الأهم وبقاء الأمر به كما كان كما يشهد بذلك العرف.

{وإمّا أن يكون الأمر به} أي: بالمهم {إرشاداً إلى محبوبيّته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة} بيان «ما» {والغرض لولا المزاحمة} بالأهم {وأنّ الإتيان} عطف على «محبوبيّته» {به} أي: بالمهم {يوجب استحقاق المثوبة، فيذهب بها} أي: بسبب هذه المثوبة الحاصلة من المهم {بعض ما استحقّه} العبد {من العقوبة} الّتي استوجبها {على مخالفة الأمر بالأهم} فلا يكون في البين إلّا أمر واحد بالأهم فقط، ولا يجتمع الأمران أيضاً {لا أنّه} أي: الأمر بالمهم {أمر مولويّ فعليّ كالأمر به} أي: بالأهم {فافهم وتأمّل جيّداً}.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه: لا أمر بالضدّين على نحو الأمر المولوي،لقبح أن يقول المولى: (أزل النّجاسة وإن لم تزل فصلّ) وحينئذٍ فلا بدّ من التزام وجود أمر واحد في البين، إمّا الأمر بالأهمّ فقط وإن لم يسقط المهمّ عن المحبوبيّة، وإمّا الأمر بالمهمّ مع سقوط الأمر بالأهم.

ص: 225

ثمّ إنّه لا أظنّ أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق - في صورة مخالفة الأمرين - لعقوبتين؛ ضرورةَ قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد. ولذا كان سيّدنا الأُستاذ(قدس سره) لا يلتزم به - على ما هو ببالي - ، وكنّا نورد به على الترتّب، وكان بصدد تصحيحه.

___________________________________________

وممّا يشهد لذلك في الجملة قبح العقابين في ما لو ترك العبد الأهم والمهم معاً.

ثمّ لا يخفى أنّ الترديد بين هذين الوجهين إنّما هو في المولى الملتفت، أمّا الغافل فإنّه يمكن أن ينقدح في نفسه بعثان نحو الضدّين، إلّا أنّ اللّازم على العبد حينئذٍ الأخذ بالأهم وترك المهمّ لا العكس، ويدلّ على ذلك صحّة العقوبة على ترك الأهم لو أخذ بالمهمّ دون العكس، فلو أمر المولى العبد بإنقاذ ولده العزيز واشتراء الطعام في صورة غفلته عن المزاحمة لم يصحّ للعبد اشتراء الطعام وعدم إنقاذ الولد حتّى يغرق وليس الأمر بالاشتراء معذراً له عند العقلاء.

{ثمّ إنّه لا أظنّ أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه} أي: لازم الترتّب وبعبارة أُخرى: لازم الأمرين {من الاستحقاق} بيان «ما» {في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين} متعلّق ب-«الاستحقاق» {ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد} والعقاب على غير المقدور قبيح، إلّا أن يقال: حيث إنّه كان بسوء الاختيار لا مانع منهما، فإنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فتأمّل.{ولذا} الّذي ذكرنا من عدم التزام القائل بالترتّب بما هو لازمه {كان سيّدنا الأُستاذ} آية اللّه المجدّد الحاج ميرزا حسن الحسيني الشّيرازي {+ لا يلتزم به} أي: بما هو لازم الترتّب من العقابين {على ما هو ببالي وكنّا نورد به} أي: بهذا الإشكال {على الترتّب، وكان} عليه الرّحمة {بصدد تصحيحه} أي: تصحيح الترتّب بدفع هذا الإشكال.

ص: 226

فقد ظهر: أنّه لا وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهمّ منها إلّا ملاك الأمر.

نعم، في ما إذا كانت موسعة، وكانت مزاحمةً بالأهمّ

___________________________________________

{فقد ظهر} ممّا ذكرنا من بطلان الترتّب {أنّه} لا أمر بالمهمّ، كالصلاة، وعليه ف- {لا وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهمّ منها} كالإزالة {إلّا} على القول بكفاية {ملاك الأمر} في صحّة العبادة، إذ ليس بالمهمّ أمر فعليّ كي يستند صحّتها إلى ذلك. أمّا من لا يقول بكفاية الملاك أو يناقش في بقائه فلا تصحّ عنده العبادة أصلاً.

قال العلّامة القمّي(رحمة الله): «في كفاية مجرّد المحبوبيّة مع عدم الأمر تأمّل، كما أنّه إذا سقط الأمر بالامتثال لا يكفي مجرّد محبوبيّة الطبيعة في امتثال عقيب الامتثال.

فإن قيل: لعلّ الطبيعة بعد سقوط الأمر بالامتثال لا يكون فيه الملاك والمحبوبيّة.

قلت: لعلّ الضدّ بعد سقوط أمره بواسطة الأمر التعييني بالضدّ الآخر لا يكون فيه الملاك.

فإن قيل: إنّما لم يؤمر حينئذٍ للمزاحمة، لا بشيء آخر دخيل في المحبوبيّة.قلت: سقوط الأمر إنّما كان للامتثال لا بشيء آخر دخيل في المحبوبيّة، والحلّ أنّ الإطاعة والامتثال إنّما يكون دائراً مدار وجود أمر المولى عقلاً وعرفاً، فتأمّل»(1).

فتحصّل أنّه لا أمر بالمهم في صورة مضادّته للأهم، فلا يمكن أن يؤتى بالمهم بداعي الأمر.

{نعم} قد يمكن أن يؤتى بالمهم بداعي الأمر بالطبيعة، وذلك {في ما إذا كانت} العبادة الّتي هي مهم {موسّعة} كالصلاة {وكانت مزاحمة بالأهم} كإنقاذ

ص: 227


1- حاشية الكفاية 1: 197.

في بعض الوقت، لا في تمامه، يمكن أن يقال: إنّه حيث كان الأمر بها على حاله - وإن صارت مضيّقة بخروج ما زاحمه الأهمّ من أفرادها من تحتها - أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الأمر، فإنّه وإن كان الفرد خارجاً عن تحتها بما هي مأمور بها، إلّا أنّه لمّا كان وافياً بغرضها - كالباقي تحتها - كان عقلاً مثله في الإتيان به في مقام الامتثال، والإتيان به بداعي ذلك الأمر، بلا تفاوت في نظره

___________________________________________

الغريق {في بعض الوقت لا في تمامه} كما لو غرق مسلم أوّل الظهر ثمّ ترك الشّخص الإنقاذ واشتغل بالصلاة حتّى هلك الغريق، فإنّه يمكن أن يأتي بالصلاة بقصد الأمر المتعلّق بها في ما بعد وقت الأهم، فإنّ أمر الصلاة إنّما سقط بمقدار الإنقاذ وأمّا بعد الهلاك فالأمر باق، ولا حاجة حينئذٍ إلى قصد الملاك.

والحاصل: أنّه {يمكن أن يقال: إنّه حيث كانالأمر بها} أي: بالعبادة المهمّة باقٍ {على حاله، وإن صارت} العبادة {مضيّقة} لأنّ وقتها كان من أوّل الزوال إلى المغرب، وحيث زاحمت الإزالة صار وقتها من بعد الزوال بنصف ساعة مثلاً {ب-} سبب {خروج ما زاحمه الأهمّ من أفرادها من تحتها} فإنّ أفراد الصلاة المخيّر بينها كانت مائة والحال صارت تسعين {أمكن} جواب «حيث» {أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الأمر} المتوجّه إلى الطبيعة الّتي لها أفراد بعد نصف ساعة من الزوال فرضاً {فإنّه وإن كان الفرد} الواقع في أوّل الزوال {خارجاً عن تحتها بما هي مأمور بها إلّا أنّه} أي: أنّ ذلك الفرد الواقع في أوّل الزوال {لمّا كان وافياً بغرضها} أي: الغرض المطلوب من العبادة {ك-} الفرد {الباقي تحتها} بلا فرق أصلاً {كان} هذا الفرد الواقع في الأوّل {عقلاً مثله} أي: مثل الباقي {في الإتيان به}.

ثمّ بيّن أنّ المماثلة في جهتين: الأُولى {في مقام الامتثال} فكما أنّ الباقي يمتثل به أمر الطبيعة كذلك بالفرد الأوّل فهما مسقطان للغرض {و} الثّانية في صحّة {الإتيان به بداعي ذلك الأمر} المتوجّه إلى الطبيعة {بلا تفاوت في نظره}

ص: 228

بينهما أصلاً.

ودعوى: أنّ الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها، وما زوحم منها بالأهمّ وإن كان من أفراد الطبيعة، لكنّه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها.

فاسدةٌ: فإنّه إنّما يوجب ذلك إذا كان خروجه عنها - بما هي كذلك - تخصيصاً، لامزاحمةً، فإنّه معها

___________________________________________

أي: نظر العقل {بينهما أصلاً}.

ومن هذا البيان ظهر الفرق بين الموسّع والمضيّق وأنّه يمكن أن يؤتى بالمهمّ بداعي الأمر إذا كان موسّعاً، وأمّا لو كان مضيّقاً فلا يمكن الإتيان به إلّا بالملاك لسقوط الأمر فيه بالمرّة. مثلاً: لو غرق ولد المولى وأخوه فأنقذ الأخ لم يكن به أمر أصلاً لفرض تزاحمه بالأهمّ مطلقاً، فتبصّر.

ولمّا كان مظنّة إيراد أشار إلى بيان دفعه بقوله: {ودعوى أنّ الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها} مثلاً: الأمر بصلاة الظهر بين الحدّين إنّما يدعو إلى الأفراد العرضيّة والطوليّة المنطبق عليها المأمور بها، ولا يكاد يدعو إلى غير تلك الأفراد. مثلاً: لا يصحّ الإتيان بصلاة الظهر قبل الوقت بداعي الأمر المتوجّه بعد الوقت {و} ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ {ما زوحم منها بالأهمّ} أي: الفرد الّذي زاحم الإزالة {وإن كان من أفراد الطبيعة} في نفسها {لكنّه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها} فلا يصحّ الإتيان بهذا الفرد بداعي الأمر {فاسدة، فإنّه} أي: خروج الفرد الأوّل عن تحت الأمر {إنّما يوجب ذلك} أي: عدم صحّة الإتيان به بداعي الأمر {إذا كان خروجه عنها} أي: عن الطبيعة {بما هي كذلك} أي: مأمور بها {تخصيصاً} حتّى لا يكون ملاك الأمر موجوداً في الفرد الخارج {لا مزاحمة} بأن يكون الملاك موجوداً {فإنّه} أي: الفرد {معها} أي: مع المزاحمة

ص: 229

وإن كان لا يعمّها الطبيعة المأمور بها، إلّا أنّه ليس لقصور فيه، بللعدم إمكان تعلّق الأمر بما يعمّه عقلاً.

وعلى كلّ حال، فالعقل لا يرى تفاوتاً - في مقام الامتثال وإطاعة الأمر بها - بين هذا الفرد وسائر الأفراد أصلاً.

هذا على القول بكون الأوامر متعلّقة بالطبائع.

وأمّا بناءً على تعلّقها بالأفراد فكذلك، وإن كان جريانه عليه أخفى، كما لا يخفى،

___________________________________________

{وإن كان لا يعمّها الطبيعة المأمور بها} حيث إنّه بملاحظة المزاحم الأهمّ يسقط الأمر المهمّ عن هذا الفرد {إلّا أنّه} أي: عدم شول الطبيعة له {ليس لقصور فيه} بل هو تامّ في نفسه محصّل للغرض {بل لعدم إمكان تعلّق الأمر بما يعمّه عقلاً} فالمصلحة والمحبوبيّة ومناط الأمر الموجودة في هذا الفرد أوجبت جواز الإتيان به بداعي الأمر - وإن لم يكن الأمر فعليّاً - .

ولا يخفى عليك أنّه مع هذا التجشّم لم يأت بمقنع، بل غاية ما ذكره سقوط الأمر لحصول الغرض، أمّا الإتيان به بداعي الأمر فلا، مضافاً إلى أنّ سقوطه للغرض وكفايته محلّ تأمّل، كما سبق.

{وعلى كلّ حال فالعقل لا يرى تفاوتاً في مقام الامتثال وإطاعة الأمر بها} أي: بالطبيعة {بين هذا الفرد} الّذي زاحمه الأهم {وسائر الأفراد أصلاً}.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرناه من جواز الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر {على القول بكون الأوامر متعلّقة بالطبائع} في كمال الظهور {وأمّا بناءً على تعلّقها بالأفراد فكذلك} ظاهر؛ لأنّ هذا الفرد الأوّل مشتركمع سائر الأفراد في تحصيل الغرض والاشتمال على المصلحة، فلا يمتنع عقلاً أن يأتي بهذا الفرد بداعي الأمر المتعلّق بسائر الأفراد {وإن كان جريانه عليه أخفى} لأنّ الأفراد حيث كانت متباينة فداعويّة الأمر به لفرد آخر أخفى من داعويّة الأمر بالطبيعة للفرد {كما لا يخفى}

ص: 230

فتأمّل.

ثمّ لا يخفى: أنّه - بناءً على إمكان الترتّب وصحّته - لا بدّ من الالتزام بوقوعه من دون انتظار دليل آخر عليه؛ وذلك لوضوح أنّ المزاحمة على صحّة الترتّب لا تقتضي عقلاً إلّا امتناع الاجتماع في عرض واحد، لا كذلك.

فلو قيل بلزوم الأمر في صحّة العبادة - ولم يكن في الملاك كفاية - كانت العبادة مع ترك الأهمّ صحيحةً، لثبوت الأمر بها في هذا الحال،

___________________________________________

للمتأمّل {فتأمّل} يمكن أن يكون إشارة إلى ما تقدّم من أنّ وجود الملاك في الفرد الخارج عن تحت الأمر لا يصحّ الإتيان بذاك الفرد بداعي الأمر المتعلّق بالطبيعة أو بفرد آخر، وليس هذا إلّا من قبيل الإتيان بصلاة الصبح بداعي الأمر المتوجّه إلى صلاة الظهر - مثلاً - لوجود الملاك وهو المعراجيّة مثلاً.

{ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على إمكان الترتّب وصحّته} عقلاً {لا بدّ من الالتزام بوقوعه من دون انتظار دليل آخر عليه} بل مجرّد الأمر بالضدّين بضميمة حكم العقل كافٍ في صحّة العبادة، فلو دلّ دليل على وجوب الصّلاة ودليل آخر على وجوب إنقاذ الغريق، فلو صلّى في صورة المزاحمة كانت الصلاة صحيحة {وذلك لوضوح أنّ المزاحمة على} تقدير{صحّة الترتّب لا تقتضي عقلاً إلّا امتناع الاجتماع في عرض واحد لا كذلك} أي: لا بنحو الترتّب.

أمّا كون أحد المتزاحمين مطلقاً والآخر مشروطاً فلا امتناع له، وحينئذٍ فحيث كان كلّ واحد من الأمر بالأهمّ والأمر بالمهم مطلقاً نرفع اليد عن المهمّ بالمقدار اللّازم في مقام الجمع بينهما، فنحكم بإطلاق الأمر المهمّ في ظرف فعل الأهم، أمّا مع عدم فعل الأهم فالأمر بالمهمّ على حاله {فو قيل بلزوم الأمر في صحّة العبادة ولم يكن في الملاك كفاية} كما هو مبنى بعض {كانت العبادة} المهمّة {مع ترك الأهمّ صحيحة لثبوت الأمر بها في هذا الحال} أي: حال ترك الأهمّ

ص: 231

كما إذا لم تكن هناك مضادّة.

فصل: لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

خلافاً لما نسب إلى أكثر مخالفينا(1)؛ ضرورة أنّه لا يكاد يكون الشّيء مع عدم علّته - كما هو المفروض هاهنا - فإنّ الشّرط من أجزائها، وانحلالُ المركّب بانحلال بعض أجزائه ممّا لا يخفى.

___________________________________________

{كما إذا لم تكن هناك مضادّة} أصلاً ولكن قد علمت أنّ الترتّب ليس بصحيح، فإنّه غير رافع لطلب الضدّين في عرض واحد، فلا أمر حينئذٍ بالمهمّ، واللّه الهادي.

[الفصل السّادس في عدم جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه]

المقصد الأوّل: في الأوامر، في عدم جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه

{فصل: لا يجوز أمر الآمر} الحكيم {مع علمهبانتفاء شرطه} يعني شرط الأمر، وليس المراد شرط وجود الأمر ابتداءً، بمعنى أنّه لو لم يكن للمولى الأمر مثلاً لا يأمر، بل المراد شرط المأمور به، فلا يصحّ للمولى أن يقول: (صلّي غداً) مع علمه بأنّها ستحيض.

ثمّ إنّ محلّ الكلام في الشّرائط غير الاختياريّة، أمّا الشّرائط الاختياريّة فإنّه يصحّ من المولى الآمر مع علمه بعدم إتيان المكلّف بشرط المأمور بلا كلام، فإنّه يصحّ تكليف الكفّار والعصاة مع العلم بعدم إرادتهم للإيمان والطاعة الّتي هي شرط لها {خلافاً لما نسب إلى أكثر مخالفينا} فإنّهم جوّزوا الأمر مع انتفاء الشّرط.

وإنّما قلنا بعدم الجواز {ضرورة أنّه لا يكاد يكون الشّيء مع عدم علّته كما هو المفروض هاهنا} إذ بانتفاء الشّرط تنتفي العلّة {فإنّ الشّرط من أجزائها} قطعاً {وانحلال المركّب} كالعلّة المركّبة في ما نحن فيه كما يكون بانتفاء المركّب رأساً كذلك يكون {بانحلال بعض أجزائه} وهذا {ممّا لا يخفى} على أحد.

والحاصل: أنّ الأمر متوقّف على تمكّن المكلّف من المأمور به، إذ مع عدم

ص: 232


1- معالم الدين: 82؛ قوانين الأصول 1: 126.

وكون الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذاتي، بعيد عن محلّ الخلاف بين الأعلام.

نعم، لو كان المراد من لفظ (الأمر) الأمرَ ببعض مراتبه، ومن الضمير الرّاجع إليه: بعضَ مراتبه الأُخر - بأن يكون النّزاع في أنّ أمر الآمر يجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعليّته؟

وبعبارة أُخرى: كان النّزاع في جواز إنشائه

___________________________________________

التمكّن يكون لغواً، والتمكّن متوقّف على تماميّة علّته، والتماميّة لا تكون إلّا بالشرط، فبانتفاء الشّرط تنتفي العلّة وبانتفائها ينتفي التمكّن، فلا يصحّ الأمر.

{و} إن قلت: إنّ الأمر وإن كان لا يوجد إذا انتفى علّته التامّة إلّا أنّه ممكن ذاتاً، فإنّ الامتناع بالغير لا ينافي الإمكان الذاتي، فحينئذٍ يصحّ أن يقال: يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، بمعنى أنّه يجوز في ذاته وإن كان ممتنعاً بالنظر إلى انتفاء شرطه. وبعبارة أُخرى: إنّ الأمر في صورة انتفاء شرطه لا يكون من قبيل شريك الباري، بل من قسم الممكن المعدوم.

قلت: {كون الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذاتي} كما ذكر {بعيد عن محلّ الخلاف بين الأعلام} لبداهة أنّ الأمر بالنظر إلى ذاته ممكن لا مانع منه عقلاً، فالمراد أنّه يمكن وقوعه وفعليته، أم لا {نعم} استثناء عن قوله: «لا يجوز أمر الآمر» الخ {لو كان المراد من لفظ (الأمر)} في العنوان {الأمر ببعض مراتبه} إذ للأمر مراتب أربع: الاقتضاء، والإنشاء، والفعليّة، والتنجّز {ومن الضمير الرّاجع إليه} في قولنا في العنوان: «بانتفاء شرطه» {بعض مراتبه الأُخر} على سبيل الاستخدام {بأن يكون النّزاع في أنّ أمر الآمر يجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعليّته} بأن ينشأ الحكم مع العلم بأنّه لا يصير فعليّاً بالنسبة إلى المكلّف.

{وبعبارة أُخرى كان النّزاع} في المسألة {في جواز إنشائه} أي: إنشاء الأمر

ص: 233

مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعليّة؛ لعدم شرطه - .

لكان جائزاً، وفي وقوعه في الشّرعيّات والعرفيّات غِنىً وكفايةٌ، ولا يحتاج معه إلى مزيد بيان، أو مؤونة برهان.وقد عرفت سابقاً: أنّ داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث والتحريك جدّاً حقيقة، بل قد يكون صوريّاً امتحاناً، وربّما يكون

___________________________________________

{مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعليّة} والبعث {لعدم شرطه لكان جائزاً} جواب «لو» إذ شرط مرتبة الفعليّة لا يلازم شرط مرتبة الإنشاء، فيجوز وجود شرط مرتّبة الإنشاء دون شرط مرتّبة الفعليّة {وفي وقوعه} أي: وقوع الأمر الإنشائي من دون وصوله إلى الفعليّة {في الشّرعيّات} كموارد الطرق والإمارات الّتي هي على خلاف الواقع، فإنّ الواقعيّات محفوظة في مقام الإنشاء ولكنّها لم تصل إلى مرتبة الفعليّة لعدم قيام الحجّة عليها، بل وكالأحكام الإنشائيّة الّتي لم تصل إلى الفعليّة ف-ي أوائ-ل البعثة، بل إلى الآن ممّ-ا أودع عند الحجّة - صلوات اللّه عليه - {والعرفيّات} كالأوامر العامّة للحكومات الّتي تشمل بلفظها جميع الأفراد مع وصولها إلى مرتبة الفعليّة بالنسبة إلى بعض لعدم قيام الحجّة عنده {غِنىً وكفاية} لإثبات إمكان الأمر الإنشائي مع عدم الوصول إلى الفعليّة {ولا يحتاج معه} أي: مع وقوعه في الشّرعيّات والعرفيّات {إلى مزيد بيان أو مؤونة برهان} لأنّ أدلّ الدليل على الشّيء وقوعه في الخارج.

{و} إن قلت: كيف يصحّ الإنشاء مع علم الآمر بعدم وصوله إلى المرتبة الفعليّة، إذ الإنشاء إنّما هو مقدّمة، فلو علم المولى بعدم ذيها لم يصحّ الإنشاء.

قلت: {قد عرفت سابقاً أنّ داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث والتحريك جدّاً حقيقة} فليس صحّة الإنشاء دائرة مدار الفعليّة، بحيث لولا الفعليّة لم يكن إنشاء {بل قد يكون} الأمر {صوريّاً امتحاناً} فهنا إنشاء ولا فعليّة {و}كذلك {ربّما يكون}

ص: 234

غير ذلك.

ومنعُ كونه أمراً إذا لم يكن بداعي البعث جدّاً واقعاً. وإن كان في محلّه، إلّا أنّ إطلاق الأمر عليه - إذا كانت هناك قرينة على أنّه بداع آخر غير البعث - توسّعاً ممّا لا بأس به أصلاً، كما لا يخفى.

وقد ظهر بذلك حال ما ذكره الأعلام(1) في المقام من النّقض والإبرام. وربّما يقع به التصالح بين الجانبين، ويرتفع النّزاع من البين، فتأمّل جدّاً.

___________________________________________

الأمر ل- {غير ذلك} من التهديد والتعجيز والتسخير، فإنّها كلّها إنشاء ولا فعليّة.

{و} إن قلت: لنا {منع كونه} أي: الإنشاء الامتحاني ونحوه {أمراً إذا لم يكن بداعي البعث جدّاً واقعاً} فلا إنشاء للأمر حيث لا فعليّة.

قلت: {وإن كان} ما ذكرتم من أنّ الامتحان ونحوه ليس بأمر حقيقي {في محلّه} إذ الأمر هو ما يكون بداعي الجدّ {إلّا أنّ إطلاق الأمر عليه - إذا كانت هناك قرينة على أنّه بداع آخر غير البعث} والجدّ - {توسّعاً} ومجازاً {ممّا لا بأس به أصلاً} وقوله: «إذا كانت» الخ شرط محقّق للموضوع، يعني أنّه يجوز إطلاق الأمر على غير ما كان بداعي الجدّ، ويتبيّن أنّه ليس بداعي الجدّ بالقرينة {كما لا يخفى} على المتأمّل.

{وقد ظهر بذلك} الّذي ذكرنا من تحرير محلّ النّزاع {حالما ذكره الأعلام في المقام من النّقض والإبرام، وربّما يقع به} أي: بما ذكرنا من أوّل الفصل إلى هنا {التصالح بين الجانبين} من يدّعي جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ومن يدّعي عدم جوازه {ويرتفع النّزاع من البين} وذلك بأن يكون مراد من منع ما ذكرناه إلى قولنا: «نعم» ومراد من أجاز ما ذكرناه بعد «نعم» {فتأمّل جيّداً} وراجع كلمات القوم حتّى تعرف أنّ هذا تصالح من غير رضى الطرفين، كما يدلّ عليه

ص: 235


1- قوانين الأصول 1: 124؛ الفصول الغرويّة: 109؛ هداية المسترشدين 2: 605.

فصل: الحقّ أنّ الأوامر والنّواهي تكون متعلّقة بالطبائع دون الأفراد.

ولا يخفى أنّ المراد: أنّ متعلّق الطلب في الأوامر هو صِرف الإيجاد، كما أنّ متعلّقه في النّواهي هو محض الترك، ومتعلّقهما هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود، والمقيّدة بقيود، تكون بها

___________________________________________

كلماتهم في المقام - واللّه العالم - .

[الفصل السابع تعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع]

اشارة

المقصد الأوّل: في الأوامر، تعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع

{فصل} اختلفوا في أنّ متعلّق الأوامر والنّواهي في الأحكام الشّرعيّة نحو (أقيموا الصلاة) (وكاتبوهم) و(لا تشربوا الخمر) ونحوها هل هي الطبائع الكليّة، فطبيعة الصلاة مأمور بها وطبيعة الخمر منهيّ عنها، أم متعلّق الأوامر والنّواهي هي الأفراد الشّخصيّة الخارجيّة حتّى تكون خصوصيّة الأفراد داخلة في حيّز الأمر والنّهي؟

و{الحقّ أنّ الأوامر والنّواهي تكون متعلّقة بالطبائع} الكليّة {دون الأفراد} الشّخصيّة.{ولا يخفى} أنّه ليس المراد من تعلّق الأوامر والنّواهي بالطبائع {أنّ} الطبيعة بما هي متعلّقة، إذ نفس الماهيّة ليست قابلة للجعل، فلا تكون تحت الاختيار حتّى يتعلّق بها الطلب، بل {المراد أنّ متعلّق الطلب في الأوامر هو صرف الإيجاد} فالأمر مركّب من أُمور ثلاثة وهي: طلب وجود الطبيعة. لا أنّه مركّب من أمرين، وهما: طلب الطبيعة {كما أنّ متعلّقه} أي: متعلّق الطلب {في النّواهي هو محض الترك}.

فالنهي أيضاً مركّب من ثلاثة أُمور، وهي: طلب ترك الطبيعة {ومتعلّقهما} أي: متعلّق الإيجاد في الأمر ومتعلّق الترك في النّهي {هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود} ذاتيّة كالحيوان النّاطق مثلاً بالنسبة إلى الإنسان {والمقيّدة بقيود} خارجيّة، كالضاحكيّة بالنسبة إلى الإنسان {تكون} الطبيعة {بها} أي: بسبب هذه

ص: 236

موافقةً للغرض والمقصود، من دون تعلّق غرضٍ بإحدى الخصوصيّات اللّازمة للوجودات، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكناً، لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلاً، كما هو الحال في القضيّة الطبيعيّة في غير الأحكام، بل في المحصورة على ما حقّق في غير المقام.

___________________________________________

المقوّمات والخواص {موافقة للغرض والمقصود} فلو لم يكن الإنسان ناطقاً - فرضاً - أو لم يكن ضاحكاً لم يكن موافقاً للغرض {من دون تعلّق غرض بإحدى الخصوصيّات} الفرديّة {اللّازمة للوجودات} كالطول في زيد، والقصر في عمرو، مثلاً.فقول المولى: (صلّ الظهر) لا يريد إلّا حقيقة الصلاة المحدودة بكذا والمقيّدة بقيد الظهريّة، ولا يريد الخصوصيّات الفرديّة ككونها في هذه الغرفة أو في هذا اللباس أو نحو ذلك {بحيث لو كان الانفكاك عنها} أي: عن الخصوصيّات {بأسرها ممكناً} بأن يأتي بنفس طبيعة صلاة الظهر من دون أيّ خصوصيّة {لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلاً، كما هو الحال في القضيّة الطبيعيّة في غير الأحكام} نحو (الحيوان جنس)، فإنّ المراد أنّ طبيعة الحيوان جنس ولا دخل لخصوصيّات الأفراد في الجنسيّة.

وإن شئت مثّلت له بنحو (الإنسان ناطق) فإنّ المحمول ثابت لطبيعة الإنسان في ضمن أيّ خصوصيّة كان {بل في المحصورة} وهي القسيمة للطبيعة {على ما حقّق في غير المقام} من أنّ المحصورة - أعني: المسورة - إنّما يكون المحمول فيها ثابتاً لطبيعة الموضوع، لكن الطبيعيّة هاهنا جعلت للحاظ الأفراد بحيث يسري الحكم منها إلى الأفراد، فمعنى قولنا: (كلّ إنسان ناطق) أنّ طبيعة الإنسان ذو النّطق، وإنّما الفرق بين الطبيعة والمحصورة هو أنّ الطبيعة لوحظت بشرط لا بحيث لا يسري الحكم إلى الأفراد، والمحصورة أُخذت بشرط شيء بحيث يسري الحكم إلى الأفراد.

ص: 237

وفي مراجعة الوجدان للإنسان غِنىً وكفايةٌ عن إقامة البرهان على ذلك، حيث يرى إذا راجعه أنّه لا غرض له في مطلوباته إلّا نفس الطبائع، ولا نظر له إلّا إليها، من دون نظر إلى خصوصيّاتها الخارجيّة وعوارضها العينيّة، وأنّ نفس وجودها السِّعِيّ - بما هو وجودها - تمامُ المطلوب، وإن كان ذاك الوجود لا يكاد ينفكّ في الخارج عن الخصوصيّة.فانقدح بذلك

___________________________________________

والحاصل: أنّه كما يكون في الطبيعة والمحصورة على نفس الطبيعة لا الأفراد، كذلك الأوامر والنّواهي الشّرعيّة متعلّقان بالطبائع.

{وفي مراجعة الوجدان للإنسان غِنىً وكفايةٌ عن إقامة البرهان على ذلك} الّذي ذكرنا من تعلّقهما بالطبائع دون الأفراد {حيث يرى} الإنسان {إذا راجعه} أي: راجع وجدانه {أنّه لا غرض له في مطلوباته إلّا نفس الطبائع} الموجودة في ضمن الأفراد {ولا نظر له إلّا إليها} أي: إلى تلك الطبائع بأيّ وجود تحقّقت {من دون نظر إلى خصوصيّاتها الخارجيّة وعوارضها العينيّة} فلو أمر عبده بإحضار الماء مثلاً، فليس مطلوبه إلّا نفس طبيعة الماء، من دون نظر إلى خصوصيّة ظرفه وكيفيّة الإتيان به وغيرهما من سائر الخصوصيّات.

نعم، لو قيّده بقيد أراد ذلك من الخصوصيّات دون سائرها، كما لو قال: (جئني بالماء البارد) فإنّ النّظر إلى خصوصيّة البرودة فقط لا غيرها {وأنّ نفس وجودها السّعي بما هو وجودها تمام المطلوب} لا أنّه جزء المطلوب وجزؤه الآخر خصوصيّة الفرد {وإن كان ذاك الوجود} السِّعِيّ المنطبق على الأفراد {لا يكاد ينفكّ في الخارج عن الخصوصيّة} الفرديّة.

ثمّ إنّه قد استدلّ لتعلّق الأوامر والنّواهي بأدلّة أُخر كلّها مخدوشة، كما يظهر ذلك لمن راجع المفصّلات.

{فانقدح بذل-ك} الّذي ذكرن-ا من معنى تعلّق الأوام-ر والنّواهي بالطبائع

ص: 238

أنّ المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد: أنّها بوجودها السِّعِيّ بما هووجودها - قبالاً لخصوص الوجود - متعلّقةٌ للطلب، لا أنّها بما هي هي كانت متعلّقة له - كما ربّما يتوهّم -(1)؛ فإنّها كذلك ليست إلّا هي. نعم، هي كذلك تكون متعلّقة للأمر، فإنّه طلب الوجود، فافهم.

___________________________________________

{أنّ المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد أنّها} أي: الطبائع {بوجودها السِّعِي بما هو وجودها قبالاً لخصوص الوجود} الفردي {متعلّقة للطلب لا أنّها} أي: الطبائع {بما هي هي} طبيعة محضة عارية عن الوجود والعدم {كانت متعلّقة له} حتّى يكون المعنى طلب جعل الماهيّة ماهيّة {كما ربّما يتوهّم، فإنّها} أي: الطبيعة {كذلك} أي: بما هي هي {ليست إلّا هي} لا مطلوبة ولا مبغوضة.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ قوله: «فإنّها» الخ لا دخل له في المطلب، وإنّما الدليل على عدم تعلّق الطلب بالماهيّة ما ذكرنا من أنّه لا معنى لطلب الماهيّة بأن تجعل الماهيّة ماهيّة.

هذا على مقتضى ما ذكره القوم في شرح العبارة، والّذي يسنح بالخاطر أنّ قوله: «فإنّها كذلك»الخ من تتمّة البرهان على عدم تعلّق الطلب بالماهيّة.

توضيحه: أنّ الوجود لو كان داخلاً في معنى الماهيّة صحّ طلب الماهيّة، إذ معنى طلب الماهيّة حينئذٍ طلب وجودها لكن حيث إنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي لا موجودة ولا معدومة. فلا يصحّ طلبها، إذ معنى طلبها حينئذٍ طلب جعلها وجعل الماهيّة ماهيّة محال، كما لا يخفى.

{نعم، هي} أي: الماهيّة {كذلك} أي: من حيث هي {تكونمتعلّقة للأمر، فإنّه} أي: الأمر {طلب الوجود} فيكون معنى الأمر بالماهيّة طلب وجود الماهيّة {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّه لا فرق بين الطلب والأمر، بل الأمر إنّما يدلّ على الطلب

ص: 239


1- الفصول الغرويّة: 125.

دفعُ وهمٍ: لا يخفى أنّ كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلّقاً للطلب، إنّما يكون بمعنى أنّ الطالب يريد صدور الوجود من العبد،

___________________________________________

وليس الوجود داخلاً في معناه.

وإن قلت: إنّ الأمر بالماهيّة لمّا كان غير معقول كان ذلك قرينة عقليّة على أنّ المراد طلب وجودها.

قلنا: مثل ذلك في الطلب.

[دفع وهم]

{دفع وهم} ربّما نسب إلى صاحب الفصول(1) الفرق بين متعلّق الأمر ومتعلّق الطلب.

بيان ذلك: أنّه لا بدّ من اعتبار الوجود في الأمر، إذ لا معنى لطلب نفس الطبيعة، وحينئذٍ فالوجود الّذي لا بدّ من اعتباره إمّا أن يكون مدلول الهيئة، فيكون معنى الأمر طلب الوجود، وإمّا أن يكون مدلول المادّة، فيكون معنى الأمر الطلب فقط.

فعلى الأوّل يلزم أن يكون متعلّق الأمر الكلّي لا الفرد وإلّا لزم تحصيل الحاصل، حيث إنّ فرديّة الطبيعة إنّما هي بانضمام الوجود إليها، فيكون المعنى طلب وجود الموجود وهو محال.

وعلى الثّاني يلزم أن يكون المتعلّق الأفراد، وإلّا فكلّ من الطلب والطبيعة خالٍ عن الوجود وهو منافٍ لما تقدّم من اعتبار الوجود في الأمر.

وهذا الكلام - وإن لم ينطبق على كلام الفصول تمام الانطباق حسب ماراجعناه - ولكن حيث إنّ كلام المصنّف(رحمة الله) مشوّش وإنّما هو بصدد ردّ تحصيل الحاصل فقط لا يهمّنا تحقيق كلامه(رحمة الله).

{لا يخفى أنّ كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلّقاً للطلب إنّما يكون بمعنى أنّ الطالب يريد صدور الوجود من العبد} وإرادة صدور الوجود إمّا متعلّق بالطبيعة، أي:

ص: 240


1- الفصول الغرويّة: 126.

وجعله بسيطاً - الّذي هو مفاد كان التامّة - وإفاضته. لا أنّه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج، كي يلزم طلب الحاصل - كما توهّم -(1)، ولا جعلَ الطلب متعلّقاً بنفس الطبيعة، وقد جُعِل وجودها غاية لطلبها - .

___________________________________________

إرادة صدور وجود الطبيعة، وإمّا متعلّق بالفرد، أي: إرادة صدور وجود الفرد، على الاختلاف.

{و} الحاصل: أنّ الأمر يريد {جعله} أي: جعل المتعلّق {بسيطاً} بمعنى إيجاده قبال جعل المركّب {الّذي هو مفاد كان التامّة} الّتي هي بمعنى الوجود {وإفاضته} عطف على «جعله» فيكون معنى الأمر طلب إيجاد الطبيعة {لا أنّه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج كي يلزم طلب الحاصل كما توهّم} والمتوهّم هو صاحب الفصول كما تقدّم.

والمتحصّل من الجواب هو: أنّ المراد بالوجود الّذي هو مدلول الهيئة الوجود الخارجي، والمراد بالوجود الّذي في الفرد الوجود الذهني، والآمر إنّما يطلب جعل الوجود الذهني خارجيّاً - بمعنى جعل ما تصوّره ممّا كان الوجود الذهنيمرآةً له خارجيّاً - .

ثمّ لا يخفى أنّه يظهر من بعض الشّرّاح أنّ في المقام إشكالين:

الأوّل: لزوم تحصيل الحاصل على كلّ من القول بتعلّقه بالطبائع أو الأفراد.

الثّاني: لزومه على القول بتعلّقه بالفرد دون تعلّقه بالطبيعة.

{و} كذلك {لا} يريد الطالب {جعل الطلب متعلّقاً بنفس الطبيعة وقد جعل وجودها غاية لطلبها} كما اختاره من أورد تحصيل الحاصل على التقرير السّابق - أعني: ما نفيناه بقولنا: لا أنّه يريد الخ - قال: حيث إنّه يلزم لحاظ الوجود في الأمر ولحاظ الترك في النّهي، فلا بدّ أنّ الأمر إنّما يتوجّه إلى الطبيعة الموجودة والنّهي

ص: 241


1- الفصول الغرويّة: 126.

وقد عرفت: أنّ الطبيعة بما هي هي ليست إلّا هي، لا يعقل أن يتعلّق بها الطلب لتوجد أو تترك، وأنّه لا بدّ في تعلّق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها، فيلاحظ وجودها، فيطلبه ويبعث إليه كي يكون ويصدر منه.

هذا بناءً على أصالة الوجود.

___________________________________________

يتوجّه إلى الطبيعة المتروكة، وحيث إنّ هذا طلب الحاصل وهو لغو ومحال عن الحكيم فلا بدّ وأن يكون الأمر متعلّقاً بالطبيعة من حيث هي، وغاية هذا الطلب إيجاد الطبيعة، كما وأنّ النّهي متعلّق بالطبيعة وغايته تركها.

{و} هذا القول أيضاً باطل لما {قد عرفت} من {أنّ الطبيعة بما هي هي ليست إلّا هي} ف- {لا يعقل أن يتعلّق بها الطلب لتوجد} في الأوامر {أو تترك} في النّواهي.

{و} قد تقدّم وجه الاستدلال بهذه القضيّة لعدم تعلّق الطلب بالماهيّة في شرح قوله: «فإنّها كذلك ليست إلّا هي».ثمّ {إنّه} حيث بطل المذهبان - أعني: تعلّق الطلب بالماهيّة الموجودة وتعلّقه بالماهيّة المجرّدة لغاية وجودها - ف- {لا بدّ في تعلّق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها، فيلاحظ وجودها فيطلبه} على نحو ما تقدّم في شرح قوله: «كما توهّم» {ويبعث إليه كي يكون} ويوجد في الخارج {ويصدر منه}.

ولمّا كان في المقام مجال توهّم أراد المصنّف دفع ذلك فقال: {هذا} الّذي ذكرنا - من كون متعلّق الطلب هي الطبيعة بلحاظ وجودها لا الطبيعة فقط - {بناءً على} القول ب- {أصالة الوجود} ظاهر. فالطبيعة باعتبار الوجود متعلّق الطلب، ومعنى أصالة الوجود أنّ جميع الأشياء عبارة عن الوجودات فهي الصادرة عن الفاعل حقيقة والماهيّة عبارة عن حدود الوجود وأمر اعتباريّ محض، فهي مميّز للوجودات بعضها عن بعض، ومقابل هذا القول القول بأصالة الماهيّة فهي الصادر حقيقة والوجود أمر اعتباري. قال المحقّق السّبزواري عند شرح قوله:

ص: 242

وأمّا بناءً على أصالة الماهيّة، فمتعلّق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضاً، بل بما هي بنفسها في الخارج، فيطلبها كذلك، لكي يجعلها بنفسها من الخارجيّات والأعيان الثّابتات، لا بوجودها،

___________________________________________

«إنّ الوجود عندنا أصيلُ***

دليلُ مَنْ خَالَفَنَا عَليلُ»

ما لفظه: «اعلم أنّ كلّ ممكن زوج تركيبيّ له ماهيّة ووجود، والماهيّة الّتي يقال لها الكلّي الطبيعي ما يقال في جواب «ما هو» ولم يقل أحد من الحكماء بأصالتهما معاً، إذ لو كانا أصليّين لزم أن يكون كلّ شيء شيئين متباينين، ولزمالتركيب الحقيقي في الصادر الأوّل، ولزم أن لا يكون الوجود نفس تحقّق الماهيّة وكونها وغير ذلك من التوالي الفاسدة، بل اختلفوا على قولين:

أحدهما: أنّ الأصل في التحقّق هو الوجود والماهيّة اعتباريّة ومفهوم حاكٍ عنه متّحد به، وهو قول المحقّقين من المشّائيّين وهو المختار كما في النّظم: «إنّ الوجود عندنا أصيل».

وثانيهما: أنّ الأصل هو الماهيّة والوجود اعتباري، وهو مذهب شيخ الإشراق شهاب الدين السّهروردي»(1).

{وأمّا بناءً على} القول ب- {أصالة الماهيّة، فمتعلّق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضاً، بل بما هي بنفسها في الخارج} فالمطلوب هو الطبيعة لكن لا بما هي هي، بل بلحاظ خارجيّتها {فيطلبها كذلك} أي: بما هي بنفسها {لكي يجعلها بنفسها من الخارجيّات والأعيان الثّابتات}.

ولا يخفى أنّه ليس مراده بقوله: «لكي» الخ ما نفاه من عدم كون الوجود غاية، بل المراد أنّ الخارجيّة ملحوظة في متعلّق الطلب كما أنّ الوجود ملحوظ فيه، غاية الأمر أنّ الطبيعة ملحوظة بخارجيّتها {لا بوجودها} على أصالة الماهيّة

ص: 243


1- شرح المنظومة 2: 64.

كما كان الأمر بالعكس على أصالة الوجود.

وكيف كان، فيلحظ الآمِرُ ما هو المقصود من الماهيّة الخارجيّة أو الوجود، فيطلبه ويبعث نحوه، ليصدر منه، ويكون ما لم يكن، فافهم وتأمّل جيّداً.

فصل:

___________________________________________

{كما كان الأمر بالعكس} أي: إنّ الطبيعة ملحوظة بوجودها {على أصالة الوجود}.

قال العلّامة المشكيني(رحمة الله) في تعليقه على قول المصنّف: «وأمّا بناءً على أصالة الماهيّة» الخ، ما لفظه: «دفع لما قد توهّم من ابتناء كون المتعلّق للطلب الماهيّة أو الوجود على القولين من أصالة الماهيّة وأصالة الوجود، وأنّه يتعيّن على الأوّل القول بالطبيعة، وعلى الثّاني القول بالوجود.

وحاصل الدفع: أنّ كلا الفريقين متّفقان على أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي، فما لم يفض عليه الوجود أو الخارجيّة - وهي الحيثيّة المكتسبة من الجاعل - ليست مطلوبة ولا مبغوضة ولا غير ذلك، فلا وجه للقول بتعلّقه بها ولو مع كون وجودها غاية لطلبها بناءً على كلا القولين»(1).

{وكيف كان، فيلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهية الخارجيّة} لو كان من القائلين بأصالة الماهيّة {أو الوجود} لو كان من القائلين بأصالة الوجود {فيطلبه ويبعث نحوه ليصدر} ذلك المقصود {منه} أي: من المكلّف {ويكون} أي: ليكون في الخارج ويوجد {ما لم يكن، فافهم وتأمّل جيّداً}.

ثمّ إنّ عنوان المبحث - وإن كان في الأوامر والنّواهي - ولكن النّزاع يجري في المستحبّ والمكروه طابِقَ النَّعْلِ بالنّعل.

[الفصل الثامن هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب]

المقصد الأوّل: في الأوامر ، هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب

{فصل} اعلم أنّ المركّب يرتفع بأحد من ثلاثة أُمور: الأوّل: رفع أحدجزئيه،

ص: 244


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 64.

إذا نُسخ الوجوب فلا دلالة لدليل النّاسخ ولا المنسوخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعمّ، ولا بالمعنى الأخصّ، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الأحكام؛ ضرورةَ أنّ ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية - بعد ارتفاع الوجوب واقعاً - ممكنٌ، ولا دلالةَ لواحدٍ من دليلَيِ النّاسخ والمنسوخ - بإحدى الدلالات - على تعيين واحد منها،

___________________________________________

الثّاني: جزئه الآخر، الثّالث: رفع كلا جزئيه.

إذا عرفت ذلك قلنا: ذهب جماعة إلى أنّ الوجوب إذا نسخ - كما لو أوجب إكرام العلماء ثمّ قال: (نسخت الوجوب) - كان ذاك الحكم بعد النّسخ جائزاً، واستدلّوا لذلك بأنّ الوجوب مركّب من جواز الفعل مع المنع من الترك، والنّسخ إنّما رفع المنع من الترك قطعاً، أمّا الجواز فالأصل بقاؤه، والمصنّف(رحمة الله) لم يرتض هذا المذهب؛ لأنّ الوجوب عنده بسيط كما تقدّم، ولذا قال: {إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل النّاسخ} كقول المولى: (نسخت الوجوب) {ولا} لدليل {المنسوخ} كقول المولى: (أكرم العلماء) {على بقاء الجواز بالمعنى الأعم} الّذي هو جنس للمستحبّ والمكروه والإباحة والوجوب {ولا} لبقاء الجواز {بالمعنى الأخصّ} الّذي هو الإباحة الشّرعيّة مقابل الأحكام الأربعة الأُخر {كما لا دلالة لهما} أي: للناسخ والمنسوخ {على ثبوت غيره} أي: غير الجواز {من الأحكام} الثّلاثة الأُخر، أي: الاستحباب والكراهة والحرمة {ضرورة أنّ ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب} بالنسخ {واقعاً ممكن}خبر «أنّ» {ولا دلالة لواحد من دليلي النّاسخ والمنسوخ بإحدى الدلالات} الثّلاث {على تعيين واحد منها} أي: من تلك الأحكام الأربعة:

أمّا عدم دلالة دليل النّاسخ فلأنّ النّاسخ نفي ولا دلالة للنفي على إثبات غيره، نعم، دليل النّاسخ بضميمة ما هو معلوم من عدم خلوّ الواقع عن الحكم يفيد وجود أحدها، ولكن هذا غير ما نحن فيه.

ص: 245

كما هو أوضح من أن يخفى؛ فلا بدّ للتعيين من دليل آخر.

ولا مجال لاستصحاب الجواز إلّا بناءً على جريانه في القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّي،

___________________________________________

وأمّا عدم دلالة دليل المنسوخ لأنّه كان بسيطاً، وقد ارتفع ولا دلالة له على ما بعد الارتفاع، بل نقول على فرض تركيب الوجود أيضاً لا يعلم بقاء الجواز؛ لأنّ الجواز الّذي كان في ضمن الوجوب كان متقوّماً بفصله الّذي هو المنع من الترك، وبارتفاع الفصل يرتفع حصّة الجنس الّذي هو معه؛ لأنّهما موجودان بوجود واحد {كما هو أوضح من أن يخفى} فتدبّر، وحينئذٍ {فلا بدّ للتعيين من دليل آخر}.

{و} إن قلت: سلّمنا عدم دلالة دليلي النّاسخ والمنسوخ، ولكن الاستصحاب كافٍ لإثبات الجواز، فإنّ الفعل حين كان واجباً كان جائزاً، فإذا نسخ وجوبه يشكّ في ارتفاع جوازه فيستصحب بقاؤه.

قلت: {لا مجال لاستصحاب الجواز إلّا بناءً على جريانه} أي: الاستصحاب {في القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّي}.

اعلم انّ الشّيخ+ ذكر في التنبيه الأوّل من تنبيهات الاستصحاب أنّاستصحاب الكلّي على ثلاثة أقسام، وإليك لفظه: «إنّ المتيقّن السّابق إذا كان كلّيّاً في ضمن فرد وشكّ في بقائه، فإمّا أن يكون الشّكّ من جهة الشّكّ في بقاء ذلك الفرد، وإمّا أن يكون من جهة الشّكّ في تعيين ذلك الفرد وتردّده بين ما هو باق جزماً وبين ما هو مرتفع كذلك، وإمّا أن يكون من جهة الشّكّ في قيام فرد آخر مقامه مع الجزم بارتفاع ذلك الفرد»(1).

ثمّ قسّم القسم الثّالث إلى قسمين بما لفظه: «فهو على قسمين؛ لأنّ الفرد الآخر

ص: 246


1- فرائد الأصول 3: 191.

وهو ما إذا شكّ في حدوث فرد كلّيّ، مقارناً لارتفاع فرده الآخر.

وقد حقّقنا في محلّه(1): أنّه لا يجري الاستصحاب فيه

___________________________________________

إمّا أن يحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم حاله، وإمّا يحتمل حدوثه بعده إمّا بتبدّله إليه، وإمّا بمجرّد حدوثه مقارناً لارتفاع ذلك الفرد»(2)،

انتهى.

مثال الأوّل: ما لو كان هنا زيد ثمّ شككنا في بقاء الحيوان لشكّنا في بقاء زيد.

ومثال الثّاني: ما لو علمنا بوجود الحيوان في الدار إمّا في ضمن الفيل الّذي هو باقٍ جزماً وإمّا في ضمن البقّ الفاني جزماً، ثمّ شككنا في بقاء الحيوان من جهة عدم علمنا بذلك الفرد وتردّده بين الباقي جزماً والفاني جزماً.

ومثال الثّالث: ما لو وجد الإنسان في ضمن زيد ثمّ نعلم بذهاب زيد ونشكّ في بقاء الإنسان لاحتمال وجود عمرو حال وجود زيد.

ومثال الرّابع: ما لو وجد السّواد في ضمن السّواد الشّديد ثمّ علمنا بانعدام السّواد الشّديد وشككنا في بقاء السّواد لاحتمال حدوث سواد آخر بعد زوال ذلكالسّواد أو تبدّل ذلك السّواد الشّديد بالسواد الضعيف.

إذا عرفت ما تقدّم قلنا: إنّ إجراء الاستصحاب لإثبات الجواز غير تامّ؛ لأنّه من القسم الثّالث {وهو ما إذا شكّ في حدوث فرد} من أفراد ال- {كلّيّ مقارناً لارتفاع فرده الآخر، وقد حقّقنا في محلّه} في باب الاستصحاب من الجلد الثّاني {أنّه لا يجري الاستصحاب فيه} وما نحن فيه من استصحاب القسم الثّالث؛ لأنّ الجواز كلّيّ ولا يتحقّق إلّا في بعض أحد أفراده الأربعة - أي: الوجوب والاستحباب والإباحة والكراهة - فإذا كان ثابتاً في ضمن الوجوب ثمّ علمنا بارتفاع الوجوب واحتمل ثبوت هذا الكلّي - أي: الجواز في ضمن فرده الآخر - كالإباحة مقارناً

ص: 247


1- في التنبيه الثّالث من تنبيهات الاستصحاب راجع الوصول إلى كفاية الأصول 5: 112-113.
2- فرائد الأصول 3: 195.

ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القويّة أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع، بحيث عدّ عرفاً أنّه باقٍ، لا أنّه أمرٌ حادثٌ غيرُه.

ومن المعلوم: أنّ كلّ واحد من الأحكام مع الآخر - عقلاً وعرفاً - من المباينات والمتضادّات، غير الوجوب والاستحباب؛ فإنّه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشّدّة والضعف عقلاً، إلّا أنّهما متباينان عرفاً، فلا مجال للاستصحاب إذا شكّ في تبدّل أحدهما بالآخر؛

___________________________________________

لارتفاع الفرد الأوّل لا يجري استصحاب الكلّي حتّى يثبت الجواز.

نعم، يجري الاستصحاب في صورة من صور القسم الثّالث، وهو الّذي أشار إليه بقوله: {ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القويّة أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع}.

مثال الأوّل: ما لو جعلنا الماء المالح على النّار حتّى وصل إلى الغليان ثمّعلمنا بذهاب تلك الملوحة الضعيفة وشككنا في حدوث الملوحة الشّديدة أو زوال الملوحة أصلاً، فإنّه يستصحب بقاء الملوحة في الجملة.

ومثال الثّاني: ما تقدّم من زوال السّواد الشّديد واحتمال بقاء السّواد الضعيف {بحيث عدّ عرفاً} لا بالدقّة العقليّة {أنّه باق لا أنّه أمر حادث غيره} أي: غير المرتفع.

{ومن المعلوم أنّ كلّ واحد من الأحكام} الخمسة {مع الآخر عقلاً وعرفاً من المباينات والمتضادّات} فلو ذهب أحدها وشكّ في حدوث الآخر لم يجر استصحاب الجامع الكلّي، وهذا التباين في {غير الوجوب والاستصحاب} في كمال الظهور، وأمّا فيهما {فإنّه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشّدّة والضعف} بيان لتفاوت المرتبة {عقلاً} لأنّ العقل يرى الوجوب عبارة عن الطلب الأكيد، والاستصحاب عبارة عن الطلب الضعيف {إلّا أنّهما متباينان عرفاً فلا مجال للاستصحاب} بتوهّم كفاية حكم العقل بتفاوت مرتبتهما {إذا شكّ في تبدّل أحدهما بالآخر} كالشكّ في تبدّل الاستحباب بالوجوب أو العكس

ص: 248

فإنّ حكم العرف ونظره يكون متّبعاً في هذا الباب.

فصل:

___________________________________________

{فإنّ حكم العرف ونظره يكون متّبعاً في هذا الباب} أي: باب الاستصحاب، فالموضوع العرفي إذا كان واحداً جاز الاستصحاب دون الموضوع الشّرعي والعقلي.

تنبيه: وإن لم يكن مرتبطاً بالمقام تمام الارتباط قال في الفصول: «اعلم أنّه قد اشتهر في العبائر والألسنة أنّ الأحكام الشّرعيّة لا تبتني على التدقيقات الحكميّةوالعقليّة، بل تتنزّل على حسب الأفهام العرفيّة، ولهذا الكلام تحقيق، وهو أنّ من الأفراد والأجزاء ما يكون فرديّته وجزئيّته بحسب العقل دون العرف حتّى أنّهم يفهمون من ألفاظها في المحاورات ما عدا ذلك الفرد وذلك الجزء، كما في لون النّجس إذا تخلّف في جسم طاهر، فإنّه لا ينفكّ عن أجزاء صغار متخلّفة من ذلك في ذلك النّجس بناءً على امتناع انتقال العرض وإنّ حصوله ليس بالإعداد، وعلم ذلك في خصوص مورد، كما في الدخان المتصاعد عن النّجس والبخار الحاصل منه، فإنّهما لا ينفكّان عن أجزاء متصاغرة جدّاً من العين النّجسة عند التحقيق والتدقيق إلى غير ذلك، مع أنّ أهل العرف لا يعدّونها أجزاءً منها.

ففي مثل ذلك لا يحمل اللفظ إلّا على حسب ما يتفاهمه أهل العرف، وقس على ذلك الحال في نظائره، كوحدة الموضوع وتعدّده وبقائه وانعدامه في جريان الاستصحاب وعدمه إلى غير ذلك، وليس المراد أنّ التدقيقات العقليّة إذا قضت بامتناع شيء لم يعبأ بها لمخالفة أهل العرف لها، فإنّ ذلك ربّما يؤدّي إلى هدم أساس الشّريعة»(1)، انتهى.

[الفصل التاسع الواجب التخييري]

المقصد الأوّل: في الأوامر، الواجب التخييري

{فصل} في تحقيق الحال في الواجب التخييري، وحيث إنّ فيه إشكالاً أراد

ص: 249


1- الفصول الغرويّة: 108.

إذ تعلّق الأمر بأحد الشّيئين أو الأشياء:

ففي وجوب كلّ واحد على التخيير(1) - بمعنى عدم جواز تركه إلّا إلى بدل - .

___________________________________________

المصنّف(رحمة الله) دفع ذلك.أمّا الإشكال فهو ما أشار إليه المحقّق الرّشتي(رحمة الله) في شرح قوله: {إذا تعلّق الأمر بأحد الشّيئين أو الأشياء} بما لفظه: «فقد يستشكل هناك في متعلّق الوجوب، حيث إنّ حقيقة الوجوب متقوّمة بالمنع من الترك والواجب التخييري يجوز تركه في الجملة، كما أنّه يستشكل في الكفائي والموسّع حيث إنّه يجوز تركه لبعض المكلّفين في الأوّل وفي بعض من الزمان في الثّاني.

وتوضيح الإشكال في المسألة: أنّ متعلّق الوجوب إمّا كلّ واحد واحد من الأفعال المعيّنة، أو المجموع بما هو مجموع، أو واحد معيّن منها، أو غير معيّن، والكلّ باطل:

أمّا الأوّلان، فللزوم عدم حصول الامتثال بإتيان واحد منها، وهو باطل إجماعاً.

وأمّا الثّالث، فلاختصاص الوجوب حينئذٍ بذلك الفعل، فتعيّن الإتيان به دون غيره.

وأمّا الرّابع، فللزوم عدم حصول الامتثال بكلّ واحد من تلك الأفعال وإبهام المتعلّق حسب الفرض، فما أتى به لا يكون مأموراً به وما أمر به لم يؤت به، فلا محيص عن هذا الإشكال إلّا بتعيين متعلّق الوجوب بحيث ترفع المنافاة الّتي يترائى بين الوجوب وجواز الترك»(2)،

{ففي وجوب كلّ واحد} واحد {على التخيير، بمعنى عدم جواز تركه إلّا إلى بدل} فهو سنخ من الوجوب يتصف به كلّ واحد

ص: 250


1- العدة في أصول الفقه 1: 220.
2- شرح كفاية الأصول 1: 194.

أو وجوب الواحد لا بعينه(1).أو وجوب كلّ منهما مع السّقوط بفعل أحدهما(2).

أو وجوب المعيّن عند اللّه(3)،

___________________________________________

من الفردين أو الأفراد، ولكن ليس اتصاف كلّ واحد بالوجوب كاتصاف الواجب التعييني به، فإنّ المولى لا يرضى بترك الواجب التعييني. وأمّا هنا فالمولى لا يرضى بترك كليهما معاً ويرضى بترك أحدهما.

{أو وجوب الواحد لا بعينه} بمعنى الكلّي المنتزع الّذي يشمل كلّ واحد على نحو البدل.

والفرق بين هذا القول والقول الأوّل أنّ التخيير على هذا عقليّ والخطاب الشّرعي بالنسبة إلى الكلّي الواحد، بخلاف الأوّل، فالتخيير بينهما شرعيّ والخطاب الشّرعي بالنسبة إلى كلّ واحد منهما. مثلاً: قد يقول المولى: (جئني بإناء الماء) والحال أنّ الإناء في الخارج اثنان، فهنا خطاب واحد بالكلّي والتخيير بين فرديه عقليّ، وقد يقول: (جئني بهذا الإناء أو ذاك الإناء) فالخطاب اثنان والتخيير شرعيّ.

{أو وجوب كلّ منهما مع السّقوط بفعل أحدهما} فكلا الطرفين واجب تعيينيّ لكن المسقط أحدهما، والفرق بينه وبين الأوّلين ظاهر {أو وجوب المعيّن عند اللّه} - تعالى - .

مثلاً: يعلم اللّه أنّ زيداً يختار الإطعام، فالواجب على زيد واقعاً هو الإطعام، وهكذا يعلم انّ عمراً يختار الصيام فالواجب على عمرو واقعاً هو الصيام، ويظهر

ص: 251


1- الإحكام في أصول الأحكام 1: 100، حيث قال: إنه مذهب الفقهاء والأشاعرة.
2- وهو ما ذهب إليه السيد المرتضى في الذريعة 1: 88.
3- المحصول 2: 160.

أقوالٌ:

والتحقيق أن يقال: إنّه إن كان الأمر بأحد الشّيئين. بملاك أنّه هناك غرض واحد يقوم به كلّ واحد منهما - بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض، ولذا يسقط به الأمر - ، كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليّاً لا شرعيّاً؛

___________________________________________

من بعض المحشّين تفسير هذا القول بغير ما فسّرناه.

{أقوال}: مبتدأ خبره قوله سابقاً: «ففي وجوب» الخ.

{والتحقيق} في المقام {أن يقال}: إنّ الأمر كما كان ناشئاً عن الغرض فالغرض في الواقع وإن كان واحداً كرفع العطش الحاصل بكلّ واحد من الإناءين كان الجامع بين الفردين واجباً، وإن كان الغرض متعدّداً كما لو أراد المولى رفع عطشه أو إنقاذ ولده، فالوجوب هناك سنخ غير سنخ الوجوب العيني له آثار خاصّة من جهة الترك إلى بدل ونحوه.

هذا مجمل المذهب المختار وتفصيله: {إنّه إن كان الأمر بأحد الشّيئين بملاك أنّه هناك} في الواقع {غرض واحد} كرفع العطش - مثلاً - وكان ذلك الغرض بحيث {يقوم به} ويؤتيه {كلّ واحد منهما} أي: من الواجبين التخييريّين كإناء الماء وإناء السّكنجبين {بحيث إذا أتى} المكلّف {بأحدهما حصل به تمام الغرض} بأن ارتفع عطش المولى رأساً {ولذا} أي: لحصول الغرض {يسقط به} أي: بأحدهما {الأمر} المتوجّه إليهما تخييراً {كان الواجب في الحقيقة} والواقع {هو الجامع بينهما} لا أنّ كلّ واحد منهما بخصوصه واجب في قبالالآخر {وكان التخيير بينهما بحسب الواقع} ونفس الأمر {عقليّاً لا شرعيّاً}.

والفرق بينهما أنّ التخيير الشّرعي هو الّذي أمر الشّارع بكلّ واحد منهما، بحيث لا يكون بين الفردين جامع، والتخيير العقلي هو ما كان هناك جامع واحد

ص: 252

وذلك لوضوح أنّ الواحد لا يكاد يصدر من اثنين بما هما اثنان، ما لم يكن بينهما جامع في البين؛ لاعتبار نحوٍ من السّنخيّة بين العلّة والمعلول.

___________________________________________

متعلّق للغرض والمولى أمر بذلك، فيحكم العقل بالتخيير بين أفراد ذلك الجامع، كما لو أمر المولى بعتق رقبة، فإنّ التخيير بين أفرادها عقليّ لا شرعيّ، ثمّ إنّ المولى قد يبيّن الأفراد لجهل العبد بكونها من أفراد المكلّف به، فيكون التخيير عقليّاً أيضاً والخطاب الشّرعي إرشاديّ لا مولوي، وعلى هذا فإطلاق التخيير الشّرعي على هذا القسم من التخيير مجاز، فتدبّر.

{وذلك} أي: ما ذكرنا من لزوم كون الواجب هو الجامع في مثل هذا المقام(1) {لوضوح أنّ الواحد لا يكاد يصدر من اثنين} فرفع العطش الّذي هو الغرض من الأمر لا يكاد يحصل من الماء والسّكنجبين {بما هما اثنان} لا جامع بينهما، فإنّ الاثنين {ما لم يكن بينهما جامع في البين} لا يعقل أن يؤثّرا في شيء واحد، بل لا بدّ وأن يكون بينهما جامع حتّى يكون تأثير كلّ واحد منهما في ذلك الغرض باعتبار ذلك الجامع، ككون كلّ من الماء والسّكنجبين بارداً ومائعاً.وإنّما قلنا بلزوم الجامع {لاعتبار نحو من السّنخيّة بين العلّة والمعلول}.

توضيح ذلك: أنّ المعلول الواحد على نوعين:

الأوّل: الواحد بالنوع، وهذا لا مانع من جواز استناده إلى المتعدّد، كالحرارة الحاصلة بالنار وبالحركة وبالغضب ونحوها.

الثّاني: الواحد الشّخصي، وهذا القسم من المعلول يمتنع استناده إلى علّتين مستقلّتين، وهذا على قسمين:

الأوّل: أن تكون العلّتان مجتمعتين، كأن تستند الحرارة الشّخصيّة بالنار وبالحركة بأن يؤثّر كلّ واحد منهما مستقلّاً.

ص: 253


1- الّذي كان الغرض واحداً.

وعليه فجَعَلَهُما متعلّقين للخطاب الشّرعي، لبيان أنّ الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.

___________________________________________

وجه الامتناع - كما قال بعضهم - أنّه لا بدّ من كون شيء أثراً ومعلولاً لشيء آخر من خصوصيّة كامنة في العلّة بها تستدعي العلّة معلولاً خاصّاً، وتلك الخصوصيّة هي السّنخيّة اللّازمة بين الأثر والمؤثّر، وإلّا يلزم جواز صدور كلّ شيء من كلّ شيء، والسّنخيّة بالمعنى المذكور ضروريّة عند العقل لا حاجة فيها إلى تجشّم الاستدلال عليها. وعلى هذا فلو اجتمعت العلّتان كان لكلّ منهما جزء التأثير فتخرجان عن الاستقلال، أو كان التأثير لأحدهما فقط وتكون الآخر كالحجر في جنب الإنسان.

الثّاني: أن تكون العلّتان متعاقبتين، كأن تستند الحرارة الشّخصيّة إلى النّار في السّاعة الأُولى ثمّ عند انعدام النّار يخلفها علّة أُخرى كالحركة مثلاً، وتكون الحرارة في البقاء مستندة إلى الحركة.

وجه الامتناع ما قاله البعض المتقدّم من أنّه يلزم استناد المعلول الشّخصيإلى الجامع بين العلّة المرتفعة والعلّة الحادثة، والجامع ليس من سنخ حقيقة الوجود، والمفروض أنّ المعلول من سنخ الوجود الخارجي، ولازمه كون المعلول أقوى وجوداً وتحصيلاً من العلّة، وهذا ضروريّ البطلان.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا وإن كان بعضه ضروريّاً ولكن بعضه الآخر موضع تأمّل، فتدبّر.

{وعليه} أي: بناءً على كون الواجب هو الجامع {فجعلهما متعلّقين للخطاب الشّرعي} ليس لأجل أنّ الخطاب لخصوصيّة كلّ واحد منهما، بل {لبيان أنّ الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين} وحيث إنّ العقل في كثير من الموارد لا يلتفت إلى أفراد الجامع أمر الشّارع بكلّ واحد منهما إرشاداً للعقل إلى أفراد ذلك

ص: 254

وإن كان بملاك أنّه يكون في كلّ واحد منهما غرضٌ لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه، كان كلّ واحد واجباً بنحو من الوجوب،

___________________________________________

الجامع، فليس التخيير تخييراً شرعيّاً بل تخييراً عقليّاً كشف عنه الشّارع.

ولا يخفى أنّه لو أبدل المصنّف(رحمة الله) قوله: «لبيان أنّ الواجب» الخ، بقولنا: «لأنّ العقل لا يدرك أفراد الجامع لو أمر بذلك الجامع» لكان أحسن، إذ علّة توجّه الخطاب الأفراد ليس هو بيان الجامع، بل هو لبيان الأفراد. نعم، إذا علم وحدة الغرض كان الأمر بالأفراد كاشفاً عن الجامع، فتدبّر.

هذا كلّه في ما لو كان الأمر بأحد الشّيئين بملاك غرض واحد {وإن كان} الأمر بأحدهما {بملاك أنّه يكون في كلّ واحد منهما} أي: من الفردين {غرض} غير الغرض من الآخر، كما مثّلنا من أنّالمولى يأمر بإتيان الماء لرفع عطشه أو الإتيان بالرّشا لإنقاذ ولده الغريق.

إن قلت: إذا كانت المصلحة في كلّ منهما ملزمة فلم يأمر بهما معاً، وإن كانت في أحدهما ملزمة كان الأمر بالآخر لغواً؟

قلت: المصلحة في كلّ منهما ملزمة وإنّما لم يأمر بهما لأحد أمرين:

الأوّل: أنّه كان الغرض من أحدهما {لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه} كما لو يموت المولى مع تهيئة الرّشا لإنقاذ الولد ويموت الولد مع تهيئة الماء للمولى.

الثّاني: يلاحظ مشقّة العبد كما إذا كان الغرض في كلّ منهما ملزماً في حدّ نفسه ولكن في الإتيان بهما مشقّة شديدة على العبد، وحينئذٍ يأمر بهما على نحو التخيير لعدم ترجيح أحدهما على الآخر حتّى يأمر به {كان كلّ واحد} من الشّيئين {واجباً} بخصوصه لا باعتبار الجامع {بنحوٍ من الوجوب} وهذا الوجوب التخييري الشّرعي لا التعييني، إذ الوجوب التعييني يتبع وجود الغرض

ص: 255

يستكشف عنه تبعاته، من: عدم جواز تركه إلّا إلى الآخر، وترتّب الثّواب على فعل الواحد منهما، والعقاب على تركهما.

فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقاً ولا مفهوماً، كما هو واضح،

___________________________________________

اللّازم غير المزاحم بالآخر أو بمشقّة، والمفروض هنا وجود الغرض فيهما لكن أحدهما لا يتأتّى مع الآخر أو المشقّة أوجبت عدم إيجاب كليهما تعييناً.

{يستكشف عنه} أي: عن هذا النّحو من الوجوب {تبعاته} فاعل «يستكشف» أي: إنّ آثار هذا الوجوب {من عدم جواز تركه إلّا إلى الآخر، و} من {ترتّب الثّواب على فعلالواحد منهما، و} من ترتّب {العقاب على تركهما} معاً، تدلّ(1)

على نحو هذا الوجوب وأنّه ليس من قبيل التعييني.

ثمّ هل يترتّب ثوابان على فعل كليهما أو ثواب واحد أو لا ثواب ولا عقاب أو يترتّب العقاب، وعلى تقدير ترك كليهما هل يترتّب عقابان أو عقاب واحد. والعقاب الواحد على هذا أو ذاك أو على ترك الجامع؟ احتمالات وفي تفصيلها طول.

{فلا وجه في مثله} أي: في مثل ما تعلّق التكليف بأحد الأمرين على سبيل التخيير مع تعدّد الملاك والغرض {للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقاً} أي: الفرد المنتشر {ولا مفهوماً} أي: الواحد لا بعينه المفهومي {كما هو واضح} أمّا عدم تعلّق التكليف بأحدهما المصداقي فلعدم إمكان امتثاله؛ لأنّ ما في الخارج مصداق هذا ومصداق ذاك وليس في الخارج شيء يصدق عليه أحدهما.

وأمّا عدم تعلّق التكليف بأحدهما المفهومي فلعدم كون هذا العنوان من العناوين

ص: 256


1- خبر «إنّ آثار هذا الوجوب».

___________________________________________

المحسنة، إذ الحسن هو عنوان إتيان الماء - مثلاً - لا عنوان أحدهما، مضافاً إلى أنّ هناك إشكالات أُخر مذكورة في المفصّلات.

وحيث كان هنا مظنّة إشكال دفعه المصنّف(رحمة الله) في تعليقة له على قوله: «يكون الواجب» الخ. ونحن نذكر الإشكال أوّلاً والتعليقة مع توضيح مختصرثانياً.

أمّا الإشكال فحاصله: أنّه لا مانع في كون الواجب أحدهما المفهومي؛ لأنّ المقتضي للإيجاب إنّما يقتضي إيجاب أحدهما لا بعينه لفرض ترتّب غرض على كلّ واحد منهما غير الغرض المترتّب على الآخر.

فإن قلت: الوجوب صفة معيّنة، فلا يعقل تعلّقه بأمر مبهم.

قلت: العلم مع كونه من الصفات الحقيقيّة يصحّ تعلّقه بأمر مردّد كالعلم الإجمالي، فتعلّق الوجوب الّذي هو صفة اعتباريّه بأمر مردّد بطريق أولى.

وأمّا الجواب فحاصله: أنّ مجرّد إمكان هذا النّحو من الملاك لا يصحّح تعلّق الوجوب بالمردّد، إذ البعث إلى المردّد لا يكون إلّا لإحداث الداعي في نفس العبد ليأتي بالمردّد، والمردّد لا يعقل إتيانه في الخارج.

وإلى هذا كلّه أشار المصنّف(رحمة

الله) في تعليقته بقوله: «فإنّه وإن كان» المردّد «ممّا يصحّ أن يتعلّق به بعض الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة، كالعلم» فإنّه يتعلّق بالمردّد، كأن يعلم بنجاسة أحد الإناءين «فضلاً عن الصفات الاعتباريّة المحضة كالوجوب والحرمة وغيرهما» من سائر الأحكام الخمسة «ممّا كان من الخارج المحمول» وقد سبق معنى خارج المحمول وأنّه في قبال المحمول بالضميمة «الّذي هي بحذائه في الخارج شيء غير ما هو منشأ انتزاعه» كما أنّه ليس في الخارج بحذاء الوجوب شيء «إلّا أنّه لا يكاد يصحّ البعث حقيقة إليه» أي: إلى المردّد، وإن كان يصحّ تعلّق العلم به «والتحريك

ص: 257

إلّا أن يرجع إلى ما ذكرناه في ما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأوّل، من أنّ الواجب هو الواحد الجامع بينها.

لا أحدُهما معيّناً، مع كون كلّ منهما مثل الآخر في أنّه وافٍ بالغرض.«ولا كلّ واحدٍ منهما تعييناً مع السّقوط بفعل أحدهما؛ بداهَةَ عدم السّقوط مع إمكان استيفاء ما في كلّ منهما من الغرض، وعدمِ جواز الإيجاب كذلك مع عدم إمكانه

___________________________________________

نحوه، كما لا يكاد يتحقّق الداعي لإرادته والعزم عليه» وذلك لما سبق من عدم قدرة العبد، فلا يتحقّق الداعي في نفس المولى لإرادة المردّد ولا يحرّك نحوه «ما لم يكن» الداعي للمولى «آئلاً إلى إرادة الجامع والتحريك نحوه، فتأمّل جيّداً»(1).

فتحصّل من هذا كلّه أنّه لا يمكن أن يكون الواجب أحدهما المردّد {إلّا أن يرجع إلى ما ذكرناه} من رجوع الأمر إلى الجامع، وذلك {في ما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأوّل} وبين قوله: «ما ذكرنا» بقوله: {من أنّ الواجب هو الواحد الجمع بينهما لا أحدهما معيّناً، مع كون كلّ منهما مثل الآخر في أنّه وافٍ بالغرض}.

هكذا عبارة بعض النّسخ وفي بعض النّسخ هكذا: «ولا أحدهما معيّناً» عطف على قوله: «لا وجه»، «مع» فرض «كون كلّ منهما مثل الآخر في أنّه واف بالغرض» هذا دليل لعدم كون الواجب أحدهما المعيّن {ولا كلّ واحد منهما تعييناً} هذا أيضاً معطوف على قوله: «لا وجه» {مع السّقوط بفعل أحدهما} بأن يكون كلاهما واجباً، ولكن بحيث لو فعل أحدهما سقط الآخر.

{بداهة} هذا دليل على قوله: «ولا كلّ واحد» الخ {عدم السّقوط مع إمكان استيفاء ما في كلّمنهما من الغرض وعدم جواز الإيجاب كذلك} أي: كلّ واحد واحد تعييناً {مع عدم إمكانه} أي: عدم إمكان استيفاء ما في كلّ منهما من الغرض

ص: 258


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 72.

خ ل»، فتدبّر.

بقي الكلام في أنّه هل يمكن التخيير عقلاً أو شرعاً بين الأقلّ والأكثر، أو لا؟

ربّما يقال(1): ب- «أنّه محال؛ فإنّ الأقلّ إذا وجد كان هو الواجب لا محالة، ولو كان في ضمن الأكثر؛ لحصول الغرض به، وكان الزائد عليه من أجزاء الأكثر زائداً على الواجب».

لكنّه ليس كذلك؛ فإنّه إذا فُرِضَ أنّ المحصِّل للغرض - في ما إذا وُجد الأكثر - هو الأكثر

___________________________________________

- خ ل - ، {فتدبّر} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ قوله: «وعدم جواز الإيجاب» الخ غير مستقيم، إذ يجوز الإيجاب كذلك، لوجود الملاك في كلّ واحد واحد، ولا يمكن استيفاؤهما، لعدم إمكان جمعهما في الوجود الخارجي، فتأمّل.

{بقي الكلام في أنّه هل يمكن التخيير عقلاً أو شرعاً بين الأقلّ والأكثر} بأن يكون الواجب نزح ثلاثين أو أربعين، أو يكون الواجب تسبيحة واحدة أو أكثر {أو لا} يمكن ذلك، بل التخيير إنّما يعقل بين المتباينين فقط؟ {ربّما يقال ب- «أنّه محال، فإنّ الأقلّ إذا وجد كان هو الواجب لا محالة ولو كان في ضمن الأكثر} فإنّه إذا نزح ثلاثين تحقّق الواجب سواء كان المنزوح هو ثلاثين أم أربعين{لحصول الغرض} الداعي إلى إيجاب أحدهما {به} أي: بهذا الفرد الّذي هو الأقلّ {وكان الزائد عليه من أجزاء الأكثر زائداً على الواجب»} وعلى هذا فكلّما أتى بأحدهما كان الواجب هو الأقل، ولا معنى لإيجاب الأكثر أصلاً.

والحاصل: أنّ الأقلّ الواقع في ضمن الأكثر ليس بعض الواجب حتّى يكون الواجب هو الأكثر ويصحّ التخيير بينهما {لكنّه ليس كذلك} بل يصحّ التخيير بينهما {فإنّه إذا فرض أنّ المحصّل للغرض - في ما إذا وجد الأكثر - هو الأكثر} بحدّه

ص: 259


1- جواهر الكلام 10: 43.

لا الأقلّ الّذي في ضمنه - بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذٍ دخل في حصوله، وإن كان الأقلّ لو لم يكن في ضمنه كان وافياً به أيضاً - فلا محيص عن التخيير بينهما؛ إذ تخصيص الأقلّ بالوجوب حينئذٍ كان بلا مخصّص؛ فإنّ الأكثر بحدّه يكون مثله على الفرض، مثلُ أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخطّ مترتّباً على الطويل إذا رسم بما له من الحدّ، لا على القصير في ضمنه، ومعه

___________________________________________

الخاصّ به {لا الأقلّ الّذي في ضمنه} بل الأقلّ بعض المحصّل {بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذٍ} أي: حين الإتيان بالأكثر {دخل في حصوله} أي: الغرض {وإن كان الأقلّ} بحدوده {لو لم يكن في ضمنه} بل كان مستقلّاً {كان وافياً به أيضاً} كما كان الأكثر وافياً به {فلا محيص عن التخيير بينهما، إذ تخصيص الأقلّ بالوجوب حينئذٍ} أي: حين كان الأكثر بحدوده محصّلاً للغرض {كان بلا مخصّص، فإنّ الأكثر بحدّه يكون مثله} أي: مثل الأقلّ{على الفرض}.

وتوضيحه - بلفظ السّيّد الحكيم - : «يعني أنّ ما ذكرتم إنّما يتمّ لو كان الواجب صرف وجود الطبيعة؛ لأنّه يصدق على الأقلّ بمجرّد حصوله فيسقط الأمر فلا يجب الزائد عليه، أمّا إذا كان الواجب هو الوجود الخاصّ - أعني: وجوداً واحداً تامّاً من الطبيعة - فهذا المفهوم لا ينطبق على الأقلّ بمجرّد حصوله مطلقاً، بل يتوقّف على كونه تمام الفرد.

فإذا شرع في الواجب فحصلت ذات الأقلّ لم يصدق أنّه تمام الفرد حتّى ينقطع الوجود، فإن انقطع عليه كان هو الواجب وإن لم ينقطع لم يصدق الواجب إلّا على تمام الوجود إلى آخره»(1).

{مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخطّ مترتّباً على} أحد أمرين: القصير إذا رسم بشرط لا، و{الطويل إذا رسم بما له من الحدّ} الخاصّ {لا على القصير في ضمنه} أي: في ضمن الطويل {ومعه} أي: مع

ص: 260


1- حقائق الأصول 1: 335.

كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمّه؟ ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان من الإمكان.

إن قلت: هَبه في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحدٌ، لم يكن للأقلّ في ضمنه وجود على حدة - كالخطّ الطويل الّذي رُسِمَ دفعةً بلا تخلّل سكون في البين - ، لكنّه ممنوع في ما كان له في ضمنه وجود - كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث، أو خطّ طويل رُسم مع تخلّل العدم في رسمه - ،

___________________________________________

كون الغرض مترتّباً على الطويل بما هو هو {كيف يجوز تخصيصه}أي: تخصيص الوجوب {بما لا يعمّه} أي: لا يعمّ الطويل، بأن يخصّص بالقصير ويأمر به فقط؟

{ومن الواضح كون هذا الفرض} الّذي ذكر - أعني: دخل خصوصيّة الوجود في الغرض - {بمكان من الإمكان} وقد يمثّل له بما لو أمر المولى بإتيان الماء، فإنّ العبد إذا أتى بظرف كبير من الماء كان هذا الإتيان واجباً، وليس الواجب نصف هذا الماء المأتي به والنّصف الآخر مستحبّ، وإن كان لو أتى بظرف صغير يشتمل على نصف ذلك الماء كان آتياً بالواجب، وكذا لو أمر ببناء دار أو إجارتها أو فتح دكّان أو نحو ذلك ممّا لا يحصى من الأمثلة العرفيّة.

ومن هذا كلّه تبيّن إمكان التخيير بين الأقلّ والأكثر.

{إن قلت: هبه} أي: هب أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر ممكن {في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد} بأن {لم يكن للأقلّ} الّذي {في ضمنه وجود على حدة كالخطّ الطويل الّذي رسم دفعة بلا تخلّل سكون في البين} وكالإتيان بالماء دفعة {لكنّه} أي: التخيير بين الأقلّ والأكثر {ممنوع في ما كان له} أي: للأقلّ {في ضمنه} أي: ضمن الأكثر {وجود} مستقلّ، بأن كان الأكثر عبادة عن وجودات متعدّدة متباينة {كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث} وثلاثين دلواً في ضمن أربعين {أو خطّ طويل رسم مع تخلّل العدم في رسمه} بأن رسم أوّلاً قطعة من الخط

ص: 261

فإنّ الأقلّ قد وُجد بحدّه، وبه يحصل الغرض على الفرض، ومعه لا محالة يكون الزائد عليه ممّا لا دخل له في حصوله، فيكون زائداً على الواجب، لا من أجزائه.قلت: لا يكاد يختلف الحال بذلك؛ فإنّه مع الفرض لا يكاد يترتّب الغرض على الأقلّ في ضمن الأكثر،

___________________________________________

ثمّ رسم ثانياً قطعة أُخرى متّصلة بالأُولى {فإنّ الأقلّ} في متعدّد الوجود التدريجي {قد وجد بحدّه} الخاص {وبه يحصل الغرض على الفرض} لوجود الواجب بهذا الوجود الخاصّ الموجب لسقوط الأمر {ومعه} أي: مع حصول الغرض {لا محالة يكون الزائد عليه} كالتسبيحتين الأخيرتين والعشرة دلاء بعد الثّلاثين والقطعة الثّانية من الخطّ {ممّا لا دخل له في حصوله} أي: حصول الغرض {فيكون زائداً على الواجب} مستحبّاً {لا من أجزائه}.

وبهذا تبيّن أنّ الأقلّ والأكثر على قسمين:

الأوّل: أن لا يكون للأقلّ وجود مستقلّ في ضمن الأكثر، وهذا القسم يعقل فيه التخيير بين الأقلّ والأكثر.

الثّاني: أن يكون للأقلّ وجود مستقلّ في ضمن الأكثر، وهذا القسم لا يعقل فيه التخيير بين الأقلّ والأكثر بل الواجب هو الأقلّ فقط، لما تقدّم من أنّه كلّما أراد المكلّف إتيان الأكثر تحقّق الأقلّ أوّلاً وبه يسقط الواجب، فلا مجال لوجوب الأكثر أصلاً.

{قلت: لا يكاد يختلف الحال بذلك} الفرق الّذي ذكرتم، فإنّه لا فرق بين ما كان للأقلّ وجود على حدة كالتسبيحة أم لم يكن كالخطّ {فإنّه مع الفرض} الّذي فرضناه سابقاً - من أنّ الغرض قد يحصل بشرط لا وقد يحصل لا بشرط - والأقلّ من قبيل بشرط لا بأن كان خصوصيّة الوجود دخيلة في الغرض {لا يكاد يترتّب الغرضعلى الأقلّ} إذا كان {في ضمن الأكثر} بل يترتّب الغرض على الأكثر حينئذٍ

ص: 262

وإنّما يترتّب عليه بشرط عدم الانضمام، ومعه كان مترتّباً على الأكثر بالتمام.

وبالجملة: إذا كان كلّ واحد من الأقلّ والأكثر بحدّه ممّا يترتّب عليه الغرض، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما عقليّاً إن كان هناك غرض واحد، وتخييراً شرعيّاً في ما إذا كان هناك غرضان، على ما عرفت.

نعم، لو كان الغرض مترتّباً على الأقلّ

___________________________________________

{وإنّما يترتّب} الغرض {عليه} أي: على الأقل {بشرط عدم الانضمام} أي: عدم الانضمام الزائد إليه {ومعه} أي: مع انضمام الزائد {كان} الغرض {مترتّباً على الأكثر بالتمام}.

وقد يمثّل له بما لو كان هناك لون أو صبغ بمقدار درهم منه صار لون المصبوغ أصفراً، وإذا صبغ بمقدار درهمين منه صار لون المصبوغ أسوداً، وكان المطلوب للمولى أحد اللونين، فإنّه حينئذٍ يجب أحدهما تخييراً، بحيث يترتّب على الأقلّ بشرط لا تارةً وعلى الأكثر بحدّه الخاصّ أُخرى، مع أنّ خلط ذلك اللون بالماء تدريجيّ، فإنّ الغرض حينئذٍ يترتّب على الأقلّ بشرط عدم الانضمام وعلى الأكثر بالتمام، ولا يترتّب على الأقلّ في ضمن الأكثر.

{وبالجملة إذا كان كلّ واحد من الأقلّ} بحدّه {والأكثر بحدّه ممّا يترتّب عليه الغرض فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما وكان التخيير بينهما عقليّاً} لا شرعيّاً {إن كان هناك غرضواحد} وكان أمر الشّارع بهما إرشاداً إلى حكم العقل كما سبق {وتخييراً شرعيّاً في ما إذا كان هناك غرضان على ما عرفت} من غير فرق بين ما لو كان الأفراد تدريجيّ الحصول، كما لو نزح أربعين دلواً متدرّجاً، أو دفعيّ الحصول كما لو نزح الأربعين دفعة واحدة بأربعين دلاء. ثمّ إنّه لا أثر مهمّاً لكون التخيير شرعيّاً أو عقليّاً، فلا يهمّ البحث عن طريق إثباتهما.

{نعم} استثناء عن قوله: «وبالجملة» {لو كان الغرض مترتّباً على الأقلّ} فقط

ص: 263

من دون دخل للزائد، لَما كان الأكثر مثل الأقلّ وعِدْلاً له، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره - مستحبّاً كان أو غيره - ، حسب اختلاف الموارد، فتدبّر جيّداً.

فصل: في الواجب الكفائي.

___________________________________________

{من دون دخل للزائد} أصلاً لكان الواجب هو الأقلّ، سواء أتى بضميمة الزائد أم لا، و{لمّا كان} حينئذٍ {الأكثر مثل الأقلّ وعدلاً له} في الوجوب {بل كان فيه} أي: في الأكثر {اجتماع الواجب وغيره} فالأقلّ واجب والزائد عليه ليس بواجب، بل {مستحبّاً كان أو غيره} من المكروه والمباح ونحوهما {حسب اختلاف الموارد} ففي التكبيرات السّبع المفتتحة بها الصلاة تكون أحدها واجبة والباقيات مستحبّة، وفي القران بين السّورتين على القول بالكراهة تكون أحدهما واجبة والثّانية مكروهة، وفي نزح خمسين في مورد الأربعين تكون العشرة الزائدة مباحة، بل قد تكون الزائدة محرّمة، كالغسل الثّالث لأعضاء الوضوء - بناءً على كونه بدعة - ، وكالأذان الزائد الّذي اخترعه عثمان {فتدبّر جيّداً} حتّى تعرف الموارد وتميّز بعضها عن بعض، واللّهالهادي.

[الفصل العاشر في الواجب الكفائي]

المقصد الأوّل: في الأوامر، في الواجب الكفائي

{فصل: في الواجب الكفائي} وفي بعض النّسخ «في الوجوب الكفائي»، وفي بعضها «في وجوب الواجب الكفائي».

وعلى كلّ حال، فقد استشكل في الواجب الكفائي بأنّ ما يذكر له من اللّازم متضادّ.

بيان ذلك: أنّهم قالوا: «مقتضى الواجب الكفائي عصيان الكلّ لو تركوا وأداء الواجب بفعل البعض» ولازم عصيان الكلّ وجوبه على الجميع، إذ عصيان كلّ واحد ملزوم وجوبه على كلّ واحد، ولازم أداء الواجب بفعل البعض عدم وجوبه على كلّ واحد، إذ لو كان واجباً على كلّ واحد لم يعقل سقوطه بفعل البعض.

ص: 264

والتحقيق: أنّه سنخ من الوجوب، وله تعلّق بكلّ واحد، بحيث لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعاً، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم؛

وذلك لأنّه قضيّة ما إذا كان هناك غرض واحد، يحصل بفعل واحد صادر عن الكلّ أو البعض.

كما أنّ الظاهر هو: امتثال الجميع لو أتوا به دفعة، واستحقاقهم للمثوبة، وسقوط الغرض بفعل الكلّ،

___________________________________________

{والتحقيق} أن يقال: {إنّه سنخ من الوجوب وله تعلّق بكلّ واحد} من الأشخاص {بحيث لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعاً} عقاباً واحداً أو متعدّداً {وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم} وعلى هذا فالواجب الكفائي كالواجب التخييري، لكن الفرق في أنّالمكلّف به متعدّد في التخييري والمكلّف متعدّد في الكفائي.

ومن هذا ظهر الجواب عن الإشكال، فإنّ الوجوب على كلّ واحد لا يلازم لزوم إتيان كلّ واحد مستقلّاً، بل إن كان الغرض متعدّداً لزم إتيان كلّ واحد وإلّا كفى إتيان البعض.

{وذلك} أي: ما ذكرنا من معاقبه الجميع في صورة الترك والسّقوط عن الجميع بفعل شخص واحد {لأنّه قضيّة ما إذا كان هناك غرض واحد} بحيث {يحصل بفعل واحد} إمّا {صادر عن الكلّ} كما لو اجتمعوا على غسل الميّت {أو البعض} كما لو غسله بعضهم {كما أنّ الظاهر هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعة} إذ عدم الامتثال خلاف الواقع وامتثال بعضهم دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

{و} الظاهر أيضاً في هذه الصورة {استحقاقهم للمثوبة} وهل ثواب واحد موزّع أو مثوبات بعدد الأشخاص؟ احتمالان.

{و} أمّا {سقوط الغرض بفعل الكلّ} فلا إشكال فيه في التوصليّات وفي التعبديّات

ص: 265

كما هو قضيّة توارد العلل المتعدّدة على معلول واحد.

فصل: لا يخفى أنّه وإن كان الزمان ممّا لا بدّ منه عقلاً في الواجب، إلّا أنّه تارةً: ممّا له دخل فيه شرعاً،

___________________________________________

على الأرجح، وإن احتمل عدم السّقوط لمدخليّة وحدة الفاعل، كما قد يستأنس لذلك بما لو جعل المولى جعلاً لرفع صخرة عظيمة - لاختبار قوى عبيده - فإنّ رفع الجميع بالشركة غير مسقط للغرض، فتدبّر.

{كما هو قضيّة توارد العلل المتعدّدةعلى معلول واحد} إذ قد سبق أنّ العلل المتعدّدة لا تؤثّر إلّا مجتمعاً، لامتناع استناد الأثر إلى كلّ واحد مستقلّاً، وعليه فليس فعل أحدهم علّة فقط حتّى يختصّ به الامتثال والثّواب، فقوله: «كما هو» دليل لقوله: «كما أنّ الظاهر» - وإنّما عبّر بالظهور، لعدم القطع بالامتثال وتابعيه، لما تقدّم من الاستيناس.

ثمّ إنّ هذا كلّه في ما تواردت الأفعال على المعلول دفعة واحدة، أمّا لو تعاقبت كما لو غسل الميّت شخص ثمّ غسله شخص آخر فإنّ الثّاني لا يتّصف بالوجوب قطعاً، وإنّما هو بين الأحكام الأربعة الأُخر ولا يصار إلى أحدها إلّا بدليل خارجيّ، كما لا يخفى، واللّه - تعالى - هو العالم.

[الفصل الحادي عشر الواجب الموقّت والموسّع]

المقصد الأوّل: في الأوامر، الواجب الموقت والموسّع

{فصل} في تحقيق الحقّ في الواجب الموسّع والموقّت {لا يخفى أنّه وإن كان الزمان ممّا لا بدّ منه عقلاً في الواجب} وغيره من الأحكام، لعدم معقوليّة خلوّ الفعل عن الزمان، إذ المأمور به من الأفعال والفعل زمانيّ كما أنّه يحتاج إلى المكان عرضاً {إلّا أنّه} ليس كلامنا الآن في هذا النّحو من الزمان، بل المراد أنّ الزمان {تارة ممّا له دخل فيه} أي: في الواجب {شرعاً} بأن كان دخيلاً في مصلحة المأمور به، فأخذ في الدليل قيداً للموضوع أو الحكم فلا يجوز تأخير

ص: 266

فيكون موقّتاً، وأُخرى: لا دخل له فيه أصلاً، فهو غير موقّت.

والموقّت: إمّا أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره فمضيّق، وإمّا أن يكون أوسع منه فموسّع.

ولا يذهب عليك: أنّ الموسّع كلّيّ، كما كان له أفراد دفعيّة، كان له أفراد تدريجيّة،يكون التخيير بينها - كالتخيير بين أفراده الدفعيّة - عقليّاً.

___________________________________________

المأمور به عنه ولا تقديمه عليه {فيكون موقّتاً، وأُخرى لا دخل له فيه أصلاً} كقضاء الصلاة على القول بالتوسعة {فهو غير موقّت} من غير فرق في هذا القسم بين أن لا يؤخذ الزمان فيه أصلاً أو أُخذ ظرفاً للحكم {والموقّت إمّا أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره} كصوم رمضان {فمضيّق، وإمّا أن يكون أوسع منه} كالصلوات اليوميّة {فموسّع} وأمّا كون الزمان أضيق من الفعل، فغير ممكن.

{ولا يذهب عليك أنّ الموسّع كلّيّ} متّصف بأنّه {كما كان له أفراد دفعيّة} عرضيّة كالصلوات في الدار أو في المسجد أو في الحمّام الّتي ينطبق على كلّ منها كلّيّ الصلاة كذلك {كان له أفراد تدريجيّة} طوليّة كالصلاة أوّل الوقت ووسطه وآخره وهذه الأفراد التدريجيّة {يكون التخيير بينها كالتخيير بين أفراده الدفعيّة عقليّاً} فكما يصحّ الإتيان بالصلاة في المسجد والدار والحمّام كذلك يصحّ الإتيان بها في أوّل الوقت ووسطه وآخره.

وإنّما كان التخيير عقليّاً؛ لأنّ الغرض مترتّب على نفس الطبيعة على الإطلاق من دون أخذ خصوصيّة فيها، ووجه تخصيص هذا بالموسّع ظاهر، إذ ليس للمضيّق أفراد تدريجيّة.

فإن قلت: إنّ غير الموقّت أيضاً كذلك.

قلت: نعم، ولكن لم يقع الاختلاف في كون التخيير فيه عقليّاً أو شرعيّاً.

ص: 267

ولا وجه لتوهّم أن يكون التخيير بينها شرعيّاً؛ ضرورة أنّنسبتها إلى الواجب نسبةُ أفراد الطبائع إليها، كما لا يخفى.

ووقوع الموسّع - فضلاً عن إمكانه - ممّا لا ريب فيه، ولا شبهة تعتريه، ولا اعتناء ببعض التسويلات، كما يظهر من بعض المطوّلات.

___________________________________________

{و} على كلّ حال {لا وجه لتوهّم أن يكون التخيير بينها} أي: بين الأفراد التدريجيّة في الموسّع {شرعيّاً} كالتخيير بين خصال الكفّارة، غاية الأمر أنّها أفعال مختلفة الحقيقة وهنا مختلفة الوقت، وإنّما قلنا بعدم كون التخيير شرعيّاً ل- {ضرورة أنّ} الأفراد التدريجيّة {نسبتها إلى الواجب} نحو {نسبة أفراد الطبائع إليها} فتحصّل أنّ كلّاً من الأفراد الدفعيّة والتدريجيّة عقليّة، وحال الثّاني كحال الأوّل إذ لا تفاوت في نظر العقل بينهما {كما لا يخفى}.

ثمّ إنّ جماعة من القدماء ذهبوا إلى امتناع الواجب الموسّع وافترقوا في الأوامر الظاهرة في الموسّع على ثلاثة مذاهب:

الأوّل: أنّ الوجوب مختصّ بأوّل الوقت.

الثّاني: أنّه مختصّ بآخر الوقت ولكن لو فعل في أوّل الوقت كان نفلاً يسقط به الفرض.

الثّالث: أنّه مختصّ بآخر الوقت ولو فعل في أوّل الوقت وقع مراعى ببقاء التكليف، فينكشف عن وجوبه وعدمه فينكشف عن استحبابه.

{و} لا يخفى أنّ {وقوع الموسّع فضلاً عن إمكانه ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه} فلا حاجة إلى صرف ظواهر الأدلّة إلى ما ذكر {ولا اعتناء ببعض التسويلات}والشّبهات الّتي أوردوها على توسعة الوقت {كما يظهر من بعض المطوّلات}.

فمن تلك الشّبهات أنّ الفضيلة في الوقت ممتنعة لأدائها إلى جواز ترك الواجب، فيخرج عن كونه واجباً.

ص: 268

ثمّ إنّه لا دلالة للأمر بالموقّت - بوجهٍ - على الأمر به في خارج الوقت، بعد فوته في الوقت، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به.

نعم، لو كان التوقيت بدليل منفصل

___________________________________________

والجواب: أنّ أفراد الموسّع كخصال الكفّارة فكما لا يجب إتيان جميعها كذلك لا يجب إيقاع الفعل في جميع الأزمنة، ولا يجوز له إخلاء الجميع عنه، والتعيين مفوّض إليه مادام الوقت متّسعاً فإذا تضيّق تعيّن الفعل عليه بحيث لو لم يفعل في هذا الحال كان عاصياً، فأين خروج الواجب عن وجوبه.

{ثمّ} هل يدلّ الأمر بالموقّت على وجوب الفعل خارج الوقت، على نحو تعدّد المطلوب، أو يدلّ على عدم الوجوب أو لا دلالة على شيء منهما، والمصنّف(رحمة الله) فصّل في المسألة، فذهب إلى {أنّه لا دلالة للأمر بالموقّت بوجه} من الوجوه {على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت - لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به -} في ما لو كان التوقيت بدليل متصل بدليل الوجوب كقوله - تعالى - : {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ}(1)، وحينئذٍ يكون حال ما بعد الوقت حال ما قبل الوقت إذا لم يكن هناك عموم يدلّ على القضاء، كقوله(علیهالسلام): «ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك»(2).

{نعم، لو كان التوقيت بدليل منفصل} كما لو قال: (صلّ) ثمّ قال: (يجب كون الصلاة في الوقت) فهو على أربعة أقسام: لأنّه إمّا أن يكون لدليل الواجب إطلاق بحيث يشمل الوقت وما بعده أو لا يكون له إطلاق، وعلى كلا التقديرين فإمّا أن يكون للقيد إطلاق بحيث يدلّ على كون التقييد لأصل المطلوب فلا مطلوبيّة

ص: 269


1- سورة الإسراء، الآية: 78.
2- لم نعثر على حديث بهذا اللفظ، نعم، يستفاد معناه من صحيحة زرارة المذكورة في وسائل الشيعة 8: 268، ولفظه هكذا: «يقضي ما فاته كما فاته».

لم يكن له إطلاقِ على التقييد بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق، لكان قضيّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت، وكونَ التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصلهِ.

وبالجملة: التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب، كذلك ربّما يكون بنحو تعدّد المطلوب - بحيث كان أصل الفعل ولو في خارج الوقت مطلوباً في الجملة، وإن لم يكن بتمام المطلوب - إلّا أنّه لا بدّ في إثبات أنّه بهذا النّحو من دلالةٍ، ولا يكفي الدليل على الوقت

___________________________________________

للواجب بدون هذا القيد، أو لا يدلّ بحيث كان دليل القيد مهملاً، كالإجماع وشبهه.

إذا عرفت الأقسام الأربعة قلنا: دليل القيد {لم يكن له إطلاق على التقييد} لجميع مراتب المصلحة {بالوقت} بأن كان مهملاً يفيد مطلوبيّة الوقت، وأمّا ما بعد الوقت فكان ساكتاً عنه {وكان لدليل الواجب إطلاق} يشمل حتّى ما بعد الوقت، كما لو قال: (صلّ) ثمّ دلّ الإجماع على كون الصلاة واجبة في الوقت {لكان قضيّةإطلاقه} أي: إطلاق دليل الواجب {ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت} فيجب الإتيان به بعد الوقت لو فات في الوقت {و} ذلك لأنّ منتهى دلالة القيد {كون التقييد به بحسب تمام المطلوب} أي: المطلوب التامّ {لا أصله} فأصل مطلوبيّة الفعل باقٍ ولو خرج الوقت.

{وبالجملة التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب} كصلاة العيد والجمعة، بأن كان المطلوب للمولى صِرف الطبيعة الموقّتة، بحيث تفوت بفوات الوقت {كذلك ربّما يكون بنحو تعدّد المطلوب} كالصلوات اليوميّة {بحيث كان أصل الفعل - ولو في خارج الوقت - مطلوباً في الجملة} بمرتبة ضعيفة من الطلب {وإن لم يكن بتمام المطلوب} أي: المطلوب التامّ الكامل {إلّا أنّه لا بدّ في إثبات أنّه} أي: المطلوب {بهذا النّحو} من التعدّد {من دلالة} كما أنّه لا بدّ في إثبات وحدة المطلوب من دلالة {ولا يكفي} نفس {الدليل على الوقت} لإِفادة تعدّد المطلوب

ص: 270

إلّا في ما عرفت.

ومع عدم الدلالة فقضيّة أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت. ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقّت بعد انقضاء الوقت، فتدبّر جيّداً.

فصل: الأمرُ بالأمرِ بشيءٍ، أمرٌ به لو كان الغرض

___________________________________________

{إلّا في ما عرفت} ممّا كان لدليل أصل الواجب إطلاق ولم يكن لدليل القيد إطلاق. والأظهر في إفادة المراد أن يقول: ولا يستفاد تعدّد المطلوب،إلّا ممّا عرفت.

{ومع عدم الدلالة} على تعدّد المطلوب، بأن كان أحد الأقسام الثّلاثة الأُخر أعني:

1- عدم الإطلاق لدليل الواجب، مع إطلاق دليل القيد.

2- عدم الإطلاق لدليل الواجب، مع عدم الإطلاق لدليل القيد.

3- الإطلاق لدليل الواجب، مع عدم الإطلاق لدليل القيد {فقضيّة أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت} كما لم تكن واجبة قبل الوقت {ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقّت بعد انقضاء الوقت} لأنّ الزمان كان قيداً للموضوع - حسب الفرض - فبانتفاء القيد ينتفي المقيّد، فالموضوع مرتفع وبارتفاعه لا يصحّ الاستصحاب، كما سيأتي في بابه، إن شاء اللّه - تعالى - {فتدبّر جيّداً} حتّى لا تخلط بين الأقسام الأربعة، واللّه العاصم.

[الفصل الثّاني عشر الأمر بالأمر]

المقصد الأوّل: في الأوامر، الأمر بالأمر

{فصل} اختلفوا في أنّ {الأمر بالأمر بشيء} - كأن يأمر المولى عبده زيداً بأن يأمر عمرواً بالصلاة - هل هو {أمر به} فلا فرق بينه وبين أن يأمر عمرواً ابتداءً بالصلاة أم لا؟

والمصنّف(رحمة الله) فصّل في المسألة فذهب إلى أنّه أمر به {لو كان الغرض} الباعث

ص: 271

حصوله، ولم يكن له غرضٌ في توسيط أمر الغير به إلّا تبليغ أمره به، كما هو المتعارف في أمر الرّسل بالأمر أو النّهي.

وأمّا لو كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذاك الشّيء - من دون تعلّق غرضه به، أو مع تعلّق غرضه به لا مطلقاً، بل بعد تعلّق أمره به -

___________________________________________

من المولى {حصوله} أي: حصول ذلك الشّيء في الخارج {ولم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلّا تبليغ أمره به} أي: لم يكن للآمر غرض في جعل هذه الواسطة بينه وبين الثّالث - وهي أمر الشّخص الثّاني بالأمر - إلّا تبليغ أمر الآمر بذلك الشّيء إلى الثّالث {كما هو المتعارف} أي: كون الغرض هو التبليغ {في أمر الرّسل بالأمر} كقوله - تعالى - : {وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ}(1) {أو النّهي} عطف على «الأمر».

{وأمّا لو كان الغرض من ذلك} أي: من أمر المولى الأمر {يحصل بأمره بذاك الشّيء} أي: أمر المولى الشّخص الثّاني، أو أمر الشّخص الثّاني الشّخص الثّالث.

والحاصل: أنّ المولى يريد امتحان الواسطة - مثلاً - في أنّه يطيع ويبلغ الأمر الثّالث أم لا، أو يريد امتحان الثّالث في أنّه هل يصير بصدد الإطاعة أم لا؟ {من دون تعلّق غرضه} أي: غرض المولى {به} أي: بنفس ذلك الشّيء المأمور به.

مثلاً: لا يريد الصلاة في ما لو قال لزيد: (مر عمرواً بالصّلاة) {أو مع تعلّق غرضه} أي: غرض المولى {به} أي: بالمأمور به، بأن يريد الصلاة ولكن {لا} يريده {مطلقاً} سواء كان صدوره عن الثّالث بعد أمر الثّاني أم لا {بل بعد تعلّق أمره} أي: أمر الواسطة {به} أي: بذلك الشّيء.

مثلاً: الصلاة محبوبة للمولى لكن ليس بحيث يريد صدورها عن عمرو مطلقاً، بل يريد صدورها بعد أمر زيد الواسطة، كما لو كان زيد ابنه ويريدإطاعة

ص: 272


1- سورة الأعراف، الآية: 145.

فلا يكون أمراً بذاك الشّيء، كما لا يخفى.

وقد انقدح بذلك: أنّه لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر على كونه أمراً به، ولا بدّ في الدلالة عليه من قرينة عليه.

فصل: إذا ورد أمر بشيء بعد الأمر به قبل امتثاله،

___________________________________________

عمرو له {فلا يكون} الأمر بالأمر بشيء {أمراً بذاك الشّيء} في هاتين الصورتين {كما لا يخفى} أمّا في الصورة الأُولى فلعدم تعلّق الغرض بالصلاة مثلاً أصلاً، وأمّا في الصورة الثّانية فلعدم كون الصلاة مأموراً بها، بل إنّما تكون مأموراً بها بعد أمر الواسطة.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ الصور المتصوّرة للأمر بالأمر بشيء بحسب مقام الثّبوت - على ما يستفاد من كلام المصنّف - أربعة: لأنّ غرض المولى إمّا حصول ذلك الشّيء أو لا، وعلى كلّ تقدير فإمّا أن يكون له غرض في توسيط الغير أم لا.

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرناه في مقام الثّبوت، حال مقام الإثبات، و{أنّه لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر على كونه أمراً به} لأنّ مقام الثّبوت محتمل ومقام الإثبات لا معيّن لأحد المحتملات {ولا بدّ في الدلالة عليه} أي: على كونه أمراً {من قرينة عليه} والأظهر انعقاد الظهور العرفي في كون المقصود هو الفعل وأنّه ليس غرض في التوسيط إلّا المبلغيّة.

ثمّ ذكر بعضهم أنّ فائدة هذا النّزاع كون عبادات الصبي شرعيّة أم لا، إذ لو كان الأمر بالأمر أمراً به كان قوله: «مروهم بالصلاة»(1) أمراً بصلاتهم فتكون شرعيّة، فتدبّر.

[الفصل الثّالث عشر الأمر بعد الأمر]

المقصد الأوّل: في الأوامر، الأمر بعد الأمر

{فصل: إذا ورد أمر بشيء بعد الأمر به قبل امتثاله} كأن يقول المولى: (ادع عند

ص: 273


1- بحار الأنوار 85: 133؛ الكافي 3: 409، ولفظ الحديث: «إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين، فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين».

فهل يوجب تكرار ذلك الشّيء، أو تأكيدَ الأمر الأوّل والبعثِ الحاصل به؟

قضيّة إطلاق المادّة هو التأكيد؛ فإنّ الطلب تأسيساً لا يكاد يتعلّق بطبيعة واحدة مرّتين، من دون أن يجيء تقييد لها في البين، ولو كان بمثل: (مرّة أُخرى)، كي يكون متعلّقُ كلّ منهما غيرَ متعلّق الآخر، كما لا يخفى.

___________________________________________

رؤية الهلال) ثمّ قبل أن يدعو العبد قال: (ادع عند رؤية الهلال) {فهل} هنا واجبان شرعيّان بحيث {يوجب} الأمر الثّاني الإتيان بالمأمور به ثانياً فيجب {تكرار ذلك الشّيء، أو} لا، بل الأمر الثّاني {تأكيد الأمر الأوّل} فلا يجب الفعل إلّا مرّة واحدة {والبعث الحاصل به؟} عطف على «الأمر الأوّل».

{قضيّة إطلاق المادّة} - أعني: مادّة الأمر وهي الدعاء - {هو التأكيد، فإنّ الطلب تأسيساً لا يكاد يتعلّق بطبيعة واحدة مرّتين من دون أن يجيء تقييد لها} أي: للطبيعة {في البين}.

والحاصل: أنّ مادّه الدعاء بدون تقييدها بمثل: (مرّة أُخرى) بأن لم يقل: (ادع مرّة أُخرى) متّحدة مع مادّة الأمر الأوّل، وعليه فالدعاء المأمور بها في كلا الأمرين مفهوم واحد يتحقّق بوجود واحد.

وبعبارة أُخرى: إنّ الأمر الثّاني إمّا أن يتعلّق بفرد من الدعاء غير الفرد الأوّل،وذلك يحتاج إلى قرينة، وإمّا أن يتعلّق بنفس تلك الطبيعة، وهذا لا يمكن فيه التكرار، إذ لو تعلّق بالطبيعة وجوبان مستقلّان لزم اجتماع المثلين.

{ولو كان بمثل (مرّة أُخرى)} وصليّة {كي يكون متعلّق كلّ منهما غير متعلّق الآخر} غاية لمجيء التقييد {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل، فإنّ الطبيعة لا تتكرّر إلّا بالقيود. مثلاً: الإنسان لا يتكرّر إلّا بالزنجيّة والرّوميّة أو الزيديّة والعمريّة، وإلّا فإنّ طبيعة الإنسان طبيعة واحدة.

ص: 274

والمنساق من إطلاق الهيئة وإن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده، إلّا أنّ الظاهر هو انسباق التأكيد عنها في ما كانت مسبوقة بمثلها، ولم يذكر هناك سببٌ، أو ذُكِرَ سببٌ واحد.

___________________________________________

وبهذا كلّه ظهر أنّ المادة لا تقتضي التأسيس {و} بالعكس من ذلك الهيئة، فإنّ {المنساق من إطلاق الهيئة} هو التأسيس المقتضي للتكرار، إذ لولا إرادة جديدة من المولى للفعل لم يكن داع إلى إنشائه ثانياً في صورة أنّ البعث الأوّل كاف، ولهذا قالوا: إنّ التأسيس أولى من التأكيد.

{و} لكن مع ذلك فاللّازم هو الحمل على التأكيد فإنّ إطلاق الهيئة {إن كان} المنصرف منه {هو تأسيس الطلب لا تأكيده} لما تقدّم {إلّا أنّ الظاهر هو انسباق التأكيد عنها} أي: عن الصيغة {في ما كانت مسبوقة بمثلها} كأن يقول: (ادع، ادع) {ولم يذكر هناك سبب} للدعاء مثلاً {أو ذكر سبب واحد} كأن يقول: (إذا رأيت الهلال فادع) ثمّ يقول أيضاً: (إذا رأيت الهلال فادع).

لا يقال: كيف حكمتم بانسباق التأكيد من الصيغة، مع ما تقدّم من انسباقالتأسيس من الهيئة؟

لأنّا نقول: انسباق التأكيد مستند إلى الظهور النّوعي، وانسباق التأسيس إنّما هو باعتبار ظهور الهيئة في نفسها.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من احتمال التأسيس والتأكيد إنّما هو في ما كان التكرار ممكناً، وأمّا في ما لا يمكن التكرار نحو (اقتل زيداً) فاللّازم حمل الثّاني على التأكيد بديهة. واللّه الموفّق وهو العاصم.

ص: 275

ص: 276

المقصد الثّاني: في النّواهي

اشارة

ص: 277

ص: 278

المقصد الثّاني: في النّواهي

فصل: الظّاهر أنّ النّهي بمادّته وصيغته في الدلالة على الطلب، مثلُ الأمر بمادّته وصيغته، غير أنّ متعلّق الطلب في أحدهما الوجود وفي الآخر العدم، فيعتبر فيه ما استظهرنا اعتباره فيه، بلا تفاوت أصلاً.

نعم، يختصّ النّهي بخلافٍ، وهو: أنّ متعلّق الطلب فيه هل هو الكفّ، أو مجرّدُ الترك وأن لا يفعل؟

___________________________________________

[المقصد الثّاني في النّواهي]

{المقصد الثّاني: في النّواهي} وفي هذا المقصود فصول:

[فصل مفاد مادة النهي وصيغته]

المقصد الثّاني: في النواهي، مفاد مادة النهي وصيغته

{فصل: الظاهر} من الانسباق {أنّ النّهي بمادّته} أي: ن، ه، ي {وصيغته} المنشأة ب- (لا تفعل) ونحوه {في الدلالة على الطلب مثل الأمر بمادّته وصيغته} فكما أنّ مادّة الأمر وصيغته للطلب الإلزامي كذلك مادّة النّهي وصيغته، ولا فرق بينهما {غير أنّ متعلّق الطلب في أحدهما} وهو الأمر {الوجود، وفي الآخر} وهو النّهي {العدم، فيعتبر فيه} أي: في النّهي {ما استظهرنا اعتباره فيه بلا تفاوت أصلاً} فيعتبر في النّهي العلوّ ولا يشترط الاستعلاء، وغير ذلك ممّاتقدّم.

{نعم، يختصّ النّهي بخلافٍ} لا مجال له في الأمر {وهو أنّ متعلّق الطلب فيه هل هو الكفّ} بمعنى صرف النّفس عن الفعل {أو مجرّد الترك وأن لا يفعل؟} والفرق بينهما أنّ الكفّ أمر وجوديّ بخلاف الترك، فإنّه عدم محض، وبينهما عموم

ص: 279

والظاهر هو الثّاني.

وتوهّم: أنّ الترك ومجرّد أن (لا يفعل) خارجٌ عن تحت الاختيار، فلا يصحّ أن يتعلّق به البعث والطلب.

فاسدٌ: فإنّ الترك أيضاً يكون مقدوراً، وإلّا لما كان الفعل مقدوراً

___________________________________________

مطلق، فإنّه كلّما تحقّق الكفّ تحقّق الترك ولا عكس، فإنّه يمكن تحقّق الترك بدون تحقّق الكفّ، وذلك حين الترك بدون الالتفات إلى الفعل وعدمه.

{والظاهر} بحسب المنساق عرفاً {هو الثّاني} فإنّ المولى إذا قال لعبده: (لا تفعل) فهم منه لزوم الترك لا لزوم الكفّ، واستدلّ من قال بأنّ النّهي عبارة عن الكفّ بأنّ التكليف لا يتعلّق بغير الاختياري، والعدم غير اختياري، إذ القدرة لا تتعلّق بالأعدام، فإنّ العدم أزليّ فالقدرة المتأخّرة لا تؤثّر في العدم السّابق عليها، وحيث بطل كون النّهي متعلّقاً بعدم الفعل فلا بدّ وأن يتعلّق بالكف.

ولكن هذا الاستدلال فاسد لما أشار إليه المصنّف {وتوهّم أنّ الترك ومجرّد أن (لا يفعل) خارج عن تحت الاختيار} وعليه {فلا يصحّ أن يتعلّق به البعث والطلب} لما ذكرنا {فاسد} فإنّا لا نسلّم أنّ الترك غير مقدور {فإنّالترك أيضاً} مثل الفعل {يكون مقدوراً} ولهذا يصحّ أن يقال: (اترك) كما يصحّ أن يقال: (افعل) من غير فرق ولا احتياج إلى ارتكاب التأويل {وإلّا} فلو لم يكن الترك مقدوراً {لما كان الفعل مقدوراً} إذ نسبة القدرة إلى الوجود والعدم نسبة واحدة، يعني أنّ الفعل لو كان مقدوراً كان الترك مقدوراً وبالعكس، وهكذا لو لم يكن أحدهما مقدوراً لم يكن الآخر مقدوراً لبداهة أنّ القدرة عبارة عن إمكان الفعل والترك.

وأمّا لو كان الفاعل بحيث لا يمكن صدور الفعل عنه كان امتناعاً، كامتناع صدور البرودة عن النّار، ولو كان بحيث لا يمكن صدور الترك عنه كان إيجاباً، كوجوب صدور الحرارة عن النّار.

ص: 280

وصادراً بالإرادة والاختيار.

وكون العدم الأزلي لا بالاختيار، لا يوجب أن يكون كذلك بحسب البقاء والاستمرار الّذي يكون بحسبه محلّاً للتكليف.

ثمّ إنّه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار، كما لا دلالة لصيغة الأمر، وإن كان قضيّتهما عقلاً تختلف ولو مع وحدة متعلّقهما،

___________________________________________

{و} الحاصل: أنّه لو لم يمكن صدور أحد طرفي الفعل والترك عن الفاعل لم يكن الطرف الصادر {صادراً بالإرادة والاختيار} بل بالقهر والإجبار.

{و} أمّا ما ذكرتم في الاستدلال من {كون العدم الأزلي لا بالاختيار} فمغالطة، إذ عدم اختياريّة العدم قبلاً {لا يوجب أن يكون كذلك} أي: لا بالاختيار {بحسب البقاء والاستمرار} فإنّ العدم السّابق ليس محلّاً للكلام، بل العدم الباقي{الّذي يكون بحسبه محلّاً للتكليف} فإنّ المكلّف يتمكّن من قطع استمرار العدم بأن يوجد الشّيء ويتمكّن من إبقاء العدم على حاله، وبهذا الاعتبار يكون العدم مقدوراً وبهذه القدرة يكون متعلّقاً للتكليف وقد يمثّل لذلك بأنّ العدم كالنهر الجاري فكما يتمكّن الشّخص من سدّه ومن إبقائه وبهذا الاعتبار يصحّ تعلّق التكليف بكلّ منهما كذلك العدم.

{ثمّ إنّه لا دلالة لصيغته} أي: صيغة النّهي {على الدوام والتكرار، كما لا دلالة لصيغة الأمر} خلافاً لبعضهم حيث ذهب إلى دلالة النّهي على الدوام وإنّما قلنا بعدم الدلالة؛ لأنّ النّهي - كما تقدّم - عبارة عن طلب ترك الطبيعة.

وبعبارة أُخرى: المادّة تدلّ على نفس الماهيّة لا بشرط، والهيئة تدلّ على طلب الترك، فمن أين يجيء التكرار؟

أمّا القول بدلالتها على المرّة فلم يقل به أحد على الظاهر {وإن كان قضيّتهما} أي: مقتضى الأمر والنّهي {عقلاً تختلف ولو مع وحدة متعلّقهما} أي: سواء تعدّد

ص: 281

بأن يكون طبيعةٌ واحدة بذاتها وقيدها تعلّق بها الأمر مرّةً، والنّهي أُخرى: ضرورة أنّ وجودها يكون بوجود فردٍ واحدٍ، وعدَمَها لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع، كما لا يخفى.

ومن ذلك يظهر: أنّ الدوام والاستمرار إنّما يكون في النّهي إذا كان متعلّقهُ طبيعة واحدة مطلقة غيرَ مقيّدة بزمان أو حال،

___________________________________________

متعلّقهما كأن يأمر بشرب الماء وينهى عن أكل لحم الخنزير، أو اتحد {بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها، وقيدها تعلّقبها الأمر مرّة والنّهي أُخرى} كأن يأمر تارةً بشرب الماء في الزمان الفلاني في المكان الفلاني، وينهى عن ذلك الشّرب تارة أُخرى {ضرورة أنّ وجودها} أي: وجود الطبيعة الواقعة في حيّز الأمر {يكون بوجود فرد واحد} فيمتثل الأمر بإتيانه {و} بخلاف ذلك {عدمها} الواقعة في حيّز النّهي فإنّ العدم {لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع} فلو قال: (لا تشرب الخمر) فلم يشرب ساعة ثمّ شرب بعد ذلك عدّ عاصياً ولا يقبل عذره بأنّي تركت بعض أفراد الشّرب {كما لا يخفى} وسرّه واضح، إذ النّهي عبارة عن كراهة الطبيعة، فتحقّق الفرد الموجب لتحقّق الطبيعة يكون مكروهاً، والأمر عبارة عن محبوبيّة الطبيعة فبتحقّق فرد يتحقّق المحبوب، وهذا التفاوت ليس بسبب دلالة الأمر والنّهي على المرّة والتكرار، بل بملاحظة حكم العقل.

{ومن ذلك} الّذي ذكرنا من أنّ عدم الطبيعة لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع {يظهر أنّ الدوام والاستمرار إنّما يكون في النّهي إذا كان متعلّقه طبيعة واحدة مطلقة} كأن يقول: (لا تشرب الخمر) {غير مقيّدة بزمان أو حال} بخلاف الطبيعة إذا كانت مقيّدة بأحدهما، كأن يقول: (لا تضرب يوم الجمعة) أو (لا تشرب في حال القيام) فإنّه لا يقتضي عدم جميع أفراد الضرب حتّى في غير يوم الجمعة أو عدم جميع أفراد الشّرب حتّى في حال الجلوس.

وجه الظهور أنّ عدم الجميع لمّا كان لازماً لعدم الطبيعة بقول مطلق فعدم الطبيعة

ص: 282

فإنّه حينئذٍ لا يكاد يكون مثلُ هذه الطبيعة معدومة إلّا بعدم جميع أفرادها الدفعيّة والتدريجيّة.وبالجملة: قضيّة النّهي ليس إلّا ترك تلك الطبيعة الّتي تكون متعلّقة له، - كانت مقيّدة أو مطلقة - ، وقضيّة تركها عقلاً إنّما هو ترك جميع أفرادها.

ثمّ إنّه لا دلالة للنهي على إرادة الترك

___________________________________________

المقيّدة لا يلزم عدم الجميع {فإنّه حينئذٍ} أي: حين إطلاق الطبيعة {لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة} المطلقة {معدومة إلّا بعدم جميع أفرادها الدفعيّة} كأن يترك شرب الخمر في الدار وفي السّوق وفي الحمّام في السّاعة الأُولى مثلاً {والتدريجيّة} كأن يترك الشّرب في السّاعة الأُولى والثّانية والثّالثة وهكذا.

{وبالجملة قضيّة النّهي ليس إلّا ترك تلك الطبيعة الّتي تكون متعلّقة له} أي: للنهي، فإن {كانت مقيّدة} كان مقتضى النّهي ترك الطبيعة المقيّدة بجميع أفرادها فلو قال: (لا تضرب يوم الجمعة) اقتضى ترك الأفراد العرضيّة والطوليّة في يوم الجمعة فقط {أو مطلقة} كان مقتضى النّهي ترك جميع الأفراد مطلقاً {و} قد تقدّم أنّ {قضيّة تركها عقلاً إنّما هو ترك جميع أفرادها}.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ مقتضى النّهي ترك الطبيعة الواقعة في حيّزها من دون دلالة له على الدوام والتكرار، وإنّما هما مستفادان من حكم العقل، كما أنّ الاكتفاء بالمرّة في الأمر كان مستفاداً من العقل.

{ثمّ} إنّ العبد لو خالف النّهي بأن أتى بالمنهي عنه فهل يحرم الإتيان به ثانياً أو لا يحرم؟ مثلاً: لو قال المولى: (لا تزن) فزنى العبد فهل يدلّ النّهي علىلزوم ترك الزنا ثانياً وهكذا. أو لا يدلّ، بل يحتاج في فهم عدم مطلوبيّته بعد المخالفة إلى دليل آخر؟ ذهب المصنّف إلى {أنّه لا دلالة للنهي على إرادة} المولى {الترك}

ص: 283

لو خولف، أو عدم إرادته، بل لا بدّ في تعيين ذلك من دلالة، ولو كان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة، ولا يكفي إطلاقها من سائر الجهات، فتدبّر جيّداً.

فصل: اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنّهي في واحد وامتناعه على أقوال، ثالثها: جوازه عقلاً وامتناعه عرفاً.

___________________________________________

ثانياً وثالثاً وهكذا {لو خولف} النّهي {أو عدم إرادته، بل لا بدّ في تعيين ذلك من دلالة} خارجيّة تدلّ على انحلال النّهي إلى نواهي متعدّدة أو على وحدة النّهي من غير فرق بين أن يكون ذلك الدليل الخارجي لفظيّاً أو لُبّيّاً، بل {ولو كان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة} بأن يكون للطبيعة الواقعة في حيّز النّهي إطلاق من جهة تعميمها ما بعد العصيان.

وبعبارة أُخرى: من حيث الوجود بعد الوجود، فنفس النّهي لا دلالة لها وإنّما الدالّ هو إطلاق الطبيعة مثلاً: شرب الخمر له إطلاق يشمل الوجود الأوّل والثّاني والثّالث وهكذا، فإذا وقع في حيّز النّفي دلّ على انتفاء جميع أفرادها {ولا يكفي إطلاقها} أي: إطلاق الطبيعة {من سائر الجهات} كالإطلاق من حيث الزمان والمكان والآلة ونحوها، إذ الإطلاق الزماني مثلاً يدلّ على الضرب في كلّ زمان لا على الضرب بعد الضرب {فتدبّر جيّداً} واللّه الموفّق.

[فصل اجتماع الأمر والنهي]

اشارة

المقصد الثّاني: في النواهي، اجتماع الأمر والنهي{فصل: اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنّهي في} شيء {واحد وامتناعه على أقوال}: أوّلها: جواز الاجتماع مطلقاً(1)، ثانيها: عدم الجواز مطلقاً(2){ثالثها: جوازه عقلاً وامتناعه عرفاً}(3)

والمراد بهذا التفصيل أنّ العقل حيث يرى المجمع

ص: 284


1- قوانين الأصول 1: 140.
2- الفصول الغرويّة: 125؛ معالم الدين: 93.
3- مجمع الفائدة والبرهان 2: 112.

وقبل الخوض في المقصود يقدّم أُمور:

الأوّل: المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين، ومندرجاً تحت عنوانين، بأحدهما كان مورداً للأمر، وبالآخر للنهي، وإن كان كليّاً مقولاً على كثيرين، كالصلاة في المغصوب.

وإنّما ذكر لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر والنّهي، ولم يجتمعا وجوداً - ولو جمعهما واحد مفهوماً، كالسجود للّه - تعالى - والسّجود للصنم مثلاً - ، لا لإخراج الواحد الجنسي

___________________________________________

اثنين لتعدّد الجهة، فلا مانع عنده من الاجتماع.

وأمّا العرف فحيث ينظرون إلى الشّيء بالنظر السّطحي والمجمع بهذا النّظر واحد، يكون الاجتماع عندهم محالاً {وقبل الخوض في المقصود يقدّم أُمور} مهمّة:

[الأوّل: معنى الواحد]

{الأوّل: المراد بالواحد} في العنوان {مطلق ما كان ذا وجهينومندرجاً تحت عنوانين} بحيث كان {بأحدهما كان مورداً للأمر، وبالآخر} مورداً {للنهي، وإن كان} ذلك الواحد واحداً بالنوع أو بالصنف أو بالجنس بأن كان {كليّاً مقولاً على كثيرين} وذلك {كالصلاة في المغصوب} من المكان أو اللباس، فإنّ هذه الحركات الكلّيّة الشّاملة لكلّ صلاة في الغصب تتعنون بعنوان الصلاة المأمور بها وبعنوان الغصب المنهي عنه.

{وإنّما ذكر} قيد الوحدة {لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر والنّهي، و} ذلك بأن {لم يجتمعا وجوداً} فإنّ ذلك من باب اجتماع الأمر والنّهي {ولو جمعهما} أي: متعلّق الأمر ومتعلّق النّهي {واحد مفهوماً} بأن يصدق عليهما مفهوم واحد {كالسجود للّه - تعالى -} المأمور به {والسّجود للصنم مثلاً} المنهي عنه فلا يصحّ أن يقال: إنّ السّجود المطلق من باب اجتماع الأمر والنّهي و{لا} يكون القيد بالواحد في العنوان {لإخراج الواحد الجنسي} كما لو أمر بإحضار حيوان ونهى عنه

ص: 285

أو النّوعي، كالحركة والسّكون الكليّين المعنونين بالصلاتيّة والغصبيّة.

الثّاني: الفرق بين هذه المسألة ومسألة النّهي في العبادات هو: أنّ الجهة المبحوث عنها فيها - الّتي بها تمتاز المسائل - هي أنّ تعدّد الوجه والعنوانِ في الواحد يوجب تعدّد متعلّق الأمر والنّهي - بحيث يرتفع به غائلةُ استحالة الاجتماع في الواحد بوجهٍ واحد -

___________________________________________

{أو النّوعي} كما لو أمر بإحضار إنسان ونهى عنه، خلافاً للعضدي، فإنّه خصّص النّزاع بالواحد الشّخصي زاعماً أنّ الواحد الجنسي ونحوه لا مانع من الاجتماع فيه.

ولا يخفى أنّ الظاهر من مثال العضدي بالسجود هو أنّ مراده عدم الامتناع في ما كان بعض الجنس مأموراً به وبعضه منهيّاً عنه لا ما كان تمام الجنس كذلك، فتدبّر.

فتحصّل من الأمر الأوّل أنّ الواحد سواء كان بالشخصي كزيد، أو بالصنف كالرومي، أو بالنوع كالإنسان، أو بالجنس {كالحركة والسّكون الكليّين المعنونين بالصلاتيّة والغصبيّة} كلّها من باب الاجتماع إذا تعلّق بها الأمر والنّهي.

[الثّاني: الفرق بين المسألتين]

{الثّاني: الفرق بين هذه المسألة ومسألة النّهي في العبادات} كالصلاة في أبوال ما لا يؤكل لحمه {هو} تعدّد الجهة لا ما ذكره صاحب الفصول ولا ما ذكره صاحب القوانين - رحمهما اللّه تعالى - .

بيان ذلك: {أنّ الجهة المبحوث عنها فيها} أي: في مسألة اجتماع الأمر والنّهي {الّتي بها تمتاز المسائل} كما سبق من أنّ امتياز مسائل العلم بعضها من بعض إنّما هو بتعدّد الجهة لا بتعدّد الموضوع أو المحمول {هي أنّ تعدّد الوجه والعنوان في} الشّيء {الواحد} هل {يوجب تعدّد متعلّق الأمر والنّهي بحيث يرتفع به} أي: بهذا التعدّد {غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بوجهٍ واحدٍ} فيكون حال العنوانين

ص: 286

أو لا يوجبه، بل يكون حاله حالَه؟

فالنزاع في سراية كلّ من الأمر والنّهي إلى متعلّق الآخر - لاتحاد متعلّقيهما وجوداً - ، وعدمِ سرايته - لتعدّدهما وجهاً - . وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الأُخرى؛ فإنّ البحث فيها في أنّ النّهي في العبادة أو المعاملة يوجب فسادها، بعد الفراغ عن التوجّه إليها.

نعم، لو قيل بالامتناع مع ترجيح جانب النّهي في مسألة الاجتماع،

___________________________________________

كحال الموضوعين، فكما لا يسري الحكم من موضوع إلى موضوع كذلك لا يسري من العنوان إلى المعنون {أو لا يوجبه، بل} الشّيء الواحد لا يجتمع فيه الأمر والنّهي سواء كان متعدّد العنوان أو متّحد العنوان، فكما لا يمكن أن لا يأمر بالصلاة وينهى عن الصلاة كذلك لا يمكن أن يأمر بهذه الحركة والسّكون لكونها صلاة وينهى عنها لكونها غصباً، ف- {يكون حاله} أي: حال متعدّد العنوان {حاله} أي: حال متّحد العنوان {فالنزاع} في مسألة الاجتماع {في سراية كلّ من الأمر والنّهي إلى متعلّق الآخر} الّذي هو متعلّق نفسه أيضاً {لاتحاد متعلّقيهما وجوداً وعدم سرايته} بل العنوانان واجب ومحرّم والمتعلّق ليس بواجب ولا حرام {لتعدّدهما وجهاً} وعنواناً {وهذا} الحيث المبحوث عنه في هذه المسألة {بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الأُخرى} أي: مسألة النّهي في العبادة {فإنّ البحث فيها في أنّ النّهي في العبادة أو المعاملة يوجب فسادها} أم لا{بعد الفراغ عن التوجّه إليها} أي: توجّه النّهي إلى تلك العبادة أو المعاملة، فمسألة الاجتماع في مرتبة صغرى مسألة النّهي في العبادة.

{نعم، لو قيل} في هذه المسألة {بالامتناع مع ترجيح جانب النّهي في مسألة الاجتماع} أي قلنا: إنّ اجتماع الأمر والنّهي ممتنع وفي مثل الصلاة في الغصب رجّحنا الحرمة على الوجوب حتّى كانت الصلاة الّتي هي عبادة متعلّقة للنهي فقط

ص: 287

يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك المسألة.

فانقدح: أنّ الفرق بين المسألتين في غاية الوضوح.

وأمّا ما أفاده في الفصول من الفرق بما هذه عبارته: «ثمّ اعلم: أنّ الفرق بين المقام والمقام المتقدّم - وهو أنّ الأمر والنّهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا؟ - أمّا في المعاملات فظاهر، وأمّا في العبادات فهو أنّ النّزاع هناك في ما إذا تعلّق الأمر والنّهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة، وإن كان بينهما عموم مطلق،

___________________________________________

{يكون مثل} هذه المسألة - أعني: {الصلاة في الدار المغصوبة - من صغريات تلك المسألة} إذ بعد تحقّق سقوط الأمر عن الصلاة يتوجّه النّهي إليها فقط، وحينئذٍ يقع الكلام في أنّ النّهي المتوجّه إلى الصلاة يقتضي فسادها أم لا، وشكل القياس هذه: العبادة منهيّ عنها، وكلّ عبادة منهيّ عنها فاسدة مثلاً، فهذه العبادة فاسدة.

{فانقدح أنّ الفرق بين المسألتين} على ما ذكرنا من تعدّد الجهة {في غاية الوضوح} وبهذا تبيّن وجه تقديمهذه المسألة على مسألة النّهي في العبادة أيضاً {وأمّا ما أفاده في الفصول من الفرق} بين المسألتين بتعدّد الموضوع {بما هذه عبارته: «ثمّ اعلم أنّ الفرق بين} هذا {المقام} وهو مسألة النّهي في العبادة {و} بين {المقام المتقدّم وهو أنّ الأمر والنّهي هل يجتمعان في شيء واحد، أو لا} فيتعدّد الموضوع؟

بيان ذلك: {أمّا في المعاملات فظاهر} لعدم تعلّق الأوامر بالمعاملات إلّا نادراً، فلا يتحقّق مورد الاجتماع فيها {وأمّا في العبادات فهو} أي: الفرق {أنّ النّزاع هناك} في مسألة الاجتماع {في ما إذا تعلّق الأمر والنّهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة} إذا كان بينهما عموم من وجه كالصلاة والغصب، فإنّه يتحقّق الأوّل في الصلاة في غير الغصب، ويتحقّق الثّاني في الغصب بدون الصلاة، ويجتمعان في الصلاة مع الغصب، بل {وإن كان بينهما عموم مطلق} نحو (أكرم

ص: 288

وهنا في ما إذا اتحدتا حقيقةً وتغايرتا بمجرّد الإطلاق والتقييد، بأن تعلّق الأمر بالمطلق والنّهي بالمقيّد»(1)، انتهى موضع الحاجة.

فاسد؛ فإنّ مجرّد تعدّد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات، لا يوجب التمايزَ بين المسائل ما لم يكن هناك اختلافُ الجهات، ومعه

___________________________________________

النّاطق) و(لا تكرم الشّاعر) فإنّهما طبيعتان متغايرتان وبينهما عموم مطلق، فإنّالنّاطق يتحقّق كلّما تحقّق الشّاعر بدون العكس.

{و} النّزاع {هنا} في مسألة النّهي في العبادة {في ما إذا اتحدتا} الطبيعتان {حقيقة} بأن توجّه النّهي إلى ما توجّه به الأمر {وتغايرتا بمجرّد الإطلاق والتقييد} وذلك {بأن تعلّق الأمر بالمطلق و} تعلّق {النّهي بالمقيّد»} نحو (صلّ) و(لا تصلّ في غير المأكول).

والحاصل: أنّ موضوع مسألة الاجتماع تعدّد الطبيعة وموضوع مسألة النّهي وحدتهما فتغاير الموضوع أوجب تعدّد المسألة. هذا تمام الكلام في الفرق الّذي ذكره صاحب الفصول، وهنا فرق آخر لصاحب القوانين وهو أنّ النّسبة بين متعلّق الأمر والنّهي في مسألة الاجتماع عموم من وجه، كالصلاة والغصب، وبين متعلّقهما في مسألة النّهي في العبادة عموم مطلق، كالصلاة والصلاة في غير المأكول، وقد أشار صاحب الفصول إلى ردّ هذا الفرق بقوله: «وإن كان بينهما عموم مطلق».

ولا يخفى أنّ هذا الفرق أيضاً مبتن على كفاية تعدّد الموضوع لتعدّد المسألة {انتهى موضع الحاجة} من كلام الفصول وهو {فاسد، فإنّ مجرّد تعدّد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات لا يوجب التمايز بين المسائل} بحيث يوجب عقد مسألتين {ما ل-م يكن هناك اختلاف الجهات، ومع-ه} أي: مع اختلاف الجهات

ص: 289


1- الفصول الغرويّة: 140.

لا حاجة أصلاً إلى تعدّدها، بل لا بدّ من عقد مسألتين مع وحدة الموضوع وتعدّد الجهة المبحوث عنها، وعَقدِ مسألة واحدة في صورة العكس، كما لا يخفى.

ومن هنا انقدح أيضاً: فساد الفرق بأنّ النّزاع هنا في جواز الاجتماع عقلاً، وهناكفي دلالة النّهي لفظاً.

فإنّ مجرّد ذلك - لو لم يكن تعدّد الجهة في البين - لا يوجب إلّا تفصيلاً في المسألة الواحدة،

___________________________________________

{لا حاجة أصلاً إلى تعدّدها} أي: تعدّد الموضوعات {بل لا بدّ من عقد مسألتين مع وحدة الموضوع وتعدّد الجهة المبحوث عنها} كمسألة الأمر للفور ومسألة الأمر يقتضي الوجوب، فإن تعدّد الجهة أوجب عقد مسألتين وإن كان الموضوع واحداً {وعقد مسألة واحدة في صورة العكس} بان كانت الجهة واحدة وتعدّد الموضوع، كمسألة الاستثناء المتعقّب للجمل، فإنّ جهة البحث لمّا كانت واحدة أوجبت وحدة المسألة وإن كان الموضوع متعدّداً بحسب كون الشّرط والغاية والصفة والاستثناء والحال وغيرها كلّها محلّ البحث، كما يظهر ذلك لمن راجع تلك المسألة {كما لا يخفى}.

ومن هذا ظهر الجواب عن صاحب القوانين أيضاً.

{ومن هنا انقدح أيضاً فساد الفرق} الّذي ذكره بعضهم {بأنّ النّزاع هنا} في مسألة اجتماع الأمر والنّهي {في جواز الاجتماع عقلاً، وهناك} في مسألة النّهي في العبادة {في دلالة النّهي لفظاً} فالفرق أنّ أحدهما عقليّة والأُخرى لفظيّة {فإنّ مجرّد ذلك} الفرق {لو لم يكن تعدّد الجهة في البين لا يوجب إلّا تفصيلاً في المسألة الواحدة} بأن يعقد مبحث واحد ويتكلّم فيه تارة عن الحكم العقلي وأُخرى عن الحكم اللفظي، كأن يقال في مسألة اجتماع الأمر والنّهي: الاجتماع عقلاً جائز ولكن النّهي يدلّ لفظاً على الفساد أو بالعكس، فإنّالاختلاف بين العقل والعرف

ص: 290

لا عقدَ مسألتين، هذا.

مع عدم اختصاص النّزاع في تلك المسألة بدلالة اللفظ، كما سيظهر.

الثّالث: أنّه حيث كانت نتيجة هذه المسألة ممّا تقع في طريق الاستنباط، كانت المسألة من المسائل الأصوليّة، لا من مبادئها الأحكاميّة، ولا التصديقيّة،

___________________________________________

{لا} يقتضي {عقد مسألتين، هذا مع عدم اختصاص النّزاع في تلك المسألة} أي: النّهي في العبادة {بدلالة اللفظ، كما سيظهر} عن قريب إن شاء اللّه - تعالى - بأنّ مطلق الحرمة ينافي العباديّة ولو لم يكن الدالّ على الحرمة لفظاً.

[الثّالث: أصولية المسألة]

{الثّالث} في بيان كون هذه المسألة من مسائل الأصول فنقول: {إنّه حيث كانت نتيجة هذه المسألة ممّا تقع في طريق الاستنباط} بأن تقع النّتيجة وهي جواز الاجتماع أو امتناعه كبرى لصغرى وجدانيّة خارجيّة فيقال: هذه الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة ممّا اجتمع فيه الأمر والنّهي، وكلّما اجتمع فيه الأمر والنّهي فهو باطل على الامتناع، فهذه الصلاة باطلة. أو يقال: وكلّما اجتمع فيه الأمر والنّهي فهو صحيح على الجواز فهذه الصلاة صحيحة، ومن المعلوم أنّ الصحّة والبطلان من الأحكام الفرعيّة وعليه {كانت} هذه {المسألة من المسائل الأصوليّة} لما تقدّم من أنّ المسألة الأصوليّة ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي {لا من مبادئها الأحكاميّة} أي: من مبادئ المسائل، والأحكاميّة صفة المبادئ، والمبادئ الأحكاميّة عبارة عنمقدّمات الأحكام الخمسة الشّرعيّة ولوازمها ومبادئها.

مثلاً: الوجوب والحرمة لهما لوازم، كملازمة الوجوب لوجوب مقدّمته وملازمة الحرمة لحرمة مقدّمته.

{ولا} من مباديها {التصديقيّة} وهي عبارة عن الأُمور الّتي يتوقّف عليها قياسات العلم.

ص: 291

ولا من المسائل الكلاميّة، ولا من المسائل الفرعيّة، وإن كانت فيها جهاتها، كما لا يخفى؛ ضرورة أنّ مجرّد ذلك لا يوجب كونَها منها، إذا كانت فيها جهةٌ أُخرى يمكن عقدها معها

___________________________________________

مثلاً: الأمر للوجوب مسألة أُصوليّة، ومن مبادئ هذه المسألة التصديق بالفرق بين طلب العالي وطلب المساوي وطلب السّافل {ولا من المسائل الكلاميّة} وهي المسائل الباحثة عن أحوال المبدأ والمعاد، كمسألة التوحيد ومسألة كون المعاد جسمانيّاً ونحوهما {ولا من المسائل الفرعيّة} الفقهيّة، وهي الباحثة عن أحوال المكلّفين كوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر ونحوها {وإن كانت فيها} أي: في مسألة اجتماع الأمر والنّهي {جهاتها}.

أمّا كونها من المبادئ الأحكاميّة؛ فلأنّ من الأحكام الوجوب والحرمة، فالتكلّم في إمكان اجتماعهما في متعدّد الجهة وعدم إمكانه مثل التكلّم في وجوب المقدّمة للواجب وعدمه.

وأمّا كونها من المبادئ التصديقيّة للمسألة الأصوليّة؛ فلأنّ المسألة الأصوليّة هي أنّ الأمر والنّهي هل يتعارضان مع تعدّد الجهة أم لا، ومن مبادئ التصديق بهذه المسألة امتناع الاجتماع وعدمه.

وأمّا كونها من المسائل الكلاميّة؛ فلأنّه يبحث فيها عن أنّه يجوز للحكيم - تعالى -أن يأمر بشيء لجهة، وينهى عنه لجهة أُخرى، أم لا يجوز ذلك عليه - سبحانه - .

وأمّا كونها من المسائل الفرعيّة؛ فلأنّه يبحث فيها عن صحّة الصلاة الواقعة في المغصوب وعدمها {كما لا يخفى} كلّ ذلك بأدنى تأمّل.

وإنّما قلن-ا ب-أنّ المسألة أُصوليّة م-ع وجود سائر الجهات ل- {ضرورة أنّ مجرّد ذلك} أي: وجود سائر الجهات {لا يوجب كونها منها} أي: كون هذه المسألة من مسائل سائر العلوم {إذا كانت فيها جهة أُخرى يمكن عقدها معها} أي: مع تلك الجهة

ص: 292

من المسائل؛ إذ لا مجال حينئذٍ لتوهّم عقدها من غيرها في الأصول، وإن عقدت كلاميّةً في الكلام، وصحّ عقدها فرعيّةً أو غيرَها بلا كلام.

وقد عرفت في أوّل الكتاب: أنّه لا ضير في كون مسألة واحدة يبحث فيها عن جهة خاصّة من مسائل علمين؛ لانطباق جهتين عامّتين على تلك الجهة: كانت بإحداهما من مسائل علم، وبالأُخرى من آخر، فتذكّر.

الرّابع: أنّه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه: أنّ المسألة عقليّة،

___________________________________________

{من المسائل} الأصوليّة - كما تقدّم بيانه - {إذ لا مجال حينئذٍ} أي: حين وجود الجهة الأصوليّة {لتوهّم عقدها من غيرها} من سائر العلوم {في الأصول وإن عقدت كلاميّة في} علم {الكلام وصحّ عقدها فرعيّة أو غيرها بلا كلام، و} لا يرد بأنّه كيف يمكن أن تكون مسألة واحدة مشتملة على جهات علوم متعدّدة حتّى يصحّ عقدها مسألة لكلّ من تلك العلوم؟ لما {قد عرفت في أوّل الكتاب أنّه لا ضير في كونمسألة واحدة يبحث فيها عن جهة خاصّة من مسائل علمين} الظرف خبر «كان» {لانطباق جهتين عامّتين} المبحوث عنهما في ذينك العلمين {على تلك الجهة} بحيث {كانت} هذه المسألة الواحدة {بإحداهما من مسائل علم وبالأُخرى من} مسائل علم {آخر، فتذكّر}.

ولا يخفى أنّ المراد بقوله: «يبحث فيها عن جهة خاصّة» البحث الواحد، وإلّا فلو كان البحث عن جهة واحدة فقط لم يعقل انطباق جهتين متخالفتين عليه.

[الرّابع: عقلية المسألة]

{الرّابع: أنّه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه} كقولنا في صدر المبحث: «اختلفوا» الخ، وقولنا في الأمر الثّاني: «هو أنّ الجهة المبحوث عنها فيها» الخ {أنّ المسألة عقليّة} لأنّ التعبير بجواز الاجتماع وعدمه مرتبط بالعقل ولا يناسب المبحث اللفظي، ولهذا لا يصحّ أن يقال هل يجوز أن يكون الأمر للوجوب أم لا يجوز.

ص: 293

ولا اختصاص للنزاع في جواز الاجتماع والامتناع فيها بما إذا كان الإيجاب والتحريم باللفظ، كما ربّما يوهمه التعبير بالأمر والنّهي الظاهرين في الطلب بالقول، إلّا أنّه لكون الدلالة عليهما غالباً بهما، كما هو أوضح من أن يخفى.

___________________________________________

ولو كان مبحث الاجتماع لفظيّاً لقيل: هل النّهي عن شيء يدلّ على عدم وجوبه أم لا؟ {ولا اختصاص للنزاع في جواز الاجتماع والامتناع} عطف على الجواز {فيها} أي: في هذه المسألة وهو متعلّق بالنزاع، أي: إنّ النّزاع في هذه المسألة في أنّه يجوز الاجتماع أو لا يجوز لا اختصاص له {بما إذا كان الإيجابوالتحريم باللفظ} بل يجري النّزاع في ما إذا كانا مستفادين من الإجماع أو دليل العقل، إذ النّزاع في إمكان اجتماع الحرمة والوجوب مطلقاً لا ما إذا كانا مستفادين من اللفظ {كما(1) ربّما يوهمه التعبير بالأمر والنّهي الظاهرين في الطلب بالقول} وإن صحّ استعمالهما في الطلب بغيره {إلّا أنّه} وجه الاعتذار عن عقد المسألة في الأمر والنّهي، أي: أنّ التعبير بالأمر والنّهي إنّما هو {لكون الدلالة عليهما} أي على الحرمة والوجوب {غالباً بهما} أي: بالأمر والنّهي {كما هو أوضح من أن يخفى} لمن تأمّل.

إن قلت: لو كانت المسألة عقليّة فاللّازم ذكرها في الأدلّة العقليّة لا اللفظيّة.

قلت: هي مثل مسألة الملازمة بين وجوب الشّيء ووجوب مقدّماته، فإنّ القدماء لم يكن لهم كثير عناية بنحو هذه الخصوصيّات والمتأخّرون تبعوهم في

ص: 294


1- لا يخفى أنّه من قال بأنّ هذه المسألة لفظيّة استدلّ بأمرين: الأوّل: التعبير في العنوانات بلفظ الأمر والنّهي. الثّاني: تفصيل بعض في المسألة بين العقل والعرف، والمعلوم أنّ العرف إنّما يحكم بعد إلقاء لفظ الأمر والنّهي عليه، والمصنّف أجاب عن الأوّل بقوله: «كما ربّما» الخ، وأجاب عن الثّاني بقوله: «وذهاب» الخ.

وذهاب البعض(1) إلى الجواز عقلاً والامتناع عرفاً، ليس بمعنى دلالة اللفظ، بل بدعوى أنّ الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنان، وأنّه بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين، وإلّا فلا يكون معنىً محصّلاً للامتناع العرفي. غاية الأمر دعوى دلالة اللفظعلى عدم الوقوع، بعد اختيار جواز الاجتماع، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

الوضع غالباً {و} ربّما قيل بأنّ ذكرها في مبحث الألفاظ لأجل أنّ الدلالة على الحرمة والوجوب بالأمر والنّهي.

فإن قلت: إذا كانت المسألة عقليّة فما معنى {ذهاب البعض إلى الجواز عقلاً والامتناع عرفاً} مع أنّه كيف يمكن الامتناع العرفي في صورة الجواز العقلي؟

قلت: {ليس} الامتناع العرفي في كلامه {بمعنى دلالة اللفظ} على الامتناع حتّى تكون المسألة لفظيّة {بل} المقصود من هذا التفصيل الفرق بين النّظر العمقي والسّطحي {بدعوى أنّ الواحد} المتعدّد الجهة {بالنظر الدقيق العقلي اثنان وأنّه} أي: ذلك الواحد بنفسه {بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين} لأنّ نظر العرف ليس دقيقاً، ولهذا يرى العرف زوال الشّيء بزوال عينه وإن بقي لونه وريحه، مع أنّ بقاءهما يلازم بقاء أجزاء صغار بالنظر الدقّي، وعلى كلّ فهذا ليس تفصيلاً في المسألة حقيقة {وإلّا} فلو كان المراد الامتناع الحقيقي عند العرف {فلا يكون معنى محصّلاً للامتناع العرفي} إذ العقل والعرف ليسا من قبيل الألفاظ حتّى يمكن تعارضهما {غاية الأمر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع} أي: عدم وقوع اجتماع الأمر والنّهي في الخارج {بعد اختيار جواز الاجتماع} عقلاً.

وحاصله: أنّ العقل لو أجاز الاجتماع لا يحقّ للعرف منعه، وإنّما يحقّ له أن يقول بوجود دليل في مقام الإثبات على أنّه لم يقع في ظرف الوجود، إذ كثير من الممكنات العقليّة لا يكون له وقوع في ظرف الخارج {فتدبّر جيّداً}حتّى لا تقول

ص: 295


1- مجمع الفائدة والبرهان 2: 112.

الخامس: لا يخفى أنّ ملاك النّزاع في جواز الاجتماع والامتناع يعمّ جميعَ أقسام الإيجاب والتحريم، كما هو قضيّة إطلاق لفظ الأمر والنّهي.

ودعوى الانصراف إلى النّفسيّين التعيينيّين العينيّين في مادّتهما، غيرُ خاليةٍ عن الاعتساف،

___________________________________________

بأنّ هذا الأمر غير مستقيم المطالب ولا مرتبط بعضها مع بعض كما احتمله بعض. وإن شئت توضيح المطلب أكثر ممّا ذكرنا، فراجع الخوئيني(1)

والمشكيني(2)،

واللّه الموفّق.

[الخامس: عمومية ملاك النزاع]

{الخامس: لا يخفى أنّ ملاك النّزاع في جواز الاجتماع} بين المتضادّين في أمر واحد لتعدّد الجهة {والامتناع، يعمّ جميع أقسام الإيجاب والتحريم} سواء كانا نفسيّين أو غيريّين تعيينيّين أو تخييريّين عينيّين أو كفائيّين أو مختلفين، بأن كان الواجب نفسيّاً والحرام غيريّاً أو بالعكس وهكذا، وأمثلة الكلّ واضحة إلّا الحرمة الكفائيّة فقد قيل بعدم وجودها، بل امتناعها، ويمكن أن يمثّل لها بما إذا قال المولى لعبيده العشرة يحرم على أحد منكم التزويج - في ما إذا كان المولى محتاجاً إلى عبد يقوم بخدمته دائماً - فإنّ التزويج محرّم كفائي، فتأمّل.

{كما هو} أي: العموم {قضيّة إطلاق لفظ الأمر و}لفظ {النّهي} فإنّ جميع أقسام الوجوب أمر، كما أنّ جميع أقسام الحرمة نهي {ودعوى} صاحب الفصول(رحمة الله) {الانصراف إلى} الأمر والنّهي {النّفسيّين التعيينيّين العينيّين في مادّتهما} يعني إذا أُطلق كلمة الأمر أو كلمة النّهي انصرف إلى ذلك {غير خالية عن الاعتساف} لأنّ منشأ الانصراف إمّا غلبة الوجود أو غلبة الاستعمال وكلاهما

ص: 296


1- شرح كفاية الأصول 2: 68.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 106.

وإن سُلّم في صيغتهما، مع أنّه فيها ممنوع أيضاً.

نعم، لا يبعدُ دعوى الظهور والانسباق من الإطلاق بمقدّمات الحكمة الغير الجارية في المقام؛ لما عرفت من عموم الملاك لجميع الأقسام، وكذا ما وقع في البين من النّقض والإبرام.

___________________________________________

ممنوعان. والحاصل: أنّ الانصراف ممنوع في مادّتهما {وإن سلم في صيغتيهما} بأن قلنا: إنّ صيغة (إفعل) حيث يطلق فالظاهر منه النّفسي العيني التعييني، وكذا صيغة (لا تفعل) {مع أنّه} أي: الانصراف {فيها} أي: في الصيغة {ممنوع أيضاً} لما تقدّم.

{نعم، لا يبعد دعوى الظهور والانسباق من الإطلاق بمقدّمات الحكمة} على ما مرّ في مبحث الأمر.

وحاصله: أنّه لمّا كان كلّ من الغيري والتخييري والكفائي يحتاج إلى مؤونة زائدة، فإنّ الغيري محتاج إلى جعله مقدّمة لواجب نفسي والتخييري محتاج إلى جعل عدل له، والكفائي محتاج إلى تقييده بعدم فعل الغير، فحيث لم يكن في البين أحد القيود الثّلاثة وكان المولى في مقام البيان، فاللّازم حمل صيغة الأمر على النّفسي العيني التعييني، ولا يذهب عليك أنّ الانصراف غير الإطلاق، إذالانصراف مستند إلى الوضع، والإطلاق مستند إلى مقدّمات الحكمة.

هذا كلّه في الصيغة، وأمّا مادّة الأمر والنّهي فلا إطلاق لهما في النّفسي العيني التعييني، كما لا انصراف لهما على ما سبق، إذ الإطلاق محتاج إلى مقدّمات الحكمة {الغير الجارية في المقام} لأنّ من مقدّمات الإطلاق عدم قرينة - ولو عقليّة - على خلاف الإطلاق، وهنا قرينة عقليّة للعموم {لما عرفت من عموم الملاك لجميع الأقسام} فإنّ ملاك هذا النّزاع هو استحالة اجتماع المتضادّين في واحد ذي جهتين أو جوازه.

وهذا لا يختصّ بقسم دون قسم من الواجب والحرام {وكذا ما وقع في البين من النّقض والإبرام} لا يختصّ بقسم دون قسم، وهذا عطف على قوله: «لما قد عرفت».

ص: 297

مثلاً: إذا أمر بالصلاة أو الصوم تخييراً بينهما، وكذلك نهى عن التصرّف في الدار، والمجالسة مع الأغيار، فصلّى فيها مع مجالستهم، كان حالُ الصلاة فيها حالَها كما إذا أمر بها تعييناً، ونهى عن التصرّف فيها كذلك، في جريان النّزاع في الجواز والامتناع ومجيء أدلّة الطرفين، وما وقع من النّقض والإبرام في البين، فتفطّن.

السّادس: أنّه ربّما يؤخذ في محلّ النّزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال(1).

___________________________________________

والحاصل: أنّ المانع من انعقاد الإطلاق أمران: الأوّل: عموم الملاك، والثّاني: عموم كلام العلماء المستفاد من النّقض والإبرام الواقع بينهم.ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) مثّل لاجتماع الواجب والحرام التخييريّين مثالاً فقال: {مثلاً إذا أمر} المولى {بالصلاة أو الصوم تخييراً بينهما، وكذلك نهى عن التصرّف في الدار والمجالسة مع الأغيار} تخييراً بينهما، ومعنى الحرام التخييريّ حرمة أحدهما على سبيل البدل بحيث لا يجوز الجمع بينهما، كما أنّ معنى الوجوب التخييري وجوب أحدهما على سبيل البدل {فصلّى فيها مع مجالستهم} فقد اجتمع هنا الواجب التخييري - وهو الصلاة - والمحرّم التخييري - أعني: التصرّف والمجالسة - فإنّ الحرام التخييري إنّما يتحقّق بالجمع بينهما، فحينئذٍ {كان حال الصلاة فيها حالها، كما إذا أمر بها تعييناً ونهى عن التصرّف فيها كذلك} تعييناً {في جريان النّزاع في الجواز والامتناع} الظرف الأوّل متعلّق ب- «حالها» والظرف الثّاني متعلّق ب- «النّزاع» {و} في {مجيء أدلّة الطرفين وما وقع من النّقض والإبرام في البين} وكذا إذا اجتمع في شيء عنوان المقدّميّة للواجب وللحرام، فإنّه يجتمع حينئذٍ في الواجب والحرام الغيري {فتفطّن} وقس على ذلك غيره.

[السّادس: هل المندوحة معتبرة؟]

{السّادس: أنّه يربّما يؤخذ في محلّ النّزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال} يعني:

ص: 298


1- قوانين الأصول 1: 140 و 142 و 153؛ الفصول الغرويّة: 124.

بل ربّما قيل(1) بأنّ الإطلاق إنّما هو للاتكال على الوضوح؛ إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال.ولكن التحقيق - مع ذلك - : عدمُ اعتبارها في ما هو المهمّ في محلّ النّزاع

___________________________________________

أنّ النّزاع في اجتماع الأمر والنّهي إنّما هو في ما كان للمكلّف مفرّ وطريق امتثال لإيجاد الصلاة في غير الدار المغصوبة بأن لم يكن مكانه منحصراً في الغصب بأن كان له مكان مباح يمكنه الصلاة فيه، إذ لو لم يكن له مفرّ كان الأمر بالصلاة تكليفاً بالمحال، وعلى هذا ففي ما لم يكن له مكان مباح يكون خارجاً عن مسألة اجتماع الأمر والنّهي.

{بل ربّما قيل بأنّ الإطلاق} أي: إطلاق العلماء جواز الاجتماع أو امتناعه وعدم تقييدهم بقيد المندوحة {إنّما هو للاتكال على الوضوح، إذ بدونها} أي: بدون المندوحة {يلزم التكليف بالمحال} وحيث إنّ العدليّة لا يجوّزون التكليف بالمحال، فلا بدّ من تقييد كلامهم بالمندوحة حتّى لا يخالف مبناهم.

{ولكن التحقيق مع ذلك} كلّه {عدم اعتبارها} أي: المندوحة {في ما هو المهمّ في محلّ النّزاع} فإنّ المهمّ في هذا الباب أنّه هل يرتفع التضادّ بين الأمر والنّهي بتعدّد الجهة أم التضادّ باق على حاله؟

توضيح ذلك أنّ الكلام في باب الاجتماع الأمر والنّهي يمكن أن يقع في مقامين:

الأوّل: أنّه هل يستحيل اجتماعهما في متعدّد العنوان أم لا؟

الثّاني: أنّه هل يجوز التكليف بالأمر والنّهي في متعدّد العنوان أم لا؟

مثلاً: قد تتكلّم في أنّ الطيران إلى السّماء مستحيل أم لا، وقد نتكلّم في أنّ التكليف بالطيران جائز أم لا.

ص: 299


1- الفصول الغرويّة: 124.

من: لزوم المحال، - وهو اجتماع الحكمين المتضادّين، وعدمِ الجدوى في كون موردهما موجّهاً بوجهين في دفع غائلة اجتماع الضدّين - ، أو عدم لزومه، وأن تعدّد الوجه يجدي في دفعها، ولا يتفاوت في ذلك أصلاً وجودُ المندوحة وعدمها. ولزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخرُ، لا دخلَ له بهذا النّزاع.

نعم، لا بدّ من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلاً،

___________________________________________

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ النّزاع في المقام الأوّل والمندوحة لا ربط لها بهذا المقام، بل هي مربوطة بالمقام الثّاني الّذي هو مقام التكليف(1).

والحاصل: أنّ المندوحة غير مرتبط بما هو المهمّ {من لزوم المحال، وهو اجتماع الحكمين المتضادّين وعدم الجدوى} أي: عدم الكفائيّة {في} رفع التضاد {كون موردهما} أي: الأمر والنّهي {موجّهاً بوجهين} فإنّ تعدّد الجهة غير كافٍ {في دفع غائلة اجتماع الضدّين} في الواحد الحقيقي {أو عدم لزومه} عطف على «لزوم المحال»، وبيّن هذا بقوله: {وإن تعدّد الوجه يجدي في دفعها} أي: دفع الغائلة.

{و} من المعلوم أنّه {لا يتفاوت في ذلك} المقام {أصلاً وجود المندوحة وعدمها} بل تقييد هذا المقام بقيد المندوحة، مثل أن يقال: إنّ الطيران إلى السّماء محال إذا كان هناك مندوحة، وهذا كما ترى في كمال السّخافة {ولزوم التكليف بالمحالبدونها} أي: بدون المندوحة {محذور آخر لا دخل له بهذا النّزاع} المرتبط بنفس استحالة الاجتماع.

{نعم، لا بدّ من اعتبارها} أي: المندوحة {في الحكم بالجواز فعلاً} أي: إنّ الذهاب إلى كفاية تعدّد الجهة في اجتماع الوجوب والحرمة لا بدّ وأن يعتبر المندوحة في صحّة التكليف، إذ لولا المندوحة كان التكليف بالصلاة مثلاً تكليفاً

ص: 300


1- وسيأتي لهذا مزيد توضيح في الأمر الأوّل من الأُمور الّتي يقدّمها المصنّف على مذهبه المختار عن قريب إن شاء الله - تعالى - . راجع الصفحة 322-323.

لمن يرى التكليف بالمحال محذوراً ومحالاً، كما ربّما لا بدّ من اعتبار أمر آخر في الحكم به كذلك أيضاً.

وبالجملة: لا وجه لاعتبارها إلّا لأجل اعتبار القدرة على الامتثال، وعدم لزوم التكليف بالمحال، ولا دخل له بما هو المحذور في المقام من التكليف المحال. فافهم واغتنم.

السّابع: أنّه ربّما يتوهّم:

تارةً: أنّ النّزاع في الجواز والامتناع يبتني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع.

___________________________________________

بالمحال وهو غير جائز {لمن يرى التكليف بالمحال محذوراً ومحالاً} كالعدليّة.

فتحصّل أنّه إذا قال أحد في المقام الأوّل بالإمكان وعدم لزوم التضادّ فلا بدّ وأن يخصّ الجواز في المقام الثّاني بوجود المندوحة {كما ربّما لا بدّ من اعتبار أمر آخر} من البلوغ والعقل ونحوهما {في الحكم به} أي: بالجواز {كذلك} أي: فعلاً {أيضاً} كما كانت المندوحة شرطاً في الفعليّة.

{وبالجملة لا وجه لاعتبارها إلّا لأجل اعتبار القدرة علىالامتثال وعدم لزوم التكليف بالمحال} فهي مرتبطة بالمقام الثّاني {ولا دخل له} أي: لاعتبار المندوحة {بما هو المحذور في المقام} الأوّل الّذي هو محلّ الكلام {من التكليف المحال} بيان «ما» {فافهم واغتنم} واللّه المنعم.

[السابع: عدم ارتباط المسألة بمسألة تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد]

{السّابع: أنّه ربّما يتوهّم تارة أنّ النّزاع في الجواز والامتناع يبتنى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع} إذ عليه تكون طبيعة الصلاة المتعلّقة للأمر غير طبيعة الغصب المتعلّقة للنهي، فيكون مجال للنزاع في إمكان الاجتماع وامتناعه، إذ القائل بالجواز ينظر إلى تعدّد الطبيعة والقائل بالامتناع ينظر إلى وحدة الوجود، إذ الطبيعتان إنّما توجدان بوجود واحد.

ص: 301

وأمّا الامتناع على القول بتعلّقها بالأفراد فلا يكاد يخفى؛ ضرورة لزوم تعلّق الحكمين بواحد شخصي - ولو كان ذا وجهين - على هذا القول.

وأُخرى: أنّ القول بالجواز مبنيّ على القول بالطبائع؛ لتعدّد متعلّق الأمر والنّهي ذاتاً عليه، وإن اتّحدا وجوداً، والقولَ بالامتناع على القول بالأفراد؛ لاتّحاد متعلّقهما شخصاً خارجاً، وكونهِ فرداً واحداً.

وأنت خبير بفساد كلا التوهّمين؛

___________________________________________

{وأمّا الامتناع على القول بتعلّقها} أي: تعلّق الأحكام {بالأفراد فلا يكاد يخفى} على أحد {ضرورة لزوم تعلّق الحكمين بواحد شخصي} إذالحكمان تعلّقا بالطبيعة الشّخصيّة، والمفروض في ظرف الاجتماع أنّ شخصاً واحداً صار متعلّقاً لهما، وهو أمر واحد حقيقة ووجوداً، فيلزم اجتماع الضدّين في واحد شخصي.

{ولو كان ذا وجهين على هذا القول} أي: القول بتعلّق الأحكام بالأفراد، والظرف متعلّق بقوله: «تعلّق الحكمين» {و} ربّما يتوهّم تارة {أُخرى} ب- {أنّ القول بالجواز مبنيّ على القول} بتعلّق الأحكام {بالطبائع لتعدّد متعلّق الأمر والنّهي ذاتاً عليه} أي: على هذا القول {وإن اتّحدا} أي: المتعلّقان للأمر والنّهي {وجوداً} كما هو المفروض {والقول بالامتناع} مبنيّ {على القول} بتعلّق الأوامر والنّواهي {بالأفراد لاتحاد متعلّقهما شخصاً خارجاً وكونه فرداً واحداً}.

والحاصل: أنّ هذه المسألة تبتني على تلك المسألة.

{و} لكن {أنت خبير بفساد كلا التوهّمين} وعدم ارتباط لهذه المسألة بمسألة الطبائع والأفراد، إذ لا شكّ أنّ المجمع شيء واحد شخصيّ ولا شكّ أنّ له وجهين، ولا شكّ أنّ الوجود الواحد لا يتغيّر بالقول بالطبائع أو الأفراد، وحينئذٍ فاللّازم التكلّم في أنّ تعدّد الوجه يجدي في رفع التناقض أم لا؟

ص: 302

فإنّ تعدُّدَ الوجه إن كان يُجدي - بحيث لا يضرّ معه الاتّحاد بحسب الوجود والإيجاد - ، لكان يُجدي ولو على القول بالأفراد؛ فإنّ الموجود الخارجي الموجّه بوجهين يكون فرداً لكلّ من الطبيعتين، فيكون مجمعاً لفردين موجودين بوجودٍ واحدٍ، فكما لا يضرّ وحدة الوجودبتعدّد الطبيعتين، كذلك لا يضرّ بكون المجمع اثنين بما هو مصداق وفرد لكلّ من الطبيعتين،

___________________________________________

{فإنّ تعدّد الوجه إن كان يجدي بحيث لا يضرّ معه الاتّحاد بحسب الوجود} الخارجي {والإيجاد لكان يجدي ولو على القول} بتعلّق الأوامر والنّواهي {بالأفراد، فإنّ الموجود الخارجي الموجّه بوجهين} كجهة الصلاتيّة وجهة الغصبيّة {يكون} هذا الموجود {فرداً لكلّ من الطبيعتين} طبيعة الصلاة المأمور بها وطبيعة الغصب المنهي عنها {فيكون مجمعاً لفردين موجودين بوجود واحد} وحينئذٍ لا يتمّ التوهّم الأوّل، إذ تعلّق الأمر بفرد وتعلّق النّهي بفرد آخر، منتهى الأمر أنّ هذين الفردين اتّحدا في الوجود.

وإن قلت: كيف يمكن أن يكون وجوداً واحداً مجمعاً لفردين، فإنّ اللّازم أن يكون لكلّ فرد وجود مستقلّ منحاز عن الآخر؟

قلت: لا فرق بين اتّحاد الطبيعتين وبين اتّحاد الفردين {فكما لا يضرّ وحدة الوجود بتعدّد الطبيعتين} بأن يكون وجود واحد مجمعاً لطبيعتين {كذلك لا يضرّ} وحدة الوجود {بِكَوْنِ المجمع اثنين} أي: فردين، بأن يكون وجود واحد مجمعاً لفردين {بما هو} أي: مجمعيّته لفردين بسبب أنّه {مصداق وفرد لكلّ من الطبيعتين}.

وإنّما قلنا بعدم الفرق؟ لأنّ العقل لا يرى تفاوتاً بين كون المطلوب بالفعل والترك هو الوجود السّعي - أعني: الطبيعة - بحيث كانت الخصوصيّات من لوازمالمطلوب، وبين كون المطلوب هو الوجود الخاص - أعني: الفرد - بحيث كانت الخصوصيّات داخلة في المطلوب، إذ الموضوع للحكمين على كلّ تقدير ليس إلّا

ص: 303

وإلّا لما كان يجدي أصلاً حتّى على القول، بالطبائع كما لا يخفى؛ لوحدة الطبيعتين وجوداً واتحادهما خارجاً.

فكما أنّ وحدة الصلاتيّة والغصبيّة - في الصلاة في الدار المغصوبة - وجوداً، غيرُ ضائر بتعدّدهما وكونِهما طبيعتين، كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيّات الصلاة فيها

___________________________________________

هذا الوجود المجمع.

وتوضيحه - بلفظ العلّامة الرّشتي(رحمة الله) - : «قد عرفت في مسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد أنّ الحكم والطلب لا يتعلّق بالطبيعة المجرّدة عن الوجود، بل إنّما يتعلّق بها من حيث إيجاد المكلّف إيّاها أو إبقائها على عدمها، وهذا القدر مسلّم بين الفريقين هناك، إلّا أنّ القائلين بتعلّقها بالأفراد ذهبوا إلى أنّ وجود تلك الطبيعة بجميع قيودها وحدودها مطلوبة، والقائلين بتعلّقها بالطبائع ذهبوا إلى أنّ وجودها السِّعي من دون نظر إلى الحدود المكتنفة بها مطلوبة، فحينئذٍ لا يعقل الفرق بين أن يكون الموجود ذا وجهين بحيث يكون بوجه فرداً لماهيّة وبوجه آخر فرداً لماهيّة أُخرى، أو يكون ذا وجهين يكون بأحدهما طبيعة مأموراً بها، وبالآخر طبيعة أُخرى منهيّاً عنها، فافهم»(1).

{وإلّا} يكن تعدّد الوجه مجدياً {لما كان} التعدّد {يجدي أصلاً حتّى على القول بالطبائع، كما لايخفى} بأدنى تأمّل {لوحدة الطبيعتين وجوداً واتحادهما خارجاً} إذ الطبيعتان وإن تعدّدتا ذهناً ولكنّهما متّحدان خارجاً، فيلزم اجتماع الأمر والنّهي في شيء واحد وهو اجتماع الضدّين {فكما أنّ وحدة الصلاتيّة والغصبيّة - في الصلاة في الدار المغصوبة - وجوداً غير ضائر بتعدّدهما وكونهما طبيعتين} عطف على «تعدّدهما» {كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيّات الصلاة} بيان «ما وقع» {فيه-ا} أي: في الصلاة في الدار المغصوبة

ص: 304


1- شرح كفاية الأصول 1: 214.

وجوداً، غيرُ ضائر بكونه فرداً للصلاة، فيكون مأموراً به، وفرداً للغصب، فيكون منهيّاً عنه، فهو - على وحدته وجوداً - يكون اثنين؛ لكونه مصداقاً للطبيعتين، فلا تغفل.

الثّامن: أنّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع، إلّا إذا كان في كلّ واحد من متعلّقي الإيجاب والتحريم مناطُ حكمه مطلقاً، حتّى في مورد التصادق والاجتماع، كي يحكم على الجواز

___________________________________________

{وجوداً غير ضائر بكونه فرداً للصلاة فيكون مأموراً به وفرداً للغصب فيكون منهيّاً عنه، فهو} أي: ما وقع في الخارج {على وحدته وجوداً يكون اثنين} من حيث الطبيعة، كما هو واضح ومن حيث الفرد {لكونه مصداقاً للطبيعتين}.

وقوله: «فكما» الخ، بيان لعدم الفرق بين اتّحاد الطبيعتين واتّحاد الفردين، فهو مثال لقوله: «فإنّ تعدّد الوجه» الخ، وليس مثالاً لقوله: «وإلّا لما كان» كما لايخفى {فلا تغفل} وتأمّل حتّى تجد الفرق الواضح بين الأمرين.

[الثامن: اشتراط التزاحم في مسألة الاجتماع]

{الثّامن:} في بيان الفرق بين مسألة اجتماع الأمر والنّهي الّذي هو من باب التزاحم وبين باب التعارض، وأنّه لم يرجع إلى المرجّحات في الثّاني دون الأوّل، حيث إنّهم يرجعون في مثل: (أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق) إلى المرجّحات، ولا يرجعون إليها في مثل: (صلّ ولا تغصب) مع أنّ المثالين سيّان في كون العموم من وجه بين طرفيهما.

ولا يخفى أنّه قد يفرق بين البابين من حيث الثّبوت والواقع، وقد يفرق بينهما من حيث الإثبات والدليل، وقدّم المصنّف(رحمة الله) الأوّل وقال: {إنّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلّا إذا كان في كلّ واحد من متعلّقي الإيجاب} في (صلّ) {والتحريم} في (لا تغصب) {مناط حكمه} بأن يكون ملاك الأمر في تمام أفراد الصلاة وملاك النّهي في تمام أفراد الغصب {مطلقاً} أي: {حتّى في مورد التصادق والاجتماع} فتكون الصلاة في الدار المغصوبة ذات ملاكين فعليّين {كي يحكم على الجواز}

ص: 305

بكونه فعلاً محكوماً بالحكمين، وعلى الامتناع بكونه محكوماً بأقوى المناطين، أو بحكم آخر غير الحكمين في ما لم يكن هناك أحدهما أقوى، كما يأتي تفصيله.

وأمّا إذا لم يكن للمتعلّقين مناط كذلك، فلا يكون من هذا الباب، ولا يكون مورد الاجتماع محكوماً إلّا بحكم واحد منهما إذا كان له مناطه، أو حكم آخر غيرهما في ما لم يكن

___________________________________________

أي: جواز اجتماع الأمر والنّهي {بكونه} أي: المجمع {فعلاً محكوماً بالحكمين، و} بناءً {على الامتناع بكونه محكوماً بأقوى المناطين} الإلزامي إذا كان هناك بعد التزاحم أحد الملاكين أقوى {أو} يكون المجمع فعلاً محكوماً {بحكم آخر غير الحكمين في ما لم يكن هناك أحدهما أقوى} بأن تساويا أو كانت القوّة الموجودة في أحدهما غير ملزمة {كما يأتي تفصيله} في باب التعادل والتراجيح.

والحاصل: أنّه لو كان للحكمين المجتمعين الملاك والمصلحة كأن يكون للصلاة في مورد الاجتماع ملاكها، بحيث لم يكن فرق بين هذه الصلاة وبين سائر الصلوات وكذلك كان للغصب في مورد الاجتماع ملاك حرمة الغصب، بحيث لم يكن فرق بين هذا الغصب وبين سائر أفراده كان هذا من باب التزاحم واجتماع الأمر والنّهي، والترجيح هنا بالأهميّة لا بالمرجّحات.

{وأمّا إذا لم يكن للمتعلّقين مناط كذلك} أي: مطلقاً حتّى في مورد الاجتماع - بأن كان الملاك قاصراً - وإنّما يشمل مورد الافتراق فقط {فلا يكون} المجمع {من هذا الباب} أي: باب التزاحم {ولا يكون مورد الاجتماع محكوماً إلّا بحكم واحد منهما إذا كان له} أي: لأحد الحكمين {مناطه}.

مثلاً: إذا وجب إكرام العلماء وحرم إكرام الفسّاق، ففي (العالم الفاسق) - إذا لم يكن للحكمين ملاكاً - إمّا أن يكون لأحد الحكمين ملاك {أو} لا، فإن كان لأحدهما ملاك بقي ذلك الحكم وحده {حكم آخر غيرهما فيما لم يكن} ملاك

ص: 306

لواحدٍ منهما، قيل بالجواز أو الامتناع.

هذا بحسب مقام الثّبوت.

وأمّا بحسب مقام الدلالة والإثبات: فالروايتان الدالّتان على الحكمين متعارضتان، إذا أُحرز أنّ المناط من قبيل الثّاني. فلا بدّ من عمل المعارضة حينئذٍ بينهما من الترجيح والتخيير، وإلّا فلا تعارض في البين، بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين.

___________________________________________

{لواحد منهما} سواء {قيل بالجواز، أو} قيل ب-{الامتناع}.

ولا يخفى أنّ هذا كما لا يكون من باب التزاحم لا يكون من باب التعارض، كما نبّه عليه بعض المحشّين، إذ التعارض إنّما يكون في مقام الإثبات، والكلام الآن في مقام الثّبوت.

{هذا} كلّه {بحسب مقام الثّبوت} والواقع {وأمّا بحسب مقام الدلالة والإثبات فالروايتان الدالّتان على الحكمين متعارضتان إذا أُحرز أنّ المناط من قبيل الثّاني} وهو ما كان المناط واحداً - كأن علمنا بأنّ إكرام العالم الفاسق إمّا واجب وإمّا حرام - {فلا بدّ من عمل المعارضة حينئذٍ بينهما من الترجيح} بالمرجّحات المذكورة {والتخيير} إن لم يكن مرجّح أو كان وقلنا بعدم لزومه، كما هو مبنى المصنّف(رحمة الله) في باب التعادل والتراجيح، وإعمال المعارضة هنا لا يتوقّف على القول بالجواز أو الامتناع، كما لا يخفى.

{وإلّا} يحرز أنّ المناط من قبيل الثّاني، بل احتمل كونه من قبيل الأوّل وهووجود المناط في كلّ من الحكمين حتّى في مورد الاجتماع {فلا تعارض في البين} إذ التعارض فرع العلم بكذب أحدهما، والمفروض هنا عدم العلم بذلك، بل يحتمل صدقهما معاً {بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين} على القول بامتناع اجتماع الأمر والنّهي، وأمّا على القول بالجواز فليس من باب التزاحم؛ لأنّ باب التزاحم إنّما هو في ما لا يمكن الجمع بينهما كالغريقين اللّذين لا يمكن

ص: 307

فربّما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلاً؛ لكونه أقوى مناطاً، فلا مجال حينئذٍ لملاحظة مرجّحات الرّوايات أصلاً، بل لا بدّ من مرجّحات المقتضيات المتزاحمات، كما يأتي الإشارة إليها.

نعم، لو كان كلّ منهما متكفّلاً للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض، فلا بدّ من

___________________________________________

إنقاذ كليهما، وبناءً على جواز اجتماع الأمر والنّهي يمكن الجمع بين الصلاة والغصب.

وعلى كلّ حال إذا كان الباب من التزاحم لزم إعمال مرجّحات هذا الباب {فربّما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلاً لكونه أقوى مناطاً} وأهميّة في نظر الشّارع. مثلاً: لو وَرَدَ وجوب إنقاذ المؤمن الغريق ثمّ ورد وجوب إنقاذ النّبي الغريق ففي مقام التزاحم يقدّم الثّاني وإن كان أضعف سنداً أو دلالة من الأوّل، فإنّ النّظر في باب التزاحم إلى الأهميّة لا إلى السّند والدلالة بخلاف باب التعارض {فلا مجال حينئذٍ} أي: حين كان المقام من التزاحم {لملاحظة مرجّحات الرّوايات} من المرجّحات السّنديّة والدلاليّة والخارجيّة {أصلاً، بل لا بدّ من مرجّحات المقتضيات المتزاحمات} أي: الملاكات الّتي أوجبت الحكم على طبقها، كملاكوجوب إنقاذ المؤمن وملاك وجوب إنقاذ النّبي {كما يأتي الإشارة إليها} في باب التعاد والترجيح - إن شاء اللّه تعالى - .

{نعم، لو كان كلّ منهما} أي: الدليلين في باب التزاحم {متكفّلاً للحكم الفعلي} بأن كانا ظاهرين في فعليّة مؤدّاهما حتّى في مورد الاجتماع، كأن يقول دليل إنقاذ المؤمن: يجب عليك إنقاذه حتّى في صورة غرق النّبي، ويقول دليل إنقاذ النّبي: يجب عليك إنقاذه حتّى في صورة غرق المؤمن {لوقع بينهما التعارض} من جهة فعليّة كلا المقتضيين لا أنّه يخرج من باب التزاحم.

وحينئذٍ {فلا بدّ من} ارتكاب أحد الوجهين:

ص: 308

ملاحظة مرجّحات باب المعارضة، لو لم يوفّق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجّحات باب المزاحمة، فتفطّن.

التّاسع: أنّه قد عرفت: أنّ المعتبر في هذا الباب أن يكون كلّ واحد من الطبيعة المأمور بها والمنهي عنها مشتملة على مناط الحكم مطلقاً، حتّى في حال الاجتماع.

فلو كان هناك ما دلّ على ذلك من إجماع أو غير فلا إشكال.

___________________________________________

الأوّل: أن نحمل غير الأهمّ منهما - كإنقاذ المؤمن - على الحكم الاقتضائي ويكون الأهم فقط فعليّاً.

الثّاني: {ملاحظة مرجّحات باب المعارضة} بأن نرجع إلى الأقوى سنداً أو دلالة إن كان وإلّا فالتخيير، وإنّما يصار إلى هذا {لو لم يوفّق بينهما} على النّحو الأوّل {بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي} والآخر على الحكم الفعلي {بملاحظةمرجّحات باب المزاحمة} متعلّق بقوله: «لم يوفّق» أي: إنّ الوجه في الجمع بينهما بحمل أحدهما على الاقتضائي هو أنّ المقتضي فيه أضعف من الآخر فاختلاف المقتضي يكشف عن اختلاف الحكم {فتفطّن}.

[التاسع: طريق إحراز المناط في الجمع]

{التاسع: أنّه} بعد ما {قد عرفت} الفرق بين التعارض والتزاحم بحسب مقام الثّبوت والإثبات وعرفت أنّ اجتماع الأمر والنّهي من باب التزاحم لا التعارض، وعرفت {أنّ المعتبر في هذا الباب} أي: باب اجتماع الأمر والنّهي {أن يكون كلّ واحد من الطبيعة المأمور بها، و} الطبيعة {المنهي عنها مشتملة على مناط الحكم مطلقاً} وبين قوله: «مطلقاً» بقوله: {حتّى في حال الاجتماع} بأن يكون مناط وجوب الصلاة ومناط حرمة الغصب موجودين حتّى في الصلاة في الغصب.

{فلو كان هناك ما دلّ على ذلك} أي: وجود المناط فيها مطلقاً {من إجماع أو غيره فلا إشكال} في كونه من مسألة اجتماع الأمر والنّهي.

ص: 309

ولو لم يكن إلّا إطلاق دليلَي الحكمين ففيه تفصيل، وهو:

أنّ الإطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي لكان دليلاً على ثبوت المقتضي والمناط في مورد الاجتماع، فيكون من هذا الباب.

___________________________________________

{و} أمّا {لو لم يكن} في البين دليل على وجود المناطين {إلّا إطلاق دليلي الحكمين} كإطلاق (صلّ) وإطلاق (لا تغصب) الشّامل كلّ واحد منهما لمورد الاجتماع الكاشف هذا الشّمول عن وجود المناط- في عالم الثّبوت - {ففيه تفصيل} ينتج لحوق المجتمعين تارةً بباب التزاحم فيكون من مسألة اجتماع الأمر والنّهي، وتارة بباب التعارض فلا يكون من مسألة الاجتماع {وهو أنّ الإطلاق} قد يكون في مقام بيان الحكم الاقتضائي.

وقد يكون في مقام بيان الحكم الفعلي ف- {لو كان في} مقام {بيان الحكم الاقتضائي} بمعنى بيان المقتضي لوجوب الصلاة ولحرمة الغصب حتّى في مورد الاجتماع {لكان دليلاً على ثبوت المقتضي} لكلا الحكمين.

{و} ثبوت {المناط} لهما {في مورد الاجتماع} إذ المصلحة والمفسدة لازمتان لنفس وجود الطبيعة حينئذٍ، وحيث وجدت الطبيعتان في مورد الاجتماع فلا بدّ وأن يكون المناطان موجودين {فيكون} الدليلان المتكفّلان لبيان الحرمة والوجوب {من هذا الباب} أي: باب التزاحم واجتماع الأمر والنّهي لا باب التعارض، من غير فرق بين القول بجواز الاجتماع أو بامتناعه.

أمّا على القول بالجواز فلأنّ الحكمين الفعليّين إذا أمكن اجتماعهما وكان من باب التزاحم فبالطريق الأولى الحكمان الاقتضائيّان.

وأمّا على القول بالامتناع؛ فلأنّ الحكمين إنّما يتعارضان إذا كانا فعليّين وأمّا إذا كانا اقتضائيّين فلا منافاة بينهما صدقاً.

فتحصّل أنّ الإطلاق يدلّ على ثبوت الحكمين إذا كانا اقتضائيّين، من غير فرق

ص: 310

ولو كان بصدد الحكم الفعلي فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في الحكمين على القول بالجواز، إلّا إذا علم إجمالاًبكذب أحد الدليلين، فيعامل معهما معاملة المتعارضين.

وأمّا على القول بالامتناع فالإطلاقان متنافيان،

___________________________________________

بين القول بالجواز أو الامتناع، فيعامل مع هذين الدليلين معامله التزاحم لا التعارض.

{ولو كان} الإطلاق {بصدد} بيان {الحكم الفعلي} فله ثلاث صور:

الأُولى: على القول باجتماع الأمر والنّهي، مع عدم العلم بكذب أحدهما.

الثّانية: على القول بالاجتماع، مع العلم بكذب أحدهما.

الثّالثة: على القول بالامتناع.

إذا عرفت ذلك {ف-} نقول: {لا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي} والمناط {في الحكمين على القول بالجواز} وعدم العلم بكذب أحدهما، فيكون من باب اجتماع الأمر والنّهي، وذلك لأنّ الإطلاق كاشف عن ثبوت المقتضي للحكمين ولا تنافي بينهما في مقام الفعليّة على الجواز.

هذا تمام الكلام في الصورة الأُولى وأشار إلى الصورة الثّانية بقوله: {إلّا إذا علم إجمالاً بكذب} إطلاق {أحد الدليلين} مع القول بجواز الاجتماع أيضاً {فيعامل معهما معاملة المتعارضين} ويخرج عن باب اجتماع الأمر والنّهي؛ لأنّ باب الاجتماع - كما تقدّم - في ما لو يعلم بكذب أحد المناطين في مورد الاجتماع.

{وأمّا} الصورة الثّالثة - وهي ما لو تصادق الدليلان الفعليّان - {على القول بالامتناع، فالإطلاقان متنافيان} لامتناع صدقهما معاً على هذا القول، فإنّ تعدّد الجهة لا يرفع المنافاة فوجود الحكمين الفعليّين في مورد الاجتماع مستحيل فلا بدّ وأن يبقى أحدهما على الفعليّةوينتفي الآخر.

ثمّ إنتفاء أحد الحكمين إمّا لعدم المقتضي والمناط له في ظرف الاجتماع، وإمّا

ص: 311

من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلاً؛ فإنّ انتفاء أحد المتنافيين كما يمكن أن يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي له، يمكن أن يكون لأجل انتفائه.

إلّا أن يقال: إنّ قضيّة التوفيق بينهما هو: حمل كلّ منهما على الحكم الاقتضائي لو لم يكن أحدهما أظهر، وإلّا فخصوص الظاهر منهما.

فتلخّص أنّ كلّما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين، كان من مسألة الاجتماع،

___________________________________________

لوجود المانع عن فعليّة المقتضي {من غير دلالة} أي: إنّ انتفاء الحكمين الفعليّين لا يدلّ {على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلاً} فلا يكون دليل على كونه من باب التزاحم حتّى يكون من مسألة اجتماع الأمر والنّهي {فإنّ انتفاء أحد المتنافيين كما يمكن أن يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي له} حتّى يكون من باب التزاحم.

ومسألة الاجتماع كذلك {يمكن أن يكون لأجل انتفائه} أي: انتفاء المقتضي فيكون من باب التعارض للعلم بكذب أحدهما {إلّا أن يقال} في تصحيح كون انتفاء أحد الحكمين لأجل المانع مع ثبوت المقتضي: {إنّ قضيّة التوفيق بينهما} أي: بين الحكمين {هو حمل كلّ منهما على الحكم الاقتضائي لو لم يكن أحدهما أظهر} من الآخر، وحين حملناهما على الاقتضائي فإن كان أحدهما أهمّ كان من باب التزاحم - وقدّم الأهمّ - وإن لم يكن أحدهما أهمّفليس كذلك {وإلّا} يكن كذلك بأن كان أحدهما أظهر {ف-} يحمل {خصوص الظاهر منهما} على الاقتضائي ويبقى الأظهر حجّة في الفعليّة، وقد تقدّم في الأمر السّابق أنّه لو تصادم حكمان فعليّان فاللّازم أحد الأمرين الرّجوع إلى المرجّحات ثمّ التخيير أو حملهما على الاقتضائي الخ.

{فتلخّص} من جميع ما ذكرنا في الأمر التاسع {أنّه كلّما كانت هناك} في الدليلين المجتمعين {دلالة} تدلّ {على ثبوت المقتضي في الحكمين كان من مسألة الاجتماع}

ص: 312

وكلّما لم يكن هناك دلالة عليه، فهو من باب التعارض مطلقاً، إذا كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين ولو على الجواز، وإلّا فعلى الامتناع.

العاشر: أنّه لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز مطلقاً،

___________________________________________

وباب التزاحم على كلا القولين {وكلّما لم يكن هناك دلالة عليه} أي: على ثبوت المقتضيين {فهو من باب التعارض} ولا يكون من مسألة اجتماع الأمر والنّهي {مطلقاً} سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنّهي أم بامتناعه {إذا كانت هناك دلالة على انتفائه} أي: المقتضي {في أحدهما بلا تعيين} إذ مع التعيين يسقط ذلك المعيّن رأساً ويبقى الآخر بلا معارض ولا مزاحم.

وقوله: {ولو على الجواز} بيان لقوله: «مطلقاً» {وإلّا} تكن دلالة على انتفاء المقتضي في أحدهما - في صورة عدم الدليل على وجود المقتضيين - {ف-} هو من باب التعارض {على} القول ب- {الامتناع}وأمّا على القول بالجواز فهو من باب التزاحم لعدم المنافاة بينهما.

فتحصّل من صور المخلص أنّه إمّا أن يكون دليل على ثبوت المقتضيين أو لا، وعلى الثّاني فإمّا أن يكون دليل على انتفاء المقتضي في أحدهما أو لا، وعلى الثّاني فإمّا أن نقول بجواز اجتماع الأمر والنّهي أو لا، فالصور أربعة. ولكن لا يخفى أنّ الصور أكثر من هذا وإنّ تداخل بعضها في الأحكام، واللّه الهادي.

[العاشر: ثمرة البحث]

{العاشر} في بيان ثمرة النّزاع في هذه المسألة، وأنّه أين يصحّ المجمع وأين لا يصحّ؟ فنقول: {إنّه لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع} بشرط أن يكون إتيانه {بداعي الأمر} المتوجّه إلى متعلّقه، كأن يأتي بالصلاة في الدار المغصوبة بداعي الأمر المتوجّه إلى الصلاة {على} القول ب- {الجواز مطلقاً}

ص: 313

- ولو في العبادات - ، وإن كان معصية للنهي أيضاً.

وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر، إلّا أنّه لا معصية عليه.

وأمّا عليه وترجيح جانب النّهي: فيسقط به الأمر به مطلقاً في غير العبادات؛ لحصول الغرض الموجب له.

وأمّا فيها فلا، مع الالتفات إلى الحرمة،

___________________________________________

وبين قوله: «مطلقاً» بقوله: {ولو في العبادات} كما لا يخفى {وإن كان} هذا الإتيان {معصية للنهي أيضاً} فإنّ الشّيء ذو الجهتين مثل الشّيئين، فكما أنّه لو غصب مستقلّاً وصلّى مستقلّاً كان مطيعاً وعاصياً كذلك لو جمعهما في فعل واحد فهو مطيع لجهة الصلاة وعاص لحرمة الغصب.{وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر} لأنّ الأمر يقدّم - بأقوائيّته - على النّهي، فيسقط النّهي ويبقى الأمر، فيكون امتثالاً حتّى في العبادات {إلّا أنّه لا معصية عليه} حينئذٍ لفرض سقوط النّهي، كما تقدّم.

{وأمّا} بناءً {عليه} أي: على الامتناع {وترجيح جانب النّهي} لأقوائيّته ففيه تفصيل؛ لأنّه إمّا أن يكون من التوصليّات، كحفر القبر بالآلة المغصوبة، وإمّا أن يكون من العباديّات.

وعلى الثّاني فإمّا أن يلتفت حين الفعل إلى الحرمة أم لا، وعلى الثّاني فإمّا أن يكون عن قصور وإمّا أن يكون عن تقصير {فيسقط به} أي: بإتيان المجمع {الأمر به مطلقاً} من غير فرق بين أن يلتفت حين الفعل إلى الحرمة أو لا، وعدم التفاته كان عن قصور أو تقصير {في غير العبادات} إذ التوصليّ يحصل بوجوده في الخارج ولو من غير المكلّف. كما لو جرف السّيل فأحدث قبراً {لحصول الغرض الموجب له} أي: للأمر {وأمّا فيها} أي: في العبادات، كما لو صلّى في الدار المغصوبة، أو اغتسل بالماء المغصوب {فلا} يسقط الأمر {مع الالتفات إلى الحرمة} لفرض ترجيح

ص: 314

أو بدونه تقصيراً؛ فإنّه وإن كان متمكّناً - مع عدم الالتفات - من قصد القربة، وقد قَصَدها، إلّا أنّه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب به أصلاً، فلا يقع مقرّباً، وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادةً، كما لا يخفى.

وأمّا إذا لم يلتفت إليها قصوراً، وقد قصد القربة بإتيانه، فالأمر يسقط؛ لقصد التقرّب بما يصلح أن يتقرّب به؛

___________________________________________

النّهي وعدم مصحّح للعبادة {أو بدونه} أي: وكذا لا يسقط الأمر إذا أتى بالمجمع بدون الالتفات {تقصيراً} بأن كان مقصّراً في عدم التفاته إلى الحرمة.

فإن قلت: المقوّم لعباديّة العبادة هو قصد القربة وقد قصدها المكلّف فلم لا تكون امتثالاً؟

قلت: {فإنّه وإن كان متمكّناً مع عدم الالتفات} إلى الحرمة {من قصد القربة وقد قصدها إلّا أنّه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب به} أي: بالمجمع {أصلاً} لأنّ الفعل صار معصية لسبب التقصير فلا يصلح للمقربيّة، فإنّ قصد القربة وحدها غير كافٍ في كون الفعل امتثالاً، فإنّ الجاهل المقصّر هو والعامد سواء، فكما أنّ العامد لا يصحّ منه الفعل كذلك الجاهل.

ثمّ إنّه لا فرق في البطلان بين كون الجهل بالحكم، كأن لم يعلم بحرمة الغصب، أو بالموضوع، كأن لم يعلم بكون هذا غصباً، فتأمّل.

والحاصل: أنّه حيث كان مع التقصير {فلا يقع مقرّباً، وبدونه} أي: بدون كونه مقرّباً {لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادة، كما لا يخفى}.

هذا كلّه في ما لم يلتفت إلى الحرمة تقصيراً {وأمّا إذا لم يلتفت إليها قصوراً، و} الحال أنّه {قد قصد القربة بإتيانه} أي: بإتيان المجمع {فالأمر يسقط لقصد التقرّب بما يصلح أن يتقرّب به}.

إن قلت: إذا كانت المفسدة أكثر من المصلحة حسب الفرض فكيف يصلح

ص: 315

لاشتماله على المصلحة مع صدوره حَسَناً؛ لأجل الجهل بحرمتهقصوراً، فيحصل به الغرض من الأمر، فيسقط به قطعاً وإن لم يكن امتثالاً له، بناءً على تبعيّة الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً، لا لما هو المؤثّر منها فعلاً للحسن أو القبح؛ لكونهما تابعين لما علم منهما، كما حقّق في محلّه.

___________________________________________

أن يتقرّب به؟

قلت: المفسدة غالبة على الحسن الفعلي، وأمّا الحسن الفاعلي فهو غالب، ولذا يمدح العقلاء هذا الفاعل {لاشتماله على المصلحة} في الجملة {مع صدوره حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً} وقوله: «لاشتماله» الخ علّة لقوله: «بما يصلح أن يتقرّب به» {فيحصل} على هذا {به} أي: بهذا الفعل {الغرض من الأمر، فيسقط به قطعاً وإن لم يكن امتثالاً له} أي: للأمر، فالصلاة في الدار المغصوبة في حال الجهل بالموضوع أو الحكم إذا كانت بقصد القربة صحيحة ومسقطة للأمر ولكنّها ليست امتثالاً للأمر، إذ لا أمر بها في الواقع بملاحظة أنّ المفسدة الواقعيّة غالبة على مصلحتها الواقعيّة في مقام التأثير، فلا بدّ وأن تكون هذه الصلاة محرّمة في الواقع {بناءً على تبعيّة الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً} فإن كان في الفعل مصلحة ملزمة بدون مفسدة كان واجباً، وإن كان فيه مفسدة ملزمة بدون مصلحة كان حراماً، وإن كان فيه مصلحة ومفسدة فهو على ثلاثة أقسام:

لأنّ المفسدة إمّا غالبة بحدّ الإلزام فهو حرام، والمصلحة إمّا غالبة بحدّ الإلزام فهو واجب، وإمّا أن لا يكون كذلك، فإن تساويا كان مباحاً وإن غلبت المفسدة لا بحدّ الإلزام كان مكروهاً، وإن غلبت المصلحة لا بحدّ الإلزام كان مستحبّاً،فالأقسام سبعة {لا لما هو المؤثّر منها} أي: من المصالح والمفاسد {فعلاً للحسن أو القبح} بدون نظر إلى الواقع {لكونهما تابعين لما علم منهما} علّة لقول من يقول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد المؤثّرة فعلاً للحسن والقبح {كما حقّق في محلّه} أنّ

ص: 316

___________________________________________

الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة.

توضيح المقام: أنّ الأحكام إمّا أن لا تكون تابعة للمصالح والمفاسد والحسن والقبح، كما يقوله الأشعري، وإمّا أن تكون تابعة لهما، كما هو الحقّ. ثمّ إنّ القائلين بالتبعيّة افترقوا على مسلكين:

الأوّل: أنّها تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة من غير تقييد بالعلم والجهل، فالشيء ذو المصلحة واجب وإن جهل المكلّف وجوبه، والشّيء ذو المفسدة حرام وإن جهل المكلّف حرمته، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة كان الحكم تابعاً للأقوى منهما وإن جهله المكلّف.

الثّاني: أنّها ليست تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة وإنّما هي تابعة للحسن والقبح الفعلين.

مثلاً: لو اجتمعت المصلحة والمفسدة وكانت المفسدة أقوى من المصلحة ولكن المكلّف جهل ذلك وفعله باعتبار ما علمه من المصلحة فيه كان واجباً لاشتماله على الحسن النّاشئ من علم المكلّف.

وكذا العكس بأن كانت المصلحة أقوى ولكن المكلّف جهل ذلك ولم يفعله باعتبار ما علمه من المفسدة فيه، فإنّه يكون حراماً لاشتماله على القبح النّاشئ من علم المكلّف.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ ما تترجّح مفسدته على مصلحته في الواقع محرّم علىالقول الأوّل، وإن جهل المكلّف ذلك فلا أمر به ولو فعله المكلّف لم يكن امتثالاً كما سبق، بخلاف القول الثّاني فإنّ الفعل يكون مأموراً به، إذ المؤثّر حينئذٍ هي المصلحة للعلم بها.

فتحصّل أنّ الصلاة في الدار المغصوبة - مثلاً - في صورة جهل المكلّف قصوراً صحيحة مجزية، أمّا بناءً على القول الأوّل فلكونها محصّلة للغرض وإن لم تكن

ص: 317

مع أنّه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك؛ فإنّ العقل لا يرى تفاوتاً بينه وبين سائر الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها، وإن لم تعمّه بما هي مأمور بها، لكنّه لوجود المانع، لا لعدم المقتضي.

ومن هنا انقدح: أنّه يجزئ ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحّة العبادة، وعدم كفاية الإتيان بمجرّد المحبوبيّة، كما يكون كذلك في ضدّ الواجب، حيث لا يكون هناك أمرٌ يقصد أصلاً.

وبالجملة: مع الجهل - قصوراً - بالحرمة موضوعاً أو حكماً،

___________________________________________

امتثالاً، وأمّا بناءً على القول الثّاني فلكونها مأموراً بها.

{مع أنّه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك} أي: مع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة، كما هو مقتضى القول الأوّل {فإنّ العقل لا يرى تفاوتاً بينه} أي: بين هذا الفرد المجمع {وبين سائر الأفراد} غير المجامعة مع المحرّم {في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها} فإنّ الصلاة المجامعة مع الغصب مثل الصلاة المجرّدة في كونها محصّلة للغرض {وإن} كانت الطبيعة المأمور بها {لمتعمّه} أي: لا تشمل هذا الفرد المجامع مع الغصب {بما هي مأمور بها، لكنّه} أي: عدم الشّمول {لوجود المانع لا لعدم المقتضي} وقد تقدّم الكلام في بحث الضدّ فيه وفي ما فيه، فراجع.

{ومن هنا انقدح أنّه يجزئ} المجمع {ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحّة العبادة} ب- {عدم كفاية الإتيان بمجرّد المحبوبيّة} عطف على «باعتبار» ولذا أدخلنا الباء عليه {كما يكون كذلك} بدون الأمر مجزياً {في ضدّ الواجب} كالصلاة الّتي هي ضدّ الإزالة {حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلاً} ومع ذلك تصحّ الصلاة وتقع مجزية في صورة الجهل قصوراً.

{وبالجملة مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً} كأن لم يعلم بالغصب {أو حكماً}

ص: 318

يكون الإتيان بالمجمع امتثالاً، وبداعي الأمر بالطبيعة لا محالة. غاية الأمر أنّه لا يكون ممّا يسعه بما هي مأمور بها، لو قيل بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للأحكام الواقعيّة. وأمّا لو قيل بعدم التزاحم إلّا في مقام فعليّة الأحكام، لكان ممّا يسعه، وامتثالاً لأمرها بلا كلام.

وقد انقدح بذلك: الفرقُ بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين،

___________________________________________

كأن لم يعلم بحرمته {يكون الإتيان بالمجمع امتثالاً وبداعي الأمر بالطبيعة لا محالة} عطف بيان على «امتثالاً» {غاية الأمر} في الفرق بين هذا الفرد من الصلاة المبتلى بالضدّ، وبين غيره من سائر الأفراد {أنّه لا يكون} هذا المبتلى بالضدّ{ممّا يسعه} الطبيعة {بما هي مأمور بها} إذ الطبيعة المأمور بها منحصرة في غير هذا الفرد {لو قيل بتزاحم الجهات} أي: المصلحة والمفسدة {في مقام تأثيرها للأحكام الواقعيّة}الجار يتعلّق ب- «الجهات» أي: إنّ جهات الأحكام تتزاحم في مقام التأثير، فيتقدّم الحكم بالحرمة في المجمع، فلا يشمله الأمر المتوجّه إلى الطبيعة.

هذا بناء على المسلك الأوّل {وأمّا لو قيل بعدم التزاحم إلّا في مقام فعليّة الأحكام} بمعنى أنّه لا يتّصف بالحسن والقبح الفعليّين، بل لو علم بالحرمة كان قبيحاً فعليّاً وإن كانت المصلحة غالبة في الواقع، ولو علم بالوجوب كان حسناً فعليّاً وإن كانت المفسدة غالبة في الواقع كما هو بناء المسلك الثّاني {لكان} هذا الفرد المبتلى {ممّا يسعه} الطبيعة، فيكون هذا الفرد مأموراً به {و} ذلك لأنّه يكون {امتثالاً لأمرها} أي: لأمر الطبيعة {بلا كلام} لما تقدّم من أنّ الحكم لمّا كان تابعاً للحسن والقبح الفعليين النّاشئين من علم المكلّف كان معلوم الحسن حسناً وإن كانت المفسدة الواقعيّة أغلب، فتذكّر.

{وقد انقدح بذلك} المذكور سابقاً من الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم، وأنّ في باب التعارض لا ملاك لأحدهما، بخلاف باب التزاحم {الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين} بأن لم يكن ملاك في أحدهما

ص: 319

وقُدّم دليلُ الحرمة تخييراً أو ترجيحاً، حيث لا يكون معه مجالٌ للصحّة أصلاً، وبين ما إذا كان من باب الاجتماع، وقيل بالامتناع، وتقديم جانب الحرمة، حيث يقع صحيحاً في غير مورد من موارد الجهل والنّسيان؛ لموافقته للغرض، بل للأمر.

ومن هنا عُلم: أنّ الثّواب عليه من قبيلالثّواب على الإطاعة، لا الانقياد ومجرّد اعتقاد الموافقة.

و

___________________________________________

{وقدّم دليل الحرمة تخييراً} إذا لم يكن في البين ترجيح، أو كان ولكن لم نقل بلزوم الترجيح في المتعارضين {أو ترجيحاً} وذلك لأنّه حينئذٍ يختصّ الملاك بالحرمة فقط {حيث لا يكون معه} أي: مع تقديم دليل الحرمة {مجال للصحّة أصلاً} لعدم الملاك للوجوب {وبين ما إذا كان من باب الاجتماع} بأن كانا من باب التزاحم {وقيل بالامتناع وتقديم جانب الحرمة} لأجل أهميّة ملاكها {حيث يقع} الفرد المجمع {صحيحاً في غير مورد من موارد الجهل والنّسيان} وهو ما إذا كان الجهل قصوراً والنّسيان عذريّاً، وأمّا نسيان الغاصب غير المبالي فلا {لموافقته للغرض، بل للأمر} علّة لصحّته.

{ومن هنا} أي: ممّا قلنا من أنّ المجمع موافق للغرض والأمر {علم أنّ الثّواب عليه من قبيل الثّواب على الإطاعة، لا} من قبيل الثّواب على {الانقياد، ومجرّد اعتقاد الموافقة} عطف على «الانقياد» والمراد بالانقياد هنا مقابل التجرّي الّذي هو عبارة عن الإتيان بمخالف الواقع برجاء المحبوبيّة، وإن كان الانقياد قد يطلق على الطاعة أيضاً.

{و} إن قلت: المتحصّل من صور اجتماع الأمر والنّهي خمسة:

الأوّل: التعارض مع تقديم الأمر فتصحّ العبادة.

الثّاني: التعارض مع تقديم النّهي فتبطل.

الثّالث: التزاحم مع القول بالامتناع وتقديم الأمر فتصح.

ص: 320

قد ظهر بما ذكرناه، وجهُ حكم الأصحاب بصحّةالصلاة في الدار المغصوبة مع النّسيان أو الجهل بالموضوع، بل أو الحكم، إذا كان عن قصور، مع أنّ الجُلَّ - لولا الكلّ - قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر. فلتكن من ذلك على ذُكر.

إذا عرفت هذه الأُمور فالحقّ هو: القول بالامتناع كما ذهب إليه المشهور(1). وتحقيقه - على وجه يتّضح به فساد ما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الاستدلال لسائر الأقوال - يتوقّف على:

تمهيد مقدّمات:

___________________________________________

الرّابع: التزاحم مع القول بالامتناع وتقديم النّهي والنّسيان فتبطل.

الخامس: التزاحم مع القول بجواز الاجتماع فتصحّ.

وعلى هذا فاللّازم القول بصحّة العبادة مطلقاً أو بطلانها مطلقاً، ولا وجه للتفصيل في المسألة كما ينسب إلى الأصحاب.

قلت: {قد ظهر بما ذكرناه} من الفرق بين صورة العمد والتقصير وبين صورة القصور {وجه حكم الأصحاب بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة مع النّسيان، أو الجهل بالموضوع، بل أو} الجهل ب- {الحكم إذا كان} الجهل {عن قصور، مع أنّ الجهل لولا الكلّ قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر} كالعمد والتقصير.

وبهذا تبيّن أنّ القول بالبطلان في الصورة الخامسة مطلقاً - سواء كان عن عذر أم لا - غير مستقيم، فتبصّر {فلتكن من ذلك على ذكر}.{إذا عرفت هذه الأُمور} العشرة فنشرع في المطلب {فالحقّ هو القول بالامتناع كما ذهب إليه المشهور، وتحقيقه على وجه يتّضح به فساد ما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الاستدلال لسائر الأقوال يتوقّف على تمهيد مقدّمات} أربعة:

ص: 321


1- الفصول الغرويّة: 125؛ معالم الدين: 93؛ قوانين الأصول 1: 140.

إحداها: أنّه لا ريب في أنّ الأحكام الخمسة متضادّة في مقام فعليّتها، وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر؛ ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامّة بين البعث نحوَ واحدٍ في زمانٍ، والزجر عنه في ذلك الزمان، وإن لم تكن بينها مضادّة ما لم تبلغ إلى تلك المرتبة؛ لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الإنشائيّة قبل البلوغ إليها، كما لا يخفى.

___________________________________________

{إحداها: أنّه لا ريب في أنّ الأحكام الخمسة} كلّها {متضادّة في مقام فعليّتها} وذلك لأنّه قد تقدّم منّا أنّ الحكم له مراتب أربع على قول المصنّف:

الأُولى: مرتبة الاقتضاء بمعنى الصلاح والفساد.

الثّانية: مرتبة الإنشاء.

الثّالثة: مرتبة الفعليّة، أي: البعث والتحريك.

الرّابعة: مرتبة التنجّز، وهذه المرتبة مشروطة بالبلوغ - أي: علم العبد بالحكم - ففي هذه المرتبة أعني: الفعليّة {وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر} يقع التضاد {ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامّة بين البعث نحو} شيء {واحد في زمانٍ، والزجر عنه فيذلك الزمان} بحيث يكون يراد من العبد فعله وتركه {وإن لم تكن بينها مضادّة ما لم تبلغ إلى تلك المرتبة} الفعليّة

{لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الإنشائيّة قبل البلوغ إليها} أي: إلى الفعليّة، وذلك لأنّ الأحكام الإنشائيّة تتبع مقتضياتها وملاكاتها، فإذا كان في الشّيء ملاك الوجوب أنشأ المولى له وجوباً وإن كان فيه ملاك التحريم أنشأ له حرمة.

وهذا النّحو من الإنشاء لا يكون على مرتبة الفعليّة - في ما لو اقترن بالمانع - كما لو كان الملاكان متزاحمين، فإنّه ينشأ للشيء الواحد الوجوب والحرمة ولكن لا يصل إلى الفعليّة إلّا أحدهما {كما لا يخفى}.

ولكن أنت خبير بلزوم لغويّة الإنشاءين حينئذٍ، فمرتبة الإنشاء كمرتبة الفعليّة

ص: 322

فاستحالة اجتماع الأمر والنّهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال، بل من جهة أنّه بنفسه محال، فلا يجوز عند من يجوز التكليف بغير المقدور أيضاً.

ثانيتها: أنّه لا شبهة في أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف، وما هو في الخارج يصدر عنه، وهو فاعله وجاعله، لا ما هو اسمه - وهو واضح - ، ولا ما هو عنوانه ممّا قد انتزاع عنه

___________________________________________

لا يمكن التضادّ فيها {فاستحالة اجتماع الأمر والنّهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال} مع كون نفس التكليف ممكناً في نفسه، كالتكليف بالطيران إلى السّماء فإنّ المكلّف به مستحيل ولكن التكليف ممكن، إذ يمكن إرادة المولى لطيران عبده{بل من جهة أنّه بنفسه محال} لعدم تعقّل اجتماع إرادة الفعل وإرادة الترك بالنسبة إلى شيء واحد {فلا يجوز} التكليف المحال حتّى {عند من يجوز التكليف بغير المقدور أيضاً} كالأشاعرة.

فتحصّل أنّ الاستحالة قد تكون صفة للتكليف وقد تكون صفة للمكلّف به، والمتنازع فيه بين الأشاعرة وغيرهم في ما هو صفة للمكلّف به، وأمّا ما هو صفة التكليف فلا شبهة لأحد في استحالته.

{ثانيتها} في بيان تعلّق التكاليف بالمعنونات لا بالعناوين، فنقول: {إنّه لا شبهة في أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما هو في الخارج يصدر عنه} فيكلّف بإصداره وإيجاده في الخارج، لا أنّ الأمر الخارجي متعلّق التكليف حتّى يلزم التكليف بالمحال.

{و} الحاصل: أنّ التكليف يتعلّق بما {هو فاعله وجاعله لا ما هو اسمه، وهو واضح} أي: ليس اسم الفعل الصادر من المكلّف متعلّقاً للتكليف، فالمتعلّق هو المسمّى لا الاسم {و} كذا {لا} يكون متعلّق التكليف {ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه} ولا يخفى أنّ بين الاسم والعنوان عموماً من وجه.

ص: 323

- بحيث لولا انتزاعه تصوّراً واختراعه ذهناً، لما كان بحذائه شيءٌ خارجاً - ويكون خارج المحمول،

___________________________________________

مثلاً: التصرّف في دار الغير بالبيع يشتمل على معنونٍ هو التصرّف الكذائي، وعنوانٍ هو الغصب، واسمٍ هو البيع، فالمحرّم بالحقيقة هو التصرّف لا اسم البيع ولا عنوان الغصب ممّا قد انتزع عنه {بحيث لولا انتزاعهتصوّراً واختراعه} أي: اختراع هذا العنوان كعنوان الغصب {ذهناً لما كان بحذائه شيء خارجاً} فليس في الخارج بحذاء الغصب شيء آخر غير التصرّف، فإنّ الفرق بين الأُمور المتأصّلة والأُمور الانتزاعيّة أنّ بحذاء الأوّل شيء في الخارج دون الثّاني.

مثلاً: الماهيّة من الأُمور الانتزاعيّة، فإنّه ليس في الخارج شيء هو ماهيّة وإنّما هو منتزع عن مثل الإنسان والحيوان والفرس - كما في شرح التجريد(1)

وغيره - .

ثمّ لا يخفى أنّه قد فرّق البعض بين الأُمور الاعتباريّة والأُمور الانتزاعيّة، ولا يهمّنا التعرّض له.

وعلى كلّ حال فالأُمور الانتزاعيّة على أقسام: لأنّها إمّا أن تكون منتزعة عن شيء له خارج عيني أم لا، فالثّاني، كالأحكام الخمسة، والأوّل إمّا أن تكون عن الذات بملاحظة تلبسها بمبدأ حقيقي، كالضارب ونحوه، وإمّا أن تكون منتزعة عن الذات بملاحظة تلبسها بمبدأ اعتباريّ، كالزوج، فإنّه منتزع عن الذات بملاحظة تلبسها بالزوجيّة الّتي هي مبدأ اعتباري.

ولا يخفى أنّ في هذا المقام اختلافات يرجع حاصلها إلى اختلاف الاصطلاح {ويكون خارج المحمول} لا المحمول بالضميمة، وقد تقدّم الفرق بينهما بما حاصله: أنّ خارج المحمول هو العرض المحمول على الشّيء بملاحظة أمر خارج عنه، كالوحدة والتشخّص، والمحمول بالضميمة هو العرض

ص: 324


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 466.

كالملكيّة والزوجيّة والرّقيّة والحريّة والمغصوبيّة إلى غير ذلك من الاعتبارات والإضافات؛ ضرورة أنّ البعث ليس نحوَه، والزجرَ لا يكون عنه، وإنّما يؤخذ في متعلّق الأحكام آلة للحاظ متعلّقاتها،والإشارة إليها بمقدار الغرض منها والحاجة إليها، لا بما هو هو وبنفسه، وعلى استقلاله وحياله.

ثالثتها: أنّه لا يوجب تعدّد الوجه والعنوان تعدّد المعنون، ولا تنثلم به وحدتُه؛ فإنّ المفاهيم المتعدّدة والعناوين الكثيرة ربّما تنطبق على الواحد، و

___________________________________________

المحمول على الشّيء بملاحظة أمر داخل فيه، كالأبيض والأسود والعالم ونحوها {كالملكيّة والزوجيّة والرّقيّة والحريّة والمغصوبيّة إلى غير ذلك من الاعتبارات والإضافات} وقد يفرّق بينهما بما لا يهمّ ذكره.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) قد استدلّ لكون المتعلّق هو المعنون لا الاسم والعنوان بقوله: {ضرورة أنّ البعث ليس نحوه والزجر لا يكون عنه، وإنّما يؤخذ} الاسم أو العنوان {في متعلّق الأحكام آلة للحاظ متعلّقاتها، والإشارة إليها} عطف على «اللحاظ» {بمقدار الغرض منها} أي: بمقدار الغرض من المتعلّقات.

مثلاً: لو كان الغرض حرمة كلّ غيبة قال: (يحرم الغيبة) وإن كان الغرض حرمة غيبة المسلم قال: (يحرم غيبة المسلم) فيخصّ العنوان ويعمّ بمقدار خصوص الغرض وعمومه {والحاجة إليها لا بما هو هو وبنفسه وعلى استقلاله وحياله} بل في الجمل الخبريّة وغيرها يؤخذ العنوان مرآةً وآلة، لا مستقلّاً، ولا يختصّ هذا بالأُمور الانتزاعيّة، كما لا يخفى، واللّه العالم.

{ثالثتها} في بيان أنّ تعداد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون، فنقول: {إنّه لا يوجب تعدّد الوجه والعنوان تعدّدالمعنون، ولا تنثلم به} أي: بتعدّد العنوان {وحدته} أي: وحدة المعنون {فإنّ المفاهيم المتعدّدة والعناوين الكثيرة} كالناطق والضاحك والماشي ونحوها {ربّما تنطبق على الواحد} كالإنسان {و} هكذا غيره.

ص: 325

تصدق على الفارد الّذي لا كثرة فيه من جهة، بل بسيطٌ من جميع الجهات، ليس فيه حيثٌ غير حيثٍ، وجهة مغايرة لجهةٍ أصلاً، كالواجب - تبارك وتعالى - ، فهو على بساطته ووحدته وأحديّته، تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلاليّة والجماليّة، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا، لكنّها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الأحد.

عباراتنا شتّى

وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك الجمال

يشير

___________________________________________

بل قد {تصدق} العناوين الكثيرة {على} الشّيء {الفارد الّذي لا كثرة فيه من جهة} أصلاً {بل بسيط من جميع الجهات} بحيث {ليس فيه حيث غير حيث وجهة مغايرة لجهةٍ أصلاً، كالواجب - تبارك وتعالى - فهو على بساطته ووحدته وأحديّته} هي مرادفة مع البساطة كما قيل {تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلاليّة} السّلبيّة {والجماليّة} الثّبوتيّة {له الأسماء الحسنى والأمثال العليا} أي: الأمثلة الحسنة العليّة، كقوله - تعالى - : {ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ}(1) الآية، وقوله - تعالى - :{هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ}(2)، وقوله - تعالى - : {وَرَجُلٗا سَلَمٗا لِّرَجُلٍ}(3) {لكنّها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الأحد} كما قال الشّاعر:

{عباراتنا شتّى

وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك

الجمال يشير}

والحاصل: أنّه كما لا يوجب تعدّد صفات اللّه - سبحانه - وأسمائه وعناوينه تعدّد ذاته، بل ذاته واحد وإن تعدّدت الصفات والأسماء، كذلك تعدّد أسماء شيء وعناوينه لا يوجب تعدّد المعنون.

ولا يخفى أنّ جعل هذا برهاناً للمطلب غير خال عن المناقشة، كما يظهر من

ص: 326


1- سورة النّور، الآية: 35.
2- سورة النّحل، الآية: 76.
3- سورة الزمر، الآية: 29.

رابعتها: أنّه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد إلّا ماهيّةً واحدةً وحقيقةً فاردةً، لا يقع في جواب السّؤال عن حقيقته بما هو إلّا تلك الماهيّة، فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كلّ منهما ماهيّة وحقيقة، كانت

___________________________________________

شرح الخوئيني(رحمة الله)(1)، والأولى إحالة المطلب على الوجدان؛ لوضوح أنّ العنوان حاك عن المعنون ومرآة له، وتعدّد الحاكي لا يستلزم تعدّد المحكي.

{رابعتها} في دفع توهّم صدر من الفصول حاصله ابتناء القول بجواز اجتماع الأمر والنّهي على القول بأصالة الماهيّة، والقول بامتناعه على القول بأصالة الوجود، فنقول: {إنّه لا يكاد يكون للموجودبوجود واحد إلّا ماهيّة واحدة وحقيقة فاردة} وذلك لتباين الماهيّات، إذ قوام الماهيّة بالجنس والفصل.

ومن البديهي أنّ الماهيّتين تتباينان بتباين الفصول، وإذا تحقّق تباينهما فلا يمكن اجتماعهما تحت وجود واحد، ولهذا {لا يقع في جواب السّؤال عن حقيقته بما هو إلّا تلك الماهيّة} فيقال في جواب الإنسان ما هو: (حيوان ناطق).

ولا يذهب عليك أنّ ملاك الاستحالة ما ذكر، لا ما ذكره العلّامة الرّشتي من أنّه قد تقرّر في علم الميزان امتناع أن يكون لماهيّةٍ واحدة جنسان قريبان في مرتبة واحدة وكذلك فصلان قريبان الخ(2)؛ لأنّه لم يثبت هذا في علم الميزان، بل ذكر في شرح الشّمسيّة بطلان هذا الكلام(3)، فراجع.

وعلى كلّ تقدير {فالمفهومان} كالصلاة والغصب {المتصادقان على ذاك} الموجود بوجود واحد {لا يكاد يكون كلّ منهما ماهيّة وحقيقة} بحيث {كانت}

ص: 327


1- شرح كفاية الأصول 2: 95-96.
2- شرح كفاية الأصول 1: 222.
3- شروح الشمسيّة: 271 في بحث الفصل القريب والبعيد، ولكن في شرح المطالع: 93 في بحث فروع عليّة الفصل قال باستحالة فصلين قريبين للماهيّة الواحدة، وكذلك التجريد، كما لا يخفى على من راجعهما.

عينه في الخارج، كما هو شأن الطبيعي وفرده، فيكون الواحد وجوداً واحداً، ماهيّة وذاتاً لا محالة، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلّقا الأمر والنّهي، إلّا أنّه كما يكون واحداً وجوداً، يكون واحداً ماهيّة وذاتاً، ولا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهيّة.

___________________________________________

تلك الماهيّة {عينه} أي: عين ذلك الموجود بوجود واحد {في الخارج} ظرف العين {كما هو} أي: اتحاد الماهيّة مع الوجود {شأن الطبيعي وفرده} فإنّ الكلّي الطبيعي عين فرده في الخارج {فيكون الواحد وجوداً واحداً ماهيّة وذاتاً لا محالة} إمّا تفريع على قوله: «كما هو شأن الطبيعي» الخ، وإمّا تفريع على أوّل المطلب {فالمجمع وإن تصادق عليه متعلّقا الأمر والنّهي، إلّا أنّه كما يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ماهيّة وذاتاً} لا أنّ كلّ واحد من الصلاة والغصب ماهيّة على حدة لكنّها اتحدا في الوجود حتّى يكون الوجود واحداً والماهيّة متعدّدة، بل كلا الأمرين عنوان وحاك لذاك التصرّف الخاصّ.

ومن هنا يعلم أنّه لو تصادق شيئان على موجود واحد كان على ثلاثة أنحاء على سبيل منع الخلوّ:

الأوّل: أن يكونا خارجين عن حقيقته، كصدق الكاتب والعالم على زيد.

الثّاني: أن يكونا داخلين في حقيقته، بأن كان أحدهما جنساً والآخر فصلاً، كالحيوان والنّاطق الصادق على الإنسان.

الثّالث: أن يكون أحدهما خارجاً والآخر داخلاً، كالكاتب والنّاطق الصادق على زيد. هذا كلّه إذا كان العنوان في العرض، وأمّا إذا كان طولاً فتصدق الأجناس والفصول المتعدّدة على شيء واحد، كما لا يخفى.

{و} بما ذكرنا من استحالة تعدّد الماهيّة مع وحدة الوجود تبيّن أنّه {لا يتفاوت فيه} أي: في هذا الحكم {القول بأصالة الوجود، أو أصالة الماهيّة} وقد تقدّم بيان ذلك بماحاصله: أنّ بعض الحكماء ذهبوا إلى كون الوجود هو المتحقّق

ص: 328

ومنه ظهر: عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة على القولين في تلك المسألة، كما توهّم في الفصول(1).

كما ظهر: عدم الابتناء على تعدّد وجود الجنس والفصل في الخارج، وعدمِ تعدّده؛

___________________________________________

في الخارج والماهيّة أمر انتزاعي، وبعضهم ذهبوا إلى أنّ الماهيّة هي المتحقّقة في الخارج والوجود منتزع عنها. وعلى كلّ حال فلو كان الوجود أصلاً فإذا كان واحداً كانت الماهيّة واحدة ولو كان الماهيّة أصلاً فإذا كانت واحدة كان الوجود واحداً.

{ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في} هذه {المسألة على القولين} أصالة الوجود وأصالة الماهيّة {في تلك المسألة، كما توهّم} الابتناء {في الفصول} ببيان أنّا لو قلنا بأصالة الماهيّة جاز الاجتماع؛ لأنّ موضوع الأمر ماهيّة وموضوع النّهي ماهيّة أُخرى، فلا يكون متعلّقهما أمراً واحداً حتّى يستحيل اجتماعهما، ولو قلنا بأصالة الوجود امتنع الاجتماع؛ لأنّ موضوع الأمر والنّهي شيء واحد وهو الوجود، فيلزم الجمع بين المتنافيين وهو مستحيل.

قال العلّامة المشكيني(رحمة الله): «ولكنّي راجعت الفصول فلم أجد ابتناء الامتناع على أصالة الوجود والجواز على أصالة الماهيّة»(2)، ثمّ ساق حاصل كلام الفصول، الخ.

ووجه ظهور عدم الابتناء ما تقدّم من أنّ الوجود الواحد له ماهيّة واحدة وبالعكس {كما ظهر عدم الابتناء على تعدّدوجود الجنس والفصل في الخارج وعدم تعدّده} ببيان أنّا لو قلنا بتعدّد وجودهما جاز الاجتماع؛ لأنّ الأمر يتعلّق بأحدهما والنّهي يتعلّق بالآخر، ولو قلنا بوحدة وجودهما امتنع الاجتماع؛ لأنّ هناك ليس إلّا وجود واحد ولا يمكن أن يتعلّق به الأمر والنّهي كلاهما، وجه الظهور ما ذكره

ص: 329


1- الفصول الغرويّة: 126.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 138.

ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس والفصل له، وأنّ مثل الحركة في دار - من أيّ مقولة كانت - لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها ويتخلّف ذاتيّاتها، وقعت جزءاً للصلاة، أو لا، كانت تلك الدار مغصوبة، أو لا.

إذا عرفت ما مهّدناه عرفت:

أنّ المجمع حيث كان وَاحِداً وجوداً وذاتاً،

___________________________________________

بقوله: {ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين} كالصلاة والغصب {عليه} أي: على المجمع {من قبيل الجنس والفصل له، و} ذلك ل- {أنّ مثل الحركة في دار من أيّ مقولة} من المقولات العشر {كانت لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها و} لا يكاد {يتخلّف ذاتيّاتها} سواء {وقعت جزءاً للصلاة أو لا} وسواء {كانت تلك الدار مغصوبة أو لا} ولو كان الغصب والصلاة من قبيل الجنس والفصل للحركة لاختلفت باختلاف جنسها أو فصلها، كما أنّ الشّيء يختلف حقيقته باختلاف جنسه، كالحيوان والشّجر، وفصله، كالناطق والنّاهق.

وقد علّق المصنّف هنا ما لفظه مع شرح مختصر: «وقد عرفت أنّ صدق العناوين المتعدّدة لا تكاد تنثلم به» أي: بالصدق «وحدة المعنون لا ذاتاً» وماهيّة «ولا وجوداً غايته أن تكون له» أي: للشيء «خصوصيّة بها يستحقّالاتّصاف بها» أي: بهذه العناوين «ومحدود بحدود موجبة لانطباقها» أي: انطباق تلك العناوين «عليه» ككونه محدوداً بالعلم والكتابة ونحوهما ممّا أوجب انطباق العالم والكاتب ونحوهما عليه «كما لا يخفى، وحدوده ومخصّصاته لا يوجب تعدّده بوجه أصلاً، فتدبّر جيّداً»(1).

{إذا عرفت ما مهّدناه عرفت أنّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً وذاتاً} أي: ماهيّة

ص: 330


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 139.

كان تعلّق الأمر والنّهي به محالاً، ولو كان تعلّقهما به بعنوانين؛ لما عرفت من كون فعل المكلّف - بحقيقته وواقعيّته الصادرة عنه - متعلّقاً للأحكام، لا بعناوينه الطارئة عليه.

وأنّ غائلة اجتماع الضدّين فيه لا تكاد ترتفع بكون الأحكام تتعلّق بالطبائع لا الأفراد؛ فإنّ غاية تقريبه أن يقال:

إنّ الطبائع من حيث هي هي وإن كانت ليست إلّا هي، ولا يتعلّق بها الأحكام الشّرعيّة - كالآثار العادية والعقليّة - ،

___________________________________________

{كان تعلّق الأمر والنّهي به محالاً، ولو كان تعلّقهما به} أي: بالمجمع {بعنوانين} بأن كان الأمر تعلّق بهذا التصرّف بعنوان الصلاتيّة والنّهي تعلّق به بعنوان الغصبيّة {لما عرفت من كون فعل المكلّف بحقيقته وواقعيّته الصادرة عنه متعلّقاً للأحكام} كما تقدّم بيانه في الأمر الثّاني من أنّ متعلّق التكاليف هو الفعل بما هو شيء خارجي {لا بعناوينه الطارئة عليه} ككونه صلاة وغصباً ونحوهما.{و} قد عرفت {أنّ غائلة اجتماع الضدّين} اللّازم من القول بالجواز {فيه} أي: في المجمع {لا تكاد ترتفع بكون الأحكام تتعلّق بالطبائع لا الأفراد} كما تقدّم شطر من الكلام فيه في الأمر السّابع {فإنّ غاية تقريبه} أي: تقريب تصحيح الاجتماع على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع {أن يقال: إنّ الطبائع من حيث هي هي وإن كانت ليست إلّا هي} لا موجودة ولا معدومة، لا واحدة ولا متكثّرة، وهكذا، لبداهة أنّ كلّ شيء هو هو مع أنّ الطبيعة لو كانت متّصفة بأحد المتقابلات لم يعقل أن تتّصف بغيرها.

مثلاً: لو كانت الطبيعة موجودة لم يعقل عدمها ولو كانت واحدة لم يعقل تكثّرها بمعنى أنّه لو كان أحدها داخلاً في حقيقتها لم يعقل انقلابها، كما لا يخفى.

{و} على هذا {لا} يمكن أن {يتعلّق بها الأحكام الشّرعيّة ك-} ما لا يتعلّق بها {الآثار العادية والعقليّة} مثلاً الأثر العادي لطبيعة الرّجل الالتحاء، والأثر العقلي

ص: 331

إلّا أنّها مقيّدةً بالوجود - بحيث كان القيد خارجاً والتقيّد داخلاً - صالحةٌ لتعلّق الأحكام بها.

ومتعلّقا الأمر والنّهي على هذا لا يكونان متّحدين أصلاً، لا في مقام تعلّق البعث والزجر، ولا في مقام عصيان النّهي وإطاعة الأمر بإتيان المجمع بسوء الاختيار:

أمّا في المقام الأوّل: فلتعدّدهما بما هما متعلّقان لهما، وإن كانا متّحدين في ما هو خارج عنهما بما هما كذلك.

___________________________________________

للنار الحرارة. ومن الواضح أنّ الطبيعة من حيث هي بدون الوجود لا يترتّبعليها الالتحاء والحرارة، وهكذا الطبيعة من حيث هي لا يتعلّق بها الوجوب، فإنّه لا يجب الطبيعة من حيث هي بل الواجب هو إيجاد الطبيعة {إلّا أنّها} أي: الطبائع {مقيّدة بالوجود، بحيث كان القيد خارجاً والتقيّد داخلاً} بأن يكون الطبيعة بقيد الوجود مأموراً بها، لا أنّ الطبيعة الموجودة مأمور بها {صالحة لتعلّق الأحكام بها} كما سبق تفصيله {ومتعلّقا الأمر والنّهي على هذا} الّذي ذكرنا من تعلّق الأحكام بالطبائع {لا يكونان متّحدين أصلاً لا في مقام تعلّق البعث والزجر} المتوجّهين من قبل المولى {ولا في مقام عصيان النّهي وإطاعة الأمر بإتيان المجمع بسوء الاختيار} فإنّ موضوع العصيان هو موضوع الزجر، وموضوع الإطاعة هو موضوع الأمر، وهما مختلفان حسب الفرض.

وبهذا البيان لا يلزم جمع الضدّين ولا اجتماع الإرادة والكراهة بالنسبة إلى شيء واحد.

{أمّا} عدم الاتحاد {في المقام الأوّل} وهو مقام تعلّق البعث والزجر {فلتعدّدهما} أي: الطبيعتين {بما هما متعلّقان لهما} أي: للأمر والنّهي {وإن كانا} أي: المتعلّقان {متّحدين في ما هو خارج عنهما} أي: في الوجود {بما هما كذلك} أي: بما هما متعلّقان للأمر والزجر.

ص: 332

وأمّا في المقام الثّاني: فلسقوط أحدهما بالإطاعة، والآخر بالعصيان بمجرّد الإتيان، ففي أيّ مقام اجتمع الحكمان في واحد؟

وأنت خبير: بأنّه لا يكاد يجدي بعد ما عرفت من أنّ تعدّدالعنوان لا يوجب تعدّد المعنون، لا وجوداً ولا ماهية، ولا تنثلم به وحدتُه أصلاً، وأنّ المتعلّق للأحكام هو المعنونات لا العنوانات، وأنّها إنّما تؤخذ في المتعلّقات بما هي حاكيات - كالعبادات - ،

___________________________________________

والحاصل: أنّ الاتحاد في غير متعلّق الأمر والنّهي، فالمتعلّق متعدّد والمتّحد غير المتعلّق.

{وأمّا} عدم الاتحاد في {المقام الثّاني} وهو مقام عصيان النّهي وإطاعة الأمر - أي: مقام الامتثال - {فلسقوط أحدهما} أي: أحد الحكمين وهو الأمر {بالإطاعة و} سقوط {الآخر} وهو النّهي {بالعصيان} إذ النّهي كما يسقط بالإطاعة والترك كذلك يسقط بالعصيان والفعل، فلو قال: (لا تجلس في المسجد إلى الظهر) فإنّه سواء لم يجلس أو جلس يسقط النّهي بعد الظهر، كما لا يخفى.

وعلى كلّ ف- {بمجرّد الإتيان} بالمجمع يسقطان {ففي أيّ مقام اجتمع الحكمان في واحد} حتّى يلزم اجتماع الضدّين وغيره من المحاذير؟

إن قلت: كيف يأمر المولى بشيء يستلزم وجوده العصيان، فإنّ هذا قبيح؟

قلت: المولى أمر بطبيعة كليّة تصدق على المجمع وإنّما العبد بسوء اختياره أتى بما يستلزم العصيان، فالذمّ ليس متوجّهاً إلى المولى، بل إلى العبد، كما لا يخفى.

{و} لكن {أنت خبير بأنّه لا يكاد يجدي} تعدّد العنوان {بعد ما عرفت من أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون لا وجوداً ولا ماهيّة} بل المعنون الواحد له وجود واحد وماهيّة واحدة {ولا تنثلم به وحدته أصلاً،و} هذه المقدّمة إذا ضممنا إليها مقدّمة أُخرى وهي {أنّ المتعلّق للأحكام هو المعنونات لا العنوانات، وأنّها} أي: العنوانات {إنّما تؤخذ في المتعلّقات بما هي حاكيات كالعبادات} والألفاظ

ص: 333

لا بما هي على حِيالها واستقلالها.

___________________________________________

{لا بما هي على حيالها واستقلالها} أنتج امتناع الاجتماع.

وبهذا كلّه تبيّن أنّ القول بتعلّق الأحكام بالطبائع لا يدفع غائلة اجتماع الضدّين، وقد سبق ذلك ولكن المصنّف(رحمة الله) كرّره تثبيتاً؛ ولأنّه بعد ما ذكر دليل الامتناع أراد الإشاره إلى دليل الجواز، وما ذكر كان هو الوجه الأوّل للجواز.

الوجه الثّاني: ما ذكره المحقّق القمّي+ بما لفظه: «أنّ الحكم إنّما تعلّق بالطبيعة على ما أسلفنا لك تحقيقه، فمتعلّق الأمر طبيعة الصلاة ومتعلّق النّهي طبيعة الغصب، وقد أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في شخص واحد، ولا يرد من ذلك قبح على الأمر لتغاير متعلّق المتضادّين، فلا يلزم التكليف بالمتضادّين ولا كون الشّيء محبوباً ومبغوضاً من جهة واحدة»(1).

ثمّ أشكل على نفسه بما حاصله: أنّ الكلّي لمّا لم يكن موجوداً في الخارج كان الأمر والنّهي متوجّهين إلى الفرد، فيلزم اجتماع الضدّين.

وأجاب بما حاصله: أنّ الكلّي موجود في الخارج في ضمن الفرد، فالفرد مقدّمة لوجود الكلّي في الخارج(2)، فليس الفرد بما هو مأموراً به أو منهيّاً عنه.

والحاصل: أنّ الكلّي الّذي هو ذو المقدّمة منه واجب ومنه حرام، وأمّا الفردالّذي هو مقدّمة فليس بواجب ولا حرام نفسي، فلا يلزم الاجتماع في الفرد.

إن قلت: الفرد حيث كان مقدّمة للواجب ومقدّمة للحرام يلزم اجتماعهما أيضاً.

قلت: المقدّمة محرّمة فقط ولا ضير فيها لإمكان كون المقدّمة المحرّمة آلة في الإيصال إلى الواجب كالركوب على الدابّة المغصوبة مقدّمة للحج.

هذا ما وصل إليه فهمي في توضيح كلام القوانين مع تلخيصه. وقد أشار المصنّف

ص: 334


1- قوانين الأصول 1: 140.
2- وجه كون الفرد مقدّمة: كون الكلّي موجوداً في ضمن المركّب عن الكلّي الطبيعي والمشخّصات الخارجيّة من الكمّ والكيف وغيرهما.

كما ظهر ممّا حقّقناه: أنّه لا يكاد يُجدي أيضاً كون الفرد مقدّمةً لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه، وأنّه لا ضير في كون المقدّمة محرّمةً في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار، وذلك - مضافاً إلى وضوح فساده، وأنّ الفرد هو عين الطبيعي في الخارج، كيف؟ والمقدّميّة تقتضي الاثنينيّة بحسب الوجود، ولا تعدّد كما هو واضح - أنّه إنّما يجدي لو لم يكن المجمع واحداً ماهيّة،

___________________________________________

إلى هذا الدليل بقوله: {كما ظهر ممّا حقّقناه} في بطلان الوجه الأوّل {أنّه لا يكاد يجدي أيضاً كون الفرد مقدّمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه} فالواجب طبيعة الصلاة غير الموجودة، والحرام طبيعة الغصب غير الموجود، والفرد مقدّمة فلم يجتمع فيه الوجوب والحرمة حتّى يلزم التضاد.

{و} لو قلت: بأنّ الفرد مقدّمة لهما ومقدّمة الواجب واجب ومقدّمة الحرام حرام، فيلزم اجتماعهما فيه، غاية الأمر أنّه يجتمع فيه الوجوب والحرمة الغيريّان وهو مستحيل أيضاً.

قلت: بعد ما صارت المقدّمة محرّمة لا تكون واجبة مع أنّها سبب لسقوطالواجب، ف- {أنّه لا ضير في كون المقدّمة محرّمة في صورة عدم الانحصار} وإنّما قيّده بهذه الصورة؛ لأنّها إذا كانت محرّمة في صورة الانحصار لم يكن ذوها واجباً {بسوء الاختيار} متعلّق بقوله: «كون المقدّمة» {وذلك} أي: وجه ظهور فساد هذا الدليل {مضافاً إلى وضوح فساده، وأنّ الفرد هو عين الطبيعي في الخارج} وليس بينهما تغاير وتعدّد، ولهذا يحمل الكلّي على الفرد فيقال: (زيد إنسان) ولو كان مقدّمة لم يصحّ ولهذا لا يقال: (الوضوء صلاة).

و{كيف} يكون الفرد مقدّمة {و} الحال أنّ {المقدّميّة تقتضي الاثنينيّة بحسب الوجود} وبحسب الماهيّة {ولا تعدّد} يتصوّر بين الكلّي والفرد {كما هو واضح أنّه} خبر «ذلك» {إنّما يجدي لو لم يكن المجمع واحداً ماهيّة} بأن كان الفرد مشتملاً

ص: 335

وقد عرفت - بما لا مزيد عليه - أنّه بحسبها أيضاً واحد.

ثمّ إنّه قد استدلّ على الجواز بأُمور:

منها: أنّه لو لم يجز اجتماع الأمر والنّهي لما وقع نظيرُه، وقد وقع، كما في العبادات المكروهة، كالصلاة في مواضع التهمة وفي الحمّام، والصيام في السّفر وفي بعض الأيّام.

بيان الملازمة:

___________________________________________

على ماهيّتين إحداهما موضوع للأمر والآخر موضوع للنهي {وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّه} أي: المجمع {بحسبها} أي:بحسب الماهيّة {أيضاً واحد} كما أنّه بحسب الوجود واحد.

لا يخفى أنّه لو سلّمنا كون الفرد مقدّمة وأنّه حرام فقط لكنّه يسقط به الواجب لم يكن مجال لهذا الجواب الثّاني، وإن أردت زيادة التوضيح فراجع القوانين(1) أوّلاً، ثمّ شرح السّلطان(2) والخوئيني(3) رحمهم اللّه ثانياً.

{ثمّ إنّه قد استدلّ على} القول ب- {الجواز} مضافاً إلى الدليلين السّابقين {بأُمور: منها} ما ذكره في القوانين أيضاً(4)

وهو {أنّه لو لم يجز اجتماع الأمر والنّهي لما وقع نظيره} في الشّرع {و} لكن {قد وقع} نظيره فيجوز {كما في العبادات المكروهة كالصلاة في مواضع التهمة، وفي الحمّام} وفي بعض الأمكنة الخاصّة كوادي ضجنان {والصيام في السّفر} على بعض الأقوال.

{وفي بعض الأيّام} كيوم عاشوراء {بيان الملازمة} بين عدم جواز الاجتماع وعدم

ص: 336


1- قوانين الأصول 1: 142.
2- الحاشية على كفاية الأصول 3: 79.
3- شرح كفاية الأصول 2: 104.
4- قوانين الأصول 1: 142.

أنّه لو لم يكن تعدّد الجهة مجدياً في إمكان اجتماعهما، لما جاز اجتماع حكمين آخرين في مورد مع تعدّدها؛ لعدم اختصاصهما من بين الأحكام بما يوجب الامتناع من التضادّ؛ بداهة تضادّها بأسرها، والتالي باطل؛ لوقوع اجتماع الكراهة والإيجاب أو الاستحباب في مثل الصلاة في الحمّام، والصيام في السّفر وفي العاشوراء - ولو في الحضر - واجتماعِالوجوب أو الاستحباب مع الإباحة أو الاستحباب في مثل الصلاة في المسجد أو الدار.

___________________________________________

وقوع نظيره {أنّه لو لم يكن تعدّد الجهة مجدياً في إمكان اجتماعهما لما جاز اجتماع حكمين آخرين} من الأحكام الخمسة {في مورد مع تعدّدها} أي: تعدّد الجهة {لعدم اختصاصهما} أي: الوجوب والحرمة {من بين الأحكام بما} أي: بخصوصيّة {يوجب الامتناع من التضاد} بيان «ما» {بداهة تضادّها} أي: الأحكام الخمسة {بأسرها، والتالي} وهو عدم اجتماع حكمين آخرين {باطل، لوقوع اجتماع الكراهة والإيجاب، أو} الكراهة و{الاستحباب في مثل الصلاة} الفريضة أو النّافلة {في الحمّام، والصيام في السّفر} بل {و} الصيام {في العاشوراء ولو في الحضر، و} كذا {اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الإباحة أو الاستحباب في مثل الصلاة} الواجبة أو المستحبّة {في المسجد أو الدار}.

والحاصل: أنّا نرى في الشّريعة موارد اجتمع فيها حكمان من الأحكام الخمسة، وذلك دليل جواز اجتماع الوجوب والحرمة، إذ لا فرق بين هذين الحكمين وسائر الأحكام في كون جميعها متضادّة، بل قال في القوانين: «مع أنّ هذا يدلّ على المطلوب بطريق أولى، إذ النّهي في المكروهات تعلّق بالعبادات دون ما نحن فيه.

وبعبارة أُخرى: المنهي عنه بالنهي التنزيهي أخصّ من المأمور به مطلقاً، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ النّسبة بينهما في ما نحن فيه عموم من وجه»(1)،انتهى.

ص: 337


1- قوانين الأصول 1: 142.

والجواب عنه:

أمّا إجمالاً: فبأنّه لا بدّ من التصرّف والتأويل في ما وقع في الشّريعة ممّا ظاهره الاجتماع، بعد قيام الدليل على الامتناع؛ ضرورةَ أنّ الظهور لا يصادم البرهان.

مع أنّ قضيّة ظهور تلك الموارد: اجتماعُ الحكمين فيها بعنوانٍ واحدٍ، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين. فهو أيضاً لا بدّ من التفصّي عن إشكال الاجتماع فيها، لا سيّما إذا لم يكن هناك مندوحة،

___________________________________________

ثمّ لا يذهب عليك أنّ اجتماع استحبابين، كالصلاة النّافلة في المسجد مبنيّ على القولين، إذ القائل بكفاية تعدّد الجهة يرى أنّه ليس من الجمع بين المثلين في واحد، والقائل بعدم الكفاية يرى أنّه من الجمع بين المثلين المستحيل فيلزم تأويله.

{والجواب عنه أمّا إجمالاً فبأنّه لا بدّ من التصرّف والتأويل في ما وقع في الشّريعة ممّا ظاهره الاجتماع} بين المثلين أو الضدّين {بعد قيام الدليل على الامتناع، ضرورة أنّ الظهور لا يصادم البرهان} والوجدان كما تأوّل ما ظاهره التجسّم في باب الذات المقدّسة بالأدلّة العقليّة النّافية له {مع} أنّا لو قلنا بجواز الاجتماع كان اللّازم أيضاً تأويل هذه الظواهر، ل- {أنّ قضيّة ظهور تلك الموارد اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد} لأنّ النّهي وقع عن نفس الصلاة الواجبة أو المستحبّة{ولا يقول الخصم بجوازه كذلك} أي: بجواز الاجتماع بعنوان واحد {بل} الخصم قائل {بالامتناع ما لم يكن} توجّه الأمر والنّهي {بعنوانين وبوجهين، فهو} أي: الخصم {أيضاً لا بدّ} له {من التفصّي عن إشكال الاجتماع فيها} أي: في هذه الموارد الّتي توجّه النّهي إلى ما توجّه إليه الأمر {لا سيّما إذا لم يكن هناك مندوحة} بأن لم يكن هناك مورد يتمكّن من الصلاة بلا اجتماعها مع جهة الكراهة.

ص: 338

كما في العبادات المكروهة الّتي لا بدل لها، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلاً، كما لا يخفى.

وأمّا تفصيلاً: فقد أُجيب عنه بوجوه(1)

يوجب ذكرها بما فيها من النّقض والإبرام طولَ الكلام بما لا يسعه المقام.

فالأولى: الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادّة الإشكال، فيقال - وعلى اللّه الاتّكال - :

إنّ العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:

___________________________________________

وقد مثل لعدم المندوحة بقوله: {كما في العبادات المكروهة الّتي لا بدل لها} كصوم يوم عاشوراء الّذي لا بَدَلَ له، بحيث يتمكّن العبد من تركه والإتيان ببدله، إذ صوم باقي الأيّام مستحبّ بنفسه لا أنّه بدل، مثلاً يستحبّ الصوم في اليوم الحادي عشر فلا يقع صومه بدل صوم يوم العاشر. وجه الخصوصيّة أنّ تشريع الكراهة في العبادة إذا كان للعبد مناص عنها - بأن كان للعبادة فردان مكروه وغير مكروه - أهون من تشريع الكراهةفي ما لا مناص عنها، وجه أقوائيّة المحذور في ما لا مناص: أنّ معنى الكراهة منافٍ لمعنى المحبوبيّة، كما لا يخفى {فلا يبقى له} أي: للخصم {مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها} أي: في هذه الموارد {على جوازه} أي: جواز اجتماع الأمر والنّهي {أصلاً، كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{وأمّا} الجواب {تفصيلاً فقد أُجيب عنه بوجوه يوجب ذكرها بما فيها من النّقض والإبرام طول الكلام بما لا يسعه المقام، فالأولى الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادّة الإشكال، فيقال وعلى اللّه الاتّكال: إنّ العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام} وبتوضيح الكلام في العبادات المكروهة يتّضح الجواب عن إشكال اجتماع المثلين في العبادات - الّتي اجتمع فيها استحبابان - :

ص: 339


1- الفصول الغرويّة: 128؛ مطارح الأنظار 1: 617.

أحدها: ما تعلّق به النّهي بعنوانه وذاته، ولا بدل له، كصوم يوم العاشوراء، أو النّوافل المبتدئة في بعض الأوقات.

ثانيها: ما تعلّق به النّهي كذلك، ويكون له البدل، كالنهي عن الصلاة في الحمّام.

ثالثها: ما تعلّق النّهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجوداً، أو ملازم له خارجاً، كالصلاة في مواضع التهمة، بناءً على كون النّهي عنها لأجل اتّحادها مع الكون في مواضعها.

___________________________________________

{أحدها: ما تعلّق به النّهي بعنوانه وذاته} أي: بذات ما تعلّق به الوجوب أو الاستحباب، بأنّ توجّه النّهي إلى العنوان الّذي توجّه إليه الأمر {و} الحال أنّه {لا بدل له} بحيث يتركه في الوقت المكروه ويأتي به غير مقترن بالكراهة {كصوم يومالعاشوراء أو النّوافل المبتدئة في بعض الأوقات} كعند طلوع الشّمس وعند غروبها وبعد صلاتي الصبح والعصر ونحوها على القول بالكراهة.

{ثانيها: ما تعلّق به النّهي كذلك} أي: بعنوانه وذاته {ويكون له البدل} بحيث يمكن أن يؤتى بذلك الشّيء غير مقترن بالكراهة {كالنهي عن الصلاة} الواجبة أو المستحبّة {في الحمّام} فإنّه يتمكّن المكلّف من إتيان صلاة الظهر أو نافلتها - مثلاً - في خارج الحمّام.

{ثالثها: ما تعلّق النّهي به} ولكن {لا بذاته} وعنوانه {بل بما هو} أي: بعنوان {مجامع معه} أي: مع المأمور به {وجوداً، أو ملازم له خارجاً} والفرق بينهما واضح، فإنّ المجامع ما كان العنوانان صادقين على وجود واحد، بخلاف الملازم فإنّ معنى الملازمة إنّما يصدق في ما كانا متغايرين {كالصلاة في مواضع التهمة، بناءً على كون النّهي عنها} في تلك المواضع {لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها} فلو كان الكون متّحداً مع الصلاة بملاحظة أنّ الصلاة عبارة عن الأكوان والأفعال، فالنهي تعلّق بشيء متحد الوجود مع الصلاة. وكان هذا مثالاً لقوله: «مجامع معه

ص: 340

أمّا القسم الأوّل: فالنهي تنزيهاً عنه - بعد الإجماع على أنّه يقع صحيحاً(1)، ومع ذلك يكون تركه أرجح كما يظهر من مداومة الأئمّة(علیهم السلام) على التّرك - :

إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة علىالترك،

___________________________________________

وجوداً» ولو كان الكون من مقدّمات الأفعال بملاحظة أنّ الصلاة عبارة عن الأفعال فقط والكون ليس داخلاً في الصلاة، فالنهي تعلّق بشيء ملازم مع الصلاة، وكان هذا مثالاً لقوله: «ملازم له خارجاً».

وإنّما قال: «لأجل اتّحادها» الخ، ليحصل الفرق بين القسم الثّالث والأوّلين.

والحاصل: أنّ القسم الثّالث هو ما تعلّق النّهي بعنوان العبادة لكن علم من الخارج أنّ متعلّق النّهي عنوان آخر متّحد أو ملازم مع عنوان العبادة، وهذا بخلاف القسمين الأوّلين فإنّ النّهي فيهما تعلّق بنفس عنوان العبادة. وبهذا ظهر وجه الحصر في الثّلاثة.

بيانه: أنّ النّهي المتعلّق بعنوان العبادة إمّا تعلّق بذاته أو لا، وما تعلّق بذاته إمّا أن يكون له البدل أو لا:

{أمّا القسم الأوّل} وهو ما تعلّق النّهي بذات العبادة مع عدم البدل {فالنهي تنزيهاً} لا تحريماً {عنه بعد الإجماع على أنّه يقع صحيحاً، ومع ذلك يكون تركه أرجح، كما يظهر} أرجحيّة الترك {من مداومة الأئمّة(علیهم السلام) على الترك، إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك} قوله: «إمّا لأجل» خبر للنهي عنه، أي: إنّ النّهي بعد ثبوت مقدّمتين لأحد أمرين إمّا فلان وإمّا فلان. أمّا المقدّمتان:

فالأُولى: الإجماع على صحّة العبادة ووقوعها مقرّباً، كالصوم في عاشوراء، إذ لولا صحّته لم يقع مقرّباً وكان باطلاً.

والثّانية: الالتزام بكون الفعل مرجوحاً وكون الترك أرجح منه لمداومة الأئمّة(علیهم السلام)

ص: 341


1- جواهر الكلام 17: 108.

فيكون الترك - كالفعل - ذا مصلحة موافقة للغرض، وإن كانمصلحة الترك أكثر، فهما حينئذٍ يكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهمّ في البين، وإلّا فيتعيّن الأهمّ، وإن كان الآخر يقع صحيحاً؛ حيث إنّه كان راجحاً وموافقاً للغرض، كما هو الحال في سائر المستحبّات المتزاحمات،

___________________________________________

على الترك، ولو كان الفعل راجحاً لم يداوموا(علیهم السلام) على الترك، فبعد ثبوت هاتين المقدّمتين نقول النّهي عن هذه العبادة لأحد أمرين إمّا أنّه ينطبق على ترك الصوم عنوان ذي مصلحة {فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض وإن كان مصلحة الترك أكثر} ولذا يكون الترك أرجح.

مثلاً: صوم يوم عاشوراء ذو مصلحة وينطبق على تركه عنوان مخالفة بني أُميّة، فيكون تركه أيضاً ذا مصلحة إلّا أنّ ذلك العنوان لما كان أرجح كان الترك أفضل.

إن قلت: مع تزاحم الرّجحانين يلزم أن يكون مباحاً.

قلت: المباح هو ما يكون كلّ واحد من الفعل والترك خالياً عن المصلحة وطرف الفعل والترك هنا ليس كذلك {فهما حينئذٍ يكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما} كما لو كان هناك غريقان فإنّه يحكم بالتخيير في إنقاذهما {لو لم يكن أهمّ في البين، وإلّا} فلو كان أحدهما أهمّ من الآخر {فيتعيّن الأهمّ} ثمّ إن كانت الأهميّة تعيينيّة لم يكن للمهمّ أمر، وإنّما يصحّ الإتيان به بالملاك، كما سبق في ما لو ترك الإزالة واشتغل بالصلاة، فإنّ الصلاة صحيحة لا للترتّب بل لوجود الملاك، ولو لم تكن الأهميّة تعيينيّة كان الأهمّ راجحاً {وإن كان الآخر} الّذي هو مهمّ {يقع صحيحاً حيث إنّه كان راجحاً} في نفسه{وموافقاً للغرض كما هو الحال في سائر المستحبّات المتزاحمات} مع أرجحيّة بعضها.

مثلاً: الصوم النّدبي مستحبّ وإجابة المؤمن مستحبّة، فلو تزاحما - بأن طلب

ص: 342

بل الواجبات.

وأرجحيّة الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه أصلاً، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته، ولذا لا يقع صحيحاً على الامتناع؛ فإنّ الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحيّة التقرّب به، بخلاف المقام، فإنّه على ما هو عليه من الرّجحان وموافقة الغرض

___________________________________________

المؤمن الإفطار - كان ترك الصوم أرجح لا لنفسه، بل لانطباق عنوان ذي مصلحة راجحة على هذا الترك، وهكذا الصوم في يوم عرفة إذا كان مضعفاً عن الدعاء.

{بل} وكذلك {الواجبات} المتزاحمات كإنقاذ الغريق للتساوي، أو الإزالة والصلاة للأرجحيّة.

{و} إن قلت: إنّ أرجحيّة الترك من الفعل يوجب حزازة في الفعل ومعها لا أمر بالفعل فلا يقع صحيحاً.

قلت: {أرجحيّة الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه} أي: في الفعل {أصلاً} وليس هذا إلّا كما لو دار الأمر بين الحجّ النّدبي وبين زيارة بعض المؤمنين، فإنّ الزيارة وإن كانت أقلّ ثواباً إلّا أنّه لو فعلها لم يكن في الفعل حزازة {كما} لا يخفى.

نعم {يوجبها} أي: الحزازة {ما إذا كان فيه} أي: في الفعل {مفسدة غالبة على مصلحته} كالصلاة المزاحمةلفعل الإزالة، فإنّ الصلاة ذات مصلحة قليلة ومفسدة كثيرة، فتكون الصلاة حينئذٍ ذات حزازة {ولذا لا يقع صحيحاً على} القول ب- {الامتناع فإنّ الحزازة والمنقصة} الكائنة {فيه مانعة عن صلاحيّة التقرّب به} أي: بهذا الفعل، وهذا {بخلاف المقام} ممّا لم يكن في أحد طرفي الفعل والترك حزازة بل كان كلّ منهما راجحاً، غاية الأمر رجحان أحد الطرفين على الآخر {فإنّه على ما هو عليه من الرّجحان وموافقة الغرض} فإنّ الصوم في يوم عاشوراء

ص: 343

- كما إذا لم يكن تركه راجحاً - بلا حدوث حزازة فيه أصلاً.

___________________________________________

كالصوم في غيره فيكون {كما إذا لم يكن تركه راجحاً بلا حدوث حزازة فيه أصلاً} وإنّما يكون الترك منطبقاً لعنوان راجح، فتدبّر.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) على قوله: «لا توجب حزازة» الخ ما لفظه: «ربّما يقال إنّ أرجحيّة الترك وإن لم توجب منقصة وحزازة في الفعل أصلاً، إلّا أنّه يوجب المنع منه فعلاً والبعث إلى الترك قطعاً، كما لا يخفى، ولذا كان ضدّ الواجب» كالصلاة «بناءً على كونه مقدّمة له» أي: على القول بكون ترك الصلاة الّتي هي ضدّ مقدّمة للواجب الّذي هو الإزالة «حراماً ويفسد» هذا الضدّ «لو كان عبادة، مع أنّه لا حزازة في فعله وإنّما كان النّهي عنه وطلب تركه لما فيه من المقدّميّة له وهو» أي: الضد «على ما هو عليه من المصلحة، فالمنع عنه لذلك» أي: لكون تركه مقدّمة «كافٍ في فساده لو كان عبادة».

وبهذا تبيّن أنّ فساد العبادة لأحد أمرين:

الأوّل: كونها ذات مفسدة غالبة.والثّاني: كونها مزاحمة لشيء أهم.

وصوم يوم عاشوراء وإن لم يكن فيه مفسدة ولكنّه مزاحم لما هو أهمّ.

«قلت: يمكن أن يقال: إنّ النّهي التحريمي لذلك» أي: لكونه مزاحماً للأهمّ «وإن كان كافياً في ذلك» أي: فساد المنهي عنه «بلا إشكال إلّا أنّ» النّهي «التنزيهي غير كاف» في الفساد «إلّا إذا كان» النّهي التنزيهي «عن حزازة فيه» والحاصل: أنّ النّهي التحريمي الموجب للفساد يكون للحزازة أو للمزاحمة للأهم.

وأمّا النّهي التنزيهي فلا يوجب الفساد إلّا إذا كان في الفعل حزازة «وذلك لبداهة عدم قابليّة الفعل للتقرّب منه تعالى، مع المنع عنه وعدم ترخيصه في ارتكابه،

ص: 344

وإمّا لأجل ملازمة الترك لعنوانٍ كذلك من دون انطباقه عليه، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت، إلّا في أنّ الطلب المتعلّق به حينئذٍ ليس بحقيقي، بل بالعَرض والمجاز، وإنّما يكون في الحقيقة متعلّقاً بما يلازمه من العنوان. بخلاف صورة الانطباق؛ لتعلّقه به حقيقةً، كما في سائر المكروهات من غير فرق،

___________________________________________

بخلاف التنزيهي عنه إذا كان» النّهي «لا لحزازة فيه، بل لما في الترك من المصلحة الرّاجحة حيث إنّه معه» أي: الفعل مع النّهي التنزيهي الصادر للمزاحمة «مرخوص فيه وهو على ما هو عليه من الرّجحان والمحبوبيّة له - تعالى - ولذلك لم تفسد العبادة إذا كانت ضدّاً لمستحبّ أهمّ» كما مثلّلنا من مزاحمة الحجّ النّدبي لزيارة بعض المؤمنين «اتفاقاً فتأمّل»(1)،

انتهى، ولكن يمكن الفرق بين الضدّ المنهي عنه وغيره.{وإمّا} أن يكون النّهي عن العبادة {لأجل ملازمة الترك لعنوان كذلك} ذي مصلحة {من دون انطباقه عليه} أي: ليس النّهي لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، كما في القسم الأوّل {فيكون} هذا القسم الثّاني {كما إذا انطبق} عنوان ذو مصلحة {عليه} أي: على الترك {من غير تفاوت} بينهما أصلاً.

مثلاً: قد ينهى عن مجيء زيد لانطباق الفاسق عليه، وقد ينهى عن مجيئه لكون مجيئه ملازماً لمجيء عمرو الفاسق {إلّا في أنّ الطلب المتعلّق به} أي: بهذا الترك {حينئذٍ} أي: حين كان النّهي لأجل ملازمته الترك لعنوان ذي مصلحة {ليس بحقيقي، بل بالعرض والمجاز، وإنّما يكون} النّهي {في الحقيقة متعلّقاً بما يلازمه من العنوان} فإنّ المكروه في الحقيقة في المثال مجيء عمرو، وإنّما نهى عن مجيء زيد بالملازمة إيّاه {بخلاف صورة الانطباق لتعلّقه به حقيقة، كما في سائر المكروهات} الّتي تعلّق النّهي بها، لا بعنوان ملازم لها {من غير فرق} بين

ص: 345


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 150.

إلّا أنّ منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل، وفيه رجحان في الترك، من دون حزازة في الفعل أصلاً، غاية الأمر كون الترك أرجح.

نعم، يمكن أن يحمل النّهي - في كلا القسمين - على الإرشاد إلى الترك الّذي هو أرجح من الفعل، أو ملازمٌ لما هو الأرجح وأكثر ثواباً لذلك، وعليه يكون النّهي على نحو الحقيقة لا بالعرض والمجاز، فلا تغفل.

___________________________________________

هذا القسم وسائر المكروهات {إلّا أنّ منشأه} أي: منشأ النّهي {فيها} أي: في سائر المكروهات {حزازة ومنقصة في نفس الفعل، و} منشأ النّهي {فيه} أي: في الفعل المستحبّ، كصوم يوم عاشوراء {رجحان في الترك من دون حزازة في الفعل أصلاً، غاية الأمر كون الترك} لكونه معنوناً بعنوان مخالفة بني أُميّة {أرجح} من الفعل. مثلاً: ثواب الترك مائة وثواب الفعل تسعون.

{نعم} استثناء عن قوله أوّلاً: «فالنهي تنزيهاً عنه» - إذ ظاهره كون النّهي مولويّاً - والحال يريد أن يبيّن أنّه {يمكن أن يحمل النّهي في كلا القسمين} أي: ما كان النّهي لانطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، وما كان النّهي لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة {على الإرشاد إلى الترك الّذي هو أرجح من الفعل} في القسم الأوّل {أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثواباً لذلك} أي: في القسم الثّاني {وعليه} أي: بناءً على حمل النّهي على الإرشاد {يكون النّهي} في القسم الثّاني {على نحو الحقيقة} إرشاديّاً {لا بالعرض والمجاز} مولويّاً {فلا تغفل}.

وعلى أيّ حال فالنهي الإرشادي لا ينافي الأمر المولوي، ولا فرق بين ما كان النّهي لعنوان منطبق أو عنوان ملازم، غاية الأمر أنّ المرشد إليه تارة نفس الشّيء ذي المصلحة وتارة ملازم لذي المصلحة، كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ النّهي في القسم الأوّل على أربعة أقسام: لأنّه إمّا مولويّ، وإمّا إرشاديّ، وعلى كلّ تقدير فإمّا لانطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، وإمّا لأجل

ص: 346

وأمّا القسم الثّاني: فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأوّل طابِقَ النّعل بالنّعل.

كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها، لأجل تشخّصها في هذا القسم بمشخّص غير ملائم لها، كما في الصلاة في الحمّام؛ فإنّ تشخّصها بتشخّص وقوعها فيه لا يناسب كونها معراجاً، وإن لم يكن نفس الكون في الحمّام بمكروهٍ، ولا حزازة فيه أصلاً، بل كان راجحاً، كما لا يخفى.

___________________________________________

ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة. هذا تمام الكلام في القسم الأوّل.

{وأمّا القسم الثّاني} - وهو ما تعلّق النّهي بعنوان العبادة وذاته مع وجود البدل، كالصلاة في الحمّام - {فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأوّل طابق النّعل بالنعل} فيكون النّهي تنزيهاً عن الصلاة في الحمّام، إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، وإمّا لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة {كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في} نفس {الطبيعة المأمور بها} وإنّما حصل النّقص {لأجل تشخّصها في هذا القسم بمشخّص غير ملائم لها، كما في الصلاة في الحمّام، فإنّ} طبيعة الصلاة وإن كانت راجحة في نفسها إلّا أنّ {تشخّصها بتشخّص وقوعها فيه لا يناسب كونها معراجاً، وإن لم يكن نفس الكون في الحمّام بمكروه ولا حزازة فيه أصلاً، بل كان راجحاً، كما لا يخفى}.ثمّ لا يخفى أنّه يلزم تقييد هذا بما لم يكن مقدار النّقص موجباً لتفويت قدر من العبادة ممّا لا بدّ منه في تحصيل الغرض، وإلّا فلو فرضنا أنّ صلاة الظهر - مثلاً - إنّما تكون محصّلة للغرض في صورة ما إذا كانت وافية بمائة درجة من الثّواب والصلاة في الحمّام كانت تفي بتسعين، فتدبّر.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) أشار إلى الجواب عن إشكال جمع المثلين في مثل صلاة النّافلة في المسجد، وعن إشكال جمع الوجوب والاستحباب في مثل صلاة الفريضة

ص: 347

وربّما يحصل لها - لأجل تخصّصها بخصوصيّة شديد الملائمة معها - مزيّةٌ فيها، كما في الصلاة في المسجد والأمكنة الشّريفة؛ وذلك لأنّ الطبيعة المأمور بها في حدّ نفسها - إذا كانت مع تشخّص لا يكون معه شدّة الملائمة، ولا عدم الملائمة - لها مقدار من المصلحة والمزيّة، كالصلاة في الدار - مثلاً - ، ويزداد تلك المزيّة في ما كان تشخّصه بما له شدّة الملائمة، وتنقص في ما إذا لم تكن له ملائمة. ولذلك ينقص ثوابها تارةً، ويزيد أُخرى.

ويكون النّهي فيه - لحدوث نقصان في مزيّتها فيه -

___________________________________________

فيه فقال: {وربّما يحصل لها لأجل تخصّصها بخصوصيّة شديد الملائمة معها مزيّة} فاعل «يحصل» {فيها} توجب مزيد الثّواب على أصل الطبيعة {كما في الصلاة في المسجد والأمكنة الشّريفة} كمشاهد الأئمّة(علیهم السلام) {وذلك لأنّ الطبيعة المأمور بها في حدّ نفسها - إذا كانت مع تشخّص} ووصف التشخّص بقوله: {لا يكون معه شدّة الملائمة} مع العبادة {ولا عدم الملائمة - لها مقدار منالمصلحة والمزيّة} قوله: «مقدار» اسم «كان»، وقوله: «لها» خبر «كان» أي: إذا كان مقدار من المصلحة للطبيعة المتشخّصة بخصوصيّة بحيث لم تكن تلك الخصوصيّة ملائمة ولا منافرة {كالصّلاة في الدار مثلاً، ويزداد تلك المزيّة في ما كان تشخّصه بما له شدّة الملائمة} كالصلاة في المسجد {وتنقص} المزيّة {في ما إذا لم تكن له ملائمة} بل كان للتشخّص منافرة {ولذلك ينقص ثوابها تارة ويزيد أُخرى}.

فالصّلاة في نفسها لها مائة درجة من الثّواب، والصلاة في الحمّام لها تسعون، والصلاة في المسجد لها مائة وعشرة مثلاً.

وبهذا يتّضح أنّه لم يلزم اجتماع المثلين في نحو النّافلة في المسجد، ولم يلزم اجتماع الوجوب والاستحباب، أو الوجوب والكراهة، أو الاستحباب والكراهة، في نحو الصلاة الفريضة في المسجد، أو الحمّام، أو الصلاة النّافلة في الحمّام.

{و} بهذا تبيّن أنّه إنّما {يكون النّهي فيه لحدوث نقصان في مزيّتها فيه} أي: في

ص: 348

إرشاداً إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد، ويكون أكثر ثواباً منه.

وليكن هذا مراد من قال: «إنّ الكراهة في العبادة تكون بمعنى أنّها تكون أقلّ ثواباً».

ولا يرد عليه(1): بلزوم اتصاف العبادة الّتي تكون أقلّ ثواباً من الأُخرى بالكراهة،

___________________________________________

ما كانت العبادة متشخّصة بخصوصيّة لم تكن ملائمة للعبادة، فيكون النّهي{إرشاداً إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد} ولا تنافي بين النّهي الإرشادي والأمر المولوي، كما سبق، إذ النّهي حينئذٍ غير موجب لحزازة في الفعل {ويكون} ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد {أكثر ثواباً منه} أي: ممّا فيه نقصان، فالنواهي المذكورة المتعلّقة بالعبادات ليست على ظواهرها من المولويّة حتّى يكون الفعل مرجوحاً والترك راجحاً، بل جميعها إرشاد إلى الأفضل، وعلى هذا فلا يكون في إطاعتها ثواب ولا في معصيتها عقاب أو نحوه، كما هو شأن الأوامر والنّواهي الإرشاديّة، على ما ذكروا، فتذكّر.

{وليكن هذا} الّذي ذكرنا من كون المراد من أقليّة الثّواب أقليّته بالنسبة إلى الفرد العادي من نفس تلك الطبيعة {مراد من قال: «إنّ الكراهة في العبادة تكون بمعنى أنّها تكون أقلّ ثواباً»}. والحاصل: أنّ من قال: إنّ العبادة المكروهة عبارة عن العبادة الّتي تكون أقلّ ثواباً، مراده: أنّه لو كان هناك طبيعة لها مقدار من الثّواب في نفسها ثمّ كان بعض أفراد تلك الطبيعة أقلّ ثواباً، باعتبار تشخّص تلك الأفراد بخصوصيّة غير ملائمة كانت تلك الأفراد النّاقصة مكروهة، وليس مرادهم أنّ كلّ عبادة أقلّ ثواباً من ثواب غيرها تكون مكروهة.

{و} بما ذكرنا اتّضح أنّه {لا يرد عليه} أي: على هذا التفسير ما ذكره الفصول(2) {بلزوم اتصاف العبادة الّتي تكون أقلّ ثواباً من الأُخرى بالكراهة}

ص: 349


1- قوانين الأصول 1: 143.
2- الفصول الغروية: 131.

ولزوم اتصاف ما لا مزية فيه ولا منقصة بالاستحباب؛ لأنّه أكثر ثواباً ممّا فيه المنقصة.لما عرفت من أنّ المراد من كونه أقلّ ثواباً، إنّما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المشخّصة، بما لا يحدث معه مزيّة لها ولا منقصة من المشخّصات، وكذا كونه أكثر ثواباً.

___________________________________________

أولاً {ولزوم اتصاف ما لا مزيد فيه ولا منقصة بالاستحباب؛ لأنّه} أي: ما لا مزيد ولا منقصة {أكثر ثواباً ممّا فيه المنقصة} ثانياً. فمثل الصوم بالنسبة إلى الصلاة يلزم أن يكون مكروهاً؛ لأنّ الصوم أقلّ ثواباً من الصلاة، وكذلك يلزم أن تكون الصلاة في الدار بالنسبة إلى الصلاة في الحمّام مستحبّاً؛ لأنّ الصلاة في الدار لها مزيّة على الصلاة في الحمّام.

أقول: وكذا يلزم أن تكون الصلاة في الدار مكروهة بالنسبة إلى الصلاة في المسجد؛ لأنّها أقلّ ثواباً منها، فيلزم أن تكون الكراهة والاستحباب نسبيّين؛ لأنّ الصلاة في الدار مستحبّة بالنسبة إلى الصلاة في الحمّام ومكروهة بالنسبة إلى الصلاة في المسجد، ولكن لا يرد شيء من هذه الإشكالات على تفسير العبادة المكروهة بأقلّيّة الثّواب {لما عرفت من أنّ المراد من كونه أقلّ ثواباً} ليس الأقليّة المطلقة.

وكذا ليس المراد بأكثريّة الثّواب في طرف الاستحباب الأكثريّة المطلقة، بل كلّ واحد من الأقليّة والأكثريّة {إنّما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المشخّصة بما} أي: المشخّصة بتشخيص {لا يحدث معه} أي: مع ذلك التشخّص {مزيّة لها ولا منقصة} فالمقيس عليه هو فرد متوسّط من الطبيعة عارية {من المشخّصات} الملائمة والمنافرة، فما كان أقلّ ثواباً منها كان مكروهاً وما كان أكثر ثواباً منها كان مستحبّاً، فتبيّن معنى كونه أقلّ ثواباً {وكذا كونه أكثر ثواباً} فتفطّن.

ص: 350

ولا يخفى: أنّ النّهي في هذا القسم لا يصلح إلّا للإرشاد، بخلاف القسم الأوّل، فإنّه يكون فيه مولويّاً، وإن كان حمله على الإرشاد بمكان من الإمكان.

وأمّا القسم الثّالث: فيمكن أن يكون النّهي فيه عن العبادة - المتّحدة مع ذاك العنوان، أو الملازمة له - بالعرض والمجاز، وكان المنهي عنه به حقيقةً ذاك العنوان.

___________________________________________

{ولا يخفى أنّ النّهي في هذا القسم} الثّاني من العبادات المكروهة {لا يصلح إلّا للإرشاد} بناءً على هذا الجواب - أعني: قوله: «كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة» الخ - وأمّا بالنظر إلى توجيه هذا القسم بما مرّ في القسم الأوّل، فلا يلزم كونه للإرشاد، بل يحتمل الإرشاد وعدمه.

وإنّما حكمنا بكونه للإرشاد لأنّ كونه مولويّاً يتوقّف على ثبوت مفسدة في المنهي عنه والمفروض عدم المفسدة، كما لا يخفى {بخلاف} النّهي في {القسم الأوّل فإنّه يكون فيه مولويّاً} لفرض المفسدة فيه {وإن كان حمله على الإرشاد} إلى ترجيح الترك على الفعل {بمكان من الإمكان} كما تقدّم.

{وأمّا القسم الثّالث} وهو ما تعلّق النّهي لا بذات العبادة، بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له خارجاً كالصلاة في مواضع التهمة {فيمكن أن يكون النّهي فيه} أي: في هذا القسم {عن العبادة المتّحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز} أمّا إذا كان النّهي بعنوان مجامع مع المأمور به وجوداً فإنّ النّهي - وإن كان متعلّقاً بالكون في موضعالتهمة مثلاً، وهو متّحد مع الكون الصلاتي - {و} لكن {كان المنهي عنه به} أي: بهذا النّهي {حقيقة ذاك العنوان} لا عنوان المأمور به، فإنّ لهذا الكون جهتين جهة الصلاتيّة وجهة موضع التهمة، والنّهي أوّلاً وبالذات ليس متوجّهاً إلى الأوّل، حتّى أنّ (لا تصل فيها) مجاز في نظر العرف. وأمّا إذا كان النّهي بعنوان ملازم للمأمور به فهو أظهر من أن يخفى؛ لأنّ النّهي للملازم لا للمأمور به.

ص: 351

ويمكن أن يكون - على الحقيقة - إرشاداً إلى غيرها من سائر الأفراد، ممّا لا يكون متّحداً معه أو ملازماً له؛ إذ المفروض: التمكّن من استيفاء مزيّة العبادة بلا ابتلاءٍ بحزازةِ ذاك العنوان أصلاً.

هذا على القول بجواز الاجتماع. وأمّا على الامتناع: فكذلك في صورة الملازمة، وأمّا في صورة الاتّحاد وترجيح جانب الأمر - كما هو المفروض،

___________________________________________

هذا كلّه بناءً على كون النّهي مولويّاً {ويمكن أن يكون} النّهي {على الحقيقة} متوجّهاً إلى المأمور به، فلا يكون حينئذٍ مولويّاً، بل يكون {إرشاداً إلى غيرها من سائر الأفراد ممّا لا يكون متّحداً معه} أي: مع النّهي عنه {أو ملازماً له}.

والحاصل: أنّ النّهي عن العبادة في القسم الثّالث يمكن أن يكون عرضيّاً مولويّاً، ويمكن أن يكون حقيقيّاً إرشاديّاً، كأن يكون النّهي عن الصلاة في مواضع التهمة للإرشاد إلى الصلاة في غيرها {إذ المفروض التمكّن من استيفاء مزيّة العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان} المتّحد أو الملازم {أصلاً} فيأتيبالصلاة في غير موضع التهمة، فلا تكون الصلاة مبتلاة بحزازة موضع التهمة.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرنا من كون العبادة بنفسها مأموراً بها وذاك العنوان منهيّ عنها إنّما يصحّ {على القول بجواز الاجتماع} بين الأمر والنّهي، لأنّ حكم أحد العنوانين لا يسري إلى الآخر، فالصلاة مأمور بها والكون في موضع التهمة منهيّ عنها {وأمّا على} القول ب- {الامتناع فكذلك} لا تنافي بين الأمر والنّهي {في صورة الملازمة} بأن كان المنهي عنه ملازماً للمأمور به؛ لأنّ القائل بالامتناع إنّما يرى امتناع اجتماع الأمر والنّهي في الشّيء الواحد ولا يرى الامتناع في الشّيئين المتلازمين، ولكنّه أيضاً مشكل لعدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم، كما سبق.

{وأمّا في صورة الاتحاد} بأن كان عنوان المنهي عنه متّحداً مع عنوان المأمور به وقلنا بامتناع الاجتماع {وترجيح جانب الأمر كما هو المفروض} وبيّن كون المفروض

ص: 352

حيث إنّه صحّت العبادة - فيكون حال النّهي فيه حاله في القسم الثّاني، فيحمل على ما حُمِل عليه فيه، طابِقَ النّعل بالنّعل، حيث إنّه بالدقّة يرجع إليه؛ إذ على الامتناع ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلّا من مخصّصاته ومشخّصاته، الّتي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزيّة - زيادة ونقيصة - بحسب اختلافها في الملائمة، كما عرفت.

وقد انقدح بما ذكرناه: أنّه لا مجال أصلاً لتفسير الكراهة في العبادة بأقليّة الثّواب في القسم الأوّل

___________________________________________

ترجيح جانب الأمر بقوله: {حيث إنّه صحّت(1)

العبادة}المكروهة بالإجماع {فيكون حال النّهي فيه حاله في القسم الثّاني} فيكون النّهي فيه إرشاداً إلى نقص في مصلحتها، ولا يكون النّهي مولويّاً، إذ النّهي المولوي ينافي الصحّة، فتأمّل.

{فيحمل} النّهي في هذا القسم الثّالث {على ما حمل عليه فيه} أي: في القسم الثّاني {طابق النّعل بالنّعل، حيث إنّه بالدقّة يرجع إليه} فيكون حال الصلاة في مواضع التهمة حال الصلاة في الحمّام، فكما أنّ الصلاة في الحمّام اجتمع فيها الأمر المولوي والنّهي الإرشادي كذلك حال الصلاة في مواضع التهمة {إذ على الامتناع ليس الاتحاد} للصلاة {مع العنوان الآخر} الّذي هو الكون في مواضع التهمة {إلّا من مخصّصاته} أي: مخصّصات المأمور به {ومشخّصاته الّتي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزيّة زيادة ونقيصة بحسب اختلافها في الملائمة، كما عرفت} في القسم الثّاني، من أنّ اتحاد الصلاة مع الكون في الحمّام من مخصّصاتها الّتي تختلف طبيعة الصلاة بحسب اتحاده معها وعدم اتحاده.

{وقد انقدح بما ذكرناه} من الأجوبة التفصيليّة لأقسام العبادة المكروهة {أنّه لا مجال أصلاً لتفسير الكراهة في العبادة بأقليّة الثّواب في القسم الأوّل} كصوم يوم

ص: 353


1- وفي بعض النّسخ «حيث إنّه صحّة العبادة»، فيكون المعنى حيث إنّ المفروض صحّة العبادة، فالضمير في «أنّه» راجع إلى «المفروض».

مطلقاً، وفي هذا القسم على القول بالجواز.

___________________________________________

عاشوراء {مطلقاً} سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنّهي أم قلنا بامتناعه، وذلك لما تقدّم من أنّ القائلين بجواز اجتماع الأمر والنّهي يلزم عليهم الجوابعن هذا القسم من العبادات المكروهة الّتي لا بدل لها، إذ اجتماع الأمر والنّهي في هذا النّحو من العبادات بعنوان واحد لا بعنوانين، ووجه عدم كون الكراهة بمعنى أقليّة الثّواب أنّ فرد الطبيعة منحصر في هذا المكروه، فلا فرد متوسّط للطبيعة حتّى يقاس عليه كثرة الثّواب وقلّته في سائر الأفراد.

وبهذا تبيّن أنّه لا يكون النّهي إرشاداً، إذ ليس هناك أفراد أُخرى حتّى يكون النّهي عن هذا الفرد إرشاداً إلى تلك الأفراد. نعم، النّهي إرشاد إلى أفضليّة الترك، كما تقدّم.

{و} كذا انقدح ممّا تقدّم أنّه لا مجال أصلاً لتفسير الكراهة في العبادة بأقليّة الثّواب {في هذا القسم} الثّالث بناءً {على القول بالجواز} أمّا إذا كان النّهي بعنوان متّحد مع المأمور به؛ فلأنّ النّهي تعلّق بجهة الكون في موضوع التهمة والأمر تعلّق بجهة الصلاتيّة، ولا مانع من اجتماع الأمر والنّهي المولويّين على الجواز فكون العبادة مكروهة لا مانع منه، فلا يحتاج القائل بجواز الاجتماع إلى توجيهها.

وأمّا إذا كان النّهي بعنوان ملازم مع المأمور به فأوضح، إذ النّهي تعلّق بشيء والأمر تعلّق بشيء آخر فلا حاجة إلى التأويل.

هذا على القول بجواز الاجتماع، وأمّا على القول بامتناع الاجتماع فلا بدّ من التزام أقليّة الثّواب، إذ تعدّد الجهة لا يكفي في اجتماع الأمر والنّهي، فلا بدّ أن يكون النّهي إرشاداً إلى سائر الأفراد ويكون هذا الفرد المنهي عنه أقلّ ثواباً من غيره، فتأمّل.

ص: 354

كما انقدح حالُ اجتماع الوجوب والاستحباب فيها، وأنّ الأمر الاستحبابي يكون على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقاً على نحو الحقيقة،

___________________________________________

وأمّا القسم الثّاني - وهو ما تعلّق النّهي بعنوان العبادة مع وجود بدل كالنهي عن الصلاة في الحمّام - فاللّازم حمل النّهي على أقليّة الثّواب، من غير فرق بين القول باجتماع الأمر والنّهي وامتناعه؛ لأنّ هناك للطبيعة فرداً متوسّطاً، وهي الصلاة في الدار، فالنهي عن الصلاة في الحمّام إرشاد إلى سائر الأفراد الّتي ليست مثل الصلاة في الحمّام في قلّة الثّواب.

وأمّا كون الاجتماعي كالامتناعي فلما تقدّم من أنّه ليس هنا جهتان حتّى يستريح القائل بالاجتماع.

فتحصّل أنّ القسم الأوّل ليس بمعنى أقليّة الثّواب، والقسم الثّاني بمعنى أقليّة الثّواب مطلقاً، والقسم الثّالث بمعنى أقليّة الثّواب على الامتناع، وليس بمعنى أقليّة الثّواب على الجواز وفي كثير من المذكورات نظر، فتبصّر.

{كما انقدح} ممّا ذكرنا أيضاً {حال اجتماع الوجوب والاستحباب} وأنّ هذا الاجتماع لا يكون دليلاً لجواز اجتماع الأمر والنّهي كما توهّم، إذ في اجتماع الوجوب والاستحباب ليس تعدّد الجهة، مع أنّ القائلين بجواز اجتماع الأمر والنّهي إنّما يقولون به في متعدّد الجهة، فكلّ من القائل بالاجتماع والقائل بالامتناع لا بدّ وأن يؤول اجتماع الوجوب والاستحباب {فيها} أي: في العبادة.

{و} حاصل التأويل: {أنّ الأمر الاستحبابي يكون على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد} فيكون الأمر بالصلاة في المسجد أو مع الجماعة إرشاداً إلى أنّها أفضل ممّا ليس في المسجد أو ليس مع الجماعة {مطلقاً} سواء قلنا باجتماع الأمر والنّهي أم قلنا بامتناعه، وإذا كان الأمر إرشاديّاً فهو متوجّه إلى الطبيعة {على نحو الحقيقة} لا على نحو المجاز، فالأمر الوجوبي مولويّ والأمر الاستحبابيإرشاديّ،

ص: 355

ومولويّاً اقتضائيّاً كذلك، وفعليّاً بالعرض والمجاز في ما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحبّ، أو متّحد معه على القول بالجواز.

___________________________________________

ولا يلزم اجتماع الحكمين.

{و} يمكن أن يكون الأمر الاستحبابي {مولويّاً} لا إرشاديّاً لكن بشرط أن يكون {اقتضائيّاً} بمعنى وجود مصلحة الاستحباب في هذا الفرد، ولا يكون أمراً فعليّاً حينئذٍ، ولا مانع من اجتماع الوجوب الفعلي والاستحباب الاقتضائي، إذ الممنوع اجتماع حكمين فعليّين.

ثمّ على تقدير أن يكون الأمر الاستحبابي مولويّاً اقتضائيّاً يكون على نحو الحقيقة {كذلك} أي: كالإرشادي متوجّهاً إلى نفس المأمور به بالأمر الوجوبي {و} يمكن أن يكون الأمر الاستحبابي مولويّاً {فعليّاً} لا إرشاديّاً كالأوّل ولا مولويّاً اقتضائيّاً كالثّاني، ولكن يكون توجّه هذا الأمر الاستحبابي إلى الطبيعة حينئذٍ {بالعرض والمجاز} وإنّما يتصوّر هذا{في ما كان ملاكه} أي: ملاك الأمر الاستحبابي {ملازمتها} أي: ملازمة الطبيعة الواجبة {لما هو مستحب(1)} فيكون هناك عنوانان متلازمان: أحدهما واجب، والآخر مستحبّ، فالأمر الاستحبابي بتلك الطبيعة الواجبة يكون مجازاً، مثلاً: إذا كان الحجّ واجباً وتأليف قلوب العامّة مستحبّاً، وكان الحجّ ملازماً لتأليف قلوبهم فهنا الحجّ واجب فعليّ مولوي ومستحبّ فعليّ مولوي، ولكن استحبابه بالعرض والمجاز لا بالحقيقة {أو متّحد معه علىالقول بالجواز} أي: يمكن أن يكون الأمر الاستحبابي بالطبيعة لا بالعرض والمجاز، بل بالحقيقة في ما كان ملاك الأمر الاستحبابي مع الفعل الواجب على القول بجواز الاجتماع، فالصلاة الواجبة في المسجد يتّحد فيها

ص: 356


1- أي: إنّ العبادة الواجبة تكون مستحبّة لوجود ملاك الاستحباب فيها، والملاك عبارة عن ملازمتها لعنوان مستحبّ.

ولا يخفى: أنّه لا يكاد يأتي القسم الأوّل هاهنا؛ فإنّ انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الّذي لا بدل له إنّما يؤكّد إيجابه، لا أنّه يوجب استحبابه أصلاً، ولو بالعرض والمجاز،

___________________________________________

عنوانان، فمن حيث الصلاتيّة واجبة ومن حيث المسجديّة مستحبّة ولا تنافي بينهما لتعدّد الجهة، والتعدّد مُجْدٍ بناءً على جواز الاجتماع، وامّا بناءً على القول بامتناع اجتماع الأمر والنّهي فلا يمكن أن نقول بكون هذه الصلاة واجبة ومستحبّة مولويّاً حقيقيّاً.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ في العبارة اغتشاشاً من حيث المعنى والإعراب، أمّا من حيث المعنى؛ فلأنّ «متّحد» عطف على «ملازمتها» فيكون المتّحد كالملازم مجازاً، مع أنّه حقيقة، كما لا يخفى.

وأمّا من حيث الإعراب؛ فلأنّ المعطوف عليه وهو «ملازمتها» منصوب خبراً لكان و«متّحد» مرفوع، فتبصّر.

{ولا يخفى أنّه لا يكاد يأتي} الجواب الّذي ذكرناه في {القسم الأوّل} وهو الّذي لا بدل له من العبادات المكروهة، كصوم عاشوراء {هاهنا} أي: في ما تعلّق الوجوب والاستحباب بالموضوع المتعدّد العنوان، وجه عدم جريان ذاك الجواب أنّ صوم عاشوراء كان في كلّ من تركه وفعله مصلحة، وهذا يوجب إنشاء الحكم على طبق كلّ منهما، وما نحن فيه ليس كذلك، إذ لا ملزم لإنشاء الحكم على طبق المصلحة الوجوبيّة والمصلحةالاستحبابيّة، وإنّما يلزم إنشاء الحكم المؤكّد {فإنّ انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الّذي لا بدل له إنّما يؤكّد إيجابه} فيكون واجباً بوجوب أكيد؛ لأنّه مشتمل على مصلحتي الواجب والرّاجح {لا أنّه} أي: انطباق عنوان راجح {يوجب استحبابه أصلاً} فلا يكون الواجب مستحبّاً {ولو بالعرض والمجاز} لأنّ العرض والمجاز إنّما يتصوّر في ما

ص: 357

إلّا على القول بالجواز. وكذا في ما إذا لازم مثل هذا العنوان، فإنّه لو لم يؤكّد الإيجاب لما يصحّح الاستحباب إلّا اقتضائيّاً

___________________________________________

كان هناك شيئان متلازمان أحدهما واجب والآخر مستحبّ، فيكون نسبة الاستحباب إلى الواجب مجازاً من باب نسبة صفة أحد المتلازمين إلى الآخر، وفي المقام ليس إلّا شيء واحد.

ومن الواضح امتناع اجتماع الضدّين في موضوع واحد ولو بعنوانين {إلّا على القول بالجواز} بأن يكون تعدّد الوجه كافياً في اجتماع الحكمين المتضادّين، فعلى هذا القول يمتنع القول بتأكيد الوجوب، إذ للوجوب موضوع وللاستحباب موضوع آخر، ومن البديهي أنّ صفة أحد الموضوعين لا تكون مؤكّدة لصفة الموضوع الآخر.

{وكذا} لا يجري جواب القسم الأوّل {في ما إذا لازم} الواجب {مثل هذا العنوان} الرّاجح ولم يكن متّحداً معه {فإنّه لو لم يؤكّد الإيجاب لما يصحّح الاستحباب إلّا اقتضائيّاً} يعني أنّه إذا كان هناك عنوانان متلازمان أحدهما واجب والآخر مستحبّ، فإنّ أمر الاستحباب دائر بين أُمور ثلاثة:الأوّل: اجتماعه مع الوجوب، وهذا غير تامّ حتّى على القول بالاجتماع، إذ لكلّ واحد منهما موضوع خاصّ به، فلا معنى لسراية أحدهما إلى موضوع الآخر.

الثّاني: أن يكون الاستحباب مؤكّداً للوجوب حتّى يكون واجباً مؤكّداً، وظاهر عبارة المصنّف التردّد في هذا مع أنّه غير صحيح؛ لأنّ استحباب موضوع لا يوجب تأكيد رجحان واجب آخر.

الثّالث: أن يكون أحد المتلازمين واجباً فقط والآخر مستحبّاً فقط، ولا يخفى أنّ الاستحباب في هذا الحال لا يكون فعليّاً، لامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم، فيكون هناك وجوب فعليّ واستحباب اقتضائي، فيكون نسبة الاستحباب

ص: 358

بالعرض والمجاز، فتفطّن.

ومنها: أنّ أهل العرف يعدّون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم، مطيعاً وعاصياً من وجهين، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب، ونهاه عن الكون في مكان خاصّ - كما مثّل به الحاجبي والعضدي(1) - فلو خاطه في ذاك المكان، عدّ مطيعاً لأمر الخياطة، وعاصياً للنهي عن الكون في ذلك المكان.

وفيه: - مضافاً إلى المناقشة في المثال بأنّه ليس من باب الاجتماع؛ ضرورة أنّ الكون المنهي عنه غير متّحد مع الخياطة وجوداً أصلاً، كما لا يخفى -

___________________________________________

إلى الملازم {بالعرض والمجاز} لا بالحقيقة {فتفطّن} كي تعرف أنّه فرق بين القول بالاجتماع - فيجوز اختلاف المتلازمين في الحكم - فيكون الاستحباب فعليّاً، وبين القول بالامتناع - فلا يجوز اختلافهما - فيكونالاستحباب مجازاً، وهذا المقام يحتاج إلى تنقيح كثير وإلّا فالمطالب، كالعبارات مضطربة.

{ومنها} أي: من الأدلّة على جواز اجتماع الأمر والنّهي {أنّ أهل العرف} بما فيهم من العقلاء وأهل النّظر {يعدّون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم مطيعاً وعاصياً من وجهين} وإن لم يكن إلّا شيء واحد في البين، مثلاً {فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص - كما مثّل به الحاجبي والعضدي - فلو خاطه في ذاك المكان عُدّ} في العرف {مطيعاً لأمر الخياطة، وعاصياً للنهي عن الكون في ذلك المكان} فهذا يدلّ على أنّ هذا الموجود الخارجي محرّم وواجب وإلّا لم يصدق كلاهما.

{وفيه - مضافاً إلى المناقشة في} هذا {المثال} الّذي ذكراه {بأنّه ليس من باب الاجتماع، ضرورة أنّ الكون المنهي عنه غير متّحد مع الخياطة} المأمور بها {وجوداً أصلاً، كما لا يخفى -} فإنّ الكون من مقولة الأين والخياطة من مقولة الفعل

ص: 359


1- شرح مختصر الأصول: 92-93.

المنعُ إلّا عن صدق أحدهما: إمّا الإطاعة بمعنى الامتثال في ما غلب جانب الأمر، أو العصيان في ما غلب جانب النّهي؛ لما عرفت من البرهان على الامتناع.

نعم، لا بأس بصدق الإطاعة - بمعنى حصول الغرض - والعصيان في التوصليّات. وأمّا في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها إلّا في ما صدر من المكلّف فعلاً غير محرّم وغير مبغوض عليه، كما تقدّم.

___________________________________________

واتّحاد المقولتين غير معقول، فهو نظير الصلاة في حال النّظر إلى الأجنبيّة، اللّهمّ إلّا أن يكون المقصود من هذا المثال - كما هو الظاهر - النّهي عن التصرّف في ذلك المكان، أيّ: تصرّف حتّى يشمل الخياطة، فيكون من مقولة الفعل لا الأين فقط {المنعُ إلّا عن صدق أحدهما} مربوط بقوله: «وفيه مضافاً».

والحاصل: أنّا لا نسلّم صدق الإطاعة والمعصية كليهما بل المتحقّق {إمّا الإطاعة بمعنى الامتثال في ما غلب جانب الأمر} على النّهي، وإنّما قال: «بمعنى الامتثال» قبال الإطاعة بمعنى حصول الغرض {أو العصيان في ما غلب جانب النّهي} على الأمر، وإنّما منعنا صدقهما معاً {لما عرفت من البرهان على الامتناع} والنّظر السّطحي العرفي لا يقاوم البرهان العقلي.

{نعم، لا بأس بصدق الإطاعة بمعنى حصول الغرض، و} صدق {العصيان} معاً {في التوصليّات} فلو أمر المولى عبده بمشي مائة خطوة لتحليل غذائه، ونهاه عن التصرّف في الغصب، فمشى في الغصب المقدار المعيّن، حصل الغرض من المشي ولو لم يكن حينئذٍ إطاعة {وأمّا في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها} أي: من العبادة إذا اقترنت مع المحرّم {إلّا في ما صدر} العبادة {من المكلّف فعلاً غير محرّم وغير مبغوض عليه} كما لو كان جاهلاً أو ناسياً عذراً، لا مثل غير المبالي، ووجه عدم حصول الغرض أنّها غير مأمور بها بهذا النّحو والغرض إنّما يترتّب على المأمور بها {كما تقدّم} في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة.

ص: 360

بقي الكلام في حال التفصيل من بعضالأعلام(1)، والقول بالجواز عقلاً، والامتناع عرفاً.

وفيه: أنّه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلّا طريق العقل، فلا معنى لهذا التفصيل إلّا ما أشرنا إليه من النّظر المسامحي الغير المبتني على التدقيق والتحقيق. وأنت خبير بعدم العبرة به، بعد الاطّلاع على خلافه بالنظر الدقيق.

___________________________________________

{بقي الكلام في حال التفصيل من بعض الأعلام} كالسيّد الطباطبائي وغيره - على ما حُكِي - {و} هذا التفصيل عبارة عن {القول بالجواز عقلاً} لأنّ العقل يرى تعدّد الجهة مجدياً في رفع التضادّ {والامتناع عرفاً} فإنّ تعدّد الجهة في نظر العرف لا يرفع التضاد، فالصلاة في الدار المغصوبة في نظرهم شيء واحد.

{وفيه أنّه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلّا طريق العقل} إذ المسائل على قسمين:

الأوّل: ما هو مربوط بالعقل ابتداءً، كغالب مسائل الهندسة والمنطق ونحوهما.

الثّاني: ما هو مربوط بالعرف ابتداءً، كباب الموضوعات ومداليل الألفاظ، فإنّ العرف معيّن لهذا وذاك، فكما أنّ العقل لا مدخل له في القسم الثّاني وإذا أراد الحكم فيها كان اللّازم عليه الرّجوع إلى العرف، كذلك العرف لا مدخل له في القسم الأوّل وإذا أراد الحكم فيها كان اللّازم عليه الرّجوع إلى العقل، فأهل العرف إنّما يحكمون في مسألة الاجتماع بما هم عقلاء.

{فلا معنى لهذا التفصيل} والتفكيك بين العقل والعرف{إلّا ما أشرنا إليه من} أنّ العرف إنّما يحكمون بالجواز ب- {النّظر المسامحي} المعبّر عنه بالنظرة غير الدقيقة {الغير المبتني على التدقيق والتحقيق} ولذا يمكن أن يكون ما ينظر العقل شيئين بنظر العرف شيئاً واحداً، ولهذا الاعتماد على هذا النّظر العرفي {وأنت خبير بعدم العبرة به بعد الاطّلاع على خلافه بالنظر الدقيق}.

ص: 361


1- مجمع الفائدة والبرهان 2: 112.

وقد عرفت في ما تقدّم: أنّ النّزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر والنّهي، بل في الأعم، فلا مجال لأن يتوهّم أنّ العرف هو المحكّم في تعيين المداليل، ولعلّه كان بين مدلوليهما - حسب تعيينه - تنافٍ لا يجتمعان في واحد ولو بعنوانين، وإن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين، فتدبّر.

___________________________________________

{و} إن قلت: إنّ النّزاع في هذا الباب في أمرين:

الأوّل: في أمر عرفي، وهو التنافي بين مدلول الأمر والنّهي وعدمه، وهذا مرتبط بالعرف.

الثّاني: في أمر عقلي، وهو جواز اجتماع حكمين من الأحكام الخمسة في موضوع واحد، وهذا مرتبط بالعقل فلا مانع في هذا التفصيل بين العقل والعرف.

قلت: {قد عرفت في ما تقدّم أنّ النّزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر والنّهي} حتّى يكون تعيين المدلول مربوطاً بالعرف {بل في الأعمّ} من الأمر والنّهي وغيرها {فلا مجال لأن يتوهّم أنّ العرف هو المحكّم في} هذا المقام؛ لأنّه من باب {تعيينالمداليل} اللفظيّة المربوط بالعرف {ولعلّه} من تتمّة التوهّم {كان بين مدلوليهما} أي: مدلول الأمر والنّهي {حسب تعيينه تنافٍ} بحيث {لا يجتمعان في واحد، ولو} كان الاجتماع {بعنوانين، وإن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين، فتدبّر} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّه وإن كانت المسألة عقليّة بملاحظة أنّ النّزاع في اجتماع مطلق الوجوب والحرمة، ولكن حيث أنّ غالب الأحكام الشّرعيّة مستفادة من لفظي الأمر والنّهي، وللعرف حقّ في أن يحكم بامتناع الاجتماع وإن كان العقل يرى عدم امتناعه، فإنّ الأحكام الشّرعيّة ملقاة إلى العرف فاللّازم الرّجوع إليه، كما أنّ العقل يرى بقاء النّجاسة ببقاء اللون أو الرّيح، ولكن العرف يرى عدم البقاء وهو المتّبع.

ص: 362

وينبغي التنبيه على أُمور:

الأوّل: أنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وإن كان يوجب ارتفاعَ حرمته والعقوبة عليه، مع بقاء ملاك وجوبه - لو كان - مؤثّراً له، كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام،

___________________________________________

[تنبيهات بحث الاجتماع]

اشارة

{وينبغي التنبيه على أُمور:}

[التنبيه الأوّل]

الأمر {الأوّل} في بيان ما لو اجتمع ملاك الحرمة والوجوب، كأن اضطرّ الشّخص في توسّط الدار المغصوبة، فالخروج منها حرام باعتبار التصرّف في الغصب، وواجب لكونه مقدّمة للتخلّص من الغصب، فنقول: {إنّالاضطرار إلى ارتكاب الحرام وإن كان يوجب ارتفاع حرمته، و} ارتفاع {العقوبة عليه} ورفع الاضطرار للحكم ممّا دلّ عليه الأدلّة الأربعة، فمن الكتاب قوله - تعالى - : {إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ}(1)، ومن السّنّة حديث الرّفع(2)،

والإجماع واضح، وأمّا العقل فلقبح التكليف حال الاضطرار، إذ التكليف إنّما هو لإحداث الداعي في العبد حتّى يوافق، وذلك غير معقول بالنسبة إلى غير المتمكّن من الموافقة {مع بقاء ملاك وجوبه} من باب المقدّميّة {لو كان} ذلك الملاك موجوداً، فإنّه بعد سقوط التحريم بالاضطرار يبقى ملاك الوجوب في حال كونه {مؤثّراً له} أي: للوجوب، إذ بعد سقوط ملاك التحريم لا مزاحم لملاك الوجوب فيؤثّر أثره {كما إذا لم يكن بحرام} من أوّل الأمر {بلا كلام} متعلّق بقوله: «مع بقاء».

ص: 363


1- سورة الأنعام، الآية: 119.
2- الخصال 2: 417.

إلّا أنّه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، - بأن يختار ما يؤدّي إليه لا محالة - ، فإنّ الخطاب بالزجر عنه حينئذٍ وإن كان ساقطاً، إلّا أنّه حيث يصدر عنه مبغوضاً عليه، وعصياناً لذاك الخطاب، ومستحقّاً عليه العقاب، لا يصلح لأن يتعلّق به الإيجاب.

وهذا في الجملة ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب.

___________________________________________

{إلّا أنّه} أي: ما ذكرنا من رفع الاضطرار للحرمة إنّما يتمّ في ما {إذا لم يكن الاضطرار بسوء الاختيار} كأنّ حبسه الجائر في محلّ مغصوب ثمّ أطلقه، فإنّ الخروج حينئذٍ واجب وليس بحرام، وهذابخلاف ما إذا كان بسوء الاختيار {بأن يختار ما يؤدّي إليه لا محالة} كأن توسّط الدار المغصوبة باختيار مع علمه بأنّه بعد الدخول يضطرّ إلى الخروج {فإنّ الخطاب بالزجر عنه} بأن يقال له - {حينئذٍ} بعد الدخول - : (لا تغصب) {وإن كان ساقطاً} لكونه لغواً، إذ الزجر إنّما يصحّ إذا تمكّن المكلّف من الانزجار، فمع عدم تمكّنه يقع الزجر لغواً {إلّا أنّه حيث} يكون في هذا الخروج ملاك الحرمة، و{يصدر عنه مبغوضاً عليه، وعصياناً لذاك الخطاب} المتوجّه إليه قبل الدخول {ومستحقّاً عليه العقاب} لكونه بسوء اختياره {لا يصلح} هذا الخروج {لأن يتعلّق به الإيجاب} المقدّمي.

والحاصل: أنّه لمّا كان في أوّل الأمر قبل الدخول في الدار المغصوبة قادراً على حفظ نفسه، بأن لا يرتكب الدخول ولا الخروج، فلو لم يحفظ نفسه كان معاقباً على كليهما، أمّا على الدخول فلأنّه مختار فيه، وأمّا على الخروج فلأنّه وإن كان مضطرّاً إليه إلّا أنّه بسوء الاختيار. وبهذا كلّه تبيّن أنّه لو لم يكن الخروج بسوء الاختيار كان واجباً ولم يكن بحرام، ولو كان بسوء الاختيار لم يكن واجباً وكان فيه ملاك الحرمة.

{وهذا في الجملة ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب} وقوله: «في الجملة» مقابل للصورة

ص: 364

وإنّما الإشكال في ما إذا كان ما اضطرّ إليه بسوء اختياره، ممّا ينحصر به التخلّص عن محذور الحرام - كالخروج عن الدار المغصوبة في ما إذا توسّطها بالاختيار - في كونه منهيّاً عنه أومأموراً به، مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه، فيه أقوال(1).

هذا على الامتناع.

وأمّا على القول بالجواز:

___________________________________________

الآتية المشار إليها بقوله: {وإنّما الإشكال في ما إذا كان ما اضطرّ إليه} من الغصب في حال الخروج {بسوء اختياره ممّا ينحصر به التخلّص عن محذور الحرام} بأن لم يكن هناك مندوحة، وذلك {كالخروج عن الدار المغصوبة في ما إذا توسّطها بالاختيار} والفرق بين هذه الصورة والصورة السّابقة أنّ الصورة السّابقة كانت في ما له مندوحة كأن يكون للدار طريق مباح يمكن الخروج منها، وهذه الصورة إنّما تفرض في ما ينحصر الطريق للخروج في المغصوب.

ولا يخفى أنّ العبارة مشوّشة، إذ عنون المصنّف(رحمة الله) الصورة السّابقة في موضوع الاضطرار، فتأمّل.

وكيف كان فنقول: إنّه لو لم يكن هناك الطريق منحصراً بالحرام واختار الحرام كان معاقباً ولم يكن واجباً، وإن كان الطريق منحصراً بالحرام فإمّا أن نقول بامتناع اجتماع الأمر والنّهي وإمّا أن نقول بالجواز، فعلى الامتناع اختلف {في كونه} أي: الخروج {منهيّاً عنه} فقط {أو مأموراً به مع جريان حكم المعصية عليه} يعني لا نهي فعلاً عن الخروج، ولكنّه يعاقب عليه بملاحظة النّهي السّابق قبل الدخول {أو} مأموراً به {بدونه} أي: بدون جريان حكم المعصية {فيه أقوال} ثلاثة.

{هذا} كلّه {على الامتناع، وأمّا على القول بالجواز} فقد اختلفأيضاً

ص: 365


1- إشارات الأصول: 113؛ مطارح الأنظار 1: 707.

فعن أبي هاشم(1) «أنّه مأمور به ومنهيّ عنه». واختاره الفاضل القمّي(2)، ناسباً له إلى أكثر المتأخّرين وظاهرِ الفقهاء.

والحقّ: أنّه منهيّ عنه بالنهي السّابق السّاقط بحدوث الاضطرار إليه، وعصيانٌ له بسوء الاختيار. ولا يكاد يكون مأموراً به - كما إذا لم يكن هناك توقّف عليه، أو بلا انحصار به - ؛

___________________________________________

{فعن أبي هاشم «أنّه مأمور به} لكونه مقدّمة للواجب {ومنهي عنه»} لكونه غصباً بسوء الاختيار {واختاره الفاضل القمّي} صاحب القوانين(رحمة الله) {ناسباً له إلى أكثر المتأخّرين وظاهر الفقهاء}.

هذا {و} لكن {الحق} عند المصنّف {أنّه منهيّ عنه بالنهي السّابق السّاقط بحدوث الاضطرار إليه} وجه السّقوط عدم جواز التكليف بالمحال، بأن يقول: (لا تخرج ولا تبق).

ولو كان الدخول بسوء الاختيار {وعصيان له} أي: للنهي، وهذا عطف على قوله: «منهي عنه» {بسوء الاختيار} إذ كان يمكنه عدم الدخول حتّى لا يضطرّ إلى الخروج المحرّم {ولا يكاد يكون} هذا الخروج {مأموراً به} لكونه مقدّمة للتخلّص الواجب {كما إذا لم يكن هناك توقّف عليه أو بلا انحصار به} أي: ليس هذا الخروج واجباً وإن كان مقدّمة للتخلّص وكان الطريق منحصراً به،بل مثل هذا الخروج مثل الخروج الّذي لم يكن مقدّمة أو كان مقدّمة ولكن لم يكن مقدّمة منحصرة، فكما أنّ الخروج في هذين الموردين ليس بواجب كذلك الخروج في المورد الأوّل ليس بواجب.

ص: 366


1- مطارح الأنظار 1: 707، وفيه: «فالأقوال فيه ثلاثة: فقيل بالجواز، وهو المحكي عن أبي هاشم».
2- قوانين الأصول 1: 153.

وذلك ضرورة أنّه حيث كان قادراً على ترك الحرام رأساً، لا يكون عقلاً معذوراً في مخالفته في ما اضطرّ إلى ارتكابه

___________________________________________

وقد علّق المصنّف على قوله: «هناك توقّف» ما لفظه: «لا يخفى أنّه لا توقّف هاهنا حقيقة، بداهة أنّ الخروج إنّما هو مقدّمة للكون في خارج الدار، لا مقدّمة لترك الكون فيها الواجب، لكونه ترك الحرام.

نعم، بينهما ملازمة لأجل التضادّ بين الكونين، ووضوح الملازمة بين وجود الشّيء وعدم ضدّه، فيجب الكون في خارج الدار عرضاً لوجوب ملازمه حقيقة، فتجب مقدّمة كذلك، وهذا هو الوجه في المماشاة والجري على أنّ مثل الخروج يكون مقدّمة لما هو الواجب عن ترك الحرام، فافهم»(1).

وحاصله: أنّ الخروج مطلقاً - ولو لم يعارضه جهة محرّمة - ليس بواجب، إذ هو مقدّمة للكون في الخارج والكون في الخارج ليس من الواجبات حتّى يكون مقدّمته واجبة.

ثمّ على فرض كون الخروج في نفسه واجباً لكونه مقدّمة للتخلّص الواجب ليس هذا الخروج واجباً لوجود ملاك الحرام فيه، ولا يمكن الجمع بين ملاك الوجوب والحرمة.

{وذلك} الّذي ذكرنا من كون هذا الخروج منهيّاً عنه {ضرورة أنّه} أي: المكلّف {حيث كان قادراً على ترك الحرام رأساً} بترك الدخولالموجب لترك التصرّف الدخولي والتصرّف الخارجي {لا يكون عقلاً معذوراً في مخالفته} أي: مخالفة النّهي.

أمّا عدم المعذوريّة في الدخول، فواضح؛ لأنّه بالاختيار، وأمّا {في ما اضطرّ إلى ارتكابه} من الخروج؛ فلأنّه وإن كان مضطرّاً إلى هذا الخروج، لكونه أقلّ حرمة

ص: 367


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 167.

بسوء اختياره، ويكون معاقباً عليه - كما إذا كان ذلك بلا توقّف عليه، أو مع عدم الانحصار به - .

ولا يكاد يجدي توقّف انحصار التخلّص عن الحرام به؛ لكونه بسوء الاختيار.

إن قلت: كيف

___________________________________________

من البقاء، ولكن حيث كان {بسوء اختياره} لم يكن معذوراً، فإنّ الاضطرار إنّما يكون عذراً في ما كان مقدّماته خارجة عن الاختيار، كما لو وقع في الدار بلا اختيار، أمّا لو كان مقدّماته بالاختيار فلا يكون هذا الاضطرار عذراً {ويكون} المكلّف {معاقباً عليه}.

إن قلت: إطلاق أدلّة الاضطرار أو عمومها يشمل حتّى ما لو كان الاضطرار بمقدّمات اختياريّة.

قلت: المنصرف من الأدلّة هو ما كان اضطرار حتّى في المقدّمات، ألا ترى أنّه لو غلّ يده ورجله باختياره مع علمه بأنّه لا يتمكّن بعد من إطاعة أمر المولى كان للمولى حقّ العقوبة في ما إذا لم يطعه ولا يقبل منه عذره بأنّه غير متمكّن.

وعلى كلّ حالٍ، فهذا الخروج محرّم {كما إذا كان ذلك} الخروج {بلا توقّف} للتخلّص {عليه، أو} كان التخلّص متوقّفاً عليه ولكن {مع عدم الانحصار به}.

والحاصل: أنّ صورة عدم التوقّف رأساً، والتوقّف مع عدم الانحصار، والتوقّفمع الانحصار - إذا كان بسوء الاختيار - سواء في الحرمة والعقاب {ولا يكاد يجدي} في رفع الحرمة {توقّف انحصار التخلّص عن الحرام به} أي: بهذا الخروج. وجه عدم الجدوى ما ذكره بقوله: {لكونه بسوء الاختيار} كما لا يخفى.

ثمّ إنّ القول بكون هذا الخروج مأموراً به فقط محكيّ عن التقريرات وقد استدلّ له بوجهين أشار المصنّف(رحمة الله) إلى الأوّل بقوله:

{إن قلت: كيف} وإلى الثّاني بقوله: «إن قلت: إنّ التصرّف»، وحاصل استدلال

ص: 368

لا يجديه، ومقدّمة الواجب واجبة؟

قلت: إنّما يجب المقدّمة لو لم تكن محرّمة، ولذا لا يترشّح الوجوب من الواجب إلّا على ما هو المباح من المقدّمات، دون المحرّمة، مع اشتراكهما في المقدّميّة.

___________________________________________

الأوّل أنّ الخروج مقدّمة لترك البقاء الّذي هو واجب أهمّ، فكيف {لا يجديه} أي: لا يجدي المقدّمة في رفع حرمته {و} الحال أنّ {مقدّمة الواجب واجبة} فالخروج واجب غير محرّم؟

{قلت: إنّما يجب المقدّمة لو لم تكن محرّمة، ولذا لا يترشّح الوجوب من الواجب إلّا على ما هو المباح من المقدّمات، دون} المقدّمة {المحرّمة مع اشتراكهما} أي: المباح والمحرّم {في المقدّميّة}.

مثلاً: يمكن السّير إلى الحجّ مع الدابّة الغصبيّة كما يمكن السّير مع الدابّة المباحة، فكما لا تقولون بوجوب السّير مع الغصبيّة كذلك اللّازم القول بعدم وجوب الخروج المحرّم، والقول بالفرق بين المقدّمة المحرّمة المنحصرة وبينالمحرّمة غير المنحصرة مجازفة، إذ الحرمة الّتي هي مانع شرعي كالمانع العقلي، فكما لا يفرق الأمر في المانع العقلي كذلك لا يفرق في المانع الشّرعي.

توضيح المقام: أنّ المقدّمة على أربعة أقسام:

الأوّل: المقدّمة المباحة، وهذه واجبة.

الثّاني: المقدّمة المحرّمة مع وجود المباحة، وهذه لا تكون واجبة.

الثّالث: المقدّمة المنحصرة المحرّمة مع عدم سوء الاختيار، كما لو توقّف التطهير على طيّ الأرض المغصوبة، فهنا إن كان الواجب أهمّ كانت المقدّمة واجبة وإن كان الحرام أهمّ كانت المقدّمة محرّمة وإن كانا متساويين كانت المقدّمة مباحة واختار العبد بين الترك والفعل.

الرّابع: المقدّمة المنحصرة المحرّمة مع سوء الاختيار - كما لو توسّط الدار

ص: 369

وإطلاق الوجوب بحيث ربّما يترشّح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدّمة بها، إنّما هو في ما إذا كان الواجب أهمّ من ترك المقدّمة المحرّمة، والمفروض هاهنا وإن كان ذلك، إلّا أنّه كان بسوء الاختيار، ومعه لا يتغيّر عمّا هو عليه من الحرمة والمبغوضيّة،

___________________________________________

المغصوبة - فالمقدّمة حينئذٍ تبقى على حرمتها، وعلّل ذلك العلّامة المشكيني(رحمة الله) بقوله: «وذلك لأنّه لو ارتفعت الحرمة للزم الخلف؛ لأنّه لا يكون بسوء الاختيار مع أنّه فرض كذلك؛ ولأنّه يلزم دوران الحرمة مدار اختيار المكلّف، فإنّه مخيّر بين عدم الحصر، فتكون هذه المقدّمة حراماً، وبين الحصر، فتكون مباحاً، وهو منافٍ لغرض المولى؛ ولأنّ الوجدان حاكم بمانعيّة الحرمة فيالفرض»(1).

{و} إن قلت: إنّ الواجبات مختلفة، فبعضها يسقط عن الوجوب إذا كانت مقدّمته منحصرة في المحرّم، وبعضها يقتضي وجوب مقدّمته المحرّمة، لأهميّته في نظر الشّارع، كما لو توقّف حفظ النّفس على توسّط المغصوب، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ التخلّص عن الغصب أهمّ من الغصب في الخروج.

قلت: {إطلاق الوجوب} في ذي المقدّمة {بحيث ربّما يترشّح منه الوجوب عليها} أي: على المقدّمة المحرّمة {مع انحصار المقدّمة بها إنّما هو في ما إذا كان الواجب أهمّ من ترك المقدّمة المحرّمة} ولم يكن بسوء اختيار المكلّف، فإنّه مع اجتماع هذه الشّروط الثّلاثة: أهميّة الواجب، وانحصار المقدّمة في المحرّمة، وعدم كونه بسوء الاختيار تنقلب المقدّمة المحرّمة واجبة.

{والمفروض هاهنا} في الخروج عن الدار {وإن كان ذلك} فإنّ الواجب أهمّ مع انحصار المقدّمة {إلّا} أنّ الشّرط الثّالث مفقود في المقام {أنّه كان بسوء الاختيار} حسب الفرض {ومعه} أي: مع كونه بسوء الاختيار {لا يتغيّر عمّا هو عليه من الحرمة والمبغوضيّة} وكذلك نقول في ما لو كان الطريق إلى إنقاذ الغريق

ص: 370


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 168.

وإلّا لكان الحرمة معلّقة على إرادة المكلّف واختياره لغيره، وعدم حرمته مع اختياره له، وهو كما ترى، مع أنّه خلاف الفرض، وأنّ الاضطرار يكون بسوء الاختيار.

___________________________________________

اثنين أحدهما مغصوب والآخر مباح، فسدّ الشّخص المباح على نفسه حتّى انحصر في المحرّم، فإنّه يبقى على حرمته وعقوبته وإن كان العقل يلزمه بالتزام أقلّ العقوبتين، - أعني: الغصب - .

{وإلّا} فلو انقلبت المقدّمة عن الحرمة إلى الوجوب حتّى في صورة سوء الاختيار {لكان الحرمة معلّقة على إرادة المكلّف واختياره} لأنّه يلزم حرمة التصرّف الخروجي في المغصوب إذا لم يرد الشّخص الدخول ولم يدخل وحلّيّته إذا أراد الشّخص الدخول ودخل، ومن البديهي أنّ تعليق الحكم على الإرادة باطل.

وقوله: {لغيره} متعلّق بقوله: «اختياره» يعني يلزم أن يكون الحرمة معلّقة على اختيار المكلّف لغير الدخول {وعدم حرمته} عطف على قوله: «الحرمة معلّقة» أي: يكون عدم الحرمة {مع اختياره له} أي: للدخول، ولا وجه لإرجاع الضمير إلى «الخروج» كما في بعض الحواشي {وهو كما ترى} أي: تعليق الحرمة على الإرادة باطل، إذ التعليق موجب للغوية الحكم، فإنّ الحرمة الّتي يترتّب على الإرادة لا ثمرة لها {مع أنّه} أي: تعليق الحرمة على الإرادة {خلاف الفرض} إذ المفروض أنّ الخروج لمّا صار مقدّمة انقلب حرمته إلى الوجوب، لا أنّ الانقلاب صار بسبب إرادة المكلّف للدخول {وأنّ الاضطرار يكون بسوء الاختيار} بيان للفرض.

والحاصل: أنّ صدق كون الاضطرار بسوء الاختيار يتوقّف على حرمة الخروج، فلو صار الخروج بالإرادة غير محرّم ولا اضطرار بالحرام حتّى يصدق كون الاضطرار بسوء الاختيار، فتدبّر.

وحيث فرغ المصنّف(رحمة الله) عن جواب الاستدلال الأوّل للتقريرات على عدم حرمة الخروج شرع في ذكر الدليل الثّاني فقال:

ص: 371

إن قلت(1): إنّ التصرّف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام بلا إشكال ولا كلام. وأمّا التصرّف بالخروج الّذي يترتّب عليه رفع الظلم، ويتوقّف عليه التخلّص عن التصرّف الحرام، فهو ليس بحرام في حال من الحالات، بل حاله مثل حال شرب الخمر، المتوقّف عليه النّجاة من الهلاك، في الاتصاف بالوجوب في جميع الأوقات.

ومنه ظهر المنع عن كون جميع أنحاء التصرّف في أرض الغير - مثلاً - حراماً قبل الدخول، وأنّه يتمكّن من ترك الجميع حتّى الخروج؛ وذلك لأنّه لو لم يدخل لمّا كان متمكّناً من الخروج وتركه.

___________________________________________

{إن قلت: إنّ التصرّف في أرض الغير بدون إذنه} على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: التصرّف {بالدخول}.

{و} الثّاني: التصرّف ب- {البقاء} وهذان {حرام بلا إشكال ولا كلام}.

{وأمّا} الثّالث: وهو {التصرّف بالخروج الّذي يترتّب عليه رفع الظلم ويتوقّف عليه التخلّص عن التصرّف الحرام فهو ليس بحرام في حال من الحالات} لا قبل الدخول، ولا بعد الدخول، ولا حين الدخول {بل حاله} أي: الخروج {مثل حال شرب الخمر المتوقّف عليه النّجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الأوقات} فكما أنّ شربالخمر المتوقّف عليه النّجاة واجب وليس بحرام، كذلك الخروج المتوقّف عليه التخلّص من الغصب ليس بحرام.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من كون الخروج واجباً في جميع الأحوال {ظهر المنع عن} ما ذكرتم من {كون جميع أنحاء التصرّف في أرض الغير - مثلاً - حراماً قبل الدخول، و} بطل أيضاً ما ذكرتم من {أنّه يتمكّن من ترك الجميع حتّى الخروج، وذلك} بيان لبطلان القول بأنّ المكلّف متمكّن من ترك الجميع قبل الدخول {لأنّه لو لم يدخل لما كان متمكّناً من الخروج وتركه} يعني: أنّ النّهي عن الخروج

ص: 372


1- القائل هو الشيخ الأعظم على ما في مطارح الأنظار 1: 709.

وترك الخروج بترك الدخول رأساً ليس في الحقيقة إلّا ترك الدخول.

فمن لم يشرب الخمر؛ لعدم وقوعه في المهلكة الّتي يعالجها به - مثلاً - لم يصدق عليه إلّا: أنّه لم يقع في المهلكة، لا: أنّه ما شرب الخمر فيها، إلّا على نحو السّالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، كما لا يخفى.

___________________________________________

نوع من التكليف، ومن البديهي أنّ التكليف مشروط بالقدرة، وحيث إنّه قبل الدخول لا قدرة على الخروج لم يصحّ الزجر والنّهي عنه، فقولكم: «إنّ الخروج منهيّ عنه قبل الدخول» ساقط.

{و} إن قلت: {ترك الخروج} مقدور قبل الدخول، إذ الشّخص يقدر على ترك الخروج {بترك الدخول رأساً} فلا وجه لدعوى عدم القدرة عليه.

قلت: المقدور {ليس في الحقيقة إلّا ترك الدخول} وأمّا ترك الخروج فليس بمقدور، إذ نسبة القدرة إلى الوجود والعدم نسبة واحدة،فكما لا يقدر الشّخص على الخروج قبل الدخول كذلك لا يقدر على تركه.

ولنوضح المطلب بمثالٍ، فنقول: إنّ عدم شرب الخمر له صورتان: الأُولى: عدم الشّرب في صورة عدم الوقوع في التّهلكة. الثّانية: عدم الشّرب في صورة الوقوع فيها {فمن لم يشرب الخمر} مع وقوعه في التهلكة يصدق عليه أنّه ما شرب الخمر في التهلكة، وأمّا من لم يشرب {لعدم وقوعه في المهلكة الّتي يعالجها به - مثلاً - لم يصدق عليه إلّا أنّه لم يقع في المهلكة} و{لا} يصدق عليه {أنّه ما شرب الخمر فيها} وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ عدم الخروج قد يكون في صورة الدخول وقد يكون في صورة عدم الدخول، ففي الصورة الأُولى يصدق عليه عدم الخروج، وفي الصورة الثّانية لا يصدق عليه إلّا أنّه لم يدخل، أمّا أن يصدق عليه أنّه ممّن لم يخرج فلا {إلّا على نحو السّالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

ص: 373

وبالجملة: لا يكون الخروج - بملاحظة كونه مصداقاً للتخلّص عن الحرام وسبباً له - إلّا مطلوباً ويستحيل أن يتصف بغير المحبوبيّة، ويحكم عليه بغير المطلوبيّة.

قلت: هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلص مأموراً به. وهو موافق لما أفاده شيخنا العلّامة أعلى اللّه مقامه - على ما في تقريرات بعض الأجلّة(1) - .

لكنّه لا يخفى: أنّ ما به التخلّص عن ترك الحرام أو ترك الواجب، إنّما يكون حسناً عقلاً، ومطلوباً شرعاً بالفعل - وإن كان قبيحاً ذاتاً - إذا لم يتمكّن المكلّف منالتخلّص بدونه، ولم يقع بسوء اختياره:

___________________________________________

{وبالجملة لا يكون الخروج - بملاحظة كونه مصداقاً للتخلّص عن الحرام وسبباً له - إلّا مطلوباً} وقوله: «بملاحظة» علّة للمطلوبيّة، يعني: أنّ الخروج دائماً مطلوب للمولى لكونه سبباً للتخلّص من الحرام، كما أنّ شرب الخمر المنجي دائماً مطلوب {ويستحيل أن يتّصف} الخروج {بغير المحبوبيّة ويحكم عليه بغير المطلوبيّة} وبهذا كلّه تبيّن أنّ الخروج قبل الدخول غير محكوم بحكم أصلاً لعدم القدرة عليه، وبعد الدخول محكوم بالوجوب لكونه تخلّصاً عن الحرام.

{قلت: هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلّص} كالخروج في المثال {مأموراً به، وهو موافق لما أفاده شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - على ما في تقريرات بعض الأجلّة}.

{لكنّه لا يخفى} ما فيه، إذ {أنّ ما به التخلّص عن ترك الحرام، أو} ما به التخلّص عن {ترك الواجب، إنّما يكون حسناً عقلاً ومطلوباً شرعاً بالفعل وإن كان قبيحاً ذاتاً إذا لم يتمكّن المكلّف من التخلّص بدونه ولم يقع بسوء اختياره} كما لو وقع الحريق في بيت طفلٍ، فإنّ الدخول وإن كان محرّماً ذاتاً ولكن هذا الدخول

ص: 374


1- مطارح الأنظار 1: 709.

إمّا في الاقتحام في ترك الواجب، أو فعل الحرام، وإمّا في الإقدام بما هو قبيح وحرام، لولا به التخلّص بلا كلام، كما هو المفروض في المقام؛ ضرورة تمكّنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره.

___________________________________________

حيث صار ممّا به التخلّص عن ترك الحرام، يكون مطلوباً لوجود شرطيه، إذ لميكن الحريق بسوء اختيار المكلّف، مع عدم إمكان التخلّص بدون الدخول.

والحاصل: أنّ انقلاب المحرّم إلى الواجب مشروط بشرطين:

الأوّل: أن يكون التخلّص منحصراً بهذا المحرّم، فلو كان هناك طريق آخر - كما لو كان للدار المغصوبة طريق مباح - لم يصر المحرّم واجباً.

الثّاني: أن لا يكون بسوء الاختيار، فلو كان بسوء الاختيار - كما لو دخل المغصوبة مع العلم بانحصار طريق الخروج في المحرّم - لم يصر المحرّم واجباً أيضاً.

ثمّ فسّر المصنّف سوء الاختيار بأنّه عبارة عن إيقاع النّفس في أمر لا محيص له عن ارتكاب أحد محرّمين.

{إمّا في الاقتحام في ترك الواجب، أو فعل المحرّم} كالبقاء في الدار المغصوبة الّذي هو محرّم.

{وإمّا في الإقدام بما هو قبيح وحرام، لولا به التخلّص بلا كلام} وهو الخروج عن الدار الّذي هو تصرّف آخر في المغصوب، وهو محرّم أيضاً {كما هو} أي: الوقوع في أحد المحرّمين بسوء الاختيار {المفروض في المقام(1)}.

وإنّما قلنا بأنّ الخروج محرّم إذا كان الدخول بسوء الاختيار ل- {ضرورة تمكّنه منه} أي: من الخروج {قبل اقتحامه فيه} الصادر هذا الاقتحام {بسوء اختياره}

ص: 375


1- يعني: أنّ الخروج حرام بلا كلام من أحد في صورة ما إذا لم يكن تخلّص، وإنّما وقع النّزاع في حرمته وعدمه في ما إذا كان تخلّصاً.

وبالجملة: كان قبل ذلك متمكّناً من التصرّف خروجاً، كما يتمكّن منه دخولاً، غاية الأمر يتمكّن منه بلا واسطة، ومنهبالواسطة. ومجرّدُ عدم التمكّن منه إلّا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدوراً، كما هو الحال في البقاء، فكما يكون تركه مطلوباً في جميع الأوقات، فكذلك الخروج، مع أنّه مثله في الفرعيّة على الدخول، فكما لا تكون الفرعيّة مانعة عن مطلوبيّته قبلَه وبعده، كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيّته، وإن كان العقل يحكم بلزومه، إرشاداً إلى اختيار أقلّ المحذورين وأخفّ القبيحين.

___________________________________________

فقولكم: «إنّ الخروج قبل الدخول غير متمكّن منه فلا يعقل تعلّق الحرمة به» ساقط.

{وبالجملة كان} المكلّف {قبل ذلك} الدخول {متمكّناً من التصرّف خروجاً كما يتمكّن منه} أي: من التصرّف {دخولاً، غاية الأمر} في الفرق بين التمكّنين أنّ المكلّف {يتمكّن منه} أي: من الدخول {بلا واسطة، و} يتمكّن {منه} أي: من الخروج {بالواسطة، و} من الواضح أنّ {مجرّد عدم التمكّن منه} أي: من الخروج {إلّا بواسطةٍ لا يخرجه عن كونه مقدوراً} إذ المقدور بالواسطة مقدور.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) أجاب عن استدلال الشّيخ بأربعة أُمور:

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: {كما هو الحال في البقاء} في الدار المغصوبة، فإنّ كلّاً من البقاء في الدار المغصوبة والخروج منها متوقّف على الدخول {فكما يكون تركه} أي: البقاء {مطلوباً في جميع الأوقات، فكذلك الخروج، مع أنّه} أي: الخروج {مثله} أي: مثل البقاء {في الفرعيّة على الدخول، فكما لا تكون الفرعيّة} للبقاء {مانعة عن مطلوبيّته} أي: مطلوبيّة ترك البقاء {قبله} أي: قبل الدخول{وبعده} فهو مطلوب التّرك مطلقاً {كذلك} فرعيّة الخروج {لم تكن مانعة عن مطلوبيّته} أي: مطلوبيّة ترك الخروج {وإن كان} بين البقاء والخروج فرق من حيث آخر، فإنّ {العقل يحكم بلزومه} أي: الخروج {إرشاداً إلى اختيار أقلّ المحذورين} من البقاء والخروج {وأخفّ القبيحين}.

ص: 376

ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجاً وتخلّصاً عن المهلكة، وأنّه إنّما يكون مطلوباً على كلّ حالٍ لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، وإلّا فهو على ما هو عليه من الحرمة، وإن كان العقل يلزمه، إرشاداً إلى ما هو أهمّ وأولى بالرعاية من تركه؛ لكون الغرض فيه أعظم.

___________________________________________

ولكن هذا غير فارق في ما نحن فيه من حرمة كليهما، ومثل ذلك ما لو خيّر الجائر بين قطع الرّأس وقطع اليد، فإنّ العقل يرشد إلى التزام أخفّ المحذورين الّذي هو عبارة عن قطع اليد، وهذا الحكم العقلي لا ينافي كراهة كلا الأمرين.

{ومن هنا} الّذي اشترطنا في انقلاب الحرمة إلى الوجوب عدم كون الشّيء بسوء الاختيار {ظهر حال} ما استشهد به الشّيخ(رحمة الله)(1) من مثال الخمر، فإنّا لا نسلّم شرب الخمر الّذي يكون به التخلّص عن المهلكة واجباً، فإنّ {شرب الخمر علاجاً وتخلّصاً عن المهلكة} له صورتان {وأنّه إنّما يكون مطلوباً على كلّ حال} قبل الوقوع في المهلكة وبعده في صورة واحدة، وهي ما {لو لم يكن الاضطرار إليه} أي: إلى الشّرب {بسوءالاختيار} كما لو أوقع نفسه متعمّداً في مرضٍ، لا علاج له إلّا الشّرب {وإلّا} في الصورة الأُخرى، وهي ما أوقع نفسه في المرض بسوء الاختيار {فهو} أي: الشّرب {على ما هو عليه من الحرمة وإن كان العقل يلزمه} بالشّرب في صورة سوء الاختيار أيضاً {إرشاداً إلى ما هو أهمّ} أعني: حفظ النّفس {وأولى بالرعاية من تركه} أي: ترك الشّرب، فإنّ المكلّف بعد سوء الاختيار وإيقاع نفسه في المهلكة يتردّد بين حرامين: [1] ترك الشّرب المؤدّي إلى الهلكة المحرّمة، [2] والشّرب المحرّم الموجب لعدم الهلكة، والعقل يلزمه الشّرب إبقاءً على النّفس {لكون الغرض فيه أعظم} من العكس.

ص: 377


1- مطارح الأنظار 1: 718.

فمن ترك الاقتحام في ما يؤدّي إلى هلاك النّفس، أو شَرِبَ الخمر لئلّا يقع في أشدّ المحذورين منهما، يصدق أنّه تركهما، ولو بتركه ما لو فعله لأدّى - لا محالة - إلى أحدهما، كسائر الأفعال التوليديّة، حيث يكون العمدُ إليها بالعمد إلى أسبابها، واختيارُ تركها بعدم العمد إلى الأسباب، وهذا

___________________________________________

ثمّ أشار إلى جواب ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) بقوله: (فمن لم يشرب الخمر) الخ بقوله: {فمن ترك الاقتحام في ما يؤدّي إلى هلاك النّفس أو شرب الخمر لئلّا يقع في أشدّ المحذورين منهما يصدق أنّه تركهما} يعني: أنّ ما ذكرتم من عدم صدق (ما شرب الخمر) على من لم يقع في المهلكة غير تامّ، لبداهة أنّه إذا ترك الشّخص المهلكة بأن لم يعرض نفسه للهلاك يصدق عليه أنّه تارك للهلاك وتارك لشرب الخمر {ولو بتركه} الشّخص {ما لوفعله} أعني: التعريض للهلاك {لأدّى لا محالة إلى أحدهما}.

والحاصل: أنّ ترك شرب الخمر يصدق مع عدم التعريض أصلاً، كما يصدق مع الوقوع في المهلكة.

ثمّ أشار المصنّف(رحمة الله) إلى الجواب الثّاني، وحاصله: النّقض بالأفعال التوليديّة الّتي تتولّد من الأفعال المباشريّة، كالإحراق فإنّه ليس فعلاً مباشريّاً للمكلّف، بل يتولّد من الإلقاء في النّار، فإنّ الخروج وشرب الخمر {كسائر الأفعال التوليديّة حيث يكون العمد إليها} أي: إلى تلك الأفعال {بالعمد إلى أسبابها واختيار تركها بعدم العمد إلى الأسباب} فكما يحرم الإحراق قبل الإلقاء في النّار يحرم الخروج قبل الدخول، وكما لا يصحّ أن يقال: الإحراق قبل الإلقاء ليس مقدوراً للعبد فلا يحرم، كذلك لا يصحّ أن يقال الخروج قبل الدخول ليس مقدوراً للعبد فلا يحرم، وهكذا حال شرب الخمر قبل الوقوع في المهلكة.

{وهذا} القدر من القدرة - أعني: القدرة على عدم تعريض النّفس للهلاك حتّى

ص: 378

يكفي في استحقاق العقاب على الشّرب للعلاج، وإن كان لازماً عقلاً، للفرار عمّا هو أكثر عقوبة.

ولو سُلم عدم الصدق إلّا بنحو السّالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، فهو غير ضائرٍ، بعدَ تمكّنه من الترك - ولو على نحو هذه السّالبة - ، ومن الفعل بواسطة تمكّنه ممّا هو من قبيل الموضوع في هذه السّالبة، فيوقع نفسه - بالاختيار - في المهلكة، أو يدخل الدار،

___________________________________________

لا يهلك ولا يحتاج إلى شرب الخمر - {يكفي في استحقاق العقاب على الشّرب للعلاج، وإن كان} هذا الشّرب بعد ما أوقع نفسه في المهلكة {لازماً عقلاً للفرار عمّا هو أكثر عقوبة} أعني: الموت، فالإلزام العقلي لا ينافي التحريم الشّرعي.

ثمّ أشار المصنّف بقوله: {ولو سلم} المفيد لعدم التسليم أوّلاً إلى الجواب الثّالث، وحاصله: أنّ الحاكم بالمقدوريّة في باب التكاليف العقل، فإنّ العقل يحكم بلزوم كون المأمور به مقدوراً للعبد، وهو لا يحكم بأزيد من مطلق المقدوريّة سواء كان بلا واسطة أو مع الواسطة، وليس ذلك من قبيل السّالبة بانتفاء الموضوع، غاية الأمر أنّ سبب الترك هو ترك الدخول، ومن المعلوم أنّ الدخول ليس من قبيل الموضوع للخروج، ولو سلم {عدم الصدق} أي: عدم صدق ترك الخروج {إلّا بنحو السّالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، ف-} نجيب بالجواب الرّابع: و{هو} أنّ كونه من باب السّالبة بانتفاء الموضوع {غير ضائر بعد تمكّنه} أي: المكلّف {من الترك} للخروج بترك الدخول {ولو على نحو هذه السّالبة، و} تمكّنه {من الفعل بواسطة تمكّنه ممّا هو من قبيل الموضوع في هذه السّالبة} أي: الدخول، فهو قادر من الفعل والترك، وهذا المقدار من القدرة كافٍ في التكليف.

وبهذا تبيّن أنّ كلّاً من شرب الخمر والخروج تحت القدرة فعلاً وتركاً {فيوقع} المكلّف {نفسه بالاختيار في المهلكة، أو يدخل الدار} فيتحقّق الموضوع

ص: 379

فيعالج بشرب الخمر، ويتخلّص بالخروج، أو يختار ترك الدخول والوقوع فيها، لئلّا يحتاج إلى التخلّص والعلاج.فإن قلت: كيف يقع مثل الخروج والشّرب ممنوعاً عنه شرعاً، ومعاقباً عليه عقلاً، مع بقاء ما يتوقّف عليه على وجوبه، ووضوح سقوط الوجوب مع امتناع المقدّمة المنحصرة، ولو كان بسوء الاختيار، والعقلُ قد استقلّ بأنّ الممنوع شرعاً كالممتنع عادة أو عقلاً؟

___________________________________________

للفعلين الشّرب والخروج {فيعالج بشرب الخمر} في الأوّل {ويتخلّص بالخروج} في الثّاني {أو يختار ترك الدخول، و} ترك {الوقوع فيها} أي: المهلكة {لئلّا يحتاج إلى التخلّص} بالخروج المحرّم {والعلاج} بشرب الخمر.

{فإن قلت: كيف يقع مثل الخروج والشّرب ممنوعاً عنه شرعاً، ومعاقباً عليه عقلاً، مع} تسليم أُمور ثلاثة:

الأوّل: {بقاء ما يتوقّف عليه} أي: ما يتوقّف على الخروج والشّرب - أعني: التخلّص عن الغصب وعن الهلاك - {على وجوبه}.

{و} الثّاني: {وضوح سقوط الوجوب} عن ذي المقدّمة {مع امتناع المقدّمة المنحصرة، ولو كان} الامتناع {بسوء الاختيار}.

{و} الثّالث: {العقل قد استقلّ بأنّ الممنوع شرعاً كالممتنع عادة أو عقلاً؟} فإذا امتنع الخروج شرعاً على قولكم كان كالممتنع عقلاً، مع كونها منحصرة سقط الوجوب عنها، وإذا لم تكن المقدّمة واجبة كشفت عن عدم وجوب ذيها، فالقول بوجوب ذي المقدّمة وعدم وجوب مقدّمته المنحصرة متنافيان، فلا يمكن أن يكون التخلّص عن الغصب والمرض واجباً ويكون شرب الخمر والخروج حراماً، فأمّا أن يكونا واجبين أو محرّمين، وحيث لا يمكن القولبحرمة التخلّص يجب القول بوجوب الشّرب والخروج.

ص: 380

قلت: أوّلاً: إنّما كان الممنوع كالممتنع، إذا لم يحكم العقل بلزومه، إرشاداً إلى ما هو أقلّ المحذورين، وقد عرفت لزومَه بحكمه؛ فإنّه مع لزوم الإتيان بالمقدّمة عقلاً، لا بأس في بقاء ذي المقدّمة على وجوبه، فإنّه حينئذٍ ليس من التكليف بالممتنع، كما إذا كانت المقدّمة ممتنعة.

وثانياً: لو سلم، فالساقط إنّما هو الخطاب فعلاً بالبعث والإيجاب، لا لزوم إتيانه عقلاً؛ - خروجاً عن عهدة ما تنجّز عليه سابقاً - ؛

___________________________________________

{قلت: أوّلاً} نمنع المقدّمة الثّالثة، فإنّه {إنّما كان الممنوع كالممتنع} في المقدّمة {إذا لم يحكم العقل بلزومه} أي: لزوم المقدّمة الممنوعة شرعاً {إرشاداً إلى ما هو أقلّ المحذورين} أمّا إذا لزم العقل بلزوم الإتيان بالمقدّمة المحرّمة شرعاً فلا نسلّم أنّ الممنوع شرعاً في هذه الصورة كالممتنع عقلاً {وقد عرفت لزومه} أي: لزوم هذا الممنوع شرعاً، كالشرب والخروج {بحكمه} أي: بحكم العقل أخذاً بأقلّ المحذورين {فإنّه مع لزوم الإتيان بالمقدّمة عقلاً لا بأس في بقاء ذي المقدّمة على وجوبه} والسّرّ في الفرق أنّ المنع الشّرعي موجب لمنع العقل، وفي ظرف المنع العقلي عن المقدّمة لا يترتّب البعث العقلي على التكليف بذيها لتضادّهما، كما لو كانت المقدّمة ممتنعة عقلاً، وهذا لا يوجد في ما إذا ألزم العقل بالإتيان بالمقدّمة {فإنّه حينئذٍ ليس من التكليف بالممتنع} وليس هذا {كما إذا كانت المقدّمة ممتنعة} كما هو واضح.{وثانياً: لو سلم} أنّ بقاء وجوب ذي المقدّمة مع حرمة المقدّمة متنافيان مطلقاً حتّى في ما إذا حكم العقل بوجوب المقدّمة {ف-} نقول: {السّاقط} في ظرف التعارض {إنّما هو الخطاب} بذي المقدّمة - أعني: التخلّص عن الغصب والهلاك - {فعلاً بالبعث والإيجاب} و{لا} يسقط {لزوم إتيانه عقلاً خروجاً عن عهدة ما تنجّز عليه سابقاً} من التكليف بحفظ النّفس وعدم الغصب

ص: 381

ضرورة أنّه لو لم يأت به لوقع في المحذور الأشدّ، ونقض الغرض الأهمّ، حيث إنّه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبيّة، بلا حدوث قصورٍ أو طروّ فتورٍ فيه أصلاً، وإنّما كان سقوط الخطاب لأجل المانع، وإلزامُ العقل به لذلك إرشاداً كافٍ، لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والإيجاب له فعلاً، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

{ضرورة أنّه لو لم يأت به} لملاحظة حرمة الخروج وحرمة الشّرب {لوقع في المحذور الأشدّ ونقض الغرض الأهم} بخلاف ما لو أتى فإنّه تحفّظ على حفظ النّفس وعلى حرمة البقاء ووقع في المحذور الأخف.

لا يقال: إذا سقط الخطاب بحفظ النّفس وبالتخلّص من الغصب لم يكن في تركهما مفسدة، مع أنّ الترك موجب لعدم ارتكاب المحرّم من الشّرب والخروج.

لأنّا نقول: سقوط الخطاب لا ينافي بقاء الغرض {حيث إنّه الآن} بعد ما أوقع نفسه في المهلكة ودخل المغصوبة {كما كان عليه من الملاك والمحبوبيّة بلا حدوث قصور أو طروّ فتور فيه} أي: في ملاك حفظ النّفس والتخلّص من الغصب {أصلاً،وإنّما كان سقوط الخطاب} بهما {لأجل المانع} من الخطاب وهو حرمة المقدّمة المنافية لوجوب ذيها {وإلزام العقل به} أي: بذي المقدّمة {لذلك} أي: لبقاء الملاك {إرشاداً} إلى عدم الوقوع في المحذور الأشدّ {كافٍ} في وجوب ذي المقدّمة واستحقاق العقاب على تركه {لا حاجة معه} أي: مع الإلزام العقلي {إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والإيجاب له فعلاً} فالوجوب السّابق الكاشف عن الملاك القطعي بضميمة الإلزام العقلي الفعلي يكفي في تنجّز التكليف.

ومن جميع ما ذكرنا ظهر أنّ الخروج عن الدار المغصوبة، مع أنّه المقدّمة المنحصرة للواجب باقٍ على حرمته شرعاً ومعاقب عليه، ويكون حاله بعد الاضطرار كحاله قبله {فتدبّر جيّداً}.

ولا يخفى أنّ قوله: «إن قلت: كيف يقع» الخ، ليس من أدلّة التقريرات على مطلبه.

ص: 382

وقد ظهر ممّا حقّقناه: فساد القول بكونه مأموراً به، مع إجراء حكم المعصية عليه، نظراً إلى النّهي السّابق.

مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة.

ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والإيجاب قبل الدخول وبعده - كما في الفصول(1) - ، مع اتحاد زمان الفعل المتعلّق لهما،

___________________________________________

وحيث فرغ المصنّف(رحمة الله) عن قول الشّيخ(رحمة الله) - القائل بأنّ الخروج مأمور به - شرع في ردّ الفصول القائل بكونه مأموراً به مع جريان حكمالمعصية عليه من العقاب وغيره بملاحظة النّهي السّابق، فإنّه قبل الاضطرار كان كلّ من الدخول والبقاء والخروج حراماً وبالاضطرار سقطت الحرمة وبقي تبعاتها.

{وقد ظهر ممّا حقّقناه} في جواب الشّيخ(رحمة الله) {فساد القول بكونه مأموراً به مع إجراء حكم المعصية عليه} أمّا كونه مأموراً به نظراً إلى كونه مقدّمة لواجب وأمّا إجراء حكم المعصية {نظراً إلى النّهي السّابق} قبل الاضطرار، وجه الظهور ما تقدّم من أنّ الخروج باقٍ على حرمته، وليس مأموراً به، لكون الاضطرار بسوء الاختيار، وإنّما العقل ملزم للإتيان به {مع ما فيه} أي: في هذا القول {من لزوم اتّصاف فعلٍ واحدٍ بعنوانٍ واحدٍ بالوجوب والحرمة} الوجوب لمقدّميّته والحرمة لكونه من أفراد الغصب.

ثمّ إنّ صاحب الفصول+ التفت إلى ورود هذا الإشكال عليه، وأجاب عنه بأنّ المستحيل إنّما هو اجتماع الوجوب والحرمة في زمان واحد والخروج ليس كذلك، فإنّه قبل الدخول كان حراماً وبعد الدخول واجباً، فلا تنافي بينهما.

{و} لكنّك خبير بأنّه {لا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والإيجاب قبل الدخول} للتحريم {وبعده} للوجوب {كما في الفصول} إذ {مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما} يستلزم التناقض.

ص: 383


1- الفصول الغرويّة: 138.

وإنّما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما. وهذا أوضح من أن يخفى، كيف؟ ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول عصياناً للنهي السّابق، وإطاعةً للأمر اللّاحق فعلاً، مبغوضاً

___________________________________________

مثلاً: لو أمر المولى صبحاً بإكرام زيد في يوم الجمعة ونهى عصراً عن إكرام زيد في يوم الجمعة كان متناقضاً مع أنّ زمان الإيجاب غير زمان التحريم.

والحاصل: أنّ التناقض باختلاف زمان الأمر والنّهي {وإنّما المفيد} الرّافع للتناقض {اختلاف زمانه} أي: زمان الفعل {ولو مع اتحاد زمانهما} أي: زمان الإيجاب والتحريم، فلو قال المولى: (أمرتك بإكرام زيد يوم الجمعة ونهيتك عن إكرام زيد يوم السّبت) لم يكن تناقضاً، ولو كان تلفّظه بهذا الأمر والنّهي في وقتٍ واحدٍ.

وبعبارة أُخرى: اجتماع الوجوب والحرمة في شيءٍ واحدٍ في زمانٍ واحدٍ مستحيل، وإن اختلف زمان الأمر والنّهي، وبالعكس لا يستحيل اجتماع الأمر والنّهي في زمانٍ واحدٍ لو كان متعلّق الأمر في زمانٍ ومتعلّق النّهي في زمانٍ آخَرَ.

{وهذا أوضح من أن يخفى} وعليه فلو نهى المولى قبل الدخول عن الخروج وأمر بعد الدخول بالخروج كان متناقضاً لاتحاد متعلّق الأمر والنّهي، فالخروج بعد الدخول حرام للنهي السّابق وواجب للأمر اللّاحق.

إن قلت: لعلّ نظر الفصول إلى اختلاف متعلّق الإيجاب والتحريم حتّى يكون الخروج قبل الدخول حراماً فقط، وإذا دخل انقلبت تلك الحرمة إلى الوجوب، فحينئذٍ يكون الخروج واجباً فقط.

قلت: أوّلاً: هذا مستلزم للغوية النّهي عن الخروج دائماً، إذ قبل الدخول غير مقدور وبعد الدخول غير محرّم. وثانياً: أنّ هذا ينافي قوله بإجراء حكم المعصية عليه، فتأمّل.

و{كيف} كان، فهذا القول باطل {ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول عصياناً للنّهي السّابق} على الدخول {وإطاعة للأمر اللّاحق فعلاً} بعد ما دخل، و{مبغوضاً}

ص: 384

ومحبوباً كذلك بعنوان واحد، وهذا ممّا لا يرضى به القائل بالجواز، فضلاً عن القائل بالامتناع.

كما لا يُجدي في رفع هذه الغائلة: كونُ النّهي مطلقاً وعلى كلّ حالٍ، وكونُ الأمر مشروطاً بالدخول؛ ضرورةَ منافاة حرمة شيء كذلك مع وجوبه في بعض الأحوال.

___________________________________________

للنهي السّابق {ومحبوباً كذلك} للأمر اللّاحق {بعنوان واحد}.

لا يقال: ليس بعنوان واحد، إذ حرمته بعنوان أنّه غصب ووجوبه بعنوان أنّه مقدّمة.

لأنّا نقول: قد تقدّم سابقاً أنّ الأمر لا يتوجّه إلى عنوان المقدّميّة، بل يتوجّه إلى نفس الشّيء بعلّة كونه مقدّمة.

{وهذا} الّذي ذكر من توجّه الأمر والنّهي إلى شيءٍ بعنوانٍ واحدٍ {ممّا لا يرضى به القائل بالجواز} لأنّه يقول بالجواز مع اختلاف العنوان {فضلاً عن القائل بالامتناع}.

ثمّ إنّ الفصول في مقام تحقيق اختلاف زمان الحكمين ذكر كلاماً آخر، حاصله عدم التنافي بين النّهي عن الخروج والأمر به، إذ النّهي مطلق وليس مشروطاً بالدخول والأمر مشروط بالدخول، فهما من قبيل المطلق والمقيّد يلزم تقييد المطلق به، فيكون للخروج باعتبار ما قبل الدخول وما بعده حكمان متضادّان أحدهما: مطلق وهو النّهي، والآخر: مشروط بالدخول وهو يلزم الجمع بين الضدّين.

وأجاب المصنّف(رحمة الله) عن هذا بقوله: {كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة كون النّهي مطلقاً وعلى كلّ حال} فليس مشروطاً بالدخول {وكون الأمر مشروطاًبالدخول}.

وإنّما لا يجدي هذا ل- {ضرورة منافاة حرمة شيء كذلك} مطلقاً {مع وجوبه في بعض الأحوال} مشروطاً، وجه المنافاة أنّه إذا كان الغصب حراماً حالتي الدخول

ص: 385

وأمّا القول بكونه مأموراً به ومنهيّاً عنه: ففيه - مضافاً إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع في ما إذا كان بعنوانين، فضلاً عمّا إذا كان بعنوان واحد، كما في المقام، حيث كان الخروج بعنوانه سبباً للتخلّص، وكان بغير إذن المالك، وليس التخلّص إلّا منتزعاً عن ترك الحرام المسبّب عن الخروج، لا عنواناً له - :

___________________________________________

وعدمه، فكيف يجتمع مع الوجوب المشروط بالدخول؟ فتدبّر.

{وأمّا القول} الرّابع المنسوب إلى المشهور، وذهب إليه أبو هاشم القائل {بكونه} أي: الخروج {مأموراً به ومنهيّاً عنه، ففيه - مضافاً إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع} بين الأمر والنّهي {في ما إذا كان بعنوانين} كالصلاة والغصب {فضلاً عمّا إذا كان} الاجتماع {بعنوان واحد، كما في المقام} وسائر أمثاله ممّا اجتمع الحرمة مع الوجوب المقدّمي {حيث كان الخروج بعنوانه} الأوّلي {سبباً للتخلّص وكان بغير إذن المالك، وليس التخلّص إلّا منتزعاً عن ترك الحرام المسبّب عن الخروج لا عنواناً له -}.

حاصله: - أنّا وإن سلّمنا جواز اجتماع الأمر والنّهي - لكنّا نقول: إنّما يجوز الاجتماع في ما كان هناك عنوانان، أمّا في ما نحن فيه فليس كذلك، إذ الخروج بما هو غصب حرام، وبما هو خروج واجب، فالخروج صار مصبّاً للأمر والنّهي وليس هناك عنوانان، وهو غير جائز حتّى على القول بجواز الاجتماع.إن قلت: الواجب هو الخروج بعنوان التخلّص، والحرام هو الخروج بعنوان الغصب، فكيف قلتم بعدم وجود عنوانين في المقام؟

قلت: التخلّص ليس عنواناً للخروج، بل لمّا كان الخروج سبباً لترك البقاء المحرّم انتزع عن هذا الترك عنوان التخلّص، وبعبارة أُخرى: الخروج سبب لترك البقاء، والتخلّص منتزع عن المسبّب ولا ربط له بالسبب.

ثمّ لو سلّمنا أنّ التخلّص عنوان للخروج فالخروج بما هو واجب لا بما هو

ص: 386

أنّ الاجتماع هاهنا لو سلّم أنّه لا يكون بمحالٍ - لتعدّد العنوان، وكونه مجدياً في رفع غائلة التضادّ - كان محالاً؛ لأجل كونه طلب المحال، حيث لا مندوحة هنا؛

___________________________________________

تخلّص، لما تقدّم من أنّ المقدّميّة جهة تعليليّة لا تقييديّة، فتذكّر.

وقد علّق المصنّف في الهامش ما لفظه بتوضيح: «قد عرفت ممّا علّقت على الهامش» في أوائل هذا التنبيه «أنّ ترك الحرام غير مسبّب عن الخروج حقيقة، وإنّما المسبّب عنه هو الملازم له، وهو الكون في خارج الدار» فالخروج سبب للكون خارج الدار وليس سبباً لترك البقاء.

«نعم، يكون» ترك البقاء «مسبّباً عنه» أي: عن الخروج «مسامحة وعرضاً» إذ ترك البقاء والكون خارج الدار متلازمان «وقد انقدح بذلك أنّه لا دليل في البين إلّا على حرمة الغصب المقتضي، لاستقلال العقل بلزوم الخروج من باب أنّه أقلّ المحذورين، وأنّه لا دليل على وجوبه» أي: الخروج «بعنوان آخر، فحينئذٍ» أي: لا دليل على الوجوب حتّى يقال بأنّه «يجب إعماله أيضاً» كما يجب إعمال دليل الحرمة «على القول بجواز الاجتماع كاحتمال النّهي عن الغصب» لدليلوجوب يجب إعماله «ليكون الخروج مأموراً به ومنهيّاً عنه، فافهم»(1).

{أنّ الاجتماع هاهنا} في مسألة الخروج {لو سلّم أنّه لا يكون بمحال لتعدّد العنوان، و} سلّم {كونه} أي: تعدّد العنوان {مجدياً في رفع غائلة التضادّ، كان} الاجتماع {محالاً(2) لأجل كونه طلب المحال حيث لا مندوحة هنا} بخلاف باب الصلاة والغصب فإنّه يتمكّن من التخلّص عن الحرام وإتيان الصلاة في مكان مباح، ولا مندوحة في مسألة الخروج، إذ المفروض أنّه مضطرّ بالخروج، ولهذا

ص: 387


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 181.
2- أي: إنّ هذا الطلب طلب المحال وإن لم يكن نفس الطلب بمحال، وتقدّم الفرق بين الطلب المحال وطلب المحال، فراجع.

وذلك لضرورة عدم صحّة تعلّق الطلب والبعث حقيقةً بفعل واجب أو ممتنع، أو ترك كذلك، ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار.

وما قيل: «إِنّ الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار»، إنّما هو في قبال استدلال الأشاعرة للقول بأنّ الأفعال غير اختياريّة بقضيّة: «أنّ الشّيء ما لم يجب لم يُوجد».

___________________________________________

لو لم يكن للشّخص مندوحة في باب الصلاة لم يلتزم أحد باجتماع الأمر والنّهي، بل يؤلون بسقوط وجوب الصلاة أو سقوط حرمة الغصب، إذ التكليف بالضدّين في مورد عدم المندوحة قبيح عقلاً ومحال صدوره عن الحكيم {وذلك لضرورة عدم صحّة تعلّق الطلب والبعث حقيقةبفعل واجب أو ممتنع أو ترك كذلك} واجب أو ممتنع {ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار} فتكليف المولى الحكيم عبده بما لا يطاق غير جائز ولو كان مستنداً إلى سوء اختيار العبد.

{و} إن قلت: يصحّ التكليف بالمحال ولا يقبح عقلاً في ما إذا استند إلى سوء اختيار العبد، وذلك ل- {ما قيل} من{«أنّ الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار(1)»} فالعبد لمّا كان قادراً على ترك الدخول حتّى لا يضطرّ إلى الخروج المحرّم، فلو دخل باختياره كان تكليفه بعدم الخروج وعدم البقاء غير قبيح.

والحاصل: أنّ التكليف بما لا يطاق إن نشأ من سوء اختيار العبد لم يكن قبيحاً؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، وإن نشأ بغير اختياره كان محالاً وقبيحاً.

قلت: هذا القول ليس محلّه ما نحن فيه، بل {إنّما هو في قبال استدلال الأشاعرة للقول بأنّ الأفعال غير اختياريّة بقضيّة «أنّ الشّيء ما لم يجب لم يوجد»} وتوضيح المقام يحتاج إلى بيان أُمور ثلاثة:

ص: 388


1- يعني: أنّ الامتناع أو الإيجاب إذا كان له مقدّمة اختياريّة لم يكن خارجاً عن الاختيار.

___________________________________________

الأوّل: نقل كلام الأشاعرة.

الثّاني: جواب الأصحاب عنهم.

الثّالث: وجه أجنبيّة قاعدة الامتناع بالاختيار عمّا نحن فيه، فنقول:

أمّا الأوّل: فقد ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الأفعال كلّها غير اختياريّة، بل العباد مجبورون في الأفعال، واستدلّوا لذلك بقاعدة مسلّمة عند الحكماء وهي: «أنّالشّيء ما لم يجب لم يوجد» ومعنى القاعدة أنّ كلّ ممكن ما لم تتمّ علّته التامّة لم يوجد في الخارج، فإن وجدت العلّه التامّة وجد الممكن وإلّا فلا يوجد.

ووجه استدلالهم بهذه القاعدة أنّ كلّ فعل يصدر من فاعل لا بدّ وأن توجد علّته التامّة، وإذا وجدت كان ذلك الفعل واجب الوجود بالعرض، وإذا وجب الفعل لم يكن العبد مختاراً فيه، وبهذه المقدّمات تمسّكوا لكون العباد مجبورين في جميع الأفعال.

وأمّا الثّاني: فنقول: أبطل علماؤنا هذه الشّبهة، بأنّا لا نسلّم أنّ الفعل بعد وجود علّته التامّة واجب، ولكنّا نقول: إنّ العبد إنّما يوجد علّة الفعل بالإرادة، فإن أراد الفعل وسائر مقدّماته وجب وإن لم يرد لم يجب، فإيجاب الفعل وعدمه تحت اختيار المكلّف، ومن البديهي أنّ الإيجاب والامتناع - أي: إيجاب الفعل بإرادة مقدّماته وامتناعه بعدم إرادة مقدّماته - إذا كانا متوقّفين على مقدّمة اختياريّة لا ينافيان مع الاختيار، وبهذا تبيّن أنّ العباد ليسوا بمجبورين في الأفعال، واتّضح أيضاً أنّ قاعدة الامتناع الخ في قبال استدلال الأشاعرة للجبر.

وأمّا الثّالث: فنقول: قد عرفت أنّ هذه القاعدة لبطلان القول بمجبوريّة العباد في الأفعال ولا ربط لها بتكليف ما لا يطاق، إذ التكليف بغير المقدور قبيح على كلّ حال سواء نشأ من سوء الاختيار أم لا، وذلك لأنّ التكليف إنّما يحسن إذا كان

ص: 389

فانقدح بذلك: فساد الاستدلال(1) لهذا القول بأنّ الأمر بالتخلّص والنّهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما، ولا موجب للتقييد عقلاً؛ لعدم استحالة كون الخروج واجباً وحراماً باعتبارين مختلفين؛ إذ منشأ الاستحالة: إمّا لزوم اجتماع الضدّين، وهو غيرلازم مع تعدّد الجهة،

___________________________________________

باعثيّته للمكلّف نحو المكلّف به ممكناً، فمع عدم إمكانه لا يحسن.

ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بحفظ نفسه - بعد ما أوقع نفسه من شاهق - كان هذا التكليف عند العقلاء لغواً، لعدم إمكان العبد على حفظ نفسه. نعم، يصحّ العقاب لمخالفة النّهي السّابق وإن لم يصحّ الخطاب، وقد سبق في بحث الترتّب أنّه لو كان هذا النّحو من التكليف صحيحاً لصحّ التكليف بالمستحيل معلّقاً على مقدّمة اختياريّة، كأن يقول: (لو ذهبت إلى دار زيد يجب عليك الطيران)، فراجع وتأمّل في المقام، واللّه - تعالى - العالم، وهو الهادي.

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من امتناع اجتماع الضدّين ولو مع تعدّد الجهة أوّلاً، وأنّ التكليف بما لا يطاق ولو مع سوء الاختيار قبيح ثانياً {فساد الاستدلال} المحكي عن القوانين {لهذا القول} الّذي يقول: إنّ الخروج مأمور به ومنهيّ عنه {بأنّ الأمر بالتخلّص والنّهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما} والأخذ بمقتضي كلّ منهما {ولا موجب للتقييد} في أحدهما {عقلاً} كأن يقيّد دليل حرمة الغصب بغير مثل الخروج الّذي هو مقدّمة أو يقيّد دليل وجوب المقدّمة بغير مثل الغصب الّذي هو حرام {لعدم استحالة كون الخروج واجباً وحراماً باعتبارين مختلفين} الوجوب باعتبار المقدّميّة والحرمة باعتبار الغصبيّة.

{إذ منشأ} توهّم {الاستحالة} في هذا الاجتماع لا يخلو عن أحد أمرين: {إمّا لزوم اجتماع الضدّين} في شيء واحد شخصي {وهو غير لازم مع تعدّد الجهة} كما

ص: 390


1- قوانين الأصول 1: 153.

وإمّا لزوم التكليف بما لا يطاق، وهو ليس بمحال إذا كان مسبّباًعن سوء الاختيار.

وذلك لما عرفت من ثبوت الموجب للتقييد عقلاً ولو كانا بعنوانين، وأنّ اجتماع الضدّين لازمٌ ولو مع تعدّد الجهة، مع عدم تعدّدها هاهنا. والتكليف بما لا يطاق محال على كلّ حال. نعم، لو كان بسوء الاختيار

___________________________________________

تقدّم في أدلّة القول بالجواز {وإمّا لزوم التكليف بما لا يطاق} لفرض عدم المندوحة {وهو} أي: التكليف بما لا يطاق {ليس بمحال، إذا كان مسبّباً عن سوء الاختيار}.

هذا حاصل الكلام لاستدلال من يقول باجتماع الوجوب والحرمة في الخروج عن الغصب، ولكنّه باطل {وذلك لما عرفت من ثبوت الموجب للتقييد} للأمر أو النّهي {عقلاً ولو كانا} الوجوب والحرمة {بعنوانين} لعدم فائدة تعدّد الجهة مع وحدة المعنون {وأنّ اجتماع الضدّين لازم ولو مع تعدّد الجهة} فالمقيّد العقلي لأحد من الوجوب والحرمة موجود واللّازم تقييد أحدهما، إمّا تقييد دليل الغصب والقول بوجوب الخروج فقط، وإمّا تقييد دليل المقدّمة والقول بحرمة الخروج فقط.

هذا، لو قلنا بتعدّد الجهة في المقام فكيف {مع عدم تعدّدها هاهنا} في مسألة الخروج، إذ تقدّم أنّ الواجب ليس عنوان المقدّميّة والحرام عنوان الغصب، بل الواجب هوالخروج، إذ عنوان المقدّميّة حيث تعليلي لا تقييدي، فالقائل بجواز اجتماع الأمر والنّهي في متعدّد الجهة لا يجوزه في مثل المقام.

{و} لما عرفت أيضاً من أنّ {التكليف بما لا يطاقمحال على كلّ حال} سواء كان بسوء اختيار العبد أم لا، لما تقدّم من عدم معقوليّة الانبعاث نحو المستحيل، فيكون البعث لغواً يقبح صدوره من الحكيم.

{نعم، لو كان} عدم إطاعة العبد للتكليف {بسوء الاختيار} كما لو أراق الماء المنحصر في الوقت وهو يعلم بعدم تمكّنه بعد من الصلاة بالطهارة المائيّة

ص: 391

لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم أو الإيجاب.

ثمّ لا يخفى: أنّه لا إشكال في صحّة الصلاة مطلقاً في الدار المغصوبة، على القول بالاجتماع.

وأمّا على القول بالامتناع، فكذلك، مع الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار،

___________________________________________

{لا يسقط العقاب بسقوط التكليف} فالتكليف {بالتحريم أو الإيجاب} ساقط والعقاب باقٍ، فتحقّق أنّ قولهم: «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» ليس مستقيماً حتّى بالنسبة إلى الخطاب، بل اللّازم تقييده بأن يقال: «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» عقاباً ولكن ينافيه خطاباً، فالمضطرّ بالاختيار لا يخاطب ولكن يعاقب.

{ثمّ} إنّ بعضهم أورد إشكالاً على المشهور، حيث إنّهم أفتوا بصحّة الصلاة في حال الضّيق وببطلانها في حال السّعة في ما كان محلّ الصلاة غصباً. وجه الإشكال أنّهم إن كانوا من المجوّزين للاجتماع، فلازمه صحّة الصلاة مطلقاً، وإن كانوا من المانعين فإن قدّموا الأمر، فاللّازم أيضاً صحّة الصلاة مطلقاً، وإن قدّموا النّهي أو رأوا تساويهما، فاللّازم بطلان الصلاة مطلقاً، فلا وجه للقول بالصحّة في بعض الأحوال والبطلان في بعض.

هذا وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى جواب هذا الإشكال، ومنه يعلم ثمرةالأقوال بقوله: {لا يخفى أنّه لا إشكال في صحّة الصلاة مطلقاً} في حالتي الاضطرار والاختيار {في الدار المغصوبة على القول بالاجتماع} هذا مقتضى القاعدة، اللّهمّ إلّا أن ينعقد إجماع على بطلان الصلاة في الغصب كما حكي {وأمّا على القول بالامتناع فكذلك} تصحّ الصلاة {مع} وجود بعض الشّروط، وذلك في صور:

الأُولى: إذا كان {الاضطرار إلى الغصب} مع كونه {لا بسوء الاختيار} كما لو حبسه الظالم في دار مغصوبة، وإنّما تصحّ الصلاة في هذه الصورة؛ لأنّ النّهي

ص: 392

أو معه ولكنّها وقعت في حال الخروج، على القول بكونه مأموراً به بدون إجراء حكم المعصية عليه، أو مع غلبة ملاك الأمر على النّهي مع ضيق الوقت.

أمّا الصلاة فيها

___________________________________________

سقط بواسطة الاضطرار، فيبقى الأمر بالصلاة بلا مانع.

الثّانية: ما أشار إليه بقوله: {أو معه} أي: كان الاضطرار إلى الغصب مع سوء الاختيار، كما لو ذهب إلى محلّ مغصوب {ولكنّها} أي: الصّلاة {وقعت في حال الخروج} بناءً {على القول بكونه} أي: الخروج {مأموراً به بدون إجراء حكم المعصية عليه}.

وإنّما تصحّ الصلاة في هذه الصورة؛ لأنّ الأمر بالصلاة في حال الخروج لا مانع منه، إذ لا حرمة للخروج على هذا القول حتّى يقع التزاحم بين حرمة الغصب ووجوب الصلاة.وهذا بخلاف ما لو أجرينا حكم المعصية على الخروج، إذ عليه يقع الخروج مبغوضاً للمولى، ولا يعقل التقرّب بالعمل المبغوض.

الثّالثة: ما أشار إليه بقوله: {أو مع} أي: كان الاضطرار إلى الغصب بسوء الاختيار ولم تقع الصلاة في حال الخروج، فإنّ الصّلاة تقع صحيحة بشرطين:

الأوّل: {غلبة ملاك الأمر على النّهي} إذ تتعارض المصلحة الأمريّة والمفسدة النّهييّة ويقدّم الأقوى منهما، فإنّه إذا لم نقدّم المصلحة لم يكن وجه لصحّة الصلاة {مع} فرض القول بامتناع الاجتماع.

الثّاني: كون الصلاة في {ضيق الوقت} أمّا لو كان في السّعة فلا تصحّ هذه الصلاة؛ لأنّه يكون حين السّعة أمر بغير هذه الصلاة في غير هذا المكان، والأمر بتلك الصلاة لا بدّ وأن يكون أهمّ من هذا الأمر.

وإلى تفصيل ما ذكر أشار بقوله: {أمّا الصّلاة فيها} أي: في الدار المغصوبة

ص: 393

في سعة الوقت فالصحّة وعدمها مبنيان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ واقتضائه؛ فإنّ الصلاة في الدار المغصوبة وإن كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة، إلّا أنّه لا شبهة في أنّ الصلاة في غيرها تُضادّها، بناءً على أنّه لا يبقى مجال مع إحداهما للأُخرى، مع كونها أهمّ منها؛ لخلوّها من المنقصة النّاشئة من قبل اتحادها مع الغصب.

___________________________________________

{في سعة الوقت، فالصحّة وعدمها مبنيّان على عدم اقتضاء الأمر بالشّيء للنهي عن الضدّ واقتضائه} فإن قلنا بعدم الاقتضاء تكون الصلاة صحيحة، وإن قلنا بالاقتضاء تكون باطلة {فإنّ الصلاة في الدارالمغصوبة} في حال السّعة {وإن كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة} فتقتضي صحّة الصلاة {إلّا أنّه لا شبهة في أنّ الصلاة في غيرها} أي: غير الدار المغصوبة {تضادّها} أي: تضادّ الصلاة في الدار المغصوبة، وإنّما يكون التضادّ بين هذين الفردين الفرد الواقع في الغصب والفرد الواقع في المباح {بناءً على أنّه لا يبقى مجال مع إحداهما للأُخرى} إذ يسقط الغرض، ويحصل الامتثال بهذا الفرد الغصبي، فلا يبقى مجال للفرد المباحي {مع كونها} أي: إحداهما - وهي الصلاة في المباح - {أهمّ منها} أي: من الأُخرى وهي الصلاة في الغصب، وإنّما كانت أهمّ {لخلوّها من المنقصة النّاشئة من قبل اتحادها مع الغصب} والحاصل: أنّ الصلاة - بناءً على أقوائيّة ملاكها في ملاك الغصب - إذا وقعت في المغصوب في سعة الوقت تبطل على الامتناع بشرطين:

الأوّل: أن نقول باقتضاء الأمر بالشّيء للنّهي عن الضّدّ.

الثّاني: أن يكون كلّ فرد من الصلاة مضادّاً مع الفرد الآخر.

وجه البطلان: أنّ الصلاة في المغصوب تكون في سعة الوقت والصلاة في المباح ممكن فعلاً مع أنّها مأمور بها، والأمر بها يقتضي النّهي عن ضدّها وهو

ص: 394

لكنّه عرفت: عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه، فالصلاة في الغصب اختياراً في سعة الوقت صحيحة، وإن لم تكن مأموراً بها.

الأمر الثّاني:

___________________________________________

الفرد الواقع في الغصب وتوجّه النّهي إلى الصلاة في الغصب يقتضي بطلانها{لكنّه} إذا لم نلتزم بأحد الشّرطين، كما لو منعنا الشّرط الأوّل، لما قد {عرفت} في باب اقتضاء الأمر بالشّيء للنّهي عن الضدّ {عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه} أو منعنا الشّرط الثّاني؛ لأنّ مسألة الأمر بالشيء إنّما هي في ما لو كان واجبان متضادّان أحدهما أهمّ، كالصلاة والإزالة، وما نحن فيه ليس كذلك، إذ الصلاة في الغصب والصلاة في خارجه فردان لواجب واحد بلا تضادّ بينهما {فالصلاة في الغصب اختياراً في سعة الوقت صحيحة} بناءً على تقدير كون مصلحة الأمر غالبة على مفسدة النّهي {وإن لم تكن مأموراً بها} لأنّ الأمر بالفرد الخارج من الغصب يوجب عدم الأمر بالفرد الداخل فيه، كما سبق أنّ الصلاة إذا زاحمت مع الإزالة تكون صحيحة للملاك غير مأمور بها لوجود الأمر بالإزالة.

وبهذا كلّه تحصل الرّابعة من صورة صحّة الصلاة في الغصب، وهي الصلاة في سعة الوقت إذا قلنا بأقوائيّة ملاكها عن ملاك الغصب، وصحّة الصلاة في بعض هذه الموارد لا يخلو من تأمّل أو منع، كما لا يخفى.

[التنبيه الثّاني]

{الأمر الثّاني} قال العلّامة المشكيني(رحمة الله): «لا يخفى أنّه بيّن في هذا المقام أُموراً ثلاثة: الأوّل: أنّ باب الاجتماع من باب التزاحم.

الثّاني: أنّ تخصيص الأضعف لا يوجب البطلان في موارد الأعذار.

الثّالث: بيان المرجّحات النّوعيّة للنهي»(1).

ص: 395


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 186.

قد مرّ - في بعض المقدّمات - : أنّه لا تعارض بين مثل خطاب (صلّ) وخطاب (لا تغصب) - على الامتناع - تعارُضَ الدليلين بماهما دليلان حاكيان، كي يقدّم الأقوى منهما دلالة أو سنداً، بل إنّما هو من باب تزاحم المؤثرين والمقتضيين، فيقدّم الغالب منهما، وإن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه.

هذا في ما إذا أحرز الغالب منهما، وإلّا كان بين الخطابين تعارضٌ، فيقدّم الأقوى منهما دلالة أو سنداً،

___________________________________________

وقد تقدّم الأوّل في الأمر التاسع والثّاني في العاشر فلا وجه للتكرار، فالأولى له ذكر الأخير فقط {قد مرّ في بعض المقدّمات أنّه لا تعارض بين مثل خطاب (صلّ) وخطاب (لا تغصب) على الامتناع} نحو {تعارض الدليلين بما هما دليلان حاكيان} عن المناط في كلّ واحد منهما {كي} يرجع فيهما إلى مرجّحات باب التعارض بأن {يقدّم الأقوى منهما دلالة} إذا أمكن الجمع الدلالي {أو} يقدّم الأقوى {سنداً} إذا لم يمكن الجمع الدلالي، وإذا لم يكن مرجّح يحكم بالتخيير، كما هو شأن كلّ خبرين متعارضين {بل إنّما هو من باب تزاحم المؤثرين والمقتضيين} فاللّازم الرّجوع إلى مرجّحات باب التزاحم {فيقدّم الغالب منهما} في التأثير والاقتضاء {وإن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه} أي: مقتضى الأوّل.

مثلاً: لو ورد بسند صحيح ودلالة ظاهرة (أنقذ المؤمن) وورد بدليل آخر ضعيف السّند والدلالة وجوب إنقاذ النّبي(صلی

الله علیه و آله)، فإنّه يقدّم إنقاذ النّبي(صلی

الله علیه و آله) على المؤمن لكون ملاك إنقاذ النّبي(صلی

الله علیه و آله) أقوى،وهذا بخلاف باب التعارض، فإنّه لو علمنا بعدم المقتضي لأحد الدليلين لزم ترجيح الأقوى دلالة ثمّ سنداً ثمّ التخيير كما تقدّم.

{هذا} كلّه {في ما إذا أحرز الغالب منهما} أي: من المقتضيين {وإلّا} فإن لم يحرز قوّة المناط في أحدهما مع دلالة كلّ منهما على وجود المقتضي {كان بين الخطابين تعارض، فيقدّم الأقوى منهما دلالة أو سنداً} حسب التفصيل المذكور في

ص: 396

وبطريق الإنّ يحرز به أنّ مدلوله أقوى مقتضياً.

هذا لو كان كلّ من الخطابين متكفّلاً لحكم فعلي، وإلّا فلا بدّ من الأخذ بالمتكفّل لذلك منهما لو كان، وإلّا فلا محيص عن الانتهاء إلى ما يقتضيه الأصول العمليّة.

___________________________________________

باب التعادل والتراجيح {وبطريق الإنّ} وكشف العلّة من المعلول {يحرز به} أي: بالأقوى سنداً أو دلالة {أنّ مدلوله أقوى مقتضياً} وفيه نظر بيّن لا يخفى.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرناه من الرّجوع في المتزاحمين إلى المرجّحات السّندي والدلالي إنّما يتمّ في ما {لو كان كلّ من الخطابين متكفّلاً لحكم فعلي، وإلّا} فلو لم يكن كلاهما بصدد بيان الحكم الفعلي، بل أحدهما كان بصدد بيان الحكم الاقتضائي {فلا بدّ من الأخذ بالمتكفّل لذلك} أي: للحكم الفعلي {منهما}.

وبهذا يجمع بين هذين الحكمين فلا يقع التعارض، ولكن إنّما يجمع بينهما بهذا النّحو {لو كان} أحدهما فعليّاً والآخر اقتضائيّاً {وإلّا} فلو لم يعلم أهميّة أحدهما ولا كان أقوى دلالة أو سنداً في البين، ولا كان أحدهما اقتضائيّاًوالآخر فعليّاً - بأن كان كلاهما اقتضائيّاً بلا ترجيح - {فلا محيص عن الانتهاء إلى ما يقتضيه الأصول العمليّة} إذ الدليلان يتساقطان بعد التعارض، وحيث لا دليل على حكم الواقعة فالمرجع الأصول.

وبالجملة لا يخلو الأمر عن ثلاثة أحوال:

الأوّل: أن يكون كلا الدليلين متكفّلاً للحكم الفعلي، واللّازم هاهنا:

1 - الأخذ بالأهمّ.

2 - وإن لم يعلم الأهمّ يلزم الرّجوع إلى المرجّحات الدلاليّة والسّنديّة.

3 - فإن لم يكن مرجّح كان الحكم التخيير بينهما.

الثّاني: أن يكون كلاهما متكفّلاً للحكم الاقتضائي، ويلزم الرّجوع حينئذٍ إلى الأصل العملي لعدم الحكم الفعلي في الواقعة.

ص: 397

ثمّ لا يخفى: أنّ ترجيح أحد الدليلين وتخصيصَ الآخر به في المسألة، لا يوجب خروجَ مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأساً، كما هو قضيّة التقييد والتخصيص في غيرها، ممّا لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين،

___________________________________________

الثّالث: أن يكون أحد الدليلين متكفّلاً للحكم الفعلي والدليل الآخر متكفّلاً للحكم الاقتضائي، واللّازم حينئذٍ الأخذ بالحكم الفعلي وترك الحكم الاقتضائي، فتدبّر.

{ثمّ لا يخفى} أنّه فرق بين تخصيص أحد الدليلين في مسألتنا الّتي هي من باب التزاحم وبين تخصيصه في باب التعارض ل- {أنّ ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر به في المسألة} أي: مسألة اجتماع الأمر والنّهي الّتي هي من مسائل بابالتزاحم {لا يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت} الدليل {الآخر رأساً}.

مثلاً: لو قدّمنا دليل (لا تغصب) على دليل (صلّ) كانت الصلاة في الغصب غير محكومة بالوجوب فعلاً، بل محرّمة باطلة، ولكن المصلحة الصلاتيّة موجودة فيها {كما هو قضيّة} جميع موارد باب التزاحم.

مثلاً: لو غرق نبيّ ومؤمن يكون إنقاذ المؤمن ذا مصلحة وإن كان الحكم الفعلي وجوب إنقاذ النّبي، وهذا بخلاف {التقييد والتخصيص في غيرهما} أي: غير هذه المسألة، وأشباهها من موارد التزاحم {ممّا لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين} بأن كان من باب التعارض، فإنّه لو خصّص أحد الدليلين بالآخر كان مورد الاجتماع خارجاً رأساً بحيث لا يكون فيه ملاك أصلاً.

مثلاً: لو قال المولى: (أكرم العلماء، ولا تكرم الفسّاق) وخصّصنا وجوب الإكرام بغير الفاسق كان العالم الفاسق خارجاً عن وجوب الإكرام حتّى ملاكاً، فلا يكون فيه مقتضى الإكرام رأساً لا فعلاً ولا شأناً.

ص: 398

بل قضيّته ليس إلّا خروجه في ما كان الحكم الّذي هو مفاد الآخر فعليّاً؛ وذلك لثبوت المقتضي في كلّ واحد من الحكمين فيها، فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثّراً لها - لاضطرارٍ أو جهل أو نسيان ٍ - كان المقتضي لصحّة الصلاة مؤثّراً لها فعلاً، كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى، أو لم يكن واحد من الدليلين دالّاً على الفعليّة أصلاً.

___________________________________________

ووجه الفرق بين هذين البابين ظاهر، فإنّ التزاحم إنّما يكون في ما كان لكلا الحكمين ملاك، وإنّما يقدّم أحدهما للأهميّة، بخلاف التعارض فإنّه لا يكون إلّاملاك واحد والآخر ليس فيه ملاك، كما تقدّم شطر من الكلام في هذا الباب.

{بل قضيّته} أي: مقتضى تخصيص أحد الدليلين بالآخر في باب التزاحم {ليس إلّا خروجه} أي: خروج المجمع {في ما كان الحكم الّذي هو مفاد الآخر فعليّاً} بأن كان المكلّف عالماً قادراً {وذلك} الّذي ذكرنا من عدم خروج مورد الاجتماع رأساً وإنّما يكون خارجاً في ظرف الفعليّة {لثبوت المقتضي في كلّ واحد من الحكمين} حتّى في مورد الاجتماع {فيها} أي: في مسألة اجتماع الأمر والنّهي، كسائر مسائل باب التزاحم.

ثمّ إنّ هذا الفرق بين باب التزاحم وباب التعارض مثمر في موارد العذر، فإنّه لو جهل حرمة إكرام العالم الفاسق وأكرمه لم يكن فيه إلّا المفسدة، بخلاف باب التزاحم {فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب} الواقعيّة {مؤثّراً لها} أي: للحرمة الفعليّة - {لاضطرار} إلى الغصب كالمحبوس {أو جهل أو نسيان - كان المقتضي لصحّة الصلاة مؤثّراً لها فعلاً} فتكون صحيحة كافية ذات مصلحة ملزمة ويكون حال هذه الصلاة في الصحّة والمصلحة {كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى} بل كان دليل الوجوب أقوى، أو كانا متساويين مع العذر {أو لم يكن واحد من الدليلين دالّاً على الفعليّة أصلاً} بل كانا في مقام بيان الحكم الاقتضائي فقط كما سبق.

ولا يذهب عليك أنّ الجهل والنّسيان ليسا عذراً على الإطلاق - كما نبّه عليه

ص: 399

فانقدح بذلك: فساد الإشكال في صحّة الصلاة - في صورة الجهل أو النّسيان ونحوهما - ، في ما إذا قدّم خطاب (لا تغصب)،كما هو الحال في ما إذا كان الخطابان من أوّل الأمر متعارضين، ولم يكونا من باب الاجتماع أصلاً؛ وذلك لثبوت المقتضي في هذا الباب، كما إذا لم يقع بينهما تعارضٌ، ولم يكونا متكفّلين للحكم الفعلي.

فيكون وزانُ التخصيص في مورد الاجتماع، وزانَ التخصيص العقلي النّاشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلاً،

___________________________________________

بعض الأعلام - بل ما كان منهما يعدّ عذراً عند العقلاء، فالغاصب غير المبالي إذا نسي وصلّى كان في صحّة صلاته نظر، إذ لا مجال له للاعتذار بأنّه كان ناسياً، بل النّسيان عذر لمن لم يكن يصلّي في المغصوب إذا كان ملتفتاً وحيث إنّ حديث الرّفع وارد في مورد الأعذار العقلائيّة كان المنصرف منه ما ذكر، فتدبر.

وكيف كان {ف-} قد {انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من صحّة الصلاة في موارد العذر لوجود ملاك الأمر بلا مزاحم {فساد الإشكال في صحّة الصلاة في صورة الجهل أو النّسيان ونحوهما} من سائر موارد العذر {في ما إذا قدّم خطاب (لا تغصب)} على خطاب (صلّ) {كما هو الحال} تمثيل للإشكال، يعني: أنّ المستشكل {في} صحّة الصلاة مثل ما نحن فيه بباب التعارض، أعني: {ما إذا كان الخطابان من أوّل الأمر متعارضين} بأن لم يكن ملاك إلّا في أحدهما {ولم يكونا من باب الاجتماع أصلاً} ولكن فساد هذا الإشكال غنيّ عن البيان {وذلك لثبوت المقتضي في هذا الباب} أي: باب الاجتماع ويكون المقتضي في المجمع عند التعارض {ك-} وجوده في {ما إذا لم يقع بينهما تعارض}أصلاً {ولم يكونا متكفّلين للحكم الفعلي}.

والحاصل: أنّه لو وجد مانع عن الأهمّ فعلاً فلا بدّ وأن يكون غير الأهمّ فعليّاً فيقع صحيحاً مجزياً، وعلى هذا {فيكون وزان التخصيص في مورد الاجتماع وزان التخصيص العقلي النّاشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلاً} بحيث يكون

ص: 400

المختصّ بما إذا لم يمنع عن تأثيره مانع، المقتضي لصحّة مورد الاجتماع مع الأمر، أو بدونه في ما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي له، أو عن فعليّته، كما مرّ تفصيله.

وكيف كان، فلا بدّ في ترجيح أحد الحكمين من مرجّح، وقد ذكروا(1) لترجيح النّهي وجوهاً:

منها: أنّه أقوى دلالة؛ لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد، بخلاف الأمر.

___________________________________________

تخصيصاً في الفعليّة {المختصّ} ذلك التخصيص العقلي {بما إذا لم يمنع عن تأثيره مانع} وهذا وجه المماثلة بين التخصيص العقلي والتخصيص في مورد الاجتماع {المقتضي} هذا النّحو من التخصيص {لصحّة مورد الاجتماع مع الأمر أو بدونه} أي: بدون الأمر {في ما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي له} الضمير راجع ل- «النّهي» أي: إذا كان مانع للنهي، بحيث إنّ المقتضي له لم يؤثّر يكون مورد الاجتماع صحيحاً مع وجود الأمر {أو عن فعليّته} عطف على «تأثير المقتضي» أي: وإن كان مانع عن فعليّة النّهي يكون مورد الاجتماع صحيحاً بدون الأمر.وقوله: «في ما كان» الخ تفصيل لقوله: «مع الأمر أو بدونه» على نحو اللفّ والنّشر المرتّب {كما مرّ تفصيله} في الأمر العاشر.

{وكيف كان، فلا بدّ في ترجيح أحد الحكمين} الأمر والنّهي {من مرجّح} حتّى يحكم بصحّة مورد الاجتماع وعدمها {وقد ذكروا لترجيح النّهي وجوهاً}.

{منها}: ما حكي عن الإشارات(2)

من {أنّه} أي: النّهي {أقوى دلالة} من الأمر {لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد بخلاف الأمر} فإنّه يمتثل بإتيان فرد واحد.

مثلاً: النّهي عن الغصب لا يمتثل إلّا بترك جميع أفراد الطبيعة، بخلاف الأمر

ص: 401


1- قوانين الأصول 1: 152؛ الفصول الغرويّة: 127؛ مطارح الأنظار 1: 701.
2- إشارات الأصول: 226.

وقد أُورد عليه: بأنّ ذلك فيه من جهة إطلاق متعلّقه بقرينة الحكمة، لدلالة الأمر على الاجتزاء بأيّ فرد كان.

وقد أُورد عليه: بأنّه لو كان العموم المستفاد من النّهي بالإطلاق بمقدّمات الحكمة، وغيرَ مستند إلى دلالته عليه بالالتزام،

___________________________________________

بالصلاة، فإنّه يمتثل بإتيان فرد واحد.

{وقد أُورد عليه بأنّ ذلك} العموم {فيه} أي: في النّهي {من جهة إطلاق متعلّقه} أي: متعلّق النّهي، وهذا الإطلاق {بقرينة} مقدّمات {الحكمة} وعلى هذا فيكون دلالة النّهي {لدلالة الأمر على} العموم البدلي و{الاجتزاء بأيّ فرد كان} بمعونة مقدّمات الحكمة.والحاصل: أنّ ذات النّهي لا تدلّ على العموم، بل إذا كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة ولم يكن هناك قدر متيقّن فقال: (لا تغصب) أفادت المقدّمات حرمة جميع أفراد الطبيعة، بخلاف ما إذا لم يكن المولى في مقام البيان أو قال: (لا تغصب مال زيد) أو كان هناك قدر متيقّن، فإنّه لا يفهم العموم من النّهي.

وإذا ثبت أنّ العموم في النّهي مستفاد من الإطلاق فالأمر مثله. مثلاً: لو قال المولى: (صلّ) وتمّت مقدّمات الحكمة فهم جواز الإتيان بكلّ فرد من أفراد الطبيعة، منتهى الفرق أنّ النّهي للعموم الشّمولي والأمر للعموم البدلي، وحينئذٍ فهما سيّان في قوّة الدلالة وضعفها ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

{وقد أُورد عليه} أي: على هذا الإيراد {بأنّه} لا نسلّم أنّ العموم في النّهي مستفاد من مقدّمات الحكمة بل العموم مستفاد من ذات النّهي، إذ {لو كان العموم المستفاد من النّهي بالإطلاق بمقدّمات الحكمة وغير مستند إلى دلالته} أي: النّهي {عليه} أي: على العموم {بالالتزام} وإنّما قال: «بالالتزام» لأنّ النّهي يدلّ على

ص: 402

لكان استعمال مثل: (لا تغصب) في بعض أفراد الغصب حقيقةً، وهذا واضح الفساد، فتكون دلالته على العموم من جهة أنّ وقوع الطبيعة في حيّز النّفي أو النّهي يقتضي عقلاً سريانَ الحكم إلى جميع الأفراد؛ ضرورة عدم الانتهاء عنها أو انتفائها إلّا بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه.

قلت: دلالتهما على العموم والاستيعاب - ظاهراً - ممّا لا يُنكر، لكنّه من الواضح: أنّ العموم المستفاد منهما

___________________________________________

ترك الطبيعة، والطبيعة حيث كانت متحقّقة في جميع الأفراد فهو دالّ مطابقةً على الأوّل، والتزاماً على الثّاني {لكان استعمال مثل: (لا تغصب) في بعض أفراد الغصب حقيقةً} حيث لا تكون مقدّمات الحكمة {وهذا} أي: كون الاستعمال في البعض حقيقة {واضح الفساد} إذ استعمال النّهي مطلقاً وبلا قرينة وإرادة الخصوصيّة ممّا لا يظهر من لفظ النّهي، بل الظاهر منه الإطلاق، فيكون إرادة البعض مجازاً.

وعلى هذا {فتكون دلالته على العموم} لا بالمقدّمات، بل بذاته {من جهة أنّ وقوع الطبيعة} العارية عن القرينة {في حيّز النّفي أو النّهي يقتضي عقلاً سريان الحكم إلى جميع الأفراد} على نحو الاستيعاب.

وإنّما قلنا بالسريان عقلاً ل- {ضرورة عدم الانتهاء عنها} أي: عن الطبيعة في النّهي {أو انتفائها} في النّفي {إلّا بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه}.

وبهذا يظهر الفرق بين الأمر والنّهي، ويتبيّن أقوائيّة دلالة النّهي، فيقدّم على الأمر في مرحلة التعارض، وتكون الصلاة في الدار المغصوبة باطلاً.

{قلت}: هذا الرّدّ على ردّ كلام الإشارات باطل، إذ {دلالتهما} أي: النّفي والنّهي {على العموم والاستيعاب ظاهراً} وإن كان {ممّا لا ينكر، لكنّه} يقع الكلام في أنّ هذا العموم مستفاد من الإطلاق فقط أو من العقل فقط أو من مجموعهما؟ والحقّ هو الأخير، إذ {من الواضح أنّ العموم المستفاد منهما} أي: من النّفي والنّهي

ص: 403

كذلك، إنّما هو بحسب ما يراد من متعلّقهما، فيختلف سعة وضيقاً، فلا يكاد يدلّ على استيعاب جميع الأفراد، إلّا إذاأُريد منه الطبيعة مطلقة وبلا قيدٍ، ولا يكاد يستظهر ذلك - مع عدم دلالته عليه بالخصوص - إلّا بالإطلاق وقرينة الحكمة، بحيث لو لم يكن هناك قرينتها - بأن يكون الإطلاق في غير مقام البيان - لم يكد يستفاد استيعاب أفراد الطبيعة،

___________________________________________

{كذلك} أي: على نحو الاستيعاب {إنّما هو بحسب ما يراد من متعلّقهما، ف-} لهذا {يختلف} هذا العموم {سعة وضيقاً} بحسب سعة المتعلّق وضيقه. مثلاً: لو قال: (لا تغصب يوم الجمعة) كان العموم المستفاد منه أضيق ممّا لو قال: (لا تغصب شهر محرّم) وهكذا.

وعلى هذا {فلا يكاد يدلّ} النّهي {على استيعاب جميع الأفراد إلّا إذا أُريد منه} أي: من المتعلّق نفس {الطبيعة مطلقة وبلا قيد} بأن لا تكون مهملة ولا مقيّدة {ولا يكاد يستظهر ذلك} الإطلاق والشّمول لجميع الأفراد {مع} فرض {عدم دلالته عليه بالخصوص إلّا بالإطلاق وقرينة الحكمة} يعني بعد ما لم يكن العموم في متعلّق النّهي لفظيّاً، فلا بدّ وأن يستفاد العموم من مقدّمات الحكمة {بحيث لو لم يكن هناك قرينتها} أي: قرينة الحكمة {بأن يكون الإطلاق في غير مقام البيان لم يكد يستفاد} من اللفظ {استيعاب أفراد الطبيعة} أصلاً.

وتوضيح المقام: أنّ العموم المستفاد من النّهي إنّما هو بأمرين: الإطلاق والعقل إذ لو لم يكن المتعلّق مطلقاً - بأن كان مهملاً أو مقيّداً - لم يحكم العقل إلّا بانتفاء أفراد ذاك المهمل أو المقيّد - لا العموم.

مثلاً: (لا تغصب في يوم الجمعة) لا يدلّ عقلاً إلّا على استيعاب أفراد الطبيعةالمقيّدة بيوم الجمعة، وبهذا تبيّن أنّ دلالة العقل وحدها غير كافية في الحكم بعموم المتعلّق وإنّما يحتاج العموم إلى الإطلاق علاوة على العقل، فكون النّهي عن المطلق يفهم من المقدّمات، وكون المطلق يستلزم الاستيعاب يفهم من دلالة

ص: 404

وذلك لا ينافي دلالتهما على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلّق؛ إذ الفرض عدم الدلالة على أنّه المقيّد أو المطلق.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ في دلالتهما على الاستيعاب كفايةً ودلالةً على أنّ المراد من المتعلّق هو المطلق

___________________________________________

العقل بالسراية.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّه لو لم نحرز الإطلاق من المقدّمات لا يكون عموم {لا ينافي دلالتهما} أي: النّهي والنّفي لغة وعرفاً {على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلّق} وجه المنافاة أنّ بعد وضعهما للعموم كيف نحتاج إلى مقدّمات الحكمة، ووجه عدم المنافاة أنّهما إنّما وضعا لاستيعاب ما أُريد من المتعلّق فلو أُريد من المتعلّق قسم خاصّ أفادا الاستيعاب في ذلك القسم الخاصّ، وإن أُريد من المتعلّق الطبيعة أفاد الاستيعاب في تمام الطبيعة.

والحاصل: أنّهما لا يجعلان المتعلّق عامّاً وإنّما يستوعبان ما أُريد به {إذ الفرض عدم الدلالة} للنهي والنّفي {على أنّه} أي: المتعلّق {المقيّد أو المطلق} فحالهما حال (كلّ)، فكما أنّه لا يتكفّل عموم المدخول، بل يتكفّل التعميم في المدخول. مثلاً: لو قال: (أكرم كلّ عالم) فإنّ (كلّ) يشمل أفراد العالم، لا أنّه يعمّم المدخول حتّى يشمل جميع أفراد الإنسان، كذلك النّهي والنّفي إنّما يتكفّلان شمول أفراد المتعلّق ولا يتكفّلانتعميمه حتّى يشمل جميع أفراد الطبيعة.

{اللّهمّ إلّا أن يقال}: لا نحتاج في عموم المتعلّق إلى قرينة الحكمة، بل {إنّ في دلالتهما} أي: النّهي والنّفي {على الاستيعاب كفاية} فوقوع الطبيعة في حيّزهما كافٍ في إفادة العموم من غير احتياج إلى شيء آخر، إذ كما أنّ مقدّمات الحكمة من قرائن الإطلاق كذلك الوقوع في سياق النّفي أو النّهي من قرائن الإطلاق.

{و}

الحاصل: أنّ في نفس الوقوع في حيّزهما {دلالة على أنّ المراد من المتعلّق هو المطلق}

ص: 405

- كما ربّما يدّعى(1) ذلك في مثل: (كلّ رجل) - وأنّ مثل لفظة (كلّ) يدلّ على استيعاب جميع أفراد الرّجل، من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة، بل يكفي إرادة ما هو معناه - من الطبيعة المهملة ولا بشرط - في دلالته على الاستيعاب، وإن كان لا يلزم مجاز أصلاً لو أُريد منه خاصّ بالقرينة، لا فيه؛

___________________________________________

الشّمولي {كما ربّما يدّعى ذلك في مثل: (كلّ رجل) و} توضيحه {أنّ مثل لفظة (كلّ) يدلّ على استيعاب جميع أفراد الرّجل} وكذا الألف واللّام الاستغراقي، فإنّه أيضاً بنفسه يدلّ على عموم المتعلّق {من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة}.

إن قلت: الطبيعة الّتي هي مدخول (كلّ) لا تخلو عن ثلاثة أحوال:

الأوّل: الإطلاق.

الثّاني: التقييد.الثّالث: الإهمال، فإن أُريد منها قبل دخول (كلّ) الإطلاق تمّت مقدّمات الحكمة ولا مجال للقول بإفادة (كلّ) له، وإن أُريد التقييد فلا إطلاق حتّى يقع الكلام في ما يفيده، وإن أُريد الإهمال فأين الإطلاق المستفاد من (كلّ).

قلت: {بل} المراد من المتعلّق هو الطبيعة المهملة، و{يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة ولا بشرط في دلالته على الاستيعاب} فالطبيعة قبل دخول (كلّ) مهملة وببركة دخوله ينعقد لها الإطلاق، كما أنّ قبل تماميّة مقدّمات الحكمة يكون اللفظ مهملاً ولا بشرط وبعد تماميّتها ينعقد الإطلاق.

{و} إن قلت: {إن كان} المتعلّق بنفس كونه في حيّز (كلّ) مفيداً للعموم لزم أو أُريد منه الخصوص، كما تقدّم.

قلت: {لا يلزم مجاز أصلاً لو أُريد منه خاصّ بالقرينة لا فيه} أي: في لفظ (كلّ)

ص: 406


1- الفصول الغرويّة: 161؛ قوانین الأصول 1: 197.

لدلالته على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول، ولا فيه إذا كان بنحو تعدّد الدالّ والمدلول؛ لعدم استعماله إلّا في ما وضع له، والخصوصيّةُ مستفادة من دالّ آخر، فتدبّر.

ومنها: أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وقد أورد عليه - في القوانين(1) - بأنّه مطلقاً ممنوع؛

___________________________________________

{لدلالته على استيعاب افراد ما يراد من المدخول} وفي المقام يفيد ذلك، فإنّ (كلّ رجل عالم) يراد منه استيعاب أفراد العالم {ولا فيه} أي: في المدخول {إذا كان} إرادة الخاصّ{بنحو تعدّد الدالّ والمدلول} كأن يراد من (رجل) معناه الموضوع له، ويراد من (العالم) معناه الموضوع له، لا أن يراد من (الرّجل) القسم الخاصّ منه، حتّى يستلزم استعمال المطلق في المقيّد ويكون مجازاً، وسيأتي أنّ غالب استعمال المطلقات في المقيّدات من هذا النّحو وأنّه ليس بمجاز {لعدم استعماله} أي: المدخول {إلّا في ما وضع له، والخصوصيّة مستفادة من دالّ آخر} وهكذا نقول في متعلّق الأمر والنّهي، فإنّ الدلالة على العموم بنفس كونه في حيّزهما لا يستلزم المجازيّة في ما أُريد منه خاصّ بالقرينة {فتدبّر} لعلّه إشارة إلى عدم كون ما في حيّز النّفي والنّهي مثل مدخول (كلّ)، واللّه العالم.

{ومنها} أي: من الأُمور الّتي ذكروها لترجيح النّهي على الأمر {أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة} فإذا دار الأمر بين الصلاة في الغصب الموجبة لجلب المفسدة والضرر الغصبي وجلب المنفعة والمصلحة الصلاتيّة وبين ترك الصلاة الموجب لدفع المفسدة - أي: عدم ارتكابها - وعدم الوصول إلى المنفعة الصلاتيّة، فاللّازم ترك الصلاة دفعاً للمفسدة لا إتيان الصلاة جلباً للمصلحة.

{وقد أورد عليه - في القوانين - بأنّه} أي: كون فعل الواجب لجلب المنفعة {مطلقاً} أي: سواء كان له أفراد أُخر أم لا {ممنوع} وجه المنع ما ذكره بقوله:

ص: 407


1- قوانين الأصول 1: 153.

لأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا تعيّن.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنّ الواجب - ولو كان معيّناً - ليس إلّا لأجل أنّ في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها، من دون أن يكون في تركه مفسدة، كما أنّ الحرام ليس إلّا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه.

___________________________________________

{لأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا تعيّن} الواجب في فرد، فإن كان الواجب ذا أفراد عقليّاً كانت الأفراد أم شرعيّاً لم يكن في ترك البعض مفسدة، أمّا إذا تعيّن الواجب عقلاً وشرعاً في فرد، كما إذا كان في ضيق الوقت بحيث لا يتمكّن إلّا من إتيان فرد فقط، فإنّه حينئذٍ يكون في ترك هذا الفرد مفسدة، ويدور الأمر حينئذٍ بين مفسدتين:

إمّا ملاحظة الغصب وترك الصلاة فيكون قد وقع في مفسدة ترك الصلاة.

وإمّا ملاحظة الصلاة وفعل الغصب فيكون قد وقع في مفسدة الغصب. بل قد يقال: إنّ الثّاني أولى لإحرازه مصلحة الصلاة بخلاف الأوّل، إذ لا مصلحة فيه أصلاً.

{و} لكن {لا يخفى ما فيه} فإنّا لا نسلّم أنّ في ترك الواجب مفسدة {فإنّ الواجب ولو كان معيّناً} في فرد {ليس إلّا لأجل أنّ في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة} ولو سمّي بذلك لكان مسامحة في التعبير، ولذا ترى أنّه لا حكم على الترك، إذ لا ينشأ حكمان على طرفي الشّيء بأن ينشأ الإيجاب على الفعل، والتحريم على الترك. نعم، في الترك عقوبة {كما أنّ الحرام ليس إلّا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه} موجبة لإنشاء الوجوب.

ولنا في هذا الكلام تأمّل، إذ الإيجاب والتحريم تابعان للثواب والعقاب أو المصلحة والمفسدة، لا أنّهما تابعان للإرادة، إذ لا تنقدح الإرادة في الباري - جلّ وعلا - . وعلى هذا فلا مانع من إنشاء حكمين على طرفي أمر واحد، لوجود

ص: 408

ولكن يرد عليه: أنّ الأولويّة مطلقاً ممنوعة، بل ربّما يكونالعكس أولى، كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرّمات مع ترك بعض الواجبات، خصوصاً مثل الصلاة وما يتلو تلوها.

___________________________________________

المصلحة والثّواب في فعله والمفسدة والعقاب في تركه أو بالعكس.

مثلاً: إذا كان في شرب الخمر عقاب وفي تركه ثواب، لا مانع من إنشاء التحريم على الفعل والإيجاب على الترك.

إن قلت: لا احتياج إلى الإنشاء الثّاني، فإنّ الأوّل كاف في الباعثيّة.

قلت: بل يحتاج إليه، إذ من النّاس من يستهين بترك المصلحة في ما لو كان في الواجب مصلحة فقط بدون أن يكون في تركه مفسدة، فإنشاء التحريم في الطرف الآخر الكاشف عن المفسدة باعث نحو العمل أو مؤكّد له، كما لا يخفى، فتدبّر.

{ولكن يرد عليه} أي: على هذا المرجّح الّذي ذكروه من أنّ دفع المفسدة أولى {أنّ الأولويّة} لدفع المفسدة على جلب المنفعة {مطلقاً} في جميع المقامات {ممنوعة، بل ربّما يكون العكس} أي: جلب المنفعة {أولى} من دفع المفسدة {كما يشهد به} أي: بكون العكس أولى {مقايسة فعل بعض المحرّمات مع ترك بعض الواجبات} في الشّرع والعرف، فإنّا لا نشكّ في أنّ جلب منفعة ألف دينار للرجل الفقير أولى من دفع مفسدة أَرَقِ ليلةٍ، وكذا في الشّرعيّات {خصوصاً مثل الصلاة وما يتلو تلوها} في الأهميّة كالزكاة والحجّ، فلو دار الأمر بين فعل الصّلاة واستماع الغناء وبين ترك الصلاة ودفع مفسدة الاستماع، فلا شكّ في أولويّة الأوّل.

وبهذا تحقّق أنّ بين الأولويّتين تبادل فقد يكون جلب المنفعة أولى، وقديكون دفع المفسدة أولى.

ص: 409

ولو سلّم فهو أجنبيّ عن المقام؛ فإنّه في ما إذا دار الأمر بين الواجب والحرام.

___________________________________________

{ولو سلّم} كليّة الكبرى وأنّ دفع المفسدة مطلقاً أولى {فهو} أي: ضابط أنّ دفع المفسدة أولى {أجنبيّ عن المقام، فإنّه في ما إذا دار الأمر بين الواجب والحرام} بأن يكون هناك شيء واحد لا يعلم أنّه واجب أو حرام.

كما لو تردّدت المرأة بين الأجنبيّة الّتي يحرم وطيها وبين الزوجة رأس أربعة أشهر الّتي يجب وطيها، فإنّ ترك الوطي الّذي فيه دفع مفسدة الزنا المحتمل أولى من الوطي الّذي فيه جلب منفعة الوجوب المحتمل.

هذا مثال للشبهة الموضوعيّة، وأمّا الشّبهة الحكميّه، فكما لو تردّدت صلاة الجمعة بين الوجوب والحرمة.

وعلى كلٍّ فهذه القاعدة إنّما هي في مثل هذه الموارد، لا في ما قام دليلان للوجوب والحرمة، وحكم العقل بامتناع الاجتماع، ولم يعلم ترجيح أحدهما على الآخر من الخارج.

وفيه تأمّل، إذ هذه الصلاة في الغصب أيضاً أمرها دائر بين الوجوب والحرمة، فعدم انطباق القاعدة عليها غير معلوم.

وقد علّل المصنّف(رحمة الله) عدم انطباق القاعدة على ما نحن فيه في الهامش بما لفظه: «فإنّ الترجيح به» أي: بضابط دفع المفسدة أولى «إنّما يناسب ترجيح المكلّف واختياره للفعل أو الترك بما هو أوفق بغرضه» فعند وجود المصلحة والمفسدة في كلّ من الفعل أو الترك يلزم ترجيح دفع المفسدة على جلب المنفعة و«لا» يناسب هذه القاعدة «المقام» الّذي نحن فيه «وهو» مقام«جعل الأحكام» من المولى «فإنّ المرجّح هناك ليس إلّا حسنها وقبحها العقليّان» إذ عند المولى لا يكون إلّا وجوب أو تحريم في المجمع لأجل الكسور والانكسار

واضمحلال أحدهما «لا موافقة الأغراض ومخالفتها، كما لا يخفى» ولكن

ص: 410

ولو سلّم فإنّما يُجدي في ما لو حصل القطع.

ولو سلّم أنّه يجدي ولو لم يحصل، فإنّما يجري في ما لا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو الاشتغال، كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيّين، لا في ما يجري، كما في محلّ الاجتماع؛

___________________________________________

«تأمّل» حتّى «تعرف» عدم صحّة هذا الفرق(1).

{ولو سلّم} أنّ مقامنا من صغريات القاعدة {فإنّما يجدي} التمسّك بقاعدة الأولويّة {في ما لو حصل القطع} بالأولويّة، وأمّا ما نحن فيه فإنّما يحصل الظنّ بها والأولويّة الظنيّة لا يصحّ الاعتماد عليها في الترجيح {ولو سلّم أنّه} أي: الظنّ بالأولويّة {يجدي} في مقام الترجيح {ولو لم يحصل} القطع {فإنّما يجري في ما لا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو الاشتغال} وقد مثّل لما لا يكون فيه مجال لأصالة البراءة والاشتغال بقوله: {كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيّين} مثل ما لو لم يعلم بحرمة صلاة الجمعة أو وجوبها، فإنّهلا مجال لأصل البراءة للعلم بالتكليف الإلزامي.

وإنّما تجري البراءة في ما لم يعلم بالإلزام أصلاً. وكذلك لا مجال لأصالة الاشتغال والاحتياط لعدم التمكّن من الموافقة القطعيّة، وإنّما يجري الاشتغال في ما يمكن فيه الموافقة القطعيّة، وحيث دار الأمر بين المحذورين بلا قاعدة شرعيّة في المقام فالعقل يحكم بالتخيير بين الفعل والترك ما لم يحتمل الأهميّة في أحد الطرفين، ولو احتملت بموافقة محتمل الأهميّة لدوران الأمر بين التعيين والتخيير.

فتحصّل: أنّ التقديم بالأولويّة الظنيّة إنّما يكون في ما لا يجري فيه الأصلان {لا في ما يجري، كما في محلّ الاجتماع} بين الصلاة والغصب.

ص: 411


1- راجع حاشية السّيّد الحكيم مدّ ظلّه، حقائق الأصول 1: 414؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 194.

لأصالة البراءة عن حرمته، فيحكم بصحّته، ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشّكّ في الأجزاء والشّرائط، فإنّه لا مانع عقلاً إلّا فعليّة الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلاً ونقلاً.

___________________________________________

قال السّيّد الحكيم: «والفرقُ بينه وبين مورد الدوران بين الوجوب والحرمة أنّه في ذلك المورد يعلم بثبوت أحد الحكمين واقعاً والشّكّ في الثّابت منهما، وفي المقام لا يعلم بذلك، بل يحتمل أن يكون أحدهما أقوى مقتضياً فيثبت، وأن يكونا متساويين فيسقطان معاً لعدم المرجّح، فحيث لم يعلم الإلزام كان احتمال ثبوت الحرمة لغلبة مقتضيها مجرى {لأصالة البراءة»(1) عن حرمته فيحكم بصحّته}.

إن قلت: أصالة البراءة عن الحرمة معارضة بأصالة عدم الوجوب، فتتساقطان ويكون المقام من باب الدوران لعدم جريان أصل معتبر فيه.قلت: لا معنى لأصالة عدم الوجوب؛ لأنّا نعلم بوجوب الصلاة تخييراً بين الأفراد، فتدبّر.

{و} إن قلت: {لو قيل بقاعدة الاشتغال في الشّكّ في الأجزاء والشّرائط} كان ما نحن فيه مجرى للاشتغال لا للبراءة، فاللّازم الحكم ببطلان الصلاة في المجمع.

قلت: فرق بين ما نحن فيه وبين الشّكّ في الأجزاء والشّرائط {فإنّه} في ما نحن فيه {لا مانع عقلاً} عن صحّة الصلاة {إلّا فعليّة الحرمة} للغصب {المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلاً ونقلاً} فلا مانع عن صحّة الصلاة، بخلاف الشّكّ في الجزئيّة والشّرطيّة فإنّ إجراء البراءة عن المشكوك لا يوجب العلم بصحّة باقي الأجزاء، فيلزم الإتيان بالجزء المحتمل تحصيلاً لليقين بالبراءة.

وبعبارة أُخرى: إنّه لو أجرينا البراءة في الجزء المشكوك لا نتيقّن بالصحّة لاحتمال أن يكون جزءاً واقعاً، بخلاف ما لو أجرينا البراءة عن الحرمة في المجمع

ص: 412


1- حقائق الأصول 1: 415.

نعم، لو قيل بأنّ المفسدة الواقعيّة الغالبة مؤثّرة في المبغوضيّة ولو لم يكن الغلبة بمحرزة، فأصالة البراءة غير مجدية، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب - لو كان عبادة - محكمةً، ولو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء والشّرائط؛ لعدم تأتّي قصدِ القربة مع الشّكّ في المبغوضيّة،

___________________________________________

فإنّه نتيقّن بالصحّة، إذ مع فرض الحرمة الواقعيّة لا تؤثّر في البطلان، فإنّ المانع من صحّة المجمع هي الحرمة الفعليّة ولا حرمة فعليّة حينئذٍ لفرض جريان البراءة، فتدبّر.{نعم، لو قيل بأنّ المفسدة الواقعيّة} في الغصب {الغالبة} على مصلحة الأمر {مؤثّرة في المبغوضيّة ولو لم يكن الغلبة بمحرزة} للفاعل {فأصالة البراءة غير مجدية} وفي صحّة العبادة المأتي بها {بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب - لو كان عبادة - محكّمة} فتكون الصلاة باطلة {ولو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء والشّرائط}.

إن قلت: إذا قلنا بأصالة البراءة في الشّكّ والأجزاء والشّرائط فلا وجه للقول بأصالة الاشتغال في الصلاة الواقعة في المغصوب، إذ هما من واد واحد.

قلت: فرق بينهما {لعدم تأتّي قصد القربة مع الشّكّ في المبغوضيّة} في الصلاة الواقعة في الغصب؛ لأنّه مع احتمال غلبة المفسدة كيف يتمكّن المكلّف من قصد القربة، بخلاف الشّكّ في الجزئيّة والشّرطيّة.

وبعبارة أوضح: الشّكّ في الجزئيّة مسبّب عن الشّكّ في تعلّق التكليف، فإذا ارتفع بالبراءة حكم بصحّة الصلاة، بخلاف الشّكّ في صحّة الصلاة النّاشئ عن الشّكّ في غلبة أيّ واحد من المفسدة والمصلحة، فإنّه لا مجال لإجراء البراءة عن المفسدة، وإذا بقي الشّكّ في غلبة المفسدة أو المصلحة لم يتمكّن المكلّف من قصد القربة.

ص: 413

فتأمّل.

___________________________________________

وهذا المقال يحتاج إلى تنقيح لا يسعه المقام، فإنّه قد يقال بأنّ صحة الصلاة وفسادها مبتنية على مسألة الشّكّ في الأقلّ والأكثر، وقد يقال بصحّة الصلاة مطلقاً ولو قيل في تلك المسألة بالاشتغال، وقد يقال ببطلان الصلاة ولو قيل هناك بالبراءة.

وللمصنّف(رحمة الله) تعليقة على قوله: «نعم، لو قيل» وهذا لفظه: «كما هوغير بعيد كلّه، بتقريب أنّ إحراز المفسدة والعلم بالحرمة الذاتيّة كافٍ في تأثيرها بما لها من المرتبة، ولا يتوقّف تأثيرها كذلك على إحرازها بمرتبتها، ولذا كان العلم بمجرّد حرمة شيء موجباً لتنجّز حرمته على ما هي عليه من المرتبة ولو كانت في أقوى مراتبها ولاستحقاق العقوبة الشّديدة على مخالفتها حسب شدّتها، كما لا يخفى.

هذا لكنّه إنّما يكون إذا لم يحرز أيضاً ما يحتمل أن يزاحمها ويمنع عن تأثيرها المبغوضيّة، وأمّا معه فيكون الفعل كما إذا لم يحرز أنّه ذو مصلحة أو مفسدة ممّا لا يستقلّ العقل بحسنه أو قبحه، وحينئذٍ يمكن أن يقال بصحّة عبادة لو أتى بها بداعي الأمر المتعلّق بما عليه من الطبيعة، بناءً على عدم اعتبار أزيد من إتيان العمل قُرْبِيّاً في العبادة وامتثالاً للأمر بالطبيعة وعدم اعتبار كونه ذاتاً راجحاً.

كيف ويمكن أن لا يكون جلّ العبادات ذاتاً راجحاً، بل إنّما يكون كذلك في ما إذا أتى بها على نحو قربيٍّ؟.

نعم، المعتبر في صحّة العبادة إنّما هو أن لا يقع منه مبغوضاً عليه، كما لا يخفى، وقولنا: {فتأمّل} إشارة إلى ذلك»(1)، انتهى.

وحاصله - بلفظ العلّامة المشكيني(رحمة

الله) - : «أنّ العبادة إنّما يشترط فيها عدم

ص: 414


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 201.

ومنها: الاستقراء، فإنّه يقتضي ترجيحَ جانب الحرمة على جانب الوجوب، كحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار، وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين.

___________________________________________

المبغوضيّة، وأمّا الحسن فعلاً أو ذاتاً فلا، إذ ربّما يتعلّق أمر عباديّ بشيء من دونرجحان في متعلّقه، لكون الغرض متعلّقاً بإتيانه بداعي الأمر، لا أنّ في الفعل مصلحة موجبة لحسنه ذاتاً أو فعلاً، والمبغوضيّة مقطوعة العدم بواسطة البراءة»(1)،

انتهى.

ولا يخفى أنّه لو تمّ ما ذكره المصنّف(رحمة الله) في الهامش يكون مؤيّداً للقول بصحّة العبادة في المجمع حتّى على القول بالاشتغال في الأقلّ والأكثر، ولكنّه غير تامّ.

{ومنها}: أي: من الأُمور الّتي ذكروها لترجيح النّهي على الأمر في المجمع {الاستقراء، فإنّه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب} فإنّه كلّما تتبّعنا كلمات الشّارع رأينا أنّه حرّم الفعل الّذي يدور أمره بين الوجوب والحرمة {كحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار} وهي الأيّام الّتي ترى المرأة الدم بعد تمام العادة قبل العشرة.

مثلاً: لو كانت عادة المرأة في كلّ شهر ثلاثة أيّام، ثمّ رأت الدم بعدها، فبين الثّلاثة والعشرة تسمّى بأيّام الاستظهار، وهذا الدم المرئي في أيّام الاستظهار إن تجاوز العشرة كان استحاضة وإن انقطع عليها كان حيضاً، فيدور أمر الصلاة في هذه الأيّام بين الحرمة، لاحتمال الحيضيّة، وبين الوجوب؛ لاحتمال الاستحاضيّة، والشّارع حكم بعدم الصلاة فيها، وهكذا غيرها من سائر أيّام الاستظهار.

{وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين} أحدهما طاهر والآخر نجس، فإنّ الشّارع أمر بإراقتهما مع انحصار الماء فيهما، والتيمّم للصلاة مع دوران الأمر بين

ص: 415


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 200.

وفيه: أنّه لا دليل على اعتبار الاستقراء ما لم يُفد القطع.ولو سلّم فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار.

ولوسلّم فليس حرمة الصلاة في تلك الأيّام، ولا عدمُ جواز الوضوء منهما مربوطاً بالمقام؛ لأنّ حرمة الصلاة فيها إنّما تكون لقاعدة الإمكان

___________________________________________

وجوب الوضوء مقدّمة للصلاة وحرمته لنجاسة الماء.

{وفيه أنّه لا دليل على اعتبار الاستقراء ما لم يفد القطع} بل الأدلّة النّاهية عن العمل على الظنّ تدلّ على حرمة الأخذ به.

{ولو سلّم} حجيّة الاستقراء ولو لم يفد القطع {فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار} إذ أقلّ ما يعتبر في الاستقراء ملاحظة غالب الجزئيّات حتّى نصل إلى حكم الكلّي، وفي ما نحن فيه ليس كذلك فإنّه لم نجد في الشّريعة إلّا هذين المثالين.

{ولو سلّم} أنّ الاستقراء يثبت ولو بملاحظة حال شيئين أو ثلاثة {ف-} نقول: لم نجد في ما بأيدينا من الأحكام حتّى مورداً واحداً دار أمره بين الوجوب والحرمة وقدّم الشّارع الحرمة، والمثالان المذكوران ليسا ممّا نحن فيه، إذ {ليس حرمة الصلاة في تلك الأيّام} أي: أيّام الاستظهار {ولا عدم جواز الوضوء منهما} أي: من الإناءين المشتبهين {مربوطاً بالمقام}.

أمّا مسألة ترك الصلاة في أيّام الاستظهار فلوجوه ثلاثة:

الأوّل: {لأنّ حرمة الصلاة فيها} أي: في أيّام الاستظهار {إنّما تكون لقاعدة الإمكان} وهي قاعدة مسلّمة في الفقه مدلول عليها بالأخبار، وهي: كلّما أمكن أن يكون حيضاً فهو حيض، فالحكمبترك الصلاة مستند إلى هذا الدليل فهو خارج عن محلّ الكلام، إذ محلّ الكلام ما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة الذاتيّة، مع عدم أمارة أو أصل في أحد الطرفين.

ص: 416

والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضاً، فيحكم بجميع أحكامه، ومنها حرمة الصلاة عليها، لا لأجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدّعى.

هذا لو قيل بحرمتها الذاتيّة في أيّام الحيض، وإلّا فهو خارج عن محلّ الكلام.

___________________________________________

{و} أيضاً يستند ترك الصلاة في بعض صور الاستظهار إلى {الاستصحاب} والقاعدة كليهما {المثبتين لكون الدم حيضاً} وإذا ثبت كون الدم حيضاً {فيحكم بجميع أحكامه، ومنها} أي: من تلك الأحكام {حرمة الصلاة عليها} أي: على الحائض.

والحاصل: أنّ ترك الصلاة في بعض صور أيّام الاستظهار مستند إلى القاعدة فقط كاستظهار المبتدئة، وفي بعض صورها يستند إلى استصحاب الحيض والقاعدة كليهما، كالاستظهار بعد العادة قبل العشرة، و{لا} يكون ترك الصلاة {لأجل تغليب جانب الحرمة} على جانب الوجوب {كما هو المدّعى}.

الثّاني: ما أشار إليه بقوله: {هذا لو قيل بحرمتها الذاتيّة في أيّام الحيض} بحيث تكون الصلاة فيها مثل سائر المحرّمات، كشرب الخمر ونحوه {وإلّا} نقل بحرمتها الذاتيّة بل قلنا بحرمتها التشريعيّة - بمعنى استناد العمل إلى أمر الشّارع - {فهو} أي: فهذاالمثال {خارج عن محلّ الكلام} لما تقدّم من أنّ الكلام في الحرمة الذاتيّة(1).

الثّالث: ما أشار إليه المشكيني(رحمة الله): «من أنّ وجوب ترك العبادة ليس أمراً مسلّماً، بل المشهور على استحباب الاستظهار في ما بعد أيّام العادة»(2)،

انتهى.

ص: 417


1- أي: إذا كانت حرمة صلاة الحائض حرمة تشريعيّة لا يدور حال الفعل بين الحرمة والوجوب، بل تكون في صورة عدم قصد التشريع بل قصد الاحتياط غير محرّم قطعاً، وفي صورة قصد التشريع غير واجب قطعاً، بل محرّم قطعاً؛ لأنّه نسبة ما لم يعلم أنّه من الشّارع إليه، فتدبّر جيّداً.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 203.

ومن هنا انقدح: أنّه ليس منه ترك الوضوء من الإناءين؛ فإنّ حرمة الوضوء من الماء النّجس ليس إلّا تشريعيّاً، ولا تشريع في ما لو توضّأ منهما احتياطاً، فلا حرمة في البين غُلّب جانبها. فعدم جواز الوضوء منهما ولو كذلك، - بل إراقتهما كما في النّصّ - ليس إلّا من باب التعبّد، أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب؛

___________________________________________

{ومن هنا} أي: ممّا ذكرنا أنّه إذا كانت الحرمة تشريعيّة، فهو خارج عن محلّ الكلام {انقدح} خروج مثال الإناءين المشتبهين عن محلّ الكلام، و{أنّه ليس منه} أي: من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة {ترك الوضوء من الإناءين} وقد بيّن وجه الانقداح بقوله: {فإنّ حرمة الوضوء من الماء النّجس ليس إلّا تشريعيّاً} إذ قصد التعبّد بالوضوء بالماء الّذي لم يعلم طهارته تشريع، بدليل أنّه إذا لم يقصد التعبّد لم يكن محرّماً قطعاً.{و} على هذا ف- {لا تشريع في ما لو توضّأ منهما احتياطاً} فلو قصد التشريع كان محرّماً قطعاً بلا وجوب أصلاً ولو لم يقصد التشريع وقصد الاحتياط لم يكن محرّماً {ف-} لا دوران بين الوجوب والحرمة، و{لا حرمة في البين غلب جانبها} على جانب الوجوب {فعدم جواز الوضوء منهما} أي: من الإناءين {ولو كذلك} أي: بقصد الاحتياط {بل إراقتهما} والتيمّم للصلاة {كما في النّصّ} وهو حديث سماعة وعمّار: قال عمّار: سُئل الصادق(علیه السلام) عن رجل معه إناآن فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو وليس يقدر على ماء غيرهما؟ قال(علیه السلام): «يهريقهما ويتيمّم»(1)،

{ليس إلّا من باب التعبّد} فهو خارج عن محلّ الكلام، لما تقدّم من أنّ الكلام في ما لم يكن أمارة أو أصل في أحد الطرفين {أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب} وإنّما قال: «ظاهراً» لأنّ الماء الأوّل لو كان نجساً واقعاً لم يكن في الواقع بدنه نجساً.

ص: 418


1- تهذيب الأحكام 1: 249.

للقطع بحصول النّجاسة حال ملاقاة المتوضّأ من الإناء الثّانية: إمّا بملاقاتها، أو بملاقاة الأُولى وعدم استعمال مطهّر بعدَه، ولو طهّر بالثّانية مواضع الملاقاة بالأُولى.

نعم، لو طهُرت - على تقدير نجاستها - بمجرّد ملاقاتها، - بلا حاجةٍ إلى التعدّد أو انفصال الغسالة - لا يعلم تفصيلاً بنجاستها،

___________________________________________

وأمّا وجه استصحاب النّجاسة فلما ذكره بقوله: {للقطع بحصول النّجاسة حال ملاقاة} بدن {المتوضّأ من الإناءالثّانية} فإنّه حين صبّ الماء على وجهه قبل انفصال الغسالة يقطع بنجاسة وجهه {إمّا بملاقاتها} أي: بملاقاة الإناء الثّانية {أو بملاقاة} الإناء {الأُولى وعدم استعمال مطهّر بعده}.

إن قلت: {ولو طهر بالثّانية مواضع الملاقاة بالأُولى} ثمّ توضّأ لم يكن له استصحاب النّجاسة، إذ الأمر دائر بين نجاسة الأُولى المرتفعة وبين نجاسة الثّانية المشكوك فيها، فلا يعلم بعد الوضوء بالماء الثّاني نجاسة بدنه.

قلت: لا فائدة في ذلك؛ لأنّه إذا توضّأ من أحدهما أوّلاً ثمّ غسل مواضع الوضوء بالثّاني، ثمّ توضّأ بما بقي من الإناء الثّاني، فعند غسل الموضع يحصل العلم بنجاسته، إمّا لنجاسة الماء الأوّل ولم يطهّر بعد لعدم حصول الطهارة بالماء القليل بمجرّد الصبّ، وإمّا لنجاسة الماء الثّاني، فاستصحاب النّجاسة المتيقّنة حال صبّ الماء الثّاني جارية من غير مزاحم.

{نعم، لو طهرت} مواضع الملاقاة بالإناء بالأُولى {- على تقدير نجاستها - بمجرّد ملاقاتها} أي: ملاقاة الإناء الثّانية {بلا حاجة إلى التعدّد أو انفصال الغسالة} كالماء الجاري، فإنّه حينئذٍ {لا يعلم تفصيلاً بنجاستها} أي: نجاسة الأعضاء؛ لأنّه حين ملاقاة الماء الأوّل لا يعلم بنجاسة الأعضاء، وحين ملاقاة الماء الثّاني يتردّد بين أمرين:

الأوّل: نجاسة المواضع بالماء الأوّل وطهرها بملاقاة الماء الثّاني.

ص: 419

وإن علم بنجاستها حين ملاقاة الأُولى أو الثّانية إجمالاً، ولا مجال لاستصحابها، بل كانت قاعدة الطهارة محكّمة.

الأمر الثّالث:

___________________________________________

الثّاني: طهارة المواضع حين استعمال الماء الأوّل ونجاستها بملاقاة الماء الثّاني، فلا يعلم تفصيلاً بعد الفراغ بنجاسة الأعضاء، إذ ليس هناك وقت تيقّن فيه بالنجاسة حتّى تستصحب، كما لا يخفى.

{وإن علم بنجاستها} أي: الأعضاء في أحد زمانين {حين ملاقاة الأُولى أو الثّانية إجمالاً} ولكن هذا العلم الإجمالي غير مثمر {ولا مجال لاستصحابها} أي: النّجاسة لما تقدّم من أنّه لم يكن وقت يعلم بنجاسة الأعضاء {بل كانت} حينئذٍ {قاعدة الطهارة محكّمة} فتأمّل.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه بعد هذا التفصيل في الجواب عن الاستقراء لم يأت بمقنع، إذ بعد تسليم ثبوت الاستقراء بهذا المقدار ليس ما ذكره المصنّف(رحمة الله) ردّاً لكلام المستدلّ؛ لأنّه ادّعى أنّه كلّما دار الأمر بين الوجوب والحرمة مطلقاً(1)

قدّم الشّارع الحرمة ولو بنصب أمارة، كقاعدة الإمكان أو النّصّ في المشتبه، فتدبّر.

[التنبيه الثّالث]

{الأمر الثّالث} ذكر العلّامة الرّشتي(رحمة الله) أنّ الأصوليّين قد عاملوا في مثل: (أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق) معاملة العموم من وجه مطلقاً من غير ابتناء له على امتناع الاجتماع، أو على عدم وجود المقتضي لأحد الحكمين، ويظهر من معاملتهم هذه أنّ أمثال ما ذكر خارج عن موضوع مسألة الاجتماع، ولعلّه لأجل توهّم أنّ مجرّد تعدّد الإضافة مع الاتحاد بحسب الحقيقة لا يوجب تعدّد العنوان، وموضوع مسألة الاجتماع ما كان كذلك، أي: يجب أن يكون فيه متعلّق

ص: 420


1- سواء كانت الحرمة تشريعيّة أم ذاتيّة، وسواء كان هناك أمارة أم لا.

الظاهر لحوق تعدّد الإضافات بتعدّد العنوانات والجهات، في أنّه لو كان تعدّد الجهة والعنوان كافياً - مع وحدة المعنون وجوداً - في جواز الاجتماع، كان تعدّد الإضافات مجدياً؛ ضرورة أنّه يوجب أيضاً اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة، والحسن والقبح عقلاً، وبحسب الوجوب والحرمة شرعاً.

فيكون مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق) من باب الاجتماع، ك- (صلّ) و(لا تغضب)،

___________________________________________

الأمر والنّهي متعدّداً بحسب العنوان، كالصلاة والغصب، وإن كان بينهما عموم مطلق، كالحركة وعدم التداني إلى دار كذا(1)،

فأشار المصنّف(رحمة الله) إلى فساد هذا التوهّم بقوله: {الظاهر} من سوق كلام القوم في الاستدلال لجواز الاجتماع وامتناعه {لحوق تعدّد الإضافات} كالإكرام المضاف إلى العالم تارةً، وإلى الفاسق أُخرى {بتعدّد العنوانات} كالصلاة والغصب {والجهات} عطف بيان للعنوانات {في أنّه لو كان تعدّد الجهة والعنوان كافياً مع وحدة المعنون وجوداً في جواز الاجتماع} بين الأمر والنّهي {كان تعدّد الإضافات مجدياً} أيضاً في اجتماع الأمر والنّهي {ضرورة أنّه} كما يوجب تعدّد العنوان اختلاف المعنون بحسب المصلحة والمفسدة كذلك {يوجب} تعدّد الإضافة {أيضاً اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة} فكما أنّ الأكوان الخاصّة بما هي صلاة تكون ذات مصلحة، وبما هي غصب تكون ذات مفسدة، كذلك إكرام الرّجل الخاصّ، كزيد - مثلاً - بما هو مضاف إلى العالم يكون ذا مصلحة، وبما هومضاف إلى الفاسق يكون ذا مفسدة.

{و} على هذا يختلف بحسب {الحسن والقبح عقلاً} فهو حسن من جهة وقبيح من جهة {وبحسب الوجوب والحرمة شرعاً، فيكون مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق) من باب الاجتماع ك- (صلّ) و(لا تغصب)} فالعالم الفاسق مجمع لوجوب

ص: 421


1- شرح كفاية الأصول 1: 250.

لا من باب التعارض، إلّا إذا لم يكن للحكم في أحد الخطابين في مورد الاجتماع مقتض، كما هو الحال أيضاً في تعدّد العنوانين.

في ما يتراءى منهم - من المعاملة مع مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفُسّاق) معاملة تعارُضِ العموم من وجه - إنّما يكون بناءً على الامتناع، أو عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

___________________________________________

الإكرام لإضافته إلى العالم، ولحرمة الإكرام لإضافته إلى الفاسق، كالصلاة في المغصوب طابق النّعل بالنعل {لا من باب التعارض} أي: لا يكون مورد اجتماع العلم والفسق من باب التعارض حتّى يرجع فيه إلى مرجّحات هذا الباب، بل من باب التزاحم لوجود الملاكين: ملاك وجوب الإكرام، وملاك حرمته، وحين كان من باب التزاحم فإن قلنا بجواز الاجتماع فهو، وإلّا فاللّازم الرّجوع إلى مرجّحات باب التزاحم {إلّا إذا لم يكن للحكم في أحد الخطابين} خطاب (أكرم) وخطاب (لا تكرم) {في مورد الاجتماع مقتض} اسم «لم يكن»، فاللّازم حينئذٍ الرّجوع إلى مرجّحات باب التعارض {كما هو الحال أيضاً في تعدّد العنوانين}.

فإنّه لو لم يكن لأحد الحكمين ملاك كان المرجع مرجّحات باب التعارض من غير فرق بين الاجتماعي والامتناعي، وإن كان لكليهما ملاك فالاجتماعييحكم بحرمته ووجوبه والامتناعي لا بدّ وأن يرجع إلى مرجّحات باب التزاحم {في ما يتراءى منهم} أي: من العلماء {من المعاملة مع مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق) معاملة تعارض العموم من وجه} من إعمال المرجّحات {إنّما يكون بناءً على الامتناع، أو} على الجواز مع {عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع}.

وأمّا بناءً على الجواز مع وجود المقتضي لكلا الحكمين، فلا تعارض في البين، واللّه سبحانه العالم.

ص: 422

فصل: في أنّ النّهي عن الشّيء هل يقتضي فساده أم لا؟

وليقدّم أُمور:

الأوّل: إنّه قد عرفت في المسألة السّابقة الفرق بينها وبين هذه المسألة، وأنّه لا دخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما بما هو جهة البحث في الأُخرى، وأنّ البحث في هذه المسألة في دلالة النّهي - بوجه يأتي تفصيله - على الفساد، بخلاف تلك المسألة، فإنّ البحث فيها في أنّ تعدّد الجهة يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنّهي في مورد الاجتماع أم لا؟

___________________________________________

[فصل في أنّ النّهي عن الشّيء هل يقتضي فساده أم لا؟]

اشارة

المقصد الثّاني: في النواهي، النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا

{فصل: في أنّ النّهي عن الشّيء هل يقتضي فساده أم لا؟} مثلاً: لو قال: (لا تصلّ في النّجس) فلو صلّى هل تكون صلاته باطلة أم لا؟

{وليقدّم أُمور} مهمّة:

[الأمر الأوّل]

الأمر {الأوّل: أنّه قد عرفت في المسألة السّابقة} أي: مسألة اجتماع الأمر والنّهي {الفرق بينها وبين هذه المسألة} أي: مسألة أنّ النّهي هل يقتضي الفساد أم لا؟ {و} ذلك لما تقدّم من {أنّه} تتعدّد المسألة بتعدّد الجهة، وما نحن فيه كذلك، إذ {لا دخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما بما هو جهة البحث في الأُخرى، وأنّ البحث في هذه المسألة} بعد تسليم تعلّق النّهي بمتعلّق الأمر {في دلالة النّهي بوجهٍ يأتي تفصيله} في المقام الأوّل والمقام الثّاني {على الفساد بخلاف تلك المسألة، فإنّ البحث فيها في أنّ تعدّد الجهة} بأن كان جهة تعلّق الأمر غير جهة تعلّق النّهي {يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنّهي} بحيث لا يلزم اجتماع الضدّين {في مورد الاجتماع} كالصلاة في الغصب {أم لا} يجدي؟ فالكلام في اجتماع الأمر والنّهي في أصل إمكان التعلّق، وفي مسألتنا في أنّه بعد التعلّق يكون الشّيء فاسداً أم لا؟

ص: 423

الثّاني: أنّه لا يخفى أنّ عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ، إنّما هو لأجل أنّه في الأقوال قولٌ بدلالته على الفساد في المعاملات، مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة الّتي هي مفاده فيها.

ولا ينافي ذلك: أنّ الملازمة على تقدير ثبوتها في العبادة إنّما تكون بينه وبين الحرمة ولو لم تكن مدلولة بالصيغة، وعلى تقدير عدمها

___________________________________________

[الأمر الثّاني]

الأمر {الثّاني: أنّه لا يخفى أنّ} إمكان {عدّ هذه المسألة} عقليّة بملاحظة أنّ النّزاع فيها في أنّه هل يكون تلازم بين الحرمة والفساد مطلقاً، أم لا يكون تلازم مطلقاً، أم يكون التلازم في العبادات لا في المعاملات، ولا فرق في ما ذكر بين استفادة النّهي من اللفظ أو من غيره، وأمّا عدّ المسألة {من مباحث الألفاظ} ف- {إنّما هو لأجل أنّه في الأقوال قول بدلالته} أي: النّهي {على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه} أي: بين الفساد {وبين الحرمة الّتي هي} أي: الحرمة {مفاده} أي: مفاد النّهي {فيها} أي: في المعاملات.

ومن المعلوم أنّ محلّ النّزاع على هذا القول في دلالة النّهي وعليه تكون المسألة لفظيّة، فاللّازم جعل المسألة بحيث تجري فيها الأقوال.

والحاصل: أنّ من ينكر الملازمة ويقول بدلالة النّهي لفظاً على الفساد معدود في القائلين بالإثبات، ولو كان مدار البحث إثباتاً ونفياً هو الملازمة، فاللّازم عدّ هذا القائل من النّافين، ولكن لا يخفى أنّ عدّ المسألة لفظيّة يوجب الاستطراد في ما إذا استفاد النّهي من إجماع ونحوه ولا وجه له.

{و} إن قلت: {لا} يمكن تخصيص المسألة بباب الألفاظ؛ لأنّه {ينافي ذلك} أي: ينافي عدّ المسألة من باب الألفاظ {أنّ الملازمة على تقدير ثبوتها في العبادة إنّما تكون بينه} أي: بين الفساد {وبين الحرمة، ولو لم تكن مدلولة بالصيغة وعلى تقدير عدمها}

ص: 424

تكون منتفية بينهما؛ لإمكان أن يكون البحث معه في دلالة الصيغة بما تعمّ دلالتها بالالتزام، فلا يقاس بتلك المسألة الّتي لايكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

أي: عدم الملازمة {تكون} الملازمة {منتفية بينهما} أي: بين الفساد والحرمة.

والحاصل: أنّه في المعاملات يوجد قول بعدم الملازمة بين الحرمة والفساد وإنّما النّهي اللفظي يدلّ على الفساد، وأمّا في العبادات فنظر العلماء إلى الملازمة بين الحرمة والفساد وإن استفيدت الحرمة من غير اللفظ، فكيف يمكن تخصيص المسألة بباب الألفاظ.

وبعبارة أُخرى: مدار الكلام في العبادة على وجود الملازمة وعدمها، فكيف تكون المسألة من باب الألفاظ؟

قلت: لا تنافي بين كون النّزاع في العبادة من جهة الملازمة وبين عدّ المسألة لفظيّة {لإمكان أن يكون البحث معه} أي: مع القائل بدلالة لفظ النّهي للفساد في المعاملة وإن لم تكن ملازمة {في دلالة الصيغة بما} أي: بنحو {تعمّ دلالتها بالالتزام} فالنزاع في اللفظ وأنّه هل للفظ دلالة - ولو التزاميّة ناشئة من الملازمة العقليّة - على الفساد أم لا؟ وعلى هذا فتجتمع الأقوال: فالعلماء يقولون بوجود الدلالة الالتزاميّة في العبادات، وهذا القائل يقول بعدمها ويدّعي الدلالة في المعاملات لا بنحو الالتزام، فتدبّر.

وكيف كان {فلا يقاس} مسألة اقتضاء النّهي للفساد الممكن عدّها لفظيّة {بتلك المسألة} أي: مسألة اجتماع الأمر والنّهي {الّتي} كان الكلام فيها في إمكان الاجتماع وعدمه عقلاً، بحيث {لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس} أصلاً {فتأمّل جيّداً} حتّى تعرف أنّه يمكن عقد مسألة الاجتماع لفظيّة أيضاً.

ص: 425

الثّالث: ظاهر لفظ النّهي وإن كان هو النّهي التحريمي، إلّا أنّ ملاك البحث يعمّ التنزيهي. ومعه لا وجه لتخصيص العنوان. واختصاص عموم ملاكه بالعبادات

___________________________________________

[الأمر الثّالث]

الأمر {الثّالث}: في بيان أمرين:

الأوّل: أنّ النّهي الّذي هو محلّ الكلام أعمّ من النّهي التحريمي الدالّ على حرمة الشّيء والنّهي التنزيهي الدالّ على مرجوحيّه الشّيء بدون الحرمة، خلافاً للمحكي عن التقريرات من تخصيصه النّزاع بالتحريمي(1).

الثّاني: أنّ النّهي في محلّ الكلام أعمّ من النّفسي ومن الغيري، والغيري أعمّ من التبعي والأصلي، خلافاً لما عن القوانين(2) حيث ذهب إلى عدم اقتضاء التبعي للفساد قطعاً، فلا يكون داخلاً في محلّ النّزاع.

وكيف كان فنقول: {ظاهر لفظ النّهي وإن كان هو النّهي التحريمي} لتبادر التحريمي من النّهي عند الإطلاق، كما عرفت سابقاً {إلّا أنّ ملاك البحث} أي: الجهه المقصودة بالبحث، وهي منافاة النّهي للصحّة {يعمّ التنزيهي} فإنّ النّهي التنزيهي يدلّ على المرجوحيّة، والعبادة لا يعقل أن تكون مرجوحة، فالنهي عنها يكشف عن فسادها، وقد تقدّم أنّ عموم البحث وخصوصه دائر مدار الملاك لا مدار العنوان {ومعه} أي: مع كون الملاك أعمّ {لا وجه لتخصيص العنوان} بالنهي التحريمي فقط.

{و} إن قلت: لا وجه لتعميم النّهي حتّى يشمل التنزيهي {اختصاصعموم ملاكه} أي: ملاك البحث {بالعبادات} فقط.

وبعبارة أوضح: إنّ النّهي على قسمين كما تقدّم، والمنهي عنه على قسمين

ص: 426


1- مطارح الأنظار 1: 728.
2- قوانين الأصول 1: 102.

لا يوجب التخصيص به، كما لا يخفى.

كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي، فيعمّ الغيري إذا كان أصليّاً. وأمّا إذا كان تبعيّاً فهو وإن كان خارجاً عن محلّ البحث - ؛ لما عرفت أنّه

___________________________________________

العبادة والمعاملة، فالأقسام أربعة:

الأوّل: العبادة المنهي عنها بالتحريمي.

الثّاني: العبادة المنهي عنها بالتنزيهي.

الثّالث: المعاملة المنهي عنها بالتحريمي.

الرّابع: المعاملة المنهي عنها بالتنزيهي.

ومنافاة النّهي التنزيهي للصحّة إنّما هي في العبادة، وأمّا المعاملة فلا، إذ المعاملة المكروهة صحيحة قطعاً، فالنزاع في التنزيهي خاصّ بالعبادة.

وعليه فالأولى أن نقول بكون المراد من النّهي، التحريمي فقط حتّى يعمّ النّزاع المعاملة والعبادة.

قلت: اختصاص عموم الملاك بالعبادة {لا يوجب التخصيص} أي: تخصيص النّهي {به} أي: بالنّهي التحريمي {كما لا يخفى} إذ اللّازم التكلّم في جميع أنحاء النّهي عن العبادة تحريميّاً كان أم تنزيهيّاً {كما لا وجه لتخصيصه} أي: تخصيص النّهي {بالنفسي} وإن كان ظاهر النّهي النّفسي {فيعمّ الغيري إذا كان أصليّاً} أي: مدلولاً للخطاب، كأن يقول: (لا تصلّ في المسجد إذا رأيت النّجاسة فيه) بحيثكان النّهي غيريّاً مقدّمة للإزالة الواجبة. وإنّما قلنا بتعميم النّهي بالنسبة إلى الغيري لما تقدّم من عموم الملاك وإنّه هل ينافي النّهي الغيري الصحّة أم لا؟

{وأمّا إذا كان} النّهي الغيري {تبعيّاً} بأن لم يكن مدلولاً للخطاب، بل لازم للمراد باللزوم العقلي، كما لو أمر بإزالة النّجاسة وقلنا: إنّ من مقدّماته ترك الصلاة، فتكون الصلاة منهيّاً عنها تبعاً {فهو وإن كان خارجاً عن محلّ البحث، لما عرفت أنّه}

ص: 427

في دلالة النّهي، والتبعي منه من مقولة المعنى - ، إلّا أنّه داخل في ما هو ملاكه؛ فإنّ دلالته على الفساد - على القول به في ما لم يكن للإرشاد إليه - إنّما يكون لدلالته على الحرمة، من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك، كما توهّمه القمّي(1).

___________________________________________

أي: البحث {في دلالة النّهي} على الفساد {والتبعي منه} من النّهي، أي: النّهي التبعي {من مقولة المعنى} المستفاد من حكم العقل، ولا نهي هناك لفظاً حتّى يدلّ على الفساد مثلاً {إلّا أنّه} أي: التبعي {داخل في ما هو ملاكه} أي: ملاك البحث، لما تقدّم من أنّ ملاك المسألة أنّه هل ينافي النّهي الصحّة، أم لا؟

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) علّل(2) دخول التبعي ملاكاً بقوله: {فإنّ دلالته} أي: النّهي {على الفساد على القول به} أي: بكون النّهي مفيداً للفساد {في ما لم يكن للإرشادإليه} أي: إلى الفساد(3)

{إنّما يكون لدلالته على الحرمة} والحرمة موجودة في النّهي الغيري التبعي، كما هي موجودة في النّفسي {من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك} أي: في الدلالة على الفساد، حتّى قال: إنّ العقوبة منتفية في النّهي التبعي، فلا يكون داخلاً في محلّ النّزاع.

والحاصل: أنّ مدار النّزاع على التحريم وهو موجود في التبعي، وليس مدار النّزاع على العقوبة حتّى يخرج التبعي {كما توهّمه} المحقّق {القمّي} حيث حكي عنه عدم دلالة النّهي التبعي على الفساد، كما تقدّم.

ص: 428


1- قوانين الأصول 1: 102.
2- هذا المعنى موافق لبعض الحواشي مخالف لبعضها الآخر.
3- قال السّيّد الحكيم: «أمّا لو كان إرشاداً إلى الفساد كالنواهي الواردة في مقام بيان شرح الماهيّات بشروطها وموانعها فدلالته على الفساد ممّا لا كلام فيها وإلّا كان خلفاً». حقائق الأصول 1: 423.

ويؤيّد ذلك: أنّه جُعل ثمرة النّزاع في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه: فسادُه إذا كان عبادةً، فتدبّر جيّداً.

الرّابع: ما يتعلّق به النّهيُ: إمّا أن يكون عبادة أو غيرَها. والمراد بالعبادة هاهنا ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له - تعالى - ، موجباً بذاته للتقرّب من حضرته - لولا حرمته - ،

___________________________________________

{ويؤيّد ذلك} أي: كون النّهي التبعي داخلاً في كلام الأعلام {أنّه جعل ثمرة النّزاع في} مسألة {أنّ الأمر بالشيء يقتضي النّهي عن ضدّه} أم لا {فساده إذا كان} المنهي عنه {عبادة}.

وجه التأييد: أنّ النّهي المتوجّه إلى الصلاة في ما إذا أمر بالإزالة نهي تبعي،ومع ذلك حكم العلماء باقتضائه فساد الصلاة على القول باقتضاء النّهي للفساد.

ولو كان مدار النّزاع في الفساد وعدمه على العقوبة - كما زعمه القمّي - لم يكن وجه لبطلان الصلاة، إذ النّهي المتوجّه إليها ليس موجباً للعقوبة؛ لأنّه نهي غيري وهو لا يوجب العقوبة {فتدبّر جيّداً} وقس على ما ذكر سائر أقسام النّهي من العيني والكفائي والتعييني والتخييري وغيرهما، فكلّما كان ملاك البحث موجوداً جرى فيه النّزاع وكلّما لم يكن فيه الملاك موجوداً لم يجر فيه النّزاع.

[الأمر الرّابع]

الأمر {الرّابع}: أنّ {ما يتعلّق به النّهي إمّا أن يكون عبادة أو غيرها} من المعاملات وغيرها {والمراد بالعبادة هاهنا} أحد الأمرين:

الأوّل: {ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له - تعالى -} سواء أمر به أو نهى عنه أم لا؟ نعم، يكون {موجباً بذاته للتقرّب من حضرته لولا حرمته} فإنّ القرب يدور مدار المحبوبيّة، فلا يكون التقرّب بشيء محرّم مبغوض.

والحاصل: أنّ الحرمة مانعة عن التقرّب، وأمّا عن صدق العبادة فلا، وذلك

ص: 429

كالسجود والخضوع والخشوع له وتسبيحه وتقديسه، أو ما لو تعلّق الأمر به كان أمره أمراً عباديّاً، لا يكاد يسقط إلّا إذا أتى به بنحو قربيّ، كسائر أمثاله، نحو صوم العيدين والصلاة في أيّام العادة. لا ما أمر به لأجل التعبّد به، ولا ما يتوقّف صحّته على النّيّة، ولا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء - كما عرّف بكلّ منها العبادة - :

___________________________________________

{كالسجود والخضوع والخشوع له} تعالى {وتسبيحه وتقديسه، أو} نحو ذلك.

الثّاني: العبادة التعليقيّة واللولائيّة وهي الّتي {ما لو تعلّق الأمر به كان أمره أمراً عباديّاً} بحيث {لا يكاد يسقط} الأمر {إلّا إذا أتى به بنحو قربيّ ك-} ما هو الحال في {سائر أمثاله} - أعني: العبادات - فإنّها لا يسقط الأمر المتعلّق بها إلّا إذا أتى بنحو قربي، فمعنى النّهي عن العبادة في هذا القسم النّهي عن شيء لو تعلّق الأمر به لكان عبادة، وذلك {نحو صوم العيدين} الفطر والأضحى {والصلاة في أيّام العادة} فإنّها لو أمر بها كانت عبادة، والمراد بالصلاة المجموع من حيث المجموع وإلّا فبعض أجزائها داخل في القسم الأوّل الّذي هو عبادة بنفسه وعنوانه كالسجود، كما تقدّم.

والحاصل: أنّه لا بدّ أن يراد بالعبادة في هذا المقام العبادة الذاتيّة أو التقديريّة حتّى يصحّ تعلّق النّهي بها مع كونها عبادة، وإلّا فلو لم يقصد هذان لم يصحّ تعلّق النّهي مع فرض عباديّتها.

و{لا} يمكن أن يكون المراد بالعبادة {ما أمر به لأجل التعبّد به} كما عن تقريرات الشّيخ(1)

{ولا ما يتوقّف صحّته على النّيّة} كما عن غير واحد {ولا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء} كما عن صاحب القوانين(2)

{كما عرّف بكلّ منها} أي: من هذه التعاريف{العبادة} وإنّما لا يصحّ تعريفها بتلك التعاريف

ص: 430


1- مطارح الأنظار 1: 729.
2- قوانين الأصول 1: 154.

ضرورةَ أنّها بواحدٍ منها لا يكاد يمكن أن يتعلّق بها النّهي.

مع ما أُورد عليها بالانتقاض طرداً أو عكساً، أوبغيره - كما يظهر من مراجعة المطوّلات - .

___________________________________________

{ضرورة أنّها} أي: العبادة {بواحد منها} أي: من هذه التعريفات {لا يكاد يمكن أن يتعلّق بها النّهي} إذ لا يصدق شيء من هذه التعريفات على الصلاة في حال الحيض وأمثالها ممّا نهي عنها.

أمّا التعريف الأوّل: فلأنّه لم يأمر بالصلاة في الحيض حتّى يصدق عليها أنّها ممّا أمر بها لأجل التعبّد.

وأمّا التعريف الثّاني: فلأنّ المراد بالنيّة قصد القربة ولا يمكن قصد القربة بالصلاة في حال الحيض.

وإن شئت قلت: المراد بالنيّة قصد امتثال الأمر، وهو فرع تحقّق الأمر وحيث لا أمر لا تصحّ النّيّة فلا تصدق العبادة.

وأمّا التعريف الثّالث: فلأنّ عدم العلم بانحصار المصلحة فرع المصلحة، والصلاة في حال الحيض لا مصلحة فيها أصلاً، بل الموجود فيها هو المفسدة فقط، فكيف ينطبق عليها هذا التعريف؟

فتحصّل: أنّ هذه التعريفات لا تشمل ما نحن فيه {مع ما أُورد عليها بالانتقاض طرداً أو عكساً أو بغيره} أي: غير الانتقاض، والمراد به الدور {كما يظهر من مراجعة المطوّلات}.

أمّا التعريف الأوّل: فلما ذكره السّيّد الحكيم من «شموله لجميع الواجباتالتّوصليّة، إذ كلّ أمر بشيء ليس الغرض منه إلّا التحريك إلى متعلّقه وهو عين التعبّد خارجاً، وسقوط الأمر في التوصليّات بمجرّد حصول الفعل - ولولا بداعي الامتثال - لا ينافي ذلك، كما لعلّه ظاهر في التأمّل»(1)،

انتهى.

ص: 431


1- حقائق الأصول 1: 425.

وان كان الإشكال بذلك فيها في غير محلّه؛ لأجل كون مثلها من التعريفات ليس بحدٍّ ولا برسمٍ، بل من قبيل شرح الاسم، كما نبّهنا عليه غير مرّة، فلا وجه لإطالة الكلام بالنقض والإبرام في تعريف العبادة، ولا في تعريف غيرها كما هو العادة.

___________________________________________

وأمّا التعريف الثّاني: فلما ذكره في التقريرات(1) بأنّ الصحّة إن كان المراد بها الامتثال فيدخل جميع أفراد العبادة بالمعنى الأعمّ، وإن كان المراد بها ما يوجب سقوط الفعل ثانياً، فيخرج العبادات الّتي لا يجب فعلها ثانياً، ولو فرض اشتماله لها بنوع من العناية.

ويرد عليه الدور أيضاً، وحاصله: أنّ معرفة العبادة موقوفة على معرفة الصحّة - لوقوعها جزءاً لحدّها - ومعرفة الصحّة موقوفة على معرفة العبادة - لأنّ الصحّة في العبادات معناها سقوط القضاء - .

وأمّا التعريف الثّالث: فلما ذكره في التقريرات بقوله: «واعترض عليه بعض الأجلّة - وهو صاحب الفصول كما حكي - تارة بانتقاض طرده بتوجيه الميّت إلى القبلة، فإنّه ليس من العبادات قطعاً، مع أنّ مصلحة الفعل المأمور به غير معلوم انحصارها في شيء، وأُخرى بانتقاض عكسه بنحو الوضوء، فإنّ مصلحته معلومة - وهي الطهارة لأجل الدخول في المشروط بها - مع أنّه من العبادات قطعاً»(2).{وإن كان الإشكال بذلك} أي: الانتقاض وغيره {فيها} أي: في هذه التعريفات {في غير محلّه، لأجل كون مثلها من التعريفات ليس بحدّ ولا برسم، بل من قبيل شرح الاسم} الّذي هو تبديل لفظ بلفظ أقرب إلى الذهن {كما نبّهنا عليه غير مرّة} فيجوز أن يكون بالأعم والأخص، ولا يجب مراعاة شرائط الحدود {فلا وجه لإطالة الكلام، بالنقض والإبرام في تعريف العبادة، ولا في تعريف غيرها كما هو العادة} ولكن

ص: 432


1- مطارح الأنظار 1: 729.
2- مطارح الأنظار 1: 730.

الخامس: أنّه لا يدخل في عنوان النّزاع إلّا ما كان قابلاً للاتّصاف بالصحّة والفساد، بأن يكون تارة تامّاً، يترتّب عليه ما يترقّب عنه من الأثر، وأُخرى لا كذلك؛ لاختلال بعض ما يعتبر في ترتّبه.

أمّا ما لا أثر له شرعاً، أو

___________________________________________

لا يخفى أنّ جريان ديدن القوم على النّقض والإبرام في التعريفات يدلّ على كونهم بصدد بيان الحدّ الحقيقي، وإلّا لما هدموا تعريفات من قبلهم وبنوا أساساً جديداً، مع أنّ للمحقّق الشّيخ محمّد حسين الإصفهاني(رحمة الله) كلاماً في هذا الباب مرتبطاً ب- (ما) الشّارحة والحقيقيّة(1)، لا مجال لذكره.

[الأمر الخامس]

الأمر {الخامس}: أنّ الأشياء على قسمين:

الأوّل: ما يكون أمره دائراً بين الوجود والعدم، فيؤثّر كلّما وجد ولا يؤثّر كلّما عدم، بحيث لا يعقل فيها الصحّة والفساد، مثلاً الملكيّة إمّا موجودة أو معدومةولا يعقل ملكيّة صحيحة أو فاسدة وهكذا الزوجيّة وأنحاؤها.

الثّاني: ما يتصوّر فيه الصحّة والفساد كالمركّبات، فإنّ للموجود منها قسمين صحيح وفاسد، كالبيع، فإنّه إن اجتمع شرائطه كان صحيحاً وإلّا كان فاسداً.

إذا عرفت ما ذكرنا قلنا {إنّه لا يدخل في عنوان النّزاع} - أعني: قولنا: «النّهي عن الشّيء يقتضي الفساد» - {إلّا ما كان قابلاً للاتصاف بالصحّة والفساد، بأن يكون} من القسم الثّاني {تارة تامّاً يترتّب عليه ما يترقّب عنه من الأثر} بيان «ما» {وأُخرى لا} يترتّب عليه ما يترقّب عنه من الأثر {كذلك} وعدم الترتّب {لاختلال بعض ما يعتبر في ترتّبه} من الشّرائط والأجزاء.

{أمّا ما لا أثر له شرعاً} أصلاً كالغلبة في باب القمار {أو} كان من القسم الأوّل،

ص: 433


1- نهاية الدراية 1: 326.

كان له أثره ممّا لا يكاد ينفكّ عنه - كبعض أسباب الضمان - فلا يدخل في عنوان النّزاع؛ لعدم طروّ الفساد عليه، كي ينازع في أنّ النّهي عنه يقتضيه أو لا.

فالمراد بالشيء - في العنوان - هو: العبادة بالمعنى الّذي تقدّم، والمعاملة بالمعنى الأعمّ، ممّا يتّصف بالصحّة والفساد، عقداً كان أو إيقاعاً أو غيرهما، فافهم.

السّادس:

___________________________________________

بأن {كان أثره ممّا لا يكاد ينفكّ عنه} إذا وجد {كبعض أسباب الضمان} كإتلاف مال الغير والغصب {فلا يدخل في عنوان النّزاع} وذلك {لعدم طروّ الفساد عليه} أصلاً {كي ينازع في أنّ النّهي عنهيقتضيه} أي: الفساد {أو لا، فالمراد بالشيء في العنوان} أعني: قولنا: «النّهي عن الشّيء» {هو العبادة بالمعنى الّذي تقدّم} في الأمر الرّابع {والمعاملة بالمعنى الأعمّ} الشّامل للصحيح والفاسد - أعني: كلّ أمر يترتّب عليه الأثر لو اجتمع فيه الشّرائط - {ممّا يتّصف بالصحّة} تارة {والفساد} أُخرى {عقداً كان} كالبيع {أو إيقاعاً} كالطلاق {أو غيرهما} كالرضاع، فإنّ صحيحه ما يترتّب عليه الحرمة وفاسده ما لا يترتّب، كما أنّ البيع صحيحه ما يترتّب عليه الملك وفاسده ما لا يترتّب {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ هناك قسماً ثالثاً يصحّ اتصافه بالصحّة والفساد باعتبارٍ، وإن لم يصحّ اتصافه بهما باعتبارٍ آخَرَ، وذلك مثل الشّيء الّذي لو أمر به لصحّ اتصافه بالعباديّة، فإنّه باعتبار أثره التعبّدي يتصف بهما وباعتبار أثره التوصلي لا يتصف بهما - بالصحّة والفساد - بل بالوجود مرّة والعدم أُخرى.

[الأمر السّادس]

الأمر {السّادس}: في بيان معنى الصحّة والفساد وأنّ مفهومهما بالنسبة إلى العبادة والمعاملة واحد، وإنّما الاختلاف في المصاديق فنقول:

ص: 434

أنّ الصحّة والفساد وصفان إضافيّان، يختلفان بحسب الآثار والأنظار، فربّما يكون شيء واحد صحيحاً بحب أثر أو نظر، وفاسداً بحسب آخر.

ومن هنا صحّ أن يقال: إنّ الصحّة في العبادة والمعاملة لا تختلف، بل فيهما بمعنى واحد - وهو التماميّة - وإنّما الاختلاف في ما هو المرغوب منهما، من الآثار الّتي بالقياس عليها تتصفبالتماميّة وعدمها.

___________________________________________

{إنّ الصحّة والفساد وصفان إضافيّان} كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما {يختلفان بحسب الآثار والأنظار، فربّما يكون شيء واحد صحيحاً بحسب أثر أو نظر، وفاسداً بحسب} نظر أو أثر {آخر}.

مثلاً: العقد بالفارسي صحيحٌ بنظر فقيهٍ وفاسدٌ بنظر فقيهٍ، وكذلك الصوم الّذي أفطر فيه في بعض الصور، فاسد بحسب القضاء فيحتاج إليها، وصحيح بحسب الكفّارة فلا يحتاج إليها، فإنّ الصحيح المطلق ما لا يحتاج إليهما والفاسد المطلق ما يحتاج إليهما، كما لا يخفى. والحاصل: أنّهما ليسا من الأُمور الخارجيّة المتأصّلة وإلّا لم يعقل الاختلاف.

{ومن هنا} الّذي ذكرنا من كونهما إضافيّين {صحّ أن يقال: إنّ الصحّة في العبادة والمعاملة لا تختلف} مفهوماً {بل فيهما بمعنى واحد - وهو التماميّة -} فصحّة العبادة بمعنى تماميّتها، كما أنّ صحّة المعاملة بمعنى تماميّتها، وكذلك في جانب الفساد {وإنّما الاختلاف} بين العبادة والمعاملة {في} المصداق - أعني: {ما هو المرغوب منهما من الآثار الّتي بالقياس عليها} أي: على تلك الآثار - {تتصف بالتماميّة وعدمها} ففي العبادات تكون الصحّة عبارة عن حصول الامتثال وسقوط القضاء والكفّارة، وفي المعاملات عن حصول الأثر المطلوب، كالزوجيّة في النّكاح، والانتقال في البيع، وقطع العلقة في الطلاق، وهكذا.

ص: 435

وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلّم في صحّة العبادة إنّما يكون لأجل الاختلاف في ما هو المهمّ لكلٍّ منهما من الأثر - بعدالاتّفاق ظاهراً على أنّها بمعنى التماميّة كما هي معناها لغة وعرفاً - !

فلمّا كان غرض الفقيه هو: وجوب القضاء أو الإعادة، أو عدمُ الوجوب، فَسّر صحّة العبادة بسقوطهما. وكان غرض المتكلّم هو: حصول الامتثال - الموجب عقلاً لاستحقاق المثوبة - فَسّرها بما يوافق الأمر تارة، وبما يوافق الشّريعة أُخرى.

وحيث

___________________________________________

{وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلّم} في معنى الصحّة والفساد ليس اختلافاً في المفهوم، بل راجع إلى الاختلاف في التعبير عن المعنى الواحد المسلّم بين الطائفتين، فكلّ عرّف الصحّة والفساد بأثره المرغوب فيه عنده، لا أنّه عرفهما بمفهومهما حتّى يقع الاختلاف.

والحاصل: أنّ الاختلاف بينهما {في صحّة العبادة إنّما يكون لأجل الاختلاف في ما هو المهمّ لكلّ منهما من الأثر} بيان «ما» {بعد الاتفاق ظاهراً} بينهما {على أنّها} أي: الصحّة {بمعنى التمامية} والفساد بمعنى عدم التمامية {كما هي} أي: التمامية {معناها} أي: الصحة {لغة وعرفاً} وعدم التماميّة معنى الفساد كذلك {فلمّا كان غرض الفقيه هو وجوب القضاء أو الإعادة أو عدم الوجوب} أو الكفّارة في مثل الصوم {فسّرصحّة العبادة بسقوطهما} والفساد بثبوتهما {وكان غرض المتكلّم هو حصول الامتثال الموجب عقلاً لاستحقاق المثوبة فسّرها} أي: الصحّة {بما يوافق الأمر تارة وبما يوافق الشّريعة أُخرى و} بالعكس بالنسبة إلى الفساد، وبهذا تحقّق أنّه لا اختلاف بين الفقيه والمتكلّم في معنى الصحّة والفساد.ثمّ شرع المصنّف في بيان النّسبة بين تعريف الفقهاء والمتكلّمين، فإنّه ربّما يقال بأنّ النّسبة بينهما عموم مطلق {حيث} إنّ كلّما يسقط القضاء والإعادة يوافق

ص: 436

إنّ الأمر في الشّريعة يكون على أقسام - من الواقعي الأوّلي والثّانوي، والظاهري - ، والأنظار تختلف في أنّ الأخيرين يفيدان الإجزاء، أو لا يفيدان، كان الإتيان بعبادةٍ موافقةً لأمر، ومخالفةً لآخر، أو مسقطاً للقضاء والإعادة بنظرٍ، وغيرَ مسقطٍ لهما بنظر آخر.

فالعبادة الموافقة للأمر الظاهري تكون صحيحة عند المتكلّم والفقيه، بناءً على أنّ

___________________________________________

الأمر ولا عكس، فإنّه ليس كلّ موافق للأمر مسقطاً للقضاء والإعادة، كما لو استصحب وجوب صلاة الجمعة، فإنّه موافق للأمر الظاهري، مع أنّه ليس مسقطاً واقعاً.

ولكن لا يخفى عدم صحّة هذا القول وبيان ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمتين:

الأُولى {أنّ الأمر في الشّريعة يكون على أقسام} ثلاثة {من الواقعي الأوّلي} كالأمر بصلاة الظهر {و} الواقعي {الثّانوي} كالأمر بالوضوء المنكوس في ظرف التقيّة وبالصلاة قاعداً في ظرف الاضطرار {والظاهري} كالأمر بصلاة الجمعة النّاشئ من استصحاب الوجوب في ظرف يكون الواقع هو صلاة الظهر.

{و} الثّانية: أنّ {الأنظار تختلف في أنّ الأخيرين يفيدان الإجزاء} عن الواقع بأن لا يجب على المصلّي متكتّفاً تقيّةأو جمعة استصحاباً إعادة الصلاة بعد رفع التقيّة ومعلوميّة الواقع {أو لا يفيدان} بل يجب الإعادة.

إذا عرفت المقدّمتين قلنا: حيث {كان الإتيان بعبادة موافقة لأمر ومخالفة لآخر أو مسقطاً للقضاء والإعادة بنظر وغير مسقط لهما بنظر آخر} فقد يكون بين نظر الفقيه والمتكلّم تساوياً وقد يكون نظر الفقيه أعمّ مطلقاً وقد يكون نظر المتكلّم أعمّ مطلقاً {فالعبادة الموافقة للأمر الظاهري تكون صحيحة عند المتكلّم والفقيه} بحيث يكون بينهما تساوياً مطلقاً {بناءً على أنّ} مراد المتكلّم

ص: 437

الأمر - في تفسير الصحّة بموافقة الأمر، أعمُّ من الظّاهري مع اقتضائه للإجزاء، وعدمُ اتصافها بها عند الفقيه بموافقته، بناءً على عدم الإجزاء، وكونُه مراعى بموافقة الأمر الواقعي - وعند المتكلّم - بناءً على كون الأمر في تفسيرها خصوص الواقعي.

___________________________________________

من {الأمر - في تفسير الصحّة بموافقة الأمر - أعمّ من الظاهري} والواقعي {مع} قول الفقيه ب- {اقتضائه} أي: الأمر مطلقاً {للإجزاء} فإنّه كلّما كان الفعل موافقاً للأمر كان مجزئاً وبالعكس، وحينئذٍ يتحقّق التساوي بين النّظرين لا العموم المطلق، كما ادّعاه بعض.

وكذا يتحقّق التساوي بين القولين لو كان مراد المتكلّم من الأمر خصوص الأمر الواقعي ولم يقل الفقيه بالإجزاء إلّا في الأمر الواقعي، إذ كلّما وافق الأمر الواقعي كان مجزئاً، وكلّما لم يوافق لم يكن مجزئاً.

وحيث بيّنّا صورة التساوي نصرف الكلام إلى صورة العموم المطلق مع كونالعموم من طرف المتكلّم {وعدم اتصافها} أي: العبادة {بها} أي: بالصحّة {عند الفقيه بموافقته} أي: موافقة الأمر الظاهري {بناءً على} قول الفقيه ب- {عدم الإجزاء} في الأمر الظاهري {وكونه} أي: الإجزاء {مراعى بموافقة الأمر الواقعي} مع قول المتكلّم بأنّ الأمر - في تفسير الصحّة بموافقة الأمر - أعمّ من الظاهري وغيره، فإنّه كلّما أجزأ كان موافقاً للأمر وليس كلّما وافق الأمر كان مجزئاً، فالإجزاء - وهو قول الفقيه - أخصّ من موافقة الأمر، وهو قول المتكلّم.

{و} أمّا الصّورة الثّالثة - وهي أن يكون بين النّظرين عموماً مطلقاً مع كون العموم من طرف الفقيه - فهي عدم اتصاف العبادة بالصحّة {عند المتكلّم} مع اتصافها بها عند الفقيه {بناء على كون الأمر في تفسيرها} أي: تفسير الصحّة {خصوص} الأمر {الواقعي} مع كون الفقيه يقول بالإجزاء في مطلق الأمر، إذ كلّما كان موافقاً للأمركان مجزئاً وليس كلّما كان مجزئاً كان موافقاً للأمر.

ص: 438

تنبيه: وهو أنّه لا شبهة في أنّ الصحّة والفساد عند المتكلّم وصفان اعتباريّان، ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به وعدمها.

وأمّا الصحّة - بمعنى سقوط القضاء والإعادة - عند الفقيه: فهي من لوازم الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي عقلاً، حيث لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة أو القضاء معه جزماً.

فالصحّة بهذا المعنى فيه

___________________________________________

فتحصّل من جميع ذلك أنّ الفقيه لو قال بعموم الإجزاء والمتكلّم بعمومالأمر، أو قال كلّ بالخصوص تحقّق التساوي بين القولين، ولو قال الفقيه بالعموم والمتكلّم بالخصوص أو بالعكس تحقّق العموم المطلق. ثمّ لا يذهب عليك خروج العبارة إلى الإجمال بسبب بعض ما وقع فيها من مخالفة القواعد الأدبيّة.

{تنبيه}: في تحقيق أنّ صفتي الصحّة والفساد من الأحكام الشّرعيّة أو العقليّة أو من الأُمور الانتزاعيّة، والحقّ في ذلك التفصيل {وهو أنّه لا شبهة في أنّ الصحّة والفساد عند المتكلّم} المفسّر للصحّة بما يوافق الأمر وللفساد بما لا يوافقه {وصفان اعتباريّان ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به} في الصحّة {وعدمها} في الفساد، فليسا من المجعولات الشّرعيّة؛ لأنّ الموافقة منتزعة من الأفعال التكوينيّة للعبد لا ترتبط بالمولى أصلاً، فبمجرّد إتيان العبد للفعل ينتزع أحد الوصفين {وأمّا الصحّة بمعنى سقوط القضاء والإعادة} أي: عدم ثبوتهما كما هو المفسّر {عند الفقيه فهي من لوازم الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي عقلاً} قيد لقوله: «من لوازم» {حيث لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة أو القضاء معه} أي: مع الإتيان بالمأمور به {جزماً} فإنّه لو أتى ثانياً فإمّا أن يحصل عين الأوّل فهو تحصيل الحاصل أو غيره فهو غير المأمور به.

{فالصحّة بهذا المعنى} أي: بمعنى سقوط القضاء والإعادة {فيه} أي: في المأمور

ص: 439

وإن كان ليس بحكمٍ وضعيٍّ مجعول بنفسه أو بتبع تكليف، إلّا أنّه ليس بأمر اعتباريّ يُنتزع - كما توهّم(1) - بل ممّا يستقلّ به العقل، كما يستقلّ باستحقاق المثوبة به.وفي غيره، فالسقوط ربّما يكون مجعولاً، وكان الحكم به تخفيفاً ومنّة على العباد، مع ثبوت المقتضي لثبوتهما

___________________________________________

به بالأمر الواقعي الأوّلي {وإن كان ليس بحكم وضعي مجعول بنفسه، أو بتبع تكليف} الحكم الوضعي المجعول بنفسه، كالملكيّة والزوجيّة، والمجعول بتبع التكليف، كالنجاسة المجعول بتبع الأمر بالاجتناب مثلاً {إلّا أنّه ليس بأمر اعتباري ينتزع} كالصحّة عند المتكلّم الّتي كانت اعتباريّة انتزاعيّة {كما توهّم} في محكي التقريرات {بل ممّا يستقلّ به العقل كما يستقلّ باستحقاق المثوبة به} حين الموافقة، فحيث يرى العقل الموافقة يحكم بسقوط الأمر وبسبب سقوطه يسقط القضاء والإعادة، وهذا كسائر الأحكام العقليّة نحو حسن الإحسان والعدل وقبح الظلم والجور، ولكن لا يخفى أنّ استقلال العقل بذلك لا ينافي كونه اعتباريّاً، فتأمّل.

{و} أمّا الصحّة بمعنى سقوط القضاء والإعادة {في غيره} أي: غير المأمور به بالأمر الواقعي، بل المأمور به بالأمر الاضطراري والظاهري {ف-} الصحة المستلزمة ل-{السقوط ربما يكون مجعولاً} وربما لا يكون مجعولاً. بيان ذلك: إن إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري والظاهري مسقط للقضاء والإعادة بالنسبة إلى أمرهما قطعاً، وهذا ليس بمجعول، بل من لوازم الإتيان عقلاً، كما أنّ إسقاط الإتيان بالمأمور به الواقعي مسقط لأمره عقلاً، كما تقدّم.

وأمّا مسقطيّة الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي فهو مجعول {وكان الحكم به} أي: بسقوط القضاء والإعادة بالنسبة إلى الأمر الواقعي {تخفيفاً ومنّة على العباد مع ثبوتالمقتضي لثبوتهما} أي: ثبوت القضاء والإعادة

ص: 440


1- مطارح الأنظار 1: 737.

- كما عرفت في مسألة الإجزاء - كما ربّما يحكم بثبوتهما، فيكون الصّحّة والفساد فيه حكمين مجعولين، لا وصفين انتزاعيّين.

___________________________________________

{كما عرفت في مسألة الإجزاء} تفصيله.

نعم، قد لا يبقى محلّ للمأمور به الواقعي بعد الإتيان الظاهري والاضطراري، كأن لا يبقى شيء معتدّ به من المصلحة بحيث يقبل التدارك، فيكون سقوط القضاء والإعادة بالنسبة إلى الواقعي حكماً عقليّاً غير مجعول، كما في ما لو كان الوضوء المنكوس في حال التقيّة وافياً بغالب مصلحة الوضوء الصحيح، بحيث لا يبقى للوضوء بقيّة مصلحة يمكن تداركها، فإنّه يسقط الوضوء التقيي أمر الواقعي عقلاً لا شرعاً.

قد تحصل ممّا ذكرنا في الأوامر الظاهريّة والاضطراريّة أنّ إسقاطهما على ثلاثة أقسام:

الأوّل: إسقاط أمرهما، وهذا عقلي.

الثّاني: إسقاط الأمر الواقعي في صورة عدم وفائهما بمعظم مصلحة الواقع، وهذا شرعيّ امتناني.

الثّالث: إسقاط الأمر الواقعي في صورة وفائهما بمعظم مصلحة الواقع، بحيث لا يبقى مقدار قابل للتدارك، وهذا عقليّ أيضاً {كما ربّما يحكم بثبوتهما} أي: ثبوت القضاء والإعادة بالنسبة إلى الأمر الواقعي - في ما إذا أتى بالأمر الظاهري والاضطراري - {فيكون الصحّة والفساد فيه} أي: في غير الأوامر الواقعيّة - أعني: الاضطراريّة والظاهريّة - {حكمين مجعولين} قال السّيّد الحكيم: «إذ الصحّة عين سقوطالإعادة والقضاء، والفساد عين ثبوتهما وهما شرعيّان»(1) {لا وصفين انتزاعيين}، فتدبّر.

ص: 441


1- حقائق الأصول 1: 430.

نعم، الصّحّة والفساد في الموارد الخاصّة لا يكاد يكونان مجعولين، بل إنّما هي تتّصف بهما بمجرّد الانطباق على ما هو المأمور به.

هذا في العبادات.

وأمّا الصحّة في المعاملات:

___________________________________________

ثمّ إنّه كان الكلام إلى هنا في الكليّات، بمعنى أنّه يحكم الشّرع أو العقل بالصحّة في ما لو توافق المأتي به - بعنوانه الكلّي - للمأمور به، ويحكمان بالفساد في صورة عدم الموافقة، أمّا شخص هذه الصلاة الخارجيّة الّتي هي فرد من أفراد المأتي به الكلّي، فالمدار في صحّتها وفسادها ما أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {نعم، الصحّة والفساد في الموارد الخاصّة} الشّخصيّة الخارجيّة الّتي يوجدها المكلّف {لا يكاد يكونان مجعولين} شرعاً {بل إنّما هي} أي: الموارد الخاصّة {تتصف بهما} أي: بالصحّة والفساد {بمجرّد الانطباق على ما هو المأمور به} فحيث انطبق الكلّي على هذا الفرد الخارجي كان صحيحاً ومتى لم ينطبق كان فاسداً، ومن البديهي أنّ انطباق الكلّي على الفرد وعدمه ليس بمجعول شرعي، بل هو أمر قهري، واتصاف الموارد الشّخصيّة بهما ليس أمراً مستقلّاً في قبال اتصاف الكلّي، كما لا يخفى.

وقد أورد العلّامة المشكيني(رحمة

الله) على قوله: «نعم» الخ: «بأنّ الشّخص لهحيثيّتان: حيثيّة وجود الجامع في ضمنه بهذا الاعتبار عين الكلّي، وحيثيّة خصوصيّته الفرديّة، وبهذا لا يتصف بالصحّة والفساد، فقوله: «نعم» الخ مستدرك»(1).

{هذا} تمام الكلام {في العبادات، وأمّا الصحّة} والفساد {في المعاملات} في كونها مجعولة بجعل مستقلّ تشريعي، أو بتبع التكليف، أو أمراً اعتباريّاً، وجوه:

والأقوى عند المصنّف التفصيل بين صحّة الكلّي وفساده وبين صحّة الشّخص

ص: 442


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 227.

فهي تكون مجعولةً؛ حيث كان ترتّب الأثر على معاملة إنّما هو بجعل الشّارع، وترتيبه عليها ولو إمضاءً؛ ضرورة أنّه لولا جعله لما كان يترتّب عليه؛ لأصالة الفساد.

نعم، صحّة كلّ معاملة شخصيّةٍ وفسادُها ليس إلّا لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سبباً وعدمه، كما هو الحال في التكليفيّة من الأحكام؛ ضرورة أنّ اتصاف المأتيّ به بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما، ليس إلّا لانطباقه مع ما هو الواجب أو الحرام.

___________________________________________

وفساده.

أمّا صحّة الكلّي: {فهي تكون مجعولة، حيث كان ترتّب الأثر على معاملة إنّما هو بجعل الشّارع وترتيبه} أي: الأثر {عليها} أي: على المعاملة {ولو إمضاءً} للمعاملة العرفيّة.

وإنّما قلنا بتوقّف صحّة المعاملة على جعل الشّارع {ضرورة أنّه لولا جعله} ولو بنحو الإمضاء {لما كان يترتّب} الأثر{عليه} أي: على العقد أو الإيقاع المعاملي {لأصالة الفساد} فإنّ الأصل بقاء مال زيد السّائغ على ملكيّته وكذا الثّمن، وهكذا سائر العقود والإيقاعات - كما قرّره الشّيخ(رحمة

الله) في أوّل كتاب البيع - .

وأمّا صحّة المعاملة الشّخصيّة الخارجيّة وفسادها فهي على ما أشار إليه المصنّف(رحمة الله) بقوله: {نعم، صحّة كلّ معاملة شخصيّة وفسادها} ليست أمراً شرعيّاً مجعولاً بل هي أمر عقلي، إذ {ليس إلّا لأجل انطباقها مع ما هو} أي: الكلّي {المجعول سبباً وعدمه} فالكلّي مجعول دون الجزئي {كما هو الحال في التكليفيّة من الأحكام} حيث تقدّم أنّ الكلّي سواء كان مجعولاً شرعاً أو عقلاً كان الجزئي عقليّاً {ضرورة أنّ اتصاف} الفرد الشّخصي الخارجي {المأتي به بالوجوب أو الحرمة} في العبادات وبعض المعاملات وبالصحّة والفساد في جميعها {أو غيرهما} كالكراهة والاستحباب والإباحة {ليس إلّا لانطباقه} أي: انطباق هذا الفرد {مع ما} أي: الكلّي الّذي {هو الواجب أو الحرام} أو غيرهما، وقد تقدّم

ص: 443

السّابع: لا يخفى: أنّه لا أصل في المسألة يعوّل عليه لو شكّ في دلالة النّهي على الفساد. نعم، كان الأصل في المسألة الفرعيّة: الفساد، لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحّة في المعاملة.

___________________________________________

الإشكال في هذا الاستدراك، واللّه تعالى العالم.

[الأمر السّابع]

{السّابع}: لو شكّ في دلالة النّهي على الفساد في العباداتوالمعاملات ولم يتمّ دليل القول بالفساد وغيره فهل هناك أصل في المقام يدلّ على الفساد أو الصحّة أم لا أصل في البين؟

{لا يخفى أنّه لا أصل في المسألة يعوّل عليه لو شكّ في دلالة النّهي على الفساد}.

إن قلت: أصالة عدم دلالة النّهي على الفساد لا مانع منها.

قلت: جريان هذا الأصل متوقّف على الشّكّ في الدلالة ولا شكّ فيها، وحيث لا يجري الأصل في هذه المسألة فلا بدّ وأن ننقل الكلام إلى متعلّق النّهي - أعني: العبادة والمعاملة - .

{نعم، كان الأصل في المسألة الفرعيّة الفساد} إذ الأصل عدم ترتّب الأثر على هذه المعاملة المشكوك فيها، وهذا الأصل يجري في جميع أبواب العقود والإيقاعات، ولكن إنّما يجري {لو لم يكن هناك} في المعاملة {إطلاق} نحو {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1) {أو عموم} نحو {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(2) بحيث {يقتضي الصحّة في المعاملة} حتّى في مورد النّهي، وأمّا لو كان عموم أو إطلاق فهو مقدّم على الأصل، إذ لا شكّ حينئذٍ.

ص: 444


1- سورة البقرة، الآية: 275.
2- سورة المائدة، الآية: 1.

وأمّا العبادة فكذلك؛ لعدم الأمر بها مع النّهي عنها، كما لا يخفى.

الثّامن: أنّ متعلّق النّهي: إمّا أن يكون نفس العبادة، أو جزئها، أو شرطَها الخارج عنها، أو وصفَها الملازم لها، كالجهر والإخفات للقراءة،

___________________________________________

هذا تمام الكلام في المعاملة {وأمّا العبادة فكذلك} الأصل فيها الفساد {لعدم الأمر بها مع النّهي عنها} اللّهمّ إلّا أن يقال بكفاية ملاك الأمر في صحّة العبادة، كما تقدّم بيان ذلك في بعض المباحث السّابقة.

ولكن لا يخفى أنّ أصالة الفساد إنّما تجري في العبادة في ما لو كان الشّكّ من حيث الشّكّ في أصل الأمر، أو من حيث الشّكّ في مطابقة المأتي به للمأمور به، أمّا لو كان شكّ من جهة الشّبهة الحكميّة - أعني: الشّكّ في الأجزاء والشّرائط - فالبراءة حاكمة على هذا الأصل {كما لا يخفى} وتحقيق الكلام يحتاج إلى بسط لا يسعه المقام.

[الأمر الثّامن]
اشارة

{الثّامن: أنّ متعلّق النّهي} على أقسام: لأنّه {إمّا أن يكون} النّهي متعلّقاً ب- {نفس العبادة} كالصلاة في أيّام الحيض والصوم يوم العيد {أو جزئها} كقراءة سورة العزيمة في الصلاة أو السّجود رياءً فيها {أو شرطها الخارج عنها} قيداً وإن كان داخلاً تقيّداً، كالصلاة في السّاتر النّجس أو الحرير {أو وصفها الملازم لها} بحيث لا توجد العبادة بدونه {كالجهر والإخفات للقراءة} فإنّ الجهر الّذي هو وصف ملازم في الجملة منهيّ عنه في الصلوات الإخفاتيّة، والإخفات كذلك في الصلوات الجهريّة.

قال المصنّف في حاشية هذا المقام: «فإنّ كلّ واحد منهما لا يكاد ينفكّ عن القراءة وإن كانت هي تنفكّ عن أحدهما، فالنهي عن أيّهما يكون مساوقاً للنهي عنها، كما لا يخفى»(1)،

انتهى.

ص: 445


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 232.

أو وصفَها الغيرَ الملازم، كالغصبيّة لأكوان الصلاة المنفكّة عنها.

لا ريب في دخول القسم الأوّل في محلّ النّزاع، وكذا القسم الثّاني، بلحاظ أنّ جزء العبادة عبادة، إلّا أنّ بطلان الجزء لا يوجب بطلانها إلّا مع الاقتصار عليه، لا مع الإتيان بغيره ممّا لا نهي عنه،

___________________________________________

{أو وصفها الغير الملازم} بحيث يكون بين المنهي عنه والمأمور به عموم من وجه {كالغصبيّة لأكوان الصلاة المنفكّة عنها} فإنّه قد تتحقّق الصلاة بدون الغصب، وقد يتحقّق الغصب بدون الصلاة، وقد يجتمعان، وعلى كلّ تقدير فالغصبيّة غير ملازم.

إن قلت: ما الفرق بين هذا وبين الجهر والإخفات، إذ بين كلّ منهما وبين العبادة أيضاً عموم من وجه، فقد يتحقّقان بدون القراءة كالجهر والإخفات بالشعر والنّثر ونحوهما، وتتحقّق القراءة بدون الجهر أو بدون الإخفات.

والحاصل: أنّ بين كلّ من الجهر والقراءة والإخفات والقراءة عموماً من وجه.

قلت: الأمر كما ذكر، ولكن المصنّف قيد الجهر والإخفات بالقراءة، إذ ربّما يكون النّهي عن مطلق الجهر كما لو كان هناك مريض نائماً يتأذّى من الجهر، وقد يكون النّهي عن الجهر في القراءة، كما تقدّم.

وكيف كان، فتحصّل أنّ أقسام النّهي عن العبادة خمسة {لا ريب في دخول القسم الأوّل في محلّ النّزاع} وأنّه هل النّهي عن صلاة الحائض موجب لفسادها أم لا {وكذا القسم الثّاني} الّذي تعلّق النّهي بجزء العبادة، وذلك {بلحاظ أنّ جزء العبادة عبادة} فالنهي عنه نهي عن العبادة {إلّا أنّ} هذا الدخول إنّما يوجب {بطلان الجزء} لو قلنا بأنّ النّهي عن العبادة موجبللفساد، و{لا يوجب بطلانها} أي: بطلان الصلاة بتمامها {إلّا مع} أحد فرضين:

الأوّل: {الاقتصار عليه} أي: على ذلك الجزء، كأن يأتي بسورة العزيمة في الصلاة {لا مع الإتيان بغيره} أي: بغير هذا الجزء المنهي عنه {ممّا لا نهي عنه} بأن

ص: 446

إلّا أن يستلزم محذوراً آخر.

وأمّا القسم الثّالث: فلا يكون حرمة الشّرط والنّهي عنه موجباً لفساد العبادة إلّا في ما كان عبادة، كي يكون حرمته موجباً لفساده، المستلزم لفسادِ المشروط به.

___________________________________________

لا يأتي بسورة أُخرى مع سورة العزيمة.

ووجه بطلان العبادة في هذه الصورة واضح، إذ انتفاء الجزء موجب لانتفاء الكلّ.

الثّاني: أن لا يقتصر عليه، بل يأتي بالجزء الحقيقي معه أيضاً {إلّا أن يستلزم محذوراً آخر} غير ترك الجزء كأن كانت الزيادة مخلّة.

والحاصل: أنّ الإتيان بالجزء المنهي عنه له ثلاث صور:

الأُولى: أن يقترن بعدم إتيان الجزء الصحيح فتفسد العبادة.

الثّانية: أن يأتي بالجزء أيضاً ولكن كانت الزيادة مخلّة، فتفسد أيضاً.

الثّالثة: أن يأتي بالجزء ولا تكون الزيادة مخلّة، فتصحّ.

{وأمّا القسم الثّالث}: وهو الّذي تعلّق النّهي بشرطها الخارج عنها {فلا يكون حرمة الشّرط والنّهي عنه موجباً لفساد العبادة} مطلقاً، بل الشّرط على نوعين:

الأوّل: أن تكون في نفسه عبادة كالطهارات الثّلاث.الثّاني: أن لا يكون عبادة كالستر في الصلاة، والنّهي عن الشّرط لا يوجب فساد المشروط {إلّا في} النّوع الأوّل وهو {ما كان عبادة} كما لو نهى عن الوضوء بالمغصوب.

وإنّما خصّصنا الفساد بهذا النّوع {كي يكون حرمته موجباً لفساده} لأنّه عبادة والنّهي فيها يقتضي الفساد {المستلزم لفساد المشروط به} لأنّه يصير حينئذٍ فاقداً للشرط.

وأمّا النّوع الثّاني فالنهي عنه لا يوجب فساد المشروط، فإنّه لو نهى عن الصلاة

ص: 447

وبالجملة: لا يكاد يكون النّهي عن الشّرط موجباً لفساد العبادة المشروطة به لو لم يكن موجباً لفساده، كما إذا كانت عبادةً.

وأمّا القسم الرّابع: فالنّهي عن الوصف اللّازم مساوقٌ للنهي عن موصوفه، فيكون النّهي عن الجهر في القراءة - مثلاً - مساوقاً للنهي عنها؛ لاستحالة كون القراءة الّتي يجهرُ بها مأموراً بها، مع كون الجهر بها منهيّاً عنه فعلاً،

___________________________________________

في الحرير ثمّ صلّى المكلّف فيه لم تبطل صلاته إلّا أن يرجع النّهي إلى عدم جعله ستراً شرعيّاً مع اشتراط الصلاة بالستر الشّرعي، فيكون بطلان الصلاة حينئذٍ لفقدانها الشّرط، فتدبّر.

{وبالجملة لا يكاد يكون النّهي عن الشّرط موجباً لفساد العبادة المشروطة به لو لم يكن} النّهي عن الشّرط {موجباً لفساده} أي: فساد نفس الشّرط {كما إذا كانت} الشّروط {عبادة} فإنّ النّهي عنها يقتضي فسادها وبفسادها يفسد المشروط به لعدموجدانه لشرطه.

وإن شئت قلت: إنّ الشّرط على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما كان عبادة فالنهي عنها يوجب فساد المشروط.

الثّاني: ما كان توصليّاً ولكن وجوده متّحد مع وجود المشروط وهذا، كالأوّل في بطلان الشّروط.

الثّالث: ما كان توصليّاً مع عدم اتحاد الوجود، وهذا لا يوجب البطلان.

{وأمّا القسم الرّابع}: وهو ما كان النّهي عن وصفها الملازم لها {فالنهي عن الوصف اللّازم مساوق للنهي عن موصوفه} لا من جهة وجوب اتحاد المتلازمين في الحكم بل لما سيأتي {فيكون النّهي عن الجهر في القراءة - مثلاً - مساوقاً} ومساوياً {للنهي عنها} أي: عن نفس القراءة، وذلك {لاستحالة كون القراءة الّتي يجهر بها مأموراً بها مع كون الجهر بها منهيّاً عنه فعلاً} إذ لا يمكن عند العقل أن يكون أحد

ص: 448

كما لا يخفى.

وهذا بخلاف ما إذا كان مفارقاً - كما في القسم الخامس - ؛ فإنّ النّهي عنه لا يسري إلى الموصوف إلّا في ما إذا اتحد معه وجوداً، بناءً على امتناع الاجتماع. وأمّا بناءً على الجواز فلا يسري إليه،

___________________________________________

المتلازمين واجباً والآخر حراماً {كما لا يخفى} لكن حيث يبقى ملاك الوجوب في القراءة يمكن القول بصحّة العبادة، كما تقدّم الإشارة إليه في مسألة اجتماع الأمر والنّهي، فراجع.

{وهذا} الّذي ذكرنا من سراية النّهي عن الوصف بمعنى استحالة كونهمأموراً به {بخلاف ما إذا كان} الوصف غير ملازم، بل {مفارقاً كما في القسم الخامس} كالغصبيّة لا كون الصلاة المنفكّة عنها {فإنّ النّهي عنه} أي: عن الوصف {لا يسري إلى الموصوف} إذ الأمر قد تعلّق بغير ما تعلّق به النّهي فلا وجه لسراية أحدهما إلى متعلّق الآخر {إلّا في ما اتحد} الوصف {معه} أي: مع الموصوف {وجوداً} فإنّه يسري النّهي إلى متعلّق الأمر {بناءً على امتناع الاجتماع}.

{وأمّا} لو لم يتّحد الوصف مع الموصوف وجوداً، أو اتحدا ولكن {بناءً على الجواز، فلا يسري} النّهي عن الوصف {إليه} أي: إلى الموصوف.

أمّا في صورة عدم الاتحاد، فلوضوح أنّ الصلاة - مثلاً - واجبة والغصب غير المرتبط بها محرّم.

وأمّا في صورة الاتحاد بناءً على الجواز؛ فلأنّ العبادة حينئذٍ قد تعنونت بعنوانين وهو كافٍ في رفع التّضاد.

إن قلت: ما الفرق بين الصلاة في المغصوب حيث قلتم بصحّتها على القول بالجواز وبين الجهر في القراءة حيث قلتم ببطلانها حتّى على الجواز؟

قلت: الفرق هو تعدّد العنوان في الأوّل، فإنّ الواجب هو الصلاة والمحرّم هو

ص: 449

كما عرفت في المسألة السّابقة.

هذا حال النّهي المتعلّق بالجزء أو الشّرط أو الوصف.

وأمّا النّهي عن العبادة لأجل أحد هذه الأُمور: فحاله حال النّهي عن أحدها إن كان من قبيل الوصف بحال المتعلّق،وبعبارة أُخرى: كان النّهي عنها بالعَرض.

وإن كان النّهي عنها على نحو الحقيقة والوصف بحاله - وإن كان بواسطة أحدها، إلّا أنّه

___________________________________________

الغصب بخلاف الثّاني فإنّ النّهي تعلّق بعين ما تعلّق به الأمر، إذ الأمر بالقراءة والنّهي عن القراءة الجهريّة، والقائلين بالجواز إنّما يقولون به في صورة تعدّد العنوان {كما عرفت في المسألة السّابقة} فتأمّل.

{هذا} كلّه {حال النّهي المتعلّق بالجزء} كالقراءة للعزائم {أو الشّرط} كالصلاة في الحرير للرجال {أو الوصف} كالجهر بالقراءة في الصلوات الإخفاتيّة {وأمّا} إذا كان {النّهي عن} نفس {العبادة لأجل أحد هذه الأُمور} كأن ينهي عن الصلاة لأجل قراءة العزيمة أو لبس الحرير أو الجهر في قراءتها، فكم فرق بين أن يقول: (لا تصلّ مع لباس الحرير) وبين أن يقول: (لا تلبس الحرير في الصلاة) {فحاله} أي: حال النّهي عن ذات العبادة لأجلها {حال النّهي عن أحدها إن كان من قبيل الوصف بحال المتعلّق} نحو (زيد قائم أبوه) فكما أنّ الوصف ولو كان في الصورة راجعاً إلى الموصوف لكن في الحقيقة راجع إلى المتعلّق، كذلك النّهي وإن كان في الصورة راجعاً إلى الصلاة، لكن في الحقيقة يرجع إلى ذلك الجزء أو الشّرط أو الوصف.

{وبعبارة أُخرى: كان النّهي عنها} أي: عن العبادة {بالعرض} والمجاز {وإن كان النّهي عنها} أي: عن العبادة {على نحو الحقيقة والوصف بحاله} أي: بحال نفس الموصوف، نحو (زيد قائم) {وإن كان}النّهي عن ذات العبادة {بواسطة أحدها} أي: الجزء والوصف والشّرط {إلّا أنّه} أي: أحد الثّلاثة

ص: 450

من قبيل الواسطة في الثّبوت، لا العروض - كان حالُه حالَ النّهي في القسم الأوّل، فلا تغفل.

وممّا ذكرنا في بيان أقسام النّهي في العبادة يظهر حال الأقسام في المعاملة، فلا يكون بيانها على حِدَة بمهمّ.

___________________________________________

{من قبيل الواسطة في الثّبوت، لا} الواسطة في {العروض، كان حاله} أي: حال النّهي عن ذات العبادة {حال النّهي في القسم الأوّل} الّذي كان متعلّق النّهي نفس العبادة.

والنّتيجة بين كون النّهي من قبيل الوصف بحال المتعلّق وبين كونه من قبيل الوصف بحال الموصوف تظهر في بعض الموارد: مثل ما لو أتى بالعزيمة في الصلاة مع سورة أُخرى، ولم نقل بكون الزيادة مبطلة، فإنّه لو كان النّهي عن الصلاة المشتمل عليها على نحو الأوّل لم تبطل، بخلاف ما لو كان النّهي من قبيل الثّاني فإنّها تبطل.

ثمّ إنّ كون النّهي على أيّ النّحوين إنّما يستفاد من الظاهر، ولو شكّ فالمرجع هي الأصول العمليّة {فلا تغفل} وتدبّر.

{وممّا ذكرنا في بيان أقسام النّهي في العبادة يظهر حال الأقسام في المعاملة} وأنّ النّهي إمّا لنفسها أو لجزئها أو لشرطها أو لوصفها غير الملازم، وقد ظهر ممّا تقدّم حكم كلّ من هذه الأقسام الخمسة {فلا يكون بيانها على حدة بمهمّ}.

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وأمّا الأمثلة في المعاملات على حذو أمثلةالعبادات، كنكاح الخامسة لمن عنده أربع، وبيع العبد والسّفيه في المنهي عنه لذاته، وبيع الغاصب مع جهل المشتري - على القول بأنّ البيع هو الإيجاب والقبول النّاقلين - في المنهي عنه لجزئه، وكبيع الملاقيح في المنهي عنه لشرطه، فإنّ القدرة على التسليم شرط في البيع، وكبيع الحصاة في المنهي عنه لوصفه اللّازم، فإنّ تعيين المبين بالحصاة لازم لهذا البيع، وكبيع مال الغير وبيع العنب ليعمل خمراً في المنهي عنه لوصفه المفارق، وإن كان ربّما يناقش في بعض

ص: 451

كما أنّ تفصيل الأقوال في الدلالة على الفساد وعدمها - الّتي ربّما تزيد على العشرة على ما قيل(1) - كذلك.

إنّما المهمّ بيان ما هو الحقّ في المسألة، ولا بدّ في تحقيقه - على نحوٍ يظهر الحال في الأقوال - من بسط المقال في مقامين:

الأوّل: في العبادات فنقول - وعلى اللّه الاتكال - : إنّ النّهي المتعلّق بالعبادة بنفسها، ولو كانت جزء عبادة بما هو عبادة - كما عرفت - مقتضٍ لفسادها؛

___________________________________________

الأمثلة»(2)،

انتهى.

{كما أنّ تفصيل الأقوال في} المسألة من {الدلالة على الفساد} مطلقاً {وعدمها} مطلقاً والتفاصيل المذكورة في بعض المطوّلات(3){الّتي ربّما تزيد على العشرة على ما قيل كذلك}ليس بمهم.

{إنّما المهم بيان ما هو الحقّ في المسألة، ولا بدّ في تحقيقه على نحو يظهر الحال في} سائر {الأقوال} من الصحّة والبطلان {من بسط المقال في مقامين}:

[المقام الأوّل: اقتضاء النهي عن العبادة للفساد]

المقام {الأوّل: في العبادات، فنقول - وعلى اللّه الاتكال - : إنّ النّهي المتعلّق بالعبادة بنفسها ولو كانت جزء عبادة} كالنهي عن صلاة الحائض، والنّهي عن قراءة العزيمة في الصلاة {بما هو عبادة} قيد لجزء العبادة، ويدلّ عليه تذكير الضمير، كالتكتّف في الصلاة، فإنّ النّهي عنه بما هو عبادة لا مطلقاً، ولذا أفتى بعضهم بعدم حرمة التكتّف إذا لم يكن بعنوان العباديّة، بل بداعي آخر، فتدبّر {كما عرفت مقتض لفسادها}.

ص: 452


1- مطارح الأنظار 1: 749.
2- شرح كفاية الأصول 1: 261.
3- كما في حاشية الشّيخ محمّد على القمّي(رحمة الله) على هذا الموضع. حاشية الكفاية 1: 245.

لدلالته على حرمتها ذاتاً، ولا يكاد يمكن اجتماع الصحّة - بمعنى موافقة الأمر أو الشّريعة - مع الحرمة، وكذا بمعنى سقوط الإعادة؛ فإنّه مترتّب على إتيانها بقصد القربة، وكانت ممّا يصلح لأن يتقرّب بها، ومع الحرمة لا تكاد تصلح لذلك، ويتأتّى قصدها من الملتفِت إلى حرمتها،

___________________________________________

أمّا في جزء العبادة فلأنّ الجزء إذا فسد للنهي يفسد الكلّ، إذ الكلّ عدم عند عدم جزئه، ولكن إنّما يكون ذلك في صورتين:

الأُولى: الاكتفاء بذلك الجزء بأن لا يتداركه.الثّانية: مع التدارك ولكن إذا كانت الزيادة مخلّة.

وأمّا في نفس العبادة ف- {لدلالته} أي: النّهي {على حرمتها} أي: حرمة العبادة {ذاتاً} لا تشريعاً، كما أنّ النّهي عن شرب الخمر والكذب ونحوهما يدلّ على الحرمه الذاتيّة {ولا يكاد يمكن اجتماع الصحّة - بمعنى موافقة الأمر أو الشّريعة - مع الحرمة} إذ معنى الحرمة مخالفة الشّريعة، فالجمع بينهما جمع بين الضدّين، كما لا يخفى.

{وكذا} لا يجتمع الصحّة - {بمعنى سقوط الإعادة} والقضاء - مع الحرمة {فإنّه} أي: سقوط الإعادة {مترتّب على إتيانها} أي: العبادة {بقصد القربة وكانت ممّا يصلح لأن يتقرّب بها، و} من الواضح أنّه {مع الحرمة لا تكاد} العبادة {تصلح لذلك} أي: للتقرّب بها سواء كان الشّخص ملتفتاً إلى حرمتها أم لا {و} لا يكاد {يتأتّى قصدها} أي: القربة {من الملتفت إلى حرمتها}.

والحاصل: أنّ الصحّة - بمعنى سقوط القضاء والإعادة - تتوقّف على أمرين:

الأوّل: كون الشّيء ممّا يصلح للتقرّب به.

الثّاني: أن يقصد المكلّف القربة حين الإتيان، ومع النّهي لا يجتمع الشّرطان بل يفقدان جميعاً في ما كان الآتي ملتفتاً إلى الحرمة ويفقد الصلوح في ما لم يكن

ص: 453

كما لا يخفى.

لا يقال: هذا لو كان النّهي عنها دالّاً على الحرمة الذاتيّة، ولا يكاد يتصف بها العبادة؛ لعدم الحرمة بدون قصد القربة، وعدم القدرة عليها مع قصد القربة بها إلّا تشريعاً، ومعه تكون محرّمة بالحرمةالتشريعيّة لا محالة، ومعه لا تتصف بحرمة أُخرى؛ لامتناع اجتماع المثلين كالضدّين.

فإنّه يقال:

___________________________________________

ملتفتاً {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل، فحيث لم يكن هذا المأتي به موافقاً للشريعة والأمر ولا مسقطاً للقضاء والإعادة لم يكن صحيحاً.

{لا يقال: هذا} الّذي ذكرتم من دلالة النّهي على الفساد إنّما يتمّ في ما {لو كان النّهي عنها} أي: عن العبادة {دالّاً على الحرمة الذاتيّة} فيكون حال الصلاة في حال الحيض حال شرب الخمر مثلاً {و} لكن النّهي في العبادة لا يمكن أن يكون دالّاً عليها، إذ {لا يكاد يتّصف بها} أي: بالحرمة الذاتيّة {العبادة، لعدم الحرمة بدون قصد القربة} كأن تأتي بصورة الصلاة، كما يأتي الشّخص بصورتها لتعليم غيره، ووجه عدم الحرمة حينئذٍ عدم كونها عبادة {وعدم القدرة عليها} أي: على العبادة {مع قصد القربة بها} إذ ما ليس بعبادة لا يعقل جعلها عبادة ولو أتي بها بقصد القربة، وحينئذٍ فلا يحرم {إلّا تشريعاً} لأنّه نسب إلى الشّارع ما ليس منه {ومعه} أي: مع قصد القربة {تكون محرّمة بالحرمة التشريعيّة لا محالة، ومعه} أي: مع اتصافها بالحرمة التشريعيّة {لا تتصف بحرمة أُخرى} أي: الحرمة الذاتيّة {لامتناع اجتماع المثلين ك-} امتناع اجتماع {الضدّين}.

{فإنّه يقال:} نمنع قولكم: «لعدم الحرمة بدون قصد القربة» إذ العبادة المأخوذة في عنوان المسألة في قولنا: «النّهي في العبادة يدلّ على الفساد أم لا» لا يراد بها ما يعتبر فيه قصد القربة، حتّى يرد ما ذكرتم من أنّ العبادة بهذا المعنى

ص: 454

لا ضير في اتصاف ما يقع عبادةً - لو كان مأموراً به - بالحرمة الذاتيّة، مثلاً: صوم العيدين كان عبادة منهيّاً عنها، بمعنى أنّه لو أمر به كان عبادة، لا يسقط الأمر به إلّا إذا أتى به بقصد القربة، كصوم سائر الأيّام.

هذا في ما إذا لم يكن ذاتاً عبادة، كالسجود للّه - تعالى - ونحوه، وإلّا كان محرّماً مع كونه فعلاً عبادةً، مثلاً: إذا نُهِيَ الجنبُ والحائض عن السّجود له - تبارك وتعالى - ، كان عبادةً محرّمةً ذاتاً حينئذٍ؛ لما فيه من المفسدة والمبغوضيّة في هذا الحال.

مع أنّه لا ضير في اتصافه بهذه الحرمة مع الحرمة التشريعيّة، بناءً على أنّ الفعل فيها

___________________________________________

لا تجتمع مع الحرمة، بل المراد بالعبادة الشّيء الّذي لو أمر به لكان عبادة، وعلى هذا ف- {لا ضير في اتصاف ما يقع عبادة لو كان مأموراً به بالحرمة الذاتيّة} فيحرم ذاتاً ولو لم يقصد القربة {مثلاً صوم العيدين كان عبادة منهيّاً عنها، بمعنى أنّه لو أمر به} أي: بصوم العيدين {كان عبادة لا يسقط الأمر به إلّا إذا أتى به بقصد القربة كصوم سائر الأيّام} حيث إنّها لا يسقط الأمر الوجوبي أو الاستحبابي المتوجّه إليها إلّا إذا أُتي بقصد تقربه.

وبهذا كلّه ظهر سقوط قول المستشكل: «لعدم الحرمة» الخ.

{هذا في ما إذا لم يكن} المنهي عنه {ذاتاً عبادة} بأن كانت عباديّته متوقّفة على الأمر {كالسجود للّه -تعالى - ونحوه} مثال للعبادة الذاتيّة {وإلّا} فلو كانت عبادة ذاتيّة {كان محرّماً مع كونه فعلاً عبادة} فيسقط قول المستشكل: «لعدم الحرمة» الخ أيضاً.

{مثلاً: إذا نهي الجنب والحائض عن السّجود له - تبارك وتعالى - كان} السّجود {عبادة محرّمة ذاتاً حينئذٍ} أي: حين النّهي {لما فيه من المفسدة والمبغوضيّة في هذا الحال، مع} أنّ لنا أن نمنع قولكم: «وعدم القدرة عليها» الخ، ف- {أنّه لا ضير في اتصافه} أي: الشّيء {بهذه الحرمة} الذاتيّة {مع الحرمة التشريعيّة} ولا يلزم اجتماع الضدّين المستحيل لاختلاف الموضوعين {بناءً على أنّ الفعل فيها} أي:

ص: 455

لا يكون في الحقيقة متصفاً بالحرمة، بل إنّما يكون المتصف بها ما هو من أفعال القلب، كما هو الحال في التجرّي والانقياد، فافهم، هذا.

مع أنّه لو لم يكن النّهي فيها دالّاً على الحرمة لكان دالّاً على الفساد؛ لدلالته على الحرمة التشريعيّة،

___________________________________________

في العبادة المحرّمة بالحرمة التشريعيّة {لا يكون في الحقيقة متصفاً بالحرمة} التشريعيّة {بل إنّما يكون المتصف بها ما هو من أفعال القلب} إذ التشريع عبارة عن البناء على كون حكم الواقعة كذا {كما هو الحال في التجرّي والانقياد} فإنّ الأوّل عصيان قلبي والثّاني طاعة قلبيّة.

وعلى هذا فلا يجتمع التحريم الذاتي والتشريعي في موضوع واحد، بل موضوع الحرمة الذاتيّة هو الفعل وموضوع الحرمة التشريعيّة هو القصد القلبي{فافهم} إشارة إلى أنّ الحرمة التشريعيّة - وإن كانت متقوّمة بالقصد - إلّا أنّ الفعل يتصف بها، فيجتمع المثلان، كما ذكره المستشكل.

{هذا} ويمكن أن يقال: إنّه على تقدير تسليم اجتماع الضدّين ليس بمستحيل، إذ اجتماعهما يوجب تأكّد الحرمة، فلو شرب الخمر بعنوان التشريع كان محرّماً مؤكّداً، كما في اجتماع الوجوبين، مثل ما لو نذر أداء صلاة الظهر.

ومن ذلك كلّه ظهر لك أنّ المصنّف(رحمة الله) أجاب عن المستشكل بثلاثة أجوبة:

الأوّل: قوله: «لا ضير».

الثّاني: قوله: «هذا في ما إذا لم يكن».

الثّالث: قوله: «مع أنّه لا ضير».

وهنا جواب رابع أشار إليه: {مع أنّه لو لم يكن النّهي فيها} أي: في العبادة المنهي عنها، كالصلاة في حال الحيض {دالّاً على الحرمة} الذاتيّة {لكان} على الأقلّ {دالّاً على الفساد لدلالته على الحرمة التشريعيّة} وهي كافية في فساد العبادة

ص: 456

فإنّه لا أقلّ من دلالته على أنّها ليست بمأمور بها، وإن عمّها إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه.

نعم، لو لم يكن النّهي عنها إلّا عَرَضاً، كما إذا نُهِيَ عنها في ما كانت ضدّ الواجب - مثلاً - لا يكون مقتضياً للفساد، بناءً على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ إلّا كذلك - أي: عرضاً - ، فيخصّص به أو يقيّد.

___________________________________________

{فإنّه لا أقلّ من دلالته} أي: النّهي {على أنّهاليست بمأمور بها} وحيث لا أمر لا وجه للصحّة {وإن عمّها} أي: عمّ هذه العبادة المنهي عنها {إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه}.

والحاصل: أنّ النّهي عن الصلاة في حال الحيض يدلّ على خروجها عن عمومات وإطلاقات وجوب الصلاة واستحبابها، وحيث لا تشملها لا يمكن قصد القربة فيها، إذ لا رجحان ذاتي لها فإنّه بعد التخصيص يكون المقام من باب التعارض لا التزاحم.

وبهذا ظهر أنّه لا تصحّ هذه الصلاة على كلا القولين: قول من يقول باحتياج العبادة إلى الأمر، وقول من يقول بكفاية الملاك، إذ لا أمر لها ولا رجحان ذاتي فيها.

{نعم} على مبنى من يقول بكفاية الملاك في صحّة العبادة من غير احتياج إلى الأمر قد يتصوّر وجود النّهي عن العبادة مع صحّتها، وذلك في ما {لو لم يكن النّهي عنها إلّا عرضاً} بأن كان في الواقع متعلّقاً بشيء آخر وإنّما يتعلّق بالعبادة مجازاً {كما إذا نهى عنها في ما كانت} العبادة {ضدّ الواجب مثلاً} كالنهي عن الصلاة الّتي هي ضدّ الإزالة {لا يكون} النّهي حينئذٍ {مقتضياً للفساد} إذ النّهي في الحقيقة متعلّق بترك الإزالة لا بالصلاة الّتي هي مقارنة لترك الإزالة، ونسبة النّهي إلى الصلاة من باب نسبة حكم أحد المتقارنين إلى المقارن الآخر.

ولكن إنّما يستقيم هذا {بناءً على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ إلّا كذلك، - أي: عرضاً} وتبعاً - {ف-} حينئذٍ {يخصّص} عموم دليل الصلاة أو إطلاقه {به} أي: بهذا النّهي الّذي كان عن العبادة حقيقة، لا ما كان عنها عرضاً {أو يقيّد}

ص: 457

المقام الثّاني: في المعاملات.

ونخبة القول: أنّ النّهي الدالّ على حرمتها لا يقتضي الفساد؛ لعدم الملازمةفيها - لغة ولا عرفاً - بين حرمتها وفسادها أصلاً: كانت الحرمة متعلّقة بنفس المعاملة بما هو فعلٌ بالمباشرة، أو بمضمونها بما هو فعلٌ بالتسبيب، أو بالتسبّب بها إليه، وإن لم يكن السّبب ولا المسبّب - بما هو فعل من الأفعال - بحرام.

___________________________________________

به الإطلاق، وقوله: «فيخصّص» الخ تفريع على ما قبل «نعم» لا ما بعده، فتدبّر.

[المقام الثّاني: عدم اقتضاء النهي عن المعاملة للفساد]

{المقام الثّاني: في المعاملات، ونخبة القول أنّ النّهي الدالّ على حرمتها} أي: حرمة المعاملة {لا يقتضي الفساد لعدم الملازمة فيها} أي: في المعاملة {لغة ولا عرفاً بين حرمتها وفسادها أصلاً} إذ المراد من الصحّة في باب المعاملة ترتّب الأثر، كالملكيّة والزوجيّة والحريّة ونحوها، ولا منافاة بين حرمة إيجاد أسباب هذه الأشياء مع حصول هذه الآثار في الخارج سواء {كانت الحرمة متعلّقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة} بمعنى أنّ العقد المعاملي يحرم على المكلّف مباشرته كالبيع وقت النّداء، فإنّه يحرم إيجاد العقد - أي: التلفّظ به وقت النّداء - .

ولا ينافي ذلك وقوع النّقل والانتقال في الخارج {أو} كانت الحرمة متعلّقة {بمضمونها بما هو فعل بالتسبيب} بمعنى تعلّق الحرمة بمضمون المعاملة كالملكيّة في النّهي عن بيع المصحف للكافر، فإنّ العقد واللفظ ليس مبغوضاً، كالأوّل، بل حصول الملكيّة في الخارج مبغوض {أو} كانت الحرمة متعلّقة {بالتسبّب بها} أي: بهذه المعاملة {إليه} أي: إلى هذا الأثر، كما في الظاهر، فإنّ جعل هذا اللفظ الخاصّ سبباً للفرقة محرّماً {وإن لم يكن السّبب} أعني: التلفّظ {ولاالمسبّب} أعني: مطلق الفرقة {بما هو فعل من الأفعال} متعلّق بقوله: «وإن لم يكن السّبب» {بحرام}.

ص: 458

وإنّما يقتضي الفساد في ما إذا كان دالّاً على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحّتها، مثل النّهي عن أكل الثّمن أو المثمن في بيع، أو بيع شيء.

___________________________________________

توضيح المقام: أنّ النّهي قد يكون لمجرّد التلفّظ، مثلاً لو كان التكلّم مضرّاً ونهى المولى عن المعاملة لهذا السّبب كان النّهي في الحقيقة عن التلفّظ.

وقد يكون لحصول الأثر في الخارج، مثلاً لا يحبّ المولى انتقال مال العبد إلى عدوّه فينهاه عن المعاملة معه، فإنّ النّهي في الحقيقة عن الأثر.

وقد يكون لجعل هذا اللفظ مؤثّراً لهذا الأثر فاللفظ بما هو لفظ ليس بمبغوض والأثر بما هو أثر ليس بمبغوض، وإنّما المبغوض جعل هذا اللفظ مؤثّراً لهذا الأثر.

مثلاً: انتقال المال إلى زيد ليس بمبغوض والتكلّم بما هو تكلّم ليس مضرّاً، وإنّما المبغوض جعل اللفظ بالنحو المنهي سبباً لانتقال المال {وإنّما يقتضي} النّهي {الفساد في ما إذا كان دالّاً على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحّتها} أي: صحّة المعاملة، بمعنى أنّ الشّارع نهى عن شيء وكان ذلك بحيث يلزم من تحريمه فساد المعاملة، ولا يعقل صحّة المعاملة مع تحريم ذلك الشّيء لأجل التلازم الواقع بين حرمته وفساد المعاملة، إمّا تلازماً حقيقيّاً أو تلازماً عرفيّاً أو تلازماً شرعيّاً.

فالنهي حينئذٍ يدلّ على الفساد بضميمة ذلك التلازم المعلوم خارجاً {مثل النّهي عن أكل الثّمن أو المثمن في بيع}كقولهم(علیهم السلام): «ثمن العذرة سحت»(1)،

وقولهم(علیهم السلام) في ثمن الجارية المغنية: «كثمن الكلب»(2)، ونحو ذلك {أو} النّهي عن {بيع شيء} كقوله(صلی الله علیه و آله): «لا تبع ما ليس عندك»(3).

ص: 459


1- تهذيب الأحكام 6: 372، وفيه: «ثمن العذرة من السُّحت».
2- جامع أحاديث الشيعة 22: 406.
3- تهذيب الأحكام 7: 230، وفيه: «نهى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)... عن بيع ما ليس عندك».

نعم، لا يبعد دعوى ظهور النّهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها، كما أنّ الأمر بها يكون ظاهراً في الإرشاد إلى صحّتها، من دون دلالته على إيجابها أو استحبابها

___________________________________________

وكيف كان، فالوجه في دلالة هذا القسم من النّهي على الفساد أنّه لو كان بيع العذرة والجارية المغنيّة والبيع الرّبوي صحيحاً لكان ثمنه ملكاً للبائع ومثمنه ملكاً للمشتري، للتلازم بين الصحّة والمملوكيّة ويترتّب عليه جواز التصرّف، وحيث علم من النّهي عدم جواز التصرّف كشف عن فساد البيع. فتحصّل من جميع ذلك أنّ النّهي على خمسة أقسام:

الأوّل: النّهي عن السّبب.

الثّاني: النّهي عن المسبّب.

الثّالث: النّهي عن جعل شيء خاصّ سبباً لمسبّب خاصّ، وهذه الثلاثة لا تدلّ على الفساد.

الرّابع: النّهي الدالّ على حرمة الثّمن.

الخامس: النّهي الدالّ على حرمة المثمن، وهذان يدلّان على الفساد، وقد تتداخل الأقسام، كما لا يخفى.{نعم، لا يبعد} تفصيل آخر في مسألة النّهي عن المعاملة، وحاصله أنّ المعاملة على قسمين:

الأوّل: العقود والإيقاعات.

الثّاني: غيرها ممّا ليس عبادة.

ففي الأوّل نقول بدلالة النّهي على الفساد ل- {دعوى ظهور النّهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها} وعدم ترتّب الأثر المطلوب عليها من دون دلالة للنهي على حرمتها أو كراهتها {كما أنّ الأمر بها} أي: بالمعاملة {يكون ظاهراً في الإرشاد إلى صحّتها} وترتّب الأثر عليها {من دون دلالته} أي: الأمر بالمعاملة {على إيجابها أو استحبابها} فقوله(علیه السلام): «لا تبع ما ليس عندك» يدلّ على الفساد، كما أنّ قوله

ص: 460

كما لا يخفى. لكنّه في المعاملات بمعنى العقود والإيقاعات، لا المعاملات بالمعنى الأعمّ المقابل للعبادات.

فالمعوّل هو: ملاحظة القرائن في خصوص المقامات، ومع عدمها لا محيص عن الأخذ بما هو قضيّة صيغة النّهي من الحرمة، وقد عرفت أنّها غير مستتبعة للفساد لا لغة ولا عرفاً.

نعم، ربّما يتوهّم استتباعها له شرعاً من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليه:

___________________________________________

- تعالى - {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ} يدلّ على الصحّة، وفيه تأمّل {كما لا يخفى}.

{لكنّه} على تقدير التسليم إنّما يكون ذلك {في} القسم الأوّل، أي: {المعاملات بمعنى العقود والإيقاعات، لا} القسمالثّاني، أي: {المعاملات بالمعنى الأعمّ المقابل للعبادات} أعني: ما لا يعتبر فيه قصد القربة، أو ما لو أمر به لكان توصليّاً، إذ لا ظهور للأوامر والنّواهي المتعلّقة بهذا القسم من المعاملة في الإرشاد.

{فالمعوّل} حينئذٍ في القسم الثّاني {هو ملاحظة القرائن} الحاليّة أو المقاليّة {في خصوص المقامات} فالأمر في قوله - تعالى - {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(1) إرشادي، والنّهي في قوله - تعالى - : {لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ}(2) تحريمي {ومع عدمها} أي: عدم القرينة المفيدة لكون النّهي والأمر إرشاديّاً أو تحريميّاً {لا محيص عن الأخذ بما هو قضيّة} أي: مقتضى {صيغة النّهي عن الحرمة} لما مرّ في بحث النّواهي من ظهورها في التحريم.

{و} لكن على تقدير حملها على التحريم {قد عرفت أنّها غير مستتبعة للفساد لا لغة ولا عرفاً} ولا شرعاً.

{نعم، ربّما يتوهّم استتباعها} أي: صيغة النّهي {له} أي: للفساد {شرعاً من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليه:} فمن هذه الأخبار المتفرّقة يستفاد الملازمة

ص: 461


1- سورة المائدة، الآية: 4.
2- سورة المائدة، الآية: 95.

منها: ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر(علیه السلام): سألته عن مملوك تزوّجَ بغير إذن سيّده، فقال: «ذلك إلى سيّده، إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما». قلت: - أصلحك اللّه تعالى - إنّ حكم بن عتيبة وإبراهيمَ النّخعي وأصحابَهما يقولون: «إنّ أصل النّكاح فاسدٌ ولا يحلّ إجازة السّيّد له». فقال أبو جعفر(علیه السلام): «إنّه لم يعصِ اللّه، إنّما عصى سيّده، فإذا أجاز فهو له جائز»(1)؛ حيث دلّ بظاهره أنّ النّكاح لو كان ممّا حرّمه اللّه - تعالى - عليه كان فاسداً.

ولا يخفى:

___________________________________________

الدائميّة الشّرعيّة بين النّهي والفساد.

{منها ما رواه} ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني - قدّس اللّه روحه - {في الكافي و} كذا رواه الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه(رحمة الله) في كتاب من لا يحضره {الفقيه عن زرارة عن الباقر(علیه السلام): سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده؟ فقال: «ذلك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما».

قلت: أصلحك اللّه تعالى، إنّ حكم بن عتيبة وإبراهيم النّخعي وأصحابهما يقولون: «إنّ أصل النّكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السّيّد له». فقال أبو جعفر(علیه السلام): «إنّه لم يعص اللّه إنّما عصى سيّده، فإذا أجاز فهو له جائز»}.

وجه الدلالة ما أشار إليه بقوله: {حيث دلّ} قوله(علیه السلام): «إنّه لم يعص اللّه» {بظاهره} أي: مفهومه {أنّ النّكاح لو كان ممّا حرّمه - تعالى - عليه كان فاسداً} ونحو هذه الرّواية بعض الرّوايات الأُخر في نحو هذا الحكم.{و} لكن {لا يخفى} أنّ الاستدلال بنحو هذه الرّواية للمطلب فاسدٌ صغرى وكبرى.

أمّا كبرىً فلأنّه مع فرض الدلالة لا يثبت بمثل هذه الموارد الجزئيّة كبرى كليّة في

ص: 462


1- الكافي 5: 478؛ من لا يحضره الفقيه 3: 541.

أنّ الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية هاهنا: أنّ النّكاح ليس ممّا لم يمضه اللّه ولم يُشرّعه كي يقع فاسداً، ومن المعلوم استتباع المعصية بهذا المعنى للفساد، كما لا يخفى.

___________________________________________

جميع أبواب العقود والإيقاعات وسائر التوصليّات على تلازم النّهي والفساد شرعاً.

وأمّا صغرى فلعدم دلالة هذه الرّواية على المدّعى، ل- {أنّ الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية هاهنا} أي: قوله(علیه السلام): «لم يعص اللّه» {أنّ النّكاح ليس ممّا لم يمضه اللّه ولم يشرّعه كي يقع فاسداً} سواء أجاز المولى أم لم يجز {ومن المعلوم استتباع المعصية بهذا المعنى} أي: بمعنى عدم إمضاء اللّه - سبحانه - وتشريعه، لا بمعنى نهي اللّه عنه {للفساد، كما لا يخفى}.

توضيح المقام: أنّ العصيان على قسمين:

الأوّل: العصيان التابع لعدم الإمضاء والإجازة، مثلاً: لو لم يجز اللّه - تعالى - ولم يمض جعل العقد المعلّق على شرط سبباً لحليّة الفرج، ثمّ جعل شخص ذلك سبباً كان عاصياً له - تعالى - .

الثّاني: العصيان التابع للنهي، مثلاً: لو نهى اللّه - سبحانه - عن المعاملة الرّبويّة، ثمّ عامل شخص بهذه المعاملة كان عاصياً له - تعالى - وكذا معصية العبد لسيّده على نحوين.إذا عرفت هذا قلنا: إنّ قول الرّاوي: «تزوّج بغير إذن سيّده» ظاهر في القسم الأوّل من العصيان، وعلى هذا فالظاهر أنّ المعصية المنفية في قوله: «لم يعص اللّه» والمعصية المثبتة في قوله: «وإنّما عصى سيّده» من مساق واحد، أعني: معصية وضعيّة، أي: العمل بدون الإجازة والإمضاء، لا معصية تكليفيّة، أي: العمل بعد النّهي، فمعنى «لم يعص اللّه» إجازة اللّه - سبحانه - هذا النّكاح، ومفهومه أنّه لو كان ممّا لم يجزه اللّه ولم يمضه كان فاسداً. ولا نزاع في هذا، بل النّزاع في مخالفة النّهي.

ص: 463

ولا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه اللّه ولم يأذن به، كما أُطلق عليه بمجرّد عدم إذن السّيّد فيه أنّه معصية.

___________________________________________

والحاصل: أنّ الرّواية تدلّ بمفهومها على أنّ العصيان النّاشئ عن عدم الإجازة موجب للفساد، ولا تدلّ على محلّ البحث وهو أنّ العصيان النّاشئ عن النّهي موجب للفساد، وإن لم تكتف بما ذكرناه من التوضيح فراجع شرح الخوئيني(1) والرّشتي(2)

- رحمهما اللّه - .

إن قلت: ظاهر المعصية عصيان النّهي فقوله(علیه السلام): «لم يعص اللّه» مفهومه لو خالف النّهي، وحينئذٍ يثبت المطلوب.

قلت: نعم {و} لكن {لا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه اللّه ولم يأذن به، كما أُطلق عليه} أي: على العمل {بمجرّد عدم إذن السّيّد فيه أنّه معصية} نائب فاعل «أُطلق».

وعلّل المصنّف(رحمة الله) في الهامش صحّة إطلاق المعصية بمجرّد عدم الإذن بقوله: «وجه ذلك أنّ العبوديّة تقتضي عدم صدور العبد إلّا عن أمر سيّدهوإذنه، حيث إنّه كَلٌّ عليه لا يقدر على شيء» إشارة إلى قوله - تعالى - : {عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ}(3)، {وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ}(4) «فإذا استقلّ بأمر كان عاصياً حيث أتى بما ينافيه مقام عبوديّته، لا سيّما مثل التزوّج الّذي كان خطيراً» لأنّه يشغل العبد ويذهب ببعض قواه وماله.

«وأمّا وجه أنّه لم يعص اللّه فيه فلأجل كون التزوّج بالنسبة إليه أيضاً كان مشروعاً مطلقاً» بلا شرط وقيد إلّا شرطاً واحداً أشار إليه بقوله: «غايته أنّه يعتبر في تحقّقه

ص: 464


1- شرح كفاية الأصول 2: 215.
2- شرح كفاية الأصول 1: 265.
3- سورة النّحل، الآية: 75.
4- سورة النّحل، الآية: 76.

وبالجملة: لو لم يكن ظاهراً في ذلك، لما كان ظاهراً في ما توهّم.

وهكذا حال سائر الأخبار الواردة في هذا الباب، فراجع وتأمّل.

تذنيب: حُكي(1) عن أبي حنيفة والشّيباني: دلالة النّهي على الصحّة، وعن الفخر: أنّه وافقهما في ذلك(2).

والتحقيق: أنّه في المعاملات كذلك، إذا كان عن المسبّب

___________________________________________

إذن سيّده ورضاه وليس كالنكاح في العدّة غير مشروع من أصله، فإن أجاز» المولى «ما صدر عنه بدون إذنه فقد وجد شرط نفوذه وارتفع محذور عصيانه، فعصيانه لسيّده»(3)

فقط لا للّه - سبحانه - .

{وبالجملة لو لم يكن} هذا الحديث {ظاهراً فيذلك} الّذي ذكرنا من كون العصيان ناشئاً من عدم الإجازة لا من النّهي {لما كان ظاهراً في ما توهّم} من دلالة النّهي على الفساد {وهكذا حال سائر الأخبار الواردة في هذا الباب} فإنّها لا تدلّ على إفادة النّهي للفساد {فراجع وتأمّل} واللّه - تعالى - الموفّق.

{تذنيب}: في دفع وهم {حكي عن أبي حنيفة و} تلميذه محمّد بن الحسن {الشّيباني دلالة النّهي على الصحّة، وعن الفخر} أي: فخر المحقّقين(رحمة الله) نجل العلّامة الحلّي(رحمة الله) {أنّه وافقهما في ذلك} لأنّ النّهي تكليف، والتكليف مشروط بالقدرة، فالنهي عن المعاملة يتوقّف على القدرة على إتيان تلك المعاملة صحيحاً، وإلّا فلو لم يكن المكلّف قادراً على إتيانها كان النّهي لغواً.

{والتحقيق} في ذلك التفصيل و{أنّه في المعاملات كذلك} يدلّ على الصحّة {إذا كان عن المسبّب} كالنهي عن بيع المصحف للكافر الرّاجع إلى مبغوضيّة تملّكه له

ص: 465


1- قوانين الأصول 1: 213؛ مطارح الأنظار 1: 763.
2- مطارح الأنظار 1: 763، حيث قال: «ووافقهما فخر المحقّقين في نهاية المأمول...».
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 254.

أو التسبيب؛ لاعتبار القدرة في متعلّق النّهي، كالأمر، ولا يكاد يقدر عليهما إلّا في ما كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة.

وأمّا إذا كان عن السّبب، فلا؛ لكونه مقدوراً وإن لم يكن صحيحاً. نعم، قد عرفت أنّ النّهي عنه لا ينافيها.

وأمّا العبادات: فما كان منها عبادة ذاتيّة - كالسجود والرّكوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى - فمع النّهي عنه يكون مقدوراً، كما إذا كان مأموراً به.

___________________________________________

{أو التسبيب} أي: جعل هذا الشّيء سبباً لهذا الأثر، كما تقدّم في مثال الظهار.

وإنّما قلنا بدلالة النّهي على صحّة هذين القسمين {لاعتبار القدرة في متعلّق النّهي ك-} اعتبارها في متعلّق {الأمر ولا يكاد يقدر عليهما} أي: على المسبّب والتسبيب {إلّا في ما كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة} إذ لو كانت فاسدة لم يقدر على المسبّب في الأوّل وعلى التسبيب في الثّاني.

{وأمّا إذا كان} النّهي {عن السّبب} كالنهي عن البيع وقت النّداء الرّاجع إلى النّهي عن العقد واللفظ في هذا الوقت {فلا} يدلّ النّهي على صحّتها {لكونه} أي: السّبب وهو اللفظ أمراً {مقدوراً} للمكلّف {وإن لم يكن صحيحاً} ومؤثّراً للأثر.

{نعم} لا يدلّ النّهي في هذا القسم على الفساد، كما لا يدلّ على الصحّة، لما {قد عرفت} من {أنّ النّهي عنه لا ينافيها} أي: لا ينافي الصحّة حتّى يدلّ على الفساد.

هذا تمام الكلام في المعاملات، وقد ظهر أنّها على ثلاثة أقسام، وأنّ النّهي في قسمين، منها يدلّ على الصحّة، وفي قسم منها لا يدلّ على شيء أصلاً، لا على الصحّة ولا على الفساد.

{وأمّا} النّهي في {العبادات ف-} فيه تفصيل، إذ {ما كان منها عبادة ذاتيّة} بحيث تقع عبادة ولو لم يقصد بها القربة {كالسجود والرّكوع والخشوع والخضوع له - تبارك وتعالى - فمع النّهي عنه يكون مقدوراً}للمكلّف {كما إذا كان مأموراً به}

ص: 466

وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأموراً به، فلا يكاد يقدر عليه إلّا إذا قيل باجتماع الأمر والنّهي في شيء ولو بعنوان واحد، وهو محال. وقد عرفت: أنّ النّهي في هذا القسم إنّما يكون نهياً عن العبادة، بمعنى أنّه لو كان مأموراً به، كان الأمرَ به أمر عبادة

___________________________________________

وفي هذا القسم لا يكشف النّهي عن الصحّة، فإنّ النّهي وإن كان مشروطاً بالقدرة، لكن القدرة لا تلازم الصحّة، فهذا السّجود مثلاً يقع باطلاً محتاجاً إلى القضاء والإعادة مع أنّه مقدور للمكلّف.

{وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأموراً به} بحيث كانت عباديّته تدور مدار قصد القربة - كالصلاة - {فلا يكاد يقدر عليه} المكلّف مع النّهي، إذ إيجادها عبادة يتوقّف على قصد القربة، وقصد القربة موقوف على الأمر، والأمر والنّهي لا يجتمعان في شيء واحد بعنوان واحد {إلّا إذا قيل باجتماع الأمر والنّهي في شيء} واحد {ولو بعنوان واحد، وهو محال} لما عرفت من أنّ المجوّزين للاجتماع إنّما يجوّزونه في ما إذا كان تعلّق الأمر والنّهي بعنوانين.

وفي هذا القسم يكشف النّهي عن الصحّة، فإنّ النّهي مشروط بالقدرة على العبادة، وكونها عبادة يتوقّف على قصد القربة المتوقّف على الأمر الملازم للصحّة.

وبعبارة أُخرى: إنّ الصلاة المنهي عنها لو كانت باطلة لم تكن عبادة فعليّة، والمفروض تعلّق النّهي بالعبادة الفعليّة. والحاصل: أنّ النّهي عن العبادة الفعليّة يدلّ على صحّتها.{و} لكن {قد عرفت} سابقاً {أنّ النّهي في هذا القسم} من العبادة المحتاجة في عباديّتها إلى قصد القربة لا يتعلّق بالعبادة الفعليّة حتّى يدلّ على صحّتها، ويلزم منه اجتماع الأمر والنّهي في شيء واحد بعنوان واحد، بل {إنّما يكون نهياً عن العبادة} الشّأنيّة {بمعنى أنّه لو كان مأموراً به كان الأمر به أمر عبادة} أي:

ص: 467

لا يسقط إلّا بقصد القربة،

___________________________________________

{لا يسقط إلّا بقصد القربة} فالنهي لا يكشف عن صحّتها، إذ النّهي وإن كان مشروطاً بالقدرة لكن القدرة على العبادة الشّأنيّة لا يتوقّف على قصد القربة حتّى يتوقّف على الأمر الملازم للصحّة.

فتحصّل: من تحقيق المصنّف(رحمة الله) في هذا الباب أنّ كلّاً من المعاملات والعبادات على ثلاثة أقسام، والنّهي في المعاملات يدلّ على الصحّة في ما كان متعلّقاً بالمسبّب أو التسبيب ولا يدلّ على الصحّة في ما كان متعلّقاً بالسبب، وفي العبادات لا يدلّ على الصحّة في ما كان متعلّقاً بالعبادة الذاتيّة كالسجود أو بالعبادة الشّأنيّة الّتي لو أمر بها لكان عبادة كالصلاة قبل الأمر بها، ويدلّ على الصحّة في ما كان متعلّقاً بالعبادة الفعليّة، كالصلاة بعد الأمر بها، ولكن تعلّق النّهي بهذا القسم من العبادة مستحيل للزومه اجتماع الأمر والنّهي المحال، فالنهي يدلّ على الصحّة في أقسام ثلاثة ولا يدلّ عليها في أقسام ثلاثة.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) في الهامش على قوله: «والتحقيق أنّه في المعاملات كذلك» الخ ما لفظه: «ملخّصه» أي: ملخّص التحقيق «إنّ الكبرى وهي: أنّ النّهي حقيقة» لا بالعرض «إذا تعلّق بشيء ذي أثر كان دالّاً على صحّته وترتّب أثره عليه لاعتبار القدرة في ما تعلّق به النّهي كذلك» أي: حقيقة «وإنكانت مسلّمة، إلّا أنّ النّهي كذلك» حقيقة «لا يكاد يتعلّق بالعبادات» الفعليّة «ضرورة امتناع تعلّق النّهي كذلك» حقيقة «بما تعلّق به الأمر كذلك» حقيقة، إذ لا يجتمع الأمر والنّهي في شيء واحد بعنوان واحد «وتعلّقه» أي: النّهي «بالعبادات بالمعنى الأوّل» أي: العبادة الذاتيّة كالسجود «وإن كان ممكناً إلّا أنّ أثر المرغوب منها عقلاً أو شرعاً» من استحقاق الثواب وسقوط القضاء والإعادة ونحوها «غير مرتب عليها مطلقا» أي: سواء كان محرّماً أم لا، وفسّره بقوله: «بل

ص: 468

فافهم.

___________________________________________

على خصوص ما ليس بحرام منها، وهكذا الحال في المعاملات، فإن كان الأثر في معاملة مترتّباً عليها ولازماً لوجودها» كالحرمة في الظهار «كان النّهي عنها دالّاً على ترتّبه عليها، لما عرفت»(1) من أنّه لو لم يكن مترتّباً عليها لم يكن وجه للنهي عنها.

{فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ النّهي في المعاملات حتّى ما كان عن المسبّب أو التسبيب لا يدلّ على الصحّة، لاحتمال أن يكون إرشاداً إلى عدم ترتّب الأثر، بمعنى أنّ هذه العرفيّة الّتي يرتّبون عليها الأثر لا يترتّب عليها الأثر في نظر الشّارع، بل يمكن أن يكون إشارة إلى لزوم التناقض لو دلّ النّهي على الصحّة؛ لأنّ الصحّة ملازمة للإمضاء الشّرعي والنّهي ملازم لعدم الإمضاء.

ص: 469


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 256.

ص: 470

فهرس المحتويات

الفصل الرّابع: في مقدّمة ا لواجب........ 5

الأمر الأوّل: المسألة أصولية عقلية...... 5

الأمر الثّاني: أقسام المقدّمة... 8

المقدّمة الداخليّة والخارجيّة..... 8

خروج الأجزاء عن المتنازع فيه.... 11

المقدّمة الخارجيّة........ 16

المقدّمة العقليّة والشّرعيّة والعادية........ 18

مقدّمة الوجود والصحّة والوجوب والعلم....... 21

تقسيم المقدّمة إلى المتقدّم والمقارن والمتأخّر........ 24

الأمر الثّالث: في تقسيمات الواجب...... 35

التقسيم الأوّل: الواجب المطلق والمشروط... 35

رجوع الشرط في الواجب المشروط إلى نفس الوجوب... 38

فائدة إنشاء الوجوب المشروط...... 49

وجوب التعلّم...... 53

تذنيب:

هل إطلاق الواجب على الواجب المشروط على نحو الحقيقة أو المجاز؟... 54

التقسيم الثّاني: تقسيم الواجب إلى معلّق ومنجّز... 57

المناط في فعليّة وجوب المقدّمة هو فعليّة وجوب ذيها..... 70

وجوب المقدّمات قبل الوقت ووجوه دفع الإشكال فيها..... 72

تتمّة:

دوران الأمر بين رجوع القيد إلى المادة أو الهيئة...... 78

وجهان لترجيح إطلاق الهيئة على إطلاق المادة..... 79

التقسيم الثّالث: تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري..... 87

ص: 471

حكم الشك في النفسيّة والغيريّة..... 93

تذنيبان:

في استحقاق الثواب والعقاب على امتثال الأمر الغيري ومخالفته........ 100

إشكالٌ ودفع....... 104

هل يعتبر في الطهارات قصد التوصّل إلى

غاياتها؟...... 111

الأمر الرّابع: في ما هو الواجب في باب المقدّمة........ 115

هل يعتبر قصد التوصّل في المقدمة أو ترتب ذي المقدمة عليها؟.... 116

ثمرة القول بالمقدمة الموصلة ..... 149

التقسيم الرّابع: تقسيم الواجب إلى الواجب الأصلي والتبعي........ 155

الواجب النفسي يتصف بالأصالة دون التبعية....... 157

تنبيهان..... 158

تذنيب: في ثمرة مسألة مقدمة الواجب....... 162

تأسيس الأصل في المسألة... 174

تتمّة: مقدمة المستحب والحرام والمكروه........ 188

الفصل الخامس: الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده؟....... 191

المراد من الاقتضاء والضد........ 191

توهم مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر ...... 192

الكلام في دلالة الأمر تضمّناً على النهي عن الضد العام....... 211

ثمرة المسألة ..... 213

بحث الترتب...... 215

إمكان الترتب مساوق لوقوعه..... 231

الفصل السّادس: في عدم جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه..... 232

الفصل السابع: تعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع........ 236

المراد بتعلق الأوامر بالطبائع..... 238

دفع وهم.... 240

الفصل الثامن: هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب..... 244

ص: 472

الفصل التاسع: الواجب التخييري....... 249

التخيير العقلي.... 252

التخيير الشرعي....... 255

الكلام في التخيير بين الأقل والأكثر.... 259

الفصل العاشر: في الواجب الكفائي.... 264

الفصل الحادي عشر: الواجب الموقّت والموسّع........ 266

التخيير بين أفراد الموسع عقلي لا شرعي... 267

هل القضاء تابعٌ للأداء....... 269

الفصل الثّاني عشر: الأمر بالأمر....... 271

الفصل الثّالث عشر: الأمر بعد الأمر... 273

المقصد الثّاني: في النواهي

المقصد الثّاني: في النّواهي...... 277

فصل: مفاد مادة النهي وصيغته....... 279

هل متعلق الطلب في النهي هو الكف أو مجرّد الترك... 279

عدم دلالة صيغة النهي على التكرار.... 281

عدم دلالة النهي على استمراره أو سقوطه في فرض العصيان..... 283

فصل: اجتماع الأمر والنهي...... 284

يقدم أمورٌ........ 285

الأوّل: معنى الواحد... 285

الثّاني: الفرق بين المسألتين....... 286

الثّالث:أصولية المسألة...... 291

الرّابع:عقلية المسألة........ 293

الخامس:عمومية ملاك النزاع.... 296

السّادس:هل المندوحة معتبرة؟... 298

السابع:عدم ارتباط المسألة بمسألة تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد........ 301

ص: 473

الثامن:اشتراط التزاحم في مسألة الاجتماع........ 305

التاسع:طريق إحراز المناط في الجمع....... 309

العاشر:ثمرة البحث... 313

تضادالأحكام الخمسة....... 322

تعلّق الأحكام بأفعال المكلّفين لا بعناوينها..... 323

تعددالعنوان لا يوجب تعدد المعنون وجوداً........ 325

الواحد وجوداً واحدٌ ماهية... 327

تقريردليل الامتناع... 330

أدله القول بجواز الاجتماع....... 336

الدليل الأوّل...... 336

أقسام العبادات المكروهة.... 339

الدليل الثّاني...... 359

القول بالجواز عقلاً والامتناع عرفاً والمناقشة فيه........ 361

تنبيهات بحث الاجتماع..... 363

التنبيه الأوّل: مناط الاضطرار الرافع للحرمة..... 363

حكم الاضطرار بسوء الاختيار بناءً على الجواز والامتناع... 365حكم

شرب الخمر علاجاً.... 377

ثمرة الأقوال في المسألة.... 392

التنبيه الثّاني: صغروية المقام لكبرى التزاحم أو التعارض........ 395

وجوه ترجيح النهي على الأمر.... 401

النهي أقوى دلالة من الأمر........ 401

دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة..... 407

الاستقراء... 415

التنبيه الثّالث: لحوق تعدد الإضافات بتعدد الجهات.... 420

فصل:في أنّ النّهي عن الشّيء هل يقتضي فساده أم لا؟.... 423

ص: 474

الأمر الأوّل: الفرق بين هذه المسألة ومسألة الاجتماع... 423

الأمرالثّاني: الوجه في عدّ المسألة من مباحث الألفاظ........ 424

الأمرالثّالث: شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي والغيري... 426

الأمر الرّابع: المراد من العبادة في محل النزاع... 429

الأمر الخامس: تحرير محل النزاع..... 433

الأمر السّادس: اختلاف الصحة والفساد بحسب الآثار والأنظار..... 434

هل الصحة والفساد من الأمور المجعولة أو العقلية أو الأعتبارية... 439

الأمر السّابع: لا أصل في المسألة...... 444

الأمر الثّامن: أقسام متعلق النهي في العبادات وأحکامها....... 445

المقام الأوّل: اقتضاء النهي عن العبادة للفساد...... 452

المقام الثّاني: عدم اقتضاء النهي عن المعاملة للفساد..... 458

الكلام في دلالة النهي على الصحة..... 465

فهرس المحتويات..... 471

ص: 475

المجلد 3

هویة الکتاب

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : کفایه الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصول الی کفایه الاصول/ السیدمحمد الحسینی الشیرازی ؛ [برای] الشجرةالطیبه.

مشخصات نشر : قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.= 1399.

مشخصات ظاهری : 5ج.

شابک : دوره:9789642045242 ؛ ج.2:9789642045228 ؛ ج.2:9789642045235 ؛ ج.3:9789642045259 ؛ ج.4:9789642045266 ؛ ج.5:9789642045273

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : این کتاب شرحی بر کفایه الاصول، آخوند خراسانی است.

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

موضوع : اصول فقه شیعه -- قرن 14

Islamic law, shiites -- Interpretation and construction -- 20th century

شناسه افزوده : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

شناسه افزوده : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

شناسه افزوده : موسسه شجره طیبه(قم)

رده بندی کنگره : BP159/8

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 6131319

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا

ص: 1

اشارة

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمة الله)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة:السابعة والأربعون، الأولى

للناشر - 1441ه .ق

-------------------

شابك (الدورة): 2204524964978

شابك (المجلد الرابع): 6204526964978

-------------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم قم

المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

وبعد:

فهذا هو الجزء الثّالث من الوصول في شرح كفاية الأصول للمحقّق آية اللّه الخراساني(قدس سره) كتبته للإيضاح، واللّه أسأل التوفيق والتمام والثّواب، إنّه وليّ ذلك، وهوالمستعان.

كربلاء المقدّسة

محمّد بن المهدي

ص: 3

ص: 4

المقصد الثّالث: في المفاهيم

اشارة

ص: 5

ص: 6

المقصد الثّالث: في المفاهيم

مقدّمة: وهي أنّ المفهوم - كما يظهر من موارد إطلاقه - هو عبارة عن حكم إنشائيّ أو إخباريّ، تستتبعه خصوصيّة المعنى الّذي أُريد من اللفظ بتلك الخصوصيّة،

___________________________________________

[المقصد الثّالث في المفاهيم]

المقصد الثّالث: في المفاهيم

{المقصد الثّالث: في المفاهيم. مقدّمة} في بيان معنى المفهوم {وهي أنّ المفهوم - كما يظهر من موارد إطلاقه -} لغة وعرفاً {هو عبارة عن حكم إنشائي} إذا كان المنطوق إنشاءً نحو (أكرم زيداً إن جاءَكَ) {أو إخباري} إذا كان المنطوق خبراً نحو (إن كانت الشّمس طالعة فالنهار موجود) {تستتبعه} أي: تستتبع هذا الحكم {خصوصيّة المعنى الّذي أُريد من اللفظ} فعدم إكرام زيد على تقدير عدم المجيء، وعدم وجود النّهار على تقدير عدم طلوع الشّمس، حكمان لازمان لخصوصيّة معنى (إن) الشّرطيّة الّذي أُريد من (أكرم زيداً) الخ و(إن كانت) الخ {بتلك الخصوصيّة} متعلّق بقوله: «أُريد من اللفظ».

قال السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - : «يعني تكون تلك الخصوصيّة مدلولاً عليها باللّفظ، وبذلك تخرج المداليل الالتزاميّة مثل وجوب المقدّمة وحرمة الضّدّ، فإنّ اللّفظ إنّما يدلّ على ذي الخصوصيّة لا غير وهي تستفاد منخارج اللفظ، بخلاف خصوصيّة المنطوق المستتبعة للمفهوم، فإنّها مدلول عليها باللفظ»(1)،

انتهى.

ص: 7


1- حقائق الأصول 1: 445.

ولو بقرينة الحكمة، وكان يلزمه لذلك، وافقه في الإيجاب والسّلب أو خالفه.

فمفهوم (إن جاءك زيد فأكرمه) مثلاً - لو قيل به - قضيّة شرطيّة سالبة بشرطها وجزائها،

___________________________________________

{ولو} كانت دلالة اللفظ على الخصوصيّة {بقرينة الحكمة} ومقدّمات الإطلاق {وكان} المفهوم {يلزمه} أي: يلزم اللفظ {لذلك} الأمر الموجود في المنطوق المعبّر عنه بالخصوصيّة.

فتحصّل ممّا تقدّم أنّ المفهوم حكم غير مذكور في القضيّة، ولكن لازم لها من جهة أنّ القضيّة مشتملة على خصوصيّة - ولو بقرينة الحكمة - تلازم ذلك الحكم غير المذكور سواء {وافقه} أي: وافق المفهوم لفظ القضيّة {في الإيجاب} نحو «صل من قطعك»(1)

فإنّه يدلّ على صلة الوَصُول بطريق أولى {والسّلب} نحو قوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ}(2)، فإنّه يدلّ على عدم ضربهما بطريق أولى.

وهذا القسم - أعني: ما وافق المفهوم مع المنطوق إيجاباً وسلباً - يسمّى بمفهوم الموافقة ولحن الخطاب {أو خالفه} بأن كان المفهوم إيجاباً والمنطوق سلباً نحو (إن لم يجئك زيد فأهنه) فإنّ مفهومه: (إن جائك فلا تهنه) أو بالعكس نحو (إن جاءك فأكرمه) فإنّ مفهومه: (إن لم يجئك فلا تكرمه){فمفهوم (إن جاءَكَ زيد فأكرمه) مثلاً - لو قيل به - قضيّة شرطيّة سالبة بشرطها وجزائها} الجار متعلّق بقوله: «سالبة»، أي: إنّ كلّا من الشّرط والجزاء في المفهوم مقترن بحرف السّلب، إذ المفهوم (إن لم يجئك فلا تكرمه). وفيه تسامح لا يخفى.

ومن المحتمل أن يكون الضّمير في قوله: «بشرطها وجزائها» راجعاً إلى القضيّة في المنطوق، أي: يكون الشّرط والجزاء في المفهوم بعين الشّرط والجزاء

ص: 8


1- من لا يحضره الفقيه 4: 179.
2- سورة الإسراء، الآية: 23.

لازمة للقضيّة الشّرطيّة الّتي يكون معنى القضيّة اللفظيّة، ويكون لها خصوصيّة، بتلك الخصوصيّة كانت مستلزمة لها.

فصحّ أن يقال: «إنّ المفهوم إنّما هو حكم غير مذكور» لا أنّه حكم لغير مذكور - كما فسّر به(1) - ، وقد وقع فيه

___________________________________________

في المنطوق.

وكيف كان، فهذه القضيّة الشّرطيّة السّالبة الّتي هي مفهوم {لازمة للقضيّة الشّرطيّة} الموجبة في المنطوق {الّتي يكون معنى القضيّة اللفظيّة، ويكون لها} أي: للقضيّة الشّرطيّة الموجبة في المنطوق {خصوصيّة} أمّا في مفهوم الموافقة فالخصوصيّة هي أنّ ثبوت الحكم في الموضوع الأخفّ يستلزم ثبوته للموضوع الأشد، مثلاً ثبوت الحرمة لكلمة (أُفّ) يستلزم ثبوتها للضّرب.

وأمّا في مفهوم المخالفة فالخصوصيّة هي كون الجزاء مترتّباً على الشّرط ترتّب المعلول على العلّة المنحصرة، مثلاً: ترتّب وجود النّهار على طلوع الشّمس بنحوترتّب المعلول على العلّة المنحصرة يستلزم عدم وجود النّهار عند عدم طلوع الشّمس {ب-} سبب {تلك الخصوصيّة كانت} القضيّة اللفظيّة {مستلزمة لها} أي: للقضيّة المفهوميّة {فصحّ} تفريع على التعريف المتقدّم للمفهوم، أي: لمّا كان المفهوم عبارة عن حكم تستتبعه خصوصيّة المعنى - الظاهر في كون المفهوم هو الحكم فقط لا الموضوع - صحّ {أن يقال: «إنّ المفهوم إنّما هو حكم غير مذكور»} لموضوع مذكور، فإنّ (عدم إكرام زيدٍ على تقدير عدم مجيئه) حكم لم يذكر في منطوق اللفظ، وأمّا موضوعه - أعني: زيداً - فهو مذكور في الكلام، ولهذا {لا} يصحّ أن يقال في تعريف المفهوم {أنّه حكم ل-} موضوع {غير مذكور} في اللفظ {كما فسّر به} والمفسِّرُ هو العضديّ كما حُكِيَ {وقد وقع فيه} أي: في هذا التفسير

ص: 9


1- كما عن العضدي في شرح المختصر: 306.

النّقض والإبرام، بين الأعلام(1)، مع أنّه لا موقع له - كما أشرنا إليه في غير مقام - ؛ لأنّه من قبيل شرح الاسم، كما في التفسير اللغوي.

ومنه قد انقدح حال غير هذا التفسير ممّا ذكر في المقام، فلا يهمّنا التصدّي لذلك، كما لا يهمّنا بيان

___________________________________________

{النّقض والإبرام بين الأعلام} فقد قيل بأنّ هذا التعريف غير مطّرد لشموله لمقدّمة الواجب، فإنّ وجوب المقدّمة المستفاد من وجوب ذيها حكم لغير مذكور، إذ المقدّمة لم تذكر في القضيّة المفيدة لوجوب ذيها، وغير منعكس لخروج نحو (أكرم زيداً إن جاءك) فإنّ مفهومها عدم وجوب إكرام زيد على تقدير عدم المجيء، وموضوع هذا الحكم المفهومي وهو زيد مذكورفي القضيّة {مع أنّه لا موقع له} أي: للنقض والإبرام {كما أشرنا إليه في غير مقام ل-} ما تقدّم من {أنّه من قبيل شرح الاسم، كما في التفسير اللغوي} فإنّهم إنّما هم في صدد شرح الاسم في اللغات وتبديل ألفاظها بألفاظ أظهر منها لدى العرف باعتقادهم، ومثل هذا النّحو من التفسير قد يكون أعمّ وقد يكون أخص.

{ومنه قد انقدح حال غير هذا التفسير} المنسوب إلى العضدي {ممّا ذكر في المقام} كما في التقريرات وغيره {فلا يهمّنا التصدّي لذلك} أي: لغير هذا التفسير من سائر التفاسير {كما} تقدّم من أنّه {لا يهمّنا بيان} النّقض والإبرام في تعريف العضدي.

ثمّ إنّ هاهنا نزاعاً آخر، وهو أنّه هل المفهوم من صفات المعنى والمدلول، أو من صفات الدلالة؟ وأمّا القول بأنّه من صفات الدالّ فلم يذهب إليه أحد.

وتوضيح ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، وهي أنّ الصّفات على ثلاثة أقسام:

الأوّل: صفات المدلول كالكلّيّة والجزئيّة والذاتيّة والعرضيّة ونحوها. مثلاً لفظ

ص: 10


1- الفصول الغرويّة: 145؛ مطارح الأنظار 2: 12.

أنّه من صفات المدلول أو الدلالة؛ وإن كان بصفات المدلول أشبه، وتوصيف الدلالة - أحياناً - كان من باب التوصيف بحال المتعلّق.

___________________________________________

الإنسان ليس كليّاً، وكذا دلالة الإنسان على معناه ليست كليّة، وإنّما الكلّي هو مدلول الإنسان، وعلى هذا فلو اتّصف لفظ الإنسان أو دلالته على معناه بالكليّة كان من قبيل الوصف بحال متعلّق الموصوف، إذ الموصوف الحقيقي هو المعنى لا اللفظ والدلالة.الثّاني: صفات الدالّ كالثلاثيّة والرّباعيّة والمجرديّة والمزيديّة، فإنّها صفات لفظ (الإنسان) ونحوه لا صفات مدلوله ولا صفات دلالته، ولو اتصف أحدهما بهذا النّحو من الأوصاف كان مجازاً.

الثّالث: صفات الدلالة كالنصوصيّة والظهور والصّراحة ونحوها، فإنّها صفات دلالة الإنسان ونحوه على معناه، فإنّ هذا اللفظ بما هو لفظ ليس نصّاً مثلاً، والمعنى بما هو معنى كذلك، وإنّما النّصّ هو دلالة اللفظ على معناه حتّى لو اتصف اللفظ أو المعنى بإحدى هذه الأوصاف كان مجازاً.

إذا عرفت ذلك قلنا: قد وقع النّزاع في المفهوم و{أنّه من صفات المدلول} إذ المفهوم حكم ملازم لخصوصيّة المعنى، فلا بدّ وأن يكون صفة للمعنى والمدلول {أو الدلالة} حيث لا يتصف به المعنى من حيث هو وإنّما يتّصف به بلحاظ الدلالة، بمعنى أنّ الدلالة لو كانت تابعة سمّيت مفهوماً، ولا يهمّنا التعرّض للنزاع تفصيلاً {وإن كان بصفات المدلول أشبه} كما ترى من أنّهم يفسّرون المنطوق والمفهوم بالحكم، فيقولون: المنطوق هو الحكم المستتتبع، والمفهوم: هو الحكم المستتبع، ومن البديهي أنّ الحكم هو المدلول لا الدلالة، فتأمّل.

{وتوصيف الدلالة} بالمفهوم والمنطوق {أحياناً} كما يقولون: «الدلالة المنطوقيّة أقوى من الدلالة المفهوميّة» {كان من باب التوصيف بحال المتعلّق} لا

ص: 11

وقد انقدح من ذلك: أنّ النّزاع في ثبوت المفهوم وعدمه في الحقيقة، إنّما يكون في أنّ القضيّة الشّرطيّة أو الوصفيّة أو غيرهما، هل تدلّ - بالوضع أو بالقرينة العامّة - على تلك الخصوصيّة المستتبعة لتلك القضيّة الأُخرى، أم لا؟

فصل: الجملة الشّرطيّةهل تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء - كما تدلّ على الثّبوت عند الثّبوت بلا كلام -

___________________________________________

من التوصيف بحال الموصوف(1).

{وقد انقدح من ذلك} الّذي ذكرنا من أنّ المفهوم حكم تستتبعه خصوصيّة المعنى {أنّ النّزاع} بين الأعلام {في ثبوت المفهوم وعدمه في الحقيقة} متعلّق بالنزاع {إنّما يكون في أنّ القضيّة الشّرطيّة أو الوصفيّة أو غيرهما} كالغائيّة والعدديّة {هل تدلّ بالوضع أوبالقرينة العامّة} أي: مقدّمات الحكمة {على تلك الخصوصيّه المستتبعة لتلك القضيّة الأُخرى} أي: المفهوم {أم لا؟} وليس النّزاع في حجيّة المفهوم بعد ثبوته، فليس هذا النّزاع من قبيل النّزاع في حجيّة خبر الواحد.

والحاصل: أنّ النّزاع في أصل الدلالة لا في الحجيّة بعد الدلالة، وبهذا ظهر أنّ النّزاع إنّما هو الصّغرى لا في الكبرى، فقول بعض العلماء: هل المفهوم حجّة أم لا؟ يراد به ما ذكرنا، فهو عبارة أُخرى عن قولهم: هل للقضيّة الشّرطيّة مفهوم أم لا؟

[فصل مفهوم الشرط]

اشارة

المقصد الثّالث: في المفاهيم، مفهوم الشرط

{فصل} في مفهوم الشّرط {الجملة الشّرطيّة} سواء كان بلفظة (إن) أم بغيرها من سائر أدوات الشّرط نحو (من)، و(ما)، ومهما وغيرها {هل تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء كما تدلّ على الثّبوت عند الثّبوت بلا كلام} متعلّق بقوله: «كماتدلّ» فكما أنّ نحو (إن جاءك زيد فأكرمه) يدلّ على ثبوت الجزاء وهو الإكرام عند ثبوت

ص: 12


1- يعني: الدلالة الّتي مدلولها منطوقي أو مفهومي، كما أنّ معنى (الإنسان كلّيّ): الإنسان معناه كلّيّ.

أم لا؟ فيه خلاف بين الأعلام.

لا شبهة في استعمالها وإرادة الانتفاء عند الانتفاء في غير مقام، إنّما الإشكال والخلاف في أنّه بالوضع أو بقرينة عامّة، بحيث لا بدّ من الحمل عليه، لو لم يقم على خلافه قرينة من حال أو مقال؟

فلا بدّ للقائل بالدلالة من إقامة الدليل على الدلالة - بأحد الوجهين - على تلك الخصوصيّة المستتبعة لترتّب الجزاء على الشّرط، نحو ترتّب المعلول على علّته المنحصرة.

وأمّا القائل بعدم الدلالة ففي فُسحة؛ فإنّ له

___________________________________________

الشّرط وهو المجيء، يدلّ على انتفاء الجزاء عند انتفاء المجيء {أم لا} يدلّ على المفهوم؟ {فيه خلاف بين الأعلام}:

فذهب العلّامة وابنه وصاحب المعالم وجماعة من المحقّقين إلى الدلالة(1).

وقال السّيّد المرتضى وابن زهرة وجماعة أُخرى بعدم الدلالة(2).

وتحرير محلّ النّزاع أنّه {لا شبهة في استعمالها} أي: الجملة الشّرطيّة {وإرادة الانتفاء عند الانتفاء في غير مقامٍ} واحدٍ، وهذا لا إشكال فيه ولا خلاف، و{إنّما الإشكال والخلاف في أنّه بالوضع أو بقرينة عامّة} أي: مقدّمات الحكمة {بحيث لا بدّ من الحملعليه} أي: على المفهوم {لو لم يقم على خلافه قرينة من حال أو مقال، فلا بدّ للقائل بالدلالة من إقامة الدليل على الدلالة بأحد الوجهين} أي: بالوضع أو بقرينة عامّة {على} وجود {تلك الخصوصيّة} في لفظ المنطوق {المتستتبعة لترتّب الجزاء على الشّرط، نحو ترتّب المعلول على علّته المنحصرة} حتّى يكون بحيث لو انتفت العلّة انتفى المعلول لفرض انحصارها {وأمّا القائل بعدم الدلالة ففي فسحة} عن إقامة الدليل على العدم {فإنّ له} منع الدلالة من جهات عديدة:

ص: 13


1- نهاية الوصول 2: 517؛ معالم الدين: 77؛ معارج الأصول: 102؛ مفاتيح الأصول: 207.
2- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 406؛ المحصول 2: 122؛ الإحكام في أصول الأحكام 2: 96.

منع دلالتها على اللزوم - بل على مجرّد الثّبوت عند الثّبوت، ولو من باب الاتفاق - ، أو منع دلالتها على الترتّب، أو على نحو الترتّب على العلّة، أو العلّة المنحصرة، بعد تسليم اللزوم

___________________________________________

الأوّل: {منع دلالتها} أي: القضيّة الشّرطيّة {على اللزوم} بأن يقول: لا نسلّم الملازمة بين الشّرط والجزاء حتّى يكون انتفاء الشّرط سبباً لانتفاء الجزاء {بل} الجملة الشّرطيّة إنّما تدلّ {على مجرّد الثّبوت} أي: ثبوت الجزاء {عند الثّبوت} أي: ثبوت الشّرط {ولو من باب الاتفاق} نحو (إن كان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق) فإنّ التلازم بين الطرفين من باب الاتفاق، يعني لا عليّة في البين، وعليه فلا يلزم الانتفاء عند الانتفاء.

الثّاني: {أو منع دلالتها على الترتّب} بأن يقول: لا نسلّم ترتّب الجزاء على الشّرط - وإن سلّمنا الملازمة بينهما - بل الجملة الشّرطيّة إنّما تدلّ على عدم الانفكاك بينهما، ومن الممكن أن يكونا موجودينفي عرض واحد نحو (إن كان الخمر حراماً كان بيعها باطلاً) مع أنّ كلّاً منهما معلول للإسكار مثلاً، فتأمّل(1).

الثّالث: {أو} منع دلالتها {على نحو الترتّب على العلّة} بعد تسليم الدلالة على الترتّب، فيقال: لا نسلّم دلالة القضيّة على كون الجزاء مترتّباً على الشّرط بنحو الترتّب على العلّة التامّة بل إنّما تدلّ على كون المقدّم علّة، أمّا أنّها تامّة فلا، إذ من المحتمل كونه علّة ناقصة، ويعبّر عنه بالتقدّم بالطبع، كتقدّم الخشب على السّرير(2).

الرّابع: {أو} منع دلالتها على ترتّب الجزاء على الشّرط نحو الترتّب على {العلّة المنحصرة} وذلك {بعد تسليم} الأُمور الثّلاثة الأُوَل، أعني: {اللزوم} أو

ص: 14


1- وجهه أنّ عدم الترتّب على تقدير تسليم اللزوم غير رافع للمفهوم، إذ قوام المفهوم بالتلازم لا بالترتّب.
2- وجهه ما تقدّم من أنّ الترتّب على العلّة النّاقصة يستلزم الانتفاء عند الانتفاء، نعم، لا يستلزم الثّبوت عند الثّبوت.

أو العليّة.

لكن منع دلالتها على اللزوم، ودعوى كونها اتفاقيّة في غاية السّقوط؛ لانسباق اللزوم منها قطعاً.

وأمّا المنع عن أنّه بنحو الترتّب على العلّة - فضلاً عن كونها منحصرة - فله مجال واسع.

ودعوى: تبادر اللزوم والترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة - مع كثرة استعمالها في الترتّب على نحو الترتّب على الغير المنحصرة منها،

___________________________________________

الترتّب {أو العليّة} وذلك لاحتمال أن يكون لشيء واحد علل تامّةمتبادلة، نحو (إذا طلعت الشّمس كانت الغرفة مضيئة) فإنّه لا يدلّ على عدم إضاءة الغرفة حين عدم طلوع الشّمس، لاحتمال كونها مضيئة بالسِّراج والنّار ونحوهما {لكن منع دلالتها على اللزوم، ودعوى} احتمال {كونها اتفاقيّة} كما ذكرناه في الأمر الأوّل من وجوه المنع {في غاية السّقوط، لانسباق اللزوم منها} أي: من القضيّة الشّرطيّة {قطعاً} فإنّه لو لم يكن قرينة في البين وقال المولى: (إذا جاء زيد أكرمه) فهم منه التلازم بين وجوب الإكرام والمجيء.

{وأمّا} ما ذكر من الوجوه الثّلاثة الأُخرى للمنع، أعني: {المنع عن أنّه بنحو الترتّب} أو المنع عن كون الترتّب {على} نحو الترتّب على {العلّة - فضلاً عن كونها منحصرة - فله مجال واسع} إذ لا دلالة للجملة الشّرطيّة إلّا على الملازمة، والغالب تعدّد العلّة وكون الملازمة من جهة كونهما معلولين لعلّة ثالثة.

[أدلة القائلين بمفهوم الشرط]

{ودعوى تبادر اللّزوم} من الجملة الشّرطيّة {والترتّب} للجزاء على الشّرط {بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة} حتّى تكون مفيدة للمفهوم {مع كثرة} ما نرى من {استعمالها في الترتّب على نحو الترتّب على} العلّة {الغير المنحصرة منها} أي: من العلّة نحو (إذا كانت الشّمس طالعة فالغرفة مضيئة) فإنّ إضاءة الغرفة مترتّبة

ص: 15

بل في مطلق اللزوم - بعيدةٌ، عهدتُها على مدّعيها.

كيف؟ ولا يُرى في استعمالها فيها عنايةٌ ورعايةُ علاقةٍ، بل إنّما تكون إرادته - كإرادة الترتّب على العلّة المنحصرة - بلاعناية، كما يظهر على من أمعن النّظر وأجال البصر في موارد الاستعمالات، وفي عدم الإلزام والأخذ بالمفهوم في مقام المخاصمات والاحتجاجات،

___________________________________________

على طلوع الشّمس لكنّها غير منحصرة في الطلوع، بل لها أسباب أُخرى {بل} كثيراً ما تستعمل الجملة الشّرطيّة {في مطلق اللزوم} بلا ترتّب بينهما أصلاً، بل يكونان معلولين لعلّة ثالثة نحو (كلّما كان الضّوء موجوداً كانت الحرارة موجودة) وهما معلولان لوجود النّار {بعيدة} خبر قوله: «ودعوى» {عهدتها على مدّعيها} فاللّازم عليه، إمّا الجواب عن هذه الموارد وإمّا رفع اليد عن الدعوى.

و{كيف} يمكن ادّعاء التبادر المستلزم لكون الاستعمال في غيره مجاز {و} الحال أنّه {لا يرى في استعمالها} أي: الجملة الشّرطيّة {فيها} أي: في الترتّب على العلّة غير المنحصرة، أو في مطلق اللزوم {عنايةٌ ورعايةُ علاقة} المجاز {بل إنّما تكون إرادته} أي: إرادة كلّ واحد منهما {كإرادة الترتّب على العلّة المنحصرة بلا عناية} وهذا كاشف عن عدم كون الجملة حقيقة فيه فقط {كما يظهر} كون الاستعمال في الجميع على حدّ سواء {على من أمعن النّظر وأجال البصر في موارد الاستعمالات} وقد حكي عن الفوائد الطوسيّة(1)

أنّه استقصى ما يربو على مائة مورد من القرآن المجيد لا دلالة فيها على المفهوم {و} على من أمعن النّظر {في عدم الإلزام} أي: عدم إلزام من تكلّم بالجملة الشّرطيّة على القصد {والأخذ بالمفهوم} بأن يقال له: إنّك اعترفتبهذا المطلب مفهوماً {في مقام المخاصمات والاحتجاجات} مثلاً لو قال المدّعي لدينٍ له على عمرو: (إنّه إن

ص: 16


1- حقائق الأصول 1: 448؛ عن الفوائد الطوسيّة: 279.

وصحّة الجواب ب- : أنّه لم يكن لكلامه مفهوم، وعدم صحّته لو كان له ظهور فيه، معلومٌ.

وأمّا دعوى الدلالة، بادّعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزوميّة إلى ما هو أكمل أفرادها، وهو اللزوم بين العلّة المنحصرة ومعلولها(1)،

ففاسدة جدّاً؛ لعدم كون الأكمليّة موجبة للانصراف إلى الأكمل، لا سيّما مع كثرة الاستعمال في غيره، كما لا يكاد يخفى، هذا.

مضافاً إلى منع كون اللزوم بينهما

___________________________________________

جئت بالصّكّ فلي عليه كذا). ثمّ لم يجيء به مستمرّاً في دعواه، لا يقال له دعواك غير مسموعة؛ لأنّ مفهوم كلامك: الاعتراف بعدم الدين في صورة عدم الإتيان بالصّكّ، فأنت معترف بعدم الدين حينئذٍ.

{و} لو قيل له ذلك أحياناً نرى {صحّة الجواب بأنّه لم يكن لكلامه مفهوم، وعدم صحّته} أي: صحّة هذا الجواب {لو كان له} أي: للكلام {ظهور فيه} أي: في المفهوم {معلوم} لا يخفى.

{وأمّا دعوى الدلالة} للجملة الشّرطيّة على المفهوم {بادّعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزوميّة إلى ما هو أكمل أفرادها وهو اللزوم بين العلّة المنحصرة ومعلولها} إذ بقيّة أقسام اللّزوم - أعني:اللّزوم بين العلّة غير المنحصرة ومعلولها وبين المعلولين لعلّة ثالثة - ليست بهذه الشّدّة والكمال {ففاسدة جدّاً} خبر قوله: «وأمّا دعوى» {لعدم كون الأكمليّه موجبة للانصراف إلى الأكمل} وإنّما سبب الانصراف هو كثرة الاستعمال بملاحظة أُنس اللفظ بهذا المعنى حينئذٍ {لا سيّما مع كثرة الاستعمال في غيره} أي: غير ما كان الترتّب بنحو العلّة المنحصرة {كما لا يكاد يخفى} بل لو كان هنا انصراف لكان في غيره لما ذكر من أنّ منشأه كثرة الاستعمال.

{هذا، مضافاً إلى منع كون اللزوم بينهما} أي: بين المعلول والعلّة المنحصرة

ص: 17


1- مطارح الأنظار 2: 26.

أكمل ممّا إذا لم تكن العلّة بمنحصرة؛ فإنّ الانحصار لا يوجب أن يكون ذاك الرّبط الخاصّ - الّذي لا بدّ منه في تأثير العلّة في معلولها - آكدَ وأقوى.

إن قلت: نعم، ولكنّه قضيّة الإطلاق بمقدّمات الحكمة، كما أنّ قضيّة إطلاق صيغة الأمر هو الوجوب النّفسي.

قلت: أوّلاً: هذا

___________________________________________

{أكمل ممّا إذا لم تكن العلّة بمنحصرة، فإنّ الانحصار} في العلّة {لا يوجب أن يكون ذاك الرّبط الخاصّ - الّذي لا بدّ منه في تأثير العلّة في معلولها - آكد وأقوى} من الرّبط الّذي بين العلّة غير المنحصرة وبين معلولها، فالعلاقة اللزوميّة في العلّة المنحصرة وغيرها هي علاقة العلّة والمعلول بدون تفاوت، بل يمكن ادّعاء أنّ اللزوم لا يتصف بالكمال والنّقص أصلاً.

{إن قلت: نعم} نسلّم عدم دلالة الجملة الشّرطيّة على المفهوموصفاً، للزوم كونه مجازاً في ما إذا لم يقصد المفهوم {ولكنّه} أي: المفهوم {قضيّة الإطلاق بمقدّمات الحكمة} أي: إذا كان المولى في مقام البيان وأتى بالتعليق مطلقاً نستكشف انحصار التعليق؛ لأنّه لو كان في البين تعليق آخر كان على المتكلّم أن يبيّنه.

مثلاً: لو قال المولى: (أكرم زيداً إن جاءك) نفهم منه أنّ العلّة المنحصرة للإكرام هو المجيء، وإلّا فلو كان هناك علّة أُخرى توجب الإكرام لبيّنه المولى بأن قال مثلاً: (أو أكرمك) {كما} تقدّم من {أنّ قضيّة إطلاق صيغة الأمر هو الوجوب النّفسي} العيني التعييني بما تقدّم من أنّه لو كان غير ذلك لزم البيان وأن يقول: (كن على السّطح ومقدّمة له انصب السّلّم) أو (أكرم زيداً إن لم يكرمه عمرو) أو (أطعم ستّين مسكيناً أو صم ستّين يوماً) فتحصّل أنّ إطلاق التعليق وعدم تقييده بوجوب الشّيء في ظرف وجود العلّة الأُخرى يوجب المفهوم.

{قلت}: قياس ما نحن فيه بالأمر غير صحيح، إذ {أوّلاً: هذا} التمسّك بالإطلاق

ص: 18

في ما تمتّ هناك مقدّمات الحكمة، ولا تكاد تتمّ في ما هو مفاد الحرف، كما هاهنا، وإلّا لما كان معنى حرفيّاً، كما يظهر وجهه بالتأمّل.

وثانياً: تعيّنه من بين أنحائه، بالإطلاق المسوق في مقام البيان بلا مُعَيِّنٍ.

ومقايستُه

___________________________________________

إنّما يصحّ {في ما تمتّ هناك مقدّمات الحكمة، ولا تكاد تتمّ في ما هو مفاد الحرف، كما هاهنا} فإنّ التعليق مفاد أداة الشّرط، ومن الواضح أنّ المعنى الحرفي لايتّصف بالإطلاق والتقييد، إذ هما إنّما يتصوّران في ما يمكن لحاظه وهو المعنى الاستقلالي، وأمّا المعنى الآلي الحرفي فلحاظه موجب لانقلابه إلى المعنى الاسمي {وإلّا} فلو أمكن جريان مقدّمات الحكمة هنا {لما كان} التعليق المستفاد من أداة الشّرط {معنى حرفيّاً، كما يظهر وجهه بالتأمّل}.

ويمكن أن يستدلّ لعدم قابليّة التعليق المستفاد من أداة الشّرط للإطلاق بوجه آخر، وهو أنّه معنىً حرفي والمعاني الحرفيّة جزئيّة - كما قرّر في محلّه - والجزئي غير قابل للإطلاق والتقييد وإنّما الإطلاق والتقييد يجريان في المعاني الاسميّة الكليّة.

ولكن لا يذهب عليك أنّ كلا الجوابين خلاف الصّواب عند المصنّف(رحمة الله)، إذ تقدّم منه عدم الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي، كما لا يخفى، مع أنّه لم يظهر وجه للفرق بين المقام وبين الأمر، إذ الطّلب الّذي هو مدلول الأمر أيضاً معنى حرفي، فالكلام فيه كالكلام هنا طابق النّعل بالنّعل، فتأمّل.

{وثانياً}: أنّه لو فرض جريان الإطلاق ومقدّمات الحكمة في التعليق ولكن {تعيّنه} أي: تعيّن كون العلّة منحصرة الموجب للمفهوم {من بين أنحائه} أي: أنحاء الترتّب على العلّة {بالإطلاق} متعلّق بتعيّنه {المسوق في مقام البيان بلا معيّن} بل الإطلاق بالنسبة إلى ما كانت العلّة منحصرة وإلى ما كانت غير منحصرة على حدّ سواء، لما يجيء من قوله: «ضرورة» الخ {ومقايسته} أي: قياس

ص: 19

مع تعيّن الوجوب النّفسي بإطلاق صيغة الأمر مع الفارق؛ فإنّ النّفسي هو الواجب على كلّ حالٍ، بخلاف الغيري، فإنّه واجب على تقدير دون تقدير، فيحتاج بيانه إلى مؤونة التقييد بما إذا وجب الغير، فيكون الإطلاق في الصّيغة مع مقدّمات الحكمة محمولاً عليه، وهذا بخلاف اللزوموالترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة؛ ضرورة أنّ كلّ واحد من أنحاء اللزوم والترتّب، محتاج في تعيّنه إلى القرينة مثل الآخر بلا تفاوت أصلاً، كما لا يخفى.

___________________________________________

تعيّن العلّة المنحصرة - بالإطلاق - التعليق {مع تعيّن الوجوب النّفسي بإطلاق صيغة الأمر مع الفارق} فلا يقاس الإطلاق هنا على الإطلاق ثمّة {فإنّ النّفسي هو الواجب على كلّ حال} سواء وجب الغير أم لا، وعليه فإذا لم يعلم بتقيّد الوجوب بغيره لزم عليه إتيانه {بخلاف} الواجب {الغيري فإنّه واجب على تقدير دون تقدير، فيحتاج بيانه إلى مؤونة التقييد بما إذا وجب الغير} أعني: ذا المقدّمة.

مثلاً: إذا ورد (أكرم زيداً) ولم نعلم أنّه واجب نفسي بحيث يجب إكرامه مطلقاً أم واجب غيري بحيث يجب إكرامه إذا وجب إكرام عمرو، فاللّازم الحمل على الإطلاق وأنّ وجوبه مطلقاً على كلّ حال {فيكون الإطلاق في الصّيغة مع} تماميّة {مقدّمات الحكمة محمولاً عليه} أي: على النّفسيّ.

{وهذا بخلاف اللزوم والترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة} في المقام، إذ الإطلاق ليس قالباً لكون العلّة منحصرة حتّى يحتمل الإطلاق عليه {ضرورة أنّ كلّ واحد من أنحاء اللزوم والترتّب} أعني: الترتّب على العلّة المنحصرة والترتّب على العلّة غير المنحصرة {محتاج في تعيّنه إلى القرينة مثل الآخر بلاتفاوت أصلاً، كما لا يخفى}.

والحاصل: أنّ الظاهر من الجملة الشّرطيّة مطلق اللزوم والترتّب الأعمّ من كونه على العلّة المنحصرة وغير المنحصرة، فلا يكون الإطلاق قالباً إلّا للجامع

ص: 20

ثمّ إنّه ربّما يتمسّك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشّرط، بتقريب: أنّه لو لم يكن بمنحصر يلزم تقييده؛ ضرورة أنّه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثّر وحده، وقضيّة إطلاقه أنّه يؤثّر كذلك مطلقاً.

___________________________________________

وكلّ منهما يحتاج إلى قرينة.

{ثمّ إنّه ربّما يتمسّك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشّرط بتقريب} آخر، وهو {أنّه لو لم يكن} المؤثّر في الجزاء - أي: العلّة - {بمنحصر يلزم تقييده} أي: تقييد المؤثّر - أي: العلّة - فإنّ مقتضى إطلاق قولنا: (إن جاء زيد فأكرمه) تأثير مجيء زيد وحده في وجوب الإكرام مطلقاً، وهذا الإطلاق يستلزم الانتفاء عند الانتفاء {ضرورة أنّه لو قارنه} أي: قارن هذا الشّرط شرطاً آخر، كأن يكون كلّ واحد واحد من المجيء وطلب العلم سبباً للإكرام ثمّ جاء زيد طالباً للعلم {أو سبقه الآخر} بأن طلب العلم أوّلاً ثمّ جاء {لما أثر} هذا الشّرط المذكور - أي: المجيء - {وحده} في وجوب الإكرام، بل تشاركا في صورة المقارنة، وكان المؤثّر هو الأوّل في صورة السّبق {و} هذا خلاف {قضيّة إطلاقه} أي: إطلاق الشّرط - أي: المجيء - إذ مقتضى إطلاق قوله: (إن جاء زيد فأكرمه) {أنّه يؤثّر كذلك} أي: وحده {مطلقاً} سواء قارنه آخر أو سبقه أم لا.والحاصل: أنّ الظاهر من الجملة الشّرطيّة أنّه كلّما وجد الشّرط كان هو المؤثّر، ولو فرض أنّ هناك شرطاً آخر يلزم عدم تأثير هذا الشّرط كلّما وجد، إذ لو سبقه الشّرط الثّاني أو قارنه كان التأثير للسابق أو تشاركا في التأثير، فإطلاق «أنّ هذا الشّرط مؤثّر» يقتضي عدم شرط آخر المستلزم لكون الشّرط المذكور علّة منحصرة.

ثمّ إنّه قد يفرق بين هذا الإطلاق وبين الإطلاق السّابق بأنّ التمسّك كان هناك بإطلاق الهيئة وهنا بإطلاق المادّة، أو هناك بإطلاق كلمة (إن) مع قطع النّظر عن

ص: 21

وفيه: أنّه لا يكاد تنكر الدلالة على المفهوم مع إطلاقه كذلك، إلّا أنّه من المعلوم ندرة تحقّقه، لو لم نقل بعدم اتّفاقه.

فتلخّص - بما ذكرناه - : أنّه لم ينهض دليل على وضع مثل (إن) على تلك الخصوصيّة المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء، ولم تقم عليها قرينة عامّة.

أمّا قيامها أحياناً - كانت مقدّمات الحكمة أو غيرها - ممّا لا يكاد ينكر، فلا يجدي القائل بالمفهوم: أنّه قضيّة الإطلاق في مقامٍ من باب الاتفاق.

وأمّا توهّم: أنّه قضيّة إطلاق الشّرط، بتقريب:

___________________________________________

متعلّقها وهنا بمجموع الجملة.

{وفيه أنّه لا يكاد تنكر الدلالة على المفهوم} والانتفاء عند الانتفاء {مع إطلاقه كذلك} بأن يفهم من الجملة الشّرطيّة أنّ الشّرط مؤثّر في الجزاء مطلقاً سبقه شرط آخر أو قارنه أملا {إلّا أنّه من المعلوم ندرة تحقّقه} أي: تحقّق هذا النّحو من الإطلاق {لو لم نقل بعدم اتّفاقه} فإنّ الغالب أنّ المتكلّم بالجملة الشّرطيّة في مقام تأثير الشّرط في الجزاء، وليس في نظره لحاظ أمر آخر أصلاً، فلا يخطر بباله المقارنة بين هذا الشّرط وأمر آخر.

{فتلخّص بما ذكرناه أنّه لم ينهض دليل على وضع مثل} كلمة {(إن) على تلك الخصوصيّة المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء، و} كذلك تبيّن أنّه {لم تقم عليها} أي: على تلك الخصوصيّة المستتبعة {قرينة عامّة} أي: مقدّمات الحكمة اللّازمة بسبب شهرة أو غيرها {أمّا قيامها} أي: القرينة {أحياناً كانت} تلك القرينة {مقدّمات الحكمة أو غيرها ممّا لا يكاد ينكر، فلا يجدي القائل بالمفهوم} المريد إثباته كليّاً كلّما وجد شرط {أنّه} أي: المفهوم {قضيّته الإطلاق في مقام من باب الاتفاق} فإنّ الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً.

{وأمّا توهّم أنّه} أي: المفهوم {قضيّة إطلاق الشّرط بتقريب} آخر، وحاصله

ص: 22

أنّ مقتضاه تعيّنه، كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر تعيّن الوجوب.

ففيه: أنّ التعيّن ليس في الشّرط نحو، يغاير نحوَه في ما إذا كان متعدّداً، كما كان في الوجوب كذلك، وكان الوجوب في كلّ منهما متعلّقاً بالواجب بنحوٍ آخر، لا بدّ في التخييري منهما من العِدل.

___________________________________________

قياس ما نحن فيه بالواجب التعيينيّ والتخييريّ.بيان ذلك: {أنّ} إطلاق الشّرط {مقتضاه تعيّنه} أي: تعيّن هذا الشّرط في المؤثريّة دون غيره {كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر تعيّن الوجوب} لا التخيير بينه وبين غيره.

توضيحه: أنّ العلّة على قسمين: منحصرة وغير منحصرة، وكذلك الواجب على قسمين: تعييني وتخييري، والعلّة المنحصرة كالواجب التعيّني إذ كلاهما معيّن، وغير المنحصرة كالواجب التخييري إذ كلاهما غير معيّن، فكما أنّ الإطلاق في باب الواجب يحمل على التعييني، كذلك الإطلاق في الشّرط يحمل على المنحصرة.

{ففيه} أنّه فرق بين الواجب التعييني والعلّة المنحصرة، إذ {أنّ التعيّن ليس في الشّرط نحو يغاير نحوه في ما إذا كان متعدّداً} بل الشّرط سواء كان واحداً أم متعدّداً لا يتفاوت الحال في التأثير في المعلول، بل الشّرط المتعدّد تأثيره في المعلول على نحو الشّرط المنفرد في التأثير {كما كان} النّحو {في الوجوب كذلك} بمعنى أنّ نحو التعييني يغاير نحو التخييري {وكان الوجوب في كلّ منهما متعلّقاً بالواجب بنحو آخر} بحيث كان كلّ واحد منهما نحواً من الوجوب والطلب، إذ {لا بدّ في التخييري منهما من العدل} بأن يقول: (أطعم أو أعتق) بخلاف التعييني فإنّه لا يكون فيه العدل، بل يقول: (أطعم) مثلاً، فإنّ في الأوّل تتعلّق المصلحة بأحد الأمرين، وفي الثّاني تتعلّق بشيءٍ واحد.

ص: 23

وهذا بخلاف الشّرط، فإنّه - واحداً كان أو متعدّداً - كان نحوه واحداً، ودخلُه في المشروط بنحوٍ واحدٍ، لا تتفاوت الحال فيه ثبوتاً، كي تتفاوت عند الإطلاق إثباتاً، وكان الإطلاق مثبتاً لنحوٍ لا يكون له عِدْل؛ لاحتياج مالَهُ العِدْل إلى زيادة مؤونة،وهو ذكره بمثل (أو كذا).

واحتياج ما إذا كان الشّرط متعدّداً إلى ذلك

___________________________________________

{وهذا بخلاف الشّرط فإنّه واحداً كان أو متعدّداً كان نحوه واحداً، ودخله في المشروط بنحو واحد} بحيث {لا تتفاوت الحال فيه} أي: في الشّرط {ثبوتاً كي تتفاوت عند الإطلاق إثباتاً}.

ثمّ رجع المصنّف(رحمة الله) إلى الفرق بين التعييني والتخييري بقوله: {وكان الإطلاق} في الواجب {مثبتاً لنحو لا يكون له عدل} أي: الواجب التعييني {لاحتياج ماله العِدْل إلى زيادة مؤونة} في اللفظ {وهو ذكره بمثل (أو كذا)} كما تقدّم فحيث لم يذكر العدل كشف الإطلاق عن التعيين.

{و} إن قلت: لا فرق من هذه الجهة بين المقام وبين الواجب ل- {احتياج ما إذا كان الشّرط متعدّداً إلى ذلك} العدل أيضاً، فكلّ من الواجب التخييري والشّرط المتعدّد يحتاج إلى العدل في اللفظ، فكما يلزم أن يقول في الواجب التخييري: (صم أو صلّ) كذلك يلزم أن يقول في الشّرط المتعدّد: (أكرم زيداً إن جاءك أو طلب العلم) وعليه فإذا لم يجيء في اللفظ بالعدل كشف عن وحدة الشّرط المستلزمة للمفهوم، فإنّ مقام الإثبات تابع لمقام الثّبوت، كما أنّ مقام الثّبوت مكشوف بمقام الإثبات.

وبهذا تبيّن عدم الفرق بين المقام وبين مقام الواجب التعييني والتخييري.

قلت: نعم، نحتاج في كلا الموضعين إلى ذكر العدل، والفرق أنّ الاحتياج في الواجب لأجل بيان نحو الوجوب، وليس كذلك في الشّرط؛ لأنّ ذكر العدلفيه

ص: 24

إنّما يكون لبيان التعدّد، لا لبيان نحو الشّرطيّة. فنسبة إطلاق الشّرط إليه لا تختلف - كان هناك شرط آخر أم لا - حيث كان مسوقاً لبيان شرطيّته بلا إهمال ولا إجمال. بخلاف إطلاق الأمر؛ فإنّه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني، فلا محالة يكون في مقام الإهمال أو الإجمال، تأمّل تعرف.

___________________________________________

{إنّما يكون لبيان التعدّد} وأنّ كلّ واحد منهما يؤثّر في الجزء {لا لبيان نحو الشّرطيّة} إذ الشّرطيّة والتأثير لا تختلف باختلاف تعدّد الشّرط ووحدته، بل الشّرط معناه التأثير في كلّ مكان بخلاف الوجوب، فإنّ نحو الوجوب يختلف باختلاف التعيينيّة والتخييريّة {فنسبة إطلاق الشّرط إليه لا تختلف - كان هناك شرط آخر أم لا - حيث} متعلّق ب- «لا تختلف» {كان مسوقاً لبيان شرطيّته بلا إهمال ولا إجمال} إذ قوام الجملة الشّرطيّة كون الشّرط علّة للجزاء، وهذا المعنى محقّق في كلّ شرط من غير فرق بين وجود شرط آخر أم لا، وهذا {بخلاف إطلاق الأمر} فإنّ قوام الأمر المطلق كونه بحيث يعاقب على تركه بأيّ وجهٍ كان.

فهذا المعنى إن تحقّق فيه بأن كان تعييناً لم يكن مهملاً ولا مجملاً، بخلاف ما إذا أُطلق الأمر ولم يوجد فيه هذا القوام {فإنّه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني، فلا محالة يكون في مقام الإهمال أو الإجمال} بمعنى أنّه في بيان وجوب هذا الشّيء في الجملة، وإلّا فلو كان في مقام البيان مطلقاً للزم عليه ذكر العدل الآخر {تأمّل تعرف}.

وإن شئت توضيح المقام فعليك بالمثال، فإنّه إذا قال المولى: (إن سافرتيجب عليك القصر) ولم يذكر موجباً آخر للقصر - أعني: الخوف - كان هذا الإطلاق صحيحاً، إذ تبيّن فيه إيجاب السّفر للقصر، فالسفر علّة للقصر مطلقاً، بمعنى أنّه ليس هناك بعض أفراد السّفر غير موجب للقصر. وهذا الإطلاق لا ينافي إيجاب الخوف للقصر أيضاً، إذ شرطيّة الشّرط موجودة حتّى في صورة التعدّد، ولا تتفاوت شرطيّة الشّرط حين الوحدة مع شرطيّته حين التعدّد.

ص: 25

هذا.

مع أنّه لو سلم لا يجدي القائل بالمفهوم؛ لما عرفت أنّه لا يكاد ينكر في ما إذا كان مفاد الإطلاق من باب الاتفاق.

ثمّ إنّه ربّما استدلّ المنكرون للمفهوم بوجوه:

أحدها: ما عُزِي إلى السّيّد(1)

من أنّ تأثير الشّرط إنّما هو تعليق الحكم به،

___________________________________________

وهذا بخلاف الوجوب، فإنّ المولى إذا كان في مقام البيان لا بدّ له أن يبيّن العدل - لو كان - فلو قال: (أطعم) مطلقاً في ما كان الواجب أحد الأمرين الصّيام أو الإطعام.

فلا بدّ وأن يكون في مقام الإهمال، إذ وجود العدل ينافي وجوب الإطعام مطلقاً، فإنّه لا يجب الإطعام في ظرف وجود العدل. فتحصّل أنّ إطلاق الشّرط لا ينافي وجود شرط آخر، وإطلاق الواجب ينافي وجود العدل، فإطلاق الشّرط لا يدلّ على عدم شرط آخر حتّى يدلّ على المفهوم، بخلاف الواجب، فإنّ إطلاقه يدلّ على عدم واجب آخر الموجب لكون الواجب تعيينيّاً.

{هذا، مع أنّه لو سلّم} كون إطلاق الشّرط مثل إطلاق الواجب، فكما يقتضي في الواجب عدم العدل يقتضي في الشّرط عدم شرط آخر، لكنّا نقول: {لا يجدي} هذا التنظير {القائل بالمفهوم،لما عرفت} من {أنّه لا يكاد ينكر} المفهوم {في ما إذا كان مفاد الإطلاق من باب الاتفاق} إذ المتكلّم في الغالب إنّما هو بصدد كون هذا الشّرط مؤثّراً، وليس في مقام بيان أن لا مؤثّر غيره.

[أدلة المنكرين لمفهوم الشرط]

{ثمّ إنّه ربّما استدلّ المنكرون للمفهوم بوجوه} ثلاثة:

{أحدها: ما عزي} أي: نسب {إلى السّيّد} المرتضى - قدّس اللّه سرّه - {من أنّ تأثير الشّرط} وفائدته {إنّما هو تعليق الحكم به} بحيث يتوقّف الحكم على وجوده

ص: 26


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 406.

وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه، ولا يخرج عن كونه شرطاً؛ فإنّ قوله تعالى: {وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ}(1) يمنع من قبول الشّاهد الواحد حتّى ينضمّ إليه شاهد آخر، فانضمام الثّاني إلى الأوّل شرط في القبول، ثمّ علمنا: أنّ ضمّ امرأتين إلى الشّاهد الأوّل شرط في القبول، ثمّ علمنا: أنّ ضمّ اليمين يقوم مقامه أيضاً. فنيابة بعض الشّروط عن بعض أكثر من أن تحصى، مثل الحرارة؛ فإنّ

___________________________________________

{وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه} أي: مجرى الشّرط الأوّل في ترتّب الحكم عليه أيضاً {ولا يخرج} الشّرط الأوّل {عن كونه شرطاً} حين ما نابهشرط آخر.

مثلاً: لو قال المولى: (إن جاءك زيد فأكرمه) أفاد كلمة (إن) تعليق وجوب الإكرام على المجيء وليس ممتنعاً أن يخلف المجيء شرط آخر، كطلب العلم فيعلّق الحكم عليه أيضاً، فيكون الحاصل من الشّرطين: (إن جاءك زيد أو طلب العلم فأكرمه).

ثمّ إنّ السّيّد(رحمة الله) مثّل بالشّرط اللّغويّ فقال: {فإنّ قوله - تعالى - {وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ}} يفيد تعليق الحكم - أعني: قبول قول الشّاهد الواحد بانضمام شاهد آخر إليه - بحيث {يمنع من قبول الشّاهد الواحد حتّى ينضمّ إليه شاهد آخر} وهذا معنى الاشتراط، إذ لولاه لكفى الواحد {فانضمام الثّاني إلى الأوّل شرط في القبول، ثمّ علمنا} من الخارج عن هذا اللفظ {أنّ ضمّ امرأتين إلى الشّاهد الأوّل شرط في القبول} فقام هذا الشّرط مقام الشّرط الأوّل.

{ثمّ علمنا أنّ ضمّ اليمين يقوم مقامه أيضاً} فيكون شرط قبول قول الشّاهد الواحد أحد أُمور ثلاثة: ضمّ شاهد آخر، أو امرأتين، أو يمين {فنيابة بعض الشّروط عن بعض أكثر من أن تحصى، مثل الحرارة، فإنّ} الشّمس طلوعها شرط في وجود الحرارة في العالم مع أنّه يخلفها شرط آخر بحيث يؤثّر تأثيرها، إذ

ص: 27


1- سورة البقرة، الآية: 282.

انتفاء الشّمس لا يلزم منه انتفاء الحرارة؛ لاحتمال قيام النّار مقامها. والأمثلة لذلك كثيرة شرعاً وعقلاً.

والجواب: أنّه(قدس سره) إن كان بصدد إثبات إمكان نيابة بعض الشّروط عن بعض في مقامالثّبوت وفي الواقع، فهو ممّا لا يكاد ينكر؛ ضرورة أنّ الخصم يدّعي عدم وقوعه في مقام الإثبات، ودلالة القضيّة الشّرطيّة عليه.

___________________________________________

{انتفاء الشّمس لا يلزم منه انتفاء الحرارة لاحتمال قيام النّار مقامها} فالشرط للحرارة أحد الأمرين: وجود الشّمس أو النّار {والأمثلة لذلك} الّذي ذكرنا من نيابة بعض الشّروط مقام بعض - المستلزم لانتفاء المفهوم - {كثيرة شرعاً وعقلاً} وإنّما قلنا: إنّ أمثلة السّيّد من باب الشّرط اللغوي لا الاصطلاحي؛ لأنّ المثال الأوّل - أعني: الآية - لم يذكر فيها كلمة الشّرط، مع أنّ الشّاهد الثّاني ونحوه إنّما هو جزء المقوّم لا شرط له. والمثال الثّاني مع ورود الإشكال الأوّل عليه أنّه علّة لا شرط وكم فرق بينهما. وإنّما مثّل بهما السّيّد(رحمة الله) بجامع المدخليّة.

وحاصله: أنّ مدخليّة أمر بالنسبة إلى أمر - سواء أُدّيت بلفظ التعليق أم لا وسواء كان جزءاً أو علّة تامّة أو شرطاً - إنّما تكون في الوجود فقط، بمعنى تعليق وجود الشّيء بوجود غيره.

أمّا الانتفاء عند الانتفاء الّذي هو محطّ الكلام فلا، لاحتمال قيام شيء آخر مقام الشّيء الأوّل.

{والجواب} عن هذا الدليل {أنّه(قدس سره) إن كان بصدد إثبات إمكان نيابة بعض الشّروط عن بعض في مقام الثّبوت وفي الواقع، فهو ممّا لا يكاد ينكر} إذ ليس هذا من الممتنع الذاتي غير القابل للوجود أصلاً حتّى ينكره أحد {ضرورة أنّ الخصم} القائل بعدم المفهوم لا ينكر إمكان التعدّد في الواقع، بل إنّما {يدّعي عدم وقوعهفي مقام الإثبات ودلالة القضيّة الشّرطيّة عليه} لأنّه يقول بدلالتها على الانتفاء عند

ص: 28

وإن كان بصدد إبداء احتمال وقوعه، فمجرّد الاحتمال لا يضرّه، ما لم يكن بحسب القواعد اللفظيّة راجحاً أو مساوياً، وليس في ما أفاده ما يثبت ذلك أصلاً، كما لا يخفى.

ثانيها: أنّه لو دلّ لكان بإحدى الدلالات، والملازمة - كبطلان التالي - ظاهرة.

___________________________________________

الانتفاء، لا دلالتها على عدم الإمكان حتّى يعارض بالإمكان {وإن كان} السّيّد {بصدد إبداء احتمال وقوعه} بعد الفراغ عن أصل الإمكان، بمعنى أنّه يحتمل أن يكون الشّرط متعدّداً، فلا دلالة للّفظ على الانتفاء عند الانتفاء {فمجرّد الاحتمال لا يضرّه} أي: لا يضرّ القائل بالمفهوم، إذ هو يدّعي الظهور في المفهوم والظهور لا يصادمه الاحتمال. مثلاً: العام الظاهر في العموم لا يصادمه احتمال التخصيص {ما لم يكن} هذا الاحتمال {بحسب القواعد اللفظيّة راجحاً} على احتمال المفهوم {أو مساوياً} له {وليس في ما أفاده} السّيّد {ما يثبت ذلك} الرّجحان أو المساواة {أصلاً}.

وتوضيح الجواب بمثال العام والخاص: أنّه لو ورد عامّ بلا قرينة للتخصيص كان لنا التمسّك بظهوره والقول بعدم التخصيص، وليس لأحد أن يردّ ذلك ويقول بعدم استفادة العموم منه لإمكان التخصيص في نفسه، أو لإمكان عدم إرادة هذا الظاهر؛ لأنّ الإمكان غير منكر، وعدم إرادة هذا الظاهر غير مضرّ إلّا إذا عارضه ما يساويه أو يرجح عليه {كما لا يخفى} فتبصّر.

{ثانيها: أنّه لو دلّ} الشّرط على الانتفاء عند الانتفاء{لكان بإحدى الدلالات} الثّلاث: المطابقة والتضمّن والالتزام {والملازمة - كبطلان التالي - ظاهرة}.

أمّا الملازمة: فلأنّ الدلالة تنحصر في هذه الثّلاثة فلو كانت في المقام دلالة لكانت بإحداها.

وأمّا بطلان التالي: فلأنّ الانتفاء عند الانتفاء ليس عين الثّبوت عند الثّبوت ولا جزئه ولا لازمه، إذ شرط الالتزام الملازمة عقلاً أو عرفاً ولا يوجد أحدهما في المقام.

ص: 29

وقد أُجيب عنه(1):

بمنع بطلان التالي، وأنّ الالتزام ثابت. وقد عرفت بما لا مزيد عليه ما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته أو منعه، فلا تغفل.

ثالثها: قوله تبارك وتعالى: {وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا}(2).

وفيه ما لا يخفى؛ ضرورة أنّ استعمال الجملة الشّرطيّة في ما لا مفهوم له - أحياناً وبالقرينة - لا يكاد ينكر، كما في الآية وغيرها. وإنّما القائل به إنّما يدّعي ظهورها في ما له المفهوم

___________________________________________

{وقد أُجيب عنه بمنع بطلان التالي وأنّ الالتزام ثابت} كما تقدّم بيانه في أدلّة المثبتين وأنّه إمّا بالوضع أو بالقرينة العامّة - أعني: مقدّمات الإطلاق - {و} حيث إنّ هذا الجواب ليس موافقاً لمبنى المصنّف(رحمة الله) من عدم المفهوم أشار إلى ردّه بقوله: و{قد عرفت بما لا مزيد عليه ما قيل أو يمكنأن يقال في إثباته} أي: إثبات التلازم {أو منعه، فلا تغفل} وتدبّر.

{ثالثها: قوله - تبارك وتعالى - :{وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا}} فإنّه قد استعملت الجملة الشّرطيّة في هذه الآية الكريمة ولا مفهوم لها، إذ لو كان لها مفهوم لكان المعنى جواز الإكراه حين عدم إرادة التحصّن، ومن المعلوم حرمة الإكراه على البِغاء والزنا مطلقاً أردن التحصّن أم لا.

{وفيه ما لا يخفى ضرورة أنّ استعمال الجملة الشّرطيّة في ما لا مفهوم له - أحياناً وبالقرينة -} الخارجيّة أو الداخليّة {لا يكاد ينكر، كما في الآية وغيرها} وإنّما تكون فائدة الشّرط حثّ الموالي على عدم الإكراه، فإنّهنّ مع قلّة عقولهنّ لو أردن التحصّن فالمولى أحقّ بهذه الإرادة {وإنّما القائل به} أي: بالمفهوم {إنّما يدّعي ظهورها} أي: الجملة الشّرطيّة {في ما له المفهوم} أي: ظهور الجملة في معنى يشتمل

ص: 30


1- مطارح الأنظار 2: 33.
2- سورة النور، الآية: 33.

وضعاً أو بقرينة عامّة، كما عرفت.

بقي هنا أُمور:

الأوّل: أنّ المفهوم هو: انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشّرط عند انتفائه، لا انتفاء شخصه؛ ضرورة انتفائه عقلاً بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده،

___________________________________________

على خصوصيّة مستتبعة للمفهوم {وضعاً، أو بقرينة عامّة، كما عرفت} ولا يضرّه استعمالها في بعض الموارد في ما لامفهوم له، إذ لا عبرة بالاستعمال المقرون بالقرينة وإنّما العبرة بالظهور. وربّما يقال: إنّ الشّرطفي الآية لتحقّق الموضوع، وفيه تأمّل.

[أمور في مفهوم الشرط]
اشارة

{بقي هنا أُمور} ثلاثة:

[الأمر الأوّل]
اشارة

الأمر {الأوّل}: في تحقيق معنى المفهوم وأنّ المنتفي عند انتفاء الشّرط ما هو، فنقول: الحكم قد يلاحظ شخصيّاً كالإكرام الّذي هو معلول للمجيء، وقد يلاحظ نوعيّاً كالإكرام المطلق، لا نزاع بين القائلين بالمفهوم وعدمه في الأوّل وإنّما النّزاع في الثّاني.

بيان ذلك: {أنّ المفهوم} عند مثبته {هو انتفاء سنخ الحكم} أعني: انتفاء الإكرام الّذي هو سنخ الإكرام {المعلّق على الشّرط عند انتفائه} أي: انتفاء الشّرط {لا انتفاء شخصه} أي: شخص ذلك الحكم المعلّق على الشّرط، فإنّه لا نزاع في انتفاء هذا الحكم بانتفاء الشّرط {ضرورة انتفائه عقلاً بانتفاء موضوعه، ولو} كان انتفاء موضوعه {ب-} سبب انتفاء {بعض قيوده} كأن يقول: (أكرم زيداً إن جاءك ليلاً) فانتفاء مجيء زيد ليلاً - ولو جاء نهاراً - موجب لانتفاء الإكرام المعلّق على المجيء.

ص: 31

ولا يتمشّى الكلام في أنّ للقضيّه الشّرطيّة مفهوماً أو ليس لها مفهوم، إلّا في مقام كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء، وانتفاؤه عند انتفاء الشّرط ممكناً. وإنّما وقع النّزاع في أنّ لها دلالةً على الانتفاء عند الانتفاء، أو لا يكون لها دلالة.

___________________________________________

ولنوضح ذلك بمثال فنقول: قولنا: (إن طلعت الشّمس كانت الغرفة مضيئة)إذا كان لها مفهوم يلزم منه انتفاء إضاءة الغرفة مطلقاً عند انتفاء طلوع الشّمس، وإن لم يكن لها مفهوم كان ساكتاً عن ذلك، وأمّا عدم إضاءة الغرفة بالإضاءة الشّمسيّة فمقطوع به سواء قلنا بالمفهوم أم لا، فالكلام في المفهوم إنّما هو في الإضاءة الّتي هي سنخ الإضاءة الشّمسيّة لا الإضاءة الّتي هي مستندة إلى الشّمس، ومثل هذا جميع الجمل الشّرطيّة، فإنّ قولنا: (إن جاء زيد فأكرمه) يقع الكلام في أنّ الإكرام مطلقاً ينتفي عند انتفاء المجيء، أم لا يدلّ على ذلك، أمّا انتفاء الإكرام المعلول للمجيء عند انتفاء المجيء فممّا لا شكّ فيه لأحد.

{و} ممّا ذكرنا من أنّ النّزاع إنّما هو في الدلالة على انتفاء سنخ الحكم تعرف أنّه {لا يتمشّى الكلام - في أنّ للقضيّة الشّرطيّة مفهوماً أو ليس لها مفهوم - إلّا في مقام كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء} أي: الحكم الّذي هو الجزاء {وانتفاؤه} عطف على «ثبوت سنخ الحكم» {عند انتفاء الشّرط ممكناً} بأن كان هناك سنخ الحكم {وإنّما وقع النّزاع في أنّ لها} أي: للجملة الشّرطيّة {دلالة على الانتفاء عند الانتفاء} كما يدّعيه القائل بالمفهوم {أو لا يكون لها دلالة} كما يدّعيه من لا يقول بالمفهوم.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ الجزاء لو كان شخصيّاً لم يعقل النّزاع في المفهوم، إذ الحكم الشّخصي تابع لموضوعه، فحيث ما ارتفع بلا خلاف، وليس ارتفاعه حينئذٍ لأجل المفهوم، بل لأجل ارتفاع الحكم الشّخصي برفع موضوعه، كارتفاع الحرارة المستندة إلى الشّمس برفع الشّمس.

ص: 32

ومن هنا انقدح: أنّه ليس من المفهوم ودلالةُ القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء في الوصايا والأوقاف والنّذور والأيمان،كما توهّم(1)،

بل عن الشّهيد في تمهيد القواعد(2): أنّه لا إشكال في دلالتها على المفهوم.

وذلك لأنّ انتفاءها عن غير ما هو المتعلّق لها، - من الأشخاص الّتي تكون بألقابها، أو بوصف شيء، أو بشرطه، مأخوذةً في العقد،

___________________________________________

وهذا بخلاف ما لو كان الجزاء كليّاً، فإنّه يمكن أن يقع النّزاع في أنّ هذا اللفظ المعلّق فيه الكلّي على الشّرط هل يدلّ على انتفاء الكلّي أم لا يدلّ، بل ساكت عن وجوده وعدمه، كما لو علّقت الحرارة الكليّة بالشمس - أي: علّق عليه الحرارة غير المقيّدة بالمستندة - .

{ومن هنا} الّذي ذكرنا من أنّه لا يتمشّى الكلام إلّا في ما كان ثبوت سنخ الحكم ممكناً {انقدح أنّه ليس من المفهوم ودلالة القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء في الوصايا والأوقاف والنّذور والأيمان} وفي بعض النّسخ: «دلالة القضيّة» الخ. وكيف كان فلو أوصى بإعطاء داره لسكنى العلماء، أو نذر ذلك، أو أوقفه كذلك، أو حلف بذلك، لم يجز التخطّي عنه بإعطائها لغيرهم، فإنّه ربّما يقال: بأنّ عدم الجواز من باب المفهوم {كما توهّم، بل عن الشّهيد في تمهيد القواعد: أنّه لا إشكال في دلالتها على المفهوم} ولكن لا يخفى بطلان استناد عدم الجواز إلى المفهوم.

{وذلك لأنّ انتفاءها} أي: انتفاء دلالة القضيّة على الانتفاءعند الانتفاء {عن غير ما هو المتعلّق لها من الأشخاص} بيان «ما» {الّتي تكون} تلك الأشخاص {بألقابها} نحو (وقفت داري للفقير) {أو بوصف شيء} نحو «للرجل العادل» {أو بشرطه} نحو (بشرط أن يكون مسلماً) {مأخوذة في العقد} أي: عقد الوصيّة

ص: 33


1- هداية المسترشدين 2: 423؛ مطارح الأنظار 2: 37؛ تقريرات المجدد الشيرازي 3: 139.
2- تمهيد القواعد: 110.

أو مثل العهد - ليس بدلالة الشّرط أو الوصف أو اللقب عليه، بل لأجل أنّه إذا صار شيء وقفاً على أحدٍ، أو أوصى به، أو نذر له - إلى غير ذلك - لا يقبل أن يصير وقفاً على غيره أو وصيّة أو نذراً له.

وانتفاءُ شخص الوقف أو النّذر أو الوصيّة عن غير مورد المتعلّق، قد عرفت أنّه عقليّ مطلقاً، ولو قيل بعدم المفهوم في مورد صالح له.

إشكال ودفع:

___________________________________________

والوقف ونحوهما {أو مثل العهد} كالنذر واليمين والعهد {ليس بدلالة الشّرط أو الوصف أو اللقب عليه} أي: على الانتفاء. وهذا خبر «أنّ» في قوله: «لأنّ انتفاءها» الخ، فانتفاء جواز السّكنى لغير الفقير والعادل والمسلم ليس من باب المفهوم {بل لأجل أنّه إذا صار شيء وقفاً على أحد أو أوصى به أو نذر له} أو حلف عليه أو عهد مع اللّه فيه {إلى غير ذلك لا يقبل أن يصير وقفاً على غيره أو وصيّة أو نذراً له} لأنّ المعلّق شخصيّ لا كلّي {وانتفاء شخص الوقف أو النّذر أو الوصيّة عن غير مورد المتعلّق قد عرفت أنّه عقليّ} إذ ينتفي الشّيء بانتفاء موضوعه {مطلقاً} وفسّره بقوله: {ولو قيل بعدمالمفهوم في مورد صالح له} ممّا علّق الكلّي على الموضوع.

والحاصل: أنّ مورد النّزاع هو ما علّق الجنس لا الشّخص، أمّا لو علّق الشّخص فلا إشكال في الانتفاء عند الانتفاء لكنّه ليس من باب المفهوم، بل من جهة حكم العقل.

[إشكال ودفع]

{إشكال ودفع} أمّا الإشكال فهو أنّا لا نسلّم كون المفهوم انتفاء نوع الحكم المعلّق، بل انتفاء شخصه، إذ الشّرط إنّما هو شرط لهذا الحكم المذكور المنشأ شخصيّاً وليس هذا الشّرط شرطاً للجنس حتّى يستلزم من انتفائه انتفاء سنخ

ص: 34

لعلّك تقول: كيف يكون المناط في المفهوم هو سنخ الحكم، لا نفس شخص الحكم في القضيّة، وكان الشّرط في الشّرطيّة إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره؟ فغاية قضيّتها انتفاء ذاك الحكم بانتفاء شرطه، لا انتفاء سنخه. وهكذا الحال في سائر القضايا الّتي تكون مفيدة للمفهوم.

ولكنّك غفلت عن

___________________________________________

الحكم، إذ ليس في القضيّة ذكر عن الجنس، فلا بدّ وأن يلزم من انتفاء هذا الشّرط انتفاء هذا الحكم الشّخصي المنشأ لا انتفاء جنسه {لعلّك تقول: كيف يكون المناط في المفهوم، هو} انتفاء {سنخ الحكم، لا} انتفاء {نفس شخص الحكم} المنشأ {في القضيّة، و} الحال أنّه {كان الشّرط في} القضيّة {الشّرطيّة إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى} هذا{الحكم} الشّخصي {الحاصل بإنشائه دون غيره، فغاية قضيّتها} أي: مقتضى الجملة الشّرطيّة {انتفاء ذاك الحكم} الشّخصي {بانتفاء شرطه، لا انتفاء سنخه} إذ ليس من السّنخ في القضيّة الشّرطيّة عين ولا أثر، فمن أين يدلّ المفهوم على انتفائه؟

{وهكذا الحال في سائر القضايا} الشّرطيّة {الّتي تكون مفيدة للمفهوم} فمقتضى (إن كانت الشّمس طالعة كان النّهار موجوداً، أو كانت الغرفة مضيئة) عدم وجود النّهار وإضاءة الغرفة المستندين إلى طلوع الشّمس، أمّا غير المستند إليه فلا يدلّ المفهوم على انتفائه، ومثله قولنا: (إن كان زيد فقيهاً كان مستنبطاً) فإنّ استنباط زيد ينتفي عند انتفاء فقاهته، لا أنّ سنخ استنباطه ينتفي عند انتفاء فقاهته.

وبهذا الإشكال اتّضح عدم الفرق بين الجملة الشّرطيّة وبين الوقف والنّذر والحلف وأمثالها، فالحكم الشّخصي في الجميع ينتفي عند انتفاء الموضوع، وأمّا وجود سنخ الحكم وعدمه فهو مسكوت عنه.

{ولكنّك غفلت عن} دفع هذا الإشكال وحاصله: أنّا نسلّم كون الشّرط شرطاً

ص: 35

أنّ المعلّق على الشّرط إنّما هو نفس الوجوب الّذي هو مفاد الصّيغة ومعناها، وأمّا الشّخص والخصوصيّة النّاشئة من قبل استعمالها فيه، فلا تكاد تكون من خصوصيّات معناها المستعملة فيه، كما لا يخفى، كما لا تكون الخصوصيّة الحاصلة من قبل الإخبار به، من خصوصيّات ما أخبر به واستعمل فيه إخباراً لا إنشاءً.

وبالجملة:

___________________________________________

لهذا الحكم المنشأ، وأنّ انتفاء الشّرط لا يستلزم إلّا انتفاء نفس هذا الحكم المنشأ لا غير، ولكن لا نسلّم جزئيّة الحكم المنشأ بل المنشأ جنس، إذ {أنّ المعلّق على الشّرط إنّما هو نفس الوجوب الّذي هو مفاد الصّيغة ومعناها} إذ قد حقّقنا سابقاً أنّ المعاني الحرفيّة - ومنها الهيئات - مثل الأسماء في الموضوع له طابق النّعل بالنّعل، فمعنى (فأكرمه) وجوب الإكرام المطلق، والإنشاء إنّما تعلّق بهذا الوجوب الكلّي المساوق لكلمة واجب، فكما أنّ في قولنا: (إن جاءك زيد فإكرامه واجب) يكون المعلّق على المجيء جنس وجوب الإكرام، كذلك في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) المعلّق جنس الوجوب.

{وأمّا الشّخص والخصوصيّة النّاشئة من قبل استعمالها} أي: الصّيغة {فيه} أي: في الوجوب {فلا تكاد تكون} تلك الخصوصيّة الاستعماليّة {من خصوصيّات معناها} أي: معنى الصّيغة {المستعملة} تلك الصّيغة {فيه} أي: في هذا المعنى الخاصّ {كما لا يخفى} فإنّ الإنشاء كالإخبار إنّما هما من خصوصيّات الاستعمال، لا من خصوصيّات المستعمل فيه، و{كما لا تكون الخصوصيّة الحاصلة من قبل الإخبار به} في قولنا: (إن جاءك زيد فإكرامه واجب) {من خصوصيّات ما أخبر به واستعمل فيه إخباراً لا إنشاءً} كذلك لا تكون الخصوصيّة الحاصلة من قبل الإنشاء من خصوصيّات المستعمل فيه.

{وبالجملة} لا فرق بين الإنشاء والإخبار ولا دخل لهما في تخصيص المستعمل

ص: 36

كما لا يكون المخبر به المعلّق على الشّرط خاصّاً بالخصوصيّات النّاشئة من قبل الإخباربه، كذلك المنشأ بالصيغة المعلّق عليه، وقد عرفت بما حقّقناه في معنى الحرف وشبهه: أنّ ما استعمل فيه الحرف عامّ كالموضوع له، وأنّ خصوصيّة لحاظه بنحو الآليّة والحاليّة لغيره من خصوصيّة الاستعمال، كما أنّ خصوصيّة لحاظ المعنى بنحو الاستقلال في الاسم كذلك، فيكون اللحاظ الآلي - كالاستقلالي - من خصوصيّات الاستعمال، لا المستعمل فيه.

___________________________________________

فيه، ف- {كما لا يكون المخبر به} كقولنا: (فإكرامه واجب) {المعلّق على الشّرط} وهو قولنا: (إن جاءك زيد) {خاصّاً بالخصوصيّات النّاشئة من قبل الإخبار به} بل هو على حاله قبل الاستعمال من الكليّة والاستقلال {كذلك المنشأ بالصيغة المعلّق عليه} أي: على الشّرط.

{و} إن قلت: الهيئة المنشأة في الصّيغة حرف والمعاني الحرفيّة جزئيّة على مذاق القوم، فالحكم المعلّق على الشّرط جزئيّ لا كلّي.

قلت: {قد عرف بما حقّقناه في معنى الحرف وشبهه} عدم تماميّة كون المعنى الحرفي جزئيّاً، بل الصّحيح {أنّ ما استعمل فيه الحرف عامّ كالموضوع له، و} قد تقدّم {أنّ خصوصيّة لحاظه} أي: لحاظ الحرف {بنحو الآليّة - والحاليّة لغيره - من خصوصيّة الاستعمال} وهذا النّحو من اللّحاظ والخصوصيّة لا يسبّب جزئيّة المعنى {كما أنّ خصوصيّة لحاظ المعنى بنحو الاستقلال في الاسم كذلك} لا يصير سبباً لجزئيّة المعنى، فالمعنى في كليهما عامّ، واللحاظ لا يسبّب جزئيّته {فيكون اللحاظالآلي} في الحرف {كالاستقلالي من خصوصيّات الاستعمال لا المستعمل فيه} وكأنّ القائل بالجزئيّة توهّم كون الوجوب في الجزاء مقيّداً بقيد الإنشاء، وعليه فالوجوب المقيّد بهذا القيد جزئيّ، إذ إنشاء الوجوب بمعنى إيجاده - على مذاق المصنّف(رحمة الله) وجماعة - ومن المعلوم أنّ كلّ موجود جزئيّ حقيقي، إذ الشّيء

ص: 37

وبذلك قد انقدح فساد ما يظهر من التقريرات(1) - في مقام التفصّي عن هذا الإشكال - من التفرقة بين الوجوب الإخباري والإنشائي، بأنّه كلّيّ في الأوّل وخاصّ في الثّاني، حيث دفع الإشكال بأنّه لا يتوجّه في الأوّل؛ لكون الوجوب كليّاً، وعلى الثّاني بأنّ ارتفاع مطلق الوجوب فيه من فوائد العليّة المستفادة من الجملة الشّرطيّة؛

___________________________________________

ما لم يتشخّص لم يوجد.

وقد غفل المتوهّم عن أنّ الإنشاء كالإخبار ليس قيداً للموضوع له (إفعل) بل من كيفيّة الاستعمال، فإنّ الإنسان قد يستعمل الوجوب بلباس الإنشاء فيقول: (إفعل) وقد يستعمله بلباس الإخبار فيقول: (يجب عليك) أو (واجب)، وإلّا فلو لوحظ الوجوب المقيّد بقيد الإنشاء في (إفعل) يلزم ملاحظته بقيد الإخبار في واجب، فيكون كلاهما جزئيّاً، فتدبّر.

{وبذلك} الّذي ذكرنا من كون المعنى في الجزاء كليّاً، وإنّما خصوصيّة الإنشائيّة مربوطة بالاستعمال لا المستعمل فيه {قد انقدح فساد ما يظهر من التقريرات في مقام التفصّي عن هذا الإشكال من التفرقة بين الوجوبالإخباري} المعلّق على الشّرط نحو (إن جاء زيد وجب إكرامه) {والإنشائي} نحو (أكرمه) {بأنّه كلّيّ في الأوّل، وخاصّ} وجزئيّ {في الثّاني، حيث دفع الإشكال} الّذي تقدّم في قولنا: «لعلّك تقول» {بأنّه لا يتوجّه في الأوّل} وهو ما كان المعلّق على الشّرط جملة خبريّة {لكون الوجوب كليّاً، وعلى الثّاني} وهو ما كان المعلّق على الشّرط جملة إنشائيّة، أجاب بعد تسليم كون الوجوب المعلّق جزئيّاً {بأنّ ارتفاع مطلق الوجوب فيه} في هذا القسم الثّاني عند ارتفاع المقدّم {من فوائد العليّة المستفادة من الجملة الشّرطيّة} بمعنى أنّه حيث وقع هذا الوجوب الجزئي الشّخصي جزاءً للشرط، وبعد انتفائه كان اللّازم انتفاء جنس الحكم وسنخ الوجوب

ص: 38


1- مطارح الأنظار 2: 39.

حيث كان ارتفاع شخص الوجوب ليس مستنداً إلى ارتفاع العلّة المأخوذة فيها، فإنّه يرتفع ولو لم يوجد في حيال أداة الشّرط، كما في اللقب والوصف.

وأورد(1)

- على ما تُفُصِّيَ به عن الإشكال بما ربّما يرجع إلى ما ذكرناه - بما حاصله: أنّ التفصّي لا يبتني على كليّة الوجوب؛

___________________________________________

عند انتفاء الشّرط، ولا يمكن أن يكون مفيداً لانتفاء شخص الوجوب وإلّا لم يكن لأداة الشّرط فائدة أصلاً {حيث كان ارتفاع شخص الوجوب ليس مستنداً إلى ارتفاع العلّة} الّتيهي الشّرط {المأخوذه فيها} أي: في الجملة الشّرطيّة {فإنّه} أي: شخص الوجوب {يرتفع ولو لم يوجد في حيال أداة الشّرط، كما} ترى يرتفع المحمول {في اللقب والوصف} فلو قال: (زيد قائم) أو (العالم يجب إكرامه) انتفى القيام الشّخصي ووجوب الإكرام الشّخصي بانتفاء زيد والعالم.

والحاصل: أنّ شخص الوجوب ينتفي بانتفاء الموضوع ولو لم يعلّق ب- (إن) الشّرطيّة ونحوها، ضرورة انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، فاللّازم أن يكون التعليق بالشرط مفيداً لفائدة لم تكن لولا الشّرط، ولا تتصوّر فائدة إلّا انتفاء سنخ الحكم عند انتفاء الشّرط، وبهذا ظهر أنّ صاحب التقريرات يسلّم كون الوجوب في الإنشاء شخصيّاً، وإنّما يرى انتفاء سنخ الحكم من فوائد أداة الشّرط كي يبقى فرق بين المعلّق على الأداة وغيره.

{و} قد {أورد} صاحب التقريرات {على ما تُفُصِّيَ به عن الإشكال بما ربّما يرجع إلى ما ذكرناه} يعني: أنّ بعضهم أجاب عن الإشكال المتقدّم في قولنا: «إشكال ودفع» بجواب يرجع حاصله إلى جوابنا السّابق في قولنا: «ولكنّك غفلت» الخ، الّذي كان حاصله أنّ الجزاء في الجملة الشّرطيّة كليّ إخباراً كان أم إنشاءً {بما حاصله} متعلّق ب- «أُورد» {أنّ التفصّي} عن الإشكال {لا يبتني على كليّة الوجوب}

ص: 39


1- مطارح الأنظار 2: 39.

لما أفاده، وكونُ الموضوع في الإنشاء عاماً لم يقم عليه دليل، لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه؛ حيث إنّ الخصوصيّات بأنفسها مستفادة من الألفاظ.

وذلك لما عرفت من أنّ الخصوصيّات في الإنشاءات والإخبارات، إنّما تكون ناشئة من الاستعمالات بلا تفاوت أصلاً بينهما.ولعمري لا يكاد ينقضي تعجّبي، كيف تُجعل خصوصيّات الإنشاء من خصوصيّات المستعمل فيه؟ مع أنّها

___________________________________________

في الإنشاء المعلّق على الشّرط {لما أفاده} صاحب التقريرات وهذا وجه عدم الابتناء - أي: يمكن التخلّص عن الإشكال بما ذكرناه - من أنّ ارتفاع مطلق الوجوب من فوائد العلّيّة الخ، وحينئذٍ لا نحتاج إلى جعل الوجوب كليّاً.

{و} هذا مضافاً إلى أنّ {كون الموضوع في الإنشاء عامّاً لم يقم عليه دليل لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه} فإنّ الدليل قام على كون الموضوع في الإنشاء جزئيّاً {حيث إنّ الخصوصيّات} الإنشائيّة {بأنفسها مستفادة من الألفاظ} وذلك ممّا يدلّ على دخلها في الموضوع له، إذ لو لم تكن تلك الخصوصيّات دخيلة في الموضوع له لم تكن تستفاد من الألفاظ، بل اللّازم أن تستفاد من الخارج والقرائن، فصيغة (إفعل) موضوعة للوجوب الخاصّ الإنشائي لا أنّها موضوعة للوجوب المطلق والخصوصيّة مستفادة من الخارج.

{وذلك} أي: بيان ذلك الّذي ذكرنا من انقداح فساد ما في التقريرات {لما عرفت} غير مرّة {من أنّ الخصوصيّات في الإنشاءات والإخبارات إنّما تكون ناشئة من الاستعمالات} لا دخيلة في الموضوع له، فالإنشاء والإخبار من هذا الحيث سيّان {بلا تفاوت أصلاً بينهما}.

{ولعمري لا يكاد ينقضي تعجّبي كيف تجعل} بالبناء للمفعول {خصوصيّات الإنشاء من خصوصيّات المستعمل فيه} المقتضي لجزئيّة المعنى {مع أنّها}أي:

ص: 40

- كخصوصيّات الإخبار - تكون ناشئة من الاستعمال، ولا يكاد يمكن أن يدخل في المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال، كما هو واضح لمن تأمّل.

الأمر الثّاني: أنّه إذا تعدّد الشّرط مثل: (إذا خفي الأذانُ فقصّر) و(إذا خفي الجدران فقصّر)، فبناءً على ظهور الجملة الشّرطيّة في المفهوم، لا بدّ من التصرّف ورفع اليد عن الظهور:

إمّا بتخصيص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر،

___________________________________________

خصوصيّات الإنشاء {كخصوصيّات الإخبار تكون ناشئة من الاستعمال، ولا يكاد يمكن أن يدخل في المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال} إذ المستعمل فيه لا بدّ وأن يوجد قبل الاستعمال حتّى يستعمل فيه اللفظ، فالإنشائيّة والإخباريّة اللّتان تتحقّقان مع الاستعمال لا يعقل دخلهما في المستعمل فيه {كما هو واضح لمن تأمّل} هذا ولكن المصنّف(رحمة الله) لم يجب عمّا ذكره التقريرات من استفادة سنخ الوجوب من أداة الشّرط، مع أنّ فيه ما فيه، فتدبّر.

[الأمر الثّاني]

{الأمر الثّاني} في بيان وجه الجمع بين الشّرطين الواردين على جزاء واحد {أنّه إذا تعدّد الشّرط} واتّحد الجزاء {مثل: (إذا خفي الأذان فقصّر) و(إذا خفي الجدران فقصّر)} سواء كانا في كلام واحد أم في كلامين {فبناءً على ظهور الجملة الشّرطيّة فيالمفهوم لا بدّ من التصرّف} بأحد وجوه أربعة {ورفع اليد عن الظهور} في الجملة، إذ الأخذ بظهور كليهما موجب للتنافي بينهما، فإنّ مفهوم (إذا خفي الأذان) عدم القصر إذا لم يَخْفَ سواء خَفِيَ الجُدْران أم لا، ومفهوم (إذا خَفِيَ الجدران) عدم القصر إذا لم تَخْفَ سواء خفي الأذان أم لا، فلو خفي أحدهما ولم يَخْفَ الآخر تعارض الدليلان، فمنطوق المخفي يحكم بالقصر ومفهوم غير المخفي يحكم بالتمام:

1- {إمّا بتخصيص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر} كأن يقال: (إذا خفي الأذان

ص: 41

فيقال بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشّرطين.

وإمّا برفع اليد عن المفهوم فيهما، فلا دلالة لهما على عدم مدخليّة شيء آخر في الجزاء. بخلاف الوجه الأوّل، فإنّ فيهما الدلالة على ذلك.

وإمّا بتقييد إطلاق الشّرط في كلّ منهما بالآخر،

___________________________________________

فقصّر، وإذا لم يخف لم يجب القصر إلّا إذا خفي الجدران) وكذا في (إذا خفي الجدران) {فيقال} في نتيجة الجمع بهذا النّحو {بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشّرطين} فكلّما حصل أحد الشّرطين وجب القصر، وحيث لم يحصلا وجب التمام، فخفاء الجدران وحده كافٍ وإن لم يخف الأذان، وخفاء الأذان وحده كافٍ وإن لم يخف الجدران، وخفاء كليهما بطريق أولى. أمّا لو لم يخفيا - بل كانا بارزين - وجب التمام.

2- {وإمّا برفع اليد عن المفهوم فيهما} فيكون كلّ منهما من قبيل (زيد قائم) يعني أنّ خفاء الجدران موجب للقصروخفاء الأذان موجب للقصر {فلا دلالة لهما على} المفهوم الّذي مفاده {عدم مدخليّة شيء آخر في الجزاء} بل كلّ منهما يشتمل على حكم إيجابي فقط.

ثمّ إنّ الفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل - مع اشتراك كليهما في النّتيجة - هو أنّ هذا الوجه لا يقول بالمفهوم أصلاً، فلا يقع بينهما تعارض وتقييد أصلاً {بخلاف الوجه الأوّل، فإنّ فيهما الدلالة على ذلك} أي: على عدم مدخليّة شيء آخر في الجزاء، فيقع التعارض ويقيّد مفهوم كلّ بمنطوق الآخر.

مثال ذلك: إنّ وجه الأوّل من قبيل: (أكرم زيداً ولا تكرم غيره، أكرم عمرواً ولا تكرم غيره) والوجه الثّاني من قبيل (أكرم زيداً، أكرم عمرواً).

3 - {وإمّا بتقييد إطلاق الشّرط} أي: المنطوق {في كلّ منهما بالآخر} فيكون معنى (إذا خفي الأذان): (إذا خفي الأذان بشرط خَفَاءِ الجدران، وإذا خفي الجدران

ص: 42

فيكون الشّرط هو خَفَاء الأذان والجدران معاً، فإذا خفيا وجب القصر، ولا يجب عند انتفاء خفائهما، ولو خفي أحدهما.

وإمّا بجعل الشّرط هو القدر المشترك بينهما، بأن يكون تعدّد الشّرط قرينةً على أنّ الشّرط في كلّ منهما ليس بعنوانه الخاصّ، بل بما هو مصداق لما يعمّهما من العنوان.

ولعلّ العرف يساعد على الوجه الثّاني،

___________________________________________

بشرط خفاء الأذان).

وعلى هذا فيكون القصر واجباً حيث يخفى الأذان والجُدْرَان كلاهما، ولا يجوز في الصّور الثّلاثة الأُخر - أعني: خفاء الجدران فقط أو خفاء الأذان فقط أوعدم خفاء كليهما - وعليه فهذا عكس الأوّلين في النّتيجة {فيكون الشّرط} في القصر {هو خفاء الأذان والجدران معاً، فإذا خفيا وجب القصر، ولا يجب} بل لا يجوز القصر {عند انتفاء خفائهما، ولو خفي أحدهما} كما تقدّم.

4- {وإمّا بجعل الشّرط} في وجوب القصر {هو القدر المشترك بينهما، بأن يكون} الشّرط في الواقع أمراً واحداً جامعاً بينهما، و{تعدّد الشّرط} في الدليل {قرينة على أنّ الشّرط في كلّ منهما} خفاء الأذان والجدران {ليس بعنوانه الخاص} مؤثّراً {بل} مؤثريّته في القصر {بما هو مصداق لما يعمّهما من العنوان} بيان «ما» كأن يكون المقدار الخاصّ من البعد عن البلد سبباً للقصر وتحقّقه بأحد من خفاء الجدار وخفاء الأذان.

ثمّ إنّ كلّ واحد من الأمرين إمّا كاشف بغير مدخليّة نفسه، وإمّا دخيل بسبب الجامع الموجود في ضمنه، وعليه فهذا القسم يطابق القسمين الأوّلين في النّتيجة وإن خالفهما في أنّ الشّرط هو الجامع أو المكشوف - في هذا القسم - وكلّ واحد من الأمرين - في القسمين - {ولعلّ العرف يساعد على الوجه الثّاني} لأنّ الجملة الشّرطيّة تكون ظاهرة في المفهوم لديهم حيث لم تقم قرينة على

ص: 43

كما أنّ العقل ربّما يعيّن هذا الوجه، بملاحظة أنّ الأُمور المتعدّدة - بما هي مختلفة - لا يمكن أن يكون كلّ منهما مؤثّراً في واحد؛ فإنّه لا بدّ من الرّبط الخاصّ بين العلّة والمعلول، ولا يكاديكون الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالاثنين - بما هما اثنان - ولذلك أيضاً لا يصدر من الواحد إلّا الواحد.

___________________________________________

الخلاف؛ لأنّهم يفهمون حينئذٍ انحصار السّبب المستلزم للمفهوم، أمّا إذا كانت هناك قرينة على خلاف الانحصار - ومن القرائن تعدّد الشّرط - فلا، فتدبّر.

{كما أنّ العقل ربّما يعيّن هذا الوجه} الرّابع، وهو أن يكون المؤثّر في الجزاء هو القدر المشترك بين الشّرطين لا كلّ شرط على حياله واستقلاله {بملاحظة أنّ الأُمور المتعدّدة بما هي} أُمور {مختلفة لا يمكن أن يكون كلّ} واحد {منهما مؤثّراً في} شيء {واحد، فإنّه لا بدّ من الرّبط الخاصّ} والسّنخيّة {بين العلّة والمعلول} إذ لولا السّنخيّة لزم إمكان تأثير كلّ شيء في كلّ شيء، وحيث إنّ هذا غير معقول لزم وجود السّنخيّة والمناسبة، فكلّما وجدت أمكن التأثير وكلّما لم توجد لم يمكن.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ هذا الدليل على تقدير تماميّته إنّما يجري في الفاعل بالجبر، كما لا يخفى.

{و} حيث اعتبرنا السّنخيّة لا بدّ وأن يكون علّه كلّ معلول أمراً واحداً و{لا يكاد يكون} المعلول {الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالاثنين} أي: علّتين {بما هما اثنان} بأن لا يكون بينهما جهة جامعة بها تؤثران في المعلول {ولذلك} البرهان المتقدّم من لزوم السّنخيّة بين العلّة والمعلول تنعكس القضيّة {أيضاً} فيقال: {لا يصدر من} العلّة {الواحد} ة {إلّا} المعلول {الواحد} وهذه القضيّة عكس ما تقدّم من أنّه لا يصدر المعلول الواحد إلّا من العلّة الواحدة.والحاصل: أنّ المعلول الواحد لا بدّ وأن يصدر من العلّة الواحدة، كما وأنّ العلّة

ص: 44

فلا بدّ من المصير إلى أنّ الشّرط في الحقيقة واحد، وهو المشترك بين الشّرطين، بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم، وبقاءِ إطلاق الشّرط في كلّ منهما على حاله، وإن كان بناء العرف والأذهان العاميّة على تعدّد الشّرط، وتأثير كلّ شرط بعنوانه الخاص، فافهم.

___________________________________________

الواحدة لا يصدر منها إلّا معلول واحد {فلا بدّ} حينئذٍ {من المصير} في مسألة الشّروط المتعدّدة {إلى أنّ الشّرط في الحقيقة واحد، وهو المشترك بين الشّرطين} فهو المؤثّر في الجزاء، كما تقدّم من مثال البعد عن البلد في اشتراط القصر.

ثمّ إنّ القول بأنّ الشّرط هو الجامع إنّما يكون {بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم وبقاء إطلاق الشّرط في كلّ منهما على حاله} قال السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - في قوله: «فلا بدّ»: «تفريع على قوله: «ولعلّ العرف»، وقوله: «كما أنّ العقل...» الخ، يعني بعد مساعدة العرف على الثّاني، وبناء العقل على امتناع تأثير كلّ من الشّرطين بخصوصه في الجزاء، لا بدّ من الجمع بين القول بعدم المفهوم للقضيّة الشّرطيّة عند التعدّد والقول بأنّ الشّرط هو الجامع بين الشّرطين»(1)،

انتهى.

ولكن هذا إنّما يتمّ مع بقاء إطلاق الشّرط، بحيث يؤثّر كلّ شرط بسبب وجود الجامع في ضمنه بلا اعتبار انضمام الشّرط الآخر إليه. أمّا لو لم نقل ببقاء هذا الإطلاق فاللّازم القول بتأثير الشّرطين معاً، فلا يستقيم قول المصنّف(رحمة الله):«فلا بدّ من المصير» الخ، فتدبّر.

{وإن كان بناء العرف والأذهان العاميّة على تعدّد الشّرط وتأثير كلّ شرط بعنوانه الخاصّ} فإنّهم يرون أنّ كلّ واحد من خفاء الأذان وخفاء الجدران سبباً مستقلّاً للقصر، لا أنّ الجامع الموجود في كلّ واحد منهما سبب.

{فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى عدم تماميّة البرهان الّذي استندوا إليه للقضيّتين - أعني: الواحد لا يصدر، الخ وعكسه - فإنّ السّنخيّة لم يقم على لزومها

ص: 45


1- حقائق الأصول 1: 461.

وأمّا رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشّرطين وبقاء الآخر على مفهومه، فلا وجه لأن يصار إليه، إلّا بدليل آخر، إلّا أن يكون ما أُبْقِيَ على المفهوم أظهر، فتدبّر جيّداً.

الأمر الثّالث: إذا تعدّد الشّرط واتحد الجزاء،

___________________________________________

دليل حتّى في الفاعل بالجبر، فإنّه من المعقول قطعاً أن يؤثّر شيء في شيء بلا سنخيّة، فإنّ المؤثريّة إنّما هي بجعل اللّه تكويناً ولا مانع من جعله أُموراً متعدّدة متباينة الماهيّة مؤثّرة في أمر واحد كالعكس، بأن يجعل أمراً واحداً مؤثّراً في أُمور متعدّدة.

هذا كلّه في غير الأُمور الاعتباريّة وأمّا الاعتباريّات فالأمر فيها أوضح، إذ لا تأثير في الحقيقة.

هذا تمام الكلام في الوجوه الأربعة الّتي بها يمكن الجمع بين الشّرطين {وأمّا} الوجه الخامس في الجمع، وهو {رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشّرطين وبقاء الآخر على مفهومه} كما حكي عن الحلّي(رحمة الله) في مسألةالأذان والجدران، فجعل المناط في القصر هو خفاء الأذان فقط المستلزم لبقاء مفهوم (إذا خفي الأذان) ورفع اليد عن مفهوم (إذا خفي الجدران) وكأنّه استظهر عدم مدخليّة خفاء الجدران وإنّما هو من علامات خفاء الأذان {فلا وجه لأن يصار إليه إلّا بدليل آخر} خارج عن الجملتين، إذ هذا الجمع ترجيح بلا مرجّح كما لا يخفى {إلّا أن يكون ما أُبْقِيَ على المفهوم أظهر} ممّا رُفِعَ اليدُ عن مفهومه، ويكون المراد برفع اليد: حمله على العرفيّة، كما تقدّم {فتدبّر جيّداً} وفي بعض النّسخ ليس قوله: «وأمّا رفع اليد» الخ موجوداً وكأنّه لما حكي من شطب المصنّف(رحمة الله) عليه.

[الأمر الثّالث]

{الأمر الثّالث: إذا تعدّد الشّرط واتّحد الجزاء} كأن يقول: «إذا بلت فتوضّأ، وإذا

ص: 46

فلا إشكال على الوجه الثّالث. وأمّا على سائر الوجوه، فهل اللّازم لزوم الإتيان بالجزاء متعدّداً، حسب تعدّدِ الشّروط، أو يتداخل، ويُكتفى بإتيانه دفعة واحدة؟ فيه أقوال:

والمشهور: عدم التداخل.

وعن جماعة - منهم المحقّق الخوانساري(رحمة الله)(1) - : التداخل.

وعن الحلّي: التفصيل بين اتحاد جنس الشّروط وتعدّده(2).

___________________________________________

نمت فتوضّأ» فإنّ موضوع الجزاء - وهو الوضوء - أمر واحد {فلا إشكالعلى الوجه الثّالث} من الوجوه المتقدّمة في الأمر الثّاني، وهو تقييد كلّ من المنطوقين بالآخر حتّى يكون المجموع شرطاً واحداً، ويكون معنى الجملتين: «إذا بلت ونمت فتوضّأ» حتّى لا يكون كلّ واحد من الشّرطين كافياً في وجوب الجزاء، بل الأمران معاً سبب له بحيث يصير كلّ واحد جزء سبب.

{وامّا على سائر الوجوه} الثّلاثة الأُخر الّتي كان كلّ واحد منها شرطاً مستقلّاً لوجود الجزاء بحيث كان يؤثّر بلا احتياج إلى انضمام الأُخر {فهل اللّازم لزوم الإتيان بالجزاء متعدّداً حسب تعدّد الشّروط} كأن يجب على من بال ونام الوضوء مرّتين {أو يتداخل ويكتفي بإتيانه دفعة واحدة} فلا يجب إلّا وضوء واحد، أو يفصل بين ما اتّحد الجنس، كما لو بال مرّتين، فيتداخل، وبين ما اختلف، كما لو بال ونام، فيتعدّد؟ {فيه أقوال}.

{والمشهور} بين العلماء {عدم التداخل، وعن جماعة منهم المحقّق الخوانساري(رحمة الله) التداخل، وعن الحلّي} (قدس سره) {التفصيل بين اتحاد جنس الشّروط} فيتداخل {وتعدّده} فلا يتداخل.

ومن البديهي أنّ هذا النّزاع إنّما يجري في ما أمكن التعدّد في الجزاء، وأمّا ما

ص: 47


1- مشارق الشموس: 61.
2- السرائر 1: 258.

والتحقيق: أنّه لمّا كان ظاهر الجملة الشّرطيّة حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط بسببه، أو بكشفه عن سببه، وكان قضيّته تعدّد الجزاء عند تعدّد الشّرط، كان الأخذ بظاهرها - إذا تعدّد الشّرط حقيقة أو وجوداً - محالاً؛ ضرورة أنّ لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة - مثل الوضوء - بما هيواحدة - في مثل: «إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ»(1) أو في ما إذا بال مكرّراً، أو نام كذلك - محكوماً بحكمين متماثلين، وهو واضح الاستحالة كالمتضادّين.

___________________________________________

لم يمكن كما لو أتى بأسباب القتل - كما لو ارتدّ ولاط وقتل - فلا خفاء في التداخل، وإن كان في نحو هذه المسألة كلام، فتدبّر.

{والتحقيق أنّه لمّا كان ظاهر الجملة الشّرطيّة حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط بسببه} أي: بسبب الشّرط {أو بكشفه عن سببه} أي: كشف الشّرط عن سبب الجزاء كأن يكون البول هو بنفسه سبباً للوضوء، أو كاشفاً عن طريان حالة نفسانيّة مظلمة هي سبب الوضوء {وكان قضيّته} أي: مقتضى كون الشّرط سبباً أو كاشفاً عن سبب {تعدّد الجزاء عند تعدّد الشّرط} إذ لا يعقل توارد علّتين تامّتين على معلول واحد {كان الأخذ بظاهرها} أي: ظاهر الجملة الشّرطيّة {إذا تعدّد الشّرط حقيقة} كأن نام وبال {أو وجوداً} كأن بال مرّتين {محالاً} خبر «كان».

وبيّن وجه الاستحالة بقوله: {ضرورة أنّ لازمه} أي: لازم كون الجملة الشّرطيّة ظاهرة في الحدوث عند الحدوث {أن يكون الحقيقة الواحدة - مثل الوضوء - بما هي واحدة، في مثل: «إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ» أو في ما إذا بال مكرّراً أو نام كذلك} مكرّراً {محكوماً بحكمين متماثلين،وهو} أي: اجتماع المثلين {واضح الاستحالة ك-} اجتماع {المتضادّين}.

ص: 48


1- راجع وسائل الشيعة 1: 251 وفيه: «إنما وجب الوضوء مما خرج من الطرفين خاصة ومن النوم دون سائر الأشياء...».

فلا بدّ على القول بالتداخل من التصرّف فيه:

إمّا بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث، بل على مجرّد الثّبوت.

أو الالتزامِ بكون متعلّق الجزاء وإن كان واحداً صورة، إلّا أنّه حقائقُ متعدّدة - حسب تعدّد الشّرط - ، متصادقةٌ على واحدٍ،

___________________________________________

والحاصل: أنّ ظاهر كلّ جملة من الشّرطيّتين حدوث الجزاء عند وجود كلّ شرط، فإذا بال أوّلاً حدث وجوب الوضوء، فإذا بال أو نام ثانياً لم يعقل حدوث وجوب الوضوء أيضاً، إذ الطبيعة الواحدة لا يجتمع فيها وجوبان {فلا بدّ على القول بالتداخل من التصرّف فيه} أي: في ظاهر الجملة الشّرطيّة.

أمّا القائل بعدم التداخل فلا يلزم عليه هذا الإشكال؛ لأنّه يقول بوجوب فردين من الوضوء حين التعدّد جنساً أو فرداً.

ثمّ إنّ التصرّف في ظاهر الجملة - على القول بالتداخل - بوجوه: {إمّا بالالتزام بعدم دلالتها} أي: الجملة الشّرطيّة {في هذا الحال} أي: حال اجتماع سببين متقارنين أو متلاحقين {على الحدوث عند الحدوث، بل على مجرّد الثّبوت}.

فالجملة الشّرطيّة تقول بثبوت الجزاء عند حدوث الشّرط، فلو لم يكن موجوداً من قبل وجد وإن كان موجوداً لم يوجد بعد.

وعلى هذا لا يلزم اجتماع المثلين، وقد تصرّفنا في الشّرط الّذي ظاهرهالحدوث لا الثّبوت {أو الالتزام(1) بكون متعلّق الجزاء وإن كان واحداً صورة} إذ قال في كلّ من الجملتين: «فتوضّأ» {إلّا أنّه حقائق متعدّدة حسب تعدّد الشّرط متصادقة على} جزاء {واحد} فلو بال ونام مراراً، ثمّ توضّأ وضوءاً واحداً، فهذا الوضوء وإن كان شيئاً واحداً صورة إلّا أنّه حقائق متعدّدة حسب تعدّد الشّرط.

ص: 49


1- وهذا التصرّف إنّما هو في ظاهر الجزاء عكس التصرّف الأوّل.

فالذمّة وإن اشتغلت بتكاليف متعدّدة حسب تعدّد الشّروط، إلّا أنّ الاجتزاء بواحد؛ لكونه مجمعاً لها، كما في: (أكرم هاشميّاً) و(أضف عالماً) فأكرَمَ العالِمَ الهاشميّ بالضّيافة؛ ضرورة أنّه بضيافته بداعي الأمرين يصدق أنّه امتثلهما، ولا محالة يسقط الأمر بامتثاله وموافقته، وإن كان له امتثال كلّ منهما على حدة، كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضّيافة، وأضاف العالم الغير الهاشمي.

إن قلت: كيف يمكن ذلك - أي: الامتثال بما تصادق عليه العنوانان - مع استلزامه محذورَ اجتماع الحكمين المتماثلين فيه؟

___________________________________________

مثلاً: إن وجد الشّرط مرّتين كان هذا الوضوء حقيقتين، وإن وجد الشّرط ثلاث مرّات كان الوضوء حقائق ثلاث، وهكذا {فالذمّة} حين تعدّد الشّرط {وإن اشتغلت بتكاليف متعدّدة حسب تعدّد الشّروط إلّا أنّ الاجتزاء بواحد لكونه مجمعاً لها} أي: للتكاليف المتعدّدة {كما في (أكرم هاشميّاً) و(أضف عالماً) فأكرم العالمالهاشمي بالضيافة} فإنّ الذمّة وإن اشتغلت بتكاليف متعدّدة لكن يجتزي فعل واحد عنها {ضرورة أنّه بضيافته بداعي الأمرين يصدق أنّه امتثلهما} فتدبّر {ولا محالة يسقط الأمر بامتثاله وموافقته وإن كان له} أي: للمكلّف {امتثال كلّ منهما على حدة، كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضّيافة وأضاف العالم الغير الهاشمي}.

تنبيه: قد تقدّم في بعض المباحث السّابقة أنّ دخول اللّام على كلمة (غير) في مثل هذا المقام غير موافق لما ذكروه، قال اللّه - تعالى - : {غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ}(1).

{إن قلت: كيف يمكن ذلك} الّذي ذكرتم {أي:} حصول {الامتثال بما تصادق عليه العنوانان، مع استلزامه محذور اجتماع الحكمين المتماثلين فيه} أي: في مورد الاجتماع، فيلزم أن يكون ضيافة العالم الهاشمي واجباً بوجوبين، وهو مستحيل، كما تقدّم؟

ص: 50


1- سورة الفاتحة، الآية: 7.

قلت: انطباق عنوانين واجبين على واحد لا يستلزم اتصافَه بوجوبين، بل غايته أنّ انطباقهما عليه يكون منشئاً لاتصافه بالوجوب، وانتزاع صفته له. مع أنّه - على القول بجواز الاجتماع - لا محذور في اتصافه بهما، بخلاف ما إذا كان بعنوان واحد، فافهم.

أو الالتزامِ بحدوث الأثر عند وجود كلّ شرطٍ، إلّا أنّه وجوب الوضوء في المثال عند الشّرط الأوّل، وتأكّد وجوبه عند الآخر.

___________________________________________

{قلت: انطباق عنوانين واجبين على} شيء {واحد لا يستلزم اتصافه بوجوبين، بل غايته} أي: غاية الأمر {أنّ انطباقهما عليه يكون منشئاً لاتصافه بالوجوب} أي: بوجوب واحد أكيد {وانتزاع صفته} أي: صفة الوجوب الأكيد {له} أي: للمجمع {مع أنّه - على القول بجواز الاجتماع - لا محذور في اتصافه} أي: المجمع {بهما} أي: بالوجوبين بلا تأكيد، وذلك لكفاية تعدّد العنوان في تعدّد الحكم - مثلين كانا أم ضدّين - {بخلاف ما إذا كان} الحكمان {بعنوان واحد} فإنّه مستحيل حتّى على القول بجواز الاجتماع، كما تقدّم في بعض المباحث السّابقة.

{فافهم} إشارة إلى أنّ القول بالاجتماع أو الامتناع لا ربط له بالمقام، إذ الكلام في المقام في مثل: «إن بلت فتوضّأ وإن نمت فتوضّأ». ومن المعلوم أنّ الوضوء بعنوان واحد جزاء للشرطين.

نعم، في مثل: (أكرم هاشميّاً، وأضف عالماً) يفيد القول بالاجتماع، إذ أحد الوجوبين بعنوان الهاشميّة والآخر بعنوان العالميّة.

{أو الالتزام بحدوث الأثر عند وجود كلّ شرط إلّا أنّه} لمّا كان اجتماع المثلين محالاً فلا بدّ وأن نقول ب- {وجوب الوضوء في المثال عند} حصول {الشّرط الأوّل وتأكّد وجوبه عند} حصول الشّرط {الآخر} فهذه محتملات ثلاث لا بدّ من التزام أحدها ورفع اليد عن ظهور الجملة الشّرطيّة، لما تقدّم من أنّ بقاءه على حاله مستلزم لاجتماع المثلين، وهو مستحيل.

ص: 51

ولا يخفى: أنّه لا وجه لأن يصار إلى واحد منها؛ فإنّه رفع اليد عن الظاهر بلا وجهٍ.مع ما في الأخيرين من الاحتياج إلى إثبات أنّ متعلّق الجزاء متعدّد متصادق على واحد، وإن كان صورة واحداً مسمّى باسم واحدٍ كالغسل، وإلى إثبات أنّ الحادث بغير الشّرط الأوّل تأكُّدُ ما حدث بالأوّل، ومجرّدُ الاحتمال لا يجدي، ما لم يكن في البين ما يثبته.

___________________________________________

{و} لكن {لا يخفى أنّه لا وجه لأن يصار إلى واحد منها} أي: من هذه الوجوه الثّلاثة {فإنّه رفع اليد عن الظاهر بلا وجه} إذ الظاهر حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط لا مجرّد ثبوته عند ثبوته ولا التصادق على شيءٍ واحد ولا التأكّد {مع ما في الأخيرين، من} الإشكال.

أمّا الوجه الثّاني فل- {الاحتياج إلى إثبات أنّ متعلّق الجزاء متعدّد متصادق على} شيء {واحد، وإن كان في صورة واحداً مسمّىً باسم واحد كالغسل} الّذي دلّ الدليل على التصادق في واحد.

{و} أمّا الوجه الثّالث: فلاحتياجه {إلى إثبات أنّ الحادث بغير الشّرط الأوّل} أي: أنّ الحكم الحادث بسبب وجود الشّرط الثّاني إنّما هو {تأكّد ما حدث بالأوّل} مع أنّ ظاهر الجملة الشّرطيّه هو الحدوث ثانياً، لا تأكّد ما حدث أوّلاً.

{و} إن قلت: هذان ليسا بمستحيلين لاحتمال التعدّد المتصادق واحتمال التأكّد.

قلت: {مجرّد الاحتمال لا يجدي ما لم يكن في البين ما يثبته} فاللّازم المصير إلى وجوب الجزاءالمتعدّد بتعدّد الشّرط إلّا إذا قام دليل على التداخل.

قال السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - معلّقاً على قوله: «مع ما في الأخيرين» الخ ما لفظه: «يعني يرد إشكال آخر على القائل بأحد الأخيرين، وهو أنّه لو بنى على وجوب رفع اليد عن الظهور يدور الأمر بين المحتملات المذكورة، وتعيين واحد منها - كما يدّعيه القائل به - يحتاج إلى دليل وهو مفقود، وإنّما خصّه بالأخيرين؛

ص: 52

إن قلت: وجه ذلك هو لزوم التصرّف في ظهور الجملة الشّرطيّة؛ لعدم إمكان الأخذ بظهورها، حيث إنّ قضيّته اجتماع الحكمين في الوضوء - في المثال - كما مرّت الإشارة إليه.

قلت: نعم، إذا لم يكن المراد بالجملة - في ما إذا تعدّد الشّرط، كما في المثال - هو وجوب الوضوء - مثلاً - بكلّ شرطٍ غير ما وجب بالآخر، ولا ضير في كون فرد محكوماً بحكم فرد آخر أصلاً،

___________________________________________

لأنّ الأوّل راجع إلى دعوى الظهور فيه، كما وهو يظهر من ملاحظة عبارته بخلاف الأخيرين، فإنّ ظاهر عبارتهما تسليم عدم الظهور فيهما، فتأمّل جدّاً»(1)، انتهى.

{إن قلت: وجه ذلك} التصرّف الّذي ذكرنا {هو لزوم التصرّف في ظهور الجملة الشّرطيّة} في تعدّد وجوب الجزاء بتعدّد الشّرط {لعدم إمكان الأخذ بظهورها، حيث إنّ قضيّته} أي: مقتضى هذا الظهور {اجتماع الحكمين} المتماثلين {في الوضوء - في المثال - كما مرّت الإشارة إليه} فحيث يتعذّر اجتماع الحكمين لا بدّوأن نلتزم بإحدى التصرّفات الثّلاثة المذكورة.

{قلت: نعم} نحتاج إلى إحدى التصرّفات {إذا} التزمنا بوحدة الجزاء كالوضوء بأن {لم يكن المراد بالجملة} الشّرطيّة {في ما إذا تعدّد الشّرط - كما في المثال - هو وجوب الوضوء مثلاً بكلّ شرط} من جنس واحد كانا أم من جنسين {غير ما وجب بالآخر، ولا ضير في كون فرد محكوماً بحكم فرد آخر أصلاً}.

والحاصل: إذا التزمنا بوجوب وضوءٍ واحدٍ عقيب الشّرط المتعدّد، فاللّازم أن نتصرّف في الجملة الشّرطيّة بإحدى التصرّفات المذكورة: أمّا حيث لا ملزم لهذا الالتزام، بل هو خلاف ظاهر الجملة، فالواجب القول بتعدّد الجزاء حين تعدّد الشّرط بأن يقتضي كلّ شرط جزاءً، فإذا نام وجب عليه وضوء، وإذا بال وجب عليه

ص: 53


1- حقائق الأصول 1: 464.

كما لا يخفى.

إن قلت: نعم، لو لم يكن تقدير تعدّد الفرد على خلاف الإطلاق.

قلت: نعم، لو لم يكن ظهور الجملة الشّرطيّة - في كون الشّرط سبباً أو كاشفاً عن السّبب - مقتضياً لذلك - أي: لتعدّد الفرد - ، وإلّا كان بياناً لما هو المراد من الإطلاق.

___________________________________________

وضوء آخر، وهكذا.

ومن الواضح أنّ وجوب فردين من طبيعة واحدة لا يستلزم اجتماع المثلين {كما لا يخفى} نعم، إذا قام دليل على عدم التعدّد، فاللّازم التصرّف في ظهور الجملة الشّرطيّة.{إن قلت: نعم} يجب الحمل على تعدّد الجزاء حتّى لا يحتاج إلى التصرّفات المذكورة {لو لم يكن تقدير تعدّد الفرد} وفرضه {على خلاف الإطلاق} أي: إطلاق مادّة الجزاء، أمّا لو كان فرض تعدّد الفرد على خلاف إطلاق مادّة الجزاء، فاللّازم التحفّظ على الإطلاق والذهاب إلى إحدى التصرّفات المذكورة.

ثمّ إنّ وجه كونه خلاف إطلاق المادّة أنّ قوله(علیه السلام): «إذا بلت فتوضّأ» ظاهره وجوب مطلق الوضوء لا وجوب وضوء آخر، فإنّ تقييد الوضوء الواقع في الجزاء بقيد وهو كلمة (آخر) خلاف إطلاقه.

{قلت: نعم} تقدير تعدّد الفرد خلاف الإطلاق {لو لم يكن ظهور الجملة الشّرطيّة - في كون الشّرط سبباً أو كاشفاً عن السّبب - مقتضياً لذلك، أي: لتعدّد الفرد} وقوله: «في كون» متعلّق ب- «ظهور» وقوله: «مقتضياً» خبر «لم يكن» {وإلّا} فلو كان الظهور مقتضياً لتعدّد الفرد عرفاً {كان بياناً لما هو المراد من الإطلاق} يعني أنّ تعدّد الفرد - كأن يقيّد الوضوء بوضوء آخر - وإن كان خلاف الإطلاق، لكن حيث إنّ ظاهر الجملة الشّرطيّة حدوث الجزاء عند وجود الشّرط، - وهذا مستلزم لتعدّد الفرد - فلا بدّ وأن يكون هذا الظهور بياناً للإطلاق وأنّه مقيّد.

ص: 54

وبالجملة: لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الإطلاق؛ ضرورة أنّ ظهور الإطلاق يكون معلّقاً على عدم البيان، وظهورَها في ذلك صالحٌ لأن يكون بياناً، فلا ظهور له مع ظهورها، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرّف أصلاً، بخلاف القول بالتداخل، كما لا يخفى.

___________________________________________

وإن شئت قلت: يتصادم أمران:الأوّل: ظهور الجملة الشّرطيّة في حدوث الجزاء المقتضي لتعدّد الفرد.

الثّاني: ظهور إطلاق «توضّأ» مثلاً في كونها طبيعة واحدة من غير تعدّد، وحينئذٍ يكون الأمر الأوّل قرينة لرفع اليد عن الإطلاق، فاللّازم القول بتعدّد الفرد.

{وبالجملة لا دوران بين ظهور الجملة} الشّرطيّة {في حدوث الجزاء} المقتضي للتعدّد {و} بين {ظهور الإطلاق} في وحدة الطبيعة المقتضي لعدم التعدّد، حتّى يقال لا وجه لتقديم أحد الظهورين على الآخر، بل ظهور الجملة مقدّم على ظهور الإطلاق {ضرورة أنّ ظهور الإطلاق يكون معلّقاً على عدم البيان، وظهورها} أي: الجملة الشّرطيّة {في ذلك} التعدّد الّذي ذكرناه {صالح لأن يكون بياناً} وحينئذٍ {فلا ظهور له} أي: لا ظهور للإطلاق في وحدة الطبيعة {مع ظهورها} أي: الجملة الشّرطيّة في التعدّد {فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرّف أصلاً} لا في الجملة الشّرطيّة، لما تقدّم من ظهورها في التعدّد، ولا في الإطلاق؛ لأنّه لا ينعقد إطلاق مع البيان - كما تقرّر في محلّه - ولذا يقال: إنّ نحو (أكرم العالم العادل) ليس مجازاً، مع أنّ العالم مقيّد بقيد العادل {بخلاف القول بالتداخل} فإنّه يلزم منه التصرّف في ظهور الجملة الشّرطيّة في التعدّد {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) في الهامش ما لفظه: «هذا واضح بناءً على ما يظهر من شيخنا العلّامة من كون ظهور الإطلاق معلّقاً على عدم البيان مطلقاً - أي: إلى الأبد - ولو كان منفصلاً، وأمّا بناءً على ما أفدناه في غير مقام من أنّه - أي:

ص: 55

فتلخّص بذلك: أنّ قضيّة ظاهر الجملة الشّرطيّة هو القول بعدم التداخل عندتعدّد الشّرط.

وقد انقدح ممّا ذكرناه: أنّ المُجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه الّتي ذكرناها، لا مجرّد كون الأسباب الشّرعيّة معرّفات لا مؤثّرات.

___________________________________________

الإطلاق - إنّما يكون معلّقاً على عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقاً - أي: ولو منفصلاً - فالدّوران حقيقة بين الظهور - أي: ظهور الجملة الشّرطيّه في التعدّد وظهور الإطلاق في الوحدة - حينئذٍ وإن كان إلّا أنّه لا دوران بينهما حكماً؛ لأنّ العرف لا يكاد يشكّ بعد الاطّلاع على تعدّد القضيّة الشّرطيّة أنّ قضيّته تعدّد الجزاء، وأنّه في كلّ قضيّة وجوب فرد غير ما وجب في الأُخرى، كما إذا اتصلت القضايا وكانت في كلام واحد، فافهم»(1)،

انتهى.

فتحصّل: أنّ القيد لو كان متصلاً أو كان منفصلاً وقلنا بمقالة الشّيخ(رحمة الله) فاللّازم تقييد الإطلاق صناعة، وإن كان منفصلاً ولم نقل بمقالته فاللّازم تقييده لظهوره عرفاً في ذلك، إذ يدور الأمر بين القول بالتداخل وأحد التصرّفات المذكورة وبين القول بعدم التداخل والتصرّف في الإطلاق، والثّاني أظهر عند العرف من الأوّل.

{فتلخّص بذلك} البيان المتقدّم {أنّ قضيّة ظاهر الجملة الشّرطيّة هو القول بعدم التداخل عند تعدّد الشّرط} بل يجب إتيان الجزاء بعدد أفراد الشّرط، سواء اتحدت جنساً كبولين، أم اختلفت: كبول ونوم.

{وقد انقدح ممّا ذكرناه} من وجوه التصرف على القول بالتداخل وأنّه لا بدّ من التصرّف بإحدى تلك الوجوه حتّى تتمكّن من القولبالتداخل {أنّ المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه} الثّلاثة {الّتي ذكرناها لا مجرّد كون الأسباب الشّرعيّة معرّفات لا مؤثّرات}.

ص: 56


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 305.

فلا وجه لما عن الفخر(1)

وغيره(2)

من ابتناء هذه المسألة على أنّها

___________________________________________

اعلم أنّه حكي عن فخر المحقّقين أنّه قال: «الأسباب الشّرعيّة في الغالب معرّفات، بخلاف الأسباب العرفيّة فإنّها في الغالب مؤثّرات»(3).

وتوضيحه: أنّ ما جعله الشّارع سبباً لشيء ليس في الحقيقة مؤثّراً وإنّما هو كاشف عن مؤثّر حقيقيّ واقعي.

مثلاً: عبور الحمرة عن وسط السّماء وإن كان في ظاهر الدليل سبباً لوجوب صلاة المغرب لكن في الحقيقة إنّما هو معرّف عن استتار القرص وكاشف له والمؤثّر الحقيقي هو الاستتار، وكذا جعل مكعّب ثلاثة أشبار ونصف - مثلاً - سبباً لعصمة الماء ليس على نحو الحقيقة، بل هو كاشف عن وجود مقدار من الماء بحيث يكون عاصماً، وهكذا غيرهما من سائر الأمثلة، وهذا بخلاف الأسباب العرفيّة فإنّ جعلهم النّار سبباً للإحراق إنّما يعنون العلّة المؤثّرة وكذا غيره.

ثمّ قال الفخر: إنّ القول بالتداخل مبتنٍ على ما ذكرنا؛ لأنّ الأسباب الشّرعيّة لمّا كانت معرّفات أمكن اجتماع كثير منها على شيء واحد، فالسبب الحقيقي واحد والكاشف عنه كثير، فالبول والغائط والرّيح كلّها كاشفة عن ظلمة نفسيّة يذهبها الوضوء، ولهذا لا يلزم تعدّد الوضوء عند تعدّد هذا النّحو من الأسبابالّتي هي كواشف في الواقع؛ لأنّ السّبب واحد بخلاف الأسباب العرفيّة، فإنّ كلّ واحد سبب حقيقي ومؤثّر مستقلّ، فيلزم تعدّد المعلول لدى تعدّد السّبب.

ولكن حيث عرفت أنّ مسألة التداخل تبتني على إحدى الوجوه المذكورة {فلا وجه لما عن الفخر وغيره من ابتناء هذه المسألة} أي: مسألة التداخل {على أنّها} أي:

ص: 57


1- إيضاح الفوائد 1: 145.
2- عوائد الأيام: 294.
3- مطارح الأنظار 2: 53؛ عن إيضاح الفوائد 1: 136.

معرّفات أو مؤثّرات. مع أنّ الأسباب الشّرعيّة حالها حال غيرها، في كونها معرّفاتٍ تارةً، ومؤثّراتٍ أُخرى؛ ضرورة أنّ الشّرط للحكم الشّرعي في الجملة الشّرطيّة ربّما يكون ممّا له دخل في ترتّب الحكم، بحيث لولاه لما وجدت له علّة،

___________________________________________

الأسباب الشّرعيّة {معرّفات} فيتداخل {أو مؤثّرات} فلا يتداخل، فالتداخل مبني على المعرفيّة، لإمكان اجتماع معرّفات كثيرة على شيء واحد، والتعدّد مبني على كونها مؤثّرات حقيقة، لاقتضاء كلّ مؤثّر أثراً مستقلّاً.

وإنّما قلنا بأنّه لا وجه لهذا القول لأنّه على فرض تسليم كون الأسباب الشّرعيّة من قبيل المعرّفات لا يستقيم ما ذكره، لجواز أن تكون الأسباب الشّرعيّة المتعدّدة حاكية لأسباب حقيقيّة متعدّدة، كأن يكون البول حاكياً عن ظلمة والغائط عن ظلمة أُخرى وهكذا، فمجرّد كونها حاكيات لا يجدي القول بالتداخل ما لم يثبت كونها حاكيات عن شيء واحد، وأنّى لهم بإثباته.

إن قلت: الأصل العدم، فإنّا نشكّ في تعدّد السّبب الحقيقي فالأصل البراءة.

قلت: ظهور الجمل الشّرطيّة في كون كلّ من هذه الأُمور سبباً وعلّة للوضوء حاكم على هذا الأصل.

هذا كلّه على تقدير تسليم المبنى {مع أنّ} كون {الأسبابالشّرعيّة} من قبيل المعرّفات مطلقاً، ممنوع، بل {حالها حال غيرها في كونها معرّفات تارةً ومؤثّرات أُخرى} فكلّ من الأسباب الشّرعيّة والعرفيّة على قسمين: فتارة معرّف، وتارة كاشف {ضرورة أنّ الشّرط للحكم الشّرعي في الجملة الشّرطيّة ربّما يكون ممّا له دخل في ترتّب الحكم بحيث لولاه لما وجدت له} أي: للحكم {علّة} وربّما يكون كاشفاً فقط بحيث لولاه لكانت العلّة موجودة، إذ العلّة والمؤثّر لا يتوقّف على الكاشف، بل الأمر بالعكس.

ص: 58

كما أنّه في الحكم الغير الشّرعي قد يكون أمارة على حدوثه بسببه، وإن كان ظاهر التعليق أنّ له الدخل فيهما، كما لا يخفى.

نعم، لو كان المراد بالمعرفيّة في الأسباب الشّرعيّة: أنّها ليست بدواعي الأحكام الّتي هي في الحقيقة علل لها، وإن كان لها دخل في تحقّق موضوعاتها،

___________________________________________

فالأوّل: مثل قوله(علیه السلام): «إذا شككت فابن على الأكثر»(1)،

فإنّ الشّكّ علّة للحكم، فتدبّر.

والثّاني: نحو عبور الحمرة للمغرب كما تقدّم.

{كما أنّه} أي: الشّرط {في الحكم الغير الشّرعي} أيضاً على قسمين: فقد يكون علّة نحو (إذا طلعت الشّمس كان النّهار موجوداً) و{قد يكون أمارة} وكاشفاً {على حدوثه} أي: حدوث الحكم {بسببه} ومؤثّره الحقيقي نحو (إذا كان النّهار موجوداًكانت الشّمس طالعة) {وإن كان ظاهر التعليق} أي: تعليق الجزاء على الشّرط {أنّ له} أي: الشّرط {الدخل فيهما} أي: في الحكم الشّرعي وغير الشّرعي {كما لا يخفى}.

وبهذا تحقّق عدم صحّة قول الفخر من وجهين:

الأوّل: عدم ابتناء القول بالتداخل على كون الأسباب الشّرعيّة معرّفات.

الثّاني: عدم صحّة القول بكون الأسباب الشّرعيّة معرّفات، بل بعضها معرّفات وبعضها مؤثّرات. {نعم، لو كان المراد بالمعرفيّة في الأسباب الشّرعيّة أنّها ليست بدواعي الأحكام الّتي} صفة «دواعي» {هي في الحقيقة علل لها} أي: لتلك الأحكام، فلا يكون البول - مثلاً - علّة لوجوب الوضوء؛ لأنّ الداعي هي المصلحة الموجبة لوجودها {وإن كان لها} أي: لهذه الأسباب الشّرعيّة {دخل في تحقّق موضوعاتها} أي: موضوعات تلك الدواعي، فالأمر بالتوضّي مسبّب عن وجود

ص: 59


1- الفصول المهمة في أصول الأئمة(علیهم السلام) 2: 115.

بخلاف الأسباب غير الشّرعيّة، فهو وإن كان له وجه، إلّا أنّه ممّا لا يكاد يتوهّم أنّه يجدي في ما همّ وأراد.

ثمّ إنّه لا وجه للتفصيل بين اختلاف الشّروط بحسب الأجناس وعدمه، واختيار عدم التداخل في الأوّل، والتداخل في الثّاني(1)، إلّا توهّم عدم صحّة التعلّق بعموم اللفظ في الثّاني؛

___________________________________________

مصلحة تطهير النّفس، والموضوع لهذه المصلحة النّفس المظلمة والبول دخيل في ظلمة النّفس، فبالبول يتحقّق موضوع المصلحة والمصلحة هي العلّةللإيجاب {بخلاف الأسباب غير الشّرعيّة} فإنّها في الغالب بنفسها علّة لوجود المسبّب. مثلاً: قولنا: (سبب وجود النّهار طلوع الشّمس) بمعنى أنّ العلّة لوجوده طلوعها لا أنّ هناك شيئاً آخر، كما لا يخفى {فهو وإن كان له وجه} لصحّة القول بأنّ الأسباب الشّرعيّة حاكيات عن المصالح بهذا المعنى {إلّا أنّه ممّا لا يكاد يتوهّم أنّه يجدي في ما همّ} فخر المحقّقين(رحمة الله) {وأراد} من القول بالتداخل، وذلك لما تقدّم من أنّ السّبب حينئذٍ كاشف عن المصلحة، ومن المحتمل أن يكون كلّ سبب كاشفاً عن مصلحة، فيكون هناك مصالح يجب استيفاؤها بإتيان الشّيء مراراً.

{ثمّ إنّه لا وجه للتفصيل بين اختلاف الشّروط بحسب الأجناس} كالبول والنّوم {و} بين {عدمه} كالبول مرّتين {واختيار عدم التداخل في الأوّل} فيجب وضوءان {والتداخل في الثّاني} فوضوء واحد {إلّا توهّم عدم صحّة التعلّق} أي: الاستدلال {بعموم اللفظ} أي: لا يصحّ أن يقال: لفظ الجملة الشّرطيّة عامّ بالنسبة إلى كلّ فرد من أفراد الطّبيعة، فقوله: «إن بلت فتوضّأ» يشمل البول الأوّل فيجب وضوء، والبول الثّاني فيجب وضوء آخر {في الثّاني} أي: في ما كان الأفراد من جنس واحد،

ص: 60


1- السرائر 1: 258.

لأنّه من أسماء الأجناس، فمع تعدّد أفراد شرط واحد لم يوجد إلّا السّبب الواحد، بخلاف الأوّل؛ لكون كلّ منها سبباً، فلا وجه لتداخلها.

وهو فاسد؛ فإنّ قضيّة إطلاق الشّرط في مثل: «إذا بلت فتوضّأ» هو حدوث الوجوب عند كلّ مرّة لو بال مرّات،

___________________________________________

ووجه عدم صحّة التعلّق بقوله: {لأنّه} أي: الشّرط كالبول {من أسماء الأجناس فمع تعدّد أفراد شرط واحد لم يوجد إلّا السّبب الواحد} وحين كان من أسماء الأجناس فلا دلالة فيه على العموم بل يكون نفس الطبيعة سبباً، من غير فرق بين أن يوجد مرّة أو مراراً، مثلاً إذا قال المولى: (إن كان في الدار من جنس الحيوان شيء وجب عليك الحراسة) فإنّه تجب الحراسة بوجود هذا الجنس واحداً كان أم متعدداً، لا أنه تجب الحراسة بعدد أفراد الحيوان، ومثله ما نحن فيه، فإن معنى قوله: «إذا بلت فتوضأ» وجب الوضوء عند وجود هذا الجنس سواء حصل فرد واحد، أم أفراد متعدّدة.

وهذا {بخلاف الأوّل} الّذي يتعدّد الأجناس المختلفة {لكون كلّ منها} أي: من الأجناس كالبول والغائط والنّوم {سبباً} مستقلّاً لوجوب الوضوء {فلا وجه لتداخلها}.

هذا تمام الكلام في الوجه الّذي ذكروه للتفصيل المحكي عن الحلّي {وهو فاسد، فإنّ قضيّة إطلاق الشّرط في مثل: «إذا بلت فتوضّأ» هو حدوث الوجوب} للوضوء {عند كلّ مرّة لو بال مرّات} إذ ظاهر الجملة الشّرطيّة حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط كما لو قال: (إن جاءك عالم فأكرمه) فإنّه لو جاء عالم وجب إكرامه، ثمّ لو جاء عالم آخر وجب إكرامه أيضاً، لصدق القضيّة الشّرطيّة عند كلّ مرّة، والقول بأنّه من أسماء الأجناس فلا يفيد التعدّد باطل بعد ما ذكر من الظهور، إذ العرف لا يفهمون من القضيّة الشّرطيّه إلّا سريان طبيعة العلّة في كلّ

ص: 61

وإلّا فالأجناس المختلفة لا بدّ من رجوعها إلى واحد، في ما جعلت شروطاً وأسباباًلواحد، لما مرّت إليه الإشارة: من أنّ الأشياء المختلفة بما هي مختلفة لا تكون أسباباً لواحد.

هذا كلّه في ما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلاً للتعدّد، وأمّا ما لا يكون قابلاً لذلك، فلا بدّ من تداخل الأسباب فيه في ما لا يتأكّد المسبّب، ومن التداخل فيه في ما يتأكّد.

___________________________________________

فرد، كما لا يخفى {وإلّا} فلو كانت الجملة الشّرطيّة لا تدلّ على الحدوث عند الحدوث، بل على مجرّد الثّبوت {فالأجناس المختلفة} كالبول والنّوم أيضاً كذلك، إذ {لا بدّ من رجوعها إلى واحد} كالأفراد من الجنس الواحد، فإن الأجناس المختلفة لا بدّ من إرجاعها إلى جامع واحد به تؤثّر في شيء واحد {في ما جعلت شروطاً وأسباباً لواحد، لما مرّت إليه الإشارة من أنّ الأشياء المختلفة بما هي مختلفة لا تكون أسباباً لواحد} فإنّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد.

والحاصل: أنّ التفصيل بين اختلاف الجنس واتحاد الجنس لا وجه له، بل يجب القول إمّا بالتداخل في الجميع أو التعدّد في الجميع.

{هذا كلّه في ما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلاً للتعدّد} كالوضوء والغسل والإكرام ونحوها {وأمّا ما لا يكون قابلاً لذلك} كما لو قال: (إن ارتدّ زيد فاقتله وإن لاط فاقتله)، أو قال: (إن أكرمك عبدك فاعتقه، وإن صام فاعتقه) وأمثال ذلك {فلا بدّ من تداخل الأسباب فيه في ما لا يتأكّد المسبّب} كما تقدّم من مثال القتل {ومنالتداخل فيه في ما يتأكّد} المسبّب، كما لو مات في البئر حيوانان، فإنّ نجاسة البئر ليست قابلة للتعدّد وإنّما تكون قابلة للتأكّد. وفي المثالين نظر، فتدبّر، واللّه العالم وهو الموفّق.

ص: 62

فصل: الظاهر أنّه لا مفهوم للوصف

وما بحكمه مطلقاً؛ لعدم ثبوت الوضع،

___________________________________________

[فصل مفهوم الوصف]

اشارة

المقصد الثّالث: في المفاهيم، مفهوم الوصف

{فصل} في مفهوم الوصف {الظاهر أنّه لا مفهوم للوصف} بحيث يفيد انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف {وما بحكمه} كالحال نحو (أكرم العالم عادلاً) {مطلقاً} سواء كان الوصف معتمداً على الموصوف نحو (أكرم الرّجل العالم) أم لا نحو (أكرم العالم) أم لا نحو (أكرم العالم) وسواء كان الوصف علّة للحكم أم لا، وسواء كان بين الوصف والموصوف تساوياً، أو عموماً مطلقاً، أو من وجهٍ.

نعم، لو كان الوصف علّةً منحصرةً للحكم، نحو: (صلّ خلف العادل) لزم انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، ولكن ليس ذلك من جهة المفهوم بل من جهة كون العلّة المنحصرة - كما سيأتي - .

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وكيف كان، فوجه عدم المفهوم هو أنّه لو كان دالّاً على المفهوم لكان ذلك إمّا بالوضع - بأنّ الهيئة التركيبيّة من المقيّد والقيد موضوعة للدلالة على الخصوصيّة المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء - أو بالانصراف العرفي، أو لأجل لزوم اللغويّة بدونه ولا يرتكبه المولى الحكيم، أو لأجل أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً، أو لأجل ما هو المعروف على الألسنة من أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعليّة»(1)،

انتهى.لا سبيل إلى الأوّل: {لعدم ثبوت الوضع}.

ولا إلى الثّاني: لعدم الانصراف بعد فهم العرف في كثير من الموارد فوائد أُخرى غير المفهوم.

ص: 63


1- شرح كفاية الأصول 1: 286.

وعدم لزوم اللغويّة بدونه؛ لعدم انحصار الفائدة به، وعدمِ قرينة أُخرى ملازمة له.

وعليّته - في ما إذا استفيدت - غير مقتضية له، كما لا يخفى. ومع كونها بنحو الانحصار وإن كانت مقتضية له، إلّا أنّه لم يكن من مفهوم الوصف؛ ضرورة أنّه قضيّة العليّة الكذائيّة المستفادة من القرينة عليها في خصوص مقام، وهو ممّا لا إشكال فيه ولا كلام،

___________________________________________

{و} لا إلى الثّالث ل- {عدم لزوم اللغويّة بدونه} أي: بدون المفهوم {لعدم انحصار الفائدة به} أي: لا تنحصر فائدة الوصف بالمفهوم حتّى يلزم من عدمه اللغويّة، فإنّ للوصف فوائد أُخرى مثل الاعتناء بمحلّ الوصف دون غيره ونحو ذلك.

{و} لا إلى الرّابع والخامس ل- {عدم قرينة أُخرى ملازمة له} لعدم تماميّة كون الأصل في القيد الاحترازي، فإنّ للقيد فوائد أُخرى، كما تقدّم.

وأمّا إشعار الوصف بالعليّة فهو غير ملازم للمفهوم؛ لأنّ المفيد للمفهوم كون العلّة منحصرة لا مطلق العليّة، وإلى هذا أشار بقوله: {وعليّته} أي: عليّة الوصف للحكم {في ما إذا استفيدت غير مقتضية له} أي: للمفهوم؛ لأنّ المفيد هو العلّة المنحصرة لا مطلق العليّة {كما لا يخفى}.

{ومع كونها بنحوالانحصار - وإن كانتمقتضية له} لضرورة انتفاء المعلول بانتفاء علّته المنحصرة - {إلّا أنّه لم يكن من مفهوم الوصف} في شيء {ضرورة أنّه} أي: المفهوم {قضيّة العليّة الكذائيّة المستفادة من القرينة عليها في خصوص مقام} وجود هذه القرينة الخاصّة {وهو ممّا لا إشكال فيه ولا كلام} وإنّما الكلام في استفادة المفهوم في جميع الموارد، سواء كانت قرينة على العليّة المنحصرة أم لا.

ثمّ إنّ المحكي عن العلّامة(رحمة

الله) التفصيل في المقام، فقال بالمفهوم في ما كان

ص: 64

فلا وجه لجعله تفصيلاً في محلّ النّزاع ومورداً للنقض والإبرام(1).

ولا ينافي ذلك ما قيل(2)

من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً؛ لأنّ الاحترازيّة لا توجب إلّا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضيّة، مثل ما إذا كان بهذا الضّيق بلفظٍ واحدٍ. فلا فرق أن يقال: (جئني بإنسان)، أو: (بحيوان ناطق).

___________________________________________

الوصف علّة دون غيره، وأشار المصنّف(رحمة الله) إلى ردّه بقوله: {فلا وجه لجعله تفصيلاً في محلّ النّزاع ومورداً للنقض والإبرام} إذ لو كان المراد من العلّة في كلامه مطلق العلّة فلا وجه للقول بالمفهوم أصلاً، وإن كان المراد العلّة المنحصرة فلما تقدّم من أنّ استفادة المفهوم حينئذٍ كان بسبب قرينة انحصار العلّة وهو خارج عن محلّ الكلام، وإنّما القول في استفادة المفهوم من نفس الجملة الوصفيّة.{ولا ينافي ذلك} الّذي ذكرنا من عدم المفهوم {ما قيل من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً} وجه المنافاة أنّ معنى كون القيد احترازيّاً لا توضيحيّاً عدم الحكم عند عدم القيد وهو ينافي قولكم بعدم المفهوم.

وإنّما قلنا بعدم المنافاة {لأنّ الاحترازيّة لا توجب إلّا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضيّة} فمعنى (أكرم الرّجل العالم) وجوب إكرام العالم {مثل ما إذا كان} موضوع الحكم {بهذا الضّيق بلفظٍ واحدٍ} بلا وصف وموصوف {فلا فرق أن يقال: (جئني بإنسان)} حيث إنّ الموضوع مضيّق بلفظٍ واحدٍ {أو: (بحيوان ناطق)} فإنّ الحيوان وسيع وضيّقه بالوصف بالناطقيّة.

وكيف كان، فالمستفاد من المضيّق هو ثبوت الحكم له، لا نفي الحكم عن غيره، فمعنى قولهم: «إنّ الأصل في القيد الاحترازيّة» هو أنّ المستفاد من القيد

ص: 65


1- نهاية الوصول 1: 447.
2- راجع هداية المسترشدين 2: 471.

كما أنّه لا يلزم في حمل المطلق على المقيّد - في ما وجد شرائطه - إلّا ذلك، من دون حاجة فيه إلى دلالته على المفهوم؛

___________________________________________

السّكوت عن غيره، لا نفي غيره، فلو قال: (أكرم الرّجل العالم) فهو ساكت عن الجاهل نفياً وإثباتاً، فلا يجب على القيد إكرامه، لا أنّه ينفيه بحيث يحرم إكرامه، وهذا مثل لو قال: (أكرم زيداً) فإنّه ساكت عن عمرو، لا أنّه يحرم إكرام عمرو.

والحاصل: أنّ انتفاء الحكم عند انتفاء الموضوع لا دخل له بالمفهوم، فخطاب (أكرم العالم) ساكت عن إكرام غيره، لا أنّه دالّ على عدم إكرام غيره.ثمّ إنّه يحكى عن الشّيخ البهائي(رحمة

الله) أنّه قال: إنّ حمل المطلق على المقيّد في مثل: (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة) إنّما هو لمفهوم الوصف، فإنّ مفهوم (أعتق رقبة مؤمنة) عدم كفاية عتق غير المؤمنة - كما كان مفهوم (أكرم العالم) عدم جواز إكرام الجاهل - فلذا يقيّد المطلق ويحكم بعدم كفايته في مقام الامتثال.

وعلى هذا أشكل على المشهور بالتنافي بين قوليهما في باب المفهوم وباب المطلق والمقيّد، إذ لو لم يكن المفهوم حجّة لزم عدم حمل المطلق على المقيّد، وإن كان حمل المطلق على المقيّد صحيحاً لزم أن يكون المفهوم حجّة(1).

وأجاب المصنّف(رحمة الله) عن ذلك بقوله: {كما أنّه لا يلزم في حمل المطلق على المقيّد في ما وجد شرائطه} أي: شرائط الحمل {إلّا ذلك} التضييق المتقدّم فيكون مفاد المطلق والمقيّد معاً وجوب عتق الرّقبة المؤمنة، كما لو لم يكن مطلق في البين أصلاً، فيكون حاصلهما وجوب المقيّد والسّكوت عن المطلق {من دون حاجة فيه} أي: في هذا الحمل {إلى دلالته} أي: المقيّد {على المفهوم} المستفاد من الوصف.

ص: 66


1- حكاه عنه في قوانين الأصول 1: 329؛ وهداية المسترشدين 2: 475.

فإنّه من المعلوم أنّ قضيّة الحمل ليس إلّا أنّ المراد بالمطلق هو المقيّد، وكأنّه لا يكون في البين غيره. بل ربّما قيل(1): «إنّه لا وجه للحمل لو كان بلحاظ المفهوم؛ فإنّ ظهوره فيه ليس بأقوى من ظهور المطلق في الإطلاق كي يحمل عليه، لو لم نقل بأنّه أقوى؛ لكونه بالمنطوق، كمالا يخفى».

___________________________________________

فتحصّل في الجواب: أنّ الحمل ليس من باب مفهوم الوصف حتّى ينافي قولهم بعدم المفهوم {فإنّه من المعلوم أنّ قضيّة الحمل ليس إلّا أنّ المراد بالمطلق هو المقيّد} مع السّكوت عن حكم غيره، لا مع بيان عدم كفايته الّذي كان هو مقتضى المفهوم {وكأنّه لا يكون في البين غيره} أي: غير المقيّد، فالمقيّد مبيّن لتضييق دائرة المطلق ولا يبيّن عدم كفاية غيره، وقد بيّنّا سابقاً أنّ سكوت الدليل عن حكم غير موضوعه لا دخل له بالمفهوم، بل الدخيل في المفهوم دلالة الدليل على عدم الحكم في غيره.

{بل ربّما قيل: «إنّه لا وجه للحمل} أي: حمل المطلق على المقيّد {لو كان بلحاظ المفهوم} المستفاد من الوصف، إذ لو كان بهذا اللحاظ تعارض ظهوران:

الأوّل: ظهور المطلق في الإطلاق المقتضي لكفاية حتّى غير المؤمنة.

الثّاني: ظهور الوصف في المفهوم المقتضي لعدم كفاية غير المؤمنة.

ولا وجه لتقدّم الثّاني على الأوّل {فإنّ ظهوره} أي: ظهور الوصف {فيه} أي: في المفهوم {ليس بأقوى من ظهور المطلق في الإطلاق كي} يقدّم الوصف على الإطلاق و{يحمل عليه، لو لم نقل بأنّه} أي: الظهور الإطلاقي {أقوى لكونه بالمنطوق، كما لا يخفى»} وسيأتي في باب المطلق والمقيّد أنّ وجه الحمل هو التنافي الواقع بينهما بسبب دليل خارجي دلّ على وحدة التكليف من إجماع وغيره بحيث لولاه لما حمل المطلق على المقيّد، فالدليل الخارجي أورث التنافي

ص: 67


1- مطارح الأنظار 2: 83.

وأمّا الاستدلال على ذلك - أي: على عدمالدلالة على المفهوم - بآية {رَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم}(1)، ففيه: أنّ الاستعمال في غيره أحياناً مع القرينة ممّا لا يكاد ينكر، كما في الآية قطعاً.

مع أنّه يعتبر في دلالته عليه - عند القائل بالدلالة - أن لا يكون وارداً مورد الغالب - كما في الآية - ووجهُ الاعتبار واضح؛ لعدم دلالته معه على الاختصاص، وبدونها

___________________________________________

الموجب للحمل لا مفهوم الوصف، كما زعمه البهائي(رحمة الله).

{وأمّا الاستدلال على ذلك - أي: على عدم الدلالة} للوصف {على المفهوم - بآية {رَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم}} بتقريب أنّ الوصف في الآية - وهو قوله: «اللّاتي في حجوركم» - لو دلّ على المفهوم لزم عدم حرمة الرّبائب اللّاتي لسن في حجور الأزواج، وهو مخالف الضّرورة.

{ففيه أنّ الاستعمال} للوصف {في غيره} أي: غير المفهوم {أحياناً مع القرينة} الخارجيّة على عدم المفهوم {ممّا لا يكاد ينكر} حتّى من القائلين بالمفهوم {كما في الآية قطعاً} إذ قامت القرينة الخارجيّة على تحريم الرّبائب مطلقاً وهي تقتضي عدم المفهوم {مع أنّه} لو لم تقم قرينة في المقام لم نقل بالمفهوم أيضاً لفقد شرط المفهوم، إذ {يعتبر في دلالته} أي: الوصف {عليه} أي: على المفهوم {عند القائل بالدلالة أنلا يكون} الوصف {وارداً مورد الغالب كما في الآية} فإنّ الغالب كون الرّبائب في حجور الأزواج، إذ الرّبيبة مع أُمّها وهي مع زوجها غالباً {ووجه الاعتبار} لهذا الشّرط حتّى يدلّ على المفهوم {واضح لعدم دلالته} أي: الوصف {معه} أي: مع كون الوصف غالباً {على الاختصاص} أي: اختصاص الحكم بمورد الوصف المستلزم للمفهوم {وبدونها} أي: بدون دلالة

ص: 68


1- سورة النساء، الآية: 23.

لا يكاد يتوهّم دلالته على المفهوم، فافهم.

تذنيب: لا يخفى أنّه لا شبهة في جريان النّزاع في ما إذا كان الوصف أخصّ من موصوفه ولو من وجه، في مورد الافتراق من جانب الموصوف.

___________________________________________

الوصف على الاختصاص {لا يكاد يتوهّم دلالته على المفهوم} إذ الوصف حينئذٍ يكون توضيحيّاً لا احترازيّاً.

ومن البديهي أنّ الوصف التوضيحي لا يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى بطلان اشتراط المفهوم بعدم كون الوصف غالبيّاً، كما في حاشية المشكيني(رحمة الله) وغيره(1)،

فراجع.

[تذنيب]

{تذنيب} في بيان نسبة الوصف مع الموصوف {لا يخفى} أنّ الوصف الّذي هو محلّ الكلام إذا لوحظ مع موصوفه يكون على أحد أقسام أربعة:

الأوّل: أن يكون مساوياً معه نحو: (الإنسان النّاطق).

الثّاني: أن يكون أعمّ منه مطلقاً، نحو: (الإنسان الماشي).الثّالث: أن يكون أخصّ منه مطلقاً، نحو: (الإنسان العادل).

الرّابع: أن يكون بينهما عموم من وجه، نحو: (الإنسان الأبيض).

إذا عرفت هذا فاعلم {أنّه لا شبهة في جريان النّزاع} نفياً وإثباتاً {في ما إذا كان الوصف أخصّ من موصوفه} مطلقاً ك- (الإنسان العادل) {ولو من وجه} ك- (الإنسان الأبيض) فإنّه {في مورد الافتراق من جانب الموصوف} بأن يكون الموصوف ولا يكون الوصف، ك- (الإنسان غير العادل) و(غير الأبيض) يقول المفهومي: لا حكم فيهما، ويقول غيره: ساكت عنهما.

ص: 69


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 320.

وأمّا في غيره: ففي جريانه إشكالٌ، أظهره عدمُ جريانه. وإن كان يظهر ممّا عن بعض الشّافعيّة(1)

- حيث قال: قولنا: (في الغنم السّائمة زكاة) يدلّ على عدم الزكاة في معلوفة الإبل - جريانُهُ فيه، ولعلّ وجهه استفادة العليّة المنحصرة منه.

___________________________________________

{وأمّا في غيره} أي: غير ما كان الوصف أخصّ - وهو القسمان الأوّلان - أو ما كان الوصف أخصّ من وجه ولكن لا في مورد الافتراق من جانب الموصوف، بل من جانب الصّفة، ك- (الأبيض غير الإنسان) وكذا مع انتفاء الوصف والموصوف كليهما في صورة كان بينهما عموم من وجه، كما لو قال: (أكرم الإنسان الأبيض) بالنسبة إلى الفرس الأسود {ففي جريانه} أي: النّزاع {إشكال أظهره عدم جريانه} فلو قال: (أكرم الإنسانالنّاطق) أو (الماشي) أو (الأبيض) فغير (الإنسان النّاطق الماشي) ولو كان أبيضَ، ك- (الحجر الأبيض) لا يجري فيه النّزاع، إذ النّزاع في المفهوم إنّما هو في ما كان الموصوف باقياً وإنّما تبدّلت الصّفة.

أمّا مع ذهاب الموصوف فلا نزاع أصلاً، بل حاله عند الكلّ حال ما لو قال: (أكرم زيداً) فكما أنّه لا نزاع في إكرام عمرو وعدمه، كذلك هاهنا.

{وإن كان يظهر ممّا عن بعض الشّافعيّة - حيث قال: قولنا: (في الغنم السّائمة زكاة) يدلّ على عدم الزكاة في معلوفة الإبل - جريانه} أي: النّزاع {فيه} أي: في غير الأوّلين من الأقسام الأربعة الأُخر، حيث إنّه لو حكم بالجريان في مورد انتفاء الوصف والموصوف اللّذين بينهما عموم من وجه، فلا بدّ وأن يحكم في ما كان بينهما تساوٍ، أو كان الوصف أعمّ، أو كان بينهما عموم من وجه، مع انتفاء الموصوف فقط.

{ولعلّ وجهه} أي: وجه دلالته على عدم الزكاة في معلوفة الإبل {استفادة العليّة المنحصرة منه} أي: من الوصف، بمعنى أنّ علّة الزكاة مطلقاً هي السّوم،

ص: 70


1- نقل عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 3: 72.

وعليه فيجري في ما كان الوصف مساوياً أو أعمّ مطلقاً أيضاً، فيدلّ على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه، فلا وجه للتفصيل بينهما وبين ما إذا كان أخصّ من وجه - في ما إذا كان الافتراق من جانب الوصف - بأنّه لا وجه للنزاع فيهما، معلّلاً بعدم الموضوع،

___________________________________________

فكلّما لم يجد السّوم، غنماً كان أو إبلاً أو بقراً، لم يحكم بالزّكاة.

{وعليه} أي: على هذا الوجه الّذي ذكرنا من استفادة انحصار العلّةالموجبة للمفهوم {فيجري} النّزاع {في ما كان الوصف مساوياً أو أعمّ مطلقاً} أو من وجه {أيضاً، فيدلّ} الوصف {على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه} أي: انتفاء الوصف المساوي أو الأعمّ مطلقاً أو من وجه.

والحاصل: أنّه على قول الشّافعي يكون النّزاع في ثمانية مواضع. بيان ذلك: أنّ صور انتفاء الأقسام الأربعة السّابقة ثمانية: فانتفاء (الإنسان النّاطق) واحد، وانتفاء (الإنسان الماشي) اثنان، وانتفاء (الإنسان العادل) اثنان، وانتفاء (الإنسان الأبيض) ثلاثة.

وبهذا كلّه تحقّق أنّ حال الوصف المساوي والأعمّ مطلقاً حال الأعمّ من وجه، فالجميع إمّا داخل في محلّ النّزاع أو خارج عنه، إذ مع ملاحظة استفادة العليّة يكون الجميع داخلاً، ومع ملاحظة مفهوم الوصف يكون الجميع خارجاً {فلا وجه للتفصيل} المحكي عن التقريرات(1)

{بينهما} أي: ما كان الوصف مساوياً أو أعمّ مطلقاً {وبين ما إذا كان أخصّ من وجه في ما إذا كان الافتراق من جانب الوصف} بأن وجد الوصف ولم يوجد الموصوف {بأنّه لا وجه للنزاع} متعلّق بقوله: «للتفصيل» {فيهما} أي: في الوصف المساوي والأعمّ {معلّلاً بعدم الموضوع} بعد انتفاء الوصف، والنّزاع في المفهوم إنّما يجري في ما كان الموضوع

ص: 71


1- مطارح الأنظار 2: 80.

واستظهار جريانه عن بعض الشّافعيّة فيه، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً.

فصل:

___________________________________________

باقياً {واستظهار جريانه} أي: النّزاع {عن بعض الشّافعيّة فيه} أي: في ما كان الوصف أخصّ من وجه، كما تقدّم من مثال (في الغنم السّائمة زكاة) وأنّ المفهوم منه عدم الزكاة في معلوفة الإبل.

وقد علّق العلّامة المشكيني(رحمة الله) على قوله: «من جانب الوصف» ما لفظه: «قد عبّر به في التقريرات(1) أيضاً، والظاهر أنّه سهو من القلم إذ افتراقه في الإبل السّائمة، ولا إشكال في عدم جريان النّزاع فيه من جهة الوصف، والمراد ما لم يصدق عليه واحد من الموصوف والصّفة وهي الإبل المعلوفة، كما يشهد به استظهار جريانه من بعض الشّافعيّة القائل بعدم الزكاة في معلوفة الإبل بمقتضى مفهوم في الغنم السّائمة زكاة»(2)،

انتهى.

والظاهر من ملاحظة كلام الأعلام كون النّزاع في ما ذكره المصنّف أوّلاً {كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً} واللّه الموفّق وهو العالم.

[فصل مفهوم الغاية]

المقصد الثّالث: في المفاهيم، مفهوم الغاية

{فصل} في مفهوم الغاية، اعلم أنّه وقع الخلاف في أنّ الغاية داخلة في المغيّى أم لا؟ مثلاً: لو قال: (سر من البصرة إلى الكوفة) فهنا أُمور ثلاثة: الأوّل المغيّى وهي ما قبل الكوفة، والثّاني الغاية وهي نفس الكوفة، والثّالث ما بعد الغاية وهو البيداء بعد الكوفة.

وكذا لو قال: (يجب الصّوم إلى المغرب) فالمغيّى ما قبل المغرب، والغاية نفس المغرب، وما بعد الغاية اللّيل.

ص: 72


1- مطارح الأنظار 2: 79.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 323.

هل الغاية في القضيّة تدلّ على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية - بناءً على دخول الغاية في المغيّى - أو عنها وبعدها -بناءً على خروجها - أو لا؟

___________________________________________

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ جماعة ذهبوا إلى دخول الغاية في حكم المغيّى، فمعنى (سِرْ إلى الكوفة) وجوب دخول الكوفة، ومعنى (صُمْ إلى المغرب) وجوب الإمساك حتّى المغرب.

وذهب آخرون إلى عدم دخول الغاية في حكم المغيّى، فالسير واجب إلى باب الكوفة ولا يجب دخولها، والصّوم واجب إلى أوّل المغرب ولا يجب حينه.

ثمّ إنّه على كلا القولين وقع النّزاع في أنّه {هل الغاية في القضيّة} أعني: (حتّى) و(إلى)(1)

{تدلّ على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية} بحيث يدلّ (سر من البصرة إلى الكوفة) على عدم السّير في بيداء ما بعد الكوفة.

وكذا يدلّ (صُمْ إلى المغرب) على عدم الصّوم في ما بعد المغرب، أي: الليل، وتحرير المبحث بهذا النّحو {بناءً على دخول الغاية في المغيّى} فالكوفة والمغرب داخلان في حكم السّير والصّوم، وإنّما الكلام في ما بعدهما {أو} نقول هل الغاية في القضيّة تدلّ على ارتفاع الحكم {عنها} أي: الغاية {و} عن {بعدها} بحيث يدلّ المثالان على عدم السّير في الكوفة وما بعدها. وعلى عدم الصّوم في المغرب وما بعده، وتحرير المبحث بهذا النّحو {بناءً على خروجها} أي: خروج الغاية عن المغيّى {أو لا} تدلّ القضيّة على شيء من ذلك، بل هي ساكتة عن حكم مابعد الغاية - على القول الأوّل - أو حكم الغاية وما بعدها - على

ص: 73


1- فإنّ الغاية تطلق على أربعة معان: الأوّل: نفس الأداة، مثل: (حتّى) و(إلى). الثّاني: مدخولها، كالكوفة واللّيل. والثّالث: المسافة، كقولهم: (إلى لانتهاء الغاية) - أي: المسافة. والرّابع: النّهاية، وهو حدّ فقدان الشّيء، قالها المشكيني. كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 328.

فيه خلافٌ. وقد نسب إلى المشهور: الدلالة على الارتفاع(1)،

وإلى جماعة - منهم: السّيّد والشّيخ(2) - : عدم الدلالة عليه.

والتحقيق: أنّه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربيّة قيداً للحكم، - كما في قوله(علیه السلام): «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام»(3)، و: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(4) كانت دالّة على ارتفاعه عند حصولها؛

___________________________________________

القول الثّاني - ؟ {فيه خلاف} بين الأعلام.

{وقد نسب إلى المشهور الدلالة} للقضيّة الغائيّة {على الارتفاع} للحكم عند الغاية أو بعدها على الخلاف {وإلى جماعة منهم السّيّد} المرتضى(رحمة الله) {والشّيخ} الطوسي(قدس سره) {عدم الدلالة عليه} والمصنّف فصّل في المسألة بين ما كانت الغاية قيداً للحكم، فتدلّ على المفهوم، وبين ما كانت قيداً للموضوع، فلا تدلّ، وبيّن ذلك بقوله: {والتحقيق أنّه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربيّة قيداً للحكم} لا للموضوع {كما في قوله(علیه السلام): «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام»، و«كلّ شيءطاهر حتّى تعلم أنّه قذر» كانت} الغاية {دالّة على ارتفاعه عند حصولها} وإنّما كانت مقتضى قواعد العربيّة كون الغايتين قيداً للطهارة والحلّ لوجهين:

الأوّل: قرب الغاية من الحكم، بخلاف الموضوع فإنّه بعيد عنها، والأقرب يمنع الأبعد.

الثّاني: أنّ الموضوع وهو: كلّ شيء، جامد فلا يصحّ أن يقع متعلّقاً لشيء إلّا إذا أوّل بالمشتق.

ص: 74


1- مطارح الأنظار 2: 98.
2- الذريعة إلى أصول الشيعة 1: 407؛ العدة في أصول الفقه 2: 478.
3- الكافي 5: 313، وفيه: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام».
4- مستدرك الوسائل 2: 583؛ وسائل الشيعة 3: 467، وفيه: «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر».

لانسباق ذلك منها، كما لا يخفى، وكونِهِ قضيّة تقييده بها، وإلّا لما كانت ما جعل غاية له بغاية، وهو واضح إلى النّهاية.

وأمّا إذا كانت بحسبها قيداً للموضوع - مثل: (سر من البصرة إلى الكوفة) - فحالها حال الوصف في عدم الدلالة،

___________________________________________

وإنّما قلنا بدلالة الغاية على ارتفاع الحكم في مثل هذين الموردين {لانسباق ذلك} الارتفاع {منها} أي: من الغاية حينئذٍ {كما لا يخفى}.

فالحكم بالطهارة والحليّة منتهٍ بالعلم والعرفان، فإذا علم نجاسة شيء لم يجز له استعماله في ما يشترط بالطهارة، وكذا إذا علم حرمة شيء لم يجز له استعمال الحليّة معه، وإلّا فلو استمرّ الحكم إلى ما بعد الغاية كان ذكر الغاية لغواً. ألا ترى أنّه لو سئل الإمام(علیه السلام) عن حكم ما بعد العلم فأجاب ببقاء الحكم الأوّل، كان له أن يسأل عن سبب التقييد {وكونِهِ} أي: الارتفاع {قضيّة تقييده} أي: تقييد الحكم {بها} أي: بالغاية {وإلّا} فلو لم يرتفع الحكم بعد وجود الغاية {لما كانت ما جعل غاية له} أي: للحكم {بغاية، وهو واضح إلى النّهاية} قالالعلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وبالجملة لو لم يكن حينئذٍ مفهوم لخرجت الغاية عن كونها غاية وآخراً إلى كونها وسطاً هذا خلف»(1)،

انتهى.

{وأمّا إذا كانت} الغاية {بحسبها} أي: بحسب القواعد العربيّة {قيداً للموضوع مثل: (سر من البصرة إلى الكوفة)} فإنّ الموضوع هو السّير، والحكم هو الوجوب، والأوّل مفاد المادّة، والثّاني مفاد الهيئة، وظاهر القواعد العربيّة تعلّق الجارين بالسّير لا بالوجوب، إذ المتبادر من معنى الجملة: أنّ السّير المقيّد بكونه من البصرة إلى الكوفة واجب {فحالها} أي: حال الغاية {حال الوصف في عدم الدلالة} على المفهوم، بل يدلّ على أنّ السّير الكذائي مطلوب للمولى، وأمّا غيره فهو ساكت

ص: 75


1- شرح كفاية الأصول 1: 290.

وإن كان تحديده بها بملاحظة حكمه، وتعلّق الطلب به، وقضيّته ليس إلّا عدم الحكم فيها إلّا بالمغيّى، من دون دلالة لها أصلاً على انتفاء سنخه عن غيره؛ لعدم ثبوت وضع لذلك، وعدمِ قرينة ملازمة لها - ولو غالباً - دلّت على اختصاص الحكم به. وفائدةُ التحديد بها - كسائر أنحاء التقييد - غير منحصرة بإفادته، كما مرّ في الوصف.

ثمّ إنّه في الغاية خلاف آخر - كما أشرنا إليه - ،

___________________________________________

عنه ويكون كما لو قال: يجب هذا المقدار من السّير في السّكوت عن غيره.

{وإن كانت تحديده} أي: الموضوع {بها} أي: بالغاية {بملاحظة حكمه} أي: حكم الموضوع {وتعلّق الطلب به}أي: حيث إنّ طلب المولى كان لهذا الموضوع الخاص حدّده بهذا التحديد، ولكن بيان متعلّق لا يستلزم المفهوم {و} ذلك لأنّ {قضيّته} أي: مقتضى التحديد بالغاية {ليس إلّا عدم الحكم فيها} أي: في القضيّة {إلّا بالمغيّى} مع الغاية على قول، وبدونها على قول آخر {من دون دلالة لها أصلاً على انتفاء سنخه} أي: سنخ الحكم {عن غيره} أي: غير الموضوع، فلا يدلّ (سر من البصرة إلى الكوفة) على عدم السّير في بعد الكوفة مثلاً.

وإنّما قلنا بعدم دلالة هذا القسم على المفهوم {لعدم ثبوت وضع} الجملة الغائيّة بهذا النّحو {لذلك} المفهوم {وعدم قرينة ملازمة لها} أي: للغاية {ولو غالباً، دلّت على اختصاص الحكم به}.

{و} إن قلت: لو لم تدلّ الغاية على المفهوم فما فائدة التحديد بها وهل تكون إلّا لغواً مستغنى عنها؟

قلت: {فائدة التحديد بها كسائر أنحاء التقييد} للموضوع من الوصف والحال وغيرهما {غير منحصرة بإفادته} أي: إفادة المفهوم {كما مرّ في الوصف} فلا دليل على المفهوم في ما كانت الغاية من قيود الموضوع.

{ثمّ إنّه في الغاية} بمعنى مدخول (إلى) و(حتّى) {خلاف آخر كما أشرنا إليه}

ص: 76

وهو أنّها هل هي داخلة في المغيّى بحسب الحكم، أو خارجة عنه؟

والأظهر: خروجها؛ لكونها من حدوده، فلا تكون محكومة بحكمه. ودخوله في بعض الموارد إنّما يكون بالقرينة. وعليهتكون كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأوّل، كما أنّه على القول الآخر تكون محكومة بالحكم منطوقاً.

___________________________________________

في أوّل المبحث {وهو أنّها هل هي داخلة في المغيّى بحسب الحكم} حتّى يجب دخول الكوفة في (سر من البصرة إلى الكوفة) ويجب الإمساك في المغرب في قوله: (صم إلى المغرب) {أو خارجة عنه} بحيث يكون المغرب والكوفة خارجين عن حكم السّير والصّوم؟

ولا يخفى أنّ هذا بحث عن الدلالة المنطوقيّة بخلافه «ثمّ» فإنّه كان بحثاً عن الدلالة المفهوميّة {والأظهر خروجها} أي: الغاية {لكونها من حدوده} أي: حدود المحكوم {فلا تكون محكومة بحكمه} إذ الحدّ خارج عن المحدود {ودخوله} أي: الحدّ في حكم المحدود {في بعض الموارد} نحو:

ألقى الصّحيفة كي يخفّف رحله***

والزاد حتّى نعله ألقاها

{إنّما يكون بالقرينة} الخاصّة {و} بناءً {عليه} أي: على خروج الغاية {تكون} الغاية {كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأوّل} فالقائلون بالمفهوم يقولون: إنّ معنى (سر من البصرة إلى الكوفة) وجوب السّير إلى باب الكوفة ولا يجب السّير فيها ولا في ما بعدها، وغيرهم يقولون بالسكوت عن الكوفة وما بعدها {كما أنّه على القول الآخر} القائل بدخول الغاية في حكم المغيّى {تكون} الغاية{محكومة بالحكم منطوقاً} فيجب السّير في الكوفة قولاً واحداً، وإنّما الخلاف بين المفهومين وغيره في ما بعد الكوفة.

ص: 77

ثمّ لا يخفى: أنّ هذا الخلاف لا يكاد يعقل جريانه في ما إذا كان قيداً للحكم، فلا تغفل.

___________________________________________

{ثمّ لا يخفى أنّ هذا الخلاف} في دخول الغاية في المغيّى وعدمه {لا يكاد يعقل جريانه في ما إذا كان} الحدّ، أي: الغاية {قيداً للحكم} نحو «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» و«كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام».

{فلا تغفل} وعلّله المصنّف(رحمة الله) في الهامش بما لفظه: «حيث إنّ المغيّى حينئذٍ نفس الحكم لا المحكوم به ليصحّ أن ينازع في دخول الغاية في الحكم للمغيّى أو خارجاً عنه، كما لا يخفى.

نعم، يعقل أن ينازع في أنّ الظاهر هل هو انقطاع الحكم المغيّى بحصول غايته في الاصطلاح - أي: مدخول (إلى) و(حتّى) - أو استمراره في تلك الحال ولكن الأظهر هو انقطاعه، فافهم واستقم»(1)،

انتهى.

قال العلّامة المشكيني(رحمة

الله) في حاشية قوله: «لا يكاد يعقل» ما لفظه: «يعني بالعنوان المتقدّم، وهو أنّ الغاية داخلة في المغيّى بحسب الحكم؛ لأنّ المغيّى حينئذٍ نفس الحكم فلا بدّ من تغيّر العنوان بأن يقال: هل الحكم ينقطع عند الغاية أو يستمرّ إلى ما بعدها؟ وإن كان الأظهر هو الانقطاع، كما أنّ الأظهر في قيد الموضوع هو الخروج، وكون الكلام ساكتاًعن الغاية وما بعدها»(2)،

انتهى.

وقد يقال: إنّه لا معنى لدخول الغاية في المغيّى في هذا القسم، إذ يستلزم اجتماع الضّدّين، فإنّه لو عرفت الحرمة لا يعقل الحكم بالحليّة، وكذا لا يعقل بعد العلم بالنجاسة الحكم بالطهارة، فتدبّر.

ص: 78


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 329.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 328.

فصل: لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم - سلباً أو إيجاباً - بالمستثنى منه، ولا يعمّ المستثنى. ولذلك يكون الاستثناء من النّفي إثباتاً، ومن الإثبات نفياً؛ وذلك للانسباق عند الإطلاق قطعاً.

فلا يُعبأ بما عن أبي حنيفة(1)

من عدم الإفادة، محتجّاً بمثل: «لا صلاة إلّا بطهور»(2).

___________________________________________

[فصل مفهوم الاستثناء]

المقصد الثّالث: في المفاهيم، مفهوم الاستثناء

{فصل} في مفهوم الاستثناء {لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم} سواء كان {سلباً أو إيجاباً بالمستثنى منه} فلو قال: (لا تكرم الفسّاق إلّا العلماء) دلّ على اختصاص عدم الإكرام بالفسّاق غير العلماء.

وكذا لو قال: (أكرم العلماء إلّا زيداً) دلّ على اختصاص الإكرام بالعالم غير زيد {ولا يعمّ} الحكم الّذي كان للمستثنى منه {المستثنى} ك- (العلماء) في الأوّل و(زيد) في الثّاني {ولذلك} الّذي ذكرنا من عدم شمول الحكم للمستثنى، بل دلالته على ثبوت نقيض الحكم له {يكونالاستثناء من النّفي إثباتاً ومن الإثبات نفياً} كما هو مقتضى الاختصاص {وذلك} الّذي ذكر من الاختصاص وعدم شمول الحكم للمستثنى {للانسباق عند الإطلاق قطعاً} والتبادر علامة الحقيقة.

ولا يخفى أنّ قوله: «عند الإطلاق» توضيحي لا احترازي(3)

{فلا يعبأ بما عن أبي حنيفة من عدم الإفادة} أي: عدم دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، بل قد يكون الحكم يعمّ المستثنى أيضاً {محتجّاً بمثل: «لا صلاة إلّا بطهور»} فإنّه لو كان الحكم بعدم الصّلاة مختصّاً بحالة عدم الطهور لزم وجود الصّلاة مع الطهور، والحال أنّه ليس كذلك، إذ ربّما لا تكون الصّلاة مع الطهور

ص: 79


1- الإحكام في أصول الأحكام 2: 308.
2- وسائل الشيعة 1: 315.
3- ولكن بناءً على الجواب الثّاني عن أبي حنيفة يكون هذا القيد احترازيّاً، فتأمّل.

ضرورة ضعف احتجاجه:

أوّلاً: بكون المراد من مثله: أنّه لا تكون الصّلاة الّتي كانت واجدةَ لأجزائها وشرائطها المعتبر فيها صلاةً إلّا إذا كانت واجدةً للطهارة، وبدونها لا تكون صلاة على وجهٍ، وصلاة تامّة مأموراً بها على آخر.

___________________________________________

كما لو فقد جزء أو شرط آخر، فيعمّ حكم المستثنى منه للمستثنى، وكذا أنحاء هذا المثال نحو «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(1)،

وغيره.

وقد يوجّه كلامه بأنّ حال الاستثناء حال الوصف، فإنّه يفيد تضيّق موضوع الحكم فقط من غير نظر إلى غيره، فمعنى «لا صلاة إلّا بطهور» صحّة الصّلاة مع الطهور، أمّا غيرها فهو ساكت عنه.

وكيف كان، فلا يخفى ضعفه {ضرورة ضعف احتجاجه}.{أوّلاً: بكون المراد من مثله} أي: مثل هذا الكلام {أنّه لا تكون الصّلاة - الّتي كانت واجدة لأجزائها وشرائطها المعتبر فيها - صلاةً} خبر «يكون» {إلّا إذا كانت واجدةً للطّهارة، وبدونها لا تكون صلاة} أصلاً {على وجه} وهو كون ألفاظ العبادات موضوعة للصحيحة؛ إذ الصّلاة الفاقدة لشرط لا تكون حينئذٍ إلّا صورة صلاة {و} لا تكون الصّلاة الفاقدة للطهارة {صلاةً تامّةً مأموراً بها على} وجه {آخر} وهو كونها موضوعة للأعمّ، فإنّ الفاقدة وإن كانت حينئذٍ صلاة ولكنّها ليست بمأمور بها، كما لا يخفى.

وعلى كلّ حال، يكون حكم المستثنى منه غير حكم المستثنى، وأمّا ما ذكر في التوجيه ففساده أظهر من أن يخفى بعد ما ذكر من التبادر.

وقد علّق المصنّف في الهامش على قوله: «أوّلاً بكون المراد» ما لفظه: «بل المراد من مثله في المستثنى منه نفي الإمكان، وأنّه لا يكاد يكون بدونه المستثنى،

ص: 80


1- مستدرك الوسائل 4: 158.

وثانياً: بأنّ الاستعمال مع القرينة - كما في مثل التركيب ممّا علم فيه الحال - لا دلالة له على مدّعاه أصلاً، كما لا يخفى.

ومنه قد انقدح: أنّه لا موقع للاستدلال على المدّعى بقبول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إسلامَ من قال كلمة التوحيد(1)،

___________________________________________

وقضيّته ليس إلّا إمكان ثبوته معه لا ثبوته فعلاً، كما هو واضح لمن راجع أمثالهمن القضايا العرفيّة»(2)،

انتهى. مثلاً: لو قال: (لا طبخ إلّا بالنار) كان معناه عدم إمكانه إلّا بها، لا أنّها كلّما وجدت طبخ. فتحصّل من جميع ذلك اختلاف المستثنى والمستثنى منه في الحكم إمّا بالوجود والعدم، وإمّا بالصحّة والفساد، وإمّا بالإمكان والامتناع.

{وثانياً} أنّه لو سلّم اتحاد حكم المستثنى منه والمستثنى فنقول: {بأنّ الاستعمال مع القرينة - كما في مثل التركيب ممّا علم فيه الحال -} بأنّ للمركّب أجزاءً وشروطاً أُخر بحيث لا يتحقّق بدونها {لا دلالة له على مدّعاه أصلاً} إذ قد تقدّم أنّ الكلام في الإطلاق، أي: إذا لم يكن هناك قرينة {كما لا يخفى} فتأمّل.

{ومنه} أي: ومن الجواب الثّاني عن أبي حنيفة المتضمّن لعدم فائدة الاستدلال بورود الاستعمال إذا كان مع القرينة {قد انقدح أنّه} كما لا يمكن الاستدلال بذي القرينة على النّفي، كذلك لا يمكن الاستدلال به على الإثبات، ف- {لا موقع للاستدلال على المدّعى} وهو دلالة الاستثناء على الاختصاص {بقبول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إسلام من قال كلمة التوحيد} أعني: «لا إله إلّا اللّه».

ووجه الاستدلال: أنّه لو لم تكن الجملة الاستثنائيّة دالّةً على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، بل كان ساكتاً عن المستثنى، كان المتكلّم بكلمة التوحيد

ص: 81


1- مطارح الأنظار 2: 106.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 330.

لإمكان دعوى أنّ دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال.

والإشكال في دلالتها عليه: بأنّ خبر (لا)إمّا يقدّر: (ممكن)، أو: (موجود)، وعلى كلّ تقديرٍ لا دلالة لها عليه:

أمّا على الأوّل: فإنّه حينئذٍ لا دلالة لها إلّا على إثبات إمكان وجوده - تبارك وتعالى - .

وأمّا على

___________________________________________

مثل من قال: (اللّه إله) بلا نفي الأُلوهة عمّن عداه.

ومن المعلوم عدم كفاية ذلك في الإسلام، بل اللّازم الإقرار بالوحدانيّة، وإلّا لكان من يعبد الأصنام - لتقرّبه إلى اللّه زلفى - مسلماً، فقبول قول النّبي(صلی الله علیه و آله) إسلام من قالها من أعدل الشّواهد على دلالة الاستثناء على الاختصاص.

وإنّما قلنا بعدم دلالة قبوله(صلی الله علیه و آله) إسلام من قالها على المدّعى {لإمكان دعوى أنّ دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال} فإنّهم لم يكونوا يقولونها إلّا إذا أرادوا الدخول في زمرة المسلمين {أو المقال} بأن كانوا يتبرّؤون من الشّركاء أوّلاً ثمّ يقولونها، ولكن المحكي عن التقريرات أنّه قال: «والقولُ بأنّ ذلك للقرينة، أو أنّها تدلّ على التوحيد شرعاً، بمكانٍ من السّخافة»(1)،

انتهى. والحقّ معه قطعاً.

{والإشكال في دلالتها} أي: كلمة «لا إله إلّا اللّه» {عليه} أي: على التوحيد {بأنّ خبر (لا)} النّافية للجنس {إمّا يقدّر (ممكن)} يعني: لا إله ممكن إلّا اللّه {أو} يقدّر {(موجود)} أي: لا إله موجود إلّا اللّه {وعلى كلّ تقدير لادلالة لها عليه، أمّا على} التقدير {الأوّل، فإنّه حينئذٍ لا دلالة لها إلّا على إثبات إمكان وجوده - تبارك وتعالى -} إذ الاستثناء عن غير الممكن ممكن.

ومن المعلوم أنّ إثبات إمكان اللّه - تعالى - ليس توحيداً {وأمّا على} التقدير

ص: 82


1- حاشية الكفاية 1: 277؛ عن مطارح الأنظار 2: 106.

الثّاني: فلأنّها وإن دلّت على وجوده - تعالى - ، إلّا أنّه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر.

مندفعٌ: بأنّ المراد من الإله هو واجب الوجود، ونفي ثبوته ووجوده في الخارج، وإثباتُ فرد منه فيه - وهو اللّه - يدلّ بالملازمة البيّنة على امتناع تحقّقه في ضمن غيره - تبارك وتعالى - ؛ ضرورة أنّه لو لم يكن ممتنعاً لوجد؛ لكونه من أفراد الواجب.

___________________________________________

{الثّاني فلأنّها وإن دلّت على وجوده - تعالى -} لأنّ الاستثناء من غير الموجود موجود {إلّا أنّه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر} والمطلوب في التوحيد نفي إمكان الغير كوجوده.

والحاصل: أنّه يعتبر في التوحيد أمران: نفي الغير إمكاناً ووجوداً، وإثبات اللّه كذلك، والخبر كيفما قدّر لا يفي بذلك.

هذا، ولكن هذا الإشكال {مندفع بأنّ المراد من الإله} في العقد السّلبي {هو واجب الوجود، و} حينئذٍ فتقدير الخبر «موجود» غير ضائر، إذ {نفي ثبوته} أي: ثبوت واجبالوجود {ووجوده في الخارج وإثبات فرد منه فيه} أي: في الخارج {وهو اللّه} تعالى {يدل بالملازمة البيّنة} بين إمكان الوجود وبين الثّبوت والتحقّق بالنسبة إلى واجب الوجود {على امتناع تحقّقه في ضمن غيره - تبارك وتعالى -} فالوجود لسائر أفراد الإله منفي مطابقة والإمكان منفي التزاماً {ضرورة أنّه لو لم يكن} سائر أفراد هذا المفهوم {ممتنعاً لوجد لكونه من أفراد الواجب}.

والحاصل: أنّ في الواجب يتلازم الإمكان بمعناه العام والوجود، فحيث قدّرنا موجوداً كان نفي الوجود ونفي الإمكان معاً، فمعنى الكلمة: (لا إله موجود، ولا ممكن) وعلى هذا التلازم يمكن تقدير (الإمكان) أيضاً، ولا يضرّ حينئذٍ كون العقد الإيجابي يكون هو إمكان اللّه سبحانه للتلازم المذكور.

وإن شئت قلت: إنّه إن قدّر (موجود) كان العقد السّلبي يتمّ بالتلازم بين الإمكان والوجود، وإن قدّر (ممكن) كان العقد الإيجابي محتاجاً إلى التلازم،

ص: 83

ثمّ إنّ الظاهر: أنّ دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم، وأنّه لازمُ خصوصيّة الحكم في جانب المستثنى منه الّتي دلّت عليها الجملة الاستثنائيّة.

نعم، لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء،

___________________________________________

ولكن الكلمة الطيّبة أظهر في التوحيد بجميع معنى الكلمة من هذه التكلّفات، فإنّها تشبه أقوال السّوفسطائيّين، واللّه الموفّق.

{ثمّ} إنّ القوم حيث ذكروا الجملة الاستثنائيّة في باب المفاهيم، فاللّازم تحقيق الكلام حول هل هناك دلالة مفهوم أم لا، وعلى تقدير وجود دلالةالمفهوم فأيّ من المستثنى والمستثنى منه يستفاد حكمه من المفهوم؟ فنقول: {إنّ الظاهر أنّ دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم} أمّا الدلالة على حكم المستثنى منه فهو بالمنطوق قطعاً، فلو قلنا: (جاءني القوم إلّا زيداً) كان استفادة مجيء القوم من المنطوق واستفادة عدم مجيء زيد من المفهوم {و} ذلك ل- {أنّه} أي: الحكم في طرف المستثنى {لازم خصوصيّة الحكم في جانب المستثنى منه} والخصوصيّة عبارة عن حصر المجيء في القوم غير زيد {الّتي دلّت عليها الجملة الاستثنائيّة}.

ومن المعلوم أنّه لو حصر المجيء في قوم زيد فهم منه عدم مجيء زيد فعدم المجيء ليس مصرّحاً به في الجملة، وإنّما المصرّح به هو المجيء للقوم. نعم، قيّد القوم بقيد أنّه غير هذا الفرد الخاص - أعني: زيداً - فهو مثل أن يكون للقوم غير زيد اسم آخر ك- (الرّهط) مثلاً، ثمّ قلنا: (جاءني الرّهط فقط) فكما أنّ دلالة هذا على عدم مجيء زيد بالمفهوم كذلك دلالة الاستثناء.

{نعم} ذهب بعض إلى عدم دلالة مفهوميّة أصلاً، لا في جانب المستثنى منه، ولا في جانب المستثنى، بل كلاهما بالمنطوق، وإليه أشار المصنّف بقوله: {لو كانت الدلالة في طرفه} أي: طرف المستثنى {بنفس الاستثناء} وكلمة (إلّا)

ص: 84

- لا بتلك الجملة - ، كانت بالمنطوق، كما هو ليس ببعيد، وإن كان تعيين ذلك لا يكاد يفيد.

وممّا يدلّ على الحصر والاختصاص: (إنّما) وذلك لتصريح أهل اللغة بذلك، وتبادره منها قطعاً عند أهل العرف والمحاورة.

ودعوى: «أنّ الإنصاف أنّه لا سبيل لنا إلىذلك؛ فإنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة،

___________________________________________

حتّى أنّ مجيء القوم يستفاد من (جاءني القوم) وعدم مجيء زيد يستفاد من نفس (إلّا زيداً) {لا} أنّه يستفاد {بتلك الجملة} المتقدّمة - أعني: (جاءني القوم) - {كانت} الدلالة على حكم المستثنى {بالمنطوق، كما هو ليس ببعيد} بل في غاية القرب.

فتحصّل أنّه وقع الاختلاف في كيفيّة دلالة الجملة على حكم المستثنى وأنّه بالمفهوم أو بالمنطوق {وإن كان تعيين ذلك} وأنّه بالمنطوق أو المفهوم {لا يكاد يفيد} لعدم ترتّب ثمرة فقهيّة أو غيرها عليه.

{وممّا يدلّ على الحصر والاختصاص (إنّما)} فيكون مفيداً للمفهوم، فلو قال: (إنّما تحلّ المرأة بعد انقضاء العدّة) كان دالّاً على عدم جواز نكاح المعتدّة، فإذا كانت الجملة ثبوتيّة كان مفهومها السّلب وإذا كانت سلبيّة كان مفهومها الإيجاب {وذلك} الّذي ذكرنا من دلالته على الحصر المستلزم للمفهوم {لتصريح أهل اللغة بذلك} وقد ذكروا في علائم الحقيقة أنّ منها تنصيص أهل اللغة أو واضعها، والقول بأنّ تنصيصهم غير حجّة - لأنّهم ليسوا من أهل الخبرة - لا ينبغي الإصغاء إليه {وتبادره} أي: الاختصاص {منها قطعاً عند أهل العرف والمحاورة} ومنع التبادر مكابرة.

{ودعوى «أنّ الإنصاف أنّه لا سبيل لنا إلى ذلك} أي: إفادة (إنّما) للحصر - كما حكي عن التقريرات - {فإنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة} فربّما تستعمل

ص: 85

ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا،حتّى يستكشف منها ما هو المتبادر منها»(1).

غيرُ مسموعةٍ؛ فإنّ السّبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا؛ فإنّ الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضاً سبيلٌ.

وربّما يعدّ ممّا دلّ على الحصر كلمة: (بل) الإضرابيّة(2).

والتحقيق: أنّ الإضراب على أنحاء:

منها: ما كان لأجل أنّ المضرب عنه، إنّما أتى به غفلةً، أو سبقه به لسانه، فيُضْرِبُ بها

___________________________________________

للحصر وربّما لا تكون له {ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا} الفارسي {حتّى يستكشف منها} أي: من الكلمة المرادفة لها في عرفها {ما هو المتبادر منها»} أي: من كلمة (إنّما) في عرف العرب، وتفسير بعضهم لها (اينست و جز اين نيست) غير معلوم المطابقة {غير مسموعة} لأنّه إن أراد عدم الانسباق إلى ذهنه(قدس سره)، فهذا غير ضائر {فإنّ السّبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا، فإنّ الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضاً سبيل} إلى كشف الحقيقة، وإن أراد عدم الانسباق إلى أذهان أهل العرف فهو معلوم العدم، ويشهد للانسباق تفسيرهم المتقدّم لها، واستعمالهم لها أحياناً في غير الحصر بالقرينة غير مانع عن ظهورها.

{وربّما يعدّ ممّا دلّ على الحصر كلمة(بل) الإضرابيّة} ومعنى إفادتها الحصر أنّها لحصر الحكم عمّا بعدها ونفيه عمّا قبلها فهي مفيدة للمفهوم، ولهذا ذكرت في باب المفاهيم.

{والتحقيق} أنّ عدّها مطلقاً مفيدة للحصر غير صحيح، بل {إنّ الإضراب على} ثلاثة {أنحاء} على ما ذكره المصنّف.

{منها: ما كان لأجل أنّ المضرب عنه إنّما أتى به غفلة أو سبقه به لسانه فيُضْرِب بها}

ص: 86


1- مطارح الأنظار 2: 110.
2- مطارح الأنظار 2: 108.

عنه إلى ما قصد بيانه، فلا دلالة له على الحصر أصلاً، فكأنّه أتى بالمضرب إليه ابتداءً، كما لا يخفى.

ومنها: ما كان لأجل التأكيد، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه، فلا دلالة له عليه أيضاً.

ومنها: ما كان في مقام الرّدع وإبطال ما أثبت أوّلاً، فيدلّ عليه، وهو واضح.

___________________________________________

أي: بسبب كلمة (بل) {عنه، إلى ما قصد بيانه} كأن يقول: (جاءني زيد بل عمرو) في ما إذا ألتفت أنّ قوله: (زيد) غلط أو غفلة، ثمّ يضرب عنه {فلا دلالة له على الحصر أصلاً، فكأنّه أتى بالمضرب إليه ابتداءً، كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{ومنها: ما كان لأجل التأكيد} كأن يقول: (نجاسة عرق الجنب عن الحرام أشهر، بل مشهور) {فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد} والمقدّمة {لذكر المضرب إليه} الّذي يتأخّر عن كلمة (بل) {فلا دلالة له عليه} أي: على الحصر {أيضاً} بل يدلّ على الترقّي، وقد يمثّل بنحو(حبيبي قمر، بل شمس).

{ومنها: ما كان في مقام الرّدع وإبطال ما أثبت أوّلاً} كأن يقول: (زيد قائم، بل قاعد). قال - تعالى - : {وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ}(1) {فيدلّ} لفظ (بل) في هذا القسم الثّالث {عليه} أي: على الإضراب {وهو واضح} وعلى هذا فلو قامت قرينة على أنّه بأيّ نحو من الأقسام كان له حكمه، وإلّا فلو لم تقم لم يمكن القول بإفادتها للحصر والمفهوم.

ثمّ إنّ في كلمة (بل) كلاماً طويلاً لا يسعه المقام، فليرجع إلى المغني(2)

والمطوّل(3)

ونحوهما.

ص: 87


1- سورة الأنبياء، الآية: 26.
2- مغني اللبيب 1: 112.
3- المطوّل: 102.

وممّا يفيد الحصر - على ما قيل(1) - تعريف المسند إليه باللّام.

والتحقيق: أنّه لا يفيده إلّا في ما اقتضاه المقام؛ لأنّ الأصل في اللّام أن تكون لتعريف الجنس، كما أنّ الأصل في الحمل - في القضايا المتعارفة - هو الحمل المتعارف،

___________________________________________

{وممّا يفيد الحصر - على ما قيل - تعريف المسند إليه باللّام} نحو (الحمد للّه ربّ العالمين) واستدلّوا لذلك بأُمور، والأقرب منها التبادر، وهو مستند إمّا إلى وضعاللّام للاستغراق، وإمّا إلى انصرافها إليه.

{والتحقيق أنّه لا يفيده إلّا في ما اقتضاه المقام} إذ التبادر ممنوع والمستند غير صحيح {لأنّ الأصل في اللّام أن تكون لتعريف الجنس} فيقصد منها الإشارة إلى نفس الماهيّة من حيث هي.

وتوضيح ذلك: أنّ الماهيّات حيث كانت متميّزة في الذهن فالجنس إن كان معرّى عن (اللّام) لا يراد منه إلّا نفس الحقيقة بغير تعريف، بخلاف ما إذا كان معرّفاً ب- (اللّام) فإنّ المراد منه حينئذٍ الحصّة المتميّزة المعهودة في الذهن، وبهذا يحصل نوع تمييز وتعريف، ولهذا قالوا بأنّ الماهيّة المدخولة عليها (اللّام) معرفة بخلاف المعرّاة عنها، فتأمّل. وعلى هذا ف- (اللّام) لا تفيد الاستغراق.

ثمّ إنّه حيث يمكن أن يدّعى أنّ وجه إفادة المعرّف للاستغراق والحصر أمر آخر وهو أنّ (اللّام) لتعريف الجنس - كما ذكر - ولكن ظاهر الحمل هو الذاتي، ولازمه اتحاد الموضوع مع المحمول، والاتحاد مقتضٍ للحصر، كما لا يخفى. أجاب المصنّف(رحمة الله) عنه بقوله: {كما أنّ الأصل في الحمل} ليس هو الحمل الذاتي الّذي مناطه الاتحاد في المفهوم كما زعم، بل ظاهر الحمل {في القضايا المتعارفة} غير مقام التحديدات {هو الحمل المتعارف} المعبّر عنه بالشائع الصِّناعي

ص: 88


1- قوانين الأصول 1: 190.

الّذي ملاكه مجرّد الاتحاد في الوجود، فإنّه الشّائع فيها، لا الحمل الذاتي، الّذي ملاكه الاتحاد بحسب المفهوم، كما لا يخفى. وحمل شيء على جنس وماهيّة كذلك، لا يقتضي اختصاص تلك الماهيّة به وحصرها عليه.نعم، لو قامت قرينة على أنّ اللّام للاستغراق، أو أنّ مدخوله أُخذ بنحو الإرسال والإطلاق، أو على أنّ الحمل عليه كان ذاتيّاً، لأُفيد حصر مدخوله على محموله واختصاصُه به.

___________________________________________

{الّذي ملاكه مجرّد الاتحاد في الوجود} في الجملة {فإنّه الشّائع فيها} أي: في القضايا المتعارفة في العلوم والمحاورات {لا الحمل الذاتي الّذي ملاكه الاتحاد بحسب المفهوم} أو الاتحاد في الماهيّة ولو تغايرا مفهوماً {كما لا يخفى}.

{و} كيف كان، ف- {حمل شيء على جنس وماهيّة كذلك} بالحمل الشّائع الصِّناعي {لا يقتضي اختصاص تلك الماهيّة به وحصرها عليه} لأنّ هناك احتمالات أربع:

الأوّل: أن يكون المسند إليه أعمّ نحو: (الأمير زيد).

الثّاني: أن يكون أخصّ نحو: (الضّاحك إنسان).

الثّالث: أن يكون مساوياً نحو: (الإنسان ناطق).

الرّابع: أن يكون أعمّ من وجه نحو (الأبيض إنسان) فكيف يمكن القول بالحصر مع هذه الاحتمالات؟!

{نعم، لو قامت قرينة على أنّ اللّام للاستغراق} الحقيقي {أو} على {أنّ مدخوله أُخذ بنحو الإرسال والإطلاق} على نحو القضيّة الطبيعيّة وإرادة الجنس من المدخول {أو على أنّ الحمل عليه كان ذاتيّاً} لا شائعاً {لأُفيد} بسبب القرينة {حصر مدخوله على محموله واختصاصه به} إذ لو كان المحمول على جميع الأفراد -كما هو قضيّة الأوّل - أو كان محمولاً على الطبيعة - كما هو قضيّة الثّاني -

ص: 89

وقد انقدح بذلك: الخلل في كثيرٍ من كلمات الأعلام في المقام، وما وقع منهم من النّقض والإبرام(1).

ولا نطيل بذكرها، فإنّه بلا طائل، كما يظهر للمتأمّل، فتأمّل جيّداً.

فصل: لا دلالة للقب ولا للعدد على المفهوم، وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما أصلاً.

___________________________________________

أو كان المحمول والموضوع متّحدين في المفهوم أو الماهيّة - كما هو قضيّة الثّالث - لم يعقل الانفكاك بينهما، وهذا هو معنى الحصر.

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكر من عدم دلالة المعرّف بنفسه - مع قطع النّظر عن القرينة - على الحصر {الخلل في كثير من كلمات الأعلام في المقام، وما وقع منهم من النّقض والإبرام، ولا نطيل} البحث {بذكرها فإنّه بلا طائل} وفائدة {كما يظهر للمتأمّل، فتأمّل جيّداً} ومن المعلوم أنّ ربط هذا البحث بالمفهوم هو أنّه لو كان مفيداً للحصر فهم منه عدم الحكم على غير المسند إليه، واللّه الموفّق.

[فصل مفهوم اللقب والعدد]

المقصد الثّالث: في المفاهيم، مفهوم اللقب والعدد

{فصل} في مفهوم اللقب والعدد {لا دلالة للقب} وهو ما كان طرفاً في الكلام فاعلاً كان أو مفعولاً أو حالاً أو تمييزاً أو ظرفاً، غير الشّرط والوصف والاستثناء ونحوها ممّا جعله القوم مبحثاً مستقلّاً {ولا للعدد على المفهوم وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما أصلاً} فلو قال المولى: (أكرم زيداً راكباً يوم الجمعة) لم يدلّالكلام على (عدم إكرام عمرو) أو (زيد في غير حال الرّكوب) أو (غير يوم الجمعة) بحيث لو كان هناك دليل على (إكرام عمرو) أو (زيد في غير حال الرّكوب) أو (غير يوم الجمعة) لوقع التنافي بين مفهوم الأوّل ومنطوق الثّاني.

وكذا بالنسبة إلى العدد، فلو قال: (أضف عشرة رجال) لم يدلّ على (عدم إضافة الحادي عشر) حتّى يقع التنافي بينهما، بل اللقب والعدد بالنسبة إلى غير

ص: 90


1- قوانين الأصول 1: 190؛ مطارح الأنظار 2: 111.

وقد عرفت أنّ انتفاء شخصه ليس بمفهوم.

كما أنّ قضيّة التقييد بالعدد منطوقاً عدمُ جواز الاقتصار على ما دونه؛ لأنّه ليس بذاك الخاصّ والمقيّد.

وأمّا الزيادة فكالنقيصة. إذا كان التقييد به للتحديد به بالإضافة إلى كلا طرفيه.

نعم، لو كان لمجرّد التحديد بالنظر إلى طرفه الأقلّ،

___________________________________________

حكم موردهما ساكتان، وإنّما قلنا بعدم المفهوم لعدم ثبوت الوضع ولا قرينة عامّة تدلّ عليه مطلقاً.

{و} إن قلت: معنى (أكرم زيداً) عدم وجوب هذا الشّخص من الإكرام لعمرو، فيدلّ على المفهوم.

قلت: {قد عرفت أنّ انتفاء شخصه ليس بمفهوم} وإنّما المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم.

وإن قلت: كيف قلتم بعدم المفهوم للعدد، مع أنّه من البديهي أن لو قال المولى: (جئني بعشرة رجال) فأتاه العبد بتسعة كان معاقباً، وذلك آية المفهوم، وأنّ معنى (جئني بعشرة) عدم جواز الإتيان بتسعة؟

قلت: هذا الحكم ليس مستفاداً من المفهوم، بل من المنطوق كما أشار إليهالمصنّف(رحمة الله) بقوله: {كما أنّ قضيّة التقييد بالعدد منطوقاً عدم جواز الاقتصار على ما دونه؛ لأنّه} أي: ما دون العدد المذكور {ليس بذاك الخاصّ والمقيّد} المأمور به فهو مستفاد من المنطوق لا المفهوم، وإنّما الكلام في مفهوم العدد في الزيادة {وأمّا الزيادة} كالإتيان بالحادي عشر {فكالنقيصة} مستفاد من المنطوق {إذا كان التقييد به} أي: بالعدد {للتحديد} للتكليف {به بالإضافة إلى كلا طرفيه} طرف القلّة والكثرة، بأن يكون المطلوب بشرط لا.

{نعم، لو كان} العدد {لمجرّد التحديد بالنظر إلى طرفه الأقلّ} بحيث كان في

ص: 91

لما كان في الزيادة ضيرٌ أصلاً، بل ربّما كان فيها فضيلة وزيادة، كما لا يخفى.

وكيف كان، فليس عدم الاجتزاء بغيره من جهة دلالته على المفهوم، بل إنّما يكون لأجل عدم الموافقة مع ما أُخذ في المنطوق، كما هو معلوم.

___________________________________________

مقام بيان عدم كفاية الأقلّ {لما كان في الزيادة ضير أصلاً} بل كان وجوده كعدمه إن لم يستفد من دليل خارجيّ مزيّة أو نقيصة {بل ربّما كان فيها فضيلة وزيادة، كما لا يخفى} كذكر الرّكوع والسّجود ونحوهما، كما أنّه ربّما كان فيها منقصةً، كما لو أوجب الزيادةُ على منزوحاتِ البئر بعضَ مراتبِ الإسراف في الماء.

{وكيف كان، فليس عدم الاجتزاء بغيره} النّقيصة مطلقاً والزيادة حيث كان في مقام التحديد بالنسبة إلى الطرفين {من جهة دلالته} أي: العدد {على المفهوم، بل إنّمايكون لأجل عدم الموافقة مع ما أُخذ في المنطوق، كما هو معلوم} ثمّ لا بأس بالإشارة إلى بعض ما ذكره القائلون بالمفهوم للّقب والعدد فنقول: استدلّ القائل بمفهوم اللقب بأمرين:

الأوّل: أنّ التخصيص بالذكر يستدعى مخصّصاً وليس إلّا نفي الحكم عن غير المذكور.

وفيه: أنّ الذكر لكون الحكم له، وأمّا غير المذكور فيكفي في تركه عدم اشتماله على فائدة مقصودة، إذ ليس اللقب قيداً زائداً في الكلام حتّى يكون ذكره محوجاً إلى فائدة زائدة على فائدة الكلام.

الثّاني: أنّ قول القائل: (لست زانياً) يدلّ على رمي المخاطب بالزِّنا، ومن هنا التزم بعضهم بوجوب الحدّ عليه.

وفيه: منع ثبوت الدلالة فيه مطلقاً، بل يختصّ بمورد التعريض وهو قرينة خاصّة لا كلام لنا فيه.

واحتجّ القائلون بمفهوم العدد بما لفّقوه عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) أنّه بعد ما نزل قوله تعالى:

ص: 92

___________________________________________

{إِن تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ سَبۡعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ}(1) قال: «لأزيدنّ على السّبعين»(2)،

وجه الدلالة: أنّه فهم النّبيّ(صلی الله علیه و آله) أنّ ما زاد على السبعين حكمه بخلاف السّبعين.

وفيه: - مضافاً إلى منع صحّة الحديث، لأنّ الظاهر نفي الغفران بالاستغفار الكثير، إذ ذكر السّبعين للمبالغة - أنّه لا دلالة في ما نقلوا عنه(صلی الله علیه وآله) على حصول الغفران في ما زاد بل على عدم دلالتها على نفيه فيه، وهو خارج عن محلّ النّزاع، على أنّه يمكن فهمه(صلی الله علیه و آله) من القرائن.

ثمّ إنّ هذا الحديث ممّا يضحك الثّكلى كما يظهر ذلك لمن راجع قبل هذه الفقرة من الآية وبعدها، واللّه الهادي.

ص: 93


1- سورة التوبة، الآية: 80.
2- الدرّ المنثور 3: 264.

ص: 94

المقصد الرّابع: في العام والخاص

اشارة

ص: 95

ص: 96

المقصد الرّابع: في العام والخاص

فصل: قد عُرِّف العام بتعاريف، قد وقع من الأعلام(1)

فيها النّقض - بعدم الاطّراد تارةً، والانعكاس أُخرى - بما لا يليقُ بالمقام؛ فإنّها تعاريف لفظيّة تقع في جواب السّؤال عنه بما الشّارحة، لا واقعة في جواب السّؤال عنه بما الحقيقيّة.

___________________________________________

[المقصد الرّابع في العام والخاص]

{المقصد الرّابع} من مقاصد الكتاب {في العام والخاص} وفيه فصول:

[فصل تعريف العام وأقسامه]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، تعريف العام وأقسامه

{فصل} في بيان تعريف العام وتقسيمه إلى البدلي، والشّمولي، والمجموعي.

{قد عرّف العام بتعاريف، وقد وقع من الأعلام فيها النّقض بعدم الاطّراد} ومانعيّة الأغيار {تارةً و} عدم {الانعكاس} وجامعيّة الأفراد {أُخرى، بما لا يليق بالمقام} مصداق ما هو النّقض، وبيّن وجه عدم اللياقة بقوله: {فإنّها تعاريف لفظيّة} ومن المعلوم أنّ القصد بالتعريف اللفظي هو شرح مسمّى اللفظ في الجملة، بحيث {تقع} هذهالتعاريف {في جواب السّؤال عنه} أي: عن «العام» {بما الشّارحة} فإنّه إذا قيل: ما هو العام؟ تقع هذه التعاريف في الجواب، وقد تقرّر في المنطق جواز كون التعريف اللفظي أعمّ من المعرَّف أو أخصّ نحو (سعدانة نبت).

و{لا} تكون هذه التعاريف تعاريف حديّة {واقعة في جواب السّؤال عنه} أي: عن «العام» {بما الحقيقيّة} المطلوب بها حقيقة المحدود، المستلزم للتساوي

ص: 97


1- هداية المسترشدين 3: 144؛ الفصول الغرويّة: 158.

كيف؟ وكان المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح ممّا عُرّف به مفهوماً ومصداقاً، ولذا يجعل صدقُ ذاك المعنى على فرد وعدمُ صدقه، المقياسَ في الإشكال عليها بعدم الاطّراد أو الانعكاس، بلا ريب فيه، ولا شبهة تعتريه من أحد، والتعريفُ لا بدّ أن يكون بالأجلى، كما هو أوضح من أن يخفى.

___________________________________________

بين المعرِّف والمعرَّف، نحو: (الحيوان النّاطق) في جواب (الإنسان ما هو) وإنّما قلنا بكون تعاريف العام لفظيّة لا حقيقيّة لوجهين:

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: و{كيف} تكون هذه التعاريف حقيقيّة {و} الحال أنّه {كان المعنى المركوز منه} أي: من العام {في الأذهان أوضح ممّا عرّف} العام {به مفهوماً ومصداقاً} يعني: أنّ مفهوم المعنى المركوز المعرّف أوضح من مفهوم هذه المعرّفات، ومصاديق المعنى المركوز أوضح من مصاديق هذه المعرّفات.

ولو كانت هذه التعاريف حقيقيّة لامتنع ذلك؛ لأنّه لا يجوز التعريف بالأخفىفي التعريف الحقيقي، قال في التهذيب: «ويشترط أن يكون مساوياً وأجلى»(1).

{ولذا} الّذي ذكرنا من إجلائيّة العام المعرّف عند الذهن من هذه المعرّفات {يجعل صدق ذاك المعنى} المرتكز {على فرد وعدم صدقه} على آخر {المقياس في الإشكال عليها} أي: على هذه التعريفات {بعدم الاطّراد أو الانعكاس} فيقال: العام صادق على هذا الفرد مع أنّ هذا التعريف لا يشمله، فهو غير منعكس، أو العام ليس صادقاً عليه، مع أنّ التعريف يشمله، فهو غير مطّرد {بلا ريب فيه} أي: في صدق المرتكز وعدم صدقه {ولا شبهة تعتريه من أحد، والتعريف} الحقيقي {لا بدّ} و{أن يكون بالأجلى، كما هو أوضح من أن يخفى}.

وإن شئت قلت في صورة القياس: إنّ هذه المعرّفات أخفى، والمعرّف الحقيقي يمتنع أن يكون أخفى، فليست هذه المعرّفات بمعرّفات حقيقيّة:

ص: 98


1- الحاشية على تهذيب المنطق: 50.

فالظّاهر: أنّ الغرض من تعريفه إنّما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعاً بين ما لا شبهة في أنّها أفراد العام، ليشار به إليه في مقام إثبات ما له من الأحكام، لا بيان ما هو حقيقته وماهيّته؛ لعدم تعلّق غرض به - بعدَ وضوح ما هو محلّ الكلام، بحسب الأحكام، من أفراده ومصاديقه - ؛ حيث لا يكون بمفهومه العام محلّاً لحكم من الأحكام.

___________________________________________

أمّا الصّغرى فلما تقدّم من أوضحيّة المعنى المرتكز الّذي هو المعرّف.وأمّا الكبرى فلما ذكر في المنطق، وحينئذٍ فلا يبقى إلّا أن تكون تعاريف لفظيّة الّتي هي عبارة عن تبديل لفظ بلفظ آخر أوضح منه في الجملة.

الوجه الثّاني: إنّه حيث لا يترتّب على فهم العام بكنهه ثمرة عمليّة، فلا وجه لجعل التعاريف حقيقيّة وتجشّم إصلاحها طرداً وعكساً، وقد أشار إلى هذا بقوله: {فالظاهر أنّ الغرض من تعريفه} أي: العام {إنّما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعاً بين ما لا شبهة في أنّها أفراد العام} سواء كان شاملاً لبعض الأغيار أم لا، وسواء كان شاملاً لجميع الأفراد أم لا، إذ المقصود من التعريف الموجبة الجزئيّة {ليشار به} أي: بذلك المفهوم الواقع في التعريف {إليه} أي: إلى العام {في مقام إثبات ما له من الأحكام} وقد ذكروا أنّ التصوّر بوجهٍ ما كافٍ في التصديق لثبوت الحكم {لا بيان ما هو حقيقته وماهيّته، لعدم تعلّق غرض} عملي {به} أي: ببيان الحقيقة.

إن قلت: الغرض العملي هو معرفة أفراده حتّى يرتّب عليها الحكم المتعلّق بالعام.

قلت: هذا الغرض حاصل بدون التعريف لما تقدّم من معلوميّة المفهوم لدى الأذهان، وإلى هذا أشار بقوله: {بعد وضوح ما هو محلّ الكلام بحسب الأحكام} المتعلّقة بذاك العام {من أفراده ومصاديقه} فلا نحتاج إلى تعريف المفهوم {حيث} إنّ الحكم متعلّق بالأفراد المعلومة لدى الأذهان، و{لا يكون} المحكوم {بمفهومه العام محلّاً لحكم من الأحكام}.

ص: 99

ثمّ الظاهر: أنّ ما ذكر له من الأقسام - من الاستغراقي والمجموعي والبدلي - إنّما هو باختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام به،

___________________________________________

والحاصل: أنّ الحكم مترتّب على الأفراد، لا على المفهوم، فلا غرض في تحديده ولكن لا يخفى ورود الإشكال على كثير ممّا ذكر، كما يظهر من مراجعة الحواشي والمطوّلات.

{ثمّ} إنّهم ذكروا أنّ العموم على ثلاثة أقسام:

الأوّل: العموم الاستغراقي، وهو ما يكون الحكم فيه متعلّقاً بكلّ فرد، بحيث يكون لكلّ فرد إطاعة ومعصية مستقلّة بدون ارتباط لبعض الأفراد ببعض، نحو (أكرم العلماء) فإنّ إكرام كلّ فرد من أفراد العلماء واجب وتركه حرام، فلو أكرم فرداً ولم يكرم آخر كان مطيعاً بالنسبة إلى الأوّل وعاصياً بالنسبة إلى الآخر.

الثّاني: العموم المجموعي، وهو ما يكون الحكم فيه متعلّقاً بالمجموع من حيث المجموع، فله إطاعة واحدة وهو في ما أتى بالكلّ ومعصية واحدة وهو في ما ترك الجميع أو البعض، نحو ما لو وقع ابن المولى في البئر واحتاج المولى إلى جميع الحبال الموجودة في الدار لإنقاذه فقال لعبده: (جئني بالحبال) فإنّ لهذا الأمر إطاعة واحدة وهي الإتيان بجميعها ومعصية واحدة وهي ترك الجميع أو ترك حبل واحد منها.

الثّالث: العموم البدلي، وهو أن يكون التكليف واحداً لكنّه متعلّق بجميع الأفراد على سبيل البدل، بحيث لو أتى بواحدٍ كان مطيعاً، ولو ترك الكلّ كان عاصياً، نحو (جئني برجل) فإنّه لو أتى برجل واحد كان مطيعاً ولو ترك الكلّ كان عاصياً.

إذا عرفت هذا نقول: {الظاهر أنّ ما ذكر له من الأقسام، من الاستغراقي والمجموعي والبدلي} ليس بسبب اختلاف العام في نفسه، بل {إنّما هو باختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام به}.

ص: 100

وإلّا فالعموم في الجميع بمعنى واحد، وهو: «شمول المفهوم لجميع ما يصلح أنينطبق عليه». غاية الأمر أنّ تعلّق الحكم به:

تارةً بنحو يكون كلّ فرد موضوعاً على حدةٍ للحكم.

وأُخرى بنحو يكون الجميع موضوعاً واحداً، بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في (أكرم كلّ فقيه) - مثلاً - لَما امتثل أصلاً، بخلاف الصّورة الأُولى، فإنّه أطاع وعصى.

___________________________________________

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) في الهامش ما لفظه:

«إن قلت: كيف ذلك ولكلّ واحد منها لفظ، غير ما للآخر، مثل: (أيّ رجل) للبدلي و(كلّ رجل) للاستغراقي؟

قلت: نعم، ولكنّه لا يقتضي أن تكون هذه الأقسام له ولو بملاحظة اختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام، لعدم إمكان تطرّق هذه الأقسام إلّا بهذه الملاحظة، فتأمّل جيّداً»(1)، انتهى.

وحاصل مرامه في الجواب أنّه - وإن سلّمنا اختلاف لفظ العام - إلّا أنّا نقول: منشأ ذلك لحاظ الواضع اختلاف كيفيّة تعلّق الحكم {وإلّا} يكن هناك اختلاف في كيفيّة تعلّق الحكم {فالعموم في الجميع بمعنى واحد، وهو «شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه»} من الأفراد.

{غاية الأمر أنّ تعلّق الحكم به تارةً بنحوٍ يكون كلّ فردٍ موضوعاً على حِدَةٍ للحكم} فيكون له إطاعات ومعاص.

{وأُخرى بنحو يكون الجميع موضوعاًواحداً} بنحو المجموعي {بحيث لو أخلّ بإكرام واحدٍ} من الفقهاء {في} ما لو قال المولى: {(أكرم كلّ فقيه) مثلاً، لما امتثل أصلاً، بخلاف الصّورة الأُولى} أعني: الاستغراقي {فإنّه} لو أخلّ بإكرام واحدٍ {أطاع وعصى}.

ص: 101


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 349.

وثالثةً بنحوٍ يكون كلّ واحد موضوعاً على البدل، بحيث لو أكرم واحداً منهم لقد أطاع وامتثل، كما يظهر لمن أمعن النّظر وتأمّل.

وقد انقدح: أنّ مثل شمول (عشرة) وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم؛ لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحدٍ منها،

___________________________________________

{وثالثةً} يكون الحكم {بنحو يكون كلّ واحدٍ موضوعاً على البدل، بحيث لو أكرم واحداً منهم لقد أطاع وامتثل، كما يظهر لمن أمعن النّظر وتأمّل}.

وقد يفرق بين الثّلاثة بعبارة أُخرى، وهي: أنّ العام الاستغراقي يطاع بفعل واحدٍ ويُعْصَى بترك آخر، والعام البدلي: يطاع بفعل واحدٍ من الأفراد ويُعْصَى بترك الجميع، والعام المجموعي يُطاع بفعل الجميع ويُعْصَى بترك واحدٍ، فالعام المجموعي والبدلي متعاكسان في الإطاعة والمعصية.

{وقد انقدح} من قولنا في تعريف العام: «وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه» {أنّ} اللّازم أن يكون للعام مفهومٌ واحدٌ ملحوظٌ بنحو يصلح للانطباق على كلّ فردٍ من أفراد العام، ف- {مثل شمول (عشرة) وغيرها، لآحادها المندرجة تحتها، ليس من العموم} لوضوح الفرق بين العامّ نحو (العلماء) وبينأسماء العدد ك- (عشرة) و(مائة) فإنّ (العلماء) ينطبق على الجميع بلحاظ مفهوم العام السّاري في كلّ واحد من الأفراد، بخلاف أسماء العدد {لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحد منها} إذ ليس لها صفة قابلة للانطباق، إذ اسم العدد وضع لمعنى منطبق فعلاً على جميع الآحاد، وليس فيه ماهيّة قابلة الانطباق على الأفراد.

والحاصل: أنّ أفراد (العالم) من مصاديقه، بخلاف (عشرة) فإنّ الأفراد ليس من مصاديقها، بل من أجزائها.

نعم، لفظة (عشرة) بالنسبة إلى العشرات الّتي هي مصاديقها ك- (عشرة أفراس)

ص: 102

فافهم.

فصل: لا شبهة في أنّ للعموم صيغة تخصّه - لغة وشرعاً - ، كالخصوص، كما يكون ما يشترك بينهما ويعمّهما؛ ضرورة أنّ مثل لفظ (كلّ) وما يرادفه - في أيّ لغة كان - يخصّه، ولا يخصّ الخصوص ولا يعمّه.

___________________________________________

و(عشرة أناسيّ) و(عشرة أثواب) من قبيل العام؛ لأنّ كلّ عشرة مصداق، فلفظة (العشرة) بالنسبة إلى (العشرات) عامّ، وبالنسبة إلى أفرادها ليست بعام.

{فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى عدم تسليم الفرق بما ذكر بين العام المجموعي وبين اسم العدد، إذ الآحاد في كلّ واحد منهما جزء، وفيه ما لا يخفى.

[فصل هل للعموم صيغة تخصّه أم لا؟]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، هل للعموم صيغة تخصّه أم لا؟

{فصل} في بيان وجود ألفاظ العموم ودفع بعض الإشكالات عنها {لا شبهة في أنّ للعموم صيغة تخصّه لغة وشرعاً} خلافاً لمن ذهب إلى أنّ جميع الصّيغ المدّعى وضعها للعموم فهي موضوعة للخصوص، ومن قال بأنّها مشتركة بين العموم والخصوص، إلى غير ذلك منالأقوال.

والحاصل: أنّ للعموم لفظاً موضوعاً {كالخصوص} الّذي له لفظ موضوع، كالأعلام الشّخصيّة {كما يكون ما يشترك بينهما ويعمّهما} فيكون استعماله في كلٍّ من العموم والخصوص على نحو الحقيقة، وذلك كالمعرّف ب-(اللّام) فإنّها لو كانت للعهد كانت للخصوص، وإن كانت للاستغراق كانت للعموم.

وإنّما قلنا بوجود ألفاظ العموم: {ضرورة أنّ مثل لفظ (كلّ) وما يرادفه في أيّ لغة كان يخصّه} أي: يختصّ بالعموم حتّى يكون استعماله في الخصوص مجازاً، ألا ترى أنّه لو قال: (أكرم كلّ من دخل داري) فهم العرف منه الاستغراق، بحيث لو لم يكرم واحداً كان معاقباً {و} لفظ (كلّ) {لا يخصّ الخصوص} بحيث يكون موضوعاً للخاصّ فقط حتّى يكون استعماله في العام مجازاً {ولا يعمّه} أي: الخصوص

ص: 103

ولا ينافي اختصاصه به استعمالُه في الخصوص عناية، بادّعاء أنّه العموم، أو بعلاقة العموم والخصوص.

ومعه لا يُصغى إلى أنّ إرادة الخصوص متيقّنة ولو في ضمنه، بخلافه، وجعلُ اللفظ حقيقةً في المتيقّن أولى.

ولا إلى أنّ

___________________________________________

بحيث يكون مشتركاً بينهما حتّى يكون استعماله في كليهما على نحو الحقيقة.

{و} إن قلت: لو كان لفظ (كلّ) موضوعاً للعموم لما جاز أن يقال: (زيد كلّ الرّجل) ممّا استعمل فيه لفظ (كلّ) في الخصوص.

قلت: {لا ينافي اختصاصه} أي: «كلّ» {به} أي: بالعموم {استعماله في الخصوص عنايةً بادّعاء أنّهالعموم} حتّى يكون التصرّف في أمر عقلي، وهو ادّعاء أنّ زيداً من أفراد العام {أو} مجازاً بغير عناية الادّعاء، بل {بعلاقة العموم والخصوص} وهو استعمال لفظ العامّ وإرادة الخاصّ حتّى يكون التصرّف في أمر لغويّ {ومعه} أي: مع قيام الضّرورة على ما ذكر {لا يصغى إلى} إنكار ذلك الّذي ذكرنا من الوضع للعموم، وادّعاء أنّ لفظ (كلّ) ونحوه موضوع للخصوص فقط، مستدلّاً ب- {أنّ إرادة الخصوص متيقّنة ولو في ضمنه} أي: ضمن العموم، إذ الخاصّ مراد على أيّ حال، فإنّه إن أُريد الخاصّ فهو المطلوب، وإن أُريد العام كان الخاصّ مراداً أيضاً؛ لأنّ الخصوص بعض العموم وإرادة الكلّ تقتضي إرادة البعض {بخلافه} أي: العموم، فإنّ إرادته مشكوكة {وجعل اللّفظ حقيقة في المتيقّن أولى} فإنّ الوضع يتبع ما هو أكثر فائدة في مقام التفهيم والتفهّم والمتيقّن أقرب إلى التفهيم والتفهّم من المشكوك، كما لا يخفى.

{و} كذلك {لا} يصغى {إلى أنّ} وضع اللّفظ للعموم يقتضي كثرة المجاز، بخلاف وضعه للخصوص، ف-إنّه سبب لقلّة المجاز؛ لأنّ استعمال اللفظ ف-ي

ص: 104

التخصيص قد اشتهر وشاع حتّى قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خُصّ»، والظّاهر يقتضي كونه حقيقةً لما هو الغالب، تقليلاً للمجاز. مع أنّ تيقّن إرادته لا يوجب اختصاص الوضع به، مع كون العموم كثيراً ما يراد.

واشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز؛ لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازيّة،

___________________________________________

الخصوص أكثر من استعماله في العموم، إذ {التخصيص قد اشتهر وشاع حتّى قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خُصّ»،والظّاهر} من حال الواضع الحكيم الّذي يضع اللفظ لما هو أكثر دوراناً {يقتضي كونه} موضوعاً للخصوص حتّى يكون {حقيقة لما هو الغالب} مجازاً في ما هو النّادر {تقليلاً للمجاز}.

وإنّما قلنا بعدم الإصغاء إلى هذين الوجهين لأمرين:

الأوّل: ما تقدّم من قيام الضّرورة على العموم، فيكون هذان من قبيل الشّبهة في مقابل البديهة.

الثّاني: عدم سلامة كلّ من الوجهين من الخلل.

أمّا الوجه الأوّل: فلمّا أشار إليه بقوله: {مع أنّ تيقّن إرادته} أي: الخصوص {لا يوجب اختصاص الوضع به} إذ الإرادة المردّدة بين كونها ضمنيّاً لا تستلزم الوضع - على تقدير تسليم الاستلزام في الجملة - هو الإرادة المستقلّة.

وإن شئت قلت: إنّه لمّا كان بين الخاصّ والعامّ بحدودهما تضادّ لم يكن الخاصّ بحدّه متيقّناً حتّى يستلزم الوضع {مع} أنّه لو كانت إرادة العموم شاذّاً حتّى يلحق الوضع له بما لا فائدة فيه أمكن أن يكون للقول بالوضع للخصوص وجه، ولكن ليس كذلك ل- {كون العموم كثيراً ما يراد} من اللفظ.

{و} أمّا الوجه الثّاني: فلأنّ {اشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز، لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازيّة} لأنّ التخصيص عن المراد، لا عن المستعمل فيه، فإنّ العام في مورد إرادة الخاصّ مستعمل في عمومه، وإنّما المراد من هذا

ص: 105

كما يأتي توضيحه، ولو سلم فلا محذور فيه أصلاً إذا كان بالقرينة، كما لا يخفى.

فصل: ربّما عُدّ من الألفاظ الدالّة على العموم: النّكرةُ في سياق النّفي أوالنّهي.

ودلالتها عليه لا ينبغي أن ينكر عقلاً؛ لضرورة أنّه لا يكاد يكون طبيعةٌ معدومةً إلّا إذا لم يكن فرد منها بموجود، وإلّا كانت موجودة.

لكن لا يخفى: أنّها تفيده إذا أُخذت مرسلةً -

___________________________________________

العام المستعمل في العموم معناه الخاص بدالّين ومدلولين، كما أنّ إرادة المعهود من (الرّجل) لا يوجب استعماله في المعهود حتّى يلزم المجازيّة؛ لأنّه موضوع للطبيعة بلا عهد، بل (اللّام) مستعملة في العهد، و(رجل) مستعمل في معناه، ومن انضمامهما يفهم الرّجل المعهود {كما يأتي توضيحه} إن شاء اللّه - تعالى - .

{ولو سلم} التلازم بين التخصيص والمجاز {فلا محذور فيه أصلاً إذا كان بالقرينة، كما لا يخفى} إذ الاستعمال في غير المعنى الموضوع له مع القرينة لا ينافي الحقيقة وإنّما المضرّ هو كثرة الاستعمال بغير قرينة، فإنّها توجب إجمال اللفظ، فتدبّر.

[فصل الألفاظ الدالة على العموم]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، الألفاظ الدالة على العموم

{فصل} في النّكرة الواقعة في سياق النّفي {ربّما عدّ من الألفاظ الدالّة على العموم النّكرة} الواقعة {في سياق النّفي} نحو (لم يضرب أحد) {أو النّهي} نحو (لا تضرب أحداً) {ودلالتها عليه} أي: العموم {لا ينبغي أن ينكر عقلاً} فإنّ العقل دالّ في المقام على العموم {لضرورة} أنّهما يدلّان على نفي الطبيعة، و{أنّه لا يكاد يكون طبيعة معدومة إلّا إذا لم يكن فرد منها بموجود، وإلّا} فلو كان بعض أفراد الطّبيعة موجوداً {كانت موجودة} وهوخلف.

{لكن لا يخفى أنّها} أي: النّكرة في سياق النّفي {تفيده} أي: العموم {إذا أُخذت مرسلة} مطلقة.

ص: 106

لا مبهمة - قابلةً للتقييد، وإلّا فسلبها لا يقتضي إلّا استيعابَ السّلب لما أُريد منها يقيناً،

___________________________________________

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) في الهامش ما لفظه: «وإحراز الإرسال في ما أُضيف إليه إنّما هو بمقدّمات الحكمة، فلولاها كانت مهملة وهي ليست إلّا بحكم الجزئيّة فلا تفيد إلّا نفي هذه الطبيعة في الجملة ولو في ضمن صنف منها، فافهم فإنّه لا يخلو من دقّة»(1)،

انتهى.

وإن شئت قلت: إنّ الطبيعة الواقعة في سياق النّفي على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الطبيعة المطلقة، أي: الّتي تمّت فيها مقدّمات الإطلاق، كأن يقول: (لا تضرب أحداً) مريداً بكلمة (أحد) جميع مدلوله اللغوي، ولا شكّ في إفادة هذا القسم العموم.

الثّاني: الطبيعة المقيّدة، كأن يقول: (لا تضرب أحداً من العدول) وهذا لا شكّ في إفادته للعموم، لكن بالنسبة إلى صنف خاصّ وهم العلماء فقط، فهذا القسم يشترك مع القسم الأوّل في إفادة العموم، وإنّما الفرق بأنّ الأوّل عامّ بالنسبة إلى جميع أفراد الطبيعة، والثّاني عامّ بالنسبة إلى جميع أفراد هذا الصّنف.

الثّالث: الطبيعة المهملة، بأن لم يكن المقام في مقام البيان فإنّه يحتمل العموم ويحتمل التقييد، كأن يقول: (لا تكرم فاسقاً) في مقام بيان رذيلة الفسق، لكنّه ليس بصدد بيان جميع أفراد الفسّاق حتّى يشمل الكرماء منهم، أو لا حتّىلا يشملهم، وهذا القسم - وإن كان في مقام الثّبوت يرجع إلى أحد الأوّلين؛ لأنّه إمّا أن يريد المطلق أو المقيّد - ولكنّه في مقام الإثبات مجمل مردّد.

وقد أشار المصنّف إلى هذا بقوله: {لا مبهمة قابلة للتقييد} والإطلاق {وإلّا} فلو لم تتمّ مقدّمات الحكمة، بأن كانت النّكرة الواقعة في سياق النّفي مهملة {فسلبها لا يقتضي إلّا استيعاب السّلب لما أُريد منها يقيناً} إن مطلقاً فمطلق وإن مقيّداً

ص: 107


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 355.

لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها.

وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقليّةً، فإنّها بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها، لا الأفراد الّتي تصلح لانطباقها عليها. كما لا ينافي دلالةَ مثل لفظ (كلّ) على العموم وضعاً، كونُ عمومه بحسب ما يراد من مدخوله، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة.

___________________________________________

فمقيّد و{لا} يقتضي {استيعاب ما يصلح انطباقها} أي: الطبيعة {عليه من أفرادها} بحسب الوضع اللغوي.

{وهذا} الّذي ذكرنا من عدم إفادة النّكرة في سياق النّفي للعموم في ما كانت مبهمة مهملة {لا ينافي كون دلالتها} أي: النّكرة في سياق النّفي {عليه} أي: على العموم {عقليّة، فإنّها} أي: الدلالة العقليّة على العموم {بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها} فاللفظ عامّ بالنسبة إلى الأفراد المرادة إن عامّاً فعامّ، وإن مقيّداً فمقيّد، و{لا} تدلّ على العموم بالنّسبة إلى {الأفراد الّتي تصلح} الماهيّة {لانطباقها عليها} في حال كونها مهملة.والحاصل: أنّ الطبيعة لو كانت مطلقة دلّ اللفظ على نفي الطبيعة، وذلك بضميمة حكم العقل - بأنّ نفي الطبيعة يستلزم نفي جميع مصاديقها - يدلّ على نفي جميع الأفراد، أمّا لو لم تكن الطبيعة مطلقة فلا يتمّ ذلك {كما لا ينافي دلالة مثل لفظ (كلّ)} و(عامّة) و(أجمع) ونحوها {على العموم وضعاً كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله، ولذا} الّذي ذكرنا من أنّ العموم بحسب المدخول {لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة} ولو كان العموم بحسب المدخول من غير تقييد لم يمكن تقييده، مثلاً لو قال: (أكرم كلّ عالم أو عامّة العلماء أو العلماء أجمع) أفاد (كلّ) عموم العلماء لا الجهّال، ولو قال: (أكرم كلّ عالم عادل) أفاد عموم العدول منهم بحيث يصير حال غيره حال غير العالم.

ص: 108

نعم، لا يبعد أن تكون ظاهرة - عند إطلاقها - في استيعاب جميع أفرادها.

وهذا هو الحال في المحلّى باللّام، جمعاً كان أو مفرداً، - بناءً على إفادته للعموم - . ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره.

و

___________________________________________

{نعم} لو لم تقيّد النّكرة في سياق النّفي أو النّهي في اللفظ بقيد ودار الأمر بين الإهمال والإطلاق {لا يبعد أن تكون ظاهرة عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها} لأنّ الأصل - في مقام الشّكّ في الإطلاق - هو الإطلاق، كما سيأتي في بحث المطلق والمقيّد إن شاء اللّه - تعالى - .

وفسّر السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - العبارة بغير ما ذكرنا فقال: «قوله: «أن يكونظاهراً» يعني تفترق (كلّ) عن الأداة بأنّ الأداة مع إهمال مدخولها يكون النّفي مهملاً من حيث العموم والخصوص، و(كلّ) مع إهمال مدخولها وعدم اقترانه بما يقتضي تقييده أو إطلاقه تكون رافعة لإهماله وموجبة لإطلاقه»(1)،

انتهى.

{وهذا} الّذي ذكرنا من أنّ العموم بالنّسبة إلى أفراد ما يراد لا الأفراد الّذي يصحّ الانطباق عليها {هو الحال في المحلّى باللّام، جمعاً كان} نحو (أكرم العلماء) {أو مفرداً} نحو (أكرم العالم) {بناءً على إفادته} أي: المفرد المحلّى {للعموم} كما هو مذهب جماعة {ولذا} الّذي ذكرنا من أنّ المحلّى لعموم المدخول، لا للعموم بالنّسبة إلى ما يصحّ الانطباق {لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف} نحو أن يقول: (أكرم العلماء العدول) {وغيره} كأن يقول: (أكرم العلماء إذا كانوا عدولاً) مع أنّ (اللّام) لو كان لعموم المدخول لزم التنافي بينه وبين تقييده المقتضي لعدم العموم.

{و} إن قلت: لو كان (اللّام) لعموم المراد من أفراد المدخول لم يصدق في نحو

ص: 109


1- حقائق الأصول 1: 488.

إطلاق التخصيص على تقييده ليس إلّا من قبيل: (ضَيِّقْ فم الرّكيّة).

لكن دلالته على العموم وضعاً محلّ منع، بل إنّما يفيده في ما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أُخرى؛ وذلك لعدم اقتضائه وضعُ (اللّام) ولا مدخوله، ولا وضعٌ آخر للمركّب منهما، كما لا يخفى. وربّما يأتي في المطلق والمقيّد بعض الكلام ممّا يناسب المقام.

___________________________________________

(أكرم العلماء العدول) أنّه مقيّد ومخصّص؛ لأنّ التخصيص عبارة عن تضييق دائرة العموم في فرض ثبوته، وقد ذكرتم أنّه لا عموم في المقام فكيف يطلق عليه التخصيص.

قلت: {إطلاق التخصيص على تقييده ليس إلّا من قبيل (ضيّق فم الرّكية)} أي: البئر، فكما أنّ معنى (ضيّق) في المثال إحداثه ضيّقاً، لا تضييقه بعد ما كان موسّعاً، فكذلك في المقام فإنّ معنى تخصيص المحلّى حدوثه مخصّصاً، لا أنّه يطرأ التخصيص بعد العموم، فليس المراد من التخصيص المعنى المصطلح حتّى ينافي القول بأنّ المحلّى لعموم المراد من المدخول.

{لكن} لا يخفى أنّ المعروف ب-(اللّام) وإن اشتهر {دلالته على العموم وضعاً} ولكنّه {محلّ منع، بل إنّما يفيده} أي: المحلّى يفيد العموم {في ما إذا اقتضته الحكمة} بأن تمّت مقدّمات الإطلاق، كما لو كان المولى في مقام البيان وقال: (أكرم العلماء) أو (أحلّ اللّه البيع) {أو} كانت هناك {قرينة أُخرى} خاصّة غير مقدّمات الحكمة.

{وذلك} الّذي ذكرنا من عدم دلالة المحلّى على العموم وضعاً {لعدم اقتضائه} أي: العموم {وضع اللّام} فاعل «اقتضائه» لأنّ اللّام إشارة إلى الماهيّة المميّزة في الذهن {ولا مدخوله} لأنّه موضوع لنفس الماهيّة {ولا وضع آخر للمركّب منهما} أي: من (اللّام) ومدخوله {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل {وربّما يأتي في} مبحث {المطلق والمقيّد بعض الكلام ممّا يناسب المقام} إن شاء اللّه - تعالى - .

ص: 110

فصل: لا شبهة في أنّ العام المخصّص -بالمتصل أو المنفصل - حجّة في ما بقي،

___________________________________________

[فصل حجيّة العام المخصَّص في الباقي]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، حجيّة العام المخصَّص في الباقي

{فصل} اعلم أنّ العامّ قد يخصّص بدليل متّصل، كأن يقول: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم) وقد يخصّص بدليل منفصل كأن يقول: (أكرم العلماء) ثمّ يقول بعد مدّة: (لا تكرم الفسّاق من العلماء)، إذا عرفت ذلك فنقول: قد اختلف في حجيّة العامّ بالنسبة إلى غير مورد التخصيص أم لا؟

فذهب قوم إلى عدم الحجيّة، فالعلماء غير الفسّاق لا يجب إكرام جميعهم.

والمشهور على الحجيّة.

وبعضهم فصّل بين المخصّص المتصل وبين المنفصل.

وكيف كان، فالحقّ أنّه {لا شبهة في أنّ الع--ام المخصّص - ب-المتصل أو المنفصل - حجّة في ما بقي} لأنّ العام كان ظاهراً في الجميع، فبعد خروج بعض الأفراد لا ينثلم ظهوره في الباقي، ولهذا لو لم يكرم العبد غير مورد التخصيص معتذراً بعدم الظهور لم يقبل منه.

نعم، هنا كلام لا بدّ من التنبيه عليه وهو أنّ الأفراد بعد التخصيص على ثلاثة أقسام:

منها: ما هو مقطوع الخروج.

ومنها: ما هو مقطوع الدخول ولا شبهة فيهما.

ومنها: ما هو مشكوك الدخول والخروج، كأن لم يعلم أنّه فاسق حتّى لا يكرمه أو عادل حتّى يكرمه، وفي هذا القسم انعقاد تفصيل، وهو أنّ المخصّص لو كان متصلاً لم يكن العام حجّة في هذا المشكوك لعدم ظهور للعام في جميع الأفراد حتّى يقال: إنّه كان مشمولاً لحكم العام ولم يعلم خروجه فيجب إكرامه، ولو كان منفصلاً كان العام حجّة فيه؛ لأنّ العام شمله قطعاً وخروجهمشكوك.

ص: 111

في ما علم عدم دخوله في المخصّص مطلقاً ولو كان متّصلاً، وما احتمل دخوله فيه أيضاً إذا كان منفصلاً، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل لا ينسب الخلاف إلّا إلى بعض أهل الخلاف(1).

وربّما فصّل بين المخصّص المتصل، فقيل بحجيّته فيه، وبين المنفصل، فقيل بعدم حجيّته.

واحتجّ النّافي بالإجمال؛ لتعدّد المجازات حسب مراتب الخصوصيّات، وتعيّنُ الباقي من بينها بلا معيّن، ترجيحٌ بلا مرجّح.

___________________________________________

وإلى هذا التفصيل أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: إنّ العام حجّة في ما بقي {في ما علم عدم دخوله في المخصّص مطلقاً} وبين الإطلاق بقوله: {ولو كان} المخصّص {متصلاً، و} كذا العام حجّة في ما بقي {ما احتمل دخوله فيه} أي: في المخصّص {أيضاً إذا كان} المخصّص {منفصلاً} وأمّا المشكوك الدخول فيهما كان المخصّص متّصلاً فليس العام حجّة فيه {كما} سبق، وهذا الّذي ذكرنا من حجيّة العام في الباقي {هو المشهور بين الأصحاب، بل لا ينسب الخلاف إلّا إلى بعض أهل الخلاف} من العامّة.

{وربّما فصّل بين المخصّص المتصل فقيل بحجيّته} أي: العام المخصّص {فيه} أي: في الباقي {وبين المنفصل فقيل بعدم حجيّته} فيه.{واحتجّ النّافي} للحجيّة مطلقاً {بالإجمال} للعام بعد التخصيص {لتعدّد المجازات حسب مراتب الخصوصيّات} فلو قال: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق) لم يعلم أنّ المراد بالعلماء جميع العدول أو بعضهم؛ لأنّ العلماء لمّا صار مجازاً بسبب عدم إرادة ظهوره الأوّلي في العموم ولم تكن قرينة معيّنة للمجاز وكان المجاز كثيراً لم يمكن الأخذ بالباقي {و} ذلك لأنّ {تعيّن الباقي من بينها} أي: بين المجازات {بلا معيّن} يدلّ عليه {ترجيح بلا مرجّح} وهذا كما لو كان للفظ

ص: 112


1- الإحكام في أصول الأحكام 2: 227؛ أصول الجصّاص 1: 131.

والتحقيق في الجواب أن يقال: إنّه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازاً:

أمّا في التخصيص بالمتصل: فلما عرفت من أنّه لا تخصيص أصلاً، وأنّ أدوات العموم قد استعملت فيه، وإن كان دائرته - سعةً وضيقاً - تختلف باختلاف ذوي الأدوات، فلفظة (كلّ) في مثل: (كلّ رجل) و(كلّ رجل عالم) قد استعملت في العموم، وإن كان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر، - بل في نفسها - في غاية القلّة.

___________________________________________

(الأسد) مجازات كثيرة: الرّجل الشّجاع، والهرّة الهاجمة، والرجل الأبخر، والشّخص المشعر، وغيرها، ثمّ قامت قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي الّذي هو الحيوان المفترس كان القول بإرادة بعض المجازات دون بعض بلا مرجّح، فلا يصار إليه إلّا بالقرينة.

{والتحقيق في الجواب أن يقال} ببقاء الظهور العرفي في الباقي وهو المعيّن لهذا الفرد من المجازات المحتملة. هذا على تقدير القول بالمجازيّة وإلّا فنقول: {إنّه لا يلزم منالتخصيص كون العام مجازاً}.

{أمّا في التخصيص بالمتّصل فلما عرفت من أنّه لا تخصيص أصلاً وأنّ أدوات العموم قد استعملت فيه} أي: في العموم، لما قلنا من أنّ العموم بحسب المراد، لا بحسب ما يصلح انطباق اللّفظ عليه {وإن كان دائرته سِعَةً وضيقاً، تختلف باختلاف ذوي الأدوات} أي: المدخولات لأدوات العموم {فلفظة (كلّ) في مثل: (كلّ رجل)} الموسّع {و(كلّ رجل عالم)} المضيّق {قد استعملت في العموم} وأُريد بها جميع الأفراد المرادة {وإن كان أفراد أحدهما} أعني: المقيّد بالعلم {بالإضافة إلى الآخر} أعني: غير المقيّد {بل في نفسها في غاية القلّة} كما لو كان أفراد العلماء ثلاثة.

وبهذا تبيّن أنّ استعمال العام في المقيّد ليس مجازاً حتّى يقال بأنّ المجازات كثيرة ولا معيّن لبعضها فيصير اللفظ مجملاً فلا يكون حجّة في الباقي.

ص: 113

وأمّا في المنفصل: فلأنّ إرادة الخصوص واقعاً لا تستلزم استعمالَه فيه، وكونَ الخاصّ قرينةً عليه، بل من الممكن - قطعاً - استعمالُه معه في العموم قاعدةً، وكونُ الخاصّ مانعاً عن حجيّة ظهوره،

___________________________________________

{وأمّا في المنفصل فلأنّ} ذكر العام وإرادة الخاص يتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن يستعمل العام في الخاص ابتداءً مجازاً، كأن يستعمل (العلماء) في (أكرم العلماء) في العدول منهم، ثمّ ينصب قرينة على هذا الاستعمال المجازي، كما يستعمل (الأسد) في الرّجل الشّجاع ابتداءً، ويراد به ذلك، ثمّينصب قرينة - نحو (يرمي) - على المجازيّة.

الثّاني: - أن يستعمل العام في العموم - أعني: معناه الحقيقي الموضوع له - ولكن يكون المراد الجدّي للمولى خاصّاً.

بيان ذلك: أنّه قد يكون للمولى حين الاستعمال إرادة جديّة وإرادة استعماليّة، فيريد بالإرادة الاستعماليّة تمام الموضوع له ويريد بالإرادة الجديّة بعضه، والميزان في الإطاعة والمعصية هي الإرادة الجديّة وفي الحقيقة والمجاز هي الإرادة الاستعماليّة، وإنّما تختلف الإرادتان؛ لأنّه يريد استعمال اللفظ في تمام معناه ضرباً للقاعدة حتّى يرجع إليه في مقام الشّكّ ويريد البعض جدّاً لقيام المصلحة به.

إذا عرفت ما ذكرنا قلنا: إنّ العام المراد به الخاصّ يكون مجازاً على التصوير الأوّل، وأمّا على التصوير الثّاني فلا، لما تقدّم من أنّ {إرادة الخصوص واقعاً} بالإرادة الجديّة {لا تستلزم استعماله} أي: العام {فيه} أي: في الخصوص {وكون الخاصّ قرينة عليه} حتّى يكون الاستعمال مجازاً {بل من الممكن قطعاً استعماله} أي: العام الكائن {معه} أي: مع المخصّص المنفصل {في العموم قاعدة} بأن يعلّق الحكم على جميع أفراد الموضوع ظاهراً بالإرادة الاستعماليّة.

{وكون الخاصّ مانعاً عن حجيّة ظهوره} في تعلّق الإرادة الجديّة بالعموم فيرفع

ص: 114

تحكيماً للنصّ - أو الأظهر - على الظاهر، لا مصادماً لأصل ظهوره، ومعه لا مجال للمصير إلى أنّه قد استعمل فيه مجازاً، كي يلزم الإجمال.

لا يقال: هذا مجرّد احتمال ولا يرتفع به الإجمال؛ لاحتمال الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه.فإنّه يقال: مجرّد احتمال استعماله فيه لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره في العموم، والثّابتُ من مزاحمته بالخاصّ إنّما هو بحسب الحجيّة، تحكيماً لما هو الأقوى، كما أشرنا إليه آنفاً.

___________________________________________

اليد عن هذا الظاهر {تحكيماً للنصّ أو الأظهر} الّذي هو الخاص {على الظاهر} الّذي هو العام، و{لا} يكون الخاص حينئذٍ {مصادماً لأصل ظهوره} أي: ظهور العام حتّى لا يكون العام ظاهراً في الجميع الموجب لمجازيّة العام، فيرد إشكال الخصم وأنّ العام بعد المجازيّة مردّد بين مراتب الباقي ولا معيّن لبعضها فيصير مجملاً {ومعه} أي: مع هذا الاحتمال الثّاني - وهو أن يستعمل العام في الموضوع له بالإرادة الاستعماليّة الموجب لكون اللفظ حقيقة - {لا مجال للمصير إلى أنّه قد استعمل فيه مجازاً كي يلزم الإجمال} الموجب لعدم حجيّة العام في الباقي.

{لا يقال: هذا} الّذي ذكرتم من استعمال العام في العموم {مجرّد احتمال ولا يرتفع به الإجمال، لاحتمال الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه} فيكون مجازاً ومجملاً لا يمكن التمسّك به في الباقي.

{فإنّه يقال: مجرّد احتمال استعماله} أي: العام {فيه} أي: في الخاص {لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره في العموم} بحسب الإرادة الاستعماليّة.

{و} إن قلت: يلزم رفع اليد عن هذا الظهور لمزاحمة الخاصّ له.

قلت: {الثّابت من مزاحمته بالخاص} ليس بحسب الظهور والاستعمال، بل {إنّما هو بحسب الحجيّة تحكيماًلما هو الأقوى، كما أشرنا إليه آنفاً} من أنّ الخاصّ

ص: 115

وبالجملة: الفرق بين المتصل والمنفصل - وإن كان بعدم انعقاد الظهور في الأوّل إلّا في الخصوص، وفي الثّاني إلّا في العموم - إلّا أنّه لا وجه لتوهّم استعماله مجازاً في واحد منهما أصلاً، وإنّما اللّازم الالتزام بحجيّة الظهور في الخصوص في الأوّل، وعدم حجيّة ظهوره في خصوص ما كان الخاصّ حجّة فيه في الثّاني، فتفطّن.

___________________________________________

قرينة لعدم الإرادة الجديّة بالنسبة إلى العموم لا لعدم الإرادة الاستعماليّة.

وإن قلت: ما ذكرتم إنّما يصحّ في المخصّص المنفصل حيث ينعقد الظهور للعام في العموم، وأمّا المخصّص المتصل فلا يستقيم ذلك فيه، إذ قد تقدّم عدم انعقاد ظهور للعام في العموم.

قلت: لا ربط للمتصل والمنفصل في المجازيّة.

{وبالجملة الفرق بين} المخصّص {المتصل والمنفصل - وإن كان بعدم انعقاد الظهور في الأوّل إلّا في الخصوص} حتّى لو قال: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق) كان معناه وجوب إكرام العالم غير الفاسق، فلا يمكن التمسّك بالعام في الفرد المشكوك لعدم انعقاد ظهور للعام في العموم {وفي الثّاني إلّا في العموم -} فيصحّ التمسّك بالعام في الفرد المشكوك {إلّا أنّه لا وجه لتوهّم استعماله مجازاً في واحد منهما أصلاً} حتّى يلزم الإجمال المدّعى.

{وإنّما اللّازم} هو {الالتزام بحجيّة الظهور في الخصوص في الأوّل} الّذي هو عبارة عن المخصّص بالمتصل{وعدم حجيّة ظهوره في خصوص ما كان الخاصّ حجّة فيه} بل يكون حجّة في المتيقّن من أفراد العام والمشكوك. مثلاً لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم الفسّاق) فإنّ عدم حجيّة ظهور العام إنّما يكون بالنسبة إلى خصوص الفسّاق المقطوع دخولهم في (لا تكرم الفسّاق) وأمّا العدول والمشكوك عدالتهم وفسقهم، فالعام حجّة فيهم {في الثّاني} الّذي هو عبارة عن المخصّص بالمنفصل {فتفطّن} ذلك.

ص: 116

وقد أُجيب(1)

عن الاحتجاج: بأنّ الباقي أقرب المجازات.

وفيه: أنّه لا اعتبار بالأقربيّة بحسب المقدار، وإنّما المدار على الأقربيّة بحسب زيادة الأُنس النّاشئة من كثرة الاستعمال.

وفي تقريرات بحث شيخنا الأُستاذ(قدس سره) - في مقام الجواب عن الاحتجاج - ما هذا لفظه: «والأولى أن يجاب

___________________________________________

{وقد أُجيب عن الاحتجاج} المتقدّم لإجمال العامّ بعد التخصيص {بأنّ الباقي أقرب المجازات} وأقرب المجازات أولى بالإرادة حين تعذّر إرادة الحقيقة.

أمّا كونه أقرب المجازات فلوضوح أنّ التسعمائة مثلاً أقرب إلى الألف الّذي هو الحقيقة من ثمانمائة وسبعمائة ونحوهما، مع أنّ الكلّ مجازات.

وأمّا أنّ الأقرب أولى بالإرادة؛ فلأنّ الأقرب أقرب إلى المعنى الحقيقي في الذهن، فكما أنّ (الأسد) إذا كان مجازاً انصرف الذهن إلى الشّجاع لا المشعر والأبخر لقربه دونهما، كذلك في ما نحن فيه.{وفيه أنّه لا اعتبار بالأقربيّة بحسب المقدار} ومراد القوم حيث يقولون: «بأنّ أقرب المجازات أولى بالإرادة» ليس هذا النّحو من الأقربيّة {وإنّما المدار على الأقربيّة بحسب زيادة الأُنس} بين المعنى الحقيقي وبين المعنى المجازي {النّاشئة من كثرة الاستعمال} وهنا ليس كذلك، إذ لا أُنس للذهن بواحد من المجازات فكلّها سواء من هذه الجهة. هذا ولكن الإنصاف أنّه على فرض القول بالمجازيّة لا محيص عن القول بما قالوا، فتدبّر.

{وفي تقريرات بحث شيخنا الأُستاذ} الأنصاري {(قدس سره) في مقام الجواب عن الاحتجاج ما هذا لفظه: «والأولى أن يجاب} عن استدلال من نفى حجيّة العام بعد التخصيص في تمام الباقي، بل قال بإجمال اللفظ بعد التخصيص

ص: 117


1- قوانين الأصول 1: 266؛ الفصول الغرويّة: 200.

- بعد تسليم مجازيّة الباقي - بأنّ دلالة العام على كلّ فرد من أفراده غيرُ منوطة بدلالته على فردٍ آخر من أفراده، ولو كانت دلالة مجازيّة؛ إذ هي بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة، لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله،

___________________________________________

{- بعد تسليم مجازيّة} العام في {الباقي - بأنّ} المجاز على قسمين:

الأوّل: أن يكون المعنى المجازي مبايناً للمعنى الحقيقي، كالرّجل الشّجاع المباين للحيوان المفترس، والمجازيّة في هذا القسم تكون من جهتين: دخول الأجنبي، وخروج الموضوع له.الثّاني: أن يكون بين المعنى المجازي والحقيقي الأقلّ والأكثر، وتكون المجازيّة باعتبار خروج بعض الأفراد عن الموضوع له، كما في ما نحن فيه، إذ مجازيّة لفظ العام إنّما هو بسبب خروج بعض الأفراد لا بسبب دخول الأجنبي، وحينئذٍ فنقول: إنّ {دلالة العامّ على كلّ فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده} بل الدلالة منحلّة إلى دلالات ضمنيّة متعدّدة بتعدّد الأفراد، فالعام الّذي له أفراد عشرة - مثلاً - تنحلّ دلالته إلى عشرة دلالات ضمنيّة، فكلّ فرد قد استعمل فيه العام ضمناً.

هذا في ما كان العام حقيقة {و} هكذا {لو كانت دلالة مجازيّة} على بعض الأفراد، وذلك حيث كان العام مخصّصاً، وإنّما قلنا ببقاء الدلالة الضّمنيّة بعد التخصيص والمجازيّة {إذ هي} أي: المجازيّة لا تضرّ بهذه الدلالة، وذلك لأنّها {بواسطة عدم شموله} أي: العام {للأفراد المخصوصة} الخارجة بالتخصيص {لا بواسطة دخول غيرها} أي: غير تلك الأفراد {في مدلوله} حتّى يكون من قبيل استعمال (الأسد) في الرّجل الشّجاع المقتضي لانهدام الدلالة السّابقة برمّتها، فالمجازيّة في ما نحن فيه إنّما صارت سبباً لعدم بعض الدلالات الضّمنيّة من غير مدخليّة لها نفياً أو إثباتاً بالنسبة إلى الدلالات الضّمنيّة الأُخر

ص: 118

فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود؛ لأنّ المانع في مثل المقام إنّما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي؛ لاختصاص المخصّص بغيره، فلو شكّفالأصل عدمه»(1)،

انتهى موضع الحاجة.

قلت: لا يخفى أنّ دلالته على كلّ فرد إنّما كانت لأجل دلالته على العموم والشّمول، فإذا لم يستعمل فيه واستعمل في الخصوص - كما هو المفروض - مجازاً، وكان إرادة كلّ واحد من مراتب الخصوصيّات - ممّا جاز انتهاءُ التخصيص إليه، واستعمالُ العام فيه مجازاً -

___________________________________________

{فالمقتضي للحمل على الباقي} كالعدول في مثال (أكرم العلماء إلّا الفسّاق) {موجود} وهو الدلالة الضّمنيّة الّتي كانت قبل التخصيص {والمانع مفقود} بيان فقدان المانع {لأنّ المانع في مثل المقام} الّذي هو مقام الدلالة اللفظيّة {إنّما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفاؤه} أي: انتفاء الصّارف {بالنسبة إلى} الأفراد {الباقي} وهم العدول في المثال {لاختصاص المخصّص بغيره، ف-} يكون للعام دلالة على تمام الباقي، و{لو شكّ} في وجود المانع بأن لم يعلم أنّ التخصيص صار سبباً لانهدام الدلالة في الباقي أم لا {فالأصل عدمه»} وبهذا كلّه تبيّن عدم إجمال العام بعد التخصيص {انتهى موضع الحاجة} من كلامه، زيد في علوّ مقامه.

{قلت}: إنّ ما ادّعاه الشّيخ(رحمة الله) من وجود المقتضي للحمل على تمام الباقي ممنوع، وذلك لما {لا يخفى} من {أنّ دلالته} أي: دلالة العام قبل التخصيص {على كلّ فرد إنّما كانت لأجل دلالتهعلى العموم والشّمول} فالدلالات الضّمنيّة مستندة إلى الدلالة على العموم {فإذا لم يستعمل} العام {فيه} أي: في العموم {واستعمل في الخصوص - كما هو المفروض - مجازاً، وكان إرادة كلّ واحد من مراتب الخصوصيّات ممّا جاز انتهاء التخصيص إليه} بأن لم يكن مستهجناً {واستعمال العام فيه مجازاً}

ص: 119


1- مطارح الأنظار 2: 132.

ممكناً، كان تعيين بعضها بلا معيّن ترجيحاً بلا مرجّح، ولا مقتضى لظهوره فيه؛ ضرورة أنّ الظهور إمّا بالوضع، وإمّا بالقرينة، والمفروض أنّه ليس بموضوع له، ولم يكن هناك قرينة، وليس له موجب آخر.

ودلالته على كلّ فردٍ على حدة - حيث كانت في ضمن دلالته على العموم - لا توجب ظهوره في تمام الباقي بعد عدم استعماله في العموم، إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه. فالمانع عنه وإن كان مدفوعاً بالأصل، إلّا أنّه لا مقتضي له بعد رفع اليد عن الوضع.

___________________________________________

عطف على «انتهاء التخصيص» {ممكناً} خبر «وكان إرادة» {كان تعيين بعضها} أي: بعض مراتب الخصوصيّات {بلا معيّن} حال {ترجيحاً بلا مرجّح} إذ مستند الدلالات الضّمنيّة هو دلالة العام على الكلّ، فإذا سقط هذه الدلالة سقطت الدلالات الضّمنيّة.

{و} على هذا ف- {لا مقتضى لظهوره} أي: العام المخصّص {فيه} أي: في بعض مراتب الخصوصيّات {ضرورة أنّ الظهور إمّا بالوضع وإمّا بالقرينة} العامّة أو الخاصّة {والمفروض أنّه} أي: تمام الباقي {ليس بموضوع لهولم يكن هناك} بعد التخصيص {قرينة} لا عامّة، لعدم مقدّمات الحكمة فتدبّر، ولا خاصّة، لفرض مكان عدم القرينة {وليس له} أي: للظهور في تمام الباقي {موجب آخر}.

{و} الحاصل: أنّ {دلالته على كلّ فرد على حدة} بالدلالة الضّمنيّة {حيث كانت في ضمن دلالته على العموم لا توجب ظهوره} أي: العام {في تمام الباقي بعد عدم استعماله في العموم، إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه} من بين المجازات {فالمانع عنه} أي: عن الظهور في تمام الباقي {وإن كان مدفوعاً} قطعاً، أو {بالأصل} كما ذكره الشّيخ(رحمة الله) {إلّا أنّه لا مُقْتَضِيَ له بعد رفع اليد عن الوضع}.

ص: 120

نعم، إنّما يجدي إذا لم يكن مستعملاً إلّا في العموم، كما في ما حقّقناه في الجواب، فتأمّل جيّداً.

فصل:

___________________________________________

{نعم} عدم المانع {إنّما يجدي} في الظهور في تمام الباقي {إذا لم يكن} العام المخصّص {مستعملاً إلّا في العموم} حتّى يكون الدلالة على الخاصّ بنحو تعدّد الدالّ والمدلول {كما} تقدّم {في ما حقّقناه في الجواب، فتأمّل جيّداً} وقد عرفت في طيّ هذا الفصل عدم مجازيّة العام المخصّص، فلا يحتاج إلى عقد فصل في تحقيق أنّه مجاز أو حقيقة على ما هو دأب القوم، واللّه العالم.

[فصل هل يسري إجمال الخاص إلى العام؟]

اشارة

المقصد الرّابع: في العام والخاص، هل يسري إجمال الخاص إلى العام؟

{فصل} في بيان أنّ إجمال المخصّص هل يسري إلى العام أم لا؟ اعلم أنّ المخصّص على قسمين:

الأوّل: أن يكون مبيّن المفهوم والمصداق، كأن يقول: (لا تكرم أحداً إلّا العدول) مع معلوميّة مفهوم العدل بأنّه الّذي يجتنب الكبائر عن ملكة، ومصداقه بأن نعلم أنّ (العادل زيد، وعمرو، وبكر).

الثّاني: أن يكون مجملاً، وهو على ثمانية أقسام: لأنّ الإجمال إمّا في المفهوم وإمّا في المصداق، وعلى كلا التقديرين فأمر المخصّص دائر إمّا بين الأقلّ والأكثر وإمّا بين المتباينين، وعلى كلّ تقدير فالمخصّص إما متّصل وإمّا منفصل.

فالأوّل والثّاني: أن يكون الإجمال في المفهوم مع دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، مثل أن يتردّد أمر العدالة بين أن يكون مطلق الاجتناب عن المعصية أو الاجتناب عن ملكة، بمعنى أنّ الاجتناب عن ملكة يقيناً داخل في مفهوم العدالة وإنّما الشّكّ في الاجتناب لا عن ملكة.

ص: 121

إذا كان الخاصّ بحسب المفهوم مجملاً - بأن كان دائراً بين الأقلّ والأكثر وكان منفصلاً - فلا يسري إجماله إلى العام، لا حقيقة ولا حكماً،

___________________________________________

والثّالث والرّابع: أن يكون الإجمال في المفهوم مع دوران الأمرين المتباينين، كما لو تردّد العدالة بين الملكة أو حسن الظاهر، فتدبّر.

والخامس والسّادس: أن يكون الإجمال في المصداق مع دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، كأن نعلم بعدالة زيد وعمرو وبكر، ونشكّ في غيرهم، لا لأجل الشّكّ في مفهوم العدالة، بل لأجل عدم الاطّلاع على حالهم.والسّابع والثّامن: أن يكون الإجمال في المصداق مع دوران الأمر بين المتباينين، كأن لا نعلم أنّ زيداً عادل أو عمرواً مع العلم بعدالة أحدهما. وفي كلّ هذه الصّور المجملة إمّا أن يكون المخصّص متصلاً، كأن يقول: (لا تصلّ خلف أحد إلّا العدول) أو منفصلاً كأن يقول: (لا تصلّ خلف أحد) ثمّ يقول: (صلّ خلف العدول) ولهذا ذكرنا الأقسام مثنى مثنى.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه لا شبهة في عدم العمل بالعام في الأفراد المتيقّن خروجها، وكذا لا شبهة في العمل بالعام في الأفراد المتيقّن بقاؤها، وإنّما الكلام في الأفراد المشكوكة ولبيان حكمها انعقد هذا الفصل.

وحاصله: أنّه لو كان الخاصّ مجملاً بأحد الأنحاء الثّمانية فهل يسري إجماله إلى العامّ حتّى يكون العام مجملاً أيضاً فلا يمكن التمسّك به في الأفراد المشكوكة، أم لا يسري الإجمال إلى العام فيتمسّك به في تلك الأفراد وتكون محكومة بحكم العام؟

إذا تبيّن ما ذكر فاعلم أنّه {إذا كان الخاصّ بحسب المفهوم مجملاً - بأن كان دائراً بين الأقلّ والأكثر وكان منفصلاً} وهو الثّاني من الأقسام الثّمانية - {فلا يسري إجماله إلى العام لا حقيقة} بأن يرتفع ظهوره {ولا حكماً} بأن يبقى ظهوره، ولكن

ص: 122

بل كان العام متّبعاً في ما لا يتبع فيه الخاصّ؛ لوضوح أنّه حجّة فيه بلا مزاحم أصلاً؛ ضرورةَ أنّ الخاصّ إنّما يزاحمه في ما هو حجّة على خلافه، تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر، لا في ما لا يكون كذلك، كما لا يخفى.

وإن لم يكن كذلك - بأن كان دائراً بين المتباينين مطلقاً، أو بين الأقلّ والأكثر في ما كان متصلاً - فيسرى إجماله إليهحكماً في المنفصل المردّد بين المتباينين،

___________________________________________

ترتفع حجيّته {بل كان العام متّبعاً في ما لا يتبع فيه الخاص} فلو قال: (صلّ خلف العادل) بعد قوله: (لا تصلّ خلف أحد) ثمّ شكّ في من يجتنب المعاصي لا عن ملكة، فإنّه لا تصحّ الصّلاة خلفه وكان محكوماً بحكم العام {لوضوح أنّه} أي: العام {حجّة فيه} أي: في ما لا يتبع فيه الخاصّ {بلا مزاحم أصلاً، ضرورة أنّ الخاصّ إنّما يزاحمه} أي: العام {في ما هو حجّة على خلافه} أي: في ما كان الخاصّ حجّة على خلاف العام {تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر} والترديد: إمّا لأجل اختلاف الخاصّ فقد يكون نصّاً وقد يكون أظهر، وإمّا لأجل الاختلاف في الخاصّ مطلقاً بأنّه هل يكون أظهر من العام أو نصّاً بالنسبة إليه؟ و{لا} يزاحم الخاصّ للعام {في ما لا يكون كذلك} أي: في الأفراد الّتي لا يكون الخاصّ حجّة فيها، كالأفراد المشكوكة، كما نحن فيه {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{وإن لم يكن كذلك -} أي: ممّا دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر مع انفصال المخصّص {بأن كان} الخاصّ مجملاً بحسب المفهوم {دائراً بين المتباينين مطلقاً} سواء كان المخصّص متّصلاً أم منفصلاً {أو} كان أمر الخاصّ المجمل دائراً {بين الأقلّ والأكثر في ما كان} المخصّص {متّصلاً} وهذه هي الثّلاثة الباقية في إجمال المفهوم من الأقسام الثّمانية - {فيسري إجماله} أي: إجمال المخصّص {إليه} أي: إلى العام {حكماً في المنفصل المردّد بين المتباينين} لا حقيقة.مثلاً: لو قال: (لا تصلّ خلف أحد) ثمّ قال: (صلّ خلف العادل) وتردّد العادل

ص: 123

وحقيقةً في غيره:

أمّا الأوّل: فلأنّ العام - على ما حقّقناه - كان ظاهراً في عمومه، إلّا أنّه لا يتبع ظهورُه في واحد من المتباينين اللّذين علم تخصيصه بأحدهما.

وأمّا الثّاني: فلعدم انعقاد ظهور من رأس للعام؛ لاحتفاف الكلام

___________________________________________

بين أن يكون صاحب الملكة وبين أن يكون حسن الظاهر، فإنّ ظهور العام في العموم منعقد ولا ينثلم بإجمال المخصّص ظهوره، وإنّما ينثلم به حجيّته فلا يمكن التمسّك به في الفرد المشكوك {و} يسري إجمال المخصّص إلى العام {حقيقة} بحيث ينثلم ظهوره {في غيره} أي: غير المنفصل المردّد بين المتباينين، وهو عبارة عن المتّصل المردّد بين المتباينين، كما لو قال في المثال السّابق: (لا تصلّ خلف أحد إلّا العدول)، والمتّصل المردّد بين الأقلّ والأكثر، كما لو قال كذلك، إلّا أنّ أمر العدالة تردّد بين الاجتناب مطلقاً وبين الاجتناب عن ملكة.

{أمّا الأوّل} وهو ما ذكره بقوله: «فيسري إجماله إليه حكماً في المنفصل المردّد بين المتباينين» {فلأنّ العام على ما حقّقناه كان ظاهراً في عمومه} إذ تقدّم أنّ الإرادة الاستعماليّة تقتضي استعمال العام في الموضوع له الحقيقي وإن كانت الإرادة الجديّة على خلاف ذلك {إلّا أنّه} أي: العام مجمل حكماً بالنسبة إلى مشكوك العدالة، و{لا يتبع ظهوره في واحد من المتباينين اللّذين علم تخصيصه بأحدهما}فلا يعمل بظاهر العام في مسألة الاقتداء بمن حسن ظاهره بلا ملكة، أو كانت له الملكة بلا حسن الظاهر؛ لأنّا نعلم بخروج أحد الطائفتين عن العام ولا نعلم أنّه أيّهما، والفرض أنّه لا مرجّح في البين، فاللّازم العمل بالأصول بعد اليأس عن الأدلّة الاجتهاديّة.

{وأمّا الثّاني} وهو ما ذكره بقوله: «وحقيقة في غيره» أي: ما كان المخصّص متّصلاً {فلعدم انعقاد ظهور من رأس للعام لاحتفاف الكلام} وهو العام

ص: 124

بما يوجب احتماله لكلّ واحد من الأقلّ والأكثر، أو لكلّ واحد من المتباينين، لكنّه حجّة في الأقلّ؛ لأنّه المتيقّن في البين.

فانقدح بذلك: الفرق بين المتصل والمنفصل، وكذا في المجمل بين المتباينين، والأكثر والأقل،

___________________________________________

{بما يوجب احتماله لكلّ واحد من الأقلّ والأكثر}في ما كان أمر المخصّص دائراً بين الأقلّ والأكثر {أو لكلّ واحد من المتباينين} في ما كان أمره دائراً بينهما {لكنّه} أي: الخاص {حجّة في الأقل} في ما كان مردّداً بين الأقلّ والأكثر {لأنّه المتيقّن في البين} فإنّا نعلم أنّ الاجتناب عن ملكة خارج من العام - أعني: (لا تصلّ خلف أحد) - وإنّما الشّكّ في الأكثر - أعني: مطلق الاجتناب ولولا عن ملكة - .

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه من المعنى مؤيّد بأمرين:

الأوّل: ظهور الأقلّ في معناه الاصطلاحي لا الأقلّ المقطوع بقائه في العام.

الثّاني: اختصاص قوله: «لكنّه حجّة في الأقلّ» بالثّاني، مع أنّ حجيّة العام بالنسبةإلى المقطوع بقاؤه يجري في الأوّل وهو ما كان المخصّص مردّداً بين المتباينين.

لكن العلّامة المشكيني(رحمة الله) فسّر العبارة بما لفظه: «الضّمير - أي: في لكنّه - راجع إلى العام المتصل به الخاصّ، والمراد من الأقلّ هي الأفراد المقطوع بعدم دخولها في عنوان المخصّص»(1)،

انتهى.

{فانقدح بذلك} كلّه {الفرق بين} المخصّص {المتصل، و} بين {المنفصل} وأنّ في المتّصل يسري إجمال المخصّص إلى العام حقيقة من غير فرق بين أن يكون متباينين أم الأقلّ والأكثر {وكذا} ظهرالفرق {في المجمل بين المتباينين والأكثر والأقل} وأنّ المتباينين في المنفصل موجب لإجمال العام حكماً دون الأقلّ والأكثر المنفصل.

ص: 125


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 376.

فلا تغفل.

وأمّا إذا كان مجملاً بحسب المصداق - بأن اشتبه فرد، وتردّد بين أن يكون فرداً له أو باقياً تحت العام - فلا كلام في عدم جواز التمسّك بالعام لو كان متّصلاً به؛ ضرورة عدم انعقاد ظهور للكلام إلّا في الخصوص، كما عرفت.

___________________________________________

والحاصل: أنّ الأقسام الأربعة من المخصّص المجمل المفهومي لها حكمان:

الأوّل: ما لا يسري إجماله إلى العام لا حقيقة ولا حكماً، وهو قسم واحد في ما كان المخصّص منفصلاً دائراً بين الأقلّ والأكثر.

الثّاني: ما يسري إجماله إلى العام إمّا حقيقة وهو المتّصل مطلقاً وإمّا حكماً وهو المنفصل المردّد بين المتباينين {فلا تغفل}.

هذا تمام الكلام في أقسام المخصّص المجمل مفهوماً {وأمّا إذاكان} المخصّص {مجملاً بحسب المصداق} مبيّناً بحسب المفهوم {بأن اشتبه فرد وتردّد بين أن يكون فرداً له} أي: للمخصّص {أو باقياً تحت العام فلا كلام في عدم جواز التمسّك بالعام لو كان} المخصّص {متّصلاً به} سواء كان أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر، كما لو قال: (أكرم العلماء إلّا فسّاقهم) وتردّد الفسّاق بين أن يكونوا زيداً وعمرواً، وبين أن يكونوا هما مع أبي بكر، أو المتباينين كما لو تردّد العام الفاسق بين زيد وبين عمرو، فإنّه لا يمكن التمسّك ب- (أكرم العلماء) لإكرام بكر - في المثال الأوّل - ولا التمسّك به لإكرام زيد وعمرو - في المثال الثّاني - {ضرورة عدم انعقاد ظهور للكلام} أي: العام {إلّا في الخصوص، كما عرفت} أعني: العام غير الفاسق، ولم يحرز أنّ بكراً - في الأوّل - وزيداً وعمرواً - في الثّاني - يصدق عليهم هذا العنوان.

ولا يخفى أنّه كما لا يكون العام حجّة في هذا الفرد المشكوك كذلك لا يكون المخصّص حجّة، إذ الفسق أيضاً غير معلوم، فاللّازم الرّجوع في المشكوك إلى

ص: 126

وأمّا إذا كان منفصلاً عنه، ففي جواز التمسّك به خلاف.

والتحقيق: عدم جوازه؛ إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه: أنّ الخاصّ إنّما يزاحم العامّ في ما كان فعلاً حجّة، ولا يكون حجّةً في ما اشتبه أنّه من أفراده، فخطاب (لا تكرم فسّاق العلماء) لا يكون دليلاً على حرمة إكرام من شكّ في فسقه من العلماء، فلا يزاحم مثل: (أكرم العلماء) ولا يعارضه؛ فإنّه يكون من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة.

___________________________________________

القواعد الأُخر.

{وأمّا إذا كان} المخصّص المجمل مصداقاً سواء كان دائراً بين المتباينين أو الأقلّ والأكثر {منفصلاً عنه} كما لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم الفسّاق منهم) {ففي جواز التمسّك به} أي: بالعام في الفرد المشكوك {خلاف} ففي المشهور التمسّك بالعام في ما كان دائراً بين الأقلّ والأكثر {والتحقيق عدم جوازه، إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه} هو {أنّ الخاصّ إنّما يزاحم العام في ما كان} الخاص {فعلاً حجّة} فيه {ولا يكون حجّة في ما اشتبه أنّه من أفراده} فالمقتضي لشمول حكم العام لهذا الفرد موجود، إذ العموم يشمله والمانع مشكوك الوجود، فالأصل عدمه {فخطاب (لا تكرم فسّاق العلماء)} بعد قوله: (أكرم العلماء) {لا يكون دليلاً على حرمة إكرام من شكّ في فسقه من العلماء} بالشبهة المصداقيّة {فلا يزاحم} هذا المخصّص {مثل: (أكرم العلماء) ولا يعارضه} عطف بيان، أو المراد أنّه ليس في كلّ من العام والمخصّص ملاك بالنسبة إلى المشتبه حتّى يقع التزاحم، ولا أنّ في أحدهما ملاكاً لكونه مشتبهاً حتّى يقع التعارض {فإنّه يكون من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة} إذ العام في المشكوك حجّة، والخاصّ غير حجّة، لعدم العلم بانطباق عنوان الفاسق على هذا المشتبه.

ص: 127

وهو في غاية الفساد؛ فإنّ الخاصّ وإن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً، إلّا أنّه يوجب اختصاص حجيّة العام في غيرعنوانه من الأفراد، فيكون (أكرم العلماء) دليلاً وحجّةً في العالم الغير الفاسق. فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقاً للعام بلا كلام، إلّا أنّه لا يعلم أنّه من مصاديقه بما هو حجّة؛ لاختصاص حجيّته بغير الفاسق.

___________________________________________

فتحصّل: أنّ اللّازم إكرام مشكوك الفسق من العلماء، تمسّكاً بالعام في الشّبهة المصداقيّة {وهو في غاية الفساد، فإنّ الخاصّ وإن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً} لأنّه لا يعلم انطباق عنوان المخصّص عليه، إذ لا يعلم أنّ زيداً المشكوك فاسق أم لا {إلّا أنّه} أي: المخصّص {يوجب اختصاص حجيّة العام في غير عنوانه} أي: عنوان المخصّص {من الأفراد، فيكون (أكرم العلماء) دليلاً وحجّة في العالم الغير الفاسق} فإنّه وإن كان منفصلاً عنه في اللفظ لكنّه متّصل به في الحقيقة وحين الإرادة {فالمصداق المشتبه} وهو زيد المشكوك عدالته وفسقه {وإن كان مصداقاً للعام بلا كلام} لانعقاد ظهور العام في العموم {إلّا أنّه لا يعلم أنّه من مصاديقه بما هو حجّة} ومراد حقيقة وواقعاً {لاختصاص حجيّته بغير الفاسق} لأنّه قد خرج الفاسق الواقعي فلا يجب إكرامه، وهذا الفرد حيث يتردّد أمره بين الفسق والعدالة لم يجب إكرامه، إذ نسبة العام والخاص إلى هذا الفرد نسبة واحدة، فالخاصّ ليس حجّة فيه للشكّ في كونه من أفراده، والعام ليس حجّة، للشكّ كذلك، منتهى الأمر: ظهور الطبيعي لأحدهما دون الآخر.

وإن شئت قلت: إنّ العام بعد ورود المخصّص قد انقسم إلى قسمين: قسمواجب الإكرام وهو العادل، وقسم محرّم الإكرام وهو الفاسق. فحيث يتردّد الأمر بينهما لا يمكن التمسّك بأحدهما لإثبات الحكم، بل يلزم الرّجوع إلى دليل آخر.

إن قلت: إنّا نعلم بكونه معنوناً بعنوان العام، ولا نعلم بكونه معنوناً بعنوان الخاص، فاللّازم ترتيب حكم العام عليه.

ص: 128

وبالجملة: العام المخصّص بالمنفصل وإن كان ظهوره في العموم كما إذا لم يكن مخصّصاً - بخلاف المخصّص بالمتّصل، كما عرفت - إلّا أنّه في عدم الحجيّة - إلّا في غير عنوان الخاصّ - مثلُهُ. فحينئذٍ يكون الفرد المشتبه غيرَ معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين، فلا بدّ من الرّجوع إلى ما هو الأصل في البين.

هذا إذا كان المخصّص لفظيّاً.

وأمّا إذا كان لبيّاً:

___________________________________________

قلت: مجرّد العلم بكونه معنوناً بعنوان (العالم) غير مفيد لترتّب حكم العام عليه، إذ العام ليس حجّة في ثبوت حكمه لعنوانه مطلقاً، بل بعد التخصيص إنّما يكون حجّة في ثبوت حكمه للباقي.

{وبالجملة العام المخصّص بالمنفصل وإن كان ظهوره في العموم} منعقداً {كما إذا لم يكن مخصّصاً بخلاف} العام {المخصّص بالمتّصل} حيث لا ظهور له في العموم {كما عرفت، إلّا أنّه} أي: المخصّص بالمنفصل {في عدم الحجيّة إلّا في غير عنوان الخاص} وبعبارة أُخرى في الحجيّة في غير عنوان الخاصّ فقط {مثله} أي: مثل المخصّص بالمتّصل {فحينئذٍ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدىالحجّتين} العام والمخصّص {فلا بدّ من الرّجوع إلى ما هو الأصل في البين} لو لم يكن دليل اجتهاديّ آخر.

ثمّ إنّ الأظهر ما ذهب إليه المشهور من التمسّك بالعام. وكيف كان فهذا الخلاف إنّما هو في ما كان أمر المخصّص دائراً بين الأقلّ والأكثر، وأمّا إذا كان دائراً بين المتباينين فلا مجال للتمسّك بالعام، فلا تغفل.

ثمّ إنّ {هذا} التفصيل في الأقسام الثّمانية المتقدّمة كلّه في ما {إذا كان المخصّص لفظيّاً، وأمّا إذا كان لبيّاً} كما لو كان المخصّص دليلاً عقليّاً، أو إجماعاً، أو ضرورة، أو سيرة، فقد اختلف فيه:

ص: 129

فإن كان ممّا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب، فهو كالمتّصل، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلّا في الخصوص.

وإن لم يكن كذلك، فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيّته كظهوره فيه.

والسّرّ في ذلك: أنّ الكلام الملقى من السّيّد حجّةً، ليس إلّا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم، فلا بدّ من اتّباعه ما لم يقطع بخلافه.

___________________________________________

فذهب بعض إلى التمسّك بالعام في الشّبهة المصداقيّة، واختار المصنّف(رحمة الله) التفصيل بقوله: {فإن كان} المخصّص اللبّي {ممّا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب} بأن كان المخصّص في غاية الوضوح، كما لو اجتمع أعداء للمولى في داره ليقتلوه وكان أبناؤه حاضرين عنده يدافع عنه بعضهم فقال المولى لعبده: (أُقتل كلّ من في الدار) فإنّالعقل يخصّص (الابن) عن هذا الحكم {فهو كالمتّصل حيث لا يكاد ينعقد معه} أي: هذا المخصّص {ظهور للعام إلّا في الخصوص} كخصوص الأعداء في المثال.

وهذا ليس مجملاً في الحقيقة حتّى يقع الكلام في أنّه يتمسّك بالعام فيه أم لا؟ {وإن لم يكن} المخصّص اللبّي {كذلك} أي: ظاهراً بحيث يصحّ أن يتّكل عليه - كما يأتي مثاله - {فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه} في ما كان المخصّص دائراً بين الأقلّ والأكثر {على حجيّته كظهوره} أي: العام {فيه} أي: في ذلك المصداق المشتبه، أي: إنّ العام ظاهر في المشتبه وحجّة {والسّرّ في ذلك} الّذي ذكرنا من التفصيل بين ما كان المخصّص لفظيّاً فلا يتمسّك بالعام في الشّبهة المصداقيّة، وبين ما كان لبيّاً فيتمسّك بالعام {أنّ الكلام الملقى من السّيّد} إلى العبد حال كونه {حجّة ليس إلّا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته} أي: المولى {للعموم} وليس المخصّص في اللفظ، بل هو لبّي، كما فرض {فلا بدّ من اتّباعه ما لم يقطع بخلافه}.

ص: 130

مثلاً، إذا قال المولى: (أكرم جيراني)، وقطع بأنّه لا يريد إكرام من كان عدوّاً له منهم، كان أصالة العموم باقية على الحجيّة بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام، للعلم بعداوته؛ لعدم حجّة أُخرى بدون ذلك على خلافه. بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظيّاً؛ فإنّ قضيّة تقديمه عليه هو كون الملقى إليه كأنّه - من رأس - لا يعمّ الخاص، كما كان كذلك حقيقةً في ما كان الخاصّ متّصلاً.

___________________________________________

{مثلاً: إذا قال المولى (أكرم جيراني) وقطع بأنّه لا يريد إكرام من كان عدوّاً له منهم} من عقل أو إجماع أو نحوهما {كان أصالة العموم باقية على الحجيّة بالنسبة إلى} الأفراد المشكوكة {من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام، للعلم بعداوته} يعني أنّ العلم بالخروج للعلم بالعداوة. وعلّل بقاء المشكوك على الحجّة بقوله: {لعدم حجّة أُخرى بدون ذلك} العلم بالخروج {على خلافه} أي: خلاف العموم، فإنّ المشكوك ليس حجّة يخصّص العام به.

والحاصل: أنّ القطع بالخروج عن العام هو المخصّص ولا قطع في مشكوك العداوة {بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظيّاً، فإنّ قضيّة تقديمه عليه} أي: مقتضى تقديم الخاصّ على العام {هو كون} العام {الملقي إليه كأنّه من رأس} ومن ابتداء الأمر {لا يعمّ الخاصّ} في صورة انفصاله عنه {كما كان} العام {كذلك} لا يعمّ الخاصّ {حقيقة في ما كان الخاصّ متّصلاً}.

وتوضيحه بلفظ السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - : «الفرق بين المخصّص اللفظي واللبّي أنّه في المخصّص اللفظي قد ألقى السّيّد إلى عبده حجّتين: إحداهما العام وثانيتهما: الخاص، وفي المخصّص اللبّي قد ألقى السّيّد إلى عبده حجّة واحدة وهي العام لا غير؛ لأنّ المخصّص اللبّي بعد ما كان علماً لا يكون حجّة ملقاة من السّيّد، بل هي حجّة عند العقل لا غير.

والفرد المشكوك في الأوّل يكون نسبته إلى الحجّتين الملقاتين من السّيّدنسبة

ص: 131

والقطعُ بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجيّته إلّا في ما قطع أنّه عدوّه، لا في ما شكّ فيه، كما يظهر صدق هذا من صحّة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحداً من جيرانه؛ لاحتمال عداوته له، وحسن عقوبته على مخالفته، وعدم صحّة الاعتذار عنه بمجرّد احتمال العداوة، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة، والسّيرة المستمرّة المألوفة بين العقلاء الّتي هي ملاك حجيّة أصالة الظهور.

وبالجملة: كان بناء العقلاء على حجيّتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا، بخلافه هناك؛

___________________________________________

واحدة، فيمتنع الأخذ بإحداهما بعينهما فيه لاحتمال دخوله تحت الأُخرى.

وفي الثّاني: لمّا لم يكن الحجّة من السّيّد إلّا العام كان رفع اليد عنه في المشكوك بلا حجّة على خلافه وهو ممتنع»(1)،

انتهى.

{و} إن قلت: إنّا نقطع بعدم إرادة العدوّ هاهنا، كما كنّا نقطع بعدم إرادته حال كون المخصّص لفظيّاً، فكما لا يعمل بالعام هناك كذلك هاهنا.

قلت: {القطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجيّته إلّا في ما قطع أنّه عدوّه لا في ما شكّ فيه، كما يظهر صدق هذا} الّذي ذكرنا من عدم جواز ترك مشكوك العداوة {من صحّة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحداً من جيرانه} في المثال المتقدّم {لاحتمال عداوته له، وحسن عقوبته علىمخالفته، وعدم صحّة الاعتذار عنه بمجرّد احتمال العداوة، كما لا يخفى} ذلك {على من راجع الطريقة المعروفة والسّيرة المستمرّة المألوفة بين العقلاء الّتي هي ملاك حجيّة أصالة الظهور}.

{وبالجملة كان بناء العقلاء على حجيّتها} أي: حجيّة أصالة الظهور {بالنسبة إلى} الفرد {المشتبه هاهنا} في المخصّص اللبّي {بخلافه هناك} في المخصّص اللفظي.

ص: 132


1- حقائق الأصول 1: 500.

ولعلّه لما أشرنا إليه، من التفاوت بينهما بإلقاء حجّتين هناك، تكون قضيّتهما - بعد تحكيم الخاصّ وتقديمه على العام - كأنّه لم يعمّه حكماً من رأس، وكأنّه لم يكن بعام.

بخلافه هاهنا؛ فإنّ الحجّة الملقاة ليست إلّا واحدة. والقطعُ بعدم إرادة إكرام العدوّ في (أكرم جيراني) - مثلاً - لا يوجب رفعَ اليد عن عمومه إلّا في ما قُطع بخروجه من تحته، فإنّه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه، فلا بدّ من اتّباعه ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه.

بل يمكن

___________________________________________

{ولعلّه لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما} أي: بين المخصّص اللبّي واللفظي {بإلقاء حجّتين هناك} في اللفظي {تكون قضيّتهما بعد تحكيم الخاصّ وتقديمه على العام} بحيث {كأنّه} أي: العام {لم يعمّه} أي: هذا الخاصّ الخارج {حكماً من رأس، وكأنّه لم يكن بعامّ بخلافه هاهنا} أي: في اللبّي{فإنّ الحجّة الملقاة ليست إلّا واحدة} كما تقدّم تقريره {والقطع بعدم إرادة إكرام العدوّ في (أكرم جيراني) مثلاً لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلّا في ما قطع بخروجه من تحته} فمقطوع العداوة لا يكرم، بخلاف مشكوكها فإنّه يكرم كالمقطوع عدم عداوته {فإنّه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه، فلا بدّ من اتّباعه ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه} والمفروض في المقام هكذا؛ لأنّ قوله: (أكرم جيراني) على طبق غرضه، ففي متيقّن العداوة حيث قام دليل أقوى على خلاف العام لم يتمسّك بالعام بالنسبة إليه، بخلاف مشكوك العداوة، فإنّه لم يقم دليل أقوى على خلاف العام بالنسبة إليه.

ثمّ لا يخفى أنّه ثبت إلى هنا أنّ الفرد المشكوك ليس محكوماً بحكم المخصّص {بل يمكن} الترقّي عن ذلك والقول بأنّ المشكوك ليس داخلاً موضوعاً في الخاصّ، فيترتّب على هذا الفرد المشكوك جميع الآثار المترتّبة على

ص: 133

أن يقال: إنّ قضيّة عمومه للمشكوك أنّه ليس فرداً لما علم بخروجه عن حكمه بمفهومه، فيقال - في مثل: «لعن اللّه بني أُميّة قاطبة»(1)

- : «إنّ فلاناً وإن شكّ في إيمانه يجوز لعنه» لمكان العموم، وكلّ من جاز لعنه لا يكون مؤمناً، فينتج: أنّه ليس بمؤمن، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

غير الخاص، فيصحّ {أن يقال: إنّ قضيّة عمومه} أي: العام {للمشكوك أنّه ليس فرداً لما علم بخروجه}أي: للخاصّ المعلوم خروجه {عن حكمه} أي: حكم العام {بمفهومه} فيثبت للفرد المشكوك - مضافاً إلى حكم العام - سائر الأحكام المتوقّفة على عدم فرديّته للخاص.

والحاصل: أنّه لو قلنا بظهور العام حتّى في الفرد المشكوك فهل يُقْضَى على إثبات حكم العام على هذا المشكوك، أو يُثْبَتُ به كلّ أثر مترتّب على غير الفرد الداخل تحت الخاص؟ مثلاً: لو أوجب المولى لعن بني أُميّة قاطبةً، وعلمنا أنّ المؤمن منهم - كالراويين في زمان الصّادقين(علیهما السلام) - خارج عن حكم العام، ثمّ شكّ في فرد ثالث لم يعلم أنّه مؤمن أم لا؟ فالمتيقّن خروجه عن حكم الخاصّ ودخوله في حكم العام - أي: جواز لعنه - وهل يستكشف من جواز اللعن أنّه ليس بمؤمن حتّى يجري عليه سائر أحكام غير المؤمنين ككون الصّلاة عليه بأربع تكبيرات ونحو ذلك أم لا؟ وقد اختار المصنّف(رحمة الله) الأوّل {فيقال في مثل: «لعن اللّه بني أُميّة قاطبة»} أي: جميعاً {«أنّ فلاناً وإن شكّ في إيمانه يجوز لعنه» لمكان العموم} بلا معارض أقوى {وكلّ من جاز لعنه لا يكون مؤمناً، فينتج أنّه ليس بمؤمن} بالبرهان الإنّي، إذ جواز اللعن معلول عدم الإيمان، وحينئذٍ يثبت عليه جميع أحكام غير المؤمنين {فتأمّل جيّداً}.

وبهذا تبيّن أنّ العموم في ما كان المخصّص لبيّاً مبيّن للخاص. والإنصاف أنّ

ص: 134


1- كامل الزيارات: 176.

إيقاظ: لا يخفى أنّ الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل، أو كالاستثناء من المتّصل، لمّا كان غير معنون بعنوان خاصّ، بل بكلّ عنوان لم يكن ذاك بعنوان خاصّ،

___________________________________________

بعد هذا التفصيل الطويل لم يظهر فرق بين المخصّص اللبّي واللفظي، إذ العرف بعد العلم بمنع العداوة عن إكرام الجيران لا يفرّق بين أن يكون سبب العلم مخصّصاً لفظيّاً وبين أن يكون لُبيّاً، واللّه العالم.

[إيقاظ]

{إيقاظ} حاصله أنّ التفصيل الّذي تقدّم بين المخصّص اللفظي واللبّي، وأنّه لا يمكن التمسّك بالعام في الشّبهة المصداقيّة في المخصّص اللفظي بخلاف المخصّص اللبّي، إنّما يكون في ما لا يمكن إحراز عنوان العام أو عنوان المخصّص بالأصول الموضوعيّة وإلّا كان خارجاً عن محلّ الكلام.

مثلاً: لو قال: (أكرم العلماء العدول) ثمّ شكّ في علم زيد أو عدالته فإن كان مسبوقاً بهما تمسّكنا بالعام - وليس هذا من التمسّك بالعام في الشّبهة المصداقيّة - وإن كان مسبوقاً بالجهل أو الفسق كان محكوماً بحكم المخصّص - أعني: عدم الإكرام - أمّا لو لم يكن العلم معنوناً بعنوان فقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى حكمه بقوله: {لا يخفى أنّ الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل} كأن يقول: (أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق) {أو كالاستثناء من} المخصّص {المتّصل} نحو (أكرم العلماء إلّا الفسّاق) وإنّما خصّ الحكم في المتّصل بالاستثناء ونحوه لعدم تعنون العام بهذا النّحو من المخصّصات، بخلاف مثل الشّرط نحو (أكرم العلماء إن كانوا عدولاً) فإنّه موجب لتعنون العام {لمّا كان غير معنون بعنوان خاصّ} كعنوان كونهم عدولاً {بل} العام حينئذٍ معنون {بكلّ عنوان} متّصف بأنّه {لم يكن ذاك بعنوان خاصّ} فالعلماء في (أكرم العلماء إلّا الفسّاق) ليس له عنوان، غير أنّه يلزم أن لا يصدق عليه عنوان الفاسق

ص: 135

كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد - إلّا ما شذّ - ممكناً، فبذلك يحكم عليه بحكم العام، وإن لم يجز التمسّك به بلا كلام، ضرورة أنّه قلّما لم يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقّح به أنّه ممّا بقي تحته.

مثلاً: إذا شكّ أنّ امرأة تكون قرشيّة أو غيرها ، - فهي وإن كانت إذا وجدت

___________________________________________

{كان إحراز} الفرد {المشتبه منه} وإدخاله في حكم العام {بالأصل الموضوعي} الموجب لدخول المشكوك تحت العام {في غالب الموارد إلّا ما شذّ ممكناً} خبر «كان».

والمراد بما شذّ هو الّذي شكّ فيه لتبادل الحالتين، كمن تبادل عليه صفتي الفسق والعدالة {فبذلك} الأصل الموضوعي {يحكم عليه} أي: على الفرد المشتبه {بحكم العام وإن لم يجز التمسّك به} أي: بالأصل لترتيب الآثار، لكونه مثبتاً {بلا كلام} لكنّه ينقّح موضوع العام فتترتّب عليه الآثار.

والحاصل: أنّ الأصل ينفي عنوان الخاص في الفرد المشتبه، وحينئذٍ فيشمله العام ويترتّب عليه حكمه، وليس المراد من نفي الأصل عنوان الخاصّ ترتيب أثر العام حتّى يقال إنّه مثبت.

وإنّما قلنا بغلبة إحراز كون المشتبه داخلاً تحت العام، ل- {ضرورة أنّه قلّما لم يوجد} للخاصّ {عنوان يجري فيه أصل} العدم بحيث {ينقّح به أنّه} أي: الفرد المشتبه {ممّا بقي تحته} أي: تحت العام.

{مثلاً} إذا كان لنا عامّ مضمونه أنّ المرأة إنّما ترى الحمرة إلى الخمسين،وكان هناك مخصّص مضمونه استثناء القرشيّة عن هذا الحكم - لأنّها ترى الحمرة إلى السّتّين - .

ثمّ {إذا شكّ أنّ امرأة تكون قرشيّة} حتّى نحكم على دمها بالحيضيّة بعد الخمسين {أو غيرها} حتّى يحكم بأنّ دمها استحاضة {فهي وإن كانت إذا وجدت}

ص: 136

إمّا قرشيّة أو غير قرشيّة - فلا أصل يحرز به أنّها قرشيّة أو غيرها، إلّا أنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح أنّها ممّن لا تحيض إلّا إلى الخمسين؛ لأنّ المرأة الّتي لا يكون بينها وبين قريش انتساب أيضاً، باقية تحت ما دلّ على: أنّ المرأه إنّما ترى الحمرة إلى الخمسين، والخارج عن تحته هي القرشيّة، فتأمّل تعرف.

وهم وإزاحة: ربّما يظهر عن بعضهم: التمسّك بالعمومات في ما إذا شكّ في فرد لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهة أُخرى،

___________________________________________

تكون {إمّا قرشيّة أو غير قرشيّة} وليست مثل العادل والفاسق الممكن تبادلهما {فلا أصل يحرز به أنّها قرشيّة أو غيرها} لفرض عدم التيقّن بحالتها السّابقة {إلّا أنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح أنّها ممّن لا تحيض إلّا إلى خمسين} سنة، إذ حين وجودها نشكّ في أنّه هل تحقّق الانتساب إلى قريش أم لا فالأصل عدمه.

وإنّما تجدي هذه الأصالة {لأنّ المرأة الّتي لا يكون بينها وبين قريش انتساب أيضاً} كالمرأة المقطوعبعدم انتسابها {باقية تحت} حكم العام، وهو {ما دلّ على أنّ المرأة إنّما ترى الحمرة إلى الخمسين، و} حينئذٍ يكون {الخارج عن تحته هي القرشيّة} المعلوم انتسابها إلى قريش {فتأمّل تعرف} ذلك، وأنّه يمكن التمسّك بالعام في بعض موارد الشّبهة في المصداق.

وقد طوينا الكلام روماً لما قصدناه من شرح لفظ الكتاب، واللّه الهادي إلى الصّواب.

[وهم وإزاحة]

{وهم وإزاحة} أمّا الوهم فقد أشار إليه بقوله: {ربّما يظهر عن بعضهم التمسّك بالعمومات في ما إذا شكّ في فرد لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهة أُخرى} وتوضيح ذلك أنّ التمسّك بالعام في المورد المشكوك على نحوين:

ص: 137

كما إذا شكّ في صحّة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فيستكشف صحته بعموم مثل: (أوفوا بالنذور) في ما إذا وقع متعلّقاً للنذر، بأن يقال: وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر؛ للعموم، وكلّما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً؛ للقطع بأنّه لولا صحّته لما وجب الوفاء به.

وربّما يؤيّد ذلك

___________________________________________

الأوّل: أن يكون الشّكّ من جهة احتمال التخصيص، كأن يشكّ في شمول (أوفوا بالنذور) - مثلاً - للنذر مع نهي الوالد، ومن المعلوم أنّ حال هذا القسم من الشّكّ حال ما تقدّم طابق النّعل بالنّعل.

الثّاني: أن يكون الشّكّ لا من جهة احتمال التخصيص {كما} لو شكّ في صحّة الوضوء، أو الغسل بالماء المضاف، فهل يمكن رفع هذا الشّكّ والحكمبالصحّة بعموم دليل مثبت للحكم بعنوان ثانوي كدليل النّذر أو الشّرط أم لا؟

ذهب بعض إلى جواز التمسّك، قالوا: {إذا شكّ في صحّة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف فيستكشف صحّته بعموم} ثانوي {مثل: (أوفوا بالنذور)} و(أطع والديك) و(المؤمنون عند شروطهم)، وأمثال ذلك {في ما إذا وقع} هذا المشكوك {متعلّقاً للنذر} وإطاعة الوالدين ونحوهما.

وتقريب الاستكشاف {بأن يقال: وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر للعموم} متعلّق ب- «وجب» {وكلّما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً - للقطع بأنّه لولا صحّته لما وجب الوفاء به -} وصوره القياس: الإتيان بهذا الوضوء واجب، وكلّما كان الإتيان به واجباً كان صحيحاً، فالإتيان بهذا الوضوء كان صحيحاً.

أمّا الصّغرى فلعموم وجوب الوفاء بالنذر، وأمّا الكبرى فللتلازم بين وجوب الوفاء والصّحّة.

{وربّما يؤيّد ذلك} الّذي ذكر من استكشاف الصّحّة بواسطة عموم ثانوي وقوع

ص: 138

بما ورد من صحّة الإحرام والصّيام قبل الميقات وفي السّفر، إذا تعلّق بهما النّذر كذلك.

والتحقيق أن يقال: إنّه لا مجال لتوهّم الاستدلال بالعمومات المتكفّلة لأحكام العناوين الثّانويّة في ما شكّ من غير جهة تخصيصها،

___________________________________________

مثله في الشّريعة المقدّسة {بما ورد من} الأدلّة الخاصّة على {صحّة الإحرام والصّيام قبل الميقات وفي السّفرإذا تعلّق بهما النّذر كذلك} بأن نذر الإحرام قبل الميقات، والصّوم في السّفر، مع أنّهما محرّمان لولا النّذر، وعلى هذا فحرمة الوضوء بالمضاف ترتفع بالنذر ونحوه.

ثمّ لا يخفى أنّ الظاهر من دليل هذا القائل الالتزام بذلك في ما كان تحريمه تشريعيّاً لا ذاتيّاً، مع أنّه يستلزم القول به مطلقاً تحليل الحرام وتحريم الحلال، كما لا يخفى.

وأمّا إزاحته فقد أشار إليه بقوله: {والتحقيق} التفصيل في المقام بين الأدلّة المتكفّلة للأحكام بعناوينها الثّانويّة، بأنّه إن كان دليل الحكم الثّانوي وارداً على موضوع خاصّ لم يجز التمسّك به في غير ذلك المورد، مثلاً وجوب إطاعة الوالد إنّما هو في المباحات والمكروهات والمستحبّات فلا يجوز التمسّك بدليل الإطاعة في المحرّمات أو الواجبات.

كما لو أوجب الوالد شرب الخمر أو ترك الصّلاة، وإن كان وارداً على جميع المواضيع جاز التمسّك به مطلقاً، مثلاً أدلّة الضّرر والحرج وارد حتّى على الواجب إذا كان فعله ضرريّاً والحرام إذا كان تركه حرجيّاً، وعليه فيمكن التمسّك بدليل الحرج لرفع الوجوب أو الحرمة.

وتوضيح المطلب {أن يقال: إنّه لا مجال لتوهّم الاستدلال بالعمومات المتكفّلة لأحكام العناوين الثّانويّة} كإطاعة الوالدين، والنّذر، والعهد، واليمين، والشّرط {في ما شكّ من غير جهة تخصيصها} إذ قد يكون الشّكّ من جهة التخصيص، كأن

ص: 139

إذا أُخذ في موضوعاتها أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوليّة، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد، والوفاء بالنذر وشبهه في الأُمور المباحةأو الرّاجحة؛ ضرورة أنّه - معه - لا يكاد يتوهّم عاقل إذا شكّ في رجحان شيءٍ أو حليّته، جوازَ التمسّك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليّته.

___________________________________________

يشكّ في أنّ وجوب إطاعة الوالد يجري حتّى في هذا القسم الخاصّ من المباح أم لا. وقد يكون لا من جهته، كما تقدّم.

ففي الأوّل يجوز التمسّك بالعموم.

وفي الثّاني لا يجوز {إذا أُخذ في موضوعاتها أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوليّة، كما هو الحال في} مسألة {وجوب إطاعة الوالد} ين، والسّيّد، والزوج {والوفاء بالنذر وشبهه} من العهد، واليمين، والشّرط، فإنّه أُخذ {في} موضوع الثّلاثة الأُوَل واليمين والشّرط، كونه من {الأُمور المباحة، أو} المكروهة، أو المستحبّة، وأُخذ في موضوع النّذر والعهد كونه من الأُمور {الرّاجحة} حتّى أنّه لا ينعقد النّذر لو كان متعلّقه مباحاً أو مكروهاً.

وإنّما قلنا بعدم جواز التمسّك بالعموم؛ ل- {ضرورة أنّه معه} أي: مع أخذ أحد الأحكام الخمسة في موضوعاتها {لا يكاد يتوهّم عاقل إذا شكّ في رجحان شيء} في ما أُخذ الرّجحان في الموضوع {أو حليّته} في ما أُخذ في الموضوع {جواز التمسّك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليّته} متعلّق ب- «جواز التمسّك» إذ لو تفرّع الجواز أو الرّجحان عن وجوب الإطاعة والوفاء مثلاً لزم الدور.

بيان ذلك: أنّ الحكم بوجوب الإطاعة والوفاء متوقّف على الموضوع الّذي هو الجواز أو الرّجحان، فلو توقّفا على الوجوب لزم توقّف الشّيء على نفسه، ولهذاقالوا: إنّ الحكم لا يتكفّل لبيان الموضوع.

ص: 140

نعم، لا بأس بالتمسّك به في جوازه - بعد إحراز التمكّن منه والقدرة عليه - في ما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلاً، فإذا شكّ في جوازه صحّ التمسّك بعموم دليلها في الحكم بجوازها. وإذا كانت محكومة بعناوينها الأوليّة بغير حكمها بعناوينها الثّانويّة، وقع المزاحمة بين المقتضيين، ويؤثّر الأقوى منهما لو كان في البين،

___________________________________________

{نعم} في القسم الثّاني من العناوين الثّانويّة كالضرر والحرج {لا بأس بالتمسّك به} أي: بعموم دليل العنوان الثّانوي {في جوازه} أي: جواز الفرد المشكوك كأن يتمسّك بأدلّة الضّرر، لجواز شرب الخمر أو ترك الصّيام {بعد(1) إحراز التمكّن منه} أي: من الفرد المشكوك {والقدرة عليه} لاشتراطها في جميع الأحكام التكليفيّة {في ما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم} من الأحكام الخمسة {أصلاً} بل كان الحكم الثّانوي وارداً على جميع الأحكام الأوّليّة، فلو لم يدلّ دليل الحرج على أنّ متعلّقه لا بدّ وأن يكون كذا، صحّ رفع الحكم به مطلقاً {فإذا شكّ في جوازه صحّ التمسّك بعموم دليلها في الحكم بجوازها} فتدبّر.

ثمّ إنّ الحكم بعنوانه الأوّلي قد يكون لا اقتضائيّاً فلا يعارض الحكم بعنوانه الثّانوي الاقتضائي، مثلاً: حليّة الماء لا اقتضائي ولهذا لا تعارض حرمته الطارئة لنهي الوالد عن شربه، أو وجوبه الطارئ لتوقّف الحياة عليه، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

{و} أمّا {إذا كانت} المتعلّقات للحكمين - الأوّلي والثّانوي - لاكذلك، بأن كانت {محكومة بعناوينها الأوليّة بغير حكمها بعناوينها الثّانويّة} كما لو كان الوضوء الواجب بعنوانه الأوّلي ضرريّاً المقتضي لحرمته بعنوانه الثّانوي {وقع المزاحمة بين المقتضيين، و} حينئذٍ {يؤثّر الأقوى منهما لو كان في البين} فإن كان الوضوء أهمّ ملاكاً وجب إن كانت زيادة الملاك بحدّ الوجوب وإلّا استحبّ إن كانت بقدر الاستحباب، وإن كان الضّرر أهمّ ملاكاً حرّم إن كانت الزيادة بحدّ

ص: 141


1- لم يظهر لي لهذه العبارة وجه يصحّح تقييد الكلام به.

وإلّا لم يؤثّر أحدهما، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح، فليحكم عليه حينئذٍ بحكم آخر - كالإباحة - ، إذا كان أحدُهما مقتضياً للوجوب، والآخر للحرمة مثلاً.

وأمّا صحّة الصّوم في السّفر بنذره فيه - بناءً على عدم صحّته فيه بدونه - وكذا الإحرام قبل الميقات، فإنّما هو لدليل خاصّ كاشف عن رجحانهما ذاتاً في السّفر وقبل الميقات، وإنّما لم يؤمر بهما - استحباباً أو وجوباً - لمانع يرتفع مع النّذر.

___________________________________________

الحرمة وإلّا كره إن كانت بقدر الكراهة {وإلّا} يكن أحد المقتضيين أقوى بل كانا متساويين {لم يؤثّر أحدهما، وإلّا} فلو أثّر أحدهما مع عدم كونه أقوى {لزم الترجيح بلا مرجّح}.

وعلى هذا {فليحكم عليه حينئذٍ بحكم آخر كالإباحة إذا كان أحدهما} أي: أحد الملاكين {مقتضياً للوجوب، والآخر للحرمة مثلاً} وبهذا كلّه اتضح منشأ حكم الفقهاء بجواز بعض أقسام الوضوء والصّوم الضّرري وإن لم يكن هناك دليل على الإباحة.{وأمّا} الجواب عن التأييد الّذي ذكره المستدلّ من {صحّة الصّوم في السّفر بنذره} بأن يصوم {فيه بناءً على عدم صحّته} أي: الصّوم {فيه} أي: في السّفر {بدونه} أي: بدون النّذر {وكذا الإحرام قبل الميقات، فإنّما هو لدليل خاصّ كاشف عن رجحانهما ذاتاً في السّفر وقبل الميقات}.

{و} إن قلت: لوكانا راجحين ذاتاً لكانا مستحبّين مع ضرورة حرمتهما لولا النّذر.

قلت: {إنّما لم يؤمر بهما استحباباً أو وجوباً لمانع يرتفع مع النّذر} لا بعده، إذ لو كان مرجوحاً لم يتعلّق به النّذر، وفيه تأمّل لأنّ المعيّة أيضاً غير مفيدة لوجوب الرّجحان قبل التعلّق، فالأولى اعتباراً أن يقال: إنّ إرادة إيقاع النّذر عليهما مع تعقّبهما بالوقوع موجب لرجحانهما الموجب لقابليّتهما لتعلّق النّذر، فتأمّل.

وكيف كان، فهذا شيء خلاف الأصل لا بدّ من المصير إليه جمعاً بين ما يدلّ

ص: 142

وإمّا لصيرورتهما راجحين بتعلّق النّذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك، كما ربّما يدلّ عليه ما في الخبر: من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت.

لا يقال: لا يُجدي صيرورتهما راجحين بذلك في عباديّتهما؛ ضرورة كون وجوب الوفاء توصليّاً لا يعتبر في سقوطه إلّا الإتيان بالمنذور

___________________________________________

على حرمة الصّوم والإحرام كذلك، وبين ما دلّ على لزوم رجحان المتعلّق، وبين ما دلّ على صحّة تعلّق النّذر بهما فلا يقاس ذلك بالوضوء بالمضاف الّذي لميدلّ دليل على صحّة تعلّق النّذر به.

{وإمّا} أن نقول بعد تسليم عدم رجحانهما ذاتاً: بصحّة تعلّق النّذر بهما {لصيرورتهما راجحين بتعلّق النّذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك} قبل تعلّق النّذر وحينه {كما ربّما يدلّ عليه} أي: على عدم الرّجحان قبل تعلّق النّذر {ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصّلاة قبل الوقت} فكما لا رجحان للصلاة قبله، كذلك الإحرام، فتبيّن أنّ الرّجحان حصل بعد النّذر، وهذا القدر من الرّجحان كافٍ في العموم، والإحرام للدليل الخاصّ المخصّص لعموم اشتراط الرّجحان في تعلّق النّذر قبل تعلّقه.

{لا يقال: لا يجدي صيرورتهما} أي: الصّوم في السّفر والإحرام قبل الميقات {راجحين بذلك} الّذي ذكرتم من تعلّق النّذر {في عباديّتهما} فالرجحان الآتي من قبل النّذر غير كافٍ في العباديّة.

والحاصل: أنّه لا شبهة في لزوم الإتيان بهذا الصّوم والإحرام بعد النّذر بقصد القربة، والحال أنّه لا وجه له، إذ قصد التقرّب يلازم العبادة ولا عباديّة لهما، إذ قبل تعلّق النّذر لم يكونا عبادة، كما هو واضح، وبعد تعلّق النّذر لم يدلّ دليل على وجوب قصد القربة، فإنّ الدليل منحصر في (أوفوا بالنذور) وهو لا يدلّ على لزوم قصد القربة {ضرورة كون وجوب الوفاء توصليّاً لا يعتبر في سقوطه إلّا الإتيان بالمنذور}

ص: 143

بأيّ داع كان.

فإنّه يقال: عباديّتهما إنّما تكون لأجل كشف دليل صحّتهما عن عروض عنوان راجح عليهما، ملازم لتعلّق النّذر بهما.هذا لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرّجحان في متعلّق النّذر بهذا الدليل، وإلّا أمكن أن يقال بكفاية الرّجحان الطارئ عليهما من قبل النّذر في عباديّتهما، بعد تعلّق النّذر بإتيانهما عباديّاً ومتقرّباً بهما منه - تعالى - ، فإنّه وإن لم يتمكّن من إتيانهما كذلك

___________________________________________

فقط {بأيّ داعٍ كان} وهذا بخلاف ما لو ثبت رجحانهما قبل تعلّق النّذر، كما هو مقتضى الجواب الأوّل.

{فإنّه يقال}: نعم، لا تكون {عباديّتهما} قبل النّذر، ولا ناشئة عن النّذر، بل {إنّما تكون لأجل كشف دليل صحّتهما عن عروض عنوان راجح عليهما ملازم لتعلّق النّذر بهما} فعباديّتهما بواسطة انطباق ذلك العنوان المكشوف بالنذرعليهما.

{هذا} وهنا جواب ثالث غير الرّجحان الذاتي قبل النّذر وغير الرّجحان الطارئ بسبب انطباق عنوان راجح مكشوف بالنذر، إذ إنّما نحتاج إلى هذين الجوابين {لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرّجحان في تعلّق النّذر بهذا الدليل} الدالّ على صحّة الإحرام قبل الميقات والصّوم في السّفر إذا وقعا متعلّقين للنذر {وإلّا} فلو قلنا بالتخصيص {أمكن أن يقال بكفاية الرّجحان الطارئ عليهما من قبل النّذر في عباديّتهما} متعلّق ب-«الرجحان»، فالدليل الّذي يدلّ على لزوم رجحان في العبادات المغاير للرجحان الحاصل بالنذر قد خصّص بدليل الإحرام والصّيام الكاشف عن كفاية الرّجحان النّذري في العباديّة.

وبعبارة أُخرى: إنّهما قبل النّذر لم يكونا عبادة ولم يكونا راجحين، وبعدتعلّق النّذر يكونان عبادتين راجحين، فتكون عباديّتهما {بعد تعلّق النّذر بإتيانهما عباديّاً ومتقرّباً بهما منه - تعالى - فإنّه وإن لم يتمكّن من إتيانهما كذلك} عباديّاً

ص: 144

قبله، إلّا أنّه يتمكّن منه بعده، ولا يعتبر في صحّة النّذر إلّا التمكّن من الوفاء ولو بسببه، فتأمّل جيّداً.

بقي شيء، وهو: أنّه يجوز التمسّك بأصالة عدم التخصيص في إحراز عدم كون ما شكّ في أنّه من مصاديق العام - مع العلم بعدم كونه محكوماً بحكمه - مصداقاً له،

___________________________________________

{قبله} أي: قبل تعلّق النّذر {إلّا أنّه يتمكّن منه} أي: من الإتيان متقرّباً {بعده، ولا يعتبر في صحّة النّذر إلّا التمكّن من الوفاء ولو بسببه} وإن لم يتمكّن قبله {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يخفى عليك الفرق بين الأجوبة الثّلاثة.

فالأوّل يقول بالرجحان قبل النّذر.

والثّاني يقول بالرجحان لانطباق عنوان راجح يكشف عنه النّذر مقارناً له.

والثّالث يقول بالرجحان النّاشئ من النّذر.

{بقي شيء} نوضحه أوّلاً ثمّ نشرح العبارة فنقول: لو قال المولى: (أكرم العلماء) ثمّ علمنا من خطاب آخر أو إجماع أو نحوه حرمة إكرام زيد، ولكن نشكّ في أنّ زيداً من العلماء وحرمة إكرامه تخصيص بالنسبة إلى العام، أم ليس من العلماء فلا تخصيص، فالشكّ في التخصيص بعد العلم بمراد المولى، والكلام حينئذٍ في أنّ أصالة عدم التخصيص تجرّي في المقام أم لا؟ وفائدته أنّهالو جرت كشفت عن عدم علم زيد فيجري على زيد أحكام الجهّال، بخلاف ما لو لم تجر أصالة عدم التخصيص، فإنّ زيداً حينئذٍ محكوم بعدم الإكرام فقط، ولكلّ من إجراء أحكام الجهّال والعلماء عليه توقّف.

إذا عرفت هذا رجعنا إلى شرح كلام المصنّف {وهو أنّه هل يجوز التمسّك بأصالة عدم التخصيص في إحراز عدم كون ما شكّ في أنّه من مصاديق العام} كزيد في المثال {مع العلم بعدم كونه محكوماً بحكمه مصداقاً له} خبر «كون ما شكّ»

ص: 145

مثل ما إذا علم أنّ زيداً يحرم إكرامه، وشكّ في أنّه عالم، فيحكم عليه - بأصالة عدم تخصيص (أكرم العلماء) - أنّه ليس بعالم، بحيث يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الأحكام؟

فيه إشكال؛ لاحتمال اختصاص حجيّتها بما إذا شكّ في كون فرد العالم محكوماً بحكمه، كما هو قضيّة عمومه، والمثبت من الأصول اللفظيّة وإن كان حجّة، إلّا أنّه لا بدّ من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل، ولا دليل هاهنا إلّا السّيرة وبناء العقلاء،

___________________________________________

وذلك {مثل ما إذا علم أنّ زيداً يحرم إكرامه} بدليل خارجي {وشكّ في أنّه عالم} حتّى يكون تخصيصاً لأكرم العلماء أو ليس بعالم حتّى لا يكون تخصيصاً {فيحكم عليه بأصالة عدم تخصيص (أكرم العلماء) أنّه ليس بعالم} حرف المشبّهة في قوله: «إنّه ليس بعالم» نائب الفاعل لقوله: «فيحكم» {بحيث} يكون فائدة جريان أصالة عدم التخصيص أنّه {يحكم عليه بسائر ما لغير العالم منالأحكام} من كراهة القيام له في المجلس ووجوب إرشاده مثلاً.

{فيه إشكال} وجهه أنّ أصالة عدم التخصيص - وإن كانت من الأصول العقلائيّة، ومثبتاتُها حجّة - . لكن القدر المتيقّن من ديدن العقلاء إجراؤها حين الشّكّ في المراد لا بعد العلم بالمراد والشّكّ في شيء آخر.

وإلى هذا أشار بقوله: {لاحتمال اختصاص حجيّتها بما إذا شكّ في كون فرد العام محكوماً بحكمه} أي: بحكم العام {كما هو قضيّة عمومه} أي: مقتضى عموم العام أم لا، بل الفرد المشكوك خارج، والحاصل اختصاصها بمورد الشّك في التخصيص {والمثبت من الأصول اللفظيّة} كأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد ونحوهما {وإن كان حجّة إلّا أنّه لا بدّ من الاقتصار على} إجرائها بقدر {ما يساعد عليه الدليل} أعني: بناء العقلاء {ولا دليل هاهنا} لإجراء أصالة عدم التخصيص {إلّا السّيرة وبناء العقلاء} والمسلّم منهما إجراؤها في مورد الشّكّ في

ص: 146

ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك، فلا تغفل.

فصل: هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصّص؟

فيه خلاف، وربّما نفي الخلاف عن عدم جوازه، بل ادّعي الإجماع عليه(1).

والّذي ينبغي أن يكون محلّ الكلام في المقام، أنّه هل يكون أصالة العموم متّبعة مطلقاً، أو بعد الفحص عن المخصّص واليأس عن الظفر به؟

___________________________________________

المراد {ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك} أي: إجراء أصالة عدم التخصيص بعد العلم بالمراد {فلا تغفل} واللّه العالم.

[فصل العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص]

اشارة

المقصد الرّابع: في العام والخاص، العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص

{فصل} في بيان وجوب الفحص عن المخصّص في جواز العمل بالعام {هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصّص} أم لا؟ {فيه خلاف} فالمشهور على عدم الجواز، والمنسوب إلى كثير من العامّة وبعض المتأخّرين من الخاصّة الجواز.

{و} لكن {ربّما نفي الخلاف عن عدم جوازه} والنّافي هو الغزالي - على ما قيل(2) - {بل ادّعي الإجماع عليه} كما عن النّهاية(3) {والّذي ينبغي أن يكون محلّ الكلام} حتّى يتّضح به حال بعض الأدلّة {في المقام} هو {أنّه هل يكون أصالة العموم} الّتي هي من الأصول العقلائيّة {متّبعة مطلقاً} سواء كان قبل الفحص أم بعده {أو} أنّها متّبعة {بعد الفحص عن المخصّص واليأس عن الظفر به} فقبل الفحص أو بعده قبل اليأس لا يجوز التمسّك بأصالة العموم؟

ص: 147


1- مطارح الأنظار 2: 157.
2- إشارات الأصول: 314؛ مطارح الأنظار 2: 157.
3- نهاية الوصول 2: 230.

بعد الفراغ عن اعتبارها بالخصوص في الجملة، من باب الظنّ النّوعي للمشافه وغيره ما لم يعلم بتخصيصه تفصيلاً، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالاً.

وعليه فلا مجال لغير واحد ممّا استدلّ بهعلى عدم جواز الاستدلال به قبل الفحص واليأس.

___________________________________________

وجعل محلّ النّزاع بهذا النّحو إنّما يكون {بعد الفراغ عن اعتبارها بالخصوص في الجملة} أي: سواء كان حتّى قبل الفحص، كما يقوله بعض، أو بعده، كما هو المشهور {من باب الظنّ النّوعي} قبال أنّه من باب الظنّ الشّخصي {للمشافه وغيره} قبال أنّ الحجيّة مختصّة بالمشافه {ما لم يعلم بتخصيصه} أي: العموم {تفصيلاً، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالاً} قبال أنّ الحجيّة تخصيص بما لم يكن العام من أطراف ما علم تخصيصه إجمالاً.

والحاصل: أنّه بعد تماميّة هذه الأُمور الثّلاثة يقع الكلام في أنّ أصالة العموم متّبعة مطلقاً أو بعد الفحص {وعليه فلا مجال لغير واحد ممّا استدلّ به على عدم جواز الاستدلال به} أي: بالعام {قبل الفحص واليأس}.

قال السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - : «هذا تعريض بجماعة من القائلين بعدم جواز العمل بالعام قبل الفحص، حيث استدلّ بعض منهم على ذلك: بعدم حصول الظنّ بالمراد إلّا بعد الفحص - كما عن الوافية(1) حكايته عن بعض - .

وآخر بعدم الدليل على حجيّة أصالة العموم بالنسبة إلى غير المشافه أو من قصد تفهيمه إلّا بعد الفحص - كما عن المحقّق القمّي(رحمة الله)(2)- .

وثالث بالعلم الإجمالي بورود مخصّصات كثيرة بين الأمارات الشّرعيّةالموجب لسقوط أصالة العموم عن الحجيّة، وبعد الفحص يخرج العام عن كونه

ص: 148


1- الوافية في أصول الفقه: 129.
2- قوانين الأصول 1: 272.

فالتحقيق: عدم جواز التمسّك به قبل الفحص، في ما إذا كان في معرض التخصيص، كما هو الحال في عمومات الكتاب والسّنّة؛ وذلك لأجل أنّه لولا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله، فلا أقلّ من الشّك، كيف؟ وقد ادّعي الإجماع على عدم جوازه فضلاً عن نفي الخلاف عنه، وهو

___________________________________________

طرفاً للعام المذكور، فلا مانع من إجراء أصالة العموم فيه.

وحاصل التعريض: أنّ هذه الاستدلالات كلّها خارجة عن محلّ الكلام، فإنّ المدّعى لوجوب الفحص يدّعيه بعد البناء على أنّ أصالة الظهور حجّة من باب الظنّ النّوعي لا الشّخصي، وأنّها حجّة في حقّ المشافهين وغيرهم، وأنّ العام ليس من أطراف العلم الإجمالي»(1)،

انتهى.

{فالتحقيق} في المقام التفصيل ب- {عدم جواز التمسّك به قبل الفحص في ما إذا كان} العام {في معرض التخصيص، كما هو الحال في عمومات الكتاب والسّنّة} فإنّ كونها في معرض التخصيص بديهيّ لمن له أقلّ إلمام بالفقه {وذلك} الّذي ذكرنا من وجوب الفحص في هذا النّوع من العمومات {لأجل أنّه لولا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به} أي: بالعام {قبله} أي: قبل الفحص {فلا أقلّ من الشّكّ} فلا مسرح لبناء العقلاء على العمل بالعموم مطلقاً، ومثلها ما لو كان متكلّم كذلك بأن جرت عادته علىالتكلّم بالعام مع إرادة الخاصّ اعتماداً على القرائن المنفصلة.

و{كيف} يجوز العمل بالعام قبل الفحص في هذا النّحو من العمومات {و} الحال أنّه {قد ادّعي الإجماع على عدم جوازه} فإنّه لو كان بناؤهم على العمل كيف ذهب المجمعون الّذين هم من العقلاء على عدم الجواز؟ {فضلاً عن} ادّعاء {نفي الخلاف عنه} أي: عن عدم الجواز {وهو} أي: الشّكّ النّاشئ عن الإجماع

ص: 149


1- حقائق الأصول 1: 515.

كافٍ في عدم الجواز، كما لا يخفى.

وأمّا إذا لم يكن العام كذلك - كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات - فلا شبهة في أنّ السّيرة على العمل به بلا فحص عن مخصّص.

وقد ظهر لك بذلك: أنّ مقدار الفحص اللّازم، ما به يخرج عن المعرضيّة له. كما أنّ مقداره اللّازم منه - بحسب سائر الوجوه الّتي استدلّ بها، من العلم الإجمالي به، أو حصول الظنّ بما هو التكليف، أو غير ذلك - رعايُتها،

___________________________________________

{كافٍ في عدم الجواز، كما لا يخفى}.

هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من العمومات {وأمّا} القسم الثّاني، وهو ما {إذا لم يكن العام كذلك} في معرض التخصيص {كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات فلا شبهة في أنّ السّيرة} الجارية لدى العقلاء {على العمل به بلا فحص عن مخصّص} نعم، إذا كان هناك علم إجمالي لم يجز العمل، ولكن قد عرفت خروج ذلك عن محلّ البحث.

{وقد ظهر لك بذلك} الّذي ذكرنا من أنّ وجه وجوب الفحصهو احتمال وجود المخصّص وأنّه في معرض التخصيص {أنّ مقدار الفحص اللّازم ما به يخرج} العام {عن المعرضيّة له} بأن لا يحتمل احتمالاً عقلائيّاً وجوده؛ لأنّه لو كان لبان {كما أنّ مقداره} أي: الفحص {اللّازم منه بحسب سائر الوجوه الّتي استدلّ بها من العلم الإجمالي به} أي: بالمخصّص {أو حصول الظنّ بما هو التكليف، أو غير ذلك} كعدم حجيّة الخطاب لغير المشافه مثلاً {رعايتها} أي: رعاية تلك الوجوه.

والحاصل: أنّ مقدار وجوب الفحص يتفاوت بحسب اختلاف دليل وجوب الفحص، فمن يقول بأنّ وجوب الفحص لكونه معرضاً للتخصيص يقول بأنّ مقدار الفحص هو أن يخرج عن المعرضيّة.

ص: 150

فيختلف مقداره بحسبها، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الظّاهر: عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل، باحتمال أنّه كان ولم يصل، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقاً ولو قبل الفحص عنها، كما لا يخفى.

___________________________________________

ومن يقول بأنّ الفحص للعلم إجمالاً بوجود المخصّص يرى أنّ مقداره إلى انحلال العلم الإجمالي.

ومن يقول بأنّ الفحص للظنّ بالتخصيص فلا ظنّ بالعموم يرى أنّ مقداره إلى حصول الظنّ الشّخصي.

ومن يقول بأنّ الفحص لعدم حجيّة خطاب المشافه بالنّسبة إلى أن يقوم الإجماع أو بناء العقلاء على الحجيّة. وكيف كان {فيختلف مقداره بحسبها، كما لا يخفى} هذا كلّه في الفحص عن المخصّصالمنفصل.

{ثمّ إنّ الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان ولم يصل} لتقطيع الأخبار ونحوه {بل حاله} أي: حال احتمال المخصّص المتّصل {حال احتمال قرينة المجاز} متّصلة ومنفصلة {وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به} أي: باحتمال المجاز {مطلقاً} سواء احتمل كون قرينته متّصلة أم منفصلة {ولو قبل الفحص عنها} وهذا الاتفاق حجّة لما تقدّم في الإجماع من كشفه عن سيرة أهل اللسان، إذ العلماء من أظهر مصاديق أهل اللسان {كما لا يخفى} ولكن الكلام في الاتفاق المذكور، فإنّا رأينا كتب الفقه تتعرّض لجميع ذلك عند الاستدلال. نعم، الغالب هو التكلّم في المعارضات. وبهذا كلّه ظهر حال سائر ما هو خلاف الظاهر، كاحتمال النّقل، والاشتراك، والإضمار، وغيرها.

ص: 151

إيقاظ: لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا، وبينه في الأصول العمليّة؛ حيث إنّه هاهنا عمّا يزاحم الحجيّة، بخلافه هناك، فإنّه بدونه لا حجّة؛ ضرورة أنّ العقل بدونه يستقلّ باستحقاق المؤاخذة على المخالفة، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان، والمؤاخذة عليها من غير برهان.

___________________________________________

[إيقاظ]

{إيقاظ: لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا} في باب الأصول اللفظيّة، كأصالة العموم وأصالة الإطلاق ونحوهما {وبينه في الأصول العمليّة} أعني: أصالة البراءةوالاستصحاب والتخيير والاحتياط، فإنّه كما يجب الفحص هنا حتّى يحكم بالعموم أو الإطلاق كذلك يجب الفحص هناك حتّى يحكم بالبراءة وأخواتها، ولكن بين الفحصين فرق {حيث إنّه} أي: الفحص {هاهنا} في الأصول اللفظيّة {عمّا يزاحم الحجيّة} بعد إحرازها، إذ أصالة العموم محرزة، وإنّما الشّكّ في المانع عنها، لبداهة أنّ التخصيص مانع عن العمل بالعموم؛ لأنّ عدم التخصيص مُقْتَضٍ له {بخلافه} أي: الفحص {هناك} في باب الأصول العمليّة {فإنّه بدونه} أي: بدون الفحص {لا حجّة} ولا مقتضي للعمل بها {ضرورة أنّ} مدرك حجيّة الأصول العمليّة إمّا العقل وإمّا النّقل.

أمّا {العقل} فإنّه {بدونه يستقلّ باستحقاق المؤاخذة على المخالفة} لو كان التكليف في الواقع غير البراءة {فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان} إذ العقل إنّما يحكم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان في مورد فحص المكلّف عن البيان ولم يجده، فالفحص بالنسبة إلى البراءة العقليّة محقّق لموضوعه، كما أنّ العقل إنّما يحكم بالتخيير في أطراف العلم بعد الفحص، إذ قبل الفحص يحتمل نصب الحجّة على الواقع الموجب لتحفّظه.

والحاصل: أنّ للفحص مدخليّة في تماميّة مقتضى البراءة والتخيير العقليّين

ص: 152

والنّقل وإن دلّ على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقاً، إلّا أنّ الإجماع بقسميه على تقييده به، فافهم.

فصل: هل الخطابات الشّفاهيّة - مثل: (يا أيّها المؤمنون) -

___________________________________________

{والنّقل وإن دلّ على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقاً} لإطلاق «رفع ما لا يعلمون»(1)، و«لا تنقض اليقين بالشك»(2)، {إلّا أنّ الإجماع بقسميه} محصّله ومنقوله {على تقييده} أي: تقييد النّقل {به} أي: بالفحص، فكأنّه قيل: رفع ما لا يعلمون بعد الفحص، وهكذا دليل لا تنقض.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ وجوب الفحص من باب الجمع بين دليلي الأحكام والرّفع، فإنّ العرف يفهم منهما ترتّب الرّفع على الفحص بدلالة الاقتضاء، إذ يلزم من عدم وجوب الفحص لغويّة الأحكام، كما ذكر الفقهاء أنّ دليل «لا تعاد الصّلاة إلّا من خمس»(3)، مختصّ بالنسيان وإلّا لزم لغويّة دليل الأجزاء والشّروط، وعلى هذا فلا نحتاج إلى التمسّك بذيل الإجماع، واللّه الهادي.

[فصل هل الخطابات الشفاهيّة تعمّ غير الحاضرين؟]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، هل الخطابات الشفاهيّة تعمّ غير الحاضرين؟

{فصل} في الخطابات الشّفاهيّة غير المختصّة بمخاطب خاصّ، والمراد بها الأحكام الملقاة بأداة الخطاب على جماعة حاضرة في مجلس الخطاب بدون قصد الاختصاص فنحو «نفّذوا جيش أُسامة»(4)،

خارج عن محلّ الكلام كخروج نحو {إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ}(5).

إذا عرفت ذلك قلنا: {هل الخطابات الشّفاهيّة مثل: (يا أيّها المؤمنون)} و{قُوٓاْ

ص: 153


1- الخصال 2: 417.
2- الكافي 3: 352، وفيه: «لا ينقض اليقين بالشك».
3- من لا يحضره الفقيه 1: 279؛ تهذيب الأحكام 2: 152.
4- بحار الأنوار 22: 468.
5- سورة النحل، الآية: 90.

تختصّ بالحاضر مجلس التخاطب، أو تعمّغيره من الغائبين، بل المعدومين؟ فيه خلاف.

ولا بدّ - قبل الخوض في تحقيق المقام - من بيان ما يمكن أن يكون محلّاً للنقض والإبرام بين الأعلام:

فاعلم: أنّه يمكن أن يكون النّزاع في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب، هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين، كما صحّ تعلّقه بالموجودين، أم لا؟

أو في صحّة المخاطبة معهم - بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب - بالألفاظ الموضوعة للخطاب، أو بنفس توجيه الكلام إليهم،

___________________________________________

أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا}(1)، {تختصّ بالحاضر مجلس التخاطب} حتّى يحتاج في إثبات الحكم لغيرهم بدليل الاشتراك في التكليف الثّابت بالإجماع الموجب لعدم إثبات الحكم في ما لم يكن إجماع بالاشتراك، كلزوم ثوبين للمرأة في الإحرام {أو تعمّ غيره} أي: غير الحاضر {من الغائبين، بل المعدومين؟ فيه خلاف} بين الأعلام {ولا بدّ قبل الخوض في تحقيق المقام من بيان ما يمكن أن يكون محلّاً للنقض والإبرام بين الأعلام، ف-} نقول: {اعلم أنّه يمكن} أن يحرّر محلّ النّزاع على ثلاثة أوجه:

الأوّل: {أن يكون النّزاع في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين} بأن يكون المعدوم فعلاً - حين الخطاب - مأموراً بالفعلومنهيّاً عنه، يعني أن يكون البعث والزجر بالنسبة إليه فعليّاً {كما صحّ تعلّقه بالموجودين أم لا؟} وكذا يتصوّر النّزاع بهذا النّحو بالنسبة إلى الغائبين عن مجلس الخطاب وإن كان الأمر بالنسبة إليهم أهون.

الثّاني: ما أشار إليه بقوله: {أو} أن يكون النّزاع {في صحّة المخاطبة معهم - بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب - بالألفاظ الموضوعة للخطاب} كأن يقول لهم: افعلوا كذا واتركوا كذا {أو} المخاطبة معهم {بنفس توجيه الكلام إليهم} بدون الخطاب

ص: 154


1- سورة التحريم، الآية: 6.

وعدم صحّتها.

أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيبَ أداة الخطاب للغائبين، بل المعدومين، وعدم عمومها لهما بقرينة تلك الأداة.

ولا يخفى أنّ النّزاع على الوجهين الأوّلين يكون عقليّاً، وعلى الوجه الأخير لغويّاً.

إذا عرفت هذا، فلا ريب في عدم صحّة تكليف المعدوم عقلاً، بمعنى بعثه أو زجره فعلاً؛

___________________________________________

كأن يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ}(1)، موجّهاً الكلام إلى المعدوم أو إلى الغائب {وعدم صحّتها}.

الثّالث: ما أشار إليه بقوله: {أو} أن يكون النّزاع {في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين، بل المعدومين} كأن يكون (النّاس) الواقع عقيب كلمة (أيّها) شاملاً للحاضر والغائب والمعدوم والموجود {وعدم عمومها} أي: تلك الألفاظ {لهما} أي: للغائب والمعدوم، فالمرادبالناس خصوص الحاضر {بقرينة تلك الأداة} مثل: (أيّها) في المثال.

{ولا يخفى أنّ النِّزاع على الوجهين الأوّلين} أعني: صحّة التكليف وصحّة الخطاب {يكون عقليّاً} لأنّ المرجع في الصّحّة هو العقل {وعلى الوجه الأخير} أعني: شمول اللّفظ يكون النّزاع {لغويّاً} يرجع إلى أنّ واضع اللغة هل وضع ألفاظ العموم لما يشمل المعدومين والغائبين أم لا؟

{إذا عرفت هذا ف-} نقول في بيان المختار: إنّه {لا ريب في عدم صحّة تكليف المعدوم عقلاً، بمعنى بعثه أو زجره فعلاً} فإنّ للتكليف على مذاق المصنّف مراتب أربع: الاقتضاء، والإنشاء، والفعليّة، والتنجّز، وحيث إنّ مرتبتي الاقتضاء والتنجّز ليستا من مراتب التكليف حقيقة أضرب عنهما وبين مرتبة الفعليّة والإنشاء فقط. وعلى

ص: 155


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

ضرورة أنّه بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقةً، ولا يكاد يكون الطلب كذلك إلّا من الموجود ضرورةً.

نعم، هو بمعنى مجرّد إنشاء الطلب - بلا بعثٍ ولا زجرٍ - لا استحالة فيه أصلاً؛ فإنّ الإنشاء خفيف المؤونة، فالحكيم - تبارك وتعالى - يُنْشِئُ على وفق الحكمة والمصلحة طلب شيء - قانوناً - من الموجود والمعدوم حين الخطاب، ليصير فعليّاً بعد ما وجد الشّرائط وفقد الموانع، بلا حاجة إلى إنشاء آخر، فتدبّر.

___________________________________________

كلّ فلا يصحّ التكليف الفعلي بالنسبة إلى المعدوم {ضرورة أنّه} أي: التكليف {بهذا المعنى} أعني: الفعليّة {يستلزم الطلبمنه حقيقة} بأن يريد منه الحركة والسّكون والجري على طبق التكليف {ولا يكاد يكون الطلب كذلك} فعلاً {إلّا من الموجود ضرورة} وبداهة هذا المعنى أوجبت الاستغناء عن البرهان. وليس يصحّ عند العقل شيء إذا احتاج النّهار إلى دليل، ولذا أضربنا عن بعض الإطناب في المقام.

{نعم، هو} أي: التكليف {بمعنى مجرّد إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر} بالنسبة إلى المعدوم، وإن كان فعليّاً بالنسبة إلى الموجود {لا استحالة فيه أصلاً، فإنّ الإنشاء خفيف المؤونة} إذ هو عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ، أو جعل الشّيء على عهدة المكلّف {فالحكيم - تبارك وتعالى - يُنشئ على وفق الحكمة والمصلحة طلب شيء قانوناً} أي: على سبيل ضرب القانون والقاعدة الكليّة {من الموجود والمعدوم حين الخطاب} الجار يتعلّق ب-«الطلب» والظرف متعلّق ب-«الموجود والمعدوم».

إن قلت: طلبه من الموجود لا إشكال فيه، وأمّا الطلب من المعدوم فلغو، لعدم قدرة المعدوم على الفعل حين الطلب.

قلت: إنّما يطلب من المعدوم {ليصير} التكليف {فعليّاً بعد ما وجد الشّرائط وفقد الموانع} فإنّه لو أنشأ التكليف أوّلاً على الموجود فقط احتاج ثانياً إلى إنشاء آخر، بخلاف ما لو أنشأ عاماً فإنّه {بلا حاجة إلى إنشاء آخر} بعد وجود المعدومين {فتدبّر}

ص: 156

ونظيره من غير الطلب إنشاءُ التمليك في الوقف على البطون، فإنّ المعدوم منهم يصير مالكاً للعين الموقوفة بعد وجوده بإنشائه، ويتلقّى لها من الواقف بعقده،فيؤثّر في حقّ الموجود منهم الملكيّة الفعليّة، ولا يؤثّر في حقّ المعدوم فعلاً إلّا استعدادها لأن تصير ملكاً له بعد وجوده. هذا إذا أُنْشِئَ الطلب مطلقاً.

___________________________________________

كي لا تتوهّم بأنّه لا يحتاج إلى إنشاء آخر ولو أنشأ أوّلاً بالنسبة إلى الموجود لإمكان نصب قرينة على الاشتراك، وذلك لأنّه يحتاج إلى الإنشاء على كلّ حال وإنّما القرينة كاشفة عن الإنشاء.

{ونظيره} أي: نظيره في صحّة الإنشاء ليصير فعليّاً عند وجود الشّرائط وفقدان الموانع {من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون، فإنّ} الواقف ينشأ الملك بإنشاء واحد للمعدوم والموجود كما أنّ المولى ينشأ الطلب بإنشاء واحد منهما.

و{المعدوم منهم يصير مالكاً للعين الموقوفة} في الوقف الخاص {بعد وجوده} أي: وجود ذلك المعدوم {ب-} سبب {إنشائه} أي: إنشاء الواقف {ويتلقّى} الموجود الّذي كان معدوماً حين الوقف {لها} أي: للعين الموقوفة {من الواقف} لا من البطن السّابق عليه {بعقده} أي: يكون تلقّي الموجود فعلاً للوقف بسبب ذلك العقد للوقف الّذي أجراه الواقف قبل وجود هذا الموقوف عليه {فيؤثّر} عقد الوقف المنشأ بإنشاء واحد {في حقّ الموجود منهم الملكيّة الفعليّة} لفرض اجتماع الشّرائط {ولا يؤثّر} هذا العقد {في حقّ المعدوم فعلاً إلّا استعدادها} أي: العين الموقوفة {لأن تصير ملكاً له بعد وجوده} فكما أنّ الملك بالنسبة إلى بعض البطون فعلي، وبالنسبة إلى البعض الآخر استعدادي، كذلك الطلب بالنّسبة إلى الموجودينفعلي، وبالنسبة إلى المعدومين استعدادي.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرنا في توجيه كون الإنشاء واحداً والمنشأ مختلفاً إنّما يكون في ما {إذا أنشئ الطلب مطلقاً} كأن يقول: (يا أيّها النّاس اتّقوا اللّه)، فإنّه يحتاج

ص: 157

وأمّا إذا أُنْشِئَ مقيّداً بوجود المكلّف ووجدانه الشّرائط، فإمكانه بمكانٍ من الإمكان.

وكذلك لا ريب في عدم صحّة خطاب المعدوم - بل الغائب - حقيقةً، وعدم إمكانه؛ ضرورةَ عدم تحقّق توجيه الكلام نحو الغير حقيقةً إلّا إذا كان موجوداً، وكان بحيث يتوجّه إلى الكلام ويلتفت إليه.

ومنه قد انقدح: أنّ ما وضع للخطاب - مثل أدوات النّداء -

___________________________________________

إلى التقريب المذكور {وأمّا إذا أنشئ} الطلب {مقيّداً بوجود المكلّف ووجدانه الشّرائط} كأن يقول: (يجب التقوى على كلّ موجود بالغ عاقل) {فإمكانه بمكان من الإمكان} ويكون حاله حال سائر الواجبات المشروطة المتّفق على إمكانها.

تنبيه: في العبارة تسامح، إذ ليس للإمكان إمكان حتّى يتفاوت بعض الأشياء في الإمكان، فإنّ ظاهر العبارة أنّ إمكان هذا النّحو من الإيجاب أولى بالإمكانيّة من إمكان النّحو الأوّل. وكيف كان فالمراد أنّ إمكان هذا أوضح من إمكان ذاك.

هذا تمام الكلام في النّحو الأوّل من تحرير محلّ النّزاع، وقد تبيّن عدم صحّة الخطاب، بمعنى إرادة البعث والزجر فعلاً.

{وكذلك لا ريب في عدم صحّة} النّحو الثّاني وهو {خطاب المعدوم، بل الغائب حقيقةً وعدمإمكانه} من العاقل الملتفت {ضرورة} فكما لا يمكن تكليف المعدوم لا يمكن خطابه لضرورة {عدم تحقّق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلّا إذا كان موجوداً وكان} حاضراً {بحيث يتوجّه إلى الكلام ويلتفت إليه} فالكلام وإن كان عرضاً قائماً بالمتكلّم لكن كونه خطاباً حقيقيّاً متوقّف على طرف للمتكلّم يسمّى بالمخاطب، وعليه فلا يتعلّق بالمعدوم والغائب.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من عدم تعلّق الخطاب بالمعدوم والغائب {قد انقدح} حال النّزاع الثّالث الّذي كان نزاعاً لغويّاً، و{إنّ ما وضع للخطاب مثل أدوات النّداء}

ص: 158

لو كان موضوعاً للخطاب الحقيقي، لأوجب استعمالُه فيه تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين. كما أنّ قضيّة إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره.

لكن الظاهر: أنّ مثل أدوات النّداء لم يكن موضوعاً لذلك، بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي.

___________________________________________

ك- (يا) و(أيّها) {لو كان موضوعاً للخطاب الحقيقي لأوجب استعماله} أي: استعمال ما وضع للخطاب {فيه} أي: في الخطاب الحقيقي {تخصيص ما يقع في تلوه} مثل: (النّاس) {بالحاضرين} دون الغائبين والمعدومين، لما ظهر من أنّ الخطاب الحقيقي لا يعقل بالنسبة إليهما.

والحاصل: أنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن ظهور الأداة في الخطاب الحقيقي بقرينة عموم ما في تلوها، وبين رفع اليد عن ظهور ما في تلوها في العموم بقرينة خصوص الأداة، وحيث إنّ الأداة في مفادها أظهر من العام في عمومه كانالمتعيّن هو الثّاني.

وهذا كما يقال في نحو: (أسد يرمي) أنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن ظهور الأسد في المفترس بقرينة (يرمي) وبين العكس، بأن يراد: بالرمي رمي من الحصاة، وحيث إنّ (يرمي) أظهر عند العرف في مفاده فاللّازم الأوّل.

وإلى ما ذكرنا أشار بقوله: {كما أنّ قضيّة إرادة العموم منه} أي: ممّا في تلو الأداة ك- (النّاس) في المثال {لغيرهم} متعلّق بالعموم يشمل المعدومين والغائبين أيضاً {استعماله} أي: ما وضع للخطاب وهو الأداة {في غيره} أي: في غير الخطاب الحقيقي الّذي كانت الأداة موضوعة له.

هذا كلّه بناءً على أنّ أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقي، و{لكن الظاهر} من الانصراف لدى الإطلاق {أنّ مثل أدوات النّداء لم يكن موضوعاً لذلك} الخطاب الحقيقي {بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي} بمعنى أنّها موضوعة لإنشاء الخطاب، سواء كان بداعي الحقيقة أو بسائر الدواعي، كإظهار الشّوق

ص: 159

فالمتكلّم ربّما يوقع الخطاب بها تحسّراً وتأسّفاً وحزناً، مثل: «يا كوكباً ما كان أقصر عمره»(1)، أو شوقاً ونحو ذلك، كما يوقعه مُخَاطِباً لمن يناديه حقيقةً، فلا يوجب استعماله في معناه الحقيقي حينئذٍ التخصيصَ بمن يصحّ مخاطبته.

نعم، لا يبعد دعوى الظهور - انصرافاً - في الخطاب الحقيقي، كما هو الحال فيحروف الاستفهام والترجّي والتمنّي وغيرها، على ما حقّقناه في بعض المباحث السّابقة من كونها موضوعةً للإيقاعي منها بدواعٍ مختلفة،

___________________________________________

والحزن أو الحسرة أو النّدبة أو السّخريّة أو غير ذلك {فالمتكلّم ربّما يوقع الخطاب بها} أي: بالأدوات {تحسّراً وتأسّفاً وحزناً، مثل:

«يا كوكباً

ما كان أقصر عمره»}

وكذا تكون كواكب الأسحار

{أو شوقاً ونحو ذلك} غير الخطاب الحقيقي {كما يوقعه مخاطباً لمن يناديه حقيقة} نحو «أيا من لست أنساه» {فلا يوجب استعماله في معناه الحقيقي حينئذٍ} أي: حين لم تكن موضوعة للخطاب الحقيقي فقط {التخصيص بمن يصحّ مخاطبته} من الحاضرين فقط، بل يشمل المعدومين والغائبين؛ لأنّه لا مانع من تعلّق الخطاب الإنشائي بهما.

{نعم، لا يبعد دعوى الظهور انصرافاً} لا وضعاً {في الخطاب الحقيقي} ولذا لو سمع الإنسان خطاباً حمله على الخطاب الحقيقي إلّا أن يكون هناك قرينة الإنشائي {كما هو الحال في حروف الاستفهام والترجّي والتمنّي وغيرها} كالعرض والتحضيض {على ما حقّقناه في بعض المباحث السّابقة} وهو الجهة الرّابعة من مبحث الأوامر(2) {من كونها موضوعة للإيقاعي منها} لا الحقيقي {بدواع مختلفة} فالاستفهام قد يكون لطلبالفهم حقيقة وقد يكون للتقرير نحو (أأنت فعلت) وكذا

ص: 160


1- البيت من قصيدة أبي الحسن التهاميّ، المتوفّى سنة 416ه- .
2- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 357.

مع ظهورها في الواقعي منها انصرافاً، إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه، كما يمكن دعوى وجوده غالباً في كلام الشّارع؛ ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل: (يا أيّها النّاس اتّقوا) و (يا أيّها المؤمنون) بمن حضر مجلسَ الخطاب، بلا شبهة ولا ارتياب.

ويشهد لما ذكرنا: صحّة النّداء بالأدوات، مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية، ولا للتنزيل والعلاقة رعايةً.

___________________________________________

التمنّي وغيره {مع ظهورها} أي: أدوات الاستفهام وأخواته {في الواقعي منها انصرافاً إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه} أي عن هذا الظهور الانصرافي. كما لو وقع الاستفهام أو الترجّي في كلام اللّه سبحانه لاستحالة الجهل عليه سبحانه {كما يمكن دعوى وجوده} أي: وجود المانع عن الانصراف إلى الحقيقي {غالباً في كلام الشّارع} إذ لو أُخذ بظاهر الخطاب لزم الاختصاص بالحاضرين، مع {ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل: (يا أيّها النّاس اتّقوا) و (يا أيّها المؤمنون)} و {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ}(1)، إلى غير ذلك {بمن حضر مجلس الخطاب بلا شبهة ولا ارتياب} فلو أُريد الحاضرون فقط لزم إنشاء آخر لغيرهم، وذلك ممّا لم يظهر الداعي إليه.

{ويشهد لما ذكرنا} من عدم اختصاص الوضع بالحقيقيوإنّما الاختصاص بالانصراف {صحّة النّداء بالأدوات مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية} كاشفة عن تغيير وجهة اللفظ {ولا للتنزيل} للمعدوم منزلة الموجود {والعلاقة} بين المعنى الحقيقي والمجازي {رعاية} ولو كانت موضوعة للحاضرين لم يجز استعمالها في العموم بلا ملاحظة العلاقة.

ولذا ترى المرتكز في الذهن شمول الخطابات القرآنيّة لنا، حتّى أنّه لو قيل لأحد من العرف إنّ خطاب (يا أيّها النّاس) لا يشملك، رأى ذلك خلاف وجدانه

ص: 161


1- سورة التحريم، الآية: 6.

ولتوهّم كونه ارتكازيّاً، يدفعه عدم العلم به مع الالتفات إليه والتفتيش عن حاله، مع حصول العلم به بذلك لو كان ارتكازيّاً، وإلّا فمن أين يعلم بثبوته كذلك؟ كما هو واضح.

وإن أبيت إلّا عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي، فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهيّة - بأدوات الخطاب أو بنفس توجيه الكلام بدون الأداة - ، كغيرها،

___________________________________________

{ولتوهّم كونه} أي: التنزيل الّذي هو سبب صحّة الاستعمال {ارتكازيّاً} ولذا لا نرى العناية لإِلف الذهن به الموجب لعدم البعد عنه حتّى يحتاج إلى النّظر والتفكّر {يدفعه عدم العلم به} أي: بالتنزيل {مع الالتفات إليه والتفتيش عن حاله} بأن نرجع إلى الذهن ونلاحظ أنّه هل نزّل فيه المعدوم منزلة الموجود أم لا {مع حصول العلم به} أي: بالتنزيل {بذلك} الالتفات والتفتيش {لو كان} التنزيل {ارتكازيّاً}.والحاصل: أنّه لو كان تنزيل لالتفتنا إليه عند التفتيش، فعدم وجدان التنزيل حين التفتيش دليل على عدم التنزيل {وإلّا} فلو لم نجد التنزيل من أنفسنا حين التفتيش ومع ذلك كان هناك تنزيل {فمن أين يعلم بثبوته} أي: التنزيل {كذلك؟} أي: ارتكازاً.

والحاصل: أنّه لو لم يكن التفتيش سبباً لظهور التنزيل فمن أين نعلم بالتنزيل الارتكازي والمدّعى له يكون بلا دليل؛ لأنّ الدليل عليه الوجدان.

وقد عرفت عدم وجداننا له {كما هو واضح} لمن تأمّل، إذ كيف يمكن أن يكون التنزيل ارتكازي الأذهان ومع ذلك لم نلتفت إليه حين التفتيش والفحص؟ {وإن أبيت إلّا عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي} لا الإنشائي الإيقاعي {فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهيّة} - عزّ اسمه - الواقعة {بأدوات الخطاب} نحو (يا أيّها النّاس) {أو بنفس توجيه الكلام بدون الأداة} نحو {لِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ}(1)، {كغيرها} أي: كغير الخطابات الإلهيّة من خطابات سائر الملوك الّذين يريدون به جميع الرّعيّة من كان حاضراً ومن كان غائباً ومن كان

ص: 162


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

بالمشافهين، في ما لم يكن هناك قرينة على التعميم.

وتوهّم صحّة التزام التعميم في خطاباته - تعالى - لغير الموجودين - فضلاً عن الغائبين - ؛ لإحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال.

فاسدٌ: ضرورة أنّ إحاطته لا توجب صلاحيّةالمعدوم - بل الغائب - للخطاب. وعدم صحّة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصاً في ناحيته - تعالى - ، كما لا يخفى.

___________________________________________

معدوماً {بالمشافهين} متعلّق بال-«اختصاص» {في ما لم يكن هناك قرينة على التعميم}.

أمّا لو كانت قرينة على التعميم نحو غالب الخطابات الّتي علم عدم اختصاصها فلا بدّ وأن نقول بشمولها للجميع ولو بنحو المجاز والعناية بتنزيلها منزلة الحاضرين.

{وتوهّم} الفرق بين خطابات الملوك فلا بدّ من اختصاصها بالحاضرين، وبين خطابات اللّه - سبحانه - ب- {صحّة التزام التعميم في خطاباته - تعالى - لغير الموجودين فضلاً عن الغائبين، لإحاطته} - سبحانه - إحاطة علميّة {بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال} وإن كان معدوماً في الحال لاستواء علم اللّه - تعالى - بالنسبة إلى ما كان وما يكون وما لم يكن، فيصحّ خطابه العام بالنسبة إلى الجميع.

{فاسد} خبر«توهّم» {ضرورة أنّ} الضّعف والقصور وعدم الإمكان قد يكون بسبب المتكلّم وقد يكون بسبب طرف الخطاب، وعدم إمكان خطاب المعدوم من ناحيته لا من ناحية اللّه - سبحانه - حتّى يقال بأنّ الإحاطة العلميّة كافية في الخطاب، ف- {إحاطته} تعالى {لا توجب صلاحيّة المعدوم، بل الغائب، للخطاب، وعدم صحّة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصاً في ناحيته، تعالى} فعدم قابليّة الظرف مثلاً لأخذ ماء البحر ليس من جهة نقص في ماء البحر بل من جهة نقص الظرف {كما لا يخفى}.

وقد ورد في بعض من الرّوايات حين سُئل الإمام عن تعلّق قدرة اللّه - تعالى -

ص: 163

كما أنّ خطابه اللفظي - لكونه تدريجيّاً ومتصرّم الوجود - كان قاصراً عن أن يكون موجّهاً نحو غير من كان بمسمع منه ضرورة.

هذا لو قلنا بأنّ الخطاب مثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ}(1) في الكتاب حقيقة إلى غير النّبي(صلی الله علیه و آله) بلسانه.

وأمّا إذا قيل بأنّه المخاطب والموجّه إليه الكلام حقيقةً، - وحياً أو إلهاماً - ،

___________________________________________

بالمستحيل، فأجاب(علیه السلام) بأنّ ربّنا لا يوصف بالعجز ولكن الطّرف غير قابل(2) {كما أنّ خطابه اللفظي} جلّ اسمه {لكونه تدريجيّاً ومتصرّم الوجود} بحيث لا يبقى أبداً في الكون - على رأي جماعة من الحكماء والمتكلّمين في الكلام اللفظي - فتدبّر {كان قاصراً عن أن يكون موجّهاً نحو غير مَنْ كان بمسمع منه ضرورة} ولو كان باقياً لأمكن توجيهه إلى الغائب بعد حضوره، وإلى المعدوم بعد وجوده، وهذا البحث خارج عمّا نحن فيه، كما لا يخفى.

{هذا} كلّه {لو قلنا بأنّ الخطاب بمثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ} في الكتاب} متوجّه {حقيقةإلى غير النّبي(صلی الله علیه و آله)} ولكن كان جريانه {بلسانه} المبارك كجريان الكلام بالشجر مع كون المخاطب هو موسى(علیه السلام)، والفرق أنّ الواسطة في الأوّل ذو إرادة بخلاف الثّاني.

{وأمّا إذا قيل بأنّه} - صلّى اللّه عليه وآله وسلم - هو {المخاطب والموجّه إليه الكلام حقيقة وحياً أو إلهاماً} بغرض إيصالها إلى المكلّفين فحيث لم يرد منه المخاطب الحقيقي، إذ المقصود بالخطاب غير موجّه إليه الكلام والموجّه إليه

ص: 164


1- سورة النساء، الآية: 1.
2- بحار الأنوار 4: 143 نقلاً عن التوحيد: 130، ومتن الحديث هكذا: قيل لأميرالمؤمنين(علیه السلام) هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟ قال(علیه السلام): «إنّ اللّه - تبارك وتعالى - لا ينسب إلى العجز، والّذي سألتني لا يكون».

فلا محيص إلّا عن كون الأداة في مثله للخطاب الإيقاعي ولو مجازاً.

وعليه لا مجال لتوهّم اختصاص الحكم - المتكفّل له الخطاب - بالحاضرين، بل يعمّ المعدومين فضلاً عن الغائبين.

فصل: ربّما قيل(1):

إنّه يظهر لعموم الخطابات الشّفاهيّة للمعدومين ثمرتان:

الأُولى: حجيّة ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين.

___________________________________________

الكلام غير مقصود بالخطاب {فلا محيص إلّا عن كون الأداة في مثله للخطاب الإيقاعي ولو مجازاً} لو قلنا بأنّ وضع الأداة للخطاب الحقيقي {وعليه لا مجال لتوهّم اختصاص الحكم المتكفّل له الخطاب بالحاضرين، بل يعمّ المعدومين فضلاً عن الغائبين} إذ الجميع غير موجّه إليهم الخطاب حسب الفرض، فالقول بشموله للبعض فقط دون غيره تحكّم.

إن قلت: يمكن أن يقال بعدم شمول الجميع؛ لأنّ الخطاب حقيقة موجّه إلىالنّبيّ(صلی الله علیه و آله) ولا وجه للقول بالمجازيّة وأنّ الخطاب إيقاعي.

قلت: لا يمكن ذلك؛ لأنّه يلزم عدم شمول الخطابات الشّفاهيّة للحاضرين ولم يقل به أحد، فتدبّر، واللّه الموفّق.

[فصل ثمرة عموم الخطابات الشفاهيّة]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، ثمرة عموم الخطابات الشفاهيّة

{فصل} في بيان ثمرة النّزاع في الخطابات الشّفاهيّة {ربّما قيل: أنّه يظهر لعموم الخطابات الشّفاهيّة للمعدومين ثمرتان} مع عدم التعرّض للغائبين حين الخطاب لعدم ثمرة فعليّة بالنسبة إليهم.

{الأُولى: حجيّة ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين} فلو قلنا بالعموم كانت الخطابات حجّة لهم كالمشافهين، ولو لم نقل بالعموم لم تكن الظهورات حجّة

ص: 165


1- قوانين الأصول 1: 233.

وفيه: أنّه مبنيّ على اختصاص حجيّة الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وقد حقّق عدم الاختصاص بهم.

ولو سلّم، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك

___________________________________________

لهم، لعدم كونهم مخاطبين، فاللّازم في إثبات التكاليف بالنسبة إليهم الرّجوع إلى أدلّة اشتراك التكليف من الإجماع ونحوه، حتّى أنّه لو لم يكن إجماع على الاشتراك في حكم - كما تقدّم في مسألة ثوبي الإحرام - لم يثبت التكليف بالنسبة إلى ذلك المورد.

{وفيه: أنّه مبنيّ على اختصاص حجيّة الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وقد حقّق عدم الاختصاص بهم} بل الظواهر حجّة لكلّ أحد.

وأظنّ أنّ هذا الإشكال لا يرتبط بالثمرة، إذ ليس المراد من حجيّة الظهورتشخيص مراد المتكلّم بالنسبة إلى الحاضرين وأنّه كان يشملهم جميعاً أم لا؟ حتّى يقال: إنّ تشخيص المراد لا يختصّ بالمقصود بالإفهام، بل يعمّ جميع أهل النّاس، بل المراد حجيّة الظهور الّذي يصحّ على طبقه العمل، ومن المعلوم أنّ الظهور لو كان شاملاً لنا لم نحتج إلى الإجماع في الاشتراك، حتّى لو خالف جماعة كثيرة وقالوا بعدم شمول اللفظ للمرأة مثلاً، وكان له ظهور بالنسبة إليها أخذنا بالظهور بخلاف ما لو كان الظهور منحصراً بالمشافهين، فإنّ مخالفة شخص واحد بأن قال ليس الحكم مشتركاً بين الرّجال والنّساء يضرّ، إذ يسقط الإجماع في الاشتراك حتّى في هذا الحكم المختلف فيه(1)،

فتدبّر.

{ولو سلّم} ذلك وقلنا إنّ الظواهر ليست حجّة مطلقاً بل بالنسبة إلى من قصد إفهامه، فيقع الكلام في الصّغرى {فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك}

ص: 166


1- لا يخفى أنّ بيان هذه الثّمرة بالكيفيّة الّتي بيّنّاها مأخوذة عن شرح الخوئيني - 2: 393 - وعليه فيرد ما ذكرنا من الإشكال، ولكن المحتمل عدم ما ذكر، فلا إشكال عليه.

ممنوع، بل الظاهر: أنّ النّاس كلّهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك، وإن لم يعمّهم الخطاب، كما يومي إليه غير واحد من الأخبار.

الثّانية: صحّة التمسّك بإطلاقات الخطابات القرآنيّة - بناءً على التعميم - لثبوت الأحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين، وإن لم يكن متّحداً مع المشافهين في الصّنف، وعدم صحّته على عدمه؛ لعدم كونها حينئذٍ متكفّلة لأحكام غير المشافهين، فلا بدّ من إثبات اتحاده معهم في الصّنف،

___________________________________________

الخطاب {ممنوع، بل الظاهر} من الرّوايات الآتية {أنّالنّاس كلّهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك} مقصودين بالإفهام {وإن لم يعمّهم الخطاب} بحيث يصحّ لهم التمسّك به في إثبات تكاليفهم {كما يومي إليه} أي: إلى كون النّاس مقصودين بالإفهام {غير واحد من الأخبار} الآمرة بالرجوع إلى الكتاب، كأخبار الثّقلين وأخبار عرض الخبرين المتعارضين على الكتاب إلى غير ذلك.

فإنّ الظاهر كون الكتاب حجّة إلى يوم القيامة، وما ورد من احتمال القرآن لوجوه عديدة - كقول أميرالمؤمنين(علیه السلام) لابن عبّاس - لا ينافي ما ذكرنا، كما لا يخفى بأدنى تأمّل.

الثّمرة {الثّانية}: - المترتّبة على النّزاع في الخطابات الشّفاهيّة - {صحّة التمسّك بإطلاقات الخطابات القرآنيّة - بناءً على التعميم - لثبوت الأحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين وإن لم يكن متّحداً مع المشافهين في الصّنف} إذ انطباق العنوان كافٍ لإثبات الحكم ولو لم يكن متّحداً صنفاً {وعدم صحّته} أي: صحّة التمسّك بالإطلاق بناءً {على عدمه} أي: عدم التعميم {لعدم كونها} أي: الإطلاقات {حينئذٍ} أي: حين لم تكن تشمل المعدومين {متكفّلة لأحكام غير المشافهين، فلا بدّ من إثبات اتحاده} أي: اتحاد المعدوم في الحكم {معهم} أي: مع المشافهين {في الصّنف} بأن يكون رجلاً لو كانوا رجالاً، وعراقيّاً لو كانوا عراقيّين،

ص: 167

حتّى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الأحكام؛ حيث لا دليل عليه حينئذٍ إلّا الإجماع، ولا إجماع عليه إلّا في ما اتحد الصّنف، كما لا يخفى.ولا يذهب عليك: أنّه يمكن إثبات الاتحاد، وعدمِ دخلِ ما كان البالغ الآن فاقداً له ممّا كان المشافهون واجدين له،

___________________________________________

وهكذا {حتّى يحكم} عليه {بالاشتراك مع المشافهين في الأحكام} وإنّما أوجبنا الاتحاد في الصّنف {حيث لا دليل عليه} أي: على الاتحاد في الحكم {حينئذٍ} أي: حين عدم شمول الإطلاقات {إلّا الإجماع، ولا إجماع عليه} أي: على الاتحاد حكماً {إلّا في ما اتحد الصّنف، كما لا يخفى} إذ الإجماع دليل لبّي والمتيقّن من معقده الاشتراك في الحكم في صورة الاشتراك في جميع الخصوصيّات، ولا يكفي صدق عنوان الحكم على المعدوم لفرض عدم شمول الإطلاق.

والحاصل: أنّه مع الشّكّ في الحكم يرجع إلى الإطلاق على القول بالشمول ويرجع إلى الأصول العمليّة على القول بعدم الشّمول.

مثلاً: لو شكّ في وجوب صلاة الجمعة حال الغيبة جاز التمسّك بإطلاق قوله - تعالى - {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ} الآية(1)،

لإثبات الوجوب حال الغيبة، لصدق العنوان، كالإيمان على المعدوم زمان الخطاب بناءً على شمول الخطابات للمعدومين، ولم يجز التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ الإجماع ليس هنا على الاشتراك في التكليف؛ بناءً على عدم الشّمول، فاللّازم الرّجوع إلى الأصل العملي.

{و} لكن {لا يذهب عليك} عدم استقامة هذه الثّمرة أيضاً، ل- {أنّه يمكن إثبات الاتحاد، و} القطع ب- {عدم دخل ما كان البالغ الآن} بعد زمان الخطاب {فاقداً لهممّا كان المشافهون واجدين له} كفقد البالغ في زماننا للنبي والوصي ووجدان المشافهين

ص: 168


1- سورة الجمعة، الآية: 9.

بإطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به. وكونُهم كذلك لا يوجب صحّة الإطلاق مع إرادة المقيّد منه في ما يمكن أن يتطرّق إليه الفقدان، وإن صحّ في ما لا يتطرّق إليه ذلك.

___________________________________________

لهما في مثال صلاة الجمعة {بإطلاق الخطاب إليهم دون التقييد به} أي: بهذا الوصف المفقود في زماننا.

مثلاً: إطلاق خطاب {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ} الآية، يقتضي عدم دخل كونهم في زمان النّبي والوصي(علیهما السلام) في حكم وجوب الجمعة، إذ لو كان دخيلاً لقيّد الحكم كأن يقال: يا أيّها المؤمنون الحاضرون في زمان النّبي والوصي.

{و} إن قلت: {كونهم} أي: المشافهين {كذلك} واجدين للشرط يغني عن التقييد، فعدم ذكر القيد لا يدلّ على عدم القيد واقعاً، بل يحتمل أمرين: عدم القيد، وعدم الذكر، لوجدان الشّرط، وعلى هذا فلا يمكن التمسّك بالإطلاق، لعدم دخل القيد، إذ الإطلاق أعمّ من عدم القيد، والأعمّ لا يدلّ على الأخص.

قلت: كون المشافهين واجدين للشرط {لا يوجب صحّة الإطلاق مع إرادة المقيّد منه في ما يمكن} أي: في القيد والشّرط الّذي يمكن {أن يتطرّق إليه الفقدان} كما في ما نحن فيه، فإنّه كان من الممكن فقدانهم للنبيّ والوصيّ، كأن يسافر أحدهم إلى بلد ناءٍ، فإنّه لو أُريد المقيّد بالحاضر من إطلاق الآية ولم يبيّن فيها لزم الإجمالحتّى جاز أن يتمسّك النّائي بالإطلاق وإقامة الصّلاة بدون النّبي والوصي {وإن صحّ} الإطلاق وإرادة المقيّد {في ما} أي: في الشّرط الّذي {لا يتطرّق إليه ذلك} الفقدان، كأن يقول: (يا أيّها الّذين آمنوا) ويريد بهم المقيّد بمن كان في عصره نبي أو وصي، فإنّ الأرض لا تخلو عن الحجّة.

فتحصّل أنّ الإطلاق يدفع احتمال التقييد بقيد ممكن الزوال، وحينئذٍ فلو كان هناك إطلاق واحتملنا اختصاص الحكم بصنف خاصّ - يمكن زوال الوصف عنهم - تمسّكنا بأصالة الإطلاق لنفيه، ولو لم يكن إجماع بالاشتراك.

ص: 169

وليس المراد بالاتحاد في الصّنف إلّا الاتحاد في ما اعتبر قيداً في الأحكام، لا الاتحاد في ما كثر الاختلاف بحسبه، والتفاوتُ بسببه بين الأنام، بل في شخص واحد بمرور الدهور والأيّام، وإلّا لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين - فضلاً عن المعدومين - حكم من الأحكام.

___________________________________________

وبهذا كلّه تبيّن سقوط الثّمرة الثّانية {وليس المراد بالاتحاد في الصّنف} في كلام من شرط الاتّحاد لجرّ التكليف بالنسبة إلى الغائب والمعدوم {إلّا الاتحاد في ما اعتبر قيداً في الأحكام} كالبلوغ، والخلوّ عن الحيض، وعدم السّفر، ونحوها ممّا يمكن تقييد التكليف بها {لا الاتحاد في ما كثر الاختلاف بحسبه والتفاوت بسببه بين الأنام} كالسكنى في بعض البلاد، كأن يقال: نحتمل أنّ الحكم بكون الكرّ كذا ماءً مختصّ بالمدينة الّتي ماؤها مُرّ، فيزيد وزنه عن وزن ماء العراق العذب، أو الحكم بالصوم بالأبيض، لا الجنس الأسود، لاحتمال أن يكون علّته تجفيف الرّطوبات والأسود لا رطوبة لجسمه {بل في شخص واحد} كالشاب والهرم والقويوالضّعيف {بمرور الدهور والأيّام} متعلّق بالاختلاف في شخص واحد {وإلّا} فلو كان المعتبر الاتحاد في الصّنف بحسب هذه الأُمور {لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين - فضلاً عن المعدومين - حكم من الأحكام} لوجود هذا النّحو من الاختلافات.

فالتزام الفقهاء بالاشتراك يدلّ على مدخليّة هذا النّحو من التفاوت، بل لو اعتبر مثله لزم تبدّل الأحكام بالنسبة إلى الأزمان والأجيال.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) استدلّ على صحّة التمسّك بالإطلاق للمعدومين بما حاصله: أنّه لو تبدّل حال المشافه، بأن كان في حال الخطاب مثلاً غنيّاً ثمّ صار فقيراً، فشكّ - من جهة التبدّل - في بقاء الحكم الأوّل كان اللّازم عليه إجراء الإطلاق، فكذا الحال بالنسبة إلى الموجود والمعدوم بأنّه لو كان للموجود وصف

ص: 170

ودليل الاشتراك إنّما يُجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين، في ما لم يكونوا مختصّين بخصوص عنوان، لو لم يكونوا معنونين به لشكّ في شمولها لهم أيضاً. فلولا الإطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم لما أفاد دليل الاشتراك. ومعه كان الحكم يعمّ غير المشافهين ولو قيل باختصاص الخطابات بهم، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

كان المعدوم فاقداً له لزم إجراء المعدوم الإطلاق بالنسبة إلى ذلك الوصف.

والحاصل: أنّه كما يجري الإطلاق بالنسبة إلى الحالة الثّانية في شخص واحد كذلك يجري الإطلاق بالنسبة إلى الشّخص الثّاني المفقود حين الخطاب. نعم، إذا كان الوصف بحيث لو فقد في المشافه لم يتمكّن منالتمسّك بالإطلاق لم يجر التمسّك بالإطلاق لفاقده من المعدومين {و} ذلك لأنّ {دليل الاشتراك إنّما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين في ما لم يكونوا} أي: المشافهين {مختصّين بخصوص عنوان لو لم يكونوا معنونين به لشكّ في شمولها لهم أيضاً} فإنّه لو كان فقدان الوصف في المشافه موجباً لعدم جريان الإطلاق بالنسبة إليه لم يجر الإطلاق بالنسبة إلى غير المشافه الّذي يعدم عنه ذلك الوصف، بخلاف ما لو كان الوصف ليس ممّا يوجب فقدانه في المشافه عدم جريان الإطلاق بالنسبة إليه {فلولا الإطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان} المحتمل دخله {في} ترتّب {الحكم، لما} ثبت الحكم للمشافه حين فقدانه الوصف، لعدم {إفاد} ة {دليل الاشتراك} بالنسبة إلى حالتي المشافه {ومعه} أي: مع الإطلاق {كان الحكم يعمّ غير المشافهين} من المعدومين والغائبين، كما يعمّ حالتي المشافهين {ولو قيل باختصاص الخطابات بهم} وصل بقوله: «يعم» فالمدار في شمول الإطلاق لغير المشافه شموله للحالة الثّانية للمشافه، ولا يخفى أنّ عبارة المصنّف(رحمة الله) مشوّشة {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك المراد.

ص: 171

فتلخّص: إنّه لا يكاد تظهر الثّمرة إلّا على القول باختصاص حجيّة الظواهر لمن قصد إفهامه، مع كون غيرَ المشافهين غير مقصودين بالإفهام، وقد حقّق عدم الاختصاص به في غير المقام، وأُشير إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته - تبارك وتعالى - في المقام.فصل: هل تعقّبُ العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يوجب تخصيصَه به أو لا؟

فيه خلاف بين الأعلام.

___________________________________________

{فتلخّص} ممّا تقدّم {أنّه لا يكاد تظهر الثّمرة إلّا على} تماميّة {القول باختصاص حجيّة الظواهر لمن قصد إفهامه، مع} إثبات مقدّمة أُخرى، وهي {كون غير المشافهين غير مقصودين بالإفهام} فإن تمّت هاتان المقدّمتان كانت ثمرة النّزاع: أنّه لو قلنا بشمول الخطاب للمعدومين كانت الظواهر حجّة بالنسبة إليهم فيجوز لهم الرّجوع إلى ظهور الخطابات لتشخيص مراد المتكلّم، ولو لم نقل بالشمول لم يجز ذلك لهم {و} لكن {قد حقّق} بطلان المقدّمتين لضرورة {عدم الاختصاص به} أي: بمن قصد إفهامه، بل الظواهر حجّة مطلقاً، كما بيّنوه {في غير المقام} وهو في المجلّد الثّاني {وأُشير إلى منع كونهم} أي: غير المشافهين {غير مقصودين به في خطاباته - تبارك وتعالى - في} هذا {المقام} فلا ثمرة لهذا النّزاع أيضاً.

[فصل تعقب العام بضميرٍ يرجع إلى بعض أفراده]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، تعقب العام بضميرٍ يرجع إلى بعض أفراده

{فصل: هل تعقّبُ العام} أو المطلق {بضمير يرجع إلى بعض أفراده} لا جميع الأفراد {يوجب تخصيصه} أي: الحكم المرتّب على العام {به} أي: بذلك البعض الواقع مرجعاً للضّمير {أو لا} بل يبقى العام على العموم؟

ولا يخفى أنّ رجوع الضّمير في كلام القوم من باب المثال، وإلّا فاسم الإشارةأيضاً بحكمه {فيه خلاف بين الأعلام} ذهب العلّامة(رحمة الله)(1) وجماعة إلى أنّه موجب

ص: 172


1- نهاية الوصول 2: 193.

وليكن محلّ الخلاف ما إذا وقعا في كلامين أو في كلام واحد، مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}(1).

___________________________________________

لتخصيص العام، وذهب الشّيخ(رحمة

الله) إلى إنكار ذلك(2)، واختار المحقّق الوقف(3) {وليكن محلّ الخلاف ما إذا وقعا}: العامُ والضّميرُ الرّاجع إليه {في كلامين} كالآية الشّريفة {أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام} بأن كان العام تمام الموضوع في الكلام ولم يكن للضّمير دخل في الموضوعيّة أصلاً.

مثال ما كان في كلامين {كما في قوله - تبارك وتعالى - : {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ}} أي: يصبرن {إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}} فإنّ المطلّقات عامّ يشمل البائنات والرّجعيّات، ولكن الضّمير في «بعولتهنّ» مختصّ بالرجعيّات إذ حقّ الرّجعة للزوج إنّما هو في المطلّقة الرّجعيّة دون البائنة، والكلام في أنّه هل يوجب اختصاص الضّمير بالرجعيّات تخصيص العام - أعني: المطلّقات - بهنّحتّى يكون الكلام في قوّة أن يقال: (والمطلّقات الرّجعيّات يتربّصن) أم لا يبقى العام على العموم حتّى يكون الحكم بالتربّص عامّاً بالنسبة إلى جميعهنّ.

ومثال ما كان في كلام واحد مع استقلال العام: نحو (أكرم العلماء وواحداً من جيرانهم)، والفرق بين المثالين واضح، فإنّ جملة «بعولتهنّ» تامّة مغايرة لجملة «والمطلّقات»، بخلاف الثّاني، فإنّ (وواحداً من جيرانهم) بمنزلة المفعول للجملة الأُولى.

ص: 173


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- العدة في أصول الفقه 1: 384.
3- معارج الأصول: 147.

وأمّا ما إذا كان مثل: (والمطلّقات أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ) فلا شبهة في تخصيصه به.

والتحقيق أن يقال: إنّه حيث دار الأمر بين التصرّف في العام - بإرادة خصوص ما أُريد من الضّمير الرّاجع إليه - ، أو التصرّف في ناحية الضّمير - إمّا بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه، أو إلى تمامه

___________________________________________

{وأمّا ما إذا كان} في كلام واحد مع عدم استقلال العام، بل يكون العام بعض الموضوع، كما إذا كان له بدل {مثل: (والمطلّقات أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ)} فإنّ «أزواجهنّ» بدل عن العام - أي: المطلّقات - {فلا شبهة في} خروجه عن محلّ النّزاع لبداهة {تخصيصه} أي: العام {به} أي: بالضّمير، إذ ليس في البين إلّا حكم واحد مختصّ ببعض أفراد العام، فلا مجال لتوهّم بقاء العام على عمومه للزوم اللغويّة.

والحاصل: أنّه إذا كان العام محكوماً بحكم غير حكم الضّمير، كما في الجملتين، أو جملة مستقلّة العام، جاء الاحتمالان، وإلّا فلا يكون إلّا القطع بتخصيص العام.هذا كلّه في بيان تحرير محلّ النّزاع {و} المختار الّذي يقتضيه {التحقيق} في المطلب {أن يقال: إنّه حيث دار الأمر بين التصرّف في العام بإرادة خصوص ما أُريد من الضّمير الرّاجع إليه} كأن يريد من «المطلّقات» ما أُريد من ضمير «بعولتهنّ» وهي الرّجعيّات فقط، وهذا موجب للتصرّف في ناحية العام بالتخصيص وإبقاء الضّمير على ظاهره {أو التصرّف في ناحية الضّمير} أي: في «بعولتهنّ» مع إبقاء العام على عمومه.

ثمّ التصرّف في الضّمير بأحد نحوين {إمّا بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه} وهذا خلاف الظّاهر؛ لأنّ الظّاهر من الضّمير رجوعه إلى تمام مرجعه لا إلى بعضه سواء كان المرجع ذو أجزاء أو ذو أفراد {أو} إرجاعه {إلى تمامه} أي:

ص: 174

مع التوسّع في الإسناد، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقةً، إلى الكلّ توسّعاً وتجوّزاً - كانت أصالة الظهور في طرف العام سالمةً عنها في جانب الضّمير؛ وذلك لأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو اتّباع الظهور في تعيين المراد، لا في تعيين كيفيّة الاستعمال، وأنّه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الإسناد،

___________________________________________

تمام المرجع، ولكنّه {مع التوسّع في الإسناد، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقةً، إلى الكلّ توسّعاً وتجوّزاً} كما يقال: (جمع الأمير الصّاغة) مجازاً بإسناد الجمع المسند إلى بعض الصّاغة إلى جميعهم تجوّزاً {كانتأصالة الظهور في طرف العام سالمة عنها} أي: عن أصالة الظهور {في جانب الضّمير} فاللّازم التصرّف في الضّمير، بأحد النّحوين، دون العام {وذلك لأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو اتّباع الظهور في تعيين المراد} فلو شكّ في أنّ المراد من لفظ (صلّ) الإيجاب أو الاستحباب أجروا أصالة الحقيقة وحكموا بأنّ المراد الإيجاب لا الاستحباب مثلاً {لا في تعيين كيفيّة الاستعمال، وأنّه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الإسناد} فلو علم بأنّ المراد من الأمر في قوله: (صلّ) هو الإيجاب، ولكن شكّ في أنّه على نحو الحقيقة أو المجاز لم يجروا أصالة الحقيقة لإثبات أنّه حقيقة لا مجاز.

ثمّ إنّه قد تقدّم في بعض المباحث السّابقة الفرق بين المجاز في الكلمة وبين المجاز في الإسناد وأنّ الأوّل لغويّ، والثّاني عقلي.

مثلاً: لو قال: (أنبت الرّبيع البقل) فقد يجعل المجاز في الكلمة، بأن يشبّه (الرّبيع) بالفاعل الحقيقي فيستعمل (الرّبيع) فيه كلمة (اللّه)، كاستعمال الأسد في (زيد)، وحينئذٍ يكون المجاز في الكلمة لاستعمال كلمة مكان أُخرى.

وقد يجعل المجاز في الإسناد بأن ينسب فعل القادر المختار إلى (الرّبيع) مع استعمال (الرّبيع) في معناه الموضوع له، وحينئذٍ يكون المجاز في الإسناد، إذ أنّه

ص: 175

مع القطع بما يراد، كما هو الحال في ناحية الضّمير.

وبالجملة: أصالة الظهور إنّما تكون حجّة في ما إذا شكّ في ما أُريد لا في ما إذا شكّ في أنّه كيف أُريد، فافهم.

لكنّه إذا عقد للكلام ظهور في العموم، بأن لا يعدّ ما اشتمل على الضّمير ممّايكتنف به عرفاً، وإلّا

___________________________________________

أسند الفعل وهو الإنبات إلى غير ما هو له، ولم يكن مجازاً في الكلمة؛ لأنّ كلّ كلمة من الجملة استعملت في معناها الموضوع لها.

وكيف كان فليس بناء العقلاء على اتّباع الظهور في تعيين كيفيّة الاستعمال {مع القطع بما يراد كما هو الحال في ناحية الضّمير} إذ نقطع بالمراد منه وأنّه بعض أفراد العام، فأصالة الحقيقة في العام لا تعارضها أصالة الحقيقة في الضّمير، لعدم جريان الأصل فيه بعد العلم بالمراد.

{وبالجملة أصالة الظهور إنّما تكون حجّة في ما إذا شكّ في ما أُريد لا في ما إذا شكّ في أنّه كيف أُريد}.

وبهذا تبيّن أنّه لا دوران بين الأصالتين حتّى نحتاج إلى المرجّح أو نتوقّف، بل اللّازم الحكم بتربّص جميع المطلّقات إلّا ما خرج بالدليل، مع الحكم بأحقيّة بعولة الرّجعيّات فقط.

{فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ أصالة الظهور ولو لم تجر في الضّمير لكنّها غير جارية في العام أيضاً، لاحتفاف الكلام بما يصلح أن يكونَ قرينة، وحينئذٍ يجب التوقّف، كما ذهب إليه المحقّق، وإليه أشار بقوله:

{لكنّه} أي: ما ذكرنا من بقاء العام على ظهوره، إنّما يكون {إذا عقد للكلام ظهور في العموم بأن لا يعدّ ما اشتمل على الضّمير ممّا يكتنف به} الكلام {عرفاً} كأن يكونا في كلامين {وإلّا} يكن كذلك - بأن لم ينعقد ظهور في العموم، بأن كان

ص: 176

فيحكم عليه بالإجمال، ويرجع إلى مايقتضيه الأصول.

إلّا أن يقال باعتبار أصالة الحقيقة تعبّداً، حتّى في ما إذا احتفّ بالكلام ما لا يكون ظاهراً معه في معناه الحقيقي، كما عن بعض الفحول(1).

فصل: قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف - مع الاتّفاق على الجواز

___________________________________________

العام والضّمير في كلام واحد وشبهه - {فيحكم عليه بالإجمال، ويرجع} في غير مورد الضّمير، كالبائنات في الآية الشّريفة {إلى ما يقتضيه الأصول} من البراءة عن العدّة، أو الاحتياط في الفروج، ونحو ذلك.

هذا كلّه بناءً على حجيّة أصالة الظهور من باب الظنّ النّوعي، كما هو المشهور بين الأعلام {إلّا أن يقال باعتبار أصالة الحقيقة} ونحوها {تعبّداً} بمعنى أنّ الأصول العقلائيّه حجّة مطلقاً {حتّى في ما إذا احتفّ بالكلام ما لا يكون ظاهراً معه في معناه الحقيقي، كما} نقل ذلك {عن بعض الفحول} وحينئذٍ فالعام حجّة، وإن احتفّ بالضّمير الصّالح للقرينة، بخلاف من يقول بأنّ أصالة الحقيقة معتبرة من باب الظهور النّوعي فلا بدّ وأن يحكم بإجمال العام.

إذ الكلام المحتف بما يصلح للقرينيّة لا ظهور نوعيّ له، كما لا يخفى.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ الأقوى عند المصنّف تقديم ظهور العام على ظهور الضّمير في ما لم يكن الضّمير مكتنفاً بالعام وإلّا حكم بالإجمال.

[فصل التخصيص بالمفهوم المخالف]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، التخصيص بالمفهوم المخالف

{فصل: قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف} الّذي يكون حكم المفهوم على خلاف حكم المنطوق، كما لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (أكرم العلماء إن جاؤوك) المفهوم منه عدم وجوب إكرامهم في صورة عدم المجيء {مع الاتفاق على الجواز} بمعنى عدم المانع من تخصيص العام

ص: 177


1- لعلّ المقصود به هو صاحب الفصول، راجع الفصول الغرويّة: 212.

بالمفهوم الموافق - على قولين.

وقد استُدِلّ لكلّ منهما بما لا يخلو عن قصور.

وتحقيق المقام: أنّه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين - ولكن على نحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متّصلة للتّصرّف في الآخر -

___________________________________________

{بالمفهوم الموافق} كما لو قال: {فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ}(1). المفهوم منه عدم ضربهما، فإنّ هذا المفهوم يقيّد عموم (اضرب كلّ فاسق) مثلاً.

قال السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - : «والوجه في هذا الاتفاق رجوع التعارض في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعموم، حيث لا يمكن رفع اليد عن مفهوم الموافقة مع البناء على المنطوق للقطع بثبوت المفهوم على تقدير ثبوت المنطوق، وإلّا لم يكن مفهوم الموافقة فيكون التعارض بينهما من قبيل التعارض بين الخاص المنطوق والعام، ولا ريب في وجوب تقديم الخاصّ على العام، أمّا مفهوم المخالفة فيمكن رفع اليد عنه فقط مع الحكم بثبوت المنطوق، فيدور الأمر بينرفع اليد عنه ورفع اليد عن العموم»(2)،

انتهى {على قولين} متعلّق ب- «اختلفوا».

{وقد استدلّ لكلّ منهما بما لا يخلو عن قصور} فاستدلّ القائل بالتخصيص بأنّ المفهوم دليل شرعيّ عارض مثله وفي العمل به جمع بين الدليلين، واستند القائل بعدم التخصيص بأنّ الخاصّ إنّما يقدّم على العامّ لأقوائيّة دلالته، والمفهوم الخاص ليس أقوى من المنطوق العام فلا يصلح لمعارضته.

{وتحقيق المقام أنّه إذا ورد العام} ك- (أكرم العلماء) {وما له المفهوم} ك- (أكرم العلماء إن جاؤوك) {في كلام} واحد {أو كلامين، ولكن على نحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متّصلة للتّصرّف في الآخر} لا في كلامين أحدهما أجنبيّ

ص: 178


1- سورة الإسراء، الآية: 23.
2- حقائق الأصول 1: 530.

ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فالدلالة على كلّ منهما إن كانت بالإطلاق - بمعونة مقدّمات الحكمة، أو بالوضع - فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم؛ لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في واحدٍ منهما، لأجل المزاحمة، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك، فلا بدّ من العمل بالأصول العمليّة في ما دار فيه بين العموم والمفهوم إذا لم يكن - مع ذلك -

___________________________________________

عن الآخر {ودار الأمر بين تخصيص العموم} بالمفهومحتّى لا يجب إكرام العلماء إلّا إذا جاؤوا {أو إلغاء المفهوم} والأخذ بظاهر العموم حتّى يجب إكرامهم ولو لم يجيئوا {فالدلالة على كلّ منهما} أي: العام والمفهوم {إن كانت بالإطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة، أو} كانت دلالة كلّ منهما {بالوضع، فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم، لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في واحد منهما} إذ من مقدّماتها عدم اكتناف الكلام بما يصلح للقرينيّة، والمفروض اكتنافه حينئذٍ، وبعبارة أُخرى: إنّ وجود شيء صالح للقرينيّة موجب لانتفاء إحدى مقدّمات الحكمة، وهي أن لا يكون قدر متيقّن في مقام التخاطب {لأجل المزاحمة} بين العموم والمفهوم {كما} أنّ الأمر كذلك {في} صورة {مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك} أي: وضعاً.

نعم، هنا فرق بين الأمرين، وهو أنّ السّقوط على الأوّل لعدم المقتضي، وعلى الثّاني لأجل المانع وهو العلم إجمالاً بعدم إرادة أحد الظاهرين، فإنّ الوضع موجود، وإنّما المانع العلم بعدم إرادة أحدهما، بخلاف الأوّل فإنّ مقدّمات الحكمة غير تامّة.

وعلى كلٍّ {فلا بدّ} على كلا التقديرين {من العمل بالأصول العمليّة في ما دار فيه بين العموم والمفهوم} فالعالم في ظرف عدم مجيئه لا يجب إكرامه للبراءة إلّا إذا كان قبل ورود الدليلين واجب الإكرام فيجب للاستصحاب.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من سقوط العموم والمفهوم إنّما يكون {إذا لم يكن مع ذلك}

ص: 179

أحدهما أظهر، وإلّا كان مانعاً عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر.ومنه قد انقدح الحال في ما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم، وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتصال، وأنّه لا بدّ أن يعامل مع كلّ منهما معاملة المجمل، لو لم يكن في البين أظهرُ، وإلّا فهو المعوّل، والقرينة على التصرّف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل.

___________________________________________

التعارض {أحدهما أظهر} عرفاً {وإلّا} فلو كان في البين أظهر {كان} ذلك الأظهر {مانعاً عن انعقاد الظهور} في الآخر في الكلام المتّصل {أو} مانعاً عن {استقراره} أي: استقرار الظهور وحجيّته {في الآخر} في الكلام المنفصل.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من حكم تعارض العموم مع المفهوم في الكلام الواحد أو الكلامين الصّالح كلّ منهما للقرينيّة {قد انقدح الحال في} الشّقّ الثّالث من صور التعارض، وهو {ما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم، وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتصال} بل كان كلّ منهما منفصلاً عن الآخر بحيث لا يصلح أحدهما للقرينيّة على التصرّف في الآخر {وأنّه} حينئذٍ {لا بدّ أن يعامل مع كلّ منهما معاملة المجمل} وإن لم يكن مجملاً حقيقة لفرض انعقاد الظهور.

وبهذا تبيّن الفرق بين صورة الانفصال وبين صورة الاتّصال والارتباط، فإنّه ولو كان الحكم فيهما واحداً ولكن الفرق بانعقاد الظهور في المنفصل دون المرتبط.

ثمّ إنّ التعامل مع المنفصل معاملة المجمل في ما {لو لم يكن في البين أظهر} عرفاً {وإلّا فهو المعوّل والقرينة} عطف على «المعوّل» أي: إنّ الأظهر يكون قرينة {على التصرّف فيالآخر بما لا يخالفه بحسب العمل} أي: يلزم التصرّف في الظاهر، وحمله على ما لا يخالف الأظهر، بحسب العمل، وإن خالفه بحسب الحكم.

مثلاً: لو كان (أكرم العلماء) أظهر في وجوب الإكرام في صورة عدم مجيئهم من مفهوم (أكرم العلماء إن جاؤوك) في عدم إكرامهم عند عدم مجيئهم، فاللّازم التصرّف في المفهوم بحمله على الكراهة، والقول بأنّ إكرامهم في صورة عدم

ص: 180

فصل: الاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة:

هل الظّاهر هو رجوعه إلى الكلّ(1)،

أو خصوص الأخيرة(2)،

أو لا ظهور له في واحد منهما، بل لا بدّ في التعيين من قرينة(3)؟

أقوال.

والظّاهر: أنّه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أيّ حال؛ ضرورة أنّ رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة.

وكذا

___________________________________________

مجيئهم واجب مكروه كالصلاة في الحمّام، والكراهة وإن خالفت الوجوب بحسب المفهوم ولكنّها لا تخالفه بحسب العمل، إذ يمكن العمل مع الكراهة، فتأمّل.

[فصل الاستثناء المتعقّب لجُمَلٍ متعاطفة]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، الاستثناء المتعقّب لجُمَلٍ متعاطفة

{فصل: الاستثناء المتعقّب للجملالمتعدّدة} كما لو قال: (أكرم العلماء وأطعم الفقراء وأكس العراة إلّا الفسّاق) {هل الظّاهر هو رجوعه إلى الكلّ} حتّى لا يجب الإكرام والإطعام والإكساء بالنسبة إلى فاسق الطوائف الثّلاثة {أو خصوص الأخيرة} حتّى لا يجب إكساء العاري الفاسق وإن وجب إكرام العالم وإطعام الفقير الفاسقين {أو لا ظهور له} أي: للاستثناء {في واحدٍ منهما، بل لا بدّ في التعيين من قرينة} دالّة على أنّه راجع إلى الجميع أو إلى الأخيرة فقط؟ {أقوال}.

{والظّاهر} من تتبّع كلماتهم {أنّه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أيّ حال} سواء كان مجملاً أو راجعاً إلى الجميع أو الأخيرة ولا يحتمل رجوعه إلى غير الأخيرة {ضرورة أنّ رجوعه إلى غيرها بلا قرينة} تدلّ على ذلك كانحصار الفاسق في الطائفة الأُولى في المثال {خارج عن طريقة أهل المحاورة، وكذا}

ص: 181


1- العدة في أصول الفقه 1: 321.
2- الفصول الغرويّة: 204.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 249.

في صحّة رجوعه إلى الكلّ، وإن كان المتراءى من كلام صاحب المعالم(رحمة الله)(1) - حيث مهّد مقدّمة لصحّة رجوعه إليه - أنّه محلّ الإشكال والتأمّل.

وذلك ضرورة أنّ تعدّد المستثنى منه - كتعدّد المستثنى - لا يوجب تفاوتاً أصلاً في ناحية الأداة بحسب المعنى - كان الموضوع له في الحروف عامّاً أو خاصّاً - ،

___________________________________________

الظّاهر انّه لا إشكال {في صحّة رجوعه إلى الكلّ، وإن كان المتراءَى من كلام صاحب المعالم(رحمة الله)حيث مهّد مقدّمة لصحّة رجوعه إليه} أي: إلى الكلّ {أنّه} أي: الرّجوع إلى الكلّ {محلّ الإشكال والتأمّل}.

وإن أشكل عليه المشكيني(رحمة الله) بأنّ غرض صاحب المعالم(رحمة الله) إثبات ما اختاره من الاشتراك المعنوي لا إثبات الإمكان، فراجع(2).

{وذلك} الّذي ذكرنا من صحّة رجوعه إلى الكلّ ل- {ضرورة أنّ تعدّد المستثنى منه} نحو (أكرم العلماء وأطعم الفقراء وأكس العراة) {كتعدّد المستثنى} نحو (إلّا الفسّاق والجهّال والبخلاء) {لا يوجب تفاوتاً أصلاً في ناحية الأداة} للاستثناء نحو (إلّا) و(غير) و(سوى) وأضرابها {بحسب المعنى} لأنّ معنى الأداة هو الإخراج، ومن المعلوم أنّ كلّاً من إخراج المتعدّد عن المتعدّد وإخراج الواحد عن المتعدّد وإخراج المتعدّد عن الواحد إخراج، وإنّما التفاوت في طرفي الإخراج - أعني: المخرج والمخرج منه - .

والحاصل: أنّه لا يفرق بالنسبة إلى الأداة شيء من هذه الأُمور سواء {كان الموضوع له في الحروف عامّاً أو خاصّاً}.

لا يقال: إذا كان الموضوع له خاصّاً لا يجوز التعدّد؛ لأنّ تعدّد المخرج عنه ملازم لتعدّد الإخراج، والمفروض أنّ (إلّا) وضع لإخراج جزئي غير قابل للتعدّد.

ص: 182


1- معالم الدين: 123.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 437.

وكان المستعمل فيه الأداة في ما كان المستثنى منه متعدّداً، هو المستعمل فيه في ما كان واحداً، كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال. وتعدُّدُ المُخرج أو المخرج عنه خارجاً، لا يوجب تعدّد ما استعمل فيه أداة الإخراجمفهوماً.

وبذلك يظهر: أنّه لا ظهور لها في الرّجوع إلى الجميع، أو خصوص الأخيرة، وإن كان الرّجوع إليها متيقّناً على كلّ تقدير.

نعم، غير الأخيرة أيضاً من الجمل لا يكون ظاهراً في العموم؛

___________________________________________

لأنّه يقال: جزئيّة النّسبة لا تنافي انحلالها إلى المتعدّد بدليل صحّة تعدّد المستثنى بلا خلاف ظاهراً {وكان المستعمل فيه الأداة، في ما كان المستثنى منه متعدّداً، هو المستعمل فيه، في ما كان} المستثنى منه {واحداً، كما هو الحال في المستثنى، بلا ريب ولا إشكال} فإنّه سواء كان واحداً أو متعدّداً تكون الأداة بمعنى واحد {وتعدّد المخرج أو المخرج عنه خارجاً لا يوجب تعدّد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوماً} حتّى يقال بأنّ خصوص الوضع ينافي ذلك.

والحاصل: أنّ الإخراج الواحد يمكن تعلّقه بالواحد من المتعدّد وبالعكس وبالمتعدّد من المتعدّد {وبذلك} الّذي ذكرنا من وحدة معنى الأداة سواء تعدّد المستثنى والمستثنى منه أو اتّحد أحدهما {يظهر أنّه لا ظهور لها} أي: للأداة {في الرّجوع إلى الجميع، أو خصوص الأخيرة} لأنّ اللفظ إذا كان قابلاً للمعنيين على حدّ سواء لم يكن له ظهور في أحدهما إلّا بالقرينة الخارجيّة {وإن كان الرّجوع إليها متيقّناً على كلّ تقدير} سواء رجع إلى الأخيرة أو إلى الجميع.

{نعم، غير الأخيرة أيضاً من الجمل لا يكون ظاهراً في العموم} وهذا كأنّه استثناء عما يمكن أنيتوهّم في المقام من أنّه لو كان المتيقّن هو الأخيرة فلا مانع من التمسّك بظهور غيرها في العموم لأصالة العموم بلا معارض، وإنّما قال: «أيضاً» لأنّ غير الأخيرة كالأخيرة في عدم الظهور في العموم، وإنّما الفرق في أنّ الأخيرة

ص: 183

لاكتنافه بما لا يكون معه ظاهراً فيه، فلا بدّ في مورد الاستثناء فيه من الرّجوع إلى الأصول.

اللّهمّ إلّا أن يقال بحجيّة أصالة الحقيقة تعبّداً، لا من باب الظهور، فيكون المرجع - عليه - أصالة العموم إذا كان وضعيّاً، لا ما إذا كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة؛ فإنّه لا يكاد يتمّ تلك المقدّمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع، فتأمّل.

___________________________________________

مبيّن وما عداها مجمل {لاكتنافه} أي: غير الأخيرة {بما لا يكون معه ظاهراً فيه} أي: في العموم {فلا بدّ} حين الإجمال {في مورد الاستثناء فيه} أي: في غير الأخيرة، ومورد الاستثناء عبارة عن الفاسق من العلماء والفقراء، فإنّه المحتمل للاستثناء {من الرّجوع إلى الأصول} كالبراءة إن لم يكن قبل ورود الدليل واجب الإكرام وإلّا فالمحكم هو الاستصحاب.

{اللّهمّ إلّا أن يقال بحجيّة أصالة الحقيقة} الجارية في العمومات المتقدّمة {تعبّداً} من باب بناء العقلاء على العمل بالعام، وإن لم يحصل الظنّ النّوعي بإرادة العموم لاكتناف الكلام بما يصلح للقرينيّة - كالاستثناء في ما نحن فيه - {لا من باب الظهور} النّوعي كما هو الأقوى عند المصنّف(رحمة الله) {فيكون المرجع عليه} أي: بناءً على الحجيّة تعبّداً {أصالةالعموم} فيجب إكرام جميع العلماء وإطعام جميع الفقراء حتّى الفاسق منهم.

ولكن هذا الاستثناء إنّما يكون في ما {إذا كان} العموم {وضعيّاً لا ما إذا كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، فإنّه} يلزم الحكم بإجمال الجمل المتقدّمة، من غير فرق بين القول بحجيّة أصالة الظهور من باب الظنّ أو تعبّداً؛ لأنّ الإطلاق متوقّف على المقدّمات، و{لا يكاد يتمّ تلك المقدّمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع} إذ من المقدّمات عدم وجود ما يحتمل القرينيّة والفرض وجوده في ما نحن فيه {فتأمّل}.

ص: 184

فصل: الحقّ جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المعتبر بالخصوص، كما جاز بالكتاب، أو بالخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرينة القطعيّة من الخبر الواحد بلا ارتياب؛

___________________________________________

وقد بيّن المصنّف(رحمة الله) وجهه في الهامش بما لفظه: «إشارة إلى أنّه يكفي في منع جريان المقدّمات، صلوح الاستثناء لذلك، لاحتمال اعتماد المطلق حينئذٍ في التقييد عليه لاعتقاد أنّه كافٍ فيه، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مجرّد صلوحه لذلك بدون قرينة عليه، غير صالح للاعتماد ما لم يكن بحسسب متفاهم العرف ظاهراً في الرّجوع إلى الجميع، فأصالة الإطلاق مع عدم القرينة محكمة، لتماميّة مقدّمات الحكمة فافهم»(1)،

انتهى.

ثمّ لا يخفى أنّ حكم غير الاستثناء - كالشرط والوصف وغيرهما - حكم الاستثناء إلّا في بعض الخصوصيّات.

[فصل تخصيص الكتاب بخبر الواحد]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، تخصيص الكتاب بخبر الواحد

{فصل} اختلفوا في جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، فأجازه قوم ومنعه آخرون وتوقّف ثالث، و{الحقّ جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المعتبر بالخصوص} بأن يكون جامعاً لشرائط الحجيّة قال العلّامة الرّشتي: «أي: بدليل خاصّ غير دليل الانسداد الّذي هو دليل حجيّة مطلق الظنّ، فإنّ العمل بخبر الواحد حينئذٍ يكون من باب الاحتياط الّذي هو أصل من الأصول العمليّة، فلا يجوز حينئذٍ تخصيص الكتاب به، فإنّ الأصل دليل حيث لا دليل»(2)،

انتهى.

{كما جاز} تخصيص الكتاب {بالكتاب أو بالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعيّة من الخبر الواحد بلا ارتياب} وإنّما قلنا بالجواز

ص: 185


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 439.
2- شرح كفاية الأصول 1: 334.

لما هو الواضح من سيرة الأصحاب على العمل بالأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة(علیهم السلام).

واحتمال أن يكون ذلك بواسطة القرينة واضح البطلان.

مع أنّه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه؛ ضرورةَ ندرة خبر لم يكن على خلافه عمومُ الكتاب، لو سلّم وجود ما لم يكن كذلك.

وكونُ العام الكتابي قطعيّاً صدوراً، والخبر الواحد ظنّيّاً سنداً،

___________________________________________

{لما هو الواضح من سيرة الأصحاب على العمل بالأخبار الآحاد} المعتبرة {في قبالعمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة(علیهم السلام)} مع أنّهم كانوا بمرأى من الأئمّة ومسمع، ومع ذلك فلم يردعوهم، ولو كان ذلك غير جائز لردعوهم قطعاً.

{واحتمال أن يكون ذلك} العمل بالخبر الخاصّ من الصّحابة {بواسطة القرينة} القطعيّة، فكان عملهم من باب تخصيص الكتاب بالخبر المحتفّ بالقرينة القطعيّة لا من باب تخصيصه بالخبر المعتبر {واضح البطلان} لبداهة عدم وجود القرائن القطعيّة لكلّ خبر كانوا يخصّصون به عموم الكتاب {مع أنّه لولاه} أي: لولا جواز التخصيص بالخبر المعتبر {لزم إلغاء الخبر بالمرّة، أو ما بحكمه} أي: بحكم الإلغاء {ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه} أي: خلاف ذاك الخبر {عموم الكتاب} أو إطلاقه {لو سلّم وجود ما} أي: خبر {لم يكن كذلك} أي: لم يكن خلافه عموم الكتاب، والمعنى أنّه لو سلّم وجود خبر ليس عموم الكتاب مخالفاً له فهو في غاية النّدور، فيلزم من عدم العلم بأخبار الآحاد المخالفة للكتاب إلغاء معظم الأخبار بحيث لا يبقى منها إلّا النّادر.

ثمّ إنّه استدلّ القائلون بعدم الجواز بأنّ الخبر ظنّي السّند والكتاب قطعيّ فكيف يجوز ترك القطعيّ بالظنّي؟ {و} أجاب المصنّف(رحمة الله) عنه: بأنّ {كون العام الكتابي قطعيّاً صدوراً والخبر الواحد ظنيّاً سنداً} لا ربط له بالمقام؛ لأنّا لا نريد رفع

ص: 186

لا يمنع عن التصرّف في دلالته غير القطعيّة قطعاً، وإلّا لما جاز تخصيص المتواتر به أيضاً، مع أنّه جائز جزماً.

والسّرّ: أنّ الدوران في الحقيقة بينأصالة العموم ودليل سند الخبر، مع أنّ الخبر - بدلالته وسنده - صالحٌ للقرينيّة على التصرّف فيها، بخلافها، فإنّها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره.

___________________________________________

اليد عن سند الكتاب بواسطة الخبر، بل نريد رفع اليد عن ظاهره، ومن المعلوم أنّ قطعيّة سند الكتاب {لا يمنع عن التصرّف في دلالته غير القطعيّة قطعاً، وإلّا} فلو كان مجرّد قطعيّة صدور الكتاب مانعة عن رفع اليد عن ظاهره {لما جاز تخصيص} الخبر {المتواتر به} أي: بخبر الواحد {أيضاً} لتمشّي الدليل السّابق هنا، فإنّه يقال الخبر ظنّي السّند والمتواتر قطعيّ ولا يجوز ترك القطعي بالظنّي {مع أنّه جائز جزماً} فما يقولون هنا نقوله هناك.

{والسّرّ} في جواز تخصيص الكتاب بالخبر {أنّ الدوران في الحقيقة} ليس بين طرح سند الكتاب أو سند الخبر، بل {بين أصالة العموم} في الكتاب وهي طنيّة {ودليل سند الخبر} وهو ظنّيّ أيضاً، فإمّا أن نأخذ بظهور الكتاب ونطرح الخبر رأساً وإمّا أن نأخذ بسند الخبر - أي: نصدّق العادل في خبره - ونرفع اليد عن عموم الكتاب.

فإن قلت: إذا كان الأمر دائراً بين أمرين ظنّيّين فلم تقدّمون أحدهما على الآخر، بل اللّازم تقديم أيّهما شئنا على الآخر؟

قلت: أشار المصنّف إلى جوابه بقوله: {مع أنّ الخبر بدلالته} الّتي هي أخصّ من عموم الكتاب - والخاصّ مقدّم على العام عرفاً - {وسنده} المستند حجيّته إلى صدق العادل {صالح للقرينيّة على التصرّف فيها} أي: في أصالة العمومالكتابي {بخلافها، فإنّها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره} أي: اعتبار الخبر؛

ص: 187

ولا ينحصر الدليل على الخبر بالإجماع، كي يقال ب- «أنّه في ما لا يوجد على خلافه دلالة، ومع وجود الدلالة القرآنيّة يسقط وجوب العمل به»(1). كيف؟ وقد عرفت: أنّ سيرتهم مستمرّة على العمل به في قبال العمومات الكتابيّة.

والأخبارُ الدالّة على أنّ الأخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها، أو ضربها على الجدار، أو أنّها زخرف، أو أنّها ممّا لم يقل بها الإمام، وإن كانت كثيرة جدّاً، وصريحة الدلالة على طرح المخالف،

___________________________________________

لأنّ دليل اعتبار الخبر قطعي، والعمدة هي أنّ الجمع العرفي بعد تساويهما يقتضي تقديم الخبر على ظهور الكتاب في العموم.

{و} إن قلت: دليل حجيّة الخبر هو الإجماع، ولا إجماع على حجيّة الخبر المخالف للكتاب، فعند التعارض يسقط الخبر لعدم دليل على حجيّته.

قلت: {لا ينحصر الدليل على} حجيّة {الخبر بالإجماع كي يقال ب-«أنّه} أي: الإجماع يقول بحجيّة الخبر {في ما لا يوجد على خلافه دلالة} الكتاب {ومع وجود الدلالة القرآنيّة يسقط وجوب العمل به»} و{كيف} يكون الدليل على الخبر هو الإجماع فقط {وقد عرفت أنّ سيرتهم مستمرّة على العمل به} أي: بالخبر {في قبال العمومات الكتابيّة} ولو كان الدليل - هو الإجماع فيظرف عدم المخالفة - لم تستمرّ السّيرة المذكورة، فوجود السّيرة كاشف عن وجود مدرك آخر لحجيّة الخبر.

{و} إن قلت: {الأخبار الدالّة على أنّ الأخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها، أو ضربها على الجدار، أو أنّها زخرف، أو أنّها ممّا لم يقل بها الإمام} - عليه الصّلاة والسّلام - كلّها تدلّ على حجيّة الخبر المخالف للكتاب، والمخالفة أعمّ من التخالف بنحو التباين أو العموم المطلق او العموم من وجه.

قلت: هذه الأخبار {وإن كانت كثيرة جدّاً وصريحة الدلالة على طرح المخالف}

ص: 188


1- معارج الأصول: 96.

إلّا أنّه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الأخبار غير مخالفة العموم، إن لم نقل بأنّها ليست من المخالفة عرفاً، كيف؟ وصدور الأخبار المخالفة للكتاب - بهذه المخالفة - منهم(علیهم السلام) كثيرةٌ جدّاً.

مع قوّة احتمال أن يكون المراد: أنّهم لا يقولون بغير ما هو قول اللّه - تبارك وتعالى - واقعاً، وإن كان هو على خلافه ظاهراً، شرحاً لمرامه - تعالى - ، وبياناً لمراده من كلامه، فافهم.

___________________________________________

قطعاً {إلّا أنّه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الأخبار غير مخالفة العموم} المطلق، بأن يكون المراد بها مخالفة التباين.

هذا على تقدير تسليم أنّها مخالفة، وأمّا {إن لم نقل} بذلك، بل قلنا {بأنّها} أي: المخالفة بالعموم المطلق {ليست من المخالفةعرفاً} فالأمر واضح، و{كيف} يمكن أن يكون المراد من المخالفة الموجبة لطرح الخبر مخالفة العموم المطلق {و} الحال أنّ {صدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة} بالعموم المطلق {منهم(علیهم السلام) كثيرة جدّاً} بحيث يؤول طرحها إلى انهدام أساس الفقه {مع قوّة احتمال أن يكون المراد} من قولهم(علیهم السلام): «ما خالف قول ربّنا لم نقله»(1)

ونحوه {أنّهم لا يقولون بغير ما هو قول اللّه - تبارك وتعالى - واقعاً} فإنّ كلامهم مطابق لمراده - سبحانه - {وإن كان هو على خلافه} أي: خلاف كلامه - تعالى - {ظاهراً} فإنّه ليس مخالفاً له واقعاً، بل صدر منهم(علیهم السلام) {شرحاً لمرامه - تعالى - وبياناً لمراده من كلامه، فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى عدم استقامة هذا التوجيه؛ لأنّ جملة من هذه الأخبار صدرت لبيان الضّابط لمعرفة الخبر وعلاج المعارضة، والرّواة ليسوا عالمين بالواقعيّات حتّى يعلموا المخالف من الموافق، فلا بدّ من أن يكون مراد الأئمّة(علیهم السلام) مخالفة ظاهر الكتاب لا خلاف مقصود اللّه - سبحانه - .

ص: 189


1- راجع مضمونه في بحار الأنوار 2: 250.

والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النّسخ به ممنوعة، وإن كان مقتضى القاعدة جوازهما؛ لاختصاص النّسخ بالإجماع على المنع. مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده، بخلاف التخصيص.

___________________________________________

ثمّ إنّ بعض المتأخّرين ذكر وجهاً آخر لعدم جواز تخصيص الكتاب بالخبرالواحد، وحاصله: أنّ القرآن الّذي أُنزل قانوناً ونظاماً للأُمّة لا يمكن أن يكون المراد منه غير ظاهره؛ لأنّه جعل ملاذاً ومرجعاً، فكيف لا يراد منه ظواهر عمومه وإطلاقه؟

وجوابه أنّه نزل لبيان القوانين إجمالاً وأوكل بيانه إلى المنزل عليه، ولهذا لم يبيّن عدد الرّكعات، ونصب الزكوات، وأعمال الحجّ، وشرائط الجهاد، وحدود الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وخصوصيّات البيع والشّراء، وتفاصيل الأطعمة والأشربة إلى كثير من غيرها، كما هو شأن كتب القانون عامّة، خصوصاً إذا كان مقترناً بشرع جديد وحكومة حديثة، ولذا ترى أغلب آيها في تنظيم الحكومة الجديدة ورفض الأديان والتقاليد والعقائد والأنظمة السّابقة، مشيراً إلى كثير من المحسنات والمقبحات بالقصص المناسبة لإفهام عامّة الطبقات.

ثمّ أشار المصنّف(رحمة الله) إلى جواب إشكال آخر، وهو أنّه لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه، والتالي باطل إجماعاً فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: أنّ النّسخ قسم من التخصيص، إذ هو بالنسبة إلى الأزمان كما أنّ الأوّل بالنسبة إلى الأفراد، بقوله: {والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النّسخ به} أي: بالخبر الواحد {ممنوعة، وإن كان مقتضى القاعدة} المتقدّمة من أنّه تعارض بين سند الخبر ودلالة الكتاب الظنيّين {جوازهما} وإنّما منعنا الملازمة للفرق بينهما {لاختصاص النّسخ بالإجماع على المنع} وكفى به فارقاً {مع وضوح الفرق} بين النّسخ والتخصيص من وجه آخر {بتوافر الدواعي إلى ضبطه، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده بخلاف التخصيص}.

ص: 190

فصل: لا يخفى أنّ العام والخاص المتخالفين يختلف حالهما ناسخاً ومخصّصاً ومنسوخاً، فيكون الخاصّ: مخصّصاً تارةً،وناسخاً مرّةً، ومنسوخاً أُخرى:

وذلك لأنّ الخاصّ إن كان مقارناً مع العام، أو وارداً بعده قبلَ حضور وقت العمل به، فلا محيص عن كونه مخصّصاً وبياناً له.

___________________________________________

وعليه فلو وجد خبر ظاهره نسخ القرآن فرضاً لم نعمل به لوجهين:

الأوّل: الإجماع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد.

الثّاني: أنّ توفّر الدواعي لضبط النّسخ مع عدم ضبطهم هذا كاشف عن عدم صحّته.

والوجهان مفقودان في التخصيص لعدم الإجماع على عدم التخصيص ولعدم توفّر الدواعي على ضبطه، واللّه - تعالى - العالم بحقيقة الحال.

[فصل العام والخاص المتخالفان]

المقصد الرّابع: في العام والخاص، العام والخاص المتخالفان

{فصل} في العام والخاص المتخالفين {لا يخفى أنّ العام والخاص المتخالفين} بحسب الدلالة نحو (أكرم العلماء ولا تكرم فسّاقهم) {يختلف حالهما} فتارة يكون الخاص {ناسخاً} لحكم العام {و} أُخرى يكون {مخصّصاً} له {و} ثالثة يكون {منسوخاً} به {فيكون الخاص مخصّصاً تارةً، وناسخاً مرّةً، ومنسوخاً أُخرى}.

{و} بيان {ذلك} يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي أنّ الخاص قد يكون وارداً قبل العام وقد يكون وارداً بعده وقد يكون مقارناً معه، وعلى التقديرين الأوّلين فإمّا أن يكون الثّاني بعد حضور وقت العمل بالأوّل وإمّا أن يكون قبله، فالأحوال المتصوّرة خمسة ويختلف الحكم في ذلك {لأنّ الخاص إن كان مقارناً مع العام أو وارداً بعده قبل حضور وقت العمل به} كما لو قال المولى في يوم الجمعة: (أكرمالعلماء يوم الاثنين)، ثمّ قال في يوم السّبت: (لا تكرم زيداً) {فلا محيص عن كونه} أي: الخاص {مخصّصاً وبياناً له} كاشفاً عن أنّ المراد الجدّي من أوّل الأمر

ص: 191

وإن كان بعد حضوره كان ناسخاً لا مخصّصاً؛ لئلّا يلزم تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة في ما إذا كان العام وارداً لبيان الحكم الواقعي، وإلّا لكان الخاصّ أيضاً مخصّصاً له، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والرّوايات.

وإن كان العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاص، فكما يحتمل أن يكون الخاصّ مخصّصاً للعام، يحتمل أن يكون العام ناسخاً له، وإن كان الأظهر أن يكون الخاص مخصّصاً؛

___________________________________________

كان غير زيد {وإن كان} الخاصّ الوارد بعد العام {بعد حضوره} أي: بعد حضور وقت العمل بالعام، كما لو قال في يوم الثّلاثاء: (لا تكرم زيداً) {كان} الخاص {ناسخاً} لحكم زيد المستفاد من العام {لا مخصّصاً، لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة} المستقبح عقلاً.

ولكن لا يخفى أنّ الالتزام بكون الخاصّ ناسخاً - في هذه الصّورة - إنّما هو {في ما إذا كان العام} المتقدّم {وارداً لبيان الحكم الواقعي، وإلّا} فلو كان لبيان الحكم الظاهري لمصلحة اقتضى ذلك {لكان الخاص أيضاً مخصّصاً له} كالصورتين الأوليين {كما هو الحال في غالب العمومات والخصومات} الواردة {في الآيات والرّوايات} واختلافالحكم الظاهري والواقعي بمكان من الإمكان، كما حقّق في جواب ابن قبة وغيره المذكور في الجلد الثّاني.

{و} أمّا {إن} انعكس الأمر بأن {كان العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاص} كما لو أمر بإكرام زيد ثمّ قال بعد أيّام: (لا تكرم الفسّاق) {فكما يحتمل أن يكون الخاص مخصّصاً للعام} حتّى يكون الواجب عدم إكرام الفسّاق إلّا زيداً {يحتمل أن يكون العام ناسخاً له} فيحرم إكرام الفسّاق حتّى زيداً {وإن كان الأظهر} بحسب الغلبة {أن يكون الخاص مخصّصاً} للعام لا أن يكون العام ناسخاً

ص: 192

لكثرة التخصيص حتّى اشتهر: «ما من عامّ إلّا وقد خُصّ» مع قلّة النّسخ في الأحكام جدّاً. وبذلك يصير ظهور الخاص في الدوام - ولو كان بالإطلاق - أقوى من ظهور العام - ولو كان بالوضع - ، كما لا يخفى.

هذا في ما علم تاريخُهما.

وأمّا لو جُهل وتردّد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، وقبل حضوره، فالوجه هو الرّجوع إلى الأصول العمليّة.

___________________________________________

له {لكثرة التخصيص حتّى اشتهر} في الألسن {«ما من عامّ إلّا وقد خُصّ» مع قلّة النّسخ في الأحكام جدّاً} حتّى أنكره جماعة من المحقّقين رأساً.

{وبذلك} الّذي ذكرنا من قلّة النّسخ وكثرة التخصيص {يصير ظهور الخاصّ} أعني: (أكرم زيداً) مثلاً {في الدوام} إلى الأبد {ولو كان} الدوام {بالإطلاق} ومقدّمات الحكمة القائلة بأنّه لو أُريدالإكرام في وقت خاصّ لزم تقييد الكلام به {أقوى من ظهور العام} في العموم الشّامل لزيد في مثال (لا تكرم الفسّاق) {ولو كان} العموم {بالوضع}.

والحاصل: أنّ هذه القرينة الخارجيّة تكون سبباً لأقوائيّة دوام الخاص عن عموم العام فيخصّص العام به {كما لا يخفى} وإن كان العام في نفسه لكونه بالوضع أقوى من الدوام لكونه بالإطلاق.

{هذا} كلّه {في ما علم تاريخهما، وأمّا لو جهل وتردّد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام} حتّى يكون ناسخاً {و} بين أن يكون {قبل حضوره} حتّى يكون مخصّصاً {فالوجه هو الرّجوع إلى الأصول العمليّة}.

لا يخفى أنّه بعد ورود الخاص والعام لا شبهة في أنّ البناء على النّسخ سواء قلنا بكونه ناسخاً للعام أو مخصّصاً، فالعمل المرتبط بما بعدهما لا يفرّق فيه بين النّسخ والتخصيص.

ص: 193

وكثرة التخصيص وندرة النّسخ هاهنا، وإن كانا يوجبان الظنّ بالتخصيص أيضاً، وأنّه واجد لشرطه، إلحاقاً له بالغالب، إلّا أنّه لا دليل على اعتباره،

___________________________________________

نعم، الفرق إنّما هو في ما بين زمان ورود العام وورود الخاص بالنسبة إلى حكم القضاء والإعادة بعد ورود الخاص، فإنّه إن ترك العمل بالخاص قبل ورود المخصّص ثمّ أراد التدارك بعد ورود الخاص فإن كان الخاص ناسخاً لزم التدارك وإن كان مخصّصاً لم يلزم.

مثلاً: لو أوجب إكرام العلماء بإعطاء كلّ يوم لكلّ واحد منهم ديناراً ثمّ حرّمإكرام زيد ودار أمر التحريم بين المخصصيّة والنّاسخيّة - مع فرض أنّه لم يعط قبل ورود المخصّص لزيد شيئاً - فإن كان الخاص ناسخاً لزم تدارك ما فات منه من الإعطاء لزيد؛ لأنّ الحكم كان إلى زمان ورود الخاص وإنّما نسخه الخاص، بخلاف ما لو كان الخاص مخصّصاً، فإنّه يكشف عن عدم الوجوب بالنسبة إلى زيد من أوّل الأمر فلا يجب التدارك.

وبهذا تبيّن أنّ المرجع في المقام هو البراءة؛ لأنّه لا يعلم بوجوب أصل الإعطاء حتّى يجب عليه التدارك.

{وكثرة التخصيص وندرةُ النّسخ هاهنا} أي: في ظرف ورود الخاص بعد العام {وإن كانا يوجبان الظنّ بالتخصيص} فيكون المرجع في ظرف الشّكّ التخصيص الموجد للبراءة لا أصالة البراءة العمليّة {أيضاً} كما في ما كان الخاص قبل العام {وأنّه واجد لشرطه} أي: شرط التخصيص وهو الورود قبل زمان العمل {إلحاقاً له بالغالب} في الخاص، فإنّ الظنّ يلحق الشّيء بالأعم الأغلب. مثلاً: لو كان غالب من رأيناه من أهل السّودان أسود ثمّ شككنا في أحد منهم أنّه أسود أم لا حكمنا بأسوديّته للقاعدة المذكورة {إلّا أنّه لا دليل على اعتباره} أي: اعتبار هذا الظنّ ما لم يحرز بناء العقلاء الموجب للظهور.

ص: 194

وإنّما يوجبان الحملَ عليه في ما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص؛ لصيرورة الخاص بذلك في الدوام أظهر من العام، كما أُشير إليه، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

{و} إن قلت: فما الفرق بين العام الوارد بعد حضور وقت العمل بالخاص حيث حكمتم بِكَوْنِ الخاص مخصّصاً لا ناسخاً، وبين الخاص الوارد بعد العاممع تردّده بين أن يكون بعد حضور العمل وقبله حيث حكمتم بالرجوع إلى الأصول العمليّة مع أنّهما من وادٍ واحدٍ، لدوران الأمر في كلّ منهما بين النّسخ والتخصيص؟

قلت: {إنّما يوجبان} كثرة التخصيص وقلّة النّسخ {الحمل عليه} أي: على التخصيص {في ما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص لصيرورة الخاصّ بذلك} التكثّر {في الدوام أظهر من العام} في العموم {كما أُشير إليه} فالعمل إنّما هو على طبق الظهور وكثرة التخصيص وقلّة النّسخ سبب له، بخلاف ما نحن فيه لعدم الظهور للخاصّ في كونه مخصّصاً حتّى يسقط احتمال النّسخ.

{فتدبّر جيّداً} يمكن أن يكون إشارة إلى دفع وهم حاصله: أنّه كما يكون الظنّ بالتخصيص لكثرته موجباً لظهور الخاصّ في التخصيص في ما ورد العام بعد الخاص فليكن هذا الظنّ أيضاً موجباً له في ما ورد الخاصّ بعد العام.

والجواب بالفرق، فإنّ العام مؤخّر يدور الأمر فيه بين ظهورين: ظهور الخاصّ في الدوام والعام في العموم، بخلاف العام المقدّم فإنّه يدور الأمر بين ورود الخاصّ قبل حضور وقت العمل وبعده، وليس أحدهما مؤدّي الظهور حتّى يرجع أحدهما بالظنّ النّاشئ من كثرة التخصيص.

ولا يذهب عليك أنّ غالب ما ذكره المصنّف(رحمة الله) في هذا الباب استحسانات عقليّة لا توجب ظهوراً ولا حجيّة فيها في أنفسها، فالمتّبع هو الظهور فإن كان فهو وإلّا فالمرجع الأصول العمليّة.

ص: 195

ثمّ إن تعيّن الخاص للتخصيص، إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به، إنّما يكون مبنيّاً على عدم جواز النّسخ قبلحضور وقت العمل، وإلّا فلا يتعيّن له، بل يدور بين كونه مخصّصاً وناسخاً في الأوّل، ومخصّصاً ومنسوخاً في الثّاني، إلّا أنّ الأظهر كونه مخصّصاً، وإن كان ظهور العام في عموم الأفراد

___________________________________________

{ثمّ إنّ} ما ذكرنا من {تعيّن الخاصّ للتخصيص} دون النّسخ {إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به} أو وقع مقارناً للعام {إنّما يكون مبنيّاً على عدم جواز النّسخ قبل حضور وقت العمل} كما هو المشهور في ألسنة القوم؛ لأنّ النّسخ عبارة عن رفع الحكم الثّابت ولا ثبوت للحكم قبل حضور وقت العمل {وإلّا} فلو قلنا بجواز النّسخ قبل حضور وقت العمل {فلا يتعيّن} الخاص في الصّور الثّلاثة {له} أي: لكونه مخصّصاً {بل يدور بين كونه مخصّصاً وناسخاً في الأوّل} وهو ما إذا ورد قبل وقت حضور العمل بالعام {ومخصّصاً ومنسوخاً في الثّاني} وهو ما إذا ورد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص، ومخصّصاً وناسخاً ومنسوخاً في الثّالث وهو ما إذا ورد مقارناً للعام.

وعلّق المصنّف على قوله: «ثمّ إنّ تعيّن الخاص للتخصيص» ما لفظه: «لا يخفى أنّ كونه مخصّصاً بمعنى كونه مبيّناً لمقدار المراد عن العام، وناسخاً بمعنى كون حكم العام غير ثابت في نفس الأمر في مورد الخاص مع كونه مراداً ومقصوداً بالإفهام في مورده بالعام كسائر الأفراد، وإلّا فلا تفاوت بينهما عملاً أصلاً، كما هو واضح لا يكاد يخفى»(1)،

انتهى.وحاصل ما ذكره: عدم الثّمرة لكون الخاص مخصّصاً أو ناسخاً {إلّا أنّ الأظهر كونه مخصّصاً وإن كان ظهور العام في عموم الأفراد} لكونه بالوضع

ص: 196


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 445.

أقوى من ظهور الخاص في الخصوص؛ لما أُشير إليه من تعارف التخصيص وشيوعه، وندرة النّسخ جدّاً في الأحكام.

ولا بأس بصرف عنان الكلام إلى ما هو نخبة القول في النّسخ.

فاعلم: أنّ النّسخ وإن كان رفعَ الحكم الثّابت إثباتاً، إلّا أنّه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتاً، وإنّما اقتضت الحكمة إظهارَ دوام الحكم واستمراره، أو

___________________________________________

{أقوى من ظهور الخاص في الخصوص} لكونه بالإطلاق {لما أُشير إليه من تعارف التخصيص وشيوعه وندرة النّسخ جدّاً في الأحكام}.

ثمّ لا يذهب عليك عدم الثّمرة العمليّة لهذا الكلام الطويل بالنسبة إلينا؛ لأنّه بعد البناء على عدم كون الخاصّ ناسخاً - في الفقه - فاللّازم تخصيص العام به سواء كان قبله أو بعده أو مقارنه، جهل التاريخ أو علم، كان المتأخّر بعد حضور وقت العمل - فالمتقدّم بالنسبة إلى المشافهين - أم قبله، وعلى هذا جرى ديدن الفقهاء، ولذا لا يتوقّفون بمجرّد رؤية الخاصّ من العمل على طبقه ولو كان نبويّاً والعام عسكريّاً. نعم، من جوّز النّسخ في كلمات الأئمّة(علیهم السلام) فيفيده بعض هذا النّزاع.

{و} حيث انجرّ الكلام إلى النّسخ وأنّه هل يمكن نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل به، أم لا ف- {لا بأس بصرف عنان الكلام إلى ما هو نخبة القول في النّسخ} وتفسير معناه: {فاعلم أنّ النّسخ وإن كان} في الظاهر {رفع الحكم الثّابت إثباتاً} متعلّق بالرفع، أي: إنّ رفع الحكم فيمقام الإثبات نسخ {إلّا أنّه في الحقيقة} والواقع {دفع الحكم ثبوتاً} وواقعاً، بحيث لم يكن في الواقع حكم، وإن كان تخيّل من ظاهر الدليل وجود الحكم {وإنّما اقتضت الحكمة} الإلهيّة {إظهار دوام الحكم واستمراره} مع أنّ الحكم في الواقع ليس مستمرّاً، كأن يأمر بتقديم الصّدقة بين يدي النّجوى(1)، الظاهر في الدوام والاستمرار {أو} تقتضي الحكمة

ص: 197


1- إشارة إلى الآية الكريمة: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةٗۚ...} سورة المجادلة، الآية: 12.

أصلَ إنشائه وإقراره، مع أنّه بحسب الواقع ليس له قرار، أو ليس له دوام واستمرار؛ وذلك لأنّ النّبيّ(صلی الله علیه و آله) الصّادع للشرع ربّما يُلهم أو يوحى إليه أن يظهر الحكم أو استمراره، مع اطلاعه على حقيقة الحال وأنّه يُنسِخ في الاستقبال، أو مع عدم اطلاعه على ذلك؛ لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه - تبارك وتعالى - . ومن هذا القبيل لعلّه يكون أمرُ إبراهيم بذبح إسماعيل.

وحيث عرفت: أنّ النّسخ بحسب الحقيقة يكون دفعاً،

___________________________________________

{أصل إنشائه وإقراره} مع أنّه ليس في الواقع مراداً، كأن يأمر إبراهيم - عليه الصّلاة والسّلام - بذبح ولده {مع أنّه بحسب الواقع ليس له قرار} هذا بالنسبة إلى الثّاني {أو ليس له دوام واستمرار} هذا بالنسبة إلى الأوّل.

وعلى كلّ تقدير فدليل النّاسخ يبيّن المراد من المنسوخ وأنّه لم يرد به الدوام مع الإرادة في الجملة في الأوّل، أو لم يرد به إلّا الامتحان ونحوه في الثّاني {وذلكلأنّ النّبيّ(صلی الله علیه و آله) الصّادع للشّرع ربّما يلهم أو يوحى إليه} أو يرى في المنام أو غير ذلك من أنحاء الإلقاء {أن يظهر} أصل {الحكم، أو} يظهر {استمراره مع اطلاعه} (علیه السلام) {على حقيقة الحال، وأنّه ينسخ في الاستقبال، أو مع عدم اطلاعه على ذلك} النّسخ، وعدم اطلاع النّبيّ ليس مستغرباً {لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه - تبارك وتعالى -} {وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ}(1).

{ومن هذا القبيل} الّذي لم يكن النّبي(صلی الله علیه و آله) يعلم بحقيقة الحال {لعلّه يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل} إذ لو علم(علیه السلام) النّسخ لم يكن له كثير ثواب ومدح، إذ الرّجل العادي منّا لو علم بنسخ تكليف شاقّ عليه لم يكن تهيئته للمقدّمات ممدوحاً.

{و} كيف كان، ف- {حيث عرفت أنّ النّسخ بحسب الحقيقة يكون دفعاً} وبياناً

ص: 198


1- سورة الأعراف، الآية: 188.

وإن كان بحسب الظاهر رفعاً، فلا بأس به مطلقاً، ولو كان قبل حضور وقت العمل؛ لعدم لزوم البداء المحال في حقّه - تبارك وتعالى - ، بالمعنى المستلزم لتغيّر إرادته - تعالى -

___________________________________________

لعدم الحكم من أوّل الأمر إلّا صورياً {وإن كان بحسب الظاهر} يكون {رفعاً} للحكم الثّابت {فلا بأس به مطلقاً ولوكان قبل حضور وقت العمل} ولا يشترط بما ذكره المشهور من اشتراط حضور وقت العمل مفرّقين به بين النّسخ والتخصيص {لعدم لزوم البداء المحال في حقّه - تبارك وتعالى - بالمعنى المستلزم لتغيّر إرادته - تعالى -} بخلاف ما لو كان النّسخ في الحقيقة دفعاً، إذ يلزم منه البداء المستلزم للجهل، إذ لو أمر - سبحانه - بصلاة خمسين ركعة في اليوم والليلة حسب المصلحة الموجودة في الفعل بلا مفسدة أصلاً ثمّ نسخ ذلك قبل العمل وجعلها سبعة عشرة ركعة، لكان أحد الأمرين خطاءً لا محالة، إمّا الجعل الأوّل وإمّا الرّفع الثّاني.

وهذا الكلام بعينه آتٍ في ما لو كان النّسخ بعد حضور وقت العمل رفعاً لا دفعاً، إذ جعل الاستمرار حقيقة ثمّ رفعه يستلزم أحد الخطأين، وحيث قلنا بأنّ النّسخ مطلقاً سواء كان لأصل الحكم أم لاستمراره رفعاً لم يلزم محذور، ولم يفرّق فيه حينئذٍ النّسخ قبل حضور وقت العمل وبعده، كما ظهر بذلك أيضاً بطلان ما اشتهر بينهم من لزوم كون التخصيص قبل حضور وقت العمل - عكس النّسخ - معلّلين بأنّه لو صدر بعد الحضور لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

بيان البطلان: أنّه كما يمكن إظهار الحكم لمصلحة مع إرادته في الواقع في باب النّسخ، كذلك يمكن إظهار عموم الحكم مع عدم إرادة العموم في الواقع وإنّما الموجب لإظهار العموم مصلحة اقتضتها الحال، ثمّ يبيّن بعد العمل تخصيصه وإنّه لم يرد منه إلّا البعض لا الكل.

فتحصّل إمكان النّسخ قبل حضور وقت العمل وجواز التخصيص بعد حضور وقت العمل، لعدم لزوم تأخير البيان القبيح في التخصيص ولا لزوم البداء المحال

ص: 199

مع اتحاد الفعل ذاتاً وجهةً، وإلّا لزم امتناع النّسخ أو الحكم المنسوخ؛ فإنّ الفعل إن كان مشتملاً على مصلحة موجبةللأمر به امتنع النّهي عنه، وإلّا امتنع الأمر به؛ وذلك لأنّ الفعل أو دوامه لم يكن متعلّقاً لإرادته، فلا يستلزم نسخُ أمره بالنهي تغيير إرادته، ولم يكن الأمر بالفعل من جهة كونه مشتملاً على مصلحة، وإنّما كان إنشاء الأمر به أو إظهار دوامه عن حكمة ومصلحة.

___________________________________________

في النّسخ؛ لأنّ في الإظهار مصلحة، وذلك لا يستلزم تغيّر إرادته - سبحانه - {مع اتحاد الفعل ذاتاً وجهة، وإلّا} فلو كان النّسخ قبل حضور وقت العمل مستحيلاً لاستلزامه تغيّر الإرادة {لزم امتناع النّسخ أو الحكم المنسوخ} مطلقاً ولا اختصاص للاستحالة بصورة قبليّة حضور وقت العمل {فإنّ} النّسخ لو كان رفعاً امتنعا(1)

جميعاً، إذ {الفعل إن كان مشتملاً على مصلحة موجبة للأمر به امتنع النّهي عنه، وإلّا} يكن مشتملاً على مصلحة {امتنع الأمر به} ولو كان دفعاً صحّا جميعاً، فلا وجه للتفصيل بين بعد حضور وقت العمل فيجوز وقبله فلا يجوز.

{وذلك} الّذي ذكرنا مع صحّة النّسخ مطلقاً {لأنّ الفعل أو دوامه لم يكن} في الواقع ونفس الأمر {متعلّقاً لإرادته} سبحانه {فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي} أو العكس {تغيير إرادته} المستلزم للجهل - تعالى عنه - {ولم يكن الأمر بالفعل} من الأوّل {من جهة كونه مشتملاً على مصلحة، وإنّما كان إنشاء الأمر به} أي: بالفعل {أو إظهار دوامه} ناشئاً {عن حكمةومصلحة}.

وبهذا كلّه ظهر سقوط الإشكالات الّتي ذكروها لبطلان النّسخ في الشّرعيّات من أنّ الأفعال تابعة للحسن والقبح، فلو كان في الفعل مفسدة لما أمر به أوّلاً ولو كان مصلحة لما نهى عنه ثانياً.

ومِن أنّه يستلزم الجهل؛ لأنّ جعل الحكم ناشٍ عن العلم بالمصلحة، فلو لم

ص: 200


1- قبل حضور وقت العمل وبعده.

وأمّا البداء في التكوينيّات بغير ذاك المعنى، فهو ممّا دلّ عليه الرّوايات المتواترات، كما لا يخفى.

ومجمله: أنّ اللّه - تبارك وتعالى - إذا تعلّقت مشيّته - تعالى - بإظهار ثبوت ما يمحوه

___________________________________________

يكن في الفعل مصلحة علمها أوّلاً ثمّ نسيها فنسخ الحكم لزم الجهل ثانياً.

ومن أنّ جعل الحكم تابع للإرادة فتغييره مستلزم لتغيّر الإرادة وهو مستحيل في حقّه - سبحانه - .

والجواب عن الكلّ ما تقدّم من أنّ الحكم ليس مجعولاً حقيقة أولاً، بل جعل صوري لمصلحة فيه، فالنسخ يظهر عدمه المعبّر عنه بالدفع لا أنّه يرفعه، وهذا في كمال الظهور.

هذا كلّه حال النّسخ في التشريعيّات {وأمّا البداء في التكوينيّات} كأن يخبر بعذاب قوم يونس لا يعذّبهم، أو يخبر بموت العروس ليلة الزفاف ثمّ لا يموت، أو يخبر بإمامة إسماعيل ثمّ لا يجعله إماماً بأن يتوفّاه ويجعل موسى بن جعفر(علیهما السلام) مكانه، وكذا بالنسبة إلى الإمام الهادي والعسكري(علیهما السلام) إلى غير ذلك {بغير ذاك المعنى} الّذي تقدّم استحالته من تغيّر الإرادة واقعاً {فهو ممّا دلّعليه الرّوايات المتواترات، كما لا يخفى} كقول الصّادق(علیه السلام): «ما عُظِّم اللّه - عزّ وجلّ - بمثل البداء»(1)،

وقول الرّضا(علیه السلام): «ما بعث اللّه نبيّاً قطّ إلّا بتحريم الخمر وأن يقرّ له بالبداء»(2)،

وقول الصّادق(علیه السلام) أيضاً: «ولو يعلم النّاس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه»(3)

إلى غير ذلك.

{ومجمله أنّ اللّه - تبارك وتعالى - إذا تعلّقت مشيّته - تعالى - بإظهار ثبوت ما يمحوه}

ص: 201


1- التوحيد: 333.
2- التوحيد: 334.
3- التوحيد: 334.

- لحكمة داعية إلى إظهاره - ألهَم أو أوحى إلى نبيّه أو وليّه أن يُخبر به، مع علمه بأنّه يمحوه، أو مع عدم علمه به؛ لما أُشير إليه من عدم الإحاطة بتمام ما جرى في علمه. وإنّما يخبر به؛ لأنّه حال الوحي أو الإلهام - لارتقاء نفسه الزكيّة، واتصاله بعالم لوح المحو والإثبات - اطّلع على ثبوته، ولم يطّلع على كونه معلّقاً على أمر غيرَ واقع، أو عدم الموانع، قال اللّه - تبارك وتعالى - : {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ}(1) الآية.

___________________________________________

كإظهار ثبوت إمامة إسماعيل الّذي يمحوه بعد {لحكمة داعية إلى إظهاره ألهم أو أوحى إلى نبيّه أو وليّه أن يخبر به، مع علمه} (علیه السلام) {بأنّه} تعالى{يمحوه، أو مع عدم علمه} (علیه السلام) {به} أي: بالمحو، وإنّما يجوز عدم علم النّبي أو الولي به {لما أُشير إليه من عدم الإحاطة} للنبيّ والولي {بتمام ما جرى في علمه} ولا يحيطون بشيء من علمه إلّا بما شاء {وإنّما يخبر} النّبي أو الولي {به؛ لأنّه حال الوحي أو الإلهام - لارتقاء نفسه الزكيّة واتصاله بعالم لوح المحو والإثبات} يمحو اللّه ما يشاء ويثبت - لا لوح الواقع - وعنده أُمّ الكتاب - {اطّلع} النّبيّ أو الولي {على ثبوته ولم يطّلع على كونه معلّقاً على أمر غير واقع أو عدم الموانع} كمن يرى نصف اللوح فيرى أنّ العروس الفلانيّة تموت في هذه الليلة، ولا يرى النّصف الآخر المكتوب فيه بشرط أن لا تتصدّق فيخبر بالموت والحال أنّها تصدّقت فلم تمت {قال اللّه - تبارك وتعالى - {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ} الآية} بل قد يكون الاطلاع بإخبار اللّه سبحانه.

فعن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «كان في بني إسرائيل نبيّ وعده اللّه أن ينصره إلى خمس عشرة ليلةً، فأخبر بذلك قومه فقالوا: واللّه إذا كان ليفعلنّ وليفعلنّ، فأخبره اللّه إلى خمس عشرة سنة، وكان فيهم من وعده اللّه النّصرة إلى خمس عشرة سنة فأخبر بذلك النّبيّ قومه، فقالوا: ما شاء اللّه، فعجّله اللّه لهم في خمس عشرة

ص: 202


1- سورة الرعد، الآية: 39.

نعم، مَن شملته العناية الإلهيّة واتصلت نفسه الزكيّة بعالم لوح المحفوظ - الّذي هو من أعظم العوالم الرّبوبيّة، وهو أُمّ الكتاب - ينكشف عنده الواقعيّات على ما هي عليها، كما ربّما يتّفق لخاتم الأنبياء ولبعض الأوصياء، وكان عارفاً على الكائناتكما كانت وتكون.

نعم، مع ذلك، ربّما يوحى إليه حكم من الأحكام: تارةً بما يكون ظاهراً في الاستمرار والدوام، مع أنّه في الواقع له غاية وأمد يعيّنها بخطاب آخر، و

___________________________________________

ليلة»(1).

{نعم، من شملته العناية الإلهيّة واتصلت نفسه الزكيّة بعالم لوح المحفوظ - الّذي هو من أعظم العوالم الرّبوبيّة} لأنّه عالم العلم المختصّ بذاته - سبحانه وتقدّس - {وهو أُمّ الكتاب - ينكشف عنده الواقعيّات على ما هي عليها، كما ربّما يتّفق لخاتم الأنبياء ولبعض الأوصياء} لا دائماً، كما يشعر بذلك ما عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «كان عليّ بن الحسين(علیه السلام) يقول: لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة، فقلت: أيّة آية؟ قال: «قول اللّه: {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ}(2)(3)» {وكان} النّبي والوصي(علیهما السلام){عارفاً على الكائنات كما كانت وتكون}.

وحيث كان هنا محلّ أن يقال: لو اتّصل نفس النّبيّ بعالم اللّوح المحفوظ رأى جميع الأحكام وعلم عدم استمرار بعضها فكيف يحكم بالاستمرار مع علمه بعدم الاستمرار؟ أشار المصنّف إلى جوابه بقوله:{نعم، مع ذلك} الاتّصال باللوح {ربّما يوحى إليه حكم من الأحكام تارة بما يكون ظاهراً في الاستمرار والدوام} إلى الأبد {مع أنّه في الواقع له غاية وأمد يعيّنها} أي: الغاية {بخطاب آخر} هذا في نسخ الاستمرار {و} يوحى إليه تارة

ص: 203


1- بحار الأنوار 4: 112.
2- سورة الرعد، الآية: 39.
3- بحار الأنوار 4: 118.

أُخرى بما يكون ظاهراً في الجدّ، مع أنّه لا يكون واقعاً بجدّ، بل لمجرّد الاختبار والابتلاء، كما أنّه يأمر وحياً أو إلهاماً بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره ممّا لا يقع؛ لأجل حكمة في هذا الإخبار أو ذاك الإظهار.

___________________________________________

{أُخرى بما يكون ظاهراً في الجدّ} والإرادة الحقيقيّة {مع أنّه لا يكون واقعاً بجدّ، بل لمجرّد الاختبار والابتلاء} أي: الامتحان، وهذا في نسخ أصل الحكم، كالذبح بالنسبة إلى إسماعيل(علیه السلام).

وبهذا تبيّن أنّ قولهم: «إنّ النّسخ عبارة عن التخصيص في الأزمان» يراد به القسم الأوّل من النّسخ لا الثّاني المنسوخ فيه أصل الحكم.

{كما} أنّ هناك قسماً ثالثاً من البداء، وهو {أنّه يأمر وحياً أو إلهاماً} نبيّه أو وصيّه {بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره} كموت العروس {ممّا لا يقع، لأجل حكمة في هذا الإخبار} كالتضرّع إلى اللّه الموجب لرفعه، فإنّه لولا الإخبار بوقوعه لم يكن يحصل منهم ذاك التضرّع الرّافع للعذاب أو الموت.

مثلاً: لو أخبر الصّادق شخصاً بأنّ الملك يريد صَلْبَهُ، تَضَرَّعَ المُجْرِمُ إلى الملك وتوسّل بجميع الوسائل إلى عفوه، بحيث لو لم يخبره بهذا النّحو من الإخبار الحرج، بل قال له: (لو لم تتضرّع وتتوسّل صلبك) لم يكن يحصل منههذا النّوع من الاستكانة والابتهال.

وبهذا اندفع ما ربّما يتوهّم مِن أنّ الإخبار بما لا يقع مستلزم للكذب القبيح عقلاً، وحاصل الدفع أنّ القبيح يرتفع بملاحظة وجود مصلحة أهمّ لا تحصل إلّا بالكذب.

والحاصل: أنّ الحكمة في هذا الإخبار {أو ذاك الإظهار} أوجبت الإلهام إلى النّبيّ بالإخبار والإظهار وإن كان لا يقع لموانع أو عدم شرائط.

ثمّ إنّه ربّما يقال: البداء بمعنى العلم، فمعنى (بدا له): عَلِمَ وهو مستلزم للجهل

ص: 204

فبدا له تعالى: بمعنى أنّه يُظهِر ما أمر نبيّه أو وليّه بعدم إظهاره أوّلاً، ويبدي ما خفي ثانياً.

___________________________________________

فكيف يجوز في حقّه - تعالى - هذا التعبير، كما في كثير من الكلمات، ففي زيارة سامرّاء: «يا من بدا للّه في شأنكما»(1)؟

والجواب ما أشار إليه بعض بما لفظه: «البداء، لغةً هو الظّهور الّذي هو بمعنى الحدوث، لا الظّهور الّذي في مقابل الخَفَاء والجهل، ف- (بدا له في أمرٍ، يبدو، بَدَاءً) هو إنشاء الرّأي وخطوره بعد خفائه عن صاحبه حتّى يستلزم الجهل في صاحبه، وإن كان في الخارج منشأُ بَدَاءِ المخلوق - الجاهل بعواقب الأُمور - هو جهله نوعاً»(2)، انتهى.

وإن شئت قلت: إنّ المراد بهذه الألفاظ في اللّه - سبحانه - هو غاياتها، فإنّه كما يكون المراد بفرحه وغضبه ورحمته وعطفه غاياتها من الثّواب والعقاب،كذلك المراد ببدائه غايته، فكما أنّه لو بدا شيء أظهر ما بَدَا له، كذلك المراد إظهاره - سبحانه - على طبق البداء وإن لم يكن فيه حقيقة البداء، مثل معاملته معاملة الرّحيم وإن لم تكن فيه رحمة بمعناها الّذي في النّاس.

قال أبو عبداللّه(علیه السلام): «من زعم أنّ اللّه - عزّ وجلّ - يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرؤوا منه»(3)، وعنه(علیه السلام) في حديث آخر: «ليس شيء يبدو له إلّا وقد كان في علمه أنّ اللّه لا يبدو له من جهل»(4)،

الحديث.

{فبدا له - تعالى - بمعنى أنّه يظهر ما أمر نبيّه أو وليّه بعدم إظهاره أوّلاً، ويبدي ما خفي ثانياً} أي: يبدي ثانياً ما خفي على النّاس أوّلاً، فقوله: «ثانياً» متعلّق ب-«خفي»

ص: 205


1- كامل الزيارات: 314؛ بحار الأنوار 99: 61.
2- لم نعثر عليه.
3- بحار الأنوار 4: 111.
4- بحار الأنوار 4: 121.

وإنّما نسب إليه - تعالى - البداء - مع أنّه في الحقيقة الإبداء؛ لكمال شباهة إبدائه - تعالى - كذلك بالبداء في غيره.

وفي ما ذكرنا كفاية في ما هو المهم في باب النّسخ، ولا داعي إلى ذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب، كما لا يخفى على أُولي الألباب.

___________________________________________

{وإنّما نسب إليه - تعالى - البداء - مع أنّه في الحقيقة الإبداء - لكمال شباهة إبدائه - تعالى - كذلك} بإظهار ما خفي {بالبداء في غيره} وحيث كان اللّازم التكلّم على طبق سطح الأذهان الأليفة بالمحسوسات أُطلقت هذه الألفاظ مراداً بها غاياتها، تحفّظاً على الجمع بينالواقع وبين ما يقرب من الأذهان العرفيّة، كما قيل: (أضلّه اللّه) وأُريد به تركهم وشأنهم، كما يقال في العرف: (فلان أفسد ولده) - إذا تركه وشأنه حتّى فسد - وقيل: (نسيهم اللّه) إذا فعل بهم فعل النّاسي، كما يقال في العرف - لغير المعتني - : (نسيتنا) وقيل: {ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ}(1)، كما يقال في العرف: (استولى الملك على عرش المملكة) كنايةً عن استقلاله بالأمر، إلى غير ذلك ممّا يزخر به القرآن الحكيم والأحاديث المباركة.

{وفي ما ذكرنا كفاية} إن شاء اللّه - تعالى - {في ما هو المهمّ في باب النّسخ، ولا داعي إلى ذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب، كما لا يخفى على أُولي الألباب}.

نعم، هنا إشكال لا بأس بالإشاره إليه، وهو أنّه قد يظهر من بعض الرّوايات والكلمات أنّ من فوائد الإيمان بالبداء الدعاء، إذ لو علم النّاس بالتقدير وعدم التغيّر لقالوا: المقدّر كائن ولا حاجة إلى الدعاء، كما عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «ادع ولا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه، إنّ عند اللّه - عزّ وجلّ - منزلة لا تنال إلّا بمسألة»(2)،

الحديث.

ص: 206


1- سورة طه، الآية: 5.
2- الكافي 2: 466.

ثمّ لا يخفى ثبوت الثّمرة بين التخصيص والنّسخ؛ ضرورةَ أنّه على التخصيص يُبنى على خروج الخاصّ عن حكم العام رأساً، وعلى النّسخ على ارتفاع حكمه عنه من حينه، في ما دار الأمر بينهما في المخصّص.

___________________________________________

وحاصل الإشكال: أنّ البداء لا يصحّح الدعاء، إذ اللوح المحفوظ لا يتغيّرعمّا هو عليه.

والجواب: أنّ في اللّوح مكتوباً مثلاً: (فلان يدعو فيغفر له) وإن كان في لوح المحو والإثبات مكتوب (أنّ فلاناً لا يغفر له) والدعاء في ما وراء الطبيعة كالأفعال في الطبيعيّات، فكما لا يصحّ أن يقول شخص: إن قدّر لي اليوم أكل الخبز أكلت سواء طبخته أم لا وإن لم يقدّر لي ما أكلت، بل واقع الأمر أنّه يطبخ ويأكل، فيلزم عليه الطبخ حتّى يحصله ويأكله، كذلك لا يصحّ أن يقول: إن قدّر موت ولدي وبقاء مرضي وفقري لم يفد الدعاء وإن قدّر عدم الموت والصّحّة والغنى لم يكن داعٍ إلى تعب الدعاء، بل علّة الصّحّة والغنى والحياة الدعاء، وإن علم اللّه في الواقع أنّه يدعو فيبقى ولده، وهكذا فتدبّر، مع أنّه لا ينحصر فائدة البداء في الدعاء، بل للّه حكم ومصالح يدقّ خفاها عن الأفهام، واللّه الهادي وهو الموفّق.

{ثمّ لا يخفى ثبوت الثّمرة بين التخصيص والنّسخ، ضرورة أنّه على التخصيص يبنى على خروج الخاص عن حكم العام رأساً} فلا يجب الإعادة والقضاء في ما لو لم يأت بحكم الخاصّ في الزمان المتوسّط بين ورود العام والخاص {وعلى النّسخ} يبني {على ارتفاع حكمه} أي: حكم العام {عنه} أي: عن الخاص {من حينه} أي: حين النّسخ فيجب الإعادة والقضاء بالنسبة إلى الزمان المتوسط بينهما {في ما دار الأمر بينهما} أي: بين النّسخ والتخصيص {في المخصّص} الوارد بعد العام مع تردّده بين أن يكون وارداً قبل حضور وقت العمل أو بعده.

ص: 207

وأمّا إذا دار بينهما في الخاص والعام، فالخاصُ على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلاً، وعلى النّسخ كان محكوماًبه من حين صدور دليله، كما لا يخفى.

___________________________________________

{وأمّا إذا دار} الأمر {بينهما في الخاص} المتقدّم {والعام} المتأخّر، بأن يتردّد الأمر بين كون العام ناسخاً وبين كون الخاص مخصّصاً {فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلاً} بل له حكمه المختصّ به {وعلى النّسخ} أي: نسخ العام له {كان} الخاص {محكوماً به} أي: بحكم العام {من حين صدور دليله} أي: دليل العام، وإن كان للخاص حكمه المختصّ بنفسه قبل صدور العام {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

ص: 208

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن

اشارة

ص: 209

ص: 210

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن

فصل: عرّف المطلق بأنّه: ما دلّ على شائع في جنسه.

وقد أشكل عليه بعض الأعلام(1)

بعدم الاطّراد أو الانعكاس،

___________________________________________

[المقصد الخامس في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن]

{المقصد الخامس} من مقاصد الكتاب {في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن}.

[فصل ألفاظ المطلق]

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن، ألفاظ المطلق

{فصل: عرف المطلق بأنّه ما دلّ على شائع} ومنتشر {في جنسه} ك- (رجل) الموضوع للفرد المنتشر، من غير اختصاص ببعض الأفراد دون بعض، بخلاف نحو (زيد) فإنّه يدلّ على شخص مخصوص غير قابل للانطباق إلّا على فرد معيّن.

{وقد أشكل عليه بعض الأعلام بعدم الاطّراد} لأنّه لا يمنع الأغيار، بل يصدق على غير المطلق أيضاً.

قال المشكيني(رحمة الله): «لشموله ل- (من) و(ما) و(أيّ) الاستفهاميّة الدالّة على العموم البدلي وضعاً»(2)،

انتهى، فإنّها عامّ لا مطلق مع صدق هذا التعريفعليها، ووجه كونها عامّاً أنّ الشّيوع المستفاد منها وضعيّ لا حكمي {أو الانعكاس} وذلك لعدم شموله لجميع أفراد المطلق، فإنّه لا يشمل الألفاظ الدالّة على نفس الماهيّة ك- (رجل) فإنّه موضوع لنفس الماهيّة لا للفرد المنتشر، مع بداهة أنّها من المطلقات.

ص: 211


1- الفصول الغرويّة: 218.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 468.

وأطال الكلام في النّقض والإبرام.

وقد نبّهنا في غير مقام على أنّ مثله شرح الاسم، وهو ممّا يجوز أن لا يكون بمطّرد ولا بمنعكس.

فالأولى: الإعراض عن ذلك، ببيان ما وضع له بعض الألفاظ الّتي يطلق عليها المطلق، أو غيرها ممّا يناسب المقام:

فمنها: اسم الجنس ك- (إنسان)، و(رجل)، و(فرس)، و(حيوان)، و

___________________________________________

وقد عرّف صاحب الفصول المطلق بأنّه ما دلّ على معنىً شائعٍ في جنسه شيوعاً حكميّاً(1).

{وأطال الكلام في النّقض والإبرام، و} لكن الأولى ترك التطويل في المقام لما {قد نبّهنا في غير مقام} واحد {على أنّ مثله} أي: مثل هذا التعريف {شرح الاسم} وتبديل اللفظ بلفظ آخر أقرب منه إلى الذهن {وهو ممّا يجوز أن لا يكون بمطّرد ولا بمنعكس، فالأولى الإعراض عن ذلك} الكلام في النّقض والإبرام والاشتغال {ببيان ما وضع له بعض الألفاظ} أي: بيان المعاني الّتي وضع لها الألفاظ {الّتي يطلق عليها} أي: على تلك الألفاظ اسم {المطلق أوغيرها} عطف على «ما وضع له» وتأنيث الضّمير باعتبار معنى «ما» الموصولة، أي: نبيّن غير المعاني الّتي وضع لها ألفاظ المطلق.

ولا يخفى أنّ في العبارة تعقيداً وتسامحاً. وكيف كان فها نحن نشرع في بيان بعض الأسماء المطلقة {ممّا يناسب المقام ف-} نقول: {منها اسم الجنس} سواء كان نوعاً {ك- (إنسان) و(رجل) و(فرس) و} أمثال ذلك أو جنساً

ك- (جسم) و{(حيوان) و} نحوهما، جوهراً كان كما تقدّم، أو عرضاً مثل:

ص: 212


1- الفصول الغرويّة: 217.

(سواد)، و(بياض) إلى غير ذلك من أسماء الكلّيّات من الجواهر والأعراض، بل العرضيّات.

ولا ريب أنّها موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة، بلا شرط أصلاً ملحوظاً معها، حتّى لحاظ أنّها كذلك.

___________________________________________

{(سواد) و(بياض) إلى غير ذلك من أسماء الكليّات من الجواهر والأعراض، بل العرضيّات}.

والفرق بين العَرَض والعَرَضيّ في اصطلاح المصنّف أنّ الأوّل هو المتأصّل من الأعراض الّتي ما بحذائها شيء في الخارج، كالسّواد والبياض، والثّاني هو الاعتباري من الأعراض، كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما.

وقد تقدّم في بعض المباحث السّابقة أنّ اصطلاح المصنّف خلاف اصطلاح أهل المعقول، فإنّ العرض عندهم مبدأ الاشتقاق والعرضي هو المشتقّ كما قال الحاج السّبزواري:وعرضي الشّيء

غير العرض

ذا كالبياض ذاك

مثل الأبيض(1)

{ولا ريب أنّها موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة بلا شرط أصلاً ملحوظاً معها} أي: مع تلك المفاهيم {حتّى لحاظ أنّها كذلك} أي مبهمة مهملة.

وتوضيح ذلك: أنّ الماهيّة الملحوظة على أربعة أقسام:

الأوّل: الموضوعة لا بشرط بنحو اللّابشرط المقسمي.

الثّاني: الموضوعة لا بشرط بنحو اللّابشرط القسمي.

الثّالث: الموضوعة بشرط شيء.

الرّابع: الموضوعة بشرط لا.

والمطلق موضوع للماهيّة لا بشرط المقسمي لا بمعنى أخذ السّريان والعموم في الموضوع له، إذ لو كان موضوع له للماهيّة السّارية لم يصدق على الأفراد، ك- (زيد) و(عمرو) مثلاً.

ص: 213


1- شرح المنظومة 1: 154.

وبالجملة: الموضوع له اسم الجنس هو: نفس المعنى، وصِرف المفهوم غيرِ الملحوظ معه شيءٌ أصلاً - الّذي هو المعنى بشرط شيء - ، ولو كان ذاك الشّيء هو الإرسال والعموم البدلي، ولا الملحوظ معه عدمُ لحاظ شيءٍ معه - الّذي هو الماهيّة اللّابشرط القسمي - : وذلك لوضوح صدقها - بما لها من المعنى - بلا عناية التجريد عمّا هو قضيّة الاشتراط والتقييد فيها،

___________________________________________

{وبالجملة الموضوع له اسم الجنس} نائب فاعل«الموضوع له» يعني أنّ الّذي وضع له اسم الجنس {هو نفس المعنى، وصرف المفهوم غير الملحوظ معه شيء أصلاً} ويعبّر عنه في لسان بعض الأعاظم ب- : ماهيت ليسيده {الّذي هو المعنى بشرط شيءٍ} وصف للمعنى الّذي لوحظ معه شيء {ولو كان ذاك الشّيء} الملحوظ {هو الإرسال والعموم البدلي} ف- (الرّجل) موضوع لماهيّة الرّجل فقط لا لماهيّة الرجل المرسلة، حتّى يكون قيد الإرسال جزء المعنى {ولا الملحوظ معه} أي: مع صرف المعنى {عدم لحاظ شيء معه} حتّى يكون موضوعاً لماهيّة الرّجل بشرط عدم لحاظ شيءٍ {الّذي هو الماهيّة اللّابشرط القسمي}.

والفرق بين اللّابشرط المقسمي واللّابشرط القسمي، كما عن التقريرات(1): أنّ اللّابشرط القسمي هي الماهيّة الّتي لم يلحظ معها شيء مقيّدة بلحاظ أنّها لم يلحظ معها شيء، واللّابشرط المقسمي هي الماهيّة الّتي لم يلحظ معها شيء مع خلوّها عن هذا القيد {وذلك} الّذي ذكرنا من عدم أخذ شيء في المعنى حتّى قيد الإرسال {لوضوح صدقها} أي: صدق هذه المطلقات ك- (رجل) و(حيوان) وغيرهما {بما لها من المعنى} الموضوع لها على كلّ فرد من الأفراد {بلا عناية التجريد عمّا هو قضيّة الاشتراط والتقييد فيها} أي: إذا أُطلق لفظ (الرّجل)

ص: 214


1- راجع حقائق الأصول 1: 546.

كما لا يخفى.

مع بداهة عدم صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الأفراد، وإن كان يعمّ كلّواحد منها بدلاً أو استيعاباً. وكذا المفهوم اللّابشرط القسمي، فإنّه كلّيّ عقليّ لا موطن له إلّا الذهن، إذ لا يكاد يمكن صدقه وانطباقه عليها؛ بداهة أنّ مناطه

___________________________________________

على (زيد) مثلاً رأينا أنّه حقيقة وأنّه مستعمل في معناه الحقيقي بلا عناية ومجازيّة، فإنّه لم يجرّد (الرّجل) عن قيد الإرسال والعموم حين استعماله في (زيد) {كما لا يخفى، مع بداهة} أنّ الإرسال لو كان جزء المعنى لزم تجريد (الرّجل) عن هذا الجزء ثمّ استعماله في (زيد) لوضوح {عدم صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الأفراد، وإن كان} المفهوم بشرط العموم {يعمّ كلّ واحد منها} أي: من الأفراد {بدلاً} في ما كان الإطلاق بدليّاً {أو استيعاباً} في ما كان الإطلاق شموليّاً.

والحاصل: أنّه لو اعتبر في معنى المطلق الإرسال لكان استعماله في الفرد مجازاً وبالعناية، فعدم وجداننا المجازيّة والعناية حين الاستعمال يدلّ على عدم الوضع للماهيّة المرسلة، بل للماهيّة فقط.

{وكذا} لم يوضع المطلق ل- {المفهوم اللّابشرط القسمي} الّذي تقدّم أنّ المعنى فيه مقيّد بلحاظ عدم شيء معه {فإنّه كلّيّ عقليّ لا موطن له إلّا الذهن} فيمتنع تعلّق التكليف به {إذ لا يكاد يمكن صدقه وانطباقه عليها} أي: صدق هذا المفهوم اللّابشرط القسمي على الأفراد الخارجيّة.

والحاصل: أنّ اللّابشرط القسمي موجود ذهنيّ فقط؛ لأنّه مقيّد بلحاظ التجرّد وحيث إنّ لحاظ التجرّد ذهنيّ فالمقيّد به أيضاً ذهني، والأمر الذهني لا يتعلّق به التكليف، فإنّ التكليف يتعلّق بما يمكن أن يكون خارجيّاً وما يكونمقيّداً بالذهن لا يمكن أن يصير خارجيّاً {بداهة أنّ مناطه} أي: مناط الحمل

ص: 215

الاتّحاد بحسب الوجود خارجاً، فكيف يمكن أن يتّحد معها ما لا وجود له إلّا ذهناً؟

ومنها: علم الجنس، ك- (أُسامة). والمشهور بين أهل العربيّة: أنّه موضوع للطّبيعة لا بما هي هي، بل بما هي متعيّنة بالتعيّن الذهني، ولذا يعامَل معه

___________________________________________

{الاتحاد بحسب الوجود خارجاً، فكيف يمكن أن يتّحد معها} أي: مع الأفراد {ما لا وجود له إلّا ذهناً؟}.

فتحصّل أنّ صدق (الرّجل) ونحوه على الفرد ك- (زيد) ونحوه بلا عناية يدلّ على شيئين:

الأوّل: أنّ (الرّجل) ليس موضوعاً للماهيّة بشرط الإرسال - أي: بشرط شيء - وإلّا لزم التجريد حين الحمل على الفرد.

الثّاني: أنّه ليس موضوعاً للماهيّة المقيّدة بلحاظ عدم شيء معه - أي: اللّابشرط القسمي - وإلّا لزم عدم صدق (الرّجل) على الفرد أصلاً؛ لأنّ اللّابشرط القسمي ذهنيّ فلا يصدق على الخارجي، فلم يبق إلّا أن يكون موضوعاً للماهيّة بشرط لا، وهي عبارة أُخرى عن الماهيّة بشرط شيء، إذ قد يعبّر عن الإرسال بشرط؛ لأنّ معنى الإرسال عدم التقييد، ويعبّر عنه بشرط شيء؛ لأنّه تقييد بالإرسال، أو موضوعاً للّابشرط المقسمي وهو المطلوب.

{ومنها} أي: من الألفاظ المطلقة {علم الجنس ك- (أُسامة)} للأسد، و(أُمّ عِرْيَطٍ) للعقرب، و(ثُعالة) للثعلب، وغير ذلك {والمشهور بين أهل العربيّة أنّه موضوعللطبيعة - لا بما هي هي - بل بما هي متعيّنة} ومتميّزة {بالتعيّن الذهني} وبهذا القيد يقع الفرق بينه وبين اسم الجنس، فإنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة فقط، وهذا موضوع للماهيّة المقيّدة بكونها معيّنة في الذهن {ولذا} الّذي ذكر من تقييده بالمعهوديّة الذهنيّة {يعامل معه} أي: مع علم الجنس

ص: 216

معاملة المعرفة بدون أداة التعريف.

لكن التحقيق: أنّه موضوع لصِرف المعنى بلا لحاظ شيءٍ معه أصلاً - كاسم الجنس - ، والتعريف فيه لفظيّ - كما هو الحال في التأنيث اللفظي - ، وإلّا لما صحّ حمله على الأفراد بلا تصرّف وتأويل؛ لأنّه على المشهور كلّيّ عقليّ، وقد عرفت: أنّه لا يكاد صدقه عليها، مع صحّة حمله عليها بدون ذلك، كما لا يخفى؛ ضرورة أنّ التصرّف في المحمول،

___________________________________________

{معاملة المعرفة بدون أداة التعريف} فيقع مبتدءاً وموصوفاً بالمعرفة ونحوهما، وهذا هو الّذي دعا أهل العربيّة إلى القول بوضعه للماهيّة المعهودة.

والحاصل: أنّ الفرق اللّفظيّ بين علم الجنس واسم الجنس كاشف عن الفرق المعنوي بينهما {لكن التحقيق} عدم صحّة ما ذكروه، بل {أنّه} أي: علم الجنس {موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ شيء معه أصلاً كاسم الجنس} طابِقَ النَّعْلِ بالنَّعْلِ {والتعريف فيه لفظي} فلا يدلّ على كونه موضوعاً للطبيعة المتميّزة، كما ذكره أهل العربيّة {كما هو الحال في التأنيث اللفظي} فكما أنّ كون اللفظ مؤنّثاً استعمالاً لا يدلّ على إعمال خصوصيّة في معناه، كذلككون اللفظ معرفة استعمالاً لا يدلّ على خصوصيّة معنويّة {وإلّا} فلو كان علم الجنس موضوعاً للماهيّة بقيد التعيّن الذهني {لما صحّ حمله على الأفراد} خارجاً {بلا تصرّف وتأويل} بانسلاخ القيد عن المستعمل {لأنّه على المشهور كلّيّ عقلي} إذ ما له جزء عقلي لا يمكن إلّا أن يكون عقليّاً.

{وقد عرفت} في اسم الجنس {أنّه لا يكاد صدقه} أي: صدق الأمر العقلي {عليها} أي: على الأفراد بدون التأويل والانسلاخ {مع} أنّا نرى من بداهة {صحّة حمله عليها بدون ذلك} التأويل {كما لا يخفى} على من راجع وجدانه. {ضرورة أنّ التصرّف في المحمول} ك- (أُسامة) حين يقول: (هذه أُسامة) - مشيراً إلى أسد في

ص: 217

بإرادة نفس المعنى بدون قيده تعسّف، لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة عليه.

مع أنّ وضعَهُ لخصوص معنى يحتاج إلى تجريده عن خصوصيّته عند الاستعمال، لا يكاد يصدر عن جاهل فضلاً عن الواضع الحكيم.

ومنها: المفرد المعرّف باللّام. والمشهور أنّه على أقسام:

المعرّف بلام الجنس، أو الاستغراق، أو العهد بأقسامه، على نحو الاشتراك بينها لفظاً

___________________________________________

البادية - {بإرادة نفس المعنى} وصرف الطبيعة {بدون قيده} الّذي هو عبارة عن كونه متميّزاً في الذهن {تعسّف لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة عليه} مع أنّه لوكان موضوعاً للمقيّد لزم تجريده في القضايا المتعارفة وارتكاب هذا التعسّف {مع أنّ} في القول ب- {وضعه لخصوص معنى} متميّز ذهناً - كما ذهب إليه أهل العربيّة - إشكالاً آخر، وهو أنّ وضع اللفظ لمعنى {يحتاج إلى تجريده عن خصوصيّته عند الاستعمال}خلاف حكمة الوضع المقصود منه التفهيم والتفهّم عند الاستعمالات بلا تكلّف {لا يكاد يصدر عن جاهل فضلاً عن الواضع الحكيم} واللّه العالم.

{ومنها: المفرد المعرّف باللّام، والمشهور أنّه على أقسام} ستّة أو أكثر: {المعرّف بلام الجنس} نحو {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ}(1)، {أو الاستغراق} نحو {إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ}(2)، {أو العهد بأقسامه} الأربعة:

الذهني: نحو (ادخل السّوق) حيث لا عهد في الخارج.

والذكري: نحو {فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ}(3).

والحضوري: نحو (لا تشتم الرّجل) لمن شتم رجلاً عندك.

والخارجي: نحو (ادخل السّوق) حيث كان عهد {على نحو الاشتراك بينها لفظاً}

ص: 218


1- سورة الفاتحة، الآية: 1.
2- سورة العصر، الآية: 2.
3- سورة المزمل، الآية: 16.

أو معنى.

والظاهر: أنّ الخصوصيّة في كلّ واحد من الأقسام من قِبل خصوص (اللّام) أو من قبل قرائن المقام، من باب تعدّد الدالوالمدلول، لا باستعمال المدخول، ليلزم فيه المجاز

___________________________________________

فيكون (اللّام) موضوعاً تارةً لهذا، وأُخرى لذاك، وهكذا {أو معنًى} بأن يكون موضوعاً بوضع واحد جامعاً بين هذه المعاني السّتّة مثلاً.

قال السّيّد الحكيم - مدّ ظلّه - : «بأن يكون الوضع للعهد الحاصل من أحد الأسباب المذكورة، ويكون فهم الخصوصيّات مستنداً إلى القرينة»(1).

{والظاهر أنّ الخصوصيّة في كلّ واحد من الأقسام من قبل خصوص (اللّام)} بناءً على أن يكون مشتركاً لفظيّاً {أو من قبل قرائن المقام} بناءً على أن يكون مشتركاً معنويّاً، والمشترك اللفظي والمعنوي وإن احتاج كلاهما إلى القرينة حين الاستعمال في أحد المعاني ولكن الفرق هو أنّ المشترك اللفظي يحتاج إلى القرينة المعيّنة للخصوصيّة الّتي هي مدلولة اللفظ، إذ المفروض أنّه وضع لكلّ معنى مع خصوصيّة، والمشترك المعنوي يحتاج إلى القرينة المعيّنة للخصوصيّة الّتي هي خارجة عن مدلول اللفظ، إذ الفرض أنّه وضع للجامع.

وكيف كان، فيكون دلالة المعرّف على الأقسام المذكورة {من باب تعدّد الدالّ والمدلول} فالمدخول دالّ على الماهيّة و(اللّام) دالّ على الخصوصيّة.

ويمكن بعيداً أن يراد بهذه العبارة أنّه لو كان (اللّام) موضوعاً للجامع يكون الدلالة على الخصوصيّة من باب تعدّد الدالّ والمدلول، ف-(اللّام) يدلّ على العهد مثلاً والقرينة تدلّ على الخصوصيّة و{لا} تكون الخصوصيّة في كلّ واحد من الأقسام {باستعمال المدخول} كأن يستعمل كلمة (رجل) تارةًفي الجنس، وأُخرى في الاستغراق، وثالثةً في العهد {ليلزم فيه المجاز} لو كان موضوعاً لواحدٍ

ص: 219


1- حقائق الأصول 1: 551.

أو الاشتراك، فكان المدخول على كلّ حال مستعملاً في ما يستعمل فيه غير المدخول.

والمعروف: أنّ (اللّام) تكون موضوعة للتعريف، ومفيدة للتعيين في غير العهد الذهني.

___________________________________________

منها واستعمل في الآخر بالعلاقة {أو الاشتراك} اللفظي لو كان موضوعاً بأوضاع متعدّدة لتلك المعاني، أو المعنوي لو كان موضوعاً بوضع واحد للجامع {فكان المدخول} وهو (رجل) مثلاً {على كلّ حال مستعملاً في ما يستعمل فيه غير المدخول} طابق النّعل بالنّعل.

{والمعروف} بين أهل العربيّة {أنّ (اللّام) تكون موضوعة للتعريف ومفيدة للتعيين في غير العهد الذهني} فإنّ الفرد لا يتعيّن ب-(اللّام) وإنّما المتعيّن هو الجنس، إذ العهد الذهني عبارة عمّا إذا أتى المعرّف ب-(لام) الحقيقة لواحد من الأفراد باعتبار عهديّته في الذهن، وذلك عند قيام القرينة على أن ليس القصد إلى نفس الحقيقة من حيث هي هي، بل من حيث الوجود لا من حيث وجودها في ضمن جميع الأفراد، بل في بعضها، فإنّهم قسّموا المعرّف ب-(اللّام) إلى ما يراد به الأفراد وهو المسمّى ب- : الاستغراق، المساوق لكلمة (كل) وما يراد به الحقيقة.

ثمّ قسّموا الثّاني إلى ما يراد به نفس الحقيقة وهو المسمّى ب- : الجنس، المساوق لعلم الجنس، وما يراد به حصّة منها.

ثمّ قسّموا الثّاني إلى ما يراد به حصّة معيّنة المسمّى ب- : العهد الخارجي، المساوق لعلم الشّخص، وما يراد به حصّة غير معيّنة المسمّى ب- : العهد الذهني،المساوق للنكرة.

فالأقسام كلّها مفيدة للتعيين إلّا العهد الذهني، فإنّ الأوّل يعيّن جميع الأفراد، والثّاني الجنس، والثّالث حصّة معيّنة من الحقيقة نحو (اشتريت فرساً ثمّ بعت الفرس).

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه هنا جرى على اصطلاح أهل البيان، كما أنّ ما ذكرناه

ص: 220

وأنت خبير بأنّه لا تعيّن في تعريف الجنس، إلّا الإشارة إلى المعنى المتميّز بنفسه م-ن بين المعاني ذهناً. ولازمه أن لا يصحّ حمل المعرّف ب-(اللّام) - بم-ا هو معرَّفٌ - على الأفراد؛ لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلّا الذهن، إلّا بالتجريد. ومعه لا فائدة في التقييد.

مع أنّ التأويل والتصرّف في القضايا المتداولة في العرف غيرُ خالٍ عن التعسّف. هذا.

مضافاً إلى أنّ الوضع لما لا حاجة إليه - بل لا بدّ من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرّف ب-(اللّام)

___________________________________________

في أوّل البحث جرى على مصطلح النّحاة، فتدبّر.

{وأنت خبير بأنّه لا تعيّن في تعريف الجنس إلّا الإشارة إلى المعنى المتميّز بنفسه من بين المعاني ذهناً} فمعنى وضعه له كونه موضوعاً للمعنى المتميّز {ولازمه أن لا يصحّ حمل المعرّف ب-(اللّام) بما هو معرّف على الأفراد} الخارجيّة {لما عرفت} في المبحث السّابق {من امتناع الاتحاد}في الأفراد الخارجيّة {مع ما} أي: مع الجنس المتميّز الذهني الّذي {لا موطن له إلّا الذهن} فإنّ الأمر الذهني بما هو ذهني لا يمكن أن ينطبق على الخارجيّات {إلّا بالتجريد} عن الخصوصيّة الذهنيّة {ومعه} أي: مع لزوم التجريد في الانطباق {لا فائدة في التقييد} أي: لا فائدة في تقييد الواضع المعنى بالخصوصيّة الذهنيّة، فلا يقيّده لفرض كونه حكيماً، كما سبق، وسيأتي في قوله: «مضافاً» الخ تَوضِيحُهُ.

{مع أنّ التأويل والتصرّف} بتجريد المعنى عن جزئه {في القضايا المتداولة في العرف} بالتزام أنّهم يجرّدون اللّفظ ثمّ يحملونه على الفرد الخارجي {غير خالٍ عن التعسّف} لما سبق من أنّا إذا راجعنا وجداننا لم نجد هذا التصرّف عند الاستعمال.

{هذا مضافاً إلى أنّ الوضع لما لا حاجة إليه، بل} يكون مضرّاً؛ لأنّه {لا بدّ من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرّف ب-(اللّام)}

ص: 221

أو الحمل عليه - كان لغواً، كما أشرنا إليه.

فالظّاهر: أنّ (اللّام) مطلقاً تكون للتزيين، كما في لفظ (الحسن) و(الحسين). واستفادة الخصوصيّات إنّما تكون بالقرائن الّتي لا بدّ منها لتعيينها على كلّ حال، ولو قيل بإفادة (اللّام) للإشارة إلى المعنى. ومع الدلالة عليه بتلك الخصوصيّات لا حاجة إلى تلك الإشارة، لو لم تكن مخلّة، وقد عرفت إخلالها، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

على الفرد الخارجي نحو (زيد الرّجل) {أو الحمل عليه} نحو (الرّجل زيد) {كان لغواً} ينافيه حكمة الوضع {كما أشرنا إليه} غير مرّة.

{فالظاهر أنّ (اللّام) مطلقاً} بجميع أقسامه حتّى العهد الذهني {تكون للتزيين كما في لفظ (الحسن) و(الحسين)} كما ذهب إليه نجم الأئمّة الشّيخ الرّضي(قدس سره)(1).

نعم، هو استثنى العهد الذهني، فإنّه ذهب إلى أنّ الإشارة الذهنيّة إلى فردٍ ما مستندة إلى (اللّام) لعدم دلالة المدخول عليه، ولكنّه غفل عن أنّه بسبب القرينة الخارجيّة أيضاً، كما حكي عن بعض كتب البيان، ف-(اللّام) في الكلّ للتزين {واستفادة الخصوصيّات إنّما تكون بالقرائن الّتي لا بدّ منها لتعيينها} أي: تعيين الخصوصيّات {على كلّ حال} أي: سواء قلنا باشتراكه معنويّاً، أو لفظيّاً، أو كونه للتزيين، أو قلنا بالتفصيل، كما هو مذهب الرّضي.

وقوله: {ولو قيل بإفادة (اللّام) للإشارة إلى المعنى} وصليّة مرتبطة بقوله: «على كلّ حال» {ومع الدلالة عليه} أي: على المراد - المفهوم من الكلام السّابق - {بتلك الخصوصيّات} المفهومة من القرائن {لا حاجة إلى تلك الإشارة} الذهنيّة {لو لم تكن مخلّة، وقد عرفت إخلالها، فتأمّل جيّداً} فمع إخلالها - كما عرفت من التجريدبناءً عليها - يكون عدم الاحتياج إليها أشدّ.

ص: 222


1- شرح كافية ابن الحاجب 3: 236.

وأمّا دلالة الجمع المعرّف ب-(اللّام) على العموم

___________________________________________

والحاصل: أنّه حيث لا بدّ من القرائن لتعيين المراد لا وجه للقول بالإشارة الذهنيّة، فإنّه تبعيد للطريق، إذ الأمر دائر بين أن يقال: العهد الذهني - مثلاً - مستفاد من (اللّام)، وكون (اللّام) للعهد الذهني يعرف بالقرينة، وبين أن يقال العهد الذهني يعرف بالقرينة، لكنّه ربّما يورد على ما ذهب إليه الرّضي(رحمة الله) والمصنّف(رحمة الله) بأنّه لو كان (اللّام) لمجرّد التزيين واستناد الأقسام إلى القرينة لزم عدم الفرق مع وجود القرينة بين المعرّف وغيره، مع بداهة الفرق، فإنّ قولنا: (اشتريت فرساً ثمّ بعت الفرس) لا يساوي قولنا: (ثمّ بعت فرساً) وإن عرف من الخارج أنّ المبيع هو المشتري، بل ربّما يعدّ هذا النّحو من الجملة غلطاً، فتدبّر.

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «ولمّا كان هنا مظنّة سؤال، وهو أنّ إنكار إفادة (اللّام) للتعريف وكونها للتزيين ينافي ما اتفق عليه أئمّة الأدب من إفادة الجمع المحلّى ب-(اللّام) للعموم حيث إنّه لا سبب في ذلك إلّا (اللّام)، فإنّ الفرض عدم وضع المدخول لذلك ولا قرينة ظاهراً كي يستند العموم إليه، فأجاب المصنّف(رحمة

الله) بقوله: {وأمّا دلالة الجمع المعرّف ب-(اللّام) على العموم}»(1) الخ.

وتقريب الإشكال - على نحو يناسب سوق الجواب - هو: أنّ قولكم: «اللّام للتزيين مطلقاً» غير صحيح، إذ من الواضح أنّ المدخول لا يدلّ على الاستغراق بدون (اللّام) فدلالته عليه إنّما يكون ب-(اللّام).ووجه دلالة (اللّام) على العموم: أنّه يدلّ على التعيين وحيث لا تعيين في الجمع إلّا المرتبة العليا منه وهي الاستغراق، إذ له في مراتب الجمع تعيين ما، وهو أنّه آخر القدر الممكن، يدلّ على الاستغراق.

ص: 223


1- شرح كفاية الأصول 1: 343.

- مع عدم دلالة المدخول عليه - : فلا دلالة فيها على أنّها تكون لأجل دلالة (اللّام) على التعيين - حيث لا تعيين إلّا للمرتبة المستغرقة لجميع الأفراد - ؛ وذلك لتعيّن المرتبة الأُخرى، وهي أقلّ مراتب الجمع، كما لا يخفى.

فلا بدّ أن يكون دلالته عليه مستندة إلى وضعه كذلك لذلك، لا إلى دلالة (اللّام) على الإشارة إلى المعيّن، ليكون به التعريف.

وإن أبيت إلّا عن استناد الدلالة عليه إليه، فلا محيص عن دلالته على الاستغراق بلا توسّط الدلالة على التعيين،

___________________________________________

والجواب: أنّ دلالة الجمع المحلّى على العموم {مع عدم دلالة المدخول عليه، فلا دلالة فيها على أنّها تكون لأجل دلالة (اللّام) على التعيين حيث لا تعيين إلّا للمرتبة المستغرقة لجميع الأفراد} كما توهّم.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّ الدلالة ليست مستندة إلى ما ذكره هذا القائل؛ لأنّه لا يستقيم بعض مقدّمات مطلبه وهو قوله: «حيث لا تعيين» الخ، فإنّه لا نسلّم انحصار التعيين في المرتبة الأخيرة {لتعيّن المرتبة الأُخرى وهي أقلّ مراتب الجمع، كما لا يخفى} فهذا الوجه يقتضي تردّد المحلّى بين أقلّ مراتب الجمع وأكثرها لا تعيّن الثّاني {فلا بدّ أن يكون دلالته} أي: الجمع المحلّى {عليه} أي: على العموم {مستندة إلى وضعه كذلك} أي: مجموعاً منالداخل والمدخول {لذلك} العموم والشّمول {لا إلى دلالة (اللّام) على الإشارة إلى المعيّن} بضميمة أنّه لا تعيّن إلّا للعموم {ليكون به} أي: ب-(اللّام) {التعريف} ويثبت قول علماء الأدب.

{وإن أبيت إلّا عن استناد الدلالة عليه} أي: على العموم {إليه} أي: إلى (اللّام) فقط، لا كما ذكرنا من استناده إلى المجموع {فلا محيص عن دلالته} أي: (اللّام) {على الاستغراق بلا توسّط الدلالة} (للّام) {على التعيين} لأنّه يشبه الأكل من القفا، إذ الأمر دائر بين أن يقال: إنّ (اللّام) يدلّ على التعيين والتعيين منحصر في

ص: 224

فلا يكون بسببه تعريف إلّا لفظاً، فتأمّل جيّداً.

ومنها: النّكرة مثل: (رجل) في {وَجَآءَ رَجُلٞ مِّنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ}(1) أو، في (جئني برجل).

ولا إشكال أنّ المفهوم منها في الأوّل - ولو بنحو تعدّد الدال والمدلول - هو: الفرد المعيّن في الواقع، المجهولُ عند المخاطب، المحتملُ الانطباق على غير واحد من أفراد الرّجل.

___________________________________________

الاستغراق ف-(اللّام) يدلّ على الاستغراق، وبين أن يقال: إنّ (اللّام) يدلّ على الاستغراق ابتداءً {فلا يكون بسببه تعريف إلّا لفظاً} كما حكي عن نجم الأئمّة في شرحه على الكافية {فتأمّل جيّداً}.

وبهذا كلّه تبيّن أنّه لا شاهد لما ذكروه من دلالة (اللّام) على التعريف لا فيالجمع المحلّى ولا في العهد الذهني ولا في غيرها، بل (اللّام) مطلقاً للتزيين، والخصوصيّات مستفادة من القرائن الكلاميّة أو الحاليّة، واللّه سبحانه أعلم.

{ومنها: النّكرة} سواء كانت معيّنة في الواقع غير معيّن عند المتكلّم والمخاطب كما لو علم بمجيء شخص فقط فقال: جاء شخص، أو كان معيّناً في الواقع وعند المتكلّم فقط {مثل: (رجل) في {وَجَآءَ رَجُلٞ مِّنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ} يَسۡعَىٰ} {أو} غير معيّن مطلقاً ك- (رجل) {في (جئني برجل)} أو كان معيّناً عند المخاطب دون المتكلّم عكس الثّاني نحو (أيّ رجل جاءك).

{ولا إشكال} في {أنّ المفهوم منها في الأوّل} في المتن {ولو بنحو تعدّد الدالّ والمدلول - هو الفرد المعيّن في الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الانطباق على غير واحد من أفراد الرّجل} والمراد بتعدّد الدالّ والمدلول هو أنّ النّكرة تدلّ على نفس الطبيعة، والتنوين الداخل عليها تدلّ على الوحدة، فمفاد النّكرة المنوّنة هو

ص: 225


1- سورة القصص، الآية: 20.

كما أنّه في الثّاني هي: الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة، فيكون حصّة من الرّجل، ويكون كليّاً ينطبق على كثيرين، لا فرداً مردّداً بين الأفراد.

وبالجملة: النّكرة - أي: ما بالحمل الشّائع يكون نكرةً عندهم - إمّا هو فرد معيّنٌ في الواقع غير معيّن للمخاطب، أو حصّة كليّة، لا الفرد المردّد بين الأفراد؛

___________________________________________

الطبيعة المقيّدة بقيد الوحدة.

وبهذا ظهر الفرق بين النّكرة واسم الجنس، فاسم الجنس هو النّكرة قبلدخول التنوين والنّكرة هي اسم الجنس الداخل عليه تنوين التنكير.

{كما أنّه} أي: المفهوم من النّكرة {في الثّاني} في المتن {هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة فيكون} المطلوب {حصّة من الرّجل ويكون كليّاً ينطبق على كثيرين} بحيث يصحّ إتيان كلّ فرد يصدق عليه هذه الطبيعة {لا فرداً مردّداً بين الأفراد} النّفي يرتبط بأصل المطلب، يعني أنّ النّكرة مطلقاً لا تكون فرداً، بل إمّا أن تكون فرداً معيّناً في الواقع غير معيّن عند أحدهما أو كليهما، وإمّا أن تكون حصّة قابلة الانطباق على كثيرين.

{وبالجملة النّكرة، أي: ما بالحمل الشّائع} الصّناعي {يكون نكرة} مقابل ما بالحمل الأوّلي يكون نكرة وهو مفهوم النّكرة، إذ كلّ شيء بالحمل الأوّلي يكون هو نفسه وبالحمل الشّائع يكون أفراده.

مثلاً: المبتدا بالحمل الأوّلي هو مفهوم المبتدا، وبالحمل الشّائع هو (زيد) في (زيد قائم)، وهكذا الجنس بالحمل الأوّلي هو مفهوم الجنس، وبالحمل الشّائع هو (الحيوان) {عندهم، إمّا هو فرد معيّن في الواقع غير معيّن للمخاطب} نحو (جاء رجل) أو للمتكلّم نحو (أيّ رجل عندك) أو لكليهما كما لو قلنا: (فعل شخص كذا) مع عدم علمنا به {أو حصّة كليّة} كما في ما لو وقع حيّز الأمر والنّهي وشبههما، و{لا} يكون النّكرة {الفرد المردّد بين الأفراد} أصلاً.

ص: 226

وذلك لبداهة كون لفظ (رجل) في (جئني برجل) نكرة، مع أنّه يصدق على كلّ من جيءبه من الأفراد، ولا يكاد يكون واحد منها هذا أو غيره، كما هو قضيّة الفرد المردّد، لو كان هو المراد منها؛ ضرورة أنّ كلّ واحد هو هو، لا هو أو غيره.

فلا بدّ أن تكون النّكرة الواقعة في متعلّق الأمر، هو الطبيعي المقيّد بمثل مفهوم الوحدة، فيكون كليّاً قابلاً للانطباق، فتأمّل جيّداً.

إذا عرفت ذلك، فالظاهر: صحّة إطلاق المطلق عندهم - حقيقةً - على اسم الجنس والنّكرة بالمعنى الثّاني، كما يصحّ

___________________________________________

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّه لا تكون بمعنى الفرد المردّد {لبداهة كون لفظ (رجل) في (جئني برجل) نكرة مع أنّه يصدق على كلّ من جيء به من الأفراد، ولا يكاد يكون واحد منها} أي: من تلك الأفراد القابلة الانطباق عليها {هذا أو غيره، كما هو} أي: هذا أو غيره {قضيّة الفرد المردّد لو كان هو المراد منها} أي: من النّكرة، يعني لو كان المراد من النّكرة الفرد لزم أن يصدق على من يأتي به هذا أو غيره وإنّما قلنا بعدم صدق هذا العنوان على أيّ فرد من أفراد الرّجل ل- {ضرورة أنّ كلّ واحد هو هو، لا هو أو غيره} مثلاً: (زيد) هو هو لا أنّه (زيد) أو (عمرو).

وعلى ما ذكرنا من عدم معقوليّة الفرق المردّد {فلا بدّ أن تكون النّكرة الواقعة في متعلّق الأمر} أو النّهي في مثل: (لا تضرب رجلاً منهم) في ما أراد ضرب الجميع إلّا واحداً {هو الطبيعي المقيّد بمثل مفهوم الوحدة، فيكون كليّاً قابلاً للانطباق} على أيّ فرد من الأفرادالمتكثّرة {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك المرام.

{إذا عرفت ذلك} الّذي ذكرنا من معنى اسم الجنس والنّكرة {ف-} نقول {الظّاهر صحّة إطلاق المطلق عندهم حقيقة على اسم الجنس} الموضوع لصرف الطبيعة {والنّكرة بالمعنى الثّاني} الّتي يراد بها الحصّة من الجنس مقيّدة بقيد الوحدة القابلة الانطباق على كثيرين نحو (جئني برجل) {كما يصحّ} تسميتها

ص: 227

لغةً. وغيرُ بعيدٍ أن يكون جريهم في هذا الإطلاق على وِفْق اللغة، من دون أن يكون لهم فيه اصطلاح على خلافها، كما لا يخفى.

نعم، لو صحّ ما نسب إلى المشهور(1)،

من كون المطلق عندهم موضوعاً لما قيّد بالإرسال والشّمول البدلي، لما كان ما أُريد منه الجنس أو الحصّة عندهم بمطلق، إلّا أنّ الكلام في صدق النّسبة.

ولا يخفى: أنّ المطلق بهذا المعنى لطروّ التقييد غيرُ قابل؛ فإنّ ما له من الخصوصيّة ينافيه

___________________________________________

بالمطلق {لغةً، وغير بعيد أن يكون جريهم في هذا الإطلاق} أي: تسمية النّكرة واسم الجنس مطلقاً {على وفق اللغة من دون أن يكون لهم فيه} أي: في لفظ المطلق {اصطلاح} جديد {على خلافها} أي: خلاف اللّغة {كما لا يخفى} لعدم ثبوت تضييق أو توسعة في معنى المطلق.

{نعم، لو صحّ ما نسب إلى المشهور منكون المطلق عندهم موضوعاً لما قيّد بالإرسال والشّمول البدلي} حتّى يكون لا بشرطاً قسميّاً لا مقسميّاً {لما كان ما أُريد منه الجنس} ك- (رجل) {أو الحصّة} ك- (جيء برجل) {عندهم بمطلق} فلا يكونان حينئذٍ من أقسام المطلق، لعدم تحقّق الإرسال في اسم الجنس، ولا النّكرة لما تقدّم من أنّ تقيّدهما بقيد الإرسال موجب لمحاذير متعدّدة {إلّا أنّ الكلام في صدق النّسبة} إلى المشهور؛ لأنّه لم يعلم منهم أخذ الإرسال في مفهوم المطلق، بل معاملتهم لاسم الجنس والنّكرة معاملة المطلق أقوى شاهد على عدم صدق النّسبة.

{ولا يخفى أنّ المطلق بهذا المعنى} - المنسوب إلى المشهور - أعني: المقيّد بقيد الإرسال {لطروّ التقييد غير قابل، فإنّ ما له من الخصوصيّة} أي: ما للمطلق من خصوصيّة الإرسال الّذي هو جزء معناه الموضوع له {ينافيه} أي: ينافي التقييد

ص: 228


1- قوانين الأصول 1: 321.

ويعانده. وهذا بخلافه بالمعنيين، فإنّ كلّاً منهما له قابل؛ لعدم انثلامهما بسببه أصلاً، كما لا يخفى.

وعليه لا يستلزم التقييد تجوّزاً في المطلق؛ لإمكان إرادة معنى لفظه منه وإرادةِ قيده من قرينة حال أو مقال، وإنّما استلزمه لو كان بذلك المعنى.

نعم، لو أُريد من لفظه، المعنى المقيّد،

___________________________________________

{ويعانده} نعم، يمكن التقييد بعد التجوّز بحذف قيد الإرسال.

{وهذا بخلافه بالمعنيين} أي: بخلاف المطلق بمعنى نفس الطبيعة فقط في اسم الجنس، وبمعنى الطبيعة المقيّدة بقيد الوحدة فيالنّكرة {فإنّ كلّاً منهما} أي: من المعنيين {له} أي: للتقييد {قابل لعدم انثلامهما بسببه} أي: بسبب التقييد {أصلاً} إذ صرف الطبيعة قابلة للتقييد والتضييق، فإنّ اللّابشرط يجتمع مع ألف شرط، وكذا الطّبيعة المقيّدة بالوحدة {كما لا يخفى} فيقيّدان بقيد خارج عن معناهما، كالإيمان في الرّقبة.

{وعليه} أي: بناءً على ما ذكرنا من عدم أخذ قيد الإرسال في معنى المطلق {لا يستلزم التقييد تجوّزاً في المطلق} بل المطلق بعد التقييد يبقى على ما كان عليه من الحقيقة {لإمكان إرادة معنى لفظه} أي: لفظ المطلق {منه وإرادة قيده من قرينة حال أو مقال} على نحو تعدّد الدالّ والمدلول.

مثلاً: لو قال: (أعتق رقبة مؤمنة) قلنا إنّ الرّقبة مستعملة في معناها الشّامل للكافرة والمؤمنة، والمؤمنة مستعملة في معناها، لكن مجموعهما يفيدان أنّ مراد المولى هو المؤمنة فقط {وإنّما استلزمه} أي: استلزم التقييد للتجوّز {لو كان} المطلق {بذلك المعنى} المنسوب إلى المشهور؛ لأنّه لا بدّ من انسلاخه عن قيد الإرسال أوّلاً حتّى يصير قابلاً للتقييد. ومن المعلوم أنّ حذف جزء المعنى موجب للمجازيّة.

{نعم، لو أُريد من لفظه} أي: لفظ المطلق {المعنى المقيّد} كأن يراد بلفظ الرّقبة

ص: 229

كان مجازاً مطلقاً، كان التقييد بمتصل أو منفصل.

فصل: قد ظهر لك أنّه لا دلالة لمثل (رجل) إلّا على الماهيّة المبهمة وضعاً، وأنّ الشّياع والسّريان - كسائر الطوارئ - يكون خارجاً عمّا وضع له.فلا بدّ في الدلالة عليه من قرينة حال، أو مقال، أو حكمة.

وهي تتوقّف على مقدّمات:

___________________________________________

المؤمنة فقط، ويجعل لفظ (مؤمنة) قرينة على المراد {كان مجازاً مطلقاً} بالمعنى الّذي ذكرنا وبالمعنى المنسوب إلى المشهور، إذ الرّقبة لم توضع للمؤمنة فقط، بل وضعت للطبيعة على قولنا، وللطبيعة المرسلة على قول المشهور، وعلى كلا التقديرين فهي مستعملة في غير معناها الموضوع لها، ولا يفرق حينئذٍ بين ما {كان التقييد بمتصل} كأن يقول: (أعتق رقبة مؤمنة) {أو منفصل} كأن يقول: (أعتق رقبة) ثمّ يقول بعد مدّة: (الرّقبة الّتي تعتقها يلزم أن تكون مؤمنة).

[فصل مقدّمات الحكمة]

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن، مقدّمات الحكمة

{فصل} في بيان معنى مقدّمات الإطلاق وقرينة الحكمة واحتياج المطلق إليها غالباً {قد ظهر لك أنّه لا دلالة لمثل (رجل) إلّا على الماهيّة المبهمة وضعاً} والطبيعة المجرّدة {وأنّ الشّياع والسّريان كسائر الطوارئ} من التقييد وغيره {يكون خارجاً عمّا وضع له} المطلق {فلا بدّ في الدلالة عليه} أي: على الشّياع والسّريان {من قرينة حال أو مقال} تدلّ على أنّ المراد باسم الجنس أو النّكرة الإطلاق والشّيوع، وهاتان القرينتان نادرتان ولهذا لم يتعرّض المصنّف لتفصيلهما مع أنّهما واضحتان لكلّ أحد، وإنّما الكلام في الثّالث من القرائن المشار إليها بقوله: {أو} قرينة {حكمة وهي تتوقّف على مقدّمات} ثلاثة:

ص: 230

إحداها: كون المتكلّم في مقام بيانتمام المراد، لا الإهمال أو الإجمال.

ثانيتها: انتفاء ما يوجب التعيين.

ثالثتها: انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب،

___________________________________________

{إحداها: كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا} في مقام {الإهمال أو الإجمال} وأصل تشريع الحكم بلا قصد لبيان خصوصيّات المطلب، وقد تقدّم في بعض المباحث السّابقة الفرق بينهما، وذكره العلّامة الرّشتي(رحمة الله) هاهنا، فراجع(1).

{ثانيتها: انتفاء ما يوجب التعيين} بأن لا تكون هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة تدلّ على أنّ مراد المولى من هذا المطلق هو المقيّد وإلّا لم ينعقد الإطلاق، مثلاً: لو قال المولى: (أعتق رقبة) وكانت هناك قرينة على أنّ المراد بالرقبة هو المؤمنة لم ينعقد الإطلاق.

{ثالثتها: انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب} بأن لم يكن للفظ الانصراف إلى بعض الأفراد بحيث يغيّر وجهة اللفظ حين المخاطبة حتّى يصحّ اعتماد المولى عليه.

مثلاً: لو قال الإمام(علیه السلام): «مداد العلماء أفضل من دماء الشّهداء»(2) انصرف اللفظ إلى العالم باللّه لا العالم بالهيئة والهندسة وأمثالهما.

والحاصل: أنّ من مقدّمات الإطلاق أن يكون اللفظ متساوي الأقدام بالنسبة إلى الأفراد حين التخاطب، أي: يكون اللفظ بالنسبة إليها على حدّ سواء عندالمتكلّم والمخاطب وإن كان مختلف الأقدام عند غيرهم.

ص: 231


1- شرح كفاية الأصول 1: 346.
2- قال الإمام الصادق(علیه السلام): «إذا كان يوم القيامة جمع اللّه عز وجل الناس في صعيد واحدٍ، ووضعت الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء» من لا يحضره الفقيه 4: 398.

ولو كان المتيقّن بملاحظة الخارج عن ذاك المقام في البين، فإنّه غير مؤثّر في رفع الإخلال بالغرض، لو كان بصدد البيان، كما هو الفرض.

فإنّه - في ما تحقّقت - لو لم يرد الشّياعَ لأخلّ بغرضه؛ حيث إنّه لم ينبّه مع أنّه بصدده.

___________________________________________

{ولو كان المتيقّن بملاحظة الخارج عن ذاك المقام} أي: مقام التخاطب {في البين} كما لو كان بعض الأفراد أولى من بعض لكونه أتمّ وأمل، فإنّه غير مضرّ بالإطلاق.

مثلاً: لو قال أحد الشّيعة لآخر: (ترحّم على الأموات من العلماء) فإنّ المتيقّن منهم بحسب الأكمليّة مثلاً الشّيخ المرتضى ونحوه، ولكن هذا ليس بحيث يوجب تغيير وجه اللفظ عن المتكلّم والمخاطب حال التخاطب حتّى لا يشمل الكلام للعلماء المفضولين {فإنّه} أي: وجود العدد المتيقّن بالنسبة إلى الخارج عن مقام التخاطب {غير مؤثّر في رفع الإخلال بالغرض} بل يبقى الإخلال بالغرض على حاله {لو كان بصدد البيان، كما هو الفرض} فإنّ وجود هذا القدر المتيقّن ليس صالحاً لكونه بياناً {فإنّه} أي: المتكلّم {في ما تحقّقت} المقدّمات بأن كان في صدد البيان ولم يكن ما يوجب التعيين ولم يكن قدر متيقّن في مقام التخاطب {لو لم يرد الشّياع} والسّريان اعتماداً على القدر المتيقّن بالنظر إلى الخارج عن مقام التخاطب {لأخلّ بغرضه، حيث إنّه} أي: المتكلّم {لم ينبّه} على الغرض {مع أنّه بصدده} أي: بصدد بيان الغرض.وقوله: «فإنّه» الخ تعليل لقوله: «فإنّه غير مؤثّر» ويحتمل أن يكون علّة لأصل المطلب وهو أنّه مع تماميّة المقدّمات ينعقد الإطلاق، وعليه فيلغو قولنا اعتماداً على القدر المتيقّن بالنظر إلى الخارج عن مقام التخاطب.

وكيف كان، فالمقدّمات إذا تمّت كشفت بطرق الإنّ عن إرادة المتكلّم الإطلاق؛

ص: 232

وبدونها لا يكاد يكون هناك إخلال به؛ حيث لم يكن مع انتفاء الأُولى إلّا في مقام الإهمال أو الإجمال، ومع انتفاء الثّانية كان البيان بالقرينة؛ ومع انتفاء الثّالثة لا إخلال بالغرض لو كان المتيقّن تمام مراده؛ فإنّ الفرض أنّه بصدد بيان تمامه وقد بيّنه، لا بصدد بيان أنّه تمامه،

___________________________________________

لأنّه لو لم يرد الإطلاق لكان مخلّاً بفرضه، وهو قبيح عقلاً {وبدونها} أي: بدون تماميّة المقدّمات - بأن انتفى جميعها أو بعضها - {لا يكاد يكون هناك إخلال به} أي: بالغرض لو لم يرد الإطلاق والسّريان؛ لأنّه لا يجوز للمخاطب فهم الإطلاق مع عدم تماميّتها {حيث لم يكن} المولى {مع انتفاء} المقدّمة {الأُولى} وهي كونه في مقام بيان تمام المراد {إلّا في مقام الإهمال أو الإجمال} فلا يحقّ للعبد حينئذٍ التمسّك بالإطلاق {ومع انتفاء} المقدّمة {الثّانية} وهي انتفاء ما يوجب التعيين {كان البيان بالقرينة} فاللّازم الأخذ بمفاد القرينة لا الأخذ بالإطلاق {ومع انتفاء} المقدّمة {الثّالثة} وهي انتفاء القدر المتيقّن {لا إخلال بالغرض} بل اللّازم الأخذ بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب، فلوتركه وأخذ بالإطلاق كان أخذ بخلاف ما ألقاه المولى.

والحاصل: أنّه لا إخلال بالغرض {لو كان المتيقّن تمام مراده} أي: تمام مراد المولى {فإنّ الفرض أنّه بصدد بيان تمامه} أي: تمام المراد {وقد بيّنه} بواسطة كونه متيقّناً، إذ قد يكون البيان بواسطة اللفظ، وقد يكون بواسطة الاعتماد على القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

نعم، لو أراد الفرد المشكوك أيضاً في ما كان هناك قدر متيقّن لزم الإخلال بالفرض؛ لأنّه لا يفهم من كلامه إلّا القدر المتيقّن {لا بصدد بيان أنّه تمامه} توضيحه: أنّ المولى قد يكون بصدد بيان المراد وفي هذا الحال يصحّ الاعتماد على القدر المتيقّن، إذ لا يفهم العبد إلّا القدر المتيقّن فقط وهذا هو مراد المولى.

ص: 233

كي أخلّ ببيانه، فافهم.

ثمّ لا يخفى عليك: أنّ

___________________________________________

وقد يكون بصدد بيان أنّ القدر المتيقّن تمام المراد بوصف التماميّة، وحينئذٍ لا يصحّ الاعتماد على القدر المتيقّن؛ لأنّ العبد إنّما يفهم القدر المتيقّن ولا يفهم وصف التماميّة، وحيث إنّه لا فائدة غالباً في بيان صفة التماميّة لا مانع من الاعتماد على القدر المتيقّن لبيان المراد، إذ ليس بصدد أنّه تمام المراد {كي} يقال إنّه {أخلّ ببيانه} أي: بيان أنّه تمام المراد {فافهم}.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) في الهامش ما لفظه: «إشارة إلى أنّه لو كان بصدد بيان أنّه تمامه ما أخلّ ببيانه، بعد عدم نصب قرينة على إرادة تمام الأفراد، فإنّه بملاحظته يفهم أنّ المتيقّن تمام المراد، وإلّا كان عليه نصب القرينة على إرادة تمامها وإلّا قد أخلّ بغرضه.

نعم، لا يفهم ذلك إذا لم يكن إلّا بصدد بيان أنّ المتيقّن مراد ولم يكن بصددبيان أنّ غيره مراد، أو ليس بمراد قبالاً للإجمال أو الإهمال المطلقين، فافهم فإنّه لا يخلو عن دقّة»(1)،

انتهى.

وغرضه(رحمة الله) التفصيل بين ما كان بصدد بيان أنّ غير المتيقّن ليس بمراد، وبين ما لم يكن بصدد ذلك، بل في مقام الإهمال أو الإجمال بالنسبة إلى غير القدر المتيقّن، ففي الأوّل يصحّ الاعتماد على المتيقّن لبيان المراد ولبيان أنّه تمام المراد، وفي الثّاني يصح الاعتماد على المتيقن لبيان المراد لا لبيان أنه تمام المراد، وفي الحقيقة أنّ قوله: «فافهم» إشكال على إطلاق قوله: «كي أخلّ ببيانه».

{ثمّ لا يخفى عليك أنّ} البيان على قسمين:

الأوّل: بيان الحكم الواقعي وهذا هو المراد في قولهم: «تأخير البيان عن وقت

ص: 234


1- حقائق الأصول 1: 557.

المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده: مجرّدُ بيان ذلك وإظهاره وإفهامه، ولو لم يكن عن جدّ، بل قاعدة وقانوناً؛ لتكون حجّة في ما لم تكن حجّةٌ أقوى على خلافه، لا البيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة،

فلا يكون الظفر بالمقيّد - ولو كان مخالفاً -

___________________________________________

الحاجة قبيح» يريدون بذلك أنّ تأخير بيان الواقع المتعلّق به الغرض قبيح لاستلزامه نقض الغرض.

الثّاني: بيان الحكم مطلقاً الأعم من الظاهري والواقعي، حيث يكون المولى في مقام جعل القانون وضرب القاعدة ليرجع إليه العبد حين الشّك ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه.إذا عرفت هذا قلنا: {المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده} هو المعنى الثّاني، أي: {مجرّد بيان ذلك وإظهاره وإفهامه ولو لم يكن عن جدّ} ومطابقة واقع {بل} كان {قاعدة وقانوناً} وإنّما ألقاه بنحو العموم مع أنّه ليس بمراد جدّي {لتكون حجّة في ما لم تكن حجّة أقوى على خلافه} ليرجع إليه العبد في مقام الشّك ولا يبقى متحيّراً {لا البيان} بالمعنى الأوّل، وهو المذكور {في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة} المعبّر عنه بالبيان الجدّي الحقيقي.

والفرق بين المعنيين بالنسبة إلى ما نحن فيه أنّه لو كان هناك قيد فالإطلاق باقٍ بحاله على الثّاني، ويقع التعارض بين المطلق والمقيّد ويقدّم المقيّد بالقوّة؛ لأنّ المراد الاستعمالي ضرباً للقانون لا ينثلم بمخالفة المراد الجدّي له، فالإطلاق باقٍ على حاله وإن خرج عنه المقيّد، بخلاف الأوّل، فإنّه ينثلم الإطلاق بوجود المقيّد، لوضوح انثلام الإطلاق المبيّن للمراد الجدّي بظهور القيّد المبيّن لعدم الجديّة بالنسبة إلى الإطلاق.

وإلى هذا أشار بقوله: {فلا يكون الظفر بالمقيّد ولو كان مخالفاً} للمطلق

ص: 235

كاشفاً عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان. ولذا لا ينثلم به إطلاقه وصحّة التمسّك به أصلاً، فتأمّل جيّداً.

وقد انقدح بما ذكرنا: أنّ النّكرة في دلالتها على الشّياع والسّريان أيضاً تحتاج - في ما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال - إلى مقدّمات الحكمة، فلا تغفل.

بقي شيء: وهو أنّه

___________________________________________

{كاشفاً عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان} لعدم التنافي بين كونه مقام البيان ضرباً للقاعدة، مع عدم الإرادة الجديّة بالنسبة إلى بعض الأفراد {ولذا} الّذي ذكرنا من أنّ المقيّد لا يكشف عن عدم كونه في مقام البيان {لا ينثلم به إطلاقه و} لا يضرّ ب- {صحّة التمسّك به} أي: بالمطلق في الأفراد المشكوكة {أصلاً} بخلاف ما لو كان الإطلاق في مقام بيان الإرادة الجديّة، فإنّ وجود المقيّد منثلم فيه لعدم إمكان وجود إرادتين جديّتين بالنسبة إلى المطلق والمقيّد المتنافيين {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك حقيقة الحال.

{وقد انقدح بما ذكرنا} من احتياج الإطلاق إلى مقدّمات الحكمة {أنّ النّكرة} الموضوعة للحصّة المقيّدة بالوحدة {في دلالتها على الشّياع والسّريان} كي يصحّ انطباقها على كلّ فرد من أفراد الماهيّة {أيضاً} كسائر المطلقات {تحتاج - في ما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال - إلى مقدّمات الحكمة}

ف- (الرّجل) في (جئني برجل) لو أُريد دلالته على السّريان حتّى يصحّ انطباقه على كلّ فرد من أفراد الرّجل احتيج إلى قرينة خاصّة من حال أو مقال أو قرينة عامّة، أعني: تماميّة مقدّمات الحكمة فلو لم تكن إحدى تلك القرائن لم يفد السّريان {فلا تغفل} عن ذلك.

{بقي شيء وهو أنّه} هل المراد بالمقدّمة الأُولى القائلة بكون المتكلّم في مقام البيان أن نعلم بأنّه في مقام البيان، أم لا يلزم العلم، بل يكفي أصالة كونه في

ص: 236

لا يبعد أن يكون الأصل في ما إذا شكّ في كون المتكلّم في مقام بيان تمام المرادهو: كونه بصدد بيانه؛ وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسّك بالإطلاقات، في ما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرفَ وجهها إلى جهة خاصّة.

ولذا ترى أنّ المشهور لا يزالون يتمسّكون بها مع عدم إحراز كون مطلقها بصدد البيان، وبُعْدِ كونه لأجل ذَهَابهم إلى أنّها موضوعة للشّياع والسّريان، وإن كان ربّما نسب ذلك إليهم(1).

ولعلّ وجه النّسبة ملاحظةُ أنّه لا وجه للتمسّك بها بدون الإحراز،

___________________________________________

مقام البيان {لا يبعد} القول بالثّاني، بتقريب {أن يكون الأصل في ما إذا شكّ في كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد} أم لا {هو كونه بصدد بيانه، وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات} كافّة {من التمسّك بالإطلاقات في ما إذا لم يكن هناك} قدر متيقّن أو غيره من {ما يوجب صرف وجهها} أي: وجه الإطلاقات {إلى جهة خاصّة} لكونه المتيقّن في مقام التخاطب أو ما يوجب إجمالها أو إهمالها ككونها في مقام التشريع أو نحو ذلك.

{ولذا} الأصل المذكور {ترى أنّ المشهور} من العلماء {لا يزالون يتمسّكون بها} أي: بالمطلقات {مع عدم} العلم الوجداني بالمقدّمة الأُولى بعدم {إحراز كون مطلقها} بصيغة الفاعل {بصدد البيان، وبعد كونه} أي: تمسّكهم بالمطلقات مع عدم إحراز المقدّمة الأُولى {لأجل ذهابهم إلىأنّها موضوعة للشياع والسّريان} فلا يحتاج إلى تماميّة مقدّمات الإطلاق {وإن كان ربّما نسب ذلك} القول بأنّها موضوعة للسريان {إليهم، ولعلّ وجه النّسبة ملاحظة أنّه لا وجه للتمسّك بها} أي: بالمطلقات {بدون الإحراز} أي: إحراز كون المولى بصدد البيان، يعني أنّ التمسّك بالإطلاق مستند إلى أحد الأمرين:

الأوّل: تماميّة المقدّمات الّتي منها إحراز كون المولى بصدد البيان.

ص: 237


1- قوانين الأصول 1: 321.

والغفلةُ عن وجهه، فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّه قد انقدح بما عرفت - من توقّف حمل المطلق على الإطلاق في ما لم يكن هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة على قرينة الحكمة، المتوقّفة على المقدّمات المذكورة - : أنّه لا إطلاق له في ما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد أو الأصناف؛ لظهوره فيه، أو كونِهِ متيقّناً منه، ولو لم يكن ظاهراً فيه بخصوصه، حسب اختلاف مراتب الانصراف.

___________________________________________

الثّاني: وضع المطلق للسريان، وحيث رأوا أنّ المشهور يتمسّكون بالإطلاق بلا تماميّة الوجه الأوّل زعموا أنّ مستند تمسّكهم هو الوجه الثّاني {والغفلة عن وجهه} أي: وجه تمسّكهم، فإنّهم يستندون إلى الوجه الأوّل لتماميّة المقدّمات، إذ لا يلزم إحراز كون المولى بصدد البيان، بل الشّكّ كافٍ في صحّة التمسّك لما تقدّم من جريان السّيرة على ذلك، فلا تغفل {فتأمّل جيّداً} حتّى تعرف صدق ما ذكرنا من بناء العرف على إجراء أصالة الإطلاق عند الشّكّ فيه.

{ثمّ إنّه قد انقدح بما عرفت من توقّف حمل المطلق على الإطلاق - في ما لم يكنهناك قرينة حاليّة أو مقاليّة - على قرينة الحكمة} العامّة {المتوقّفة على المقدّمات المذكورة أنّه} فاعل «انقدح» {لا إطلاق له} أي: للفظ المطلق {في ما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد أو الأصناف، لظهوره} أي: المطلق {فيه} أي: في ذلك الفرد أو الصّنف، كظهور العلماء في لسان الأئمّة(علیهم السلام) في حملة الأخبار لا أهل الهيئة والحساب {أو كونه متيقّناً منه} بحسب مقام التخاطب لا بملاحظة الخارج عن ذاك المقام {ولو لم يكن} المطلق {ظاهراً فيه} أي: في هذا المتيقّن {بخصوصه} إذ التيقّن لا يلازم الظهور.

مثلاً: القدر المتيقّن من أدلّة التقليد - كآية الإنذار والسّؤال ورواية الاحتجاج والتوقيع - هو البالغ الطاهر المولد وإن لم يكن اللفظ ظاهراً فيه فقط {حسب اختلاف مراتب الانصراف} فمنها ما يوجب الظهور كالأوّل، ومنها ما لا يوجبه مع

ص: 238

كما أنّه منها ما لا يوجب ذا ولا ذاك، بل يكون بدويّاً زائلاً بالتأمّل.

كما أنّه منها ما يوجب الاشتراك، أو النّقل.

لا يقال: كيف يكون ذلك؟ وقد تقدّم أنّ التقييد لا يوجب التجوّز في المطلق أصلاً؟

فإنّه يقال - مضافاً إلى أنّه إنّما قيل لعدم استلزامه له، لا عدمِ إمكانه؛

___________________________________________

كونه القدر المتيقّن كالثّاني {كما أنّه منها} أي: من المراتب {ما لا يوجب ذا} التيقّن {ولا ذاك} الظهور {بل يكون بدويّاً زائلاً بالتأمّل} كانصراف (الحرم) في كربلاء إلى حرمالحسين(علیه السلام) {كما أنّه} للشأن {منها} أي: من مراتب الانصراف {ما يوجب الاشتراك} بين المنصرف عنه والمنصرف إليه {أو النّقل} عن المنصرف عنه إلى المنصرف إليه.

{لا يقال: كيف يكون ذلك} الّذي ذكرتم من إيجاب الانصراف للاشتراك أو النّقل {وقد تقدّم أنّ التقييد لا يوجب التجوّز في المطلق أصلاً} فكيف يمكن الحقيقة الثّانويّة التعيّنيّة مع أنّ مرتبتها متأخّرة عن مرتبة المجاز؟

والحاصل: أنّكم ذكرتم في ما سبق أنّ التقييد حيث يكون بدالّين ومدلولين لا يوجب تصرّفاً في لفظ المطلق، بل هو باقٍ على معناه الأوّلي.

مثلاً: (الرّقبة) في (الرّقبة المؤمنة) مستعملة في مطلق الرّقبة، فلم تستعمل في المؤمنة حتّى يكون مجازاً، ويستلزم كثرة استعمالها فيها إنشاء للفظ بالمعنى المقيّد حتّى يكون وضعاً بالغلبة، إمّا بأن يترك المعنى الأوّل بالمرّة حتّى يكون منقولاً أو يبقى الأوّل أيضاً حتّى يكون مشتركاً.

{فإنّه يقال: مضافاً إلى أنّه إنّما قيل} بعدم التجوّز في التقييد {لعدم استلزامه} أي: التقييد {له} أي: للتجوّز {لا عدم إمكانه} أي: إمكان التجوّز، فإنّه كما يمكن استعمال المطلق في معناه والمقيّد في معناه، ويكون التقييد من نتيجة الجمع بينهما حتّى لا يكون في لفظ المطلق تجوّز.

ص: 239

فإنّ استعمال المطلق في المقيّد بمكانٍ من الإمكان - إنّ كثرة إرادة المقيّد لدى إطلاق المطلق ولو بدالّ آخر ربّما تبلغ بمثابة توجب له مزيّة أُنس - كما في المجاز المشهور - أو تعييناً واختصاصاً به - كما في المنقول بالغلبة - ، فافهم.تنبيه: وهو أنّه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة، كان وارداً في مقام البيان من جهة منها، وفي مقام الإهمال أو الإجمال من أُخرى،

___________________________________________

كذلك يمكن استعمال المطلق في المقيّد ابتداءً ويكون ذكر المقيّد دليلاً على المراد {فإنّ استعمال المطلق في المقيّد بمكان من الإمكان} كما تقدّم، وعليه فيكون الاستعمال مجازاً وينجرّ إلى النّقل أو الاشتراك {إنّ كثرة إرادة المقيّد لدى إطلاق المطلق، ولو} كانت الإرادة {بدالّ آخر} حتّى لا يستلزم المجاز {ربّما تبلغ} هذه الكثرة {بمثابة توجب له} أي: للفظ المطلق {مزيّة أُنس} بالمقيّد بلا إيجاب لوضع ثانوي تعيّني {كما في المجاز المشهور، أو} توجب هذه الكثرة {تعييناً واختصاصاً} للفظ المطلق {به} أي: بالمقيّد {كما في المنقول بالغلبة} سواء مع ترك المعنى الأوّل الموجب للنقل أو مع بقائه الموجب للاشتراك.

وبهذا تبيّن أنّ صيرورة اللّفظ حقيقة في معنى ثانوي لا يترتّب على استعماله مجازاً فيه أوّلاً {فافهم} فإنّه دقيق.

{تنبيه: وهو أنّه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة} قابلاً للإطلاق والتقييد بحسب كلّ واحدٍ منهما، ولكن {كان وارداً في مقام البيان من جهة منها وفي مقام الإهمال أو الإجمال من} جهة {أُخرى} كقوله تعالى: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ}(1)، فإنّه في مقام الإطلاق من حيثسؤال كلّ جاهل عن العالم وليس في مقام الإطلاق من حيث أفراد أهل الذِّكر، الذَّكر منهم والأُنثى والحرّ والعبد وطاهر المولد وغيره، ولا من حيث أحوالهم، كالعادل منهم والفاسق والحيّ والميّت - كما قالوا -

ص: 240


1- سورة النحل، الآية: 43.

فلا بدّ في حمله على الإطلاق بالنسبة إلى جهةٍ، من كونه بصدد البيان من تلك الجهة، ولا يكفي كونه بصدده من جهة أُخرى، إلّا إذا كان بينهما ملازمة عقلاً أو شرعاً أو عادة، كما لا يخفى.

___________________________________________

{فلا بدّ في حمله على الإطلاق بالنسبة إلى جهة} كالإطلاق من حيث الأفراد {من كونه بصدد البيان من تلك الجهة} أي: من جهة الأفراد، مثلاً {ولا يكفي} في الإطلاق من جهة - كالإطلاق الأحوالي - {كونه بصدده} أي: بصدد البيان {من جهة أُخرى} كالإطلاق الأفرادي {إلّا إذا كان بينهما} أي: بين الإطلاقين الّذي كان المطلق بصدد بيان أحدهما دون الآخر {ملازمة} بأن كان الإطلاق من الجهة المقصود بيانها يلازم الإطلاق من الجهة الأُخرى غير المقصود بيانها، سواء ثبتت الملازمة {عقلاً أو شرعاً أو عادة، كما لا يخفى}.

قال العلّامة المشكيني(رحمة الله):

«والأوّل: مثل ما إذا ورد أنّه (لا بأس بالصلاة في عذرة غير المأكول ناسياً) فإنّ نفي مانعيّتها من حيث النّجاسة، ملازم عقلاً لنفيها من حيث الجزئيّة لغير المأكول، فإذا فرض كون المولى في مقام البيان من الجهة الأُولى، يحمل على الإطلاق من الجهة الثّانية أيضاً، للملازمة العقليّة.

والثّاني: مثل قوله: (إذا سافرت فقصّر) بناءً على شمول التقصير للإفطار، فإذا فرض كونه في مقام البيان من جهة الصّلاة، يحمل على الإطلاق من جهةالإفطار أيضاً، للملازمة الشّرعيّة المستفاده من قوله(علیه السلام): «إذا قصّرت أفطرت»(1).

والثّالث: مثل ما إذا ورد أنّه (لا بأس بالصلاة في جلد الميتة) وفرضنا أنّ الغالب فيه النّجاسة، فإذا فرض كونه مسوقاً في بيان عدم مانعيّة عنوان الميتة، يحمل

ص: 241


1- من لا يحضره الفقيه 1: 437.

فصل: إذا ورد مطلق ومقيّد متنافيين: فإمّا يكونان مختلفين في الإثبات والنّفي، وإمّا يكونان متوافقين.

___________________________________________

على الإطلاق من جهة النّجاسة أيضاً، وأنّها غير مانعة»(1)،

انتهى كلامه رفع مقامه، فتأمّل.

[فصل المطلق والمقيّد المتنافيان]

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن، المطلق والمقيّد المتنافيان

{فصل} في بيان الجمع بين المطلق والمقيّد، وحيث إنّك قد عرفت المطلق في ما سبق إجمالاً فاللّازم تعريف المقيّد إجمالاً ثمّ الشّروع في المبحث، فنقول: عرّف المقيّد بأنّه «ما دلّ على شائعٍ في جنسه» وعرّفه صاحب الفصول بأنّه: «ما اختصّ دلالته ببعض ما دلّ عليه المطلق من حيث إنّه كذلك»، قال: «فدخل فيه العلم وما بحكمه والمطلق المستعمل في المقيّد مجازاً أو العام واسم الجنس مفرداً ومركّباً إذا اختصّت بالدلالة على بعض ما دلّ عليه المطلق»(2)،

انتهى.

وحيث إنّ مفهومه عند العرف أظهر من هذه التعاريف فالأولى ترك الإطنابفيها بذكر ما أُورد عليها من الإشكال والجواب.

{إذا ورد مطلق ومقيّد متنافيين} مقابل ما لم يكن بينهما تنافٍ نحو (أكرم العلماء) و(صلّ خلف عدول العلماء) {فإمّا يكونان مختلفين في الإثبات والنّفي} كما لو قال: (أعتق رقبة) و(لا تعتق رقبة كافرة) {وإمّا يكونان متوافقين} في الإثبات نحو (أعتق رقبة) (أعتق رقبة مؤمنة) أو في النّفي نحو (لا تبع الخمر) و(لا تبع خمر التمر).

ص: 242


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 503.
2- الفصول الغرويّة: 219.

فإن كانا مختلفين، مثل: (أعتِقْ رقبة) و (لا تعتق رقبة كافرة)، فلا إشكال في التقييد.

وإن كانا متوافقين، فالمشهور فيهما الحمل والتقييد.

وقد استدلّ بأنّه جمع بين الدليلين، وهو أولى.

وقد أُورد عليه: بإمكان الجمع على وجه آخر، مثل حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب(1).

وأُورد عليه: بأنّ التقييد ليس تصرّفاً في معنى اللّفظ،

___________________________________________

{فإن كانا مختلفين} كما تقدّم من {مثل: (أعتق رقبة) و(لا تعتق رقبة كافرة) فلا إشكال في التقييد} للفهم العرفي المستند ظاهراً إلى أنّ العمل بالمقيّد لا يوجب طرح المطلق، بل إنّما يضيق به دائرته، بخلاف العكس فإنّ العمل بالمطلق يوجب رفع اليد عن المقيّد رأساً.{وإن كانا متوافقين فالمشهور فيهما الحمل والتقييد} فاللّازم العمل بالمقيّد في مثل: (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة) حتّى أنّه لو أعتق عبداً غير مؤمن لم يكف.

{وقد استدلّ} عليه {بأنّه جمع بين الدليلين، وهو أولى} من الطرح، على المشهور كما نقله الشّيخ المرتضى(رحمة الله) في باب التعادل والترجيح(2).

{وقد أُورد عليه} أي: على وجوب الحمل مستنداً إلى هذه القاعدة {بإمكان الجمع} وعدم الطرح {على وجه آخر، مثل حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب} فيكون المقيّد أفضل الأفراد.

{وأُورد عليه} أي: على هذا الإيراد ببيان الفرق بين حمل المقيّد على الاستحباب، وبين حمل المطلق على المقيّد {بأنّ التقييد ليس تصرّفاً في معنى اللفظ} أي: لفظ

ص: 243


1- ذكر الاستدلال والإيراد عليه في قوانين الأصول 1: 325.
2- فرائد الأصول 4: 19.

وإنّما هو تصرّف في وجهٍ من وجوه المعنى، اقتضاه تجرّده عن القيد، مع تخيّل وروده في مقام بيان تمام المراد، وبعد الاطّلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الإجمال، فلا إطلاق فيه حتّى يستلزم تصرّفاً، فلا يعارض ذلك بالتصرّف في المقيّد، بحمل أمره على الاستحباب.

وأنت خبير بأنّ التقييد أيضاً يكون تصرّفاً في المطلق؛ لما عرفت من أنّ الظفر بالمقيّد لا يكون كاشفاً عن عدم ورود المطلق في مقام البيان، بل

___________________________________________

المطلق {وإنّما هو تصرّف في وجه من وجوه المعنى} أعني: وصف الإطلاق الّذي {اقتضاه تجرّده} أي: تجرّد المطلق {عن القيد، مع تخيّل وروده في مقام بيان تمام المراد، و} من المعلوم أنّ {بعد الاطّلاع على ما يصلح للتقييد} بالظفر بالمقيّد ينكشف بطلان التخيّل المزبور، و{نعلم وجوده} أي: المقيّد {على وجه الإجمال} لا وجه لهذا القيد، كما لا يخفى {فلا إطلاق فيه} أي: في لفظ المطلق لانهدام بعض مقدّمات الإطلاق - وهي المقدّمة الثّانية الّتي تقول بانتفاء ما يوجب التعيين - {حتّى يستلزم} التقييد {تصرّفاً} في المطلق {فلا يعارض ذلك} التقييد في لفظ المطلق {بالتصرّف في المقيّد بحمل أمره} الظاهر في الوجوب {على الاستحباب} مجازاً.

والحاصل: أنّ تقييد المطلق لا يستلزم تجوّزاً وحمل المقيّد على الاستحباب يستلزم تجوّزاً، وحمل الكلام على ما لا تجوّز فيه أولى من حمله على ما فيه التجوّز، كما لا يخفى.

{وأنت خبير بأنّ} جواب هذا المجيب مردود من وجهين:

الأوّل: أنّ {التقييد أيضاً يكون تصرّفاً في المطلق} كما أنّ حمل الأمر على الاستحباب أيضاً تصرّف في المقيّد فهما متساويان {لما عرفت من أنّ الظفر بالمقيّد لا يكون كاشفاً عن عدم ورود المطلق في مقام البيان، بل} ورود المقيّد كاشف

ص: 244

عن عدم كون الإطلاق - الّذي هو ظاهره بمعونة الحكمة - بمراد جدّي، غاية الأمرأنّ التصرّف فيه بذلك لا يوجب التجوّز فيه.

مع أنّ حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب لا يوجب تجوّزاً فيه؛ فإنّه في الحقيقة مستعمل في الإيجاب، فإنّ المقيّد إذا كان فيه ملاك الاستحباب، كان من أفضل أفراد الواجب، لا مستحبّاً فعلاً؛ ضرورة أنّ ملاكه

___________________________________________

{عن عدم كون الإطلاق الّذي هو ظاهره} أي: ظاهر المطلق {بمعونة} مقدّمات {الحكمة بمراد جدّي} وإن كان مراداً بالإرادة الاستعماليّة ضرباً للقاعدة.

وبهذا سقط قولكم: «بأنّ التقييد ليس تصرّفاً في معنى اللفظ لكشفه عن عدم الإطلاق من أصل» {غاية الأمر أنّ التصرّف فيه} أي: في المطلق {بذلك} التصرّف الّذي هو عبارة عن حمله على أنّه ليس بمراد جدّي {لا يوجب التجوّز فيه} أي: في المطلق، ولكن ليس محذوره أهون من محذور التجوّز، إذ كلاهما خلاف الظاهر.

والحاصل: أنّ المطلق له ظهور في كونه مراداً جديّاً، والمقيّد له ظهور في كونه واجباً، فالأمر يدور حينئذٍ بين رفع اليد عن ظهور المطلق في الإرادة الجديّة وعن ظهور المقيّد في الوجوب وكلاهما على السّواء. نعم، رفع اليد عن ظهور المقيّد موجب لمجازيّته دون رفع اليد عن ظهور المطلق.

الثّاني: ما أشار إليه بقوله: {مع أنّ حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب لا يوجب تجوّزاً فيه} أي: في المقيّد، إذ ليس المراد من الاستحباب في باب المطلق والمقيّد الاستحباب الاصطلاحي الّذي هو مضادّ للوجوب {فإنّه} أي: الأمر الواقع في المقيّد {في الحقيقة مستعمل في الإيجاب}الأفضل {فإنّ المقيّد إذا كان فيه ملاك الاستحباب كان من أفضل أفراد الواجب} لاشتماله على ملاكين {لا مستحبّاً فعلاً} كسائر المستحبّات {ضرورة أنّ ملاكه} الاستحبابي

ص: 245

لا يقتضي استحبابه إذا اجتمع مع ما يقتضي وجوبه.

نعم، في ما إذا كان إحراز كون المطلق في مقام البيان بالأصل، كان من التوفيق بينهما حملُه على أنّه سيق في مقام الإهمال، على خلاف مقتضى الأصل، فافهم.

ولعلّ وجه التقييد: كون ظهور إطلاق الصّيغة في الإيجاب التعييني

___________________________________________

{لا يقتضي استحبابه إذا اجتمع مع ما يقتضي وجوبه} لأنّه يستلزم الجمع بين الضّدّين وهو محال قطعاً.

مثلاً: صلاة الجماعة إنّما تكون أفضل أفراد الواجب لا أنّها مستحبّة فعلاً، وهكذا لو قلنا بأنّ الإيمان في الرّقبة ليس واجباً كان عتق الرّقبة المؤمنة أفضل أفراد الواجب لا مستحبّاً فعلاً.

{نعم} كلام المجيب القائل بأنّ التقييد ليس تصرّفاً في معنى اللفظ إنّما يصحّ {في ما إذا كان إحراز كون المطلق في مقام البيان بالأصل} الّذي ادّعاه المصنّف(رحمة الله) من جريان أصالة الإطلاق عند الشّكّ فيه، فإنّه لو ظفرنا بالمقيّد أمكن القول بأنّ المطلق لم يكن في مقام البيان من أوّل الأمر، و{كان} حينئذٍ {من التوفيق بينهما حمله} أي: حمل المطلق {على أنّه سيق في مقام الإهمال} أو الإجمال {على خلاف مقتضى الأصل} فاللّازم الأخذ بالمقيّد وإبقاؤه على ظاهره.{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ اللّازم ممّا ذكر عدم جواز التمسّك بهذا المطلق في غير مورد المقيّد، مضافاً إلى أنّه لو أمكن التوفيق بكلّ واحد من النّحوين، فلو كان ظهور في البين فهو المتّبع وإلّا فترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجّح.

وبهذا كلّه تبيّن الإشكال في كون وجه الجمع بالتقييد هي القضيّة المشهورة القائلة بأنّ: «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح».

{ولعلّ وجه التقييد} شيء آخر، وهو {كون ظهور إطلاق الصّيغة في الإيجاب التعييني} المقتضي لعدم هذه الفصول عنه إلى غيره ممّا لا يشمل على الوصف،

ص: 246

أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق.

وربّما يُشكل بأنّه يقتضي التقييد في باب المستحبّات، مع أنّ بناء المشهور على حمل الأمر بالمقيّد فيها على تأكّد الاستحباب. اللّهمّ إلّا أن يكون الغالب في هذا الباب هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبيّة، فتأمّل.

أو أنّه كان بملاحظة التسامح في أدلّة المستحبّات،

___________________________________________

كالرقبة غير المؤمنة - في المثال السّابق - {أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق} لعدم جواز الإتيان بأحد الأفراد ولو لم يشتمل على الوصف.

{وربّما يشكل} ما ذكرناه من الوجه تقديم المقيّد على المطلق {بأنّه} كان الوجه أقوائيّة ظهور الصّيغة في التعيين في ظهور المطلق في الإطلاق كان هذا الوجه بعينه {يقتضي التقييد في باب المستحبّات} فلو ورد (زُر الحسينَ(علیه السلام)) و(زُرِ الحسين(علیهالسلام) يوم عرفة) كان اللّازم القول باستحباب زيارة الحسين(علیه السلام) في يوم عرفة فقط، وهكذا لو ورد (اُقنُتْ) و(اُقْنُتْ بكلمات الفرج) كان اللّازم القول بعدم استحباب القنوت بغير كلمات الفرج، وهكذا {مع أنّ بناء المشهور} بل لم ينقل فيه خلاف من أحد {على} إبقاء المطلق على إطلاقه، و{حمل الأمر بالمقيّد فيها} أي: في المستحبّات {على تأكّد الاستحباب}.

{اللّهمّ إلّا أن} يقال بوجود الصّارف عن العمل على طبق الظهور الأقوى الكائن للمقيّد؛ لأنّه {يكون الغالب في هذا الباب هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبيّة} فتكون الغلبة قرينة على إرادة التأكّد من القيود، وليس في باب الواجبات مثل هذه القرينة النّوعيّة {فتأمّل} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الواجبات أيضاً كذلك، إذ قلّما يتّفق واجب لم تكن له مراتب {أو} نقول بفرق آخر بين الواجبات والمستحبّات، وهو {أنّه} أي: عدم الحمل في باب المستحبّات {كان بملاحظة التسامح في أدلّة المستحبّات} فإنّ موضوع أخبار «من

ص: 247

وكان عدمُ رفع اليد من دليل استحباب المطلق - بعد مجيء دليل المقيّد - وحمله على تأكّد استحبابه، من التسامح فيها.

ثمّ إنّ الظاهر: أنّه لا يتفاوت في ما ذكرنا بين المُثْبَتَيْنِ والمَنْفِيَّيْنِ بعد فرض كونهما متنافيين.

كما لا يتفاوتان في استظهار التنافي بينهما من استظهار اتحاد التكليف

___________________________________________

بلغه ثواب على عمل»(1)

الخ، هو البلوغ ولا شكّ في صدق بلوغ المطلق ولو بعد ورود المقيّد {وكان عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق بعد مجيء دليل المقيّد، وحمله على تأكّد استحبابه من التسامح فيها} متعلّق بقوله: «وكان عدم» الخ.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) في الهامش ما لفظه: «ولا يخفى أنّه لو كان حمل المطلق على المقيّد جمعاً عرفيّاً، كان قضيّته عدم الاستحباب إلّا للمقيّد، وحينئذٍ إن كان بلوغ الثّواب صادقاً على المطلق كان استحبابه تسامحيّاً، وإلّا فلا استحباب له وحده، كما لا وجه - بناءً على هذا الحمل وصدق البلوغ - لتأكّد الاستحباب في المقيّد، فافهم»(2)،

انتهى.

وأجاب بعضهم بوجه آخر، وهو أنّ التقييد إنّما يكون في ما علم وحدة التكليف من الخارج، ولم يعلم ذلك في المستحبّات، والإنصاف عدم استقامة شيء من هذه الوجوه، بل المتّبع الظهور في كلّ مورد فقد لا يمكن إلّا التقييد، كما لا يخفى.

{ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا يتفاوت} الحال {في ما ذكرنا} من حمل المطلق على المقيّد {بين المثبتين والمنفيين بعد فرض كونهما متنافيين، كما لا يتفاوتان} المثبتان والمنفيان {في استظهار التنافي بينهما من استظهار اتحاد التكليف} متعلّق

ص: 248


1- الكافي 2: 87.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 511.

من وحدة السّبب وغيره، من قرينة حال أو مقال حسب ما يقتضيه النّظر، فليتدبّر.تنبيه: لا فرق في ما ذكر من الحمل في المتنافيين بين كونهما في بيان الحكم التكليفي، وفي بيان الحكم الوضعي. فإذا ورد - مثلاً - : أنّ البيع سبب، وأنّ البيع الكذائي سبب، وعُلم أنّ مراده: إمّا البيع على إطلاقه، أو البيع الخاصّ، فلا بدّ من التقييد لو كان ظهور دليله في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الإطلاق فيه، كما هو

___________________________________________

بقوله: «في استظهار» {من وحدة السّبب وغيره} متعلّق باتحاد التكليف {من قرينة حال أو مقال حسب ما يقتضيه النّظر}.

والحاصل: أنّه إذا أحرز وحدة التكليف - سواء كان الإحراز من إجماع أو غيره - كان اللّازم حمل المطلق على المقيّد، إذ مع وحدة التكليف يقع التنافي بين المطلق والمقيّد؛ لأنّ دليل المقيّد يقول بعدم كفاية المطلق، ودليل المطلق يقول بكفايته، وحينئذٍ يلزم أحد الأمرين:

[1] حمل المقيّد على الاستحباب في الواجب والكراهة في الحرام.

[2] أو حمل المطلق على المقيّد، فيقدّم الثّاني على الأوّل حسب ما مرّ تفصيله {فليتدبّر} لئلّا تظنّ عدم التنافي بين تحريمين.

{تنبيه: لا فرق في ما ذكر من الحمل} للمطلق على المقيّد {في المتنافيين بين كونهما في بيان الحكم التكليفي} كما تقدّم من مثال العتق {وفي بيان الحكم الوضعي} كالسببيّة والمانعيّة والجزئيّة والشّرطيّة ونحوها {فإذا ورد مثلاً أنّ البيع سبب} للملكيّة {و} ورد أيضاً {أنّ البيع الكذائي} كالبيع بالعربي مثلاً {سبب،وعلم} من دليل خارج كون الدليلين في مقام بيان سبب واحد، و{أنّ مراده إمّا البيع على إطلاقه أو البيع الخاص} سبب للملكيّة {فلا بدّ} حينئذٍ {من التقييد} والقول بأنّ البيع بلفظ العربي سبب فقط {لو كان ظهور دليله} أي: دليل المقيّد {في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الإطلاق فيه} أي: في دخل المطلق {كما هو}

ص: 249

ليس ببعيد؛ ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيّد - بخلاف العكس - بإلغاء القيد وحمله على أنّه غالبي، أو على وجه آخر، فإنّه على خلاف المتعارف.

تبصرةٌ لا تخلو من تذكرة: وهي أنّ قضيّة مقدّمات الحكمة في المطلقات تختلف بحسب اختلاف المقامات.

فإنّها تارةً: يكون حملها على العموم البدلي،

___________________________________________

أي: هذا الظهور {ليس ببعيد، ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيّد} فإنّ قول المولى: (أحللت لك المعاملة) لا يراد به مطلق المعاملة، بل المعاملة الخاصّة الّتي هي في نظره، ودليل القيد كاشف عنه {بخلاف العكس بإلغاء القيد وحمله على أنّه غالبي} بيان لإلغاء القيد، بأن يقال: إنّ المطلق يراد به الإطلاق وإنّما المقيّد محمول على كون القيد غالبيّاً فذكره من قبيل قوله - تعالى - : {وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم}(1)، {أو على وجه آخر} من أنّ سببيّة المقيّد أقوى وأحسن في نظر المولى من سببيّة المطلق وإن اشتركا في مطلق السّببيّة {فإنّه} أي: إلغاء القيد بأحدالوجهين {على خلاف المتعارف} فلا يصار إليه.

والإنصاف أنّ المتّبع هو الظهور، وليس له ميزان خاصّ، بل الفهم العرفي في كلّ مورد هو المعيار في المطلب، فلربّما نرى أنّهم يلغون القيد ويأخذون بالإطلاق، كما نرى العكس مع مماثلة الموردين، واللّه الموفّق.

{تبصرة لا تخلو من تذكرة: وهي أنّ قضيّة مقدّمات الحكمة في المطلقات} ليست على نحوٍ واحدٍ، بل {تختلف بحسب اختلاف المقامات، فإنّها} أي: المطلقات:

[1] {تارةً يكون} مقتضي مقدّماتها {حملها} أي: حمل تلك المطلقات {على العموم البدلي} بمعنى حصّة من الطبيعة قابلة الانطباق على كلّ فرد من أفرادها.

ص: 250


1- سورة النساء، الآية: 23.

وأُخرى: على العموم الاستيعابي، وثالثةً: على نوع خاصّ ممّا ينطبق عليه، حسب اقتضاء خصوص المقام، واختلاف الآثار والأحكام، كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام.

فالحكمة في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد: خصوص الوجوب التعييني العيني

___________________________________________

[2] {وأُخرى} تقتضي مقدّمات الإطلاق حمل المطلق {على العموم الاستيعابي} أي: الاستغراق والشّمول لكلّ فرد من أفراد الطبيعة.

[3] {وثالثةً على نوع خاصّ ممّا ينطبق} المطلق {عليه} وهذا الاختلاف إنّما يكون {حسب اقتضاء خصوص المقام واختلاف الآثار والأحكام} قال العلّامةالمشكيني(رحمة الله):

«أمّا الأوّل: فكما في اللفظ الدالّ على الإيجاب من صيغة أو غيرها، فإنّ مقام الإيجاب يقتضي الحمل على فرد معيّن - كما مر - .

وأمّا الثّاني: فكما في اللفظ الدالّ على موضوع حكم تكليفي أو وضعي، مثل: (أعتِقْ رقبة) و {وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1)، فإنّ الأثر الأوّل تحقّق فيه مقدّمتان اقتضتا مع المقدّمات العامّة العموم البدلي، والأثر الثّاني تحقّق فيه مقدّمات ثلاث اقتضت مع العامّة العموم الاستغراقي»(2)،

انتهى {كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام} فإنّها تختلف حسب اختلاف المقامات، مثلاً: القرائن الأحواليّة تدلّ على شيء وأُخرى على شيء آخر، وهكذا القرائن المقاليّة.

ثمّ قدّم المصنّف(رحمة الله) القسم الثّالث المشار إليه بقوله: «وثالثة» الخ، بقوله: {فالحكمة في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعييني} مقابل التخييري نحو (أطعم) أو (صم) أو (اكس) {العيني} مقابل الكفائي نحو

ص: 251


1- سورة البقرة، الآية: 275.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 522.

النّفسي؛ فإنّ إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان، ولا معنى لإرادة الشّياع فيه، فلا محيص عن الحمل عليه في ما إذا كان بصدد البيان.

كما أنّها قد تقتضي العموم الاستيعابي، كما في {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ}(1)؛ إذإرادة البيع مهملاً أو مجملاً تنافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان، وإرادةُ العموم البدلي لا تناسب المقام.

___________________________________________

(اغسل الميّت أنت، أو زيد) {النّفسي} مقابل الغيري نحو {إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ}(2)، المفيد لكون الوضوء واجباً غيريّاً {فإنّ إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان} ففي الأوّل: يحتاج إلى عدل للواجب. وفي الثّاني: إلى عدل للفاعل. وفي الثّالث: إلى بيان ذي المقدّمة، فحيث لم يبيّن انكشف عدمها، فتبيّن أنّ المراد بالحكمة في صيغة الأمر هو هذا المعنى {ولا معنى لإرادة الشّياع} والسّريان {فيه} وحينئذٍ {ف-} لو تمّت مقدّمات الحكمة {لا محيص عن الحمل عليه} أي: على هذا المعنى {في ما إذا كان} المولى {بصدد البيان، كما أنّها} أي: مقدّمات الحكمة {قد تقتضي العموم الاستيعابي، كما في {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ}} فإنّه يدلّ على حليّة جميع أنواع البيوع وحرمة جميع أنواع الرّبا {إذ إرادة البيع مهملاً أو مجملاً تنافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان} مع عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب وعدم قرينة توجب التعيين.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّه في مقام إمضاء البيع مجملاً، كما أنّ أدلّة العبادات - كما قالوا - في مقام التشريع، فتدبّر {وإرادة العموم البدلي} حتّى يكون بمعنى حليّة فرد مردّد من البيع نظير (جئني برجل) {لا تناسبالمقام} الّذي هو مقام إعطاء الحكم

ص: 252


1- سورة البقرة، الآية: 275.
2- سورة المائدة، الآية: 6.

ولا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلّف - أيّ بيع كان - ، مع أنّها تحتاج إلى نصب دلالة عليها، لا يكاد يفهم بدونها من الإطلاق.

ولا يصحّ قياسه على ما إذا أُخذ في متعلّق الأمر؛ فإنّ العموم الاستيعابي لا يكاد يمكن إرادته، وإرادةُ غير العموم البدلي وإن كانت ممكنة، إلّا أنّها

___________________________________________

بالنسبة إلى المعاملات المتعارفة، وأمّا القول بأنّه مقام الامتنان فليس شيئاً يعرف لا من اللفظ ولا من الخارج مع عدم صحّته بالنسبة إلى تحريم الرّبا.

{ولا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلّف - أيّ بيع كان -} مثل قوله: (جئني برجل) الّذي يقتضي إطلاقه إرادة المولى لرجل اختاره المكلّف أيّ رجل كان، والفرق بين هذا وسابقه أنّ الأوّل غير معلوم المراد، لإجماله حتّى يبقى المكلّف متحيّراً بخلاف الثّاني كما لا يخفى، وإنّما قلنا بعدم المجال لهذا الاحتمال لما تقدّم من أنّه في مقام إعطاء الحكم بالنسبة إلى المعاملات المتعارفة {مع أنّها} أي: إرادة بيع اختاره المكلّف {تحتاج إلى نصب دلالة عليها} أي: على هذه الإرادة فإنّه {لا يكاد يفهم} هذا المعنى {بدونها} أي: بدون القرينة {من الإطلاق} إذ الإطلاق لا يقتضيه فإرادته منه بدون قرينة نقض للغرض {ولا يصحّ قياسه} أي: قياس {وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ} ممّا يقع المطلق عقيب غير الأمر {على ما إذا أُخذ} المطلق {في متعلّق الأمر} نحو (جئني برجل) {فإنّ العموم الاستيعابي} في ما إذا وقعالأمر {لا يكاد يمكن إرادته} لاستحالة تعلّق القدر بجميع أفراد الماهيّة.

ولكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يصحّ في ما كانت الأفراد كثيرة جدّاً نحو (الرّجل) أمّا لو انحصرت في عدد قليل جاز ذلك كما لو قال: (جئني بمجتهد) مع فرض انحصار المجتهدين {وإرادة غير العموم البدلي} بأن يراد ب- (الرّجل) في (جئني برجل) البعض المعيّن {وإن كانت ممكنة إلّا أنّها} أي: هذه الإرادة بدون نصب

ص: 253

منافية للحكمة وكون المطلق بصدد البيان.

___________________________________________

قرينة عليها {منافية للحكمة، و} ل- {كون المطلق بصدد البيان} فهذا الفارق يوجب على عدم صحّة قياس نحو (أحلّ اللّه البيع) على نحو (جئني برجل)، إذ يدور أمر الرّجل بين العموم الاستيعابي المتعذّر وبين إرادة قسم خاصّ المنافية للحكمة، وبين العموم البدلي وحيث لا محذور فيه وجب المصير إليه، بخلاف نحو (أحلّ اللّه البيع) فإنّ العموم الاستيعابي فيه ممكن.

ثمّ لا بأس بالإشارة إلى بعض ما ذكره القوم في الآيات الواردة بالنسبة إلى العبادات، وهو أنّهم ذكروا عدم وجود المطلقات أو شذوذها في الآيات المتعلّقة بالعبادات وفرّقوا بينها وبين الآيات المتعلّقة بالمعاملات فقالوا فيها بعكس ما قالوا في العبادات، مستظهرين أنّها في مقام أصل التشريع لا بصدد البيان حتّى ينعقد الإطلاق فيها. ولكن أنت خبير بعدم الفرق بل هما على حدّ سواء، فاللّازم إمّا الالتزام بوجود الإطلاق في كليهما - كما هو الأظهر - أو عدم الإطلاق بالنسبة إلى كليهما، فكما يمكن التمسّك بنحو {أَحَلَّ ٱللَّهُٱلۡبَيۡعَ}(1)، لصحّة بيع الفضولي والمعاطاتي كذلك يمكن التمسّك بإطلاق {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ}(2)، لعدم اشتراط الإمام(علیه السلام) في الانعقاد، وكما يقيّد الأوّل بالأدلّة الدالّة على اشتراط المالية ونحوه، كذلك يقيّد الثّاني بالأدلّة الدالّة على اشتراط عدم السّفر ونحوه.

والقول بأنّه في مقام أصل التشريع للجمعة يشابه القول بأنّ آية البيع في مقام أصل جوازه مقابل حرمة الرّبا. وكيف كان، فلا وجه للتفصيل، واللّه الهادي إلى سواء السّبيل.

ص: 254


1- سورة البقرة، الآية: 275.
2- سورة الجمعة، الآية: 9.

فصل: في المجمل والمبيّن والظاهر: أنّ المراد من المبيّن - في موارد إطلاقه - الكلامُ الّذي له ظاهر، ويكون بحسب متفاهم العرف غالباً لخصوص معنىً؛ والمجمل بخلافه. فما ليس له ظهورٌ: مجملٌ، وإن علم بقرينة خارجيّة ما أُريد منه، كما أنّ ما له الظهور: مبيّنٌ، وإن علم بالقرينة الخارجيّة أنّه ما أُريد ظهوره وأنّه مؤوّل.

___________________________________________

[فصل في المجمل والمبيّن]

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن، المجمل والمبيّن

{فصل: في المجمل والمبيّن والظاهر} المتبادر إلى الذهن من هذين اللفظين {أنّ المراد من المبيّن - في موارد إطلاقه -} هو {الكلام} أو الكلمة {الّذي له ظاهر ويكون بحسب متفاهم العرف} من أهل اللسان {غالباً لخصوص معنىً} بحيث إذا أُطْلِقَ بدر إلى الذهنمعنى واحد للتلازم ذهناً بين هذا اللفظ وهذا المعنى الموجب لتذكّر أحدهما عند تذكّر الآخر {و} المراد من {المجمل} ما هو {بخلافه} ممّا لا يكون له ظاهر يبدر من لفظه عند الإطلاق.

وعلى ما ذكرنا من التعريف {فما ليس له ظهور مجمل، وإن علم بقرينة خارجيّة ما أُريد منه} فلو قامت القرينة على أنّ المراد بالقروء في قوله - تعالى - : {يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ}(1)، الإطهار لم يخرج بذلك عن الإجمال {كما أنّ ما له الظهور مبيّن، وإن علم بالقرينة الخارجيّة أنّه ما أُريد ظهوره وأنّه مؤوّل} فنحو {وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٭ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ}(2) مبيّن وإن قامت القرينة القطعيّة العقليّة والنّقليّة على عدم إرادة ظهوره من النّظر بالعين. وقد خالف في ما ذكره من المعنى بعض، والظاهر عدم صحّته.

ص: 255


1- سورة البقرة،الآية: 228.
2- سورة القيامة، الآية: 22-23.

ولكلّ منهما - في الآيات والرّوايات - وإن كان أفرادٌ كثيرة لا تكاد تخفى، إلّا أنّ لهما أفراد مشتبهة، وقعت محلّ البحث والكلام للأعلام في أنّها من أفراد أيّهما؟ كآية السّرقة، ومثل: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ}(1) و {أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ}(2) ممّا أُضيف التحريم والتحليل إلى الأعيان،

___________________________________________

{و} كيف كان، ف- {لكلّ منهما} أي: من المجمل والمبيّن {في الآيات والرّوايات وإن كان أفراد كثيرة لا تكاد تخفى} على واحد {إلّا أنّ لهما أفراد مشتبهة وقعت محلّ البحث والكلام للأعلام في أنّها من أفراد أيّهما؟} وهذا الخلاف إنّما نشأ من أُنس بعض الأذهان ببعض الشّواهد والمقرّبات والمبعّدات، بحيث صار سبباً لأُنس الذهن بالتلازم بين لفظ ومعنى أو عدم التلازم أو الشّكّ فهذا يدّعي إجماله وذاك يدّعي خلافه، كما قد يقع هذا النّزاع في التبادر وأمثاله {كآية السّرقة} وهي قوله - تعالى - : {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا}(3)، فقد ذهب السّيّد المرتضى(رحمة الله)(4) وجماعة من العامّة على أنّها مجملة باعتبار اليد، لاحتمال أن يكون المراد القطع من الأشاجع ومن الزند ومن المرفق ومن المنكب، وذهب آخرون - ومنهم صاحب المعالم(5)

- إلى عدم إجمالها.

{ومثل: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ}و {أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ}} وغيرهما {ممّا أُضيف التحريم والتحليل إلى الأعيان} لا إلى الأفعال، فالأكثرون على عدم الإجمال لظهوره في الفعل المقصود منه، فتحريم الأُمّ يراد به وطيها وسائر الاستمتاعات بها، وتحليل البهيمة يراد به حليّة لحمها وسائر الانتفاعات غير

ص: 256


1- سورة النساء، الآية: 23.
2- سورة المائدة، الآية: 1.
3- سورة المائدة، الآية: 38.
4- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 325.
5- معالم الدين: 153.

ومثل: «لا صلاة إلّا بطهور»(1).

ولا يذهب عليك: أنّ إثبات الإجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان؛ لما عرفت من أنّ ملاكهما أن يكون للكلام ظهور، ويكون غالباً لمعنىً، وهو ممّا يظهر بمراجعة الوجدان، فتأمّل.

___________________________________________

المحظورة بها، وذهب بعض إلى إجمالها؛ لأنّ الأفعال كثيرة، وحيث لا يمكن تقدير جميعها؛ لأنّ ما يقدّر للضرورة يقدّر بقدرها، ولا بعضها، للترجيح بلا مرجّح، يقع الإجمال.

{ومثل: «لا صلاة إلّا بطهور»} و «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(2) ونحوهما ممّا ينفي فيه الفعل مطلقاً، فقال بعض بإجماله، لعدم معلوميّة أنّ المراد من النّفي هو نفي الصّحّة أو الكمال، وذهب آخرون إلى عدم الإجمال، لظهور النّفي في نفي الحقيقة(3).

{ولا يذهب عليك أنّ إثبات الإجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان، لما عرفت من أنّ ملاكهما} ليس ممّا يثبت بالبرهان، بل ملاك الأوّل أن لا يكون للكلام ظهور هو أمر عرفي، وملاك الثّاني {أن يكون للكلام ظهور، ويكون غالباً لمعنىً} بحيث يظهر منه ذلك المعنى عند الإطلاق {وهو ممّا يظهر بمراجعة الوجدانفتأمّل} جيّداً.

نعم، في ظرف الاختلاف يجب المراجعة إلى العرف، ولا حقّ لادّعاء الإجمال أو الظهور مع مخالفة العرف، كما لا يخفى.

ص: 257


1- تهذيب الأحكام 2: 140؛ من لا يحضره الفقيه 1: 58.
2- مستدرك الوسائل 4: 158.
3- راجع الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 353؛ معارج الأصول: 158؛ معالم الدين: 154؛ مطارح الأنظار 2: 307.

ثمّ لا يخفى: أنّهما وصفان إضافيّان، ربّما يكون مجملاً عند واحد - لعدم معرفته بالوضع، أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لديه - ، ومبيّناً لدى الآخر - لمعرفته وعدم التصادم بنظره - ، فلا يهمّنا التعرّض لموارد الخلاف، والكلام والنّقض والإبرام في المقام، وعلى اللّه التوكّل وبه الاعتصام.

___________________________________________

{ثمّ لا يخفى أنّهما وصفان إضافيّان ربّما يكون مجملاً عند واحد لعدم معرفته بالوضع أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لديه} أي: لدى من يكون مجملاً عنده {ومبيّناً لدى الآخر لمعرفته} بالوضع {وعدم التصادم بنظره} ولا يخفى أنّ في كونهما كذلك نظر.

وعلى أيّ حال {فلا يهمّنا التعرّض لموارد الخلاف والكلام، والنّقض والإبرام في المقام، وعلى اللّه التوكّل وبه الاعتصام}.

انتهى المجلّد الأوّل من الكفاية لآية اللّه المحقّق الخراساني(قدس سره)، وقد انتهى بذلك شرحنا على المجلّد الأوّل، واللّه المتقبّل، وسنبدأ في شرح المجلّد الثّاني بإذن اللّه - تعالى - واللّه المستعان.

ص: 258

المقصد السّادس: في الأمارات

اشارة

ص: 259

ص: 260

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

المقصد السّادس: في بيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً

___________________________________________

قال المصنّف(رحمة الله): {بسم اللّه الرّحمن الرّحيم}

[المقصد السّادس في بيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً]

المقصد السّادس: في الأمارات، مباحث القطع

{المقصد السّادس} من مقاصد الكتاب {في بيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً} ومعنى الاعتبار: المنجزيّة لدى الإصابة، والمعذريّة لدى الخطأ، وهو المسمّى ب- : الحجّة، لاحتجاج كلّ من المولى والعبد على الآخر.

ثمّ إنّ الحجيّة قد تكون مجعولةً للشارع - بمعنى أنّ الشّارع جعل الشيء الفلاني حجّة وإن لم يكن العقل يراه حجّة - وقد تكون مجعولةً للعقل - بمعنى أنّ العقل جعله حجّةً ويرى صحّة المؤاخذة على مخالفته وعدم صحّتها على موافقته وإن لم يتصرّف الشّارع فيه - إمّا مع إمكان التصرّف أو بدون إمكانه - وعلى هذا يكون أقسام الحجّة ثلاثة:

الأوّل: المعتبرة شرعاً كالاستصحاب، والبراءة الشّرعيّة، والخبر الرّاجح بالمرجّحات المنصوصة لدى التعارض.

الثّاني: المعتبرة عقلاً مع إمكان تصرّف الشّارع فيه، كالظنّ الانسدادي على الحكومة.الثّالث: المعتبرة عقلاً مع عدم إمكان التصرّف كالقطع.

ص: 261

وقبل الخوض في ذلك، لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الأحكام - وإن كان خارجاً من مسائل الفن،

___________________________________________

[مباحث القطع]

{وقبل الخوض في ذلك} البيان {لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الأحكام} كمسألة أنّ القطع حجّة بنفسه لا بجعل الجاعل، ومسألة تنجّز الحكم بالقطع الإجمالي، ومسألة أنّ مخالف القطع معاقب مطلقاً حتّى في صورة عدم الموافقة للواقع أو معاقب في صورة الموافقة فقط - ويعبّر عنه بالتجرّي - إلى غير ذلك {وإن كان} ما للقطع من الأحكام {خارجاً من مسائل الفنّ} الّذي نحن بصدده الآن - أعني: علم الأصول - لأنّ مسائل الأصول - كما تقدّم في أوّل الكتاب - هي أحد أمرين:

الأوّل: الوقوع في طريق الاستنباط، أي: يصحّ جعلها كبرى للصغريات الوجدانيّة حتّى تنتج الحكم الفرعي، كأن يقال هذه مقدّمة الواجب وكلّ مقدّمة الواجب واجبة، فهذه واجبة.

الثّاني: ما ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل كالاستصحاب والبراءة ونحوهما ممّا يعمل بها عند اليأس عن الدليل الاجتهادي، وأحكام القطع ليست كذلك، لا تقع طريقاً للاستنباط، ولا ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل.

أمّا الأوّل: فلأنّه لا يصحّ أن يقال: «الخمر معلوم الحرمة، وكلّ معلوم الحرمة حرام، فالخمر حرام» إذ يستلزم منه سببيّة الشّيء لنفسه؛ لأنّه صار العلم بحرمة الخمر سبباً للعلم بحرمة الخمر، وإن عكست وقلت: «هذا معلوم الخمريّة، وكلّ معلوم الخمريّة حرام، فهذا حرام» استلزم أن يكون العلم جزء الموضوع ويكونالتحريم عارضاً على معلوم الخمريّة لا على نفس الخمر.

والحاصل: يلزم من جعل مسائل القطع كُبْرىً اتحادُ السّبب والمسبّب والخلف

ص: 262

وكان أشبه بمسائل الكلام - ؛ لشدّة مناسبته مع المقام.

فاعلم: أنّ البالغ الّذي وضع عليه القلم، إذا التفت إلى حكم فعليّ واقعيّ،

___________________________________________

وكلاهما محال.

وأمّا الثّاني: فلأنّ هذه المباحث ليست ممّا ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل بعد الفحص والبحث عن الأدلّة والأمارات، فإنّ حجيّة القطع ليست منوطة بالفحص والبحث عن الدليل بخلاف الأمارات، كالاستصحاب والبراءة والتخيير والاحتياط، فكلّها تتوقّف على الفحص واليأس عن الظفر بالدليل.

{وكان أشبه بمسائل الكلام} إذ المسائل الكلاميّة مرتبطة بأحوال المبدأ والمعاد، ومباحث القطع ترجع إلى صحّة المؤاخذة وعدمها المرتبطان بالمعاد، مثلاً: مسألة تنجّز العلم الإجمالي ترجع إلى صحّة المؤاخذة على مخالفة المعلوم بالإجمال وعدمها، وهكذا بقيّة المسائل السّبعة المذكورة في الكتاب.

وإنّما يجعلها من مسائل الكلام، إذ هي ليست عبارة عن مطلق المسائل العقليّة، بل ما ترتبط بالعقائد، ومن الواضح أنّه ليست مسائل القطع ممّا ترتبط بالعقائد.

وإنّما ذكرنا مسائل القطع في الأصول مع أنّها ليست منه {لشدّه مناسبته مع المقام} إذ نتكلّم في المقام عن الأمارات المعتبرة، ومن المعلوم أنّ اعتبارها إنّما يكون بالنسبة إلى غير القاطع، فمن المناسب أن يبحث أوّلاً عن أحكامها ثمّ عن أحكام ما ليس فيه القطع.إذا عرفت ما ذكرناه {فاعلم أنّ البالغ الّذي وضع عليه القلم} أي: قلم التكليف {إن التفت إلى حكم فعلي} لا ما إذا التفت إلى الحكم الاقتضائي أو الإنشائي، فإنّه لا يوجب الالتفات إليهما شيئاً {واقعي} وهو الحكم الثّابت للعناوين من حيث هي هي، كالحكم الثّابت على (الغنم) بالحليّة، وعلى (الخنزير) بالحرمة، من غير فرق في ذلك بين الواقعي الأوّلي كما مثلنا، أو الواقعي الثّانوي المعبّر عنه

ص: 263

أو ظاهريّ، متعلّق به أو بمقلّديه:

فإمّا أن يحصل له القطع به، أو لا. وعلى الثّاني لا بدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل، من اتّباع الظنّ لو حصل له، وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة،

___________________________________________

ب- : الاضطراري كالوجوب الثّابت على التيمّم عند فقد الماء، والحرمة الثّابتة على الصّوم عند الضّرر.

وكذا لا فرق بين ما ثبت لشيء بعنوانه الأوّلي، كحليّة لحم الغنم في المثال، أو بعنوانه الثّانوي، كحرمة لحم الغنم الموطوء.

{أو ظاهري} وهو الحكم الثّابت للعناوين بوصف كونها مشكوكة، كالحليّة الثّابتة على الشّيء المشكوك حليّته وحرمته، والطهارة الثّابتة على المشكوك طهارته ونجاسته، والبراءة الثّابتة على مشكوك الوجوب، وهكذا {متعلّق به أو بمقلّديه} كالتفات الرّجل إلى حكم الحيض.

وليس المراد من القيد إخراج غير المجتهد، إذ كثير من الأحكام المذكورة هنا مشتركة بين المجتهد والمقلّد، كالقطع والأصول العقليّة ونحوهما، وإنّما فائدة هذا القيد إدخال المجتهد الملتفت إلى حكم غيره، أي: المقلّد، فتدبّر.

{فإمّا أن يحصل له القطع به} وحينئذٍ فيجب أنيعمل بمقتضى قطعه وإن كان لم يجب على غيره اتّباعه، في ما كان مجتهداً وقلنا بعدم حجيّة قطع المجتهد بالحكم للمقلّد، وإنّما يجب على المقلّد اتّباع ما استنبطه المجتهد من الدليل الشّرعي {أو لا} يحصل القطع.

{وعلى الثّاني} بأن لم يحصل القطع له {لا بدّ من انتهائه} أي: البالغ المذكور {إلى ما استقلّ به العقل} لأنّ كلّ ما بالغير لا بدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات وإلّا لزم التسلسل، كما بيّن في محلّه {من اتّباع الظنّ لو حصل له، وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة} أمّا لو لم يحصل له الظنّ أو حصل ولم تتمّ مقدّمات

ص: 264

___________________________________________

الانسداد كان التكليف هو الرّجوع إلى الأصول العمليّة الآتي ذكرها، وأمّا إن تمّت المقدّمات لكن على تقدير الكشف لا الحكومة كان بمنزلة القطع.

وتوضيح المقام: أنّ بعض الأصوليّين ادّعوا انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام وألزموا العمل بمطلق الظنّ، أي: إنّ الظنّ حجّة من أيّ سبب كان في الجملة، وهذا المبحث يسمّى بمبحث الانسداد وله مقدّمات:

الأُولى: العلم بثبوت تكاليف كثيرة.

الثّانية: انسداد باب العلم والعلمي بها.

الثّالثة: عدم جواز إهمال تلك الأحكام.

الرّابعة: عدم لزوم الاحتياط علينا في أطراف العلم ولا يجوز الرجوع إلى الأصل ونحوه.

الخامسة: أنّ ترجيح المرجوح الّذي هو الوهم على الرّاجح الّذي هو الظنّ قبيح.

وإذا تمّت هذه المقدّمات فقد يقال بأنّ العقل يحكم بحجيّة الظنّ حينئذٍ مندون أن يكون الشّارع جعله حج-ّة، وهذا هو المسمّى عندهم ب- : الحكومة، فيقال: إنّ مقدّمات الانسداد تنتج حجيّة الظنّ على الحكومة.

وقد يقال بأنّ بعد تماميّة مقدّمات الانسداد نستكشف بأنّ الشّارع نصب الظنّ طريقاً حينئذٍ، وهذا هو المسمّى عندهم ب- : الكشف، فيقال: إنّ مقدّمات الانسداد تنتج حجيّة الظنّ على الكشف.

إذا عرفت هذا فنقول: إذا لم يحصل القطع بالحكم فإمّا أن تتمّ مقدّمات الانسداد أم لا، وعلى الأوّل فإمّا أن يحصل الظنّ بالحكم أم لا، وعلى الأوّل فإمّا أن يكون حجيّة الظنّ حينئذٍ على الحكومة وإمّا أن يكون على الكشف، فالأقسام أربعة:

ص: 265

وإلّا فالرجوع إلى الأصول العقليّة: من البراءة والاشتغال والتخيير، على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء اللّه - تعالى - .

___________________________________________

الأوّل: أن تتمّ مقدّمات الانسداد ويحصل الظنّ على الحكومة، وعليه فاللّازم اتّباع هذا الظنّ لحكومة العقل بحجيّته حين التعذّر عن القطع.

الثّاني: أن تتمّ المقدّمات ويحصل الظنّ على الكشف، وهذا داخل في الشّقّ الأوّل - أعني: القطع بالحكم - إذ هو قطع بالحكم الظاهري.

الثّالث: أن تتمّ المقدّمات ولم يحصل الظنّ، وهذا داخل في الشّقّ الثّالث - أعني: الشّكّ بالحكم - الّذي سيأتي أنّ تكليفه الرّجوع إلى الأصول العمليّة.

الرّابع: أن تتمّ المقدّمات سواء حصل الظنّ بالحكم أم لا، وهذا كالثّالث في لزوم الرّجوع إلى الأصول العمليّة.

فتحصّل أنّه يجب اتّباع الظنّ على فرض تماميّة المقدّمات على الحكومة وحصول الظنّ {وإلّا} تتمّ المقدّمات أو تمّت ولم يحصل الظنّ {ف-} اللّازم {الرّجوع إلى الأصول العقليّة من البراءة}العقليّة الّتي مدركها حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان لا البراءة الشّرعيّة الّتي مدركها «رفع ما لا يعلمون»(1)

{والاشتغال} العقلي الّذي مدركه دفع الضّرر المحتمل في ما علم بالتكليف وشكّ في المكلّف به، لا الاشتغال الشّرعي الّذي مدركه «أخوك دينك فاحتط لدينك»(2)،

فتدبّر.

{والتخيير} العقلي في مورد دوران الأمر بين المحذورين لا التخيير الشّرعي الّذي مدركه قوله(علیه السلام): «إذن فتخيّر»(3)،

{على تفصيل يأتي في محلّه - إن شاء اللّه تعالى -}.

ص: 266


1- الخصال 2: 417.
2- بحار الأنوار 2: 258.
3- مستدرك الوسائل 17: 304.

وإنّما عمّمنا متعلّق القطع؛ لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كان متعلّقاً بالأحكام الواقعيّة،

___________________________________________

وإنّما أوجب الرّجوع إلى الأصول العقليّة عند تعذّر القطع والظنّ المذكور لا الأصول الشّرعيّة؛ لأنّ الأصول الشّرعيّة داخلة في الشّقّ الأوّل؛ لأنّ بها يحصل العلم بالحكم الشّرعي الظاهري، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الشّيخ(قدس سره) في أوّل الرّسائل قسم المكلّف الملتفت إلى ثلاثة أقسامٍ بما لفظه: «فاعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي، فيحصل له إمّا الشّكّ فيه، أو القطع، أو الظنّ»(1)

ثمّ جعل المرجع عند الشّك الأصول العمليّة.

والمصنّف(رحمة الله) عدل من تقسيمه لوجهين:

الأوّل: أنّه خصّص القطع بما إذا تعلّق بالحكم الواقعي بقرينة أنّه جعل الأصول العمليّة مرتبطاً بالشقّ الثّالث - أعني: الشّكّ - ولا وجه له، إذ القطع كماقد يتعلّق بالحكم الواقعي كذلك قد يتعلّق بالحكم الظاهري، كأن يقطع بالبراءة أو الاستصحاب ونحوهما عند الشّكّ في الحكم الواقعي.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {وإنّما عمّمنا متعلّق القطع} حيث جعلنا مصبّ الأقسام الثّلاثة الأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري {لعدم اختصاص أحكامه} أي: أحكام القطع {بما إذا كان متعلّقاً بالأحكام الواقعيّة} فإنّ القطع كما يجب اتّباعه إذا تعلّق بالحكم الواقعي كذلك يجب اتّباعه إذا تعلّق بالحكم الظاهري.

الثّاني: أنّه عمّم متعلّق القطع وأخويه بما إذا تعلّقت بالحكم الفعلي أو الاقتضائي أو الإنشائي لأنّه لم يقيّد الحكم بالفعلي، ولا وجه له، إذ أنّ أحكام القطع والظنّ والشّكّ لا تترتّب على الحكم الاقتضائي والإنشائي.

ص: 267


1- فرائد الأصول 1: 25.

وخصّصنا بالفعلي؛ لاختصاصها بما إذا كان متعلّقاً به - على ما ستطّلع عليه - . ولذلك عدلنا عمّا في رسالة شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - من تثليث الأقسام(1).

وإن أبيت إلّا عن ذلك، فالأولى أن يقال: «إنّ المكلّف: إمّا أن يحصل له القطع، أو لا. وعلى الثّاني:

___________________________________________

مثلاً: لو قطعنا بالحكم الإنشائي لم يجب اتّباعه ولم يحرم مخالفته، وهكذا لا يترتّب عليه سائر الأحكام فاللّازم تقييد الحكم بالفعلي، وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {وخصّصنا} متعلّق القطع {بالفعلي} بأن قلنا في العنوان: «إذا التفت إلى حكم فعلي» {لاختصاصها} أي:اختصاص أحكام القطع {بما إذا كان} القطع {متعلّقاً به} أي: بالحكم الفعلي {على ما ستطّلع عليه} إن شاء اللّه - تعالى - .

وهناك إشكال ثالث على تعريف الشّيخ يشير إليه المصنّف بقوله: «لئلّا يتداخل الأقسام» الخ.

{ولذلك} الّذي ذكرنا من التعميم والتخصيص {عدلنا عمّا في رسالة شيخنا العلّامة} المرتضى الأنصاري {- أعلى اللّه مقامه - من تثليث الأقسام} بتلك الكيفيّة الخاصّة من انصبابها على الحكم الواقعي، الأعم من الفعلي وغيره {وإن أبيت إلّا عن ذلك} النّحو من التقسيم الّذي ذكره الشّيخ(رحمة الله)، ووجه الإباء زعم أنّه أقرب إلى الاعتبار العرفي المأخوذ من الحالة الوجدانيّة.

قال العلّامة الرّشتي(رحمة الله): «وأمّا بملاحظة عدم صحّة التقسيم الثّنائي المزبور لو عمّم - لمكان القطع بالحكم الفعلي في جميع الأقسام - »(2) {فالأولى أن يقال: «إنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع أو لا، وعلى الثّاني} الّذي هو عبارة عن عدم حصول

ص: 268


1- فرائد الأصول 1: 25.
2- شرح كفاية الأصول 2: 4.

إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر، أو لا»؛ لئلّا يتداخل الأقسام في ما يذكر لها من الأحكام. ومرجعه - على الأخير - إلى القواعد المقرّرة - عقلاً أو نقلاً - لغير القاطع ومن يقوم عنده الطريق، على تفصيل يأتي في محلّه - إن شاء اللّه تعالى- حسب ما يقتضي دليلها.

___________________________________________

القطع {إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر} شرعاً أو عقلاً {أو لا»} فالأقسام حينئذٍ تكون ثلاثة: القاطع، ومن يقوم لديه طريق معتبر، وغيرهما.

وإنّما قلنا بأولويّة هذا النّحو من التقسيم الثّلاثي عن تقسيم الشّيخ {لئلّا يتداخل الأقسام في ما يذكر لها من الأحكام} فإنّه على تقسيم الشّيخ يتداخل حكم الظنّ والشّكّ، إذ جعل الشّيخ(رحمة الله) مجرى الأصول مختصّاً بصورة الشّكّ ومحلّ الأمارات في صورة الظنّ، مع معلوميّة أنّ الظنّ الّذي لا يعتبر شرعاً كان حكمه حكم الشّكّ فيجب الرّجوع فيه إلى الأصول، كما أنّه إذا كان هناك شكّ في الحكم ولكن وجد في مورده دليل تعبّدي كان بحكم الظنّ اللّازم فيه العمل على طبق الأمارة، فتدبّر.

والحاصل: أنّه لو كانت - في صورة عدم حصول القطع - حجّة كان مورداً للأمارة، سواء كانت الحالة الوجدانيّة الشّكّ أو الظنّ، ولو لم تكن حجّة كان مورداً للأُصول {ومرجعه} أي: مرجع المكلّف على الأوّل هو المقطوع به، وعلى الثّاني هو الأمارات كالظواهر وخبر الواحد ونحوهما، ويعبّر عنها بالأدلّة الاجتهاديّة، و{على الأخير} وهو المكلّف الّذي لم يحصل له أحد الأوّلين {إلى القواعد} الأربعة من الاستصحاب والبراءة والتخيير والاحتياط {المقرّرة عقلاً أو نقلاً لغير القاطع، و} غير {من يقوم عنده الطريق، على تفصيل يأتي في محلّه - إن شاء اللّه تعالى -} من أنّ أيّ مكلّف حكمه الاستصحاب، وأيّ مكلّف حكمه البراءة، وهكذا {حسب ما يقتضي دليلها} أي: دليل تلك القواعد.

ص: 269

وكيف كان، فبيان أحكام القطع وأقسامه يستدعي رسم أُمور:

الأمر الأوّل: لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً، ولزوم الحركة على طبقه جزماً، وكونه موجباً لتنجّز التكليف الفعلي في ما أصاب، باستحقاق الذمّ والعقاب على مخالفته، وعذراً في ما أخطأ قصوراً.

___________________________________________

[أحكام القطع]

اشارة

{وكيف كان، فبيان أحكام القطع وأقسامه يستدعي رسم أُمور} سبعة:

[الأمر الأوّل لزوم العمل بالقطع عقلاً]

المقصد السّادس: في الأمارات، لزوم العمل بالقطع عقلاً

{الأمر الأوّل} في وجوب اتّباع القطع: {لا شبهة في وجوب العمل على وفقِ القطع عقلاً} بمعنى لزوم ترتيب آثار المقطوع بمجرّد القطع، فلو قطع بوجود الأسد حكم العقل بلزوم الفِرار منه {و} ذلك معنى {لزوم الحركة على طبقه جزماً} والقول بأنّه ليس للعقل حكم وبعث وزجر وإنّما الموجود في صقع العقل هو الإذعان فقط والمشاهدة للحسن والقبح ممّا يأباه الوجدان.

وكذلك بالنسبة إلى الأحكام العقلائيّة {وكونه} أي: القطع {موجباً لتنجّز التكليف الفعلي} لا الشّأني والاقتضائي {في ما أصاب} القطع للواقع بأن لم يكن جهلاً مركّباً {باستحقاق الذمّ والعقاب} متعلّق بالتنجّز، أي: إنّ معنى التنجّز هو لزوم الإتيان المستتبع للذمّ والعقاب {على مخالفته} ولا يخفى أنّ الذمّ من العقلاء والمولى، والعقاب من المولى، فتخصيص الذمّ بالعقلاء لا وجه له {وعذراً}عطف على «موجباً» أي: يكون القطع معذّراً {في ما أخطأ قصوراً} لا تقصيراً، فلو علم من أوّل الأمر أنّ قراءة الحكمة مثلاً موجباً للضلال، ثمّ قرأ فقطع بصحّة العقول العشرة لم يكن معذوراً.

ثمّ لا يخفى أنّ النّسبة بين الأثر الأوّل - وهو لزوم الحركة على طبق القطع -

ص: 270

وتأثيره في ذلك لازم، وصريحُ الوجدان به شاهد وحاكم، فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان.

ولا يخفى: أنّ ذلك لا يكون بجعل جاعلٍ؛

___________________________________________

وبين الأثر الثّاني - وهو التنجيز والإعذار - عموم مطلق، إذ لزوم الحركة عامّ بالنسبة إلى جميع أفراد القطع بخلاف الحجيّة {وتأثيره} أي: تأثير القطع {في ذلك} أي: وجوب الحركة على طبقه وحجيّته {لازم} لا ينفكّ عنه، كزوجيّة الأربعة، بل ربّما يقال: إنّ الحجيّة عين القطع لا لازمه {وصريح الوجدان به شاهد وحاكم} فهو من البديهيّات الأوليّة {فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان} مع أنّ إقامة البرهان على ذلك غير معقول؛ لأنّه لا بدّ وأن ينتهي إلى القطع وإلّا لم يفد علماً ولم يكن برهاناً وانتهاؤه إلى القطع مستلزم للتسلسل.

نعم، قد يكون الأمر الضّروري لخفاء تصوّره يخفى تصديقه، فاللّازم توجيه الذهن إلى تصوّره.

{ولا يخفى أنّ ذلك} أي: وجوب العمل على وفقه وتأثيره في التنجيز والإعذار {لا يكون بجعل جاعل} بخلاف سائر الأمارات كالخبر الواحد ونحوه، إذ الجعل إنّما يعقل بإعطاء الشّيء الفاقد، وأمّا الواجد فلا يعقل إعطاءه للزومه الجمع بين المثلين لو كان المُعْطى ثانياً غير ما كان له أوّلاً،ولزوم تحصيل الحاصل لو كان عين اللّازم أو لا.

ثمّ إنّ الجعل على قسمين:

الأوّل: الجعل البسيط، وهو عبارة عن جعل الشّيء وإيجاده، كجعل الإنسان، ويكون مفاد كان التامّة.

الثّاني: الجعل التأليفي، وهو عبارة عن جعل الشّيء شيئاً، كجعل الإنسان كاتباً، ويكون مفاد كان النّاقصة.

ص: 271

لعدم جعل تأليفي حقيقةً بين الشّيء ولوازمه، بل عرضاً بتبع جعله بسيطاً.

ولذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضاً، مع أنّه يلزم منه اجتماع الضّدّين اعتقاداً مطلقاً، وحقيقة في صورة الإصابة،

___________________________________________

إذا عرفت هذا قلنا لا يعقل أحد الجعلين بالنسبة إلى حجيّة القطع - بناءً على كون الحجيّة من لوازمه - {لعدم جعل} البسيط بالنسبة إلى لازم الشّيء؛ لأنّه مفاد كان النّاقصة لا التامّة، وعدم جعل {تأليفي حقيقة} على ما هو المصطلح مقابل قوله: «بل عرضاً» {بين الشّيء ولوازمه} فإنّه كما لا يعقل جعل الأربعة زوجاً والثّلاثة فرداً كذلك لا يعقل جعل القطع حجّة {بل} المتصوّر من الجعل بالنسبة إلى اللوازم هو الجعل {عرضاً يتّبع جعله} أي: جعل ذلك الشّيء {بسيطاً} بمعنى أنّ جعل القطع وإيجاده يلازم جعل الحجيّة بتبعه، كما أنّ جعل الأربعة يلازم جعل الزوجيّة {ولذلك} الدليل الّذي ذكرنا من امتناع جعل الحجيّة للقطع {انقدح امتناع المنع} أي: منع الشّارع {عن تأثيره أيضاً} كأن يقول بعدم حجيّة القطع، وذلك لأنّ ما لا يعقل جعله لا يعقل رفعه.

نعم، يمكن رفعه برفع أصل القطع، كما تقدّم من إمكان جعله بجعل أصله{مع أنّه يلزم منه} أي: من منع الشّارع عن حجيّة القطع {اجتماع الضّدّين اعتقاداً مطلقاً} سواء خالف الواقع أم طابقه؛ لأنّه بعد الاعتقاد بأنّ هذا المائع بول، وأنّ الشّارع نهى عن شرب البول لو قال له المولى: (يجوز لك شربه) رأى المولى مناقضاً؛ لأنّه يكون حينئذٍ محرّماً للنهي ومحلّلاً للتجويز، ولا يفرق في هذا بين أن يكون العلم بكون هذا المائع بولاً مطابقاً للواقع أم مخالفاً، وزعم أنّ اجتماع الضّدّين مانع عن تصديق العبد وإن لم يكن مستحيلاً بالنظر إلى الواقع.

{و} يلزم من منع الشّارع عن حجيّة القطع اجتماع الضّدّين {حقيقة في صورة الإصابة} أي: إصابة القطع للواقع، بأن كان ما قطع ببوليّته بولاً حقيقة، إذ لا يجتمع

ص: 272

كما لا يخفى.

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصِر فعليّاً، وما لم يصر فعليّاً لم يكد يبلغ مرتبة التنجّز واستحقاق العقوبة على المخالفة، وإن كان ربّما يوجب موافقتُهُ استحقاق المثوبة؛

___________________________________________

النّهي عن هذا المائع - لكونه بولاً - وتجويز ارتكابه {كما لا يخفى} بأدنى تدبّر.

{ثمّ لا يذهب عليك} أنّ للحكم مراتب مندرجة فما لم تتحقّق المرتبة السّالفة لا يعقل المرتبة اللّاحقة، فالمرتبة الأُولى: مرتبة الاقتضاء والمصلحة والمفسدة، فما لم تتحقّق في الشّيء مصلحة أو مفسدة لا يعقل وصوله إلى المرتبة الثّانية وهي مرتبة الإنشاء، فإنّ المولى بعد ملاحظة المصلحة ينشئ الوجوب وبعد ملاحظة المفسدة ينشئ الحرمة قانوناً، وهذه المرتبة -كالمرتبة السّابقة - لا تلازم الإرادة والكراهة، ولذا قالوا بإمكان اجتماع حكمين إنشائيّين، فتدبّر.

المرتبة الثّالثة: الفعليّة بأن يكون للمولى بعث وزجر نحو الحكم بدون قيام الحجّة عليه، فلا تكون مخالفته موجبة للعقاب.

المرتبة الرّابعة: التنجّز وتتحقّق بقيام الحجّة على المرتبة الثّالثة ويكون في فعله الثّواب وفي تركه العقاب حينئذٍ.

وبهذا تبيّن {أنّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليّاً} بل كان اقتضائيّاً أو إنشائيّاً {وما لم يصر فعليّاً لم يكد يبلغ مرتبة التنجّز} لما تقدّم من تدرّج المراتب {و} عليه فلا يوجب الحكم {استحقاق العقوبة على المخالفة} مثلاً: لو علم بعض المسلمين في أوّل ظهور الإسلام بالمفسدة في الخمر وأنشأ المولى الحرمة ولكن لم يكن هناك زجر فعليّ كان شربها غير موجب للعقاب {وإن كان ربّما يوجب موافقته} بعنوان كونه محبوباً للمولى لا بداعٍ شهوي مع عدم العلم بحبّ المولى له {استحقاق المثوبة} لانطباق عنوان الانقياد عليه.

ص: 273

وذلك لأنّ الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقةً بأمرٍ ولا نهيٍ، ولا مخالفتهُ عن عمد بعصيان، بل كان ممّا سكت اللّه عنه، كما في الخبر، فلاحظ وتدبّر.

نعم، في كونه بهذه المرتبة مورداً للوظائف المقرّرة شرعاً للجاهل، إشكالُ لزوم اجتماع الضّدّين أو المثلين،

___________________________________________

{وذلك} الّذي ذكرنا من عدم العقوبة على المخالفة إذا لم يصر فعليّاً{لأنّ الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة} الفعليّة {لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي} إذ الحكم إنّما يسمّى أمراً أو نهياً حتّى يدخل تحت قوله - تعالى - : {مَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ}(1)، إذا وصل مرتبة الفعليّة {و} حينئذٍ {لا} يكون {مخالفته عن عمد بعصيان، بل كان ممّا سكت اللّه عنه، كما في الخبر} المروي عن أميرالمؤمنين - عليه الصّلاة والسّلام - : «إنّ اللّه تعالى حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تعصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تتكلّفوها رحمة من اللّه لكم»(2)،

{فلاحظ وتدبّر} حتّى تستفيد منه عدم العقوبة على مخالفة الحكم المسكوت عنه وإن كان العمل به ليس محرّماً، بقرينة قوله(علیه السلام): «فلا تتكلّفوها» وقوله: «رحمة من اللّه لكم».

{نعم، في كونه} أي: الحكم {بهذه المرتبة} الفعليّة {مورداً للوظائف المقرّرة شرعاً للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضّدّين} في صورة مخالفة الواقع للأمارة.

مثلاً: لو كان الواقع على حرمة التُّتُن، وأدّت الأمارة إلى حليّته لزم اجتماع الضّدّين، وذلك مستحيل قطعاً {أو} اجتماع {المثلين} في صورة الموافقة، كما لو كان التُّتُن في الواقع حلالاً وأدّت الأمارة إلى حليّته لزم اجتماع إباحتين إباحة واقعيّة وإباحة ظاهريّة، وكما لا يمكن اجتماع الضّدّين لا يمكن اجتماع المثلين،

ص: 274


1- سورة الحشر، الآية: 7.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 75، وفيه: «... وفرض فرائض فلا تنقصوها... نسياناً لها فلا تكلّفوها».

على ما يأتي تفصيله - إن شاء اللّه تعالى - ، مع ما هو التحقيق في دفعه، في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري، فانتظر.

الأمر الثّاني: قد عرفت: أنّه لا شبهة في أنّ القطع يوجب استحقاقَ العقوبة على المخالفة، والمثوبةِ على الموافقة في صورة الإصابة.

___________________________________________

كما لا يخفى {على ما يأتي تفصيله} في بيان جعل الأمارات {إن شاء اللّه - تعالى - مع} بيان {ما هو التحقيق في دفعه} بحيث لا يلزم اجتماعهما وذلك {في} ما تبيّن من {التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري، فانتظر}.

وقوله: «نعم» استدراك عمّا اختاره المصنّف(رحمة الله) من جعل الأحكام الّتي هي متعلّق الأمارات والأصول فعليّاً، بخلاف ما لو جعل بعضها فعليّاً وبعضها غير فعليّ، فإنّه لا يلزم هذا الإشكال. وتوضيحه إجمالاً: أنّ المراد بالأحكام الّتي تكون متعلّقة للأُصول والأمارات أحد أُمور ثلاثة:

الأوّل: الأحكام الإنشائيّة والاقتضائيّة، فيرد عليه أنّ قيام الأمارة على هذه الأحكام لا توجب تنجّزها، لما تقدّم من أنّ التنجّز متأخّر عن مرتبة الفعليّة.

الثّاني: الأحكام الفعليّة، فيرد عليه لزوم اجتماع الضّدّين عند المخالفة والمثلين عند الإصابة.

الثّالث: الأعمّ من الأحكام الفعليّة وغيرها، وقد اختار المصنّف خلافه، فتدبّر.

[الأمر الثّاني التجرّي والانقياد]

المقصد السّادس: في الأمارات، التجري والانقياد

{الأمر الثّاني} في بيان استحقاق الثّواب والعقاب على العمل طبق القطع وأنّه هل يستحقّ المتجرّي العقاب أم لا؟ {قد عرفت أنّهلا شبهة في أنّ القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة} في العبارة تسامح، إذ القطع لا يوجب العقاب، كما لا يخفى {والمثوبة على الموافقة} للمقطوع به.

وقوله: {في صورة الإصابة} أي: مطابقة القطع للواقع، متعلّق بهما

ص: 275

فهل يوجب استحقاقها - في صورة عدم الإصابة - على التجرّي بمخالفته، واستحقاقَ المثوبة على الانقياد بموافقته، أو لا يوجب شيئاً؟

الحقّ: أنّه يوجبه؛ لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته، وذمّه على تجرّيه وهتك حرمته لمولاه، وخروجه عن رسوم عبوديّته، وكونه بصدد الطغيان، وعزمه على العصيان، وصحّة مثوبته، ومدحه على إقامته بما هو قضيّة عبوديّته،

___________________________________________

{فهل يوجب} القطع {استحقاقها} أي: العقوبة {في صورة عدم الإصابة، على التجرّي} متعلّق بالاستحقاق، أي: إنّ التجرّي {بمخالفته} أي: بمخالفة القطع هل يوجب عقاباً - في ما إذا لم يصادف الواقع - كما لو شرب الماء بزعم أنّه خمر {و} كذا هل يوجب القطع {استحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته} أي: بموافقة القطع - في ما إذا لم يصادف الواقع - كما لو أتى بالصلاة مستدبراً بزعم أنّه القبلة {أو لا يوجب} القطع المخالف للواقع {شيئاً} لا عقاباً في صورة التجرّي ولا ثواباً في صورة الانقياد؟ وقد وقعت هذه المسألة محلّاً للكلام بين الأعلام.

و{الحقّ} عند المصنّف(رحمة الله) وجماعة {أنّه} أي: التجرّي{يوجبه} أي: يوجب العقاب {لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته وذمّه على تجرّيه وهتك حرمته لمولاه وخروجه عن رسوم عبوديّته} فإنّ العبد يلزم أن يكون بصدد الإطاعة وحفظ الحرمة {وكونه بصدد الطغيان وعزمه على العصيان} وهذا كلّه موجب للعقاب، إذ ملاك العقاب عند العقل هو كون العبد في هذا المقام، والتجرّي والمعصية الحقيقيّة متساويان في وجود هذا الملاك، فالفرق بينهما غير تام. نعم، لو قلنا بأن العقاب مترتّب على المخالفة العمديّة - كما هو الظاهر - لا يكون المتجرّي مستحقّاً للعقاب.

{و} وكذا يشهد الوجدان ب- {صحّة مثوبته ومدحه على إقامته بما هو قضيّة عبوديّته} وليس المراد من الإقامة الاستمرار، إذ هذا البرهان يجري بالنسبة إلى

ص: 276

من العزم على موافقته، والبناء على إطاعته، وإن قلنا بأنّه لا يستحقّ مؤاخذة أو مثوبة - ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة - بمجرّد سوء سريرته أو حسنها، وإن كان مستحقّاً للذمّ أو المدح بما يستتبعانه،

___________________________________________

العاصي دائماً، حيث يصدر منه الانقياد ولو مرّة واحدة {من العزم على موافقته} بيان «ما» {والبناء على إطاعته} أي: إطاعة المولى، فالملاك العقلي لاستحقاق المطيع المثوبة موجود في المنقاد.

نعم، لو قلنا مناط الثّواب عقلاً موافقة العبد لأمر المولى مع الالتفات إلى ذلك - كما هو الظاهر - لا كونه في مقام إظهار العبوديّة فقط لم يكن للانقيادثواب الإطاعة الحقيقيّة، وهذا لا ينافي الثّواب تفضّلاً، كما دلّ عليه بعض الأدلّة {وإن قلنا بأنّه لا يستحقّ مؤاخذة أو مثوبة - ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة} عملاً - {بمجرّد سوء سريرته أو حسنها} بأن كان عازماً على شرب الخمر لو وجدها أو للصيام لو أدرك شهر رمضان.

وقد يفسّر العبارة بأنّ المراد بها كون النّفس دنيّة أو رفيعة لا البناء على المعصية أو الطاعة حين التمكّن {وإن كان} هذا العبد {مستحقّاً للذمّ أو المدح بما يستتبعانه} أي: بسبب استتباع سوء السّريرة وحسنها استحقاق الذمّ أو المدح.

قال المشكيني(رحمة الله): «كلمة «ما» مصدريّة، وضمير التثنية راجع إلى «سوء السّريرة، وحسنها» وضمير المفرد المنصوب إلى «الاستحقاق» و«الباء» للسببيّة، والمعنى أنّ العبد مستحقّ للّوم أو المدح في تلك المرتبة، بسبب استلزام سوء السّريرة وحسنها الاستحقاق المذكور»(1)،

انتهى.

والمحتمل أن يكون المراد أنّه مستحقّ للذمّ أو المدح مع ما يستتبعان من قرب المولى وبعده، ونحو ذلك من سائر الأُمور المرتّبة عليهما.

ص: 277


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 48.

كسائر الصّفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة.

وبالجملة: ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحقّ بها إلّا مدحاً أو لوماً، وإنّما يستحقّ الجزاء بالمثوبة أو العقوبة - مضافاً إلى أحدهما - إذا صار بصدد الجري على طبقها، والعمل على وفقها، وجَزَمَ وعَزَمَ؛ وذلك لعدم صحّة مؤاخذته بمجرّد سوء سريرته من دون ذلك، وحسنها معه، كمايشهد به مراجعة الوجدان، الحاكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان، وما يستتبعان من استحقاق النّيران أو الجنان.

___________________________________________

والحاصل: أنّ هاتين الصّفتين {كسائر الصّفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة} كالشَّجَاعة والجُبْن والجُود والبُخْل، فإنّها وإن كانت لا توجب ثواباً أو عقاباً ولكنّها موجبة للمدح والذمّ، فيقال: (فلان بخيل) في مقام الذمّ أو (كريم) في مقام المدح.

{وبالجملة ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحقّ بها إلّا مدحاً أو لوماً، وإنّما يستحقّ الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافاً} وعلاوة {إلى أحدهما} أي: المدح واللوم {إذا صار بصدد الجري على طبقها} أي: طبق تلك الصّفة الكامنة {والعمل على وفقها وجزم وعزم} كأن أخذ كأس الماء بزعم الخمر فشربها، أو أكرم كافراً مهدور الدم بزعم أنّه مؤمن صالح.

{وذلك} الّذي ذكرنا من عدم استحقاق العقاب والثّواب على مجرّد الصّفة {لعدم صحّة مؤاخذته بمجرّد سوء سريرته من دون ذلك} الجري على طبقه {وحسنها} أي: المؤاخذة {معه} أي: مع الجري، وذلك لأنّ الصّفات النّفسيّة ليست مقدورة والثّواب والعقاب تابعان للمقدور، وبهذا يشكل استحقاقه للّوم والمدح إلّا أن يكون مراد المصنّف منهما إظهار أنّ هذا مخلوق حسن - كما في (مدحت اللؤلؤء على صفائه) - وذاك مخلوق قبيح {كما يشهد به} أي: بعدم صحّة الثّواب والعقاب على مجرّد حسن السّريرة وقبحها {مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال} من غير مدخليّة للشرع {في مثل باب الإطاعةوالعصيان وما يستتبعان من استحقاق النّيران أو الجنان}.

ص: 278

ولكن ذلك مع بقاء الفعل المُتَجَرّى به أو المنقاد به، على ما هو عليه

___________________________________________

ثمّ إنّ أقسام التجرّي على ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) ستّة:

أحدها: مجرّد القصد إلى المعصية، كأن يقصد شرب الخمر لو وجدها بعد سنة.

الثّاني: القصد مع الاشتغال بمقدّماته، كأن يتحرّك قاصداً دار الزانية من غير فرق بين أن يكون تلك الدار دار الزانية أو دار زوجته.

الثّالث: القصد مع التلبّس بما يعتقد كونه معصية، كأن يجامع زوجته بزعم أنّها أجنبيّة.

الرّابع: التلبّس بما يحتمل كونه معصية رجاءً لتحقّق المعصية، كأن يشرب أحد الإناءين المشتبهين رجاء كونه خمراً.

الخامس: التلبّس بما يحتمل كونه معصية لعدم المبالات بمصادفة الحرام، كأن يريد شرب هذا الإناء لرفع العطش سواء كان خمراً أم ماءً.

السّادس: التلبّس بمحتمل الحرمة رجاء أن لا يكون معصية وخوف أن يكون معصية، كأن يحتاج إلى شرب الماء فيشرب محتمل الخمريّة برجاء عدمها(1).

وأمّا خبث الذات كذات الأشرار بلا وجود أحد الأقسام فليس من التجرّي، ولذا فسّرناه عبارة المصنّف حيث قال: «وإن قلنا بأنّه لا يستحقّ» الخ بغير هذه الصّورة، فتأمّل.

ثمّ إنّ الفعل المتجرّى به - كشرب الماء المزعوم أنّه خمر - هل يبقى على ماهو عليه لولا التجرّي أم يحرم بهذا السّبب؟ وجهان واختار المصنّف(رحمة الله) العدم

بقوله: {ولكن ذلك} الّذي ذكرنا من كون التجرّي موجباً للعقاب والانقياد موجباً للثواب {مع بقاء الفعل المتجرّى به أو المنقاد به على ما هو عليه} قبل عروض

ص: 279


1- فرائد الأصول 1: 49.

من الحسن أو القبح، والوجوب أو الحرمة واقعاً، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصّفة، ولا يُغيّر حسنه أو قبحه بجهة أصلاً؛ ضرورة أنّ القطع بالحسن أو القبح، لا يكون من الوجوه والاعتبارات الّتي بها يكون الحسنُ والقبحُ عقلاً، ولا ملاكاً للمحبوبيّة والمبغوضيّة شرعاً؛ ضرورة عدم تغيّر الفعل عمّا هو عليه - من المبغوضيّة والمحبوبيّة للمولى - بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له،

___________________________________________

عنواني التجرّي والانقياد عليه {من الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة واقعاً} فلو اعتقد خمريّة الماء فشربه كان الماء باقياً على جواز شربه وإن استحقّ المتجرّي العقاب، وبالعكس لو اعتقد وجوب شرب الماء لزعم كونه دواءه المنجي من الهلكة فشربه لم يكن الماء واجباً شربه.

والحاصل: أنّ الموجب للثواب والعقاب هو قصد الإطاعة والعصيان المقارن مع الفعل لا نفس الفعل {بلا حدوث تفاوت فيه} أي: في الفعل {بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم} الوجوبي والتحريمي {والصّفة} من الحسن والقبح {ولايغيّر} بصيغة المبنى للمفعول {حسنه أو قبحه} ووجوبه أو تحريمه الذاتي {بجهة} من جهتي التجرّي والانقياد {أصلاً، ضرورة أنّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات الّتي بها يكون الحسن والقبح عقلاً} وليسا مثل عنوان التعظيم والإهانة المغيّران للفعل.

مثلاً: القيام لأخذ شيء ليس حسناً ولا قبيحاً، والقيام تعظيماً للأب موجب لحسنه، فإنّ التعظيم من العناوين المحسنة، والقيام استهزاءً به موجب لقبحه إذ الاستهزاء من العناوين المقبحة، والقطع ليس كذلك، فالقطع بكون ابن المولى كافراً مهدور الدم لا يوجب حسنه {و} ذلك لأنّ القطع {لا} يكون {ملاكاً للمحبوبيّة والمبغوضيّة شرعاً، ضرورة عدم تغيّر الفعل عمّا هو عليه من المبغوضيّة والمحبوبيّة للمولى بسبب قطع العبد} بنحو الجهل المركّب {بكونه محبوباً أو مبغوضاً له}

ص: 280

فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له - ولو اعتقد العبد بأنّه عدوّه - ، وكذا قتل عدوّه - مع القطع بأنّه ابنه - لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً. هذا.

مع أنّ الفعل المتجرّى به أو المنقاد به - بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب - لا يكون اختياريّاً؛ فإنّ القاطع لا يقصده إلّا بما قطع أنّه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل لا يكون غالباً بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه، فكيف يكون

___________________________________________

أي: للمولى {فقتل ابن المولى} بما هو قتل لابنه {لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له - ولو اعتقدالعبد بأنّه عدوّه} ومهدور الدم عنده - . نعم، يثاب هذا العبد ثواب الانقياد.

{وكذا قتل عدوّه - مع القطع بأنّه ابنه - لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً} وإن كان مبغوضاً للمولى ومعاقباً لكونه تجرّياً وهتكاً لحرمته.

والحاصل: أنّ منشأ توهّم القبح والحرمة أو الحسن والوجوب ليس إلّا تعلّق القطع وحيث إنّ القطع ليس من العناوين المحسنة والمقبحة، فالفعل لا يتغيّر عمّا هو عليه، فالفعل حسن وإن كان ارتكابه بزعم أنّه قبيح موجباً لعقاب الفاعل، وكذا العكس.

{هذا مع أنّ} هنا وجهاً آخر لمنع قبح الفعل وحرمته بزعم الحرمة أو حسنه ووجوبه بزعم الوجوب، وهو أنّ {الفعل المتجرّى به أو المنقاد به - بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب - لا يكون اختياريّاً، فإنّ} الفعل الاختياري ما يؤتى به بقصده وليس الفعل بعنوان أنّه مقطوع يؤتى به، إذ {القاطع لا يقصده إلّا بما قطع أنّه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي} فيشرب الماء بعنوان أنّه خمر ويقتل الغزال بعنوان أنّه عدوّ {لا بعنوانه الطارئ الآلي} فإنّه لا يشرب الماء بعنوان أنّه مقطوع الخمريّة ولا يقتل الغزال بعنوان أنّه مقطوع العداوة {بل لا يكون} الفعل المتجرّى به أو المنقاد به {غالباً بهذا العنوان} أي: بعنوان كونه مقطوعاً {ممّا يلتفت إليه، فكيف يكون}

ص: 281

من جهات الحسن أو القبح عقلاً، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلّا إذا كانتاختياريّة.

إن قلت: إذا لم يكن الفعل كذلك، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع،

___________________________________________

القطع الّذي لم يلتفت إليه {من جهات الحسن أو القبح عقلاً ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً، و} إذا ثبتت هذه المقدّمة - أعني: عدم كون الفعل بما هو مقطوع اختياريّاً - فبضميمة أنّه {لا يكاد يكون صفة موجبة لذلك} الحسن والقبح أو الحرمة والوجوب {إلّا إذا كانت اختياريّة} يتمّ المطلوب من عدم تغيير الفعل عمّا هو عليه، فلو فرضنا أنّ القطع كالتعظيم موجب للحسن، فكما أنّه لو قام بلا توجّه إلى كونه تعظيماً للمؤمن لم يكن التعظيم القهري موجباً لحسنه كذلك لو قتل الغزال بلا توجّه إلى كونه مقطوع العداوة لم يكن القطع المتعلّق به موجباً لحسنه، ومثله طرف التجرّي.

وإن شئت قلت: إن قتل الغزال بعنوان أنّه قتل العدوّ مقصود فهو اختياري وأمّا بعنوان أنّه قتل مقطوع العداوة غير مقصود، وحيث إنّ كلّ غير مقصود غير اختياري فهو غير اختياري، والعنوان الّذي لا يكون اختياريّاً ليس موجباً للحسن والقبح، إذ المقسم لهما هو الفعل الاختياري، كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ القطع ليس من العناوين المحسنة والمقبحة أوّلاً، وعلى تقدير تسليم كونه من تلك العناوين ليس موجباً للحسن والقبح لعدم الالتفات إليه، فلا يكون اختياريّاً حتّى يكون محسناً أو مقبحاً.

{إن قلت: إذا لم يكن الفعل} المتجرّى به {كذلك} أي: لم يكن بما هو مقطوع الحرمة اختياراً - لعدم الالتفات إلى هذا العنوان - {فلا وجه لاستحقاق العقوبة علىمخالفة القطع} مثلاً: الماء المزعوم كونه خمراً بعنوان أنّه مقطوع الخمريّة ليس

ص: 282

وهل كان العقاب عليها إلّا عقاباً على ما ليس بالاختيار؟

قلت: العقاب إنّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان، لا على الفعل الصّادر بهذا العنوان بلا اختيار.

إن قلت: إنّ القصد والعزم إنّما يكون من مبادئ الاختيار، وهي ليست باختياريّة، وإلّا لتسلسل.

___________________________________________

اختياريّاً يوجب العقاب {و} حينئذٍ {هل كان العقاب عليها} أي: على مخالفة القطع {إلّا عقاباً على ما ليس بالاختيار} فما قصده من شرب الخمر لم يقع والّذي وقع من شرب معلوم الخمريّة لم يكن باختيار فلا يصحّ العقاب، وذلك مثل ما لو قام بلا قصد الاستهزاء فتعنون بهذا العنوان فإنّه ليس معاقباً، إذ العقاب يكون مترتّباً على الفعل الاختياري والاستهزاء لم يقع باختياره لعدم قصده له؟

{قلت}: هذا الإشكال وارد لو قلنا بأنّ العقاب على الفعل وليس كذلك، إذ {العقاب إنّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان} مع تقارنه للفعل المزعوم بأنّه معصية، فإرادة المخالفة موجبة للعقاب {لا على الفعل الصّادر بهذا العنوان} أي: بعنوان أنّه مقطوع حتّى يقال: إنّه {بلا اختيار} ولا يصحّ العقاب على الأمر غير الاختياري.

{إن قلت}: لا يعقل أن يكون العقاب والثّواب على قصد العِصْيان أو الطّاعة، إذ لا عقاب ولا ثواب على القصد والعزم، ف- {إنّ القصدوالعزم} والإرادة {إنّما يكون من مبادئ الاختيار، وهي} أي: مبادئ الاختيار {ليست باختياريّة، وإلّا} فلو كانت مبادئ الاختيار اختياريّة {لتسلسل} إذ الفعل الاختياري هو الفعل الّذي يكون مسبوقاً بالإرادة، فلو كانت الإرادة اختياريّة احتاجت إلى إرادة أُخرى وتسلسل، فلا بدّ وأن لا يكون العقاب على القصد.

ص: 283

قلت: - مضافاً إلى أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار، إلّا أنّ بعض مباديه غالباً يكون وجوده بالاختيار؛ للتمكّن من عدمه، بالتأمّل في ما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة - يمكن أن يقال:

___________________________________________

{قلت}: يعقل أن يكون العقاب والثّواب على الإرادة والقصد، وما ذكرتم من أنّه لا يعقل؛ لأنّها ليست باختياريّة غير تامّ، إذ {مضافاً إلى أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار} كما ذكرتم فإنّ نفس الإرادة غير مسبوقة بإرادة أُخرى {إلّا أنّ بعض مباديه} أي: بعض مبادئ الاختيار والإرادة {غالباً يكون وجوده بالاختيار} إذ الفعل الاختياري مسبوق بمقدّمات سبعة - كما قالوا - : الأُولى: العلم، الثّانية: التصديق بالغاية، الثّالثة: الميل إلى الشّيء، الرّابعة: حكم القلب بأنّه ينبغي صدور الفعل بدفع الموانع وهو المسمّى بالجزم، الخامسة: الميل الّذي هو قبل الشّوق المؤكّد المسمّى بالعزم، السّادسة: الإرادة، السّابعة: حركة العضلات. وكلّ مرتبة من هذه المراتب متوقّفة على سابقتها فالإرادة متوقّفة على مقدّمات خمسة والجزم والعزم اختياريّان في الغالب.

فتبيّن أنّ بعض مقدّمات الإرادة داخلة تحت الاختيار {للتمكّن منعدمه بالتأمّل في ما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة} فيصرف نفسه عن الجزم والعزم حتّى لا تتمّ مقدّمات الإرادة ولا يقع الفعل، وعليه فلو لم يصرف نفسه عن الجزم والعزم وأراد صحّ العقاب على الإرادة؛ لأنّها تحت يده - فإنّ المقدور بالواسطة مقدور - .

ولا يخفى أنّ هذا هو الجواب الصّحيح - وإن كان قرّره بعض بوجه آخر - لما أُورد على هذا التقرير.

وكيف كان، فلا يحتاج إلى الجواب الثّاني الموجب لبعض ما يخالف قواعد العدل الّذي ذكره بقوله: {يمكن أن يقال} بعد تسليم أنّ الإرادة غير اختياريّة مطلقاً

ص: 284

إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بُعده عن سيّده، بتجرّيه عليه، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة، فكما أنّه يوجب البُعد عنه، كذلك لا غروَ في أن يوجب حسن العقوبة؛ فإنّه وإن لم يكن باختياره، إلّا أنّه بسوء سريرته وخبث باطنه، بحسب نقصانه، واقتضاء استعداده ذاتاً وإمكاناً.

وإذا انتهى الأمرُ إليه يرتفع الإشكال

___________________________________________

وأنّ العقاب على الإرادة: {إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بُعْده} أي: بعد العبد {عن سيّده ب-} سبب {تجرّيه عليه كما كان} العقاب {من تبعته} أي: تبعة العبد {ب-} سبب {العصيان في صورة المصادفة} فحال التجرّي والمعصية متساويان من هذه الجهة {فكما أنّه} أي: العصيان بالتجرّي {يوجب البُعد} للعبد {عنه} تعالى{كذلك لا غروَ} ولا عجب {في أن يوجب حسن العقوبة، فإنّه وإن لم يكن} هذا العصيان {باختياره} لأنّ العقاب على التجرّي التابع للإرادة الّتي ليست باختياريّة {إلّا أنّه بسوء سريرته وخبث باطنه بحسب نقصانه} فطرةً {واقتضاء استعداده ذاتاً وإمكاناً} فإنّ إمكان كلّ شيء بحسبه، فإمكان الخبيث إنّما هو إمكان الخبيث لا إمكان مطلق، كما أنّ إمكان الطيّب إنّما هو إمكان الطيّب لا مطلقاً {وإذا انتهى الأمر إليه} أي: إلى مقام الذات، بأن كان العقاب تابعاً للتجرّي التابع للإرادة التابعة للذات {يرتفع الإشكال} بأنّه إن كانت الإرادة بغير اختيار لزم كون العقاب على ما ليس بالاختيار وإن كانت اختياريّة لزم التسلسل.

ووجه ارتفاع الإشكال أنّا نختار الشّقّ الأوّل ونقول: العقاب التابع للذاتي غير قبيح، وإنّما يقبح العقاب على ما ليس من قبل الذات، بل من أمر خارجيّ وكان بواسطة الغير.

أقول: وهذا كما ترى عين الجبر، واللّه العاصم.

ص: 285

وينقطع السّؤال ب- (لِمَ)؛ فإنّ الذاتيّات ضروريّ الثّبوت للذات.

وبذلك أيضاً ينقطع السّؤال عن أنّه لِمَ اختار الكافر والعاصي، الكفر والعصيان، والمطيع والمؤمن، الإطاعة والإيمان؟ فإنّه يساوق السّؤال عن أنّ الحمار لم يكون ناهقاً؟ والإنسان لم يكون ناطقاً؟

وبالجملة: تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه - جلّ شأنه، وعظمت كبرياؤه - والبعدِ عنه، سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة ودرجاتها، والنّار ودركاتها،وموجب لتفاوتها في نيل الشّفاعة وعدمه،

___________________________________________

{و} حيث ربّما يُوْرَدُ هنا بأنّ اللّه - تعالى عمّا يقولون - لم جعل الذات هكذا حتّى يعاقبه، أشار إلى جوابٍ ذكره الشّيخ الرّئيس - وإن كان في نفسه غير صحيح - وهو أنّه: {ينقطع السّؤال ب- (لم) فإنّ الذاتيّات ضروريّ الثّبوت للذات} فإنّه كما يمتاز النّوع عن الجنس بفصل ضروريّ الثّبوت له كذلك يمتاز كلّ فرد عن أبناء نوعه بلازم ضروريّ الثّبوت له.

{وبذلك} الّذي ذكرنا في باب التجرّي من انتهاء الأمر إلى الذاتي الّذي ينقطع السّؤال فيه ب- (لم) {أيضاً} يظهر الجواب في باب المعصية الحقيقيّة، فإنّه {ينقطع السّؤال عن أنّه لم اختار الكافر والعاصي، الكفر والعصيان، و} لم اختار {المطيع والمؤمن، الإطاعة والإيمان، فإنّه} سؤال عن الذاتي، إذ الإطاعة والإيمان والكفر والعصيان ناشئة عن الذات، فالسؤال عنها يساوي و{يساوق السّؤال عن أنّ الحمار لم يكون ناهقاً والإنسان لم يكون ناطقاً} فكما أنّ السّؤال الثّاني غيرُ صحيحٍ، كذلك السّؤال الأوّل.

{وبالجملة تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه - جلّ شأنه وعظمت كبرياؤه - والبُعد عنه سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة ودرجاتها والنّار ودركاتها، وموجب لتفاوتها} أي: تفاوت أفراد الإنسان {في نيل الشّفاعة وعدمه} أي: عدم النّيل

ص: 286

وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتيّاً، والذاتي لا يعلّل.إن قلت: على هذا فلا فائدة في بعث الرّسل وإنزال الكتب، والوعظ والإنذار.

___________________________________________

{وتفاوتها في ذلك} القرب والبعد {بالآخرة يكون ذاتيّاً والذاتي لا يعلّل} كما قال السّبزواري:

«ذاتيّ شيء لم يكن معلّلا

وكان ما يسبقه تعقّلا»(1)

وقد علّق المصنّف على قوله: «وإن لم يكن باختياره» ما لفظه: «كيف لا، وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير اختياريّة، فإنّها هي المخالفة العمديّة وهي لا تكون بالاختيار، ضرورة أنّ العمد إليها ليس باختياري، وإنّما تكون نفس المخالفة اختياريّة، وهي غير موجبة للاستحقاق، وإنّما الموجبة له هي العمديّة منها، كما لا يخفى على أُولي النُّهى»(2)، انتهى.

ولا يخفى بطلان هذا الكلام برهاناً ووجداناً مع مخالفته لضروري المذهب، فإنّ العصيان لو لم يكن اختياريّاً لم تكن الإطاعة اختياريّة لعدم الفرق بينهما، إذ الإطاعة هي الموافقة عن عمد، فيلزم الجبر وأدلّة بطلانه آتٍ هنا، فلا نطيل المقام بذكرها.

والعجب عن المصنّف كيف غفل عن ذلك، وأغرَبُ منه تأييد بعض المحشّين لهذه الدعاوي الباطلة الخالية عن أيّ برهان مع مصادمة الوجدان، عصمنا اللّه والطلّاب من الزلل بمحمّد وآله الطّاهرين.

{إن قلت: على هذا} الّذي ذكرتم من أنّ الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان من تبعات الذات ومقتضياته {فلا فائدة في بعث الرّسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار} إذ المؤمن والمطيع يؤمن بنفسه ويطيع، كما أنّ النّار تحرق بنفسها من غيراحتياج إلى الإرشاد.

ص: 287


1- شرح المنظومة 1: 154.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 62.

قلت: ذلك لينتفع من حسُنت سريرته وطابت طينته، لتكمل به نفسه، ويخلص مع ربّه أُنسه، {وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ}(1)، قال اللّه تبارك وتعالى: (فَذَكِّر فَإِنَّ الذِّكرَی تَنفَعُ المُؤمِنِينَ)(2)، وليكون حجّة على من ساءت سريرته وخبثت طينته، {لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ}(3)، كيلا يكون للناس على اللّه حجّة، بل كان له حجّة بالغة.

ولا يخفى: أنّ في الآيات والرّوايات شهادة على صحّة ما حكم به الوجدان،

___________________________________________

{قلت: ذلك} البعث والإنزال والوعظ والإرشاد إنّما هو لإيجاد الشّوق بالنسبة إلى المؤمن والمطيع {لينتفع مَنْ حَسُنَتْ سريرته وطابت طِيْنَتُهُ لتكمل به نفسه ويخلص مع ربّه أُنسه} كما قال - تعالى - حكايةً عنهم: {{وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ}} و{قال اللّه - تبارك وتعالى - : (فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)} والظاهر أنّ «الفاء» من غلط النّسّاخ إذ الآية: {وَذَكِّرۡ} {وليكون حجّة على من ساءت سريرته وخبثت طينته {لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ}، كيلايكون للناس على اللّه حجّة، بل كان له حجّة بالغة} وأنت تعلم أنّه لو كان من مقتضيات الذات لم يتمّ شيء ممّا ذكر ويكون تكثير العبارة فقط.

{ولا يخفى أنّ في الآيات والرّوايات شهادة على صحّة ما حكم به الوجدان} من حرمة التجرّي والعقاب عليه.

قال الشّيخ الأنصاري(رحمة الله) في مبحث التجرّي من الرّسائل: «يظهر من أخبار أُخر العقاب على القصد أيضاً، مثل قوله(صلی الله علیه و آله): «نيّة الكافر شرّ من عمله»(4)، وقوله:

ص: 288


1- سورة الأعراف، الآية: 43.
2- إشارة إلى سورة الذاريات، الآية: 55.
3- سورة الأنفال، الآية: 42.
4- الكافي 2: 84.

___________________________________________

«إنّ اللّه يحشر النّاس على نيّاتهم»(1)، وما ورد من تعليل خلود أهل النّار في النّار، وخلود أهل الجنّة في الجنّة، بعزم كلّ من الطائفتين على الثّبات على ما كان عليه من المعصية والطاعة لو خلّدوا في الدنيا(2)، وما ورد من أنّه إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النّار. قيل: يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال(صلی الله علیه و آله): «لأنّه أراد قتل صاحبه»(3)،

وما ورد في العقاب على فعل بعض المقدّمات بقصد ترتّب الحرام كغارس شجرة الخمر(4) والماشي لسعاية مؤمن(5)،

وفحوى ما دلّ على أنّ الرّضا بفعل كفعله، مثل ما عنأميرالمؤمنين(علیه السلام) «أنّ الرّاضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى الداخل إثمان: إثم الرّضا وإثم الدخول»(6)، وما ورد في تفسير قوله - تعالى - {فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ}(7)، من أنّ نسبة القتل إلى المخاطبين، مع تأخّرهم عن القاتلين بكثيرٍ، رضاهم بفعلهم(8)،

ويؤيّده قوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ}(9)، وقوله - تعالى - : {وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ}(10)، وما ورد من «أنّ من رضي بفعل فقد لزمه وإن لم

ص: 289


1- المحاسن 1: 262.
2- وسائل الشيعة 1: 50.
3- تهذيب الأحكام 6: 174.
4- وسائل الشيعة 17: 224.
5- وسائل الشيعة 29: 19.
6- نهج البلاغة، الحكمة: 154.
7- سورة آل عمران، الآية: 183.
8- الكافي 2: 409.
9- سورة النور، الآية: 19.
10- سورة البقرة، الآية: 284.

الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة.

ومعه لا حاجة إلى ما استُدِلّ على استحقاق المتجرّي للعقاب بما حاصله: «أنّه لولاه - مع استحقاق العاصي له - يلزم إناطةُ استحقاق العقوبة بما هو خارجٌ عن الاختيار، من مصادفة قطعه، الخارجة عن تحت قدرته واختياره».

___________________________________________

يفعل»(1)، وقوله - تعالى - : {تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ}»(2)(3)،

انتهى كلامه رفع مقامه، إلى غير ذلك من الأدلّة السّمعيّةالشّاهدة على صحّة ما حكم به الوجدان {الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة}.

{ومعه} أي: مع وجود الشّهادة المذكورة لحكم الوجدان {لا حاجة إلى ما استدلّ} والمستدلّ هو المحقّق السّبزواري في الذخيرة(4) - على ما حكي - {على استحقاق المتجرّي للعقاب بما حاصله: «أنّه لولاه} أي: لولا استحقاق المتجرّي للعقاب {مع استحقاق العاصي له} أي: للعقاب {يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار من مصادفة قطعه} للواقع {الخارجة} تلك المصادفة {عن تحت قدرته واختياره»} وقوله: «من مصادفة» بيان لقوله: «ما هو خارج عن الاختيار».

وتوضيحُ: هذا الاستدلالِ - على ما ذكره الشّيخ(رحمة

الله)(5) - هو: أنّا إذا فرضنا شخصين قاطعين بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمراً، وقطع الآخر بكون مائع معيّن آخر خمراً، فشرباهما، فاتّفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر له، فإمّا أن يستحقّا العقاب، أو لا يستحقّه أحدهما، أو يستحقّه من صادف قطعه الواقع

ص: 290


1- وسائل الشيعة 16: 139.
2- سورة القصص، الآية: 83.
3- فرائد الأصول 1: 46.
4- ذخيرة المعاد 2: 209-210.
5- فرائد الأصول 1: 38.

مع بطلانه وفساده؛ إذ للخصم أن يقول: بأنّ استحقاق العاصي دونه، إنّما هو لتحقّق سبب الاستحقاق فيه - وهو مخالفته عن عمد واختيار - وعدمِ تحقّقه فيه؛ لعدم مخالفته أصلاً - ولو بلا اختيار - ، بل عدم صدور فعلٍ منه في بعض أفرادهبالاختيار، كما في التجرّي بارتكاب ما قطع أنّه من مصاديق الحرام، كما إذا قطع - مثلاً - بأنّ مائعاً خمر، مع أنّه لم يكن بالخمر،

___________________________________________

دون الآخر، أو العكس، لا سبيل إلى الثّاني والرّابع، والثّالث مستلزم لإناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار، وهو مناف لما يقتضيه العدل فتعيّن الأوّل.

وهذا الاستدلال - {مع} أنّا في غِنىً عنه، لما تقدّم من حكم الوجدان وشهادة الأدلّة السّمعيّة - {بطلانه وفساده} واضح {إذ للخصم} القائل بعدم حرمة التجرّي وعدم العقاب عليه {أن يقول} في جواب هذا الاستدلال: إنّا نلتزم باستحقاق المصادف دون غيره، ولا يلزم إناطة العقاب بأمر خارج عن الاختيار {بأنّ استحقاق العاصي دونه} أي: دون المتجرّي {إنّما هو لتحقّق سبب الاستحقاق فيه} أي: في العاصي - {وهو مخالفته عن عمد واختيار - وعدم تحقّقه} أي: تحقّق سبب استحقاق العقاب {فيه} أي: في التجرّي {لعدم مخالفته} للمولى {أصلاً ولو بلا اختيار} لا باختيار ولا بغير اختيار، إذ المفروض أنّه شرب الماء، فلم يشرب الخمر باختياره، ولم يشربها بغير اختياره، فإنّه لم يتحقّق منه شرب الخمر حتّى يقال: إنّه باختيار أو بغير اختيار {بل عدم صدور فعل منه} أي: من المتجرّي {في بعض أفراده} أي: أفراد التجرّي {بالاختيار} متعلّق ب- «عدم صدور» {كما في التجرّي بارتكاب ما قطع أنّه من مصاديق الحرام} مقابل التجرّي بارتكاب ما احتمل أنّه من مصاديق الحرام، كشرب أحد أطراف الشّبهة المحصورة {كما إذا قطع - مثلاً - بأنّ مائعاً} معيّناً {خمر مع أنّه لم يكن بالخمر}.ووجه عدم صدور الفعل في هذه الصّورة أنّه قد شرب المائع المذكور باعتقاد

ص: 291

فيحتاج إلى إثبات أنّ المخالفة الاعتقاديّة سبب كالواقعيّة الاختياريّة، كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ثمّ لا يذهب عليك: أنّه ليس في المعصية الحقيقيّة إلّا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة - وهو هتك واحد - ، فلا وجه لاستحقاق عقابين

___________________________________________

كونه خمراً، فما قصد لم يقع وما وقع - أعني: شرب الماء - لم يقصد. وقد تقدّم أنّ الفعل الاختياري هو المسبوق بالقصد والإرادة، فتأمّل.

وأمّا وجه كون مرتكب أحد الأطراف باحتمال الخمريّة يصدر منه الفعل الاختياري أنّه قاصد لكلّ منهما على البدل، والقصد كما يتعلّق بأمر معيّن كذلك يتعلّق بأمر مردّد، فأيّهما وقع يقع بالاختيار لسبق الإرادة، ولاختلاف أفراد التجرّي في صدور الفعل الاختياري عن المتجرّي وعدمه.

قال المصنّف(رحمة الله) في بعض أفراده: وحيث بطل استدلال صاحب الذخيرة بما ذكرنا {فيحتاج} (رحمة الله) {إلى إثبات أنّ المخالفة الاعتقاديّة سبب} للعقاب سواء كان باختيار أم لا {ك-} المخالفة {الواقعيّة الاختياريّة} بأن يقول: إنّ علّة استحقاق العقاب ليست منحصرة في شرب الخمر، بل لو شرب معلوم الخمريّة - بأن صدرت منه المخالفة الاعتقاديّة - كان معاقباً أيضاً، وهذا أوّل الكلام، إذ المنكر لعقاب المتجرّي ينكر كون معلوم الخمريّة، كالخمر الواقعيّة في عقاب متناوله {كما عرفت بما لا مزيد عليه}.

هذا {ثمّ} إنّه أورد على من التزم بعقاب المتجرّي بأنّه يلزم أن يكون فيالمعصية الحقيقيّة عقابان: أحدهما: لكونه معصية، والثّاني: لكونه تجرّياً وهتكاً لحرمة المولى مع أنّه ليس في المعصية إلّا عقاب واحد بالضّرورة.

وأجاب المصنّف(رحمة

الله) عنه بقوله: {لا يذهب عليك أنّه ليس في المعصية الحقيقيّة إلّا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة وهو هتك واحد} للمولى {فلا وجه لاستحقاق عقابين}

ص: 292

متداخلين - كما توهّم -(1).

مع ضرورة أنّ المعصية الواحدة لا توجب إلّا عقوبةً واحدة، كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما، كما لا يخفى.

ولا منشأ لتوهّمه إلّا بداهة أنّه ليس في معصية واحدة إلّا عقوبة واحدة، مع الغفلة عن أنّ وحدة المسبّب

___________________________________________

إذ هتك الحرمة والجرأة تارةً يكون بشرب الخمر، وأُخرى بشرب مائع باعتقاد أنّه خمر، وعلى أيّ حال فالجرأة واحدة ولا تكون متعدّدة حتّى توجب تعدّد العقاب، نعم، يتفاوت العقاب بتفاوت مراتب الهتك، كما لا يخفى.

وأجاب صاحب الفصول(رحمة الله) عن إيراد تعدّد العقاب بجواب آخر، وهو تداخل العقابين فحيث اجتمع التجرّي مع المعصية الحقيقيّة يكون عقاب واحد لها وحيث كان التجرّي فقط كان له عقاب له.

وإليه أشار بقوله: «لا وجه لاستحقاق عقابين» {متداخلين كما توهّم} حيث رأى أنّ تعدّد المعصية بالمصادفة والتجرّي يوجب تعدّد العقاب {مع ضرورة أنّ المعصية الواحدة لا توجب إلّا عقوبة واحدة} فتلخّص عن هذا المحذور بالتزام التداخل.وردّه المصنّف بقوله: {كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما} إذ المراد بالتداخل إن كان اشتداد العقوبة بقدر المعصيتين فهذا ليس من التداخل بل هو جمع بينهما، وإن كان المراد وحدة العقاب حقيقةً فلا وجه للالتزام بعقابين حتّى نقع في محذور التداخل بأنّه كيف يسقط أحد العقابين عند اجتماع معصيتين {كما لا يخفى}.

{و} الحاصل: أنّه {لا منشأ لتوهّمه} أي: توهّم التداخل {إلّا بداهة أنّه ليس في معصية واحدة إلّا عقوبة واحدة} فلا بدّ من القول بالتداخل جمعاً بين تعدّد المعصية وبين وحدة العقاب {مع الغفلة عن أنّ وحدة المسبّب} كالعقاب في ما

ص: 293


1- الفصول الغرويّة: 87.

تكشف - بنحو الإنّ - عن وحدة السّبب.

الأمر الثّالث: أنّه قد عرفت، أنّ القطع بالتكليف - أخطأ أو أصاب - يوجب عقلاً استحقاق المدح والثّواب، أو الذمّ والعقاب، من دون أن يؤخذ شرعاً في خطاب.

وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلّقه، لا يماثله ولا يضادّه، - كما إذا ورد في الخطاب: (أنّه إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدّق بكذا) - :

___________________________________________

نحن فيه - الّذي قامت الضّرورة على وحدته - {تكشف بنحو الإنّ} والانتقال من المعلول إلى العلّة {عن وحدة السّبب} وهو المعصية، لا أنّ وحدة العقاب تكشف عن تداخل المعصيتين الموجب لتداخل العقابين، فالسبب واحد وهو التجرّي الواحد ولذا وحّد العقاب.

هذا ولكن الإنصاف عدم قيام الدليل على حرمة التجرّي وعقابه، واللّه العالم.

[الأمر الثّالث أقسام القطع]

المقصد السّادس: في الأمارات، أقسام القطع{الأمر الثّالث} - من الأُمور السّبعة المبحوث عنها في باب القطع - : {أنّه قد عرفت أنّ القطع بالتكليف} سواء {أخطأ أو أصاب يوجب عقلاً استحقاق المدح والثّواب} في مورد الإطاعة والانقياد {أو الذمّ والعقاب} في مورد المعصية والتجرّي {من دون أن يؤخذ} القطع {شرعاً في خطاب} بل يكون طريقيّاً محضاً.

{وقد يؤخذ} القطع {في موضوع حكم آخر} بحيث {يخالف} ذلك الحكم الآخر لحكم {متعلّقه لا يماثله ولا يضادّه} أي: لا يماثل ذلك الحكم الآخر لحكم متعلّق القطع ولا يضادّه {كما إذا ورد في الخطاب} الشّرعي {أنّه (إذا قطعت بوجوب شيء} كالصلاة {يجب عليك التصدّق بكذا)} فإنّ القطع جعل موضوعاً لوجوب التصدّق، ومن المعلوم أنّ وجوب التصدّق الّذي هو حكم آخر متّصف بثلاث صفات:

الأُولى: أنّه يخالف حكم متعلّق القطع، فإنّ حكم متعلّق القطع وجوب الصّلاة،

ص: 294

تارةً: بنحو يكون تمام الموضوع، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقاً - ولو أخطأ - موجباً لذلك.

___________________________________________

وهذا الحكم وجوب التصدّق - فليس عينه - نعم، لو قال: (إذا قطعت بوجوب الصّلاة وجب عليك الصلاة) - بذلك الوجوب الأوّل - كان حكم القطع عين حكم متعلّق القطع، لكنّه مستحيل للزوم الدور.

الثّانية: أنّ وجوب التصدّق لا يماثل حكم متعلّق القطع - أعني: وجوب الصّلاة - إذ وجوب الصّلاة ليس مماثلاً لوجوب التصدّق، نعم، لو قال: (إذاقطعت بوجوب الصّلاة وجب عليك الصّلاة) - بوجوب آخر غير الأوّل - كان حكم القطع مماثلاً لحكم متعلّق القطع، لكنّه مستحيل للزوم اجتماع المثلين في موضوع واحد.

الثّالثة: أنّ وجوب التصدّق لا يضادّ حكم متعلّق القطع - أعني: وجوب الصّلاة - إذ وجوب الصّلاة ليس مضادّاً لوجوب التصدّق، فإنّ الضّدّين لا يمكن اجتماعهما وهذان يجتمعان.

نعم، لو قال: (إذا قطعت بوجوب الصّلاة حرّمت عليك الصّلاة) كان حكم القطع مضادّاً لحكم متعلّق القطع، لكنّه مستحيل للزوم اجتماع الضّدّين في موضوع واحد.

وبهذا تحقّق أنّ كلّاً من القيود الثّلاثة في عبارة المصنّف وهو قوله: «يخالف» وقوله: «لا يماثله» وقوله: «لا يضادّه» لإخراج شيء مستحيل.

وعلى كلّ حال، فالقطع قد يكون طريقاً محضاً وقد يكون موضوعاً، والقطع الموضوعي على أقسام أربعة - على ما ذكره المصنّف(رحمة الله) - لأنّه:

{تارةً بنحو يكون تمام الموضوع، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقاً} - وفسّره بقوله: {ولو أخطأ - موجباً لذلك} الحكم الآخر، كأن يقول: (إذا قطعت بوجوب

ص: 295

وأُخرى: بنحو يكون جزءه وقيده، بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجباً له.

وفي كلٍّ منهما يؤخذ: طوراً بما هو كاشف وحاكٍ عن متعلّقه؛ وآخرَ بما هو صفة خاصّة للقاطع، أو المقطوع به.

وذلك لأنّ القطع لمّا كان من الصّفات الحقيقيّة ذات الإضافة

___________________________________________

الصّلاة - سواء كانت الصّلاة واجبة واقعاً أم لا - يجب عليك التصدّق).

{وأُخرى بنحو يكون} القطع {جزءه وقيده} أي: جزء الموضوع {بأن يكون القطع به} أي: بالوجوب {في خصوص ما أصاب} بأن كان القطع مطابقاً للواقع - لا مطلقاً كالقسم الأوّل - {موجباً له} أي: لذلك الحكم الآخر، كأن يقول: (إذا قطعت بوجوب الصّلاة - وكان القطع مطابقاً للواقع بأن كان في الواقع وجوب وقطعت به - يجب عليك التصدّق) فلا يجب التصدّق، إذا لم يكن في الواقع وجوب ولو قطع بالوجوب - جهلاً مركّباً - وكذا لا يجب التصدّق إذا كان في الواقع وجوب ولم يقطع به - جهلاً بسيطاً - .

{وفي كلٍّ منهما} أي: ممّا كان القطع تمام الموضوع وممّا كان جزء الموضوع {يؤخذ} القطع {طوراً بما هو كاشف وحاكٍ عن متعلّقه} فيكون القطع بوجوب الصّلاة لكونه كاشفاً عن الوجوب موضوعاً لوجوب التصدّق، أو جزء موضوع له {وآخر} يؤخذ القطع {بما هو صفة خاصّة للقاطع} فيكون القطع بوجوب الصّلاة لكونه صفة قائمة بنفس القاطع - كالشَّجاعة القائمة بها - موضوعاً أو جزء موضوع لوجوب التصدّق {أو المقطوع به} فيكون القطع بوجوب الصّلاة لكونه صفة للصلاة - إذ الصّلاة متّصفة بكونها مقطوعاً بها - موضوعاً أو جزء موضوع لوجوب التصدّق.

{وذلك} الّذي ذكرنا من إمكان أخذ القطع - بما هو كاشف أو بما هو صفة - في الموضوع {لأنّ القطع لمّا كان من الصّفات الحقيقيّة ذات الإضافة} إذ القطع يقوم

ص: 296

- ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره - صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة، بإلغاء جهة كشفه،أو اعتبار خصوصيّة أُخرى فيه معها؛ كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاكٍ عنه. فيكون أقسامه أربعة، مضافة إلى ما هو طريق محض عقلاً، غير مأخوذ في الموضوع شرعاً.

___________________________________________

بالنفس حقيقة، لا أنّه أمر انتزاعي ويتعلّق بالمقطوع، فهو إضافة بين القاطع والمقطوع {ولذا} الّذي ذكر من كونه صفة حقيقيّة وذات الإضافة {كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره} أي: واضح بنفسه وموضح لغيره، كالسِّراج الّذي هو ظاهر بنفسه ومظهر لغيره {صحّ أن يؤخذ} القطع {فيه} أي: في موضوع حكم آخر - كوجوب التصدّق - {بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة} لشخص القاطع {بإلغاء جهة كشفه} بأن يقول المولى: حيث إنّ القطع صفة - من غير اعتبار كونه كاشفاً - أخذته في موضوع حكمي بوجوب التصدّق {أو اعتبار خصوصيّة أُخرى} أي: إلغاء اعتبار خصوصيّة أُخرى غير جهة الكشف، بأن لا يعتبر المولى في أخذ القطع موضوعاً كونه من سبب خاصّ أو شخص خاصّ {فيه} أي: في الموضوع، وهذا متعلّق بقوله: «بإلغاء» {معها} أي: مع كونه صفة خاصّة. والحاصل: أنّ الموجب لأخذ المولى للقطع موضوعاً هو كونه صفة، لا كونه كاشفاً، ولا كونه من سبب خاصّ - مثلاً - فلم يعتبر مع الصّفتيّة شيئاً أصلاً.

{كما صحّ أن يؤخذ} القطع في موضوع وجوب التصدّق {بما هو كاشف عن متعلّقه وحاكٍ عنه} لا بما هو صفة خاصّة قائمة بنفس القاطع، وبناءً على هذا التفصيل {فيكون} القطع المأخوذ في الموضوع {أقسامه أربعة} لأنّه إمّا أن يؤخذ تمام الموضوع أوجزؤه، وعلى كلا التقديرين فإمّا أن يكون أخذه في الموضوع بما هو كاشف أو بما هوصفة {مضافة إلى} قسم خاصّ وهو {ما} أي: القطع الّذي {هو طريق محض عقلاً غير مأخوذ في الموضوع شرعاً} كأن يكون الوجوب مرتّباً

ص: 297

ثمّ لا ريب في قيام الطّرق والأمارات المعتبرة - بدليل حجيّتها واعتبارها - مقام هذا القسم.

كما لا ريب في عدم قيامها - بمجرّد ذلك الدليل - مقام ما أُخذ في الموضوع على نحو الصّفتيّة من تلك الأقسام، بل لا بدّ من دليل آخر على التنزيل؛ فإنّ قضيّة الحجيّة والاعتبار ترتيبُ ما للقطع - بما هو حجّة - من الآثار، لا لَه

___________________________________________

على الصّلاة ويكون القطع بهذا الوجوب طريقاً إلى إدراك الواقع.

{ثمّ} إذا عرفت أقسام القطع فنقول في أحكام هذه الأقسام: إنّه {لا ريب في قيام الطرق والأمارات المعتبرة} كخبر العادل والبيّنة - {بدليل حجيّتها واعتبارها - مقام هذا القسم} من القطع - أعني: الطّريقي المحض - فكما أنّه إذا قطع بأنّ صلاة الجمعة واجبة وجب الإتيان بها، كذلك إذا قام خبر الواحد على وجوبها وجبت، وكما أنّه لو علم بنجاسة هذا المائع وجب الاجتناب عنه، كذلك إذا قامت البيّنة على نجاستها وجب الاجتناب، إذ معنى جعل الطريق والأمارة ترتيب آثار الواقع على مؤدّياتهما، فدليل اعتبارهما يجعلهما بمنزلة القطع الطريقي {كما لا ريب في عدم قيامها} أي: الطرق والأمارات {بمجرّد ذلك الدليل} القائم على حجيّتها {مقام ما أُخذ في الموضوع على نحو الصّفتيّة} سواء أُخذ في الموضوع تماماً أو جزءاً {من تلك الأقسام} الخمسة فلو نذرالتصدّق بدرهم إذا قطع بوجوب صلاة الجمعة لم يجب عليه التصدّق إذا لم يقطع وإن قام الخبر الواحد على وجوبها {بل لا بدّ} في قيام الطرق والأمارات مقام القطع الصّفتي {من دليل آخر على التنزيل} يصرّح بقيامها منزلته.

وإنّما قلنا بعدم كفاية دليل الحجيّة في التنزيل منزلة الصّفتي {فإنّ قضيّة الحجيّة والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجّة} وطريق {من الآثار} أي: ترتيب آثار القطع الطريقي على الطرق والأمارات {لا} ترتيب ما {له} أي: للقطع

ص: 298

بما هو صفة وموضوع؛ ضرورة أنّه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصّفات.

ومنه قد انقدح: عدم قيامها - بذاك الدليل - مقامَ ما أُخذ في الموضوع على نحو الكشف؛ فإنّ القطع المأخوذ بهذا النّحو في الموضوع شرعاً، كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً، فلا يقوم مقامه شيء بمجرّد حجيّته

___________________________________________

{بما هو صفة وموضوع} فلا يترتّب على الأمارة آثار القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصّفتيّة.

{ضرورة أنّه} أي: القطع بما هو {كذلك} صفة قائمة بالقاطع {يكون كسائر الموضوعات والصّفات} فكما أنّ النّجاسة لو ترتّبت على البول يجب تنزيل جديد لترتّب النّجاسة على شيء آخر قائم مقام البول، كذلك إذا ترتّب التصدّق على هذه الصّفة النّفسانيّة الموجبة لاطمئنان الخاطر يجب تنزيل جديد لترتّب التصدّق على شيء آخر قائم مقام هذه الصّفة.

فحاصل استدلال المصنّف(رحمة الله) على عدم قيام الأمارات والطرق مقام القطع الصّفتي هو: دعوى ظهور دليل اعتبارها في اعتبارها مقام القطع الطريقيفقط، مضافاً إلى عدم إمكان الجمع بين تنزيل الأمارة منزلة الصّفتي ومنزلة الصّفتي بتنزيل واحد لاختلاف اللحاظين، فتأمّل.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من عدم قيام الأمارات والطرق مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصّفتيّة {قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل} المعتبر لها {مقام ما أُخذ في الموضوع على نحو الكشف} سواء كان جزءاً للموضوع أو تماماً {فإنّ القطع المأخوذ بهذا النّحو} أي: بنحو الكاشفيّة {في الموضوع شرعاً} تمييز لقوله: «المأخوذ» {كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً} كما كان القطع المأخوذ بنحو الصّفتيّة كسائر ما لها دخل في الموضوعات {فلا يقوم مقامه} أي: مقام هذا القطع المأخوذ بنحو الكاشفيّة {شيء بمجرّد حجيّته} أي: حجيّة ذلك الشّيء، إذ

ص: 299

أو قيام دليل على اعتباره، ما لم يقم دليل على تنزيله ودخله في الموضوع كدخله.

وتوهّم(1):

كفاية دليل الاعتبار، الدالّ على إلغاء احتمال خلافه، وجعله بمنزلة القطع من جهة كونه موضوعاً، ومن جهة كونه طريقاً،

___________________________________________

دليل حجيّة الأمارة إنّما هو جعل للحجّة لا جعل للموضوع {أو} جزء الموضوع، فمجرّد {قيام دليل على اعتباره} أي: اعتبار ذلك الشّيء لا يفيد بالنسبة إلى ما أُخذ في الموضوع بنحو الكشف {ما لميقم دليل} آخر - غير دليل التنزيل المطلق - {على تنزيله} أي: تنزيل ذلك الشّيء - كخبر الواحد أو البيّنة - {ودخله في الموضوع كدخله} أي: كدخل القطع.

والحاصل: أنّ صدق العادل - مثلاً - إنّما يدلّ على قيام قول العادل مقام الطريقي المحض، أمّا قيام قول العادل مقام القطع الدخيل في الموضوع تماماً أو جزءاً صفة أو كشفاً فلا يتمّ بهذا الدليل، وإنّما يحتاج إلى دليل خاصّ آخر يصرّح بقيام قول العادل مقام هذا النّحو من القطع، فإنّ ظاهر دليل التنزيل هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فاللّازم ترتيب آثار الواقع وأحكامه على مؤدّى الأمارة والطريق. أمّا ترتيب نفس آثار القطع المأخوذ في الموضوع بما هو صفة أو كاشف على الأمارة والطريق فلا وجه له.

{وتوهُّمُ} أنّه لا وجه لتخصيص دليل تنزيل الأمارة منزلة القطع بحيثيّة الطّريقيّة فقط، فإنّه خلاف إطلاق دليل التنزيل، ل- {كفاية دليل الاعتبار الدالّ على إلغاء احتمال خلافه} فإنّ قول العادل بالنظر إلى ذاته يحتمل الصّدق والكذب، فدليل الاعتبار وهو صدق العادل، يقول: (ألغِ احتمال الخلاف) {و} هذا عامّ؛ لأنّه {جعله بمنزلة القطع} مطلقاً {من جهة كونه موضوعاً ومن جهة كونه طريقاً}.

ص: 300


1- فرائد الأصول 1: 33-34.

فيقوم مقامه: طريقاً كان أو موضوعاً.

فاسِدٌ جدّاً، فإنّ الدليل الدالّ على إلغاء الاحتمال، لا يكاد يكفي إلّا بأحد التنزيلين؛ حيث لا بدّ في كلّ تنزيل منهما من لحاظ المنزل والمنزل عليه،

___________________________________________

وعلى هذا {فيقوم} الأمارة والطريق {مقامه} أي: مقام القطع {طريقاً كان أو موضوعاً} صفة كان أو كاشفاً جزء الموضوع أوتمامه، فيترتّب على قول العادل أثر القطع، كما يترتّب عليه أثر متعلّقه - أي: المقطوع - {فاسدٌ جدّاً، فإنّ الدليل الدالّ على} حجيّة الأمارات والطرق {إلغاء لاحتمال} المخالف {لا يكاد يكفي إلّا بأحد التنزيلين} إمّا تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي حتّى يترتّب عليها ما يترتّب على القطع الموضوعي من الآثار، وإمّا تنزيلها منزلة القطع الطريقي فلا يترتّب على الأمارة آثار القطع وإنّما يترتّب عليها آثار متعلّق القطع، وإنّما لم يمكن الجمع بين التنزيلين في كلام واحد {حيث لا بدّ في كلّ تنزيل منهما} أي: من هذين التنزيلين {من لحاظ المنزل والمنزل عليه}.

مثلاً: لو كان القطع بوجوب الصّلاة موضوعاً لوجوب التصدّق، فإنّه إذا حصل هذا القطع فيجب على المكلّف بمجرّده أمران:

الأوّل: الإتيان بالصلاة؛ لأنّ هذا القطع صار سبباً لانكشاف الواقع.

الثّاني: التصدّق؛ لأنّ القطع بوجوب الصّلاة موضوع له، وحيث وجد الموضوع ترتّب عليه حكمه، وحينئذٍ فالمولى الجاعل لخبر العادل منزلة القطع: إمّا أن يجعله منزلة القطع في ترتّب أثر الواقع - أعني: وجوب الصّلاة - فيكون مفاد التنزيل أنّه كما يجب عليك الصّلاة إذا قطعت بوجوبها كذلك يجب عليك الصّلاة إذا قام خبر الواحد على وجوبها.

وإمّا أن يجعله منزلة القطع في ترتّب أثر القطع عليه، فيكون مفاد التنزيل أنّه كما يجب عليك التصدّق إذا قطعت بوجوب الصّلاة كذلك يجب عليك التصدّق

ص: 301

ولحاظهما في أحدهما آليّ، وفي الآخر استقلاليٌّ؛ بداهة أنّ النّظر في حجيّته وتنزيله منزلةَ القطع في طريقيّته - في الحقيقة - ، إلى الواقع ومؤدّى الطّريق،وفي كونه بمنزلته في دخله

___________________________________________

إذا قام خبر الواحد على وجوبها.

{و} من المعلوم أنّ {لحاظهما} أي: لحاظ المنزل والمنزل عليه {في أحدهما} وهو تنزيل خبر الواحد منزلة القطع في ترتّب أثر الواقع عليه {آلي} إذ لا يلاحظ المولى حينئذٍ القطع بما هو، بل ينزل مؤدّى الأمارة منزلة متعلّق القطع، فلا نظر إلى القطع وإنّما النّظر كلّه إلى المؤدّى والواقع {وفي الآخر} وهو تنزيل خبر الواحد منزلة القطع في ترتّب أثر القطع عليه {استقلالي} إذ لا يلاحظ المولى حينئذٍ متعلّق القطع ومؤدّى الأمارة، بل يلاحظ القطع بما هو وينزل خبر الواحد بما هو منزلته.

{بداهة أنّ النّظر} واللحاظ {في حجيّته} أي: حجيّة الأمارة والطّريق، وتذكير الضّمير باعتبار خبر الواحد ونحوه {وتنزيله منزلة القطع في طريقيّته} أي: حيث ينزل الأمارة منزلة القطع الطريقي {في الحقيقة} يكون النّظر {إلى الواقع ومؤدّى الطريق} فقوله: «الأمارة كالقطع» معناه أنّ مؤدّى الأمارة كمتعلّق القطع، فالنّظر إلى وجوب الصّلاة - مثلاً - والنّظر إلى القطع طريقيّ ومرآتيّ، فكما أنّ النّاظر في المرآة إلى وجهه ينحصر نظره إلى وجهه حتّى لو سئل عن كيفيّة المرآة لم يتمكّن من الإخبار عنها وبيان كيفيّتها لعدم الالتفات إلى المرآة أصلاً وإنّما النّظر كلّه منصرف إلى الوجه فقط، كذلك في ما نحن فيه لا نظر إلى القطع أصلاً، فالقطع ما به النّظر لا ما إليه النّظر.

وبالعكس في القسم الثّاني، لبداهة أنّ النّظر في حجيّة خبر الواحد وتنزيله منزلة القطع {وفي كونه} أي: الخبر {بمنزلته} أي: بمنزلة القطع {في دخله} أي:

ص: 302

في الموضوع إلى أنفسهما، ولا يكاد يمكنالجمع بينهما.

نعم، لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما، يمكن أن يكون دليلاً على التنزيلين، والمفروض أنّه ليس. فلا يكون دليلاً على التنزيل إلّا بذاك اللحاظ الآلي، فيكون حجّة موجبة لتنجّز متعلّقه، وصحّة العقوبة على مخالفته، في صورتي إصابته وخطئه،

___________________________________________

الخبر {في الموضوع} إنّما يكون {إلى أنفسهما} أي: نفس الخبر ونفس القطع من دون نظر إلى مؤدّى الخبر ومتعلّق القطع، فيكون النّظر إلى القطع لا بالقطع، وحاله حال من ينظر في المرآة نظر من يريد شراءها فإنّه ينظر إلى كيفيّتها وقيمتها، حتّى لو سُئل عن حال وجهه وأنّه كان أسود أجاب بأنّه لم يلتفت إلى ذلك، بل إنّ تمام نظره كان إلى نفس المرآة.

{و} من البديهي أنّه كما {لا يكاد يمكن الجمع} بين النّظر إلى الوجه في المرآة وبين النّظر إلى نفس المرآة بنظرة واحدة، كذلك لا يكاد يمكن الجمع {بينهما} أي: بين النّظر إلى القطع آليّاً وبين النّظر إليه استقلاليّاً في نظر واحد ولحاظ واحد.

{نعم، لو كان في البين} على فرض مستحيل {ما بمفهومه جامع بينهما} أي: بين التنزيلين حتّى يكون عند التنزيل النّظر إلى الجامع {يمكن أن يكون} دليل واحد للتنزيل ناظر إلى الجامع {دليلاً على التنزيلين} تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل الأمارة منزلة القطع {و} لكن {المفروض أنّه ليس} ما بمفهومه جامع بينهما، بل لا يعقل أصلاً على ما تقدّم {فلا يكون} دليل حجيّة الأمارة ونحوها {دليلاً على التنزيل إلّا بذاكاللحاظ الآلي} فقط، فلو قام الخبر على وجوب الصّلاة لم يجب إلّا الإتيان بالصلاة لا التصدّق {فيكون} دليل التنزيل {حجّة موجبة لتنجّز متعلّقه وصحّة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته} بأن كانت الصّلاة في الواقع واجبة وقامت الأمارة على وجوبها {وخطئه} بأن لم تكن واجبة وقام

ص: 303

بناءً على استحقاق المتجرّي، أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي، فيكون مثله في دخله في الموضوع، وترتيبٍ ما لَه عليه من الحكم الشّرعي.

لا يقال: على هذا لا يكون دليلاً على أحد التنزيلين ما لم يكن هناك قرينة في البين.

فإنّه يقال: لا إشكال في كونه دليلاً على حجيّته؛ فإنّ ظهوره

___________________________________________

الدليل على وجوبها.

أمّا صحّة العقوبة في صورة الإصابة فواضحة لتنجّز الواقع بقيام الدليل عليه، وأمّا صحّتها في صورة المخالفة فإنّما تكون {بناءً على استحقاق المتجرّي} للعقاب {أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي} عطف على قوله: «بذلك اللحاظ الآلي» يعني: يكون دليل التنزيل: إمّا باللّحاظ الآلي، أو اللّحاظ الاستقلاليّ {فيكون} خبر الواحد {مثله} أي: مثل القطع {في دخله في الموضوع، و} وجوب {ترتيب ما له} أي: ما للقطع {عليه} أي: على خبر الواحد {من الحكم الشّرعي} بيان ما له وعليه، فيجب التصدّق فقط ولا تجب الصّلاة.

{لا يقال: على هذا} الّذي ذكرتم من عدم كفاية دليل واحدلتنزيلين، بل لا بدّ من كون المراد بدليل التنزيل أحد التنزيلين يكون دليل التنزيل مجملاً، ف- {لا يكون دليلاً على أحد التنزيلين} بل يحتمل أن يكون لتنزيل المؤدّى منزلة الواقع، ويحتمل أن يكون لتنزيل الطريق منزلة القطع، فلا يعلم أنّ أيّهما مراد من الدليل {ما لم يكن هناك قرينة في البين} تعيّن المراد من دليل التنزيل، وعليه فلا وجه لما حكمتم من أنّ دليل التنزيل إنّما ينزّل المؤدّى منزلة الواقع.

{فإنّه يقال: لا إشكال في كونه} أي: دليل التنزيل {دليلاً على حجيّته} وطريقيّته، إذ الأثر الظّاهر للقطع هو طريقيّته وحجيّته لا موضوعيّته، ولهذا كلّما نزّل منزلته يكون ظاهراً في أنّه نزل بلحاظ كاشفيّته وطريقيّته {فإنّ ظهوره} أي: ظهور التنزيل

ص: 304

في أنّه بحسب اللحاظ الآلي، ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وإنّما يحتاج تنزيله - بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي - من نَصْبِ دلالةٍ عليه. فتأمّل في المقام، فإنّه دقيق، ومزالّ الأقدام للأعلام.

ولا يخفى: أنّه لولا ذلك، لأمكن أن يقوم الطريقُ بدليل واحد - دالّ على إلغاء احتمال خلافه - مقامَ القطع بتمام أقسامه، ولو في ما أُخذ في الموضوع على نحو الصّفتيّة، كان تمامه أو قيده وبه قوامه.

___________________________________________

{في أنّه} نزل منزلة القطع {بحسب اللحاظ الآلي ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وإنّما يحتاج تنزيله} أي: تنزيل خبر الواحد منزلة القطع {بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي} بأن يكون الخبر كالقطع موضوعاً لوجوب التصدّقمثلاً {من نصب دلالة عليه} لما تقدّم من أنّ الظهور بخلافه {فتأمّل في المقام فإنّه دقيق ومزالّ الأقدام للأعلام} واللّه الموفّق.

{ولا يخفى أنّه لولا ذلك} الّذي ذكرنا من لزوم اجتماع لحاظين لو كان التنزيل للمؤدّى منزلة الواقع وللطريق منزلة القطع {لأمكن أن يقوم الطريق} كخبر الواحد {بدليل واحد دالّ على إلغاء احتمال خلافه} كقوله(علیه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنّا ثقاتنا»(1)،

{مقام القطع بتمام أقسامه} الخمسة {ولو في ما أُخذ في الموضوع على نحو الصّفتيّة} للقاطع أو المقطوع به سواء {كان تمامه أو قيده وبه قوامه} بأن كان جزؤه.

وكيف كان، فلا فرق في القطع الموضوعي بين الصّفتي والطّريقي ولا بين جزء الموضوع وتمامه، فلا وجه للتفصيل بأنّه تنزيل منزلة القطع الطريقي، سواء كان طريقاً محضاً أو طريقاً موضوعيّاً جزءاً أو تماماً، فلا يكون تنزيلاً منزلة القطع الموضوعي على نحو الصّفتيّة فقط.

ص: 305


1- وسائل الشيعة 27: 150.

فتلخّص بما ذكرنا: أنّ الأمارة لا تقوم بدليل اعتبارها، إلّا مقام ما ليس مأخوذاً في الموضوع أصلاً.

وأمّا الأصول: فلا معنى لقيامها مقامه بأدلّتها أيضاً، غير الاستصحاب؛ لوضوح أنّ المراد من قيام المقام: ترتيب ما له من الآثار والأحكام، من تنجّز التكليف وغيره - كما مرّت إليه الإشارة -

___________________________________________

ووجه بطلان هذا التفصيل واضح، إذ الطريقي الموضوعي مثل الصّفتي الموضوعي كلاهما يحتاج إلى النّظر الاستقلالي، فلا يجتمع مع النّظر الآلي.

{فتلخّص بما ذكرنا أنّ الأمارة لا تقوم بدليل اعتبارها} وإن أمكن فيها بدليلٍ ثانٍ {إلّا مقام ما ليس مأخوذاً في الموضوع أصلاً} فقيامها إنّما هو مقام القطع الطريقي المحض.

هذا كلّه في بيان حال الأمارات والطُّرُق وبيان قيامها مقام أيّ من أقسام القطع.

{وأمّا الأصول} العمليّة الأربعة: الاستصحاب، والبراءة، والتخيير، والاحتياط، فهل تقوم مقام القطع أم لا؟

وعلى تقدير قيامها فهل تقوم مقام القطع الطريقي فقط - كالأمارات - أم مقام مطلق القطع؟ {فلا معنى لقيامها مقامه} أي: مقام القطع {ب-} سبب {أدلّتها أيضاً} كما لا تقوم الأمارات، والطّرق مقام القطع الموضوعي {غير الاستصحاب} فإنّه يقوم مقام القطع الطريقي المحض كسائر الأمارات.

وإنّما قلنا بعدم قيام الأصول مقام القطع مطلقاً {لوضوح أنّ المراد من قيام المقام} أي: قيام الشّيء مقام القطع {ترتيب ما له} أي: للقطع {من الآثار والأحكام من تنجّز التكليف وغيره} على ذلك الشّيء القائم مقام القطع {كما مرّت إليه الإشارة} فمعنى قيام الأمارة أنّها طريق إلى الواقع. كما أنّ القطع طريق

ص: 306

وهي ليست إلّا وظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل، شرعاً أو عقلاً.لا يقال: إنّ الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجّز التكليف - لو كان - .

فإنّه يقال:

___________________________________________

{و} البراءة والتخيير والاحتياط ليست طرقاً أصلاً ولا كاشفيّة لها ناقصاً حتّى تقوم مقام الكاشف الحقيقي، إذ {هي ليست إلّا وظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل شرعاً أو عقلاً}.

وبعبارة أوضح: أنّ الأمارات والطّرق كواشف جعليّة عن الواقع، ولذا تقوم مقام الطريق الواقعي المنجعل بنفسه - أي: العلم - بخلاف الأصول فإنّها لا طريقيّة لها، بل أحكام عمليّة للجاهل بالواقع يعمل على طبقها حين اليأس عن وصول يده إلى الواقع علماً أو علميّاً، فلو شكّ في مائع أنّه حرام أم لا؟ قالت البراءة العقليّة والشّرعيّة: إنّ مرتكبه معذور، ولا تعيّن البراءة أنّه خمر أم ليس بخمر، بخلاف خبر الواحد، فإنّه يقول: إنّه خمر أو ليس بخمر، والاستصحاب مثل الأمارات لكشفه عن الواقع ناقصاً، ولذا يقوم مقام القطع، إذ ينزل الشّكّ في البقاء منزلة التعيّن بالبقاء في ترتيب ما له من الآثار، فهو واسطة بين الأصول والأمارات، ولذا يعبّر عنه ب- : عرش الأصول وفرش الأمارات، فيقدّم على الأصول ويؤخّر عن الأمارات.

{لا يقال: إنّ الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه} أي: مقام القطع {في تنجّز التكليف} به {لو كان} تكليف في الواقع، فالاحتياط يقوم مقام القطع الطريقي، إذ كما أنّ العلم بالواقع موجب لتنجّزه فيستحقّ الثّواب على فعله والعقاب على تركه كذلك في الموارد الّتي يجب الاحتياط يترتّب عليه آثار الواقع من تنجّز التكليف به، ويترتّب الثّواب على موافقته والعقاب على مخالفته، فيكون حال الاحتياطحال الأمارات والطرق.

{فإنّه يقال}: وجوب الاحتياط إمّا بحكم العقل كأطراف الشّبهة، وإمّا بحكم

ص: 307

أمّا الاحتياط العقلي: فليس إلّا نفسَ حكم العقل بتنجّز التكليف، وصحّةِ العقوبة على مخالفته، لا شيء يقوم مقامه في هذا الحكم.

وأمّا النّقليّ:

___________________________________________

الشّرع كالشبهة البدويّة التحريميّة - على مذاق الأخباريّين - ولا يقوم شيء منهما مقام العلم {أمّا الاحتياط العقلي} أعني: حكم العقل بلزوم الاحتياط {فليس إلّا نفس حكم العقل بتنجّز التكليف وصحّة العقوبة على مخالفته} أي: مخالفة التكليف، فلا يكون قائماً مقام القطع، إذ معنى القيام مقام القطع أنّه كما يكون القطع منجّزاً للتكليف موجباً للثواب والعقاب كذلك هذا القائم مقامه، والاحتياط العقلي هو عين حكم العقل بحسن العقاب على تقدير المخالفة {لا شيء يقوم مقامه} أي: مقام القطع {في هذا الحكم} أي: الحكم بصحّة العقوبة.

وبعبارة أوضح: إنّ القطع شيء وأثره - وهو التنجّز وصحّة العقاب - شيء آخر، وكذلك الحال في الأمارة فخبر العادل شيء وأثره شيء آخر، فمعنى قيام خبر العادل مقام القطع أنّه يترتّب على خبر العادل ما يترتّب على القطع - من تنجّز التكليف وصحّة العقاب - والاحتياط العقلي ليس كذلك، إذ هو عبارة عن الأثر فقط - أعني: صحّة العقاب بحكم العقل - فليس هناك شيء هو الاحتياط وشيء هو الأثر حتّى يقال: نزل الاحتياط منزلة القطع في أنّه، كما يترتّب الأثرعلى القطع يترتّب الأثر على الاحتياط.

نعم، لو كان وجوب الاحتياط عقلاً شيئاً غير التنجّز وصحّة العقوبة بأن كانا من آثاره لصحّ القول بالتنزيل المذكور، ولكنّه ليس كذلك.

{وأمّا} الاحتياط {النّقلي} وهو حكم الشّارع بوجوب الاحتياط، فهو وإن كان يصحّ تنزيله منزلة القطع - لو كان لنا احتياط شرعي - إذ حكم الشّارع بوجوب الاحتياط يكشف عن فعليّة التكليف بالواقع، فيترتّب عليه التنجيز وصحّة العقوبة،

ص: 308

فإلزام الشّارع به وإن كان ممّا يوجب التنجّز، وصحّة العقوبة على المخالفة - كالقطع - إلّا أنّه لا نقول به في الشّبهة البدويّة، ولا يكون بنقلي في المقرونة بالعلم الإجمالي، فافهم.

ثمّ لا يخفى: أنّ دليل الاستصحاب أيضاً لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً،

___________________________________________

فهنا شيئان: [1] الواقع المكشوف بالاحتياط، [2] وأثره، كما أنّ في القطع شيئان: [1] الواقع المكشوف بالقطع، [2] وأثره.

والحاصل: أنّه لو كان احتياط شرعيّ لقام مقام القطع في كشف الواقع وترتّب أثره عليه {فإلزام الشّارع به} أي: بالاحتياط {وإن كان ممّا يوجب التنجّز وصحّة العقوبة على المخالفة كالقطع} الّذي هو موجب للتنجّز وصحّة العقوبة على المخالفة {إلّا أنّه} لا احتياط شرعيّ لنا أصلاً، إذ {لا نقول به في الشّبهة البدويّة} خلافاً للأخباري {ولا يكون بنقلي في المقرونة بالعلم الإجمالي} إذ ثبت بحكم العقل، وما ورد من الشّارع إنّما هو إرشاد إلى حكم العقل، فالاحتياطالواجب ليس بشرعيّ، والاحتياط الشّرعي ليس بواجب {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ توهّم قيام الاحتياط مقام القطع - كما ذكره المستشكل بقوله: «لا يقال» - غير مختصّ بالاحتياط، بل البراءة أيضاً تقوم مقام القطع، فإنّها تنفي التكليف، والاحتياط يثبته، وكذلك التخيير فإنّه قائم مقام القطع بالتخيير.

والحاصل: أنّه على موجب هذا التوهّم لا اختصاص للإشكال بالاحتياط، بل يمكن توهّم قيام كلّ منها مقام القطع، منتهاه أنّ البراءة قائمة مقام القطع بعدم التكليف، والاحتياط قائم مقام القطع بالتكليف، والتخيير قائم مقام القطع بالتخيير، فتدبّر.

{ثمّ لا يخفى أنّ دليل الاستصحاب أيضاً} المنزّل للشكّ منزلة القطع {لا يفي بقيامه} أي: الاستصحاب {مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً} صفتيّاً أم طريقيّاً

ص: 309

وأنّ مثل: «لا تنقض اليقين»(1)

لا بدّ من أن يكون مسوقاً: إمّا بلحاظ المتيقّن، أو بلحاظ نفس اليقين.

___________________________________________

جزءاً أم كلّاً، بل إنّما ينزل الاستصحاب منزلة القطع الطريقي المحض {وإنّ مثل: «لا تنقض اليقين} بالشكّ» {لا بدّ من أن يكون مسوقاً إمّا بلحاظ المتيقّن} فيكون استصحاب وجوب الصّلاة - في مثال: (إذا قطعت بوجوب الصّلاة وجب عليك التصدّق) - موجباً للإتيان بالصلاة فقط ولا يكون موجباً للتصدّق {أو بلحاظ نفس اليقين} حتّى يكون معنى «لا تنقض» وجوب ترتيب آثار اليقين لاالمتيقّن، فيكون استصحاب وجوب الصّلاة موجباً للتصدّق فقط لا للإتيان بالصلاة.

وإنّما نقول بلزوم كون التنزيل بأحد اللحاظين لما تقدّم من استحالة الجمع بينهما في لحاظ واحد، وإنّما نقول بالأوّل دون الثّاني لظهور كون التنزيل بلحاظ الطريقيّة والكاشفيّة لا الموضوعيّة، كما سبق بيانه.

ثمّ إنّ المصنّف(قدس سره) في حاشيته على الرّسائل بيّن وجهاً لتصحيح تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل الأمارة منزلة القطع بتنزيل واحد، وكذلك بالنسبة إلى تنزيل الاستصحاب منزلتها حتّى أن يكون خبر العادل بوجوب الصّلاة أو استصحاب وجوبها موجباً لترتيب آثار الواقع وهو وجوب الإتيان بالصلاة وأثر القطع وهو وجوب التصدّق.

وحاصل ذلك الوجه: أنّ الدليل لو نزل مؤدّى الأمارة أو الاستصحاب منزلة الواقع فقد دلّ بالالتزام العرفي على تنزيل القطع بهذا الواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي، فيكون دليل التنزيل دالّاً بالمطابقة على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، وبالالتزام على تنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع، فإذا قام خبر

ص: 310


1- وسائل الشيعة 2: 356.

وما ذكرنا في الحاشية(1)

- في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع، وأنّ دليل الاعتبار إنّما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدّى منزلة الواقع، وإنّما كان تنزيل القطع في ما له دخل في الموضوع، بالملازمة بين تنزيلهما وتنزيل القطع بالواقع تنزيلاً وتعبّداً منزلةَ القطع بالواقع حقيقةً - ، لا يخلو من تكلّف، بل تعسّف؛

___________________________________________

الواحد أو الاستصحاب على وجوب الصّلاة حصل القطع بالواقع التنزيلي فيلزم ترتيب آثار القطع بوجوب الصّلاة، ففي صورة القطع واقع حقيقي وقطع بالواقع الحقيقي، وفي صورة قيام الأمارة واقع تنزيلي - قائم مقام الواقع الحقيقيّ - وقطع بالواقع التنزيلي - قائم مقام القطع بالواقع الحقيقي - .

وإلى هذا أشار بقوله: {وما ذكرنا في الحاشية} على الرّسائل {في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل} للأمارة والطريق والاستصحاب {منزلة الواقع والقطع} حتّى يترتّب عليها آثار الواقع وآثار القطع {و} ذلك ببيان {أنّ دليل الاعتبار} الّذي يعتبر الأمارة ونحوها {إنّما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدّى منزلة الواقع} وهذا التنزيل بالدلالة المطابقيّة {وإنّما كان تنزيل القطع} بالواقع التنزيلي {في ما له} أي: للقطع {دخل في الموضوع} كمثال التصدّق {بالملازمة} خبر «وإنّما كان» فيكون هذا التنزيل بالدلالة الالتزاميّة للملازمة {بين تنزيلهما} أي: المستصحب والمؤدّى {و} بين {تنزيل القطع بالواقع تنزيلاً وتعبّداً} أي: القطع بالواقع التنزيلي {منزلة القطع بالواقع حقيقة} أي: الواقع الحقيقي. والحاصل: أنّه إذا كان المؤدّى نازلاً منزلة الواقع، فالقطع بهذا المؤدّى يكون نازلاً منزلة القطع بالواقع، فيصحّ التنزيلان بتنزيل واحد {لا يخلو من تكلّف، بل تعسّف} خبر قوله: «وما ذكرناه في الحاشية».

ثمّ إنّ وجه التكليّف هو عدم الملازمة العرفيّة بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع

ص: 311


1- درر الفوائد: 29.

فإنّه

___________________________________________

وبين تنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع، ووجه التعسّف هو لزوم الدور الّذي أشار إليه بقوله: {فإنّه} إذا كان الموضوع مركّباً من جزءين بحيث كان الأثر مترتّباً على هذا الموضوع المركّب، كالماء الكرّ الّذي هو موضوع للتّطهير، فإن أحرز الجزءان بالوجدان فلا إشكال، وإن أحرز أحدهما بالوجدان والجزء الآخر بالدليل - كما لو علم بمائعيّة هذا الماء وشكّ في كريّته فأجرى استصحاب الكريّة أو قامت البيّنة عليها - فلا إشكال أيضاً، أمّا لو شكّ في كلا الجزءين ففيه تفصيل، وهو أنّه إذا كان كلّ من الجزءين محرزاً بتنزيل في عرض تنزيل الجزء الآخر: إمّا لشمول دليل واحد لكليهما كما في شمول لا تنقض للمشكوك المائيّة والكريّة، أو بدليلين كما لو قامت البيّنة على المائيّة والاستصحاب على الكريّة فلا إشكال.

وأمّا إذا كان التنزيلان طوليّين بأن كان تنزيل أحد الجزءين مستلزماً لتنزيل الجزء الآخر فلا يصحّ التنزيل، للزومه الدور حينئذٍ في مقام دلالة الدليل، فإنّ إجراء الأصل أو الأمارة - لإحراز الجزء الأوّل - متوقّف على كون هذا الجزء ذا أثر لما تبيّن في موضعه من عدم إجرائهما في ما لا أثر له، وكون هذا الجزء ذا أثر يتوقّف على وجود الجزء الآخر، إذ ما لم يجتمع الجزءانِ لم يتحقّق المركّب الّذي هو ذو أثر، ووجود الجزء الآخر متوقّف على إجراء الأصل أو الأمارة - لفرض أنّ الجزء الثّاني يثبت بالجزء الأوّل المفاد للأصل والأمارة للملازمة بينهما - وهو دور ظاهر.

مثلاً: إذا كان الأثر لمقطوع الخمريّة فاستصحاب الخمريّة متوقّف على كونه ذا أثر، وكونه ذا أثر متوقّف على ثبوت الجزء الآخر الّذي هو القطع بالخمر التعبّدي، وثبوت القطع بالخمر التعبّدي موقوف على إجراء الاستصحاب في الخمر، فإجراء الاستصحاب في الخمر موقوف على إجراء الاستصحاب في الخمر بالواسطة، فهو دور مضمر.

ص: 312

لا يكاد يصحّ تنزيل جزء الموضوع أو قيده - بما هو كذلك، بلحاظ أثره - إلّا في ما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزاً بالوجدان، أو تنزيله في عرضه.

فلا يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلاً على تنزيل جزء الموضوع ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر،

___________________________________________

وبهذا تبيّن أنّ الموضوع المركّب أو المقيّد على أربعة أنحاء:

الأوّل: ما أُحرز الجزءان أو المشروط والشّرط بالوجدان.

الثّاني: ما أُحرزا بالتعبّد لكن كان التعبّد بكلّ في عرض التعبّد بالآخر.

الثّالث: ما أُحرز أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبّد، ولا إشكال في هذه الثّلاثة.

الرّابع: ما أُحرزا بالتعبّد ولكن كان التعبّد بأحدهما في عرض التعبّد بالآخر، وهذا مستلزم للدور. وما نحن فيه من تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، وتنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع من قبيل القسم الرّابع، فلا يعقل هذا النّحو من التنزيل.

وإلى هذا أشار بقوله: فإنّه {لا يكاد يصحّ تنزيل جزء الموضوع} في ما كان مركّباً {أو قيده} في ما كان مقيّداً {بما هو كذلك} أي: بما هو جزء الموضوع أو قيده، مقابل ما لو كان لهذا القيد أو الجزء أثر مستقلّ آخر غير المرتّب عليه بما هو جزء أو قيد {بلحاظ أثره} متعلّق بقوله: «لا يكاد يصحّ تنزيل» {إلّا في ما كان جزؤه الآخر} في ما كان مركّباً {أو ذاته} في ما كان مقيّداً {محرزاً بالوجدان} - كما تقدّم في القسم الثّالث - {أو} كان {تنزيله} أي: تنزيل الجزء الآخر {في عرضه} أي: في عرض تنزيلالجزء الأوّل - كما تقدّم في القسم الثّاني - .

وأمّا القسم الأوّل ففي كمال الوضوح، وأمّا القسم الرّابع {فلا} يعقل، إذ لا {يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلاً على تنزيل جزء الموضوع} أو ذاته، فإنّه {ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر} أو قيده في عرض هذا التنزيل

ص: 313

في ما لم يكن محرزاً حقيقة؛ وفي ما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة - كما في ما نحن فيه على ما عرفت - لم يكن دليل الأمارة دليلاً عليه أصلاً؛ فإنّ دلالته على تنزيل المؤدّى تتوقّف على دلالته على تنزيل القطع بالملازمة.

___________________________________________

{في ما لم يكن} ذلك الجزء الآخر أو القيد {محرزاً حقيقة} بالوجدان {وفي ما لم يكن دليل على تنزيلهما} معاً {بالمطابقة كما في ما نحن فيه} ممّا كان الموضوع للحكم هو القطع بالشيء {على ما عرفت، لم يكن دليل الأمارة دليلاً عليه} أي: على تنزيل الجزء الأوّل {أصلاً}.

والحاصل: أنّ دليل الأمارة والاستصحاب لا يكون دليلاً على تنزيل جزء الموضوع وذاته إذا لم يكن هناك أحد هذه الثّلاثة:

الأوّل: دليل آخر على تنزيل الجزء الثّاني أو القيد منزلة الواقع.

الثّاني: إحراز الجزء الثّاني أو القيد بالوجدان.

الثّالث: شمول دليل التنزيل لكلا الجزءين أو المقيّد والقيد في عرض واحد.أقول: من المظنون عدم استقامة العبارة، إذ قوله: «لم يكن دليل الأمارة دليلاً عليه» لا يرتبط بما قبله إعراباً، فيحتمل سقوط كلمة «فإنّه» قبل قوله: «ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر» كما زدناها في الشّرح.

وكيف كان، فإنّما قلنا بعدم صحّة القسم الرّابع لاستلزامه الدور {فإنّ دلالته} أي: دلالة دليل الأمارة أو الأصل {على تنزيل المؤدّى} منزلة الواقع - كتنزيل الخمر المستصحب منزلة الخمر الواقعي - {تتوقّف على دلالته} أي: دليل الأمارة أو الأصل {على تنزيل القطع} بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع، بأن ينزل القطع بالخمر المستصحب منزلة القطع بالخمر الواقعي {بالملازمة} بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وبين تنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع، والجار متعلّق

ص: 314

ولا دلالة له كذلك، إلّا بعد دلالته على تنزيل المؤدّى؛ فإنّ الملازمة إنّما تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي، وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً، فإنّه لا يخلو عن دقّة.

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ هذا لو تمّ لعمّ، ولا اختصاص له بما إذا كان القطع

___________________________________________

بقوله: «على دلالته» {ولا دلالة له} أي: لدليل التنزيل {كذلك} أي: على تنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع {إلّا بعد دلالته على تنزيل المؤدّى} منزلة الواقع {فإنّ الملازمة إنّما تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع} هذا تعليل لقوله: «ولا دلالة له كذلك إلّا بعد» الخ.

وحاصله: أنّه لولا تنزيل المؤدّى منزلة الواقع لم يكن معنىً لتنزيل القطعبالمؤدّى منزلة القطع بالواقع.

وفي بعض النّسخ مكان «فإنّ الملازمة» هذه العبارة: «فإنّ الملازمة إنّما تدّعى بين القطع بالموضوع التنزيلي والقطع بالموضوع الحقيقي، وبدون تحقّق الموضوع التنزيلي التعبّدي أوّلاً بدليل الأمارة لا قطع بالموضوع التنزيلي كي يدّعى الملازمة بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع»(1)، انتهى.

{كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً فإنّه لا يخلو عن دقّة} فإنّ تنزيل القطع بالخمر التعبّدي منزلة القطع بالخمر الحقيقي يتوقّف على تنزيل الخمر المستصحب منزلة الخمر الواقعي.

{ثمّ لا يذهب عليك أنّ هذا} التوجيه الّذي ذكرناه في الحاشية لتصحيح تنزيل الخبر الواحد مثلاً منزلة القطع الطريقي الموضوعي {لو تمّ لعمّ} جميع أقسام القطع الموضوعي {ولا اختصاص له} أي: لهذا التوجيه {بما إذا كان القطع} الموضوعي

ص: 315


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 91.

مأخوذاً على نحو الكشف.

الأمر الرّابع: لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم؛ للزوم الدور، ولا مثله؛ للزوم اجتماع المثلين، ولا ضدّه؛ للزوم اجتماع الضّدّين.

نعم، يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أُخرى منه،

___________________________________________

{مأخوذاً على نحو الكشف} بل يشمل المأخوذ على نحو الصّفتيّة.

[الأمر الرّابع امتناع أخذ القطع
بحكمٍ في موضوع نفسه أو مثله أو ضده]

المقصد السّادس: في الأمارات، امتناع أخذ القطع بحكمٍ في موضوع نفسه أو مثله أو ضده

{الأمر الرّابع} في بيان القطع والظنّ الدخيلين في الموضوع: {لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم} كأن يقول: (إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة وجب عليك إقامتها) - بحيث يكون لوجوب المأخوذ متعلّقاً للقطع وحكماً له واحداً - {للزوم الدور} إذ القطع بالوجوب متوقّف على الوجوب، فلو توقّف الوجوب على القطع دار.

{و} كذا {لا} يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع {مثله} أي: مثل ذلك الحكم، كأن يقول: (إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة وجب عليك إقامتها بوجوب مثل ذلك الوجوب) بحيث يكون الوجوب المأخوذ متعلّقاً للقطع مماثلاً للوجوب المجعول حكماً له {للزوم اجتماع المثلين} في موضوع واحد؛ لأنّه يستلزم أن تكون صلاة الجمعة واجبة بوجوبين: وجوب قبل تعلّق القطع، ووجوب بعد تعلّقه.

{و} كذا {لا} يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع {ضدّه} أي: ضدّ ذلك الحكم، كأن يقول: (إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة حرم عليك إقامتها) {للزوم اجتماع الضّدّين} فيلزم أن تكون صلاة الجمعة واجبة ومحرّمة.

{نعم، يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أُخرى منه} أي: من ذلك الحكم، بأن يكون القطع بالمرتبة السّابقة موجباً لفعليّة الحكم، كأن يقول: (إذا

ص: 316

أو مثله، أو ضدّه.

وأمّا الظنّ بالحكم: فهو وإن كان كالقطع، في عدم جواز أخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون، إلّا أنّه لمّا كان معه مرتبةُ الحكم الظاهري محفوظة، كان جعلحكم آخر في مورده

___________________________________________

قطعت بالوجوب الإنشائي للجمعة وجب عليك) {أو مثله} كأن يقول: (إذا قطعت بالوجوب الإنشائي وجب عليك فعلاً) والفرق بينه وبين سابقه أنّ في الأوّل يصير نفس الوجوب الإنشائي فعليّاً، بخلاف هذا فإنّ الوجوب الفعلي غير الوجوب الإنشائي {أو ضدّه} كأن يقول: (إذا قطعت بالوجوب الإنشائيّ حرم عليك).

قال العلّامة القمّي(رحمة الله): «لا يخفى عليك أنّ هذا وإن لم يستلزم اجتماع الحكمين في المرتبة المتأخّرة - أي: المرتبة الفعليّة - إلّا أنّه يلزم ذلك اجتماع الحكمين في تلك المرتبة الّتي تعلّق بها القطع، إذ الحكم الواصل إلى المرتبة الفعليّة لا بدّ أن يترقّى من تلك المرتبة، فاجتماعهما في تلك المرتبة اجتماع للمثلين أو الضّدّين»(1)، انتهى.

{وأمّا الظّنّ بالحكم فهو وإن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون} فلا يصحّ أن يقال: (إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة وجبت عليك بذاك الوجوب المظنون) وذلك لاستلزامه الدور بالتقريب الّذي ذكرناه في القطع، إذ الوجوب الواحد لا يمكن أن يكون متعلّقاً للظنّ وحكماً له {إلّا أنّه لمّا كان معه} أي: مع الظنّ بالحكم {مرتبة الحكم الظاهري محفوظة} بحيث يمكن جعل الحكم الظاهري في حال الظنّ بالحكم الواقعي، بخلاف القطع بالحكم الواقعي، فإنّه إذا قطع بالحكم الواقعي لم يعقل جعل الحكم الظاهري على خلافه {كان جعل حكم آخر في مورده} أي: مورد الظنّبالحكم الواقعي، سواء كان

ص: 317


1- حاشية الكفاية 2: 13-14.

- مثل الحكم المظنون أو ضدّه - بمكانٍ من الإمكان.

إن قلت: إن كان الحكم المتعلّق به الظنّ فعليّاً أيضاً - بأن يكون الظنّ متعلّقاً بالحكم الفعلي - لا يمكن أخذُه في موضوع حكم فعليّ آخر، مثله أو ضدّه؛ لاستلزامه الظنّ باجتماع الضّدّين أو المثلين،

___________________________________________

الحكم المجعول {مثل الحكم المظنون} كأن يقال: (إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة وجبت عليك بوجوب مماثل للوجوب المظنون) {أو ضدّه} كأن يقال: (إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة حرمت عليك) {بمكان من الإمكان} ولا يلزم اجتماع المثلين أو الضّدّين؛ لأنّ الحكم المتعلّق للظنّ في مرتبة الواقع والحكم المأخوذ في موضوعه الظنّ في مرتبة الظاهر، واجتماع الضّدّين والمثلين إنّما يمتنع في موضوع واحد، كما لا يخفى.

{إن قلت}: ما ذكرتم من إمكان أخذ الظنّ بالحكم في موضوع حكم مثله أو ضدّه إنّما يصحّ إذا كان الظنّ المأخوذ في الموضوع متعلّقاً بغير ما تعلّق به الحكم المرتّب على الظنّ، كأن يكون الظنّ بالحكم الواقعي مأخوذاً في موضوع حكم فعليّ مماثل للحكم المظنون أو مضادّ له، كأن يقال: (إذا ظننت بالوجوب الواقعي وجب عليك فعلاً أو حرم عليك فعلاً).

والحاصل: أنّ ذلك جائز مع اختلاف المرتبة، أمّا مع اتحاد المرتبة فلا، ف- {إن كان الحكم المتعلّق به الظنّ فعليّاً أيضاً} كالحكم المرتّب على الظنّ {بأن يكون الظنّ متعلّقاً بالحكم الفعلي} ف- {لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعليّ آخر مثله أو ضدّه} فلا يمكن أنيقال: (إذا ظننت بالوجوب الفعلي لصلاة الجمعة فهي عليك واجبة أو محرّمة فعلاً) {لاستلزامه الظنّ باجتماع الضّدّين أو المثلين} فإنّ المكلّف يظنّ حينئذٍ أنّ المولى حكم بحكمين فعليّين - مثلين أو ضدّين - في موضوع واحد، والظنّ باجتماع المثلين أو الضّدّين، كالقطع باجتماعهما في لزوم

ص: 318

وإنّما يصحّ أخذه في موضوع حكم آخر، كما في القطع، طابِقَ النّعل بالنّعل.

قلت:

___________________________________________

أن يكون المولى عابثاً أو مناقضاً في نظر العبد، بل قد تقرّر في موضعه أنّ احتمال اجتماع الضّدّين أو المثلين، كالقطع بذلك في الاستحالة، فلا يصحّ للمولى أن يفعل هذا الفعل {وإنّما يصحّ أخذه} أي: أخذ الظنّ بالحكم {في موضوع حكم آخر} كأن يقول: إذا ظننت بوجوب الجمعة فعلاً وجب عليك التصدّق أو حرم عليك ذلك {كما في القطع طابِقَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ} والقُذَّة بالقُذَّة.

{قلت}: للحكم الفعلي مرتبتان: الأُولى: الفعلي غير التام، والثّانية: الفعلي التام، فالظنّ كالقطع بالنسبة إلى الفعلي التام فكما لا يمكن أخذ القطع بالحكم الفعلي في موضوع مثله أو ضدّه كذلك لا يمكن أخذ الظنّ بالحكم الفعلي التامّ في موضوع مثله أو ضدّه، وأمّا الفعلي غير التام فيمكن أخذ الظنّ به في موضوع الحكم الفعلي مثله أو ضدّه.

بيان ذلك: أنّ الحكم الفعلي عبارة عمّا يصدق معه هذه القضيّة - أعني: ما لو علم لتنجّز ولا يثب على موافقته وعوقب على مخالفته - .

ثمّ إنّ الفعلي بهذا المعنى ينقسم إلى قسمين:

الأوّل: ما تكون المصلحة فيه قويّة جدّاً بحيث يزيح المولى علل المكلّف، بأنيرفع جميع الموانع الحاصلة فينبّه المكلّف ويوجب عليه الاحتياط تحفّظاً على الواقع، كالشبهة البدويّة في الدماء والفروج مثلاً، وهذا يسمّى بالفعلي التام.

الثّاني: ما لا تكون المصلحة فيه كذلك فلا يرفع المولى العذر ولا يوجب الاحتياط، بل تقتضي المصلحة بجعل أصل أو أمارة يؤدّيان إليه تارة وإلى ضدّه أُخرى، كالشبهة البدويّة في سائر الأشياء مثلاً، وهذا يسمّى بالفعلي غير التام، وليس بالنسبة إلى هذا القسم من الحكم إرادة وكراهيّة فعليّة من المولى حتّى

ص: 319

يمكن أن يكون الحكم فعليّاً، بمعنى أنّه لو تعلّق به القطع - على ما هو عليه من الحال - لتنجّز، واستحقّ على مخالفته العقوبة. ومع ذلك لا يجبُ على الحاكم دفع عذر المكلّف - برفع جهله لو أمكن، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه في ما أمكن - ، بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدّية إليه تارة، وإلى ضدّه أُخرى،

___________________________________________

يلزم اجتماع الضّدّين أو المثلين، وليس كالإنشائي الصّرف حتّى لا ينجز حتّى بعد تعلّق العلم، بل هو واسطة بين الإنشائي المحض وبين الفعلي التام.

إذا عرفت هذا قلنا: الظنّ بالفعلي التام لا يمكن أن يؤخذ موضوعاً لحكم مثله أو ضدّه - كما ذكر في الإيراد - لأنّ تعلّق الإرادة والكراهة بهذا الفعلي ينافي تعلّق إرادة أو كراهة أُخرى به، ولو كان تعلّق الإرادتين أو إرادة وكراهة في نظر المكلّف لظنّه بالفعليّة التامّة، إذ كما يمتنع اجتماعهما واقعاً يمتنع ظنّاً - كما تقدّم - وأمّا الظنّ بالحكم الفعلي غير التامّ، فيمكن أن يؤخذ في موضوع مثله أو ضدّه، كما أشار إليه بقوله: {يمكن أن يكون الحكم فعليّاً، بمعنى أنّه لو تعلّق به القطع - على ما هو عليه من الحال} الّذي ليس بحيث يجب على المولى رفع عذرالمكلّف برفع جهله أو إيجاب الاحتياط عليه تحفّظاً على الواقع - {لتنجّز واستحقّ على مخالفته العقوبة} وعلى موافقته المثوبة {ومع ذلك} الّذي ذكر من أنّه لو تعلّق به العلم لتنجّز {لا يجب على} المولى {الحاكم} بهذا الحكم الفعلي {دفع عذر المكلّف برفع جهله لو أمكن} رفع جهله {أو بجعل لزوم الاحتياط عليه} تحفّظاً على الواقع {في ما أمكن} الاحتياط، كغير مورد دوران الأمر بين المحذورين {بل يجوز} مع عدم رفع عذره وعدم جعل الاحتياط عليه {جعل أصل أو أمارة مؤدّية إليه} إلى ذلك الفعلي {تارةً، وإلى ضدّه أُخرى} ووجه الترقّي أنّه قد يكله المولى إلى الأصول العقليّة بلا تصرّف جديد، وهذا أهون من جعل الأصل، كما لا يخفى.

وكيف كان، فلا يلزم اجتماع الضّدّين أو المثلين في ما لو جعل الظنّ بالحكم

ص: 320

ولا يكاد يمكن مع القطع به، جعلُ حكمٍ آخر مثله أو ضدّه، كما لا يخفى، فافهم.

إن قلت: كيف يمكن ذلك؟ وهل هو إلّا أنّه يكون مستلزماً لاجتماع المثلين أو الضّدّين؟

قلت: لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى - أي: لو قطع به من باب الاتفاق لتنجّز - مع حكم آخر فعليّ في مورده، بمقتضى الأصل أو الأمارة، أو دليل أُخذ في موضوعه الظنّ بالحكم بالخصوص به،

___________________________________________

الفعلي غير التامّ موضوعاً لحكم فعليّ مماثلاً أو مضادّاً.

{ولا يكاد يمكن مع القطع به} أي: بالحكم الفعلي{جعل حكم آخر مثله أو ضدّه، كما لا يخفى} إذ ليس مع العلم مرتبة الحكم الظاهري محفوظاً، فيلزم من جعل الحكم مع قطع العبد أن يكون المولى قد عرض نفسه بكونه عابثاً أو مناقضاً في نظر العبد، وإن لم يكن في الواقع كذلك لكون قطع العبد جهلاً مركّباً {فافهم}.

{إن قلت: كيف يمكن ذلك} الّذي ذكرتم من صحّة جعل أمارة، أو أصل في مورد الحكم الفعلي {وهل هو} الجعل {إلّا أنّه يكون مستلزماً لاجتماع} الحكمين الفعليّين {المثلين} في مورد الموافقة {أو الضّدّين} في مورد المخالفة؟

{قلت}: لا يجتمع الحكمان الفعليّان مماثلاً أو مضادّاً إذا كانا تامّين، ولكن {لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى} الّذي تقدّم أنّه غير تامّ {أي: لو قطع به من باب الاتفاق} بدون عناية من المولى لرفع جهل المكلّف أو إيجاب الاحتياط عليه {لتنجّز مع حكم آخر فعليّ في مورده بمقتضى الأصل أو الأمارة} لعدم استلزامه اجتماع إرادتين أو إرادة وكراهة، فإنّ الفعلي غير التامّ بمقتضى الواقع لا ينافي الفعلي التام بمقتضى الأمارة والأصل {أو} بمقتضى {دليل أُخذ في موضوعه الظنّ بالحكم بالخصوص به} أي: بهذا الحكم.

والحاصل: أنّ الحكم الفعلي غير التامّ لا ينافي حكم الأصل ولا حكماً أُخذ

ص: 321

على ما سيأتي(1)

من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.الأمر الخامس: هل تنجّز التكليف بالقطع - كما يقتضي موافقته عملاً - ، يقتضي موافقته التزاماً، والتسليمَ له اعتقاداً وانقياداً، كما هو اللّازم في الأصول الدينيّة والأُمور الاعتقاديّة، بحيث كان له امتثالان وطاعتان: إحداهما بحسب القلب والجنان، والأُخرى بحسب العمل بالأركان، فيستحقّ العقوبة على عدم الموافقة التزاماً، ولو مع الموافقة عملاً، أو لا يقتضي، فلا يستحقّ العقوبة عليه،

___________________________________________

في موضوعه الظنّ بالحكم الواقعي الفعلي غير التام {على ما سيأتي من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي} إن شاء اللّه - تعالى - .

[الأمر الخامس الموافقة الالتزامية]

المقصد السّادس: في الأمارات، الموافقة الالتزامية

{الأمر الخامس} في أنّ العلم بالتكليف هل يقتضي الموافقة الالتزاميّة أم لا؟ {هل تنجّز التكليف بالقطع} أو بغيره من الأمارات والأصول المعتبرة {كما يقتضي موافقته عملاً} بأن يأتي بالواجب ويترك المحرّم {يقتضي موافقته التزاماً} بأن يعقد قلبه على أنّ الشّيء الفلاني واجب والشّيء الفلاني محرّم {والتسليم له اعتقاداً وانقياداً، كما هو} أي: الانقياد وعقد القلب {اللّازم في الأصول الدينيّة والأُمور الاعتقاديّة بحيث كان له} أي: للحكم المقطوع به {امتثالان وطاعتان: إحداهما: بحسب القلب والجنان، والأُخرى: بحسب العمل بالأركان} وكذلك معصيتان ومخالفتان بحيث ينفكّ كلّ منهما عنالأُخرى {فيستحقّ العقوبة على عدم الموافقة التزاماً} كأن بنى عدم حرمة الخمر {ولو مع الموافقة عملاً} بأن لم يشرب وبالعكس، بأن بنى على الحرمة ولكن شربها {أو لا يقتضي} تنجّز التكليف الموافقة الالتزاميّة {فلا يستحقّ العقوبة عليه} أي: على عدم الموافقة

ص: 322


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 365-366.

بل إنّما يستحقّها على المخالفة العمليّة؟

الحقّ: هو الثّاني؛ لشهادة الوِجْدان - الحاكم في باب الإطاعة والعصيان - بذلك، واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيّده، إلّا المثوبة دون العقوبة، ولو لم يكن متسلّماً وملتزماً به ومعتقداً ومنقاداً له، وإن كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيّده؛ لعدم اتصافه بما يليق أن يتّصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها، وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لأمره أو نهيه التزاماً مع موافقته عملاً، كما لا يخفى.

___________________________________________

{بل إنّما يستحقّها على المخالفة العمليّة} وكذا لا يستحقّ المثوبة على الالتزام، بل على الإطاعة فقط؟

{الحق هو الثّاني، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك} الثّاني الّذي كان عبارة عن عدم وجوب الموافقة الالتزاميّة {و} ذلك ل- {استقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيّده إلّا المثوبة دون العقوبة، ولو لم يكن} عقد قلبه على ذلك فلم يكن {متسلّماً وملتزماً} قلباً {به ومعتقداً ومنقاداً} جناناً {له، وإن كانذلك} أي: عدم التسليم والانقياد قلباً {يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيّده} المطّلع على قلبه {لعدم اتصافه بما يليق أن يتّصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها} قلباً.

{وهذا} الّذي ذكر من إيجابه التنقيص وانحطاط الدرجة {غير استحقاق العقوبة على مخالفته} الّذي هو محلّ البحث الآن {لأمره أو نهيه التزاماً مع موافقته عملاً، كما لا يخفى}.

ولكن الانصاف لزوم الالتزام شرعاً للآيات والرّوايات الكثيرة المشعرة أو المصرّحة:

منها: قوله - تعالى - : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا

ص: 323

___________________________________________

يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا}(1)، فإنّها صريحة في عدم إيمان من يجد في نفسه حرجاً من قضاء الرّسول ولو كان يوافقه عملاً، فكيف بمن لا يلتزم أصلاً به؟

ومنها: قوله - تعالى - : {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ}(2)، ومن المعلوم أنّ الإيمان بالكتاب عبارة عن الالتزام بأحكامها أُصولاً وفروعاً.

ومنها: ما عن أبي عبداللّه(علیه

السلام) أنّه تلا الآية الأُولى فقال: «لو أنّ قوماًعبدوا اللّه ووحّدوه ثمّ قالوا لشيءٍ صنعه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لِمَ صَنَعَ كذا وكذا، أو وجدوا ذلك في أنفسهم، كانوا بذلك مشركين»، ثمّ تلا الآية ثانياً وقال: «هو التسليم في الأُمور»(3).

ومنها: ما عن أبي بصير قال: سألت أبا عبداللّه عن قول اللّه - عزّ وجلّ - : {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا}(4)، قال: «الصّلاة عليه والتسليم له في كلّ شيء جاء به»(5).

ومن المعلوم أنّ أحداً لو قال: أنا لا ألتزم بأحكام النّبيّ(صلی الله علیه و آله) ولكن أُوافقه عملاً لم يكن ممّن يسلم له(صلی الله علیه و آله).

ومنها: ما عن أبي جعفر(علیه السلام) في قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ} الآية، قال: «التسليم الرِّضا والقنوع بقضائه»(6)، إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة في هذه المضامين الّتي

ص: 324


1- سورة النساء، الآية: 65.
2- سورة النساء، الآية: 136.
3- بحار الأنوار 2: 211.
4- سورة الأحزاب، الآية: 56.
5- بحار الأنوار 2: 204.
6- بحار الأنوار 2: 219.

ثمّ لا يذهب عليك: أنّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزاميّة، لو كان المكلّف متمكّناً منها تجب - ولو في ما لا يجب عليه الموافقة القطعيّة عملاً - ولا يحرم المخالفة القطعيّة عليه كذلك أيضاً؛ لامتناعهما، - كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته - ؛ للتمكّن من الالتزام بما هو الثّابت واقعاً، والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثّابت، وإن لم يعلم أنّه

___________________________________________

يجدها الطالب في باب أنّ حديثهم(علیهم السلام) صعب مستصعب في الجزء الأوّل من كتاب البحار(1) مضافاً إلى ما قامت عليه الضّرورة من وجوب الالتزام شرعاً بجميع ما جاء به النّبيّ(صلی الله علیه و آله).

{ثمّ لا يذهب عليك أنّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزاميّة} كما هو الحقّ عندنا {لو كان المكلّف متمكّناً منها تجب - ولو في ما لا يجب عليه الموافقة القطعيّة عملاً - ولا يحرم المخالفة القطعيّة عليه كذلك} عملاً {أيضاً لامتناعهما} أي: المخالفة العمليّة والموافقة العمليّة {كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته} فإنّه لا يتمكّن من الموافقة العمليّة القطعيّة لعدم إمكان اجتماع النّقيضين - أي: كونه فاعلاً وتاركاً - ولا المخالفة العمليّة القطعيّة لعدم إمكان ارتفاع النّقيضين - أي: كونه غير فاعل وغير تارك - . ولا يخفى أنّ في العبارة تسامحاً، إذ لا يعقل المخالفة القطعيّة في صورة دوران الأمر بين المحذورين حتّى يقال: يحرم أو لا يحرم، والمعنى أنّه لا يمكن الموافقة القطعيّة ولا المخالفة القطعيّة. نعم، يمكن أن يكون المثال بالدوران للأوّل ويكون مثال الثّاني هو أطراف الشّبهة غير المحصورة على القول بجواز ارتكاب جميع الأطراف تدريجاً، فتأمّل.

والحاصل: أنّه لا تلازم بين الموافقتين العمليّة والالتزاميّة، فربّما لا يمكن الموافقة العمليّة مع إمكان الموافقة الالتزاميّة فتجب {للتمكّن من الالتزام بما هو الثّابت واقعاً، والانقياد له والاعتقاد به} إجمالاً {بما هو الواقعوالثّابت وإن لم يعلم أنّه}

ص: 325


1- بحار الأنوار 2: 182.

الوجوب أو الحرمة.

وإن أبيت إلّا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه؛ لما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة حينئذٍ ممكنةً، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً؛ فإنّ محذور الالتزام بضدّ التكليف - عقلاً - ، ليس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به بداهةً، مع ضرورة أنّ التكليف - لو قيل باقتضائه للالتزام - لم يكد يقتضي إلّا الالتزام بنفسه عيناً، لا الالتزام به أو بضدّه تخييراً.

ومن هنا

___________________________________________

أي: الواقع {الوجوب أو الحرمة} معيّناً.

{وإن أبيت إلّا عن لزوم الالتزام به} أي: بالحكم {بخصوص عنوانه} حتّى لا يكفي الالتزام الإجمالي {لما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة حينئذٍ ممكنة} وعليه فيقع التلازم بين العمل والالتزام، فحيث أمكنت الموافقة العمليّة أمكنت الالتزاميّة وبالعكس.

{و} إن قلت: كما يكون الشّخص إمّا فاعلاً وإمّا تاركاً فأيّ مانع من أن يلتزم إمّا بالفعل أو بالترك؟

قلت: لو لم يعلم {لما وجب عليه الالتزام بواحد} من الفعل والترك {قطعاً، فإنّ محذور الالتزام بضدّ التكليف - عقلاً - ليس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به بداهة} إلّا أن يقال: بأنّ الالتزام بأحدهما موافقة احتماليّة وعدم الالتزام بهما مخالفة قطعيّة، والموافقة الاحتماليّة أقرب عقلاً منالمخالفة القطعيّة {مع ضرورة أنّ التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام} القلبي {لم يكد يقتضي إلّا الالتزام بنفسه عيناً لا الالتزام به أو بضدّه تخييراً} في ظرف الجهل.

{ومن هنا} الّذي ذكرنا من أنّ لزوم الالتزام - لو قيل به - إنّما يكون في مورد يكون

ص: 326

انقدح: أنّه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانعٌ عن إجراء الأصول - الحكميّة أو الموضوعيّة - في أطراف العلم، لو كانت جارية مع قطع النّظر عنه.

___________________________________________

التكليف معلوماً، لا ما إذا كان التكليف مردّداً {انقدح أنّه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأصول الحكميّة} كأصل البراءة {أو الموضوعيّة} كأصل عدم تعلّق النّذر بالفعل في ما لو شكّ في أنّه نذر فعله أم لا {في أطراف العلم} الإجمالي {لو كانت} تلك الأصول {جارية مع قطع النّظر عنه} أي: عن لزوم الالتزام، فافهم.

توضيح المقام: أنّ الشّيخ(قدس سره) فرّق بين الأصول الحكميّة والأصول الموضوعيّة، بناءً على لزوم الالتزام بالحكم بأنّ الأصول الحكميّة لا تجرّي في أطراف العلم؛ لأنّ جريانها موجب للمخالفة العمليّة، بخلاف الأصول الموضوعيّة، فإنّها تجرّي وتخرج مجراها عن تحت وجوب الالتزام، فقال ما لفظه:

«إنّ الأصول في الموضوعات حاكمة على أدلّة التكليف، فإنّ البناء على عدم تحريم المرأة لأجل البناء بحكم الأصل على عدم تعلّق الحلف بترك وطيها، فهيخارجة عن موضوع الحكم بتحريم وطي من حلف على ترك وطيها، وكذا الحكم بعدم وجوب وطيها، لأجل البناء على عدم الحلف على وطيها، فهي خارجة عن موضوع الحكم بوجوب وطي من حلف على وطيها، وهذا بخلاف الشّبهة الحكميّة، فإنّ الأصل فيها معارض لنفس الحكم المعلوم بالإجمال، وليس مخرجاً لمجراه عن موضوعه حتّى لا ينافيه جعل الشّارع»(1)،

انتهى.

والمصنّف(رحمة الله) أشار إلى عدم الفرق؛ لأنّ لزوم الالتزام لو قيل به فإنّما هو في مورد معلوميّة الحكم، أمّا مع عدم معلوميّته فلا يجب الالتزام. نعم، لا تجري

ص: 327


1- فرائد الأصول 1: 89.

كما لا يدفع بها محذورُ عدم الالتزام به.

بل الالتزام بخلافه لو قيل بالمحذور فيه حينئذٍ أيضاً، إلّا على وجه دائر؛ لأنّ جريانها موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام اللّازم من جريانها، وهو موقوف على جريانها - حسب الفرض - .

___________________________________________

الأصول في مورد العلم الإجمالي لمنافاتها للعلم، ولهذا قال(رحمة الله): «لو كانت جارية مع قطع النّظر عنه».

ثمّ إنّه أشار إلى إشكال ثانٍ على الشّيخ(رحمة الله) القائل بأنّ الأصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي فلا موضوع للزوم الالتزام، بقوله: {كما لا يدفع بها} أي: بالأصول {محذور عدم الالتزام به} أي: بالتكليف - لو كان الالتزام واجباً حتّى في صورة عدم العلم بالتكليف معيّناً - {بل الالتزام بخلافه} أي: بخلاف التكليف، فإنّ البناء على عدم وجوب الوطي وعدم حرمته عبارة أُخرى عن الالتزام بخلاف التكليف؛ لأنّه يعلمبأحدهما قطعاً {لو قيل بالمحذور فيه} أي: في عدم الالتزام {حينئذٍ} أي: حين كان التكليف مردّداً {أيضاً} كما قيل بالمحذور في ما كان التكليف معيّناً {إلّا على وجه دائر}.

والحاصل: أنّه لو قلنا بلزوم الالتزام مطلقاً حتّى في ما كان التكليف مردّداً فإجراء الأصل في الأطراف لا يرفع حكم العقل بوجوب الالتزام - كما التزم به الشّيخ(رحمة الله) - لأنّه لو كان جريان الأصل موجباً لرفع حكم العقل بلزوم الالتزام لزم الدور {لأنّ جريانها} أي: الأصول {موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام اللّازم} صفة «عدم الالتزام» {من جريانها وهو} أي: عدم المحذور {موقوف على جريانها - حسب الفرض -} لأنّ المفروض أنّ جريان الأصل لمحذور عدم الالتزام.

توضيحه: أنّ الأصل إنّما يجري في الأطراف إذا لم يكن في عدم الالتزام محذور، إذ لو كان في عدم الالتزام محذور لم يجر الأصل لكونه لغواً حينئذٍ، فإذا

ص: 328

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ استقلال العقل بالمحذور فيه إنّما يكون في ما إذا لم يكن هناك ترخيص في الإقدام والاقتحام في الأطراف، ومعه لا محذور فيه، بل ولا في الالتزام بحكم آخر.

إلّا أنّ الشّأن حينئذٍ في جواز جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي مع عدم ترتّب أثر عمليّ عليها، مع أنّها أحكام عمليّة كسائر الأحكام الفرعيّة.

___________________________________________

أُريد إثبات عدم المحذور في عدم الالتزام بالأصل لزم الدور، فالأصل يتوقّف على عدم المحذور وعدم المحذور قد يتوقّف على الأصل، وهو دور صريح.أقول: في بعض النّسخ هكذا «كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام به».

{اللّهمّ إلّا أن يقال} في بيان عدم استلزام جريان الأصل للدور: {إِنّ استقلال العقل بالمحذور فيه} أي: في عدم الالتزام - سواء علم التكليف تفصيلاً أم إجمالاً - {إنّما يكون في ما إذا لم يكن هناك ترخيص في الإقدام والاقتحام في الأطراف، ومعه} أي: مع وجود الترخيص {لا محذور فيه} أي: في عدم الالتزام {بل ولا} محذور {في الالتزام بحكم آخر} فعليّ بمقتضى الأصل مغاير للحكم الواقعي المعلوم إجمالاً، فالعلم التفصيلي علّة تامّة للالتزام، بحيث لا يجوز عدم الالتزام في صورة العلم التفصيلي، وأمّا العلم الإجمالي فليس إلّا مقتضياً، فإذا حدث المانع بجريان الأصول فلا يلزم الالتزام {إلّا أنّ الشّأن} أي: الكلام {حينئذٍ} أي: حين تردّد الواقع {في جواز جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي} فوجوب الالتزام - وإن لم يكن مانعاً من جريان الأصول - إلّا أنّها في نفسها لا تجرّي في أطراف العلم {مع عدم ترتّب أثر عمليّ عليها} أي: على الأصول الجارية في أطراف العلم {مع} وضوح {أنّها أحكام عمليّة كسائر الأحكام الفرعيّة} ووجه عدم ترتّب الأثر واضح، إذ لا وجوب للالتزام في أطراف العلم - على ما اختاره المصنّف(رحمة الله) - حتّى يكون أثر الجريان عدم الالتزام، ولا يفيد الجريان شيئاً؛ لأنّ

ص: 329

مضافاً إلى عدم شمول أدلّتها لأطرافه؛ للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها، كما ادّعاه شيخنا العلّامة - أعلىاللّه مقامه(1) - ، وإن كان محلّ تأمّل ونظر، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

المكلّف لا يخلو من الفعل أو الترك، وهذا بخلاف الشّبهة البدويّة، فإنّ جريان الأصل موجب لنفي الاحتياط.

{مضافاً إلى عدم شمول أدلّتها} أي: أدلّة الأصول {لأطرافه} أي: أطراف العلم الإجمالي {للزوم التناقض في مدلولها} أي: مدلول الأدلّة {على تقدير شمولها كما ادّعاه شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه -} بتقريب أنّه لو شمل مثل قوله(علیه السلام): «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه»(2)

لأطراف العلم، بأن كان كلّ واحد من المشتبهين داخلاً في صدر الرّواية لكونه مشكوك الحرمة لزم أن يكون حلالاً للشكّ في حرمته وحراماً للعلم الإجمالي بالحرمة فيشمله الذيل، وكذا لو شمل دليل الاستصحاب لأطراف العلم {وإن كان} ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) {محلّ تأمّل ونظر} لإمكان أن يكون فعليّة الأحكام الواقعيّة موقوفة على العلم التفصيلي، ويكون حال العلم الإجمالي حال الشّبهة البدويّة كما التزموا به في مورد الشّبهة غير المحصورة، فإنّه مع العلم الإجمالي بوجود الحكم قد أذن الشّارع بارتكاب الأطراف - كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه - {فتدبّر جيّداً}.

يمكن أن يكون أشار إلى عدم صحّة قوله: «مع عدم ترتّب أثر عمليّ عليها»لما أشار إليه في هامش قوله: «إلّا أنّ الشّأن حينئذٍ» بما لفظه: «والتحقيق جريانها

ص: 330


1- فرائد الأصول 3: 410.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 341؛ تهذيب الأحكام 9: 79، ومتن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»؛ وفي الكافي 6: 339: «كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه».

الأمر السّادس: لا تفاوت في نظر العقل أصلاً - في ما يترتّب على القطع من الآثار عقلاً - بين أن يكون حاصلاً بنحو متعارف، ومن سبب ينبغي حصوله منه، أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه - كما هو الحال غالباً في القطاع - ؛ ضرورة أنّ العقل يرى تنجّز التكليف بالقطع الحاصل ممّا لا ينبغى حصوله، وصحّة مؤاخذة قاطعه على مخالفته، وعدم صحّة الاعتذار عنها

___________________________________________

لعدم اعتبار شيء في ذلك عدا قابليّة المورد للحكم إثباتاً ونفياً، فالأصل الحكمي يثبت له الحكم تارة كأصالة الإباحة وينفيه أُخرى كاستصحاب عدم الحرمة والوجوب في ما دار بينهما فتأمّل جيّداً»(1)،

انتهى.

[الأمر السّادس حجيّة قطع القطّاع]

المقصد السّادس: في الأمارات، حجيّة قطع القطّاع

{الأمر السّادس} - في بيان حجيّة جميع أقسام القطع - : {لا تفاوت في نظر العقل أصلاً - في ما يترتّب على القطع من الآثار عقلاً -} من تنجيز التكليف وكونه منجّزاً ومعذّراً وغير ذلك {بين أن يكون حاصلاً بنحو متعارف ومن سبب ينبغي حصوله منه، أو} من سبب {غير متعارف} بحيث {لا ينبغي حصوله منه، كما هو الحال غالباً في القطاع} وهو الّذي له حالة وجدانيّة تورث كثرة قطعه.

ولا يخفى أنّ كثير القطع الّذي يكثر قطعه بسبب كثرة اطّلاعه على موجباتالقطع ليس كالقطاع المبحوث عنه، ويمكن أن يكون قوله: «غالباً» إشارة إلى إخراجه، وإن كان الأقرب إرادة إخراج القطع الّذي حصل للقطاع من الأسباب المتعارفة.

وكيف كان، فالقطع حجّة مطلقاً {ضرورة أنّ العقل يرى تنجّز التكليف بالقطع الحاصل ممّا لا ينبغي حصوله، و} كذا يرى {صحّة مؤاخذة قاطعه على مخالفته} عصياناً لو وافق الواقع وتجرّياً لو خالفه {وعدم صحّة الاعتذار عنها} أي: عن المخالفة

ص: 331


1- حقائق الأصول 2: 43.

بأنّه حصل كذلك، وعدم صحّة المؤاخذة مع القطع بخلافه، وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك ولو مع التفاته إلى كيفيّة حصوله.

نعم، ربّما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعاً، والمتّبع - في عمومه وخصوصه - دلالةُ دليله في كلّ مورد، فربّما يدلّ على اختصاصه بقسم في مورد، وعدم اختصاصه به في آخر، على اختلاف الأدلّة واختلاف المقامات،

___________________________________________

{بأنّه} أي: القطع {حصل كذلك} من سبب غير عادي، فلهذا لم يرتّب عليه الأثر {وعدم صحّة المؤاخذة مع القطع بخلافه} أي: لو حصل له القطع بخلاف الواقع فعمل على طبق قطعه {وعدم حسن الاحتجاج} من المولى {عليه} أي: على العبد {بذلك} بأن يقول له: خالفت الواقع بسبب قطعك الحاصل من أسباب غير متعارفة {ولو مع التفاته} أي: العبد {إلى كيفيّة حصوله} وأنّه من أسباب غير متعارف. نعم، إذا حصل له القطع مع النّهي عن سلوك طريقه صحّ عقابه، من غير فرق بين القطاع وغيره؛ لأنّ الامتناع بالاختيارلا ينافي الاختيار. والحاصل: أنّ القطع الطريقي لا يتفاوت فيه الحال أصلاً.

{نعم، ربّما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعاً} أو التزاماً كأن ينذر أنّه إذا حصل له القطع بوجود ولده - بسبب كتابه - أن يعطي الفقير شيئاً فإنّه إذا حصل له القطع بواسطة المخبر يلزم، كما لا يخفى {والمتّبع في عمومه وخصوصه} بأنّ المأخوذ في الموضوع عامّ حتّى يشمل القطع من أيّ سبب كان، أو خاصّ بما إذا حصل من السّبب الفلاني {دلالة دليله} المأخوذ فيه القطع موضوعاً {في كلّ مورد، فربّما يدلّ} الدليل {على اختصاصه} أي: القطع المأخوذ في الموضوع {بقسم في مورد وعدم اختصاصه به في} مورد {آخر على اختلاف الأدلّة واختلاف المقامات}.

ص: 332

بحسب مناسبات الأحكام والموضوعات وغيرها من الأمارات.

وبالجملة: القطعُ في ما كان موضوعاً عقلاً لا يكادُ يتفاوتُ من حيث القاطع، ولا من حيث المورد، ولا من حيث السّبب، لا عقلاً، وهو واضح، ولا شرعاً؛ لما عرفت من أنّه لا تناله يدُ الجعل نفياً ولا إثباتاً، وإن نُسب إلى بعض الأخباريّين:(1)

«أنّه لا اعتبار بما إذا كان بمقدّمات عقليّة» إلّا أنّ مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النّسبة، بل تشهد بكذبها، وأنّها

___________________________________________

وبالجملة فأخذ القطع في الموضوع عموماً أو خصوصاً قد يفهم {بحسبمناسبات الأحكام والموضوعات، و} قد يفهم بحسب {غيرها} أي: غير هذه المناسبات {من} سائر {الأمارات} والقرائن الخارجيّة.

{وبالجملة القطع في ما كان موضوعاً عقلاً} للحجيّة(2) وهو القطع الطريقي المحض {لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع} كأن يكون قطاعاً أو غير قطاع {ولا من حيث المورد} كأن يكون في العبادات أو في المعاملات {ولا من حيث السّبب} كأن يحصل من قول الثّقة أو طيران الغراب {لا عقلاً وهو واضح} كما تقدّم {ولا شرعاً، لما عرفت من أنّه لا تناوله يد الجعل} التشريعي لا {نفياً} بأن يرفع الحجّة عنه {ولا إثباتاً} بأن يجعله حجّة {وإن نسب إلى بعض الأخباريّين} كالأمين الأسترآبادي والسّيّد الجزائري وصاحب الحدائق - قدّس سرّهم - : {«أنّه لا اعتبار بما إذا ك--ان} القطع {بمقدّم-ات عقليّة»، إلّا أنّ مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النّسبة، بل تشهد بكذبها} في العبارة ما لا ينبغي إذا أُريد بالناسب الشيخ(رحمة الله) وأضرابه {وأنّه-ا} أي: كلماتهم

ص: 333


1- منهم المحدّث الأستر آبادي في الفوائد المدنيّة: 255 والمحدّث البحراني في الحدائق الناضرة 1: 132.
2- إذ القطع الطريقي موضوع للآثار كالحجيّة والتنجّز والإعذار ونحوها.

إنّما تكونُ:

إمّا في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء وحكم الشّرع بوجوبه، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي عنالسّيّد الصّدر(1)

في باب الملازمة، فراجع.

وإمّا في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقليّة؛ لأنّها لا تفيد إلّا الظنّ، كما هو صريح الشّيخ المحدّث الأمين الأسترآبادي رحمه الله

___________________________________________

{إنّما تكون في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء وحكم الشّرع بوجوبه} ردّاً على القاعدة المشتهرة «كلّما حكم به العقل حكم به الشّرع، وكلّما حكم به الشّرع حكم به العقل» {كما ينادي به} أي: بمنع الملازمة {بأعلى صوته ما حكي عن السّيّد الصّدر في باب الملازمة، فراجع}.

وقد نقل عبارته المحقّق الشّيخ علي القمّي(رحمة الله) في الحاشية(2).

قال المشكيني(رحمة الله): «لا حاجة لذكره في هذا المقام؛ لأنّه ليس في المنسوب إليه عدم حجيّة القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة، كما لا يخفى. نعم، هو مخالف في باب الملازمة، وأنّه لا ملازمة بين حكم العقل بحسن شيء أو قبحه، وبين حكم الشّرع بوجوبه أو حرمته»(3)

الخ.

{وإمّا في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقليّة؛ لأنّها لا تفيد إلّا الظنّ} والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً {كما هو صريح الشّيخ المحدّث الأمين الأسترآبادي رحمه الله} تعالى.قال المشكيني(رحمة الله): «وأمّا السّيّد فهو أيضاً كذلك؛ لأنّ النّسبة إليه إنّما نشأ من استحسانه كلام الأمين، وكذلك المحدّث البحراني؛ لأنّه نسب إليه من جهة

ص: 334


1- فرائد الأصول 1: 59-60.
2- حاشية الكفاية 2: 16.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 114.

حيث قال - في جملة ما استدلّ به في فوائده على انحصار مدرك ما ليس من ضروريّات الدين في السّماع عن الصّادقين عليهم السلام: «الرّابع: أنّ كلّ مسلك غير ذلك المسلك - يعني التمسّك بكلامهم عليهم الصّلاة والسّلام - إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنّ بحكم اللّه - تعالى - ، وقد أثبتنا سابقاً أنّه لا اعتماد على الظنّ المتعلّق بنفس أحكامه - تعالى - أو بنفيها»(1).

وقال في جملتها أيضاً - بعد ذكر ما تفطّن بزعمه من الدقيقة - ما هذا لفظه: «وإذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشّريفة فنقول: إنّ تمسّكنا بكلامهم(علیهم السلام) فقد عُصمنا من الخطأ، وإن تمسّكنا بغيره لم نعصم عنه، ومن المعلوم أنّ العصمة من الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعاً وعقلاً،

___________________________________________

استحسانه لكلام السّيّد، فراجع»(2)، انتهى.

{حيث قال في جملة ما استدلّ به في} كتاب {فوائده} المدنيّة {على انحصار مدرك ما ليس من ضروريّات الدين في السّماع عن الصّادقين عليهم} الصّلاة و{السّلام} - ما لفظه:{«الرّابع: أنّ كلّ مسلك غير ذلك المسلك، يعني: التمسّك بكلامهم - عليهم الصّلاة والسّلام - إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنّ بحكم اللّه - تعالى - وقد أثبتنا سابقاً أنّه لا اعتماد على الظنّ المتعلّق بنفس أحكامه - تعالى - أو بنفيها»} بأن يدلّ الظنّ على عدم الحكم {وقال في جملتها} أي: جملة ما استدلّ به {أيضاً بعد ذكر ما تفطّن بزعمه من الدقيقة ما هذا لفظه: «وإذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشّريفة فنقول: إن تمسّكنا بكلامهم(علیهم السلام) فقد عصمنا من الخطأ وإن تمسّكنا بغيره لم نعصم عنه، ومن المعلوم أنّ العصمة من الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعاً وعقلاً}.

ص: 335


1- الفوائد المدنيّة: 255.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 116.

ألا ترى أنّ الإماميّة استدلّوا على وجوب العصمة بأنّه لولا العصمة للزم أمره - تعالى - عبادَهُ باتّباع الخطأ، وذلك الأمر محال؛ لأنّه قبيح؟ وأنت إذا تأمّلت في هذا الدليل علمت أنّ مقتضاه أنّه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظنّي في أحكامه - تعالى - »(1)

انتهى موضع الحاجة من كلامه.

وما مهّده من الدقيقة هو الّذي نقله شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - في الرّسالة(2).

___________________________________________

ثمّ استدلّ على مرغوبيّة العصمة عن الخطأ شرعاً وعقلاً بقوله: {ألا ترى أنّ الإماميّة استدلّوا على وجوب العصمة} في النّبيّ والإمام {بأنّه لولا العصمة للزم أمره - تعالى - عباده باتّباع الخطأ} لأنّه(علیه السلام) إذا لم يكن معصوماً أمكن خطاؤه فإذا أخطأ وجب على الأُمّة اتّباعه لقوله - سبحانه - : {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(3)، {وذلك الأمر} من اللّه تعالى، باتّباع الخطأ {محال؛ لأنّه قبيح} ووجه دلالة هذا الكلام على مطلوبيّة العصمة من الخطأ أنّه لو لم تكن مطلوبة لم يكن مانع عن الخطأ في النّبيّ والإمام، لكن القبح المانع عن الخطأ يدلّ على مطلوبيّة عدمه، فتدبّر.

{وأنت إذا تأمّلت في هذا الدليل علمت أنّ مقتضاه أنّه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظنّي في أحكامه - تعالى - » انتهى موضع الحاجة من كلامه} فقوله: «إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنّ» وقوله: «علمت أنّ مقتضاه» الخ، يدلّان على أنّ مراده عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقليّة، لإفادتها الظنّ، كما تقدّم {وما مهّده من الدقيقة هو الّذي نقله شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - في الرّسالة} فلا حاجة إلى تكراره، وقد نقله العلّامة الرّشتي في حاشيته أيضاً.

ص: 336


1- الفوائد المدنيّة: 259.
2- فرائد الأصول 1: 52.
3- سورة النساء، الآية: 59.

وقال في فهرست فصولها أيضاً: «الأوّل: في إبطال جواز التمسّك بالاستنباطات الظنيّة في نفس أحكامه - تعالى شأنه - ووجوب التوقّف عند فقد القطع بحكم اللّه،أو بحكم ورد عنهم(علیهم السلام)»(1)،

انتهى.

وأنت ترى أنّ محلّ كلامه ومورد نقضه وإبرامه هو العقلي الغيرُ المفيد للقطع، وإنّما همّه إثبات عدم جواز اتّباع غير النّقل في ما لا قطع.

وكيف كان، فلزوم اتّباع القطع مطلقاً، وصحّةُ المؤاخذة على مخالفته عند إصابته، وكذا ترتّب سائر آثاره عليه عقلاً، ممّا لا يكاد يخفى على عاقلٍ، فضلاً عن فاضل.

فلا بدّ في ما يوهم خلاف ذلك في الشّريعة،

___________________________________________

{وقال} الأمين(رحمة الله) {في فهرست فصولها} أي: فصول الفوائد المدنيّة {أيضاً: «الأوّل: في إبطال جواز التمسّك بالاستنباطات الظنيّة في نفس أحكامه تعالى شأنه، ووجوب التوقّف عند فقد القطع بحكم اللّه أو بحكم ورد عنهم(علیهم السلام)»، انتهى} وهذا أيضاً يدلّ على المطلّب.

{وأنت ترى أنّ محلّ كلامه ومورد نقضه وإبرامه هو العقلي الغير المفيد للقطع وإنّما همّه إثبات عدم جواز اتّباع غير النّقل في ما لا قطع}.

{وكيف كان} سواء صحّت النّسبة أم لا {ف-} الصّحيح هو ما ذكرنا من أنّ {لزوم اتّباع القطع مطلقاً وصحّة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته} للمعصية وعند عدم إصابته للتجرّي {وكذا ترتّب سائر آثاره عليه عقلاً ممّا لا يكاد يخفى على عاقل،فضلاً عن فاضل} وقد بالغ الحاج النّوري(قدس سره) في تتمّة المستدرك في الذبّ عن الأخباريّين، فراجع(2) {فلا بدّ في ما يوهم خلاف ذلك في الشّريعة} المقدّسة ممّا ذكر الشّيخ المرتضى(رحمة الله) في أوّل الرّسائل كثيراً من أمثلتها

ص: 337


1- الفوائد المدنيّة: 32.
2- مستدرك الوسائل، الخاتمه 9: 301.

من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي لأجل منع بعض مقدّماته الموجبة له، ولو إجمالاً، فتدبّر جيّداً.

الأمر السّابع: أنّه قد عرفت كونَ القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علّة تامّة لتنجّزه، لا يكاد تناله يدُ الجعل إثباتاً أو نفياً، فهل القطع الإجمالي كذلك؟

فيه إشكال.

___________________________________________

{من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي} وعدم حصول العلم {لأجل منع بعض مقدّماته} أي: مقدّمات القطع {الموجبة} تلك المقدّمات {له} أي: للقطع {ولو} كان المنع {إجمالاً} كأن يقال: لا يحصل العلم إمّا لعدم شرطه الفلاني، أو لعدم شرطه الآخر، وهكذا {فتدبّر جيّداً} وراجع الرّسائل حتّى يتّضح لك(1)،

واللّه - تعالى - الموفّق.

[الأمر السّابع حجيّة العلم الإجماليّ]

المقصد السّادس: في الأمارات، حجيّة العلم الإجماليّ

{الأمر السّابع} - في العلم الإجمالي - : {أنّه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي} لا الشّأني والاقتضائي {علّة تامّة لتنجّزه} أي: تنجّز ذلك التكليففيكون معذّراً عند الخطأ ومنجّزاً عند الإصابة، وعرفت أيضاً أنّه {لا يكاد تناله يد الجعل إثباتاً} بأن يجعل المولى القطع حجّة {أو نفياً} بأن يرفع الحجيّة عنه {فهل القطع الإجمالي} بالتكليف - كأن يقطع بنجاسة أحد الإناءين - والمراد بالقطع الإجمالي هو ما كان متعلّقه مجملاً، فهو في الحقيقة مركّب من علم تفصيلي بأصل التكليف وجهل تفصيلي بمتعلّقه {كذلك} موجب للتنجّز؟ {فيه إشكال} فذهب بعضهم إلى عدم تنجّزه مطلقاً، وبعضهم إلى التنجّز كذلك، وبعض فصّل فجعله، كالقطع التفصيلي في الاقتضاء دون العليّة التامّة.

ص: 338


1- فرائد الأصول 1: 51.

لا يبعد أن يقال: إنّ التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف، وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظةً، جاز الإذنُ من الشّارع بمخالفته احتمالاً، بل قطعاً.

ومحذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً، إنّما هو محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشّبهة الغير المحصورة، بل الشّبهة البدويّة.

___________________________________________

{لا يبعد أن يقال:} إنّه ليس كالعلم التفصيلي أصلاً، ف- {إنّ التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف} بل كان مجملاً من حيث المتعلّق {وكانت مرتبة الحكم الظاهري} وهي الجهل بالتكليف الواقعي {معه} أي: مع العلم الإجمالي {محفوظة} منتهى الأمر وجود العلم الإجمالي في المقام دون الشّبهة البدويّة {جاز الإذن من الشّارع بمخالفته احتمالاً} بأن يقول: يجوز لك ارتكاب بعض أطراف المشتبه بالنجس، أو يجوز لك ترك بعض أطراف الواجب بالإجمال {بل قطعاً} بأن يبيحارتكاب تمام الأطراف في المشتبه بالحرام وترك تمام الأطراف في المشتبه بالواجب.

{و} إن قلت: لا يمكن الإذن من الشّارع بالمخالفة ل- {محذور مناقضته} أي: الإذن {مع المقطوع إجمالاً} فإنّه على الفرض لم يرفع الشّارع يده عن المعلوم بالإجمال، فلو قال: يجب عليك اجتناب الخمر المشتبهة بين الإناءين ويجوز لك شرب كليهما كان مناقضاً، وهو محال.

قلت: لا تناقض، بل {إنّما هو} من باب {محذور مناقضة الحكم الظاهري مع} الحكم {الواقعي في الشّبهة الغير المحصورة، بل الشّبهة البدويّة} فإنّه لو كان المشتبه بالشبهة البدويّة مخالفاً للواقع - مثل أن يكون مشكوك الطهارة نجساً - كان قاعدة «كلّ شيء لك نظيف» الشّاملة لهذا النّجس مستلزماً للتناقض؛ لأنّ المولى لم يرفع اليد عن نجاسته لكونه بولاً مثلاً ومع ذلك أجاز في ارتكابه، وكذا لو اشتبه النّجس بين أفراد غير محصورة وأجاز المولى ارتكاب بعض الأطراف

ص: 339

لا يقال: إنّ التكليف فيهما لا يكون بفعلي.

فإنّه يقال: كيف المقال في موارد ثبوته في أطراف غير محصورة، أو في الشّبهات البدويّة، مع القطع به

___________________________________________

وكان في الواقع هذا الطرف الّذي يرتكبه المكلّف نجساً، أو ارتكب جميع الأطراف تدريجاً - على القول بجوازه - فإنّه يوجب المناقضة.

وما أُجيب به في الشّبهة البدويّة وغير المحصورة في وجه تصحيح جعل الأمارة والطريق في قبال جعل الواقع، هو الجواب في ما نحن فيه الّذي هو عبارةعن تجويز ارتكاب أطراف الشّبهة المحصورة.

والحاصل: أنّ الشّبهة البدويّة وغير المحصورة والمحصورة كلّها من وادٍ واحدٍ، فكما يجوز إذن ارتكاب الأوّلين يجوز في الأخير وهذا بخلاف ما إذا حصل العلم التفصيلي بالواقع، فإنّه حيث لم تكن مرتبة الحكم الظاهري محفوظة لم يعقل جعل الحكم الظاهري في قبال الواقع.

{لا يقال}: فرق بين الشّبهة البدويّة وغير المحصورة وبين الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، ف- {إنّ التكليف فيهما} أي: في البدويّة وغير المحصورة {لا يكون بفعلي} بل التكليف إنشائي فقط، فلا مانع من جعل الحكم الفعلي على خلافه لعدم التنافي بين الحكم الإنشائي والحكم الفعلي، لما تقرّر في الجمع بين الحكم الظاهري الفعلي والواقعي الإنشائي، بخلاف المقرونة بالعلم الإجمالي، فإنّ التكليف الواقعي فيهما فعليّ لتعلّق العلم به الموجب لفعليّته، فلا يجتمع مع تكليف فعليّ ظاهري على خلافه لعدم إمكان اجتماع حكمين فعليّين متخالفين.

{فإنّه يقال}: لا فرق بين الموردين، فإنّه وإن كان الحكم الظاهري بلا معارض في الطرف الّذي لم يصادف الواقع، ولكن {كيف المقال في موارد ثبوته} أي: ثبوت التكليف الواقعي {في أطراف غير محصورة أو في الشّبهات البدويّة مع القطع به} أي:

ص: 340

أو احتماله، أو بدون ذلك؟ ضرورةَ عدم تفاوت في المناقضة بينهما بذلك أصلاً. فما به التفصّي عن المحذور فيهما، كان به التفصّي عنه في القطع به في الأطراف المحصورة أيضاً، كما لا يخفى. وقد أشرنا إليه سابقاً ويأتي إن شاء اللّه مفصّلاً.

نعم، كان العلم الإجمالي كالتفصيلي فيمجرّد الاقتضاء، لا في العليّة التامّة،

___________________________________________

بالتكليف كما في الشّبهة غير المحصورة {أو} مع {احتماله} كما في الشّبهة البدويّة مع التفات المكلّف إلى إمكان وجود التكليف في هذا المورد الّذي يجري الأصل فيه {أو بدون ذلك} القطع والاحتمال، كما في الشّبهة البدويّة مع غفلة المكلّف عن إمكان وجود التكليف الواقعي فيه أو علمه بعدم التكليف - جهلاً مركّباً - فما كان جواب المناقضة بين الحكم الواقعي والظاهري في الشّبهة البدويّة وغير المحصورة هو جواب المناقضة بين الحكمين في الشّبهة المحصورة.

{ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بينهما} أي: بين الشّبهة البدويّة وغير المحصورة وبين الشّبهة المقرونة بالعلم {بذلك} أي: بوجود العلم في الثّاني دون الأوّل {أصلاً، فما به التفصّي عن المحذور} أي: محذور المناقضة {فيهما} أي: في البدويّة وغير المحصورة {كان به التفصّي عنه} أي: عن المحذور {في القطع به} أي: بالتكليف {في الأطراف المحصورة أيضاً، كما لا يخفى} بأدنى تأمّل {وقد أشرنا إليه} أي: إلى التفصّي عن محذور المناقضة {سابقاً} في ذيل الأمر الرّابع {ويأتي إن شاء اللّه مفصّلاً} في بيان جعل الأمارات.

وحاصل الجواب: هو أنّ الحكم الواقعي فعليّ تعليقي، بمعنى أنّه لو علم به لتنجّز فمع عدم العلم لا تنجّز، فلا يريده المولى منه فعلاً، والحكم الظاهري فعليّ حتميّ فلا مناقضة بينهما أصلاً.

{نعم} ليس العلم الإجمالي كالشبهة البدويّة وغير المحصورة مطلقاً، بل{كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء، لا في العليّة التامّة} ومعنى الاقتضاء

ص: 341

فيوجب تنجّز التكليف أيضاً لو لم يمنع عنه مانع عقلاً، كما كان في أطراف كثيرة غير محصورة، أو شرعاً، كما في ما أذن الشّارع في الاقتحام فيها، كما هو ظاهر: «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه»(1).

وبالجملة: قضيّة صحّة المؤاخذة على مخالفته، مع القطع به بين أطراف محصورة، وعدم صحّتها مع عدم حصرها، أو مع الإذن في الاقتحام فيها هو: كونُ القطع الإجمالي مقتضياً للتنجّز، لا علّة تامّة.

___________________________________________

هو لزوم العمل على طبقه لولا الإذن الشّرعي في الترك، مع إمكان الإذن في الترك بخلاف العليّة التامّة، فإنّ معناها لزوم العمل على طبق التكليف ولا يكون قابلاً للإذن الشّرعي في الترك، فالعلم الإجمالي كالتفصيلي {فيوجب} الإجمالي {تنجّز التكليف أيضاً} كالتفصيلي {لو لم يمنع عنه} أي: عن التنجّز {مانع عقلاً، كما كان} المانع العقلي عن التنجّز {في أطراف كثيرة غير محصورة} لعدم محرّكيّة التكليف: إمّا لعدم القدرة، أو لعدم الابتلاء، أو لغير ذلك، ممّا سيجيء الكلام فيه مفصّلاً - إن شاء اللّه تعالى - {أو شرعاً} أي: لم يمنع عن التنجّز - في أطراف العلم - مانع شرعي {كما في ما أذن الشّارع في الاقتحام فيها} أي: في الأطراف {كما هو} أي: أذن الشّارع في الاقتحام {ظاهر} قوله(علیه السلام): {«كلّ شيء فيه حلالوحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه»} فإنّه يشمل أطراف المعلوم بالإجمال في الشّبهة المحصورة، إلّا أن يقال بلزوم التناقض بين الصّدر والذيل في الحديث.

{وبالجملة قضيّة صحّة المؤاخذة على مخالفته} أي: مخالفة التكليف الواقعي {مع القطع به بين أطراف محصورة، وعدم صحّتها} أي: صحّة المؤاخذة على المخالفة {مع عدم حصرها} أي: حصر الأطراف - أعني: الشّبهة غير المحصورة - {أو مع الإذن في الاقتحام فيها} كالشبهة البدويّة، و{هو كون القطع الإجمالي مقتضياً للتنجّز لا علّة تامّة}

ص: 342


1- وسائل الشيعة 17: 87، مع اختلاف يسير.

___________________________________________

أمّا كونه مقتضياً فلصحّة المؤاخذة؛ لأنّه لو لم يكن مقتضياً لم تصحّ مؤاخذته، وأمّا عدم كونه علّة فلإمكان إذن الشّارع في الإقدام، فإنّه لو كان علّة تامّة لم يصحّ الإذن على خلافه. فتحصّل أنّ مقتضى الجمع بين هاتين المقدّمتين: - الأُولى صحّة المؤاخذة على المخالفة، كما يحكم العقل بذلك في المحصورة. الثّانية جواز إذن الشّارع في الإقدام، كما في البدويّة وغير المحصورة - هو أنّ العلم الإجمالي مقتضٍ لتنجّز التكليف لا علّة تامّة، فتدبّر.

وقد علّق المصنّف على هامش قوله: «كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء لا في العليّة التامّة» ما لفظه: «لكنّه لا يخفى أنّ التفصّي عن المناقضة - على ما يأتي - لما كان بعدم المنافاة والمناقضة بين الحكم الواقعي - ما لم يصر فعليّاً - والحكم الظاهري الفعلي كان الحكم الواقعي في موارد الأصول والأمارات المؤدّية إلى خلافه لا محالة غير فعلي، فحينئذٍ فلا يجوّز العقل مع القطع بالحكم الفعلي الإذن في مخالفته، بل يستقلّ مع قطعه ببعث المولى أو زجره ولو إجمالاً بلزومموافقته وإطاعته.

نعم، لو عرض بذلك عسر موجب لارتفاع فعليّته شرعاً أو عقلاً، كما إذا كان مخلّاً بالنظام فلا تنجّز حينئذٍ، لكنّه لأجل عروض الخلل في المعلوم لا لقصور العلم عن ذلك، كما كان الأمر كذلك في ما إذا أذن الشّارع في الاقتحام، فإنّه أيضاً موجب للخلل في المعلوم لا المنع عن تأثير العلم شرعاً، وقد انقدح بذلك أنّه لا مانع عن تأثيره شرعاً أيضاً، فتأمّل جدّاً»(1)، انتهى.

وهذا رجوع عمّا في المتن وموافقة للشيخ(قدس سره)، إذ حاصله عدم الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي في أنّ كلّاً منهما علّة تامّة للتنجّز، لا كما ذكر

ص: 343


1- حقائق الأصول 2: 51؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 126.

وأمّا احتمال أنّه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعيّة، وبنحو العليّة بالنسبة إلى الموافقة الاحتماليّة وترك المخالفة القطعيّة، فضعيف جدّاً؛ ضرورة أنّ احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة،

___________________________________________

في المتن من أنّ العلم مقتضٍ للتنجّز بحيث يمكن الإذن في الاقتحام.

{وأمّا احتمال أنّه} أي: العلم الإجمالي {بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعيّة} فيجب الموافقة القطعيّة عقلاً إلّا إذا أذن الشّارع في الاقتحام في بعض الأطراف {وبنحو العليّة بالنسبة إلى الموافقة الاحتماليّة} كما ذهب إليه الشّيخ(رحمة الله) فتجب الموافقة الاحتماليّة قطعاً ولا يصحّ للشارع الإذن في ترك الموافقة الاحتماليّة - بأنيترك جميع الأطراف في الشّبهة الوجوبيّة - ويقتحم في جميع الأطراف الشّبهة التحريميّة {وترك المخالفة القطعيّة} عطف بيان للموافقة الاحتماليّة {فضعيف جدّاً، ضرورة} أنّ إذن الشّارع في أحد الأطراف مثل إذنه في جميع الأطراف، فكما يجوز له الإذن في المخالفة الاحتمالية كذلك يصحّ له الإذن في المخالفة القطعيّة بلا تفاوت أصلاً، إلّا أنّ الإذن في المخالفة الاحتماليّة مستلزم لاحتمال التناقض والإذن في المخالفة القطعيّة مستلزم لليقين بالتناقض.

ولكن هذا المقدار من التفاوت غير مستوجب للإذن في أحدهما دون الآخر لبداهة {أنّ احتمال ثبوت المتناقضين} اللّازم من المخالفة الاحتماليّة {كالقطع بثبوتهما} أي: المتناقضين اللّازم من المخالفة القطعيّة {في الاستحالة} إذ كما نقطع بأنّ المولى لا يتناقض في حكمه، كذلك لا نحتمل أن يتناقض المولى، إذ التناقض المحتمل مثل التناقض المقطوع فما كان مستلزماً لاحتمال تناقض المولى - كالإذن في المخالفة الاحتماليّة - مثل ما كان مستلزماً للقطع بتناقض المولى - كالإذن في المخالفة القطعيّة - مستحيل.

وإذ قد تبيّن أنّ التناقض المحتمل كالتناقض المتيقّن غير متصوّر صدوره عن

ص: 344

فلا يكون عدم القطع بذلك معها موجباً لجواز الإذن في الاقتحام، بل لو صحّ معها الإذن في المخالفة الاحتماليّة، صحّ في القطعيّة أيضاً، فافهم.

ولا يخفى: أنّ

___________________________________________

المولى، فاللّازم أحد أمرين:الأوّل: عدم جواز الإذن في المخالفة الاحتماليّة كعدم جوازه في المخالفة القطعيّة - كما ذهب إليه بعض - فيكون العلم الإجمالي علّة تامّة بالنسبة إلى كلّ من الموافقة الاحتماليّة والموافقة القطعيّة.

الثّاني: جواز الإذن في المخالفة القطعيّة كجوازه في المخالفة القطعيّة - كما ذهب إليه آخرون - لعدم تنجّز الواقع بالعلم الإجمالي، فيكون مقتضياً بالنسبة إلى كلّ من الموافقة القطعيّة والاحتماليّة.

والحاصل: أنّهما من واد واحد {فلا} وجه للتفصيل إذ لا {يكون عدم القطع بذلك} التناقض {معها} أي: مع المخالفة الاحتماليّة {موجباً لجواز الإذن في الاقتحام} في بعض الأطراف {بل لو صحّ معها} أي: مع المناقضة الاحتماليّة {الإذن في المخالفة الاحتماليّة صحّ} الإذن بالاقتحام {في} جميع الأطراف المستلزم للمناقضة {القطعيّة أيضاً، فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى ما ذكره في الهامش الّذي تقدّم نقله.

ويحتمل أن يكون إشارة إلى أنّ الإذن في المخالفة القطعيّة لا يقع مورداً لتصديق العبد لما يرى من المناقضة، بخلاف الإذن في المخالفة الاحتماليّة؛ لأنّ احتمال المكلّف كون الواقع في الطرف الآخر موجب لتصديقه، فالفارق بين المقامين إمكان تصديق المكلّف جواز المخالفة الاحتماليّة وعدم إمكان تصديقه جواز المخالفة القطعيّة.

{ولا يخفى أنّ} الشّيخ المرتضى(رحمة الله) ذكر في الرّسائل أنّ لتأثير العلم الإجمالي

ص: 345

المناسب للمقام هو البحث عن ذلك، كما أنّ المناسب في باب البراءة والاشتغال - بعد الفراغ هاهنا عن أنّ تأثيره في التنجّز بنحو الاقتضاء لا العليّة - هوالبحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلاً، وعدم ثبوته، كما لا مجال - بعد البناء على أنّه بنحو العلّيّة - للبحث عنه هناك أصلاً، كما لا يخفى.

___________________________________________

مرتبتين:

الأُولى: حرمة المخالفة القطعيّة، والثّانية: وجوب الموافقة القطعيّة، فجعل البحث عن الأُولى بباب القطع، وعن الثّانية بباب البراءة والاشتغال، والمصنّف(رحمة الله) أشار إلى أنّ {المناسب للمقام} الّذي هو مقام البحث عن أحوال القطع {هو البحث عن ذلك} وأنّه هل تأثير القطع في تنجّز التكليف بنحو العليّة المستلزم لوجوب الموافقة القطعيّة، أو بنحو الاقتضاء المستلزم لحرمة المخالفة القطعيّة، لا أن يجعل وجوب الموافقة القطعيّة في باب، وحرمة المخالفة القطعيّة في باب آخر {كما أنّ المناسب في باب البراءة والاشتغال - بعد الفراغ هاهنا} في مبحث القطع {عن أنّ تأثيره في التنجّز بنحو الاقتضاء لا العليّة - هو البحث عن ثبوت المانع} عن اقتضاء العلم الإجمالي للتنجّز {شرعاً أو عقلاً وعدم ثبوته} وإنّما كان المناسب في باب البراءة التكلّم عن المانع؛ لأنّ المانع مقتضٍ للبراءة عن بعض أطراف العلم {كما} لا يخفى.

ووجه تقييده المطلب بقوله: «بعد الفراغ» الخ، ما أشار إليه من أنّه {لا مجال بعد البناء على أنّه} أي: تأثير العلم للتنجّز {بنحو العلّيّة} التامّة {للبحث عنه} أي: عن المانع {هناك} في باب البراءة والاشتغال {أصلاً} إذ لو كان العلم علّة لا يعقل وجود المانع شرعاً أو عقلاً {كما لا يخفى}.فتحصّل أنّ المناسب في باب القطع التكلّم حول أنّ العلم الإجمالي علّة أو مقتضٍ أم ليس بأحدهما، واللّازم على العلّيّة أو عدم الاقتضاء أن لا يبحث في

ص: 346

هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجّزه به.

وأمّا سقوطه به بأن يوافقه إجمالاً: فلا إشكال فيه في التوصليّات.

___________________________________________

باب البراءة والاشتغال عنه أصلاً.

نعم، لو بنى في باب القطع على الاقتضاء كان اللّازم التكلّم في باب البراءة عن المانع الشّرعي أو العقلي عن هذا الاقتضاء.

{هذا} كلّه {بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجّزه به} أي: بالعلم الإجمالي {وأمّا} الكلام بالنسبة إلى {سقوطه} أي: سقوط التكليف {به} أي: بالعلم الإجمالي {بأن يوافقه إجمالاً} كأن يأتي بإناءين في ما علم وجوب الإتيان بأحدهما معيّناً أو يصلّي صلاتين في ما وجبت عليه صلاة واحدة {ف-} فيه تفصيل، وهو إنّه إمّا يتمكّن من الامتثال التفصيلي أم لا، لا إشكال في ما لم يتمكّن من التفصيلي، إلّا ما ربّما ينقل عن الحلّي من القول بوجوب الصّلاة عارياً حين اشتباه الثّوب(1)، وهو شاذّ.

وأمّا مع التمكّن فالمأمور به إمّا أن يكون توصّليّاً وإمّا أن يكون تعبّديّاً، والتوصّلي إمّا أن يحتاج إلى الإنشاء كالعقود والإيقاعات، وإمّا أن لا يحتاج كالتطهير ونحوه، والتعبّدي إمّا أن يحتاج إلى التكرار أم لا {لا إشكال فيه في التوصليّات} الّتي لا تحتاج إلى قصد الإنشاء؛ لأنّالمطلوب هو صدور الفعل في الخارج ولو عن غير ذي شعور، فلو ألقت الرّيح الثّوب النّجس في الماء ثمّ رفعته كفى.

وأمّا التوصليّات المحتاجة إلى قصد الإنشاء فربّما أشكل فيه من جهة عدم تمشّي قصد الإنشاء في صورة عدم العلم بوقوع المطلوب بهذه الصّيغة في ما اشتبهت صيغة العقد بين اثنتين.

ص: 347


1- السرائر 1: 185.

وأمّا في العباديّات: فكذلك في ما لا يحتاج إلى التكرار، كما إذا تردّد أمرُ عبادة بين الأقلّ والأكثر؛ لعدم الإخلال بشيء ممّا يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها - ممّا لا يمكن أن يؤخذ فيها؛ لكونه نشأ من قبل الأمر بها، كقصد الإطاعة والوجه والتمييز - في ما إذا أتى بالأكثر،

___________________________________________

والجواب: أنّ الإنشاء خفيف المؤونة فيحصل بكلّ منهما، فالمصادف للواقع من الصّيغتين موجب لانعقاد العقد والآخر لغو.

{وأمّا في العباديّات فكذلك} لا إشكال فى السّقوط بالموافقة الإجماليّة {في ما لا يحتاج إلى التكرار} بأن دار الأمر بين الأقلّ والأكثر {كما إذا تردّد أمر عبادة} كالصلاة {بين} كونها بلا سورة حتّى يكون {الأقلّ} واجباً {و} كونها مع السّورة حتّى يكون {الأكثر} واجباً، فإنّ الاحتياط بإتيان السّورة لا يوجب التكرار.

وإنّما قلنا بعدم الإشكال في جواز الاحتياط حينئذٍ {لعدم الإخلال} بواسطة الإتيان بالجزء المشكوك {بشيء ممّا يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها} أي: منهذه العبادة {ممّا لا يمكن أن يؤخذ فيها} بيان لقوله: «ممّا يعتبر» الخ.

وعلّل قوله: «لا يمكن أن يؤخذ فيها» بقوله: {لكونه} أي: لكون ذلك الأمر المعتبر أو محتمل الاعتبار {نشأ من قبل الأمر بها} ومن الواضح أنّ ما ينشأ من قبل الأمر بالعبادة لا يعقل أن يؤخذ في العبادة، كما تقدّم في مسألة الأمر {كقصد الإطاعة، والوجه} أي: الوجوب والنّدب {والتمييز} ككونها ظهراً أم غيره، أداءً أو قضاءً، عن نفسه أم عن غيره {في ما إذا أتى بالأكثر} متعلّق بقوله: «لعدم الإخلال».

والحاصل: أنّ الإتيان بالأكثر - احتياطاً - لا يخلّ بقصد الإطاعة والوجه والتمييز، إذ المفروض أنّ إتيانه بأصل الصّلاة مقترن بجميع هذه الأُمور المعتبرة

ص: 348

ولا يكون إخلالٌ حينئذٍ إلّا بعدم إتيان ما احتمل جزئيّته على تقديرها بقصدها، واحتمالُ دخل قصدها في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النّهاية.

وأمّا في ما احتاج إلى التكرار: فربّما يشكل من جهة الإخلال بالوجه تارةً، وبالتميز أُخرى، وكونه لعباً وعبثاً ثالثة.

___________________________________________

كقصد الإطاعة، والمحتمل اعتباره كقصد الوجه والتمييز {ولا يكون إخلال حينئذٍ} أي: حين الإتيان بالأكثر {إلّا بعدم إتيان ما احتمل جزئيّته} كالسورة {على تقديرها} أي: على تقدير جزئيّتها واقعاً {بقصدها} أي: بقصد الجزئيّة.والحاصل: أنّ الإخلال المتصور هو أنّه لم يأت بالسورة بقصد الجزئيّة {و} هذا غير مخلّ قطعاً، إذ لا يخلو إمّا أن تكون السّورة جزءاً واقعاً وإمّا أن لا تكون جزءاً، لا إشكال على الثّاني بداهة، وأمّا على الأوّل فإن كان قصد الجزئيّة - حتّى في حال عدم العلم بالجزئيّة - واجباً كان مخلّاً كما توهّم لكن ليس كذلك، إذ {احتمال دخل قصدها} أي: قصد الجزئيّة {في حصول الغرض} من العبادة {ضعيف في الغاية وسخيف إلى النّهاية} فإنّه ليس على اعتباره دليل عقليّ أو شرعي.

{وأمّا في ما احتاج إلى التكرار} كما لو اشتبه القبلة بين الجوانب مع التمكّن من الفحص {فربّما يشكل} في ترك الطريقتين والعمل بالاحتياط بالتكرار {من جهة الإخلال بالوجه تارةً} لأنّه لا يدري أنّ ما بيده واجبة - لكونها مواجهة للقبلة - أم لا {وبالتمييز أُخرى} لأنّه لم يميّز المأمور به عن غيره مع أنّ قصد الوجه والتمييز معتبران في العبادة {وكونه لعباً وعبثاً ثالثة} وهو ينافي كونها إطاعة وعبادة، مثل ما لو أمر عبده بإتيان كتاب معيّن من المكتبة وكان العبد متمكّناً من تعيينه فلم يعيّنه وأتى بجميع كتب المكتبة، فإنّه يعدّ عند العقلاء لاعباً بأمر المولى مستهزءاً مستحقّاً للعقوبة، ومع هذا كيف يصدق عليه عنوان الإطاعة المعتبرة في العبادات قطعاً؟

ص: 349

وأنت خبير بعدم الإخلال بالوجه بوجهٍ في الإتيان - مثلاً - بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه، غاية الأمر أنّه لا تعيين له ولا تمييز، فالإخلال إنّما يكون به.

واحتمال اعتباره أيضاً في غاية الضّعف؛ لعدم عين منه ولا أثر في الأخبار، مع أنّه ممّا يغفل عنه غالباً، وفي مثله لا بدّ منالتنبيه على اعتباره ودخله في الغرض، وإلّا لأخلّ بالغرض، كما نبّهنا عليه سابقاً.

___________________________________________

{وأنت خبير بعدم} صحّة هذه الإشكالات لعدم {الإخلال بالوجه} لو كان معتبراً فرضاً {بوجهٍ} من الوجوه أصلاً {في الإتيان مثلاً بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه} متعلّق ب-«الإتيان»، لوضوح أنّه يأتي بالصلاة المواجهة للقبلة - المردّدة بين هاتين - لوجوبها لا لداعٍ آخر، فالغرض من الإتيان هو الوجوب والأمر المولوي، بل ربّما يقال: إنّ هذا أفضل من الآتي بنفس الصّلاة المعلومة؛ لأنّه يحرّكه الأمر وهذا يحرّكه احتمال الأمر {غاية الأمر أنّه لا تعيين له} أي: للمأمور به {ولا تمييز} عطف بيان {فالإخلال إنّما يكون به} فقط {واحتمال اعتباره} أي: التمييز {أيضاً} كاحتمال اعتبار الوجه {في غاية الضّعف لعدم عين منه ولا أثر في الأخبار}.

إن قلت: لعلّهم(علیهم السلام) اكتفوا عن الاشتراط بمركوزيّته في الأذهان، فيكون الإطلاق منصرفاً إليه.

قلت: كيف يصحّ الإيكال إلى الأذهان {مع أنّه ممّا يغفل عنه} العامّة {غالباً و} من المعلوم أنّ {في مثله} أي: مثل التمييز الّذي يغفل عنه العامّة {لا بدّ من التنبيه على اعتباره ودخله في الغرض} لو كان دخيلاً {وإلّا} ينبّه المولى عليه مع دخله في الغرض - في صورة غفلة العامّة - {لأخلّ بالغرض} وهو قبيح لا يصدر من الحكيم، فعدم التنبيه دليل إنّيّ يكشف عن عدم دخله {كما نبّهنا عليه سابقاً} في مبحثالأوامر.

ص: 350

وأمّا كون التكرار لعباً وعبثاً : - فمع أنّه ربّما يكون لداعٍ عقلائي - ، إنّما يضرّ إذا كان لعباً بأمر المولى، لا في كيفيّة إطاعته بعد حصول الداعي إليها، كما لا يخفى.

هذا كلّه في قبال ما إذا تمكّن من القطع تفصيلاً بالامتثال.

وأمّا إذا لم يتمكّن إلّا من الظنّ به كذلك: فلا إشكال في تقديمه

___________________________________________

{وأمّا كون التكرار لعباً وعبثاً فمع أنّه} ليس التكرار مطلقاً كذلك، إذ {ربّما يكون لداع عقلائي} كما إذا كان في بريّة واشتبه عليه القبلة ولكن يتمكّن من الرّجوع إلى البلد حتّى يصلّي صلاة واحدة إلى القبلة، وكان الرّجوع أشقّ بكثير من الصّلاة إلى الجوانب المحتملة، فإنّ التكرار لا يعدّ لعباً عند العقلاء قطعاً، و{إنّما يضرّ إذا كان لعباً بأمر المولى لا في كيفيّة إطاعته} أي: إطاعة الأمر {بعد حصول الداعي إليها} أي: إلى الإطاعة {كما لا يخفى} ومعنى كون اللعب في كيفيّة الإطاعة ضمّ ما ليس بطاعة إلى ما هو طاعة، كما تقدّم من مثال الإتيان بالكتب، وأمّا اللعب بنفس الأمر فهو عبارة عن أن يأتي بالمأمور به - بعد الإتيان به تفصيلاً - مكرّراً بداعي اللعب لا امتثالاً.

نعم، ربّما يفرّق بين قلّة الأطراف وكثرتها، فلو اشتبه القبلة في أربعة جوانب واللباس في عشرة وما يصحّ السّجود عليه في عشرين فاحتاط بثمانمائة صلاة مع التمكّن من الفحص كان لاعباً عرفاً.

{هذا كلّه في قبال ما إذا تمكّن منالقطع تفصيلاً بالامتثال} بأن كان قادراً من الامتثال بالعلم التفصيلي فتركه وأتى بالامتثال الإجمالي {وأمّا إذا لم يتمكّن إلّا من الظنّ به} أي: بالامتثال {كذلك} أي: تفصيلاً، بأن دار الأمر بين الامتثال الظنّي التفصيلي وبين الامتثال القطعي الإجمالي. وهذا على قسمين: لأنّ الظنّ إمّا أن يكون معتبراً شرعاً حتّى مع التمكّن من العلم الإجمالي أو لا، والمعتبر إمّا أن يكون بدليل الانسداد أو بدليل خاص {فلا إشكال في تقديمه} أي: الامتثال القطعي

ص: 351

على الامتثال الظنّي، لو لم يقم دليل على اعتباره إلّا في ما إذا لم يتمكّن منه.

وأمّا لو قام على اعتباره مطلقاً، فلا إشكال في الاجتزاء بالظنّ. كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي في قبال الظنّي، بالظنّ المطلق المعتبر بدليل الانسداد، بناءً على أن يكون من مقدّماته عدم وجوب الاحتياط.

___________________________________________

الإجمالي {على الامتثال الظنّي لو لم يقم دليل على اعتباره} أي: اعتبار الظنّ {إلّا في ما إذا لم يتمكّن منه} أي: من الامتثال القطعي الإجمالي، وأمّا إن قام الدليل على أنّ حجيّة الظنّ في صورة عدم التمكّن من العلم حتّى الإجمالي، فلا إشكال في عدم كفاية الامتثال الظنّي.

والحاصل: أنّ الدليل على حجيّة الظنّ على نحوين:

الأوّل: أن يصيّره حجّة مطلقاً، وحينئذٍ لا إشكال في تقدّم العلم الإجمالي عليه؛ لأنّ العلم محرز للواقع قطعاً، والظنّ حجّة على الواقع ومعذّر فقط.

الثّاني: أن يصيّره حجّة في ظرف عدم التمكّن من العلم - تفصيلاً وإجمالاً -وعليه فلا كلام في لزوم الامتثال العلمي وعدم كفاية الامتثال الظنّي لعدم حجيّة الظنّ في ظرف التمكّن من العلم حتّى الإجمالي منه.

{وأمّا لو قام} الدليل {على اعتباره} أي: الظنّ {مطلقاً} حتّى مع إمكان الامتثال القطعي الإجمالي، وهذا مقابل لقوله: «لو لم يقم» الخ، وذلك مثل خبر الواحد والظواهر وخبر العدلين ونحوها {فلا إشكال في الاجتزاء} بالامتثال الإجمالي فيصلّي الظهر والجمعة، كما يصحّ الاجتزاء {بالظنّ} التفصيلي كأن يأخذ بقول عبد الملك فيصلّي صلاة الجمعة يومها - فقط - {كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي في قبال} الامتثال {الظنّي بالظنّ المطلق المعتبر بدليل الانسداد} مقابل الظنّ الخاصّ المعتبر بالأدلّة الخاصّة {بناءً على أن يكون من مقدّماته} أي: من مقدّمات دليل الانسداد {عدم وجوب الاحتياط} فيختار إمّا الامتثال الظنّي الانسدادي أو

ص: 352

وأمّا لو كان من مقدّماته بطلانه - لاستلزامه العسر المخلّ بالنّظام، أو لأنّه ليس من وجوه الطاعة والعبادة، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى في ما إذا كان بالتكرار، كما توهّم(1)

- فالمتعيّن هو التنزّل عن القطع تفصيلاً إلى الظنّ كذلك، وعليه فلا مناص عن الذَّهَاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد وإن احتاط فيها، كما لا يخفى.

___________________________________________

العلمي الإجمالي، إذ الاحتياط ليس بواجب عليه لا أنّه ليس بجائز له.{وأمّا لو كان من مقدّماته} عدم جواز الاحتياط و{بطلانه لاستلزامه العسر المخلّ بالنظام، أو لأنّه ليس من وجوه الطاعة والعبادة، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى في ما إذا كان} الاحتياط {بالتكرار، كما توهّم} عدم جواز الاحتياط {فالمعتيّن هو التنزّل عن القطع تفصيلاً إلى الظنّ كذلك} تفصيلاً، بمعنى أنّه لا واسطة بينهما، فإنّ تمكّن المكلّف من الامتثال العلمي التفصيلي فهو، وإن لم يتمكّن وجب الامتثال التفصيلي الظنّي، ولا يجوز له الامتثال الإجمالي العلمي.

{وعليه} أي: بناءً على عدم جواز الامتثال العلمي الإجمالي {فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد وإن احتاط فيها} أي: في العبادات {كما لا يخفى}.

فتحصّل من قوله: «وأمّا إذا لم يتمكّن إلّا من الظنّ» إلى هنا أربعة أقسام:

الأوّل: أن لا يكون الظنّ حجّة في ظرف التمكّن من العلم ولو إجمالاً، وحكمه وجوب الاحتياط فقط.

الثّاني: أن يكون الظنّ الخارجي الخاص حجّة حتّى في ظرف التمكّن من العلم الإجمالي، وحكمه جواز الاحتياط وجواز الأخذ بالظن.

الثّالث: أن يكون الانسدادي حجّة وكان من مقدّماته عدم وجوب الاحتياط، وحكمه حكم الثّاني.

ص: 353


1- فرائد الأصول 2: 409.

هذا بعض الكلام في القطع ممّا يناسب المقام، ويأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة والاشتغال.

فيقع المقال في ما هو المهمّ من عقد هذا المقصَد، وهو بيان ما قيل باعتبارهمن الأمارات، أو صحّ أن يقال.

وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم أُمور:

___________________________________________

الرّابع: أن يكون الظنّ الانسدادي حجّة وكان من مقدّماته عدم جواز الاحتياط وحكمه وجوب العمل على طبق الظنّ فقط - عكس القسم الأوّل - .

هذا تمام الكلام في جواز الاحتياط بأقسامه - على ما ذكره القوم - .

والإنصاف أنّ الاحتياط حتّى في التوصليّات في صورة إمكان العمل على طبق حجّة معتبرة مشكل من جهة لزوم اتّباع الحجج الواردة، فربّما كان الاحتياط مضرّاً بما لا يدركه العقل.

مثلاً: لو كان غسل الثّوب الطاهر مبغوضاً للشارع ولو من جهة أنّه لا يريد إضاعة العمر بهذا المقدار، أو لأنّه يريد اتّباع كلامه فقط بلا زيادة ونقيصة حتّى بنحو الاحتياط واحتمل العقل ذلك لم يكن وجه لتجويزه، وشمول أدلّة الاحتياط الشّرعي لهذا المورد مشكل، وقد بسطنا بعض الكلام حول هذا المقام في شرحنا على العروة الوثقى، فراجع(1).

{هذا بعض الكلام في القطع ممّا يناسب المقام ويأتي بعضه الآخر} المرتبط بالعلم الإجمالي ونحوه {في مبحث البراءة والاشتغال} إن شاء اللّه - تعالى - .

[مباحث الأمارات]

المقصد السّادس: في الأمارات، عدم اقتضاء الأمارة للحجيّة ذاتاً

{فيقع المقال في ما هو المهمّ من عقد هذا المقصد، وهو بيان ما قيل باعتباره من الأمارات أو صحّ أن يقال، وقبل الخوض في ذلك} أي: ما هو المهمّ {ينبغي تقديم أُمور}

ص: 354


1- موسوعة الفقه 1: 49-68؛ وأيضاً راجع 1: 73-76.

أحدها: أنّه لا ريب في أنّ الأمارة الغير العلميّة ليست كالقطع، في كون الحجيّة من لوازمها ومقتضياتها بنحو العليّة، بل مطلقاً، وأنّ ثبوتها لها محتاج إلى جعل، أو ثبوتِ مقدّمات وطروّ حالات موجبة لاقتضائها الحجيّة عقلاً - بناءً على تقرير مقدّمات الانسداد بنحو الحكومة - ؛

___________________________________________

ثلاثة:

[عدم اقتضاء الأمارة للحجيّة ذاتاً]

{أحدها} في بيان أنّ غير العلم من الأمارات كخبر الواحد والظواهر وشهادة العدلين وغيرها لا اقتضاء فيها بالنسبة إلى الحجيّة وعدمها، فكلّ واحد منهما بالنسبة إليها ممكن، بخلاف القطع الّذي يكون الحجيّة لازم ذاته لا تنفكّ عنه، وبخلاف الشّكّ الّذي يكون عدم الحجيّة لازم ذاته لا يعقل إعطاء الحجيّة له.

إذا عرفت هذا فيقول: {أنّه لا ريب في أنّ الأمارة الغير العلميّة} أي: الظنون الطريقيّة، كالأمثلة المتقدّمة {ليست كالقطع في كون الحجيّة من لوازمها ومقتضياتها بنحو العليّة} كزوجيّة الأربعة الّتي لا تنفكّ عنها، وليست قابلة للرفع والوضع {بل} ليست الحجيّة من مقتضياتها {مطلقاً} حتّى بغير نحو العليّة، كالمعد وجزء العليّة، بل الظنّ لا اقتضاء بالنسبة إلى الحجيّة واللّاحجيّة، نظير الجسم بالنسبة إلى البياض واللّابياض {وأنّ ثبوتها} أي: الحجيّة {لها} أي: للأمارات {محتاج إلى جعل} خاصّ كأن يجعل خبر العادل حجّة {أو ثبوت مقدّمات} أي: مقدّمات الانسداد {وطروّ حالات} عطف بيان {موجبة لاقتضائها} أي: اقتضاء الأمارة {الحجيّة} بأن تكونمؤثّرة في التنجيز والإعذار {عقلاً بناءً على تقرير مقدّمات الانسداد بنحو الحكومة} بأن نقول: إنّ المقدّمات تقتضي حجيّة الظنّ المطلق، ومن مصاديقه الأمارات؛ لأنّها مورثة للظنّ نوعاً، أو بنحو الكشف بأن

ص: 355

وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجيّة بدون ذلك ثبوتاً - بلا خلاف - ولا سقوطاً، وإن كان ربّما يظهر فيه من بعض المحقّقين(1) الخلافُ، والاكتفاءُ بالظنّ بالفراغ، ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضّرر المحتمل، فتأمّل.

___________________________________________

نقول: إنّ بعد تماميّة المقدّمات يكشف العقل عن حجيّة الظنّ عند المولى، وإنّما لم يذكره المصنّف هنا لشمول قوله: «محتاج إلى جعل» له، فإنّه أيضاً جعل من المولى في حال الانسداد بناءً على الكشف.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّ الأمارات ليست كالقطع {لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجيّة} وجداناً، فإنّا إذا راجعنا وجداننا رأينا أنّه لو ظنّ بالتكليف لم يكن منجّزاً بحيث يصحّ عقابه لو خالف {بدون ذلك} أي: جعل الحجيّة شرعاً خصوصاً أو عموماً أو عقلاً {ثبوتاً} أي: لا يثبت التكليف بالظنّ {بلا خلاف} من أحد {ولا سقوطاً} بأن يكتفي بالظنّ في إسقاط التكليف المعلوم {وإن كان ربّما يظهر فيه} أي: في السّقوط {من بعض المحقّقين} كالمحقّق جمال الدين الخوانساري(رحمة الله) {الخلاف والاكتفاء بالظنّ بالفراغ} فإذا علم بوجوب صلاة الظهرعليه ثمّ ظنّ بإتيانها لا يلزم الإتيان ثانياً.

{ولعلّه} أي: لعلّ وجه اكتفائهم بالظنّ {لأجل عدم لزوم دفع الضّرر المحتمل} إذ مدرك حكم العقل في باب قاعدة الاشتغال القائلة بأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة هو وجوب دفع الضّرر المحتمل، فإذا قلنا بعدم وجوب دفع الضّرر المحتمل سقط مدرك قاعدة الاشتغال، فلا تجب البراءة اليقينيّة، بل تكفي البراءة الظنيّة {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّه لو قلنا بعدم وجوب دفع الضّرر المحتمل، فاللّازم الاكتفاء باحتمال الامتثال، ولا وجه لاشتراط الظنّ.

ص: 356


1- مشارق الشموس: 76.

ثانيها: في بيان إمكان التعبّد بالأمارة الغير العلميّة شرعاً، وعدم لزوم محال منه عقلاً، في قبال دعوى استحالته للزومه.

وليس الإمكان - بهذا المعنى، بل مطلقاً - أصل متّبع عند العقلاء في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع؛ لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشّكّ فيه،

___________________________________________

[إمكان التعبّد بالأمارات وقوعاً]

المقصد السّادس: في الأمارات، إمكان التعبّد بالأمارات وقوعاً

{ثانيها} بعد الفراغ عن أنّ الحجيّة ليست لازمة للظنّ ولا ممتنعة، بل ممكن ذاتيّ بالنسبة إليه، يقع الكلام {في بيان إمكان التعبّد بالأمارة الغير العلميّة شرعاً} بمعنى أنّه إمكان وقوعيّ بعد ثبوت الإمكان الذاتي {وعدم لزوم محال منه} أي: من التعبّد بالظنّي {عقلاً في قبال دعوى استحالته} وقوعاً على ما نسب إلى ابن قبّ-ة وغيره {للزومه} أي: لزوم المحال من التعبّد به.والحاصل: أنّ الإمكان المتنازع فيه هو الإمكان الوقوعي، إذ لا مجال لتوهّم أنّ التعبّد بالظنّ ممتنع ذاتي، كشريك الباري.

ثمّ إنّ الشّيخ المرتضى(رحمة الله) جعل الأصل هو الإمكان عند الشّكّ في الإمكان فحكم بأنّ طريقة العقلاء الحكم بإمكان الشّيء الّذي لا يجدون وجهاً لاستحالته.

{و} المصنّف لم يرتض هذا القول؛ لأنّه {ليس الإمكان بهذا المعنى} أي: الإمكان الوقوعي {بل مطلقاً} أعمّ من الإمكان الوقوعي والذاتي {أصل متّبع عند العقلاء} بحيث يرتّبون على المجهول الإمكان والاستحالة آثار الممكن {في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع} فلا يرتّبون أثر الإمكان الذاتي في مقام احتمال الاستحالة الذاتيّة، ولا أثر الإمكان الوقوعي في مقام احتمال الاستحالة الوقوعيّة، وهكذا {لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشّكّ فيه} فلو شكّ في إمكان وجود المجرّد سوى اللّه المختلف فيه لم يكن بناؤهم على ترتيب آثار

ص: 357

ومنع حجيّتها - لو سلّم ثبوتها - ؛ لعدم قيام دليل قطعيّ على اعتبارها، والظنّ به - لو كان - فالكلام الآن في إمكان التعبّد به وامتناعه، فما ظنّك به؟

لكن دليلَ وقوع التعبّد بها من طرق إثبات إمكانه؛ حيث يستكشف به عدم ترتّب محالٍ - من تالٍ باطل، فيمتنع مطلقاً، أو على الحكيم، تعالى - ، فلا حاجة معه - في دعوى الوقوع - إلى إثبات الإمكان،

___________________________________________

الإمكان عليه، بل المحقّق عندهم هو لزوم الفحص والبحث عن استحالته وإمكانه {ومنع حجيّتها} أي: حجّيّة السّيرة {لو سلّمثبوتها} وذلك {لعدم قيام دليل قطعيّ على اعتبارها} إذ السّيرة إنّما تكون حجّة في الأحكام الشّرعيّة لكشفها عن تقرير المعصوم وأمّا حجيّتها في غيرها فلا.

{والظنّ به} أي: بوجود دليل قطعيّ على اعتبار السّيرة أو الظنّ يكون السّيرة حجة {لو كان} أي: لو فرضنا أنّا ظننّا بحجيّة السّيرة {ف-} لا يفيد هذا الظنّ، إذ {الكلام الآن في إمكان التعبّد به وامتناعه} فلا يمكن أن يكون الشّيء المتنازع فيه دليلاً على المطلب، ففي ما نحن فيه حجيّة الظنّ متنازع فيه، فلا يمكن أن تجعل دليلاً ظنيّاً مستنداً لحجيّة الظنّ {فما ظنّك به} أي: بهذا الدليل الّذي هو محلّ الكلام.

{لكن} حيث أبطلنا السّيرة العقلائيّة على كون الإمكان هو الأصل في المشكوك الإمكان نقول: لنا {دليل} آخر على إمكان التعبّد بالظنّ، وهو {وقوع التعبّد بها} أي: بالأمارة غير العلميّة، فإنّ وقوع التعبّد من الحكيم الّذي لا يعبّد بالمحال {من طرق إثبات إمكانه حيث يستكشف به عدم ترتّب محال} على التعبّد {من تال باطل} ممّا سيأتي {فيمتنع مطلقاً} إذا كان محالاً ذاتيّاً، كاجتماع النّقيضين {أو على الحكيم - تعالى -} إذا كان قبيحاً {فلا حاجة معه} أي: مع وقوع التعبّد بالظنّي {في دعوى الوقوع إلى إثبات الإمكان} فإنّ أدلّ دليل على الشّيء وقوعه

ص: 358

وبدونه لا فائدة في إثباته، كما هو واضح.

وقد انقدح بذلك: ما في دعوى شيخناالعلّامة - أعلى اللّه مقامه(1)

- من كون الإمكان عند العقلاء - مع احتمال الامتناع - أصلاً.

والإمكانُ في كلام الشّيخ الرّئيس: «كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يَذُدْكَ عنه واضح البرهان»(2)،

___________________________________________

{وبدونه} أي: بدون الوقوع {لا فائدة في إثباته} أي: إثبات الإمكان {كما هو واضح} لعدم ترتّب أثر عليه.

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من عدم تماميّة الاستدلال على إمكان المشكوك إمكانه بالسيرة العقلائيّة {ما في دعوى شيخنا العلّامة} المرتضى - {أعلى اللّه مقامه - من كون الإمكان عند العقلاء - مع احتمال الامتناع - أصلاً}.

ثمّ إنّ ما ذكره المصنّف(رحمة الله) من وقوع التعبّد بالأمارة غير العلميّة تامّ، فإنّ آية النّبأ ونحوها والأخبار القطعيّة الدالّة على حجيّة خبر الثّقة وشهادة العدلين ونحوها كلّها دليل على التعبّد بالأمارة الظنيّة.

لا يقال: إنّ كلام الشّيخ الرّئيس دالّ على أنّ الأصل في ما شكّ في مكانه هو الإمكان، وهذا موافق لشيخنا المرتضى ومخالف لما ذكرتم.

لأنّا نقول: أوّلاً لا نسلّم تماميّة كلام الرّئيس بعد ما عرفت من عدم معلوميّة السّيرة وعدم حجيّتها على تقدير معلوميّتها.

{و} ثانياً {الإمكان - في كلام الشّيخ الرّئيس:«كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك} أي: يمنعك {عنه واضح البرهان»} - ليس بمعنى فرض المسموع ممكناً وترتيب آثار الإمكان عليه، حتّى أنّه لو قيل: (هنالك رجل ذو

ص: 359


1- فرائد الأصول 1: 106.
2- الحكمة المتعالية 1: 364؛ شرح الإشارات 3: 418.

بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والإيقان، ومن الواضح أن لا موطن له إلّا الوِجْدان، فهو المرجع فيه بلا بيّنة ولا برهان.

وكيف كان، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبّد بغير العلم - من المحال، أو الباطل ولو لم يكن بمحال - أُمور:

أحدها: اجتماع المثلين - من إيجابين، أو تحريمين مثلاً - في ما أصاب،

___________________________________________

عشرين رأساً) يذهب لمشاهدته، أو قيل: بأنّ اللّه يريد كذا، لزم العمل به، بل كلامه {بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والإيقان} فلا يبادر الشّخص بمنع المسموع، بل يحتمل صحّته وفساده فلا يرتّب آثار العدم ولا آثار الوجود، بل يكون بين بين، وهذا بخلاف المعنى الأوّل فإنّ لازمه أن يقول الشّخص بإمكانه ويرتّب آثار الوجود عليه.

والحاصل: أنّ هناك احتمالاً في مقابل القطع بالعدم وإمكاناً في مقابل الاستحالة، والشّيخ الرّئيس يريد الاحتمال لا الإمكان.

{و} إن قلت: إنّ الاحتمال كافٍ في مقامنا الّذي هو إمكان التعبّد بالأمارة غير العلميّة، إذ ابن قبّة ينكر الاحتمال، وغيره يثبته.

قلت: ليس كذلك، إذ {من الواضح أن لا موطن له} أي: للاحتمال {إلّا الوجدان} والأمر الوجداني لا يقع في النّزاع {فهو المرجع فيه بلا بيّنة ولا برهان} وهذا بخلاف الشّيءالّذي وقع محلّاً للكلام بين الأعلام الّذي هو الإمكان الّذي يرتّب عليه آثاره.

{وكيف كان، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبّد بغير العلم من المحال أو الباطل ولو لم يكن بمحال أُمور} نذكر منها ثلاثة:

{أحدها: اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلاً في ما أصاب} أي: طابقت الأمارة للواقع، فيلزم أن يجتمع في صلاة الظهر الّتي هي واجبة واقعاً وجوب واقعي

ص: 360

أو ضدّين - من إيجاب وتحريم، ومن إرادة وكراهة، ومصلحة ومفسدة ملزمتين، بلا كسر وانكسار في البين - في ما أخطأ، أو التصويب وأن لا يكون هناك غير مؤدّيات الأمارة أحكام.

___________________________________________

ووجوب ظاهري واجتماع المثلين محال، إذ المثلان ذاتان وجوديّان واجتماع وجودين في موجود واحد غير معقول، فإنّ الوجود هو الخارجيّة ولا يعقل أن يكون لشيء واحد خارجيّة وخارجيّة. {أو} اجتماع {ضدّين من إيجاب وتحريم} في عالم الإنشاء {ومن إرادة وكراهة} في نفس المولى {ومصلحة ومفسدة} في نفس الفعل الّذي تعلّق به التحريم الواقعي والوجوب الظاهري أو بالعكس، وتكون المصلحة والمفسدة {ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين} وذلك لأنّهما لو لم تكونا ملزمتين لم يجعل وجوب أو تحريم، إذ الوجوب تابع للمصلحة الملزمة وإلّا جعل الاستحباب، والتحريم تابع للمفسدة الملزمة وإلّا جعلت الكراهة، وكذا لو كان في البين كسر وانكسار، إذ المنكسر لا يبقى على ملزميّته.فقوله: «بلا كسر وانكسار» توضيح لقوله: «ملزمتين» {في ما أخطأ} متعلّق باجتماع الضّدّين، أي: خالفت الأمارة للواقع.

والحاصل: أنّه لو جعل المولى الأمارة لا يخلو الأمر من أن يكون هناك واقع أم لا، وعلى الأوّل فإن طابقت الأمارة للواقع لزم اجتماع المثلين، وإن خالفت الأمارة للواقع لزم ثلاثة أشياء اجتماع إيجاب وتحريم وإرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة، وعلى الثّاني - وهو أن لا يكون في مورد جعل الأمارة واقع أصلاً - يلزم التصويب، وأشار إليه بقوله: {أو التصويب، و} ذلك بمعنى {أن لا يكون هناك غير مؤدّيات الأمارة أحكام} اسم «يكون» ومن المعلوم أنّ كلّاً من هذه الخمسة - أي: اجتماع المثلين والإيجاب والتحريم والإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة والتصويب - محال.

ص: 361

وثانيها: طلب الضّدّين في ما إذا أخطأ، وأدّى إلى وجوب ضدّ الواجب.

ثالثها: تفويت المصلحة، أو الإلقاءُ في المفسدة، في ما أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام، وكونه محكوماً بسائر الأحكام.

والجواب: أنّ ما ادّعي لزومُه إمّا غيرُ لازم، أو غير باطل:

وذلك لأنّ التعبّد بطريق غير علمي

___________________________________________

{وثانيها: طلب الضّدّين في ما إذا أخطأ} كما إذا كانت الجمعة واجبة واقعاً، فقامت الأمارة على حرمتها أو استحبابها مثلاً، وكذلك في سائر الموارد الّتي تخالف الأمارة الواقع وإن كان أحدهما على الكراهة والآخر على الإباحة لتضادّ الأحكام بأسرها، فقوله: {وأدّى إلى وجوب ضدّ الواجب} إنّما هو من باب المثال.ولا يخفى الفرق بين هذا الإيراد والإيراد السّابق، إذ في صورة مخالفة الأمارة للواقع يتحقّق أربعة أشياء: الإرادة والكراهة في نفس المتكلّم، والحرمة والوجوب في صفة الفعل، والمصلحة والمفسدة في ذات الفعل، والإيجاب والتحريم في عمل المولى، والإيراد السّابق كان راجعاً إلى الثّلاثة الأُوَل والإيراد الثّاني راجع إلى الأمر الرّابع، فتأمّل.

{ثالثها: تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة} وفسّر الأوّل بقوله: {في ما أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب} كأن قامت الأمارة على عدم وجوب صلاة الجمعة الّتي هي واجبة، وفسّر الثّاني بقوله: {أو} أدّى إلى {عدم حرمة ما هو حرام} كأن أدّى إلى عدم حرمة ذبيحة اليهودي إذا سمّى {و} لا فرق في ذلك بين أن تؤدّي إلى كون الحرام واجباً، أو {كونه محكوماً بسائر الأحكام} وكان الأحسن أن تجتمع الإشكالات في إيراد واحد لكون مرجع الجميع واحداً.

{والجواب: أنّ ما ادّعي لزومه إمّا غير لازم} كالإيراد الأوّل والثّاني {أو غير باطل} كالإيراد الثّالث {وذلك لأنّ التعبّد بطريق غير علمي} ليس معناه جعل حكم

ص: 362

إنّما هو بجعل حجيّته، والحجيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفيّة بحسب ما أدّى إليه الطّريق، بل إنّما تكون موجبة لتنجّز التكليف به إذا أصاب، وصحّة الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته تجرّياً وانقياداً مع عدم إصابته،

___________________________________________

على طبقها.

مثلاً: التعبّد بالخبر الثّقة الّذي قام على حرمة صلاة الجمعة ليس معناه جعل الحرمة لها حتّى يقال بمنافاة هذا الحكم التحريمي للحكم الواقعي الإيجابي، بل التعبّد بطرق غير علمي {إنّما هو بجعل حجيّته} بمعنى أنّه منجّز للواقع إذا طابق ومعذّر إذا خالف {والحجيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفيّة بحسب ما أدّى إليه الطريق} حتّى أنّه لو أدّى الطريق إلى تحريم صلاة الظهر يوم الجمعة كان لازمه أن ينشأ المولى تحريماً لها {بل إنّما تكون} الجمعة {موجبة} لأمرين: أحدهما {لتنجّز التكليف به} أي: بسبب هذا الطريق {إذا أصاب} وطابق الواقع حتّى أنّه لو قال العبد: لم أكن أعلم بوجوب كذا، لا يقبل منه، ويقال له: قد جعلنا لك طريقاً إليه فلم خالفته؟ {وصحّة الاعتذار به} أي: بسبب هذا الطريق {إذا أخطأ} وخالف الواقع فيصحّ للعبد أن يقول: إنّما لم أفعل الواجب الواقعي لعدم علمي به وقيام الطريق الّذي جعلتموه على عدم الوجوب.

هذا أحد الأمرين المترتّبين على جعل الطريق، وهناك أمر آخر مترتّب عليه {و} هو أنّ الحجّيّة موجبة {لكون مخالفته وموافقته تجرّياً} في صورة المخالفة للطريق {وانقياداً} في صورة الموافقة للطريق {مع عدم إصابته} أي: إصابة الطريق للواقع.

مثلاً: لو كان شرب الماء مباحاً ثمّ قام الطريق على وجوبه فشرب امتثالاً كان له ثواب الانقياد، ولو لم يشرب عصياناً كان له عقاب التجرّي لو قلنا بالعقاب فيه

ص: 363

كما هو شأن الحجّة الغير المجعولة، فلا يلزم اجتماع حكمين - مثلين أو ضدّين - ، ولا طلب الضّدّين، ولا اجتماع المصلحةوالمفسدة، ولا الكراهة والإرادة، كما لا يخفى.

وأمّا تفويت مصلحة الواقع، أو الإلقاء في مفسدته، فلا محذور فيه أصلاً إذا كانت في التعبّد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

نعم، لو قيل

___________________________________________

{كما هو شأن الحجّة الغير المجعولة} وهو العلم، فكما أنّ العلم بشيء لا يوجب جعل الحكم على طبقه، بل إنّما هو منجّز ومعذّر والعامل على طبقه إذا خالف الواقع يثاب على انقياده، وإذا لم يعمل كان متجرّياً كذلك الطريق المجعول كالخبر الواحد ونحوه {فلا يلزم} من جعل الطريق {اجتماع حكمين مثلين أو ضدّين} كما قلتم في الإيراد الأوّل {ولا طلب الضّدّين} كما قلتم في الإيراد الثّاني {و} لا {اجتماع المصلحة والمفسدة ولا الكراهة والإرادة} ولا يلزم التصويب، كما قلتم في الإيراد الأوّل أيضاً {كما لا يخفى}.

{وأمّا} جواب الإشكال الثّالث وهو ما ذكرتم من {تفويت مصلحة الواقع أو الإلقاء في مفسدته ف-} هو أنّه {لا محذور فيه أصلاً إذا كانت في التعبّد به} أي: بالطريق غير العلمي {مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء} كمصلحة التسهيل ونحوه.

والحاصل: أنّ الطريق الّذي يؤدّي إلى عدم الواجب أو جواز الحرام فيه مصلحة غالبة على مصلحة الواجب الّتي تفوت عن المكلّف ومفسدة الحرام الّتي يقع فيها المكلّف، بل نقول مساواة مصلحة الطريق للمفسدة المترتّبة علىمخالفة الواقع، أو كون مصلحة الطريق أقلّ بحيث لا تكون للمفسدة المترتّبة على مخالفة الواقع زيادة ملزمة كافية في جعل الطريق، كما لا يخفى.

{نعم، لو قيل} هذا جواب آخر عن الإشكالات الثّلاثة، وحاصله: أنّا نقول بأنّ

ص: 364

باستتباع جعل الحجّيّة للأحكام التكليفيّة، أو بأنّه لا معنى لجعلها إلّا جعل تلك الأحكام، فاجتماع حكمين وإن كان يلزم، إلّا أنّهما ليسا بمثلين أو ضدّين:

لأنّ أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه،

___________________________________________

جعل الطريق جعل للحكم، فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الظهر جعل المولى الوجوب لها، فهنا وجوبان وجوب واقعي ووجوب ظاهري، ولا يلزم اجتماع المثلين، إذ الوجوب الواقعي وجوب حقيقي - بمعنى أنّه إنّما جعل لمصلحة في صلاة الظهر واردة لها من المولى - والوجوب الظاهري وجوب إنشائيّ صوري - بمعنى أنّه إنّما جعل لمصلحة في نفس إنشاء الوجوب، كالأوامر الامتحانيّة - فهنا وجوب حقيقي يتبع مصلحة الصّلاة ووجوب صوري يتبع مصلحة الإنشاء بمعنى أنّ في نفس إنشاء الوجوب مصلحة، وهي أنّه منجّز عند الإصابة ومعذّر عند الخطأ، وهكذا نقول في ما خالفت الأمارة للواقع وليس هذا من اجتماع المثلين أو اجتماع الضّدّين، إذ يشترط فيهما وحدة الذات ولا وحدة هنا.

إذا عرفت هذا فنقول: لو لم يقل كون جعل الطريق ليس إلّا جعل المنجزيّة والمعذريّة، بل قيل {باستتباع جعل الحجيّة للأحكام التكليفيّة} بمعنى أنّ لازم جعل الحجيّة لقول زرارة - القائل بوجوب الظهر - جعل الوجوب لصلاة الظهر مثلاً.

{أو} قيل {بأنّه لا معنى لجعلها} أي: جعل الحجيّة{إلّا جعل تلك الأحكام} الّتي تقوم الحجّة عليها، بمعنى أنّ جعل الحجيّة لقول زرارة معناه جعل الوجوب لصلاة الظهر {فاجتماع حكمين وإن كان يلزم} إذ جعل الوجوب مرّتين: الأُولى عند جعله لها واقعاً، والثّانية عند جعل الحجيّة لقول زرارة الّتي لازمها أو معناها جعل الوجوب لصلاة الظهر {إلّا أنّهما} أي: هذين الحكمين {ليسا بمثلين أو ضدّين} وذلك {لأنّ أحدهما} وهو الوجوب الآتي من قول زرارة {طريقي عن مصلحة في نفسه} بمعنى أنّ المصلحة إنّما تكون في نفس الأمر والجعل.

ص: 365

موجبة لإنشائه الموجب للتنجّز، أو لصحّة الاعتذار بمجرّده، من دون إرادة نفسانيّة أو كراهة كذلك، متعلّقة بمتعلّقه في ما يمكن هناك انقداحهما؛ حيث إنّه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل، وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى، إلّا أنّه إذا أُوْحِيَ بالحكم - الشأني من قبل تلك المصلحة أو المفسدة - إلى النبيّ(صلی الله علیه و آله) أو أُلهِمَ به الولي، فلا محالة ينقدح في نفسه الشّريفة - بسببهما - الإرادة أو الكراهة، الموجبة للإنشاء

___________________________________________

وهذه المصلحة الّتي تحصل بمجرّد الأمر والجعل {موجبة لإنشائه الموجب} صفة «لإنشائه» {للتنجّز} إذا أصاب {أو لصحّة الاعتذار} إذا أخطأ {بمجرّده} أي: بمجرّد كونه طريقيّاً {من دون إرادة نفسانيّة أو كراهة كذلك} نفسانيّة {متعلّقة بمتعلّقه} أي: بمتعلّق هذا الحكم، فالوجوبالنّاشئ عن قول زرارة لإرادة متعلّقة بصلاة الظهر الّتي هي متعلّقة لهذا الحكم {في ما يمكن هناك انقداحهما} يريد بذلك بيان دفع توهّم، وهو أنّ ما ذكرتم من الفرق بين الحكمين بتعلّق الإرادة بمتعلّق الوجوب الواقعي دون متعلّق الوجوب الظاهري، غير تامّ إذ لا إرادة في المبدأ الأعلى الّذي هو محلّ الكلام بالنسبة إلى الأوامر الشّرعيّة.

ودفعه بأنّ الفرق بينهما بالإرادة والكراهة إنّما هو في ما يمكن انقداحهما كنفس النّبيّ(صلی الله علیه و آله) والولي، فإنّ الحكم الحقيقي يقترن بالإرادة في نفس النّبي والوصي المأمور بتبليغ الحكم، وذلك بخلاف الحكم الصّوري فلا إرادة لمتعلّق الحكم الصّوري في نفوسهما {حيث إنّه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل} كصلاة الظهر المشتملة على مصلحة ملزمة والخمر المشتملة على مفسدة ملزمة {وإن لم يحدث بسببها} أي: بسبب هذه المصلحة أو المفسدة {إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى} تعالى {إلّا أنّه إذا أوحى بالحكم الشّأني من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النّبيّ(صلی الله علیه و آله) أو ألهم به الولي فلا محالة ينقدح في نفسه الشّريفة بسببهما الإرادة أو الكراهة الموجبة للإنشاء}

ص: 366

بعثاً أو زجراً، بخلاف ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، بل إنّما كانت في نفس إنشاء الأمر به طريقيّاً.

والآخر واقعيّ حقيقيّ عن مصلحة أو مفسدة في متعلّقه، موجبة لإرادته أو كراهته، الموجبة لإنشائه بعثاً أو زجراً في بعض المبادئ العالية، وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلّا العلم بالمصلحة أو المفسدة -كما أشرنا - .

___________________________________________

لأنّهم(علیهم السلام) يريدون ما يجعله اللّه على العباد من الواجبات ويكرهون المحرّمات فيريدون الواجب {بعثاً أو} يكرهون الحرام {زجراً} وهذا {بخلاف ما} أي: الحكم الطريقي الّذي {ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، بل إنّما كانت في نفس إنشاء الأمر} أي: إنشاء الحكم {به} أي: بالمتعلّق {طريقيّاً} للتنجيز والإعذار، فإنّه ليس في نفسهم(علیهم السلام) إرادة أو كراهة {والآخر واقعيّ حقيقي} عطف على قوله: «لأنّ أحدهما طريقي».

والحاصل: أنّ أحد الأمرين وهو المستفاد من قول زرارة المجعول حجّة، طريقيّ لا مصلحة فيه والمصلحة في الإنشاء فقط، والأمر الآخر وهو الأمر الأوّلي بالصلاة واقعيّ حقيقيّ ناشٍ{عن مصلحة أو مفسدة في متعلّقه موجبة لإرادته أو كراهته الموجبة} تلك الإرادة والكراهة {لإنشائه بعثاً أو زجراً} وتكون الإرادة والكراهة {في بعض المبادئ العالية} كالنّبيّ والولي {وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلّا العلم بالمصلحة أو المفسدة، كما أشرنا}.

ولا يخفى أنّ ما ذكره المصنّف من كون الإرادة في الباري - تعالى - هو العلم بالصلاة والفساد هو مختار بعض المتكلّمين، كالمحقّق الطوسي(رحمة الله) وغيره، وذهب آخرون إلى أنّ الإرادة من صفات الفعل لا من صفات الذات.

والّذي لا يبعد القول به هو أنّ الإرادة والكراهة من صفات الذات، ولا يلزم أن تكونا علماً ولا من صفات الفعل، إذ تسمية العلم إرادة خلاف ظاهر الأخبار

ص: 367

فلا يلزم أيضاً اجتماع إرادة وكراهة، وإنّما لزم إنشاء حكم واقعيّ حقيقيّ -بعثاً وزجراً - وإنشاء حكم آخر طريقي، ولا مضادّة بين الإنشاءين في ما إذا اختلفا، ولا يكون من اجتماع المثلين في ما اتّفقا، ولا إرادة ولا كراهة أصلاً إلّا بالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي، فافهم.

___________________________________________

والآيات، بل والدليل أيضاً، كما أنّ جعلها من صفات الفعل خلاف ظاهرهما، فإنّ قوله - تعالى - : {وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ}(1) ونحوه ممّا دلّ على كون الإرادة سابقة على الخلق والإيجاد يعطي كونها غير الفعلي.

وأمّا الإشكال في أنّها لو كانت من صفات الذات لزم تغيّر الذات بتغيّرها.

ففيه: النّقض بالعلم فما يقال هنا يقال هناك.

والحلّ أنّ صفات اللّه - تعالى - كذاته مجهولة لنا، لكنّا نعلم أنّ هناك ليس تغيّراً وحدوثاً، وتفصيل الكلام في شرح التجريد(2) وغيره.

وكيف كان، فإذا قد عرفت أنّ أحد الحكمين واقعيّ حقيقيّ والآخر ظاهريّ صوري {فلا يلزم أيضاً اجتماع إرادة وكراهة} كما لم يلزم اجتماع الضّدّين والمثلين {وإنّما لزم إنشاء حكم واقعيّ حقيقيّ بعثاً} نحو الواجب {وزجراً} عن الحرام {وإنشاء حكم آخر طريقي} صوريّ لمصلحة في نفس الإنشاء {ولا مضادّة بين الإنشائين} الحقيقي والصّوري {في ما إذا اختلفا} كأن أدّى الطريق إلى حرمة صلاة الجمعة الّتي هي واجبة{ولا يكون من اجتماع المثلين في ما اتفقا} كأن أدّى الطريق إلى وجوبها {ولا إرادة ولا كراهة أصلاً} ولا مصلحة ولا مفسدة {إلّا بالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي، فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ هذا الجواب إنّما يدفع الإشكالين الأوّلين، أمّا الإشكال الثّالث - وهو لزوم الإلقاء في المفسدة

ص: 368


1- سورة الرعد، الآية: 11.
2- كشف المراد: 281.

نعم، يشكل الأمر في بعض الأصول العمليّة، كأصالة الإباحة الشّرعيّة؛ فإنّ الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع فعلاً، كما في ما صادف الحرام، وإن كان الإذن

___________________________________________

وتفويت المصلحة في ما خالفت الأمارة للواقع - فلا، أو إشارة إلى ما ذكرنا من الإشكال في عدم الإرادة - بمعناها - في الباري تعالى، أو غير ذلك.

{نعم، يشكل الأمر في بعض الأصول العمليّة} الّتي ظاهرها جعل الحكم حقيقة لا جعل الحكم ظاهراً {كأصالة الإباحة الشّرعيّة} المستفادة من قوله(علیه السلام): «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم»(1)، فإنّ ظاهره كون المشكوك حلالاً واقعاً.

ووجه الإشكال واضح، إذ الجواب المتقدّم كان مبنيّاً على انّ الحكمين غير متنافيين، لكون أحدهما واقعيّاً لمصلحة في الفعل والآخر صوريّاً لمصلحة فينفس الإنشاء، وهذا الجواب لا يجري في ما نحن فيه، إذ لو شككنا في شيء وكان محرّماً واقعاً لزم كونه حلالاً واقعاً لقوله: «كلّ شيء لك حلال» وحراماً واقعاً لفرض أنّه محرّم في الواقع {فإنّ الإذن في الإقدام والاقتحام} في المشكوك المستفاد من دليل الحلّ {ينافي المنع فعلاً} واقعاً {كما في ما صادف الحرام} الواقعي {وإن كان الإذن} الخ، يشير بذلك إلى أنّ المباح يتصوّر على قسمين، والحليّة الظاهريّة بأيّ معنى أُخذت تنافي المنع الواقعي.

بيان ذلك: أنّ الإذن في الشّيء قد يكون لأجل مصلحة في نفس الإباحة وقد يكون يكون لأجل أنّه ليس في الفعل مصلحة ملزمة أو محبّبة - كالواجب والمستحبّ - ولا مفسدة ملزمة أو مكرهة - كالحرام والمكروه - والحليّة بأيّ معنىً كان من هذين المعنيين تنافي التحريم الواقعي، إذ التحريم الواقعي يتبع

ص: 369


1- من لا يحضره الفقيه 3: 341، وقد مرّ أنّ متن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». وفي الكافي 6: 339 «كلّ ما كان فيه حلال وحرام، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه».

فيه لأجل مصلحة فيه، لا لأجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه.

فلا محيص في مثله إلّا عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضاً، كما في المبدأ الأعلى.

___________________________________________

المفسدة الملزمة، والحليّة تلازم عدم المفسدة وإن كان الإذن {فيه} أي: في الفعل {لأجل مصلحة فيه} أي: في الإذن وهو القسم الأوّل من قسمي المباح {لا لأجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة} توجب الوجوب والحرمة، ولا مصلحة أو مفسدة قليلة توجب الاستحباب والكراهة {في المأذون فيه} وهو القسم الثّاني من قسمي المباح.

لكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال الّذي ذكره بقوله: «نعم، يشكل» الخ غير وارد،إذ الظاهر من حديث «كلّ شيء لك حلال» جعل الحلّ الواقعي تعبّداً في مرحلة الشّكّ، كما لا يخفى، فتدبّر.

{فلا محيص في مثله} أي: في مثل هذه الأصول العمليّة المنافية للواقع {إلّا عن الالتزام} بجمع آخر بين الحكم الواقعي والظاهري.

وهذا جمع ثالث بين الحكمين الظاهري والواقعي يجري في موارد الأصول والأمارات على حدّ سواء، وحاصله عدم كون الأحكام الواقعيّة فعليّة فلا تكون معها إرادة أو كراهة، وذلك {بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية} كالنبيّ والولي {أيضاً، كما في المبدأ الأعلى} تعالى، فلا يلزم اجتماع إرادة وكراهة ولا إيجاب وتحريم واقعيّين.

وبهذا يرتفع الإشكال في الجمع بين الأصول والأمارات وبين الأحكام الواقعيّة المنافية لهما.

إن قلت: إذا لم يكن الحكم الواقعي فعليّاً، بل إنشائيّاً محضاً، فاللّازم القول بعدم تنجّزه بقيام الأمارة عليه، إذ الواقعي الفعلي يتنجّز بالأمارة لا الواقعي الإنشائي.

قلت: هناك ثلاث صور:

ص: 370

لكنّه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي، بمعنى كونه على صفة ونحوٍ لو علم به المكلّف لتنجّز عليه، كسائر التكاليف الفعليّة الّتي تتنجّز بسبب القطع بها. وكونه فعليّاً إنّما يوجب البعث أو الزجر في النّفس النّبويّة أو الولويّة، في ما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه.

___________________________________________

الأُولى: الإنشائي المحض.الثّانية: الإنشائي الّذي إذا تعلّق به الأمارة صار فعليّاً.

الثّالثة: الفعلي المحض والأحكام الواقعيّة من قبيل الثّانية.

وبه يندفع الإشكالان الواردان على تصوير الحكم الواقعي على نحو الصّورة الأُولى أو الثّالثة. وإلى هذا الجواب أشار بقوله: {لكنّه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي} الالتزام بكونه إنشائيّاً محضاً حتّى يرد إشكال.

إن قلت: بل كونه إنشائيّاً {بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلّف لتنجّز عليه، كسائر التكاليف الفعليّة الّتي تتنجّز بسبب القطع بها} فالتكليف الواقعي بين الإنشائي المحض والفعلي المحض، كما صوّرناه في الصّورة الثّانية.

لا يقال: هذا الجواب غير مفيد، إذ الحكم الواقعي إن كان باعثاً وزاجراً كان فعليّاً فينافي الحليّة الظاهريّة أو الحكم القائم عليه الأمارة بخلافه، وإن لم يكن باعثاً وزاجراً لم يكن العلم به موجباً لتنجّزه؛ لأنّ العلم بالباعث والزاجر منجّز لا العلم بغيره.

لأنّا نقول: نختار الشِّقّ الثّاني {و} لا يلزم عدم البعث عدم التنجّز بالعلم، إذ {كونه فعليّاً إنّما يوجب البعث أو الزجر في النّفس النّبويّة أو الولويّة في ما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه} أي: في الإذن، وأمّا إذا انقدح لم يكن بعثاً فعلاً وزاجراً كذلك، وهذا لا يلازم التصويب، بزعم أنّه لو انقدح الإذن لم يكن حكم، إذ التصويب إنّما هو عدم الحكم أصلاً في الواقع لا الإنشائي ولا الفعلي،

ص: 371

فانقدح بما ذكرنا: أنّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول والأمارات فعليّاً، كي يشكل:تارةً: بعدم لزوم الإتيان حينئذٍ بما قامت الأمارة على وجوبه؛ ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائيّة، ما لم تَصِر فعليّة ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر، ولزوم الإتيان به ممّا لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

لا يقال: لا مجال لهذا الإشكال، لو قيل بأنّها كانت قبل أداء الأمارة إليها إنشائيّةً؛

___________________________________________

وما نحن فيه ليس كذلك، إذ حتّى في صورة الإذن بالحليّة الظاهريّة هناك إنشائيّ قريب من الفعلي.

{فانقدح بما ذكرنا} من أنّ الحكم الواقعي بين الإنشائي والفعلي {أنّه لا يلزم الالتزام ب-} ما التزم به شيخنا المرتضى(رحمة الله) في الرّسالة في الجمع بين الحكم الظّاهري والواقعي من {عدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول والأمارات فعليّاً} بل هو إنشائيّ محض {كي يشكل تارةً بعدم لزوم الإتيان حينئذٍ بما قامت الأمارة على وجوبه، ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائيّة ما لم تصر فعليّة} إذ مرتبة الإنشائيّة لو قام عليها العلم لم يلزم امتثالها، فكيف بقيام الأمارة عليها؟ {و} ذلك لأنّ الأحكام في مرتبة الإنشاء {لم تبلغ مرتبة البعث والزجر} وما لم تبلغ تلك المرتبة لم يلزم الإتيان بها.

{و} من المعلوم {لزوم الإتيان به} أي: بالحكم القائم عليه الأمارة، فإنّه {ممّا لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان}.والحاصل: أنّ بداهة لزوم الإتيان بالحكم القائم عليه الأمارة كاشفة عن أنّ الحكم ليس شأنيّاً، وهو مناف لما ذكره الشّيخ(رحمة الله) من شأنيّة الحكم الواقعي.

{لا يقال: لا مجال لهذا الإشكال} على الشّيخ(رحمة الله) {لو قيل بأنّها كانت قبل أداء الأمارة إليها إنشائيّة} إذ الحكم الإنشائي على قسمين: قسم لا يصير فعليّاً بقيام

ص: 372

لأنّها بذلك تصير فعليّة تبلغ تلك المرتبة.

فإنّه يقال: لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي - لا حقيقةً ولا تعبّداً - إلّا حكم إنشائيّ تعبّداً. لا حكم إنشائيّ أدّت إليه الأمارة: أمّا حقيقةً، فواضح. وأمّا تعبّداً، فلأنّ قصارى ما هو قضيّة حجيّة الأمارة: كون مؤدّاه هو الواقع تعبّداً، لا الواقع الّذي أدّت إليه الأمارة،

___________________________________________

الأمارة عليه، وقسم يصير فعليّاً بقيام الأمارة، والأحكام الإنشائيّة في ما نحن فيه من القسم الثّاني {لأنّها} أي: تلك الأحكام الإنشائيّة {بذلك} أي: بأداء الأمارة إليها {تصير فعليّة تبلغ تلك المرتبة} الفعليّة الموجبة للعمل على طبقها؛ لأنّها تكون حينئذٍ أحكاماً إنشائيّة متّصفة بقيام الأمارة عليها، والحكم الإنشائي المتّصف بقيام الأمارة فعليّ يترتّب عليه كلّ ما يترتّب على الأحكام الفعليّة.

وإن شئت قلت: إنّ مراد الشّيخ(رحمة الله) ليس الإنشائي الصّرف، بل الإنشائي الّذي إذا أدّت إليها الأمارة يصير فعليّاً، فإذا قامت الأمارة حصل الشّرطللفعليّة فيكون فعليّاً ويجب العمل به.

{فإنّه يقال: لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي - لا حقيقة ولا تعبّداً - إلّا حكم إنشائيّ تعبّداً، لا حكم إنشائي} متّصف بكونه {أدّت إليه الأمارة} إذ غاية ما تقتضيه أدلّة حجيّة الأمارات ثبوت مؤدّى الأمارة فلو أدّت إلى حكم إنشائيّ ثبت حكم إنشائيّ ولم يثبت حكم إنشائيّ أدّت إليه الأمارة، فإنّ ثبوت حكم إنشائيّ أدّت إليه الأمارة الّذي هو موضوع للفعليّة مركّب من جزءين، وبمجرّد قيام الأمارة لا يثبت الجزءان لا حقيقة ولا تعبّداً {أمّا حقيقة فواضح} إذ الأمارة لا تفيد العلم حتّى يتحقّق علمان: علم بالحكم الإنشائي وعلم بكونه مؤدّى الأمارة {وأمّا تعبّداً} أي: ثبوت كلا الجزءين بالتنزيل {فلأنّ قصارى ما هو قضيّة حجيّة الأمارة كون مؤدّاه هو الواقع تعبّداً} وتنزيلاً {لا الواقع الّذي أدّت إليه الأمارة}

ص: 373

فافهم.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الدليل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع - الّذي صار مؤدّى لها - ، هو دليل الحجيّة بدلالة الاقتضاء، لكنّه لا يكاد يتمّ إلّا إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائيّة أَثَرٌ أصلاً، وإلّا لم يكن لتلك الدلالة مجالٌ، كما لا يخفى.

___________________________________________

فما نحن فيه كالماء الكرّ لا بدّ وأن يتحقّق جزءاه - أي: المائيّة والكريّة - إمّا علماً، أو تنزيلاً أو بالاختلاف حتّى يتحقّق موضوع المطهريّة، فإذا لم يثبت أحدهما لا حقيقة ولا تعبّداً لم يطهّر {فافهم} جيّداً.نعم، لو كان لنا دليلٌ ثانٍ ينزّل الطرق والمؤدّى منزلة الواقع ذي الطريق ثبت ما ذكره الشّيخ(رحمة الله)، لكن أنّى لنا بذلك.

{اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ} دليل تنزيل المؤدّى منزلة الواقع كافٍ في ثبوت الجزءين، إذ لو لم يكن للحكم الإنشائي الواقعي أثر أصلاً، ثمّ جعل الشّارع الأمارة القائمة على الحكم الإنشائي حجّة لحكمنا بالتنزيل الثّاني صوناً لكلام الحكيم عن اللغويّة، فإنّ {الدليل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع الّذي صار مؤدّى لها هو دليل الحجيّة بدلالة الاقتضاء} الّتي هي صون كلام الحكيم من اللغويّة، فإنّه لو نزل المولى جزءاً من مركّب منزلة الواقع فهمنا منه أنّه نزل الجزء الآخر أيضاً وإلّا كان تنزيله الأوّل لغواً {لكنّه لا يكاد يتمّ} ما ذكر من دلالة الاقتضاء {إلّا إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائيّة أثر أصلاً، وإلّا} فلو كان للأحكام الإنشائيّة أثر {لم يكن لتلك الدلالة} أي: دلالة الاقتضاء {مجال} وللأحكام الإنشائيّة أثر في مقامنا وهو النّذر ونحوه، فجعل الحجيّة للأمارة بلحاظ تلك الآثار لا بلحاظ العمل {كما لا يخفى}.

ثمّ أنّا قد ذكرنا أنّه لا يلزم من الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي مورد الأصول والأمارات فعليّاً، كي يشكل تارةً بعدم

ص: 374

وأُخرى: بأنّه كيف يكون التوفيق بذلك؟ مع احتمال أحكام فعليّة - بعثيّة أو زجريّة - في موارد الطرق والأصول العمليّة المتكفّلة لأحكام فعليّة؛ ضرورة أنّه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين، كذلك لا يمكن احتماله.فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين بالتزام كون الحكم الواقعي - الّذي يكون مورد الطرق - إنشائيّاً غيرَ فعليّ.

___________________________________________

لزوم الإتيان بمؤدّى الأمارة؛ لأنّه غير فعليّ {و} تارة {أُخرى بأنّه كيف يكون التوفيق} بين الحكم الظاهري والواقعي {بذلك} الّذي ذكرتم من كون الحكم الواقعي إنشائيّاً والحكم الظاهري فعليّاً {مع احتمال} كون ال- {أحكام} الواقعيّة {فعليّة بعثيّة} في الأوامر {أو زجريّة} في النّواهي، إذ ما ذكرتم من احتمال كون الأحكام الواقعيّة إنشائيّة لا يكفي في رفع المنافاة، إذ كما يحتمل كونها إنشائيّة يحتمل كونها فعليّة {في موارد الطرق والأصول العمليّة المتكفّلة لأحكام} ظاهريّة {فعليّة}.

وإن قلت: احتمال كون الأحكام الواقعيّة شأنيّة كافٍ في رفع التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي.

قلت: ذلك لا يكفي {ضرورة أنّه} يبقى حينئذٍ احتمال التنافي، لا احتمال كون الواقع فعليّاً و{كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين كذلك لا يمكن احتماله} فإنّ رفع المنافاة بين الحكمين يلزم أن يكون بنحو لا يبقى معه احتمال التنافي وإلّا لم يكن دفعاً للمنافاة.

نعم، لا نقطع بالمنافاة لكنّه غير كافٍ، بل اللّازم القطع بعدم المنافاة وهو غير حاصل {فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين} الواقعي والظاهري {بالتزام كون الحكم الواقعي الّذي يكون مورد الطرق إنشائيّاً غير فعليّ} والحكم الظاهري الّذي هو مورد الطرق فعليّاً.

ص: 375

كما لا يصحّ التوفيق بأنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة، بل في مرتبتين؛ ضرورة تأخّر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين، وذلك لا يكاد يُجدي؛ فإنّ الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي، إلّا أنّه يكون في مرتبته أيضاً، وعلى تقدير المنافاة

___________________________________________

هذا كلّه في الإيراد على من دفع المنافاة بين الحكم الظاهري والواقعي بفعليّة أحدهما وإنشائيّة الآخر، و{كما} لم يصحّ هذا التوفيق {لا يصحّ التوفيق} الآخر الّذي ذكره بعض {بأنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة، بل في مرتبتين، ضرورة تأخّر الحكم الظاهري عن} الحكم {الواقعي بمرتبتين} إذ موضوع الحكم الواقعي هو الشّيء وموضوع الحكم الظاهري هو الشّكّ في الحكم الواقعي، فيلزم: أوّلاً الموضوع، ثمّ الحكم الواقعي، ثمّ الشّكّ في الحكم الواقعي، ثمّ الحكم الظاهري، ومع اختلاف موضوع الحكمين لا يلزم المنافاة بينهما، إذ من شرائط اجتماع النّقيضين أو المثلين وحدة الموضوع، وإلّا فجماديّة الحجر لا ينافي حيوانيّة الإنسان، كما أنّ بياض زيد لا ينافي بياض عمرو.

{و} إنّما قلنا: إنّ {ذلك} الجمع غير صحيح، إذ هو {لا يكاد يجدي} في رفع المنافاة {فإنّ} الحكم {الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب} الحكم {الواقعي} كما هو واضح، إذ ليس في مرتبة العلم بالحكم الواقعي أو الغفلة عن الحكم الواقعي حكم ظاهري {إلّا أنّه} أي: الحكم الواقعي {يكون في مرتبته} أي: مرتبة الحكم الظاهري {أيضاً} أي: كما أنّ الحكم الظاهري يكون في تلك المرتبة، فإنّ وجوب صلاة الجمعة الّذي هو حكم واقعيّ مثلاً ثابت لها سواءشكّ في الوجوب الّذي هو موضوع للحكم الظاهري أم لا.

{و} إن قلت: يكفي في عدم المنافاة بين الحكمين عدم اجتماعهما في مرتبة الحكم الواقعي.

قلت: هذا غير كافٍ، إذ {على تقدير المنافاة} بين الظاهري والواقعي

ص: 376

لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة.

فتأمّل في ما ذكرنا من التحقيق في التوفيق، فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق.

ثالثها: أنّ الأصل في ما لا يعلم اعتباره - بالخصوص - شرعاً، ولا يحرز التعبّد به واقعاً، عدَمَ حجيّته جزماً، بمعنى عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة

___________________________________________

{لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة} أي: مرتبة الحكم الظاهري {فتأمّل في ما ذكرنا من التحقيق في التوفيق} بين الحكم الواقعي ومؤدّى الأمارة والأصل {فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق}.

وإن شئت قلت: إنّ الوجوب لصلاة الجمعة ثابت في حال علم المكلّف بوجوبها وحال شكّه وحال غفلته وحال ظنّه، والحكم الظاهري - وهو عدم الوجوب - جعل لها في حال شكّ المكلّف، فإنّ الحكمين وإن لم يتعارضا في حال العلم والظنّ والغفلة مثلاً لكنّهما متعارضان في حال الشّكّ، إذ الحكم الواقعي موجود لفرض عموميّته أو الحكم الظاهري موجود لفرض كون موضوعه وهو الشّكّ في الحكم الواقعي موجود، فيلزم أن يريد المولى صلاة الجمعة وعدمها.

[تأسيس الأصل في المسألة]

المقصد السّادس: في الأمارات، تأسيس الأصل في المسألة

{ثالثها} أي: الثّالث من الأُمور الّتي ينبغي تقديمها قبل الخوض فيالأمارات في بيان الأصل الّذي هو المرجع عند الشّكّ في حجيّة الأمارة، فنقول: {أنّ الأصل في ما لا يعلم اعتباره - بالخصوص - شرعاً} بأن لم نعلم أنّ الشّارع جعله حجّة {ولا يحرز التعبّد به واقعاً} بأن لم نحرز قيام دليل على حجيّته، فإنّ الأمارة قد نعلم أنّ الشّارع جعلها حجّة، وقد نعلم أنّه قام دليل على حجيّتها - وإن لم نعلم بحجيّتها - وقد لا نعلم لا هذا ولا ذاك، بمعنى أنّه لا نعلم بحجيّتها ولم تقم حجّة معلومة على حجيّتها {عدم حجيّته جزماً} خبر «أنّ» {بمعنى عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة} كالتنجيز والإعذار والمدح والذمّ والثّواب والعقاب

ص: 377

عليه قطعاً؛ فإنّها لا تكاد تترتّب إلّا على ما اتّصف بالحجيّة فعلاً، ولا يكاد يكون الاتصاف بها إلّا إذا أحرز التعبّد به وجعله طريقاً متّبعاً؛ ضرورة أنّه بدونه لا يصحّ المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرّد إصابته، ولا يكون عذراً لدى مخالفته مع عدمها، ولا يكون مخالفته تجرّياً، ولا موافقته - بما هي موافقة - انقياداً، وإن كانت

___________________________________________

والانقياد والتجرّي {عليه} أي: على هذا المشكوك الحجيّة {قطعاً، فإنّها} أي: الآثار المرغوبة من الحجيّة {لا تكاد تترتّب إلّا على ما اتّصف بالحجيّة فعلاً} فإنّ الحجيّة الواقعيّة غير المحرزة لا تكون منجّزة للواقع ولا مصحّحة للعقوبة.

{ولا يكاد يكون الاتصاف بها} أي: بالحجيّة الفعليّة {إلّا إذا أُحرز التعبّد به، و} أُحرز {جعله طريقاً متّبعاً} وعلى هذا فالعلم جزء للموضوع حتّى أنّه لو لم يعلملم يتحقّق الموضوع {ضرورة أنّه بدونه لا يصحّ المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرّد إصابته} الواقع {ولا يكون عذراً لدى مخالفته مع عدمها} أي: مع عدم الإصابة، فالأمر المعتبر واقعاً الّذي لم يعلم به المكلّف إذا صادف الواقع لا يكون منجّزاً للتكليف بحيث تصحّ المؤاخذة بسبب ترك الواقع، وإذا خالف الواقع لا يكون عذراً للعبد حتّى يقول: بأنّي خالفت التكليف؛ لأنّ هذه الأمارة الّتي لم تصل إليّ أدّت إلى حكم مخالف للواقع. مثلاً: لو كان قول العدل الواحد طريقاً شرعاً لكن لم يعلم به المكلّف لم يكن مخالفته موجباً للعقاب في صورة إصابته الواقع ولا موافقته موجباً للثواب.

{و} هكذا {لا يكون مخالفته تجرّياً ولا موافقته بما هي موافقة انقياداً} فإنّ الأمر المعتبر واقعاً - الّذي لم يعلم به العبد - إذا خالفه العبد وكان هو في الحقيقة مخالفاً للواقع لا تكون هذه المخالفة تجرّياً، وإذا وافقه العبد لا تكون هذه الموافقة انقياداً، وهذا بخلاف ما إذا سلك الطريق الّذي هو مخالف للواقع في أنّ في موافقته انقياداً وفي مخالفته تجرّياً {وإن كانت} الموافقة

ص: 378

بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك، إذا وقعت برجاء إصابته. فمع الشّكّ في التعبّد به يقطع بعدم حجيّته، وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه؛ للقطع بانتفاء الموضوع معه. ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

___________________________________________

{بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك} أي: يكون انقياداً، فإنّه لو كان في الواقع الشّهرة حجّة لكن لم يعلم المكلّف حجيّتها، ثمّقامت شهرة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فدعا المكلّف برجاء مصادفة الواقع - والحال أنّها لم تصادف الواقع - كان هذا العمل انقياداً {إذا وقعت} الموافقة للشهرة في المثال {برجاء إصابته} الواقع، لكن لا يخفى أنّ مثل هذا احتياط بخلاف ما إذا علم حجيّة الشّهرة، فإنّه يجب عليه متابعتها، وإن كانت في الواقع أدّت إلى وجوب ما ليس في الواقع واجباً.

وكيف كان {فمع الشّكّ في التعبّد به} بالشيء {يقطع بعدم حجيّته وعدم ترتيب شيء من الآثار} للحجيّة {عليه} وذلك {للقطع بانتفاء الموضوع} للحجيّة {معه} أي: مع الشّكّ، إذ الموضوع للحجيّة هو المعلوم حجيّته، فإنّ العلم جزء للموضوع، كما تقدّم {ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان}.

ثمّ إنّه بما ذكرنا ظهر أنّ أثر الحجيّة هو الثّواب على الموافقة والعقاب على المخالفة - إذا وافقت الأمارة للواقع - وأثر الحجيّة هو الانقياد على الموافقة والتجرّي على المخالفة - إذا خالفت الأمارة للواقع.

وقد ذكر شيخنا المرتضى(رحمة الله) أنّ من آثار الحجيّة أمرين آخرين:

الأوّل: صحّة الاستناد إلى اللّه - تعالى - .

والثّاني: صحّة الالتزام بما أدّى عليه من الأحكام.

وأورد المصنّف(رحمة الله) على ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) بإيرادين:

الأوّل: أنّ هذين الأثرين ليسا من آثار الحجيّة، ولذا الظنّ الانسدادي بناءً على حكومة العقل بحجيّته لا يصحّ استناده إلى اللّه - تعالى - مع أنّه حجّة، ولا يصحّ

ص: 379

وأمّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه منالأحكام، وصحّةُ نسبته إليه - تعالى - فليسا من آثارها؛ ضرورة أنّ حجيّة الظنّ عقلاً - على تقرير الحكومة في حال الانسداد - لا توجب صحّتهما، فلو فرض صحّتهما شرعاً - مع الشّكّ في التعبّد به - لما كان يُجدي في الحجيّة شيئاً، ما لم يترتّب عليه ما ذكر من آثارها، ومعه

___________________________________________

الالتزام بما أدّى إليه الظنّ الانسدادي من الأحكام، مع أنّه حجّة.

الثّاني: أنّا لو فرضنا وجود أمارة مشكوكة لكن الشّارع أجاز نسبتها إلى اللّه - تعالى - وأجاز الالتزام بمؤدّاها لم تصر بذلك حجّة.

ومنه يتبيّن أنّ الحجيّة لا تدور مدار هذين الأثرين، بخلاف ما ذكرناه، فإنّ الحجيّة تدور مدار الثّواب والعقاب والتجرّي والانقياد.

وإلى هذا الكلام أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {وأمّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه من الأحكام وصحّة نسبته إليه - تعالى - ف-} قد ذكر شيخنا المرتضى(رحمة الله) أنّها من آثار الحجيّة حتّى أنّهما تدوران مدار الحجيّة فكلّما ثبتت الحجيّة لأمارة كانتا وكلّما انتفت الحجيّة عن شيء انتفتا لكن فيه أنّهما {ليسا من آثارها، ضرورة} عدم دورانها مدار الحجيّة، لعدم ترتّب هذين الأمرين مع وجود الحجيّة، ف- {أنّ حجّيّة الظنّ عقلاً} بمعنى وجوب العمل على طبق الظنّ المطلق بناءً {على تقرير الحكومة في حال الانسداد لا توجب صحّتهما} فالظنّ الانسدادي الحكومي حجّة، مع أنّه لا يمكن أن ينسب مؤدّاه إلى اللّه - تعالى - ولا يمكن الالتزام بمؤدّاه، إذ العقل يقول بحجيّة هذا الظنّ لا الشّرع حتّى ينسب إلى اللّه ويلتزم بمؤدّاه {فلو فرض صحّتهما} أي: الإسناد إلى اللّه والالتزام بمؤدّاه {شرعاً مع الشّكّ في التعبّد به}أي: بالظنّ مثلاً {لما كان يجدي في الحجيّة شيئاً} فقد ترتّب الأثر مع عدم وجود الحجيّة، فإنّ الحجيّة لا تكون {ما لم يترتّب عليه ما ذكر من آثارها} من صحّة العقاب والثّواب وتحقّق التجرّي والانقياد {ومعه} أي: مع ترتّب الآثار

ص: 380

لما كان يضرّ عدم صحّتهما أصلاً، كما أشرنا إليه آنفاً.

فبيان عدم صحّة الالتزام مع الشّكّ في التعبّد، وعدم جواز الاستناد إليه - تعالى - غير مرتبط بالمقام، فلا يكون الاستدلال عليه بمهمّ، كما أتعب به شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه نفسه الزكية - بما أطنب من النّقض والإبرام(1)، فراجعه بما علّقناه عليه(2)، وتأمّل.

___________________________________________

المذكورة على شيء الكاشف عن حجيّته {لما كان يضرّ} بالحجيّة {عدم صحّتهما} أي: عدم صحّة النّسبة إليه - تعالى - وعدم صحّة الالتزام {أصلاً، كما أشرنا إليه آنفاً} في الظنّ الانسدادي الحكومي الّذي هو حجّة وإن لم يترتّب عليه الأثران {فبيان عدم صحّة الالتزام مع الشّكّ في التعبّد و} بيان {عدم جواز الاستناد إليه - تعالى -} مع الشّكّ في التعبّد {غير مرتبط بالمقام} الّذي هو بيان الدليل على حجيّة شيء {فلا يكون الاستدلال عليه بمهم}.

اعلم أنّ الشّيخ(رحمة الله) - بعد ما ذكر أنّ الأصل في الظنّ عدم الحجيّة -استدلّ عليه: بأنّه لا يمكن الالتزام به ولا يمكن نسبته إلى اللّه - تعالى - بما دلّ من الآيات والأخبار على أنّ ما لم يعلم أنّه من قبل اللّه يكون افتراءً عليه ونحو ذلك، والمصنّف(رحمة الله) لمّا أشكل على كون الأثرين من آثار الحجيّة أبطل الاستدلال على عدم حجيّة الظنّ بالآيات الدالّة على أنّه افتراء ونحوه، إذ حجيّة الظنّ وعدمه لا تدور مدار صحّة النّسبة إليه - تعالى - وصحّة الالتزام وعدمهما حتّى يستدلّ بعدمهما على عدم الحجيّة.

وإلى هذا أشار بقوله: «فلا يكون» الخ {كما أتعب به} أي: بهذا الاستدلال {شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه نفسه الزكية - بما أطنب من النّقض والإبرام، فراجعه بما علّقناه عليه، وتأمّل}لكن جماعة من العلماء تعرّضوا لعدم صحّة إيراد

ص: 381


1- فرائد الأصول 1: 131.
2- درر الفوائد: 41.

وقد انقدح بما ذكرنا: أنّ الصّواب - في ما هو المهمّ في الباب - : ما ذكرنا في تقرير الأصل، فتدبّر جيّداً.

إذا عرفت ذلك، فما خرج موضوعاً عن تحت هذا الأصل أو قيل بخروجه، يذكر في ذيل فصولٍ:

فصل: لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشّارع في تعيين مراده في الجملة؛ لاستقرار طريقة العقلاء على اتّباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الرّدع عنها؛ لوضوح عدم اختراع طريقة أُخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه، كما هو واضح.

___________________________________________

المصنّف(رحمة الله) على الشّيخ(رحمة الله)، ولا مجال لنقله، فراجع الحواشيوالتعليقات(1).

{وقد انقدح بما ذكرنا أنّ الصّواب - في ما هو المهمّ في الباب - ما ذكرنا في تقرير الأصل} لعدم حجيّة ما شكّ في حجيّته {فتدبّر جيّداً} واللّه الموفّق.

{إذا عرفت ذلك} الأصل {فما خرج موضوعاً} بأن كان ظنّاً وكان حجّة {عن تحت هذا الأصل أو قيل بخروجه يذكر في ذيل فصول}:

[فصل في حجيّة الظواهر]

المقصد السّادس: في الأمارات، حجيّة الظواهر

{فصل} في حجيّة الظواهر {لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشّارع في تعيين مراده في الجملة} وأنّ قيّد عدم الشّبهة بهذا القيد، إذ المسلّم من حجيّة الظهور هو الظهور الّذي ظنّ بوفاقه لمراد المتكلّم وكان الشّخص من قصد إفهامه، أمّا مع عدم أحد القيدين فقد وقع الاختلاف في الحجيّة وعدمها، كما ياتي.

وإنّما قلنا بحجيّة الظهور {لاستقرار طريقة العقلاء على اتّباع الظهورات في تعيين المرادات} حتّى أنّ من يتردّد في ذلك رمي بالوسوسة والسّفاهة {مع القطع بعدم الرّدع عنها} في الشرع {لوضوح عدم اختراع} الشّارع {طريقة أُخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه} كأن يشترط كون الكلام نصّاً أو نحو ذلك {كما هو واضح}.

ص: 382


1- حقائق الأصول 2: 81-82.

والظّاهر: أنّ سيرتهم على اتّباعها من غير تقييد بإفادتها للظنّ فعلاً، ولا بعدمالظنّ كذلك على خلافها قطعاً؛ ضرورة أنّه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها: بعدم إفادتها للظنّ بالوفاق، ولا بوجود الظنّ بالخلاف.

كما أنّ الظاهر: عدم اختصاص ذلك بمن قُصد إفهامه، ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه، إذا خالف ما تضمّنه ظاهر كلام المولى، من تكليف يعمّه أو يخصّه،

___________________________________________

{و} إذ قد عرفت مسلّميّة حجيّة الظاهر في الجملة نبيّن أنّ المختار حجيّته مطلقاً، إذ {الظاهر} بل المقطوع به {أنّ سيرتهم على اتّباعها} أي: اتّباع الظواهر {من غير تقييد بإفادتها للظنّ فعلاً} فإنّهم يعملون بالظاهر وإن تردّدوا في كونه مراداً للمتكلّم، ولا يعتبرون في الاتّباع أن يظنّوا بكونه مراداً {ولا} تقييد {بعدم الظنّ كذلك} أي: فعلاً {على خلافها} أي: خلاف تلك الظواهر {قطعاً} فإنّ العبد إذا أمره المولى بأمر ثمّ لم يمتثل معتذراً بأنّه ظنّ أنّ الظاهر غير مراد لم يقبل عذره، ولامه العقلاء على ترك الطاعة واستحقّ العقاب من المولى، ولو كان حجيّة الظاهر مشروطة بعدم الظنّ على الخلاف لكان لعذره وجه.

وإلى هذا أشار بقوله: {ضرورة أنّه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها} أي: مخالفة الظواهر {بعدم إفادتها للظنّ بالوفاق} بأنّي كنت متردّداً في المراد {ولا} مجال للاعتذار عن المخالفة {بوجود الظنّ بالخلاف} بأن يقول: إنّي ظننت أنّ الظاهر ليس بمراد {كما أنّ الظاهر} بل المقطوع به {عدم اختصاص ذلك} أي: كون الظواهر حجّة {بمن قصد إفهامه} بهذا الظاهر {ولذا لا يسمع اعتذار من لايقصد إفهامه إذا خالف ما تضمّنه ظاهر كلام المولى} بأن يقول: لم يقصد المولى إفهامي، ولذا لم يكن الظاهر حجّة عندي، وعلى هذا خالفت الأمر.

وقوله: {من تكليف يعمّه أو يخصّه} بيان لقوله: «ما تضمّنه» أي: إنّه لو خالف التكليف الّذي هو عامّ بالنسبة إليه وغيره، أو التكليف الّذي كان خاصّاً به لم يسمع

ص: 383

ويصحّ به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج، كما تشهد به صحّة الشّهادة بالإقرار مِن كلّ مَن سمعه، ولو قصد عدم إفهامه، فضلاً عمّا إذا لم يكن بصدد إفهامه.

ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين، وأحاديث سيّد المرسلين والأئمّة الطاهرين، وإن ذهب بعض الأصحاب(1)

إلى عدم حجيّة ظاهر الكتاب:

إمّا بدعوى: اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، كما يشهد به ردع أبي حنيفة(2) وقتادة(3)

عن الفتوى به.

___________________________________________

عذره، والتكليف الخاصّ كأن يقول المولى لعبد يجب الفعل الفلاني على عبدي الآخر.

{ويصحّ} لكلّ من المولى إذا خالف العبد وللعبد إذا أتى {به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج، كما تشهد به صحّة الشّهادة بالإقرار من كلّ من سمعه، ولو قصد عدم إفهامه} بأن أراد المقرّ الإقرار فيالخفاء حتّى لا يعلم به أحد كي يشهد عليه {فضلاً عمّا إذا لم يكن بصدد إفهامه} كأن كان وجهة الكلام إلى شخص ولم يبال المتكلّم أفهم الشّخص الثّالث أم لا.

{ولا فرق في ذلك} أي: كون الظاهر حجّة {بين الكتاب المبين، وأحاديث سيّد المرسلين، و} أخبار {الأئمّة الطاهرين} صلوات اللّه عليهم أجمعين {وإن ذهب بعض الأصحاب} ككثير من الأخباريّين {إلى عدم حجيّة ظاهر الكتاب} وذلك لوجوه:

الأوّل: {إمّا بدعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به} وهم الأئمّة - عليهم الصّلاة والسّلام - {كما يشهد به} أي: باختصاص فهم القرآن بهم(علیهم السلام) {ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به} أي: بالقرآن، وقد قالوا(علیهم السلام) إنّه إنّما

ص: 384


1- الفوائد المدنيّة: 178؛ الدرر النجفيّة: 34.
2- وسائل الشيعة 27: 47.
3- الكافي 8: 311.

أو بدعوى: أنّه لأجل احتوائه على مضامين شامخة، ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أُولي الأنظار غير الرّاسخين العالمين بتأويله، كيف؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلّا الأوحديّ من الأفاضل، فما ظنّك بكلامه - تعالى - مع اشتماله على علم ما كان وما يكون، وحكم كلّ شيء؟

أو بدعوى: شمول المتشابه - الممنوع عن اتّباعه - للظاهر،

___________________________________________

يعرف القرآن من خوطب به، وإنّ اللّه لم يورث مثل أبي حنيفة وقتادة من كتابه حرفاً، فلو كان الظاهر حجّة لكان أبو حنيفة وأضرابه كسائر النّاس في جواز أنيفتوا من القرآن ويستفيدوا من ظواهره.

الثّاني: {أو بدعوى أنّه لأجل احتوائه} أي: القرآن {على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أُولي الأنظار} ففي رواية ابن الحجّاج «ليس شيء أبعد عن عقول الرّجال من القرآن»(1)،

فلا يفهم القرآن {غير الرّاسخين العالمين بتأويله} وهم الأئمّة الأطهار، و{كيف} يفهم القرآن أحد {و} الحال أنّه {لا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلّا الأوحديّ من الأفاضل، فما ظنّك بكلامه - تعالى - مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كلّ شيء؟} كما قال - تعالى - : {وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ}(2)، بناءً على تفسيره بالقرآن الحكيم، وكذا بعض الرّوايات الأُخر الدالّة على ذلك.

الثّالث: {أو بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر} وكيف لا يكون الظاهر متشابهاً وقد كثر فيه الخلاف، كما عرفت لا أقلّ من كون ظاهر القرآن متشابهاً لهذه الرّوايات ونحوها. وإن لم تذعن بأنّه متشابه قطعاً فنقول: إنّه

ص: 385


1- تفسير العيّاشي 1: 17 وفيه: «ليس أبعد من عقول الرجال من القرآن» وفي 1: 12: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن»، وفي وسائل الشيعة 27: 203 «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من القرآن».
2- سورة الأنعام، الآية: 59.

لا أقلّ من احتمال شموله، لتشابه المتشابه وإجماله.

أو بدعوى: أنّه وإن لم يكن منه ذاتاً، إلّا أنّه صار منه عرضاً؛ للعلم الإجماليبطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحد من ظواهره، كما هو الظاهر.

أو بدعوى: شمول الأخبار النّاهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل الكلام الظّاهر في معنىً، على إرادة هذا المعنى.

___________________________________________

{لا أقلّ من احتمال شموله} أي: شمول المتشابه للظاهر {لتشابه المتشابه وإجماله} فإنّه لم يعلم أنّ المتشابه المنهي عن اتّباعه في قوله - تعالى - : {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ}(1)، هل يشمل الظاهر أم لا؟ فاللّازم إطاعة هذا النّهي بعدم اتّباع كلّ ما يحتمل كونه متشابهاً حتّى يقطع بعدم متابعة المتشابه.

الرّابع: {أو بدعوى أنّه} أي: ظاهر القرآن {وإن لم يكن منه} أي: من المتشابه {ذاتاً} فإنّه لا تشابه فيه، بل هو من الحكم القسيم للمتشابه {إلّا أنّه صار منه} أي: من المتشابه {عرضاً} وذلك {للعلم الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحد من ظواهره} وحيث لا نعرف تلك الأُمور المخرجة للظاهر عن الحجيّة يلزم بحكم العلم الإجمالي أن لا نعمل بأيّ ظاهر من ظواهر القرآن {كما هو الظاهر} لتنجّز العلم الإجمالي.

الخامس: {أو بدعوى شمول الأخبار النّاهية عن تفسير القرآن بالرأي} كقوله(علیه السلام): «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النّار»(2)، {لحمل الكلام الظاهرفي معنىً على إرادة هذا المعنى} فلا يجوز الحمل على المعنى الظاهري؛ لأنّه من التفسرى بالرأي.

ص: 386


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- غوالي اللئالي 4: 104؛ وفي التوحيد: 91 هكذا «من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده من النار».

ولا يخفى: أنّ النّزاع يختلف صغرويّاً وكبرويّاً بحسب الوجوه، فبحسب غير الوجه الأخير والثّالث يكون صغرويّاً. وأمّا بحسبهما فالظاهر أنّه كبرويّ، ويكون المنع عن الظاهر إمّا لأنّه من المتشابه - قطعاً أو احتمالاً - ، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي.

وكلّ هذه الدعاوي فاسدة:

أمّا الأُولى:

___________________________________________

هذه هي الوجوه الّتي أقاموها للمنع عن حجيّة ظاهر القرآن.

{ولا يخفى أنّ النّزاع يختلف صغرويّاً وكبرويّاً بحسب الوجوه} ففي بعض الوجوه النّزاع صغرويّ وأنّه ليس للقرآن ظاهر أصلاً، وفي بعض الوجوه النّزاع كبرويّ، وإنّه بعد وجود الظاهر في القرآن لا يجوز العمل به {فبحسب غير الوجه الأخير} الخامس {والثّالث} وهي الأوّل والثّاني والرّابع {يكون} النّزاع {صغرويّاً} فلا ظاهر للقرآن {وأمّا بحسبهما} أي: بحسب الوجهين الثّالث والخامس {فالظاهر أنّه} أي: النّزاع {كبرويّ} بعد تسليم الصّغرى وأنّ للقرآن ظاهراً كسائر الظواهر {ويكون المنع عن الظاهر إمّا لأنّه من المتشابه قطعاً، أو} من المتشابه {احتمالاً} كما هو مقتضى الوجه الثّالث، فللقرآن ظاهر لكن لا يجوز العمل به؛ لأنّه من المتشابه المنهي عن اتّباعه {أو لكون حملالظاهر} في القرآن {على ظاهره} والعمل به يكون {من التفسير بالرأي} كما هو مقتضى الوجه الخامس. لكن لا يخفى أنّ الوجه الرّابع يمكن أن يقرّر صغرويّاً وكبرويّاً.

{و} على {كلّ} حالٍ جميعُ {هذه الدعاوي فاسدة} فللقرآن ظاهر ويجوز العمل بهذا الظاهر {أمّا} وجه فساد الدعوى {الأُولى} القائلة باختصاص فهم

ص: 387

فإنّما المراد ممّا دلّ على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله: اختصاص فهمه بتمامه - بمتشابهاته ومحكماته - ؛ بداهة أنّ فيه ما لا يختصّ به، كما لا يخفى.

وردعُ أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به، إنّما هو لأجل الاستقلال في الفتوى، بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقاً، ولو مع الرّجوع إلى رواياتهم، والفحص عمّا ينافيه، والفتوى به مع اليأس عن الظفر به، كيف؟ وقد وقع في غير واحد من الرّوايات الإرجاعُ إلى الكتاب، والاستدلالُ بغير واحدٍ من آياته.

___________________________________________

القرآن بأهل البيت(علیهم السلام) {فإنّما المراد ممّا دلّ على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله: اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته} لا فهم كلّ شيء منه حتّى الظاهر والصّريح والقصص والعبر والأمثال {بداهة أنّ فيه} أي: في القرآن {ما لا يختصّ به} أي: بأهله الّذين هم الأئمّة(علیهم السلام) {كما لا يخفى} بعد تأمّل قليل.{و} أمّا {ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به} أي: بالقرآن ف- {إنّما هو لأجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه} أي: إلى القرآن {من دون مراجعة أهله} كما كان ذلك عادة العامّة، ومن المعلوم أنّ الرّجوع إلى القرآن فقط موجب للفتوى بخلاف الحق، و{لا} يكون النّهي عن العمل بالظاهر نهياً {عن الاستدلال بظاهره مطلقاً ولو مع الرّجوع إلى رواياتهم والفحص عمّا ينافيه} من مخصّص او مقيّد أو قرينة مجاز أو نحو ذلك {والفتوى به} أي: بالقرآن {مع اليأس عن الظفر به} أي: الظفر بما ينافيه.

و{كيف} يكون الرّدع عامّاً {و} الحال أنّه {قد وقع في غير واحد من الرّوايات الإرجاع إلى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته} ولو لم يكن ظاهر الكتاب حجّة لما أرجع الأئمّة الرُّوَاة إليه، ولا استدلّوا به في مقام تفهيم المخاطب أنّ هذا الحكم مستفاد من الكتاب؟

ص: 388

وأمّا الثّانية: فلأنّ احتواءه على المضامين العالية الغامضة، لا يمنع عن فهم ظواهره - المتضمّنة للأحكام - وحجيّتها، كما هو محلّ الكلام.

وأمّا الثّالثة: فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه؛ فإنّ الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل، وليس بمتشابه ولا مجمل.

وأمّا الرّابعة: فلأنّ العلم إجمالاً بطروّ إرادة خلاف الظاهر، إنّما يوجب الإجمال في ما إذا لم ينحل

___________________________________________

{وأمّا} وجه فساد الدعوى {الثّانية} القائلة بأنّ احتواء القرآنعلى المضامين العالية مانع عن العمل بظواهره {فلأنّ احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمّنة للأحكام و} لا يمنع عن {حجيّتها} أي: حجّيّة تلك الظواهر {كما هو محلّ الكلام} نعم، الأُمور العالية الغامضة مخصوصة بأهل الببيت(علیهم السلام)، وليس فيه كلام.

{وأمّا} وجه فساد الدعوى {الثّالثة} القائلة بأنّ الظاهر من المتشابه {فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه} فإنّ المتشابه ما يتشابه على السّامع والظاهر ما يظهر له، فأحدهما يقابل الآخر {فإنّ الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل} الّذي لا يعرف المراد منه لحقيقة ومجاز مشهور أو اشتراك أو نحو ذلك {وليس} لفظ المتشابه {بمتشابه} حتّى يقال: إنّ المتشابه لا يدرى هل يشمل الظاهر أم لا، فاللّازم ترك الظاهر حتّى نقطع بعدم اتّباع المتشابه المنهي عنه {ولا مجمل} بل المتشابه مبيّن ومعلوم ولا يشمل الظاهر قطعاً.

{وأمّا} وجه فساد الدعوى {الرّابعة} القائلة بأنّ العلم الإجمالي بطروّ مخالفات للظاهر مانع عن العمل بأيّ ظاهر كان لتنجيز العلم الإجمالي {فلأنّ العلم إجمالاً بطروّ إرادة خلاف الظاهر} في ظواهر الكتاب وإن كان صحيحاً، لكن هذا العلم مانع عن العمل، و{إنّما يوجب الإجمال في ما إذا لم ينحلّ} بيقين تفصيلي

ص: 389

بالظفر - في الرّوايات - بموارد إرادة خلاف الظاهر، بمقدار المعلوم بالإجمال.

مع أنّ دعوى اختصاص أطرافه بما إذاتفحّص عمّا يخالفه لظفر به، غير بعيدة، فتأمّل جيّداً.

وأمّا الخامسة: فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير؛ فإنّه كشف القناع، ولا قناعَ للظاهر.

ولو سلّم، فليس من التفسير بالرأي؛

___________________________________________

وشكّ بدوي، والحال أنّه منحلّ في المقام {ب-} سبب {الظفر في الرّوايات} الواردة عن الأئمّة(علیهم السلام) {بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال}.

لا يقال: إنّ العلم الإجمالي لا ينحل بالفحص، إذ المعلوم بالإجمال وجود مقيّدات ومخصّصات و{مع} الفحص إنّما يحصل الظفر بالمقيّدات والمخصّصات الواردة في الأخبار لا كلّ مقيّد ومخصّص.

لأنّا نقول: لا نسلّم أنّ العلم الإجمالي وسيع الدائرة ف- {أنّ دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحّص عمّا يخالفه لظفر به غير بعيدة} فإنّ العلم الإجمالي مردّد بين الأمارات الّتي لو تفحّصنا عنها لظفرنا به، لا أنّ متعلّقه مردّد بين ما بأيدينا وغير ما بأيدينا حتّى لا ينحل بعد الفحص {فتأمّل جيّداً} نعم، قبل الفحص لا يجوز التمسّك لمنع العلم الإجمالي عنه.

{وأمّا} وجه فساد الدعوى {الخامسة} القائلة بشمول الأخبار النّاهية عن تفسير القرآن بالرأي للأخذ بالظاهر {ف-} فيه أنّه {يمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير، فإنّه} أي: لأنّ التفسير عبارة عن {كشف القناع ولا قناع للظاهر، ولو سلّم} أنّه من التفسير {ف-} لا مانع أيضاً عن هذا النّحو من التفسير، إذ {ليس من التفسير بالرأي} والمحرّمهو التفسير بالرأي، وإنّما قلنا أنّه ليس من التفسير

ص: 390

إذ الظاهر أنّ المراد بالرأي هو: الاعتبار الظنّي الّذي لا اعتبار به، وإنّما كان منه حملُ اللفظ على خلاف ظاهره، لرجحانه بنظره، أو حمل المجمل على محتمله، بمجرّد مساعدة ذاك الاعتبار عليه، من دون السّؤال عن الأوصياء. وفي بعض الأخبار: «إنّما هلك النّاس في المتشابه؛ لأنّهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرّفونهم»(1)،

___________________________________________

بالرأي {إذ الظاهر أنّ المراد بالرأي هو الاعتبار الظنّي الّذي لا اعتبار به} عند العقلاء {وإنّما كان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره لرجحانه بنظره} هذا علّة لما يستفاد من الكلام من أنّه لو لم يكن الاعتبار الظنّي معتبراً فلم يحمل الشّخص الكلام على هذا الأمر غير المعتبر.

والجواب: أنّه إنّما يحمله على خلاف ظاهره لرجحان هذا المعنى المحمول عليه في نظر الحامل {أو حمل المجمل على محتمله} عطف على «حمل اللفظ»، يعني إنّما يحمل المجمل على أحد معانيه المحتملة {ب-} سبب {مجرّد مساعدة ذاك الاعتبار} الظنّي {عليه} أي: على هذا المعنى المحتمل {من دون السّؤال عن الأوصياء} (علیهم السلام) الّذين أُمر النّاس بمراجعتهم في فهم القرآن.

{و} يدلّ على أنّ المحضور هو حمل المجمل على محتمله وليس تفسيرالظاهر محضوراً ما ورد {في بعض الأخبار} الّذي رواه السّيّد المرتضى(رحمة الله) في رسالة المحكم والمتشابه نقلاً عن تفسير النّعماني، عن إسماعيل بن جابر، عن الصّادق(علیه السلام) أنّه قال في حديث طويل: {«إنّما هلك النّاس في المتشابه؛ لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرّفونهم} ونبذوا قول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وراء ظهورهم» الحديث.

ص: 391


1- وسائل الشيعة 27: 200.

هذا.

مع أنّه لا محيص عن حمل هذه الرّوايات النّاهية عن التفسير به على ذلك، ولو سلّم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره؛ ضرورة أنّه قضيّة التوفيق بينها وبين ما دلّ على جواز التمسّك بالقرآن، - مثل خبر الثّقلين - ،

___________________________________________

{هذا مع أنّه} لو سلّم كون هذه الطائفة من الأخبار النّاهية من التفسير بالرأي ظاهرها ما ذكره الخصم من أنّها شاملة لحمل الظاهر على ظاهره، ف- {لا محيص عن} أن نقول بوجوب تخصيص هذا الإطلاق في الأخبار النّاهية، وأنّ المراد بها حمل المجمل على أحد معانيه بقرينة ما دلّ على لزوم العمل بالكتاب.

والحاصل: أنّ في المقام طائفتين من الأخبار:

الطائفة الأُولى: ما دلّ على النّهي للتفسير.

الثّانية: ما دلّ على وجوب العمل بالقرآن والتمسّك به، وبين الطائفتين عموم مطلق، إذ الأُولى تشمل حمل الظاهر على ظاهره وحمل المجمل على أحدمعانيه، والثّانية مختصّة بحمل الظاهر على ظاهره، فتخصّص الطائفة الأُولى بالثّانية، ويبقى حمل الظاهر على ظاهره داخلاً في أخبار الجواز.

والحاصل: {حمل هذه الرّوايات النّاهية عن التفسير به} أي: بالرأي {على ذلك} الّذي ذكر من حمل المجمل على محتمله {ولو سلّم شمولها} أي: شمول تلك الأخبار {لحمل اللفظ على ظاهره} أيضاً، وإنّما حملنا الأخبار على ذلك {ضرورة أنّه} أي: هذا الحمل {قضيّة} أي: مقتضى {التوفيق بينها} أي: بين هذه الأخبار النّاهية {وبين ما دلّ على جواز التمسّك بالقرآن} والمراد بالجواز هنا المعنى الأعمّ الشّامل للوجوب {مثل خبر الثّقلين} الوارد عن الرّسول(صلی الله علیه و آله) من قوله: «إنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن

ص: 392

وما دلّ على التمسّك به والعمل بما فيه، وعرضِ الأخبار المتعارضة عليه، وردّ الشّروط المخالفة له، وغير ذلك ممّا لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره، لا خصوص نصوصه؛ ضرورة أنّ الآيات الّتي يمكن أن تكون مرجعاً في باب تعارض الرّوايات أو الشّروط،

___________________________________________

تضلّوا»(1)، {وما دلّ على التمسّك به} أي: بالقرآن {والعمل بما فيه وعرض الأخبار المتعارضة عليه وردّ الشّروط المخالفة له} بمعنى أنّ الشّرطالواقع في العقد إذا كان مخالفاً للكتاب فهو مردود، كما لو شرط محرّماً في أثناء العقد فإنّ الشّرط المحرّم المخالف للكتاب مردود، فإنّه لو لم يجز العمل بظاهر القرآن لم يكن مجال لهذه الأُمور.

{وغير ذلك} ممّا دلّ على استدلال الأئمّة(علیهم السلام) بالظواهر للاحتجاج، كقوله(علیه السلام) في رواية عبد الأعلى، في حكم من عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة: «أنّ هذا وشبهه يعرف من كتاب اللّه {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ}»(2)

ثمّ قال(علیه السلام): «امسح عليه»(3).

فإنّ إحالة الإمام(علیه السلام) حكم المسح إلى الفهم من الكتاب تدلّ على عدم الاحتياج في أشباهه إلى السّؤال لوجودها في ظاهر الكتاب إلى غير ذلك {ممّا لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره} أي: ظواهر الكتاب {لا خصوص نصوصه}.

وقد عرفت في المثال السّابق في باب المسح أنّ الكتاب لم يكن نصّاً في ذلك وإنّما هو ظاهر ظهوراً ضعيفاً {ضرورة أنّ الآيات الّتي يمكن أن تكون مرجعاً في باب تعارض الرّوايات أو} أن تكون مرجعاً في باب {الشّروط} المخالفة للكتاب

ص: 393


1- رواه المخالف والمؤالف، راجع صحيح مسلم 5: 22؛ مسند أحمد 5: 492؛ كنز العمّال 1: 878؛ الصواعق المحرقة: 230؛ تحف العقول: 34؛ الإرشاد 1: 165؛ إحقاق الحق 9: 309، و 18: 261.
2- سورة الحج، الآية: 78.
3- تفسير العياشي 1: 303 وفيه: «تعرف هذا وأشباهه...»؛ الكافي 3: 33.

أو يمكن أن يتمسّك بها ويعمل بما فيها، ليست إلّا ظاهرة في معانيها، وليس فيها ما كان نصّاً، كما لا يخفى.

ودعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه بنحوٍ: إمّا بإسقاطٍ، أو بتصحيفٍ

___________________________________________

{أو يمكن أن يتمسّك بها ويعمل بما فيها ليست إلّا ظاهرة في معانيها وليس فيها ما كان نصّاً} إلّا نادراً {كما لا يخفى} على من راجع.

{و} إن قلت: هب أنّ ظواهر الكتاب ممّا يجوز العمل بها في نفسها لكن هناك طارئ يمنع عن العمل بها والأخذ بها، ب- {دعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو} من الأنحاء {إمّا بإسقاط} بعض الآيات والجمل كما قيل بالإسقاط بين قوله - تعالى - : {وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ}(1)، وبين قوله: {فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ}(2). {أو بتصحيف} والتصحيف هو تبديل نقطة أو حركة أو ما أشبههما كقراءة (ربّنا باعد بين أسفارنا) المشتهرة بصيغة الأمر من المفاعلة مراداً بها الدعاء وقراءة (باعد) بصيغة الماضي من المفاعلة مراداً بها الإخبار.

قلت: الظاهر عندنا وفاقاً لجمهرة المحقّقين أنّ القرآن لم ينقص منه ولم يزد أصلاً، وإنّما هذا الموجود بأيدينا هو القرآن الحكيم الّذي نزل على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، بل ادّعى جماعة الإجماع على ذلك.

قال شيخ الطائفة في التبيان: «وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق به أيضاً؛ لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانه. والنّقصان منه، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الّذي نصره المرتضى - رحمة اللّه عليه - وهو الظاهر في الرّوايات.

غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة، بنقصان كثير منآي

ص: 394


1- سورة النساء، الآية: 3.
2- سورة النساء، الآية: 3.

وإن كانت غيرَ بعيدةٍ - كما يشهد به بعض الأخبار، ويساعده الاعتبار - ، إلّا أنّه لا يمنع عن حجيّة ظواهره؛ لعدم العلم بوقوع الخلل فيها بذلك أصلاً.

ولو سلّم، فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام.

___________________________________________

القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد الّتي لا توجب علماً ولا عملاً، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها»(1)، انتهى.

مضافاً إلى أنّ هناك بعض الرّوايات الدالّة على أنّ المراد بتلك الرّوايات الّتي تدلّ على النّقصان في التأويل والتفسير، فإنّ قرآن الإمام(علیه

السلام) كان مع شرح بعض آياته تفسيراً وتأويلاً ممّا أنزله اللّه - تعالى - لا بعنوان القرآن، أو بيّنه الرّسول وكتبه الإمام أميرالمؤمنين(علیه

السلام)، كما يدلّ على ذلك بعض الأخبار، كما بيّنه السّيّد الوالد في كلمةٍ له حول عدم تحريف القرآن، نشرته لجنة الثّقافيّة الدينيّة في بعض أجوبتها.

هذا {وإن} سلّمنا الدعوى المذكورة وقلنا: إنّها {كانت غير بعيدة - كما يشهد به بعض الأخبار ويساعده الاعتبار -} الابتدائي حيث لا يوجد ارتباط ظاهر بين جملتين في بعض آيات القرآن ممّا يحتمل إسقاط شيء بينهما - كما تقدّم - {إلّا أنّه} أي: وقوع التحريف {لا يمنع عن حجيّة ظواهره} أي: ظواهر القرآن، وجه عدم المنع {لعدم العلم بوقوع الخلل فيها} أي: في الظواهر {بذلك} أي: بسبب التحريف {أصلاً} إذ من المحتمل وقوع التحريف في المتشابه، فيبقى ظواهرالكتاب سليمة عن الخلل {ولو سلّم} بوقوع الخلل في الظواهر أيضاً {ف-} إنّه لا يوجب عدم حجيّة الظواهر أيضاً؛ لأنّه {لا علم بوقوعه في آيات الأحكام} الّتي هي محلّ الكلام هنا، إذ حجيّة الظواهر وعدمها إنّما تنفع في استنباط الأحكام من الكتاب، فإذا لم نعلم بوقوع التحريف في آيات الأحكام - وإن علمنا بوقوعه في

ص: 395


1- التبيان في تفسير القرآن 1: 3.

والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات، غيرُ ضائرٍ بحجيّة آياتها؛ لعدم حجيّة ظاهر سائر الآيات. والعلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجيّتها إذا كانت كلّها حجّة، وإلّا

___________________________________________

القرآن في الجملة - لم يكن مانع عن التمسّك بآيات الأحكام في استفادة المسائل الشّرعيّة منها.

{و} إن قلت: هب أنّا لا نعلم بوقوع التحريف في آيات الأحكام، لكن {العلم} الإجمالي {بوقوعه} أي: التحريف {فيها} أي: في آيات الأحكام {أو في غيرها من الآيات} كافٍ في عدم جواز التمسّك بآيات الأحكام؛ لأنّها صارت طرفاً للعلم الإجمالي، ولا فرق في عدم جواز التمسّك بين أن نعلم وقوع التحريف في آيات الأحكام نفسها أو نعلم بوقوع التحريف في إحدى الطائفتين من آيات الأحكام أو سائر الآيات.

قلت: هذا العلم الإجمالي بوقوع التحريف في إحدى الطائفتين {غير ضائر بحجيّة آياتها} أي: آيات الأحكام؛ لأنّ العلم الإجمالي إنّما يؤثّر إذا كان كلّ طرف من أطراف العلم ذا أثر شرعي، أمّا إذا لم يكن أحد الطرفين ذا أثر شرعي فليس العلم منجّزاً، كما أنّه لو علمنا بوقوع نجاسة في أحد إناءين أحدهما خارج عن محلّ الابتلاء، فإنّ العلم لا يؤثّر في الاجتناب عنالطرف الّذي هو محلّ الابتلاء.

وما نحن فيه من هذا القبيل {لعدم حجيّة ظاهر سائر الآيات} الّتي ليست مرتبطة بالأحكام، وإذا لم تكن سائر الآيات حجّة كان أحد طرفي العلم بدون أثر، فلا يكون العلم منجّزاً، ويكون كما لو علمنا بوقوع تحريف في هذا الحديث أو كلام زيد الّذي لا أثر له، فإنّ هذا العلم لا يوجب سقوط الحديث عن الحجيّة.

{و} الحاصل: أنّ {العلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجيّتها} أي: حجيّة آيات الأحكام {إذا كانت} الظواهر {كلّها حجّة وإلّا} تكن كلّها حجّة فلا

ص: 396

لا يكاد ينفكّ ظاهر عن ذلك، كما لا يخفى، فافهم.

___________________________________________

يستلزم العلم الإجمالي سقوط آيات الأحكام عن الحجيّة، إذ {لا يكاد ينفكّ ظاهر عن ذلك} العلم الإجمالي، فيلزم عدم حجيّة الظواهر مطلقاً؛ لأنّا نعلم إجمالاً بوقوع تحريف في بعض الظواهر في الجملة.

أقول: هذا هو بناء جماعة من الأصوليّين، فإنّهم ذهبوا إلى عدم حجيّة الظواهر الّتي لا تتعرّض للأحكام لعدم الأثر لها والحجيّة إنّما تكون في ما له أثر، لكن مبنى جماعة آخرين - وهو الظاهر عندنا - أنّ الظواهر كلّها حجّة سواء كانت متعرّضة للقصص أو أحوال المعاد أو سائر الأُمور الّتي لا ترتبط بالأحكام، بل ربّما يعدّ من ضروريّات المتشرّعة، وما استدلّوا به لعدم الحجيّة غير تامّ، فإنّ الأثر العلمي ليس كلّ ما يؤخذ به حتّى أن يكون هو المعيار، بل بناء العقلاء على لزوم الأخذ بما ثبت بالطرق العادية من كلام الموالي، أرأيت لو ثبت أن قال المولى: (إنّ دور البلدة النّائية ألف) ثمّ قال أحد عبيده: (لا أعلم كم عدد الدور)لكان عند العرف غير مبال بكلام المولى ومستحقّاً لعقاب المخالف.

وكيف كان، ففي الجواب الأوّل كفاية، مضافاً إلى أنّ أوجه التحريف - لو صحّت - معلومة مذكورة في الكتب المرتبطة بهذا الموضوع، كفصل الخطاب وغيره، فلا مورد للعلم الإجمالي أصلاً {كما لا يخفى} على من راجع {فافهم} لعلّه إشارة إلى ما ذكر.

وحيث ذكر المصنّف أنّ الخلل الواقع في الآيات لا يضرّ بآيات الأحكام لدوران الخلل بين آيات الأحكام وسائر الآيات، ودوران الأمر بين الحجّة واللّاحجّة غير ضارّ بالحجّة استثنى عن هذا الإطلاق ما لو كان الخلل بحيث يضرّ بظاهر آيات الأحكام، كما لو كان هناك قرينة لم تعلم أنّها قرينة لآية الحكم أم لآية أُخرى وكانت القرينة متّصلة، فإنّها تمنع من العمل بظاهر تلك الآية الّتي للحكم لعدم انعقاد ظهور لها.

ص: 397

نعم، لو كان الخلل المحتمل فيه، أو في غيره بما اتصل به، لأخلّ بحجيّته؛ لعدم انعقاد ظهور له حينئذٍ، وإن انعقد له الظهور لولا اتصاله.

ثمّ إنّ التحقيق: أنّ الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور - مثل: (يطّهرن)(1) بالتّشديد

___________________________________________

وإلى هذا أشار بقوله: {نعم، لو كان الخلل المحتمل فيه} أي: في ظاهر آية الأحكام {أو في غيره} من ظاهر سائر الآيات {بما} أي: بقرينة - والظرف متعلّق ب-«الخلل» - {اتصل} تلك القرينة - والضّمير في «اتصل» عائد إلى «ما» - {به} أي: بظاهر آية الأحكام{لأخلّ بحجيّته} أي: بحجيّة ظاهر آية الحكم {لعدم انعقاد ظهور له حينئذٍ} أي: حين اتصاله بمحتمل القرينيّة {وإن انعقد له الظهور لولا اتصاله} أي: اتصال ظاهر آية الحكم بما يحتمل قرينيّته.

ومثال ذلك ما لو قال المولى: (رأيت أسداً وجئني بأسد وهو رامٍ) فإنّ احتمال رجوع الضّمير إلى كلّ من الأسدين مانع عن انعقاد الظهور في (جئني بأسد) في الحيوان المفترس، وإنّما شرط المصنّف اتصال القرينة بآية الأحكام؛ لأنّها إذا لم تتصل انعقد الظهور فلا مانع عن العمل بها، كما لا يخفى.

{ثمّ إنّ التحقيق أنّ الاختلاف في القراءة} غير مانع عن العمل بما هو المتواتر المكتوب عليه المصحف، فإنّ الظاهر أنّ هذا المكتوب عليه المصحف هو المنزل الّذي تداوله المسلمون منذ أوّل النّزول إلى يوم النّاس هذا، فإنّ توفّر دواعي المسلمين وحفظهم للقرآن من أوّل البعثة يشهدان بأنّ ما بأيدينا اليوم هو القرآن المنزل، وما يدلّ على خلاف ذلك ضعيف، كما حقّق في محلّه.

وربّما يقال: بأنّ الاختلاف في القراءة {بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل: (يطّهرن) بالتشديد} الّذي مفاده حرمة مقاربة المرأة إذا خرجت من الحيض قبل

ص: 398


1- سورة البقرة، الآية: 222.

وبالتخفيف - يوجب الإخلال بجواز التمسّك والاستدلال؛ لعدم إحراز ما هو القرآن.

ولم يثبت تواتُر القراءآت، ولا جوازُ الاستدلال بها، وإن نُسِبَ إلى المشهور تواترها(1)،

___________________________________________

الاغتسال؛ لأنّه - تعالى - قال: {وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ} {و} يطهرن {بالتخفيف} الّذي مفاده جواز المقاربة قبل الاغتسال؛ لأنّ الطهر عبارة عن النّقاء عن الحيض {يوجب الإخلال بجواز التمسّك} بالظاهر {و} بجواز {الاستدلال} فلا يمكن أن يستدلّ بهذه الآية الكريمة لجواز الوطي قبل الاغتسال ولا لحرمته قبل الاغتسال، وذلك {لعدم إحراز ما هو القرآن} المنزل من هذين اللفظين.

{و} إن قلت: قد ادّعى بعض الأعاظم - كالشهيد(رحمة الله) وغيره - تواتر القراءآت السّبع، وذلك كافٍ في جواز الاستدلال بالظاهر.

قلت: إن أُريد بتواتر القراءآت تواترها من القرّاء السّبعة فذلك غير نافع، إذ قراءة أُولئك ليست حجّة، وإن أُريد تواترها عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) وذلك بأنّ النّبيّ(صلی الله علیه و آله) قرأ الآيات بهذه الأوجه السّبعة، ففيه أنّه {لم يثبت تواتر القراءآت} بل الإنصاف أنّ الثّابت خلافه.

{و} إن قلت: فرضنا عدم تواتر القراءآت لكن يجوز الاستدلال بكلّ قراءة، لما ثبت من أنّ الأئمّة - عليهم الصّلاة والسّلام - استدلّوا بهذا القرآن، وليس القرآن إلّا المقروّ بهذه القراءآت.

قلت: هذا {لا} يصحّ لأنّه لم يثبت {جواز الاستدلال بها} وما ذكره من وجه الجواز مغالطة، إذ استدلال الأئمّة(علیهم السلام) مذكور في الكتب وليس فيه الاستدلال بالقراءآت، فالجزء السّلبي من الاستدلال في غير محلّه.

والحاصل: أنّه لا يصحّ شيء من الأمرين {وإن نسب إلى المشهور تواترها} أو

ص: 399


1- رسائل الشهيد الثّاني 1: 628.

لكنّه ممّا لا أصل له، وإنّما الثّابت جواز القراءة بها، ولا ملازمة بينهما، كما لا يخفى.

ولو فرض جواز الاستدلال بها، فلا حاجةلملاحظة الترجيح بينها، بعد كون الأصل في تعارض الأمارات، هو سقوطها عن الحجيّة في خصوص المؤدّى، بناءً على اعتبارها من باب الطريقيّة، والتخييرُ بينها بناءً على السّببيّة،

___________________________________________

قيل بجواز الاستدلال بها {لكنّه ممّا لا أصل له وإنّما الثّابت} هذه القراءة المتعارفة وجواز الاستدلال بها وحدها.

وما يقال: من {جواز القراءة بها} أي: بالقراءآت السّبع أيضاً غير معلوم {و} لو ثبت فرضاً ف- {لا ملازمة بينهما} أي: بين جواز القراءة وجواز الاستدلال {كما لا يخفى} إذ لعلّ جواز القراءة لِمَا عُلِّلَ في بعض الأحاديث أنّه لا يهيج القرآن اليوم {ولو فرض جواز الاستدلال بها} أي: بالقراءآت المختلفة {ف-} في محلّ التعارض هل نقول بحجيّة كلّ واحد من المؤدّيين تخييراً؟ أم نقول بإعمال قواعد الترجيح؟ أم نقول بسقوطهما عن الحجيّة لما دلّ على سقوط المتعارضين؟ احتمالات، والمصنّف(رحمة الله) على أنّه {لا حاجة لملاحظة الترجيح بينها} بأن يكون الأقوى من حيث القارئ أو الأوفق بالسياق والقواعد مقدّماً على غيره {بعد كون الأصل في تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجيّة في خصوص المؤدّى بناءً على اعتبارها من باب الطريقيّة، والتخيير بينها بناءً على السّببيّة} أي: إنّ الأمارات المتعارضة إن قلنا بأنّها طريق إلى الواقع كان مقتضى الأصل سقوطها جميعاً والرّجوع إلى الأصل العملي؛ لأنّ دليل الحجيّة لا يشمل الطرق المتعارضة.

وإن قلنا بأنّ لها الموضوعيّة والسّببيّة - بمعنى وجوب العمل بها حتّى في موردالتعارض؛ لأنّ في نفس الأمارة مصلحة - كان مقتضى الأصل التخيير بينها، كما في الأُمور المتزاحمة. وعلى أيّ التقديرين لا تصل النّوبة إلى الترجيح.

ومراد المصنّف(رحمة الله) بعدم الحاجة إلى الترجيح عدم وصول النّوبة إليه لا أنّه

ص: 400

مع عدم دليل على الترجيح في غير الرّوايات من سائر الأمارات، فلا بدّ من الرّجوع حينئذٍ إلى الأصل أو العموم، حسب اختلاف المقامات.

فصل: قد عرفت حجيّة ظهور الكلام في تعيين المرام:

___________________________________________

ممكن غير محتاج إليه، ولذا ترقّى(رحمة الله) عن ذلك بقوله: {مع عدم دليل على الترجيح في غير الرّوايات من سائر الأمارات} بيان «غير الرّوايات» أي: إنّ أدلّة الترجيح إنّما هي في الرّوايات المتعارضة، فسائر الأمارات المتعارضة كآيتين أو إجماعين أو ما أشبههما لا دليل لإعمال قواعد الترجيح في ما تعارض منها {فلا بدّ من الرّجوع} في القراءتين المتعارضتين {حينئذٍ} أي: حين إذ قلنا بأنّها من باب الأمارات الطريقيّة الّتي لا دليل لإعمال الترجيح فيها {إلى الأصل} العملي من براءة واستصحاب واحتياط وتخيير {أو العموم} والإطلاق {وحسب اختلاف المقامات} فإن كان عموم أو إطلاق فهو المرجع وإلّا الأصل العملي.

نعم، قد يقع الاشتباه في المرجع هل هو الأصل أو العموم، مثلاً: في مورد الكلام وهو آية {وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ}(1)، إذا نظفت من الدم ولم تغتسل هل المرجع عموم قوله - تعالى - : {نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡفَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ}(2)، أم استصحاب حالة الدم أم البراءة؟

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الأقوى عندنا إنّما هو القراءة المتعارفة قراءة واستدلالاً وتمسّكاً، فلا يصل الكلام إلى هذه الأُمور.

[فصل طرق إحراز الظهور]

المقصد السّادس: في الأمارات، طرق إحراز الظهور

{فصل} في بعض الأُمور المرتبطة بالظهور {قد عرفت حجيّة ظهور الكلام في تعيين المرام} فلو كان للّفظ ظهور في معنى ولم تنصب قرينة على خلاف ذلك

ص: 401


1- سورة البقرة، الآية: 222.
2- سورة البقرة، الآية: 223.

فإن أُحرز بالقطع، وأنّ المفهوم منه جزماً - بحسب متفاهم أهل العرف - هو ذا، فلا كلام.

وإلّا، فإن كان لأجل احتمال وجود قرينة، فلا خلاف في أنّ الأصل عدمها.

لكن

___________________________________________

الظاهر وجب الأخذ به، لكن لا بدّ من إحراز الظهور بالقطع، يعني نعلم أنّ هذا اللفظ ظاهر في هذا المعنى حتّى نستكشف المراد من الظاهر.

والحاصل: أنّ هنا مقامين: الأوّل: كون اللفظ ظاهراً في معنى، الثّاني: كون هذا الظاهر مراد المتكلّم. واللّازم إحراز المقام الأوّل بالقطع {فإن أُحرز بالقطع، و} ذلك بأن علم {أنّ المفهوم منه} أي: من الكلام {جزماً بحسب متفاهم أهل العرف هو ذا} المعنى {فلا كلام} في جواز استنباط مراد المولى من هذا الظاهر المقطوع ظهوره {وإلّا} يحرز الظهور بالقطع بأن شككنا في الظهور ولم نعلم هل هذا الكلام الملقى إلى العبد ظاهر في المعنى الكذائي أم لا، فمنشأ الشّكّ لا يخلوعن أحد أُمور:

الأوّل: أن يكون اللفظ ظاهراً في المعنى لكن يشكّ في الظهور لاحتمال وجود قرينة عقليّة أو لفظيّة.

الثّاني: أنّ الشّكّ في قرينيّة الموجود.

الثّالث: أن يشكّ في الموضوع له اللفظ هل هو هذا المعنى أم ذاك.

{فإن كان} الشّكّ بالسبب الأوّل، أي: {لأجل احتمال وجود قرينة} في المقام صارفة عن الظاهر ظهوره {فلا خلاف في أنّ الأصل عدمها} وذلك لأنّه لو فتح هذا الباب انسدّ باب التمسّك بالظاهر؛ لأنّه قلّما يكون ظاهر لا يحتمل وجود قرينة عقليّة أو فعليّة صارفة للظاهر.

{لكن} لا يخفى أنّ في المقام خلافاً، وهو هل أنّ العمل بالظاهر في مورد

ص: 402

الظاهر أنّه معه يبنى على المعنى الّذي لولاها كان اللفظ ظاهراً فيه ابتداءً، لا أنّه يبنى عليه بعد البناء على عدمها، كما لا يخفى، فافهم.

وإن كان لاحتمال قرينيّة الموجود، فهو وإن لم يكن بخالٍ عن الإشكال - بناءً على حجيّة أصالة الحقيقة من باب التعبّد - ،

___________________________________________

يحتمل وجود القرينة فيه إنّما يستند إلى أصالة الظهور فقط أم يستند إلى أصلين: الأوّل: أصالة عدم القرينة، والثّاني: أصالة الظهور؟ ذهب بعض إلى الثّاني وأنّه في مورد محتمل القرينة لا بدّ من إجراء أصلين، والمصنّف وغيره على الأوّل وأنّ {الظاهر} لدى أهل المحاورة {أنّه} أي: الشّأن {معه} أي: مع احتمال وجود القرينة {يبنى على المعنى الّذي لولاها}أي: لولا القرينة {كان اللفظ ظاهراً فيه ابتداءً} أي: البناء على أصالة الظهور ابتدائي، وهذه الأصالة هي الّتي تعيّن المعنى {لا أنّه يبنى عليه} أي: على المعنى {بعد البناء على عدمها} أي: على عدم القرينة، إذ العرف إنّما يفهم من الأمر مثلاً، الوجوب، لأصالة الظهور، لا لأصالة عدم القرينة، فإذا قيل لهم: لم حملت الأمر على الوجوب؟ قال: لأنّه ظاهر فيه، ولم يقل: لأنّ الأصل عدم القرينة {كما لا يخفى} لمن تدبّر قليلاً {فافهم} لعلّه إشارة أنّ أصالة عدم القرينة من المرتكزات العرفيّة، والعرف وإن لم يعرف ذلك تفصيلاً إلّا أنّ الارتكاز كافٍ في كونه مستنداً.

{وإن كان} الشّكّ في الظهور بالسبب الثّاني، أي: {لاحتمال قرينيّة الموجود} بأن كان اللفظ الظاهر في المعنى مكتنفاً بشيء يحتمل أن يكون قرينة صارفة عن ظهور الظاهر، كما لو كان الأمر واقعاً عقيب الحظر فإنّ الوقوع عقيب الحظر محتمل للقرينيّة، بأن يكون صارفاً عن ظهور الأمر في الوجوب {فهو وإن لم يكن بخالٍ عن الإشكال} للشكّ في أنّ مستند العقلاء في التمسّك بالظواهر هل يكون {بناءً على حجيّة أصالة الحقيقة من باب التعبّد} حتّى أنّ العقلاء يحملون كلّ لفظ

ص: 403

إلّا أنّ الظاهر أن يعامل معه معاملة المجمل.

وإن كان لأجل الشّكّ في ما هو الموضوع له لغة، أو المفهوم منه عرفاً، فالأصلُ يقتضي عدم حجيّة الظنّ فيه؛

___________________________________________

على معناه الحقيقي تعبّداً - أي: وإن لم يكن اللفظ ظاهراً فيه - فكأنّه تعبّد منالعقلاء في الحمل على المعنى الحقيقي ما لم يظهر خلافه، أم يكون بناءً على حجيّة أصالة الظهور وأنّه ليس في المقام تعبّد من العقلاء، بل العقلاء يحملون اللفظ على معناه الحقيقي إذا كان ظاهراً فيه.

أمّا إذا شكّ في الظهور - لاكتناف الكلام بما يحتمل القرينيّة - فلا تعبّد منهم في الحمل على المعنى الحقيقي، فإن كان الأوّل لم يعتن بالقرينة المحتملة وأُخذ بالظاهر، وإن كان الثّاني لم يؤخذ بالظاهر للشكّ فيه.

{إلّا أنّ الظاهر} من موارد الاستدلال {أن} يكون بناء العقلاء هو الثّاني وأنّهم إنّما يأخذون بالظاهر تحكيماً لأصالة الظهور لا استناداً إلى التعبّد، وعلى هذا {يعامل معه} أي: مع هذا الكلام عند احتمال قرينيّة الموجود {معاملة المجمل} فلا يؤخذ بظاهره {وإن كان} الشّكّ في الظهور بالسبب الثّالث، أي: {لأجل الشّكّ في ما هو الموضوع له لغة} بأن لم يعلم الموضوع له اللفظ، كما لو لم يعلم المعنى اللغوي للصعيد أو الوطن أو الإناء أو ما أشبهها.

{أو} كان لأجل الشّكّ في ما هو {المفهوم منه عرفاً} مع العلم بالمعنى اللغوي، كما لو ورد وجوب نزح كذا دلواً لموت الدابّة، ولم يعلم أنّ المعنى العرفي من الدابّة هو الحمار أو الفرس بعد العلم بأنّ معناها اللغوي كلّ ما يدبّ على وجه الأرض، {فالأصل يقتضي عدم حجيّة الظنّ فيه} لما تقدّم من وجوب إحراز الصّغرى بالقطع، والصّغرى هي قولنا: (هذا ظاهر) حتّى تحمل عليها الكبرى وهو قولنا: (كلّ ظاهر حجّة) فإذا لم تتمّ الصّغرى - بأن لم نعلم علماً قطعيّاً

ص: 404

فإنّه ظنّ في أنّه ظاهر، ولا دليل إلّا على حجيّة الظواهر.نعم، نسب إلى المشهور(1)

حجيّة قول اللغوي - بالخصوص - في تعيين الأوضاع.

واستدلّ لهم باتفاق العلماء - بل العقلاء - على ذلك، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله

___________________________________________

بأنّ اللفظ ظاهر في المعنى الفلاني - لم تتمّ الكبرى {فإنّه ظنّ في أنّه ظاهر ولا دليل إلّا على حجيّة الظواهر} المعلومة كونها ظاهرة.

{نعم} ربّما يقال بحجيّة بعض الظواهر المشكوكة لبعض الأدلّة الخارجيّة، فإنّه {نسب إلى المشهور حجيّة قول اللغوي بالخصوص} أي: بما هو قول اللغوي من باب الظنّ الخاصّ لا من باب الظنّ المطلق الانسدادي {في} باب {تعيين الأوضاع} فإذا قال اللغوي: إنّ معنى الصّعيد كذا، أو معنى الغناء كذا، ثبت المعنى بمجرّد قول اللغوي، من غير فرق بين إفادة قوله للظنّ وعدمها، إذ الحجيّة من باب الظنّ النّوعي - أي: أنّ نوع النّاس يحصل لهم من قول اللغوي الظنّ - وعليه فهو حجّة وإن حصل الظنّ على خلافه.

والحاصل: أنّه إن حصل القطع أو الاطمئنان العادي من قول اللغوي أو اجتمع فيه ما يعتبر في باب الشّهادة من العدد والعدالة فلا إشكال في التمسّك بقوله، وليس ذلك من باب أنّه قول اللغوي، بل من باب حصول القطع الّذي هو حجّة بنفسه وكذا الاطمئنان، أو من باب حصول شرائط الشّهادة الموجبة لحجيّة متعلّقها.

وأمّا إذا لم يحصل شيء من الأُمور المذكورة - بأن شكّ أو ظنّ على خلافه - فالمشهور حجيّة قوله أيضاً.{واستدلّ لهم باتفاق العلماء} قولاً وعملاً {بل} اتفاق {العقلاء على ذلك} أي: على الأخذ بقول اللغوي بمجرّده {حيث لا يزالون يستشهدون بقوله} أي: بقول

ص: 405


1- فرائد الأصول 1: 173.

في مقام الاحتجاج، بلا إنكار من أحد، ولو مع المخاصمة واللجاج.

وعن بعض دعوى الإجماع على ذلك.

وفيه: أنّ الاتّفاق - لو سلّم اتفاقه - فغيرُ مفيدٍ.

مع أنّ المتيقّن منه هو الرّجوع إليه مع اجتماع شرائط الشّهادة من العدد والعدالة. و

___________________________________________

اللغوي {في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد، ولو} كان الاستدلال {مع المخاصمة واللجاج} في البحث، فإنّه لو تنازع اثنان في أنّ الصّعيد هل هو مطلق وجه الأرض، أو التراب فقط، فقال أحدهما بالأوّل ثمّ تحاكما إلى اللغة وخرج المعنى ممّا يؤيّد أحدهما اقتنع الآخر، وليس ذلك إلّا لارتكاز حجيّة قول اللغوي، فإنّه لو لم يكن حجّة لم يكن وجه للتحاكم إليه ولا لاقتناع الخصم.

{وعن بعض} وهو السّيّد المرتضى(قدس سره)(1) {دعوى الإجماع على ذلك} أي: على حجيّة قول اللغوي.

أقول: المشهور هو المختار، وما ذكر له من الأدلّة لا بأس بها ومناقشات المصنّف(رحمة الله) فيها تبعاً للشيخ(رحمة الله) محلّ نظر، ولا مجال للتفصيل.

{و} على أيّ حال فالمصنّف على عدم حجيّة قول اللغوي بما هو هو لعدم تماميّة الدليل المتقدّم، إذ {فيه أنّ الاتفاق} من العلماء على الحجيّة- كما ادّعي - {لو سلّم اتفاقه} ولم ننكر أصل الاتفاق، ووجه الإنكار أنّهم إنّما اتفقوا على الأخذ بقول اللغوي في ما أورث القطع أو الاطمئنان لا مطلقاً {فغيرُ مفيدٍ} إذ لا دليل على حجيّة مثل هذا الاتفاق {مع أنّ المتيقّن منه} أي: من الاتفاق {هو الرّجوع إليه} أي: إلى قول اللغوي {مع اجتماع شرائط الشّهادة من العدد} بأن يكون اللغوي اثنين {والعدالة}.

أقول: لا يخفى أنّ سيرة العقلاء حتّى المتشرّعة منهم ليست على ذلك {و}

ص: 406


1- راجع مفاتيح الأصول: 61؛ وفرائد الأصول 1: 174.

الإجماع المحصّل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصاً في مثل المسألة، ممّا احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجلّ - لولا الكلّ - هو اعتقاد أنّه ممّا اتفق عليه العقلاء، من الرّجوع إلى أهل الخبرة من كلّ صنعة في ما اختصّ بها.

والمتيقّن من ذلك إنّما هو في ما إذا كان الرّجوع موجباً للوثوق والاطمئنان، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل

___________________________________________

أمّا {الإجماع} الّذي ادّعاه السّيّد ف- {المحصّل} منه {غير حاصل} لأنّا لم نظفر بأقوال جميع العلماء على ذلك، بل رأينا في كلام بعض العلماء - كالشيخ وغيره - خلاف ما ذكره السّيّد {والمنقول منه} أي: من الإجماع {غير مقبول} لعدم دليل على حجيّة الإجماع المنقول، كما سيأتي في مبحث الإجماع {خصوصاً في مثل} هذه {المسألة} الّتي يحتمل استناد الإجماع إلى دليل آخر.وقد تقرّر في مبحث الإجماع أنّ الإجماع المحتمل الاستناد ليس بحجّة وإنّما اللّازم مراجعة المستند المحتمل، وهذه المسألة لو سلّم الإجماع فيها لا يمكن الاستناد إلى الإجماع؛ لأنّه {ممّا احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجلّ لولا الكلّ هو اعتقاد أنّه ممّا اتفق عليه العقلاء} فيكون الإجماع {من} جهة بناء العقلاء على {الرّجوع إلى أهل الخبرة من كلّ صنعة} وحيث إنّ اللغوي من أهل الخبرة لمعاني الألفاظ رجعوا إليه {في ما اختصّ بها} الضّمير يعود إلى «ما» الّذي يكون المراد به «الصّنعة».

والحاصل: أنّه لا إشكال في حجيّة قول أهل الخبرة، فتوهّم أنّ اللغوي من أهل الخبرة ولذا يرجعون إليه.

{و} فيه أوّلاً: منع الكبرى بأنّ {المتيقّن من ذلك} أي: من رجوع العقلاء إلى أهل الخبرة {إنّما هو في ما إذا كان الرّجوع موجباً للوثوق والاطمئنان} وليس رجوعهم إلى أهل الخبرة مطلقاً {ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل}

ص: 407

لا يكون اللغوي من خبرة ذلك، بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال؛ بداهة أنّ همّه: ضبط موارده، لا تعيين أنّ أيّاً منها كان اللّفظ فيه حقيقة أو مجازاً، وإلّا لوضعوا لذلك علامةً. وليس ذكره أوّلاً علامة كون اللفظ حقيقةً فيه؛ للانتقاض بالمشترك.

___________________________________________

يكون قول اللغوي مهيّئاً للوثوق لدى تراكم الأقوال وتتبّع موارد الاستعمال.وثانياً: منع الصّغرى، إذ {لا يكون اللغوي من خبرة ذلك} أي: خبرة الوضع {بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة أنّ همّه} أي: همّ اللغوي {ضبط موارده} أي: موارد الاستعمال {لا تعيين أنّ أيّاً منها} أي: من الاستعمالات {كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازاً، وإلّا} فلو كان همّ اللغوي تعيين الحقيقة والمجاز {لوضعوا لذلك علامة} والحال أنّهم لم يصنعوا كذلك، بل يسردون المعاني سرداً سواء كانت معاني حقيقيّة أم مجازيّة.

{و} إن قلت: لعلّ ذكر المعنى في أوّل المعاني علامة الحقيقة.

قلت: {ليس ذكره أوّلاً علامة كون اللفظ حقيقة فيه، ل-} عدم دليل على ذلك من أقوالهم أو سيرتهم، مضافاً إلى {الانتقاض بالمشترك} الّذي يسردون معانيه وكلّها حقيقة.

أقول: لكن الظاهر أنّ كلّاً من الصّغرى والكبرى تامّة، فالعقلاء يرجعون إلى أهل الخبرة مطلقاً إلّا إذا تيقّنوا الخطأ، وها هم العقلاء لا يفرّقون في لزوم الأخذ بقول الخبير بين حصول الوثوق وعدم حصوله، كما أنّ اللغوي مصداق من مصاديق أهل الخبرة، والقول بأنّه من أهل خبرة الاستعمال كافٍ، إذ الاستعمال بلا قرينة كاشف عن الوضع سواء كان تعيينيّاً أم تعيّنيّاً، ولم تجر عادة اللغويّين إلّا بذكر معاني الألفاظ لا ما يستعمل اللفظ فيه مجازاً، ولذا تراهم لا يذكرون من معاني الأسد: الرّجل الشّجاع، وإن كان هذا المجاز من أشهر المجازات وأكثرها دوراً في ألسنة أهل العلم، فالإنصاف حجيّة قول اللغوي.

ص: 408

وكونُ موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن تحصى - لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالباً، بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه، وإن كانالمعنى معلوماً في الجملة - لا يوجبُ اعتبار قوله مادام انفتاح باب العلم بالأحكام، كما لا يخفى.

___________________________________________

{و} إن قلت: هب أنّ قول اللغوي ليس بحجّة من باب الظنّ الخاصّ إلّا أنّه حجّة من باب الظنّ المطلق، لانسداد باب العلم بخصوصيّات المعاني، فإذا لم نعتبر قول اللغوي حجّة لزم مخالفة الواقع كثيراً.

قلت: {كون موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن تحصى} - وذلك {لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالباً، بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه} مثلاً: لا يعلم أنّ الماء الكبريتي داخل في مفهوم الماء المطلق حتّى يكون مطهّراً من الحدث والخبث أم خارج حتّى لا يكون مطهّراً، وهكذا إنّ أرض الجصّ داخل في مفهوم الصّعيد حتّى يجوز التيمّم به أم خارج حتّى لا يجوز، وهكذا المصفاة داخلة في مفهوم الآنية حتّى يحرم كونها من الذهب أم لا، فإنّ هذه الأفراد مشكوكة الدخول والخروج {وإن كان المعنى معلوماً في الجملة} فإنّ مفاهيم الماء والصّعيد والآنية جليّة عند العرف - {لا يوجب} الانسداد في باب اللغة {اعتبار قوله} أي: قول اللغوي وقوله: «لا يوجب» خبر قوله: «وكون»، وإنّما لا يوجب الانسداد حجيّة قول اللغوي {مادام انفتاح باب العلم بالأحكام} يعني أنّ المعيار في حجيّة الظنّ المطلق هو انسداد باب العلم بالأحكام، سواء انفتح باب العلم بسائر الخصوصيّات المرتبطة بالأحكام، كعلم الرّجال وعلم اللغة وما أشبههما، فإذا كان باب العلم بالأحكام مفتوحاً لم يعتبر الظنّ المطلق ولو في ما انسدّ فيه باب العلم، وإذا كان باب العلم بالأحكام منسدّاً اعتبر الظنّ ولو في ما لم ينسدّ فيهباب العلم {كما لا يخفى}.

وجه ذلك: أنّ من مقدّمات العمل بالظنّ المطلق عدم جريان البراءة، لإيجابها

ص: 409

ومع الانسداد كان قوله معتبراً - إذا أفاد الظنّ - من باب حجيّة مطلق الظنّ، وإن فُرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها في ما عدا المورد.

نعم، لو كان هناك دليل على اعتباره، لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجباً له

___________________________________________

الخروج من الدين، وعدم جريان الاحتياط، لإيجابه العسر والحرج والإخلال بالنظام.

وعلى هذا فإن كان الأخذ بالبراءة أو الاحتياط عند انسداد باب العلم باللغة ممّا يترتّب عليه المحذوران المذكوران فقد تمّت مقدّمات الانسداد في الأحكام وجاز الأخذ بكلّ ظنّ بالحكم، سواء كان ظنّاً في المعنى اللغوي أو وثاقة النّاقل أو غيرهما، وحينئذٍ لا وجه لادّعاء حجيّة قول اللغوي بالخصوص، بل الحجيّة مطلق الظنّ وإن لم يترتّب عليه المحذوران جرت البراءة أو لزم الاحتياط، ويمتنع حينئذٍ الاعتماد على قول اللغوي.

{و} الحاصل: أنّه مع الانفتاح لا حجيّة في قول اللغوي، و{مع الانسداد كان قوله معتبراً إذا أفاد الظنّ من باب حجيّة مطلق الظنّ} الانسدادي {وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها} ف- {في ما عدا المورد} المشكوك يؤخذ بالعلم، وفي المورد المشكوك يؤخذ بالظنّ الانسدادي الحاصل من قول اللغوي، لفرض انسداد باب العلم الموجب لحجيّة مطلق الظن.{نعم} انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات يمكن أن يكون سبباً لجعل الشّارع قوله حجّة، لكن ليس هناك دليل على ذلك الجعل، كما أنّ العقل وحده لا يتمكّن من جعل الحجيّة لقول اللغوي بمجرّد هذا الانسداد، إذ لا يلزم من عدم حجيّة قوله اختلال أو عسر وحرج. وإلى هذا المطلب أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {لو كان هناك دليل على اعتباره} أي: اعتبار قول اللغوي {لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجباً له} أي: لاعتباره.

ص: 410

على نحو الحكمة، لا العلّة.

لا يقال: على هذا لا فائدة في الرّجوع إلى اللغة.

فإنّه يقال: مع هذا لا يكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها؛ فإنّه ربّما يوجب القطع بالمعنى، وربّما يوجب القطع بأنّ اللفظ في المورد ظاهرٌ في معنىً - بعد الظفر به وبغيره في اللغة - وإن لم يقطع بأنّه حقيقة فيه أو مجاز، كما اتفق كثيراً، وهو يكفي في الفتوى.

___________________________________________

وحقّ العبارة أن يقول: لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجباً لاعتبار قول اللغوي - لو وجد هناك دليل على الاعتبار - بمعنى اقتضاء الانسداد بتفاصيل اللغات وجود الدليل {على نحو الحكمة، لا العلّة} فيكون الانسداد حكمة لحجيّة قول اللغوي، ولا يلزم من وجود الحكمة وجود المسبّب وليس علّة حتّى يكون اللّازم وجود المسبّب.

{لا يقال: على هذا} الّذي ذكرتم من عدم حجيّة قول اللغوي {لا فائدة في الرّجوع إلى اللغة} وذلك خلافالبديهي من سيرة العقلاء.

{فإنّه يقال: مع هذا} الّذي ذكرتم من عدم حجيّة قول اللغوي {لا يكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها} أي: إلى كتب اللغة، إذ الفائدة ليست منحصرة في الحجيّة {فإنّه} أي: الرّجوع {ربّما يوجب القطع بالمعنى} ففائدة تكون في إيجاده القطع الّذي هو حجّة {وربّما يوجب القطع بأنّ اللفظ في المورد} الكذائي {ظاهر في معنى} خاصّ {بعد الظفر به} أي: بهذا المعنى الخاصّ {وبغيره} من سائر المعاني {في} كتب {اللغة} وهذا الظهور هو المطلوب {وإن لم يقطع بأنّه حقيقة فيه} أي: في هذا المعنى {أو مجاز، كما اتفق كثيراً} بأنّه لم يعرف الحقيقة والمجاز وإن عرف الظهور {وهو} أي: الظهور {يكفي في} مقام {الفتوى} للاستناد إلى الظهور المستفاد من اللغة.

ص: 411

فصل: الإجماع المنقول بالخبر الواحد حجّة عند كثير ممّن قال بحجيّة الخبر بالخصوص، من جهة أنّه من أفراده، من دون أن يكون عليه دليلٌ بالخصوص، فلا بدّ في اعتباره

___________________________________________

ثمّ إنّه ربّما يقال: كيف أنكر المصنّف(رحمة الله) سابقاً حصول الوثوق من قول اللغوي والحال يقول بحصول القطع من قوله؟

والجواب: أنّه لا منافاة، إذ المراد من الكلام السّابق أنّه لا يحصل الوثوق من مجرّد قول لغوي، والمراد من هذا الكلام حصول القطع أحياناً بسبب مراجعة كتب متعدّدة.

أقول: لكنّك قد عرفت عدم تماميّة ما ذكره سابقاً، بل الوثوق النّوعي حاصلمن كلام اللغوي كسائر أهل الخبرة، ومثل هذا الوثوق هو مدار الحجيّة وإن لم يحصل الاطمئنان الشّخصي، ولذا لو ظهر الخصم عدم الوثوق باللغة في ما وافقت خصمه عدّ ذلك فراراً وتعلّلاً في غير محلّه.

[فصل حجّيّة إجماع المنقول]

اشارة

المقصد السّادس: في الأمارات، حجيّة إجماع المنقول

{فصل} ومن الظنون الخاصّة الّتي ادّعي حجيّتها بالخصوص فخرجت من عموم حرمة العمل بالظنّ {الإجماع المنقول بالخبر الواحد} كما لو ادّعى الشّيخ أو العلّامة أو الشّهيد - رحمهم اللّه - في مسألةٍ الإجماعَ، فيجوز الاستناد إليه في إثبات الحكم الشّرعي وإن لم نحقّق نحن بأنفسنا ذلك، فهو {حجّة عند كثير ممّن قال بحجيّة الخبر} الواحد {بالخصوص} لا من باب الظنّ المطلق الانسدادي، وإنّما كان حال الإجماع حال خبر الواحد عند القائل بحجيّة الخبر {من جهة أنّه} أي: الإجماع المنقول {من أفراده} أي: من أفراد الخبر {من دون أن يكون عليه} أي: على الإجماع المنقول {دليل بالخصوص} إذ لا دليل من كتاب أو سنّة أو عقل على حجيّة الإجماع المنقول {فلا بدّ في اعتباره} أي: اعتبار الإجماع المنقول

ص: 412

من شمول أدلّة اعتباره له، بعمومها أو إطلاقها.

وتحقيق القول فيه يستدعي رسم أُمور:

الأوّل: أنّ وجه اعتبار الإجماع هو: القطع برأي الإمام(علیه السلام).

ومستند القطع به لحاكيه - على ما يظهر من كلماتهم - هو: علمه بدخوله(علیه السلام) في المجمعين شخصاً، ولم يعرف عيناً، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه(علیه السلام) عقلاً منباب اللطف،

___________________________________________

{من شمول أدلّة اعتباره} أي: اعتبار الخبر الواحد {له} أي: للإجماع المنقول {بعمومها أو إطلاقها} الضّميران يعودان إلى أدلّة اعتبار الخبر.

{وتحقيق القول فيه} أي: في وجه حجيّة الإجماع {يستدعي رسم أُمور} ثلاثة:

[الأمر الأوّل]

{الأوّل: أنّ} الإجماع ليس بحجّة بما هو إجماع حتّى يكون في عرض الأدلّة الثّلاثة الأُخرى: الكتاب، والسّنّة، والعقل، وإنّما {وجه اعتبار الإجماع هو القطع برأي الإمام(علیه السلام)} أو معصوم آخر عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) والصّدّيقة(علیها السلام)، بل سائر الأنبياء، وإن كان الأخير نادراً جدّاً لو فرض وجوده {ومستند القطع به} أي: برأي الإمام {لحاكيه} أي: حاكي الإجماع {على ما يظهر من كلماتهم} أحد أُمور أربعة: الدخول، واللطف، والحدس، والتشرّف.

فالأوّل: {هو علمه} أي: علم حاكي الإجماع {بدخوله(علیه السلام) في المجمعين شخصاً ولم يعرف عيناً} إذ لو عرفه عيناً كان ذلك من باب الخبر لا من باب الإجماع، وذلك في ما لو علم أنّ الإمام داخل في هؤلاء الأعلام المجتمعين في محلّ خاصّ وكلّهم أفتوا بحكم، فإنّه يعلم بدخول الإمام في الإفتاء حينئذٍ.

والثّاني: من أسباب قطع الحاكي للإجماع ما أشار إليه بقوله: {أو قطعه} أي: قطع الحاكي للإجماع {باستلزام ما يحكيه لرأيه(علیه السلام) عقلاً من باب اللطف} فلو اتفق

ص: 413

أو عادة، أو اتفاقاً من جهة الحدس برأيه، وإن لم تكن ملازمة بينهما عقلاً ولا عادة،

___________________________________________

أهل عصر على فتوى وكان حكم اللّه - تعالى - مخالفاً لذلك الرّأي وجب على الإمام إبداء الخلاف؛ لأنّه لو لم يظهر الخلاف لم يكن اللّه - تعالى - مقرّباً إلى طاعته ومبعّداً عن معصيته، والحال أنّ التقريب إلى الطاعة والتبعيد عن المعصية ببيان الأحكام للأنام لطف واجب عليه - سبحانه - كما استدلّ بهذا الدليل لإرسال الرّسل ونصب الأئمّة(علیهم السلام) فإذا اتفق أهل العصر على رأيٍ واحدٍ كشف ذلك عن رأي الإمام من باب قاعدة اللطف الّتي هي قاعدة عقليّة كما قرّرت في الكلام، وحجيّة الإجماع من هذه الجهة إنّما هو على مبنى الشّيخ(رحمة الله) وأتباعه.

والثّالث: من أسباب قطع الحاكي للإجماع ما أشار إليه بقوله: {أو} قطعه باستلزام ما يحكيه لرأي الإمام(علیه السلام) {عادة أو اتفاقاً من جهة الحدس برأيه} والحدس، هو العلم الحاصل من غير طريق الحواس الظاهرة، فيقال في تقرير وجه الحدس، إنّ العلماء الّذين يتقيّدون بالشرع ولا يخالفونه قيد شعرة إذا اجتمعوا على أنّ الحكم الكذائي هو حكم اللّه - تعالى - انتقل الذهن من هذا الإجماع إلى أنّ الإمام(علیه السلام) موافق لهم، وإلّا لم ينسبوا هذا الحكم إلى الشّرع، كما أنّ التلاميذ الّذين يتقيّدون برأي أستاذهم إذا رأيناهم اجتمعوا على رأيٍ انتقل الذهن بنا من رأيهم هذا إلى أنّه رأي أُستاذهم.

والفرق بين العادة والاتّفاق أنّ الأوّل غالبي - بمعنى أنّه معتاد عند النّاس - والثّاني أحياني {وإن لم تكن ملازمة بينهما} أي: بين الإجماع وبين رأي الإمام {عقلاً} لعدم قولنا باللطف {ولا عادة} ولامنافاة بين الحدس عادةً وعدم الملازمة عادةً، إذ التلازم وليد علّيّة أو اشتراك في العلّيّة، ولا نريد أن نقول بعلّيّة قول الإمام للإجماع ولا كونهما معلولين لعلّة ثالثة، وإنّما نريد أن نقول: إنّ عادة النّاس جرت باستكشاف رأي الإمام من رأي المجمعين حدساً، كما لا يخفى.

ص: 414

كما هو طريقة المتأخّرين في دعوى الإجماع، حيث إنّهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقليّة ولا الملازمة العادية غالباً، وعدمِ العلم بدخول جَنَابه(علیه السلام) في المجمعين عادةً، يحكون الإجماع كثيراً.

___________________________________________

ثمّ إنّ استكشاف رأي الإمام من الإجماع بطريق الحدس هو الأقرب في غالب الإجماعات {كما هو طريقة المتأخّرين في دعوى الإجماع، حيث إنّهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقليّة} من باب اللطف - كما كان مبنى الشّيخ وأتباعه رحمهم اللّه - {ولا} الاعتقاد ب- {الملازمة العادية} كما كان مبنى بعض {غالباً} قيد «عدم الاعتقاد» {وعدم العلم بدخول جَنَابه(علیه السلام) في المجمعين عادة} الّذي كان أوّل الأسباب الّتي ذكرناها وجهاً لقطع مدّعي الإجماع {يحكون الإجماع كثيراً} فلا وجه له بالسير والتقسيم إلّا الحدس، إذ الرّابع من الأقسام وهو التشرّف - كما يأتي - ليس قطعاً، فلا بدّ وأن يكون الحدس.

لا يقال: الحدس أيضاً غير تامّ، إذ الغالب وجود دليل لفظي أو عقلي في المسألة، فلعلّ مستندهم هذا الدليل، وإذا جاء هذا الاحتمال لم يكن وجه لأن نجعل هذه الإجماعات من باب الحدس.

لأنّا نقول: قد تقرّر في محلّه أنّ الإجماع المحتمل الاستناد ليس بحجّة، فإذاكان هناك إجماع ولم يكن محتمل الاستناد - بأن لم يكن في المسألة دليل أصلاً ولم يكن أحد الوجوه المذكورة من اللطف والتشرّف والدخول محتملاً - كان اللّازم القول بأنّ الحجيّة من باب الحدس، لكن الإنصاف أنّه لم نجد إجماعاً غير محتمل الاستناد، حتّى أنّ ما يقال - من الإجماع على حرمة نكاح الزاني المخلوقة من مائه، وأنّ المستند هو ذاك؛ لأنّها ليست بنتاً شرعاً حتّى تحرم من باب دخولها في عنوان البنت فلا مستند محتمل للإجماع - قد يتأمّل فيه من جهة الأدلّة الدالّة على حرمة البنت ونحوها، كالأُمّ والخالة والعمّة وأُمّ الزوجة ومن

ص: 415

كما أنّه يظهر ممّن اعتذر عن وجود المخالف بأنّه معلوم النّسب، أنّه استند في دعوى الإجماع إلى العلم بدخوله(علیه السلام)، وممّن اعتذر عنه بانقراض عصره، أنّه استند إلى قاعدة اللطف، هذا. مضافاً إلى تصريحاتهم بذلك، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم.

___________________________________________

إليهنّ، وما دلّ على أنّ «للعاهر الحجر»(1)

لا يصلح مقيّداً لهذا الإطلاق.

وكيف كان فلو أُريد من اعتقاد المتأخّرين بالإجماع من باب الحدس على سبيل حكاية نظرهم فلا بأس به، وإن أُريد كون الحدس أقرب الوجوه ففيه نظر {كما أنّه يظهر ممّن} يدّعي الإجماع في مسألة فيستشكل عليه بأنّه كيف يدّعي الإجماع والحال أنّ بعض العلماء مخالفون؟ فنراه {اعتذر عن وجود المخالف بأنّه معلوم النّسب} وأنّ معلوم النّسب لا يضرّ بالإجماع؛ لأنّه ليس إماماً قطعاً حتّى يضرّ خروجه عنالمجمعين.

أقول: يظهر ممّن يعتذر هكذا {أنّه استند في دعوى الإجماع إلى العلم بدخوله(علیه السلام)} وأنّه ممّن يرى حجيّة الإجماع من باب الدخول لا من باب اللطف والحدس والتشرّف {و} كذلك يظهر {ممّن} يدّعي الإجماع، فإذا استشكل عليه وجود المخالف {اعتذر عنه} أي: عن وجود المخالف {بانقراض عصره} أي: قال: إنّ المخالف قد مات ولم يخالف بعده أحد وقد تحقّق الإجماع بعد ذلك المخالف {أنّه استند إلى قاعدة اللطف} إذ شرط اللطف عدم وجود المخالف ولو في عصر واحد، فإذا رأينا مدّعي الإجماع يحاول بيان اتفاق الكلمة في عصر واحد وأنّه لا يبالي بالمخالف في سائر العصور علمنا أنّه يستند في حجيّة الإجماع إلى قاعدة اللطف.

ثمّ إنّ {هذا} الاستكشاف من اعتذاراتهم ليس وحده دليلاً على مشاربهم في وجه حجيّة الإجماع، بل إنّه يدلّ على تلك المشارب {مضافاً إلى تصريحاتهم بذلك على ما يشهد به مراجعة كلماتهم} المذكورة في باب الإجماع.

ص: 416


1- الكافي 5: 491.

وربّما يتفق لبعض الأوحدي وجه آخر، من تشرّفه برؤيته(علیه السلام) وأخذه الفتوى من جنابه، وإنّما لم ينقل عنه، بل يحكى الإجماع لبعض دواعي الإخفاء.

الأمر الثّاني: أنّه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع:

فتارةً: ينقل رأيه(علیه السلام) في ضمن نقله حدساً - كما هو الغالب -

___________________________________________

{و} الرّابع من أسباب قطع المدّعى للإجماع برأي الإمام(علیه السلام) ما أشار إليه بقوله: {ربّما يتفق لبعض الأوحدي وجه آخرمن تشرّفه برؤيته(علیه السلام)} في زمان الغيبة {وأخذه الفتوى من جنابه} كما ينقل ذلك عن المقدّس الأردبيلي(قدس سره)، بل احتمل مثله في بعض إجماعات السّيّد بحر العلوم - رحمة اللّه تعالى عليه - {وإنّما لم ينقل عنه} (علیه السلام) {بل يحكي الإجماع لبعض دواعي الإخفاء} لما يروى من تكذيب مدّعى الرّؤية في زمان الغيبة، أو لأنّه لو فتح هذا الباب لدخل الطامعون منه وثلموا في الأحكام، ولعلّ هذه الرّواية الآمرة بتكذيب المدّعي إنّما صدرت لهذه المصلحة، فإنّ تكذيب الصّادق في موارد قليلة خير من أن تفتح أبواب الكذب والتزوير في الأحكام الإلهيّة، والأمر بالتكذيب ونحوه لا ينافي صدق المدّعي واقعاً.

والحاصل: أنّ لرواية التكذيب محامل منها هذا الّذي ذكرناه.

[الأمر الثّاني]

{الأمر الثّاني} من الأُمور المرتبطة بالإجماع المنقول فيه طرفان:

الطرف الأوّل: {أنّه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع} وإنّه قد يكون نقلاً للسبب والمسبّب وقد يكون نقلاً للسبب فقط، والمراد بالسبب هو قول العلماء الّذي يكشف عن قول الإمام، والمراد بالمسبّب هو قول المعصوم {فتارة ينقل} السّبب والمسبّب، وذلك بنقل {رأيه(علیه السلام) في ضمن نقله} للإجماع ويكون هذا النّقل لرأي الإمام {حدساً كما هو الغالب} بأن يكون ناقل الإجماع استكشف رأي الإمام(علیه السلام)

ص: 417

أو حسّاً - وهو نادر جدّاً - .

وأُخرى: لا ينقل إلّا ما هو السّبب عند ناقله، عقلاً أو عادةً أو اتفاقاً.

___________________________________________

عن قاعدة اللطف أو التقرير أو الحدس، كما تقدّم أقسامه في الأمر الأوّل، فإنّ هذه الطرق الثّلاثة كلّها غير حسّي، بمعنى أنّه لم يشاهد الإمام(علیه السلام) ولم يشاهد رأيه وإن اطمئنّ بذلك من جهة قاعدة اللطف أو من جهة اتفاق الآراء أو ما أشبه.

{أو} يكون هذا النّقل لرأي الإمام {حسّاً وهو نادر جدّاً} إذ من النّادر أن يكون النّاقل رأى الإمام بعينه يفتي بكذا، أو يكون رأى فتواه(علیه السلام) في ضمن الفتاوى ثمّ نقل الإجماع.

ثمّ إنّ الإجماع هكذا - بأن ينقل السّبب والمسبّب - مثل أن يقول: اتفق المسلمون جميعاً، أو يقول: أجمع علماء المسلمين بعد الرّسول(صلی الله علیه و آله) إلى هذا اليوم، أو يقول: اتفق من يؤخذ برأيه من علماء الإسلام، أو ما أشبه ذلك ممّا يكون شاملاً للإمام(علیه السلام) {وأُخرى لا ينقل إلّا ما هو السّبب عند ناقله} فلا تكون عبارة الإجماع شاملة للمعصوم، بل تشمل من عداه فقط، كأن يقول: اتّفق علماء الإماميّة، أو أجمع علماء الشّيعة، أو ما أشبه ذلك ممّا يكون شاملاً للإمام(علیه السلام).

ثمّ إنّ سببيّة هذا النّقل لقول الإمام على أقسام ثلاثة:

إمّا {عقلاً} بسبب قاعدة اللطف، فيكون قول علماء الشّيعة كاشفاً عن قول الإمام لهذه القاعدة العقليّة.

{أو عادة} بسبب الحدس، فإنّ العلماء الّذين لا يقولون إلّا الحكم الشّرعي إذا اتفقوا على حكم ولم يظهر دليله كشف ذلك حدساً عادياً عن قول الإمام(علیه السلام).

{أو اتفاقاً} إذا لم نقل بقاعدة اللطف ولا قلنا بالحدس لكن كان في المقام قرائن تدلّ على أنّ قول العلماء لا يكون إلّا عن قول الإمام، وكان هذاالاستكشاف من باب الاتفاق.

ص: 418

واختلاف ألفاظ النّقل أيضاً، صراحةً وظهوراً وإجمالاً في ذلك، أي: في أنّه نقل السّبب، أو نقل السّبب والمسبّب.

الأمر الثّالث: أنّه لا إشكال في حجيّة الإجماع المنقول بأدلّة حجيّة الخبر، إذا كان نقله متضمّناً لنقل السّبب والمسبّب عن حسّ،

___________________________________________

{و} الطّرف الثّاني: في ألفاظ النّقل، بمعنى أنّ لفظ النّقل مختلف، وذلك ب- {اختلاف ألفاظ النّقل أيضاً} وهذا عطف على قوله: «اختلاف نقل الإجماع» {صراحة} بأن يكون اللفظ صريحاً في أنّه نقل للسبب والمسبّب، كأن يقول: أجمع جميع الأُمّة من المعصوم وغيره، أو نقل للسبب فقط، كما لو قال: أجمع غير المعصوم من العلماء {وظهوراً} في أنّه نقل للسبب والمسبّب، كما لو قال: أجمعت أُمّة محمّد(صلی الله علیه و آله)، أو نقل للسبب فقط، كما لو قال: أجمع الأصحاب، فإنّه ظاهر في غير الإمام(علیه

السلام) {وإجمالاً} بأن لم يعلم أنّه نقل للأمرين أو نقل للسبب فقط، كما لو قال أجمع فقهاؤنا، ممّا لم يعلم أنّ المراد الفقهاء أعمّ من المعصوم أم الفقهاء غيره(علیه

السلام)، فإنّ نقل الإجماع يختلف {في ذلك، أي: في أنّه نقل السّبب} فقط {أو نقل السّبب والمسبّب} ولا يخفى ترتّب بعض الفوائد على هذه الأقسام الخمسة.

[الأمر الثّالث]

{الأمر الثّالث} من الأُمور المرتبطة بالإجماع المنقول في بيان موارد حجيّة الإجماع المنقول {أنّه لا إشكال في حجيّة الإجماع المنقول ب-} عين {أدلّة حجيّة الخبر}الواحد، فما دلّ على حجيّة الخبر الواحد من الآيات والرّوايات والسّيرة وبناء العقلاء يدلّ على حجيّة الإجماع المنقول {إذا كان نقله} أي: نقل الإجماع {متضمّناً لنقل السّبب والمسبّب} وكان ذلك {عن حسّ} من النّاقل.

كما لو قال الصّدوق(رحمة الله) - مثلاً - : إنّ على مسألة كذا إجماع علماء الإسلام من المعصوم وغير المعصوم وحصل ذلك لي بالحس، فإنّ هذه الدعوى متضمّنة

ص: 419

لو لم نقل بأنّ نقله كذلك في زمان الغيبة موهون جدّاً.

وكذا إذا لم يكن متضمّناً له، بل كان ممحّضاً لنقل السّبب عن حسّ، إلّا أنّه كان سبباً بنظر المنقول إليه أيضاً - عقلاً أو عادة أو اتفاقاً - ، فيعامل حينئذٍ مع المنقول معاملة المحصّل، في الالتزام بمسبّبه،

___________________________________________

لنقل السّبب الّذي هو إجماع العلماء والمسبّب الّذي هو قول الإمام، وهذا النّقل عن حسّ وليس بحدس.

ووجه شمول أدلّة الخبر الواحد لهذا أنّه نقل لقول المعصوم، فيشمله ما يدلّ على حجيّة قول الثّقة {لو لم نقل بأنّ نقله} أي: نقل الإجماع {كذلك} سبباً ومسبّباً عن حسّ {في زمان الغيبة موهون جدّاً} إذ الاطّلاع الحسّي على رأي الإمام(علیه السلام) لا يحصل في هذا الزمان إلّا للنادر جدّاً، فإذا رأينا مثل هذا النّقل في كلام العادي من العلماء لا بدّ وأن نقول إنّه ليس بحسّيّ وإنّما هو حدسيّ.

{وكذا} لا إشكال في حجيّة الإجماع المنقول {إذا لم يكن} النّقل {متضمّناً له} أي: المسبب {بل كان ممحّضاً لنقلالسّبب عن حسّ} كما لو قال: أجمع فقهاء الإماميّة على كذا {إلّا أنّه} ليس حجيّة مثل هذا الإجماع مطلقاً، بل إنّما يكون حجّة إذا {كان سبباً بنظر المنقول إليه أيضاً}.

إذ ليس كلّ عالم يرى الملازمة بين أقوال الفقهاء وقول الإمام(علیه السلام)، فحجيّة مثل هذا الإجماع إنّما هو بالنسبة إلى من يرى الملازمة بين قول الفقهاء وقول الإمام {عقلاً} من باب اللطف {أو عادة} من جهة أنّه يرى التلازم بين قول التلاميذ وقول الأُستاذ، كما تقدّم تقريره {أو اتفاقاً} كما لو حصل للمنقول إليه بعض القرائن الدالّة على أنّه ما لم يقل الإمام ذلك الحكم لم يكن الفقهاء بأجمعهم يذهبون إلى الفتوى به {فيعامل حينئذٍ مع} الإجماع {المنقول معاملة} الإجماع {المحصّل} الّذي حصله المنقول إليه بنفسه {في الالتزام بمسبّبه} أي:

ص: 420

بأحكامه وآثاره.

وأمّا إذا كان نقله للمسبّب لا عن حسّ، بل بملازمة ثابتة عند النّاقل بوجهٍ، دون المنقول إليه، ففيه إشكال، أظهره عدم نهوض تلك الأدلّة على حجيّته؛ إذ المتيقّن من بناء العقلاء غير ذلك،

___________________________________________

بمسبّب الإجماع الّذي هو قول الإمام {بأحكامه وآثاره} بدل اشتمال عن قوله: «بمسبّبه» أي: في الالتزام بآثار قول الإمام وأحكام قول الإمام المكشوف عن الإجماع.

{وأمّا إذا كان نقله} أي: نقل مدّعي الإجماع {للمسبّب} الّذي هو قول الإمام {لا عن حسّ، بل بملازمة} قول الفقهاء لقول الإمام، وكانت هذه الملازمة {ثابتة عندالنّاقل بوجهٍ دون المنقول إليه} كأن كان النّاقل يرى التلازم بين قول الفقهاء وقول الإمام لقاعدة اللطف مثلاً ولم يكن يرى المنقول إليه هذا التلازم {ففيه} أي: في شمول أدلّه حجيّة الخبر لمثل هذا الإجماع {إشكال} إذ هذا الإجماع ليس نقلاً لقول المعصوم عند المنقول إليه حتّى يشمله دليل حجيّة الخبر الواحد.

لا يخفى أنّه يكفي في الحجيّة عند المنقول إليه أحد وجوه الملازمة وإن كانت غير مطابقة لما عند النّاقل، فلم ير النّاقل التلازم من باب اللطف ورأى المنقول إليه التلازم من باب الحدس أو حصل له التلازم اتفاقاً كفى في حجيّة الإجماع عنده لأنّه - وإن لم ير الحجيّة من ذلك الوجه - لكنّه يرى الحجيّة من وجه آخر {أظهره عدم نهوض تلك الأدلّة على حجيّته} أي: حجيّة الإجماع المنقول الّذي كان غير مستند إلى الحسّ، إذا لم تكن الملازمة ثابتة عند المنقول إليه {إذ المتيقّن من بناء العقلاء غير ذلك} أي: غير الخبر الحدسي، فإنّ العقلاء إنّما يرون حجيّة خبر الثّقة إذا كان عن حسّ، لا ما إذا كان عن حدس، كما في ما نحن فيه.

إذ النّاقل باعتقاده الملازمة بين قول المجمعين وقول الإمام يخبر عن قول الإمام

ص: 421

كما أنّ المنصرف من الآيات والرّوايات - على تقدير دلالتهما - ذلك، خصوصاً في ما إذا رأى المنقول إليه خطأ النّاقل في اعتقاد الملازمة. هذا في ما انكشف الحال.

وأمّا في ما اشتبه الحال، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار؛ فإنّ عمدة أدلّة حجيّة الأخبار هو بناء العقلاء، وهم كما يعملون بخبر الثّقة إذا علم أنّه عن حسّ، يعملون به في ما يحتمل كونه عن حدس؛ حيث إنّهليس بناؤهم - إذا أُخبروا بشيء - على التوقّف والتفتيش عن أنّه عن حدس أو حسّ، بل العمل على طبقه، والجري على وفقه بدون ذلك.

___________________________________________

ولم يجر بناء العقلاء على اعتبار مثل هذا الخبر {كما أنّ المنصرف من الآيات والرّوايات على تقدير دلالتهما} على حجيّة خبر الواحد {ذلك} الّذي ذكرنا من حجيّة الخبر عن حسّ لا عن حدس {خصوصاً في ما إذا رأى المنقول إليه خطأ النّاقل في اعتقاد الملازمة} كما لو رأى النّاقل الملازمة من باب اللطف بين قول الفقهاء وقول الإمام ورأى المنقول إليه خطأ قاعدة اللطف.

{هذا} كلّه {في ما انكشف الحال} وأنّه نقل لقول الإمام عن حدس أو عن حسّ {وأمّا في ما اشتبه الحال} ولم ندر أنّ النّاقل للإجماع الّذي ينقل رأي الإمام هل هو عن حسّ أو عن حدس {فلا يبعد أن يقال بالاعتبار} وأنّه يصحّ الأخذ بقوله وترتيب آثار قول الإمام على نقله {فإنّ عمدة أدلّة حجيّة الأخبار هو بناء العقلاء} على حجيّة خبر الثّقة {وهم كما يعملون بخبر الثّقة إذا علم أنّه عن حسّ} كذلك {يعملون به} أي: بخبر الثّقة {في ما يحتمل} الأمرين {كونه عن حدس} أو عن حسّ {حيث إنّه ليس بناؤهم إذا أُخبروا بشيء على التوقّف والتفتيش عن أنّه عن حدس أو حسّ} ليأخذ بالثّاني دون الأوّل {بل} استقرّ بناؤهم في هذه الأخبار المحتملة، للأمرين على {العمل على طبقه والجري على وفقه} فيرتّبونالأثر عليه {بدون ذلك} التفتيش.

ص: 422

نعم، لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك، في ما لا يكون هناك أمارة على الحدس، أو اعتقاد الملازمة في ما لا يرون هناك ملازمة، هذا.

لكنّ الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب - غالباً - مبنيّة على حدس النّاقل، أو اعتقادِ الملازمة عقلاً، فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أنّ نقل السّبب كان مستنداً إلى الحسّ.

___________________________________________

{نعم} ليس بناء العقلاء على الأخذ بالخبر المحتمل للأمرين مطلقاً، بل {لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك في ما لا يكون هناك أمارة على الحدس} أمّا إذا كان الخبر بحيث يكون مقترناً بالأمارة الدالّة على أنّه حدسيّ لا حسّيّ، فليس بناؤهم على الأخذ به حتّى يحقّقوا عن ذلك {أو} على {اعتقاد الملازمة في ما لا يرون هناك ملازمة} فإذا كان أمارة على أنّ الخبر إنّما صدر لاعتقاد النّاقل بالملازمة ولم ير المنقول إليه الملازمة فليس بناء العقلاء على الأخذ بمثل هذا الخبر حتّى يحقّقوا عن أنّه حدسيّ أو حسّي.

وإذا تحقّق {هذا} الّذي ذكرناه من عدم بناء العقلاء على الأخذ بالخبر المحتمل إذا كان هناك أمارة على الحدس أو أمارة على اعتقاد النّاقل بالملازمة إذا لم ير العقلاء الملازمة نقول: {لكن} ما نحن فيه - وهو الإجماع المنقول المشكوك كونه عن حدس برأي الإمام أو عن حسّ من هذا القبيل - فلا يؤخذ به فإنّ {الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالباً} خصوصاً في ما لم يكن عصر النّاقل مقارناً لعصر الإمام أو غيبته الصّغرى {مبنيّة على حدس النّاقل} من أقوال الفقهاء قولالإمام(علیه السلام) {أو} مبنيّة على {اعتقاد} النّاقل {الملازمة} بين قول الفقهاء وقول الإمام {عقلاً} من باب قاعدة اللطف {فلا اعتبار لها} أي: لتلك الإجماعات عند من لا يعتبر الملازمة العقليّة والحدس {ما لم ينكشف أنّ نقل السّبب كان مستنداً إلى الحسّ} ودون ذلك خرط القتاد، فإنّ أيّ إجماع في زمان الغيبة الكبرى ينكشف فيه أنّ ناقله كشف عن قول الإمام بالدخول أو التشرّف.

ص: 423

فلا بدّ في الإجماعات المنقولة - بألفاظها المختلفة - من استظهار مقدار دلالة ألفاظها، ولو بملاحظة حال النّاقل، وخصوص موضع النّقل، فيؤخذ بذلك المقدار ويعامل معه كأنّه المحصّل، فإن كان بمقدار تمام السّبب،

___________________________________________

وكيف كان، فإذا فرغنا عن بيان أيّ نقل إجماع كاشف عن قول المعصوم وأنّ أيّ إجماع لا يكشف نأتي إلى مقادير دلالة ألفاظ الإجماع وإنّه قد يكون الإجماع المنقول بمقدار كلّ السّبب وقد يكون بمقدار بعض السّبب - مع قطع النّظر عن كاشفيّته عن قول الإمام وعدمه - {فلا بدّ في الإجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة} ك- «أجمعت أُمّة محمّد» و«أجمع المسلمون» و«أجمع العلماء» و«أجمع فقهاء الإسلام» و«أجمع فقهاء الشّيعة» و«أجمع فقهاء الإماميّة» و«اتفق» و«بلا خلاف» و«عليه جمهرة العلماء» وما أشبه هذه الألفاظ {من استظهار} المنقول إليه {مقدار دلالة ألفاظها} وأنّها هل تدلّ على اتفاق الكلّ أو اتفاق البعض {ولو بملاحظة حال النّاقل} من أنّه من أهل الاطلاع والتتبّع التام لأقوال الفقهاء، أم يعتمد في نقله الإجماع إلى ما يراه فيكتب المشهور، أو يعتمد فيه إلى بعض أُصول وقواعد يظنّ أنّها مسلّم بها عند الجميع، فيدّعي الإجماع استناداً إلى ذلك الأصل أو تلك القاعدة أو نحو ذلك من سرعة اطمئنان النّاقل وبطؤه أو نحو هذه الأُمور ممّا له مدخليّة في إجماعاته المنقولة.

{و} بملاحظة {خصوص موضع النّقل} إذ المسألة المنقول فيها الإجماع قد تكون مسألة كثيرة الدوران في كتب العلماء محتمل ذكرهم جميعهم لها، وقد تكون مسألة لم يذكرها إلّا النّادر لعدم كونها محلّ البحث والدوران {فيؤخذ بذلك المقدار} الّذي استظهر دلالة لفظ الإجماع المنقول عليه {ويعامل معه كأنّه المحصّل} لحجيّة خبرالثّقة الّذي أخبر بذلك المقدار {فإن كان بمقدار تمام السّبب} الكاشف عن قول الإمام(علیه السلام) فقد حصل المنقول إليه على دليل للحكم

ص: 424

وإلّا فلا يجدي ما لم يضمّ إليه - ممّا حصّله، أو نُقِلَ له من سائر الأقوال، أو سائر الأمارات - ما به تمّ، فافهم.

فتلخّص بما ذكرناه: أنّ الإجماع المنقول بالخبر الواحد، من جهة حكايته رأي الإمام - بالتضمّن أو الالتزام - كالخبر الواحد في الاعتبار - إذا كان مَن نقل إليه ممّن يرى الملازمة بين رأيه(علیه السلام)، وما نقله من الأقوال،

___________________________________________

{وإلّا} يكن بمقدار تمام السّبب {فلا يجدي} في الحجيّة {ما لم يضمّ إليه ممّا حصله} هو بنفسه {أو نقل له من سائر الأقوال أو سائر الأمارات ما به تمّ} لفظة «ما» مفعول «يضمّ» أي: إذا حصل هذا الشّخص المنقول له الإجماع أحدأُمور ثلاثة من تحصيله هو بنفسه أقوالاً أخر أو تحصيله نقلاً للأقوال أو تحصيله بعض الأمارات بحيث إذا ضمّه إلى الإجماع المنقول كان كافياً في الاستكشاف عن قول المعصوم كفى في الحجيّة، وإلّا فمجرّد المنقول الّذي لا يستكشف منه قول الإمام ليس بكاف.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى صعوبة ما ذكر، فإنّ هذه التقييدات في حجيّة الإجماع المنقول عبارة أُخرى عن عدم حجيّته، فإنّ أيّ إجماع منقول في كتب الفقهاء تتوفّر فيه هذه الشّروط الّتي ذكرت؟

{فتلخّص بما ذكرناه} أمران:

الأوّل: {أنّ الإجماع المنقول بالخبر الواحد من جهة حكايته} أي: حكاية الإجماع المنقول {رأي الإمام بالتضمّن} إذا كان الإجماع نقلاً للسبب والمسبّب، كما لو قال: أجمعت أُمّة محمّد(صلی الله علیه و آله) المعصوم وغيره {أو الالتزام} إذا كان نقلاً للسبب الّذي يلزمه قول الإمام لقاعدة اللطف أو الحدس أو لازمه اتفاقاً {كالخبر الواحد في الاعتبار} والحجيّة {إذا كان من نقل إليه ممّن يرى الملازمة بين رأيه(علیه السلام) وما نقله من الأقوال} هذا شرط بالنسبة إلى ما كان نقلاً للسبب فقط، أمّا إذا كان

ص: 425

بنحو الجملة والإجمال - وتعمّه أدلّة اعتباره، وينقسم بأقسامه، ويشاركه في أحكامه، وإلّا لم يكن مثله في الاعتبار من جهة الحكاية.

وأمّا من جهة نقل السّبب:

___________________________________________

نقلاً للمسبّب فلا اشتراط، إذ هو نقل صريح لكلام الإمام(علیه السلام).

والحاصل: أنّ نقل السّبب إنّما يفيد المنقول إليه إذا كان يرى أنّ الأقوالالمنقولة {بنحو الجملة} إذ لا يذكر كلّ قول قول {والإجمال} إذ لا يذكر مبيّناً، وإنّما يذكر لفظ (الإجماع) الّذي هو عبارة إجماليّة عن كلّ قول قول تلازم قول الإمام، أمّا إذا كان يرى أنّ تلك الأقوال لا تلازم قول الإمام فلا تفيد {و} حين كان الإجماع - كالخبر الواحد - {تعمّه} أي: تعمّ الإجماع {أدلّة اعتباره} أي: أدلّة اعتبار خبر الواحد {وينقسم} الإجماع المنقول على هذا {بأقسامه} أي: أقسام الخبر من صحيح أعلائي وموثّق وضعيف وما أشبه {ويشاركه} أي: يشارك الإجماع الخبر الواحد {في أحكامه} في وجوب الأخذ به وحكم تعارضه مع إجماع آخر {وإلّا} يكن المنقول إليه يرى الملازمة بين الإجماع ورأي الإمام في ما كان النّاقل إنّما نقل السّبب فقط {لم يكن} الإجماع {مثله} أي: مثل الخبر {في الاعتبار من جهة الحكاية} إذ لم ينقل قول الإمام تضمّناً ولا ملازمة بنظر المنقول إليه، فمن أين الاعتبار؟

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على نقل قول الإمام تضمّناً أو الملازمة بنظر المنقول إليه إنّما يكون حال الإجماع حال الخبر المنقول بالمعنى، مثل أن يفتي المجتهد ثمّ يقول: (وبه رواية صحيحة) حيث إنّه لم ينقل ألفاظ الخبر، وحينئذٍ فاللّازم كون النّاقل ممّن يؤخذ بنقله للمعنى، كما لا يخفى.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأمر الأوّل - وهو حجيّة الإجماع المنقول والأخذ به - {وأمّا} الأمر الثّاني، أي: {من جهة نقل السّبب} وأنّه لو نقل النّاقل الإجماع ولم

ص: 426

فهو - في الاعتبار - بالنسبة إلى مقدار من الأقوال الّتي نقلت إليه على الإجمال بألفاظ نقل الإجماع، مثل ما إذا نقلت على التفصيل، فلو ضُمّ إليه - ممّا حصّله أو نقل له من أقوال السّائرين، أو سائرالأمارات - مقدارٌ كان المجموع منه وما نقل - بلفظ الإجماع - بمقدار السّبب التامّ، كان المجموع كالمحصّل،

___________________________________________

يكن متضمّناً لقول الإمام ولم ير المنقول إليه الملازمة بين الأقوال وبين رأيه(علیه السلام) {فهو} أي: الإجماع {في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الأقوال الّتي نقلت إليه} أي: إلى الشّخص المنقول إليه {على الإجمال} إذ لم تذكر الأقوال تفصيلاً وإنّما ذكرت بلفظ (الإجماع) على سبيل الإجمال {بألفاظ نقل الإجماع} متعلّق بقوله: «نقلت» {مثل ما إذا نقلت على التفصيل} خبر قوله: «فهو» أي: إنّ المنقول إليه يمكن أن يعتمد على هذا النّقل ويكون قول النّاقل: إجماع في المسألة، بمنزلة أن يقول: قال الشّيخ والمفيد والمحقّق والعلّامة والشهيدان الخ {فلو ضمّ إليه} أي: إلى هذا المقدار المنقول {ممّا حصله} نفس المنقول إليه من الأقوال {أو} ممّا {نقل له من أقوال السّائرين، أو} حصل له من {سائر الأمارات مقدار} نائب فاعل «ضمّ»، ووصف قوله: «مقدار» بقوله: {كان} الخ، أي: حصل المنقول إليه بالإضافة إلى الإجماع مقدار آخر من الأقوال بحيث كان {المجموع منه} أي: ممّا حصله بنفسه {و} من {ما نقل بلفظ الإجماع بمقدار السّبب التام} حينئذٍ {كان المجموع كالمحصّل} جواب «لو ضمّ» إذ حصل بعض السّبب بالخبر المعتبر من ناقل الإجماع وبعض السّبب بتتبّعه بنفسه في سائر الأقوال أو سائر الأمارات.

مثلاً: لو كان المنقول إليه يرى وجوب اتفاق جميع الأُمّة في الاستكشاف عن رأي الإمام، ثمّ رأى الشّهيد نقل الإجماع وتتبّع هو بنفسه فحصل على أقوال منتأخّر من الشّهيد كان ذلك سبباً تامّاً لكشف قول المعصوم، أو لو كان المنقول إليه يرى حجيّة قول جميع الأُمّة في عصر واحد، ثمّ رأى الشّهيد نقل الإجماع وعلم

ص: 427

ويكون حاله كما إذا كان كلّه منقولاً.

ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه، أو ما له دخل فيه، وبه قوامه، كما يشهد به حجيّته بلا ريب في تعيين حال السّائل،

___________________________________________

أنّه لا يحكي أقوال علماء الهند لبعده عنهم، ثمّ تتبّع هو أقوالهم حتّى حصل على جميع الأقوال في عصر واحد، بعضها نقلاً عن الشّهيد، وبعضها وجداناً كان ذلك سبباً لكشفه قول المعصوم.

ومثل ذلك في ما لو ضمّ إلى الإجماع المنقول سائر الأمارات ممّا تتمّ بها حجيّته، كما لو قلنا بأنّ السّيرة المستمرّة بين المسلمين ممّا لم تردع بآراء الفقهاء حجّة لكشفها عن قول المعصوم، فرأينا في المسألة سيرة مستمرّة، ثمّ نقل لنا الإجماع على طبقها، كان الإجماع المنقول المنضمّ إلى السّيرة كاشفاً عن رأي الإمام {ويكون} إجماع الأقوال الّذي نقل بعضها وحصلنا على بعضها {حاله كما إذا كان كلّه منقولاً} أو كلّه محصّلاً.

{و} لا يستشكل بأنّه لا شبه لهذا الإجماع المبعّض في باب الأخبار، إذ ليس هناك خبر بعضه منقول وبعضه مسموع.

لأنّا نقول: {لا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه أو} بعضه من {ما له دخل فيه} أي: في الخبر {وبه} أي: بذاك البعض، والضّمير عائد إلى «ما» {قوامه} أي: قوام الخبر {كما يشهد به} أي: بالذيذكرنا من عدم التفاوت {حجيّته} أي: حجيّة الخبر {بلا ريب في} هذه الموارد:

الأوّل: {تعيين حال السّائل} كما لو أخبر زيد عن الإمام ثمّ أخبرنا عدل أنّ زيداً الواقع في سند هذا الخبر ثقة، أو كان الرّاوي عن الإمام(علیه السلام) محمّد فأخبرنا العدل أنّ محمّداً هذا هو ابن مسلم، أو أخبر الثّقة أنّ البطائني الّذي يروي عن الإمام إنّما روى هذا الخبر في حال استقامته.

ص: 428

وخصوصيّة القضيّة الواقعة المسؤول عنها، وغير ذلك ممّا له دخل في تعيين مرامه(علیه السلام) من كلامه.

وينبغي التنبيه على أُمور:

الأوّل: أنّه قد مرّ: أنّ مبنى دعوى الإجماع - غالباً - هو: اعتقاد الملازمة عقلاً؛ - لقاعدة اللطف - ،

___________________________________________

{و} الثّاني: {خصوصيّة القضيّة الواقعة المسؤول عنها} كما إذا روي النّهي عن أكل لحوم الحمر الأهليّة، ثمّ أخبر الثّقة بأنّ ذلك كان في الغزوة الفلانيّة وإنّما منع لئلّا يقلّ المركوب حين سُئل عن ذلك.

{و} الثّالث: {غير ذلك} كما لو سمع الرّاوي قوله: (أكرم العلماء) ثمّ لم يسمع التتمّة فأخبره ثقة بأنّها كانت (إلّا زيداً) {ممّا له دخل في تعيين مرامه(علیه السلام) من كلامه} فإنّ أدلّة حجيّة الخبر تشمل جميع ذلك وإذا ثبتت الحجيّة في الخبر المبعّض ثبتت في الإجماع المبعّض الّذي بعضه منقول وبعضه محصّل، أو بعضه منقول وبعضه أمارة إذا اجتمعت معه أفاد المجموع الحجيّة.

[تنبيهات]

{وينبغي التنبيه على أُمور} ثلاثة:

الأمر {الأوّل}: في أنّ نقل الإجماع لا يفيد إلّا بالمقدار الّذي يدلّ عليه اللفظ من باب نقل السّبب فقط، أمّا رأي الإمام(علیه السلام) فلا يستكشف من الإجماعات المنقولة، وذلك {أنّه قد مرّ} في الأمر الأوّل من الفصل السّابق {أنّ مبنى دعوى الإجماع غالباً هو} أحد أمرين: {اعتقاد الملازمة عقلاً} بين رأي العلماء ورأي الإمام {لقاعدة اللطف} الّتي هي عبارة عن فعل اللّه - تعالى - كلّ ما هو مقرّب للعبد إلى الطاعة ومبعّد لهم عن المعصية.

بيان ذلك: أنّ الغرض من الخلقة العبادة كما قال - سبحانه - : {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ

ص: 429

وهي باطلة،

___________________________________________

وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ}(1)، والعبادة لا تتحقّق إلّا بإرشاد اللّه - سبحانه - إلى مواقع الأمر والنّهي، فإذا كان الغرض ذلك - والمفروض أنّ العقل لا يدرك تلك المواقع - لزم على اللّه - سبحانه - بمقتضى الحكمة هداية العباد إليها، فإذا لم يفعل كان نقضاً للغرض وهو قبيح على الحكيم إذاً، فإذا اتفقت العلماء على شيء وكان حكم اللّه خلافه لزم بمقتضى قاعدة اللطف أن ينبّه اللّه - سبحانه - العباد على الحقّ، ولا يكون ذلك إلّا بإيجاد الخلاف بينهم حتّى يكون مجال للواقع ولا يضلّ العباد، فإذا لم يفعل ذلك كشف عن أنّه يطابق الحكم الواقعي.

وقد يرتّب القياس هكذا: لو اتفق آراء العلماء على حكم لزم إمّا مطابقته لحكم اللّه الواقعي وإمّا بطلان قاعدة اللطف، لكن قاعدة اللطف صحيحة، فالحكم المتّفق عليه هوحكم اللّه الواقعي.{و} هذه القاعدة وإن كانت {هي} صحيحة في الجملة، إذ لولاها لزم العبث القبيح المستحيل في حقّه - سبحانه - لكنّها في المقام {باطلة} إذ القاعدة لا تدلّ على أكثر من وجوب إرشاد اللّه - سبحانه - عباده في الجملة حتّى لا يلزم نقض الغرض، إمّا أن تكون القاعدة عامّة بحيث تقتضي كلّ إرشاد فلا، للنقض أوّلاً لمن لم تتمّ عليه الحجّة، كما في كثير من أهل البلاد البعيدة، ومن يموت في الفترة بين الرّسل.

وثانياً: بأنّ إلقاء الخلاف لا يكفي في هداية الكلّ، إذ العلماء المخالفون ومن يأخذ برأيهم لا يرون الرّأي الواقعي، وأيّ فرق بين وقوع الجميع في الخلاف وبين وقوع البعض؟ ولو كانت قاعدة اللطف عامّة لزم عدم إرشاد الكلّ لا البعض.

وثالثاً: بأنّ الإجماعين في عصرين يخالف أحدهما الآخر ممّا يوجد في الفقه، فما يقال في ذلك يقال بالنسبة إلى الإجماع في العصر الواحد.

ص: 430


1- سورة الذاريات، الآية: 56.

- أو اتفاقاً؛ - بحدس رأيه(علیه السلام) من فتوى جماعة - ، وهي غالباً غير مسلّمة.

وأمّا كون المبنى: العلمَ بدخول الإمام بشخصه في الجماعة، أو العلم برأيه؛ - للاطّلاع بما يلازمه عادة من الفتاوى - ، فقليل جدّاً في الإجماعات المتداولة في ألسنة الأصحاب، كما لا يخفى.

___________________________________________

وبالجملة: إنّ القاعدة وإن كانت صحيحة في الجملة لكنّها لا تعمّ ما نحن فيه، أمّا ما عن بعض من الإشكال في القاعدة الكليّة، فكأنّه ناشٍ عن عدم وضوح مراد القائلين بها لديهم.

وكيف كان، فمبنى دعوى الإجماع غالباً إمّا اعتقاد الملازمة عقلاً الّتي عرفت حالها {أو} اعتقاد الملازمة {اتّفاقاً} وذلك {بحدس رأيه(علیه السلام) من فتوى جماعة} من الفقهاء، كما تقدّم وجه الحدس {وهي} أي: الملازمة الاتفاقيّة النّاشئة عن الحدس {غالباً غير مسلّمة} إذالحدس الّذي يراد به هنا هو الحدس القطعي الّذي هو من أسباب البرهان، كالحدس باكتساب نور القمر من نور الشّمس، كما تقرّر في المنطق.

ومثل هذا الحدس نادر جدّاً في ما نحن فيه، إذ مع هذه الاستنادات الموجودة في مختلف أبواب الفقه كيف يمكن أن نقطع بأنّ فتوى المجمعين ليس إلّا لفتوى الإمام؟ مع أنّ الغالب أنّا نرى استنادهم - قدّس اللّه أسرارهم - إلى الأصول اللفظيّة أو العمليّة في الأحكام الّتي لا دليل صريح فيها.

{وأمّا كون المبنى} للذي يدّعي الإجماع {العلم بدخول الإمام بشخصه في الجماعة} المفتين المعبّر عنه بالإجماع الدخولي {أو} كون مبنى مدّعي الإجماع {العلم برأيه} (علیه السلام) {للاطّلاع بما يلازمه} أي: ما يلازم رأي الإمام {عادة من الفتاوى} بيان «ما» والفرق بين هذا الوجه والوجه السّابق الّذي ذكره بقوله: «أو اتفاقاً بحدس رأيه» الخ، أنّ هذا حدس عادي وذلك حدس اتفاقي {فقليل جدّاً في الإجماعات المتداولة في ألسنة الأصحاب، كما لا يخفى} على من راجع كلماتهم

ص: 431

بل لا يكاد يتّفق العلم بدخوله(علیه السلام) على نحو الإجمال في الجماعة في زمان الغيبة، وإن احتمل تشرّف بعض الأوحدي بخدمته ومعرفته أحياناً.

فلا يكاد يجدي نقل الإجماع إلّا من باب نقل السّبب، بالمقدار الّذي أُحرز من لفظه، بما اكتنف به من حال أو مقال، ويعامل معه معاملة المحصّل.

___________________________________________

واطّلع على مواضع دعواهم للإجماع.{بل لا يكاد يتّفق العلم بدخوله(علیه السلام) على نحو الإجمال} لعدم معرفة شخصه وإن عرف أنّه(علیه السلام) فيهم {في الجماعة} المفتين لهذه الفتوى {في زمان الغيبة وإن احتمل} وجود القسم الخامس من الإجماع في زمان الغيبة، وذلك ب- {تشرّف بعض الأوحدي بخدمته} (علیه السلام) {ومعرفته أحياناً} كما تقدّم نقله بالنسبة إلى الأردبيلي وبحرالعلوم قدس سرهما.

{ف-} على هذا الّذي ذكرنا من قلّة الأقسام أو استحالة بعضها بالنسبة إلى المسبّب الّذي هو رأي الإمام {لا يكاد يجدي نقل الإجماع إلّا من باب نقل السّبب بالمقدار الّذي أُحرز من لفظه} أي: من لفظ النّقل، فالشخص المنقول إليه الإجماع يكون كأنّه هو الّذي تتبّع أقوال الفقهاء، فإذا كان الإجماع المنقول {بما اكتنف به من حال أو مقال} يدلّان على مقدار الأقوال الّتي يكون هذا الإجماع مرآة لها، مثل مرآة لأقوال مائة من الفقهاء فكأنّ المنقول إليه حصل بنفسه على أقوال مائة من الفقهاء {ويعامل معه} أي: مع هذا الإجماع {معاملة المحصّل} فإن أفاد شيئاً فهو، وإلّا فلا يكشف عن قول المعصوم الّذي هو مدار الحجيّة.

نعم، إذا قام الإجماع على أحد الخبرين المتعارضين أو قلنا باطّراد العلّة في قوله(علیه السلام) في باب الترجيح «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(1) أفاد هذا الإجماع

ص: 432


1- الكافي 1: 67؛ من لا يحضره الفقيه 3: 10.

الثّاني: أنّه لا يخفى: أنّ الإجماعاتالمنقولة إذا تعارض اثنان منها أو أكثر، فلا يكون التعارض إلّا بحسب المسبّب، وأمّا بحسب السّبب فلا تعارض في البين؛ لاحتمال صدق الكلّ.

___________________________________________

بعد تحقّق موضوعه الحجيّة، كما لا يخفى، لكن الثّاني محلّ كلام بين الأعلام.

الأمر {الثّاني}: ممّا ينبغي التنبيه عليه في تعارض الإجماعين المنقولين، فإنّه كثيراً ما يدّعي نفران من الفقهاء إجماعين على حكمين متضادّين {أنّه لا يخفى أنّ الإجماعات المنقولة إذا تعارض اثنان منها أو أكثر} من الاثنين - كأن ادّعى بعض الإجماع على حرمة صلاة الجمعة، وبعض الإجماع على الوجوب، وبعض الإجماع على الاستحباب - فالأمر لا يخلو من أربعة أحوال:

لأنّ الإجماعين إمّا يحكيان عن الحكم الواقعي، أو عن قول المعصوم، وعلى كلّ تقديرٍ فالمراد بالإجماع إمّا اتفاق الكلّ أو البعض.

فإن كان الإجماعان حاكيين عن الواقع وقع التعارض في المسبّب، إذ لا يمكن حكمان واقعان متضادّان.

وإن كان المراد بالإجماعين اتفاق الكلّ وقع التعارض في السّبب، إذ لا يمكن اتفاق الكلّ على أمر وعلى ضدّه.

وحيث إنّ المصنّف(رحمة الله) بنى على أنّ الإجماع هو اتفاق البعض - في الجملة - وعلى أنّ الإجماع يحكى عن الحكم الواقعي رتّب المباحث الآتية بما يلازم ذلك {ف-} إذا تعارض إجماعان {لا يكون التعارض إلّا بحسب المسبّب} الّذي هو الحكم الواقعي، إذ لا يعقل حكمان واقعيّان متضادّان، فيحصل العلم الإجمالي للمنقول إليه بكذب أحد المنقولين.

{وأمّا بحسب السّبب} الّذي هو فتوى جماعة من الفقهاء {فلاتعارض في البين لاحتمال صدق الكلّ} بأن رأى كلّ واحد من النّاقلين رأي جماعة من الفقهاء علم

ص: 433

لكن نقل الفتاوى - على الإجمال - بلفظ الإجماع حينئذٍ لا يصلحُ لأن يكون سبباً، ولا جزء سبب؛ لثبوت الخلاف فيها، إلّا إذا كان في أحد المتعارضين خصوصيّة موجبة لقطع المنقول إليه برأيه(علیه السلام) لو اطّلع عليها، ولو مع اطّلاعه على الخلاف.

___________________________________________

من باب اللطف أو الحدس العادي أو الحدس الاتفاقي ملازمته لرأي الإمام فادّعى الإجماع.

{لكن نقل الفتاوى على الإجمال} الّذي هو المفروض، إذ لم يعد ناقل الفتاوى مفصّلاً وإنّما جعل مرآة لها حيث أتى بها {بلفظ الإجماع} الّذي هو عبارة إجماليّة عن كلّ فتوى فتوى {حينئذٍ} أي: حين التعارض {لا يصلح لأن يكون سبباً} لكشف رأي الإمام {ولا جزء سبب} حتّى ينضمّ إليه ما يكون مع الإجماع المنقول كاشفاً عن رأيه.

وإنّما لا يصلح حينئذٍ للسببيّة ولا لجزء السّبب لأنّ الأصل تساقط الطريقين المتعارضين، كما هو المقرّر عندهم، ولا ترجيح في البين لأحدهما، ولا فرق في سقوط الطريق بين أن يكون تمام الطريق أو جزءه.

والحاصل: أنّه لا يصلح بشيء من الفتاوى المنقولة بالإجماعين للكاشفيّة {لثبوت الخلاف فيها} أي: في الفتاوى أو في الإجماعات المنقولة {إلّا إذا كان في أحد المتعارضين خصوصيّة موجبة لقطع المنقول إليه برأيه(علیه السلام) لو اطّلع عليها} فهذه الخصوصيّة توجب ترجيح الإجماع ذيالخصوصيّة عند المنقول إليه {ولو مع اطّلاعه على الخلاف}.

وربّما يناقش في العبارة بأنّ قوله: «لو اطّلع عليها» يستفاد منه عدم الاطّلاع الفعلي على تلك الخصوصيّة، ومع عدم الاطّلاع الفعلي على الخصوصيّة يكون وجودها وعدمها سواءً، لكن الظّاهر أنّ قوله: «لو اطّلع» لبيان الموضوع، أي: إنّ في أحد الإجماعين خصوصيّة زائدة تكون مع الاطّلاع عليها موجبة للقطع برأي الإمام.

ص: 434

وهو وإن لم يكن - مع الاطّلاع على الفتاوى على اختلافها مفصّلاً - ببعيد، إلّا أنّه مع عدم الاطّلاع عليها كذلك إلّا مجملاً بعيدٌ، فافهم.

الثّالث: أنّه ينقدح ممّا ذكرنا في نقل الإجماع حال نقل التواتر،

___________________________________________

{وهو} أي: اشتمال أحد الإجماعين على خصوصيّة موجبة للقطع {وإن لم يكن مع الاطّلاع على الفتاوى - على اختلافها - مفصّلاً ببعيد} إذ لعلّه إذا اطّلع على كلّ فتوى فتوى وجد في تلك الفتاوى على فتوى ابن بابويه الّذي يجعل متون الرّوايات في فتاويه، أو وجد فيها على فتاوى زمرة من العلماء القدماء الّذين يطمئنّ الإنسان بأنّهم لا يفتون حسب الأصول والقواعد وإنّما يفتون بما يظفرون من الرّوايات. أو ما أشبه ذلك ممّا يورثه الاطّلاع على الفتاوى بصورة تفصيليّة {إلّا أنّه مع عدم الاطّلاع عليها} أي: على الفتاوى {كذلك} مفصّلاً {إلّا مجملاً} عطف بيان لقوله: «كذلك» أي: مع عدم الاطّلاع على الفتاوى إلّا مجملاً، بأن يطّلع على لفظة (الإجماع) الّذي هو مرآة الفتاوى المفصّلة {بعيد} إذ لا يعلم المنقول إليه أنّ لفظة الإجماع الّذي هو حاكٍ عن فتاوى متعدّدة هل تلك الفتاوى مشتملة على مثل فتاوى ابن بابويه وأضرابها أم لا؟ فلا يعلم مقدار قيمة تلك الفتاوى من جهة كاشفيّتها لقول الإمام(علیهالسلام)، {فافهم} إذ من الممكن تحصيل خصوصيّة في أحد الإجماعين - من غير جهة الفتاوى - كافية لكشف المنقول إليه رأي الإمام(علیه السلام)، فإنّ الخصوصيّة لا تنحصر في ما ذكر.

الأمر {الثّالث} - ممّا ينبغي التنبيه عليه في نقل التواتر - : {أنّه ينقدح ممّا ذكرنا في نقل الإجماع} من أنّ ناقل الإجماع قد ينقل السّبب والمسبّب وقد ينقل السّبب فقط، وممّا يتفرّع على كلا النّقلين {حال نقل التواتر} وأنّ ناقل التواتر قد ينقل السّبب الّذي هو إخبار جماعة يفيد قولهم العلم ويمتنع تواطئهم على الكذب، وقد ينقل السّبب والمسبّب الّذي هو عبارة عن الأمر المخبر به، فلو قال: (الأئمّة

ص: 435

وأنّه - من حيث المسبّب - لا بدّ في اعتباره من كون الإخبار به إخباراً على الإجمال، بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به، لو علم به،

___________________________________________

قالوا: الماء إذا بلغ قدر كلّ لم ينجّسه شيء وقد وصل ذلك إليّ بالتواتر) كان نقلاً للسبب الّذي هو إخبار الجماعة والمسبّب الّذي هو قول الأئمّة(علیهم السلام)، ولو قال: (تواترت القراءآت عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)) كان نقلاً للسبب الّذي هو التواتر.

{و} كما يعرف تقسيم نقل التواتر إلى هذين القسمين من تقسيم الإجماع سابقاً إليهما، كذلك يعرف ممّا تقدّم في مبحث الإجماع {أنّه} أي: نقل التواتر بالنسبة إلى المنقول إليه له جانبان:

الأوّل: من حيث إنّه هل يثبت للمنقول إليه أنّ الأئمّة(علیهم السلام) قالوا كذا أو الرّسول(صلی الله علیه و آله) قال كذا؟

الثّاني: من حيث إنّه هل يثبت المنقول إليه أنّ في البين تواتراً على هذه المقالةأم لا؟ ويكون حال النّقل مثل حال النّقل في ما لو قال ثقة: (حدّثني زرارة أنّ الصّادق(علیه السلام) قال: التقيّة ديني) فإنّ خبر هذا الثّقة له جانبان:

الأوّل: أنّه هل يثبت أنّ الصّادق(علیه السلام) قال هذه المقالة؟

الثّاني: أنّه هل يثبت أنّ زرارة روى هذا الحديث عن الصّادق(علیه السلام)؟

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ نقل التواتر {من حيث المسبّب} الّذي هو مقالة الرّسول(صلی الله علیه و آله) مثلاً {لا بدّ في اعتباره} أي: اعتبار نقل التواتر {من كون الإخبار به} أي: بالتواتر {إخباراً على الإجمال} فإنّ قول النّاقل تواتر هذا الكلام عن الرّسول(صلی الله علیه و آله) إجمال لأن يقول: روى زيد وعمرو وبكر وخالد وفلان وفلان الخ عن الرّسول(صلی الله علیه و آله) {بمقدار} من الإخبار {يوجب} ذلك المقدار {قطع المنقول إليه بما أخبر به} الّذي فرضناه قول الرّسول(صلی الله علیه و آله) مثلاً {لو علم} المنقول إليه {به} أي: بذلك المقدار، فلو علم بكر المنقول إليه بأقوال ألف نفر رووا حديث المنزلة، لقطع بأنّه من كلام الرّسول

ص: 436

ومن حيث السّبب يثبت به كلّ مقدار كان إخباره بالتواتر دالّاً عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل. فربّما لا يكون إلّا دون حدّ التواتر، فلا بدّ في معاملته معه معاملته، من لحوق مقدار آخر من الأخبار يبلغ المجموع ذاك الحد.

___________________________________________

مثلاً، لكنّه لا يعلم وجداناً بقول الألف وإنّما يسمع عن زيدٍ أنّ ألفاً رووا ذلك.

وإنّما قلنا بلزوم كون إخبار ناقل التواتر بمقدار يوجب قطع المنقول إليه؛ لأنّه لو لم يكن بهذا المقدار لم يفد شيئاً بالنسبة إلى المنقول إليه حتّى لو علم المنقول إليه تفصيلاً، فلو قال زيد: تواترت الأخبار بأنّ الماء لا ينجّسه شيء،وعلمنا أنّ مراده بالتواتر أخبار ثلاثة ممّا لو ظفرنا بأخبارهم تفصيلاً لم يحصل لنا علم لم يفد نقله التواتر لنا شيئاً، كما لا يخفى.

هذا كلّه من حيث المسبّب {و} أمّا {من حيث السّبب} الّذي هو دعواه التواتر - لما تقدّم من أنّ التواتر سبب وثبوت كلام الرّسول(صلی الله علیه و آله) مسبّب - فإنّه {يثبت به} أي: بنقل التواتر {كلّ مقدار كان إخباره بالتواتر دالّاً عليه} ويكون حال نقله الإجمالي للإخبار بلفظ التواتر {كما إذا أخبر به على التفصيل} فيكون قوله: تواترت الأخبار عن الرّسول، مثل قوله: روى زيد وعمرو وبكر الخ عن الرّسول، وإنّما الفرق أنّ الأوّل إجماليّ والثّاني تفصيلي {فربّما لا يكون} ما ادّعى التواتر فيه {إلّا دون حدّ التواتر} عند المنقول إليه، كما لو كان النّاقل يعتقد حصول التواتر بإخبار عشرة والمنقول إليه لا يرى حصول التواتر بأقلّ من مائة {فلا بدّ في معاملته} أي: معاملة المنقول إليه {معه} أي: مع التواتر المنقول إجمالاً {معاملته} أي: معاملة الخبر التفصيلي، إذ خبره الإجمالي بلفظ التواتر ليس إلّا مرآة لأخبار تفصيليّة، فلا يفيد الخبر الإجمالي أكثر ممّا يفيده الخبر التفصيلي، وإذا أردنا أن نتعامل مع خبره بالتواتر معاملة التواتر الحقيقي فلا بدّ {من لحوق مقدار آخر من الأخبار يبلغ المجموع ذاك الحدّ} المفيد للعلم، فلو كان إخباره الإجمالي بالتواتر مرآة لقول

ص: 437

نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة - ولو عند المخبِر - لوجب ترتيبه عليه، ولو لم يدلّ على ما بحدّ التواتر من المقدار.

فصل:

___________________________________________

عشرة وكان المنقول إليه لا يرى حصول التواتر إلّا بإخبار مائة لزم أن يلحق إخبارتسعين آخرين إلى إخباره بالتواتر حتّى يفيد العلم عنده.

{نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة} كما لو ندب الشّارع حفظ الخبر الّذي سمّي متواتراً {ولو عند المخبر} بأن كان اسم التواتر على خبر كافياً في ترتيب أثر خاصّ عليه ولو لم يكن متواتراً عند المنقول إليه {لوجب ترتيبه} أي: ترتيب ذاك الأثر {عليه} أي: على هذا الخبر الّذي هو متواتر عند النّاقل وليس متواتراً عند المنقول إليه {ولو لم يدلّ} خبره {على ما بحدّ التواتر من المقدار} بل دلّ على خلاف ذلك، بأن كان خبره الإجمالي مرآة لإخبار عشرة وكان التواتر لا يحصل إلّا بإخبار مائة مثلاً.

[فصل عدم حجيّة الشهرة الفتوائيّة]

المقصد السّادس: في الأمارات، عدم حجيّة الشهرة الفتوائيّة

{فصل} في الشّهرة، وهي في الفقه على نوعين: الأوّل: الشّهرة في الرّواية، بأن تكون الرّواية مشهورة بين الأصحاب، وهذا النّحو من الشّهرة توجب ترجيح الرّواية على الرّواية الشّاذّة النّادرة نصّاً وفتوى.

الثّاني: الشّهرة في الفتوى، والمراد بها فتوى الجلّ سواء عرف الخلاف أم لم يعرف الخلاف والوفاق، أمّا فتوى الكلّ فهو إجماع، كما لا يخفى.

والمشكيني(رحمة الله) جعل الأولى أن يكون محلّ النّزاع أعمّ من ذلك، بأن يقال إنّ محلّ ذلك هي الفتاوى المحقّقة غير المفيدة للعلم، لا بالواقع ولا بوجود دليل معتبر سنداً ودلالة وجهة، إذ لا فرق في ملاك النّزاع بين ما ذكر وبين الإجماع

ص: 438

ممّا قيل باعتباره بالخصوص: الشّهرةُ في الفتوى، ولا يساعده دليل.

و

___________________________________________

السّكوتي والاتفاقات غير المفيدة للعلم(1).

وكيف كان، ف- {ممّا قيل باعتباره بالخصوص} فهو من الظنون الخاصّة الخارجة عن عموم حرمة العمل بالظنّ لا من الظنون الانسداديّة {الشّهرة في الفتوى} كما لو رأينا أنّ جماعة كثيرة من العلماء أفتوا بشيء ولم نجد له دليلاً من الكتاب أو السّنّة أو ما أشبههما {و} لكن {لا يساعده دليل} يدلّ على حجيّتها مطلقاً، فإنّ الأقوال في المسألة الحجيّة مطلقاً وعدمها مطلقاً، والتفصيل بين الشّهرة قبل الشّيخ فهي حجّة والشّهره بعده فليست بحجّة، والتفصيل بين الشّهرة المطابقة للخبر فحجّة ولو علم عدم استنادها إليه وبين غيرها فليست بحجّة.

{و} قد استدلّ لحجيّة الشّهرة مطلقاً بأمرين:

الأوّل: ما دلّ على حجيّة الخبر الواحد.

الثّاني: ما دلّ على الأخذ بما اشتهر بين الأصحاب في مورد تعارض الخبرين.

كما أنّه استدلّ للتفصيل الأوّل بأنّ الشّهرة قبل الشّيخ لا تكون إلّا للظفر على دليل معتبر، إذ الفقهاء قبل الشّيخ كانوا مقيّدين بالأخبار بخلاف الفقهاء بعده، فإنّهم يحكمون حسب الأصول والقواعد.

واستدلّ للتفصيل الثّاني بأنّ الشّهرة إذا طابقت الخبر دخلت في قوله(علیه السلام): «خذ بما اشتهر بين أصحابك»(2) بخلاف الشّهرة إذا لم تطابقه.

وحيث إنّ دليل التفصيلين ضعيف لم يتعرّض للجواب عنهما المصنّف(رحمة الله)

ص: 439


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 255.
2- غوالي اللئالي 4: 133.

توهّم(1): «دلالة أدلّة حجيّة الخبر الواحد عليه بالفحوى؛ لكون الظنّ الّذي تفيده أقوى ممّا يفيده الخبر».

فيه ما لا يخفى؛ ضرورة عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته الظنّ، غايته تنقيح ذلك بالظنّ، وهو لا يوجب إلّا الظنّ بأنّها أولى بالاعتبار، ولا اعتبار به.

___________________________________________

وإنّما اكتفى بالجواب عن دليلي القائل بالحجيّة مطلقاً بقوله: و{توهّم «دلالة أدلّة حجيّة الخبر الواحد عليه} أي: على اعتبار الشّهرة {بالفحوى} أي: بمفهوم الموافقة، فإنّ مناط حجيّة الخبر الواحد هو الظنّ النّوعي الحاصل منه، والظنّ الحاصل من الشّهرة أولى بالعمل على طبقه {لكون الظنّ الّذي تفيده} الشّهرة {أقوى ممّا يفيده الخبر»} فإذا صار الظنّ الأضعف حجّة كان الظنّ الأقوى أولى بالحجيّة {فيه ما لا يخفى} خبر قوله: «وتوهّم»، وذلك ل- {ضرورة عدم دلالتها} أي: دلالة أدلّة حجيّة الخبر الواحد {على كون مناط اعتباره} أي: اعتبار الخبر {إفادته الظنّ} فإنّه ليس في أدلّة حجيّة الخبر أنّ وجه ذلك حصول الظنّ النّوعي منه حتّى يتعدّى إلى الشّهرة بسبب العلّة المطّردة {غايته} أي: غاية الأمر {تنقيح ذلك بالظنّ} أي: إنّما نظنّ أنّ وجه اعتبار الخبر الواحد حصول الظنّ النّوعي منه {وهو} أي: هذا التنقيح الظنّي {لا يوجب إلّا الظنّ بأنّها} أي: الشّهرة {أولى بالاعتبار} من الخبر الواحد {ولا اعتبار به} أي: بما أفاده التنقيح من الأولويّةالاعتباريّة، ولا اعتبار بالظنّ.

والحاصل: أنّ القطع بكون اعتبار الخبر من باب الظنّ ممنوع، بل غاية الأمر أنّ المظنون كون اعتبار الخبر من باب الظنّ، ولا اعتبار بهذا المناط المظنون، فإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.

ص: 440


1- مفاتيح الأصول: 480 و 499.

مع أنّ دعوى القطع بأنّه ليس بمناط(1) غيرُ مجازفة.

وأضعفُ منه توهّم دلالةِ الرّواية المشهورة والمقبولة عليه؛

___________________________________________

هذا {مع أنّ دعوى القطع بأنّه} أي: حصول الظنّ {ليس بمناط غير مجازفة} إذ لو كان المناط الظنّ لزم دوران الحجيّة مداره، ومن المعلوم أنّ حجيّة الخبر لا يدور مدار الظنّ، ولذا لو لم يحصل الظنّ على طبق الخبر، بل لو حصل الظنّ على خلافه لم يسقط عن الحجيّة.

لكن ربّما يقال: بأنّ هذا الجواب الثّاني في غير محلّه إذ المراد بكون مناط حجيّة الخبر الظنّ إنّما هو الظنّ النّوعي، والظنّ النّوعي يحصل من الخبر كما يحصل من الشّهرة، لكن يبقى عليه أنّ كون الظنّ النّوعي الحاصل من الشّهرة أقوى من الظنّ النّوعي الحاصل من الخبر غير تام، إذ كثيراً يكون الظنّ الحاصل من الخبر أقوى من الظنّ الحاصل من الشّهرة، فتأمّل.

هذا تمام الكلام في الدليل الأوّل للقائل بحجيّة الشّهرة، وقد عرفت عدم تماميّته.

{وأضعف منه} أي: من التوهّم الأوّل دليلهم الثّاني، وهو {توهّمدلالة الرّواية المشهورة والمقبولة عليه} أي: على اعتبار الشّهرة.

وحاصل استدلالهم: أنّ بعض النّصوص يدلّ على حجيّة الشّهرة بالخصوص، كالرواية المشهورة بين الأصحاب الّتي رواها ابن أبي جمهور في كتاب غوالي اللئالي، عن العلّامة(رحمة الله) مرفوعاً إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيّهما آخذ؟ فقال: «يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشّاذّ النّادر»(2)،

الحديث.

ص: 441


1- فرائد الأصول 1: 232.
2- غوالي اللئالي 4: 133.

لوضوح أنّ المراد بالموصول في قوله في الأُولى: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»(1)،

وفي الثّانية: «ينظر إلى ما كان في روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به، المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به»(2) هو الرّواية،

___________________________________________

فإنّ تعليق الحكم على وصف الاشتهار يدلّ على أنّ المناط هو الشّهرة، فإذا كانت الشّهرة مناطاً لم يفرّق فيها بين شهرة الرّواية وشهرة الفتوى.

وكالرواية المقبولة الّتي تلقّتها الأصحاب بالقبول الّتي رواها المشايخ الثّلاثة، عن عمر بن حنظلة، الواردة في روايتين متعارضتين، قال(علیه السلام): «ينظر في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به، ويترك الشّاذ الّذيليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(3)،

الحديث. فإنّ قوله(علیه السلام): «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» الّذي يراد به المشهور - كما يدلّ عليه صدر الحديث - علّة صريحة في حجيّة الشّهرة، فيتعدّى عن مورد المقبولة - الّذي هو الرّوايتان المتعارضتان - إلى كلّ مشهور، سواء كان فتوى أو عملاً أو غيرهما، لكن لا يخفى ما في هذا الاستدلال أيضاً {لوضوح أنّ المراد بالموصول في قوله} (علیه السلام) {في} الرّواية المشهورة {الأُولى: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»، و} قوله(علیه السلام) {في} الرّواية المقبولة {الثّانية: «ينظر إلى ما كان في روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به»} الحديث {هو الرّواية} فقط.

فالمراد من الرّواية المقبولة والمشهورة أنّ الرّواية المشهورة حجّة لا أنّ كلّ شهرة حجّة، ومن الواضح الفرق بين حجيّة شيء لأجل الشّهرة وبين حجيّة الشّهرة، فإنّه لا تلازم بين تأييد الشّهرة ما فيه قدر من الحجيّة وبين حجيّة الشّهرة

ص: 442


1- غوالي اللئالي 4: 133.
2- وسائل الشيعة 27: 106.
3- الكافي 1: 67؛ من لا يحضره الفقيه 3: 10؛ تهذيب الأحكام 6: 302.

لا ما يعمّ الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى.

نعم، بناءً على حجيّة الخبر ببناء العقلاء لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيّته، بل على حجيّة كلّ أمارة مفيدة للظنّ أو الاطمئنان، لكن دون إثبات ذلك خَرْطُ القَتَاد.

___________________________________________

رأساً، ولا إطلاق للموصول حتّى يعمّ الفتوى، كما أنّ تعليق الحكم على الوصف ليس ظاهراً في أنّه تمام العلّة.

أمّا التعليل في الخبر الثّاني بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه لا يستفاد منه أكثر من عدم الرّيب في المجمع عليه ممّا فيه مقتضى الحجيّة لا المجمع عليه مطلقاً.

والحاصل: أنّ المشهورة والمقبولة خاصّة بالرواية {لا ما يعمّ الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى}.

وأمّا الجواب بضعف السّند - كما ذكره البعض - ففيه أنّ المفروض حجيّتهما فلا مجال لردّهما بضعف السّند.

{نعم، بناءً على حجيّة الخبر} الواحد {ب-} سبب {بناء العقلاء لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيّته} أي: حجيّة الخبر الواحد فقط {بل على حجيّة كلّ أمارة مفيدة للظنّ أو الاطمئنان} ومن تلك الأمارات الشّهرة {لكن} الإنصاف أنّ وجه الحجيّة لو كان بناء العقلاء أيضاً لما كفى في حجيّته الشّهرة، إذ الخبر الواحد يعدّ عند العقلاء شيء له استناد إلى حجّة ذاتيّة، بخلاف الشّهرة فإنّها لا استناد لها بعد كثرة استناد أقوال المشهور إلى وجوه اجتهاديّة.

هذا مضافاً إلى أنّ {دون إثبات ذلك} القول وهو كون حجيّة الخبر من باب بناء العقلاء {خرط القتاد} إذ حجيّة الخبر الواحد إنّما هي من باب التواتر الإجمالي المستفاد من السّنّة في حجيّة الخبر.

ص: 443

___________________________________________

لكن سيأتي من المصنّف(رحمة الله) أنّه يستند في الحجيّة إلى بناء العقلاء،فهذا الكلام منه هنا مناف لما يأتي منه.

فتحصّل: أنّ وجه حجيّة الشّهرة أحد الأُمور المذكورة من أدلّة حجيّة الخبر الواحد أو المشهورة والمقبولة أو بناء العقلاء، لكن شيئاً منها لا تصلح للاستناد لما عرفت من المناقشة في الجميع، ومع ذلك فلو لم يوجد في المسألة دليل يصحّ الاستناد إليه ممّا يكون محتملاً لاستناد المشهور وقامت الشّهرة على الفتوى بشيء أشكل الفتوى على خلاف ذلك مستنداً إلى الأصل العملي أو ما أشبه، إذ الغالب حصول الاطمئنان بوجود دليل معتبر في المسألة لم تصل إليه اليد خصوصاً إذا كانت الشّهرة شهرة القدماء.

ص: 444

فهرس المحتويات

المقصد الثّالث: في المفاهيم

المقصد الثّالث: في المفاهيم... 5

تعريف المفهوم........ 7

هل المفهوم من صفات المدلول أو الدلالة........ 10

فصل: مفهوم الشرط... 12

أدلة القائلين بمفهوم الشرط...... 15

أدلة المنكرين لمفهوم الشرط.... 26

أمور في مفهوم الشرط...... 31

الأمر الأوّل: المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم عند انتفاء الشرط..... 31

إشكال ودفع: توهم أنّ المعلّق على الشرط هو شخص الحكم لا سنخه.. 34

الأمر الثّاني: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فلا بد من التصرّف في ظهور الجملة........ 41

الأمر الثّالث: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فهل يلتزم بتعدد الجزاء أم بتداخله؟........ 46

التفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الجنس وعدمه والجواب عنه.... 60

القول بالتداخل في ما إذا لم يكن الموضوع قابلاً للتعدد...... 62

فصل: مفهوم الوصف....... 63

تذنيب: جريان النزاع في الوصف الأخص... 69

هل الغاية داخلة في المغيّى أم لا؟.... 76

فصل: مفهوم الغاية.... 72

فصل: مفهوم الاستثناء...... 79

مفاد كلمة التوحيد ... 81

هل دلالة الاستثناء على الانتفاء بالمنطوق أم بالمفهوم؟..... 84

ص: 445

دلالة (إنما) على الحصر........ 85

مفاد كلمة (بل) الإضرابية....... 86

دلالة المسند إليه المعرّف باللام....... 88

فصل: مفهوم اللقب والعدد........ 90

بعض ما استدل لمفهوم اللقب... 92

المقصد الرّابع: في العام والخاص

المقصد الرّابع: في العام والخاص...... 95

فصل: تعريف العام وأقسامه...... 97

أقسام العام بحسب عروض الحكم عليه ....... 100

أسماء الأعداد ليست من أفراد العام....... 102

فصل: هل للعموم صيغة تخصّه أم لا؟...... 103

فصل: الألفاظ الدالة على العموم...... 106

دلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم... 106

دلالة المحلّى باللام...... 109

فصل: حجيّة العام المخصَّص في الباقي.... 111

فصل: هل يسري إجمال الخاص إلى العام؟...... 121

المخصّص اللفظي المجمل مفهوماً ....... 122

المخصّص اللفظي المجمل مصداقاً....... 126

المخصّص اللبّي المجمل مصداقاً ........ 129

إيقاظ: إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي ...... 135

وهم وإزاحة: توهم جواز التمسك بالعام في غير الشك في التخصيص 137

الكلام في صحة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بالنذر ..... 142

الكلام في التمسك بأصالة العموم لإحراز عدم فردية المشتبه ........ 145

فصل: العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص........ 147

الكلام في مقدار الفحص اللازم .... 150

عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل ... 151

ص: 446

إيقاظ: الفرق في الفحص بين الأصول اللفظية والعمليّة ... 152

فصل: هل الخطابات الشفاهيّة تعمّ غير الحاضرين؟... 153

الكلام في ما وضعت له أدوات الخطاب ....... 158

فصل: ثمرة عموم الخطابات الشفاهيّة..... 165

الثمرة الأولى ..... 165

الثمرة الثّانية ...... 167

فصل: تعقب العام بضميرٍ يرجع إلى بعض أفراده...... 172

فصل: التخصيص بالمفهوم المخالف....... 177

لزوم الأخذ بالأظهر وإلّا فالرجوع إلى الأصل العملي .... 178

فصل: الاستثناء المتعقّب لجُمَلٍ متعاطفة... 181

لا ظهور للاستثناء في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة .... 183

فصل: تخصيص الكتاب بخبر الواحد....... 185

الدليل على جواز التخصيص ...... 186

أدلة المانعين من التخصيص ....... 186

فصل: العام والخاص المتخالفان...... 191

صور التخالف وأحكامها...... 191

حقيقة النسخ ....... 197

النسخ لا يستلزم البداء المحال ..... 198

حقيقة البداء ....... 201

الثمرة بين التخصيص والنسخ ..... 207

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن.... 209

فصل: ألفاظ المطلق........ 211

تعريف المطلق .... 211

اسم الجنس ........ 212

علم الجنس ........ 216

ص: 447

المفرد المعرّف باللام ... 218

الجمع المعرّف باللام ... 223

النكرة ....... 225

فصل: مقدّمات الحكمة..... 230

الأصل عند الشك في كون المتكلم في مقام البيان ... 236

الانصراف ومراتبه ..... 238

إذا كان للمطلق جهات عديدة ....... 240

فصل: المطلق والمقيّد المتنافيان..... 242

المطلق والمقيّد المتخالفان .... 243

المطلق والمقيّد المتوافقان .... 243

الوجه في عدم حمل المطلق على المقيّد في المستحبات ........ 247

لا فرق في الحمل على المقيّد بين الحكم التكليفي والوضعي ... 249

اختلاف نتيجة مقدمات الحكمة ..... 250

فصل: في المجمل والمبيّن...... 255

تعريف المجمل والمبيّن ...... 255

موارد الاشتباه والخلاف في الإجمال والبيان ........ 256

الإجمال والبيان وصفان إضافيان ........ 258

المقصد السّادس: في الأمارات

المقصد السّادس: في بيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً..... 259

مباحث القطع... 262خروج مباحث القطع عن علم الأصول ........ 262

أقسام حالات البالغ الذي وضع عليه قلم التكليف .... 263

تقسيم آخر ... 268

أحكام القطع..... 270

الأمر الأوّل: لزوم العمل بالقطع عقلاً....... 270

الحجيّة ذاتية للقطع ..... 271

ص: 448

الأمر الثّاني: التجرّي والانقياد........ 275

استحقاق المتجرّي للعقاب .... 276

القطع غير المصيب لا يحدث تغييراً في الواقع ..... 279

شهادة الآيات والروايات على استحقاق المتجرّي للعقاب ....... 288

توهم استحقاق المتجرّي عقابين متداخلين ..... 292

الأمر الثّالث: أقسام القطع....... 294

القطع الطريقي .... 294

القطع الموضوعي وأقسامه ........ 294

قيام الأمارات مقام القطع الطريقي وعدم قيامها مقام القطع الموضوعي 298

عدم قيام الأصول مقام القطع الطريقي إلّا الاستصحاب ........ 306

عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ...... 309

الأمر الرّابع: امتناع أخذ القطع بحكمٍ في موضوع نفسه أو مثله أو ضده 316

الأمر الخامس: الموافقة الالتزامية... 322

عدم وجوب الموافقة الالتزامية .... 323

عدم الملازمة بين وجوب الموافقة الالتزامية ووجوب الموافقة العمليّة 325

الالتزام غير مانع عن جريان الأصول في أطراف العلم ....... 326

الأمر السّادس: حجيّة قطع القطّاع.... 331

تبعية القطع الموضوعي لدليل الاعتبار ........ 332

عموم حجيّة القطع الطريقي ........ 333

الأمر السّابع: حجيّة العلم الإجماليّ... 338

اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة وحرمة المخالفة ....... 339

كفاية الامتثال الإجمالي في التوصليات والتعبديات غير المستلزم للتكرار 347

الكلام في الامتثال الإجمالي المستلزم للتكرار في العبادات .... 349

الامتثال الظني التفصيلي في العبادات ... 351

مباحث الأمارات...... 354

عدم اقتضاء الأمارة للحجيّة ذاتاً.... 355

ص: 449

إمكان التعبّد بالأمارات وقوعاً....... 357

المقصود من الإمكان في كلام الشيخ الرئيس ....... 359

محاذير التعبد بالأمارات ...... 360

الجواب عن المحاذير، وبيان وجوه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري 362

الوجه الأوّل ....... 362

الوجه الثّاني ...... 364

الوجه الثّالث ...... 370

الوجه الرّابع ...... 372

الوجه الخامس .... 376

تأسيس الأصل في المسألة.... 377

فصل: في حجيّة الظواهر........ 382

حجيّة الظواهر مطلقاً ... 383

التفصيل بين من قصد إفهامه وغيره .... 383

التفصيل بين ظواهر الكتاب وغيرها والأدلة على ذلك ... 384

اختلاف القراءات وأثره في التمسك بظواهر الكتاب ...... 398

فصل: طرق إحراز الظهور...... 401

الشك في وجود القرينة ....... 402

الشك في قرينية الموجود ..... 403

الشك في ما هو الموضوع له لغة وحكمه ..... 404

الاستدلال على حجيّة قول اللغوي .... 405

الدليل الأوّل ....... 405

الدليل الثّاني ....... 409

فائدة الرجوع إلى قول اللغوي ..... 411

فصل: حجّيّة إجماع المنقول..... 412

الأمر الأوّل: الملاك في حجيّة الإجماع ..... 413

الأمر الثّاني: اختلاف نقل الإجماع واختلاف ألفاظه ........ 417

ص: 450

الأمر الثّالث: صور نقل الإجماع ..... 419

أن يكون النقل متضمناً لنقل السبب والمسبب عن حسّ ... 419

أن يكون نقل الإجماع سبباً حسياً في نظر الناقل والمنقول إليه ....... 420

أن يكون نقل الإجماع سبباً حسياً بنظر الناقل فقط ... 421

إذا اشتبه أن نقل المسبب عن حس أو حدس ... 422

خلاصة الكلام في حجيّة الإجماع المنقول ..... 425تنبيهات... 429

هل المستندات المتقدمة كاشفة عن رأي المعصوم(علیه السلام) ...... 429

تعارض الإجماعات المنقولة ....... 433

نقل التواتر بخبر الواحد ...... 435

فصل: عدم حجيّة الشهرة الفتوائيّة... 438

فهرس المحتويات.... 445

ص: 451

المجلد 4

هویة الکتاب

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : کفایه الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصول الی کفایه الاصول/ السیدمحمد الحسینی الشیرازی ؛ [برای] الشجرةالطیبه.

مشخصات نشر : قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.= 1399.

مشخصات ظاهری : 5ج.

شابک : دوره:978-964-204524-2 ؛ ج.2:978-964-204522-8 ؛ ج.2:978-964-204523-5 ؛ ج.3:978-964-204525-9 ؛ ج.4:978-964-204526-6 ؛ ج.5:978-964-204527-3

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : این کتاب شرحی بر کفایه الاصول، آخوند خراسانی است.

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

موضوع : اصول فقه شیعه -- قرن 14

Islamic law, shiites -- Interpretation and construction -- 20th century

شناسه افزوده : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

شناسه افزوده : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

شناسه افزوده : موسسه شجره طیبه(قم)

رده بندی کنگره : BP159/8

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 6131319

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا

ص: 1

اشارة

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمة الله)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة:السابعة والأربعون، الأولى

للناشر - 1441ه- .ق

-------------------

شابك (الدورة): 2-204524-964-978

شابك (المجلد الرابع): 6-204526-964-978

-------------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم قم

المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

وبعد:

فهذا هو الجزء الرّابع من الوصول في شرح كفاية الأصول للمحقّق آية اللّه الخراساني+ كتبته للإيضاح، واللّه أسأل التوفيق والتمام والثّواب، إنّه وليّ ذلك، وهوالمستعان.

كربلاء المقدّسة

محمّد بن المهدي

ص: 3

ص: 4

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة حجيّة خبر الواحد، الآيات

اشارة

فصل: المشهور بين الأصحاب: حجيّة خبر الواحد في الجملة بالخصوص.

ولا يخفى: أنّ هذه المسألة من أهمّ المسائل الأصوليّة. وقد عرفت في أوّل الكتاب:

___________________________________________

[فصل حجيّة خبر الواحد]

اشارة

المقصد السّادس: في الأمارات، حجيّة خبر الواحد

{فصل} في حجيّة خبر الواحد {المشهور بين الأصحاب} قديماً وحديثاً {حجيّة خبر الواحد} والمراد به ما ليس بمتواتر وإن تعدّدت رواته، وإنّما يُسمّى خبر الواحد لغلبة ذلك فيه وإلّا فالمتعدّد الّذي لم يصل إلى حدّ التواتر أيضاً يقع فيه الكلام، كما لا يخفى {في الجملة} أي: بشرط أن يكون الرّاوي عدلاً أو ثقة ولم يكن موهوناً بإعراض الأصحاب مثلاً، وهكذا {بالخصوص} أي: من جهة أدلّة خاصّة تدلّ على حجيّته لا من باب حجيّة مطلق الظّنّ من حيث الانسداد.

{ولا يخفى أنّ هذه المسألة} أي: حجيّة خبر الواحد {من أهمّ المسائل الأصوليّة} إذ على الخبر الواحد يدور رحى الفقه {وقد عرفت في أوّل الكتاب} في المجلّد الأوّل أنّ هنا إشكالين:

الأوّل: أنّه كيف يمكن جعل هذه المسألة من مسائل علم الأصول والحال أنّ التكلّم في هذه ليس عن أمر عارض للأدلّة الأربعة بل عن دليليّة الدليل، والبحث عن دليليّة الدليل ليس بحثاً عن عوارض الدليل، كما لا يخفى.الثّاني: أنّه كيف يمكن جعل البحث عن حجيّة الخبر الواحد من المسائل الأصوليّة، والحال أنّ موضوع المسألة يلزم أن يكون من صغريات موضوع العلم وليس الخبر الواحد من صغريات موضوع الأصول؟

ص: 5

أنّ الملاك في الأصوليّة صحّة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط، ولو لم يكن البحث فيها عن الأدلّة الأربعة، وإن اشتهر في ألسنة الفحول(1): كونُ الموضوع في علم الأصول هي الأدلّة.

___________________________________________

بيان ذلك: أنّ موضوع علم الأصول على المشهور هو الأدلّة الأربعة: الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل، والخبر الواحد ليس كتاباً وإجماعاً وعقلاً، كما هو واضح، ولا سنّةً؛ لأنّ السّنّة عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره، والخبر الواحد حاكٍ للسنّة وليس هو السّنّة بذاتها.

وقد أجاب عن هذين الإشكالين كلّ من المصنّف والشّيخ وصاحب الفصول وبعض آخر:

أمّا ذلك البعض فقد التزم بالاستطراد في ذكر هذه المسألة في الأصول، ولا يخفى ما فيه، إذ لو كان مثل هذه المسألة استطراداً لم يبق للأُصول شيء يعتدّ به، بالإضافة إلى أنّه لا وجه للاستطراد بعد إمكان جعلها من الأصول.

وأمّا المصنّف(رحمة الله) فقد أجاب ب- {أنّ الملاك في} المسألة {الأصوليّة صحّة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط} للأحكام الشّرعيّة {ولو لم يكن البحث فيها عن الأدلّة الأربعة} ومن المعلوم أنّ نتيجة البحث عن حجيّة الخبر الواحد تقع في طريق الاستنباط؛ لأنّ استنباط كثير منالأحكام يتوقّف على الحجيّة واللّاحجّيّة للخبر، وقد تقدّم سابقاً أنّه لا دليل لكون موضوع الأصول الأدلّة الأربعة {وإن اشتهر في ألسنة الفحول كون الموضوع في علم الأصول هي الأدلّة} الأربعة.

والحاصل: أنّ موضوع علم الأصول عند المصنّف هو الجامع لمسائله الّتي تشترك في كون نتائجها تقع في طريق الاستنباط، سواء كان من الأدلّة الأربعة أو من غيرها، فلا يرد عليه لزوم خروج مسألة حجيّة خبر الواحد عن مسائل الأصول.

ص: 6


1- قوانين الأصول 1: 9؛ الفصول الغرويّة: 11.

وعليه لا يكاد يفيد في ذلك - أي: في كون هذه المسألة أُصوليّة - تجشّم دعوى: أنّ البحث عن دليليّة الدليل بحث عن أحوال الدليل ضرورة أنّ البحث في المسألة ليس عن دليليّة الأدلّة، بل عن حجيّة الخبر الحاكي عنها.

كما لا يكاد يفيد عليه

___________________________________________

وحيث ذكر المصنّف(رحمة الله) جوابه عن الإشكال شرع في إبطال جواب صاحب الفصول(1)

بقوله: {وعليه} أي: بناءً على كون موضوع الأصول الأدلّة الأربعة {لا يكاد يفيد في ذلك، أي: في كون هذه المسألة} من المسائل ال-{أُصوليّة} ما ارتكبه في الأصول من {تجشّم دعوى أنّ البحث عن دليليّة الدليل بحث عن أحوال الدليل}.

وحاصل جواب الفصول عن الإشكال: أنّ موضوع علم الأصول ليس هي الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة، بل البحث في هذا العلم عن ذات الأدلّة الأربعة حتّىيكون البحثُ عن دليليّة هذه الأدلّة والبحثُ عن عوارض هذه الأدلّة - بعد إثبات دليليّتها - كلاهما بحثاً عن موضوع العلم، لكن هذا التجشّم يرد عليه:

أوّلاً: أنّه خلاف ظاهر كلام العلماء حيث يجعلون الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة - لا بما هي هي - موضوع الأصول.

وثانياً: أنّه جواب عن أحد الإشكالين - وهو الإشكال الأوّل - ويبقى الإشكال الثّاني بحاله {ضرورة أنّ البحث في المسألة ليس عن دليليّة الأدلّة} الأربعة {بل عن حجيّة الخبر الحاكي عنها} والحاكي الّذي هو الخبر مورد البحث والمحكي الّذي هو قول المعصوم وفعله وتقريره موضوع علم الأصول.

وحيث فرغ عن جواب الفصول وعن الإشكال عليه أشار إلى جواب الشّيخ - رحمة اللّه عليه -(2)

عن الإشكال بقوله: {كما لا يكاد يفيد عليه} - أي: بناءً على

ص: 7


1- الفصول الغرويّة: 12.
2- فرائد الأصول 1: 238.

تجشّم دعوى: أنّ مرجع هذه المسألة إلى أنّ السّنّة - وهي قول الحجّة أو فعله أو تقريره - هل تثبت بالخبر الواحد، أو لا تثبت إلّا بما يفيد القطع، من التواتر أو القرينة؟ فإنّ التعبّد بثبوتها مع الشّكّ فيها - لدى الإخبار بها - ليس من عوارضها، بل من عوارض مشكوكها، كما لا يخفى.

مع أنّه

___________________________________________

أنّ موضوع الأصول الأدلّة الأربعة - ما ذكره الشّيخ من {تجشّم دعوى أنّ مرجع هذه المسألة إلى أنّ السّنّة - وهي قول الحجّة أو فعله أو تقريره - هل تثبتبالخبر الواحد أو لا تثبت إلّا بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة} وعلى هذا فيكون موضوع هذه المسألة السّنّة بما هي دليل، فلا يرد أحد الإشكالين المتقدّمين، إذ البحث حينئذٍ عن عوارض الدليل الّذي هو السّنّة.

لكن هذا الجواب أيضاً غير تامّ {ف-} إنّه يرد أوّلاً {أنّ} قولنا: «هل السّنّة تثبت بخبر الواحد أم لا؟» ليس المراد بالثبوت الثبوت الواقعي، بل المراد الثبوت التعبّدي الرّاجع إلى وجوب العمل وترتيب آثار الواقع، ومن المعلوم أنّ هذا المعنى من الثبوت ليس من عوارض السّنّة، إذ لا إشكال في وجوب العمل بالسنّة الواقعيّة، بل هو من عوارض السّنّة المشكوكة الّتي هي الخبر الواحد، إذ {التعبّد بثبوتها} أي: ثبوت السّنّة {مع الشّكّ فيها} أي: في السّنّة {لدى الإخبار بها} أي: بالسنّة {ليس من عوارضها، بل من عوارض مشكوكها} الّذي هو الخبر، فرجع الكلام حول الخبر - الّذي هو ليس من الأدلّة الأربعة في شيء - {كما لا يخفى} على من تأمّل.

{مع أنّه} يرد على كلام الشّيخ(رحمة الله) ثانياً أنّ المبحوث عنه ليس هو الثبوت، بل هو الحجيّة، فإنّا نقول: هل خبر الواحد حجّة أم لا؟ ومن لوازم الحجيّة الثبوت المذكور في كلامكم والملاك الّذي تعدّ به المسألة من مسائل العلم كون نفس

ص: 8

لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجيّة الخبر، والمبحوث عنه في المسائل إنّما هو الملاك في أنّها من المباحث أو من غيره، لا ما هو لازمه، كما هو واضح.

وكيف كان، فالمحكيّ عن السّيّد والقاضيوابن زهرة والطّبرسي وابن إدريس(1)

عدم حجيّة الخبر، واستدلّ: بالآيات النّاهية عن اتّباع غير العلم.

___________________________________________

المبحوث عنه من عوارض الموضوع، لا أن يكون لازمه من العوارض.

والحاصل: أنّ الثبوت {لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجّيّة الخبر} بيان «لما يبحث» {والمبحوث عنه في المسائل إنّما هو الملاك في أنّها} أي: المسائل {من المباحث أو من غيره لا ما هو لازمه} كما ذكره الشّيخ(رحمة الله) {كما هو واضح}.

ولا يخفى أنّ أُسلوب جواب المصنّف في هذا المقام مختلف عن أُسلوب جوابه عن هذا الإشكال في أوّل الكتاب، فراجع.

[أدلة القول بعدم حجيّة الخبر الواحد]

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة عدم حجيّة خبر الواحد

{وكيف كان} الأمر سواء كانت مسألة حجيّة الخبر الواحد من المسائل الأصوليّة أم لا فقد وقع الخلاف في حجيّته {فالمحكي عن السّيّد} المرتضى {والقاضي} ابن البرّاج {وابن زهرة والطّبرسي وابن إدريس} وبعض آخر {عدم حجيّة الخبر} فلا يصحّ الاستناد إليه في استفادة الحكم الشّرعيّ {واستدلّ ب-} الأدلة الأربعة الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل:

أمّا العقل فواضح، إذ الأصل عدم حجيّة مشكوك الحجيّة، فإنّ العقل يقبّحالاستناد إلى ما لم يجعله المولى حجّة بعنوان أنّه من المولى.

وأمّا الكتاب فيدلّ عليه {الآيات النّاهية عن اتّباع غير العلم} كقوله - تعالى - :

ص: 9


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 528؛ المهذّب 2: 598؛ غنية النزوع: 329؛ مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 199؛ السرائر 1: 48.

والرّوايات الدالّة على ردّ ما لم يعلم أنّه قولهم^، - أو لم يكن عليه شاهد من كتاب اللّه أو شاهدان،

___________________________________________

{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1)، وقوله: {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(2)، وقوله: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ}(3)، وقوله: {بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ}(4)، وقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ}(5)، وقوله: {وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ}(6)، وقوله: {أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ}(7)، إلى غيرها.

{و} أمّا السّنّة يدلّ عليه طوائف من {الرّوايات} مثل الرّواية {الدالّة على ردّ ما لم يعلم أنّه قولهم^} كرواية محمّد بن عيسى قال: أقرأني داود ابن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثّالث(علیه السلام) وجوابه بخطّه(علیه السلام) فكتب: نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك^ أجمعين قد اختلفوا علينا فيه فكيف العمل بهعلى اختلافه؟ فكتب(علیه السلام) بخطّه وقرأته: «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموه فردّوه إلينا»(8).

{أو} الرّواية الدالّة على ردّ ما {لم يكن عليه شاهد من كتاب اللّه أو شاهدان} كقوله(علیه السلام): «إذا جاءكم حديث عنّا، فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب اللّه، فخذوا به وإلّا فقفوا عنده، ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم»(9).

ص: 10


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة يونس، الآية: 36.
3- سورة النحل، الآية: 116.
4- سورة الحج، الآية: 8؛ سورة لقمان، الآية: 20.
5- سورة الأنعام، الآية: 116؛ سورة يونس، الآية: 66.
6- سورة الزخرف، الآية: 23-23.
7- سورة الحجرات، الآية: 6.
8- بصائر الدرجات: 525.
9- الكافي 2: 222.

أو لم يكن موافقاً للقرآن - ، إليهم؛ أو على بطلان ما لا يصدّقه كتاب اللّه؛ أو على أنّ ما لا يوافق كتاب اللّه زخرف؛ أو على النّهي عن قبول حديث إلّا ما وافق الكتاب أو السّنّة إلى غير ذلك.

والإجماعِ المحكي عن السّيّد في مواضع من كلامه(1)،

___________________________________________

{أو} الرّواية الدالّة على ردّ ما {لم يكن موافقاً للقرآن، إليهم} كقول أبي جعفر(علیه السلام): «ما جاءكم عنّا فإن وجدتموه موافقاً للقرآن فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه الأمر عندكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح من ذلك ما شرح لنا»(2).

{أو} الرّواية الدالّة {على بطلان ما لا يصدقه كتاب اللّه} كقوله(علیه السلام): «ما جاءكم من حديث لا يصدّقه كتاب اللّه فهو باطل»(3).{أو} الرّواية الدالّة {على أنّ ما لا يوافق كتاب اللّه زخرف} كقول الصّادق(علیه السلام): «كل شيء مردود إلى كتاب اللّه والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف»(4).

{أو} الرّواية الدالّة {على النّهي عن قبول حديث إلّا ما وافق الكتاب أو السّنّة} كالمروي عن أبي عبداللّه(علیه السلام): «لا تقبلوا علينا حديثاً إلّا ما وافق الكتاب والسّنّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة»(5) {إلى غير ذلك} من الأخبار الكثيرة الواردة بهذه المضامين.

{و} أمّا {الإجماع} ف- {المحكي عن السّيّد} المرتضى(رحمة الله) {في مواضع من كلامه}

ص: 11


1- رسائل الشريف المرتضى 3: 309؛ فرائد الأصول 1: 246.
2- وسائل الشيعة 27: 120.
3- تفسير العيّاشي 1: 9؛ المحاسن 1: 221 وفيهما: «ما أتاكم عنّا من حديث...».
4- الكافي 1: 69.
5- رجال الكشّي 2: 489؛ بحار الأنوار 2: 250.

بل حكي عنه أنّه جعل بمنزلة القياس، في كون تركه معروفاً من مذهب الشّيعة.

والجواب: أمّا عن الآيات: فبأنّ الظّاهر منها - أو المتيقّن من إطلاقها - هو: اتّباع غير العلم في الأصول الاعتقاديّة، لا ما يعمّ الفروع الشّرعيّة،

___________________________________________

دعواه صريحاً {بل حكي عنه أنّه جعله بمنزلة القياس في كون تركه معروفاً من مذهب الشّيعة} فإذا قامت الأدلّة الأربعة على حرمة العمل بالخبر الواحد لم يجز الاستناد إليه في استنباط الأحكام الشّرعيّة، وكأنّ الشّيخ(رحمة الله) والمصنّف لم يذكرا دليل العقل؛ لأنّهما نقلا أدلّة القائلين بالمنع ولم يكن فيها ذلك.

{والجواب} أمّا عن دليل العقل فبأنّه ليس استناداً إلى المولى بدوندليل، بل بناء العقلاء كافّة في الاعتماد على خبر الثقة كافٍ في الحجيّة ويكون من الاستناد بالدليل، و{أمّا عن الآيات فبأنّ الظّاهر} المنصرف {منها أو المتيقّن من إطلاقها} بناءً على عدم ظهورها في ما ذكر {هو اتّباع غير العلم في الأصول الاعتقاديّة لا ما يعمّ الفروع الشّرعيّة} فإنّ قوله - تعالى - في سورة النّجم: {إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ تَسۡمِيَةَ ٱلۡأُنثَىٰ * وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّۖ}(1) ظاهر في الأصول، إلّا أنّ الإنصاف أنّ بعض الآيات لا وجه للقول بذلك فيها، بل إطلاقها يشمل جميع أقسام الظّنّ، فإنّ قوله: {وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡٔٗا}(2) له إطلاق قويّ في الشّمول، كما أنّ قوله - تعالى - : {وَلَا تَقۡفُ مَ-ا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَ-رَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا}(3) كذلك، بل استدلال الإمام(علیه السلام) بهذه الآية على حرمة استماع الغناء ممّا يؤيّد الإطلاق.

ص: 12


1- سورة النجم، الآية: 27-28.
2- سورة النجم، الآية: 28.
3- سورة الإسراء، الآية: 36.

ولو سلم عمومُها لها فهي مخصّصة بالأدلّة الآتية على اعتبار الأخبار.

وأمّا عن الرّوايات: فبأنّ الاستدلال بها خال عن السّداد؛ فإنّها أخبار آحاد.

___________________________________________

لكن الإنصاف أنّ مثل العمل بخبر الواحد الجامع للشرائط لا يعدّ من اتّباع غير العلم فهو خارج موضوعاً، ألا ترى أنّ المولى لو قال لعبده: (لا تعملبأوامري حتّى تعلم بها) ثمّ أخبره الثقة بأنّه قال كذا، لم يكن عند العقلاء معذوراً لو ترك الأمر معتذراً بأنّه لا يعلم وقد نهاه المولى عن اتّباع غير العلم.

{ولو سلم عمومها} أي: عموم الآيات {لها} أي: للفروع الشّرعيّة {فهي مخصّصة بالأدلّة الآتية} الدالّة {على اعتبار الأخبار} من الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل.

{وأمّا} الجواب {عن الرّوايات} المتقدّمة الّتي قد ذكر المانعون دلالتها على عدم حجيّة الأخبار {فبأنّ الاستدلال بها خالٍ عن السّداد، فإنّها أخبار آحاد} فإنّها ليست حجّة لا عندنا ولا عند الخصم: أمّا عندنا فلأنّا نرى حجيّة الخبر الواحد وأمّا عند الخصم فبأنّه لا يرى حجيّة الخبر الواحد، فكيف يستدلّ بالخبر الواحد لإثبات كلامه؟

إن قلت: يصحّ استلال الخصم بها جدلاً فيقول إنّكم ترون حجيّة الخبر الواحد فهذا حجّة، وإذا ثبت حجيّة هذا الخبر اقتضى ذلك عدم حجيّة سائر الأخبار الواردة في مختلف أبواب الفقه.

قلت: ما يلزم من وجوده عدمه باطل، ولو ثبت حجيّة هذه الأخبار لزم عدم حجيّتها، فالأخبار المانعة لا يمكن العمل بها سواء قلنا بحجيّة الخبر أم بعدم حجيّته، إذ لو كان الخبر الواحد حجّة لم تكن هذه الأخبار المانعة بحجّة، ولو لم يكن الخبر الواحد حجّة كانت هذه الأخبار المانعة غير حجّة؛ لأنّها أخبار آحاد، فتأمّل.

ص: 13

لا يقال: إنّها وإن لم تكن متواترة لفظاً ولا معنى، إلّا أنّها متواترة إجمالاً؛ للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة.

___________________________________________

{لا يقال}: إنّ الأخبار المانعة ليست من الخبر الواحد حتّى يلزمالإشكال المتقدّم، ف- {إنّها وإن لم تكن متواترة لفظاً ولا معنى إلّا أنّها متواترة إجمالاً}.

والفرق بين هذه الأقسام: أنّ التواتر اللفظي هو: إخبار جماعة يفيد قولهم العلم بلفظ واحد، كإخبار جماعة كثيرة أنّ الرّسول(صلی الله علیه و آله) قال يوم الغدير: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه».

والتواتر المعنوي هو: إخبار جماعة يفيد قولهم العلم بألفاظ مختلفة ممّا يؤدّي إلى معنى واحد، كما لو أخبر أحدهم بأنّه رأى زيداً يقتل أسداً والثّاني بأنّه رآه يصارع نمراً والثّالث بأنّه رآه يحارب فئة وهكذا، فهؤلاء وإن لم يتّفقوا في اللفظ والواقعة إلّا أنّهم متّفقون جميعاً على أنّه شجاع، وهو المعنى المتحصّل عن جميع هذه الإخبارات الآحاديّة.

والتواتر الإجمالي هو: إخبار جماعة بأخبار متعدّدة نعلم إجمالاً بصحّة أحدها وهذا يوجب العلم بالمعنى الأخصّ من الجميع، كما لو قال أحدهم: (جاء زيد راكباً فرساً) وقال الآخر: (جاء زيد مع عمرو) وقال الثّالث: (جاء زيد يوم الجمعة) وهكذا علمنا بمجيء زيد وهو المعنى المتّفق عليه، فإنّ صدق أحد المخبرين في الجملة كافٍ لإثبات ذلك وإن لم يثبت سائر الخصوصيّات.

والأخبار الواردة الدالّة على عدم حجيّة الخبر الواحد كذلك - أي متواترة إجمالاً - {للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة} وهذا العلم حاصل من جهة كثرة هذه الأخبار، وانتشارها في كتب الحديث وتمسّك الفقهاء بها قديماً وحديثاً ومطابقة مضمون بعضها لما هو ضروريّ، كعدم حجيّة الخبر المخالف للقرآن وما أشبه.

ص: 14

فإنّه يقال: إنّها وإن كانت كذلك، إلّا أنّها لا تفيد إلّا في ما توافقت عليه، وهو غير مفيد في إثبات السّلب كليّاً، - كما هو محلّ الكلام، ومحلّ النّقض والإبرام - ،وإنّما تفيد عدم حجيّة الخبر المخالف للكتاب والسّنّة، والالتزامُ به ليس بضائر، بل لا محيص عنه في مقام المعارضة.

___________________________________________

{فإنّه يقال}: في جواب الأخبار الدالّة على عدم حجيّة الخبر الواحد {إِنّها} أي: تلك الأخبار المانعة {وإن كانت كذلك} أي: متواترة إجمالاً {إلّا أنّها لا تفيد} المنع عن حجيّة مطلق الخبر الواحد الّذي كان مراد السّيّد ومن تبعه {إلّا في ما توافقت} تلك الأخبار {عليه} لما عرفت من أنّه مقتضى التواتر الإجمالي {وهو غير مفيد في إثبات السّلب كليّاً} أي: عدم حجيّة الأخبار مطلقاً {كما هو محلّ الكلام} بيننا وبين السّيّد ومن تبعه {ومحلّ النّقض والإبرام}.

والحاصل: أنّ الأخبار المانعة لا يفيد عدم حجيّة الخبر الواحد بقول مطلق {وإنّما تفيد عدم حجيّة الخبر المخالف للكتاب والسّنّة} لأنّه الأمر الجامع بين تلك الأخبار المانعة، فأيّ منها كان صادراً من المعصوم كان دليلاً على ذلك، لما عرفت من مقتضى التواتر الإجمالي {والالتزام به} أي: بكون الخبر المخالف للكتاب والسّنّة ليس بحجّة {ليس بضائر} بالنسبة إلى من يدّعي حجيّة الخبر الواحد، إذ المدّعي لا يريد حجيّة مطلق الأخبار حتّى المخالفة منها للكتاب والسّنّة وإنّما يريد إثبات الحجيّة في الجملة، وذلك ممّا لا ينافيه أخبار المانعين {بل لا محيص عنه} أي: عن الالتزام بعدم حجيّة الخبر المخالف للكتاب والسّنّة {في مقام المعارضة} أي: معارضة ذلك الخبر للكتاب والسّنّة على نحو تعارض التباين، وإن كان في غير تعارض التباين يمكن التزام حجيّة الخبر المخالف لهما.ولا يخفى أنّ عبارة المصنّف(رحمة الله) تحتمل معنيين، توضيحه: أنّ الأخبار المانعة الّتي تقول بعدم حجيّة الخبر المخالف للكتاب والسّنّة يمكن أن تريد بالمخالفة

ص: 15

وأمّا عن الإجماع: فبأنّ المحصّل منه غير حاصل، والمنقول منه للاستدلال به غير قابل،

___________________________________________

مخالفة العموم والخصوص - بأن كان الكتاب عامّاً والخبر المخالف خاصّاً - ويمكن أن تريد مخالفة التباين، ويمكن أن تريد المخالفة مطلقاً، وأيّ الأُمور كان مراداً لا تضرّ الأخبار المانعة؛ لأنّ في الأخبار طائفة كبيرة جدّاً ليست مخالفة للكتاب والسّنّة إطلاقاً لا عموماً ولا خصوصاً ولا تبايناً.

فالأخبار المانعة لا تفيد عدم حجيّة الخبر الواحد مطلقاً، كما هو مراد المانعين وإنّما تفيد عدم حجيّة المخالف تبايناً أو المخالف عموماً وخصوصاً أو المخالف مطلقاً، ولا بأس بالالتزام بذلك بأيّ المعاني كان.

فمراد المصنّف(رحمة الله) بقوله: «المخالف للكتاب» إن كان المخالف مطلقاً أعمّ من التبايني والعمومي كان قوله: «بل لا محيص» ترقّياً بالنسبة إلى المخالف التبايني، وإن كان المخالف العمومي والخصوصي كان قوله: «بل لا محيص» ترقّياً بالنسبة إلى الأخبار المتعارضة، بمعنى أنّ الخبر المخالف للكتاب عموماً وخصوصاً ليس بحجّة، خصوصاً إذا كانت الأخبار متعارضة، وكان أحد المتعارضين مخالفاً للكتاب بطور العموم والخصوص.

ولا يمكن أن يريد المصنّف(رحمة الله) بقوله: «المخالف للكتاب» المخالفة التباينيّة؛ لأنّه لا يبقى مجال للترقّي، كما لا يخفى.

{وأمّا} الجواب {عن الإجماع} الّذي ادّعاه السّيّد على عدم حجيّة الخبرالواحد {فبأنّ المحصّل منه غير حاصل} إذنحن لم نحصل على الإجماع، بل وجدنا الخلاف الكبير، وعلى فرض تحصيل الإجماع ليس بحجّة؛ لأنّه محتمل الاستناد.

وقد عرفت في بحث الإجماع أنّ محتمل الاستناد منه لا يمكن الاعتماد عليه {والمنقول منه للاستدلال به غير قابل} لما عرفت في مبحث الإجماع أنّ الإجماع

ص: 16

خصوصاً في المسألة، كما يظهر وجهه للمتأمّل،

___________________________________________

المنقول لم يقم دليل على حجيّته، مضافاً إلى أنّ السّيّد شخص واحد نقل الإجماع وخبر الواحد باعتراف السّيّد بنفسه ليس حجّة {خصوصاً في} هذه {المسألة} لعلّ وجه الخصوصيّة ما ذكرنا من أنّه خبر واحد ينقل الإجماع، والخبر الواحد ليس بحجّة عند ناقله {كما يظهر وجهه للمتأمّل}.

فإنّه يقال للسيّد: هل يجوز لنا الأخذ بالخبر الواحد؟ فيقول: لا، فنقول: ولذا لا نتمكّن من الأخذ بقولك الّذي تنقل الإجماع؛ لأنّه خبر واحد، لكن للسيّد أن يقول: أنتم تقولون بحجيّة الخبر الواحد فخذوا بخبري؛ لأنّه من الخبر الواحد الّذي هو حجّة عندكم.

ولا يخفى أنّ الحقّ مع المجيب لا مع السّيّد في هذا البحث؛ لأنّ حجيّة قول السّيّد الّذي هو خبر واحد يلزم من وجوده عدمه، وما يلزم من وجوده عدمه محال تكويناً ومحال حجّة.

وقد يشبه هذا البحث ما يقال: إنّ أحد الفلاسفة كان يأخذ أجراً كبيراً لأن يعلّم تلاميذه الجدل حتّى يغلبوا على كلّ مجادل محقّاً كان أم مبطلاً، ولمّا تعلّم منه بعض تلاميذه وأكمل، أراد الفيلسوف أن يأخذ منه الأجر، قال التلميذ: إنّي أُجادلك على عدم استحقاقك للأجر، فإن غلبت عليك كنت أثبتُّ عدماستحقاقك بالدليل، وإن غلبت علَيّ كنت لا تستحقّ الأخذ لعدم تعليمي حسب الشّرط الّذي هو أن لا يغلبني أحد.

قال الفيلسوف: إنّي أُجادلك على الاستحقاق، فإن غلبتك كنت مستحقّاً للأخذ لما أقمت من الحجّة على الاستحقاق، وإن غلبتني كنت مستحقّاً للأخذ لما وفّيت من الشّرط، وهو تعليمك بحيث لا يغلبك أحد.

أقول: لكن مقتضى القاعدة استحقاق الأُستاذ لو غلبه التلميذ في الجدل

ص: 17

مع أنّه معارضٌ بمثله، وموهونٌ بذهاب المشهور إلى خلافه.

وقد استدلّ للمشهور بالأدلّة الأربعة:

فصل: في الآيات الّتي استدلّ بها: فمنها: آية النّبأ، قال اللّه - تبارك وتعالى - : {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ}(1).

___________________________________________

- لوفاء الأُستاذ بالشرط - وعدم استحقاق الأُستاذ لو غلب على التلميذ - لعدم وفائه بالشرط - كما هو ظاهر.

{مع أنّه} أي: الإجماع الّذي ادّعاه السّيّد {معارض بمثله} لدعوى جماعة منهم الشّيخ الإجماع على حجيّة الخبر الواحد {وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه} وكيف يستقيم إجماع يخالفه المشهور؟

[أدلة حجيّة خبر الواحد]

وحيث أتممنا الكلام في أدلّة القائلين بعدم حجيّة الخبر الواحد والجواب عنها، فلنشرع في أدلّة المشهور القائلين بالحجيّة: {وقد استدلّ للمشهور} القائلين بالحجيّة {بالأدلّة الأربعة} الكتابوالسّنّة والإجماع والعقل.

[فصل الآيات التي يستدل بها على حجيّة خبر الواحد ومناقشتها]

اشارة

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة حجيّة خبر الواحد، الآيات

{فصل: في الآيات الّتي استدلّ بها} على حجيّة خبر الواحد.

[الاستدلال بآية النبأ]

{فمنها: آية النّبأ} وسمّيت آية النّبأ لاشتمالها على كلمة (النّبأ)، وهذا هو السّبب في تسمية غالب الآيات والسّور بأسامي خاصّة.

{قال اللّه - تبارك وتعالى - :} {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ} أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ}(2).

ص: 18


1- سورة الحجرات، الآية: 6.
2- سورة الحجرات، الآية: 6.

ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوهٍ،

___________________________________________

قال في مجمع البيان: «نزل في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في صدقات بني المصطلق، فخرجوا يتلقّونه فرحاً به، وكانت بينهم عداوة في الجاهليّة، فظنّ أنّهم همّوا بقتله، فرجع إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقال: إنّهم منعوا صدقاتهم وكان الأمر بخلافه، فغضب النّبيّ(صلی الله علیه و آله) وهمّ أن يغزوهم، فنزلت الآية»(1).

ولا يخفى أنّ ما ظهر عند بعض الأصحاب من غضب النّبيّ(صلی الله علیه و آله) وهمّه بغزوهم لعلّه كان خلاف الواقع، بأن كان غضب النّبيّ(صلی الله علیه و آله) على الوليد لكنّهم لم يعرفوا مصبّه، كما أنّ الهمّ لعلّهم فهموه من مثل قوله:(لو صدق الأمر لغزوتهم) أو ما أشبه ممّا ليس بهمّ حقيقيّ وإنّما همّ تعليقي، وقد أنزل اللّه الآية فاضحة له وإعلاماً للمؤمنين، كما يشهد بذلك كون الخطاب لهم، ولعلّهم وجدوا على بني المصطلق وأحبّوا غزوهم.

ويشهد لهذا الاحتمال سياق الآية الّذي هو في مقام ردع المؤمنين عن الأعمال غير الصّالحة مع وجود النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، إذ قبل هذه الآية قوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ * وَلَوۡ أَنَّهُمۡ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخۡرُجَ إِلَيۡهِمۡ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ}(2)، وبعدها قوله - تعالى - : {وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ يُطِيعُكُمۡ فِي كَثِيرٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ}(3)، ممّا تدلّ على أنّهم أرادوا الغزو أو ما أشبه.

{ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه} ذكرها المشكيني(رحمة الله) خمسة - من غير

ص: 19


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 198.
2- سورة الحجرات، الآية: 4-5.
3- سورة الحجرات، الآية: 7.

أظهرها: أنّه من جهة مفهوم الشّرط، وأنّ تعليق الحكم - بإيجاب التبيّن عن النّبأ الّذي جيء به - على كون الجائي به الفاسق، يقتضي انتفاءه عند انتفائه.

___________________________________________

جهة مفهوم الشّرط - وهي: مفهوم الوصف، ودلالة الإيماء، وظهور التبيين في الرّجحان المطلق، فيدلّ على حجيّة كلّ خبر مفيد للظنّ الفعلي، وظهور تعليل عدم شيء في وجود الشّيء الأوّل بعدم الثّاني، وظهور الآية في الرّدع عن كلّ خبر غير حجّة، وحيث اقتصرت على خبر الفاسق دلّت على حجيّة خبرالعادل، والتفصيل توضيحاً وردّاً موكول إلى محلّه(1) {أظهرها أنّه من جهة مفهوم الشّرط}.

ثمّ إنّه من الممكن أن يجعل الموضوع في القضيّة الشّرطيّة المستفادة من الآية (مجيء الفاسق بالنبأ) حتّى تكون القضيّة هكذا (مجيء الفاسق بالنبأ موجب للتبيّن)، ويمكن أن يكون الموضوع (النّبأ) حتّى تكون القضيّة هكذا (النّبأ إن جاء به الفاسق يجب التبيّن عنه)، لكن إذا جعل المستفاد على الطّريقة الأُولى لا مفهوم للقضيّة، إذ عند انتفاء مجيء الفاسق لا موضوع، ويكون حال القضيّة حينئذٍ حال قولنا: (إن رُزِقتَ ولداً فاختنه) حيث لا موضوع للاختتان إن لم يُرزَق ولداً، ولذا جعل المصنّف المستفاد من الآية الطّريقة الثّانية.

{و} يستفاد حينئذٍ المفهوم ل- {أنّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النّبأ الّذي جيء به} أي: بذلك النّبأ {على كون الجائي به الفاسق} «على» متعلّق بقوله: «تعليق» {يقتضي} هذا التعليق {انتفاءه} أي: انتفاء إيجاب التبيّن {عند انتفائه} أي: انتفاء كون الجائي به الفاسق.

والحاصل: أنّ الآية تقول: (النّبأ إذا جاء به الفاسق يلزم التبيّن عنه) ومفهومه: أنّ النّبأ إذا لم يجئ به الفاسق لم يلزم التبيّن عنه، وهذا هو المطلوب، إذ يستفاد

ص: 20


1- راجع كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 281.

ولا يخفى: أنّه على هذا التقرير لا يرد: أنّ الشّرط في القضيّة لبيان تحقّق الموضوع، فلا مفهوم له، أو مفهومه السّالبة بانتفاء الموضوع، فافهم.

___________________________________________

منها حجيّة خبر الواحد إذا كان المخبر عادلاً، ويكون المفهوم في هذه الآية مثلالمفهوم في قولنا: (زيد إن جاءك فأكرمه) الّذي يستفاد منه عدم وجوب الإكرام عند عدم المجيء.

{ولا يخفى أنّه على هذا التقرير} الّذي ذكرنا من جعل الموضوع هو (النّبأ) المطلق لا (نبأ الفاسق) {لا يرد} ما ذكره الشّيخ من {أنّ الشّرط في القضيّة} وهو (إن جائكم فاسق) {لبيان تحقّق الموضوع} مثل قوله: (إن رزقت ولداً فاختنه) أو (إن تزوّجت أقم بحقوقها) {فلا مفهوم له} إن جعلنا الشّرط داخلاً في الموضوع حتّى يكون هكذا (مجيء الفاسق بالنبأ موجب للتبيّن) {أو مفهومه السّالبة بانتفاء الموضوع} إن جعلنا الشّرط خارجاً عن الموضوع حتّى يكون هكذا: (نبأ الفاسق إن جيء به يجب التبيّن عنه).

والفرق واضح، فإنّ الأوّل من قبيل (زيد قائم) الّذي لا مفهوم له، والثّاني من قبيل (إنّ الولد إن رزقته فاختنه) الّذي مفهومه إن لم ترزقه فلا تختنه، ولكن عدم الاختتان حينئذٍ لعدم الموضوع الّذي هو الولد {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّه لو أمكن تصوير الآية الكريمة على صورتين فلا معنى لما ذكره المصنّف من جعل الموضوع هو النّبأ حتّى يكون للآية مفهوم، ولذا قال السّيّد الحكيم: «لم يتقدّم منه إلّا تصوير التقرير بلا تعرّض لإثباته، وبيان ما يوجب كونه ظاهر الآية»(1)،

انتهى.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ قوله: «بنبأ» نكرة لا وجه لتخصيصها بنبأ الفاسق بعد ما كان الشّرط ظاهراً في أنّه شرط لشيء، ومجرّد وجود مثل: (إن رزقت ولداً) ممّا

ص: 21


1- حقائق الأصول 2: 116.

نعم، لو كان الشّرط هو نفس تحقّقالنّبأ ومجيء الفاسق به، كانت القضيّة الشّرطيّة مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.

مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ القضيّة ولو كانت مسوقة لذلك، إلّا أنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النّبأ الّذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاءَ وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبّر.

___________________________________________

صيغ لتحقيق الموضوع لا يوجب الخروج عن ظاهر الشّرط في سائر الأماكن المحتمل للأمرين.

{نعم، لو كان الشّرط هو نفس تحقّق النّبأ ومجيء الفاسق به} حتّى يكون حاصل مفاد الشّرطيّة: إذا تحقّق نبأ الفاسق فتبيّنوا {كانت القضيّة الشّرطيّة} المذكورة في قوله - تعالى - : {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ} {مسوقة لبيان تحقّق الموضوع} ويكون حال الشّرط في الآية حاله في قولك: (إن رزقت ولداً) و(إن تزوّجت امرأة)، فلا مفهوم للمقام، ولا تكون الآية على هذا مفيدة لحجيّة خبر الواحد العادل.

{مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ القضيّة ولو كانت مسوقة لذلك} أي: لتحقّق الموضوع كما يقول الشّيخ {إلّا أنّها} مع ذلك تفيد حجيّة خبر العادل بالمفهوم، ببيان أنّ الموضوع لو كان منحصراً فيه أفاد سلب المحمول عن سائر المواضيع، فلو قلنا: (أولاد الصّدّيقة الطّاهرة^ هم المعصومون) أفاد العلّيّة المستفادة من الكلام سلب العصمة عن سائر أولاد النّاس، وهنا كذلك فإنّ القضيّة الشّرطيّة في قوله - تعالى - : {إِن جَآءَكُمۡ} {ظاهرة في انحصار موضوع وجوبالتبيّن في النّبأ الّذي جاء به الفاسق} ومعنى ذلك أنّه ليس مجال للتبيين إذا انتفى هذا الموضوع {فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر} الّذي هو نبأ العادل {فتدبّر} لعلّه إشارة إلى أنّه لا وجه لادّعاء الانحصار، فالآية ليست في هذا المقام وإنّما في مقام التبيّن لدى خبر الفاسق الّذي هو مورد نزول الآية، واستفادة

ص: 22

ولكنّه يشكل: بأنّه ليس له هاهنا مفهوم، ولو سلم أنّ أمثالها ظاهرة في المفهوم؛

___________________________________________

المفهوم منها على هذا التقريب تكون كاستفادة أنّه ليس في إبل المعلوفة زكاة من قوله: (في الغنم السّائمة زكاة).

هذا تمام الكلام في الإشكال الأوّل على دلالة الآية على المفهوم، وكان حاصله أنّ الشّرط لتحقّق الموضوع فلا مفهوم له {و} هنا إشكال ثانٍ ذكره شيخنا المرتضى(1)

تبعاً للعدّة(2)

والذريعة(3)

والغنية(4)

ومجمع البيان(5)

والمعارج(6)

وغيرها، وهو أنّه لو سلّمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل غير المفيد للعلم لكن نقول: إنّ مقتضى عموم التعليل - في قوله: {أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ}(7) -وجوب التبيّن في كلّ خبر لا يؤمن الوقوع في النّدم من العمل به إن كان المخبر عادلاً، فيقع التعارض بين عموم التعليل المفيد لوجوب التبيّن عند كلّ خبر لا يؤمن الوقوع في الخطأ، وبين المفهوم الّذي يفيد عدم لزوم التبيّن عند خبر العادل، لكن اللّازم تقديم العلّة؛ لأنّها حاكمة على المعلّل، ولذا لو قال المولى: (صلّ خلف العلماء؛ لأنّهم عدول) أفادت العلّة عدم جواز الصّلاة خلف الفاسق العالم وإن كان عموم العلماء يشمله.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {لكنّه يشكل} استفادة حجيّة خبر العادل من الآية {بأنّه ليس له هاهنا مفهوم، ولو سلم أنّ أمثالها ظاهرة في المفهوم} وذلك

ص: 23


1- فرائد الأصول 1: 258.
2- العدة في أصول الفقه 1: 113.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 56.
4- غنية النزوع: 475.
5- مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 199.
6- معارج الأصول: 208.
7- سورة الحجرات، الآية: 6.

لأنّ التعليل بإصابة القوم بالجهالة - المشترك بين المفهوم والمنطوق - يكون قرينة على أنّه ليس لها مفهوم.

ولا يخفى: أنّ الإشكال إنّما يبتنى على كون الجهالة بمعنى عدم العلم، مع أنّ دعوى أنّها بمعنى السّفاهة، وفعلِ ما لا ينبغي صدوره من العاقل غيرُ بعيدةٍ.

___________________________________________

{لأنّ التعليل} المذكور في الآية {بإصابة القوم بالجهالة} لدى عدم التبيّن {المشترك بين المفهوم والمنطوق} إذ خبر العادل أيضاً محتمل للخطأ، فإنّ العادل ولو لم يتعمّد الكذب إلّا أنّه محلّ السّهو والنّسيان {يكون} هذا التعليل {قرينة على أنّه ليس لها مفهوم} إذ بعد التعارض وتقديم التعليل لا يبقى للمفهوم مجال.

{ولا يخفى} أنّ الجهالة لها معنيان:الأوّل: عدم العلم، كما تقتضي ذلك مادّه اللفظ، مشتقّة من الجهل الّذي هو خلاف العلم.

الثّاني: السّفاهة الّتي هي فعل ما لا ينبغي من العقلاء، وهذا هو المنصرف من لفظة الجهالة، كقوله - تعالى - : {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ}(1).

إذا عرفت ذلك قلنا: {إنّ الإشكال} المذكور وهو كون العلّة في الآية - وهي {أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ}(2) - شاملة لخبر العادل كما تشمل خبر الفاسق {إنّما يبتنى على كون الجهالة بمعنى عدم العلم} إذ لا فرق بين خبر العادل وخبر الفاسق في أنّ المخبر به لا يعلم الواقع {مع أنّ} المحتمل أن لا تكون الجهالة بمعنى عدم العلم، بل تكون بمعنى السّفاهة، فتكون مفاد الآية: تفحّصوا عن خبر الفاسق لئلّا تعملوا عملاً سفاهيّاً، فإنّ {دعوى أنّها} أي: الجهالة {بمعنى السّفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة} وحينئذٍ لا يرد الإشكال على المفهوم،

ص: 24


1- سورة النحل، الآية: 119.
2- سورة الحجرات، الآية: 6.

ثمّ إنّه لو سلّم تماميّة دلالةِ الآية على حجيّة خبر العدل، ربّما أُشكل شمولُ مثلها

___________________________________________

إذ الإقدام على خبر الفاسق جهالة وسفاهة لا الإقدام على خبر العادل، فتكون الآية بمعنى: لا تتّبعوا خبر الفاسق لأنّ اتّباعه سفاهة، أمّا خبر العادل فلا بأس باتّباعه؛ لأنّه ليس سفاهة.

لكن ربّما يورد على هذا بأمرين:الأوّل: أنّ كون الجهالة بمعنى السّفاهة خلاف معناه اللغوي.

والجواب: أنّ هذا المعنى هو المنصرف من لفظ (الجهالة) ولو بمعونة الهيئة، ولا منافاة بين أن تكون للهيئة مفاداً وبين أن تكون للمادّة مفاداً، ويكون المنصرف من أحدهما غير المنصرف من الآخر.

الثّاني: أنّه لا يمكن أن يكون لفظ (الجهالة) في الآية بمعنى السّفاهة؛ لأنّ الآية وردت ردعاً للنبيّ(صلی الله علیه و آله) وأصحابه الّذين عزموا غزو أُولئك، ومن المعلوم أنّ النّبيّ وأصحابه لا يعزمون عملاً سفهائيّاً حتّى يردعهم اللّه - تعالى - فلا بدّ أن تكون الآية بمعنى عدم العلم.

والجواب: أنّ إقدامهم للغزو لم يكن سفاهيّاً؛ لأنّهم - حسب الظّاهر - لم يكونوا يعلمون فسق الوليد المخبر للخبر، فنبّههم اللّه - تعالى - بأنّه من موارد كون الإقدام على وجه السّفاهة، وذلك مثل أن تريد عملاً لما سمعت من صوت من وراء جدار، ثمّ قال لك شخص: (لا تعمل هذا العمل السّفهائي فإنّ النّاطق كان مسجّلة لا إنساناً).

{ثمّ إنّه لو سلّم تماميّة دلالة الآية على حجيّة خبر العدل} فإنّها إنّما تشمل الأخبار بلا واسطة، كما لو أخبر زرارة بأنّ الصّادق(علیه السلام) قال كذا، أمّا الأخبار المشتملة على واسطة - كما لو أخبر محمّد بن مسلم بأنّ زرارة روى عن الصّادق(علیه السلام) كذا - فلا تشملها الآية، فإنّه {ربّما أشكل شمول مثلها} أي: مثل آية

ص: 25

للروايات الحاكية لقول الإمام(علیه السلام) بواسطة أو وسائط؛

___________________________________________

النّبأ من كلّ ما دلّ على حجيّة خبر العادل {للروايات الحاكيةلقول الإمام(علیه السلام) بواسطة أو وسائط} كما لو روى زيد عن عمرو عن بكر عن خالد عن الإمام(علیه السلام).

وحاصل الإشكال: أنّه لو أخبر الصّدوق عن الصّفّار عن العسكري(علیه السلام) بوجوب نفقة الزوجة لم يكن قول الصّدوق مشمولاً لآية النّبأ؛ لأنّه خبر مع الواسطة، وذلك لأنّ (صدّق العادل) - المستفاد من الآية - لا يشمل الخبر مع الواسطة. بيانه: أنّ (صدّق العادل) يشمل خبر العادل الّذي يكون ذا أثر، فإنّ وجوب التصديق بملاحظة ترتيب الأثر، وإلّا فلو أخبر العادل بأنّ النّهر الفلاني عرضه خمسة أذرع لم يكن معنى لوجوب تصديقه فلا يشمل (صدّق العادل) خبر الصّدوق؛ لأنّه لا أثر لخبر الصّدوق.

إن قلت: أثره ثبوت خبر الصّفّار.

قلت: لا يمكن أن يكون ذلك أثره، إذ يشترط أن يكون الخبر ذا أثر قبل وجود (صدق العادل) حتّى يكون (صدق العادل) وارداً على الخبر ذي الأثر، وخبر الصّدوق لا أثر له قبل وجود (صدق العادل)، إذ أثر خبر الصّدوق أنّ الصّفّار أخبره بذلك، وهذا لا أثر له إلّا بعد أن يلحق به (صدّق العادل) حتّى يكون الصّفّار صادقاً في إخباره عن العسكري، ولا يمكن أن يكون (صدّق العادل) في مرتبة الحكم لخبر الصّدوق وفي مرتبة الموضوع له.

وهذا الإشكال بعينه يرد في ما لو أخبرنا رجل عادل بأنّ زيداً الرّاوي عادل، فإنّ (صدّق العادل) يقول: (صدّق الرّجل حتّى يثبت أنّ زيداً عادل) لكن كون زيد عادلاً لا أثر له إلّا لحوق (صدّق العادل) به ليثبت الخبر الّذي يرويه زيد، وحينئذٍ يكون (صدّق العادل) في مرتبة الحكم لإخبار الرّجل وفي مرتبة الموضوع له. ومن المستحيل أن يكون شيء واحد في مرتبة الحكم وفي مرتبة

ص: 26

فإنّه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق -الّذي ليس إلّا بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من الأثر الشّرعي - بلحاظ نفس هذا الوجوب، في ما كان المخبر به خبرَ العدل أو عدالة المخبر؟ لأنّه وإن كان أثراً شرعيّاً لهما، إلّا أنّه بنفس الحكم - في مثل الآية - بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض.

___________________________________________

الموضوع؛ لأنّه بما هو حكم متأخّر وبما هو موضوع متقدّم، ولا يمكن أن يكون شيء متأخّراً ومتقدّماً في زمان واحد.

إذا ظهر لديك الإشكال نقول: إنّ المصنّف أشار إلى هذا الإشكال بقوله: {فإنّه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق - الّذي ليس إلّا بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من الأثر الشّرعي - بلحاظ نفس هذا الوجوب} حتّى يكون الموضوع لوجوب التصديق هو نفس وجوب التصديق، فإنّ أثر إخبار الصّدوق بأنّ الصّفّار أخبره ليس إلّا وجوب تصديق الصّفّار، فوجوب التصديق مقدّم على إخبار الصّدوق - لأنّه أثر إخبار الصّدوق - ومؤخّر عن إخباره؛ لأنّه حكم لإخبار الصّدوق {في ما كان المخبر به} بصيغة المفعول {خبر العدل} بأن قال الصّدوق: (أخبرني الصّفّار) {أو عدالة المخبر} بأن قال الصّدوق: (الصّفّار عادل) {لأنّه} أي: وجوب التصديق {وإن كان أثراً شرعيّاً لهما} أي: لخبر العدل أو لعدالة المخبر {إلّا أنّه} أي: إنّ هذا الأثر- الّذي هو صدق العادل الملحق بخبر الصّفّار - بعد ثبوت عدالته بعد ثبوت إخباره {بنفس الحكم} بصدق العادل {في مثل الآية} الواردة في نبأ الوليد وغيرها من كلّ ما دلّ على حجيّة خبر العادل، فإنّ الحكم {بوجوب تصديق خبر العدل} لا يكون حكماً لخبر العدل متأخّراً عنهوموضوعاً متقدّماً {حسب الفرض} الّذي ذكرنا من أنّه لا أثر للمخبر إلّا وجوب تصديقه، فلو كان الصّدوق أخبر بوجوب النّفقة قلنا: (خبر الصّدوق الّذي أثره وجوب النّفقة صدقه) أمّا لو أخبر الصّدوق بأنّ الصّفّار أخبره بكذا صار الحاصل: خبر

ص: 27

نعم، لو أنشأ هذا الحكم ثانياً، فلا بأس في أن يكون بلحاظه أيضاً؛ حيث إنّه صار أثراً بجعل آخر، فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع، بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلّا جعل واحد، فتدبّر.

___________________________________________

الصّدوق الّذي أثره صدق الصّفّار صدقه، ف- (صدّق) صار في مرتبة الحكم وفي مرتبة الموضوع، وهذا مستحيل.

{نعم، لو أنشأ هذا الحكم} الّذي هو وجوب التصديق {ثانياً} كأن قال: (صدّق العادل) ثمّ قال: (وصدّق العادل مرّة ثانية) {فلا بأس في} أن يكون كلّ واحد من الحكم والأثر تصديق العادل؛ لأنّه أنشأ (صدّق) أوّلاً فجعله أثراً لخبر الصّدوق، ثمّ أنشأه ثانياً وجعله حكماً على خبر الصّدوق، فجاز {أن يكون} الأثر {بلحاظه} أي: بلحاظ وجوب التصديق {أيضاً} كما كان الحكم هو وجوب التصديق {حيث إنّه} أي: وجوب التصديق {صار} حكماً بجعل، وصار {أثراً بجعل آخر} إذ المفروض أنّه أنشأه مرّتين {فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع} الّذي هو بديهيّ الاستحالة {بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلّا جعل واحد} الّذي لا يمكن أن يكون في مرتبة الحكم والموضوع معاً {فتدبّر} جيّداً حتّى لا تتوهّم أنّه يحتاج كلّ واسطة إلى جعل، وذلك لأنّ جعلين كافٍ في الخبر مع الواسطة ولو كان هناك أكثر منواسطتين، إذ جميع تلك الوسائط تنحلّ إلى حكم وموضوع، فأحد الجعلين يقوم مقام الموضوع والجعل الثّاني يقوم مقام الحكم، فلا حاجة إلى أكثر من إنشائين.

وقد يقرّر الإشكال المذكور على وجه آخر، كما فصّل في الشّروح والحواشي، لكن حيث كان بيانه خارجاً عن شرح اللفظ، وكان سبباً لتشويش المبتدي، آثرنا تركه.

وقد تبيّن أنّ المتحصّل من الإشكال أنّ أدلّة حجيّة خبر الواحد إنّما تشمل ما

ص: 28

ويمكن الذبّ عن الإشكال: بأنّه إنّما يلزم إذا لم يكن القضيّة طبيعيّة، والحكمُ فيها بلحاظ طبيعة الأثر، بل بلحاظ أفراده، وإلّا

___________________________________________

إذا كان الخبر بدون واسطة، وكان المخبر به حكماً شرعيّاً، كما لو أخبرنا زرارة أنّ الإمام(علیه السلام) قال كذا، أمّا لو كان الخبر مع الواسطة، كما لو أخبرنا الصّدوق أنّ الصّفّار أخبره عن العسكري(علیه السلام) بكذا، أو كان المخبر به عدالة الرّاوي، كما لو أخبر الصّدوق أنّ الصّفّار عادل، فلا تشملهما أدلّة حجيّة خبر الواحد.

{ويمكن الذبّ عن الإشكال} بأن نقول: إنّ أدلّة حجيّة الخبر تشمل الخبر ذي الوسائط وتشمل الإخبار بالعدالة كما تشمل الخبر بدون الوسائط والخبر بالحكم، وذلك {ب-} أحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ القضيّة على قسمين:

الأوّل: القضيّة الخارجيّة نحو (زيد قائم)، ومن المعلوم أنّه لا يمكن أن يؤخذ ما في مرتبة (زيد) الموضوع في مرتبة (قائم) الحكم.

الثّاني: القضيّة الطّبيعيّة نحو (كلّ خبري صادق)، فإنّ الحكم بالصدق ليسعلى أثر الخبر الخارجي حتّى يلزم وجود تلك الأخبار مقدّمة على هذه الجملة - أي: (كلّ خبري صادق) - وإنّما يكون الحكم بالصدق على طبيعة الخبر الصّادر من المتكلّم، ومن المعلوم أنّ طبيعة الخبر تشمل جميع أخباره الّتي منها هذا الخبر الّذي هو (كلّ خبري صادق)، فهذا الخبر أيضاً من مصاديق (كلّ خبري) وما نحن فيه من هذا القبيل ف- {إنّه إنّما يلزم} الإشكال المتقدّم {إذا لم يكن القضيّة طبيعيّة} بأن كانت خارجيّة، فإنّه لا يمكن حينئذٍ أن يكون صدق العادل أثراً وأن يكون حكماً.

{و} إذا لم تكن القضيّة طبيعيّة بأن لم يكن {الحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر، بل} كان {بلحاظ أفراده} ورد الإشكال المتقدّم {وإلّا} يكن كذلك، بأن كانت

ص: 29

فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه، سراية حكم الطّبيعيّة إلى أفراده، بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع، هذا.

مضافاً إلى القطع بتحقّق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الأثر، - أي: وجوب التصديق -

___________________________________________

القضيّة طبيعيّة بأن كان مفاد (صدق العادل) تصديق كلّ خبر ذي أثر في الجملة ولو كان الأثر ناشئاً من نفس صدق العادل {فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية حكم الطّبيعيّة إلى أفراده بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع} والسّرّ أنّ الطّبيعي بهذا المعنى لا مرتبة له حتّى يكون التأخّر الرّتبي في بعض أفراده ينافي التقدّم الرّتبي في بعض أفراده الأُخر، فكأنّه خارج عن عالم الرّتب، كما أنّ الشّيء الّذي لا زمان له خارج عن محيط الزمان، فلا يصحّ أن يقال: إنّه مقدّم على الشّيء الفلاني ومؤخّر عن الشّيء الفلاني، إذالتقدّم والتأخّر إنّما يصحّان في الموضوع القابل.

وإن شئت قلت: إنّ الرّتبة أمر اعتباريّ له صقع خاصّ في الاعتبار ولم يعتبر لمثل (كلّ خبري صادق) و(صدق العادل) وأشباههما رتبة حتّى لا يشمل (كلّ خبري...) لنفسه وحتّى يستحيل أن يكون (صدق...) أثراً وحكماً في آن واحد.

{هذا} تمام الكلام في الجواب الأوّل عن الإشكال {مضافاً إلى} الجواب الثّاني، وهو أنّا نعلم أنّ صدق العادل لا يمكن أن يكون أثراً وحكماً في ظرف واحد للاستحالة المذكورة، لكن حصول {القطع بتحقّق ما هو المناط} كافٍ في شموله للإخبار بالواسطة، كما أنّ القطع بأنّه ليس خصوصيّة لسائر أخبار القائل: (كلّ خبري صادق) كافٍ في القول بأنّ خبر هذا أيضاً صادق، ففي ما نحن فيه نقطع بتحقّق ما هو المناط {في سائر الآثار} المترتّبة على الإخبار بلا واسطة {في هذا الأثر} الخاصّ {أي: وجوب التصديق} فكما أنّ كون الخبر ذا أثر عمليّ كافٍ

ص: 30

بعد تحقّقه بهذا الخطاب، وإن كان لا يمكن أن يكون ملحوظاً لأجل المحذور.

وإلى عدم القول بالفصل بينه وبين سائر الآثار، في وجوب الترتيب لدى الإخبار بموضوع صار أثرُه الشّرعي وجوب التصديق، وهو خبر العدل، ولو بنفس الحكم في الآية، فافهم.

ولا يخفى:

___________________________________________

في وجوب تصديقه - بسبب شمول صدق العادل له - كذلك كون أثر الخبر تصديق العادل كافٍ في وجوب تصديقه - بسب بشمول مناط صدق العادل له - {بعد تحقّقه} أي: تحقّق ذلك الأثر {بهذا الخطاب} أي: بخطاب (صدّق العادل) فإذا تحقّق أثر التصديق في خبر ذي الواسطة كان مناط(صدّق العادل) شاملاً له.

{وإن كان لا يمكن أن يكون} هذا الأثر النّاشئ من نفس (صدّق العادل) {ملحوظاً} عند التكلّم ب- (صدّق العادل) {لأجل المحذور} المذكور، وهو لزوم اتحاد مرتبة الحكم والموضوع.

{و} هذا تمام الكلام في الجواب الثّاني، مضافاً {إلى} الجواب الثّالث، وهو {عدم القول بالفصل} فلو سلّمنا أنّ (صدّق العادل) لا يشمل الأثر النّاشئ من نفسه، وسلّمنا أنّه لا قطع بالمناط نقول: لا قول بالفصل {بينه} أي: بين هذا الأثر النّاشئ من صدّق العادل {وبين سائر الآثار في وجوب الترتيب} أي: ترتيب هذا الأثر {لدى الإخبار بموضوع صار أثره الشّرعي وجوب التصديق، وهو} أي: ذلك الموضوع {خبر العدل} فيجب ترتيب الأثر على خبر الصّدوق إذا أخبر بموضوع هو خبر الصّفّار؛ لأنّه ذو أثر شرعيّ {ولو} كان ذلك الأثر الشّرعي {بنفس الحكم} بوجوب التصديق {في الآية} المباركة النّازلة بشأن الوليد {فافهم} فإنّ المقام دقيق {و} إن كان الخارج واضحاً، حتّى أنّ مثل هذه الشّبهة تعدّ في مقابل البديهة، كما {لا يخفى}.

ص: 31

أنّه لا مجال - بعد اندفاع الإشكال بذلك - للإشكال في خصوص الوسائط من الأخبار - كخبر الصّفّار المحكي بخبر المفيد مثلاً - بأنّه لا يكاد يكون خبراً تعبّداً إلّا بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشّامل للمفيد، فكيف يكون هذا الحكم - المُحَقِّق لخبر الصّفّار تعبّداً مثلاً - حكماً له أيضاً؟

___________________________________________

ثمّ {إنّه لا مجال بعد اندفاع الإشكال} المتقدّمالّذي كان يقول: يلزم أن يكون الخبر ذا أثر مع قطع النّظر عن (صدّق العادل) فكيف يمكن أن يكون صدق العادل أثراً وحكماً {بذلك} الجواب الّذي ذكرنا من أنّ قضيّة (صدّق العادل) طبيعيّة أو نقطع بالملاك أو لا قول بالفصل، فإنّه بعد هذه الأجوبة {للإشكال في خصوص الوسائط من الأخبار} وذلك {كخبر الصّفّار المحكّي بخبر المفيد مثلاً} في ما لو حكى لنا المفيد عن الصّفّار عن الإمام خبراً {بأنّه} كيف يمكن شمول (صدق العادل) للوسائط، إذ كون الصّفّار أخبر بهذا الخبر لم يثبت عندنا وجداناً، وإنّما (صدّق العادل) المنصب على كلام الصّدوق هو الّذي أثبت لنا أنّ الصّفّار قال كذا، فقول الصّفّار إنّما ثبت ب- (صدق العادل)، ولازمه تقدّم (صدق العادل) على قول الصّفّار؛ لأنّ (صدّق) علّة كونه تعبّديّاً، فكيف يمكن أن يكون (صدّق) حكماً لقول الصّفّار.

وإن شئت قلت: إنّ (صدّق) علّة قول الصّفّار فمقدّم عليه، فلا يمكن أن يكون (صدّق) حكماً له ومؤخّراً عنه، فلا يمكن أن يكون بإنشاء واحد إيجاد الموضوع تعبّداً والحكم عليه بوجوب التصديق، إذ {لا يكاد يكون} قول الصّفّار {خبراً تعبّداً إلّا بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشّامل للمفيد} فإنّ (صدّق العادل) المتوجّه إلى المفيد هو الّذي أثبت قول الصّفّار {فكيف يكون هذا الحكم المُحَقِّق} على صيغة الفاعل {لخبر الصّفّار تعبّداً مثلاً حكماً له أيضاً} أي: لخبر الصّفّار حتّى نثبت ب- (صدّق العادل) أنّ الصّفّار صادق في ما يرويه عن الإمام(علیه السلام)؟

ص: 32

وذلك لأنّه إذا كان خبر العادل ذا أثر شرعيّ حقيقة - بحكم الآية - وجب ترتيب أثره عليه، عند إخبار العدل به،كسائر ذوات الآثار من الموضوعات؛ لما عرفت من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر بنحو القضيّة الطّبيعيّة،

___________________________________________

ولا يخفى الفرق بين هذا الإشكال والإشكال السّابق، فإنّ الإشكال السّابق كان يقول: الخبر يلزم أن يكون ذا أثر حتّى يشمل (صدّق) ففي الأخبار ذات الوسائط لا يمكن أن يكون (صدّق) أثراً وحكماً، وهذا الإشكال يقول: إنّ الخبر يلزم أن يكون أوّلاً حتّى يحكم عليه ب- (صدّق)، فإذا كان (صدّق) موجداً للخبر تعبّداً، فلا يمكن أن يكون حكماً لهذا الخبر الّذي أوجده.

لكن من جواب الإشكال الأوّل يتبيّن جواب هذا الإشكال أيضاً {وذلك لأنّه إذا كان خبر العادل ذا أثر شرعيّ حقيقة بحكم الآية} الظّرف متعلّق بما بعده، أي: قوله: {وجب} الخ، يعني: أنّ خبر العادل إذا كان ذا أثر شرعيّ وجب بحكم الآية، أي: قوله - تعالى - : {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ} الآية(1) {ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به} فإذا ثبت خبر الصّفّار - بحكم (صدّق) المتوجّه إلى خبر المفيد - صار خبر الصّفّار من أفراد الخبر ذي الأثر، وحينئذٍ يتوجّه إليه (صدّق) لما عرفت من أنّ (صدّق العادل) على نحو القضيّة الطّبيعيّة، فحيثما ثبت هذه الطّبيعة ولو بواسطة نفس (صدّق) توجّه الحكم إليها {كسائر ذوات الآثار من الموضوعات} فكما يشمل (صدّق) خبر زرارة بوجوب النّفقة، وخبر ابن مسلم باستحباب غسل الجمعة، وخبر بريد بكراهة نوم بين الطّلوعين، كذلك يشمل خبر الصّفّار - الّذي صار بنفسه خبراً تعبّداً بحكم (صدق) - لأنّ خبر الصّفّار أيضاً من الأخبار ذوات الأثر {لما عرفت من شمول مثل الآية للخبرالحاكي للخبر} كخبر المفيد الحاكي لخبر الصّفّار {بنحو القضيّة الطّبيعيّة} متعلّق ب- «شمول».

ص: 33


1- سورة الحجرات، الآية: 6.

أو لشمول الحكم فيها له مناطاً، وإن لم يشمله لفظاً، أو لعدم القول بالفصل، فتأمّل جيّداً.

ومنها: آية النّفر، قال اللّه - تبارك وتعالى - : {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ} الآية(1).

___________________________________________

هذا تمام الكلام في الجواب الأوّل من الإشكال {أو} نجيب بالجواب الثّاني وهو أنّ المناط الّذي كان في الخبر بلا واسطة موجود في الخبر ذي الوسائط {لشمول الحكم فيها} أي: في الآية {له} أي: للخبر ذي الوسائط {مناطاً وإن لم يشمله لفظاً} لما تقدّم من أنّه لا يمكن أن يكون موجوداً للموضوع وحكماً له في حال واحد {أو} نجيب بالجواب الثّالث بأنّه لا فرق بين الخبر بدون الواسطة والخبر مع الواسطة {لعدم القول بالفصل} فمن قال بحجيّة أحدهما قال بحجيّة الآخر، فالتفكيك بينهما بأن يكون الخبر بدون الواسطة حجّة والخبر مع الواسطة ليس حجّة خرق للإجماع المركّب {فتأمل جيّداً}.

[الاستدلال بآية النفر]

{ومنها} أي: من الآيات الّتي استدلّ بها لحجيّة خبر الواحد {آية النّفر} سمّيت به لوجود كلمة (النّفر) فيها {قال اللّه - تبارك وتعالى -} في سورة البراءة: {وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡطَآئِفَةٞ} وتمام {الآية}: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}(2)، وقد فسّرت الآية الكريمة بثلاث تفاسير:

الأوّل: أنّ جماعة من كلّ قبيلة يخرجون إلى الغزو ويبقى الباقون عند النّبيّ(صلی الله علیه و آله) ليتعلّموا منه، فإذا رجع الغزاة علّمهم القاعدون ما نزل على النّبيّ(صلی الله علیه و آله)

ص: 34


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة التوبة، الآية:122.

وربّما يستدلّ بها من وجوه:

أحدُها: أنّ كلمة (لعلّ) وإن كانت مستعملة - على التحقيق - في معناه الحقيقي - وهو الترجّي الإيقاعي الإنشائي - ،

___________________________________________

إبّان غيابهم عن المدينة.

الثّاني: أنّ المراد تفقة النّافرين، وذلك بتبصّرهم آيات اللّه تعالى من الظّهور على المشركين ونصرة المؤمنين ثمّ يخبروا قومهم الكافرين، لعلّ القوم يؤمنون بالإسلام.

الثّالث: أن يأتي من البلاد إلى النّبيّ(صلی الله علیه و آله) جماعة من كلّ قبيلة ليتعلّموا العلم ثمّ يرجعون إلى بلادهم منذرين قومهم بما تعلّموا.

أقول: ولا يخفى أنّ الآية تحتمل أكثر من هذه الوجوه الّتي فسّرت بها.

{وربّما يستدلّ بها} لحجيّة الخبر الواحد {من وجوه} ثلاثة:

{أحدها: أنّ كلمة (لعلّ)} الواردة في آخر الآية في قوله: {لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} إنّما تكون لإنشاء الترجّي، وإنشاء الترجّي قد يكونبداعي الرّجاء الحقيقي، وقد يكون بداعي إفادة المطلوب، لما تقدّم في المجلّد الأوّل أنّ أمثال هذه الأُمور إنّما تنشأ بها مضامينها، والداعي إلى الإنشاء إمّا إفادة معانيها لقيام معانيها الحقيقيّة بالنفس، وإمّا إظهار بعض الأُمور الأُخر كصيغة الأمر الّتي تنشأ لإظهار الطّلب، فقد يكون الداعي إلى هذا الإظهار الطّلب الحقيقي وقد يكون الداعي السّخريّة والامتحان وهكذا.

وعلى هذا فاستعمال (لعلّ) في إنشاء الترجّي استعمال في الموضوع له ولو كان المراد بها إفادة المطلوبيّة، لا كما زعمه البعض بأنّها لو لم تُستعمل في الترجّي الحقيقي تكون مجازاً، فهذه الكلمة {وإن كانت مستعملة على التحقيق في معناه الحقيقي - وهو الترجّي الإيقاعي الإنشائي -} أي: إنشاء إيقاع الرّجاء

ص: 35

إلّا أنّ الداعي إليه - حيث يستحيل في حقّه تعالى أن يكون هو الترجّي الحقيقي - كان هو محبوبيّة التحذّر عند الإنذار، وإذا ثبت محبوبيّته ثبت وجوبه شرعاً؛ لعدم الفصل، وعقلاً؛ لوجوبه مع وجود ما يقتضيه، وعدم حسنه - بل عدم إمكانه - بدونه.

ثانيها:

___________________________________________

{إلّا أنّ الداعي إليه حيث يستحيل في حقّه تعالى أن يكون هو الترجّي الحقيقي} لاعتبار جهل المترجّي بوقوع المرجوّ، واللّه سبحانه عالم بالعواقب.

{كان هو} أي: الداعي {محبوبيّة التحذّر عند الإنذار} وبهذه المقدّمة ثبت أنّ التحذّر عقيب الإنذار محبوب، وبالمقدّمة الثّانية يثبت أنّ معنى المحبوبيّة وجوب الحذر، فهاتان المقدّمتان تفيدان وجوبقبول القوم خبر المنذرين، ولا يكون ذلك إلّا إذاكان خبر الواحد حجّة، إذ لولا الحجيّة لم يجب قبول خبر المنذرين.

{و} على كلّ {إذا ثبت محبوبيّته} أي: محبوبيّة التحذّر {ثبت وجوبه} أي: التحذّر {شرعاً، لعدم الفصل} بين المحبوبيّة والوجوب عند العلماء، فكلّ من قال بمحبوبيّة التحذّر أوجبه؛ لأنّه يرى حجيّة خبر الواحد، وكلّ من لا يقول بوجوب التحذّر لا يقول بمحبوبيّته؛ لأنّه لا يرى حجيّة خبر الواحد، لكن الآية تقول بمحبوبيّته، فاللّازم القول بوجوبه {وعقلاً} عطف على قوله: «شرعاً» {لوجوبه مع وجود ما يقتضيه} أي: إنّ المقتضي للحذر لو كان موجوداً - بأن كان هناك ما يكره - وجب التحذّر {وعدم حسنه} أي: التحذّر {بل عدم إمكانه بدونه} أي: بدون وجود المقتضي؛ لأنّه إذا كان المكروه مأموناً لا معنى للحذر فلا وجه لحسنه.

{ثانيها} أي: ثاني تلك الوجوه الّتي استدلّ بها لحجيّة خبر الواحد من الآية الكريمة: أنّ النّفر واجب؛ لأنّه وقع عقيب التّخصيص، والإنذار واجب؛ لأنّه غاية للنفر الواجب، والتحذّر واجب؛ لأنّه غاية للإنذار الواجب، ولا يكون التحذّر واجباً إلّا إذا كان خبر الواحد حجّة.

ص: 36

أنّه لمّا وجب الإنذار؛ - لكونه غايةً للنفر الواجب، كما هو قضيّة كلمة (لولا) التحضيضيّة - وجب التحذّر، وإلّا لغا وجوبه.

ثالثها: أنّه جعل غاية للإنذار الواجب، وغايةُ الواجب واجبة. ويشكل الوجه الأوّل:

___________________________________________

والحاصل: {أنّه لمّا وجب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب} واستدلّ لكون الإنذار واجباً بقوله: {كما هوقضيّة} أي: مقتضى {كلمة (لولا) التحضيضيّة} فإنّ (لولا) إذا دخلت على المضارع أفادت طلب الفعل والحثّ عليه وإذا دخلت على الماضي أفادت التوبيخ على ترك الفعل، كما ذكره النُّحاة واللغويّون {وجب التحذّر} مرتبط بقوله: «لمّا وجب الإنذار» {وإلّا} يجب التحذّر كان وجوب الإنذار عبثاً و{لغا وجوبه}.

إذ لا بدّ للإيجاب من غرض في نفسه أو في متعلّقه والإنذار لا غرض فى نفسه، كما هو واضح، فإذا لم يجب التحذّر عند الإنذار لم يكن غرض في متعلّقه أيضاً فيكون لغواً، ويكون مثل أن يقول المولى بعده: (آمُرُ فلاناً) فيسأل العبد: هل في نفس الأمر فائدة؟ فيقول: لا، ثمّ يسأل هل يجب أو يستحبّ على المأمور شيء؟ فيقول: لا، فإنّه حينئذٍ يكون قد أمر بشيء لغو وذلك لا يصدر من الحكيم.

{ثالثها} - أي: الثّالث من الوجوه الّتي استدلّ بها لدلالة آية النّفر على حجيّة خبر العادل - : {أنّه} أي: الحذر {جعل غاية للإنذار الواجب} فإنّه قال - سبحانه - : {وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}(1) {وغاية الواجب واجبة} إذ المغيّى لا يجب إلّا إذا كانت غايته واجبة فإنّه يترشّح الحكم من الغاية إلى المغيّى، فإنّه لا يعقل أن يقول المولى: (جئ بالماء لسقي البستان ثمّ إن شئت سقيته أو لم تسقه) ولا يخفى أنّ هذا الوجه قريب من الوجه الثّاني.

{و} لكن هذه الوجوه الثلاثة كلّها مخدوشة، إذ {يشكل الوجه الأوّل} الّذي

ص: 37


1- سورة التوبة، الآية: 122.

بأنّ التحذّر لرجاء إدراك الواقع، وعدمِ الوقوع في محذور مخالفته - من فوت المصلحة، أو الوقوع في المفسدة - ،حسن، وليس بواجب في ما لم يكن هناك حجّة على التكليف، ولم يثبت هاهنا عدم الفصل، غايته عدم القول بالفصل.

___________________________________________

كان يقول الحذر محبوب فهو واجب؛ لأنّه لا معنى لحسن الحذر {بأنّ التحذّر} يمكن أن يكون حسناً وليس بواجب، فإنّه {لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته} وقوله: {من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة} بيان لمحذور المخالفة، فإنّ الواقع إذا كان واجباً ثمّ لم يحذر المأمور فاتت منه تلك المصلحة الموجودة في المأمور به، وإذا كان الواقع حراماً ثمّ لم يحذر المنهيّ وقع في تلك المفسدة الموجودة في المنهيّ عنه.

ولا يخفى أنّ التحذّر واجب إذا كان هناك حجّة على التكليف و{حسن وليس بواجب في ما لم يكن هناك حجّة على التكليف} فإذا كانت الشّبهة مثلاً طرفاً للعلم الإجمالي وجب التحذّر لوجود الحجّة على التكليف الّذي هو العلم الإجمالي وأمّا إذا كانت الشّبهة بدويّة فإنّ التحذّر حسن وليس بواجب؛ لأنّه لم يقم حجّة على التكليف. إذن فمن الممكن حسن التحذّر وعدم وجوبه، فلا يستفاد من مادّة التحذّر الموجودة في الآية الكريمة أنّ الحذر واجب حتّى يستدلّ بذلك لحجيّة خبر الواحد؛ لأنّه إذا لم يكن الخبر حجّة لم يجب التحذّر.

{و} إن قلت: قد مرّ في الوجه الأوّل أنّه لا فصل شرعاً بين محبوبيّة التحذّر وبين وجوبه، وإذا ثبت بالآية محبوبيّته ثبت وجوبه للإجماع.

قلت: {لم يثبت هاهنا} في مقام التحذّر {عدم الفصل} ليكون إجماعاً فإنّ العلماء لم يجمعوا على أنّه لا فصل {غايته عدم القول بالفصل} أي: كلّ من قال بالحسن قال بالوجوب ومنلم يقل بالوجوب لم يقل بالحسن، وهذا لا يكفي في إثبات الإجماع، مضافاً إلى أنّ المحصّل من الإجماع غير حاصل والمنقول غير

ص: 38

والوجه الثّاني والثّالث: بعدم انحصار فائدة الإنذار بالتحذّر تعبّداً؛ لعدم إطلاقٍ يقتضي وجوبه على الإطلاق؛ ضرورة أنّ الآية مسوقة لبيان وجوب النّفر، لا لبيان غايتيّة التحذّر، ولعلّ وجوبه كان مشروطاً بما إذا أفاد العلم، لو لم نقل بكونه مشروطاً به؛ فإنّ النّفر إنّما يكون لأجل التفقّه وتعلّمِ معالم الدين، ومعرفةِ ما جاء به سيّد المرسلين، كي ينذروا بها المتخلّفين

___________________________________________

تامّ، وإلى أنّه محتمل الاستناد وليس بحجّة، ولا يخفى أنّ الإشكال الآتي في الوجهين الثّاني والثّالث يأتي في هذا الوجه أيضاً.

{و} يشكل {الوجه الثّاني والثّالث} القائلان بأنّ التحذّر واجب؛ لأنّه غاية للإنذار الواجب {بعدم انحصار فائدة الإنذار بالتحذّر تعبّداً} حتّى أنّه بمجرّد قيام خبر المنذر وجب التحذّر تعبّداً ولو لم يحصل للمنذَر - بالفتح - العلم {لعدم إطلاق} في الآية {يقتضي وجوبه} أي: وجوب التحذّر {على الإطلاق} سواء حصل العلم أم لم يحصل.

{ضرورة أنّ الآية مسوقة لبيان وجوب النّفر لا لبيان غايتيّة التحذّر} حتّى يكون لها إطلاق من جهة الغايتيّة، كي يستفاد منها أنّ التحذّر واجب مطلقاً إذا حصل الإنذار {ولعلّ وجوبه} أي: التحذّر {كان مشروطاً بما إذا أفاد العلم} فالحذر واجب عقيب الإنذار في الجملة {لولم نقل بكونه} أي: الحذر {مشروطاً به} أي: بالعلم مع انّ مقتضى ظاهر الآية الحذر عند العلم، إذ لا يصدق الحذر إلّا إذا علم الإنسان بالمنذر به.

ألا ترى أنه لو أخبرك طفل بأنّ الشّيء الفلاني مضرّ لم يكن تركك له حذراً عرفاً، بل سفهاً، وإنّما يصدق الحذر في ما كان العقلاء يحذرون فيه ولا يكون ذلك إلّا بحصول العلم أو ما أشبهه {فإنّ النّفر إنّما يكون لأجل التفقّه وتعلّم معالم الدين و} تحصيل {معرفة ما جاء به سيّد المرسلين كي ينذروا بها المتخلّفين} إذا كان

ص: 39

أو النّافرين - على الوجهين في تفسير الآية - ، لكي يحذروا إذا أُنذروا بها، وقضيّتهُ إنّما هو وجوب الحذر عند إحراز أنّ الإنذار بها، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه أشكل أيضاً: بأنّ الآية لو سلّم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً، فلا دلالة لها على حجيّة الخبر بما هو خبر؛

___________________________________________

المراد أنّ النّافر الّذي رأى آيات اللّه في الجهاد ينذر المتخلّف {أو} ينذروا بها {النّافرين} إذا كان المراد أنّ المتخلّف عند النّبيّ(صلی الله علیه و آله) الّذي تعلّم المسائل عند غياب النّافر ينذر النّافر حين رجوعه من الجهاد {على الوجهين في تفسير الآية} كما عرفت في أوّل الآية {لكي يحذروا إذا أُنذروا بها} أي: بمعالم الدين، وإنّما كان تعليم معالم الدين إنذاراً وقبولها حذراً؛ لأنّ من لم يعمل بها استحقّ العقاب {وقضيّته} أي: مقتضى كون الحذر عقيب الإنذار بالمعالم {إنّما هو وجوب الحذر عند إحراز أنّ الإنذار بها}أي: بمعالم الدين، إذ لولا الإحراز لم يعلم الشّخص أنّ الإنذار إنّما هو بالمعالم حتّى يجب الحذر، فيكون حاله حال ما إذا قال: (إذا جاء زيد فأكرمه) فإنّ مقتضى ذلك إحراز مجيء زيد في وجوب إكرامه، إذ لولا الإحراز لم تتحقّق الشّرطيّة الّتي هي مقدّمة للحكم، وهذا وجه ثان لاشتراط الإحراز في الموضوع {كما لا يخفى} وإن كان ربّما يخدش فيه أنّه لا يحتاج إلى الإحراز، بل يكفي صدق الإنذار الحاصل بما يعتني بمثله العقلاء وإن لم يحرز الشّخص إحرازاً وجدانيّاً.

{ثمّ إنّه أشكل أيضاً} في دلالة آية الإنذار على حجيّة خبر الواحد مطلقاً {بأنّ الآية لو سلّم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً} سواء حصل العلم أم لم يحصل من الإنذار {فلا دلالة لها على حجيّة الخبر بما هو خبر} خالٍ عن الإنذار والتخويف، إذ الآية تقول بحجيّة خبر المنذر وليس ذلك إلّا إذا قارن الخبر مع الإنذار، كأن يقول: (من لم يصلّ كان جزاؤه جهنّم)، ومن المعلوم أنّ كلّ خبر مرويّ عن

ص: 40

حيث إنّه ليس شأن الرّاوي إلّا الإخبار بما تحمّله، لا التخويف والإنذار، وإنّما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلّد.

قلت: لا يذهب عليك أنّه ليس حال الرّواة في الصّدر الأوّل - في نقل ما تحمّلوا من النّبيّ - صلّى اللّه عليه وعلى أهل بيته الكرام أو الإمام(علیه السلام) من الأحكام إلى الأنام - إلّا كحال نقلة الفتاوى إلى العوامّ، ولا شبهة في أنّه يصحّ منهم التخويفُ في مقام الإبلاغ والإنذار، والتحذير بالبلاغ، فكذا من الرّواة،

___________________________________________

الرّسول والأئمّة^ ليس كذلك {حيث إنّه ليس شأن الرّاوي إلّا الإخبار بما تحمّله} من النّبيّ(صلی

الله علیه و آله) أو الإمام(علیه السلام) {لا التخويف والإنذار} والآية تضمّنت حجيّة الخبر المشتمل عليهما ولا يكونان في كلّ خبر {وإنّما هو شأن المرشد} الواعظ {أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلّد} بل ليس شأن كلّ مجتهد، كما لا يخفى.

{قلت}: من المسلّم أنّ الآية إنّما تدلّ على وجوب قبول الخبر المقترن بالتحذير والتخويف، لكن لا نسلّم أنّ الإخبار لم تكن مقرونة بذلك، بل بالعكس، إذ {لا يذهب عليك أنّه ليس حال الرّواة في الصّدر الأوّل في نقل ما تحمّلوا من النّبيّ - صلّى اللّه عليه وعلى أهل بيته الكرام - أو} ما تحمّلوا من {الإمام(علیه السلام) من الأحكام} بيان «ما تحمّلوا» {إلى الأنام} متعلّق بقوله: «نقل» {إلّا كحال نقلة الفتاوى إلى العوام} في الحال الحاضر.

وقد كان لحن الرّوايات في زمن الرّسول(صلی الله علیه و آله) كلحن الآيات الّتي لا تخلو من التحذير والإنذار غالباً، وإذا جعل الإنذار في الآية الكريمة عقيب التفقّه فقال: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ} ممّا دلّ على أنّ الإنذار إنّما هو بما تفقّه.

{ولا شبهة في أنّه يصحّ منهم} أي: من نقلة الفتاوى {التخويف في مقام الإبلاغ والإنذار، و} في مقام {التحذير بالبلاغ} وإذا ثبت ذلك بالنسبة إلى النّقلة {فكذا} يصحّ {من الرّواة} لما عرفت من استوائهما في الجملة، منتهى الأمر أنّالرّواة ينقلون

ص: 41

فالآية لو فُرض دلالتها على حجيّة نقل الرّاوي إذا كان مع التخويف، كان نقله حجّة بدونه أيضاً؛ لعدم الفصل بينهما جزماً، فافهم.

ومنها: آية الكتمان

___________________________________________

عن النّبيّ والإمام والنّقلة ينقلون عن المجتهدين، وعلى هذا تفيد آية الإنذار وجوب الحذر عند التحذير بنقل الخبر المشتمل على الوعظ والتخويف {فالآية لو فرض دلالتها على حجيّة نقل الرّاوي إذا كان مع التخويف كان نقله حجّة بدونه أيضاً} وذلك {لعدم الفصل بينهما} أي: بين الخبر مع التخويف وبين الخبر بدونه {جزماً}.

لكن ذكر الشّيخ ما حاصله: أنّ الآية تدلّ على وجوب الحذر عقيب الإنذار، والإنذار هو الإبلاغ بقصد التخويف، والتخويف إنّما يكون بإعمال النّظر الّذي هو من وظيفة المجتهد، فمفاد الآية حجيّة فتوى المفتي بالنسبة إلى مقلّديه.

ولعلّ قول المصنّف {فافهم} إشارة إلى ذلك، لكن لا يخفى ما فيه، إذ التخويف ليس بإعمال النّظر وإن كان من أحد أفراده، فالرواة الّذين رووا الأخبار المقترنة بالتحذير كانوا بذلك محذّرين وإن لم يكونوا مجتهدين، بالإضافة إلى أنّ وقت نزول الآية كان غالب الرّواة كالنقلة لا كالمجتهدين.

ثمّ إنّه يمكن أن يجاب عن أصل الإشكال بأنّ معنى إنذار القوم ليس نقل الأخبار المشتملة على التخويف، بل نقل الأحكام المشتمل على الإنذار، إذ الأحكام حدود للّه - تعالى - ومن يتعدّ حدوده فإنّ له نار جهنّم، ويقرب ذلك - بالإضافة إلى أنّ ذلك هو السّابق من الآية إلى الذهن عرفاً - تعقيب التفقّه بذلك ممّا يبيّن أنّ الإنذار إنّما هو بمطلق ما تفقّه، ومن المعلوم أنّ ما يتفقّه الإنسان فيه يكون علىقسمين: قسم مقترن بالإنذار، وقسم خالٍ عنه.

[الاستدلال بآية الكتمان]

{ومنها} أي: من الآيات الّتي استدلّ بها لحجيّة خبر العادل {آية الكتمان}

ص: 42

{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا}(1) الآية.

وتقريب الاستدلال بها: أنّ حرمة الكتمان تستلزم القبول عقلاً؛ للزوم لغويّته بدونه.

ولا يخفى: أنّه لو سلّمت هذه الملازمة

___________________________________________

وسمّيت به لاشتمالها على مادّته، وهي قوله - تعالى - : {{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا} مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ}(2)، فإنّ {الآية} دلّت على حرمة كتمان ما يعلم من أُمور الدين.

{وتقريب الاستدلال بها} لحجيّة خبر الواحد {أنّ حرمة الكتمان} المستفادة من الآية بمعونة لعنة اللّه ولعنة اللّاعنين {تستلزم القبول} من السّامع {عقلاً} بدلالة الاقتضاء، وذلك {للزوم لغويّته} أي: لغويّة وجوب الإظهار المستفاد من حرمة الكتمان {بدونه} أي: بدون قبول السّامع، فإنّه إنّما أمر بالإظهار ليقبل السّامع وإلّا فما فائدة الإظهار المأمور به؟!

{و} الشّيخ أورد على هذه الآية بما لفظه: «ويرد عليها ما ذكرنا عليها من الإيرادين الأوّلين في آية النّفر، من سكوتها وعدم التعرّض فيها لوجوب القبولوإن لم يحصل العلم عقيب الإظهار، أو اختصاص وجوب القبول المستفاد منها بالأمر الّذي يحرم كتمانه ويجب إظهاره، فإنّ من أمر غيره بإظهار الحقّ للناس ليس مقصوده إلّا عمل النّاس بالحقّ، ولا يريد بمثل هذا الخطاب تأسيس حجيّة قول المظهر تعبّداً»(3).

لكن {لا يخفى أنّه لو سلّمت هذه الملازمة} العقليّة بين حرمة الكتمان ولزوم

ص: 43


1- سورة البقرة، الآية: 159.
2- سورة البقرة، الآية: 159.
3- فرائد الأصول 1: 287.

لا مجالَ للإيراد على هذه الآية بما أُورد على آية النّفر من دعوى الإهمال، أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم؛ فإنّها تنافيهما، كما لا يخفى.

لكنّها ممنوعة؛ فإنّ اللغويّة غير لازمة؛ لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبّداً، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحقّ بسبب كثرةَ من أنشأه وبيّنه، لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة، بل كان له عليهم الحجّة البالغة.

___________________________________________

القبول {لا مجال للإيراد على هذه الآية بما أورد} هُ الشيخ(رحمة الله) {على آية النّفر من دعوى الإهمال} وأنّ الآية ليست في صدد القبول وإنّما في صدد حرمة الكتمان في الجملة {أو} دعوى {استظهار الاختصاص} لوجوب القبول {بما إذا أفاد} الإظهار {العلم}.

فالآية ظاهرة في وجوب قبول قول من أظهر الحقّ إذا علمنا بأنّه الحقّ ولم يكن الحقّ مشكوكاً فيه بعد إظهاره {فإنّها} أي: الملازمة الّتي ذكرناها بين الإظهار وبين وجوب القبول {تنافيهما} أي: تنافي هذين الإشكالين{كما لا يخفى} على من تأمّل.

{لكنّها} أي: الملازمة الّتي هي قوام دلالة الآية {ممنوعة} إذ ما ذكر من تقريب الدلالة - من أنّه لولا لزوم القبول كان وجوب الإظهار لغواً - غير تامّ {فإنّ اللغويّة غير لازمة} وإن لم يجب القبول {لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبّداً} بمجرّد الإظهار {وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحقّ بسبب كثرة من أنشأه وبيّنه} إذ الحقّ يعرفه عدد كثير من النّاس، فإذا بيّنه الكلّ وضح الحقّ وعلم به السّامع.

والحاصل: أنّه يجب الإظهار حتّى يوضح الحقّ ويعرفه النّاس {لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة، بل كان له عليهم الحجّة البالغة} وهذا غير قبول خبر الواحد، كما لا يخفى.

ص: 44

ومنها: آية السّؤال عن أهل الذكر: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(1).

___________________________________________

[الاستدلال بآية السؤال]

{ومنها} أي: من الآيات الّتي استدلّ بها لحجيّة خبر الواحد {آية السّؤال عن أهل الذكر} وهي قوله - تعالى - : {{فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}} وتقريب الاستدلال بها: أنّ أهل الذكر عامّ يشمل كلّ عالم والرّاوي من أهل العلم، ووجوب السّؤال يستلزم وجوب قبول الجواب وإلّا لغا وجوب السّؤال، وإذا وجب قبول الجواب وجبقبول كلّ ما يصحّ أن يسأل عنه وإن قاله بدون السّؤال، لوضوح عدم دخل السّؤال في وجوب القبول، فإذا روى الرّاوي روايات عن الإمام وجب قبولها بمقتضى الآية.

وبهذا تبيّن أنّ الإشكال في دلالة الآية - بأنّ تفسيرها في أهل الكتاب؛ لأنّها كما في سورة النّحل {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ * بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ}(2) وفي سورة الأنبياء {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(3) بمعنى السّؤال عن أهل الكتاب عن صدق هذه المقالة، وتأويلها في الأئمّة الطّاهرين^ فهم المراد من أهل الذكر كما في عدّة أحاديث، فلا ربط للآية بمطلق أهل الذكر حتّى تشمل الرّواة - ليس في محلّه، إذ المورد غير مخصّص بعد فهم عدم الخصوصيّة وإنّما هو شيء ارتكازيّ أُحيل عليه، ولذا لا تنافي بين التأويل والتفسير وإن كان الأئمّة^ من أظهر المصاديق.

وقد حقّق في محلّه أنّ تفسير الآيات بما هو خارج عن ظواهرها لدى الدقّة

ص: 45


1- سورة النحل، الآية: 43.
2- سورة النحل، الآية: 43-44.
3- سورة الأنبياء، الآية: 7.

وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان.

وفيه: أنّ الظّاهر منها إيجاب السّؤال لتحصيل العلم، لا للتعبّد بالجواب.

___________________________________________

ليس إلّا بيان بعض المصاديق أو المصاديق البارزة أو ذكر الأشباه، كتأويل فرعونوهامان بالأوّل والثّاني(1).

{و} كيف كان، فقد عرفت {تقريب الاستدلال بها} وأنّها مثل {ما في آية الكتمان} المتقدّمة وإن كانت بحاجة إلى مقدّمات أكثر.

{و} مع ذلك {فيه أنّ الظّاهر منها إيجاب السّؤال لتحصيل العلم لا للتعبّد بالجواب} سواء حصل العلم أم لا، فإنّه - تعالى - قال: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(2)، فتعليق السّؤال على عدم العلم يدلّ بالدلالة العرفيّة على كونه لأجل حصول العلم، ولا شكّ في أنّه إذا حصل العلم من السّؤال أو من الرّواية المجرّدة كان حجّة وليس ذلك ممّا نحن فيه الّذي هو حجيّة خبر العادل مطلقاً.

أقول: لكن فيه أنّ الظّاهر من هذه العبارة كون الجواب من أهل الذكر كافٍ في إعطاء الواقع للسير على وفقه، حتّى أنّه لو لم يسر معتذراً - بأنّه لم يحصل له العلم - عُدّ مخالفاً.

ألا ترى أنّ المولى لو قال لعبده: (سر إلى النّجف وإن لم تعلم طريقه فاسأل عن السّائقين) ثمّ لم يذهب العبد معتذراً بأنّه لم يحصل له العلم من قولهم كان مخالفاً وحسن عقابه، ولو كان المعيار حصول العلم القطعي لم يكن وجه لتخصيص أهل الذكر بالسؤال إلّا غلبة كونهم علماء بالجواب، وهو خلاف الظّاهر.

ص: 46


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 254.
2- سورة النحل، الآية: 43.

وقد أُورد عليها(1):

بأنّه لو سلّم دلالتها على التعبّد بما أجاب أهل الذكر، فلا دلالة لها على التعبّد بما يروي الرّاوي؛ فإنّه بما هو راوٍ لا يكون من أهل الذكر والعلم، فالمناسب إنّما هو الاستدلال بها على حجيّة الفتوى، لا الرّواية.

وفيه: أنّ كثيراً من الرّواة يصدق عليهم أنّهم أهل الذكر والاطّلاع على رأي الإمام(علیه السلام)، كزرارة ومحمّد بن مسلم ومثلهما، ويصدق على السّؤال عنهم، أنّه السّؤال عن أهل الذكر والعلم، و

___________________________________________

{وقد أُورد عليها ب-} ما ذكره الشّيخ في الرّسائل من {أنّه لو سلّم دلالتها على التعبّد بما أجاب أهل الذكر فلا دلالة لها على التعبّد بما يروي الرّاوي، فإنّه بما هو راوٍ لا يكون من أهل الذكر والعلم} فإنّه يصحّ سلب هذا العنوان عن مطلق من أحسّ شيئاً بسمعه وبصره، إذ ليس كلّ من يرى موضوعاً أو يسمع كلاماً يقال له أهل الذكر حتّى تشمل الآية كلّ راو وإن روى حديثاً واحداً {فالمناسب إنّما هو الاستدلال بها على حجيّة الفتوى} ولذا تمسّك بها جماعة على وجوب التقليد على العامي {لا} الاستدلال بها على حجيّة {الرّواية} الّتي جاء بها العدل.

{وفيه}: مضافاً إلى عدم الخصوصيّة فإنّ المفهوم من الآية حجيّة قول من يعلم شيئاً بالنسبة إلى من لا يعلم ولو كان معلومه شيئاً واحداً، ولو كان هناك انصراف فهو بدويّ يزول بأدنى تأمّل {إنّ كثيراً من الرّواةيصدق عليهم أنّهم أهل الذكر والاطّلاع على رأي الإمام(علیه السلام) كزرارة ومحمّد بن مسلم ومثلهما، و} على هذا {يصدق على السّؤال عنهم أنّه السّؤال عن أهل الذكر والعلم}.

{و} إن قلت: هب أنّ سؤال الجهال عن مثل زرارة يعدّ سؤالاً عن أهل الذكر، أمّا سؤال مثل محمّد بن مسلم عن زرارة أو العكس ممّا يكون السّائل هو من العلماء لا يكون مشمولاً للآية لظهورها في سؤال الجهّال عن أهل الذكر لا سؤال

ص: 47


1- فرائد الأصول 1: 290.

لو كان السّائل من أضرابهم.

فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب - بمقتضى هذه الآية - ، وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقاً؛ لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين المبتدئ والمسبوق بالسؤال، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم، ممّن لا يكون من أهل الذكر، وإنّما يروي ما سمعه أو رآه، فافهم.

___________________________________________

العلماء منهم وبذلك تسقط جملة كبيرة من الرّواة عن كونها مشمولة للآية، إذ الرّواة كثير منهم علماء يسأل بعضهم من بعض ويروي بعضهم عن بعض.

قلت: لا خصوصيّة في سؤال الجهّال، فإنّ المعيار كون المسؤول عنه أهل الذكر فقوله حجّة {لو كان السّائل من أضرابهم} ولو ادّعى الانصراف فهو بدويّ، كما لا يخفى.

وعلى هذا {فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية} المباركة {وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول} وإنّما قيّدناه بالعدول لما يستفاد من آية النّبأ {مطلقاً} سواء كان الرّاوي من يعدّ من أهلالعلم كزرارة أم غيره {لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين المبتدئ} بالرواية، كما هو الغالب {والمسبوق بالسؤال ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممّن لا يكون من أهل الذكر وإنّما يروي ما سمعه أو رآه} ولو كان خبراً واحداً، ولا بين كون مدركه الحواسّ الظّاهرة أو الحواسّ الباطنة. ولا ينافي شمول الآية للرواية شمولها للفتوى أيضاً فإنّ ذلك أيضاً، من السّؤال عن أهل الذكر.

والحاصل: أنّ الآية عامّة تشمل جميع أنواع أخبار المطّلع، سواء كان أهل كتاب أم نبيّ أم إمام، وسواء كان راوياً أو مفتياً، وسواء كان في الأصول أو الفروع، - وإنّما نقول بوجوب العلم في الأصول لدليل آخر - وسواء كان علمه حاصلاً من الحواسّ الظّاهرة أو الباطنة وكلّ تقييد في الآية يحتاج إلى دليل {فافهم} لعلّه إشارة

ص: 48

ومنها: آية الأُذُن {وَمِنۡهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٞۚ قُلۡ أُذُنُ خَيۡرٖ لَّكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ}(1). فانّه - تبارك وتعالى - مدح نبيَّه بأنّه يصدّق المؤمنين، وقرنه بتصديقه - تعالى - .

وفيه: أوّلاً: أنّه إنّما مدحه بأنّه أُذُن، وهو سريع القطع، لا الآخذ بقول الغير تعبّداً.

___________________________________________

إلى أنّ الآية ليست في صدد القبول إطلاقاً، وإنّما هي إرشاد إلى طريقة عقلائيّة في السّؤال عن أهل العلم، فلا تعبّد شرعيّ في المقام لقبول قول الرّاوي مطلقاً.

[الاستدلال بآية الاُذُن]

{ومنها} أي: من الآيات الّتي استدلّ بها لحجيّة خبر العادل {آية الأُذُن} بضمّتين على وزن (عنق)، وهو قوله - تعالى - : {{وَمِنۡهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٞۚ قُلۡ أُذُنُ خَيۡرٖ لَّكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ}} وجه النّزول - كما عن القمّي في تفسيره - أنّه نمّ منافق على النّبيّ(صلی الله علیه و آله) فأخبره اللّه ذلك، فأحضره النّبيّ(صلی الله علیه و آله) وسأله، فحلف أنّه لم يكن شيء ممّا ينمّ عليه، فقبل منه النّبي، فأخذ هذا الرّجل بعد ذلك يطعن على النّبيّ(صلی الله علیه و آله) ويقول: إنّه يقبل كلّ ما يسمع، أخبره اللّه أنّي أنمّ عليه وأنقل أخباره فقبل، فأخبرته أنّي لم أفعل فقبل، فردّه اللّه - تعالى - بقوله لنبيّه(صلی الله علیه و آله): «قل أُذن خير لكم»(2)، {فإنّه - تبارك وتعالى - مدح نبيّه بأنّه يصدّق المؤمنين وقرنه بتصديقه تعالى} فيكون تصديق الإنسان للمؤمنين قريناً لتصديقه للّه - تعالى - حسناً وإذا كان حسناً كان واجباً، كما أنّ تصديق اللّه واجب، وهذا يدلّ على وجوب قبول خبره فتدلّ على حجيّة خبر العادل.

{وفيه: أوّلاً: أنّه} سبحانه {إنّما مدحه بأنّه أُذن} بالضمّتين {وهو سريع القطع، لا الآخذ بقول الغير تعبّداً}.

ص: 49


1- سورة التوبة، الآية: 61.
2- تفسير القمي 1: 300.

وثانياً: أنّه إنّما المراد بتصديقه للمؤمنين هو ترتيب خصوص الآثار الّتي تنفعهم ولا تضرّ غيرَهم، لا التصديق بترتيب جميع الآثار، كما هو المطلوب في باب حجيّة الخبر.

ويظهر ذلك

___________________________________________

ولا يخفى أنّ هذا الجواب في غير محلّه، فإنّ النّبيّ(صلی الله علیه و آله) لم يكن سريع القطع من الأشياء الموهومة، بل بالعكس، إنّه(صلی الله علیه و آله) كان فطناً كيساً ملتفتاً ممّا ينافي سرعة القطع وخصوصاً في مورد الآية لم يكن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) قاطعاً بقول النّمّام، كيف وقد أخبره - سبحانه - بأنّه ينمّ عليه. ومن المحتمل أن يكون مراد المصنّف ما ذكره المشكيني(رحمة الله) من أنّ المدح له(صلی الله علیه و آله) إنّما كان على إبرازه نفسه الشّريفة بمنزلة السّريع القطع(1).

{وثانياً: أنّه إنّما المراد بتصديقه للمؤمنين هو ترتيب خصوص الآثار الّتي تنفعهم ولا تضرّ غيرهم} فإنّ التصديق قد يراد به التصديق الوجداني المصاحب للقطع الحاصل للنفس.

وقد يراد به ترتيب جميع الآثار وإن لم يحصل قطع الوجدان.

وقد يراد به ترتيب الآثار النّافعة للمخبر فقط، فإذا شهد إنسان بأنّ زيداً نمّ عليك، فقد يحصل لك العلم بالنميمة، وقد ترتّب الآثار عليها بأن تجانب زيداً، وقد ترتّب بعض الآثار بالتصديق الصّوري لذلك الإنسان المخبر.

وليس المراد عن الآية القطع، لأنّه خلاف ظاهرها، كما ليس المراد منها ترتيب جميع الآثار، كيف ويلزم من ذلك الذمّ؟! إذ تصديق الإنسان لكلّ مخبر يوجب الهرج والمرج، فلا بدّ وأن يراد بها من التصديق ترتيب الآثار الّتي تنفع المخبر ولا تضرّ غيره.

وعلى هذا، ف- {لا} يمكن أن يكون المراد {التصديق بترتيب جميع الآثار، كما هو المطلوب في بابحجيّة الخبر} الواحد {ويظهر ذلك} الّذي قلنا من أنّه ليس

ص: 50


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 323.

من تصديقه للنمّام بأنّه ما نمّه، وتصديقه للّه - تعالى - بأنّه نمّه، كما هو المراد من التصديق في قوله: «فصدّقه وكذّبهم» حيث قال - على ما في الخبر - : «يا أبا محمّد، كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولاً، وقال: لم أقله، فصدّقه وكذّبهم»(1)،

___________________________________________

المراد ترتيب جميع الآثار {من تصديقه} (صلی الله علیه و آله) {للنمّام بأنّه ما نمّه، وتصديقه للّه - تعالى - بأنّه نمّه} فالجمع بين التصديقين المتناقضين ليس إلّا بأن يكون المراد ترتيب الآثار النّافعة لكلّ من الخبرين، فقد صدّق الرّسول اللّه - سبحانه - كما صدّق النّمّام بمعنى أنّه لم يعاقبه على نميمته، وليس تصديقه للّه - سبحانه - كتصديقه للنمّام، كما لا يخفى، بل بينهما بون شاسع، إذ التصديق للنمّام كان في مجرّد عدم عقابه وترتيب آثار الصّدق النّافعة بالنسبة إلى النّمّام على إخباره.

{كما} أنّ هذا المعنى للتصديق - أعني: ترتيب خصوص الآثار الّتي تنفع المخبر ولا تضرّ غيره - {هو المراد من التصديق في قوله} أي: الصّادق(علیه السلام) {«فصدّقه وكذّبهم»، حيث قال} الإمام {على ما في الخبر} المروي {«يا أبا محمّد، كذّب سمعك وبصرك عن أخيك} يعني إذا رأيت منه شيئاً أو سمعت منه كلاماً وكان ترتيب الأثر على ذلك الشّيء ممّا يضرّ الأخ فكذّب السّمع والبصر، يعني لا ترتّب الأثر عليهما وعامله وكأنّك لم تسمع منهشيئاً ولم تشاهد منه قبيحاً {فإن شهد عندك خمسون قسامة} القسامة هم الجماعة الّذين يحلفون خمسين حلفاً على الدم في باب القتيل المجهول قاتله، وربّما كانوا خمسين شخصاً وربّما أقلّ من ذلك، فالمراد بخمسين قسامة إمّا على البدل - أي: إنّ القسامة بدل خمسين - فيكون المراد لو شهد عندك خمسون شخصاً، وأمّا على الإضافة فيكون المراد بخمسين قسامة ألفي وخمسمائة شخص، ولا يبعد ذلك لأجل المبالغة {أنّه قال قولاً وقال} هو: {لم أقله، فصدّقه وكذّبهم»} فإنّه ليس المراد تصديقه بترتيب

ص: 51


1- الكافي 8: 147، مع اختلاف يسير.

فيكون مراده تصديقه بما ينفعه ولا يضرّهم، وتكذيبَهم في ما يضرّه ولا ينفعهم، وإلّا فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين؟

وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصّة إسماعيل، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

جميع آثار الصّدق عليه {فيكون مراده تصديقه بما ينفعه} فإذا قال: لم أشتم، وقالوا: شتمك، صدّق بأن لم يرتّب الأثر على شتمه {ولا يضرّهم} إذ لو ضرّهم لم يكن ضررهم أولى من ضرره {وتكذيبهم في ما يضرّه ولا ينفعهم، وإلّا} يكن المراد من التصديق والتكذيب ما ذكرنا {فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين} نفراً أو خمسين قسامة؟

{وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصّة إسماعيل} ابن الإمام الصّادق(علیه السلام)، فإنّه روى الكليني في فروع الكافي في الصّحيح أنّه كان لإسماعيل ابن أبي عبداللّه دنانير، وأراد رجل من قريش أن يخرج بها إلى اليمن، فقال له أبو عبداللّه(علیه السلام): «يا بني، أمابلغك أنّه يشرب الخمر؟» ... قال: سمعت النّاس يقولون. فقال: «يا بني، إنّ اللّه - عزّ وجلّ - يقول: {يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ}(1) يقول يصدّق اللّه ويصدّق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم»(2).

فإنّه ليس المراد بتصديقهم في المقام ترتيب آثار شرب الخمر على الرّجل، بل المراد عدم ائتمانه، فليس المراد ترتيب الأثر الضّارّ، بل ترتيب أثر ينفعه ولا يضرّ غيره {فتأمّل جيّداً} حتّى لا تقول: إنّ الرّواية تؤيّد ظاهر الآية من ترتيب جميع الآثار على قول المؤمنين فتدلّ على حجيّة خبر الواحد.

لكن الإنصاف أنّ الآية لها دلالة على ذلك، والأخبار سواء دلّت أم لم تدلّ لا

ص: 52


1- سورة التوبة، الآية: 61.
2- الكافي 5: 299. ولا يخفى أنّ بين الجملتين «إنّه يشرب الخمر» و«قال: سمعت النّاس» حذف أكثر من خمسة أسطر.

فصل: في الأخبار الّتي دلّت على اعتبار أخبار الآحاد، وهي وإن كانت طوائف كثيرة - كما يظهر من مراجعة الوسائل وغيرها - إلّا أنّه يشكل الاستدلالُ بها على حجيّة الأخبار الآحاد: بأنّها أخبار آحاد؛ فإنّها غير متّفقة على لفظٍ ولا على معنىً،

___________________________________________

حاجة إليها، فإنّ التصديق للمؤمنين لا يكون إلّا بقبول أقوالهم. أمّا قصّة احتياج ترتيب الأثر في بعض المواضع إلى شرائط خاصّة - كالتعدّد ونحوه - فذلك بأمر خارج.

[فصل الأخبار التي يستدل على حجيّة خبر الواحد]

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة حجيّة خبر الواحد، الأخبار

{فصل في الأخبار الّتي دلّت على اعتبارأخبار الآحاد} وقد ذكر جملة منها الشّيخ في الرّسائل ممّا لا حاجة لنا إلى بيانها هنا {وهي وإن كانت طوائف كثيرة} ممّا دلّ على حجيّة خبر العادل، أو الثقة، أو الثقة العادل، أو الشّيعي، أو ما أشبه {كما يظهر من مراجعة الوسائل وغيرها إلّا أنّه يشكل الاستدلال بها على حجيّة الأخبار الآحاد ب-} سبب {أنّها} أي: الأخبار الدالّة على الحجيّة {أخبار آحاد} فيلزم من الاستدلال بها إثبات الشّيء بنفسه.

وإن شئت قلت: إنّ الكلام في حجيّة خبر الواحد، فكيف يمكن الاستناد في الحجيّة إلى الخبر الواحد؟

وإن قلت: إنّ الأخبار الدالّة على حجيّة خبر الواحد قطعيّة؛ لأنّها متواترة، وبالخبر القطعي يمكن إثبات الحجيّة لسائر الأخبار الّتي ليست مقطوعة لكونها خبر الواحد.

قلت: ليس الأمر كذلك {فإنّها} أي: الأخبار الدالّة على الحجيّة {غير متّفقة على لفظٍ} واحدٍ، كأن تتّفق الجميع على لفظة (خبر العادل حجّة) {ولا} متّفقة {على معنىً} واحدٍ، كأن تختلف الألفاظ لكن كلّها تدلّ على معنىً واحدٍ. وقد مثّلوا للمتواتر معنىً بشجاعة الإمام أميرالمؤمنين(علیه السلام)، حيث وردت روايات

ص: 53

فتكون متواترة لفظاً أو معنىً.

ولكنّه مندفع: بأنّها وإن كانت كذلك، إلّا أنّها متواترة إجمالاً؛ ضرورة أنّه يعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم^، وقضيّتهُ وإن كان حجيّة خبر دلّ على حجيّته أخصّها مضموناً، إلّا أنّه يتعدّى عنه

___________________________________________

متواترة دالّة على أنّه(علیه السلام) هزم الجيوش الكافرة في حروب متعدّدة، فتدلّالجميع على أنّه(علیه السلام) كان شجاعاً، وإن لم ترد أخبار متواترة على الشَّجَاعة بهذه اللفظة.

وعلى أيّ، فليست الأخبار الدالّة على الحجيّة متّفقة لفظاً أو معنى {فتكون متواترة لفظاً أو معنى} وعليه فلا يمكن إثبات حجيّة الخبر الواحد بها.

هذا ملخّص الإشكال الّذي أورده(رحمة الله) على الاستدلال لحجيّة الخبر الواحد بالأخبار {ولكنّه مندفع بأنّها} أي: الأخبار الدالّة على الحجيّة {وإن كانت كذلك} غير متواترة لفظاً أو معنىً {إلّا أنّها متواترة إجمالاً} والتواتر الإجمالي: عبارة عن ورود أخبار نعلم أنّ واحداً منها حجّة قطعاً، كما لو أخبر جماعة بأمرٍ وعلمنا بأنّ واحداً من المخبرين صادق، فإنّه يثبت ذلك الأمر وإن لم يكن المخبرون متّفقين على لفظٍ واحدٍ ولا على معنىً جامعٍ.

ولا يخفى أنّ تسمية مثل هذا النّوع بالتواتر الإجمالي إنّما هي بعلاقة التّشبيه وإلّا فليس تواتراً.

وعلى أيّ حال فالتواتر الإجمالي في باب الأخبار الدالّة على حجيّة خبر الواحد موجود، {ضرورة أنّه يعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم^} وكيف لا يعلم وهي كثيرة جدّاً حتّى أنّ من لا يحصل له العلم منها يجب عليه أن لا يحصل له العلم بأيّ شيء من التواريخ الماضية إطلاقاً؟ {وقضيّته} أي: مقتضى مثل هذا التواتر الإجمالي {وإن كان حجيّة خبر دلّ على حجيّته} أي حجيّة ذلك الخبر {أخصّها مضموناً} فاعل «دلّ» {إلّا أنّه يتعدّى عنه} إلى غيره.

ص: 54

في ما إذا كان بينها ما كان بهذهالخصوصيّة، وقد دلّ على حجيّة ما كان أعمّ، فافهم.

فصل: في الإجماع على حجيّة الخبر وتقريره من وجوه:

أحدها: دعوى الإجماع من تتبّع فتاوى الأصحاب على الحجيّة، من زماننا إلى زمان الشّيخ،

___________________________________________

وحاصل الإشكال والجواب: أنّه لو ثبت التواتر الإجمالي في الأخبار الدالّة على الحجيّة لم يكن ينفع حجيّة الخبر الواحد، فإنّه لو علمنا أنّ واحداً من هذه الأخبار حجّة لزم الأخذ بأخصّها؛ لأنّه المتيقّن، وأخصّ الأخبار الدالّة على الحجيّة هي خبر العدل الثقة الشّيعي، ومن المعلوم أنّ مثل هذا الخبر نادر جدّاً، فلا يثبت حجيّة كلّ خبر موثّق كما هو المطلوب.

والجواب: أوّلاً - أنّه لا قول بالفصل، فمن قال بحجيّة الخبر في الجملة قال بها مطلقاً، فإذا ثبتت الحجيّة في الجملة ثبت المطلوب.

وثانياً - أنّه حين ثبتت حجيّة الخبر العدل الثقة الشّيعي كان ذلك كافياً لحجيّة خبر كلّ ثقة، إذ ورد بعض الأخبار الجامع للشرائط دالّاً على حجيّة كلّ خبر ثقة، فيتعدّى عنه {في ما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصيّة} أي: الجامعيّة للشرائط {وقد دلّ} ما كان جامعاً للشرائط {على حجيّة ما كان أعمّ} فهو إثبات حجيّة الخبر الواحد بالأخبار، لكن لا ابتداءً بل بالواسطة {فافهم} لعلّه إشارة إلى عدم الحاجة لإثبات حجيّة خبر الثقة إلى هذا الدوران واللّف، فإنّ الأخبار الدالّة على حجيّة خبر الثقة متواترة معنىً لو لم تكن لفظاً، فإنّها كثيرة جدّاً.

[فصل الإجماع على حجيّة خبر الواحد]

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة حجيّة خبر الواحد، الإجماع

{فصل في الإجماع على حجيّة الخبر} الواحد{وتقريره من وجوه} ثلاثة:

{أحدها: دعوى الإجماع} المحصّل، الحاصل {من تتبّع فتاوى الأصحاب على الحجيّة من زماننا إلى زمان الشّيخ} فإنّ من تتبّع فتاوى الفقهاء رأى أنّهم أفتوا بحجيّة

ص: 55

فيكشف رضاه(علیه السلام) بذلك، ويُقطع به، أو من تتبّع الإجماعات المنقولة على الحجيّة(1).

ولا يخفى مجازفة هذه الدّعوى؛ لاختلاف الفتاوى في ما أخذ في اعتباره من الخصوصيّات، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضائه(علیه السلام) من تتبّعها؛ وهكذا حال تتبّع الإجماعات المنقولة.

___________________________________________

أخبار الآحاد {فيكشف} هذا التتبّع عن {رضاه(علیه السلام) بذلك} أي: بحجيّة الخبر الواحد {ويقطع به} من باب الحدس، لما عرفت من عدم حجيّة الإجماع من باب اللطف، وعدم وجود الإجماع الدّخولي. نعم، يحتمل الإجماع التشرّفي، فإنّ أمثال بحر العلوم+ إذا أفتوا بحجيّة أخبار الآحاد كشف ذلك عن رضاه(علیه السلام) وإلّا لزم الرّدع، فتأمّل {أو} يقرّر دعوى الإجماع التتبّعي بأنّا نكشف رضا الإمام(علیه السلام) {من تتبّع الإجماعات المنقولة على الحجيّة} فإنّ كثيراً من الفقهاء ادّعى الإجماع على حجيّة خبر الواحد، فإنّ من دعواهم الإجماع نكشف وجود الإجماع الكاشف عن رضاه(علیه السلام).{ولا يخفى مجازفة هذه الدعوى} أي: دعوى الحجيّة من باب التتبّع للفتاوى أو للإجماعات، وذلك {لاختلاف الفتاوى في ما أخذ في اعتباره} أي: اعتبار الخبر الواحد {من الخصوصيّات} فبعضهم اعتبر خبر الثقة وبعضهم اعتبر خبر العادل وهكذا {ومعه} أي: مع الاختلاف ليس هناك فتوى واحدة حتّى نستكشف منها رأي الإمام(علیه السلام)، إذ {لا مجال لتحصيل القطع برضائه(علیه السلام) من تتبّعها} إذ الإجماع كاشف، لا الفتاوى المختلفة {وهكذا حال تتبّع الإجماعات المنقولة} فإنّ مُدَّعِيَ الإجماع ادّعوه على أشياء مختلفة لا على شيء واحد حتّى يكشف ذلك عن رضا الإمام(علیه السلام).

ص: 56


1- فرائد الأصول 1: 311.

اللّهمّ إلّا أن يدّعى تواطؤها على الحجيّة في الجملة، وإنّما الاختلاف في الخصوصيّات المعتبرة فيها، ولكن دون إثباته خرط القتاد.

ثانيها: دعوى اتفاق العلماء عملاً - بل

___________________________________________

{اللّهمّ إلّا أن يدّعى تواطؤها} أي: تواطؤ الإجماعات والفتاوى {على الحجيّة في الجملة} فإنّ جميعها متّفقة على حجيّة خبر الواحد {وإنّما الاختلاف في الخصوصيّات المعتبرة فيها} ومثل هذا الاختلاف غير ضارّ بعد الاتفاق على أصل المطلب {ولكن دون إثباته خرط القتاد} إذ الاختلاف هنا لا يكشف عن وجود جامع واحد، فإنّ القائل بالأعمّ لم يعلم قوله بالأخصّ على تقدير بطلان الأعمّ، إذ لعلّه يقول بالنفي على تقدير بطلان الأعمّ. لكن الإنصاف أنّه لو قلنا بحجيّة الإجماع الحدسي كان ذلكمن أظهر مقامات الإجماعات.

نعم، يرد عليه ما في حجيّة الإجماع بقول مطلق بالإضافة إلى أنّ الإجماع هنا محتمل الاستناد لاحتمال كون المدرك هو الأدلّة الثلاثة الأُخر من الكتاب والسّنّة والعقل، وقد تقرّر في محلّه أنّ الإجماع المحتمل الاستناد غير حجّة.

ه--ذا وربّما يورد على تقرير الإجماع بالوجه الثّاني - وهو تتبّع الإجماعات المنقولة - : بأنّ الّذي ظفرنا عليه من الإجماعات المدّعاة ليس إلّا في كلام الشّيخ(1)

وابن طاووس(2)

والعلّامة(3)

والمجلسي(4)

قدس سرهم، ومن المعلوم أنّ هذا المقدار غير كاف بعد مخالفة مثل السّيّد المرتضى وغيره(5)،

فتأمّل.

{ثانيها} أي: الثّاني من وجوه تقرير الإجماع {دعوى اتفاق العلماء عملاً، بل}

ص: 57


1- العدة في أصول الفقه 1: 126.
2- فرج المهموم: 42.
3- نهاية الوصول 3: 403.
4- بحار الأنوار 2: 245.
5- راجع فرائد الأصول 1: 311-350.

كافّة المسلمين - على العمل بالخبر الواحد في أُمورهم الشّرعيّة، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من النّاقلين لها.

وفيه - مضافاً إلى ما عرفت ممّا يرد على الوجه الأوّل - أنّه لو سلّم اتفاقهم على ذلك، لم يُحرز أنّهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتديّون بهذا الدين، أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين،

___________________________________________

دعوى اتّفاق {كافّة المسلمين على العمل بالخبر الواحد في أُمورهم الشّرعيّة} أمّا اتّفاق العلماء فإنّا لانزال نراهم يأخذون بالخبر الواحد لاستنباط الحكم الشّرعي في دروسهم ورسائلهم وكتبهم العلميّة لا يستثنى عن ذلك أحد منهم، حتّى أنّ أحداً لو لم يرد ذلك يلزم عليه ترك الاستنباط أو دعوى بعيدة، وهي قطعيّة الأخبار الآحاد الواردة في الكتب الأربعة وأمّا اتّفاق كافّة المسلمين ف- {كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من النّاقلين لها} فإنّ جميع المسلمين يأخذون فتاوى مجتهديهم عن النّاقلين، ومن المعلوم أنّ النّاقل ليس إلّا واحداً، ومن لم يعتمد على النّاقل الموثّق يُعدّ وسواسيّاً.

{وفيه: مضافاً إلى ما عرفت ممّا يرد على الوجه الأوّل} من اختلاف وجه عمل الفقهاء بأخبار الآحاد، فبعضهم يعملون لوجود القرائن، وبعضهم يعملون؛ لأنّ أخبار الآحاد عندهم قطعيّة الصّدور، وبعضهم يعملون؛ لأنّهم يرون الحجّيّة، وبعضهم يعملون من باب الظّنّ الانسدادي، ومع مثل هذا الاختلاف في وجه العمل كيف يمكن أن يقال بأنّ إجماعهم على العمل كاشف عن رأي الإمام بالحجيّة كما هو المطلوب {أنّه لو سلم اتفاقهم على ذلك} العمل بما هو خبر واحد لم يفد أيضاً إجماعاً كاشفاً، إذ {لم يحرز أنّهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتديّنون بهذا الدين أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين} كما نشاهد من عمل غير المسلمين بأخبار الآحاد، فلا يكون ذلك إجماعاً عمليّاً حتّى يكشف عن

ص: 58

كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الأُمور الدينيّة من الأُمور العادية.

فيرجع إلى ثالث الوجوه.

وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرِهم على العمل بخبر الثقة، واستمرّت إلى زماننا، ولم يردع عنه نبيّولا وصيّ نبيّ؛ ضرورة أنّه لو كان لاشتهر وبان، ومن الواضح أنّه

___________________________________________

رضا الإمام بذلك.

وإن شئت قلت: إنّ الإجماع المحتمل الاستناد ليس بحجّة وهذا محتمل الاستناد إلى العقل فلا حجيّة له، والظّاهر أنّ عمل العلماء وسائر النّاس بخبر الواحد ليس بما هم متديّنون وإنّما بما هم عقلاء {كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الأُمور الدينيّة من الأُمور العادية ف-} هذا ليس من الإجماع الّذي هو اتّفاق الفقهاء الكاشف عن رضا الإمام، وإنّما {يرجع إلى ثالث الوجوه} الّتي ذكروها تقريراً للإجماع على حجيّة خبر الواحد {وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة} لوضوح أنّ مدار الدنيا كلّها على ذلك وشذّ من لا يعمل به، بل نرى العقلاء أنّهم يعتمدون في أعزّ أشيائهم وهي نفوسهم على الثقة، فيركبون الطّائرة الّتي يقودها ثقة عارف، مع أنّه لو قصر لسقطت وهلكوا، فإذا عملوا على طبق نظر الثقة في مثل نفوسهم فكيف لا يعملون بخبره في سائر شؤونهم؟!

ومن المعلوم أنّ الأمرين - أي: الاعتماد على الثقة في خبره والاعتماد عليه في سائر أعماله - من وادٍ واحدٍ {واستمرّت} هذه السّيرة {إلى زماننا} منذ بدء الإنسان {ولم يردع عنه نبيّ ولا وصيّ نبيّ} ممّن وصلت إلينا أخبارهم وآثارهم.

وإنّما نقول بعدم الرّدع ل- {ضرورة أنّه لو كان} ردع {لاشتهر وبان} خصوصاً في مثال هذا الأمر العظيم الّذي يتوقّف عليه مجرى الحياة {ومن الواضح أنّه} أي:

ص: 59

يكشف عن رضا الشّارع به في الشّرعيّات أيضاً.

إن قلت: يكفي في الرّدع: الآيات النّاهية والرّوايات المانعة عن اتّباع غير العلم، وناهيك قولُهُ تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1)، وقولُهُ تعالى: {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(2).

___________________________________________

مثل هذا الإجماع العقلائي {يكشف عن رضا الشّارع به في الشّرعيّات أيضاً} كما هو كاشف عن رضاه في غير الشّرعيّات.

وقد تبيّن أنّ هذا النّحو من تقرير الإجماع يتوقّف على مقدّمات أربعة:

الأُولى: عملهم بخبر الثقة.

الثّانية: عدم ردع الشّارع عنه.

الثّالثة: وجود المقتضي للردع على تقدير عدم الحجيّة.

الرّابعة: عدم المانع عن الرّدع.

ولا يخفى أنّ تسمية هذا الدليل إجماعاً إنّما هو بملاحظة بناء المسلمين عملاً كما أنّ تسميته سيرة بملاحظة كونه دأب العقلاء.

{إن قلت: يكفي في الرّدع الآيات النّاهية} عن اتّباع غير العلم، فإنّها كافية في الرّدع عن سيرة العقلاء ككفايتها في الرّدع عن العمل بمطلق الظّنّ أو القياس، وإن كانت سيرة العقلاء على العمل بهما في الجملة {و} كذلك يمكن أن يكون رادعاً {الرّوايات المانعة عن اتّباع غير العلم}ومن المعلوم أنّ خبر الواحد لا يفيد علماً {وناهيك} أي: يكفيك في الرّدع {قوله - تعالى - : {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}} فإنّه نهي صريح عن اتّباع ما ليس بعلم {وقوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}} ومن المعلوم أنّ الغالب إفادة الخبر للظنّ، ومن الرّوايات قوله:

ص: 60


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة يونس، الآية: 36.

قلت: لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك؛ فإنّه - مضافاً إلى أنّها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظّنّ في أُصول الدين، ولو سلّم فإنّما المتيقّن، لولا أنّه المنصرف إليه إطلاقُها، هو خصوص الظّنّ الّذي لم يقم على اعتباره حجّة -

___________________________________________

«ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم»(1).

{قلت}: يمكن الجواب عن هذا الإشكال بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّه {لا يكاد يكفي تلك الآيات} والرّوايات {في ذلك} الرّدع عن السّيرة {فإنّه مضافاً إلى أنّها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظّنّ في أُصول الدين} لأنّ موردها ردع المشركين واليهود والنّصارى عن العمل على تقليد آبائهم الّذي ليس مستنداً إلى العلم وإنّما كانت إرشاديّة؛ لأنّ العقل مستقلّ بعدم جواز العمل بالظنّ في أُصول الدين، إذ لمّا كانت الأديان والمذاهب كثيرة ومختلفة - ولو فرض عدم كثرتها كانت المحتملات العقليّة كثيرة مختلفة - فالعقل يلزم بالأخذ بالمتيقّن المعلوم دفعاً للعقاب المحتمل على تقدير غيره ودفع العقاب المحتمل لازم عقلاً، كما لا يخفى.

الثّاني: {ولو سلّم} أنّ الآيات الرّادعة والرّوايات النّاهية ليستمختصّة بأُصول الدين، بل عامّة تشمل فروع الدين حتّى تشمل ما نحن فيه أيضاً الّذي هو العمل بخبر الواحد في فروع الدين {ف-} نقول {إنّما المتيقّن لولا أنّه المنصرف إليه إطلاقها هو خصوص الظّنّ الّذي لم يقم على اعتباره حجّة} إذ لو قام على اعتباره حجّة كان خروجاً عن كونه ما ليس للإنسان به علم وقد تقرّر سابقاً أنّ خبر الثقة ممّا قام على اعتباره حجّة، وهي تلك الأدلّة الأربعة الّتي قامت على حجيّته، فإنّ مقتضى الجمع بين كلامي المولى (لا تتّبع غير العلم) و(اسمع كلام فلان) أنّه يريد بغير العلم كلّما لا يورث العلم باستثناء كلام فلان المأمور باستماعه.

ص: 61


1- الكافي 7: 407.

لا يكاد يكون الرّدع بها إلّا على وجه دائر؛ وذلك لأنّ الرّدع بها يتوقّف على عدم تخصيص عمومها، أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وهو يتوقّف على الرّدع عنها بها، وإلّا لكانت مخصّصة أو مقيّدة لها، كما لا يخفى.

___________________________________________

لا يقال: إنّ التعليل في قوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ} غير قابل للاستثناء.

لأنّا نقول: مقتضى الجمع بين الكلامين أنّ الظّنّ الّذي لا يستند إلى دليل لا يغني، أمّا المستند فلا بأس بإغنائه، كما أنّه كذلك في الخارج فإنّ العقلاء لا يرون للظنّ الاعتباطي أثراً مع أنّهم يعملون بخبر الثقة، فتأمّل.

الثّالث: أنّه {لا يكاد يكون الرّدع بها} أي: بالآيات عن السّيرة العقلائيّة {إلّا على وجه دائر} يعني لو كانت الآيات رادعة عن السّيرة لزم الدور {وذلك لأنّ الرّدع بها} أي: بالآيات {يتوقّف على عدم تخصيص عمومها أو تقييدإطلاقها بالسيرة} العقلائيّة {على اعتبار خبر الثقة} فإنّ الآيات لو كانت مخصّصة أو مقيَّدة - بالفتح - بالسيرة لم تكن مخصّصة، ولا مقيِّدة - بالكسر - لها، والحاصل لزوم بقاء عموم الآيات وإطلاقها حتّى تكون صالحة للردع عن السّيرة {وهو} أي: عدم تخصيص عمومها وتقييد إطلاقها {يتوقّف على الرّدع عنها} أي: عن السّيرة {بها} أي: بالآيات {وإلّا} تكن الآيات رادعة {لكانت} السّيرة {مخصّصة أو مقيّدة} بالكسر {لها} أي: للآيات {كما لا يخفى}.

والحاصل: أنّ كون الآيات رادعة متوقّفة على بقاء عمومها وبقاء عمومها متوقّف على كونها رادعة، أو تقول رادعيّة الآيات متوقّفة على عدم تخصيص السّيرة لها وعدم تخصيص السّيرة لها متوقّفة على رادعيّتها.

أقول: لكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال في غير محلّه، إذ لو كانت الآيات أظهر بالنسبة إلى السّيرة كانت رادعة، وكونها رادعة تلازم عدم تخصيصها، لا أنّ أحدهما

ص: 62

لا يقال: على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً إلّا على وجه دائر؛ فإنّ اعتباره بها يتوقّف على عدم الرّدع بها عنها، وهو يتوقّف على تخصيصها بها، وهو يتوقّف على عدم الرّدع بها عنها.

فإنّه يقال: إنّما يكفي في حجيّته

___________________________________________

متوقّف على الآخر، ويقرب ذلك بأنّ السّيرة كانت موجودة إلى زمان نزول الآية، فلمّا نزلت الآية وكانت أظهر من السّيرة لم تصلح السّيرة لتخصيصها، وإنّما كانت الآيات بسبب أظهريّتها مخصّصة للسيرة.

{لا يقال}: ما ذكرتم من الدور المتقدّم آتٍ في ما لو أردتم الاستناد فيحجيّة الخبر الواحد إلى السّيرة، و{على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً إلّا على وجه دائر} وحيث إنّ الدور محال، فالاستناد إلى السّيرة في حجيّة الخبر الواحد غير تامّ {فإنّ اعتباره} أي: الخبر {بها} أي: بالسيرة {يتوقّف على عدم الرّدع بها} أي: بالعمومات {عنها} أي: عن السّيرة {وهو} أي: الرّدع بالعمومات عن السّيرة {يتوقّف على تخصيصها} أي: العمومات {بها} أي: بالسيرة {وهو} أي: تخصيص العمومات بالسيرة {يتوقّف على عدم الرّدع بها} أي: بالعمومات {عنها} أي: عن السّيرة.

وإن شئت قلت: حجيّة الخبر بالسيرة متوقّفة على عدم كون السّيرة مردوعة، وعدم كون السّيرة مردوعة متوقّف على كون السّيرة تخصّص العمومات، وكون السّيرة تخصّص العمومات متوقّف على عدم كون السّيرة مردوعة.

{فإنّه يقال}: صحيح أنّ حجيّة الخبر متوقّفة على حجيّة السّيرة لكن حجيّة السّيرة لا تتوقّف على عدم كونها مردوعة، وإنّما تتوقّف على عدم علمنا بالردع وهو حاصل بنفسه من دون توقّف على شيء، فالسيرة كانت ولم نعلم بمردوعيّتها.

وحيث ثبت أنّ الآيات لا تصلح رادعة - للزوم كونها رادعة للسيرةِ الدّورَ، كم-ا تقدّم - بقيت السّيرة حجّة، وإلى هذا أشار بقوله: {إنّما يكفي في حجيّته} أي:

ص: 63

بها عدمُ ثبوت الرّدع عنها؛ لعدم نهوض ما يصلح لردعها، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك، كما لا يخفى؛ ضرورة أنّ ما جرت عليه السّيرة المستمرّة في مقام الإطاعة والمعصية، - وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة، وعدم استحقاقها معالموافقة، ولو في صورة المخالفة للواقع - ، يكون عقلاً في الشّرع متّبعاً، ما لم ينهض دليل على المنع عن اتّباعه

___________________________________________

الخبر {بها} أي: بالسيرة {عدم ثبوت الرّدع عنها} أي: عن السّيرة {لعدم نهوض ما يصلح لردعها} أي: ردع السّيرة {كما يكفي في تخصيصها} أي: السّيرة {لها} أي: للعمومات {ذلك} أي: عدم ثبوت كون السّيرة مردوعة، فإذا لم يثبت كون السّيرة مردوعة أفادت أمرين:

الأوّل: حجيّة الخبر.

الثّاني: تخصيص عموم الآيات {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

وقد بيّن المصنّف ذلك - أي: كفاية عدم ثبوت الرّدع في الأخذ بالسيرة - بأنّ السّيرة المستمرّة العقلائيّة حجّة شرعاً مادام لم يثبت عنها الرّدع، كما في مقام الإطاعة والمعصية والعقاب وما أشبه، فإنّ سيرة العقلاء كلّما حكمت به كان شرعاً أيضاً كذلك، فإذا لم يثبت الرّدع فليكن مقامنا - الّذي هو حجيّة الخبر بالسيرة - أيضاً كذلك، فيكون الخبر حجّة للسيرة مادام لم يثبت ردع الشّارع عن السّيرة.

{ضرورة أنّ ما جرت عليه السّيرة المستمرّة} عند العقلاء {في مقام الإطاعة والمعصية، وفي} مقام {استحقاق العقوبة بالمخالفة وعدم استحقاقها مع الموافقة} للأمر {ولو في صورة المخالفة للواقع} بأن كان صدور الأمر لعلّة مع أنّه كان مخالفاً للواقعي الأولى {يكون عقلاً في الشّرع متّبعاً} خبر قوله: «ضرورة أنّ ما جرت» يعني: أنّ العقل يحكم بأنّ ما جرت عليه السّيرة يكون متّبعاً في الأحكام الشّرعيّة {ما لم ينهضدليل على المنع عن اتّباعه} أي: اتّباع ما جرت عليه السّيرة

ص: 64

في الشّرعيّات، فافهم وتأمّل.

فصل: في الوجوه العقليّة الّتي أُقيمت على حجيّة خبر الواحد

أحدها: أنّه يعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار، من الأئمّة الأطهار بمقدار وافٍ بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار لانحلّ علمُنَا الإجمالي - بثبوت التكاليف بين الرّوايات وسائر الأمارات -

___________________________________________

{في الشّرعيّات} فإذا كانت هناك سيرة ولم ينهض دليل شرعيّ على المنع عنها أخذ بها في الشّرعيّات؛ لأنّ الشّارع لو لم يردّها لمنع عنها، فعدم المنع عنها كافٍ في الأخذ بمقتضاها {فافهم وتأمّل} حتّى لا يشتبه عليك الأمر فتقول: فماذا يصنع الشّارع إذا أراد الرّدع عن السّيرة، وهل يمكن أن يقول في مقام الرّدع عنها بأصرح من الآيات والرّوايات النّاهية عن العمل بغير العلم، حتّى نحتاج إلى الإجابة بأنّ الرّدع لا يكون بمثل هذه العمومات وإنّما يكون بمثل ما ردع عن القياس؟! فلو أراد الشّارع الرّدع لزم أن تكون أدلّة الرّدع نصّاً كأن يقول: لا تعملوا بالخبر الواحد، أو تكون أظهر من السّيرة.

[فصل في الوجوه العقليّة التي أُقيمت على حجيّة خبر الواحد]

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة حجيّة خبر الواحد، العقل

{فصل: في الوجوه العقليّة الّتي أُقيمت على حجيّة خبر الواحد} وهي على ما ذكره المصنّف(رحمة الله) هنا ثلاثة:

{أحدها: أنّه يعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار، من الأئمّةالأطهار} لبداهة أنّ هذه الأخبار ليست من وضع واضع وجعل جاعل بعد هذا الاهتمام الشّديد من أرباب الحديث وصحّته ومقابلته وأخذ الإجازة له، وتلك الكميّة الواردة الموجودة ليست قليلة، وإنّما هي {بمقدار وافٍ بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار} الصّادر قطعاً {لانحلّ علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الرّوايات وسائر الأمارات} فإنّا نعلم إجمالاً أنّ بين الرّوايات وبين سائر

ص: 65

إلى العلم التفصيلي بالتكاليف، في مضامين الأخبار الصّادرة المعلومة تفصيلاً، والشّكّ البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة.

ولازم ذلك: لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة، وجوازُ العمل على طبق النّافي منها، في ما إذا لم يكن في المسألة

___________________________________________

الأمارات - كالإجماعات والشّهرات والأدلّة العقليّة والأصول العمليّة - تكاليف كثيرة، فإذا حصلنا على المقدار المقطوع الصّدور من الرّوايات انحلّ ذلك العلم الإجمالي {إلى} شيئين:

الأوّل: {العلم التفصيلي بالتكاليف} الموجودة {في مضامين الأخبار الصّادرة} عن الأئمّة^ {المعلومة تفصيلاً}.

{و} الثّاني: {الشّكّ البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة، و} من المعلوم أنّ {لازم ذلك} العلم الإجمالي بثبوت التكاليف {لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة}للتكاليف، كالتي تقول بحرمة الخمر والزنا ووجوب الصّلاة والصّيام إلى غير ذلك من الأحكام التكليفيّة.

وإنّما خصّصنا لزوم العمل بالأخبار المثبتة لأنّ الأخبار على قسمين: [1] مثبتة كما ذكر [2] ونافية كالتي تقول بعدم لزوم الدعاء عند رؤية الهلال وعدم وجوب زيارة الحسين(علیه السلام) وعدم حرمة قتل الحيوان غير المؤذي مثلاً، ومن المعلوم أنّ العلم الإجمالي بوجود تكاليف إنّما يلزم الاحتياط بالنسبة إلى الأخبار المثبتة للتكليف، أمّا بالنسبة إلى الأخبار النّافية فلا شأن له بها لعدم تعلّقه بالتكليف.

{و} ليس معنى ذلك حرمة العمل على طبق النّافي، بل القاعدة تقتضي {جواز العمل على طبق النّافي منها} أي: من الأخبار {في ما إذا لم يكن في المسألة} دليل آخر يثبت التكليف، وذلك لضرورة أنّه لو لم يكن هناك دليل إطلاقاً على

ص: 66

أصل مثبت له، من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب، بناءً على جريانه في أطراف ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السّابقة في بعضها، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه، وإلاّ

___________________________________________

حَظْرِ شيء أو وجوب شيء لا مانع من العمل على طبق الخبر النّافي للتكليف؛ لأنّه ليس خلاف العلم الإجمالي ولا خلاف دليل معتبر.

نعم، لا يجوز العمل على طبق الخبر النّافي في ما لو كان في مورده {أصل مثبت له} أي: للتكليف {من قاعدة الاشتغال} كما لو كان علم إجماليّ بالتكليف طرفه مورد لهذا الخبر النّافي {أو} من {الاستصحاب} المثبت للتكليف {بناءً على جريانه} أي:الاستصحاب {في أطراف ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السّابقة في بعضها أو} علم ب- {قيام أمارة معتبرة على انتقاضها} أي: الحالة السّابقة {فيه} أي: في بعض الأطراف.

والحاصل: أنّ الخبر النّافي لا يجوز العمل به، إذا كان هناك دليل مثبت للتكليف سواء كان الدليل الاحتياط أو الاستصحاب، لكن الاستصحاب إنّما ينافي الخبر لو قلنا بجريانه في أطراف العلم الإجمالي الّذي انتقض الحالة السّابقة في بعض أطرافه أو قام دليل معتبر على الانتقاض، فإنّه في هذا الحال يكون اللّازم اتّباع الاستصحاب ولا يجوز العمل بالخبر النّافي.

وإنّما قلنا: «بناءً على جريانه» الخ، تنبيهاً إلى أنّه لا مانع من العمل بالخبر النّافي لو لم نقل بجريان الاستصحاب في طرف العلم الإجمالي المنقوض بعض أطرافه، فإنّ بعضهم ذهب إلى أنّ العلم الإجمالي مطلقاً - ولو علم انتقاض بعض أطرافه أو قامت أمارة على انتقاضه - يمنع عن جريان الاستصحاب في جميع الأطراف، وذلك من جهة لزوم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب وذيله.

فتحصّل: أنّه لو قلنا بجريان الاستصحاب كان المانع عن العمل بالخبر النّافي أحد أمرين: الاشتغال أو الاستصحاب {وإلّا} نبني على ذلك، بل قلنا بعدم جريان

ص: 67

لاختصّ عدمُ جواز العمل على وفق النّافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.

وفيه: أنّه لا يكاد ينهض على حجيّة الخبر، بحيث يقدّم تخصيصاً أو تقييداً أو ترجيحاً على غيره، من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم، وإن كان يسلم عمّا أُورد عليه: من أنّ لازمه الاحتياط في سائر الأمارات، لا

___________________________________________

الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً {لاختصّ عدم جواز العمل على وفق} الخبر {النّافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال}.

هذا تمام الكلام في الدليل العقلي الأوّل على حجيّة خبر الواحد، وحاصله العمل بالخبر من باب العلم الإجمالي بأحكام في الأخبار الواردة.

{وفيه أنّه} أي: هذا الدليل العقلي لا يفيد حجيّة الخبر بما هو خبر، بل هو عمل بالاحتياط، فلا ينفع في ما نحن بصدده من حجيّة الخبر استقلالاً حتّى يقيّد به المطلق ويخصّص به العام، إذ {لا يكاد ينهض} هذا الدليل العقلي {على حجيّة الخبر بحيث يُقدّم} الخبر - بصيغة المجهول - {تخصيصاً} للعام {أو تقييداً} للمطلق {أو ترجيحاً على غيره} في مقام التعارض {من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم} بيان للمقدّم عليه على طريق اللفّ والنّشر المرتّب، فإنّ الشّيء الّذي هو طرف الاحتياط ليس من الظّهور والقوّة بقدر يقاوم الإطلاق والعموم وما يعارضه من المفهوم ونحوه.

ثمّ إنّ الشّيخ المرتضى أشكل على هذا الدليل العقلي بأنّ لازمه الاحتياط في جميع الأخبار والأمارات لا خصوص الأخبار، إذ العلم الإجمالي بوجود أحكام في ما بأيدينا لا يختصّ بالأخبار، بل العلم الإجمالي كما هو حاصل بالنسبة إلى الأخبار كذلك هو حاصل بالنسبة إلى مطلق الأمارات الّتي منها الأخبار.

لكن المصنّف بالتقريب الّذي ذكره للدليل سدّ منفذ هذا الإشكال، فالدليل العقلي المذكور {وإن كان} يرد عليه الإشكال المتقدّم لكنّه {يسلم عمّا أورد} الشّيخ(رحمة الله) {عليه من أنّ لازمه الاحتياط في سائر الأمارات، لا} الاحتياط

ص: 68

في خصوص الرّوايات؛ لما عرفت من انحلال العلم الإجمالي بينهما بما علم بينالأخبار بالخصوص ولو بالإجمال، فتأمّل جيّداً.

ثانيها: ما ذكره الوافية مستدلّاً على حجيّة الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة - كالكتب الأربعة -

___________________________________________

{في خصوص الرّوايات} كما هو مفروض الكلام، وإنّما قلنا بأنّه يسلم عن إيراد الشّيخ {لما عرفت من انحلال العلم الإجمالي} القائم على وجود أحكام {بينهما} أي: بين الأمارات والأخبار {بما علم بين الأخبار بالخصوص} فإنّا قرّرنا في الدليل أنّه لو فرض تبيّن الأحكام الموجودة في الأخبار انحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيليّ وإلى شكّ بدويّ، ومثل هذا يوجب عدم كون سائر الأمارات طرفاً للعلم الإجمالي، إذ لو كان طرفاً له لزم عدم الانحلال بحصول أحكام قطعيّة من بين الأخبار فقط.

وحيثما كان هناك علمان إجماليّان أحدهما أكبر من الآخر وكان بحيث لو وجد المعلوم في الأصغر ارتفع العلم لم يكن سائر الأطراف الّتي هي خارجة بالأكبريّة طرفاً للعلم الإجمالي، بمعنى أنّ العلم الإجمالي الأكبر ينحلّ إلى العلم الإجمالي الأصغر، فلو علمت بأنّي مدين إلى جمع من أهالي كربلاء ثمّ علمت بأنّه لو أرضيت جميع من في سوق القبلة - مثلاً - لم يكن لي علم بكوني مديناً إلى أحد، انحلّ العلم الإجمالي بالنسبة إلى جميع الأهالي إلى علم إجماليّ بالنسبة إلى أهالي السّوق، وهنا كذلك فإنّ العلم الحاصل بأنّ الأخبار {ولو بالإجمال} موجب لانحلال العلم الإجمالي بالأصغر {فتأمّل جيّداً} وفي المقام تفصيل من شاءه راجع المطوّلات.

{ثانيها} أي: الثّاني من الوجوه العقليّة الّتي استدلّ بها لحجيّة خبر الواحد {ما ذكره} في كتاب {الوافية مستدلّاً علىحجيّة الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة} [1] الكافي [2] ومن لا يحضره الفقيه [3]

ص: 69

مع عمل جَمع به من غير ردّ ظاهر.

وهو: «أنّا نقطع ببقاء التكليف(1) إلى يوم القيامة، سيّما بالأصول الضّروريّة، كالصلاة والزكاة والصّوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها،

مع أنّ جُلّ أجزائها وشرائطها وموانعها، إنّما يثبت بالخبر غير القطعيّ، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأُمور عن كونها هذه الأُمور، عند ترك العمل بالخبر الواحد، ومن أنكر فإنّما ينكره باللسان، {وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ}»(2)(3)،

انتهى.

___________________________________________

والتهذيب [4] والاستبصار {مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر} مستند إلى وجه قويّ {وهو} مركّب من ثلاث مقدّمات: العلم بحدوث التكليف، والعلم ببقائه، والعلم بأنّ الغالب منه موجود في هذه الكتب، ف- {«إنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة سيّما بالأصول} أي: الأُمّهات الفرعيّة من التكاليف {الضّروريّة كالصلاة والزكاة والصّوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها} من رؤوس الأحكام المدرجة في كتب الفقهاء.{مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها} كالركوع والطّهارة والحدث بالنسبة إلى الصّلاة {إنّما يثبت بالخبر غير القطعي بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأُمور عن كونها هذه الأُمور عند ترك العمل بالخبر الواحد} والاكتفاء بالقطعيّات الثابتة من الأجزاء والشّرائط والموانع {ومن أنكر} هذه المقدّمة الثّالثة وقال بأنّ الاكتفاء بالقطعي لا يوجب خروج هذه الحقائق عن حقائقها {فإنّما ينكره باللسان {وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ}»} أو يجهل موازين الفقه {انتهى} دليل الوافية.

ص: 70


1- في الوافية: «التكاليف».
2- سورة النحل، الآية: 106.
3- الوافية في أصول الفقه: 159.

وأُورد عليه(1):

أوّلاً: بأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشّرائط بين جميع الأخبار لا خصوص الأخبار، المشروطة بما ذكره، فاللّازم حينئذٍ؛ إمّا الاحتياط، أو العمل بكلّ ما دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته.

قلت: يمكن أن يقال:

___________________________________________

{وأُورد عليه} والمورد الشّيخ في الرّسائل {أوّلاً: بأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشّرائط} والموانع {بين جميع الأخبار} الّتي بأيدينا {لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره} من كونها في الكتب المعتمدة مع عمل جمع وعدم ردّ ظاهر {فاللّازم حينئذٍ} أي: حين العلم الإجمالي بوجود الأجزاء ونحوها في تمام الأخبار {إمّاالاحتياط} في جميع الأخبار - لا خصوص قسم منها كما ذكره - {أو العمل بكلّ ما دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته} من الأخبار في ما لو تعذّر العمل بكلّ الأخبار الدالّة، فيؤخذ ببعضها المظنون، وكأنّ هذه العبارة من المصنّف اختصار لعبارة الشّيخ في الرّسائل حيث قال: «فاللّازم حينئذٍ إمّا الاحتياط أو العمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته، وإمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة أو الشّرطيّة»(2)،

انتهى.

والمراد به كما في الحقائق(3)

أنّ العلم الإجمالي بموافقة جملة من الأخبار الدالّة على الجزئيّة ونحوها يوجب الاحتياط بالعمل بكلّ خبر دلّ على ذلك، ومع تعذّره أو لزوم الحرج ينتقل إلى الظّنّ بالصدور.

{قلت: يمكن أن يقال} أنّ إشكال الشّيخ على الوافية غير وارد، إذ العلم الإجمالي الوسيع الأطراف ينحلّ إلى علم إجماليّ تنحصر أطرافه بين الأخبار

ص: 71


1- فرائد الأصول 1: 361.
2- فرائد الأصول 1: 361.
3- حقائق الأصول 2: 144.

إنّ العلم الإجمالي وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار، إلّا أنّ العلم بوجود الأخبار الصّادرة عنهم^ بقدر الكفاية بين تلك الطّائفة، أو العلم باعتبار الطّائفة كذلك بينها، يوجب انحلال ذاك العلم الإجمالي، وصيرورة غيره خارجاً عن طرف العلم - كما مرّت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأوّل - .

___________________________________________

الموجودة في الكتب المعتمدة، وذلك يوجب عدم لزوم العمل احتياطاً بأكثر منالأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة، ف- {إنّ العلم الإجمالي وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار} الّتي في الكتب المعتمدة وغيرها {إلّا أنّ العلم بوجود الأخبار الصّادرة عنهم^ بقدر الكفاية، بين تلك الطّائفة} الموجودة في الكتب المعتمدة الّتي عمل بها جمع من غير ردّ ظاهر {أو العلم باعتبار الطّائفة} من الأخبار {كذلك} أي: بقدر الكفاية {بينها} أي: بين تلك الكتب المعتمدة {يوجب انحلال ذاك العلم الإجمالي} الواسع النّطاق الّذي كان أطرافه جميع الأخبار الواردة في الكتب المعتمدة وغيرها.

والظّاهر عدم الفرق بين العلم بوجود الأخبار والعلم باعتبارها، فالترديد في كلام المصنّف لفظيّ، فإنّه لا يتفاوت الواقع العملي بين أن نقول علمنا بوجود خبر صادر عن الإمام في غسل الجمعة، أو نقول علمنا باعتبار خبر ورد في غسل الجمعة، وإن كان بين العلم بالصدور وبين العلم بالاعتبار - في نفسهما - عموم من وجه؛ لأنّ ما علم صدوره يمكن عدم اعتباره، كما أنّ ما علم اعتباره يمكن عدم صدوره.

وعلى أيّ حال، فإنّ العلم بوجود أخبار بقدر الكفاية في الكتب المعتمدة موجب، لانحلال العلم الإجمالي الّذي كان يشمل هذه الأخبار وغيرها {وصيرورة غيره} أي: غير ما في الكتب المعتمدة {خارجاً عن طرف العلم} على نحو الشّبهة البدويّة {كما مرّت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأوّل} فراجع.

ص: 72

اللّهمّ إلّا أن يُمنع عن ذلك، وادُّعِيَ عدم الكفاية في ما علم بصدوره أو باعتباره، من تلك الطّائفة أو ادّعي العلم بصدور أخبار أُخر بين غيرها،فتأمّل.

وثانياً: بأنّ قضيّته إنّما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئيّة أو الشّرطيّة، دون الأخبار النّافية لهما.

والأولى أن يورد عليه: بأنّ قضيّته إنّما هو الاحتياط بالأخبار المثبتة، في ما لم تقم حجّة معتبرة على نفيهما، من عموم دليل أو إطلاقه،

___________________________________________

{اللّهمّ إلّا أن} يقرب إيراد الشّيخ على الوافية بأن {يمنع عن ذلك} الانحلال {وادّعي عدم الكفاية} بالمعلوم إجمالاً {في ما علم بصدوره، أو} علم {باعتباره من تلك الطّائفة} الواردة في الكتب المعتمدة {أو ادُّعِيَ العلم} الإجمالي {بصدور أخبار أُخر بين غيرها} أي: غير تلك الطّائفة المدرجة في الكتب المعتمدة {فتأمّل} بأنّه لا وجه لهذه الدعوى، فإنّا إذا راجعنا وجداننا لم نجد علماً إجماليّاً لا ينحلّ بما في الكتب المعتمدة.

{و} أورد الشّيخ(رحمة الله) على الدليل الثّاني الّذي ذكره الوافية لحجيّة الخبر الواحد {ثانياً: بأنّ قضيّته} أي: مقتضى هذا الدليل الّذي يقول حجيّة الخبر مبتنياً على علمنا بأجزاء وشرائط وموانع {إنّما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئيّة أو الشّرطيّة دون الأخبار النّافية لهما} إذ الدليل أوجب العمل بالأخبار؛ لأنّه لو لم يعمل بها لزم خروج الحقائق الثابتة شرعاً - كالصلاة والصّيام - عن كونها تلك الحقائق، ومن المعلوم أنّ الأخبار النّافية ليست كذلك.

{والأولى أن يورد عليه} بما تقدّم في الجواب السّابق {بأنّ قضيّته} أي: مقتضى هذا الدليل {إنّما هوالاحتياط بالأخبار المثبتة} للتكاليف، فيكون العمل بالأخبار المثبتة من باب الاحتياط، وهو في الحقيقة عمل بالاحتياط لا بالأخبار، وعليه فيكون هذا العمل الاحتياطي {في ما لم تقم حجّة معتبرة على نفيهما من عموم دليل أو إطلاقه} قال في الحقائق: «إذ مع قيام الحجّة المعتبرة

ص: 73

لا الحجيّة بحيث يخصّص أو يقيّد بالمثبت منها، أو يعمل بالنافي في قبال حجّة على الثبوت ولو كان أصلاً، كما لا يخفى.

ثالثها: ما أفاده بعض المحقّقين(1) بما ملخّصه: أنّا نعلم بكوننا مكلّفين بالرجوع إلى الكتاب والسّنّة إلى يوم القيامة، فإن تمكّنّا من الرّجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه، فلا بدّ من الرّجوع إليهما كذلك، وإلّا فلا محيص عن الرّجوع على نحو يحصل الظّنّ به

___________________________________________

على نفي التكليف لا تجري أصالة الاحتياط في العمل بالخبر المثبت له، كما لو قامت البيّنة على طهارة أحد أطراف الشّبهة المحصورة. ثمّ إنّ هذا التقييد في كلام المصنّف هو الفارق بينه وبين إيراد شيخه(رحمة الله)»(2)، انتهى {لا الحجّيّة بحيث يخصّص أو يقيّد بالمثبت منها أو يعمل بالنافي في قبال حجّة على الثبوت، ولو كان} تلك الحجّة {أصلاً} فإنّ الأصل مقدّم عليه، وحاصل كلام المصنّف أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى {كما لا يخفى}.

{ثالثها}: أي: الثّالث من الوجوه العقليّة الّتي أُقيمت على حجيّة خبرالواحد {ما أفاده بعض المحقّقين} وهو الشّيخ محمّد تقي في حاشيته على المعالم {بما ملخّصه: أنّا نعلم بكوننا مكلّفين بالرّجوع إلى الكتاب والسّنّة إلى يوم القيامة، فإن تمكّنّا من الرّجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه} أي: ما بحكم العلم - وهو الّذي قام عليه دليل معتبر - وبعبارة أُخرى العلم أو العلمي.

{فلا بدّ من الرّجوع إليهما كذلك} أي: بالعلم أو العلمي، أمّا الأوّل؛ فلأنّه طريق ذاتيّ، وأمّا الثّاني؛ فلأنّه يرجع إليه {وإلّا} نتمكّن من الرّجوع إلى الكتاب والسّنّة بنحو العلم أو العلمي {فلا محيص عن الرّجوع على نحو يحصل الظّنّ به} أي:

ص: 74


1- هداية المسترشدين 3: 373.
2- حقائق الأصول 2: 145.

في الخروج عن عهدة هذا التكليف، فلو لم يتمكّن من القطع بالصدور أو الاعتبار، فلا بدّ من التنزّل إلى الظّنّ بأحدهما.

وفيه: أنّ قضيّة بقاء التكليف فعلاً بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنّة - كما صرّح بأنّها المراد منها في ذيل كلامه، زيد في علوّ مقامه - إنّما هي الاقتصار في الرّجوع إلى الأخبار المتيقّن الاعتبار، فإن وفى،

___________________________________________

بالحكم {في الخروج عن عهدة هذا التكليف} لأنّ الظّنّ هو الطّريق العقلائي لدى انسداد باب العلم والعلمي {فلو لم يتمكّن} الإنسان في باب الرّجوع إلى الكتاب والسّنّة {من القطع بالصدور أو الاعتبار فلا بدّ من التنزّل إلى الظّنّ بأحدهما} ومن المعلوم أنّ الأخبار تفيد الظّنّ فلا بدّ من الرّجوع إليها لدى انسداد بابي العلم والعلمي.{وفيه} أنّا نتسائل هل المراد من السّنّة في قول هذا المحقّق قول المعصوم وفعله وتقريره أو المراد الحاكي عن هذه الثلاثة قطعاً، أو المراد مطلق الخبر الحاكي للسنّة ولو لم يعلم المطابقة حتّى تكون السّنّة من كلامه يراد بها الأخبار الموجودة بأيدينا، فإن كان المراد المعنى الأوّل فإنّه لا يرتبط بالخبر الواحد إطلاقاً، وإن كان المراد الثّاني فهو بمعزل عمّا نحن فيه لفرض أنّا لا نعلم أنّ هذه الأخبار الموجودة حاكية قطعيّة عن السّنّة الواقعيّة، وإن كان المراد الثّالث - كما هو الظّاهر من كلامه - ففيه {أنّ قضيّة} أي: مقتضى {بقاء التكليف فعلاً بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنّة - كما صرّح} المحقّق المذكور {بأنّها} أي: هذه الأخبار هي {المراد منها} أي: من السّنّة {في ذيل كلامه، زيد في علوّ مقامه - إنّما هي الاقتصار في الرّجوع إلى الأخبار المتيقّن الاعتبار} الّذي نقطع بصدوره عن المعصوم أو ما بحكم القطع.

{فإن وفى} هذا المقدار المتيقّن الاعتبار بعلمنا الّذي مفاده وجوب الرّجوع

ص: 75

وإلّا أُضيف إليه الرّجوعُ إلى ما هو المتيقّن اعتباره بالإضافة، لو كان، وإلّا فالاحتياط بنحو عرفت، لا الرّجوع إلى ما ظنّ اعتباره؛ وذلك للتمكّن من الرّجوع علماً - تفصيلاً أو إجمالاً - ، فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظنّ اعتباره، هذا.

مع أنّ مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السّنّة بذاك المعنى - في ما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار

___________________________________________

إلى السّنّة فهو {وإلّا} يف هذا المقدار بعلمنا {أُضيف إليه} أي: ذلك المقدار المتيقّن الاعتبار {الرّجوع إلى} جملة أُخرى من الأخبار من {ما هو المتيقّن اعتباره بالإضافة} كالأخبار الّتي أسنادها صحيحة أو موثّقة وإن لم نقطع بصدورها، فإنّها متيقّنة الاعتبار بالنسبة إلى الأخبار الضّعاف، وإن لم تكن بمثابة القسم الأوّل المقطوع الصّدور، وهذا إنّما هو في ما {لو كان} متيقّن الاعتبار في الرّتبة الأُولى أو الثّانية {وإلّا} يكن متيقّن الاعتبار مطلقاً أو في المرتبة الثّانية أو لم يف المتيقّن من الاعتبارين بمقدار علمنا الّذي يقول بوجوب الرّجوع إلى السّنّة.

{ف-} المرجع {الاحتياط} في ما بأيدينا من الأخبار {بنحو عرفت} سابقاً، وذلك لأنّ العقل يوجب العمل بما هو المتيقّن من كلام المولى حتّى يصحّ الاستناد إليه، فإن لم يقدر فالعقل يلزم الاحتياط {لا الرّجوع إلى ما ظنّ اعتباره} فإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئاً {وذلك للتمكّن من الرّجوع علماً تفصيلاً} أنّه في القدر المتيقّن {أو إجمالاً} إذا لم يف وآل الأمر إلى الاحتياط {فلا وجه معه} أي: مع إمكان الرّجوع كذلك {من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظنّ اعتباره}.

{هذا} كلّه في ما لو أراد المحقّق المذكور من السّنّة الواجبة الرّجوع إليها الأخبار الحاكية للسنّة لا في الكتب {مع أنّ مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السّنّة بذاك المعنى} وهو الأخبار الحاكية مطلقاً {في ما لم يعلم بالصدور} أي: بصدورها عن المعصوم {ولا بالاعتبار} بأن لم يقم دليل قطعيّ

ص: 76

بالخصوص - واسع.وأمّا الإيراد عليه(1):

برجوعه، إمّا إلى دليل الانسداد، لو كان ملاكه دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعيّة، وإمّا إلى الدليل الأوّل لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار.

ففيه: أنّ ملاكه

___________________________________________

على اعتبارها {بالخصوص} متعلّق «بالاعتبار»، أي: لم يعلم اعتبارها بالخصوص مقابل اعتبارها بدليل الانسداد الأقلّ {واسع} خبر «أنّ مجال»، فإنّه لم يقم دليل على العمل بهذه الأخبار الموجودة في الكتب، وإنّما قام الدليل على وجوب العمل بالسنّة، وحيث إنّ مفروض الكلام عدم علمنا بأنّ هذه الأخبار حاكية للسنّة، فلا ربط لأحد المقامين بالآخر.

{وأمّا الإيراد عليه} أي: على دليل المحقّق صاحب الحاشية بما ذكره الشّيخ رضي اللّه عنه في الرّسائل بأنّ هذا الدليل إمّا أن يكون دليل الانسداد الآتي، وإمّا أن يكون دليل العقل المذكور في أوّل الأدلّة العقليّة.

وقد أُجيب عن الثّاني كما يجاب عن الأوّل فليس هذا دليل مستقلّ يحتاج إلى الغاية، والجواب عن ذلك {برجوعه إِمّا إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعيّة} كما سيأتي تفصيله {وإِمّا إلى الدليل} العقلي {الأوّل لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار}.

والحاصل: أنّ مبنى هذا الدليل إن كان هو أنّا نعلم بالأحكام الواقعيّة فيجبامتثالها، فهذا راجع إلى دليل الانسداد، وإن كان هو أنّا نعلم بصدور أخبار كثيرة عن الأئمّة فيجب العمل بها، فهذا راجع إلى الدليل العقلي الأوّل، وعلى كلا التقديرين ليس هو دليل مستقلّ {ففيه: أنّ ملاكه} ليس أحد الأمرين ليرجع إلى

ص: 77


1- فرائد الأصول 1: 363.

إنّما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الرّوايات - في الجملة - إلى يوم القيامة، فراجع تمام كلامه، تعرف حقيقة مرامه.

فصل: في الوجوه الّتي أقاموها على حجيّة الظّنّ وهي أربعة:

الأوّل: أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضرر، ودفعُ الضّرر المظنون لازم.

___________________________________________

أحد الدليلين، بل ملاكه {إنّما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الرّوايات} فإنّا نعلم أنّا مكلّفون بالرجوع إلى هذه الرّوايات الّتي بأيدينا {في الجملة} وهذا التكليف مستمرّ {إلى يوم القيامة} ومن المعلوم أنّ هذا العلم شيء ثالث فليس علماً بالأحكام الواقعيّة وليس علماً بصدور أخبار كثيرة، بل يمكن أن يجعل هذا العلم في المرتبة الثّالثة بأن نقول: إنّا نعلم بتكاليف واقعيّة ونعلم أنّ هذه التكاليف الواقعيّة بيّنت في الكتاب والأخبار الصّادرة، ونعلم بأنّا مكلّفون بالرجوع إلى ما بأيدينا من الأخبار.

{فراجع تمام كلامه تعريف حقيقة مرامه} لكي يتّضح لك الفرق بين دليل الانسداد والدليل العقلي الأوّل والدليل العقلي الثّالث.

[فصل أدلة حجيّة مطلق الظّنّ]

اشارة

المقصد السّادس: في الأمارات، أدلة حجيّة مطلق الظّنّ{فصل: في الوجوه الّتي أقاموها على حجيّة الظّنّ} المطلق {وهي أربعة} على ما ذكرها المصنّف هنا:

[الدليل الأوّل]

{الأوّل: أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضرر} فإذا ظنّ المجتهد بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال فخالف ظنّاً بالضرر المتوجّه إليه من ناحية ترك الواجب، وكذلك إذا ظنّ بحرمة الأفيون فخالف ظنّاً بالضرر المتوجّه إلى من ناحية فعل الحرام {ودفع الضّرر المظنون لازم} بحكم العقل.

ص: 78

أمّا الصّغرى: فلأنّ الظّنّ بوجوب شيء أو حرمته، يلازم الظّنّ بالعقوبة على مخالفته، أو الظّنّ بالمفسدة فيها، بناءً على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأمّا الكبرى: فلاستقلال العقل بدفع الضّرر المظنون، ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح؛

___________________________________________

{أمّا الصّغرى} وهي أنّ مخالفة المظنون مظنّة الضّرر {فلأنّ الظّنّ بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظّنّ بالعقوبة على مخالفته} فإنّه كما يلازم العقاب القطعي المخالفة القطعيّة كذلك يلازم العقاب المظنون المخالفة المظنونة {أو الظّنّ بالمفسدة فيها} أي: في المخالفة والمفسدة أمر غير العقاب، فإنّ مفسدة الخمر الإسكار وهو غير العقاب المترتّب على شربه، فيكون الظّنّ بوجوب شيء أو حرمته يلازم مخالفة أمرين: الظّنّ بالعقاب والظّنّ بالمفسدة، ولكن الظّنّ بالعقاب متّفق عليه بين الجميع.وأمّا الظّنّ بالمفسدة فإنّما هو {بناءً على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد} كما هو مبنى العدليّة من الشّيعة والمعتزلة.

أمّا على مبنى الأشاعرة المنكرين لذلك فلا تلازم بين الظّنّ بالحكم وبين الظّنّ بالمفسدة على تقدير المخالفة، وكذلك على مبنى بعض العلماء الّذين ذهبوا إلى كفاية كون المصلحة في الأوامر والنّواهي بنفسها وإن لم تكن في متعلّقاتها كذلك.

{وأمّا الكبرى} وهي أنّ دفع الضّرر المظنون واجب {فلاستقلال العقل بدفع الضّرر المظنون} بل ربّما يقال: إنّه من الفطريّات، فإذا أدرك الإنسان الظّنّ بالضرر سعى في الخلاص منه والفرار.

ولا يخفى أنّه لا تنافي بين أن يكون من مستقلّات العقل ومن الأُمور الفطريّة، كما أنّ العقل مستقلّ بهذا الحكم.

{ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح} العقليّين فإنّه قد اختلفت العدليّة والأشاعرة

ص: 79

لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما، بل يكون التزامه بدفع الضّرر المظنون، بل المحتمل بما هو كذلك، ولو لم يستقلّ العقل بالتحسين والتقبيح، مثل الالتزام بفعل ما استقلّ بحسنه - إذا قيل باستقلاله - ،

___________________________________________

في أنّه هل للعقل التحسين والتقبيح أم لا، بل ذانك خاصّان بالشرع؟ فالعدليّة ذهبوا إلى الأوّل، والأشاعرة ذهبوا إلى الثّاني، وهذا المبحث لا يرتبط بما نحن فيه، إذ رفع الضّرر المظنون واجب عقلاً ولو سلكنا مسلك الأشاعرة {لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه} أي: حكم العقل بدفع الضّرر{بهما} أي: بالتحسين والتقبيح، فإنّ العقل وإن لم يدرك الحسن والقبح يدرك لزوم الفرار من الضّرر كما يدرك لزوم جلب النّفع {بل يكون التزامه بدفع الضّرر المظنون، بل المحتمل} احتمالاً عقلائيّاً، فإنّ العقلاء يجتنبون عن أواني عشرة إذا كان فيها إناء مسموم، مع أنّ المعلوم أنّ كون السّمّ في هذا الإناء المعيّن احتمالاً في عشرة، يعني أنّ احتمال كونه مسموماً واحد واحتمال كونه غير مسموم تسعة، ومع ذلك نرى العقلاء يعتنون بهذا الاحتمال.

نعم، الاحتمال الّذي لا يعتني به العقلاء، كما لو انقلبت سيّارة في ضمن السّيّارات الّتي تذهب إلى بغداد في كلّ أُسبوع لا يوجب العقل الفرار منه، ولذا نراهم يسافرون وإن كان الضّرر محتملاً، وبهذا عرفت أنّ في مورد الضّرر يعتنى باحتماله القريب ولو كان وهماً وغيره ظنّاً، كما في مثال الإناء المسموم، وهذا الاعتناء من العقلاء باحتمال الضّرر إنّما هو {بما هو كذلك} أي: احتمال للضرر أو ظنّ له.

{ولو لم يستقلّ العقل بالتحسين والتقبيح} فإنّ باب احتمال الضّرر باب، وباب التحسين والتقبيح باب آخر، والتزام العقل بدفع الضّرر ولو لم يستقلّ

بالتحسين والتقبيح إنّما هو {مثل الالتزام} من العقل {بفعل ما استقلّ بحسنه إذا قيل باستقلاله} بالحسن، فكلّما كان حسناً أمر العقل بفعله وكلّما كان محتمل

ص: 80

ولذا أطبق العقلاء عليه، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح، فتدبّر جيّداً.

والصّواب في الجواب هو: منع الصّغرى:

___________________________________________

الضّرر أمر العقل باجتنابه - سواء قيل بالتحسين والتقبيح العقلي أم لا -{ولذا أطبق العقلاء عليه} أي: على وجوب دفع الضّرر المحتمل {مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح، فتدبّر جيّداً} فإنّ الحقّ أنّهما ضروريّان، وإنّ من أنكرهما إنّما هو لشبهة، فإنّ العقلاء لا يكادون يشكون في أنّ من قتل صديقاً له بلا أيّ جرمٍ فعل قبيحاً، ومن ألقى الثعابين السّامّة على أطفال أبرياء لتنهش لحومهم فعل قبيحاً - سواء كان هناك شرع أم لم يكن - وللكلام تفصيل طويل مذكور في كتب الكلام، وقد ذكرنا بعض الاستدلال في القول السّديد(1)،

فليراجع.

{و} قد أُجيب عن هذا الدليل بمنع الكبرى كما عن الحاجبي(2)، قال: إنّ هذا الدليل مبنيّ على قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين، وتلك القاعدة ممنوعة، لكن حيث قد عرفت عدم ابتناء هذا الدليل على تلك القاعدة لم يصحّ هذا الجواب، وعلى هذا ف- {الصّواب في الجواب هو منع الصّغرى} أي: قوله في مخالفة ما ظنّه من الحكم مظنّة للضرر، بأن نسأل هل المراد بالضرر المظنون الضّرر الأُخروي، أي: العقاب أو الضّرر الدنيوي، أي: المفسدة كالسكر في الخمر؟ فإن كان المراد الضّرر الأُخروي فنقطع بعدم الضّرر؛ لأنّه من العقاب بلا بيان، وقد رفع ما لا يعلمون، وإن كان المراد الضّرر الدنيوي ففيه أنّ الحكم لا يلازم الضّرر الدنيوي الشّخصي، ففي بعض الأحكام الواجبة أضرار شخصيّة كالزكاة، وفي بعض الأحكام المحرّمة منافع شخصيّة كالقمار بالنسبة إلى الرّابح والرّبا بالنسبة

ص: 81


1- القول السديد: 290.
2- شرح مختصر الأصول 1: 163.

أمّا العقوبة: فلضرورة عدم الملازمة بين الظّنّ بالتكليف والظّنّ بالعقوبة علىمخالفته، لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته، وإنّما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها، لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها. ومجرّد الظّنّ به - بدون دليل على اعتباره - لا يتنجّز به، كي يكون مخالفته عصيانه.

إلّا أن يقال: إنّ العقل وإن لم يستقلّ بتنجّزه، بمجرّده بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته، إلّا أنّه

___________________________________________

إلى الآخذ، إذن فالظنّ بالحكم لا يلازم الظّنّ بالضرر.

{أمّا العقوبة} الّتي هي الضّرر الأُخروي {فلضرورة عدم الملازمة بين الظّنّ بالتكليف والظّنّ بالعقوبة على مخالفته} وذلك {لعدم الملازمة بينه} أي: بين التكليف الواقعي {و} بين {العقوبة على مخالفته} إذ ليس كلّ تكليف واقعيّ يستلزم العقاب لو خولف {وإنّما الملازمة بين خصوص معصيته} أي: معصية ذلك التكليف {واستحقاق العقوبة عليها لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها} أي: بنفس المخالفة، فإذا لم يكن تلازم بين المخالفة وبين العقوبة لم يكن تلازم بين الظّنّ بالحكم والظّنّ بالعقوبة.

{و} بهذا تبيّن أنّ {مجرّد الظّنّ به} أي: بالتكليف {بدون دليل على اعتبار لا يتنجّز به} أي: بذلك الظّنّ التكليف {كي يكون مخالفته} أي: مخالفة ذلك الظّنّ {عصيانه} أي: عصيان ذلك التكليف حتّى يوجب العقوبة ويصحّ دعوى التلازم بين الظّنّ بالتكليف والظّنّ بالعقاب {إلّا أن يقال} صحيح أنّالظّنّ بالتكليف لا يوجب الظّنّ بالعقوبة ف- {إنّ العقل وإن لم يستقلّ بتنجّزه} أي: تنجّز التكليف {بمجرّده} أي: مجرّد الظّنّ {بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته} أي: مخالفة ذلك المظنون {إلّا أنّه} يكون التكليف حين الظّنّ محتملاً فيكون العقاب

ص: 82

لا يستقلّ أيضاً بعدم استحقاقها معه، فيحتمل العقوبة حينئذٍ على المخالفة.

ودعوى استقلاله بدفع الضّرر المشكوك - كالمظنون - قريبة جدّاً، لاسيّما إذا كان هو العقوبة الأُخرويّة، كما لا يخفى.

وأمّا المفسدة: فلأنّها - وإن كان الظّنّ بالتكليف يوجب الظّنّ بالوقوع فيها لو خالفه، إلّا أنّها ليست بضرر على كلّ حال؛

___________________________________________

محتملاً، ودفع العقاب المحتمل كدفع العقاب المظنون واجب، فإنّ العقل وإن لم يستقلّ بتنجّز التكليف لكنّه {لا يستقلّ أيضاً بعدم استحقاقها} أي: العقوبة {معه} أي: مع الظّنّ بالتكليف {فيحتمل العقوبة حينئذٍ} أي: حين الظّنّ بالتكليف {على المخالفة} لذلك التكليف المظنون.

{ودعوى استقلاله} أي: العقل {بدفع الضّرر المشكوك ك-} استقلاله بدفع الضّرر {المظنون قريبة جدّاً لاسيّما إذا كان} الضّرر {هو العقوبة الأُخرويّة} الّتي لا تتحمّل إطلاقاً {كما لا يخفى} اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّه لا احتمال للعقاب وإن ظنّ الشّخص بالتكليف؛ لأنّ أدلّة البراءة كقبحالعقاب بلا بيان، و«رفع ما لا يعلمون»(1) و«ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(2)،

إلى غيرها، كافية في التأمين، وإن كان الإنسان ظنّ بالتكليف فإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.

{وأمّا} إن كان المراد من الضّرر المذكور في الصّغرى القائلة بأنّ في مخالفة الحكم المظنون مظنّة للضرر: {المفسدة} الدنيويّة {ف-} فيه أنّه غير تامّ {لأنّها} أي: المفسدة {وإن كان الظّنّ بالتكليف يوجب الظّنّ بالوقوع فيها لو خالفه} أي: خالف ذلك التكليف المظنون {إلّا أنّها ليست بضرر على كلّ حال} سواء كانت شخصيّة تعود إلى شخص المخالف أو تعود إلى غيره.

ص: 83


1- الخصال 2: 417.
2- التوحيد: 413؛ الكافي 1: 164.

ضرورة أنّ كلّما يوجب قبح الفعل من المفاسد، لا يلزم أن يكون من الضّرر على فاعله، بل ربّما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل، بحيث يذمّ عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلاً، كما لا يخفى.

وأمّا تفويت المصلحة، فلا شبهة في أنّه ليس فيه مضرّة، بل ربّما يكون في استيفائها المضرّة، كما في الإحسان بالمال،

___________________________________________

{ضرورة أنّ كلّما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من} أجل {الضّرر على فاعله} فإنّ الأحكام التحريميّة إنّما وضعت للأضرار الكامنة فيها ولا تختصّ الأضرار بأشخاص الفاعلين، فكثير من الأحكام أضرارها نوعيّة تعودإلى النّوع ولذا حرمت، بل ربّما كانت الأحكام الضّرريّة على النّوع ذات منافع على نفس الفاعل.

فإنّ في ترك الزكاة وأكل الرّبا والسّرقة منافع ماديّة للمرتكب {بل ربّما} لا يكون هناك ضرر أصلاً لا على الفاعل ولا على النّوع، بل الحرام {يوجب حزازة ومنقصة في الفعل بحيث يذمّ عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلاً} ولا على غيره، فإنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ولا دليل على أنّ المفسدة تجب أن تكون ضرراً {كما لا يخفى} على من تأمّل.

هذا كلّه في من فعل مظنون الحرمة {وأمّا} من ترك مظنون الوجوب حيث إنّ ترك الواجب موجب للضرر؛ لأنّه {تفويت المصلحة، ف-} فيه ما تقدّم في ارتكاب مظنون الحرمة، إذ {لا شبهة في أنّه ليس فيه مضرّة} شخصيّة دائماً {بل ربّما يكون في استيفائها} أي: استيفاء تلك المصلحة {المضرّة} على الفاعل {كما في الإحسان بالمال} في باب الزكاة والخمس والصّدقات وما أشبه.

نعم، لو أُريد بالمضرّة الأعمّ من الشّخصيّة والنّوعيّة، وقيل بأنّ في هذه الموارد وإن لم تكن مضرّة شخصيّة إلّا أنّ فيها مضرّات نوعيّة، ففيه منع الكبرى وأنّه ليس

ص: 84

هذا.

مع منع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها، بل إنّما هي تابعة لمصالح فيها، كما حقّقناه في بعض فوائدنا(1).وبالجملة: ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة - اللّتان في الأفعال، وأُنيط بهما الأحكام - بمضرّة.

___________________________________________

يحكم العقل بوجوب دفع الضّرر النّوعي المظنون.

{هذا مع} أنّ لنا أن نجيب بجواب آخر، وهو {منع كون الأحكام} دائماً {تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها} فإنّه لا دليل على أنّ متعلّق الحكم الإيجابي يلزم أن يكون ذا مصلحة، وأنّ متعلّق الحكم الزجري يجب أن يكون ذا مفسدة، فإنّ الدليل إنّما دلّ على أنّ الأحكام ليست اعتباطيّة ولم يدلّ على أكثر من هذا، وليس خروجها عن الاعتباطيّة بكون متعلّقاتها ذات مصالح ومفاسد {بل إنّما هي} أي: الأحكام {تابعة لمصالح فيها} فيكفي أن يكون نفس الإيجاب أو التحريم ذا مصلحة {كما حقّقناه في بعض فوائدنا} وعليه فلا مضرّة أصلاً لا نوعيّة ولا شخصيّة، فتحقّق أنّ النّهي يمكن أن يكون لمفسدة في المنهيّ عنه، كما يمكن أن يكون لحزازة فيه أو لمصلحة في نفس النّهي بلا ضرر وحزازة في المتعلّق.

وعليه فلا يمكن أن يقال بالتلازم بين الظّنّ بالنهي والظّنّ بالمفسدة، كيف والقطع بالنهي لا يلزم القطع بالمفسدة؟!

{وبالجملة: ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة - اللّتان في الأفعال} المفسدة في الحرام والمنفعة الفائتة في ترك الواجب {وأُنيط بهما الأحكام -} حتّى أنّه لا وجوب بدون مصلحة ولا حرمة بدون مفسدة {بمضرّة} خبر قوله: «ليست»

ص: 85


1- درر الفوائد: 130.

وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة، أو حُسن ما فيه المصلحة من الأفعال - على القول باستقلاله بذلك - هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله، أو نفع عائد إليه.

ولعمري هذا أوضح من أن يخفى، فلا مجال لقاعدة رفع الضّرر المظنون هاهنا أصلاً.

ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة، أو ترك ما فيه احتمال المصلحة،

___________________________________________

{وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة} من النّواهي {أو حسن ما فيه المصلحة من الأفعال} المأمور بها - {على القول باستقلاله} أي: العقل {بذلك} أي: بالقبح والحسن {هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إليه} بل المناط هو كونه ذا ضرر في الجملة، ولو كان نوعيّاً، أو نفع في الجملة، ولو كان غير شخصيّ، ومجرّد ذلك لا يوجب التلازم بين الظّنّ بالتكليف والظّنّ بالضرر أو النّفع.

{ولعمري هذا أوضح من أن يخفى، فلا مجال لقاعدة رفع الضّرر المظنون هاهنا أصلاً} حتّى يقال: إنّ الظّنّ بالتكليف ظنّ بالضرر في فعله أو تركه.

{و} إن قلت: إنّ الضّرر يحتمل أن يكون نوعيّاً ويحتمل أن يكون شخصيّاً، وكما أنّ العقل يستقلّ بدفع الضّرر المظنون كذلك يستقلّ بدفع الضّرر المحتمل، وفي فعل ما ظنّ حرمته وترك ما ظنّ وجوبه احتمال للضرر لإمكان أن يكون الضّرر شخصيّاً، فإذا فعله الإنسان أو تركه كان محتملاً لتوجّه ضررشخصيّ إليه، وهنا يأتي دور العقل ليقول دفع الضّرر المحتمل واجب.

قلت: {لا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة أو ترك ما فيه احتمال المصلحة} وما عن شيخ الطّائفة(رحمة الله)(1) - من الإقدام على ما لا يؤمن فيه المفسدة كالإقدام على ما علم فيه المفسدة قبيح - ليس تامّاً، ولذا نرى العقلاء يقدمون على مثل تلك المحتملات.

ص: 86


1- العدّة في أصول الفقه 2: 742.

فافهم.

الثّاني: أنّه لو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح، وهو قبيح.

___________________________________________

لا يقال: إنّ إقدامهم في محتمل المفسدة إنّما هو لما يقابله من احتمال النّفع الّذي يساويه أو يكون أكثر، وهو السّرّ في ركوبهم البحر مع كثرة احتمال الغرق خصوصاً في الأزمنة السّابقة الّتي كانت المراكب شراعيّة، فليس الإقدام لأجل عدم اعتنائهم بمحتمل المفسدة وإنّما هي لترجيح جانب المصلحة، ويتخلّص في أنّهم لا يقدمون على محتمل المفسدة بدون المقابل.

لأنّا نقول: هذا - وإن كان كذلك - إلّا أنّ في المقام أيضاً يقابل احتمال الفساد مصلحة التسهيل، فإنّ العقلاء يهتمّون بمصلحة التسهيل أكثر من اهتمامهم باجتنابهم محتمل المفسدة، إذ لو لزم الاجتناب عن كلّ ما احتمل فيه الفساد لزم العسر العقلي، وذلك مرغوب عنه عند العقلاء {فافهم} بأنّ الموارد مختلفة لديهم، فلا يصحّ إطلاق القول بأنّهم يقتحمون محتمل الفساد، كما لا يصحّ إطلاق القول بأنّهم يجتنبون عنه، بل لو كانت المفسدة المحتملة كبيرة لا يقدمون في الغالب، كما لو كان هناك مرض أو تلف نفس أو ذهاب جميع المال أو ماأشبه، بخلاف ما لو كانت صغيرة كاحتمال ذهاب شيء يسير من المال أو حمّى يوم أو ما أشبه ذلك، فإطلاق القول في كلّ من الجانبين غير تامّ.

[الدليل الثّاني]

{الثّاني} من الوجوه العقليّة الّتي أقاموها على حجيّة مطلق الظّنّ {أنّه} لو ظنّ الفقيه بالحكم - كما لو ظنّ بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال - كان طرف الظّنّ وهماً، فإنّ عدم الوجوب في المثال وهم ف- {لو لم يؤخذ بالظنّ} وأخذ بالوهم {لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح وهو قبيح} فاللّازم الأخذ بالظنّ.

ص: 87

وفيه: أنّه لا يكاد يلزم منه ذلك، إلّا في ما إذا كان الأخذ بالظنّ أو بطرفه لازماً، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلاً، أو عدم وجوبه شرعاً، ليدور الأمر بين ترجيحه أو ترجيح طرفه، ولا يكاد يدور الأمر بينهما إلّا بمقدّمات دليل الانسداد،

___________________________________________

{وفيه} أوّلاً: أنّا لا نسلّم الكبرى الّتي هي قولكم: «إنّ ترجيح المرجوح على الرّاجح قبيح»، إذ فيه أوّلاً أنّه ليس قبيحاً مطلقاً، بل إنّما هو في ما لو لم يكن في طرف الوهم جهة رجحان، ومصلحة التّسهيل في اختيار كلّ من الرّاجح والمرجوح مهمّة جدّاً، فلا قبح في الأخذ بالوهم في قبال الظّنّ.

وثانياً: أنّ القبح ليس بالحدّ الملزم، ألا ترى أنّه لو ظنّ أنّ البضاعة في هذا الدكّان أجود ثمّ لم يشتر اعتباطاً واشترى من محلّ كان فيه وهم الجودة لم يكن ملوماً عند العقلاء، ولو سلّمنا الكبرى لا نسلّم بالملازمة بين عدم الأخذ بالظنّ وبين لزوم ترجيح المرجوح على الرّاجح، ف- {إنّه لا يكاد يلزم منه} أي: من عدم الأخذ بالظنّ {ذلك} أي: ترجيح المرجوح على الرّاجح {إلّا في ما إذا} ثمّ هناك أمران:الأوّل: {كان الأخذ بالظنّ أو بطرفه} الّذي هو الوهم {لازماً} إذ لو لم يلزم الأخذ بأحدهما لم يكن مجال للدوران حتّى يحتم العقل الظّنّ ترجيحاً على الوهم.

الثّاني: {مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلاً} كما لو حلف بأن يكون يوم عرفة في كربلاء أو في مكّة وكان يظنّ أنّ الحلف للأوّل فإنّه لا يمكن الجمع بين الأمر عقلاً {أو عدم وجوبه} أي: الجمع {شرعاً} كما لو دلّ الدليل على أنّه لا يجب في اليوم أكثر من صلاة ثمّ شكّ في أنّه هل تجب الصّلاة قصراً أو تماماً وظنّ بالأوّل {ليدور الأمر بين ترجيحه} أي: الظّنّ {أو ترجيح طرفه} الّذي هو الوهم، فإنّه لو أمكن الجمع لم يلزم أحد الأمرين حتّى يلزم ترجيح المرجوح على الرّاجح.

{و} لكن لا يتمّ الأمران، أي: {لا يكاد} يلزم الأخذ بالظنّ أو طرفه، ولا {يدور الأمر بينهما إلّا بمقدّمات دليل الانسداد} الّتي هي علمنا ببقاء التكليف

ص: 88

وإلّا كان اللّازم هو الرّجوع إلى العلم، أو العلمي، أو الاحتياط، أو البراءة، أو غيرهما، على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلاف المقدّمات، على ما ستطّلع على حقيقة الحال.

الثّالث: ما عن السّيّد الطّباطبائي+(1): من: أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات،

___________________________________________

وعدم وجود العلم والعلمي بقدر الكافي بمعظم الأحكام، ولزوم العسر والحرجمن الرّجوع إلى الاحتياط، ولزوم الخروج من الدين على تقدير الرّجوع إلى البراءة، فإذا تمّت هذه المقدّمات كان اللّازم الرّجوع إلى الظّنّ أو الوهم.

وبهذا تحقّق أنّ هذا الدليل الثّاني ليس دليلاً مستقلّاً وإنّما هو تقرير لجزء من دليل الانسداد الآتي {وإلّا} تتمّ مقدّمات الانسداد لم يكن الأمر دائراً بين الظّنّ والوهم، بل {كان اللّازم هو} عدم أيّ تكليف لو لم تتمّ المقدّمة الأُولى أو {الرّجوع إلى العلم أو العلمي} لو لم تتمّ المقدّمة الثّانية {أو} الرّجوع إلى {الاحتياط} لو لم تتمّ المقدّمة الثّالثة {أو} الرّجوع إلى {البراءة} لو لم تتمّ المقدّمة الرّابعة {أو غيرهما} من الرّجوع إلى فتوى الفقيه أو التبعيض {على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلاف المقدّمات} فإنّ بعضها تتمّ بالنسبة إلى بعض ولا تتمّ بالنسبة إلى بعض أُخرى {على ما ستطّلع على حقيقة الحال} وتفصيل ذلك في الرّابع من الوجوه - إن شاء اللّه تعالى - .

[الدليل الثّالث]

{الثّالث} من الوجوه العقليّة الّتي أقاموها على حجيّة مطلق الظّنّ {ما عن السّيّد} مهدي بحر العلوم {الطّباطبائي+: من أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات} أي: المظنونات والمشكوكات والموهومات

ص: 89


1- حكاه عنه في فرائد الأصول 1: 382.

ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك، لكن مقتضى قاعدة نفي الحرج، عدم وجوب ذلك كلّه؛ لأنّه عسر أكيد وحرج شديد، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج: العمل بالاحتياط في المظنونات، دون المشكوكاتوالموهومات؛ لأنّ الجمع على غير هذا الوجه - بإخراج بعض المظنونات، وإدخال بعض المشكوكات والموهومات - باطل إجماعاً.

___________________________________________

{ومقتضى ذلك} العلم الإجمالي بوجود الأحكام الكثيرة في المشتبهات {وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً وترك ما يحتمل الحرمة كذلك} أي: موهوماً؛ لأنّه مقتضى العلم الإجمالي {لكن مقتضى قاعدة نفي الحرج} كقوله - تعالى - : {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ}(1)، {عدم وجوب ذلك كلّه} أي: عدم وجوب الإتيان بجميع الأطراف المظنونة والمشكوكة والموهومة {لأنّه عسر أكيد وحرج شديد، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط} في أطراف العلم الإجمالي {وانتفاء الحرج} المستلزم من العمل بجميع الأطراف {العمل بالاحتياط في المظنونات} ظنّاً بالوجوب أو الحرمة {دون المشكوكات والموهومات؛ لأنّ} العكس ترجيح المرجوح على الرّاجح و{الجمع على غير هذا الوجه - بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات - باطل إجماعاً}.

ولا يخفى أنّه لا يرد أنّ المشكوك لا يمكن جمعه مع المظنون والموهوم؛ لأنّ الجمع بالنسبة إلى المتعلّقات المختلفة ممكن، كأن يشكّ في حلّيّة التتن وحرمته ويظنّ وجوب الدعاء عند رؤية الهلال. نعم، بالنسبة إلى متعلّق واحد محال إلّا بالنسبة إلى أفراد متعدّدة أو أزمان مختلفة.

ص: 90


1- سورة الحج، الآية: 78.

ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد؛ فإنّه بعضُ مقدّمات دليل الانسداد ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدّماته، ومعه لا يكون دليلاً آخر بل ذاك الدليل.

الرّابع: دليل الانسداد، وهو مؤلّف من مقدّمات، يستقلّ العقل مع تحقّقها بكفاية الإطاعة الظّنيّة - حكومة أو كشفاً، على ما تعرف - ، ولا يكاد يستقلّ بها بدونها.

وهي خمسة:

___________________________________________

{ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد، فإنّه بعض مقدّمات دليل الانسداد ولا يكاد ينتج} هذا البعض {بدون سائر مقدّماته، ومعه} أي: مع ضمّ سائر المقدّمات {لا يكون} هذا الدليل {دليلاً آخر، بل} يكون هذا {ذاك الدليل} أي: دليل الانسداد.

[الدليل الرّابع]

{الرّابع} من الوجوه العقليّة الّتي أقاموها لحجيّة الظّنّ المطلق {دليل الانسداد} وسمّي بهذا الاسم أخذاً من مقدّمته الثّانية الّتي هي عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام {وهو مؤلّف من مقدّمات} خمس على ما ذكرها المصنّف {يستقلّ العقل مع تحقّقها} أي: تحقّق تلك المقدّمات وثبوتها {بكفاية الإطاعة الظّنيّة} في مقام امتثال أوامر الشّرع.

ثمّ إنّه قد يقال: إنّ نتيجة مقدّمات الانسداد كون العقل يحكم {حكومة} بكون الظّنّ حجّة من غير مدخليّة للشرع، فكما يحكم العقل بحجيّة القطع في حال الانفتاح كذلك يحكم بحجيّة الظّنّ في حال الانسداد.

وقد يقال: إنّ النّتيجة كون العقل يكشف أنّ الشّارع جعل الظّنّ حجّة في هذا الظّرف، وهذا ما أشار إليه بقوله: {أو كشفاً} وتفترق النّتيجة على تقديرالحكومة من النّتيجة على تقدير الكشف {على ما تعرف} إن شاء اللّه - تعالى - {ولا يكاد يستقلّ} العقل {بها} أي: بكفاية الإطاعة الظّنيّة {بدونها} أي: بدون المقدّمات المذكورة {وهي خمسة} على ما ذكرها المصنّف وإن أسقط عنها المقدّمة الأُولى

ص: 91

أوّلها: أنّه يعلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعليّة في الشّريعة.

ثانيها: أنّه قد انسدّ علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها.

ثالثها: أنّه لا يجوز لنا إهمالها، وعدم التعرّض لامتثالها أصلاً.

رابعها: أنّه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا، بل لا يجوز في الجملة، كما لا يجوز الرّجوع إلى الأصل في المسألة، من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط، ولا إلى فتوى العالم بحكمها.

___________________________________________

في الرّسائل لبداهتها:

{أوّلها: أنّه يعلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعليّة في الشّريعة} والمراد بهذه المقدّمة الثبوت في الجملة لا الثبوت علينا، حتّى لا تكون مع المقدّمة الثّالثة وهي عدم جواز إهمالها تكراراً.

{ثانيها: أنّه قد انسدّ علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها} بأن لم نعلم تلك الأحكام ولا قام عليها دليل معتبر ينتهي إلى العلم، كأن نعلم أنّ قول زرارة حجّة ثمّ يخبرنا زرارة بشيء، فإنّ خبر زرارة علميّ وليس بعلم - أي: منسوب إلى العلم - .

{ثالثها: أنّه لا يجوز لنا إهمالها} أي: ترك تلك الأحكام الّتي انسدّ باب العلم والعلمي إليها {وعدم التعرّضلامتثالها أصلاً} فإنّ في ذلك لزوم الخروج عن الدين.

{رابعها: أنّه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا} الإجمالي {بل لا يجوز في الجملة} إلى حدّ الاختلال بالنظام والهرج والمرج {كما لا يجوز} في مورد تلك الأحكام {الرّجوع إلى الأصل} العملي {في المسألة من استصحاب} في ما كان له حالة سابقة {وتخيير} في مورد دوران الأمر بين المحذورين {وبراءة} في مورد الشّكّ الابتدائي {واحتياط} في أطراف العلم الإجمالي {ولا} يجوز لنا الرّجوع في المسألة {إلى فتوى العالم بحكمها} سواء كان انسداديّاً أم انفتاحيّاً.

ص: 92

خامسها: أنّه كان ترجيح المرجوحات على الرّاجح قبيحاً.

فيستقلّ العقل حينئذٍ بلزوم الإطاعة الظّنيّة لتلك التكاليف المعلومة، وإلّا لزم - بعد انسداد باب العلم والعلمي بها - : إمّا إهمالها، وإمّا لزوم الاحتياط في أطرافها، وإمّا الرّجوع إلى الأصل الجاري في كلّ مسألة، - مع قطع النّظر عن العلم بها - أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالإطاعة الشّكيّة أو الوهميّة مع التمكّن من الظّنيّة.

والفرض بطلان كلّ واحد منها:

___________________________________________

{خامسها: أنّه كان ترجيح المرجوح على الرّاجح قبيحاً} لا يأمر به شرع ولا يحكم به عقل {فيستقلّ العقل حينئذٍ} أي: حين تمام المقدّمات {بلزوم الإطاعةالظّنيّة لتلك التكاليف المعلومة، وإلّا} تجب الإطاعة الظّنيّة حينئذٍ {لزم - بعد انسداد باب العلم والعلمي بها - إمّا إهمالها} وهو مستلزم للخروج عن الدين {وإمّا لزوم الاحتياط في أطرافها} وهو مستلزم للعسر والحرج والاختلال للنظام {وإمّا الرّجوع إلى الأصل الجاري في كلّ مسألة مع قطع النّظر عن العلم} الإجمالي العام {بها} والعلم الإجمالي مانع عن ذلك عقلاً ونقلاً {أو التقليد فيها} وذلك لا يجوز للمجتهد {أو الاكتفاء بالإطاعة الشّكّيّة أو الوهميّة مع التمكّن من} الإطاعة {الظّنيّة} وهو ترجيح للمرجوح على الرّاجح {والفرض بطلان كلّ واحد منها} كما عرفت، فلا محيص عن الإطاعة الظّنيّة. هذا مجمل دليل الانسداد المقتضي لحجيّة الظّنّ في الجملة.

ثمّ لا يخفى أنّه فرق بين الاحتياط العام في جميع أطراف المسائل والبراءة العامّة في الجميع، وبين الاحتياط الخاصّ والبراءة الخاصّة في خصوص المسألة المبتلى بها.

مثلاً قد نقول: إنّ كلّ مشكوك ومظنون وموهوم يجب العمل به أو يجري البراءة عنه، وقد نقول: إنّه لو شكّ في أنّ التّبغ حرام أم لا نجري الاستصحاب لو

ص: 93

أمّا المقدّمة الأُولى: فهي وإن كانت بديهيّة، إلّا أنّه قد عرفت انحلال العلم الإجمالي بما في الأخبار الصّادرة عن الأئمّة الطّاهرين^، الّتي تكون في ما بأيدينا، من الرّوايات في الكتب المعتبرة، ومعه لا موجب للاحتياط إلّا فيخصوص ما في الرّوايات، و

___________________________________________

كانت له حالة سابقة أو نحتاط بعدم الاستعمال، أو نجري البراءة فنقول بحليّته، ولذا جعل المصنّف الاحتياط الخاصّ شقّاً للاحتياط العام في الرّابعة من المقدّمات.

إذا عرفت حال المقدّمات في الجملة فلنشرع في تفصيل ذلك، وهو أنّه هل تحقّقت هذه المقدّمات حتّى تنتج حجيّة الظّنّ المطلق أم لا؟ فنقول:

{أمّا المقدّمة الأُولى} وهي علمنا الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في الشّريعة {فهي وإن كانت بديهيّة} لا تحتاج إلى الاستدلال {إلّا أنّه قد عرفت} في الدليل الأوّل من الأدلّة العقليّة {انحلال العلم الإجمالي} إلى يقين تفصيلي {بما في الأخبار الصّادرة عن الأئمّة الطّاهرين^ الّتي تكون في ما بأيدينا من الرّوايات في الكتب المعتبرة} وإلى شكّ بدويّ في ما غير الأخبار {ومعه} أي: مع هذا الانحلال {لا موجب للاحتياط إلّا في خصوص ما في الرّوايات} إذ العلم الإجمالي المنحلّ يقتضي العمل بما في الرّوايات، ولو لم نميّز الصّحيح منها عن السّقيم حتّى ينحلّ العلم الإجمالي نهائيّاً يلزم الاحتياط في تمام أطراف العلم المتعلّق بخصوص الرّوايات.

{و} إن قلت: إنّ هذا الانحلال غير مفيد، فإنّ المانع الّذي كان من العمل بالاحتياط في أطراف العلم الإجمالي الكبير آتٍ في العمل بالاحتياط في أطراف العلم الإجمالي الصّغير الّذي تعلّق بالروايات. هذا مضافاً إلى الإجماع على عدم الاحتياط.

ص: 94

هو غير مستلزم للعسر، فضلاً عمّا يوجبالاختلال، ولا إجماع على عدم وجوبه، ولو سلم الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال.

وأمّا المقدّمة الثّانية: أمّا بالنسبة إلى العلم: فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بيّنة وجدانيّة، يَعرف الانسدادَ كلّ من تعرّض للاستنباط والاجتهاد.

___________________________________________

قلت: ليس كذلك؛ لأنّ المانع في العلم الإجمالي الكبير هو العسر والاختلال {هو} أي: الاحتياط في أطراف الرّوايات {غير مستلزم للعسر فضلاً عمّا يوجب الاختلال} لبداهة أنّ الرّوايات منحصرة، فالعمل بها لا يلزم اختلالاً أو عسراً {ولا إجماع على عدم وجوبه} فإنّ كثيراً من الفقهاء لم يتعرّضوا لهذه المسألة أصلاً فكيف يمكن دعوى الإجماع؟! {ولو سلم الإجماع على عدم وجوبه} أي: الاحتياط {لو لم يكن هناك انحلال} بل بقي العلم الإجمالي الوسيع بحاله.

هذا مضافاً إلى الإجماع لو كان فهو محتمل الاستناد، وقد تقرّر في مبحث الإجماع أنّ محتمل الاستناد منه غير حجّة، وعلى هذا فلا يبقى مجال للعمل بالظنّ فيسقط دليل الانسداد، كما لا يخفى.

بل يمكن أن يقال: إنّ العلم الإجمالي يمكن تقليصه إلى خصوص الأخبار المعتبرة، فإنّ الإنصاف أنّه لا علم لنا فوق ذلك، ومن البديهي أنّ الاحتياط في هذه الطّائفة من الأخبار لا يستلزم عسراً إطلاقاً وإن احتمل لزومه في الاحتياط في جميع الأخبار، فإن ضمّ القطعيّات من الأحكام إلى هذه الأخبار المعتبرة كافية في انحلال العلم الإجمالي بلا شبهة.

{وأمّا المقدّمة الثّانية} وهي انسداد باب العلموالعلمي إلى كثير من الأحكام {أمّا بالنسبة إلى العلم فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا} البعيدة عن عصر صدور الرّوايات {بيّنة وجدانيّة يعرف الانسداد كلّ من تعرّض للاستنباط والاجتهاد} وإن جهل ذلك غير ذلك بل ظنّ الأحكام كلّها معلومة.

ص: 95

وأمّا بالنسبة إلى العلمي: فالظاهر أنّها غير ثابتة؛ لما عرفت من نهوض الأدلّة على حجيّة خبر يوثق بصدقه، وهو - بحمد اللّه - وافٍ بمعظم الفقه، لاسيّما بضميمة ما علم تفصيلاً منها، كما لا يخفى.

وأمّا الثّالثة: فهي قطعيّة،

___________________________________________

{وأمّا بالنسبة إلى العلمي} أي: انسداد باب العلمي {فالظاهر أنّها} أي: هذه المقدّمة {غير ثابتة} بل لدينا قدر الكفاية من الأدلّة المعتبرة {لما عرفت} في مبحث الخبر الواحد {من نهوض الأدلّة} العقليّة والنّقليّة {على حجيّة خبر يوثق بصدقه، وهو - بحمد اللّه - وافٍ بمعظم الفقه} وفي البقيّة لو جرت البراءة أو الاحتياط أو ما أشبه لا يلزم محذور أصلا {لاسيّما بضميمة ما علم تفصيلاً منها} أي: من الأخبار القطعيّة والضّرورات والإجماعات ونحوها {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل، إذن فالمقدّمة الثّانية أيضاً غير ثابتة، فلا تثبت حجيّة الظّنّ المطلق.

{وأمّا} المقدّمة {الثّالثة} وهي عدم جواز إهمال تلك الأحكام المعلومة إجمالاً {فهي قطعيّة} لأنّ من ضروريّات الشّرع أنّ الشّارع أراد الأحكام ولم يرض بإهمالها وتركها.

ثمّ إنّه اختلف في باب العلم الإجمالي فبعض قالوا بعدم كونه منجّزاً مطلقاً،فيجوز ارتكاب جميع الأطراف، وبعض قالوا بجواز ارتكاب ما عدى المقدار المعلوم إجمالاً، فلو اشتبه إناء حرام في عشرة أواني قال الأوّلون بجواز ارتكاب جميع تلك الأواني تدريجاً، وقال الآخرون بجواز ارتكاب تسعة منها، والمشهور قالوا بعدم جواز ارتكاب أيّ واحد منها إلّا إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء أو مضطرّاً إليه، فيجوز ارتكابه.

إذا عرفت هذا قلنا: لا تتوقّف المقدّمة الثّالثة المذكورة على أن نذهب إلى مقالة المشهور في تنجيز العلم الإجمالي إلّا بالنسبة إلى جميع الأطراف، بل عدم

ص: 96

ولو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجّزاً مطلقاً، أو في ما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه، كما في المقام، حسب ما يأتي؛ وذلك لأنّ إهمال معظم الأحكام، وعدمَ الاجتناب كثيراً عن الحرام، ممّا يقطع بأنّه مرغوب عنه شرعاً، وممّا يلزم تركه إجماعاً.

إن قلت: إذا لم يكن العلمُ بها منجّزاً لها؛

___________________________________________

جواز إهمال تلك الأحكام قطعيّة ضروريّة {ولو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجّزاً مطلقاً} بل يجوز ارتكاب جميع أطرافه أو بعضه سواء في حال الاضطرار أم لا {أو} لم نقل بكون العلم الإجمالي منجّزاً {في ما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه} للاضطرار ونحوه {كما في المقام} حيث يجب الاقتحام حتّى لا يختلّ النّظام {حسب ما يأتي} في تنبيهات العلم الإجمالي بأنّ الدليل إذا قام على جواز الإقدام في بعض أطرافه لم يجب الاحتياط عقلاً في الباقي؛ لأنّه إذا جاز بعض الأطراف كان التكليف بالنسبة إلىالباقي مشكوكاً، ومع الشّكّ لا يكون تكليف، إذ يكون ذلك من العقاب بلا بيان.

{وذلك} الّذي ذكرنا - من كون المقدّمة الثّالثة قطعيّة وإن لم نقل بتنجيز العلم الإجمالي - {لأنّ إهمال معظم الأحكام} بترك واجبات كثيرة {وعدم الاجتناب كثيراً عن الحرام ممّا يقطع بأنّه مرغوب عنه شرعاً وممّا يلزم تركه إجماعاً} بل ضرورة وبعد هذا الإجماع والضّرورة لا مجال للقول بأنّه لا محذور في ترك العمل بتلك الأحكام بعد عدم لزومه الكفر، فإنّ مخالفة الضّروري من الدين كفر مضافاً إلى أنّ المحذور ليس الكفر فقط.

{إن قلت}: قوام هذه المقدّمة العلم الإجمالي؛ لأنّه هو الّذي يمنع من إهمال تلك الأحكام، وحيث ثبت عدم تنجيز العلم الإجمالي لا يبقى مجال لهذه المقدّمة الثّالثة، فإنّه {إذا لم يكن العلم بها} أي: بتلك الأحكام {منجّزاً لها} بحيث

ص: 97

- للزوم الاقتحام في بعض الأطراف، كما أُشير إليه - فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف حينئذٍ - على تقدير المصادفة - إلّا عقاباً بلا بيان، والمؤاخذةُ عليها إلّا مؤاخذة بلا برهان؟

قلت: هذا إنّما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط، وقد علم به بنحو اللمّ؛ حيث عُلم اهتمام الشّارع بمراعاة تكاليفه، بحيث ينافيه عدمُ إيجابه الاحتياطَ الموجَب للزوم المراعاة،

___________________________________________

يجب موافقتها {للزوم الاقتحام في بعض الأطراف} المعلومة إجمالاً - وهذا علّة لعدم التنجيز - {كما أُشير إليه} بأنّه مهما جاز الاقتحام في بعض الأطراف لم يكن العلم منجّزاً {فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطرافحينئذٍ} أي: حين جاز الاقتحام في البعض {على تقدير المصادفة} لتلك الأطراف الباقية {إلّا عقاباً بلا بيان، والمؤاخذة عليها إلّا مؤاخذة بلا برهان؟} فإذا سقط العلم الإجمالي عن التنجيز ولم يكن هناك دليل على التكليف غيره لم يكن بأس بارتكاب جميع الأطراف، أمّا بعضها فلعدم تنجّزها للزوم الاختلال، وأمّا الباقي فلأنّ العلم بالنسبة إليه ينقلب شكّاً ولا يجب متابعة الشّكّ.

{قلت: هذا} الّذي ذكرتم من عدم تنجيز العلم الإجمالي لو جاز الاقتحام في بعض الأطراف {إنّما يلزم لو لم يعلم} من دليل خارج {بإيجاب الاحتياط} مطلقاً ولو جاز الاقتحام في بعض الأطراف {وقد علم به} أي: بإيجاب الاحتياط في مقامنا هذا من دليلين:

الأوّل: {بنحو اللمّ} أي: استكشاف المعلول من العلّة {حيث علم اهتمام الشّارع بمراعاة تكاليفه} وهذا الاهتمام المعلوم علّة للاحتياط، فالاحتياط معلوم وهو مكشوف عن العلم بعلّته فقد اهتمّ الشّارع بالأحكام {بحيث ينافيه} أي: ينافي هذا الاهتمام {عدم إيجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة} للتكاليف

ص: 98

ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات.

مع صحّة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال، وأنّه مرغوب عنه شرعاً قطعاً، وأمّا مع استكشافه فلا يكون المؤاخذة والعقاب حينئذٍ بلا بيان وبلا برهان، كما حقّقناه في البحث وغيره.

وأمّا المقدّمة الرّابعة: فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التامّ بلا كلام، فيما يوجب عسره اختلالَ النّظام.

وأمّا في ما لا يوجب فمحلّ نظر، بل مَنعٍ؛

___________________________________________

{ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات} والحاصل: أنّه لا ينافي عدم التنجيز مطلقاً مع ما ذكرنا هنا من التنجيز؛ لأنّه لدليل خارجيّ وهو علمنا باهتمام الشّارع بأحكامه.

الثّاني: ما أشار إليه بقوله: {مع صحّة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال} أي: حال جواز ارتكاب بعض الأطراف للاضطرار ونحوه {وأنّه مرغوب عنه شرعاً قطعاً} إذ نستكشف من هذا الإجماع أنّ الشّارع لا يرضى بترك سائر الأطراف {وأمّا مع استكشافه فلا يكون المؤاخذة والعقاب حينئذٍ} أي: حين الاستكشاف {بلا بيان وبلا برهان، كما حقّقناه في البحث وغيره} وبهذا كلّه تبيّن تماميّة المقدّمة الثّالثة، فمن ناحيتها لا يرد إشكال على دليل الانسداد.

{وأمّا المقدّمة الرّابعة} وهي عدم وجوب الاحتياط أو جوازه وعدم جواز الرّجوع إلى الأصول العمليّة {فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التامّ} في جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات {بلا كلام في ما يوجب} مقدار {عسره} أي: عسر ذلك الاحتياط {اختلال النّظام} فإنّ الأدلّة الأربعة دلّت على عدم جواز اختلال النّظام {وأمّا} الاحتياط {في ما لا يوجب} اختلالاً وإنّما يسبّب عسراً {فمحلّ نظر، بل منع}.

ص: 99

___________________________________________

توضيحه: أنّه قد اختلف في أدلّة الضّرر والحرج إلى ثلاثة أقوال:

الأوّل: ما اختاره شيخنا المرتضى من أنّ المراد من «لا حرج» عدم جعل الحكم الحرجي.

الثّاني: ما اختاره المصنّف من أنّ المراد من «لا حرج» أنّ الموضوع المستلزم للحرج غير مجعول، ويظهر الفرق في أنّه لو لم يكن موضوع حرجيّ بنفسه لكنّه صار مجهولاً وأوجب الاحتياط في أطرافه الحرج، كان الاحتياط على مذاق الشّيخ غير مجعول؛ لأنّه قال بعدم جعل حكم حرجي، وذلك بخلاف المصنّف، فإنّه يرى وجوب الاحتياط؛ لأنّ الموضوع المجهول ليس في نفسه حرجيّاً وإنّما أوجب الجهل به الاحتياط وهذا الكلام يجري بعينه بالنسبة إلى أدلّة الضّرر، فلو كان الموضوع ضرريّاً - كما لو كان الماء مضرّاً كان الوضوء مرفوعاً على كلا القولين، أم لو لم يكن الماء مضرّاً وإنّما اشتبه الماء المطلق بالمضاف بحيث كان تعدّد الوضوء ضرراً - فعلى مبنى الشّيخ لا يجب الوضوء؛ لأنّ الشّارع لم يجعل حكماً يتولّد منه الضّرر ولو بواسطة خارجيّة كالجهل في المقام، وعلى مبنى المصنّف يجب الوضوء؛ لأنّ الوضوء بالماء المطلق ليس ضرريّاً فهو مجعول شرعاً، وتوليد الضّرر من الجهل ليس مرتبطاً بالشارع حتّى يرفع حكمه.

الثّالث: ما اختاره غير واحد من التفصيل بين الضّرر والحرج، بأنّ ظاهر أدلّة العسر ما اختاره الشّيخ وظاهر أدلّة الضّرر ما اختاره المصنّف.

لكن الإنصاف أنّ الأظهر مقالة الشّيخ، فإنّ المستفاد من الأدلّة في البابين هو عدم إيجاب الشّارع ما يسبّب ضرراً أو حرجاً على المكلّف ولو كان بواسطة، فإنّه من الإيقاع في الضّرر والحرج.

ألا ترى أنّ المولى لو قال لعبده: (لست أُريد منك ما يشقّ عليك) ثمّ كلّفه

ص: 100

لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج علىقاعدة الاحتياط؛ وذلك لما حقّقناه في معنى ما دلّ على نفي الضّرر والعسر، من أنّ التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف، أو الوضع - المتعلّقين بما يعمّهما - ، هو: نفيهما عنهما

___________________________________________

بتكليف أورث المشقّة إمّا بنفسه - كما لو كلّفه السّير فرسخين مشياً - وإمّا بواسطة - كما لو كلّفه الإتيان بإناء ماء - لكنّه اشتبه في ما هاهنا وما على رأس فرسخين ممّا يستلزم المشي لم ير العرف فرقاً بين الأمرين، فإنّ المشقّة في الصّورة الثّانية لم تكن على العبد لو لم يأمره المولى بإتيان الماء خصوصاً، وأنّ الحكم بالرفع امتناني فلا يفرق فيه الأمران.

وكيف كان، فعلى ما اختاره المصنّف من استظهار كون قاعدتي الحرج والضّرر إنّما هما بالنسبة إلى ما كان نفس الموضوع حرجيّاً أو ضرريّاً، فعدم وجوب الاحتياط في الأطراف - ممّا لا يبلغ الإخلال - محلّ نظر، بل منع {لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط} وإن كانت القاعدة حاكمة على الأدلّة الأوّليّة، فالوضوء إذا صار عسراً كان مرفوعاً بالقاعدة، أمّا الوضوء إذا لم يكن ضرريّاً وإنّما توجّه الضّرر من تكراره في صورة الجهل بالماء في البين، فإنّ قاعدة الضّرر لا ترفع وجوب مثل هذا الوضوء.

{وذلك لما حقّقناه في معنى ما دلّ على نفي الضّرر، و} نفي {العسر، من أنّ التوفيق بين دليلهما} أي: دليل الضّرر والعسر {ودليل التكليف أو الوضع} كدليل الوضوء أو دليل انعقاد البيع {المتعلّقين بما يعمّهما} أي: يعمّ الضّرر والعسر، فإنّ دليل الوضوء ودليل انعقاد البيع يقول: (توضّأ) وينعقد البيع سواء كان ضرريّاً أم لا، ودليل نفي الضّرروالعسر يقول: (لا ضرر ولا عسر) سواء كان في الوضوء أو البيع أو غيرهما، فالتوفيق بين هاتين الطّائفتين من الأدلّة {هو نفيهما} أي: نفي التكليف والوضع فلا وضوء ولا انعقاد للبيع {عنهما} أي: عن الضّرر والعسر،

ص: 101

بلسان نفيهما، فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل؛ لعدم العسر في متعلّق التكليف، وإنّما هو في الجمع بين محتملاته احتياطاً.

نعم، لو كان معناه نفيَ الحكم النّاشئ من قِبَله العسر - كما قيل(1)

- لكانت قاعدة نفيه محكمة على قاعدة الاحتياط؛ لأنّ العسر حينئذٍ يكون من قبل التكاليف المجهولة، فتكون منفية بنفيه.

___________________________________________

أي: لا تكليف ولا وضع في مورد الضّرر والعسر {بلسان نفيهما} أي: نفي الضّرر والعسر، فقد نفى الشّارع التكليف والوضع ولكن بلسان أنّه لا ضرر ولا عسر، فلم يقل: لا وضوء ولا انعقاد للبيع، بل قال: لا ضرر ولا عسر.

والحاصل: أنّه من قبيل نفي الحكم ولكن بلسان نفي الموضوع {فلا يكون له} أي: لدليل نفي الضّرر والعسر {حكومة على الاحتياط العسر إذا كان} هذا العسر {بحكم العقل} كما في ما نحن فيه، فإنّ التكاليف الأوّليّة الشّرعيّة ليست عسرة وإنّما نشأ العسر عن اشتباه تلك التكاليف في المظنونات والموهومات والمشكوكات فلا رفع {لعدم العسر في متعلّق التكليف، وإنّما هو} أي: العسر {في الجمع بين محتملاته احتياطاً} وذلك ممّا لا يرتبط بالمولى.{نعم، لو كان معناه} أي: معنى ما دلّ على نفي الضّرر والعسر {نفي الحكم النّاشئ من قبله العسر - كما قيل -} والقائل هو شيخنا المرتضى(رحمة الله) كما تقدّم، فلا تكليف عسري في الشّرع سواء كان عسراً أو صار سبباً للعسر {لكانت قاعدة نفيه} أي: نفي الضّرر والعسر {محكمة على قاعدة الاحتياط} كما أنّها محكمة على الأدلّة الأوّليّة {لأنّ العسر حينئذٍ} أي: حين لزوم الاحتياط {يكون من قبل التكاليف المجهولة فتكون} أي: التكاليف المجهولة {منفيّة بنفيه} أي: بنفي العسر، فقوله: (لا عسر) بمنزلة أن يقول: (لا تكاليف مجهولة).

ص: 102


1- فرائد الأصول 2: 460.

ولا يخفى: أنّه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف، بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها، بل لا بدّ من دعوى وجوبه شرعاً، كما أشرنا إليه في بيان المقدّمة الثّالثة، فافهم وتأمّل جيّداً.

و

___________________________________________

{و} حيث إنّ الشّيخ(رحمة الله) قال ببطلان الاحتياط التامّ - لكونه عسراً ومع ذلك قال بتأثير العلم الإجمالي في الباقي - أورد عليه المصنّف: بأنّه لو جاز ارتكاب بعض الأطراف لم يكن وجه للاحتياط في الباقي، إذ العلم الإجمالي ارتفع ولا دليل غيره، فإنّه {لا يخفى أنّه على هذا} الّذي ذكره الشّيخ من حكومة أدلّة الحرج على الاحتياط {لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها} أي: تمام الأطراف، وإنّما رفع اليد، لما تقدّم من لزوم العسروالحرج {بل لا بدّ من دعوى وجوبه} أي: الاحتياط في الباقي {شرعاً} من باب أنّ الشّارع لا يرضى بإهمال أحكامه، أو من جهة قيام الإجماع على ذلك لا من جهة العلم الإجمالي {كما أشرنا إليه في بيان المقدّمة الثّالثة، فافهم وتأمّل جيّداً}.

لكن ربّما يقال: إنّ الإشكال ليس وارداً على الشّيخ، بتقريب أنّه هل تنافي فعليّة الأحكام الواقعيّة مع الإذن في ارتكاب بعض الأطراف أم لا تنافي، فإن نافت بحيث إنّ الإذن في بعض الأطراف يكشف عن عدم الفعليّة لم يكن الإجماع منتجاً في إثبات الفعليّة، وكذا غير الإجماع من سائر الأدلّة، إذ كيف يمكن إثبات المنافي بالإجماع أو نحوه، وإن لم تكن فعليّة الأحكام منافية مع الإذن لم يكن الإذن في بعض الأطراف للعسر كاشفاً عن عدم الفعليّة ولم نحتج في إثباتها إلى دليل آخر، فتأمّل.

{و} حيث فرغنا من الجزء الأوّل من المقدّمة الرّابعة القائلة بعدم جواز الاحتياط

ص: 103

أمّا الرّجوع إلى الأصول؛ فبالنسبة للأُصول المثبتة - من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف - فلا مانع عن إجرائها عقلاً مع حكم العقل وعموم النّقل، هذا.

___________________________________________

في الأطراف ولا الرّجوع إلى الأصول، نشرع في الجزء الثّاني وهو عدم الرّجوع إلى الأصول العمليّة في أطراف العلم الإجمالي، فنقول: {أمّا الرّجوع إلى الأصول} العمليّه من براءة واحتياط واستصحاب {فبالنسبة للأُصول المثبتة} للتكليف {من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف، فلا مانع عن إجرائها} أي: تلك الأصول {عقلاً مع حكم العقلوعموم النّقل} ولا تصل النّبوة إلى الظّنّ، كيف ومرتبة الظّنّ متأخّرة عن مرتبة العلم والعلمي والأصول بين علم وعلمي؟

{هذا} ولكن قد يقال: إنّه لا يجوز إجراء الاستصحاب المثبت للتكليف في المقام؛ لأنّ ذلك موجب للتناقض. بيان ذلك: أنّه لا يجوز إجراء الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً لاستلزامه التناقض، فلو تنجّس أحد الإناءين الطّاهرين مردّداً بينهما لم يجز إجراء استصحاب الطّهارة، إذ جريان الاستصحاب في الطّرفين مستلزم للمناقضة مع ذلك العلم الإجمالي، فإنّ مقتضى الاستصحاب طهارتهما ومقتضى العلم نجاسة أحدهما، وذلك تناقض ظاهر، بالإضافة إلى أنّ شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي مستلزم للتناقض في أطراف دليل الاستصحاب الّذي هو قوله(علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن انقضه بيقين مثله» فإنّ «لا تنقض» يقول: أحكم بطهارة الأطراف حتّى لا تنقض علمك السّابق بالطهارة بسبب شكّك اللّاحق، إذ كلّ واحد من الإناءين معلوم الطّهارة سابقاً مشكوك النّجاسة فعلاً، وقوله: «ولكن تنقضه» يقول: انقض الطّهارة السّابقة لعلمك الإجمالي بنجاسة أحدهما فلو شمل دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي لزم التناقض في أطراف الدليل، ولذا لا يجوز إجراء الاستصحاب في أطراف المقام ممّا علمنا بوجود أحكام في المظنونات

ص: 104

ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي؛ لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله؛ بداهةَ تناقض حرمة النّقض في كلّ منها - بمقتضى: «لا تنقض» -

___________________________________________

والمشكوكات والموهومات، فلو شككنا في غنم شرب لبن كلب أنّه حلال أمحرام، لا يجوز إجراء استصحاب الحليّة؛ لأنّه ينافي العلم الإجمالي بوجود أحكام أوّلاً، وموجب للتناقض في أطراف الدليل - أي: «لا تنقض» - المقتضي للاستصحاب و«انقض» المقتضي لعدم الاستصحاب ثانياً.

أقول: لا يخفى أنّ هذا مثال للأصل النّافي للتكليف لا المثبت إلّا على بعض التقادير، فتأمّل.

هذا ولكن مع ذلك لا مانع من إجراء استصحاب النّافي في المقام، ولا يوجب ذلك تناقضاً أصلاً وإن قلنا به في سائر المقامات، وذلك لما سيأتي من عدم شكّ المجتهد في حال استنباط هذه المسألة، مثلاً، في سائر المسائل، بل هي مغفول عنها، فيكون الشّكّ في هذه المسألة - وهي من أطراف العلم الإجمالي - كالشكّ في الشّبهة البدويّة، فيجوز إجراء الاستصحاب فيها بلا محذور التناقض أصلاً.

والمتحصّل أنّ الاستصحاب يجري في المقام {ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي} في سائر المقامات، وإنّما لا يجري الاستصحاب في أطراف العلم في سائر المقامات {لاستلزام شمول دليله} أي: دليل الاستصحاب {لها} أي: لأطراف العلم الإجمالي {التناقض في مدلوله} أي: مدلول دليل الاستصحاب الّذي هو قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن انقضه بيقين مثله».

وإنّما يلزم التناقض ل- {بداهة تناقض حرمة النّقض في كلّ منها} أي: من أطراف العلم الإجمالي {بمقتضى «لا تنقض»} متعلّق بقوله: «حرمة» أي: يحرم النّقض

ص: 105

لوجوبه في البعض، كما هو قضيّة: «ولكن تنقضه بيقين آخر».

وذلك لأنّه إنّما يلزم في ما إذا كان الشّكّ في أطرافه فعليّاً، وأمّا إذا لم يكن كذلك،بل لم يكن الشّكّ فعلاً إلّا في بعض أطرافه، وكان بعض أطرافه الأُخر غير ملتفتٍ إليه فعلاً أصلاً - كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام، كما لا يخفى - فلا يكاد يلزم ذلك؛

___________________________________________

لقوله(علیه السلام): «لا تنقض» {لوجوبه} أي: وجوب النّقض متعلّق بقوله: «تناقض» أي: تناقض حرمة النقض لوجوب النّقض {في البعض} أي: بعض الأطراف {كما هو} أي: النّقض {قضيّة} أي: مقتضى قوله(علیه السلام) {«ولكن تنقضه بيقين آخر»}.

هذا كلّه وجه الإشكال في عدم جريان الاستصحاب في بعض الأطراف لو قلنا بانسداد باب العلم والعلمي.

{و} لكن هذا الإشكال لا يرد في ما نحن فيه فيجوز إجراء الاستصحاب في المسائل في باب الانسداد، و{ذلك لأنّه إنّما يلزم} التناقض {في ما إذا كان الشّكّ في أطرافه} أي: في أطراف المعلوم بالإجمال {فعليّاً} كما لو كان شاكّاً أنّ هذا الإناء نجس أم ذاك {وأمّا إذا لم يكن كذلك} بأن لم يكن الشّكّ فعليّاً {بل} كان بعض الأطراف مذهولاً عنه و{لم يكن الشّكّ فعلاً إلّا في بعض أطرافه} فقط {وكان بعض أطرافه الأُخر غير ملتفت إليه فعلاً أصلاً، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام، كما لا يخفى} فإنّه إذا توجّه إلى استنباط حكم غفل عن سائر المسائل، وإذا كان غافلاً عنها لم تكن تلك المسائل مجرى للأصل لأنّ الأصل إنّما هو يجري بالنسبة إلى الشّاكّ ومع الغفلة لا يكون شكّ، وإذا لم يلتفت إلّا إلى تلك المسألة الّتي يريد استنباطها لم يلزم من إجراء الأصل تناقض، إذ جريان الأصول فيجميع الأطراف يناقض العلم لا في بعضها، فإنّ الحكم بطهارة هذا الإناء لا يناقض العلم الإجمالي بالنجاسة وإنّما النّاقض للعلم جريان أصل الطّهارة في الإنائين {فلا يكاد يلزم ذلك} الّذي ذكر من التناقض، وهذا جواب

ص: 106

فإنّ قضيّة: «لا تنقض» ليس حينئذٍ إلّا حرمة النّقض في خصوص الطّرف المشكوك، وليس فيه علم بالانتقاض، كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له، فافهم.

ومنه قد انقدح: ثبوت حكم العقل وعموم النّقل بالنسبة إلى الأصول النّافية أيضاً،

___________________________________________

قوله: «وأمّا إذا لم يكن كذلك» {فإنّ قضيّة} أي: مقتضى {«لا تنقض» ليس حينئذٍ} أي: حين كون الشّكّ في بعض الأطراف فقط {إلّا حرمة النّقض في خصوص الطّرف المشكوك، وليس فيه} أي: في خصوص هذا الطّرف {علم بالانتقاض} إذ لا يعلم الشّخص انتقاض كلّ طرف عن حالته السّابقة {كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله} أي: شمول الدليل {له} أي: لهذا الطّرف المشكوك {فافهم} لعلّه إشارة إلى ما ذكره المشكيني(رحمة الله) بقوله: «إنّه يمكن فرض الالتفات للمجتهد في آن واحد إلى مقدار يحصل العلم الإجمالي بالانتقاض فيه، كما إذا سطر جميع موارد الأصول المثبتة في صحيفة ناظراً إليها أو مقداراً منها، بحيث علم إجمالاً بالانتقاض، فلا يتمّ دعوى الكليّة، ولعلّ أمره بالفهم إشارة إليه»(1)، انتهى.

هذا مضافاً إلى أنّ الفقيه لو أجرى الأصل في المسائل تدريجاً علم أخيراًبالانتقاض فكيف يمكن إثبات تلك المسائل في رسالته للرجوع إليها؟! وفي المقام مناقشات أُخر لا مجال لإيرادها.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من عدم لزوم محذور من إجراء الأصول المثبتة في حال الانسداد من غير فرق بين الاحتياط والاستصحاب {قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النّقل بالنسبة إلى الأصول النّافية} للتكليف {أيضاً} فإنّ قوله(علیه السلام): «لا تنقض اليقين» وقوله: «رفع ما لا يعلمون» وحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان، كما يشمل مواضعها في حال الانفتاح كذلك يشمل مواضعها في حال

ص: 107


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 404.

وأنّه لا يلزم محذورُ لزوم التناقض من شمول الدليل لها، لو لم يكن هناك مانع - عقلاً أو شرعاً - من إجرائها، و

___________________________________________

الانسداد، وكما يشمل لا تنقض الإثبات كذلك يشمل النّفي.

وما يتوهّم من كونه مانعاً عن جريان هذه الأصول أحد ثلاثة أُمور:

[1] الإجماع على لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

[2] والعلم الإجمالي الموجب للتّناقض لو أجرينا الأصول النّافية.

[3] أو استكشاف اهتمام الشّارع بتكاليفه بحيث لا يرضى بإجراء الأصول النّافية.

وليس شيء منها مانعاً إذا حصلنا على مقدار كاف من الأحكام من العلم والعلمي والأصول المثبتة.

{و} ممّا تقدّم تعرف {أنّه لا يلزم} من إجراء الأصول النّافية {محذور لزوم التناقض} بين المعلوم بالإجمال وبين الأصول النّافية {من شمول الدليل لها} أي: للأُصول النّافية، فإنّالتناقض إنّما يلزم إذا كان الفقيه في حال إجراء الأصل النّافي في بعض الأطراف ملتفتاً إلى سائر المسائل، أمّا مع الغفلة فلا مانع عن الإجراء، كما عرفت في الأصول المثبتة، ف- {لو لم يكن هناك} في مورد جريان الأصول {مانع عقلاً أو شرعاً من إجرائها} لم يكن بأس بإجرائها من ناحية العلم الإجمالي.

{و} إن قلت: كيف يجوز إجراء الأصول والمانع عنها موجود، فإنّ الدليل يقول: «رفع ما لا يعلمون»، ويقول بقبح العقاب بلا بيان، ومن المعلوم أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف بيان وعلم فكيف تجرون البراءة؟! وهكذا بالنسبة إلى الاستصحاب، فإنّ دليله يقول: «لا تنقض اليقين بالشكّ»، وفي المقام نقض لليقين باليقين، وكذلك بالنسبة إلى الأصل التخيير؟!

ص: 108

لا مانع كذلك لو كانت موارد الأصول المثبتة - بضميمة ما علم تفصيلاً، أو نهض عليه علمي - بمقدار المعلوم إجمالاً، بل بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط، وإن لم يكن بذاك المقدار، ومن الواضح أنّه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.

___________________________________________

قلت: {لا مانع كذلك} أي: عقلاً وشرعاً من إجراء هذه الأصول {لو كانت موارد} ها لا تنافي العلم الإجمالي، إذ المانع إنّما هو العلم فإذا ارتفع لم يبق مانع لا من جهة العلم ولا من جهة استكشاف اهتمام الشّارع الموجب لجعل الاحتياط، وحيث إنّ العلم الإجمالي منحلّ فلا مانع، فإنّ {الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلاً أو نهض عليه} دليل {علمي} تكون {بمقدار المعلوم إجمالاً، بل} لو سلّمنا أنّها لا تفي بمقدار العلمالإجمالي حتّى ينحلّ فلا أقلّ من أنّها {بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط وإن لم يكن بذاك المقدار} الموجب للإنحلال، فلو لم ينحلّ العلم الإجمالي فلا أقلّ من أنّه لو عمل الإنسان بمقدار علمه وعلميّه والأصول المثبتة، لا يبقى مقدار معتدّ به من المشتبهات يوجب العلم باهتمام الشّارع بها حتّى أنّه لا يرضى بإهمالها، فأوجب الاحتياط لدركها حتّى لا يجوز إجراء الأصول النّافية، بل المقدار الباقي قليل جدّاً، فيشمل المشكوكات الباقية أدلّة الأصول الشّاملة للنافية منها فلا مانع من إجراء البراءة والتخيير واستصحاب النّفي.

مثلاً: لو كانت المشكوكات ألفاً، وعلمنا إجمالاً بأنّ ربعها أحكام، ثمّ ظفرنا ببركة العلم والعلمي والأصول المثبتة على مائتين وأربعين منها جاز إجراء الأصول النّافية في بقيّة المشكوكات؛ لأنّ العشرة الباقية ليست من الأهميّة بحيث لا يرضى الشّارع بتركها حتّى يوجب الاحتياط في جميع المشكوكات.

{ومن الواضح أنّه يختلف} هذا الاستكشاف لعدم اهتمام الشّارع بالباقي أو استكشاف اهتمامه {باختلاف الأشخاص والأحوال} فربّما يستكشف شخص

ص: 109

وقد ظهر بذلك: أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف ربّما ينحلّ ببركة جريان الأصول المثبتة وتلك الضّميمة، فلا موجب حينئذٍ للاحتياط عقلاً ولا شرعاً أصلاً، كما لا يخفى.

كما ظهر: أنّه لو لم ينحل العلم الإجمالي بذلك، كان خصوص موارد الأصول النّافية، مطلقاً - ولو من مظنونات عدم التكليف - محلّاً للاحتياط فعلاً - ويرفع اليد عنه فيها كلّاً أو بعضاً،

___________________________________________

دون شخص أو يستكشف في حال دون حال.{وقد ظهر بذلك} الّذي ذكرنا من كفاية المقدار المحصّل من الأحكام بالعلم والعلمي والأصول المثبتة {أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف} في المشكوكات والمظنونات والموهومات {ربّما ينحلّ ببركة جريان الأصول المثبتة وتلك الضّميمة} وهي العلم والعلمي {فلا موجب حينئذٍ} أي: حين الانحلال {للاحتياط عقلاً} لعدم العلم الإجمالي {ولا شرعاً} لعدم استكشاف اهتمام الشّارع {أصلاً، كما لا يخفى، كما ظهر أنّه لو لم ينحلّ العلم الإجمالي بذلك} المقدار المحصّل من العلم والعلمى والأصول المثبتة {كان} اللّازم رفع اليد عن الأصول النّافية فقط بالعمل بالاحتياط في مواردها، لا رفع اليد عن الأصول مطلقاً حتّى مثبتها بالعمل بالاحتياط في جميع موارد الأصول النّافية والمثبتة، كما ذكره الشّيخ(رحمة الله)، فإنّه حينئذٍ يكون {خصوص موارد الأصول النّافية مطلقاً} سواء كان مظنوناً أو مشكوكاً أو موهوماً.

وإلى ذلك أشار بقوله: {ولو من مظنونات عدم التكليف} أي: الموهومات {محلّاً للاحتياط فعلاً، ويرفع اليد عنه} أي: عن الأصل النّافي للتكليف {فيها} أي: في تلك الموارد {كلّاً} فلا يجري الأصل النّافي في جميع المشكوكات والموهومات والمظنونات {أو بعضاً} كأن لا يجري الأصل النّافي في موهومات التكليف.

ص: 110

بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر على ما عرفت - ، لا محتملات التكليف مطلقاً.

وأمّا الرّجوع إلى فتوى العالم: فلا يكاد يجوز؛ ضرورة أنّه لا يجوز إلّا للجاهل، لا للفاضل الّذي يرى خطأ من يدّعي انفتاح باب العلم أوالعلمي، فهل يكون رجوعه

___________________________________________

مثلاً: {بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر} يعني أنّ مقتضى القاعدة حين عدم الانحلال الاحتياط في جميع موارد الأصول النّافية، لكن نرفع اليد عن الاحتياط في بعضها حتّى لا يلزم اختلال للنظام أو عسر وحرج {على ما عرفت} سابقاً من عدم جريان الاحتياط في جميع الأطراف إذا استلزم اختلالاً أو عسراً {لا محتملات التكليف مطلقاً} عطف على قوله: «خصوص موارد الأصول» أي: إنّ الاحتياط يكون في موارد الأصول النّافية فقط لا في جميع موارد احتمال التكليف مطلقاً، سواء كان مجرى للأُصول النّافية أو المثبتة، إذ لا وجه لرفع اليد عن الأصول المثبتة بعد انحلال العلم الإجمالي بالاحتياط في مورد الأصول النّافية بضميمة العلم والعلمي والأصول المثبتة، كما ذهب إليه الشّيخ - رحمة اللّه عليه - .

وبهذا كلّه تحقّق أنّ المقدّمة الرّابعة للانسداد لم تتمّ، إذ الشّقّ الثّاني من المقدّمة كان يقول بعدم جواز الرّجوع إلى الأصول العمليّة ولا إلى فتوى المجتهد حتّى يكون الظّنّ المطلق حجّة، وقد عرفت أنّه يجوز الرّجوع إلى الأصول فلا مجال لحجيّة الظّنّ المطلق. نعم، ذيل الشّقّ الثّاني من المقدّمة - وهو عدم جواز الرّجوع إلى فتوى المجتهد - تامّ.

وإليه أشار بقوله: {وأمّا الرّجوع إلى فتوى العالم} سواء كان انفتاحيّاً أم انسداديّاً {فلا يكاد يجوز، ضرورة أنّه لا يجوز} التقليد {إلّا للجاهل لا للفاضل} من المجتهدين {الّذي يرى خطأ من يدّعي انفتاح باب العلم أو العلمي} أو يرى انسداده ثمّ وصل ظنّه إلى كون الحكم كذا {فهل يكون رجوعه} أي: هذا العالم الانسدادي

ص: 111

إليه بنظره إلّا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل؟

وأمّا المقدّمة الخامسة: فلاستقلال العقل بها، وأنّه لا يجوز التنزّل - بعد عدم التمكّن من الإطاعة العلميّة، أو عدم وجوبها - إلّا إلى الإطاعة الظّنيّة، دون الشّكّيّة أو الوهميّة؛ لبداهة مرجوحيّتهما بالإضافة إليها، وقبحِ ترجيح المرجوح على الرّاجح.

لكنّك عرفت عدم وصول النّوبة إلى الإطاعة الاحتماليّة، مع دوران الأمر بين الظّنيّة والشّكّيّة والوهميّة، من جهة ما أوردناه على المقدّمة الأُولى

___________________________________________

{إليه} أي: إلى مجتهد آخر {بنظره} أي: بنظر هذا العالم الانسدادي {إلّا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل} أو إلى مثله ممّن لا يجوز له تقليده؟

{وأمّا المقدّمة الخامسة} من مقدّمات الانسداد الّتي هي قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح {ف-} هي قطعيّة لا مناقشة فيها {لاستقلال العقل بها} وهذا وإن كان في الأُمور غير المهمّة لا بأس بها فلا ملامة عليها، ولذا نرى العقلا لا يلومون من يترك القرص الأجود إلى القرص الجيّد بدون أيّ سبب، لكنّه في الأُمور المهمّة بالأخصّ مثل الأحكام غير جائز لديهم {وإنّه لا يجوز التنزّل بعد عدم التمكّن من الإطاعة العلميّة أو عدم وجوبها} في ما كان الاحتياط عسراً {إلّا إلى الإطاعة الظّنيّة دون الشّكّيّة أو الوهميّة} فإنّ الظّنّ كاشف في الجملة بخلافهما فهو أرجح منهما {لبداهة مرجوحيّتهما بالإضافة إليها} أي: إلى الإطاعة الظّنيّة {وقبح ترجيحالمرجوح على الرّاجح}.

وهذه المقدّمة وإن كانت في نفسها تامّة {لكنّك عرفت} من مطاوي الإيرادات على المقدّمات {عدم وصول النّوبة إلى الإطاعة الاحتماليّة مع دوران الأمر بين} الإطاعة {الظّنيّة والشّكّية والوهميّة} حتّى توجب المقدّمة الخامسة تقدّم الظّنيّة عليهما فيتحقّق دليل الانسداد القائل بحجيّة الظّنّ مطلقاً، وإنّما قلنا بعدم وصول النّوبة {من جهة ما أوردناه على المقدّمة الأُولى} القائلة بعلمنا إجمالاً

ص: 112

من: انحلال العلم الإجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة، وقضيّتُه الاحتياط بالالتزام عملاً بما فيها من التكاليف، ولا بأس به؛ حيث لا يلزم منه عسر، فضلاً عمّا يوجب اختلال النّظام.

وما أوردناه على المقدّمة الرّابعة من جواز الرّجوع إلى الأصول مطلقاً، ولو كانت نافية؛ لوجود المقتضي وفقد المانع عنه،

___________________________________________

بتكاليف كثيرة {من انحلال العلم الإجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة} فلا علم إجمالي في البين حتّى ينفي عليه سائر المقدّمات {وقضيّته} أي: مقتضى انحلال العلم الإجمالي بما في الكتب انحصار دائرة {الاحتياط} بأخبار الكتب لا بكلّ مشكوك وموهوم ومظنون، وذلك {بالالتزام عملاً بما فيها} أي: في الكتب {من التكاليف} الإيجابيّة والتحريميّة {ولا بأس به} أي: بهذا الاحتياط الضّيّق النّطاق {حيث لا يلزم منه عسر فضلاً عمّا يوجب اختلال النّظام} فإنّ التكاليف الإلزاميّة الموجودة في الكتب الّتي هي محلّ ابتلاء كلّ مكلّف معدودة، منتهى الأمر أنتزيد على التكاليف الانفتاحيّة بمقدار الرّبع أو أقلّ، ومن الواضح أنّ الاحتياط لا يلزم حينئذٍ عسراً أو اختلالاً.

{وما أوردناه} عطف على قوله: «من جهة ما أوردناه على المقدّمة الأُولى» يعني: أنّ المقدّمة الخامسة لا تصل النّوبة إليها من جهة ما أوردناه {على المقدّمة الرّابعة} القائلة بأنّه لا يجب علينا الاحتياط ولا الرّجوع إلى الأصول أو التقليد {من جواز الرّجوع إلى الأصول مطلقاً ولو كانت} تلك الأصول {نافية} للتكليف كالاستصحاب النّافي والبراءة والتخيير {لوجود المقتضي} للرجوع إلى الأصول - وهو عموم أدلّتها للمقام - {وفقد المانع عنه} أي: عن المقتضي؛ لأنّه إمّا الإجماع أو استكشاف الاحتياط من اهتمام الشّارع أو العلم الإجمالي، وقد تقدّم أنّ شيئاً منها لا يصلح للمنع.

ص: 113

لو كان التكليف - في موارد الأصول المثبتة، وما علم منه تفصيلاً، أو نهض عليه دليل معتبر - بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلّا فإلى الأصول المثبتة وحدها.

وحينئذٍ كان خصوص موارد الأصول النّافية محلّاً لحكومة العقل، وترجيح مظنونات التكليف فيها على غيرها، ولو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعاً،

___________________________________________

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الرّجوع إلى الأصول النّافية إنّما هو {لو كان التكليف في موارد الأصول المثبتة} للتكليف {و} في {ما علم منه} أي: من التكليف {تفصيلاً أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلومبالإجمال} فإنّه لو علمنا بقدر علمنا الإجمالي بهذه الأُمور الثلاثة العلم والعلمي والأصول المثبتة جاز الرّجوع إلى الأصول النّافية {وإلّا} يكن هذه الثلاثة بمقدار علمنا الإجمالي، بل بقي العلم الإجمالي لم يجز الرّجوع إلى الأصول النّافية {ف-} يجوز الرّجوع {إلى الأصول المثبتة وحدها} كما تقدّم كلّ ذلك، وتقدّم أيضاً جواز الرّجوع إلى الأصول النّافية لو لم تف الثلاثة بعلمنا الإجمالي ولكن كان الزائد عنه بمقدار لا يستكشف فيه الاحتياط من اهتمام الشّارع {وحينئذٍ} أي: حين لم يجز الرّجوع إلى الأصول النّافية {كان خصوص موارد الأصول النّافية محلّاً لحكومة العقل} بأن تنعقد مقدّمات الانسداد في خصوص هذه الموارد.

{و} حينئذٍ يحكم العقل ب- {ترجيح مظنونات التكليف فيها} أي: في تلك الموارد {على غيرها} أي: غير المظنونات من المشكوكات والموهومات {ولو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعاً} «لو» وصليّة مرتبطة بقوله: «وحينئذٍ كان خصوص موارد الأصول النّافية» الخ، يعني أنّ الرّجوع إلى الظّنّ في موارد الأصول النّافية - بعد عدم جريان الأصل فيها - لا يتوقّف على القول بالعلم الإجمالي العام، بل يحكم فيها الظّنّ بسبب استكشاف وجوب الاحتياط عن اهتمام الشّارع بما بقي من الأحكام - وإن ظفرنا على أغلبها بالعلم والعلمي

ص: 114

بعد عدم وجوب الاحتياط التامّ شرعاً أو عقلاً، على ما عرفت تفصيله.

هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النّظر الدقيق، فافهم وتدبّر جيّداً.

فصل: هل قضيّة المقدّمات - على تقديرسلامتها - هي حجيّة الظّنّ بالواقع، أو بالطريق، أو بهما؟

___________________________________________

والأصول المثبتة - {بعد عدم وجوب الاحتياط التامّ} في جميع أطراف العلم الإجمالي العام {شرعاً} لأدلّة نفي الحرج {أو عقلاً} للزومه اختلال النّظام {على ما عرفت تفصيله}.

و{هذا} الّذي ذكرنا من عدم تماميّة مقدّمات الانسداد فلا يكون الظّنّ حجّة {هو التحقيق على ما يساعد عليه النّظر الدقيق، فافهم وتدبّر جيّداً}.

ثمّ لا يخفى أنّ القائلين بالانسداد لا يخرجون في طرق استدلالاتهم واستنتاجاتهم عن طرق القائلين بالانفتاح، ولذا نرى فتوى الانسدادي والانفتاحي كفتوى الانفتاحيين، فإنّ الانسدادي أيضاً يرجع إلى الأدلّه الأربعة من الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل، لا كما ربّما توهّم من أنّهم يعملون بكلّ ظنّ ولو من طيران الغراب أو جريان الميزاب، لكنّهم حيث لم يتمكّنوا من إثبات حجيّة الأخبار - على ما يذهب إليه الانفتاحي - أُجبروا على القول بحجيّة الظّنّ المطلق ليعملوا بالأخبار من هذا الباب.

[فصل الظّنّ بالطريق والظن بالواقع]

المقصد السّادس: في الأمارات، الظّنّ بالطريق والظن بالواقع

{فصل} في بيان أنّ الظّنّ في حال الانسداد مطلقاً حجّة، سواء كان بالطريق أو الواقع، أو الظّنّ بالطريق حجّة فقط، أو الظّنّ بالواقع حجّة فقط.

{هل قضيّة المقدّمات} الخمس المذكورة {على تقدير سلامتها} من الإيراد {هي حجيّة الظّنّ بالواقع، أو} حجيّة الظّنّ {بالطريق، أو} حجيّة الظّنّ {بهما}؟

فعلى الأوّل: يكون الظّنّ حجّة إذا قام بالواقع، كما لو ظننّا أنّ التبغ حلال،دون

ص: 115

أقوال:

والتحقيق أن يقال: إنّه لا شبهة في أنّ هَمّ العقل في كلّ حال، إنّما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة، من العقوبة على مخالفتها.

كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمّن منها، وفي أنّ كلّ ما كان القطع به مؤمّناً في حال الانفتاح، كان الظّنّ به مؤمّناً حالَ الانسداد جزماً،

___________________________________________

ما لو ظننّا بالطريق، كما لو قام الخبر الّذي هو مظنون بكون التبغ حلالاً.

وعلى الثّاني: لا يكون الظّنّ بحليّة التبغ موجباً للحليّة، بل إنّما يكون الحجيّة للظنّ بالخبر الّذي قام على الحليّة.

وعلى الثّالث: لا يفرق الأمر بين أن يقوم الظّنّ على الحكم أو على الطّريق.

والحاصل: أنّ الأولين يرون أنّ الظّنّ يلزم أن يتعلّق بالأحكام الفرعيّة حتّى يكون حجّة، سواء حصل هذا الظّنّ بالواقع بسبب طريق مظنون أم لا، والآخرين يرون عكس ذلك، وأنّ الظّنّ يلزم أن يتعلّق بالطّرق كالشهرة، وخبر الواحد، والإجماع، ونحوها، سواء ظنّ بالواقع الّذي هو مؤدّى هذه الطّرق أم لا، والقول الثّالث هو حجيّة الظّنّ مطلقاً سواء تعلّق بالحكم الفرعي أو بالطّريق {أقوال}:

الّذي اختاره الشّيخ(رحمة الله)(1) والمصنّف هو القول الثّالث {والتحقيق أن يقال: إنّه لا شبهة في أنّ همّ العقل في كلّ حال} سواء الانفتاح أو الانسداد {إنّما هوتحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة} تفصيلاً أو إجمالاً {من العقوبة على مخالفتها} بيان للتبعة المترتّبة على التكاليف المعلومة {كما لا شبهة في استقلاله} أي: العقل {في تعيين ما هو المؤمّن منها} أي: من تلك التبعة {وفي أنّ كلّ ما كان القطع به مؤمّناً في حال الانفتاح كان الظّنّ به مؤمّناً حال الانسداد جزماً} هذا

ص: 116


1- فرائد الأصول 1: 437.

وأنّ المؤمِّن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلّف به الواقعي بما هو كذلك - لا بما هو معلوم، ومؤدّى الطّريق، ومتعلّقُ العلم، وهو طريقٌ شرعاً وعقلاً - أو بإتيانه الجعلي؛ وذلك لأنّ العقل قد استقلّ بأنّ الإتيان بالمكلّف به الحقيقي بما هو هو - لا بما هو مؤدّى الطّريق - مبرئ للذمّة قطعاً.

___________________________________________

بيان لقوله: «تعيين ما هو المؤمّن» {وأنّ المؤمّن في حال الانفتاح هو القطع} بأحد أمرين:

الأوّل: {بإتيان المكلّف به الواقعي بما هو كذلك} أي: مكلّف به واقعاً {لا بما هو معلوم ومؤدّى الطّريق ومتعلّق العلم}، فإنّ المناط الواقع لا الواقع المقيّد بكونه معلوماً أو مؤدّى الطّريق أو متعلّق - بالفتح - العلم {وهو} أي: العلم {طريق شرعاً وعقلاً} فليس طريقاً مجعولاً - كالأمارات والطّرق - حتّى أنّ الشّارع لو لم يجعله لم يكن طريقاً، فليس له دخل في الموضوع.

وهذه الجملة كتأكيد لما سبق من أنّ المكلّف به هو الواقع فقط لا الواقع بقيد كونه معلوماً.الثّاني: {أو بإتيانه} أي: بإتيان المكلّف به {الجعلي} بأن قامت أمارة أو أصل على الحكم فتعلّق القطع بذلك.

والحاصل: أنّ العقل يحكم بأنّ المؤمّن هو الإتيان بالواقع الحقيقي أو الواقع الجعلي.

{وذلك} الّذي ذكرنا من كون المؤمّن حال الانفتاح هو الإتيان بأحد الأمرين {لأنّ العقل قد استقلّ بأنّ الإتيان بالمكلّف به الحقيقي بما هو هو - لا بما هو مؤدّى الطّريق - مبرئ للذمّة قطعاً}.

فمن يقول بأنّ الأحكام قيّدت بالطرق حتّى أنّها لا تكفي إلّا إذا جاءت عن الطّرق، ليس لكلامه دليل، لما ذكرنا من أنّ العقل يرى وجوب إطاعة المولى

ص: 117

كيف؟ وقد عرفت: أنّ القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثاً وإمضاءً، إثباتاً ونفياً. ولا يخفى: أنّ قضيّة ذلك هو التنزّل إلى الظّنّ بكلّ واحد من الواقع أو الطّريق.

ولا منشأ لتوهّم الاختصاص بالظنّ بالواقع، إلّا توهّم

___________________________________________

بالإتيان بأحكامه، لا الإتيان بأحكامه المقيّدة بطرق خاصّة حتّى نقول بمثل ذلك في حال الانسداد وأنّ المعتبر هو الواقع المظنون بأن يكون المكلّف به هو الواقع بقيد كونه مظنوناً، وسيأتي تفصيل هذا الكلام عند التعرّض لكلام صاحب الحاشية على المعالم.

و{كيف} يكون المكلّف به هو الواقع المقيّد بالطريق {وقد عرفت} في أوّل مبحث القطع من الكتاب {أنّ القطع بنفسه طريق}إلى الأحكام لا جزء موضوع حتّى يكون الواقع بما هو مقطوع مورداً للإطاعة والمعصية، ف- {لا يكاد تناله} أي: القطع الطّريقي {يد الجعل إحداثاً وإمضاءً، إثباتاً ونفياً} بأن يحدث الشّارع الطّريقيّة للقطع، أو يمضي طريقيّته، أو ينفي الطّريقيّة.

{ولا يخفى أنّ قضيّة ذلك} أي: مقتضى كون المؤمّن حال الانفتاح هو القطع بأحد أمرين:

الواقع الحقيقي أو الجعلي {هو التنزّل إلى الظّنّ} في حال الانسداد {بكلّ واحد من الواقع} كأن يظنّ حرمة التبغ {أو الطريق} كأن يظن حجيّة خبر الواحد القائل بحرمة التبغ - وإن لم يظن بحرمة التبغ - {ولا منشأ لتوهّم الاختصاص} أي: اختصاص حجيّة الظّنّ في حال الانسداد {بالظنّ بالواقع} فقط حتّى أنّه لو ظنّ أنّ خبر الواحد - مثلاً - حجّة لم يفد ذلك في العمل بمؤدّاه {إلّا توهّم} أنّ مقدّمات دليل الانسداد إنّما هي بالنسبة إلى الفروع الفقهيّة، لما تقدّم من كون المكلّف به المعلوم إجمالاً هو الأحكام الشّرعيّة، وعليه فالانسداد لا يكون إلّا

ص: 118

أنّه قضيّة اختصاص المقدّمات بالفروع، - لعدم انسداد باب العلم في الأصول، وعدم إلجاء في التنزّل إلى الظّنّ فيها - . والغفلة عن أنّ جريانها في الفروع، موجبٌ لكفاية الظّنّ بالطريق في مقام تحصيل الأمن من عقوبة التكاليف، وإن كان باب العلم في غالب الأصول مفتوحاً، وذلك لعدم التفاوت في نظر العقل - في ذلك - بين الظّنّين.

___________________________________________

بالنسبة إلى الفروع، ويكون الظّنّ بالفرع حجّة، أمّا الأصول - أعني: الطّرق إلى الأحكام، كالإجماع والخبر والشّهرة - فإنّها لمّا لم تجر فيها مقدّمات الانسداد لم يكن الظّنّ حجّة بالنسبة إليها.

والحاصل: {أنّه} أي: اختصاص الحجيّة بالظنّ بالحكم {قضيّة} أي: مقتضى {اختصاص المقدّمات بالفروع لعدم انسداد باب العلم في الأصول} فإنّما نتمكّن من تحصيل العلم والعلمي بالطرق والأمارات، كأن نعلم بانّ الخبر حجّة، أو يقوم على حجيّته دليل معتبر، فلا مجال لجريان مقدّمات الانسداد في هذا الباب، بأن يقال: إنّا نعلم إجمالاً بأنّ في المقام طرقاً ولا يمكن تركها ولا الاحتياط فيها، فاللّازم الأخذ بمظنون الطّريقيّة وترك غيرها من المشكوك والموهوم.

{و} بهذا تبيّن {عدم إلجاء} موجب {في التنزّل إلى الظّنّ فيها} أي: في الأصول.

هذا غاية تقريب دليل من أوجب حجيّة الظّنّ في حال الانسداد بالفروع.

{و} الجواب: أنّ سبب هذا التخصيص هو {الغفلة عن} ما ذكرناه سابقاً، ف- {أنّ جريانها} أي: جريان مقدّمات الانسداد {في الفروع} كما سلّمه الخصم {موجب لكفاية الظّنّ بالطريق في مقام تحصيل الأمن من عقوبة التكاليف، وإن كان باب العلم في غالب الأصول مفتوحاً} بأن لم تجر المقدّمات في هذا الباب {وذلك} الّذي ذكرنا من حجيّة الظّنّ بالطريق - ولو كان باب العلم فيها مفتوحاً - {لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك} أي: في كفاية الظّنّ {بين الظّنّين} الظّنّ

ص: 119

كما أنّ منشأ توهّم الاختصاص بالظنّ بالطريق وجهان:

أحدهما: ما أفاده بعضُ الفحول(1)،

وتبعه في الفصول(2)

___________________________________________

بالطريق أو الظّنّ بالحكم، فإنّ العقل يرى حجيّة الظّنّ في حال انسداد العلم بالأحكام، كما يرى حجيّة القطع في حال الانفتاح، وكما لا فرق في حال الانفتاح بين القطع بالواقع أو الطّريق كذلك لا يفرق في حال الانسداد بين الظّنّ بالواقع أو الطّريق.

هذا تمام الكلام في ردّ من توهّم اختصاص حجيّة الظّنّ الانسدادي بالظنّ بالواقع، وهنا قول بعكس ذلك وهو اختصاص الظّنّ الانسدادي بالظنّ بالطريق، أمّا الظّنّ بالواقع فلا حجيّة فيه، فإذا ظنّ بحرمة التبغ في حال الانسداد لم يجز له العمل على طبقه.

نعم، لو ظنّ بحجيّة الخبر الواحد وقام على حرمة التبغ وجب اتّباعه - سواء ظنّ بالحرمة أم لا - وإليه أشار بقوله: {كما أنّ منشأ توهّم الاختصاص} أي: اختصاص حجيّة الظّنّ في حال الانسداد {بالظنّ بالطريق} فقط {وجهان}:

{أحدهما: ما أفاده بعض الفحول} وهو المحقّق الشّيخ محمّد تقي في حاشيته على المعالم {وتبعه في الفصول} بما حاصله:

أنّا مكلّفون بأحكام واقعيّة، ثمّ إنّ الشّارع جعل طرقاً لتلك الأحكام، فانحلّالعلم الإجمالي بالأحكام الواقعيّة إلى ما في تلك الطّرق، فإذا لم يمكن الاحتياط بما في هذه الطّرق فاللّازم الرّجوع إلى الظّنّ فيها، ولا مجال للرجوع إلى الظّنّ بالواقع لما سبق من انحلال العلم الإجمالي بالواقع إلى ما في الطّرق.

ص: 120


1- حكاه في حقائق الأصول 2: 174؛ عن هداية المسترشدين 3: 360؛ وقيل: أن بعض الفحول هو المحقّق التستري في كشف القناع عن وجوه حجيّة الإجماع: 460.
2- الفصول الغرويّة: 277.

قال فيها:

«إنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون - في زماننا هذا - تكليفاً فعليّاً بأحكام فرعيّة كثيرة، لا سبيل لنا - بحكم العيان وشهادة الوجدان - إلى تحصيل كثير منها بالقطع، ولا بطريق معيّن يقطع من السّمع - بحكم الشّارع - بقيامه، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره،

___________________________________________

{قال فيها: «إنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفاً فعليّاً بأحكام فرعيّة كثيرة لا سبيل لنا بحكم العيان} أي: ما نشاهده من اضطراب الأخبار سنداً ودلالة وجهة صدور، وما نشاهده من اختلاف الفقهاء تبعاً لذلك في الأحكام اختلافاً كبيراً {وشهادة الوجدان} فإنّ الوجدان يشهد بأنّ هذا الاضطراب الّذي رافق وقت صدور الأخبار من التقيّة وانحراف بعض الرّواة وكثرة دواعي الأعداء لطمس هذه الآثار بسبب اختفاء الأحكام {إلى تحصيل كثير منها بالقطع} أي: نحصلها تحصيلاً قطعيّاً لا شوب إشكال فيها {ولا بطريق معيّن} كخبر الواحد - مثلاً - بحيث كان هذا الطّريق {يقطع من السّمع} أي: يكون القطع بسبب سماعنا حجيّة هذا الطّريق {بحكم الشّارع بقيامه} أي: قيام ذاك الطّريق {أو قيام طريقه} أي: طريق الطّريق {مقام القطع} والطّريق مثل خبر الواحد، وطريق الطّريق مثل الإجماع في ما لو قام على حجيّة الخبر،يعني انسدّ باب الأحكام علينا؛ لأنّ الحكم يحصل بأحد الطّرق وهي القطع به، والقطع بحجيّة الخبر الواحد القائم على الحكم، والقطع بحجيّة الإجماع الّذي قام على حجيّة الخبر الواحد الّذي قام على الحكم وحيث انتفت هذه الطّرق إلى الحكم كان اللّازم الرّجوع إلى شيء آخر {ولو عند تعذّره} أي: تعذّر القطع بالحكم، يعني ليس طريق مقطوع إلى الحكم، ولو كان ذلك الطّريق طريقاً عند تعذّر القطع بالحكم.

ص: 121

كذلك نقطع بأنّ الشّارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقاً مخصوصاً، وكلّفنا تكليفاً فعليّاً بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة، وحيث إنّه لا سبيل غالباً إلى تعيينها بالقطع، ولا بطريق يقطع من السّمع بقيامه بالخصوص، أو قيامِ طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره، فلا ريب أنّ الوظيفة - في مثل ذلك - بحكم العقل،

___________________________________________

والحاصل: أنّا كما نقطع أنّا مكلّفون بأحكام واقعيّة {كذلك نقطع بأنّ الشّارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقاً مخصوصاً} ابتدائيّاً أو إمضائيّاً؛ لأنّ ذلك ديدن العقلاء، فإنّهم يجعلون لأحكامهم طرقاً لتقوم الحجّة على من قامت عنده، ويكون معذّراً لمن لم تقم عنده. ومن الواضح أنّ الشّارع سيّد العقلاء، وأنّه لا يعدو الطّريقة العقلائيّة {وكلّفنا تكليفاً فعليّاً بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة} ولا تنافي بين قوله: «طريقاً» وقوله: «طرق»، إذ المراد بالأوّل الجنس، كما لا يخفى.

{وحيث إنّه لا سبيل غالباً إلى تعيينها} أي: تعيين تلك الطّرق المجعولة {بالقطع} بأن نقطع بتلك الطّرق وأنّها مجعولة للشارع، كأن نقطع أنّ خبر الواحد حجّة وطريق شرعيّ إلى الأحكام{ولا} إلى تعيينها {بطريق} كالإجماع القائم على حجيّة الخبر {يقطع من السّمع بقيامه بالخصوص} أي: بقيام ذلك الطّريق {أو قيام طريقه} أي: طريق الطّريق {كذلك} أي: بالخصوص {مقام القطع}.

والحاصل: أنّ في المقام حكماً وطريقاً، وليس لنا إلى أحدهما سبيل؛ لأنّ السّبيل القطع أو الطّريق أو الطّريق إلى الطّريق، وهذه الأُمور الثلاثة لم تكن بالنسبة إلى الحكم، ولا بالنسبة إلى الطّريق المجعول {ولو بعد تعذّره} كما تقدّم في الطّريق إلى الحكم {فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك} أي: في مثل هذا المقام الّذي حصل لنا علمان إجماليّان بالأحكام وبالطّرق إليها {بحكم العقل} بعد عدم إمكان الاحتياط، أو عسره، وعدم جواز إهمال الأحكام، وقبح ترجيح

ص: 122

إنّما هو الرّجوع - في تعيين ذلك الطّريق - إلى الظّنّ الفعلي الّذي لا دليل على حجيّته؛ لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه»(1).

وفيه أوّلاً: - بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصّة،

___________________________________________

المرجوح على الرّاجح {إنّما هو الرّجوع في تعيين ذلك الطّريق} الّذي جعله الشّارع إلى حكمه وقد اشتبه عندنا {إلى الظّنّ الفعلي} لا الظّنّ الشّأني {الّذي لا دليل} بالخصوص {على حجيّته} وإنّما يكون دليل الانسداد العام دليلاً على حجيّته{لأنّه} أي: الظّنّ بالطريق {أقرب إلى العلم} بالطريق {وإلى إصابة الواقع} الّذي انحصر في هذه الطّرق المخصوصة بسبب العلم الإجمالي الثّاني {ممّا عداه»} من الوهم والشّكّ، فإذا علمنا أنّ الواقع انحصر في الطّريق المخصوص ولم نظفر بذلك الطّريق - لا علماً ولا علميّاً - كان الأمر في تحصيل ذلك الطّريق المجهول منحصراً بين الأخذ بمظنون الطّريق، أو مشكوكه، أو موهومه، ولا ريب أنّ العقل يحكم بأنّ الظّنّ أقرب.

هذا تمام الوجه الأوّل الّذي استدلّ به صاحب الحاشية والفصول على انحصار نتيجة دليل الانسداد في حجيّة الظّنّ بالطريق، وأنّه يجب في حال الانسداد العمل بالظنّ الّذي قام على الطّريق لا على نفس الواقع.

{وفيه أوّلاً: بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصّة} لإمكان إيكال الشّارع إلى العقلاء - كما هو الغالب في المشرّعين - فإنّهم لا يضعون طرقاً خاصّة لأحكامهم، وإذا كان الأمر موكولاً إلى العقلاء فهم يعملون بالقطع، ثمّ الاطمئنان، ثمّ الظّنّ، ثمّ الاحتمال، ومن المعلوم أنّ مقتضى ذلك حينئذٍ حجيّة الظّنّ بالواقع وينتفي ما أراده المستدلّ من حجيّة الظّنّ بالطريق فقط

ص: 123


1- الفصول الغرويّة: 277، مع اختلاف يسير.

باقية في ما بأيدينا من الطّرق غير العلميّة، وعدمِ وجود المتيقّن بينها أصلاً - أنّ قضيّة ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطّرق المعلومة بالإجمال، لا تعيينها بالظنّ.

لا يقال: الفرض هو عدم وجوب الاحتياط، بل عدم جوازه.

لأنّ الفرض

___________________________________________

{باقية في ما بأيدينا من الطّرق غير العلميّة} إذ ذاك غير مسلّم، فإنّ من المحتمل أنّ الشّارع نصب طريقاً خاصّاً، ولكن ليس ذلك الطّريق بأيدينا في الحال الحاضر، كما لو كان المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعلي مع كون راويه إماميّاً عادلاً ضابطاً مزكّى رواته بعدلين، ولا ريب أنّ مثل هذا الطّريق نادر جدّاً في هذا الزمان، فالطريق المجعول ليس بباقٍ حتّى يجب الأخذ به علماً أو ظنّاً، وحينئذٍ فالتكليف الرّجوع إلى الواقع ظنّاً - حيث تعذّر العلم - ولا يثبت ما أراده المستدلّ من حجيّة الظّنّ بالطريق فقط {وعدم وجود المتيقّن بينها} أي: بين الطّرق المحتملة {أصلاً} لأنّه إذا كان طريق متيقّن كافٍ - كالخبر الواحد - لم تصل النّوبة إلى الظّنّ بالطريق {أنّ قضيّة ذلك} أي: مقتضى ذلك الّذي ذكره المستدلّ من العلم بنصب طرق مجهولة بين ما بأيدينا من الطّرق {هو الاحتياط في أطراف هذه الطّرق المعلومة بالإجمال، لا تعيينها بالظنّ} لأنّه مقتضى العلم الإجمالي.

{لا يقال}: ما ذكرتم من لزوم الاحتياط في أطراف الأمارات خلاف {الفرض} إذ المفروض {هو عدم وجوب الاحتياط} للزومه العسر {بل عدم جوازه} للزوم اختلال النّظام، فإنّه على هذا الفرض تصل النّوبة إلى حجيّة الظّنّ، ويقع الاختلاف في أنّ الظّنّ حينئذٍ هل هو حجّة بالنسبة إلى الواقع، أو الطّريق، أو كليهما، فقولكم بالاحتياط خلاف الفرض، ومعناه عدم تسليم تماميّة مقدّمات الانسداد.

{لأنّ-}-ا نقول: ليس ما ذكرناه خلاف {الفرض} فإنّ المفروض في مقدّمات

ص: 124

إنّما هو عدم وجوب الاحتياط التامّ فيأطراف الأحكام، ممّا يوجب العسر المخلّ بالنظام، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطّرق؛ فإنّ قضيّة هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها، والرّجوعُ إلى الأصل فيها ولو كان نافياً للتكليف.

وكذا في ما إذا نهض الكلّ على نفيه.

وكذا في ما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فيه - نفياً وإثباتاً - ، مع ثبوت المرجّح للنافي، بل مع عدم رجحان المثبت

___________________________________________

الانسداد {إنّما هو عدم وجوب الاحتياط التامّ في أطراف الأحكام ممّا يوجب العسر المخلّ بالنظام} و{لا} يكون المفروض في مقدّمات الانسداد عدم وجوب {الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطّرق} كأن نحتاط باتّباع كلّ خبر وشهرة وإجماع وسيرة مثلاً، فإنّ مثل هذا الاحتياط لا يوجب عسراً ولا إخلالاً. وهذا الاحتياط الصّغير لا يوجب الاحتياط الكبير {فإنّ قضيّة هذا الاحتياط} الصّغير {هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها} أي: موارد هذه الطّرق الّتي بأيدينا {والرّجوع إلى الأصل فيها} أي: في تلك الموارد {ولو كان} الأصل {نافياً للتكليف} لأنّه لا مانع حينئذٍ من جريان الأصل، فإنّ المانع كان هو العلم الإجمالي والمفروض أنّه انحلّ بما بين الطّرق فقط.

{وكذا} جواز رفع اليد عن التكليف {في ما إذا نهض الكلّ} أي: كلّ الطّرق الّتي يجب الاحتياط فيها {على نفيه} أي: نفي ذلك التكليف المحتمل.

{وكذا} جواز رفع اليد عن التكليف {في ما إذا تعارضفردان من بعض الأطراف} أي: فردان من الطّريق الّذي هو طرف للعلم الإجمالي، كما لو تعارض خبران في وجوب شيء وعدم وجوبه {فيه} أي: في التكليف، فقال أحدهما: إنّ دعاء رؤية الهلال واجب، وقال الآخر: ليس بواجب {نفياً وإثباتاً} للتكليف {مع ثبوت المرجّح للنافي} بأن كان الخبر النّافي مخالفاً للعامّة مثلاً {بل مع عدم رجحان المثبت}

ص: 125

في خصوص الخبر منها، ومطلقاً في غيره، بناءً على عدم ثبوت الترجيح - على تقدير الاعتبار - في غير الأخبار. وكذا لو تعارض اثنان منها في الوجوب والتحريم، فإنّ المرجع - في جميع ما ذكر من موارد التعارض - هو الأصل الجاري فيها

___________________________________________

بأن كانا متساويين من حيث السّند والدلالة والجهة، فإنّه يؤخذ بالنافي في الصّورتين، أمّا مع رجحان النّافي فلأنّه أرجح، وأمّا مع التساوي فلأنّه كان الأخذ بالنافي جائزاً لو كان الخبر حجّة بالخصوص، فكيف بما لو كان طرفاً للعلم.

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرنا من جواز رفع اليد عن التكليف في صورتي رجحان النّافي أو التساوي بينه وبين المثبت إنّما هو {في خصوص الخبر منها} أي: من الطّرق الّتي كانت طرفاً للعلم الإجمالي {و} لكنّه يجوز رفع اليد عن التكليف {مطلقاً} في الصّور الثلاثة: رجحان النّافي ورجحان المثبت والتساوي {في غيره} أي: غير الخبرين، كما لو قامت شهرتان إحداهما على نفي التكليف والأُخرى على إثباته، فإنّه يجوز الأخذ بالنافي ولو كانت الشّهرة المثبتة أرجح {بناءً على عدم ثبوت الترجيح - على تقدير الاعتبار -} أي: اعتبار هذا الطّريق الّذي وقع الآن طرفاً للعلم الإجمالي {في غير الأخبار}يعني أنّ الشّهرة - مثلاً - لو كانت طريقاً مقطوعاً، ثمّ تعارضت شهرتان، لم يعمل هناك المرجّحات فكيف بما إذا كانت طريقاً محتملاً.

وذلك لأنّه لا دليل على إعمال المرجّحات في غير باب الأخبار، فإذا تعارض طريقان كان مقتضى القاعدة جواز الأخذ بالنّافي منهما.

{وكذا} جواز رفع اليد عن التكليف في ما {لو تعارض اثنان منها} أي: من الطّرق {في الوجوب والتحريم} بأن كانا مثبتين بخلاف الصّورة السّابقة الّتي كان أحدهما نافياً فيها، فإنّه لا يجب الاحتياط في هذه الصّورة لعدم إمكانه، فيكون المرجع إلى عدم التكليف {فإنّ المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الأصل الجاري فيها}

ص: 126

ولو كان نافياً؛ لعدم نهوض طريق معتبر، ولا ما هو من أطراف العلم به، على خلافه، فافهم.

وكذا كلّ مورد لم يجرِ فيه الأصل المثبت؛ للعلم بانتقاض الحالة السّابقة فيه إجمالاً، بسبب العلم به أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه، بناءً على عدم جريانه

___________________________________________

أي: في تلك الموارد {ولو كان} الأصل {نافياً لعدم نهوض طريق معتبر، ولا} نهوض {ما هو من أطراف العلم به} أي: بالتكليف {على خلافه} أي: على خلاف هذا الأصل الجاري.

والحاصل: أنّ إجراء الاحتياط في الطّرق الّتي وقعت أطرافاً للعلم الإجمالي بحجيّة بعض الطّرق ليس بمنزلة الاحتياط في محتملات التكليف الّتي كانت أطرافاً للعلم الإجمالي بالتكليف، فإنّ دائرة الاحتياط الأوّل أصغر بكثير من دائرةالاحتياط الثّاني، فاستلزام الاحتياط في محتملات التكليف عسراً أو اختلالاً لا يوجب أن يكون الاحتياط في محتملات الطّريق كذلك، بل المسلّم أنّ في كثير ممّا كان مقتضى القاعدة الاحتياط - حسب العلم الإجمالي بمحتملات التكليف - لا يجب الاحتياط - حسب العلم الإجمالي بمحتملات الطّريق - كما تقدّم {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ عدم وجوب الاحتياط في المورد الأخير - وهو مورد تعارض الدليلين في الوجوب والحرمة - ليس خاصّاً بصورة لزوم الاحتياط في أطراف الطّرق، بل إنّه شامل لمورد وجوب الاحتياط في أطراف محتمل التكليف أيضاً، فلا وجه لجعله من هذه الموارد.

{وكذا} جواز رفع اليد عن التكليف في {كلّ مورد لم يجر فيه الأصل المثبت} للتكليف، كما لو قام الاستصحاب على الحرمة ولكن علمنا بانتقاض الحالة السّابقة في بعض أطراف العلم، فإنّ الاستصحاب حينئذٍ لا يثبت التكليف {للعلم بانتقاض الحالة السّابقة فيه إجمالاً بسبب العلم به} أي: بالانتقاض {أو بقيام أمارة معتبرة عليه} أي: على الانتقاض {في بعض أطرافه بناءً على عدم جريانه} أي:

ص: 127

بذلك.

وثانياً: لو سلّم أنّ قضيّته لزوم التنزّل إلى الظّنّ، فتوهّم: «أنّ الوظيفة حينئذٍ هو خصوص الظّنّ بالطريق» فاسدٌ قطعاً؛

___________________________________________

الأصل {بذلك} العلم.

ولكن لا يخفى أنّه بعد ذلك كلّه لا يمكن الجزم برفع الحرج والاختلال، فإنّ الموارد الّتي لا يجري فيها الاحتياط ممّا ذكره المصنّف ليس بحدّ يكفي لرفعالعسر أو الاختلال.

ثمّ إنّه حيث فرغنا من الإشكال الأوّل على صاحب الحاشية القائل بحجيّة الظّنّ بالطريق فقط في حال الانسداد، نقول: لو سلّمنا أنّ مقتضى دليلكم ليس هو الاحتياط في الطّرق المحتملة - كما ذكرنا في الجواب الأوّل - بل هو التنزّل إلى الظّنّ فلا وجه لكون الحجّة هو الظّنّ بالطريق فقط، بل الحجّة لدى الانسداد هو الظّنّ بالطريق أو بالواقع.

وإليه أشار بقوله: {وثانياً} نقول: {لو سلّم أنّ قضيّته} أي: مقتضى دليلكم {لزوم التنزّل إلى الظّنّ} لا الاحتياط في الطّرق المحتملة {فتوهّم: «أنّ الوظيفة حينئذٍ} أي: حين حجيّة الظّنّ {هو خصوص الظّنّ بالطريق»} ولا حجيّة في الظّنّ بالحكم {فاسد قطعاً} إذ نصب الطّريق لم يوجب سقوط الواقع عن التنجّز، حتّى أنّه لو علمنا بالواقع من غير هذه الطّرق لم يجب علينا العمل به، وإذن فالواقع محفوظ في مرتبته بحيث لو علم به لتنجّز.

وإذا كان الواقع محفوظاً كان الظّنّ على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الظّنّ بالطريق، بأن يظنّ بالخبر الّذي يقول بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال.

الثّاني: الظّنّ بالواقع، بأن يظنّ بأنّ الدعاء واجب وإن لم يظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر.

ص: 128

وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع، من الظّنّ بكونه مؤدّى طريق معتبر - من دون الظّنّ بحجيّة طريق أصلاً - ومن الظّنّ بالواقع، كما لا يخفى.

لا يقال: إنّما لا يكون أقرب من الظّنّ بالواقع، إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤدّيات الطّرق ولو بنحو التقييد.

___________________________________________

الثّالث: الظّنّ بالواقع مع الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر، وهذه الثلاثة كلّها حجّة لدى الانسداد، لا الظّنّ بالطريق فقط.

{وذلك لعدم كونه} أي: الظّنّ بالطريق {أقرب إلى العلم وإصابة الواقع من} الظّنّين الآخرين، أي: من {الظّنّ بكونه مؤدّى طريق معتبر - من دون الظّنّ بحجيّة طريق أصلاً -} كأن لم يظنّ بكون الشّهرة والخبر والإجماع والسّيرة حجّة ومع ذلك ظنّ بكون وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مؤدّى طريق معتبر {ومن الظّنّ بالواقع} كأن ظنّ بوجوب الدعاء {كما لا يخفى} وحينئذٍ فلا وجه لاختصاص الحجيّة بالظنّ بالطريق وأنّه لا يوجب اتّباع القسمين الآخرين من الظّنّ، فإنّ الظّنّ حينئذٍ حاله حال العلم في زمان الانفتاح، فكما أنّه لا فرق بين العلم بالحكم، وبين العلم بالطريق المؤدّي إلى الحكم، وبين العلم بكون هذا الحكم مؤدّى طريق معتبر مجعول، كذلك الظّنّ في حال الانسداد حجّة بالنسبة إلى الثلاثة.

{لا يقال}: لندع انحلال العلم الإجمالي بالأحكام إلى العلم بكونها في مؤدّيات الطّرق، لكن نقول: ما ذكرتم من كون الظّنّ بالطريق ليس أقرب من الظّنّ بالواقع - فاللّازم كون الظّنّ بالواقع أيضاً حجّة كالظنّ بالطريق - ليس بتامّ، إذ الواقع غير مفيد بعد صرف التكليف منه إلى مؤدّيات الطّرق، فإنّه {إنّما لا يكون} الظّنّ بالطريق {أقرب من الظّنّ بالواقع إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه} أي: عن الواقع {إلى مؤدّيات الطّرق ولو بنحو التقييد} للواقع بكونه لا بدّ وأن يكون مؤدّى الطّريق، أمّا بعد تقييد الواقع بكونه مؤدّى الطّريق فلا ينفع الظّنّ بالواقع إذا لم

ص: 129

فإنّ الالتزام به بعيد؛ إذ الصّرف لو لم يكن تصويباً محالاً، فلا أقلّ من كونه مجمعاً على بطلانه؛

___________________________________________

يكن عن الطّريق، لفرض كون الواقع ساقطاً عن التكليف الفعلي.

{ف-} إنّه يقال: {إنّ الالتزام به} أي: بتقييد الأحكام بكونها مؤدّيات الطّرق، حتّى أنّه لو علم بالحكم من دون الطّريق لا يكون فعليّاً {بعيد} جدّاً {إذ الصّرف} للأحكام الواقعيّة إلى مؤدّيات الطّرق {لو لم يكن تصويباً محالاً} وجه كونه تصويباً أنّه يلزم منه عدم اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، إذ الجاهل لم يقم عنده الطّريق فلا يكون مكلّفاً.

ولا يخفى أنّ التصويب على قسمين: [1] تصويب محال [2] وتصويب غير محال.

أمّا الأوّل: فهو أن يكون الحكم بجميع مراتبه - الاقتضائي والإنشائي والفعلي - مقيّداً بالطريق وهذا محال؛ لأنّ الحكم يتوقّف على الطّريق والطّريق يتوقّف على الحكم، إذ حيث كان الحكم مقيّداً بالطريق - حتّى أنّه لا حكم حيث لا طريق - كان الحكم متوقّفاً على الطّريق، وحيث كان الطّريق طريقاً إلى الحكم وهو بعده رتبة كان الطّريق متوقّفاً على الحكم، وهو توقّف الشّيء على نفسه وذلك بديهي الاستحالة.

وأمّا الثّاني: فهو أن يكون الحكم ببعض مراتبه - كالفعليّة - متوقّفاً على الطّريق ومقيّداً به، كأن يكون الحكم الاقتضائي والإنشائي مقرّراً مجعولاً، وإنّما وصوله إلى مرتبة الفعليّة يتوقّف على قيام الطّريق، فيكون الحكم بحيث لو قام عليه الطّريق وصل إلى الفعليّة والتنجّز، وهذا القسم الثّاني تصويب ولكنّه ليس بمحال، وحينئذٍ نقول: ما ذكره صاحب الفصول من تقييد الأحكام بمؤدّياتالطّرق لو لم يكن تصويباً محالاً {فلا أقلّ من كونه مجمعاً على بطلانه} عندنا، لما

ص: 130

ضرورة أنّ القطع بالواقع يُجدي في الإجزاء بما هو واقع، لا بما هو مؤدّى طريق القطع، كما عرفت.

ومن هنا انقدح: أنّ التقييد أيضاً غير سديد، مع أنّ الالتزام بذلك غير مفيد؛

___________________________________________

تقرّر بالنصّ والإجماع من أنّ للّه في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه العالم والجاهل، وأنّ المقصّر من الجهّال معاقب على الحكم {ضرورة} هذا بيان لوجه البُعد أو لوجه الإجماع على بطلان هذا القسم من التصويب، ف- {أنّ القطع بالواقع يجدي في الإجزاء بما هو واقع لا بما هو مؤدّى طريق القطع} وتوضيحه: أنّه لا شكّ في أنّ القطع بالواقع موجب لترتيب آثار الواقع مع أنّ القطع ليس طريقاً مجعولاً ولو كانت الأحكام مقيّدة بمؤدّيات الطّرق يلزم عدم صحّة ترتيب الأثر على الواقع المقطوع به، إذ لم يؤدّ الطّريق إلى ذلك الواقع والقطع ليس طريقاً مجعولاً، كما لا يخفى، ولا يلاحظ طريقيّته في ترتيب الآثار {كما عرفت} سابقاً في أوائل هذا الفصل.

{ومن هنا} أي: ممّا ذكرنا من عدم صرف الواقع إلى مؤدّيات الأمارات {انقدح أنّ التقييد} للواقع بمؤدّيات الأمارات {أيضاً} كالصرف {غير سديد}.

والفرق بين الصّرف والتقييد: أنّ الصّرف عبارة عن الانقلاب وأن لا واقع إلّا مؤدّيات الأمارات، فهو في الحقيقة اضمحلال للواقع، والتقييد عبارة عن تقيّد الواقع بالأمارة حتّى أنّه لا حكم للواقع إلّا إذا أدّت إليه الأمارة مع بقاء الواقع على ما هو واقع.ووجه كونه غير سديد، أنّ النّصّ والإجماع كما يمنعان عن الصّرف يمنعان عن التّقييد، فإنّهما قاما على أنّ للواقع حكماً أدّت إليه الأمارة أم لا، علمه الإنسان أم لا، وهذا كما ينافي الصّرف ينافي التّقييد، كما لا يخفى.

{مع أنّ الالتزام بذلك} أي: بالتقييد {غير مفيد} لما ادّعاه صاحب الفصول من

ص: 131

فإنّ الظّنّ بالواقع - في ما ابتلى به من التكاليف - لا يكاد ينفكّ عن الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر.

والظّنّ بالطريق - ما لم يظنّ بإصابة الواقع - غير مجدٍ بناءً على التقييد؛ لعدم استلزامه الظّنّ بالواقع المقيّد به بدونه،

___________________________________________

حجيّة الظّنّ بالطريق فقط {ف-} إنّا وإن التزمنا بالتقييد للأحكام بقيام الأمارة عليها نقول بحجيّة الظّنّ القائم على الواقع، ل- {أنّ الظّنّ بالواقع - في ما ابتلي به} المكلّف {من التكاليف - لا يكاد ينفكّ عن الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر} فكلّما ظنّ المكلّف بالواقع الّذي هو تكليفه ظنّ بأنّه مؤدّى الطّريق، إذ لو لم يكن مؤدّى الطّريق لم يكن تكليفه، والفرض أنّه ظنّ بكونه تكليفه.

ومن التقرير الّذي ذكرنا لبيان الملازمة بين الظّنّ بالواقع والظّنّ بالطريق تعرف أنّه لا مجال للإيراد على المصنّف بأنّه لا تلازم بين الظّنّين، لإمكان أن يظنّ الإنسان بأنّ المشي الخاصّ واقع ولا يظنّ بأنّه قام عليه الطّريق. وهذا هو وجه تقييد المصنّف بقوله: «في ما ابتلي به من التكاليف».

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) عكس على صاحب الفصول دعواه، فإنّه اعتبر الظّنّ بالطريق دون الظّنّ بالواقع، والمصنّف عكس فاعتبر الظّنّ بالواقع؛ لأنّهيلازم الظّنّ بالطريق ولم يعتبر الظّنّ بالطريق - جدلاً - .

{و} ذلك لأنّ {الظّنّ بالطريق ما لم يظنّ بإصابة الواقع غير مجدٍ بناءً على} ما ذكره الفصول من {التقييد} للأحكام الواقعيّة بالطريق، وذلك {لعدم استلزامه} أي: استلزام الظّنّ بالطريق {الظّنّ بالواقع المقيّد} ذلك الواقع {به} أي: بالطريق {بدونه} أي: بدون الظّنّ بالواقع.

والحاصل: حيث كان للمكلّف به جزءان - الواقع والطّريق - لزم الظّنّ بهما حتّى يصحّ العمل، فلو ظنّ بالطريق ولم يظنّ بالواقع لا يكفي لعدم الظنّ بالقيد

ص: 132

هذا.

مع عدم مساعدة نصب الطّريق على الصّرف، ولا على التقييد. غايته أنّ العلم الإجمالي بنصب طرق وافية؛ يوجب انحلالَ العلم بالتكاليف الواقعيّة إلى العلم بما هو مضامين الطّرق المنصوبة من التكاليف الفعليّة، و

___________________________________________

والمقيّد معاً اللّذين كانا معيار التكليف.

{هذا} تمام الكلام في عالم الثبوت بالنسبة إلى تقييد الأحكام الواقعيّة بالطرق والأمارات {مع} أنّ في عالم الإثبات لا دليل على هذا التقييد، ل- {عدم مساعدة نصب الطّريق} بأدلّتها كقوله: {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ}(1)، وقوله: «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويهعنا ثقاتنا»(2)،

وغيرهما من سائر الأدلّة {على الصّرف} للأحكام الواقعيّة بمؤدّيات الطّرق، حتّى أنّه لا حكم واقعيّ في غيرها {ولا على التقييد} للأحكام الواقعيّة بها، حتّى أنّ الحكم الواقعي لا يكون فعليّاً ما لم يصل بواسطة الطّرق، وقد تقدّم الفرق بين الصّرف والتقييد.

والحاصل: أنّ لسان جعل الطّريق مثل: (صدّق العادل) جعل المحرز للواقع لا المقيّد والصّارف له {غايته} أي: غاية الأمر {أنّ العلم الإجمالي بنصب طرق وافية} بالأحكام الواقعيّة {يوجب انحلال العلم} الإجمالي {بالتكاليف الواقعيّة} الّذي كان مقتضاه الاحتياط في جميع المشكوكات والمظنونات والموهومات {إلى العلم} الإجمالي {بما هو مضامين الطّرق المنصوبة} فلا يجب الاحتياط في ما عداها {من التكاليف الفعليّة} متعلّق بقوله: «مضامين» أمّا لو كان مضمون الطّريق تكليفاً اقتضائيّاً أو إنشائيّاً فليس ذلك طرفاً للعلم الإجمالي، كما لا يخفى.

{و} إن قلت: هَبْ أنّا لا نقول بالصّرف ولا بالتقييد لكن انحلال العلم الإجمالي

ص: 133


1- سورة الحجرات، الآية: 6.
2- وسائل الشيعة 27: 150.

الانحلال وإن كان يوجب عدم تنجّز ما لم يؤدّ إليه الطّريق من التكاليف الواقعيّة، إلّا أنّه إذا كان رعايةُ العلم بالنصب لازماً،

___________________________________________

العام بالأحكام - في الموهومات والمظنونات والمشكوكات - إلى العلم الإجمالي الخاص في مؤدّيات الطّرق والأمارات كاف في كون الظّنّ بالطريق حجّة، إذ الظّنّ بالواقع الّذي هو خارج عن الطّريق غير لازم العمل بمقتضى الانحلال.قلت: {الانحلال وإن كان يوجب عدم تنجّز ما لم يؤدّ إليه الطّريق من التكاليف الواقعيّة} لأنّه شكّ بدويّ والأصل البراءة عن العمل به {إلّا أنّه} أي: عدم تنجّز ما لم يؤدّ إليه الطّريق إنّما يكون {إذا كان رعاية العلم بالنصب لازماً} يعني أنّ هذا العلم الإجمالي الصّغير الّذي هو منحصر في مؤدّيات الأمارات والطّرق غير لازم المراعاة فلا يجب علينا العمل على طبق هذا العلم الإجمالي، وإذا لم يجب مراعاة هذا العلم الإجمالي الصّغير وعلمنا بأنّ لنا تكاليف وجب الرّجوع إلى الظّنّ بمطلق الحكم، فيكون الظّنّ بالحكم - سواء كان في دائرة العلم الإجمالي الصّغير أو دائرة العلم الإجمالي الكبير - لازم الاتّباع، ولا اختصاص لحجيّة الظّنّ بكونه متعلّقاً بالأمارة والطّريق.

أمّا أنّ رعاية هذا العلم الإجمالي الصّغير غير لازم فلأنّ الاحتياط في جميع الأمارات والطّرق يوجب العسر فلا يجب أو الاختلال فلا يجوز، والاحتياط في بعض الأمارات والطّرق غير لازم، لما تقدّم من أنّ العلم الإجمالي إذا لم يجب أو لم يجز العمل في بعض أطرافه لم يجب العمل في البعض الآخر.

وأمّا أنّه إذا لم يجب أو لم يجز مراعاة العلم الإجمالي الصّغير كان اللّازم اتّباع الظّنّ في دائرة العلم الإجمالي الكبير؛ فلأنّه حيث لم يلزم مراعاة العلم الإجمالي الصّغير وعلمنا أنّ الشّارع لم يرفع اليد عن تكاليفه لاهتمامه بها ولم يحصل لنا القطع بالتكاليف قام الظّنّ مقام القطع، وتنتج هذه المقدّمات حجيّة

ص: 134

والفرضُ عدمُ اللزوم، بل عدم الجواز.

وعليه يكون التكاليف الواقعيّة كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب، في كفاية الظّنّ بها حال انسداد باب العلم، كما لا يخفى.

ولا بدّ حينئذٍ من عناية أُخرى في لزومرعاية الواقعيّات

___________________________________________

الظّنّ مطلقاً بالواقع أو الطّريق، ولا يثبت كلام الفصول القائل بحجيّة الظّنّ بالطريق فقط.

فتحصّل: أنّ انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى دائرة الأمارات غير مفيد لدعوى الفصول، وإلى ما تقدّم شرحه أشار المصنّف بقوله: {والفرض عدم اللزوم} أي: عدم لزوم مراعاة العلم الإجمالي الصّغير للزومه العسر {بل عدم الجواز} للزومه الاختلال، ولا يتبعّض الاحتياط في أطراف هذا العلم؛ لأنّه إذا سقط بعض الأطراف لم ينجّز العلم بعض الأطراف الأُخر.

{وعليه} أي: على هذا الّذي ذكرنا من عدم لزوم مراعاة العلم الإجمالي في أطراف الأمارات والطّرق {يكون التكاليف الواقعيّة، كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب} للطرق والأمارات أصلاً حتّى يجب الاحتياط كلّاً أو بعضاً، ويكون حال أطراف العلم الإجمالي الصّغير كأطراف العلم الإجمالي الكبير {في كفاية الظّنّ بها حال انسداد باب العلم، كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{ولا بدّ حينئذٍ} أي: حين عدم وجوب الاحتياط أو عدم جوازه في أطراف العلم الإجمالي الصّغير {من عناية أُخرى في لزوم رعاية الواقعيّات} لأنّ العلم الإجمالي الكبير انحلّ إلى العلم الإجمالي الصّغير، والعلم الإجمالي الصّغير لم يجب أو لم يجز العمل به كلّاً ولا بعضاً.

وحيث علمنا بعدم جواز إهمال الواقعيّات لزم التماس دليل آخر لتنجيزالواقعيّات علينا، والدليل الآخر هو ما ذكرناه سابقاً - في المقدّمة الرّابعة - من أنّ

ص: 135

بنحو من الإطاعة، وعدمِ إهمالها رأساً، كما أشرنا إليها. ولا شبهة في أنّ الظّنّ بالواقع لو لم يكن أولى حينئذٍ

___________________________________________

المنجّز هو العلم باهتمام الشّارع بتكاليفه بحيث لا يرضى بإهمالها، فيجب رعاية الواقعيّات {بنحو من الإطاعة وعدم إهمالها رأساً، كما أشرنا إليها} سابقاً في المقدّمة الثّالثة(1).

وقد علّق المصنّف هنا على قوله: «من عناية أُخرى» بما يوضح الموجب لتنجيز الأحكام بعد سقوط العلمين الإجماليّين - كما أشرنا إليه سابقاً في المقدّمة الرّابعة - وهذا لفظ التعليق: «وهي إيجاب الاحتياط في الجملة المستكشف بنحو اللمّ، من عدم الإهمال في حال الانسداد قطعاً إجماعاً، بل ضرورة، وهو يقتضي التنزّل إلى الظّنّ بالواقع حقيقة أو تعبّداً، إذا كان استكشافه في التكاليف المعلومة إجمالاً، لما عرفت من وجوب التنزّل عن القطع - بكلّ ما يجب تحصيل القطع به في حال الانفتاح - إلى الظّنّ به في هذا الحال، وإلى الظّنّ بخصوص الواقعيّات الّتي تكون مؤدّيات الطّرق المعتبرة، أو بمطلق المؤدّيات لو كان استكشافه في خصوصها أو في مطلقها، فلا يكاد أن تصل النّوبة إلى الظّنّ بالطريق بما هو كذلك وإن كان يكفي، لكونه مستلزماً للظنّ بكون مؤدّاه مؤدّى طريق معتبر، كما يكفي بكونه كذلك، ولو لم يكن ظنّ باعتبار طريق أصلاً، كما لا يخفى.

وأنت خبير بأنّه لا وجه لاحتمال ذلك، وإنّما المتيقّن هو لزوم رعاية الواقعيّات في كلّ حال، بعد لزوم رعاية الطّرق المعلومة بالإجمال بين أطراف كثيرة،فافهم»(2)،

انتهى التعليق.

{ولا شبهة في أنّ الظّنّ بالواقع لو لم يكن أولى حينئذٍ} أي: حين لم يكن العلم

ص: 136


1- الوصول إلى كفاية الأصول 4: 96-99.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 433.

- لكونه أقرب في التوسّل به إلى ما به الاهتمام، من فعل الواجب وترك الحرام - من الظّنّ بالطريق، فلا أقلّ من كونه مساوياً في ما يهمّ العقل، من تحصيل الأمن من العقوبة في كلّ حال، هذا.

مع ما عرفت من أنّه عادة يلازم الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق، وهو - بلا شبهة - يكفي ولو لم يكن هناك ظنّ بالطريق، فافهم فإنّه دقيق.

___________________________________________

الإجمالي الصّغير منجّزاً، بل كان اهتمام الشّارع بالأحكام سبباً للعمل بالظنّ في أطراف العلم الإجمالي الكبير {لكونه} أي: لكون الظّنّ بالواقع {أقرب في التوسّل به} أي: بهذا الظّنّ بالواقع {إلى ما به الاهتمام} أي: اهتمام الشّارع {من فعل الواجب وترك الحرام} بيان ل- «ما به الاهتمام» {من الظّنّ بالطريق} متعلّق بقوله: «أولى» أي: إنّ الظّنّ بالواقع لو لم يكن أولى من الظّنّ بالطريق {فلا أقلّ من كونه} أي: الظّنّ بالواقع {مساوياً} للظنّ بالطريق {في ما يهمّ العقل من تحصيل الأمن من العقوبة في كلّ حال}.

وبهذا كلّه تحقّق أن ليس نتيجة دليل الانسداد حجيّة الظّنّ بالطريق فقط، بل لا فرق بين الظّنّ بالواقع أو الظّنّ بالطريق.{هذا} تمام تقريب ذلك وردّ صاحب الفصول القائل بحجيّة الظّنّ بالطريق فقط {مع ما عرفت من أنّه} لو بنينا على حجيّة الظّنّ بالطريق فقط فلازم ذلك حجيّة الظّنّ بالواقع أيضاً، لما تقدّم من أنّ الظّنّ بالواقع {عادة يلازم الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق} لأنّ الواقع المكلّف به فعلاً لا بدّ وأن يكون مؤدّى طريق معتبر وإن لم نعلم ذاك الطّريق بعينه {وهو} أي: الظّن بكون هذا الواقع المظنون مؤدّى طريق معتبر {بلا شبهة يكفي} في مقام الامتثال حتّى على مبنى الفصول {ولو لم يكن هناك ظنّ بالطريق} الّذي يكون هذا الواقع المظنون مؤدّاه {فافهم فإنّه دقيق}. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل من الوجهين اللّذين استدلّ بهما صاحب الحاشية

ص: 137

ثانيهما: ما اختصّ به بعض المحقّقين، قال: «لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشّرعيّة، ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشّرعيّة، وأنّ الواجب علينا أوّلاً هو: تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به، وسقوط تكليفنا عنّا، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

___________________________________________

والفصول لكون نتيجة دليل الانسداد حجيّة الظّنّ بالطريق فقط.

{ثانيهما} أي: ثاني ذينك الوجهين {ما اختصّ به بعض المحقّقين} وهو صاحب الحاشية بما حاصله: أنّ الظّنّ بالطريق يوجب فراغ الذمّة - سواء كان الطّريق مطابقاً للواقع أم لا - أمّا الظّنّ بالواقع فلا يوجب فراغها.

{قال: «لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكامالشّرعيّة ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشّرعيّة} وإن انسدّ علينا باب العلم والعلمي {و} لا شكّ {أنّ الواجب علينا أوّلاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف} اسم فاعل، أي: إنّ الواجب المهمّ لدى العقل إحراز حكم المولى بفراغ الذمّة بعد اشتغالها بالتكليف الواقعي الّذي أمر به المولى {بأن يقطع} بالمجهول {معه} أي: مع الإتيان بالمكلّف به، ومرجع الضّمير مفهوم من الكلام، والظّاهر أنّه لا مرجع له في اللفظ - {بحكمه} أي: حكم المولى {بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به و} ب- {سقوط تكليفنا عنّا} وهذا القطع بحكم الشّارع بالفراغ إنّما يكون بالعمل على طبق الطّريق المنصوب من قبل الشّارع، وذلك لأنّ نصب الشّارع للطريق ملزوم لحكمه بفراغ المكلّف العامل على طبقه عن الواقع الّذي نصب لأجله الطّريق {سواء حصل العلم معه} أي: مع العلم بتفريغ الذمّة {بأداء الواقع أو لا، حسب ما مرّ} في الوجه الأوّل {تفصيل القول فيه} وإن نصب الطّرق معناه تقيّد الأحكام الواقعيّة بها، فيكون المهمّ لدى العقل الإتيان على طبق الطّريق فحسب.

ص: 138

فحينئذٍ نقول: إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمّتنا في حكم الشّارع، فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وإن انسدّ علينا سبيل العلم، كان الواجب علينا تحصيل الظّنّ بالبراءة في حكمه؛ إذ هو الأقرب إلى العلم به، فيتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل - بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف - دون ما يحصل معه الظّنّ بأداء الواقع، كما يدّعيه القائل بأصالة حجيّةالظّنّ»(1). انتهى موضع الحاجة من كلامه - زيد في علوّ مقامه - .

وفيه: أوّلاً: أنّ الحاكم - على الاستقلال - في باب تفريغ الذمّة

___________________________________________

{فحينئذٍ} إذا تمّت المقدّمات الثلاث - وهي: القطع بثبوت الأحكام، وكون المهمّ إحراز فراغ الذمّة، وأن جعل الطّريق ملزوم لفراغ الذّمّة، بخلاف جعل الواقع، فإنّه ليس ملزوماً لفراغ الذمّة؛ لأنّ الحكم بالفراغ في صورة إتيان الواقع معلول للقطع بالواقع، لا لنفس الواقع - {نقول: إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمّتنا في} باب {حكم الشّارع، فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة} عن ذلك الاشتغال اليقيني {به} أي: بذلك العلم {وإن انسدّ علينا سبيل العلم} بالبراءة {كان الواجب علينا تحصيل الظّنّ بالبراءة في حكمه} أي: حكم الشّارع {إذ هو} أي: الظّنّ {الأقرب إلى العلم به} أي: بالفراغ {فيتعيّن الأخذ به} أي: بالظنّ بالطريق {عند التنزّل من العلم} بسبب الانسداد {في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف} الجار متعلّق بقوله: «إذ هو الأقرب» {دون ما يحصل معه الظّنّ بأداء الواقع} الظّرف متعلّق بقوله: «الأخذ به» {كما يدّعيه القائل بأصالة حجيّة الظّنّ»} حيث يرى أنّ الظّنّ بالواقع أقرب {انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه}.{و} أنت خبير بما فيه، إذ {فيه أوّلاً: أنّ الحاكم على الاستقلال في باب تفريغ الذمّة}

ص: 139


1- هداية المسترشدين 3: 351، مع اختلاف يسير.

- بالإطاعة والامتثال - إنّما هو العقل، وليس للشارع في هذا الباب حكم مولويّ يتبعه حكم العقل، ولو حكم في هذا الباب كان يتبع حكمه إرشاداً إليه، وقد عرفت استقلاله بكون الواقع - بما هو - مفرغ، وأنّ القطع به حقيقةً أو تعبّداً مؤمّن جزماً، وأنّ المؤمّن في حال الانسداد هو الظّنّ بما كان القطع به مؤمّناً حال الانفتاح، فيكون الظّنّ بالواقع أيضاً مؤمّناً حال الانسداد.

___________________________________________

من الحكم الشّرعي {بالإطاعة والامتثال} للمولى {إنّما هو العقل وليس للشارع في هذا الباب} أي: باب تفريغ الذمّة {حكم مولويّ} حتّى {يتبعه حكم العقل} ويكون اللّازم حينئذٍ إفراغ الذّمّة شرعاً، حتّى يقال بأنّ الإفراغ الشّرعي إنّما يكون بمتابعة الطّريق {ولو حكم} الشّارع {في هذا الباب كان يتبع حكمه} أي: يتبع حكم العقل {إرشاداً إليه} أي: إلى حكم العقل، كما لو حكم في باب الإطاعة والمعصية.

{و} إذ تحقّق أنّ الحاكم هو العقل فالعقل لا يرى تفاوتاً بين الظّنّ بالطريق والظّنّ بالحكم، لما {قد عرفت استقلاله} أي: العقل {بكون الواقع بما هو} لا بما هو مؤدّى الطّريق {مفرغ} للذمّة {وأنّ القطع به} أي: بالواقع {حقيقة أو تعبّداً} بنصب أمارة مؤدّية إليه {مؤمّن جزماً} تبعة العقوبة {وأنّ المؤمّن في حال الانسداد هو الظّنّ بما كانالقطع به مؤمّناً حال الانفتاح} وحيث كان القطع بالواقع مؤمّناً حال الانفتاح كالقطع بالطّريق {فيكون الظّنّ بالواقع أيضاً} كالظنّ بالطريق {مؤمّناً حال الانسداد}.

وهذا الجواب في الحقيقة منع للمقدّمة الثّانية من المقدّمات الثلاثة لدليل صاحب الحاشية القائل بأنّ المهمّ عند العقل إحراز حكم المولى بفراغ الذّمّة، فإنّه ليس المهمّ إحراز حكم المولى؛ لأنّه ليس للمولى حكم في باب الفراغ - كما ليس له حكم في باب الإطاعة - ولو كان له حكم فهو إرشاديّ إذاً، فالمهمّ إحراز حكم العقل بالفراغ، وهو لا يفرق عنده بين الظّنّ بالطريق أو الظّنّ بالواقع.

ص: 140

وثانياً: سلّمنا ذلك، لكن حكمه بتفريغ الذمّة - في ما إذا أتى المكلّف بمؤدّى الطّريق المنصوب - ليس إلّا بدعوى أنّ النّصب يستلزمه، مع أنّ دعوى: أنّ التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ في ما إذا أتى به أولى، كما لا يخفى، فيكون الظّنّ به ظنّاً بالحكم بالتفريغ أيضاً.

إن قلت: كيف يستلزم الظّنّ بالواقع؟ مع أنّه ربّما يقطع بعدم حكمه به معه،

___________________________________________

{و} نجيب {ثانياً} عن دليل صاحب الحاشية بأنّا وإن {سلّمنا ذلك} الّذي ذكرتم في المقدّمة الثّانية - من كون المهمّ إحراز حكم المولى بفراغ الذمّة - {لكن} لا نسلّم المقدّمة الثّالثة القائلة بأن جعل الطّريق ملزوم لجعل فراغ الذمّة، وليس كذلك جعل الواقع، فإنّ جعله لا يستلزم فراغ الذمّة لو أتى به، إذ {حكمه} أي: الشّارع {بتفريغ الذمّة في ما إذا أتى المكلّف بمؤدّى الطّريق المنصوب ليس إلّا بدعوى أنّ النّصب} للطريق {يستلزمه} أي:يستلزم الحكم بتفريغ الذمّة - وإلّا لم يكن للنّصب معنىً - كما هو واضح.

{مع أنّ} ذلك لا يختصّ بنصب الطّريق، بل جعل الواقع أيضاً يستلزم الحكم بالتفريغ في ما إذا أتى المكلّف به، فإنّ {دعوى أنّ التّكليف بالواقع يستلزم حكمه} أي: حكم الشّارع {بالتفريغ في ما إذا أتى} المكلّف {به أولى} إذ قد أتى بما هو الغرض الأوّل للمولى وبما يكون في الإتيان به حصول الغرض الأوّل، بخلاف الإتيان بمؤدّى الطّريق الّذي جعل ثانياً وبالعرض لأجل التحفّظ على الواقع، مع احتماله أن لا يكون مطابقاً، فيكون صرف منجّز ومعذّر بدون الحصول على الغرض الأوّل {كما لا يخفى} وإذ كان القطع بالواقع كالقطع بالطريق في الإفراغ {فيكون الظّنّ به} أي: بالواقع كالظنّ بالطريق {ظنّاً بالحكم بالتفريغ أيضاً} فلا فرق بينهما.

{إن قلت: كيف يستلزم الظّنّ بالواقع} الظّنّ بحكم الشّارع بفراغ الذمّة؟ {مع أنّه ربّما يقطع بعدم حكمه} أي: الشّارع {به} أي: بفراغ الذمّة {معه} أي: مع الظّنّ

ص: 141

كما إذا كان من القياس، وهذا بخلاف الظّنّ بالطريق، فإنّه يستلزمه ولو كان من القياس.

قلت: الظّنّ بالواقع أيضاً يستلزم الظّنّ بحكمه بالتفريغ، و

___________________________________________

بالواقع {كما إذا كان} الظّنّ {من القياس} فإنّه لو قام القياس على شيء ظنّ الشّخص بأنّه الواقع - كما في قصّة قطع أصابع المرأة - مع أنّه يقطع بعدم حكمه بالفراغ {وهذا بخلاف الظّنّ بالطريق، فإنّه} أي: الظّنّ بالطريق {يستلزمه} أي: يستلزم حكمه بالفراغ {ولو كان من القياس} أي كان هذا الظّنّ بالطريق من القياس،بأن قام القياس على أنّ الشّيء الفلاني طريق، فإنّ هذا الظّنّ القياسي القائم على حجيّة هذا الطّريق موجب للظنّ بحكم الشّارع بالفراغ.

وقد علّق المصنّف على قوله: «كيف يستلزم» بقوله: «وذلك لضرورة الملازمة بين الإتيان بما كلّف به واقعاً وحكمه بالفراغ، ويشهد به عدم جواز الحكم بعدمه، لو سُئل عن أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه، هل هو مفرغ؟ ولزوم حكمه بأنّه مفرغ، وإلّا لزم عدم إجزاء الأمر الواقعي، وهو واضح البطلان»(1)،

انتهى.

{قلت}: ليس الظّنّ بحكم الشّارع بالتفريغ خاصّاً بالظنّ بالطريق فقط، بل {الظّنّ بالواقع أيضاً يستلزم الظّنّ بحكمه بالتفريغ} لأنّ الإتيان الواقع موجب للتفريغ إن قطعاً فقطعاً، وإن ظنّاً فظنّاً، وفي بعض النّسخ: «الظّنّ بهما» أي: بالواقع والطّريق يستلزم الحكم بالتفريغ، والمفاد واحد.

{و} إن قلت: كيف يمكن الظّنّ بفراغ الذمّة من الظّنّ القياسي والحال أنّ الشّارع نهى عنه، وهل ذاك إلّا تهافت واضح؟

قلت: كلّا فإنّ الظّنّ بالفراغ لا ينافي عدم الحجيّة، بل العقاب أيضاً، فلو ظنّ الإنسان بالحكم من القياس ظنّ بالفراغ لو أتى بذلك الحكم المظنون، وهذا

ص: 142


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 437.

لا ينافي القطعَ بعدم حجيّته لدى الشّارع، وعدَمَ كون المكلّف معذوراً - إذا عمل به - في ما أخطأ، بل كان مستحقّاً للعقاب - ولو في ما أصاب - لو بنى على حجيّته والاقتصار عليه؛ لتجرّيه، فافهم.

وثالثاً: سلّمنا أنّ الظّنّ بالواقع لايستلزم الظّنّ به، لكن قضيّته ليس إلّا التّنزّلَ إلى الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر، لا خصوص الظّنّ بالطريق،

___________________________________________

الظّنّ لا ينافي عدم الحجيّة الشّرعيّة، بل لا ينافي أن يعاقب على اتّباعه للقياس، وذلك مثل ما لو طهّر يده النّجسة بالماء المغصوب فإنّ العقاب لا ينافي الحكم بطهارة اليد.

والحاصل: أنّ الظّنّ بالفراغ {لا ينافي القطع بعدم حجيّته} أي: حجيّة القياس {لدى الشّارع، و} لا ينافي {عدم كون المكلّف معذوراً إذا عمل به في ما أخطأ} لأنّه خطأ عن تقصير {بل كان} الآتي بما يقتضيه القياس {مستحقّاً للعقاب ولو في ما أصاب} الواقع {لو بنى على حجيّته} أي: حجيّة الظّنّ القياسي {و} بنى على {الاقتصار عليه} في تحصيل التكاليف الواقعيّة {لتجرّيه} بمخالفة نهي المولى وإن لم يخالف الواقع {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ المستفاد من نهي الشّارع عن القياس بقول مطلق عدم ترتيبه أيّ أثر عليه، وحكمه بفراغ الذمّة في ما لو اتّبع الظّنّ القياسي نقض لتلك الكلّيّة، فلا يوجب الظّنّ القياسي ظنّاً بفراغ الذمّة أصلاً.

{وثالثاً} نجيب عن دليل صاحب الحاشية بأنّا وإن {سلّمنا} المقدّمات الثلاث - وهو ثبوت الأحكام، وكون المهمّ حكم المولى بفراغ الذمّة، وكون القطع أو الظّنّ بالطريق ملازماً للقطع أو الظّنّ بالحكم بفراغ الذمّة بخلاف القطع أو الظّنّ بالواقع - ف- {إنّ الظّنّ بالواقع لا يستلزم الظّنّ به} أي: بحكم المولى بفراغ الذمّة {لكن قضيّته} أي: مقتضى ذلك ليس الاقتصار على الظّنّ بالطريق، بل {ليس إلّاالتنزّل إلى الظّنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر لا خصوص الظّنّ بالطريق} لأنّ

ص: 143

وقد عرفت: أنّ الظّنّ بالواقع لا يكاد ينفكّ عن الظّنّ بأنّه مؤدّى الطّريق غالباً.

فصل: لا يخفى عدم مساعدة مقدّمات الانسداد على الدلالة على كون الظّنّ طريقاً منصوباً شرعاً؛ ضرورة أنّه معها لا يجب عقلاً على الشّارع أن ينصب طريقاً؛ لجواز اجتزائه بما استقلّ به العقل في هذا الحال.

___________________________________________

الظّنّ بمؤدّى طريق معتبر يلازم حكم الشّارع بفراغ الذمّة ولو لم نعرف ذلك الطّريق بعينه، فلو علمنا من الإجماع أو الشّهرة أنّ وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مؤدّى طريق معتبر ظننّنا بفراغ الذمّة لدى الإتيان بالدعاء.

{وقد عرفت} سابقاً {أنّ الظّنّ بالواقع لا يكاد ينفكّ عن الظّنّ بأنّه مؤدّى الطّريق غالباً} وبهذا كلّه تحقّق أنّه لا فرق في نتيجة دليل الانسداد بين الظّنّ بالواقع وبين الظّنّ بالطريق، وأنّ القول بالاختصاص بأحدهما في غير محلّه.

[فصل] في الكشف والحكومة

اشارة

المقصد السّادس: في الأمارات، الكشف والحكومة

{فصل} هل مقدّمات الانسداد تنتج كون الشّارع جعل الظّنّ حجّة - في حال الانسداد - وهذا يسمّى بالكشف؛ لأنّ العقل يكشف عن ذلك، أم المقدّمات تنتج أنّ العقل يحكم بحجيّة الظّنّ - في هذا الحال - وهذا يسمّى بالحكومة؛ لأنّ العقل يحكم بالحجيّة؟ خلاف، والمصنّف(رحمة الله) ذهب إلى الحكومة فقال: {لا يخفى عدم مساعدة مقدّمات الانسداد على الدلالة على كون الظّنّ طريقاً منصوباً شرعاً} في هذا الحال {ضرورة أنّه معها} أي:مع هذه المقدّمات الدالّة على حجيّة الظّنّ {لا يجب عقلاً على الشّارع أن ينصب} للأحكام الواقعيّة {طريقاً لجواز اجتزائه} أي: الشّارع {بما استقلّ به العقل} من حجيّة الظّنّ {في هذا الحال} أي: حال الانسداد.

نعم، لو لم يكن العقل يستقلّ بحجيّة الظّنّ في هذا الحال ولم يكن هناك

ص: 144

ولا مجال لاستكشاف نصب الشّارع من حكم العقل، لقاعدة الملازمة؛ ضرورة أنّها إنّما تكون في موردٍ قابلٍ للحكم الشّرعي، والموردُ هاهنا غير قابل له؛

___________________________________________

طريق آخر إلى الأحكام كان الواجب على الشّارع نصب الطّرق لئلّا يلزم نقض الغرض، أمّا وقد دلّ العقل فلا وجوب على الشّارع.

{و} إن قلت: إنّ قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشّرع كما ذكروا: «كلّما حكم به العقل حكم به الشّرع» تدلّ على أنّ الشّارع جعل الظّنّ حجّة في هذا الحال، إذ المقدّمات أنتجت حكم العقل وحكم العقل يلازم حكم الشّرع لقاعدة الملازمة فلا بدّ وأن نقول بالكشف، كما ذهب إليه جماعة.

قلت: {لا مجال لاستكشاف نصب الشّارع} الظّنّ طريقاً {من حكم العقل} بحجيّة الظّنّ في حال الانسداد {لقاعدة الملازمة} التعليل وجه للاستكشاف، أي: إنّ الكشف بسبب الملازمة بين حكم العقل وحكم الشّرع، إنّما قلنا بعدم الاستكشاف ل- {ضرورة أنّها} قاعدة الملازمة {إنّما تكون في مورد قابل للحكم الشّرعي، والمورد هاهنا} في مقام الإطاعة الظّنيّة حال الانسداد {غير قابل له} أي: للحكم الشّرعي بحجيّةالظّنّ مولويّاً، وذلك لأنّ حكم العقل بكفاية الإطاعة الظّنيّة ينحلّ إلى أُمور ثلاثة:

الأوّل: عدم وجوب الإطاعة العلميّة، يعني قبح مؤاخذة الشّارع على ترك الإطاعة العلميّة.

الثّاني: عدم جواز الاقتصار على الإطاعة الشّكّيّة والوهميّة.

الثّالث: حسن الإطاعة الظّنيّة.

ومن المعلوم أنّ مؤاخذة الشّارع إنّما هي من أفعال الشّارع الّتي لا تكون موضوعاً للأحكام، كما أنّ عدم جواز الاقتصار على غير الظّنّ وحسن الإطاعة الظّنيّة - وإن كانا من فعل العبد - إلّا أنّ حكم الشّارع في موردهما يكون بدون غرض، إذ

ص: 145

فإنّ الإطاعة الظّنّية - الّتي يستقلّ العقل بكفايتها في حال الانسداد - إنّما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشّارع بأزيد منها، وعدمِ جواز اقتصار المكلّف بدونها. ومؤاخذة الشّارع غير قابلة لحكمه، وهو واضح.

واقتصار المكلّف بما دونها، لمّا كان بنفسه موجباً للعقاب مطلقاً،

___________________________________________

الغرض من الأوامر والنّواهي ليس إلّا إحداث الداعي في نفس المكلّف إلى الفعل أو الترك - ومن المعلوم أنّ الداعي حاصل في المقام - ولو لم يتعلّق بهما حكم شرعي، فإنّ الإطاعة الظّنيّة لازمة عقلاً، والإطاعة الوهميّة والشّكيّة موجبة للعقاب عقلاً لو لم تصادف الواقع، وإذا كان حكم الشّرع بدون غرض لم يصدر منه.

وبهذا كلّه تبيّن أنّ المورد غير قابل للحكم الشّرعي، وإذا لم يكن قابلاً للحكم الشّرعي لم تصحّ قاعدة الملازمة في المقام، حتّى يكون حكم العقل بالإطاعة الظّنيّة في حال الانسداد كاشفاً عن حكم الشّرع بذلك {فإنّ الإطاعة الطّنيّة الّتي يستقلّ العقل بكفايتها في حال الانسداد إنّما هي بمعنى}حسن الإطاعة الظّنيّة، و{عدم جواز مؤاخذة الشّارع بأزيد منها} بأن يؤاخذ العبد بأنّه لِمَ لم يمتثل التكاليف بالإطاعة القطعيّة {وعدم جواز اقتصار المكلّف بدونها} بأن يأتي بالإطاعة الشّكيّة والوهميّة.

{و} من المعلوم أنّ شيئاً من هذه الأُمور الثلاثة غير قابلة لحكم شرعي: أمّا حسن الإطاعة الظّنيّة؛ فلأنّ العقل يقول بها، فلا يكون للحكم الشّرعي مجال لعدم إحداثه الداعي في المكلّف - الّذي هو مناط صحّة الأمر والنّهي - و{مؤاخذة الشّارع غير قابلة لحكمه} لأنّ المؤاخذة ليست فعل العبد حتّى يكون مورداً للحكم الشّرعي {وهو واضح} لا يخفى {واقتصار المكلّف بما دونها} أي: بما دون الإطاعة الظّنيّة - بالإطاعة الشّكيّة والوهميّة - {لمّا كان بنفسه موجباً للعقاب مطلقاً} سواء أخطأ أم أصاب، أمّا في صورة الخطأ فلأنّه فوّت الواقع على نفسه.

ص: 146

أو في ما أصاب الظّنّ - كما أنّها بنفسها موجبة للثواب، أخطأ أم أصاب، من دون حاجة إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها - كان حكم الشّارع فيه مولويّاً بلا ملاك يوجبه، كما لا يخفى، ولا بأس به إرشاديّاً، كما هو شأنه في حكمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية.

___________________________________________

وأمّا في صورة الإصابة؛ فلأنّه تجرّأ على المولى {أو} موجباً للعقاب {في ما أصاب الظّنّ} فقط عند القائل بعدم حرمة التجرّي {كما أنّها} أي: الإطاعة الظّنيّة {بنفسها موجبة للثواب أخطأ أم أصاب} أمّا في صورة الإصابة، فواضح، وأمّا في صورة الخطأ،فللانقياد، ولا شكّ أنّه موجب للثواب وإن قلنا أنّ التجرّي لا يوجب العقاب {من دون حاجة إلى أمر بها} أي: بالإطاعة الظّنيّة {أو نهي عن مخالفتها} واتّباع غيرها {كان} جواب قوله: «لمّا» {حكم الشّارع فيه} أي: في باب اقتصار المكلّف بأقلّ من الإطاعة الظّنيّة {مولويّاً} مقابل الحكم الإرشادي {بلا ملاك يوجبه} إذ الملاك للأحكام الشّرعيّة - كما تقدّم - كونها باعثة للمكلّف نحو الفعل أو الترك، وبعد حكم العقل القطعي لا يكون لحكم الشّارع باعثيّة {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{و} لكن {لا بأس به} أي: بحكم الشّارع بلزوم الإطاعة الظّنيّة {إرشاديّاً} إلى حكم العقل {كما هو شأنه} أي: الشّارع {في حكمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية} فإنّ قوله: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ}(1) إرشاديّ وكذا قوله: {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ}(2).

وقد وجّهوا عدم كون الأمر بالإطاعة مولويّاً بأُمور:

[1] كقولهم: إنّ الأمر لا بدّ وأن يكون لغرض - كما هو مذهب العدليّة - فإن كان الغرض من الأمر بالإطاعة نفس الغرض الأوّل الّذي يتحقّق بالأمر الأوّل - كالأمر

ص: 147


1- سورة آل عمران، الآية: 32-132؛ سورة النساء، الآية: 59؛ سورة المائدة، الآية: 92؛ سورة الأنفال، الآية: 20.
2- سورة النور، الآية: 63.

وصحّة نصب الطّريق وجعله - في كلّ حال - بملاك يوجب نصبه، وحكمةٍ داعية إليه،

___________________________________________

بالصلاة مثلاً - فهو لغو، إذ لا تعدّد في الغرض، والغرض الواحد يكفيه أمر واحد.

وإن كان الغرض بالإطاعة غير الغرض الأوّل فهو غير معقول، إذ الأمر المولوي الحقيقي لا يدعو إلّا إلى ما في المتعلّق من الغرض، فلا يمكن أن يكون الأمر بإطاعة أمر الصّلاة لغرض آخر غير ما يدعو إليه الأمر بالصلاة.

[2] وقولهم: إنّ أمر المولى إن كان محرّكاً لم يبق مجال لأمرٍ ثانٍ، وإن لم يكن محرّكاً لم ينفع الأمر الأوّل.

[3] وقولهم: إنّ الأمر بالإطاعة مولويّاً موجب للتسلسل، إذ الأمر الثّاني لا يخلو إمّا أن يكون له إطاعة أم لا؟ فإن لم تكن له إطاعة كان لغواً وإن كان له إطاعة احتاج إلى أمر ثالث، ولو كان الأمر الثّالث ناشئاً عن نفس الأمر بالإطاعة، فإنّه يشمل نفسه على القضيّة الطّبيعيّة، كما يشمل قوله: (كلّ خبري صادق) نفس هذا الخبر، والأمر الثّالث يحتاج إلى أمر رابع وهكذا وهو تسلسل. إلى غير ذلك من المحاذير المذكورة في محلّها.

ومنه تحقّق أنّ أوامر الإطاعة كلّها إرشاديّة وربّما يشهد لذلك العرف، فإنّه لو أمر الوالد ولده بأوامر ثمّ قال له: (أطعني) لم يكن يرى العرف أنّه أمر جديد ولمصلحة جديدة وإنّما يكون إرشاداً إلى ما يدلّ عليه العقل. وفي الكلام نقض وإبرام طويلان نكلهما إلى محلّهما.

{و} إن قلت: إنّه إذا كان العقل هو الحاكم في باب الإطاعة والمعصية - حتّى أنّه لا يصحّ للشرع نصب الطّريق - فكيف يمكن نصبه للطريق في حال الانفتاح، وأيّ فرق بين حال الانسداد وحال الانفتاح؟

قلت: {صحّة نصب الطّريق وجعله} أي: صحّة جعل الطّريق {في كلّ حال} من حالي الانفتاح والانسداد {بملاك يوجب نصبه، و} ب- {حكمة داعية إليه} أي:

ص: 148

لا تنافي استقلال العقل بلزوم الإطاعةبنحو حالَ الانسداد، كما يحكم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح، من دون استكشاف حكم الشّارع بلزومها مولويّاً؛ لما عرفت.

فانقدح بذلك: عدم صحّة تقرير المقدّمات إلّا على نحو الحكومة، دون الكشف.

___________________________________________

إلى نصبه {لا تنافي استقلال العقل بلزوم الإطاعة} وهذا خبر لقوله: «صحّة» أي: إنّ صحّة نصب الطّريق غير منافية لكون العقل مستقلّاً في باب الإطاعة، إذ ربّما ينصب الشّارع طريقاً للتسهيل بما ليس للعقل نصبه، كما لو نصب الشّارع الشّهرة طريقاً فإنّ العقل لا يرى للشهرة كشفاً عن حكم المولى.

والحاصل: أنّ العقل لا يمنع نصب الشّارع للطريق وإنّما يمنع عن كون الطّريق الّذي عيّنه العقل مجعولاً للشارع مولويّاً، فالعقل يستقلّ بلزوم الإطاعة {بنحو} الظّنّ {حال الانسداد كما يحكم بلزومها} أي: لزوم الإطاعة {بنحو آخر} كالقطع {حال الانفتاح من دون استكشاف حكم الشّارع بلزومها} أي: الإطاعة {مولويّاً} وإن كان لا بأس بإلزام الشّارع للإطاعة إرشاديّاً {لما عرفت}.

ومن الغريب أنّ الشّرح الفارسي للخوئيني أسقط هذه الجملة من شرحه(1)،

والمشكيني فسّر الإشكال والجواب بنحو(2)،

والسّيّد الحكيم فسّرهما بنحو آخر(3)، وإن كان الأخير أقرب إلى ظاهر العبارة، فراجع.{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من أوّل الفصل إلى هنا {عدم صحّة تقرير المقدّمات} للانسداد {إلّا على نحو الحكومة} أي: حكومة العقل بكون الإطاعة الظّنيّة هي المتعيّنة لدى الانسداد {دون الكشف} عن حكم الشّارع بكون الإطاعة الانسداديّة هي الظّنيّة.

ص: 149


1- ذكر الخوئيني في شرحه ما هو في متن الكفاية، راجع شرح كفاية الأصول 3: 309.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 450.
3- حقائق الأصول 2: 189.

وعليها فلا إهمالَ في النّتيجة أصلاً، سبباً ومورداً ومرتبةً؛ لعدم تطرّق الإهمال والإجمال في حكم العقل، كما لا يخفى.

أمّا بحسب الأسباب: فلا تفاوت بنظره فيها.

___________________________________________

{و} إذ قد فرغنا عن هذا المبحث فلنشرع في مبحث آخر، وهو هل أنّ نتيجة مقدّمات الانسداد مهملة من حيث الأسباب والموارد والمراتب فلا تدلّ إلّا على حجيّة الظّنّ في الجملة أو مطلقة من تلك الحيثيّات، فالظنّ حجّة من أيّ سبب حصل وفي أيّ مورد كان وبأيّة مرتبة كان قويّة أم ضعيفة، فلا فرق بين أن يكون السّبب: الخبر أو طيران الغراب، والمورد: الأحكام المهمّة كالفروج والدماء أم غيرها، والمرتبة: الظّنّ القوي المتآخم للعلم أم الظّنّ الضّعيف القريب من الشّكّ.

وقد فصّل المصنّف في المقام بأنّ المسألة هنا مبتنية على مسألة الكشف والحكومة، فعلى الكشف تكون النّتيجة مهملة وعلى الحكومة تكون النّتيجة مطلقة، ولذا قال: و{عليها} أي: على الحكومة {فلا إهمال في النّتيجة أصلاً سبباً ومورداً ومرتبة} أي: من هذه الحيثيّات الثلاث {لعدم تطرّق الإهمال والإجمال في حكم العقل} إذ العقل إن أحرز مناط حكمه حكم وإن لم يحرز مناط حكمه لم يحكم، فلا ترديد للعقل حتّى يعلم الشّيء في الجملة ولا يعلمخصوصيّاته، فيتردّد فيها بين الأقلّ والأكثر أو بين المتباينين {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{أمّا بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره} أي: بنظر العقل {فيها} فلا يتفاوت الأمر بين كون سبب الظّنّ الخبر أم الشّهرة أم الإجماع أم السّيرة، وذلك لأنّ الملاك في نظر العقل هو الأقربيّة إلى الواقع، ولا شكّ أنّ الظّنّ الحاصل من الأسباب المذكورة أقرب إلى الواقع من الوهم ومن العمل على طبق أحد طرفي الشّكّ اعتباطاً.

لكن لا يخفى أنّ السّبب الأقوى كالخبر الموثّق لو كان بقدر الكفاية لم يكن

ص: 150

وأمّا بحسب الموارد: فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظّنيّة، إلّا في ما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام، واستقلالِهِ بوجوب الاحتياط في ما فيه مزيد الاهتمام، كما في الفروج والدماء، بل وسائر حقوق النّاس، ممّا لا يلزم من الاحتياط فيها العسر.

وأمّا بحسب المرتبة: فكذلك لا يستقلّ إلّا بكفاية مرتبة الاطمئنان من الظّنّ، إلّا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر.

وأمّا على تقرير الكشف:

___________________________________________

وجه للتعدّي عنه.

{وأمّا بحسب الموارد} الّتي يتعلّق بها الظّنّ كمورد الطّهارة والصّلاة والزكاة والديات وغيرها {فيمكن أن يقال ب-} أنّ النّتيجة جزئيّة وليست بمطلقة، وذلك ل- {عدم استقلاله} أي: العقل {بكفاية الإطاعة الظّنيّة إلّا في ما ليسللشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام} الجار في قوله: «بفعل» متعلّق

ب- «اهتمام» {واستقلالِهِ بوجوب الاحتياط} وعدم العمل بالظنّ {في ما فيه مزيد الاهتمام، كما في الفروج والدماء} ممّا علم اهتمام الشّارع الأكيد فيه {بل وسائر حقوق النّاس} المهمّة {ممّا لا يلزم من الاحتياط فيها العسر} والحرج.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقدّمات الانسداد تفيد كون الظّنّ طريقاً في حاله كالعلم في حال الانفتاح، فكما لا فرق بين موارد العلم كذلك بين موارد الظّنّ.

{وأمّا بحسب المرتبة فكذلك لا يستقلّ} العقل {إلّا بكفاية مرتبة الاطمئنان من الظّنّ} والاحتياط في سائر المراتب {إلّا على تقدير عدم كفايتها} أي: مرتبة الاطمئنان {في دفع محذور العسر} والحرج فيتنزّل إلى مرتبة الأقوى فالأقوى.

هذا كلّه بيان لحال النّتيجة إطلاقاً وتقييداً على حسب الحكومة {وأمّا على تقرير} النّتيجة على حسب {الكشف} وأنّ مقدّمات الانسداد تنتج كشف العقل

ص: 151

فلو قيل بكون النّتيجة هو نصب الطّريق الواصل بنفسه، فلا إهمال فيها أيضاً

___________________________________________

عن أنّ الشّارع جعل لأحكامه طريقاً، فالكلام في كون النّتيجة معيّنة أو مهملة وعلى تقدير عدم الإهمال كونها مطلقة أو مقيّدة يحتاج إلى بيان مقدّمة، وهي: أنّ محتملات الكشف ثلاثة:

الأوّل: أن تكون المقدّمات منتجة لنصب الطّريق الواصل بنفسه، بمعنى كونالمكشوف بالمقدّمات طريقاً خاصّاً معيّناً كالظنّ في المثال، فلا حالة انتظاريّة بعد المقدّمات.

الثّاني: أن تكون المقدّمات منتجة لنصب الطّريق - سواء كان واصلاً بنفسه أم واصلاً بطريقه - فنعلم أنّ الشّارع نصب طريقاً معيّناً، ولو كان علمنا بذلك الطّريق ليس بالمقدّمات فقط، بل بواسطة خارجيّة فنعلم طريقيّة الطّريق بقيام طريق عليه، كما لو علمنا أنّ الشّارع جعل أحد أشياء ثلاثة من الخبر والشّهرة والسّيرة - مثلاً - حجّة ثمّ لم نعلم من المقدّمات أنّ أيّها حجّة لكن أجرينا مقدّمات الانسداد مرّة ثانية حتّى تعيّن ذلك الطّريق المجعول وأنّه الخبر الواحد مثلاً، فكانت مقدّمات الانسداد منتجة للطريق - الّذي هو الخبر - لكنّه لم يكن واصلاً بنفسه، إذ بمجرّد إجراء المقدّمات لم يصل، بل كان واصلاً بطريقه - أي: وصل شيء كان طريقاً إلى وصول الخبر - .

الثّالث: أن تكون المقدّمات منتجة لنصب طريق ما وإن لم يعلم الطّريق بنفسه ولا علم بقياس طريق يؤدّي إليه، فلم تكن المقدّمات كاشفة إلّا عن أنّ الشّارع نصب طريقاً ما، أمّا ذلك الطّريق فلم يعلم بنفسه ولم يعلم بطريقه.

وعلى هذا فاللّازم أن يتكلّم في تسعة أُمور: الكشف على التقادير الثلاثة، وكلّ تقدير بالنسبة إلى الأسباب والموارد والمراتب {ف-} نقول: {لو قيل بكون النّتيجة هو نصب الطّريق الواصل بنفسه فلا إهمال فيها} أي: في النّتيجة {أيضاً}

ص: 152

بحسب الأسباب، بل يستكشف حينئذٍ أنّ الكلّ حجّة لو لم يكن بينها ما هو المتيقّن، وإلّا فلا مجال لاستكشاف حجيّة غيره.

ولا بحسب الموارد، بل يحكم بحجيّته في جميعها، وإلّا لزم عدم وصول الحجّة، ولو لأجل التردّد في مواردها، كما لا يخفى.

___________________________________________

كما لم يكن إهمال لو قلنا بالحكومة {بحسب الأسباب} بل الظّنّ عن أيّ سبب حصل كان حجّة {بل يستكشف حينئذٍ} أي: حين كانت النّتيجة الطّريق الواصل بنفسه {أنّ الكلّ} من الظّنون الحاصلة من أيّ سبب كان {حجّة لو لم يكن بينها ما هو المتيقّن} الاعتبار الكافي بالعلم الإجمالي، كما لو كان الأخبار كافية للوفاء بالفقه {وإلّا} فلو كان بينها متيقّن الاعتبار الكافي بالفقه {فلا مجال لاستكشاف حجيّة غيره} إذ لا موجب لحجيّة غيره بعد استكشاف الطّريق الكافي الواصل الّذي هو الخبر مثلاً. نعم، لو لم يكن بينها مثل ذلك كان الجميع حجّةً لعدم أولويّة بعض الأسباب من بعض.

{و} كما لا إهمال في النّتيجة بالنسبة إلى الأسباب - في الواصل بنفسه - كذلك {لا} إهمال {بحسب الموارد} فلا فرق بين أن يكون الظّنّ في الصّلاة أو في الديات {بل يحكم بحجيّته} أي: حجيّة الظّنّ {في جميعها} أي: جميع الموارد من غير فرق بين الموارد المهمّة كالنفوس والأعراض وغيرها كالطهارة والنّجاسة {وإلّا} فلو لم يكن الظّنّ حجّة في بعض الموارد - كالمهمّة - {لزم عدم وصول الحجّة} إلينا فيها.

{ولو} كان عدم الوصول {لأجل التردّد في مواردها} وهل أنّه حجّة في النّفوس والأعراض أم لا؟ فإنّ التردّد أيضاً موجب لعدم الوصول، وعدم الوصول خلاف الغرض؛ لأنّ الغرض كون النّتيجة هي الطّريق الواصل بنفسه {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

ص: 153

ودعوى الإجماع على التعميم بحسبها(1)

- في مثل هذه المسألة المستحدثة -مجازفة جدّاً.

وأمّا بحسب المرتبة: ففيها إهمال؛ لأجل احتمال حجيّة خصوص الاطمئناني منه إذا كان وافياً، فلا بدّ من الاقتصار عليه.

___________________________________________

{و} إن قلت: إنّ النّتيجة ليست إلّا الحجيّة في بعض الموارد وأمّا سائر الموارد المشكوكة فنتمّم الكلام فيها بحجيّة الظّنّ بالإجماع، فالمقدّمات إنّما تفيد الحجيّة في البعض غير المهمّة والإجماع يفيد الحجيّة في البعض الأُخر المهمّة؛ لأنّه قام على التعميم.

قلت: إنّ {دعوى الإجماع على التعميم بحسبها} أي: بحسب الموارد {- في مثل هذه المسألة المستحدثة - مجازفة جدّاً} والاعتذار بالعرفان عن مذاق العلماء فيه ما لا يخفى، فإنّ الإنصاف أنّ فهم مذاق العلماء في مثل هذه المسألة من أبعد ما يكون.

{وأمّا بحسب المرتبة} وأنّه لو قلنا بكون النّتيجة على الكشف الطّريق الواصل بنفسه، فهل يكون كلّ ظنّ حجّة سواء كان ظنّاً ضعيفاً أو ظنّاً قويّاً أم تختصّ الحجيّة بالظنّ القوي فقط؟ واللّازم القول بأنّ الظّنّ القوي لو كان وافياً بالفقه فلا إهمال من جهة أنّه الحجّة فقط دون الظّنّ الضّعيف؛ لأنّه وصل الطّريق بنفسه - بسبب الظّنّ القوي - وإن لم يكن وافياً فلا إهمال أيضاً من جهة أنّ الجميع حجّة وإلّا فليس الطّريق واصلاً بنفسه - كما تقدّم في الأسباب - .

وأمّا ما ذكره المصنّف(رحمة

الله) بقوله: {ففيها} أي: في النّتيجة {إهمال لأجل احتمال حجيّة خصوص الاطمئناني منه إذا كان وافياً} بالأحكام {فلا بدّ منالاقتصار عليه} محلّ نظر، إذ لا فرق بين المرتبة والسّبب، فما قلنا في السّبب يجري هنا أيضاً.

هذا كلّه الأقسام الثلاثة: السّبب والمورد والمرتبة بناءً على كون الطّريق واصلاً

ص: 154


1- فرائد الأصول 1: 467.

ولو قيل: ب- «أنّ النّتيجة هو نصب الطّريق الواصل ولو بطريقه» فلا إهمال فيها بحسب الأسباب، لو لم يكن فيها تفاوت أصلاً، أو لم يكن بينها إلّا واحد، وإلّا

___________________________________________

بنفسه - وهو القسم الأوّل بناءً على الكشف - {و} أمّا القسم الثّاني بناءً على الكشف وهو ما {لو قيل ب- : «أنّ النّتيجة} لمقدّمات الانسداد {هو نصب الطّريق الواصل ولو بطريقه»} بمعنى أنّ الطّريق المكشوف من المقدّمات يصل إلينا بواسطة مقدّمات أُخرى فليس الطّريق واصلاً بنفسه، بل واصلاً بطريقه {فلا إهمال فيها} أي: في النّتيجة {بحسب الأسباب} في الجملة.

وتفصيله: أنّ الظّنّ بالحكم على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون سببه واحداً كالخبر مثلاً.

الثّاني: أن يكون سببه متعدّداً غير متفاوت من حيث اليقين بالاعتبار والظّنّ به، بل كان كلّ واحد منهما مثل الآخر في الاعتبار، كما لو كان الخبر والإجماع متساويين في الإفادة للظنّ.

الثّالث: أن يكون سببه متعدّداً متفاوتاً، كما لو كان سبب الظّنّ الخبر والإجماع والشهرة والسّيرة وقطعنا باعتبار الظّنّ الحاصل من الخبر وظننّا باعتبار الظّنّ الحاصل من الإجماع وشككنا باعتبار الظّنّ الحاصل من الشّهرة ووهمنا في اعتبار الظّنّ الحاصل من السّيرة.ففي ما لو كان القسم الثّاني وهو ما {لو} كان أسباب الظّنّ متعدّداً و{لم يكن فيها تفاوت أصلاً أو} كان القسم الأوّل وهو ما لو {لم يكن بينها} أي: بين النّتيجة {إلّا} سبب {واحد} للظنّ لا إهمال أصلاً بحسب الأسباب: أمّا في صورة الوحدة فلأنّها موجبة للتعيين بالذات فلا مجال للإهمال والتردّد، وأمّا في صورة التعدّد مع التساوي؛ فلأنّ التساوي مانع من تعيين البعض إذ لا وجه لتعيين الخبر دون الإجماع مثلاً مع فرض تساويهما من جميع الجهات.

{وإلّا} يكن القسمان الأوّلان بل كان القسم الثّالث - وهو ما كان أسباب الظّنّ

ص: 155

فلا بدّ من الاقتصار على متيقّن الاعتبار منها أو مظنونه، بإجراء مقدّمات دليل الانسداد حينئذٍ مرّةً أو مرّاتٍ في تعيين الطّريق المنصوب، حتّى ينتهي إلى ظنّ واحد، أو إلى ظنون متعدّدة لا تفاوت بينها، فيحكم بحجيّة كلّها، أو

___________________________________________

متعدّداً ومتفاوتاً - {فلا بدّ من الاقتصار على متيقّن الاعتبار منها} أي: من هذه الأسباب المتعدّدة كالخبر في المثال {أو مظنونه} أي: مظنون الاعتبار {بإجراء مقدّمات دليل الانسداد حينئذٍ} أي: حين التعدّد والتفاوت بالظنّ باعتبار بعضها دون بعض {مرّة أو مرّات}.

وتوضيحه - كما في تعليق السّيّد الحكيم - : «إن كان بعضها مظنون الاعتبار دون ما سواه جرى دليل الانسداد في تعيين الحجّة على الاعتبار، فيقال: الظّنّ بالواقع منه مظنون الاعتبار ومنه مشكوك الاعتبار ومنه موهوم الاعتبار. ثمّ يقال: الظّنّ باعتبار بعض الظّنون المتعلّقة بالواقع، إمّا أن يكون واحداً فهو الحجّة علىالاعتبار، أو متعدّداً وكلّها متساوية في تيقّن الاعتبار أو الظّنّ به، كما تقدّم، فكلّها حجّة أيضاً، أو بعضها متيقّن الاعتبار دون غيره فهو الحجّة دون غيره، وإن كان متعدّداً متفاوتاً في الظّنّ بالاعتبار فلا بدّ من إجراء الدليل ثالثاً لتعيين الحجّة على اعتبار الظّنّ بالاعتبار فيقال كما ذكر، وهكذا حتّى ينتهي الأمر إلى ظنّ واحد أو ظنون متساوية أو بعضها متيقّن الاعتبار فيكون ذلك هو الحجّة، ثمّ ينتقل منه إلى إثبات غيره حتّى يتعيّن الظّنّ الّذي هو حجّة على الواقع ويكون واصلاً إلى المكلّف بطريقه لا بنفسه»(1)،

انتهى.

والحاصل: أنّه يجب إجراء مقدّمات الانسداد {في تعيين الطّريق المنصوب حتّى ينتهي إلى ظنّ واحد} فيكون هو الحجّة كالقسم الأوّل {أو إلى ظنون متعدّدة لا تفاوت بينها فيحكم بحجيّة كلّها} كالقسم الثّاني {أو} متعدّدة

ص: 156


1- حقائق الأصول 2: 193.

متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقّن الاعتبار، فيقتصر عليه.

وأمّا بحسب الموارد والمرتبة، فكما إذا كانت النّتيجة هي الطّريق الواصل بنفسه، فتدبّر جيّداً.

ولو قيل ب- «أنّ النّتيجة هو الطّريق ولو لم يصل أصلاً» فالإهمالُ فيها يكون من الجهات. ولا محيص حينئذٍ إلّا من الاحتياط في الطّريق بمراعاة أطراف الاحتمال، لو لم يكن بينها متيقّنُ الاعتبار،

___________________________________________

{متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقّن الاعتبار فيقتصر عليه} كالقسم الأوّل.{وأمّا} النّتيجة في الطّريق الواصل ولو بطريقه {بحسب الموارد والمرتبة} فالظنّ في جميع الموارد حجّة - سواء كان من الأُمور المهمّة كالنفوس أم لا كالطهارة - وذلك لأنّه لو لم يكن في بعضها حجّة كان خلاف الغرض وإنّه لم يصل الطّريق ولو بطريقه، لكن النّتيجة مهملة بالنسبة إلى المرتبة لاحتمال حجيّة الظّنّ الاطمئناني فقط إذا كان وافياً.

{ف-} الحاصل: أنّ النّتيجة بالنسبة إليهما {كما إذا كانت النّتيجة هي الطّريق الواصل بنفسه} كما تقدّم {فتدبّر جيّداً}.

هذا تمام الكلام في الطّريق الواصل بنفسه والطّريق الواصل ولو بطريقه.

{ولو قيل ب- : «أنّ النّتيجة} لدليل الانسداد {هو الطّريق ولو لم يصل أصلاً»} بمعنى أنّ المقدّمات تنتج أنّ الشارع جعل طريقاً لكنّه غير معلوم ومشتبه بين الطّرق الّتي بأيدينا {فالإهمال فيها} أي: في النّتيجة {يكون من الجهات} الثلاث: الموارد والأسباب والمراتب؛ لأنّه لم يعلم - بعد الإهمال - خصوصيّة وتعيين بالنسبة إلى إحدى الجهات ولا طريق إلى التعيين {ولا محيص حينئذٍ إلّا من الاحتياط في الطّريق بمراعاة أطراف الاحتمال} فنعمل بكلّ طريق هو طرف العلم الإجمالي كأن نعمل بالخبر والإجماع والشّهرة والسّيرة {لو لم يكن بينها متيقّن الاعتبار} وكان

ص: 157

لو لم يلزم منه محذور، وإلّا لزم التنزّل إلى حكومة العقل بالاستقلال، فتأمّل، فإنّ المقام من مزالّ الأقدام.

وهم ودفع: لعلّك تقول: إنّ القدر المتيقّن الوافي لو كان في البين، لما كان مجالٌ لدليل الانسداد؛ ضرورة أنّه منمقدّماته: انسداد باب العلمي أيضاً.

___________________________________________

بقدر الكفاية، وإلّا فاللّازم الرّجوع إلى المتيقّن الكافي؛ لأنّه القدر المتيقّن، والعلم الإجمالي ينحلّ بذلك فلا يلزم الاحتياط.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من لزوم الاحتياط في الأطراف إنّما يكون {لو لم يلزم منه محذور} العسر والحرج واختلال النّظام {وإلّا} بأن لزم المحذور {لزم التنزّل إلى حكومة العقل بالاستقلال} أي: نتنزّل من الكشف إلى الحكومة؛ لأنّه لا محيص إلّا عن ذلك {فتأمّل، فإنّ المقام من مزالّ الأقدام} وفي الكلام مواضع من الإشكال تركناها خوف الخروج عن المرام في هذا الشّرح من توضيح عبارات المتن غالباً، واللّه الهادي.

[وهم ودفع]

{وهم ودفع} أمّا الوهم فهو أنّه {لعلّك تقول: إنّ القدر المتيقّن الوافي} بالأحكام {لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد} فكيف تجعلون بعض محتملات الكشف وجود القدر المتيقّن، وأمّا أنّه لا مجال للانسداد مع وجود القدر المتيقّن ل- {ضرورة أنّه من مقدّماته انسداد باب العلمي أيضاً} كانسداد باب العلم فكيف يمكن انسداد باب العلمي مع وجود القدر المتيقّن، كما ذكرتم في بعض محتملات الكشف؟

وأمّا الدفع فهو أنّ المراد بالمتيقّن هو المتيقّن بملاحظة دليل الانسداد لا مطلقاً. فمثلاً: إذا لم تثبت حجيّة خبر الواحد بدليل خاصّ أجرينا مقدّمات الانسداد، فتثبت بذلك حجيّة الخبر؛ لأنّه يوجب الظّنّ، ويكون الخبر قدراً متيقّناً

ص: 158

لكنّك غفلت عن أنّ المراد: ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قِبَله، لأجل اليقين بأنّه لو كان شيء حجّة شرعاً، كان هذا الشّيء حجّة قطعاً؛ بداهة أنّ الدليل على أحد المتلازمين إنّما هو الدليل على الآخر، لا الدليلُ على الملازمة.

ثمّ

___________________________________________

بين سائر ما يوجب الظّنّ من الإجماع والشّهرة والسّيرة مثلاً.

وإلى هذا أشار بقوله: {لكنّك غفلت عن أنّ المراد} ليس المتيقّن بقول مطلق حتّى في ظرف عدم إجراء مقدّمات الانسداد، بل {ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله} أي: من طرف دليل الانسداد. و(قبل) على وزن (عنب) بمعنى أنّه يتيقّن بذلك كالخبر {لأجل اليقين بأنّه لو كان شيء حجّة شرعاً كان هذا الشّيء} كالخبر {حجّة قطعاً} فهو متيقّن على تقدير الانسداد لا متيقّن على كلّ تقدير حتّى يقال: كيف يلائم الانسداد المتيقّن؟ {بداهة أنّ الدليل على أحد المتلازمين} وهو الظّنّ {إنّما هو الدليل على} المتلازم {الآخر} وهو القدر المتيقّن - الّذي هو الخبر في المثال - فإذا قام دليل الانسداد على حجيّة الظّنّ كان هو الدليل على حجّية ما يلازم الظّنّ وهو الخبر الواحد، فيكون القدر المتيقّن مستنداً إلى دليل الانسداد و{لا} يكون {الدليل على الملازمة} الّذي هو أنّه لو كان شيء حجّة لكان هو الخبر، هو الدليل على حجيّة الخبر، حتّى تكون حجيّة الخبر مستغنية عن دليل الانسداد.

وإن شئت قلت: حجيّة القدر المتيقّن - كالخبر في المثال - مستندة إلى دليل الملازمة، ودليل الملازمة مستند إلى الانسداد، فحجيّة القدر المتيقّن مستندةإلى الانسداد.

{ثمّ} إنّه لو قام ظنّ باعتبار بعض الظّنون - كما لو قام ظنّ باعتبار الخبر الواحد من بين سائر الأمارات المظنونة كالإجماع والشّهرة - فهل يكون هذا

ص: 159

لا يخفى: أنّ الظّنّ باعتبار الظّنّ بالخصوص، يوجب اليقين باعتباره من باب دليل الانسداد - على تقرير الكشف - بناءً على كون النّتيجة هو الطّريق الواصل بنفسه، فإنّه حينئذٍ يقطع بكونه حجّة،

___________________________________________

المظنون الاعتبار أرجح من غيره، أو متعيّناً بين سائر الظّنون، كما يقوله صاحب الحاشية والنّراقي، أو لا يسبّب الظّنّ بالاعتبار ترجيحاً أو تعييناً، بل يبقى حال مظنون الاعتبار كغيره من سائر الظّنون، كما يقوله الشّيخ المرتضى، أو يفصل بين ما لو كانت النّتيجة هو الطّريق الواصل بنفسه فالظنّ بالاعتبار مرجّح كالقول الأوّل، وبين ما لو كانت النّتيجة هو الطّريق الواصل ولو بطريقه أو الطّريق ولو لم يصل فلا فرق بين مظنون الاعتبار وغيره، كما يقوله المصنّف(رحمة الله)؟ احتمالات {لا يخفى أنّ الظّنّ باعتبار الظّنّ بالخصوص} كما لو ظننّا باعتبار الخبر الواحد بالخصوص ولم نظنّ باعتبار الإجماع الّذي هو يورث الظّنّ أيضاً {يوجب اليقين باعتباره من باب دليل الانسداد - على تقرير الكشف -} وأنّ العقل يكشف عن اعتبار الشّارع للظنّ في حال الانسداد.

وإنّما يتقدّم مظنون الاعتبار على غيره {بناءً على كون النّتيجة} للمقدّمات {هو الطّريق الواصل بنفسه} وأنّ الشّارع جعل ظنّاً خاصّاً حجّة {فإنّه} أي: الظّنّ الّذي قام ظنّ باعتباره - كالخبر في المثال - {حينئذٍ} أي: حين قلنا بكون نتيجة الانسداد الطّريق الواصل بنفسه {يقطع بكونه حجّة} بثلاث مقدّمات:الأُولى: أنّ الطّريق وصل بنفسه، فهنا طريق معيّن جعله الشّارع حجّة.

الثّانية: ليس غير المظنونات شيء آخر يحتمل أن يكون طريقاً.

الثّالثة: أنّ هذا الطّريق المظنون الاعتبار أرجح من غيره من سائر الظّنون - الّذي لا يظنّ باعتباره - .

فمثلاً: كلّ من الخبر والإجماع يورث الظّنّ بالحكم لكن نظنّ باعتبار الخبر

ص: 160

كان غيره حجّة أم لا.

واحتمال عدم حجيّته بالخصوص، لا ينافي القطع بحجيّته بملاحظة الانسداد؛ ضرورة أنّه على الفرض لا يحتمل أن يكون غيره حجّة بلا نصب قرينة، ولكنّه من المحتمل أن يكون هو الحجّة دون غيره؛ لما فيه من خصوصيّة الظّنّ بالاعتبار.

___________________________________________

ولا نظنّ باعتبار الإجماع، وإذا كان الخبر أرجح كان متيقّناً - أي: سواء كان جميع الظّنون حجّة أم هذا الظّنّ الخبري بالخصوص بكون الخبر حجّة، فهو مقطوع الحجيّة دون ما سواه - فإذا قام خبر مظنون الاعتبار على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وقام إجماع منقول يورث الظّنّ فقط بدون كونه مظنون الاعتبار على عدم الوجوب كان الظّنّ الخبري مقدّماً؛ لأنّه حجّة قطعاً، سواء قلنا بحجيّة مطلق الظّنّ أو قلنا بحجيّة الظّنّ المظنون الاعتبار، وليس الظّنّ الحاصل من الإجماع كذلك؛ لأنّه حجّة على تقدير دون تقدير.

والحاصل: أنّ الظّنّ الخبري - المظنون الاعتبار - مقطوع الحجيّة سواء {كان غيره حجّة أم لا} كما هو واضح.

{و} إن قلت: إنّا نحتمل عدم حجيّة هذا الظّنّ الخبري لاحتمال كون الإجماع المعارض له في المثال حجّة مطابقاً للواقع.قلت: {احتمال عدم حجيّته بالخصوص} في نفسه {لا ينافي القطع بحجيّته} بالنسبة {بملاحظة} دليل {الانسداد} ل- {ضرورة أنّه} أي: هذا الظّنّ الخبري {على الفرض} الّذي ذكرنا من كون نتيجة الدليل - على الكشف - الطّريق الواصل بنفسه {لا يحتمل أن يكون غيره حجّة بلا نصب قرينة} على حجيّة غيره {ولكنّه من المحتمل أن يكون} الظّنّ الخبري {هو الحجّة دون غيره} كالظنّ من الإجماع {لما فيه} أي: في الظّنّ المظنون الاعتبار كالخبر {من خصوصيّة الظّنّ بالاعتبار} الّذي لا يوجد في ما عداه - كالإجماع المعارض له مثلاً - .

ص: 161

وبالجملة: الأمر يدور بين حجيّة الكلّ وحجيّته، فيكون مقطوع الاعتبار.

ومن هنا ظهر حال القوّة. ولعلّ نظر من رجّح بها(1) إلى هذا الفرض، وكان منع شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه(2) - عن الترجيح بها بناءً على كون النّتيجة هو الطّريق الواصل ولو بطريقه، أو الطّريق ولو لم يصل أصلاً.

___________________________________________

{وبالجملة الأمر يدور بين حجيّة الكلّ} سواء كان مظنون الاعتبار أم لا {وحجيّته} أي: حجيّة مظنون الاعتبار فقط {فيكون} مظنون الاعتبار {مقطوع الاعتبار} لأنّه معتبر على التقديرين بخلاف غيره.{ومن هنا ظهر حال القوّة} أي: قوّة هذا المظنون الاعتبار على ما سواه، حيث ليس غيره بهذه القوّة، والقوّة تصلح للاتّكال عليها في تعيين الطّريق.

{ولعلّ نظر من رجح بها} وهو النّراقي وصاحب الحاشية {إلى هذا الفرض} وهو كون النّتيجة - على الكشف - هو الطّريق الواصل بنفسه، وإن كان كلامهما مطلقاً؛ لأنّهما ذكرا الترجيح بالظنّ بالاعتبار بدون تقييد بكون النّتيجة طريقاً واصلاً بنفسه أم لا {وكان منع شيخنا العلّامة} الشّيخ المرتضى - {أعلى اللّه مقامه - عن الترجيح بها} وأنّه لا يكون الظّنّ بالاعتبار من مرجّحات بعض الظّنون على بعض، بل الظّنون كلّها متساوية - سواء منها مظنون الاعتبار وغيره - {بناءً على كون النّتيجة هو الطّريق الواصل ولو بطريقه أو الطّريق ولو لم يصل أصلاً} بأن نكشف من المقدّمات أنّ الشّارع جعل طريقاً بين هذه المظنونات وإن لم نشخّص ذلك الطّريق بعينه، أو نكشف من المقدّمات أنّ الشّارع جعل طريقاً ولو لم نعلم حتّى بالعلم الإجمالي ما هو ذلك الطّريق.

وإنّما لا يكون الظّنّ بالاعتبار مرجّحاً - بناءً على تقديري كون النّتيجة هو

ص: 162


1- هداية المسترشدين 3: 363؛ عوائد الأيام: 396-397.
2- فرائد الأصول 1: 479-486.

وبذلك ربّما يوفّق بين كلمات الأعلام في المقام، وعليك بالتأمّل التامّ.

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ الترجيح بها إنّما هو على تقدير كفاية الرّاجح، وإلّا فلا بدّ من التعدّي إلى غيره

___________________________________________

الطّريق الواصل ولو بطريقه أو الطّريق ولو لم يصل - لأنّ مقتضى الثّاني - وهوكون النّتيجة الطّريق ولو لم يصل - الاحتياط في جميع الأمارات المحتملة للطريقيّة إن لم يستلزم عسراً أو اختلالاً، وإن استلزم أحدهما عمل بالاحتياط في ما أمكن وبحكم العقل بحجيّة مطلق الظّنّ - في ما لم يمكن - فلا يبقى مجال للترجيح بالظنّ بالاعتبار أصلاً.

ومقتضى الأوّل - وهو كون النّتيجة الطّريق الواصل ولو بطريقه - كون الظّنّ إن كان واحداً أخذ به تعييناً، وإن كان متعدّداً غير متفاوت أخذ بالجميع، وإن كان متعدّداً متفاوتاً جرت مقدّمات الانسداد مرّة ثانية وثالثة حتّى ينتهي إلى الواحد أو المتعدّد المتساوي - كما مرّ تفصيله(1) - وحينئذٍ لا يبقى مجال للترجيح بالظنّ بالاعتبار أيضاً.

والحاصل: أنّ منع الشّيخ عن الترجيح خاصّ بهاتين الصّورتين وإن كان كلامه مطلقاً.

{وبذلك} الّذي ذكرنا من تخصيص كلام الطّرفين ببعض صور النّتيجة {ربّما يوفّق بين كلمات الأعلام في المقام} فيرجع النّزاع بينهما لفظيّاً {وعليك بالتأمّل التامّ} وإن كان في هذا التوفيق ما لا يخفى من الإشكال لمن راجع كلام الطّرفين.

{ثمّ لا يذهب عليك أنّ الترجيح بها} أي: بظنيّة الاعتبار {إنّما هو على تقدير كفاية الرّاجح} كالخبر في المثال الّذي هو مظنون الاعتبار بخلاف الإجماع مثلاً {وإلّا} يكف الرّاجح بما علمنا إجمالاً من الأحكام {فلا بدّ من التعدّي إلى غيره}

ص: 163


1- الوصول إلى كفاية الأصول 4: 153.

بمقدار الكفاية، فيختلف الحال باختلافالأنظار، بل الأحوال.

وأمّا تعميم النّتيجة - بأنّ قضيّة العلم الإجمالي بالطريق هو الاحتياط في أطرافه - : فهو لا يكاد يتمّ إلّا على تقدير كون النّتيجة هو نصب الطّريق، ولو لم يصل.

مع أنّ التعميم بذلك لا يوجب العمل إلّا على وفق المثبتات من الأطراف، دون النّافيات، إلّا في ما إذا كان هناك ناف من جميع الأصناف؛

___________________________________________

من سائر الظّنون {بمقدار الكفاية} بالأحكام {فيختلف الحال باختلاف الأنظار} فنظر يرى الكفاية لمظنون الاعتبار ونظر لا يراها {بل الأحوال} ففي حال يكفي المظنون الاعتبار وفي حال لا يكفي.

{وأمّا} قول شريف العلماء(1) الّذي ذكر إمكان {تعميم النّتيجة} للانسداد في صور الكشف حيث قلنا بعدم عموم لها في الأبحاث السّابقة {ب-} بيان {أنّ قضيّة} أي: مقتضى {العلم الإجمالي} بوجود الأحكام في هذه الأمارات المظنونة {بالطريق} المؤدّي إليها {هو الاحتياط في أطرافه} فيجب العمل على كلّ ظنّ {فهو} مردود، إذ {لا يكاد يتمّ} هذا التعميم {إلّا على تقدير كون النّتيجة هو نصب الطّريق ولو لم يصل} إذ على تقدير كون النّتيجة الطّريق الواصل بنفسه يكون جميع الظّنون حجّةً، فلا مجال للاحتياط. وعلى تقدير كون النّتيجة الطّريق الواصل ولو بطريقه يمكن تعيين الطّريق بالظنّ كما تقدّم، فلا مجال للاحتياط أيضاً {مع أنّ التعميم} للنتيجة {بذلك} الّذي ذكرتم من الاحتياط في الأطراف {لايوجب العمل إلّا على وفق المثبتات} للتكليف {من الأطراف} للعلم الإجمالي {دون النّافيات} كما لو قام ظنّ على نفي التكليف بالنسبة إلى دعاء رؤية الهلال مثلاً، وذلك لأنّ النّافي لا اقتضاء له في الترك ولا يصلح للمؤمّنية مع الشّكّ في حجيّته {إلّا في ما إذا كان هناك ناف} للتكليف {من جميع الأصناف} كأن قام الخبر والإجماع والشّهرة والسّيرة

ص: 164


1- حكاه الشيخ الأعظم في فرائد الأصول 1: 497؛ راجع ضوابط الأصول: 255.

ضرورة أنّ الاحتياط فيها لا يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعيّة إذا لزم؛ حيث لا ينافيه؛ كيف؟ ويجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجّة النّافية، كما لا يخفى، فما ظنّك بما لا يوجب الأخذ بموجَبه إلّا من باب الاحتياط؟

___________________________________________

على نفي الدعاء، فإنّه حينئذٍ يقطع بعدم التكليف ويكون مؤمّناً للعقاب المحتمل.

وإن قلت: إذ اقتضى العلم الإجمالي العمل بجميع الظّنون وقام ظنّ على نفي التكليف، فأيّ مورد للاحتياط في المسألة الفرعيّة بعد كون الظّنّ القائم على نفيه طرفاً للعلم الإجمالي؟

قلت: كلّا لا يمكن العمل بذلك الظّنّ {ضرورة أنّ الاحتياط فيها} أي: في النّافيات، ومعنى الاحتياط أنّها طرف للعلم الإجمالي فيلزم العمل بمقتضى ذلك العلم {لا يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعيّة} الّتي هي مسألة وجوب الدعاء عند الرّؤية - في المثال - {إذا لزم} ذلك الاحتياط في المسألة الفرعيّة للتأمين من العقوبة المحتملة و{حيث لا ينافيه} أي: لا ينافي الاحتياط في المسألة الفرعيّة الاحتياط العام في أطراف العلم الإجمالي المتعلّق بجميع الظّنون الّتي منها هذا الظّنّ النّافي.لا يقال: كيف يمكن الاحتياط في المسألة الفرعيّة بعد قيام الظّنّ - كالخبر - على نفي التكليف؟

لأنّا نقول: لا منافاة {كيف ويجوز الاحتياط فيها} أي: في المسألة الفرعيّة {مع قيام الحجّة النّافية} للتكليف، كما أنّه لو قام في حال الانفتاح دليل على عدم وجوب الكرّ ثلاثة وأربعين شبراً جاز الاحتياط لنا بعدم التطهير إلّا في ثلاثة وأربعين مثلاً {كما لا يخفى}.

إذ الحكم الواقعي مجهول حتّى مع قيام الحجّة {فما ظنّك بما لا يوجب الأخذ بموجبه} وهو الظّنّ المشكوك الاعتبار، فإنّه لا يلزم الأخذ به {إلّا من باب الاحتياط}

ص: 165

فافهم.

فصل: قد اشتهر الإشكال(1)

بالقطع بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة. وتقريره - على ما في الرّسائل(2)

- : «أنّه كيف يجامع حكم العقل بكون الظّنّ كالعلم مناطاً للإطاعة والمعصية، ويقبح على الآمر

___________________________________________

أورثه كون النّتيجة مهملة لا يعلم أنّ أيّ ظنّ حجّة فيلزم الأخذ بجميع الأطراف احتياطاً {فافهم} فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق، ولعلّه إشارة إلى بعض الإشكالات الواردة في المقام، فراجع المشكيني(3).

[فصل خروج القياس عن حجيّة الظن]

المقصد السّادس: في الأمارات، خروج القياس عن حجيّة الظن{فصل: قد اشتهر} عند الأصوليّين {الإشكال بالقطع} أي: إنّا نقطع {بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة} أي: لو قلنا: إنّ نتيجة دليل الانسداد حكومة العقل بحجيّة الظّنّ المطلق كيف يمكن خروج الظّنّ القياسي من هذا الحكم العقلي، فإنّه كيف يمكن تخصيص الحكم العقلي؟ وأمّا على تقدير الكشف فلا إشكال، إذ العقل لمّا كشف بأنّ الشّارع جعل الظّنّ حجّة كان خروج القياسي عن العموم الشّرعي ممكناً، إذ بعد نهي الشّارع عن القياس لا يكشف العقل إلّا حجيّة الظّنون الّتي لم تكن قياسيّة.

{وتقريره} أي: تقرير الإشكال {على ما في الرّسائل} للشّيخ+ من جهتين:

الأُولى: {«إنّه كيف يجامع حكم العقل بكون الظّنّ} في حال الانسداد {كالعلم} في حال الانفتاح {مناطاً للإطاعة والمعصية} والثواب والعقاب {ويقبح على الآمر}

ص: 166


1- أصل هذا الإشكال من المحدّث أمين الدين الأستر آبادي، كما في شرح كفاية الأصول 2: 118.
2- فرائد الأصول 1: 516-517.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 464.

والمأمور التعدّي عنه، ومع ذلك يحصل الظّنّ أو خصوص الاطمئنان من القياس، ولا يجوّز الشّارع العمل به؟ فإنّ المنع عن العمل بما يقتضيه - العقل من الظّنّ أو خصوص الاطمئنان - لو فرض ممكناً، جرى في غير القياس، فلا يكون العقل مستقلّاً - ؛ إذ لعلّه نهى عن أمارة، مثل ما نهى عن القياس، واختفى علينا. ولا دافع لهذا الاحتمال إلّا قبح ذلك على الشّارع؛ إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلّا بقبحه، وهذا

___________________________________________

التعدّي عنه، بأن يريد الإطاعة العلميّة {و} يقبح على {المأمور التعدّي عنه} بأن يطيع بالإطاعة الشّكيّة والوهميّة {ومع ذلك يحصل الظّنّ أو خصوص الاطمئنان} غير الواصل إلى حدّ العلم {من القياس ولا يجوّز الشّارع العمل به؟}.

والحاصل: أنّ الظّنّ في حال الانسداد كالعلم في حال الانفتاح، {ف-} كما لا يمكن التصرّف في العلم في ذلك الحال بالمنع عن العمل عن بعض أقسامه، كذلك لا يمكن التصرّف في الظّنّ في حال الانسداد بالمنع عن العمل عن بعض أقسامه.

الثّانية: {أنّ المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظّنّ} بيان ل- «ما» {أو} من {خصوص الاطمئنان} الحاصل من القياس {لو فرض ممكناً جرى في غير القياس} من سائر أسباب الظّنّ {فلا يكون العقل مستقلّاً} بحجيّة أيّ ظنّ {إذ لعلّه} أي: الشّارع {نهى عن أمارة} أُخرى {مثل ما نهى عن القياس واختفى} النّهي {علينا} وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال في الأُمور العقليّة، وإن كانت الظّواهر اللفظيّة لا يبطلها الاحتمال - كما لا يخفى - .

{ولا دافع لهذا الاحتمال إلّا قبح ذلك} النّهي {على الشّارع} الحكيم {إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلّا بقبحه} وقد فرض أنّه لا قبح فيه؛ لأنّه نهى عن مثله وهو القياس، وقد ثبت أنّ حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز سواء {وهذا} الحكم العقلي - بكون الظّنّ في حال الانسداد حجّة كالعلم

ص: 167

من أفراد ما اشتهر من: أنّ الدليل العقلي لا يقبل التخصيص». انتهى موضع الحاجة من كلامه - زيد في علوّ مقامه - .

وأنت خبيرٌ بأنّه لا وقع لهذا الإشكال، بعد وضوح كون حكم العقل بذلك معلّقاً على عدم نصب الشّارع طريقاً واصلاً،

___________________________________________

في حال الانفتاح - {من أفراد ما اشتهر من أنّ الدليل العقلي لا يقبل التخصيص»} بمعنى أنّ العقل لو حكم بكلّيّ لم يمكن تخصيصه بدليل لفظي، بل الحكم العقلي مقدّم على جميع الأدلّة اللفظيّة، ولو كان اللفظ قطعيّ الظّهور، بل لا بدّ من تأويل اللفظي {انتهى موضع الحاجة من كلامه} أي: كلام الشّيخ المرتضى(رحمة الله) {زيد في علوّ مقامه}.

ولا يخفى أنّ ورود الإشكال إنّما هو على الحكومة الّتي يقول بها المشهور، إمّا بناءً على الحكومة في ما كان المنجّز هو العلم باهتمام الشّارع بأحكامه، أو الإجماع - كما تقدّم - فالنهي الشّرعي موجب لخروج مورد القياس عن الحكومة العقليّة ولا مانع؛ لأنّ النّهي سبب لعدم إتيان الاهتمام والإجماع في مورد القياس، كما لا يخفى.

{وأنت خبير بأنّه لا وقع لهذا الإشكال} في خروج القياس؛ لأنّ مورد الانسداد هو الوقائع الّتي ليس فيها علم ولا علميّ، ولذا ليس من مورد الانسداد ما علمنا بالحكم أو قام طريق معتبر على الحكم، كما لو قام خبر العدل بأنّ الإمام أوجب ثلاث تسبيحات في الصّلاة وظننّا عدم وجوب أزيد من الواحدة، فإنّ العلمي مقدّم على الظّنّ بلا إشكال.

ومن المعلوم أنّ القياس ممّا قام العلمي على عدم كونه حجّة، فيكون خارجاً عن مورد دليل الانسداد، وليس خروجه تخصيصاً للحكم العقلي {بعد وضوحكون حكم العقل بذلك} أي: بحجيّة الظّنّ مطلقاً {معلّقاً على عدم نصب الشّارع طريقاً واصلاً}

ص: 168

وعدمِ حكمِهِ به في ما كان هناك منصوب ولو كان أصلاً؛ بداهة أنّ من مقدّمات حكمه: عدم وجود علم ولا علمي، فلا موضع لحكمه مع أحدهما.

والنّهي عن ظنّ حاصل من سبب، ليس إلّا كنصب شيء، بل هو يستلزمه في ما كان في مورده أصل شرعي، فلا يكون نهيه عنه رفعاً لحكمه عن موضوعه، بل به يرتفع موضوعه،

___________________________________________

إلى المكلّف {وعدم حكمه} أي: العقل {به} أي: بالظنّ {في ما كان هناك} طريق {منصوب ولو كان} ذلك الطّريق المنصوب {أصلاً}.

{بداهة أنّ من مقدّمات حكمه} أي: حكم العقل بحجيّة الظّنّ {عدم وجود علم ولا علمي، فلا موضع لحكمه مع أحدهما، و} من المعلوم وجود العلمي في باب القياس، ولا يستشكل بأنّه ليس طريقاً وإنّما هو نهي عن شيء؛ لأنّ {النّهي عن ظنّ حاصل من سبب} خاصّ {ليس إلّا كنصب شيء} في كون ذلك خارجاً عن مورد الانسداد، فكما أنّ الشّارع لو قال بحجيّة خبر الواحد في حال الانسداد كان المتّبع في مورده الخبر لا الظّنّ الّذي على خلافه، كذلك لو قال الشّارع بعدم جواز الاعتماد على شيء كان المتّبع في مورد حصول الظّنّ من ذلك الشّيء نهي الشّارع لا الظّنّ الحاصل {بل هو} أي: النّهي عن ظنّ {يستلزمه} أي: يستلزم النّصب {في ما كان في مورده} أي: مورد ذلك النّهي {أصل شرعي} فإنّ معنى النّهي عن ذلكالظّنّ كون المتّبع هو الأصل، إذ لا دليل علماً ولا علميّاً ولا ظنّ حجّة، فتصل النّوبة إلى الأصل، بينما لو لم يكن نهي كان المتّبع بعد فقد العلم والعلمي الظّنّ الحاصل في المقام، فالنّهي عنه يستلزم استلزاماً عرفيّاً كون الأصل الجاري فيه هو المتّبع {فلا يكون نهيه} أي: نهي الشّارع {عنه} أي: عن الظّنّ الحاصل من سبب خاصّ كالقياس في المقام {رفعاً لحكمه} أي: حكم العقل {عن موضوعه} أي: موضوع حكم العقل، حتّى يقال بأنّ الأحكام العقليّة لا تقبل الرّفع والتخصيص بعد تماميّة موضوعاتها {بل به} أي: بنهي الشّارع {يرتفع موضوعه}

ص: 169

وليس حال النّهي عن سبب مفيد للظنّ إلّا كالأمر بما لا يفيده. وكما لا حكومة معه للعقل، لا حكومة له معه، وكما لا يصحّ بلحاظ حكمه الإشكالُ فيه، لا يصحّ الإشكال فيه بلحاظه.

نعم، لا بأس بالإشكال فيه في نفسه، كما أشكل فيه برأسه،

___________________________________________

أي: موضوع حكم العقل؛ لأنّ موضوعه كان في ما لم يكن علم ولا علمي، وقد فرض في المقام وجود العلمي وهو النّهي الثّابت بالنسبة إلى القياس.

{وليس حال النّهي عن سبب مفيد للظنّ} في وجوب اتّباع النّهي وترك الظّنّ الحاصل {إلّا كالأمر بما لا يفيده} أي: لا يفيد الظّنّ، كما لو قام خبر على شيء ولم يظنّ المكلّف به، فإنّ عدم ظنّه لا يصير سبباً لعدم العمل بعد قيام الدليل العلمي {وكما لا حكومة معه} أي: مع الأمر {للعقل} فليس للعقل أن يقول: «حيث لم يحدث الظّنّ فلا تكليف» {لا حكومة له} أي: للعقل {معه} أي: مع النّهي عن ظنّ خاصّ، فليس له أن يقول: «حيث حدث الظّنّ وجب الاتّباع»{وكما لا يصحّ بلحاظ حكمه} أي: حكم العقل {الإشكال فيه} في الأمر الّذي لا يفيد الظّنّ {لا يصحّ الإشكال فيه} أي: في النّهي عن ظنّ خاصّ {بلحاظه} أي: بلحاظ حكم العقل بحجيّة مطلق الظّنّ.

{نعم، لا بأس بالإشكال فيه} أي: في النّهي عن الظّنّ القياسي {في نفسه} مع قطع النّظر عن حكم العقل بوجوب اتّباع الظّنّ {كما أشكل فيه} أي: في الأمر باتّباع الطّرق {برأسه}.

وحاصل الإشكال أن يقال: كيف يصحّ للشارع النّهي عن الظّنّ والحال أنّ الظّنّ قد يصادف الواقع، فلو صادف الظّنّ القياسي بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال الواقع - بأن كان الدعاء واجباً واقعاً - كان نهي الشارع عن العمل بهذا الظّنّ تفويتاً للواقع.

ص: 170

بملاحظة توهّم استلزام النّصب لمحاذير، تَقَدَّمَ الكلامُ في تقريرها - وما هو التحقيق في جوابها - في جعل الطّرق. غاية الأمر، تلك المحاذير - الّتي تكون في ما إذا أخطأ الطّريق المنصوب -

___________________________________________

وهذا الإشكال لا يرتبط بالظنّ القياسي فقط، بل هو جار في مطلق المنع عن الظّنّ سواء كان قياسيّاً أم لا.

وهذا الإشكال في باب النّهي عن الظّنّ يشبه إشكال ابن قبة في باب جعل الحجيّة للطرق الظّنيّة، كالخبر الواحد بأنّه كيف يمكن للشارع أن يجعل الطّريق الظّنّي حجّة مع أنّه قد يخالف الواقع؟ فلو قال الشّارع بحجيّة خبر الواحد وأدّى الخبر إلى عدم وجوب الدعاء منذ رؤية الهلال - وكان الدعاء واجباً واقعاً - كان جعل الحجيّة للخبر مفوّتاً للواقع، فكما أنّ نصب الطّريق موجب للإشكال في صورة المخالفة للواقع كذلك النّهي عن الظّنّ موجب للإشكال في صورةالموافقة للواقع، فكما أشكل في نصب الطّريق {بملاحظة توهّم استلزام النّصب} للطريق {لمحاذير} من مخالفة الواقع وتحليل الحرام وتحريم الحلال واحتمال التناقض - الّذي قد عرفت سابقاً استحالته كالقطع بالتناقض - {تقدّم الكلام في تقريرها و} تقدّم {ما هو التحقيق في جوابها} باختلاف مرتبة الحكم الظّاهري والواقعي، فلا محذور في مخالفة الواقع لمصلحة التسهيل ونحوها، كما أنّ الحرام ليس فعليّاً إذا لم يصل إلى مرتبة الظّاهر فلا يلزم تحليل حرام وبالعكس، والتناقض مقطوع العلم بعد اختلاف المرتبة، كما تقدّمت الإشارة إلى بعض هذه الأجوبة {في} باب {جعل الطّرق} فراجع، كذلك أشكل في إسقاط الظّنّ عن الحجيّة بملاحظة توهّم أنّ المنع منه موجب للمحاذير المذكورة {غاية الأمر تلك المحاذير الّتي} ذكرت في باب جعل الطّريق {تكون في ما إذا أخطأ الطّريق المنصوب} فأدّى إلى مخالفة الواقع، وهذه المحاذير الّتي ذكرت في باب المنع

ص: 171

كانت في الطّريق المنهي عنه في مورد الإصابة. ولكن من الواضح أنّه لا دخل لذلك في الإشكال على دليل الانسداد بخروج القياس؛ ضرورة أنّه بعد الفراغ عن صحّة النّهي عنه في الجملة، قد أشكل في عموم النّهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل. وقد عرفت أنّه بمكان من الفساد.

___________________________________________

عن الظّنّ {كانت في الطّريق} الواقعي {المنهي عنه في مورد الإصابة} بأن أصاب الظّنّ الواقع، فكان نهي الشّارع عنه موجباً لمخالفة الواقع.والحاصل: أنّ إشكال الأمر يختصّ بصورة الخطأ، وإشكال النّهي يختصّ بصورة الإصابة، مع اشتراك الإشكالين في المقوّمات والخصوصيّات.

هذا، وحيث قد عرفت الجواب عن الإشكال في جعل الطّرق تعرف الجواب عن الإشكال في المنع عن الطّريق باختلاف مرتبة الحكم الظّاهري والواقعي، فلا تفويت ولا تحليل ولا تحريم ولا احتمال للتناقض.

هذا حاصل الإشكال في المنع عن الظّنّ {ولكن من الواضح أنّه لا دخل لذلك} الإشكال {في الإشكال على دليل الانسداد بخروج القياس} بل هو إشكال عامّ متوجّه على منع الشّارع عن العمل بالظنّ.

وإنّما قلنا بأنّ الإشكال هنا لا دخل له بالإشكال في خروج القياس ل- {ضرورة أنّه} أي: الشّأن {بعد الفراغ عن صحّة النّهي عنه} أي: عن الظّنّ {في الجملة} وأنّه لا محذور في هذا النّهي بقول مطلق {قد أشكل في عموم النّهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل} بحجيّة الظّنّ الانسدادي من أيّ شيء حصل، والجارّ في قوله: «بملاحظة» متعلّق بقوله: «أشكل» {وقد عرفت أنّه} أي: الإشكال بخروج القياس {بمكان من الفساد} لما تقدّم من أنّه خارج موضوعاً، إذ موضوع الانسداد ما لم يكن هناك علمي، والأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالقياس علميّة توجب عدم العمل به.

ص: 172

واستلزام إمكان المنع عنه - لاحتمال المنع عن أمارة أُخرى، وقد اختفى علينا - وإن كان موجباً لعدم استقلال العقل، إلّا أنّه إنّما يكون بالإضافة إلى تلك الأمارة، لو كان غيرها ممّا لا يحتمل فيه المنعبمقدار الكفاية، وإلّا فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض استقلال العقل؛ ضرورة عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعه،

___________________________________________

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) أشار إلى جواب الإشكالين اللّذين ذكرهما الشّيخ على خروج القياس من لزوم احتمال خروج ظنون أُخرى من النّتيجة، لعدم الفرق بين الظّنّ القياسي وبين الظّنّ من سائر الأمارات، فلا يمكن العمل بسائر الظّنون أيضاً، ومن أنّ الظّنّ في حال الانسداد كالعلم في حال الانفتاح، فكما لا يمكن المنع عن العلم لا يمكن المنع عن الظّنّ، فقال في صدر الجواب عن الإشكال الأوّل: {واستلزام إمكان المنع عنه} أي: عن الظّنّ القياسي {لاحتمال} المكلّف {المنع عن أمارة أُخرى} لأنّه لو كان المنع عن الظّنّ ممكناً لم يكن فرق بين النّهي عن القياس والنّهي عن غيره.

{و} عدم ظفرنا بالنهي لا يضرّ لاحتمال أنّه {قد اختفى علينا} فلا يمكن العمل بأيّ ظنّ؛ لأنّه إذا جاء الاحتمال بطل الحكم العقلي، كما لا يخفى {وإن كان} هذا الاستلزام {موجباً لعدم استقلال العقل} «إِنْ» وصلية {إلّا أنّه إنّما يكون} مجال لهذا الاحتمال {بالإضافة إلى تلك الأمارة} المشكوكة - الّتي يحتمل المنع عنها - {لو كان غيرها} أي: غير تلك الأمارة {ممّا لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية} كما لو كانت هناك عشرون أمارة تكفي تسع عشرة منها للوفاء بالأحكام، فإنّه يحتمل المنع عن الأمارة الّتي هي متمّمة العشرين {وإلّا} يكن غيرها بقدر الكفاية {فلا مجال لاحتمال المنع فيهامع فرض استقلال العقل} بوجوب العمل بها لدرك الأحكام الّتي لا يرضى الشّارع بتركها {ضرورة عدم استقلاله} أي: العقل {بحكم} كوجوب العمل بالأمارات لدرك الأحكام الواقعيّة {مع احتمال وجود مانعه}

ص: 173

على ما يأتي تحقيقه في الظّنّ المانع والممنوع.

وقياس حكم العقل(1)

- بكون الظّنّ مناطاً للإطاعة في هذا الحال - على حكمه

___________________________________________

إذ الاحتمال المخالف ينافي الحكم العقلي، فلا يمكن أن يحكم العقل بقبح كلّ ظلم ثمّ يحتمل حسن هذا الظّلم - مع فرض تماميّة الموضوع - {على ما يأتي تحقيقه في الظّنّ المانع والممنوع}.

والحاصل: أنّ احتمال منع الشّارع عن الخبر الواحد - مثلاً - في ظرف الانسداد غير معقول، إذ المفروض أنّ الشّارع يريد أحكامه، والمفروض أنّه لا سبيل إلى الأحكام إلّا بهذه الظّنون الحاصلة من خبر الواحد والشّهرة والإجماع والسّيرة مثلاً، فمن المقطوع حجيّة الظّنّ الصّادر عنها، وهذا الحكم القطعي ينافي احتمال المنع.

إن قلت: المنع عن أمارة واحدة لا يوجب إهمال سائر الأمارات حتّى يلزم عدم إمكان العمل بالأحكام الواقعيّة لسدّ طرقها.

قلت: لا يخلو الأمر إمّا أن يكون سائر الأمارات كالشهرة والإجماع والسّيرة في المثال كافية أم لا، فإن لم تكن كافية كان المنع عن الخبر نقضاً للغرض، وإن كانت كافية لم يكن وجه لتخصيص الخبر بالخروج عن الحجيّة؛ لأنّ هذا الاحتمال - أي: احتمال المنع جارٍ في كلّ أمارة أمارة ولا أولويّة لخروج بعضهادون بعض - فتأمّل.

وحيث فرغ المصنّف من الجواب عن الإشكال الأوّل شرع في الجواب عن الإشكال الثّاني القائل بكون الظّنّ في حال الانسداد كالعلم في حال الانفتاح، فكما لا يمكن النّهي عن العلم لا يمكن النّهي عن الظّنّ، فقال: {وقياس حكم العقل - بكون الظّنّ مناطاً للإطاعة في هذا الحال -} أي: حال الانسداد {على حكمه}

ص: 174


1- فرائد الأصول 1: 527.

بكون العلم مناطاً لها في حال الانفتاح، لا يكاد يخفى على أحد فسادُه؛ لوضوح أنّه مع الفارق؛ ضرورة أنّ حكمه في العلم على نحو التنجّز، وفيه على نحو التعليق.

ثمّ لا يكاد ينقضي تعجّبي لم خصّصوا الإشكال بالنهي عن القياس؟ مع جريانه في الأمر

___________________________________________

أي: حكم العقل {بكون العلم مناطاً لها} أي: للإطاعة {في حال الانفتاح} فكما لا يمكن النّهي عن العلم في الانفتاح لا يمكن النّهي عن الظّنّ في الانسداد، فكيف يمكن النّهي عن الظّنّ القياسي؟ {لا يكاد يخفى على أحد فساده} خبر لقوله: «وقياس» {لوضوح أنّه} - أي: هذا القياس - ليس بصحيح لأنّه {مع الفارق، ضرورة أنّ} العلم لا يقبل الخلاف بخلاف الظّنّ فإنّ {حكمه} أي: العقل {في} تنجيز {العلم} حال الانفتاح {على نحو التنجّز} الّذي لا يمكن رفعه {وفيه} أي: في الظّنّ {على نحو التعليق} بعدم المانع وقد فرض وجود المانع.

وإن شئت قلت: إنّ العلم حيث كان له الكاشفيّة الذاتيّة لم يكن قابلاً للجعل والرّفع، أمّا الظّنّ فحيث لم يكن له الكاشفيّة الذاتيّة وإنّما بعض الكاشفيّة القابلة للتتميم وعدمه كان ذلك بيد الشّارع إن أتمّه صار كالعلم في التنجيز وإن لم يتمّهبل منع عنه بقي على أصله الّذي لا يمكن جعله طريقاً.

{ثمّ} إنّ لنا أن نتساءل عن من أشكل في خروج القياس، بأنّه أيّ فرق بين منع الشّارع عن بعض الظّنون في حال الانسداد وبين أمره باتّباع بعض ما لا يوجب الظّنّ في هذا الحال، إذ العقل يرى حجيّة الظّنّ فقط، فكما لا يصحّ المنع عن الظّنّ لا يصحّ جعل ما لا يفيد الظّنّ؛ لأنّ في كليهما خروجاً عن مقتضى العقل الحاكم بحجيّة الظّنّ فقط، فلم هؤلاء المستشكلون استشكلوا على خروج القياس ولم يستشكلوا على دخول ما لا يفيد الظّنّ مع أنّ الإشكال في كليهما على حدّ سواء؟

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {لا يكاد ينقضي تعجّبي لم خصّصوا الإشكال بالنهي عن القياس} في حال الانسداد {مع جريانه} أي: الإشكال {في الأمر} أي:

ص: 175

بطريق غير مفيد للظنّ، بداهة انتفاء حكمه في مورد الطّريق قطعاً، مع أنّه لا يظنّ بأحد أن يستشكل بذلك، وليس إلّا لأجل أنّ حكمه به معلّق على عدم النّصب، ومعه لا حكم له، كما هو كذلك مع النّهي عن بعض أفراد الظّنّ، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

أمر الشّارع {بطريق غير مفيد للظنّ} وإنّما كان شبه إشكال القياس جارياً هنا ل- {بداهة انتفاء حكمه} أي: حكم العقل {في مورد} الأمر ب- {الطّريق قطعاً} فلا يحكم العقل باتّباع الطّريق غير المفيد للظنّ في حال الانسداد {مع أنّه لا يظنّ بأحد أن يستشكل بذلك} أي: بجعل الشّارع للطريق غير المفيد للظنّ في حال الانسداد {وليس} عدم الإشكال في مورد الأمر {إلّا لأجل أنّحكمه} أي: حكم العقل {به} أي: باعتبار الظّنّ {معلّق على عدم النّصب} أي: عدم نصب الشّارع، فإذا نصب الشّارع لم يكن للعقل حكم أصلاً لانتفاء موضوعه، إذ موضوعه في ما لم يكن هناك علم ولا علمي، ومن المعلوم أنّ مع النّصب يوجد العلمي.

{و} الحاصل: أنّ {معه} أي: مع النّصب {لا حكم له} أي: للعقل {كما هو كذلك} أي: لا حكم للعقل {مع النّهي عن بعض أفراد الظّنّ} لانتفاء موضوع حكم العقل {فتدبّر جيّداً}.

هذا تمام الكلام في ما رأيناه من الجواب عن إشكال خروج القياس.

وقد أجاب الشّيخ(رحمة الله) عن الإشكال بجوابين آخرين جعلهما سادس الأجوبة وسابعها، وتقريرهما بلفظه قال: «إنّ النّهي يكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعيّة المدركة على تقدير العمل به، فالنهي عن الظّنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مع الانسداد، نظير الأمر بالظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح»(1).

ثمّ أشكل الشّيخ في هذا الجواب، إلى أن قال في ثاني الجوابين: «إنّ خصوصيّة

ص: 176


1- فرائد الأصول 1: 528.

وقد انقدح بذلك؛ أنّه لا وقع للجواب عن الإشكال:

تارةً: بأنّ المنع عن القياس لأجل كونه غالب المخالفة.

وأُخرى: بأنّ العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة.

وذلك لبداهة

___________________________________________

القياس من بين سائر الأمارات هي غلبة مخالفتها للواقع، كما يشهد به قوله(علیه السلام): «إنّ السّنّة إذا قيست محق الدين»(1)،

وقوله: «كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه»(2)، وقوله: «ليس شيء أبعد من عقول الرّجال من دين اللّه»(3)، وغير ذلك...»(4)،

إلى آخر كلامه+.

لكن المصنّف(رحمة الله) لم يرتض هذين الجوابين فقال: {وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من أنّه لا يمكن تخصيص الحكم العقلي بحجيّة الظّنّ في حال الانسداد {أنّه لا وقع للجواب عن الإشكال} بما لا يعود إلى نفي الموضوع {تارة بأنّ المنع عن القياس لأجل كونه غالب المخالفة} للواقع، وهذا هو ثاني الجوابين {وأُخرى بأنّ العمل به} أي: بالقياس {يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة} لأنّه مستلزم للاستغناء عن الحجج^، وهذا هو أوّل الجوابين.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّه لا وقع لهذين الجوابين {لبداهة} أنّ الجوابين يفيدان صحّة النّهي عن القياس، وأنّه إنّما نهى عنه - مع أنّ النّهي مفوّت لمصلحة

ص: 177


1- الكافي 1: 57.
2- وسائل الشيعة 8: 137-138.
3- تفسير العيّاشي 1: 12 و 17، ولفظ الحديث فيه هكذا: «ليس شيء أبعد من عقول الرّجال من القرآن»، وفي بعض الرّوايات: «من تفسير القرآن».
4- فرائد الأصول 1: 529.

أنّه إنّما يُشكل بخروجه - بعد الفراغ عن صحّة المنع عنه في نفسه - بملاحظة حكمالعقل بحجيّة الظّنّ، ولا يكاد يجدي صحّتُه كذلك - في الذبّ عن الإشكال - في صحّته بهذا اللحاظ، فافهم، فإنّه لا يخلو عن دقّة.

___________________________________________

الواقع - لكونه كثير المخالفة أو لكون مفسدته مزاحمة لمصلحة الواقع المحرزة بسببه. أمّا الجواب عن إشكال أنه كيف يمنع عنه في حال الانسداد الّذي يحكم العقل بحجيّة مطلق الظّنّ فيه فليس هذان الجوابان كفيلين به.

وإن شئت قلت: إنّ الإشكال في صحّة النّهي عن القياس من جهتين: من حيث نفسه، ومن حيث منافاته لحكم العقل بحجيّة الظّنّ في حال الانسداد.

وهذان الجوابان إنّما يدفعان الإشكال من الجهة الأُولى، أمّا الجهة الثّانية فلا ربط لهذين الجوابين بها، ف- {إنّه إنّما يشكل بخروجه} أي: خروج القياس {- بعد الفراغ عن صحّة المنع عنه في نفسه - بملاحظة حكم العقل بحجيّة الظّنّ} الجارّ متعلّق بقوله: «يشكل»، يعني بعد ما فرغنا عن أنّ المنع عن القياس في نفسه صحيح نتكلّم في أنّه هل يصحّ المنع في حال الانسداد؟ والجوابان بصدد صحّة المنع في نفسه {ولا يكاد يجدي صحّته} أي: صحّة المنع عنه {كذلك} في نفسه {في الذبّ عن الإشكال في صحّته} أي: صحّة المنع {بهذا اللحاظ} أي: لحاظ حكم العقل في حال الانسداد.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ الجوابين صحيحان حتّى بالنسبة إلى إشكال خروج الظّنّ القياسي عن حكم العقل في حال الانسداد؛ لأنّ العقل إنّما يحكم بحجيّة الظّنّ في حال الانسداد لما يرى من قربه إلى الواقع بدون مفسدة، فإذا استكشف - من نهي الشّارع عن القياس بقول مطلق - عدم قرب القياس إلىالواقع لكثرة الخطأ، أو استكشف وجود مفسدة فيه تزاحم مصلحة الواقع لم يحكم بحجيّته وليس ذلك تخصيصاً بل تخصّصاً، فتفطّن {فإنّه لا يخلو عن دقّة}.

ص: 178

وأمّا ما قيل في جوابه(1)

- من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد، أو منع حصول الظّنّ منه بعد انكشاف حاله، وأنّ ما يفسده أكثرُ ممّا يصلحه - ، ففي غاية الفساد؛ فإنّه - مضافاً إلى كون كلّ واحد من المنعين غيرَ سديد؛ لدعوى الإجماع على عموم المنع، مع إطلاق أدلّته، وعموم علّته،

___________________________________________

وقد ذكر الشّيخ في الرّسائل جوابين آخرين عن إشكال خروج الانسداد:

الأوّل: عدم تسليم خروج القياس، بل الظّنّ القياسي حجّة في حال الانسداد؛ لأنّ الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالقياس مختصّة بصورة الانفتاح.

الثّاني: أنّ القياس لا يوجب الظّنّ، وإن أوجب فهو بدويّ يزول بملاحظة نهي الشّارع عنه.

وفي كلا الجوابين نظر، وإليه أشار المصنّف بقوله: {وأمّا ما قيل} والقائل هو الشّيخ في الرّسائل {في جوابه} أي: جواب إشكال خروج القياس {من منع} أي: إنّا نمنع {عموم المنع عنه} أي: عن القياس {بحال الانسداد} بل المنع خاصّ بحال الانفتاح {أو} نقول في الجواب ب- {منع حصول الظّنّ منه} أي: من القياس {بعد انكشاف حاله} من نهي الشّارع {و} تبيّن {أنّما يفسده أكثر ممّا يصلحه} كما مرّ {ففي غاية الفساد، فإنّه مضافاً إلى كون كلّ واحد من المنعين غير سديد}.

أمّا المنع الأوّل القائل بأنّ أدلّة النّهي عن القياس لا يشمل حال الانسداد ف- {لدعوى الإجماع على عموم المنع} وأنّه لا يجوز مداخلته في الدين {مع إطلاق أدلّته} الشّرعيّة {وعموم علّته} العقليّة، وهي محق الدين وما يفسد أكثر ممّا يصلح، وما نرى بالوجدان من عدم تماثل الأحكام المرتّبة على الموضوعات المتماثلة.

ص: 179


1- ذكره الشيخ الأعظم في فرائد الأصول 1: 517 و 521؛ وراجع قوانين الأصول 1: 448-449، و 2: 112-113.

وشهادةِ الوجدان بحصول الظّنّ منه في بعض الأحيان - لا يكاد يكون في دفع الإشكال - بالقطع بخروج الظّنّ النّاشئ منه - بمفيد، غاية الأمر أنّه لا إشكال مع فرض أحد المنعين، لكنّه غير فرض الإشكال، فتدبّر جيّداً.

فصل: إذا قام ظنّ على عدم حجيّة ظنّ بالخصوص،

___________________________________________

{و} أمّا المنع الثّاني القائل بأنّ القياس لا يفيد الظّنّ فل- {شهادة الوجدان بحصول الظّنّ منه في بعض الأحيان} حتّى مع النّهي الشّرعي عنه، فإنّ النّهي لا يوجب زوال الحالة النّفسيّة، كما لا يخفى {لا يكاد} خبر «إنّ» في قوله: «فإنّه مضافاً» الخ، أي: إنّ كلّ واحد من هذين الجوابين لا يكاد {يكون في دفع الإشكال - بالقطع بخروج الظّنّ النّاشئ منه - بمفيد} خبر «يكون»، فإنّ هذا الجواب فرار عن الإشكال وتسليم للإشكال بالنتيجة؛ لأنّ الجواب - بعد فرض تماميّة مقدّمات الانسداد وخروج الظّنّ القياسي وإيجابالقياس للظنّ - بمنع أحد الأمرين مثل الجواب بمنع مقدّمات الانسداد {غاية الأمر أنّه لا إشكال مع فرض أحد المنعين لكنّه غير فرض الإشكال} والجواب عنه بعد تسليم تمام المقدّمات {فتدبّر جيّداً} وفي المقام أجوبة أُخرى لا داعي إلى نقلها، واللّه العالم.

[فصل الظّنّ المانع والممنوع]

المقصد السّادس: في الأمارات، الظنّ المانع والممنوع

{فصل} في الظّنّ المانع والممنوع {إذا قام ظنّ على عدم حجيّة ظنّ بالخصوص} كأن قام الإجماع على عدم حجيّه الظّنّ الحاصل من الشّهرة، فهل العمل على الظّنّ المانع أو العمل على الظّنّ الممنوع أو يتساقطان أو يلاحظ الأقوائيّة أو المطابق منهما للاحتياط؟ ولا يخفى أنّ المراد ليس الظّنّين الفعليّين لاستحالة ذلك، بل المراد الشّأنيّة فيهما أو في أحدهما، بأن لم يكن ظنّ فعليّ أصلاً أم كان بالنسبة إلى أحدهما.

ص: 180

فالتحقيق أن يقال - بعد تصوّر المنع عن بعض الظّنون في حال الانسداد - : إنّه لا استقلال للعقل بحجيّة ظنّ احتمل المنع عنه، فضلاً عمّا إذا ظنّ - كما أشرنا إليه في الفصل السّابق - ؛ فلا بدّ من الاقتصار على ظنّ قطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فإن كفى، وإلّا فبضميمة ما لم يظنّ المنع عنه وإن احتمل، مع قطع النّظر عن مقدّمات الانسداد، وإن انسدّ باب هذا الاحتمال معها،

___________________________________________

{فالتحقيق أن يقال}: بسقوط الظّنّ الممنوع عن الحجيّة، إذ {بعد تصوّر المنع عن بعض الظّنون في حال الانسداد} كما تقدّم في باب المنع من القياس وأنّه لا مانع من عدم العملببعض الظّنون وأنّه ليس منافياً لحكم العقل، ولو قلنا بكون النّتيجة على الحكومة {أنّه لا استقلال للعقل بحجيّة ظنّ احتمل المنع عنه} لما تقدّم من أنّ الأدلّة العقليّة لا مجال لها مع احتمال الخلاف، فإنّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال {فضلاً عمّا إذا ظنّ} بالمنع كما هو مفروض الكلام الآن {كما أشرنا إليه في الفصل السّابق} في توجيه خروج القياس {فلا بدّ من الاقتصار} حينئذٍ {على ظنّ قطع بعدم المنع عنه بالخصوص} أمّا الظّنّ الممنوع قطعاً - بظنّ آخر - أو المحتمل المنع فلا يعمل بهما {فإن كفى} الظّنّ المقطوع بعدم المنع عنه للوفاء بمعظم الفقه فهو {وإلّا} يكف {فبضميمة ما لم يظنّ المنع عنه وإن احتمل} لأنّه أقرب إلى الواقع من الظّنّ الممنوع قطعاً.

ثمّ إنّ مرادنا باحتمال المنع كونه محتملاً {مع قطع النّظر من مقدّمات الانسداد} يعني أنّه لو لم يكن انسداد في البين كان هذا الظّنّ محتمل المنع - لا من باب أصالة عدم جواز العمل بمطلق الظّنّ - بل من باب أنّ فيه خصوصيّة زائدة أوجبت المنع عنه {وإن انسدّ باب هذا الاحتمال} أي: احتمال المنع {معها} أي: مع وجود مقدّمات الانسداد.

وإنّما قيّدنا الظّنّ المحتمل المنع بكون احتمال منعه قبل مقدّمات الانسداد؛

ص: 181

كما لا يخفى؛ وذلك ضرورة أنّه لا احتمال مع الاستقلال حسب الفرض.

___________________________________________

لأنّ الظّنّ المحتمل المنع عنه بعد تماميّة مقدّمات الانسداد حاله حال الظّنّالمقطوع المنع عنه، لما عرفت - في فصل الظّنّ القياسي - من أنّ احتمال المنع كالقطع بالمنع في تخصيص الحكم العقلي بحجيّة مطلق الظّنّ به {كما لا يخفى} على من تأمّل.

{وذلك} الّذي ذكرنا من كون احتمال المنع قبل مقدّمات الانسداد غير ضارّ ل- {ضرورة أنّه لا احتمال} للمنع {مع الاستقلال} للعقل بحجيّة كلّ ظن {حسب الفرض} الّذي ذكرنا من تماميّة مقدّمات الانسداد.

ثمّ إنّه قد اختلف في أنّ مقدّمات الانسداد تنتج حجيّة الظّنّ مطلقاً - سواء في مسائل أُصول الفقه أو المسائل الفرعيّة، فيكون حال الظّنّ بامتناع اجتماع الأمر والنّهي، ووجوب المقدّمة، وعدم حجيّة الاستصحاب إذا كان مثبتاً - مثلاً - حال الظّنّ بكون التسبيحات الأربع تجب ثلاث مرّات، والظّنّ بوجوب الإقامة على الرّجال، والظّنّ بعدم وجوب جلسة الاستراحة - أم لا تنتج إلّا حجيّة الظّنّ في المسائل الفرعيّة فقط أمّا المسائل الأصوليّة، فلا حجيّة للظنّ فيها؟ وقد ذكر هذا المبحث شيخنا المرتضى(رحمة الله) في الرّسائل مفصّلاً، فراجع(1).

وهنا قد يبنى على هذا الاختلاف الفرق - في ما نحن فيه من الظّنّ المانع والممنوع - بين كون الظّنّ المانع من الأصول أم من الفروع وكذا الظّنّ الممنوع، ففي بعضها يقدّم المانع وفي بعضها يقدّم الممنوع.

قال السّيّد الحكيم: «على ما ذكرنا تتفاوت الحال بينهما، إذ بناءً على حجيّة الظّنّ بالأصول فالظنّ الممنوع ممّا يظنّ بعدم حجيّته فلا يجوز العمل عليه، وبناءً على حجيّة الظّنّ في الفروع يكون العمل على الممنوع؛ لأنّه منه دون المانع،

ص: 182


1- فرائد الأصول 1: 541.

ومنه انقدح: أنّه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النّتيجة هي حجيّة الظّنّ في الأصول، أو في الفروع، أو فيهما، فافهم.

فصل: لا فرق - في نتيجة الانسداد - بين الظّنّ بالحكم من أمارة عليه، وبين الظّنّ به من أمارة متعلّقة بألفاظ الآية أو الرّواية، كقول اللغوي في ما يورث الظّنّ بمراد الشّارع من لفظه،

___________________________________________

وبناءً على حجيّة كلّ منهما يجوز العمل بكلّ واحد منهما في نفسه لكن لتمانعهما يتعيّن العمل بالمانع؛ لأنّ المقتضى فيه تنجيزيّ وفي الممنوع تعليقيّ، وذو المقتضى التنجيزي مقدّم على ذي المقتضى التعليقي»(1)،

انتهى.

{و} لكن المصنّف بعد تمهيد ما تقدّم بنى على عدم الفرق، إذ {منه انقدح أنّه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النّتيجة هي حجيّة الظّنّ في الأصول} أي: أُصول الفقه {أو في الفروع أو فيهما} ولعلّه أشار إلى بعض ما تقدّم بقوله: {فافهم} والكلام في المقام طويل، من شاء فليرجع إلى المفصّلات.

[فصل الظّنّ بالحكم وبمقدّماته]

اشارة

المقصد السّادس: في الأمارات، الظنّ بالحكم وبمقدّماته

{فصل} في الظّنّ بالحكم وبمقدّماته {لا فرق في نتيجة دليل الانسداد بين الظّنّ بالحكم من أمارة عليه} كأن يظنّ كون الضّربة الواحدة كافية في باب التيمّم من الرّوايات البيانيّة الدالّة على ذلك {وبين الظّنّ به} أي: بالحكم {من أمارة متعلّقة بألفاظ الآية} المتضمّنة للحكم {أو الرّواية} الدالّة عليه {كقول اللغوي في ما يورث الظّنّ بمراد الشّارع من لفظه} كما لو قام قول اللغويعلى أنّ لفظ (الصّعيد) عبارة عن مطلق وجه الأرض ولو كان حجراً أو تراباً ولا يختصّ بالتراب فقط، فإنّه موجب لفهم ذلك من قوله - تعالى - : {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا}(2)، وذلك سبب للظنّ

ص: 183


1- حقائق الأصول 2: 205.
2- سورة النساء، الآية: 43؛ سورة المائدة، الآية: 6.

وهو واضح.

ولا يخفى: أنّ اعتبار ما يورثه لا يختصّ بما إذا كان ممّا ينسدّ فيه باب العلم، فقول أهل اللغة حجّة في ما يورث الظّنّ بالحكم مع الانسداد، ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد.

نعم،

___________________________________________

بالحكم وإنّ مطلق وجه الأرض كاف في التيمّم {وهو واضح} لا يخفى. وإنّما عمّمنا النّتيجة؛ لأنّه لا فرق في نظر العقل الحاكم بحجيّة الظّنّ بين القسمين، فإنّ الظّنّ في حالة الانسداد كالقطع في حالة الانفتاح، فكما لا فرق في الأمرين بالنسبة إلى العلم كذلك لا فرق بينهما بالنسبة إلى الانسداد.

{ولا يخفى أنّ اعتبار ما يورثه} أي: اعتبار السّبب الّذي يورث الظّنّ ممّا يتعلّق بالحكم مطلقاً {لا يختصّ بما إذا كان ممّا ينسدّ فيه باب العلم} أي: ينسدّ في الحكم الشّرعي باب العلم، فإذا انسدّ باب العلم بالأحكام كان كلّ ما يورث الظّنّ بالحكم ابتداءً أو نتيجة حجّة، لما عرفت من العلّة {فقول أهل اللغة حجّة في ما يورث الظّنّ بالحكم مع الانسداد} لباب العلم والعلمي بالأحكام {ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد} أي: في غير هذا المورد، فلو كان الإنسان يتمكّن من العلم بمعاني الألفاظ اللغويّة لم يكن يلزمعليه ذلك في فهم الأحكام من الأدلّة، بل اللّازم هو مجرّد تحصيل الظّنّ.

مثلاً: لو كان بإمكانه مراجعة المتعدّد من اللغات حتّى يحصل العلم بمعنى الصّعيد لم يجب ذلك وكان أوّل مراجعة يوجب الظّنّ بالمعنى كافياً في جواز الاعتماد، وذلك لأنّ انسداد باب العلم في الأحكام كاف في حجيّة الظّنّ بالحكم، وأيّ فرق بين أن يكون الظّنّ بالحكم ابتداءً أو بما يؤول إلى الظّنّ بالحكم؟

{نعم} انسداد باب العلم بالأحكام لا يوجب كفاية الظّنّ باللغة مطلقاً ولو في

ص: 184

لا يكاد يترتّب عليه أثر آخر، من تعيين المراد في وصيّة أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجيّة، إلّا في ما يثبت فيه حجيّةُ مطلق الظّنّ بالخصوص، أو ذاك المخصوص.

___________________________________________

غير باب الأحكام، بل اللّازم في سائر الأُمور المحتاجة إلى اللغة تحصيل العلم بالمعنى اللغوي، فلو أوصى بإعطاء آنيته إلى زيد لزم تحصيل العلم بمعنى الآنية ولا يكفي الظّنّ بمعناها، وإن كفى الظّنّ بمعناها في باب تحريم آنية الذهب والفضّة، وذلك لأنّ انسداد باب العلم بالأحكام موجب لكفاية الظّنّ ولو بالنسبة إلى متعلّق الحكم، وأمّا غير الأحكام فلم ينسدّ باب العلم بالاكتفاء بالظنّ فيه خلاف حكم العقل بوجوب تحصيل العلم.

والحاصل: أنّه {لا يكاد يترتّب عليه} أي: على الظّنّ {أثر آخر} غير الحكم {من تعيين المراد في وصيّة أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجيّة} غير المرتبطة بباب الأحكام، فإنّه لا ملازمة بين حجيّة الظّنّ بالأحكام وحجيّته في سائر الموضوعات الّتي لها آثار عمليّة كباب الوصيّة والإقرار وأوامر الموالي ونواهيهم، فلو أمر المولى بالإتيان ببعض الصّعيد لميكف الظّنّ في معناه لإطاعته، بل يلزم العلم.

فالظنّ بمراد الشّارع حجّة لا الظّنّ بمراد الموصي والمقرّ والمولى {إلّا في ما يثبت فيه حجيّة مطلق الظّنّ بالخصوص} بأن قام دليل عامّ على حجيّة الظّنّ مطلقاً بالنسبة إلى قول اللغوي، كما لو جرت في أقوالهم مقدّمات الانسداد، كأن يقال: إنّا نقطع بتوجّه تكاليف إلينا في أبواب الوصايا والأقارير ونحوهما، وانسداد باب العلم والعلمي بمعاني اللغات والاحتياط موجب للعسر أو الاختلال، ويقبح ترجيح المرجوح على الرّاجح فلا بدّ من كفاية الظّنّ في اللغة.

{أو} يثبت حجيّة {ذاك} الظّنّ {المخصوص} بأن قلنا: إنّ قول اللغوي من

ص: 185

ومثله: الظّنّ الحاصل بحكم شرعيّ كلّيّ من الظّنّ بموضوع خارجيّ، كالظنّ بأنّ راوي الخبر هو: زرارة بن أعين - مثلاً - لا آخر.

___________________________________________

الظّنون الخاصّة - كما ادّعى جماعة في باب ظواهر الألفاظ - لأنّهم من أهل الخبرة وقول أهل الخبرة حجّة مطلقاً ولو لم يورث علماً، فإنّه يكفي حينئذٍ الظّنّ بمعاني الوصايا والأقارير، لكن لا من باب الظّنّ الانسدادي المطلق، بل من باب حجيّة هذا الظّنّ المخصوص، لكونه خارجاً عن الأدلّة النّاهية عن العمل بغير العلم لقيام الدليل على حجيّته كما قام على حجيّة الظّواهر.

والحاصل: أنّ دليل الانسداد في الأحكام يكفي لحجيّة الظّنّ المتعلّق باللغة في باب الحكم لا حجيّته في سائر الأبواب إلّا إذا قام انسداد آخر أو قام دليل خاصّ يقول بحجيّة الظّنّ المتعلّق باللغة.

ولو انعكس الأمر - بأن لم تتمّ مقدّمات الانسداد في باب الأحكام - لا يكفيالظّنّ باللغة المتعلّق بالحكم وإن انسدّ باب العلم في اللغة، بل اللّازم الاحتياط، فلو كان باب العلم بالحكم مفتوحاً يجب تحصيل معنى الصّعيد علماً أو علميّاً، ولا يكفي الظّنّ بمعناه وإن قلنا بحجيّة الظّنّ المطلق في باب اللغة لانسداد باب العلم والعلمي فيها.

{ومثله} أي: مثل الظّنّ الحاصل من قول اللغوي {الظّنّ الحاصل بحكم شرعيّ كلّيّ من الظّنّ بموضوع خارجيّ، كالظنّ بأنّ راوي} هذا {الخبر} المفيد لحكم شرعيّ كلّي {هو زرارة بن أعين} الثقة {مثلاً، لا} زرارة {آخر} غير الثقة، فإنّ جريان مقدّمات الانسداد في باب الأحكام كاف لحجيّة الظّنّ المتعلّق بالرجال وإن لم يكف إلّا العلم في سائر الأبواب، فلو كان زرارة هذا حيّاً واشتبه وظنّ أنّه ابن أعين جاز أخذ الحكم منه ولم يجز الطّلاق عنده ولا الصّلاة خلفه ولا قبول شهادته في الموضوعات، لعدم انسداد باب العلم في هذه الأُمور.

ص: 186

فانقدح: أنّ الظّنون الرّجاليّة مجدية في حال الانسداد، ولو لم يقم دليل على اعتبار قول الرّجالي، لا من باب الشّهادة، ولا من باب الرّواية.

تنبيه: لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات - المتطرّقة إلى مثل السّند أو الدلالة أو جهة الصّدور -

___________________________________________

{فانقدح} بما ذكرنا من كفاية كلّ ظنّ متعلّق بالحكم في حال الانسداد {أنّ الظّنون الرّجاليّة} وهي عبارة عن الظّنّ بكثير من الرّواة أنّهم ثقة أو غير ثقة - كما يعرف ذلك من له أقلّ إلمام بعلمي الدراية والرّجال - {مجدية في حال الانسداد} أي: انسداد باب العلم في الأحكام الشّرعيّة {ولو لم يقم دليل} خاصّ، ولا دليل انسدادصغير خاصّ بباب الرّجال {على اعتبار قول الرّجالي لا من باب الشّهادة} لاعتبار العدد والعدالة في الشّهادة، ومن المعلوم أنّ الغالب عدم اقتران قول الرّجالي بهما {ولا من باب الرّواية} لوضوح أنّ قول الرّجالي إخبار عن الموضوع وليس من الرّواية في شيء حتّى تكفي الوحدة والوثوق وتشمله أدلّة خبر الواحد.

فظهر بذلك أنّ توهّم شمول أدلّة الشّهادة أو أدلّة خبر الواحد لأقوال أهل الرّجال في غير محلّه، بل لو قلنا بالانسداد في الفقه كان قول الرّجالي حجّة لكونه موجباً للظنّ وإلّا احتجنا إلى التماس دليل آخر، فتدبّر فإنّه سيأتي في التنبيه أنّ مادام العلم والعلمي ممكناً لم يتنزّل العقل إلى الظّنّ؛ لأنّها أقوى، فكيف يكتفى بالظنّ في اللغة ونحوها مع إمكان العلم وإن انسدّ باب العلم بالأحكام.

[تنبيه]

{تنبيه} في أنّ التنزّل إلى الظّنّ لا يكون إلّا بعد عدم إمكان العلم والعلمي {لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرّقة إلى مثل السّند} وهو الرّواة النّاقلون للخبر {أو الدلالة} المرتبطة بظهور الخبر في المعنى المراد منه {أو جهة الصّدور} وهي كون الخبر صادراً لبيان الحكم الواقعي أو للتقيّة أو ما

ص: 187

مهما أمكن في الرّواية، وعدم الاقتصار على الظّنّ الحاصل منها، بلا سدّ بابه فيه بالحجّة، من علم أو علمي؛ وذلك لعدم جواز التنزّل في صورة الانسداد إلى الضّعيف، مع التمكّن من القوي، أو ما بحكمه عقلاً، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

أشبه، فإنّ هذه الجهات تحصيلها أوّلاً وبالذات بالعلم أو العلمي، بأن نعلم مثلاًصحّة سند الخبر وظهوره في المعنى المراد وكونه صادراً لبيان حكم اللّه الواقعي {مهما أمكن} فلو انسدّ باب العلم والعلمي في بعضها لا شكّ بأنّه يرجع إلى الظّنّ، على ما عرفت في تقرير مقدّمات الانسداد.

أمّا البعض الآخر الّذي لم ينسدّ باب العلم والعلمي فيه فهل يجوز الرّجوع إلى الظّنّ {في الرّواية} بالنسبة إليه أم يلزم تحصيل العلم والعلمي به؟ كما لو انسدّ باب العلم والعلمي بالنسبة إلى السّند لكن لم ينسدّا بالنسبة إلى الظّهور والدلالة، الأقوى لزوم تحصيل العلم {وعدم الاقتصار على الظّنّ الحاصل منها} أي: من هذه الجهات {بلا سدّ بابه} أي: باب الاحتمال {فيه} أي: في ذلك المظنون من الجهات {بالحجّة من علم أو علمي}.

{وذلك} الّذي ذكرنا من عدم كفاية الظّنّ {لعدم جواز التنزّل في صورة الانسداد إلى الضّعيف} الّذي هو الظّنّ {مع التمكّن من القوي} الّذي هو العلم {أو ما بحكمه} الّذي هو العلمي {عقلاً، فتأمّل جيّداً}.

ومن ذلك تعرف المنافاة بين هذا الكلام وبين ما نفاه سابقاً في الفصل المتقدّم.

ثمّ إنّ مقتضى هذا الحكم العقلي بعدم جواز التنزّل أنّ أيّ مورد أمكن العلم والعلمي ولو كان مورداً واحداً لم يجز التنزّل، فلو انسدّ الباب في الجهات الثلاث في جميع الأخبار لكن جهة واحدة في خبر واحد يمكن تحصيل العلم والعلمي فيها لا يجوز التنزّل إلى الظّنّ في تلك الجهة.

ص: 188

فصل: إنّما الثابت بمقدّمات دليل الانسداد في الأحكام، هو: حجيّة الظّنّ فيها، لا حجيّته في تطبيق المأتي به في الخارج معها، فيتّبع - مثلاً - في وجوبصلاة الجمعة يومها، لا في إتيانها، بل لا بدّ من علم أو علمي بإتيانها، كما لا يخفى.

نعم، ربّما يجري نظير مقدّمات الانسداد في الأحكام، في بعض الموضوعات الخارجيّة،

___________________________________________

[فصل الظّنّ بالفراغ]

المقصد السّادس: في الأمارات، الظّنّ بالفراغ

{فصل} الثابت بمقدّمات الانسداد حجيّة الظّنّ في باب التكليف لا في باب الامتثال، فلو ظنّ الإنسان بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال كان حجّة، أمّا لو شكّ في السّاعة الثّانية من أوّل ليلة من الشّهر هل أنّه أتى بالدّعاء عند الرّؤية أم لا، ثمّ ظنّ بالإتيان لم يكن ظنّه هذا حجّة بل يجب عليه الإتيان حالاً بالدعاء؛ لأنّ مقدّمات الانسداد لم تدلّ على حجيّة الظّنّ بالامتثال، بل لا بدّ وأن يرجع في مقام الامتثال إلى القواعد الخاصّة بهذا المقام من استصحاب وقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز وقاعدة الصّحّة وأشباهها.

{إنّما الثّابت بمقدّمات دليل الانسداد في الأحكام هو حجيّة الظّنّ فيها} أي: في الأحكام في مقام الإثبات والاشتغال {لا حجيّته} أي: حجيّة الظّنّ {في تطبيق المأتي به في الخارج معها} أي: مع تلك الأحكام في مقام الفراغ والامتثال، وعلى هذا {فيتّبع} الظّنّ {- مثلاً - في وجوب صلاة الجمعة يومها} أي: يوم الجمعة و{لا} يتّبع الظّنّ في ما لو تردّد {في إتيانها} بعد ظهر يوم الجمعة {بل لا بدّ من علم أو علمي بإتيانها، كما لا يخفى} لأنّ الانسداد إنّما هو في مقام التكليف لا في مقام الامتثال.

{نعم، ربّما يجري نظير مقدّمات الانسداد في الأحكام} الجارّ متعلّق ب-«الانسداد» {في بعضالموضوعات الخارجيّة} الجارّ متعلّق ب- «يجري»، فيثبت به حجيّة الظّنّ في ذلك الموضوع الخارجي، فإنّه - وإن كان من باب الامتثال لا أصل الحكم - لكن حيث يجري شبه المقدّمات فيه ينتج حجيّة الظّنّ، وذلك

ص: 189

من: انسداد باب العلم به غالباً،

___________________________________________

كباب الضّرر الّذي هو موضوع لأحكام شرعيّة كثيرة، كالطهارات الثلاث والصّوم والصّلوات الإعذاريّة والحجّ وغيرها، فإنّ مقدّمات الانسداد لا شكّ في عدم جريانها في الامتثال بهذه التكاليف؛ لأنّه كان من مقدّماته عدم الرّجوع إلى الأصول لمخالفته للعلم الإجمالي كثيراً.

ومن المعلوم أنّ الرّجوع في باب الضّرر إليها لا يلزم منه ذلك، لكن يجري في مثل ذلك شبه مقدّمات الانسداد، كأن يقال: إنّا نعلم بالتكليف في المقام وقد انسدّ علينا باب العلم والعلمي به، فلا ندري هذا الصّوم - مثلاً - ضرري حتّى يحرم أم لا حتّى يجب، نعلم باهتمام الشّارع بحكمه حتّى لا يرضى بإجراء الأصول في كلّ مورد مورد ولا يمكن الاحتياط أو يمكن مع العسر المرفوع شرعاً، وحينئذٍ يدور الأمر بين الظّنّ والشّكّ والوهم، فبضميمة قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح تنتج حجيّة الظّنّ، فنعمل في الصّيام والإفطار حسب ظنّنا بأحد الطّرفين، وهكذا يقال بالنسبة إلى ظنّ الضّرر من استعمال الماء في الطّهارة الحدثيّة والخبثيّة والذهاب إلى الحجّ وسائر موارد مظنون الضّرر.

بل يقال مثل ذلك في باب النّسب بترتيب الآثار على النّسب المظنون، فلو اشترط العلم لزم عدم ترتيب الآثار على كثير من الأنساب المظنونة خصوصاً في بابي الخمس والزكاة وفي باب الرّضاع وفي باب العدالة الّذي يلزم من اشتراط العلم فيه تضييق دائرة الأحكام، إذ كلّ شهادة وقضاء وإمامة وما أشبه مرتّبة علىالعدالة، حتّى لو لم نقل بمقالة من يقول باشتراطها في أخذ الزكاة والنّائب عن الميّت والوصي ومن أشبههم.

والحاصل: أنّ كلّ مورد {من} موارد الامتثال تحقّقت فيه هذه الأُمور:

الأوّل: {انسداد باب العلم} والعلمي {به غالباً}.

ص: 190

واهتمام الشّارع به، بحيث عُلم بعدم الرّضا بمخالفته الواقع، بإجراء الأصول فيه مهما أمكن، وعدمِ وجوب الاحتياط شرعاً، أو عدم إمكانه عقلاً، كما في سائر موارد الضّرر المردّد أمره بين الوجوب والحرمة مثلاً، فلا محيص عن اتّباع الظّنّ حينئذٍ أيضاً،

___________________________________________

{و} الثّاني: {اهتمام الشّارع به بحيث علم بعدم الرّضا بمخالفته الواقع بإجراء الأصول فيه مهما أمكن} إحراز الواقع ولو إحرازاً ظنيّاً.

{و} الثّالث: {عدم وجوب الاحتياط شرعاً} لاستلزامه العسر والحرج، كما في ما كان الوضوء أو الصّلاة عن قيام شاقّاً {أو عدم إمكانه} أي: الاحتياط {عقلاً} كما لو كان الأمر دائراً بين محذورين، كما في ما لو علم بوجوب الصّيام أو حرمته ممّا لا يمكن فيه الاحتياط لدورانه بين المحذورين، و{كما في سائر موارد الضّرر المردّد أمره بين الوجوب والحرمة مثلاً، فلا محيص عن اتّباع الظّنّ حينئذٍ أيضاً} ترجيحاً للراجح على المرجوح.

ولكن ربّما يقال: إنّ اتّباع الظّنّ في هذه الموارد ليس لأجل جريان شبهمقدّمات الانسداد فيه، بل من جهة كون الظّنّ، بل الخوف موضوعاً للحكم، كما يرشد إليه جملة من الأخبار، كقوله(علیه السلام) في باب التيمّم وعدم وجوب الفحص عن الماء: «لا آمره أن يغرّر بنفسه»(1).

ومن المعلوم أنّ الخوف أقلّ مرتبة من الظّنّ، بل يلائم مع الشّكّ، ألا ترى أنّه لو تردّد إناء السّمّ بين عشرة لم يقدم على إحداها العقلاء محتجّين بخوف الضّرر، مع أنّ تسعة احتمالات من عشرة في هذا الإناء الخاصّ تؤيّد عدم كونه سمّاً وهكذا في سائر أبواب الضّرر، والنّسب دلّ الدليل على كفاية الشّهرة فيه والاكتفاء بما دونها خلاف القاعدة، والرّضاع يحكم الأصل فيه لدى الشّكّ ولم يقم دليل على كفاية الظّنّ، بل لم يظهر قائل بها، والعدالة كاف فيها حسن الظّاهر بناءً على التضييق في مفهومها أمّا من يقول

ص: 191


1- الكافي 3: 65.

فافهم.

خاتمة: يذكر فيها أمران استطراداً:

الأوّل: هل الظّنّ كما يتّبع - عند الانسداد عقلاً - في الفروع العمليّة - المطلوب فيها أوّلاً العمل بالجوارح - يتّبع في الأصول الاعتقاديّة - المطلوبُ فيها عملُ الجوانح، من: الاعتقاد به، وعقد القلب عليه،

___________________________________________

بالسعة - كما ذكر في باب التقليد وغيره - فهو في مندوحة عن هذا الإشكال، ولعلّ قوله: {فافهم} إشارة إلى بعض ما ذكرناه.

[خاتمة]

اشارة

{خاتمة} لمبحث الانسداد {يذكر فيها أمران}: الظّنّ في أُصول الدين، والترجيح بالظنّ {استطراداً} وإنّما كان استطراداً لأنّانعقاد بحث الانسداد إنّما هو لحجيّة الظّنّ في باب الأمارات والطّرق - أي: الأحكام الفرعيّة العمليّة - لا في أُصول الدين وباب التراجيح:

[عدم اعتبار الظّنّ في الاعتقادات]

المقصد السّادس: في الأمارات، عدم اعتبار الظّنّ في الاعتقادات

{الأوّل} في حجيّة الظّنّ في أُصول الدين {هل الظّنّ كما يتّبع - عند الانسداد عقلاً -} منصوب بقوله: «يتّبع» {في الفروع العمليّة المطلوب فيها أوّلاً} وبالذات {العمل بالجوارح} أي: البدن بما احتوى من أعضاء {يتّبع في الأصول الاعتقاديّة المطلوب فيها عمل الجوانح} أي: القلب وما في الجوف {من الاعتقاد به} بيان ل-«عمل الجوانح» {وعقد القلب عليه}.

ولا يخفى أنّ الاعتقاد غير عقد القلب، فإنّ الأوّل عبارة عن معرفة الإنسان بشيء والثّاني عبارة عن البناء عليه، وبينهما عموم من وجه، فالمشرك الّذي يعرف الحقّ معتقد للحقّ لكنّه ليس بعاقد قلبه عليه، كما أنّ من يعرف فساد عقيدته

ص: 192

وتحمّله، والانقيادِ له - أو لا؟

الظّاهر: لا؛ فإنّ الأمر الاعتقادي وإن انسدّ باب القطع به،

___________________________________________

الّذي بنى عليه عاقد قلبه وليس بمعتقد، ويجتمعان في المؤمن الّذي يعتقد بالحقّ ويعقد قلبه عليه، كما أنّهما ينتفيان في من لا يعتقد ولا يعقد قلبه على شيء، ويدلّ على الافتراق من ناحية العقيدة قوله - سبحانه - : {وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ}(1)، وقوله - سبحانه - : {يَعۡرِفُونَهُۥكَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمُۘ}(2)، وقوله - تعالى - : {يَعۡرِفُونَ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا}(3)، ولعلّ قوله - سبحانه - : {قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ}(4)، يدلّ على الافتراق من جهة العقيدة، بأنّهم كانوا عقدوا قلوبهم ولكن بدون الاعتقاد.

وكيف كان، فهل الظّنّ يتّبع في ما يكون المطلوب فيه العقيدة به {وتحمّله والانقياد له أو لا} فلا يكفي فيه الظّنّ، بل إن حصل الاعتقاد ولو إجمالاً فهو وإلّا فلا يعتبر الظّنّ أصلاً؟ {الظّاهر لا} فلا يتّبع الظّنّ، وذلك لأنّ من مقدّمات الانسداد عدم إمكان الاحتياط عقلاً أو استلزامه للعسر والحرج المنفيّين شرعاً، والاعتقاد ليس كذلك، إذ يكفي الاعتقاد الإجمالي - بأن يلتزم بأنّه مؤمن بما هو الواقع - وذلك لا يستلزم عسراً، كما أنّه ليس بمستحيل عقلاً {فإنّ الأمر الاعتقادي} الّذي هو أُصول الدين الخمسة التوحيد والعدل والنّبوّة والإمامة والمعاد {وإن انسدّ باب القطع به} كما لو كان في محلّ منقطع عن البشر في مغارة أو منقطع جبل فلا يتمكّن من العلم بأنّ خالق الكون واحد أو اثنان وهل له نبيّ أم

ص: 193


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- سورة البقرة، الآية: 146؛ سورة الأنعام، الآية: 20.
3- سورة النحل، الآية: 83.
4- سورة الحجرات، الآية: 14.

إلّا أنّ باب الاعتقاد إجمالاً - بما هو واقعه - والانقيادِ له وتحمّله غيرُ منسدٍّ. بخلاف العمل بالجوارح، فإنّه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلّا بالاحتياط، والمفروض عدم وجوبه شرعاً، أو عدم جوازه عقلاً، ولا أقرب من العمل على وفق الظّنّ.وبالجملة: لا موجب - مع انسداد باب العلم في الاعتقاديّات - لترتيب الأعمال الجوانحيّة على الظّنّ فيها، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها، فلا يتحمّل إلّا لما هو الواقع، ولا ينقاد إلّا له،

___________________________________________

لا... إلى غير ذلك {إلّا أنّ باب الاعتقاد إجمالاً - بما هو واقعه -} فيعتقد بالخالق كما هو الواقع وبالنبيّ، كما هو الواقع {والانقياد} القلبي {له وتحمّله} عقلاً وذهناً {غير منسدّ} فلا تتمّ مقدّمات الانسداد لتصل النّوبة إلى الظّنّ.

وهذا {بخلاف العمل بالجوارح} في الأحكام العمليّة {فإنّه لا يكاد يعلم مطابقته} أي: المأتي به {مع ما هو واقعه} ومطلوب منه {إلّا بالاحتياط} بالإتيان بجميع الأطراف، إذ لا يكون عمل إجمالي، كما يكون علم إجمالي {والمفروض عدم وجوبه} أي: الاحتياط {شرعاً} لكونه عسراً وحرجاً {أو عدم جوازه عقلاً} لكونه مخلّاً بالنظام، أو عدم إمكانه خارجاً لكونه من دوران الأمر بين المحذورين، كما تقدّم في الشّكّ بين وجوب الصّوم وحرمته {ولا أقرب} إلى الواقع {من العمل على وفق الظّنّ} ولذا يكون الظّنّ حجّة.

{وبالجملة لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديّات لترتيب الأعمال الجوانحيّة على الظّنّ فيها} بأن يعقد قلبه على ما هو المظنون من الأصول الاعتقاديّة، بل لا يجوز؛ لأنّ في الظّنّ خوف الاعتقاد بخلاف الواقع.

بل ربّما يقال: إنّ الآيات النّاهية عن الاعتقاد بغير علم شاملة لصورة الانسداد أيضاً {مع إمكان ترتيبها} أي: الأعمال الجوانحيّة {علىما هو الواقع فيها} بالنحو الإجمالي {فلا} يجوز أن يعتقد و{يتحمّل إلّا لما هو الواقع ولا ينقاد إلّا له} أي: لما

ص: 194

لا لما هو مظنونه. وهذا بخلاف العمليّات، فإنّه لا محيص عن العمل بالظنّ فيها مع مقدّمات الانسداد.

نعم، يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات - لو أمكن - ، من باب وجوب المعرفة لنفسها،

___________________________________________

هو الواقع {لا لما هو مظنونه} أي: مظنون كونه واقعاً {وهذا بخلاف العمليّات} أي: الأحكام المرتبطة بالعمل {فإنّه لا محيص عن العمل بالظنّ فيها مع} تماميّة {مقدّمات الانسداد}.

لا يقال: إذا كان الاعتقاد بالواقع بما هو واقع كافٍ في الأمن من الضّرر - الّذي هو مبنى حكم العقل بوجوب المعرفة - فالاعتقاد الإجمالي حتّى في صورة إمكان تحصيل العلم التفصيلي كافٍ في امتثال الحكم العقلي بوجوب المعرفة ويكون مؤمناً من الضّرر، فما وجه ما ذكره العلماء من وجوب تحصيل العلم بالمعارف تفصيلاً؟

لأنّا نقول: ليس الأمر كذلك، بل المعرفة واجبة عقلاً وإنّما يكون الاكتفاء بالإجمال في صورة تعذّر التفصيل، وإلى هذا أشار بقوله: {نعم، يجب تحصيل العلم} التفصيلي {في بعض الاعتقادات لو أمكن} تحصيل العلم التفصيلي {من باب وجوب المعرفة لنفسها} إما من جهة وجوب شكر المنعم، وذلك لا يتأتّى إلّا بعد المعرفة التفصيليّة، فإنّ الشّكر يجب أن يكون قابلاً للمنعم، وعرفان ذلك لا يكون إلّابمعرفة المنعم تفصيلاً.

ألا ترى إن جاءه ضيف وعرف أنّه إنسان محترم يجب إكرامه لا يكفي هذا العلم الإجمالي في اكتفاء العقل، إذ من المحتمل أن يكون هذا المحترم إنساناً زاهداً فيكون احترامه بتهيئة القرآن وكتب الدعاء له، وقد يكون إنساناً جائعاً فيكون احترامه بتهيئة الطّعام له، وقد يكون عالماً فيكون بتهيئة كتب العلم له وهكذا، فإنّ

ص: 195

كمعرفة الواجب - تعالى - وصفاته، أداءً لشكر بعض نعمائه، ومعرفة أنبيائه؛ فإنّهم وسائط نعمه وآلائه،

___________________________________________

الاحترام يلزم أن يكون لائقاً بمن يراد احترامه، وكذلك الشّكر يلزم أن يكون لائقاً بالمشكور، وهذا يتوقّف على معرفته التفصيليّة.

والحاصل: أنّ المعرفة واجبة لوجوب الشّكر عقلاً، والشّكر لا يتأتّى إلّا بعد المعرفة التفصيليّة.

هذا لو قلنا بأنّ حكم العقل بوجوب المعرفة مستند إلى وجوب شكر المنعم، ولو قلنا بأنّه مستند إلى الأمن من الضّرر فكذلك أيضاً، إذ العقل لا يؤمن من لا يعرف تفصيلاً لإيجابه معرفته التفصيليّة حتّى يتجنّب مواضع سخطه، فإنّ المعرفة الإجماليّة بما يحتمل ضرره لا يكفي في تجنّب الضّرر.

والظّاهر أنّ وجوب شكر المنعم كما هو عقليّ كذلك هو فطريّ، وكذلك بالنسبة إلى وجوب دفع الضّرر المحتمل فلا يلزم من كونهما فطريّين عدم كونهما عقليّين كما قيل، كما أنّه لا بأس بالقول بكون المعرفة واجبة شرعاً أيضاً، ولكن ذلك - لا كما يقول الأشاعرة - على شرط استقلال العقل أوّلاً بأصلها.

وعلى أيّ حال لا شكّ في أنّ المعارف واجبة نفسيّاً {كمعرفة الواجب - تعالى - و} معرفة {صفاته} في الجملة ممّايرجع إلى معرفته كمعرفة أنّه واحد وقديم وعالم وقادر لا جميع الصّفات، إذ لم يدلّ دليل عقليّ ولا نقليّ على وجوب معرفة صفاته جميعها. وإنّما نقول بوجوب المعرفة لما أشرنا إليه {أداءً لشكر بعض نعمائه} فإنّ أداء شكر جميع النّعم غير ميسّر، فإنّ لكلّ شكر شكراً، والعقل إنّما يوجب أداء ما تمكّن الإنسان من شكره لا شكر ما هو أهله وإن لم يتمكّن.

{و} كذا يجب {معرفة أنبيائه} في الجملة وإن لم يعرفهم تفصيلاً {فإنّهم وسائط نعمه وآلائه} إذ بهم هُدِيَ النّاسُ إلى الحقّ وإلى صراط مستقيم، والعقل

ص: 196

بل وكذا معرفة الإمام(علیه السلام) على وجه صحيح؛ فالعقل يستقلّ بوجوب معرفة النّبيّ ووصيّه؛ لذلك،

___________________________________________

كما يوجب معرفه المنعم يوجب معرفة الواسطة. وإنّما قلنا: «في الجملة» لبداهة عدم وجوب معرفه جميع الأنبياء، بل لولا الدليل لأمكن القول بعدم وجوب معرفة ما سوى نبيّ الإسلام بالنسبة إلينا.

{بل وكذا} يجب عقلاً {معرفة الإمام(علیه السلام) على وجه صحيح} وبيّنه المصنّف في تعليقه بقوله: «وهو كون الإمامة كالنبوّة منصباً إلهيّاً يحتاج إلى تعيينه - تعالى - ونصبه، لا أنّها من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين، وهو الوجه الآخر»(1)، انتهى.

الّذي يقول به العامّة خلافاً للوجه الأكمل الّذي يقول به الخاصّة في رواية سليم بن قيس عن أميرالمؤمنين(علیه السلام) قال: «إنّ أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أن يعرّفه اللّه - تبارك وتعالى - نفسه فيقرّ له بالطاعة، ويعرّفه نبيّه فيقرّ لهبالنبوّة، ويعرّفه إمامه وحجّته في أرضه وشاهده على خلقه فيقرّ له بالطاعة»، فقلت: يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلّا ما وصفت؟ قال: «نعم، إذا أُمر أطاع، وإذا نُهي انتهى»(2).

ويدلّ عليه أيضاً قوله - تعالى - : {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(3)، فإنّ إطاعة أُولي الأمر لا تكون إلّا بعد المعرفة، وكذا الحديث المشهور: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهليّة»(4)،

إلى غير ذلك.

{فالعقل يستقلّ بوجوب معرفة النّبي ووصيّه لذلك} الّذي ذكرنا من وجوب أداء

ص: 197


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 505.
2- بحار الأنوار 66: 17؛ إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات 1: 121.
3- سورة النساء، الآية: 59.
4- وسائل الشيعة 16: 246؛ بحار الأنوار 51: 160؛ كمال الدين وتمام النعمة 2: 409؛ إعلام الورى 2: 253.

ولاحتمال الضّرر في تركه.

ولا يجب عقلاً معرفة غير ما ذكر إلّا ما وجب شرعاً معرفته، كمعرفة الإمام(علیه السلام) على وجه آخر غير صحيح،

___________________________________________

شكر المنعم ووسائطه، فإنّه على تقدير كون الإمام منصوباً من قبل اللّه تعالى، - كما هو المذهب - يكون داخلاً في كونه واسطة، منتهى الأمر أنّ وساطة النّبيّ ابتدائيّ ووساطة الإمام ثانوي.

{ولاحتمال الضّرر في تركه} ودفع الضّرر المحتمل واجب عقلاً ولا مؤمن يدفع هذا الاحتمال، كما لا يخفى.

أمّا معرفة العدل فهو من شئون التوحيد، وإنّما جعل أصلاً برأسه في قبال منأنكرها فقال: لو أدخل اللّه الأنبياء النّار بعد طول عبادتهم وإطاعتهم وأدخل الفجّار جنّة عرضها السّماوات والأرض بعد طول كفرهم وفجورهم كان عدلاً، كما بيّن ذلك مع جوابه مفصّلاً في الكلام. وأمّا المعاد فهو ممّا يجب الاعتقاد به نقلاً لا عقلاً، وربّما يقال بوجوبه عقلاً؛ لأنّه من لوازم العدل، فالقول بالعدل يستلزمه. وتفصيل الكلام في كتب الكلام، فراجع.

{ولا يجب عقلاً معرفة غير ما ذكر إلّا ما وجب شرعاً معرفته} فإنّ العقل يوجبه حينئذٍ لا أصالة بل من باب الامتثال والإطاعة، كما يوجب سائر أنحاء الامتثال والإطاعة {كمعرفة الإمام(علیه السلام) على وجه آخر غير صحيح} وهو الوجه الّذي اختاره العامّة من عدم كون الإمامة من المناصب الإلهيّة، وإنّما هو أمر يجب على المسلمين مقدّمة لإقامة الحدود وتأمين البلاد وتقويم العباد.

وفي قصّة ظريفة أنّ أحد علماء العامّة قال لتلاميذه: إنّي ظفرت بحديث فإن أجبتموني وإلّا تركت هذا المسلك، وهو قوله(صلی الله علیه و آله): «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهليّة»، فمن هو إمام هذا الزّمان بعد موت الخلفاء؟ فإن قلتم

ص: 198

أو أمر آخر ممّا دلّ الشّرع على وجوب معرفته.

وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص - لا من العقل ولا من النّقل - كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة.

و

___________________________________________

هو الحاكم للبلاد في هذا الوقت، فكيف يمكن أن يوجب اللّه - تعالى - عَلَيّ معرفته وأنا كما تعلمون مقامي في العلم والدين، وهو كما تعلمون مقامه في الابتعاد عنهما؟ فلا يخلو الأمر: من أن يكون الرّسول(صلی الله علیه و آله) غيرقائل بالحقّ - والعياذ باللّه - أو أن يكون اللّه أوجب معرفة الجاهل على العالم ولا يكون ذلك، أو أن نموت نحن موت الجاهليّين ولا نريد ذلك، أو أن يكون كلام الشّيعة صدقاً. ولمّا لم يعرف التلاميذ الجواب، وكان الحديث صحيحاً بلا ارتياب، ولم تصحّ الشّقوق الأُخر من مانعة الخلوّ، تشيّع واعتنق مذهب آل البيت^.

{أو} معرفة {أمر آخر} عطف على قوله: «كمعرفة الإمام» أي: لا يجب عقلاً بعد معرفة اللّه والنّبيّ والإمام إلّا بعض الأُمور {ممّا دلّ الشّرع على وجوب معرفته} فإنّه واجب حينئذٍ عقلاً لكونه إطاعة وامتثالاً {وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص لا من العقل ولا من النّقل} كخصوصيّات صفات اللّه سبحانه - ككون علمه من صفات الذات لا من صفات الفعل - ، وصفات النّبيّ والإمام - ككونهم لا ينام قلوبهم وإنّما تنام عيونهم - ، وخصوصيّات القبر والقيامة والجنّة والنّار - ككون اسم الملك الّذي يدخل القبر (رومان)، ونزول الشّمس إلى سمت الرّؤوس بمقدار رمح، وإنّ باب الصّبر للجنّة أضيق الأبواب، وإنّ عقارب جهنّم كالبغال - {كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة} بالإضافة إلى الأدلّة الشّرعيّة الدالّة على عدم وجوب معرفة هذه الأشياء، كما تقدّم في حديث ابن قيس.

{و} ربّما توهّم وجوب معرفة ما جاء به النّبيّ(صلی الله علیه و آله) مطلقاً من الأُمور الأصوليّة

ص: 199

لا دلالة لمثل قوله - تعالى - : {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ}(1) الآية، ولا لقوله(صلی الله علیه و آله):«وما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصّلوات الخمس»(2)،

ولا لما دلّ على وجوب التفقّه وطلب العلم - من الآيات والرّوايات - على وجوب معرفته بالعموم.

___________________________________________

والفرعيّة، واستدلّ لذلك بجملة من الآيات والرّوايات، وبعد ما بيّن المصنّف(رحمة الله) مقتضى الأصل توجّه إلى ردّ دليل أُولئك فقال: و{لا دلالة لمثل قوله - تعالى - : {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ} الآية} وتمامها {إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} {ولا لقوله(صلی الله علیه و آله): «وما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصّلوات الخمس»} فإنّ الآية تدلّ على وجوب المعرفة بناءً على ما فسّر قوله - تعالى - : «ليعبدون» ب- «ليعرفون» وكذا الحديث، فإنّ وجوب الصّلوات الخمس المتأخّرة في الرّتبة يدلّ على وجوب المعرفة المتقدّمة في الرّتبة، وحيث حذف متعلّق المعرفة في الآية والرّواية لزم القول بكونه عامّاً، لما تقرّر في البلاغة من أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم.

{و} كذا {لا} دلالة {لما دلّ على وجوب النّفقة وطلب العلم من الآيات والرّوايات} كقوله - تعالى - : {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ}(3)، ممّا دلّ على وجوب معرفة المنذرين والمنذرين، وما ورد في الحديث: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة»(4)، و «ليت السّياط علىرؤوس أصحابي حتّى يتفقّهوا»(5)،

و «اطلبوا العلم ولو بالصين»(6) وغيرها، فإنّه لا دلالة بأيّ شيء منها {على وجوب معرفته} أي: معرفة غير ما ذكر من معرفة اللّه والنّبيّ والإمام {بالعموم} أي: عموم

ص: 200


1- سورة الذاريات، الآية: 56.
2- الكافي 3: 264، باختلاف يسير عن الإمام الصادق×.
3- سورة التوبة، الآية: 122.
4- بحار الأنوار 1: 177؛ غوالي اللئالي 40: 70؛ مستدرك الوسائل 17: 249.
5- المحاسن 1: 229.
6- روضة الواعظين 1: 11؛ وسائل الشيعة 27: 27.

ضرورة أنّ المراد من {لِيَعۡبُدُونِ} هو خصوص عبادة اللّه ومعرفته. والنّبوي إنّما هو بصدد بيان فضيلة الصّلوات، لا بيان حكم المعرفة، فلا إطلاق فيه أصلاً. ومثل آية النّفر إنّما هو بصدد بيان الطّريق المتوسّل به إلى التفقّه الواجب،

___________________________________________

هذه الآيات والرّوايات لا تدلّ على وجوب معرفة مطلق ما جاء به النّبيّ {ضرورة أنّ المراد من {لِيَعۡبُدُونِ}} في الآية {هو خصوص عبادة اللّه} وما ذكر من تفسيره ب-«ليعرفون» لم نجده في رواية، بل ذكره بعض التفاسير ولا حجيّة فيه، فالآية لا ترتبط بنا أصلاً.

وقوله(رحمة الله): {ومعرفته} إنّما هو على تقدير صحّة ذلك، أي: إنّه لو صحّ التفسير المذكور كان المراد خصوص معرفته - تعالى - لا معرفة كلّ شيء، والمتعلّق - وإن كان محذوفاً - إلّا أنّ القرينة تدلّ عليه فلا عموم.

{والنّبوي} أي: قوله: «وما أعلم شيئاً...» {إنّما هو بصدد بيان فضيلة الصّلوات لا بيان حكم المعرفة فلا إطلاق فيه أصلاً} كما لا يخفى، فإنّ من مقدّمات الإطلاق أن يكون المولى في صدد البيان من تلك الجهة، فلو لم يكن في صدد البيان بالنسبة إليها وإن كان في صدد البيان من سائر النّواحي لم يفد في الإطلاق، ولذا ردّواتمسّك الشّيخ بإطلاق {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(1) على حليّة موضع العضّ، لعدم كون المطلق في صدد البيان من هذه الجهة.

{ومثل آية النّفر} وهي قوله - تعالى - : {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}(2) كما تقدّمت الإشارة إليها {إنّما هو بصدد بيان الطّريق المتوسّل به إلى التفقّه الواجب} وأنّه بالنفر ثمّ الإنذار، كما لو قال: (اذهب إلى بغداد وحصل المال وارجع إلى أهلك) حيث

ص: 201


1- سورة المائدة، الآية: 4.
2- سورة التوبة، الآية: 122.

لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته، كما لا يخفى. وكذا ما دلّ على وجوب طلب العلم، إنّما هو بصدد الحثّ على طلبه، لا بصدد بيان ما يجب العلم به.

ثمّ إنّه لا يجوز الاكتفاء بالظنّ في ما يجب معرفته عقلاً أو شرعاً؛ حيث إنّه ليس بمعرفة قطعاً، فلا بدّ من تحصيل العلم لو أمكن. ومع العجز عنه كان المكلّف معذوراً إن كان عن قصور؛ لغفلة، أو لغموضة المطلب مع قلّة الاستعداد،

___________________________________________

إنّه يريد إراءة الطّريق لتحصيل المال، وليس للحال إطلاق يتمسّك به {لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته} حتّى يقال: إنّ المتعلّق لمّا حذف أفاد العموم، فيجب تفقّه كلّ شيء ممّا جاء به النّبيّ(صلی الله علیه و آله) {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{وكذا} لا إطلاق ل- {ما دلّ على وجوب طلبالعلم} من الرّوايات المتقدّمة وغيرها، بل {إنّما هو بصدد الحثّ على طلبه لا بصدد بيان ما يجب العلم به}.

وحيث أتمّ الكلام حول عدم كفاية الظّنّ الانسدادي في أُصول الدين شرع في بيان عدم كفاية الظّنّ مطلقا ولو كان دليله غير الانسداد في الأصول، فقال: {ثمّ إنّه لا يجوز الاكتفاء بالظنّ في ما يجب معرفته عقلاً} كالأصول الخمسة {أو شرعاً} كما عرفت من وجوب معرفة بعض الشّؤون المتعلّقة بالآخرة، كالقبر في الجملة ونحوه. وإنّما قلنا بعدم كفاية الظّنّ {حيث إنّه ليس بمعرفة قطعاً} وقد كان المفروض وجوب المعرفة {فلا بدّ من تحصيل العلم لو أمكن} تحصيله {ومع العجز عنه} أي: عن العلم لم يتنزّل إلى الظّنّ؛ لأنّ الكشف النّاقص في الظّنّ ما لم يعتبر عقلاً أو شرعاً، كان كلا كشف، وحينئذٍ {كان المكلّف معذوراً إن كان} عجزه عن العلم {عن قصور لغفلة} عن وجوب تحصيل العلم {أو لغموضة المطلب} كمبحث أنّ اللّه - سبحانه - ليس له زمان ولا مكان ولا جهة ولا أبعاد {مع قلّة الاستعداد} من غالب النّاس، فإنّ فهم ذلك حقيقة يحتاج إلى تعمّق واطّلاع وسيعين وإلّا لا يكاد يأتي في ذهن النّاس أنّ الأيّام والشّهور والأعوام

ص: 202

كما هو المشاهد في كثير من النّساء بل الرّجال. بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد، ولو لأجل حبّ طريقة الآباء والأجداد، واتّباع سيرة السّلف، فإنّه كالجبلي للخلف وقلّما عنه تخلّف.

___________________________________________

كيف لا تمرّ على اللّه - سبحانه - وأنّه كيف يمكن شيء لا مكان له، وهكذا{كما هو المشاهد في كثير من النّساء} والأطفال أوائل البلوغ {بل الرّجال}.

ففي رواية إسماعيل قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن الدين الّذي لا يسع العباد جهله؟ فقال: «الدين واسع وإنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهلهم»، فقلت: جعلت فداك أما أُحدّثك بديني الّذي أنا عليه؟ فقال: «بلى». قلت: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند اللّه، وأتولّاكم، وأبرأ من عدوّكم ومن ركب رقابكم وتأمّر عليكم وظلمكم حقّكم. فقال: «ما جهلت - تركت خ ل - شيئاً». فقال: «هو واللّه الّذي نحن عليه». قلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ قال: «لا إلّا المستضعفين». قلت: من هم؟ قال: «نساؤكم وأولادكم». قال: «أرأيت أم أُمّ أيمن؟ فإنّي أشهد أنّها من أهل الجنّة، وما كانت تعرف ما أنتم عليه»(1).

{بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد ولو} كان تقصيره {لأجل حبّ طريقة الآباء والأجداد واتّباع سيرة السّلف، فإنّه كالجبلي للخلف} ولذا كانوا يقولون: {إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ}(2) {وقلّما عنه تخلّف} كما نرى من النّادر أن يترك بعض النّاس دين آبائه ويعتنق ديناً آخر، إلّا إذا حكمت القوّة كما في أندلس أو انفصلت الأبناء عن الآباء وسيطرت عليهم تقاليد وآراء، كما نرى من اعتناق كثير من شباب المدارس مبادئ مستوردة.

ص: 203


1- الكافي 2: 405.
2- سورة الزخرف، الآية: 23.

___________________________________________

ثمّ إنّه قد اختلف في أنّه هل يمكن وجود القاصر أم لا؟ فذهب جمع إلى الأوّل ومنهم المصنّف، وقد عرفت بعض الأدلّة المؤيّدة له، وذهب آخرون إلى عدم إمكان ذلك عقلاً وشرعاً:

أمّا عقلاً فلأنّ أحداً لا يخلو من أن يفكّر ولو مرّة في عمره في أنّ طريقته حقّ أو باطل، وهذا هو إلقاء الحجّة عليه، فلو لم يتّبع وكانت طريقته باطله كان معاقباً، فكلّ إنسان مقصّر في عدم اتّباع الحقّ.

وأمّا شرعاً فلما دلّ على انحصار النّاس في المؤمن والكافر كقوله - تعالى - : {فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ}(1)، وقوله: {إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا}(2)، وقوله: {وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ}(3)، بضميمة ما دلّ على أنّ الكفّار مخلّدون في النّار ولا يكون ذلك إلّا عن تقصير، ولمّا دلّ على أنّ اللّه - تعالى - أتمّ الحجّة كقوله - تعالى - : {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ}(4)، ولمّا دلّ على أنّ من جاهد هدي إلى الحقّ بضميمة أنّ الجهاد أمر مقدور اختياري كقوله - تعالى - : {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ}(5)، إلى غير ذلك ممّا لا مجال لذكره.

لكن الجواب عن ذلك: أمّا عن الدليل العقلي فنقول: مجرّد تفكّر أنّ الطّريق حقّ أو باطل لا يوجب إتمام الحجّة بعد ارتكاز الذهن بحقيّة الطّريقة المتّبعة، وإلّا فحتّى المؤمن الموحّد الّذي أثبت كلّ شيء بالأدلّة والبراهين القطعيّةقد

ص: 204


1- سورة التغابن، الآية: 2.
2- سورة الإنسان، الآية: 3.
3- سورة البلد، الآية: 10.
4- سورة النساء، الآية: 165.
5- سورة العنكبوت، الآية: 69.

والمراد من المجاهدة - في قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ} - هو: المجاهدة مع النّفس، بتخليتها من الرّذائل، وتحليتها بالفضائل - وهي الّتي كانت أكبر من الجهاد - ،

___________________________________________

يفكّر في أنّ طريقه حقّ أم لا.

والحاصل: أنّ إتمام الحجّة ليس بمجرّد تفكير عابر، فإنّه لم يقم دليل شرعي أو عقلي إنّه إتمام لها.

وأمّا عن الأدلّة النّقليّة فآيات الحصر لا بدّ من القول بكونها نازلة منزلة الغالب من بيان حال الأفراد الّذين شملتهم الدعوة، كمعاصري النّبي(صلی الله علیه و آله) بمكّة والمدينة، وذلك لما دلّ من مستفيض الأخبار على ثبوت الواسطة، وفي بعض الرّوايات امتحان بعض المستضعفين في الآخرة، كما هو مذكور مفصّلاً في البحار(1) وحقّ اليقين(2)

- للسيّد الشّبّر - وغيرهما، والمراد من آية إتمام الحجّة بالنسبة إلى مثل أُولئك أيضاً لا كلّ من في الأرض، لما دلّ من العقل والنّقل على أنّ من بين الرّسولين لا تكون الحجّة تامّة عليه، كما يرشد إليه قوله - تعالى - : {أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ}(3).

{والمراد من المجاهدة في قوله - تعالى - {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ}(4) هو المجاهدة مع النّفس بتخليتها من الرّذائل}كالكبر والغرور والجبن والبخل وما أشبه {وتحليتها بالفضائل} كالتواضع والعفّة والسّخاء والشّجاعة وما أشبهها {وهي الّتي كانت أكبر من الجهاد} مع الأعداء، كما في حديث أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قال لأصحابه - بعد رجوعهم من محاربة المشركين - : «قد بقي عليكم الجهاد

ص: 205


1- بحار الأنوار 5: 288.
2- حق اليقين في معرفة أصول الدين 2: 104.
3- سورة المائدة، الآية: 19.
4- سورة العنكبوت، الآية: 69.

لا النّظر والاجتهاد، وإلّا لأدّى إلى الهداية، مع أنّه يؤدّي إلى الضّلالة والجهالة، إلّا إذا كانت هناك منه - تعالى - عناية؛

___________________________________________

الأكبر». قالوا: وما هو يا رسول اللّه؟ قال: «الجهاد مع النفس»(1)، وفي حديث آخر: «إنّ أعدى عدوّك نفسك الّتي بين جنبيك»(2).

ولو قلنا إنّ المراد بالجهاد أعمّ من الجهاد في باب أُصول الدين ليتفقّه أو في باب تزكية النّفس لتتصفّى، فلا ربط للآية بالمقام؛ لأنّها لم تدلّ على أنّ كلّ أحد يتمكّن من الجهاد الّذي هو محلّ الكلام، فالآية مثل قولنا: (كلّ من اشترى بستاناً ربح) فإنّه لا يدلّ على أنّ كلّ أحد يتمكّن من اشتراء البستان.

أمّا ما ذكره المصنّف في وجه عدم التعميم بقوله: {لا النّظر والاجتهاد وإلّا لأدّى إلى الهداية مع أنّه} كثيراً ما {يؤدّي إلى الضّلالة والجهالة} كما نرى بالنسبة إلى كثير من الفلاسفة الّتي تؤدّي فلسفتهم إلى الانحراف، ففيه ما أشار إليه السّيّد الحكيم بقوله: «هذا إنّما يتوجّه لو أُريد مطلق النّظر والاجتهاد، وهو خلاف ظاهر الظّرف «فينا»، فإنّ المجاهدة في اللّه إنّما تكون بقصد الوصول إليه والفوز بمعرفته»(3)،انتهى.

والحاصل: الجهاد في اللّه - كما في الآية - ليس عبارة عن الاجتهاد فقط حتّى يؤدّي إلى الضّلالة تارة وإلى الهداية أُخرى، بل المراد الاجتهاد الّذي يكون مقصده المعارف الإلهيّة بدون هوى وعمى، وذلك لا بدّ وأن ينتهي إلى المعرفة؛ لأنّ الأدلّة كافية - بل فوق الكفاية - للإرشاد والإيصال، كيف:

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

وبهذا تحقّق أنّ النّظر ليس دائماً يؤدّي إلى الهداية {إلّا إذا كانت هناك منه - تعالى - عناية} فإنّ العناية لا شكّ وأنّها موجودة بالنسبة إلى كلّ من اجتهد بقصد

ص: 206


1- الكافي 5: 12.
2- بحار الأنوار 70: 64.
3- حقائق الأصول 2: 215.

فإنّه غالباً بصدد إثبات أنّ ما وجد آباءه عليه هو الحقّ، لا بصدد الحقّ، فيكون مقصّراً مع اجتهاده، ومؤاخذاً إذا أخطأ على قطعه واعتقاده.

ثمّ لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظّنّ مع اليأس عن تحصيل العلم، في ما يجب تحصيله عقلاً لو أمكن، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه، بل بعدم جوازه؛

___________________________________________

الوصول إلى الحقّ وكان نظره صرف ذلك {فإنّه} يوفّق للطريق ويهتدى للسبيل.

أمّا كثير من الأفراد الّذين هم {غالباً بصدد إثبات أنّ ما وجد آباءه عليه هو الحقّ لا بصدد الحقّ} فإنّهم لا يجاهدون في اللّه، بل يجاهدون في تقليد الآباء، وهو خلاف فرض الآية.

وقد قيل لأحد الأعلام: كيف صار الفخر الرّازي - مع شدّة تدقيقه وتشكيكه -سنيّاً ولم يتنبّه للحقّ؟ قال: لم يصر الفخر سنيّاً وإنّما صار السّنيّ فخراً، يشير بذلك إلى أنّه تربّى في السّنيّة ثمّ التمس الدليل على تسنّنه، لا أنّه كان عالماً لا اتجاهيّاً ففحص للظفر على الحقّ وحده فظفر على التسنّن فاعتنقه {ف-} إنّ مثل هذا الشّخص {يكون مقصّراً مع اجتهاده ومؤاخذاً إذا أخطأ على قطعه واعتقاده} لأنّه قصّر في المقدّمات، ولا فرق في العقاب والمؤاخذة بين التقصير في المقدّمات وبين التقصير في النّتائج.

{ثمّ لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظّنّ مع اليأس عن تحصيل العلم في ما يجب تحصيله} أي: تحصيل العلم فيه {عقلاً لو أمكن} لما أشرنا إليه من أنّه لا كشف للظنّ وكشفه النّاقص مثل عدمه، واحتمال أنّه من مراتب العلم فوجوبه مع العجز عن تحصيل العلم بعين مناط وجوب تحصيل العلم في غير محلّه، إذ العقلاء لا يشكّون في أنّه لو قال المولى: (حَصِّلِ العلم) فلم يتمكّن من تحصيله انتفى الموضوع، وليس الظّنّ من مراتب العلم قطعاً {لو لم نقل باستقلاله} أي: العقل {بعدم وجوبه، بل بعدم جوازه} لأنّ محذور عدم الاعتقاد بخلاف الحقّ

ص: 207

لما أشرنا إليه: من أنّ الأُمور الاعتقاديّة - مع عدم القطع بها - أمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد لها، فلا إلجاء فيها أصلاً إلى التنزّل إلى الظّنّ في ما انسدّ فيه باب العلم، بخلاف الفروع العمليّة، كما لا يخفى.

وكذلك لا دلالة من النّقل على وجوبه في ما يجب معرفته مع الإمكان شرعاً، بل الأدلّة الدالّة على النّهي عن اتّباع الظّنّ دليل على عدم جوازه

___________________________________________

أكثر من محذور عدم الاعتقاد لا بالحقّ ولا بعدمه.

والحاصل: أنّه مع اتّباع الظّنّ يحتمل الاعتقاد بالحقّ والاعتقاد بخلاف الحقّ، وهذا محذوره لدى العقل أكثر من محذور عدم الاعتقاد المطلق.

هذا في ما لا يمكن الاعتقاد الإجمالي لعدم التفات إليه أو نحوه، أمّا لو أمكن فلا إشكال في عدم جواز التنزّل إلى الظّنّ بعد عدم إمكان العلم {لما أشرنا إليه من أنّ الأُمور الاعتقاديّة مع عدم} إمكان {القطع بها} تفصيلاً {أمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد لها} إجمالاً {فلا إلجاء فيها أصلاً إلى التنزّل إلى الظّنّ في ما انسدّ فيه باب العلم} فتكون المراتب - حتّى لو قلنا بوصول النّوبة إلى الظّنّ - علم تفصيلي ثمّ علم إجمالي ثمّ ظنّ تفصيلي ثمّ ظنّ إجمالي، أمّا التنزّل من العلم التفصيلي إلى الظّنّ التفصيلي فلا {بخلاف الفروع العمليّة} الّتي ليس بين العلم التفصيلي وبين الظّنّ فيها واسطة {كما لا يخفى} إذ لا يمكن الاحتياط أو لا يجب، كما عرفت في مقدّمات دليل الانسداد من كونه موجباً للعسر أو مخلّاً بالنظام.

{وكذلك لا دلالة من النّقل على وجوبه} أي: وجوب تحصيل الظّنّ بالعقائد إذا لم يتمكّن من العلم {في ما يجب معرفته مع الإمكان شرعاً} أي: في ما يجب شرعاً معرفته في صورة الإمكان {بل الأدلّة الدالّة على النّهي عن اتّباع الظّنّ} كقوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(1) {دليلعلى عدم جوازه} أي: جواز

ص: 208


1- سورة يونس، الآية: 36.

أيضاً.

وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا: أنّ القاصر يكون - في الاعتقاديّات - للغفلة، أو عدم الاستعداد للاجتهاد فيها، لعدم وضوح الأمر فيها، بمثابة لا يكون الجهل بها إلّا عن تقصير، كما لا يخفى، فيكون معذوراً عقلاً.

___________________________________________

اتّباع الظّنّ {أيضاً} كما لا يجب، والقول باختصاص النّهي بحال التمكّن من تحصيل العلم غير تامّ؛ لأنّ العلّة في الآية غير قابلة للتخصيص، كما لا يخفى.

{وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا} بقولنا: «كان معذوراً إن كان عن قصور الغفلة» الخ {إنّ القاصر يكون في الاعتقاديّات} أي: يوجد القاصر في الاعتقاديّات إمّا {للغفلة} عن وجوب التحصيل مطلقاً {أو} ل- {عدم الاستعداد للاجتهاد فيها} كالبله والأطفال أوائل بلوغهم {لعدم وضوح الأمر فيها} أي: في الاعتقاديّات كوضوح الشّمس في رابعة النّهار حتّى تكون حال الاعتقاديّات {بمثابة لا يكون الجهل بها إلّا عن تقصير} فيكون كلّ من لم يعلم الاعتقاديّات مقصّراً معاقباً {كما لا يخفى} بملاحظة أحوال النّاس {فيكون} الجاهل عن قصور {معذوراً عقلاً} وشرعاً لما تقدّم من حديث الإمام(علیه السلام) حول النّساء والأطفال.

وقد علّق المصنّف هنا بما حاصله: أنّ الجاهل وإن لم يكن معاقباً لكنّه لا ينال المراتب السّامية لقصوره الذاتي، كما لا ينال الحمار ما يناله الإنسان وإن لم يكن عدم إدراكه عن سوء صنعه بقوله: «ولا ينافي ذلك عدم استحقاقه درجة بل استحقاقهدركة - أي: الانحطاط لا العقاب - لنقصانه بسبب فقدانه للإيمان به - تعالى - أو برسوله، أو لعدم معرفة أوليائه، ضرورة أنّ نقصان الإنسان لذلك يوجب بُعده عن ساحة جلاله - تعالى - وهو يستتبع لا محالة دركة من الدركات، وعليه فلا إشكال في ما هو ظاهر بعض الرّوايات والآيات من خلود الكافر مطلقاً ولو كان قاصراً».

أقول: هذا خلاف ظاهر الآيات والرّوايات من أنّ النّاس إذا لم يعلموا لم

ص: 209

ولا يصغى إلى ما ربّما قيل: بعدم وجود القاصر فيها، لكنّه إنّما يكون معذوراً - غير معاقَب على عدم معرفة الحقّ - إذا لم يكن يعانده، بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله.

___________________________________________

يجحدوا لم يكفروا، بل خلاف موازين العدل وخلاف الرّوايات الدالّة على امتحان غير المقصّرين يوم القيامة، والتفريع الّذي فرّعه بقوله: «فلا إشكال» في غير محلّه، كما لا يخفى، «فقصوره إنّما ينفعه في رفع المؤاخذة عنه بما يتبعها من الدركات، لا في ما يستتبعه نقصان ذاته ودنوّ نفسه وخساستها - من الانحطاط وعدم القرب وإن لم يكن معاقباً أصلاً - فإذا انتهى إلى اقتضاء الذات لذلك - أي: الانحطاط وعدم القرب - فلا مجال للسؤال عنه بلم ذلك؟ فافهم»(1)،

انتهى.

والحاصل: أنّه ليس في العدل واجباً تسوية هذا بالعلماء، وإنّما يجب عدم عقابه مطلقاً؛ لأنّه من العقاب بدون التقصير وهو قبيح إطلاقاً، وانقطاع السّؤال ب-(لم) إنّما ينفع بالنسبة إلى الانحطاط لا بالنسبة إلى العقاب، وقد تكرّر من المصنّف(رحمة الله) هذا المطلب في المجلّد الأوّل وفي بحث القطع وهنا وغيرها(2)،

وذلك خلاف الأدلّة وخلاف مقتضى مبادئ العدليّة، كما لا يخفى.وكيف كان، فوجود الجاهل القاصر حسّاً ودليلاً واضح {ولا يُصغى إلى ما ربّما قيل بعدم وجود القاصر فيها} أي: في الاعتقاديّات {لكنّه} أي: القاصر ينقسم إلى قسمين: من إذا عرف الحقّ عانده، ومن إذا عرف الحقّ لم يعانده وآمن به على إجماله، كمن يسمع نبيّ الإسلام، فإنّه إن سمع قد يكون يعانده على جهله به وقد يكون يعتقد أنّه لو كان حقّاً اعتقد به، ف- {إنّما يكون} القاصر {معذوراً غير معاقب على عدم معرفة الحقّ إذا لم يكن يعانده، بل كان ينقاد له} أي: للحقّ {على إجماله لو احتمله} أمّا لو كان يعانده لو احتمله فليس معذوراً.

ص: 210


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 518.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 313، 3: 270، 4: 400.

هذا بعض الكلام ممّا يناسب المقام، وأمّا بيان حكم الجاهل من حيث الكفر والإسلام، فهو - مع عدم مناسبته - خارجٌ عن وضع الرّسالة.

الثّاني: الظّنّ الّذي لم يقم على حجيّته دليل: هل يجبر به ضعف السّند أو الدلالة،

___________________________________________

هذا كلّه لا يصغى إليه، بل القاصر موجود ولا عقاب عليه مطلقاً؛ لأنّه من العقاب بلا بيان {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا}(1)، وقد دلّ على ذلك العقل والنّقل، وقد تقدّم عدم دلالة ما استدلّوا به لمذهبهم على ما ادّعوا، فراجع.

{هذا بعض الكلام} في باب الظّنّ في أُصول الدين {ممّا يناسب المقام، وأمّا بيان حكم الجاهل}المقصّر والقاصر {من حيث الكفر والإسلام} وأنّه هل هو يعامل معاملة المسلمين أم معاملة الكفّار في الطّهارة والنّجاسة وسائر الآثار؟ {فهو مع عدم مناسبته} لأنّه ليس مسألة أُصوليّة، بل كلاميّة على تقدير وفقهيّة على تقدير {خارج عن وضع الرّسالة} الّتي بنيت على الاختصار وإن أشار إليه الشّيخ في الرّسالة وفصّله بعض الأصوليّين.

هذا تمام الكلام في باب الظّنّ في أُصول الدين حسب اقتضاء المقام.

[الجبر والوهن والترجيح بالظن غير المعتبر]

المقصد السّادس: في الأمارات، الجبر والوهن والترجيح بالظن غير المعتبر

{الثّاني} من الأمرين اللّذين يذكران في خاتمة مبحث الانسداد في أنّ الظّنّ هل يجبر سند الرّواية أو دلالتها، وهل يوهن سند الرّواية أو دلالتها، وهل يرجّح أحد المتعارضين على الآخرين أم لا يقوم بشيء من ذلك؟ {الظّنّ الّذي لم يقم على حجيّته دليل} خاصّ ولا دليل الانسداد كالظنّ المطلق في حال الانفتاح {هل يجبر به ضعف السّند أو الدلالة} مثلاً إذا كان الخبر ضعيف السّند ثمّ عمل به المشهور فأورث ظنّاً بأنّهم ظفروا على قرينة على حجيّته فهل هذا الظّنّ - الّذي

ص: 211


1- سورة الإسراء، الآية: 15.

بحيث صار حجّة ما لولاه لما كان بحجّة؟ أو يوهن به ما لولاه على خلافه لكان حجّة؟ أو يرجّح به أحد المتعارضين، بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح لأحدهما،

___________________________________________

لم يقم على حجيّته دليل - يوجب حجيّة ذاك الخبر الضّعيف السّند عندنا حتّى يجوز العمل به، أو كان الخبر ضعيف الدلالة كأن لم يدلّ على الإطلاق ثمّ فهم المشهور منه الإطلاق وظننّا من فهمهم الإطلاق احتفاءه بقرينة دلّت على ذلك،فهل هذا الظّنّ يوجب حجيّة الدلالة بحيث يجوز الاستناد إلى إطلاق ذلك الخبر الّذي لا ظهور فيه في الإطلاق أم لا يجوز لا هذا ولا ذاك، فلا يكون الظّنّ جابراً لضعف السّند ولا جابراً لضعف الدلالة، بل يكون حال الظّنّ حال الشّكّ؟

والحاصل: هذا الظّنّ جابر {بحيث صار حجّة ما لولاه} أي: لولا الظّنّ، ومصداق «ما» السّند والدلالة، وهو اسم «صار» {لما كان بحجّة} في نفسه {أو} هل {يوهن به} أي: بالظنّ الّذي لم يقم على حجيّته دليل {ما} أي: السّند والدلالة الّذي {لولاه} أي: لولا الظّنّ {على خلافه} الضّمير يعود إلى «ما» {لكان حجّة} كما لو كان خبر صحيح السّند فأعرض المشهور عنه بما أورث ظنّنا عن وجود خلل فيه، فهل هذا الظّنّ يسبّب وهن الخبر الصّحيح حتّى لا نعمل به، أو كان خبر ظاهر الدلالة فلم يفهم المشهور منه ما هو ظاهر فيه، فهل الظّنّ الحاصل بعدم الدلالة - لعدم فهم المشهور - يوجب وهن دلالته حتّى لا نتمكّن من التمسّك به {أو} هل {يرجّح به} أي: بالظنّ الّذي لم يقم على اعتباره دليل {أحد المتعارضين} كما لو كان هناك خبران متعارضان متساويان من جميع الجهات لكن ظننّا بكون أحدهما صادراً لبيان الحكم الواقعي والآخر صادراً لعلّة، فهل هذا الظّنّ يوجب ترجيح الأوّل فيرجّح بالظنّ أحد الخبرين {بحيث لولاه} أي: لولا الظّنّ {على وفقه} أي: وفق ذلك الخبر {لما كان ترجيح لأحدهما} بحيث تصل النّوبة إلى التخيير، لقوله(علیه السلام): «بأيّهما أخذت من باب

ص: 212

أو كان للآخر منهما، أم لا؟

ومجمل القول في ذلك: أنّ العبرة في حصول الجبران أو الرّجحان - بموافقته - هو الدخول بذلك تحت دليل الحجيّة، أو المرجّحيّة الرّاجعة إلى دليل الحجيّة.

___________________________________________

التسليم وسعك»(1)

{أو كان} الترجيح {للآخر منهما} لكون الخبر الآخر الّذي لا يؤيّده الظّنّ راجحاً لأحد المرجّحات لكن رجحاناً لا يصل إلى رجحان الظّنّ {أم لا} يكون الظّنّ جابراً وموهناً ومرجّحاً؟

{ومجمل القول في ذلك أنّ العبرة في حصول الجبران} للخبر الضّعيف {أو الرّجحان} لأحد المتعارضين {بموافقته} أي: بموافقة الظّنّ لذلك الخبر {هو الدخول بذلك} الظّنّ الّذي وافقه {تحت دليل الحجيّة} كما لو قلنا بأنّ الخبر الموثوق به أو المظنون الصّدور حجّة، فصار هذا الخبر الضّعيف السّند - في نفسه - بسبب هذا الظّنّ بصدوره داخلاً في الموثوق أو المظنون الصّدور، فإنّه يكون حينئذٍ حجّة لا الظّنّ سبب دخوله في العنوان الّذي هو حجّة {أو} الدخول بسبب ذلك الظّنّ تحت دليل {المرجّحيّة الرّاجعة إلى دليل الحجيّة} فإنّ اشتمال أحد المتعارضين على المرجّح يدخل ذا المرجّح في الدليل الّذي يقول إنّه حجّة دون ما يعارضه، فدليل المرجحيّة راجعة إلى دليل الحجيّة، وذلك كما لو قلنا بأنّ مطلق المرجّحات - ولو غير المنصوصة منها - توجب الترجيح وظننّا بجهة من جهات أحد الخبرين دون الآخر، فيكون الظّنّ بذلك مرجّحاً له وموجباً لحجيّته في قبال الخبر المعارض له العاري عن الظّنّ.

أمّا لو لم يوجب الظّنّ الدخول للخبر المظنون تحت دليل الحجيّة والمرجحيّة فلا يفيد الظّنّ في الحجيّة والترجيح، كما لو قلنا بأنّ خبر العادل حجّة سواء ظننّا بصدوره أم لا، فإنّه لو ظنّ بالخبر الّذي ضعف سنده لم يدخل

ص: 213


1- الكافي 1: 66.

كما أنّ العبرة في الوهن إنّما هو الخروج - بالمخالفة - عن تحت دليل الحجيّة.

___________________________________________

الخبر بهذا الظّنّ تحت عنوان خبر العادل، وكما لو قلنا بأنّ المرجّح في باب التراجيح منحصر بالمنصوصات، فلا يكون الخبر المساوي لمعارضه بسبب الظّنّ أرجح منه حتّى يرجّح عليه، بل لا بدّ من القول حينئذٍ بالتخيير.

هذا كلّه في الجبر والترجيح {كما أنّ العبرة في الوهن إنّما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دليل الحجيّة} فيكون الخبر المخالف للظنّ موهوناً؛ لأنّه خرج عن دليل الحجيّة، كما لو قلنا بأنّ الخبر الموثوق به المظنون الصّدور حجّة، فصار هذا الخبر الصّحيح السّند بسبب ظنّنا لعدم صدوره واشتباه الرّاوي النّاقل له غير موثوق به أو مظنوناً عدم صدوره، فإنّ الظّنّ بالخلاف أوجب خروجه عن تحت دليل الحجيّة، أمّا لو لم يوجب الظّنّ بالخلاف خروج الخبر عن دليل الحجيّة، فلا يوجب الظّنّ بالخلاف وهناً، كما لو اعتبر صحّة السّند في الخبر فقط، فإنّ الظّنّ بالخلاف لا يوجب عدم صحّة سنده.

هذا كلّه في مقام الثبوت والتصوير، وأمّا في مقام الإثبات فقد اختلف العلماء بالنسبة إلى حجيّة الخبر: فبعضهم اعتبر في حجيّة الخبر الظّنّ بصدوره بالنسبة إلى نفس السّند، مثل كون الرّاوي ممّن يظنّ بصدقه ووثاقته، فكلّ خبر كان هكذا يكون حجّة وما لم يكن كذلك ولو اعتمد المشهور عليه أو طابق فتوى المشهور له فليس بحجّة، وبعضهم اعتبر في حجيّة الخبر كونه مظنون الصّدور ولو بالنظر إلى خارج السّند، كما لو عمل الأصحاب بالخبر وإن لم نظنّ نحن بصدق راويه أو وثاقته، وهذا أعمّ من القول السّابق - كما لا يخفى - . وبعضهم اعتبر الأعمّ من ذلك أيضاً، وهو كلّ خبر ظنّ بمطابقة مؤدّاه للواقع ولو لم يظنّ بصدق راويه ولم يعتمد الأصحاب عليه، كما لو كان هناك خبر ضعيف لكن كان مطابقاً لفتوىالمشهور.

ص: 214

فلا يبعد جبرُ ضعف السّند في الخبر بالظنّ بصدوره، أو بصحّة مضمونه، ودخوله بذلك تحت ما دلّ على حجيّة ما يوثق به، فراجع أدلّة اعتبارها.

___________________________________________

والمصنّف(رحمة الله) على القول الثّالث، ولذا قال: {فلا يبعد جبر ضعف السّند في الخبر بالظنّ بصدوره} ظنّاً من الداخل كما لو ظنّ بصدق الرّاوي ووثاقته، أو من الخارج كما لو ظنّ بصحّته لاستناد الأصحاب عليه وعملهم به {أو} الظّنّ {بصحّة مضمونه} كما لو طابق الخبر الضّعيف لفتوى المشهور وإن لم يظنّ بصدق راويه ولا اعتمد الأصحاب عليه {ودخوله بذلك} الظّنّ {تحت ما دلّ على حجيّة ما يوثق به} وإن لم يكن ناقله ثقة {فراجع أدلّة اعتبارها} كالصحيح المروي في الغيبة، أنّ حسين بن روح سأله أصحابه عن كتب الشّلمغاني، فقال الشّيخ: أقول فيها ما قاله العسكري(علیه السلام) في كتب بني فضّال، حيث قالوا له: ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ قال(علیه السلام): «خذوا ما رووا وذروا ما رأوا»(1).

وما عن الصّادق(علیه السلام) في تفسير قوله - تعالى - {وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا * وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ}(2) قال: «هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء وليس عندهم ما يتحمّلون به إلينا، فيستمعون حديثنا ويقتبسون من علمنا، فيرحل قوم فوقهم وينفقون أموالهم، ويتعبون أبدانهم، حتّى يدخلوا علينا، ويسمعوا حديثنا فينقلوا إليهم، فيعيه أُولئك ويضيّعههؤلاء، فأُولئك الّذين يجعل اللّه لهم مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون...»(3)،

إلى غيرهما من الرّوايات الدالّة على ذلك.

وقد ادّعى الشّيخ في الرّسائل أنّ المشهور كون الشّهرة في الفتوى جابرة

ص: 215


1- الغيبة (للشيخ الطوسي): 389.
2- سورة الطلاق، الآية: 2-3.
3- الكافي 8: 179؛ نور الثقلين 5: 355.

وعدمُ جبر ضعف الدلالة بالظنّ بالمراد؛ لاختصاص دليل الحجيّة بحجيّة الظّهور في تعيين المراد. والظّنّ - من أمارة خارجيّة - به لا يوجب ظهور اللفظ فيه - كما هو ظاهر - إلّا في ما أوجب القطع - ولو إجمالاً - باحتفافه بما كان موجباً لظهوره فيه، لولا عروض انتفائه.

___________________________________________

لضعف سند الخبر(1)

{و} لا يبعد {عدم جبر ضعف الدلالة بالظنّ بالمراد} فلو لم يكن ظهورٌ للفظٍ في معنىً لكن ظننّا بالمراد من المراد لم يكن هذا الظّنّ جابراً لضعف الدلالة {لاختصاص دليل الحجيّة} أي: حجيّة الظّواهر {بحجيّة الظّهور في تعيين المراد} فاللّازم وجود الظّهور حتّى تشمله أدلّة حجيّته {والظّنّ من أمارة خارجيّة به} أي: بالمراد {لا يوجب ظهور اللفظ فيه} فلو قال المولى: (أكرم زيداً) وكان زيد مجملاً مشتركاً بين نفرين، ثمّ ظننّا أنّ مراده زيد بن خالد لم يكن اللفظ حجّة في ذلك، إذ الظّهور غير موجود والظّنّ لا دليل على اعتباره كما لا يوجب ظهوراً حتّى يدخله في حجيّة مطلق الظّهور، وهكذا لو قال: (أكرم العلماء) ممّا انعقد فيه مقدّمات الإطلاق ثمّ ظننّا عدم إرادته زيد العالم لم يوجب ذلك رفع اليد عن الظّهور بسبب هذا الظّنّ {كما هو ظاهر} فلو لم يكرمه في المثالالثّاني أو لم يعمل بمقتضى العلم الإجمالي في الأوّل وخالف الواقع لم يكن له عذر في عدم إطاعة المولى بسبب أنّه ظنّ بخلاف الظّاهر أو ظنّ بالمراد في ما ليس له ظاهر.

والحاصل: أنّ الظّنّ بالمراد ليس بحجّة {إلّا في ما أوجب القطع} بالمراد {ولو إجمالاً} أي: قطعاً إجماليّاً {باحتفافه} أي: باحتفاف هذا الكلام الّذي له ظهور {بما كان موجباً لظهوره فيه لولا عروض انتفائه} يعني كان احتفاف الكلام بقرينة توجب ظهور الكلام في المراد المظنون لولا عروض فقد تلك القرينة فلا ظهور له حالاً.

ص: 216


1- فرائد الأصول 1: 587.

وعدمُ وهن السّند بالظنّ بعدم صدوره، وكذا عدم وهن دلالته مع ظهوره، إلّا في ما كشف - بنحو معتبر - عن ثبوت خلل في سنده،

___________________________________________

ولا يخفى أنّ هذا الاستثناء منقطع، إذ ذلك من العلم بالظهور لا الظّنّ به، ولا فرق في الظّهور المعلوم بين أن يكون فعلاً أو سابقاً.

{و} لا يبعد {عدم وهن السّند} المعتبر {بالظنّ بعدم صدوره} فقد قال(علیه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التّشكيك في ما يرويه عنّا ثقاتنا»(1).

ولا يخفى أنّ الظّنّ الّذي لم يقم على اعتباره دليل كالشكّ - وفرق بين جبر الظّنّ ووهن الظّنّ، وأنّ الظّنّ بالصحّة كان مدخلاً للخبر الضّعيف في أدلّه الحجيّة، أمّا الظّنّ بالخلاف فلا يخرج الخبر المعتبر عن أدلّة الحجيّة. فما ذكره في الحقائق بقوله: «ولكن لا يخفى أنّه إذا كان الظّنّ بالصدور أو بصحّةالمضمون(2)

كافياً في الجبر كان عدمه كافياً في الوهن فضلاً عن الظّنّ بعدم الصّدور، فيمتنع الجمع بين الدعوى الأُولى مع هذه الدعوى»(3)، انتهى. غير معلوم الوجه.

{وكذا} لا يبعد {عدم وهن دلالته} بسبب الظّنّ بخلاف الظّهور {مع ظهوره} فلو كان لفظ ظاهراً في معنى وظننّا بأنّ المراد ليس ذلك المعنى لم يجز رفع اليد عن الظّهور بمجرّد هذا الظّنّ، كما تقدّم؛ لأنّ الظّهور مطلقاً حجّة ولا يشترط فيها الظّنّ بالوفاق أو عدم الظّنّ بالخلاف، كما حقّق في مبحث الظّواهر {إلّا في ما كشف} الظّنّ الموهن للسند أو الدلالة {بنحو معتبر} عقلاً أو شرعاً {عن ثبوت خلل في سنده} كأن اشتبه الرّاوي فظنّ أنّ أبا بصير الموجود في السّند هو الثقة،

ص: 217


1- وسائل الشيعة 27: 150.
2- في المصدر: «بصحة المظنون».
3- حقائق الأصول 2: 218.

أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهوره في ما فيه ظاهر، لولا تلك القرينة؛ لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة، ولا دليل اعتبار الظّهور بما إذا لم يكن ظنّ بعدم صدوره، أو ظنّ بعدم إرادة ظهوره.

وأمّا الترجيح بالظنّ: فهو فرع دليل على الترجيح به، بعد سقوط الأمارتين بالتعارض من البين، وعدمِ حجيّة واحد منهما بخصوصه وعنوانه،

___________________________________________

فوصفه بما يدلّ على ذلك، والحال أنّه ضعيف {أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهوره} بأن كان هناك قرينة على عدم إرادة زيد العالم من عموم (أكرم العلماء) {في ما فيه ظاهرلولا تلك القرينة} الّتي ظننّا بوجودها بنحو معتبر، فإنّه حينئذٍ يعمل بالظنّ في وهن السّند والدلالة لكنّه لا لكونه ظنّاً بل لكونه كاشفاً كشفاً معتبراً عن عدم صحّة السّند وعن عدم انعقاد الظّهور، ولذا فالاستثناء هنا أيضاً منقطع كالاستثناء السّابق.

وإنّما قلنا بأنّ الظّنّ لا يوهن الدلالة ولا يوهن الظّهور {لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة ولا دليل اعتبار الظّهور بما إذا لم يكن ظنّ بعدم صدوره} حتّى إذا وجد الظّنّ بعدم الصّدور لا يشمله دليل الاعتبار {أو ظنّ بعدم إرادة ظهوره} حتّى إذا وجد الظّنّ بعدم الظّهور لا يشمله دليل حجيّة الظّواهر.

هذا كلّه في جبر الظّنّ للسند والدلالة ووهنه لهما {وأمّا الترجيح بالظنّ} بأن يكون سبباً لترجيح أحد المتعارضين على الآخر {فهو فرع دليل على الترجيح به} أي: دليل شرعيّ على أنّ الظّنّ من المرجّحات {بعد سقوط الأمارتين} المتعارضتين {ب-} سبب {التعارض من البين} لما ذكروه في بحث التراجيح من أنّ دليل الاعتبار لا يشمل المتعارضين فيسقط كلاهما عن الحجيّة، وإن كان لنا فيه نظر.

{و} بعد {عدم حجيّة واحد منهما بخصوصه وعنوانه} كخبر زرارة مثلاً أو خبر

ص: 218

وإن بقي أحدهما - بلا عنوان - على حجيّته، ولم يقم دليل بالخصوص على الترجيح به، وإن ادّعى شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه(1) - استفادتَه من الأخبارالدالّة على الترجيح بالمرجّحات الخاصّة، على ما يأتي تفصيله في التعادل والتراجيح(2).

ومقدّمات الانسداد في الأحكام إنّما توجب حجيّة الظّنّ بالحكم أو بالحجّة،

___________________________________________

محمّد بن مسلم {وإن بقي أحدهما بلا عنوان على حجيّته} لأنّ مقتضى أدلّة الحجيّة بعد الجمع بينها وبين ما دلّ على عدم إمكان صدور كليهما. وربّما استشكل في هذا أيضاً، فإنّ أدلّة الحجيّة إذا لم تشمل المتعارضين سقطا عن الحجيّة تفصيلاً وإجمالاً {ولم يقم دليل بالخصوص} عقلاً أو نقلاً، وإن قام دليل الانسداد في ما إذا تمّت مقدّماته {على الترجيح به} أي: بالظنّ، وقوله: «ولم يقم» مرتبط بقوله: «فهو فرع دليل» {وإن ادّعى شيخنا العلّامة} الشّيخ المرتضى {أعلى اللّه مقامه} الشّريف {استفادته} أي: استفادة كون الظّنّ مرجّحاً {من الأخبار الدالّة على الترجيح بالمرجّحات الخاصّة} كالشهرة والمخالفة للعامّة والموافقة للكتاب وما أشبه {على ما يأتي تفصيله في} بحث {التعادل والتراجيح} بأنّه هل الترجيح خاصّ بالمرجّحات المنصوصة أم عامّ لها ولغيرها من كلّ ما يوجب ترجيحاً في أحدهما، فإن قلنا بالثّاني كان الظّنّ من المرجّحات أيضاً.

هذا بالنسبة إلى مرجحيّة الظّنّ في حال الانفتاح {و} أمّا مرجحيّة الظّنّ في حال الانسداد فالمصنّف على أنّه غير تامّ، إذ {مقدّمات الانسداد} الجارية {في الأحكام إنّما توجب حجيّة الظّنّبالحكم} كالظنّ بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال {أو بالحجّة} كالظنّ بحجيّة الشّهرة القائمة على وجوب الدعاء - مثلاً -

ص: 219


1- فرائد الأصول 1: 610.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 5: 297.

لا الترجيح به ما لم يوجب الظّنّ بأحدهما.

ومقدّماته في خصوص الترجيح - لو جرت - إنّما توجب حجيّة الظّنّ في تعيين المرجّح، لا أنّه مرجّح، إلّا إذا ظنّ أنّه أيضاً مرجّح، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

{لا الترجيح به} أي: بالظنّ {ما لم يوجب الظّنّ بأحدهما} أي: بالحكم أو بالحجّة، كأن يوجب الظّنّ بترجيح الخبر الدالّ على وجوب الدعاء الظّنّ بأنّ الدعاء واجب أو الظّنّ بأنّ هذا الخبر حجّة، ومن المعلوم أنّه لا تلازم بين الظّنّ بالترجيح وبين الظّنّ بأحدهما، فإنّه ربّما يظنّ الإنسان بأنّ هذا أرجح ولا يظنّ بأنّ مفاده مراد المولى، كما أنّ القطع بالرجحان لا يوجب القطع بالواقع أو بالحجّة، ألا ترى أنّ القياس أرجح من الاستحسان، ومع ذلك لا يوجب ظنّاً بالواقع.

{و} إن قلت: يمكن إجراء {مقدّماته} أي: مقدّمات الانسداد {في خصوص الترجيح} بأن يقال: إنّا مكلّفون عند تعارض الأخبار بالرجوع إلى المرجّح ولا يمكن الاحتياط أو عسر ولا يصحّ إجراء الأصول، وقد انسدّ باب الترجيح علماً أو علميّاً ويقبح ترجيح المرجوح على الرّاجح، فلا بدّ وأن نرجع إلى الظّنّ في هذا الباب ويكون الظّنّ بالراجح حجّة.

قلت: لو جرت مقدّمات الانسداد هنا كان نتيجتها أنّ الظّنّ بالمرجّح الّذي هو الشّهرة مثلاً - كالعلم بالمرجّح - ولم تكن نتيجتها أنّ الظّنّ بنفسه يكون مرجّحاً، فإنّها {لو جرت إنّما توجب حجيّة الظّنّ في تعيين المرجّح} بالكسر {لا أنّه} أي: الظّنّ بنفسه {مرجّح}.

نعم، إذا قلنا بأنّ الظّنّ بالمرجّح حجّة ثمّ ظننّا بأنّ الظّنّ من المرجّحات كانالظّنّ مرجّحاً أيضاً، وإليه أشار بقوله: {إلّا إذا ظنّ أنّه} أي: الظّنّ {أيضاً مرجّح} كسائر المرجّحات المظنونة، فظنّ بأنّ الشّهرة والإجماع والمخالفة للعامّة والظّنّ - مثلاً - كلّها مرجّحات {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك الأمر.

ص: 220

هذا في ما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل.

وأمّا ما قام الدليل على المنع عنه كذلك - كالقياس - فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح، في ما لا يكون لغيره أيضاً. وكذا في ما يكون به أحدها؛ لوضوح أنّ الظّنّ القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه لكان حجّة - بعد المنع عنه - ، لا يوجب خروجه عن تحت دليل الحجيّة، وإذا كان على وفق ما لولاه لما كان حجّة، لا يوجب دخوله

___________________________________________

{هذا} كلّه في الجبر والوهن والترجيح بالظنّ {في ما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل} كالظنون المطلقة الّتي تحصل من الأسباب الخارجيّة {وأمّا ما قام الدليل على المنع عنه كذلك} بخصوصه {كالقياس فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح} فالظنّ القياسي لا يكون جابراً للخبر الضّعيف ولا كاسراً للخبر القوي ولا مرجّحاً لأحد المتعارضين {في ما لا يكون لغيره} من سائر الظّنون {أيضاً} جبر ووهن وترجيح {وكذا في ما يكون به} أي: بغيره {أحدها} أي: أحد الثلاثة.

والحاصل: أنّ الظّنّ القياسي لا يجبر ولا يوهن ولا يرجّح، سواء في المورد الّذي كان سائر الظّنون جابراً وموهناً ومرجّحاً أو في المورد الّذي لم يكن سائرالظّنون كذلك، وذلك {لوضوح أنّ الظّنّ القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه لكان حجّة} أي: كان على خلاف الخبر المعتبر - الّذي لولا هذا القياس لكان ذلك الخبر حجّة - {بعد المنع عنه} أي: عن القياس {لا يوجب} هذا الظّنّ القياسي {خروجه} أي: خروج ذلك الخبر {عن تحت دليل الحجيّة} لأنّ الشّارع لم يعتن بالقياس ولم يجعل له دخلاً في الأحكام فكيف يوجب القياس على خلاف الخبر المعتبر إخراج الخبر عن تحت دليل الحجيّة وإسقاطه عن الاعتبار؟ {وإذا كان} الظّنّ القياسي {على وفق ما لولاه لما كان حجّة} كما لو كان على وفق خبر ضعيف لا حجيّة فيه لولا القياس {لا يوجب} هذا القياس الموافق له {دخوله}

ص: 221

تحت دليل الحجيّة. وهكذا لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين؛ وذلك لدلالة دليل المنع على إلغائه الشّارع رأساً، وعدمِ جواز استعماله في الشّرعيّات قطعاً، ودخلُهُ في واحد منها نحو استعمال له فيها، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

أي: دخول ذلك الخبر الضّعيف {تحت دليل الحجيّة} حتّى يكون حجّة بسبب القياس الموافق له.

{وهكذا لا يوجب} الظّنّ القياسي {ترجيح أحد المتعارضين} في ما لم يكن مرجّح آخر في البين {وذلك} الّذي ذكرنا من عدم كونه مرجّحاً موهناً جابراً {لدلالة دليل المنع} كقوله: «الدّين إذا قيس مُحِق»(1)

{على إلغائه} أي: إلغاء القياس من{الشّارع رأساً} مطلقاً {وعدم جواز استعماله في الشّرعيّات قطعاً، و} من المعلوم أنّ {دخله في واحد منها} أي: من الجبر والوهن والترجيح {نحو استعمال له} أي: للقياس {فيها} أي: في الشّرعيّات {كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً} حتّى لا تقول: أيّ فرق بين الظّنون المطلقة المنهي عنها بقول مطلق كقوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(2) حتّى قلتم بكونها جابرة موهنة مرجّحة، وبين الظّنّ القياسي المنهي عنه بالخصوص حتّى قلتم بعدم جبره ووهنه وترجيحه مع أنّ كليهما شريكان في النّهي؟

قلت: الفرق أنّ عمومات النّهي قابلة للتخصيص بما دلّ على أنّ الظّنّ يمكنه الجبر والوهن والترجيح، كما يخصّص بالظنّ في الرّكعات، بخلاف النّهي عن الظّنّ بالقياسي فليس قابلاً لتجويز العمل به بعد النّهي عنه، فتأمّل.

هذا تمام الكلام في المقصد السّادس من مقاصد الكتاب المنعقد لبيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً، واللّه الهادي.

ص: 222


1- هكذا ورد: «إنّ السنة إذا قيست محق الدّين» الكافي 1: 57.
2- سورة يونس، الآية: 36.

المقصد السّابع: في الأصول العمليّة

اشارة

ص: 223

ص: 224

المقصد السّابع: في الأصول العمليّة

وهي الّتي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظّفر بدليل،

___________________________________________

[المقصد السّابع في الأصول العمليّة]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة

{المقصد السّابع} من مقاصد الكتاب {في الأصول العمليّة} الأصل: في اصطلاح الأصوليّين والفقهاء هو الحكم المجعول شرعاً أو عقلاً في ظرف الشّكّ مع كون الشّكّ جزءاً لموضوعه، وفي قباله الدليل الّذي هو الحكم المجعول في ظرف الشّكّ مع أنّ الشّكّ ليس جزءاً من موضوعه. فمثلاً خبر الواحد حجّة عند الشّكّ في الواقع لكن ليس الموضوع مأخوذاً فيه الشّكّ، فقول زرارة بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال إخبار عن الواقع وإن كان حجيّة خبره في ظرف الشّكّ بالحكم الواقعي، أمّا أصالة البراءة فقد أُخذ في موضوعها الشّكّ؛ لأنّها تقول: إذا لم تدر وجوب الدعاء أجر البراءة فالدعاء المشكوك مجرى للبراءة.

ثمّ الأصول العمليّة هي في مقابلة الأصول الاعتقاديّة الّتي يجب الاعتقاد بها، فهذه للاعتقاد وتلك للعمل، وإذا أُطلق الأصول احتمل أن يراد به أُصول الفقه الشّامل للأصل والدليل، واحتمل أن يراد به أُصول الاعتقاد.

{و} عرّف المصنّف الأصول العمليّة بأنّها {هي الّتي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظّفر بدليل} سواء كان ذلك لفقدان النّصّ أو إجماله أو تعارض النّصّين في ما لو قلنا أنّ المرجع عند تعارض النّصّين الأصول العمليّة.

وهذا التعريف - كما لا يخفى - لازم الأصول العمليّة، لا أنّه تعريفها الحقيقي، وإنّما التعريف القريب أن نقول: هو الجاري في الشّبهة في الحكم

ص: 225

ممّا دلّ عليه حكم العقل أو عموم النّقل.

والمهمّ منها أربعة؛

___________________________________________

الكلّي النّاشئة من فقدان النّصّ أو إجماله أو تعارض النّصّين {ممّا دلّ عليه حكم العقل} هذا بيان للموصول في قوله: «هي الّتي» وتقسيم للأُصول على قسمين:

الأوّل: ما دلّ عليه العقل، كقبح العقاب بلا بيان المستند للبراءة العقليّة {أو} الاحتياط العقلي الّذي هو مقتضى العلم الإجمالي.

والثّاني: ما دلّ على {عموم النّقل} كقوله(علیه السلام): «رفع ما لا يعلمون»(1)

الّذي هو مستند البراءة الشّرعيّة، و «أخوك دينك فاحتط لدينك»(2)،

بناءً على أنّه دليل للاحتياط شرعاً.

{والمهمّ منها} أي: من الأصول العمليّة {أربعة} وهي: البراءة الّتي توجب عدم التكليف في صورة الشّكّ فيه، والاشتغال الموجب لاشتغال الذمّة بالتكليف المشكوك، والتخيير الموجب لتخيير المكلّف بين طرفي الشّبهة بأن يأتي بأحدهما، والاستصحاب الموجب لسحب الحالة السّابقة في مورد الشّكّ.

ثمّ إنّ الأصول الّتي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل أكثر من هذه الأربعة، كقاعدة الفراغ، وقاعدة التجاوز، وقاعدة شكّ كثير الشّكّ، وقاعدة الطّهارة، وقاعدة الحليّة، وقاعدة اليد، وقاعدة الفراش، والبناء على الأكثر في الشّكّ بين الأربع والثلاث والثلاث والاثنين، وما أشبهها، فعدم التعرّض لها وحصر الأصول في هذه الأربعة لأمرين:

الأوّل: جريان الأصول الأربعة في جميع أبواب الفقه، بخلاف هذه القواعد المختصّة بباب دون باب.

ص: 226


1- الخصال 2: 417.
2- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.

فإنّ مثل قاعدة الطّهارة في ما اشتبه طهارته بالشبهة الحكميّة وإن كان ممّا ينتهي إليها

___________________________________________

الثّاني: عدم كثرة النّقض والإبرام إلّا في هذه الأربعة، وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى سبب عدم ذكر تلك في الأصول بقوله: {فإنّمثل قاعدة الطّهارة} وهي: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر»(1) {في ما اشتبه طهارته} كالحديد - مثلاً - الّذي قال بعضهم بنجاسته {بالشبهة الحكميّة} وهي الشّبهة النّاشئة عن فقدان النّصّ أو إجماله أو تعارض النّصّين ممّا يحتاج إلى استطراق باب الشّرع مقابل الشّبهة الموضوعيّة، وهي النّاشئة عن اشتباه أُمور خارجيّة، كما لو لم يعلم أنّ هذا بول أو ماء مع معرفة حكم كليهما. وإنّما خصّص ذلك بالشبهة الحكميّة؛ لأنّ الشّبهة الموضوعيّة ليست ممّا ينتهي إليها المجتهد بما هو مجتهد؛ لأنّ إجراء الأصل جائز بالنسبة إلى المقلّد أيضاً، فالشبهات الموضوعيّة حتّى في الأصول الأربعة - بعد فتوى الفقيه بكليّاتها - ليست خاصّة بالمجتهد ولذا يجوز للمقلّد إجراء البراءة في ما لو شكّ أنّه مديون لزيد بدينار، وإجراء الاحتياط في ما لو شكّ في إضافة أحد الماءين وأراد التطهير، وإجراء الاستصحاب في ما لو كان قبل ساعة على وضوء ثمّ شكّ في النّقض، وإجراء التخيير في ما لو حلف بزيارة أحد الحرمين في ساعة خاصّة، ممّا لا يمكن الجمع بينهما.

والحاصل: أنّ هذه القواعد والأصول لها جهتان:

الأُولى: في الشّبهات الموضوعيّة، ولا كلام فيها؛ لأنّها ليست خاصّة بالمجتهد وليست ممّا ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص.

الثّانية: في الشّبهات الحكميّة، وهنا يقع الكلام في أنّه لم خصّص الأصول بهذه الأربعة ولم يذكر فيه مثل قاعدة الطّهارة في الشّبهة الحكميّة؟

والجواب: أنّه {وإن كان ممّا ينتهي إليها} الفقيه فيفتي بالطهارة في الحكم

ص: 227


1- تهذيب الأحكام 1: 285.

في ما لا حجّة على طهارته ولا على نجاسته، إلّا أنّ البحث عنها ليس بمهمّ، حيث إنّها ثابتة بلا كلام، من دون حاجة إلى نقض وإبرام. بخلاف الأربعة - وهي: البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب - ، فإنّها محلّ الخلاف بين الأصحاب، ويحتاج - تنقيح مجاريها، وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النّقل فيها - إلى مزيد بحث وبيان، ومؤونة حجّة وبرهان،

___________________________________________

الكلّي الإلهي {في ما لا حجّة على طهارته ولا على نجاسته} لفقدان النّصّ أو إجماله أو تعارضه {إلّا أنّ البحث عنها ليس بمهمّ حيث إنّها ثابتة} لا اختلاف فيها {بلا كلام من دون حاجة إلى نقض وإبرام} بخلاف الأصول الأربعة حيث كثر القيل والقال فيها واحتاجت إلى تنقيح وتوضيح، وغيرها يكتفي في تنقيحها في مواضعها الخاصّة من الفقه {بخلاف} الأصول {الأربعة وهي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب، فإنّها محلّ الخلاف بين الأصحاب}.

وقد علّق المصنّف هنا بما لفظه: «لا يقال: إنّ قاعدة الطّهارة مطلقاً تكون قاعدة في الشّبهة الموضوعيّة، فإنّ الطّهارة والنّجاسة من الموضوعات الخارجيّة الّتي يكشف عنها الشّرع.

فإنّه يقال: أوّلاً: نمنع ذلك، بل إنّهما من الأحكام الوضعيّة الشّرعيّة، ولذا اختلفتا في الشّرع بحسب المصالح الموجبة لتشريعهما، كما لا يخفى.

وثانياً: إنّهما لو كانا كذلك، فالشبهة فيهما في ما كان الاشتباه لعدم الدليل على أحدهما كانت حكميّة، فإنّه لا مرجع لرفعها إلّا الشّارع، وما كانت كذلك ليست إلّا حكميّة»(1)،

انتهى.

{و} كيف كان، فإنّ الأصول الأربعة {يحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النّقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجّة وبرهان}

ص: 228


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 16.

هذا.

مع جريانها في كلّ الأبواب، واختصاص تلك القاعدة ببعضها، فافهم.

فصل: لو شكّ في وجوب شيء أو حرمته، ولم تنهض عليه حجّة، جاز شرعاً وعقلاً ترك الأوّل وفعل الثّاني،

___________________________________________

ولذا كثر القيل والقال.{هذا مع جريانها} أي: جريان الأصول الأربعة {في كلّ الأبواب} من الطّهارة إلى الديات {واختصاص تلك القاعدة ببعضها} أي: ببعض تلك الأبواب كباب الطّهارة، وهكذا بالنسبة إلى سائر القواعد المتقدّمة {فافهم} لعلّه إشارة إلى كثرة القيل والقال في تلك القواعد أيضاً، وإن لم تصل إلى حدّ الاختلاف في هذه الأربعة، كما أنّ الاختصاص بباب خاصّ لا يوجب عدم الذكر، واللّه العالم.

[فصل أصل البراءة]

اشارة

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، أصل البراءة

{فصل} في أصل البراءة {لو شكّ في وجوب شيء} كالدعاء عند رؤية الهلال {أو حرمته} كشرب التبغ {ولم تنهض عليه} أي: على المشكوك {حجّة جاز شرعاً وعقلاً ترك الأوّل} الّذي هو محتمل الوجوب {وفعل الثّاني} الّذي هو محتمل الحرمة.

ولا يخفى أنّ المسائل في المقام ستّة: لأنّ الشّكّ إمّا في الوجوب وإمّا في الحرمة، وسبب الشّكّ في كلّ منهما إمّا فقدان النّصّ أو إجماله أو تعارض النّصّين. وقد عقد الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل لكلّ مسألة فصلاً، لكن ما صنعه المصنّف أقلّ مؤونة.

وقد علّق المصنّف هنا بما لفظه: «لا يخفى أنّ جمع الوجوب والحرمة في فصل، وعدم عقد فصل لكلّ منهما على حدة، وكذا جمع فقد النّصّ وإجماله في عنوان عدم الحجّة، إنّما هو لأجل عدم الحاجة إلى ذلك بعد الاتحاد في ما هو

ص: 229

وكان مأموناً من عقوبة مخالفته، كان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النّصّ، أو إجماله واحتماله الكراهة أو الاستحباب، أو تعارضه في ما لم يثبت بينهما ترجيح، بناء على التوقّف في مسألة تعارض النّصّين، في ما لم يكن ترجيح في البين.

وأمّا بناءً على التخيير

___________________________________________

الملاك، وما هو العمدة من الدليل على المهمّ، واختصاص بعض شقوق المسألة بدليل أو بقول، لا يوجب تخصيصه بعنوان على حدة، وأمّا ما تعارض فيه النّصّان فهو خارج عن موارد الأصول العمليّة المقرّرة للشاكّ على التحقيق فيه من الترجيح أو التخيير، كما أنّه داخل في ما لا حجّة فيه، بناءً على سقوط النّصّين عن الحجيّة، وأمّا الشّبهة الموضوعيّة فلا مساس لها بالمسائل الأصوليّة، بل فقهيّة، فلا وجه لبيان حكمها في الأصول إلّا استطراداً، فلا تغفل»(1).

وعلى أيّ جاز إجراء البراءة في مشكوك الوجوب أو الحرمة {وكان} المرتكب للمشكوك {مأموناً من عقوبة مخالفته} لو كان في الواقع واجباً أو حراماً، سواء {كان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النّصّ أو إجماله واحتماله الكراهة} في ما دار بين الحرام والمكروه {أو} احتماله {الاستحباب} في ما دار الواجب والمستحبّ {أو تعارضه} أي: تعارض النّصّ - المستفاد من الحجّة - {في ما لم يثبت بينهما ترجيح} وإلّا كان الحكم لذي الترجيح، كما لو تعارض نصان بالنسبة إلى فاقد الطّهورين هذا يقول بحرمة الصّلاة وأنّه لا صلاة إلّا بطهور وهذا يقول بوجوبها وأنّه لا تترك الصّلاة بحال، ثمّ رجّحنا الحرمة، فإنّه لا يبقى مجال للشكّ.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من إجراء البراءة في مورد تعارض النّصّين إنّما هو {بناءً على التوقّف في مسألة تعارض النّصّين في ما لم يكن ترجيح في البين} إذ على هذا المبنى يبقى محلّ الرّجوع إلى الأصل فيجوز إجراء البراءة {وأمّا بناءً على التخيير} وأنّه

ص: 230


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 24.

- كما هو المشهور - فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها؛ لمكان وجود الحجّة المعتبرة، وهو أحد النّصّين فيها، كما لا يخفى.

وقد استدلّ على ذلك بالأدلّة الأربعة:

أمّا الكتاب؛ فبآيات، أظهرها: قوله - تعالى - : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا}(1).

___________________________________________

إذا تعارض النّصّان ولم يكن بينهما مرجّح يكون التكليف مخيّراً بين الأخذ بأيّهما لقوله(علیه السلام): «إذن فتخيّر»(2)،

وقوله: «بأيّهما عملت من باب التسليم وسعك»(3) {كما هو المشهور} في ظرف عدم المرجّح {فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها} من الأصول {لمكان وجود الحجّة المعتبرة، وهو} أي: الحجّة المعتبرة الموجودة في المقام {أحد النّصّين فيها} أي: في المسألة المتعارض فيها، فإنّ أحد المتعارضين تخييراً نصّ يعمل به، ومع وجود النّصّ لا مجال للأُصول {كما لا يخفى} ولا فرق في النّصّ بين أن يكون معيّناً أو مخيّراً.

وقد تحصّل أنّ شرط الرّجوع إلى البراءة في باب المتعارضين أن لا يكون أحدهما أرجح، وأن لا نقول بالتخيير، أمّا إذا كان أحدهما أرجح فاللّازم العمل بالراجح، وإن قلنا بالتخيير فاللّازم العمل بأحدهما.

[الاستدلال على البراءة بالأدلة الأربعة]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، أدلة البراءة

{وقد استدلّ على ذلك} الّذي ذكرنا من جريان البراءة في المشتبه مطلقاً {بالأدلّة الأربعة} الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل.

{أمّا الكتاب ف-} قد استدلّ {بآيات} منه {أظهرها قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا}} ووجه الاستدلال بها أنّ الآية كناية عن نفي العذاب بدون

ص: 231


1- سورة الإسراء، الآية: 15.
2- مستدرك الوسائل 17: 304؛ عن غوالي اللئالي 4: 133.
3- الكافي 1: 66، وفيه: «بأيهما أخذت...».

وفيه: أنّ نفي التعذيب - قبل إتمام الحجّة ببعث الرّسل - لعلّه كان منّة منه - تعالى - على عباده، مع استحقاقهم لذلك.

___________________________________________

إتمام الحجّة، فالبعث كناية عن البيان، والآية حكم عامّ لا بالنسبة إلى الأُمم السّابقة فقط، والعذاب أعمّ من الدنيوي والأُخروي، فالآية تدلّ على أنّ البيان إذا لم يكن هناك حكم فيجوز إجراء البراءة.

{وفيه} أنّ الآية تدلّ على نفي التعذيب، ونفي التعذيب أعمّ من عدم الاستحقاق ومن عدم الفعليّة منّة، فالمؤمن لا يعذّب؛ لأنّه لا يستحقّ، والعاصي المشفوع له لا يعذّب وإن استحقّ. وإذا تحقّق ذلك قلنا: {إنّ نفي التعذيب قبل إتمام الحجّة ببعث الرّسل لعلّه كان منّة منه - تعالى - على عباده مع استحقاقهم لذلك} التعذيب، فلا تدلّ الآية على عدم الاستحقاق حتّى تدلّ على البراءة، وإنّما تدلّ على نفي الفعليّة، ونفي الفعليّة لا ينافي وجود الحكم كما في العصاة، فإنّ عدم عقابهم فعلاً لأمر من عفو أو شفاعة لا يدلّ على عدم وجود تكليف عليهم.

والحاصل: أنّ الآية لا تدلّ على نفي الاستحقاق فلا تدلّ على نفي الحكم.

إن قلت: الظّاهر من نفي الاستحقاق نفي الفعليّة، فإنّ المتبادر من قول المولى: (لا عقاب عليك في هذا الحال) أنّه لا يستحقّه.

قلت: الظّاهر وجود الاستحقاق قبل بعث الرّسل لمخالفة النّاس الأوامر العقليّة، وإنّما لا يعذّب اللّه - تعالى - منّة وفضلاً، ويدلّ على ذلك قوله - تعالى - : {وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا}(1) أي: إذا أردنا هلاك قرية لمخالفتهم الأحكام العقليّة بالظلم والجور وسفك الدماء وانتهاك الأعراض، أمرنا مترفيها بالطاعة، وتخصيص الأمر بالمترفين لكونهم السّادة الّذين إذا سمعوا سمع النّاس وإن أبوا أبى النّاس،

ص: 232


1- سورة الإسراء، الآية: 16.

ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعليّة، لما صحّ الاستدلال بها إلّا جدلاً،

___________________________________________

فكأنّهم هم مناط الحكم إثباتاً ونفياً، ففسقوا فيها، فحيث خالفوا أوامرنا، فحقّ عليها القول، وإنّما نبعث إليهم الرّسل ثمّ نأخذهم بذنوبهم لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة، ولئلّا يقولوا: لولا جائنا من نذير.

{و} قد أجاب الشّيخ(رحمة الله)(1) عن هذا الإشكال - أي: إشكال عدم التلازم بين عدم العقاب الفعلي وبين عدم الاستحقاق - بأنّ الأخباري الّذي لا يقول بالبراءة ويقول بالاحتياط إنّما يقول بإثبات العقاب في ارتكاب المشتبه، فإذا دلّت الآية على عدم العقاب الفعليكفى في ردّه. وإنّما يقول الأخباري بالعقاب الفعلي؛ لأنّ أدلّته - كأخبار التثليث ونحوها - تدلّ على ذلك.

وفي جواب الشّيخ نظر، إذ أوّلاً: أنّ التزام الأخباري بالملازمة بين عدم الاستحقاق وعدم الفعليّة لا يصحّح استدلالنا بالآية إلّا جدلا، إذ نحن القائلين بالبراءة لا يمكننا الاستدلال بالآية على البراءة، إذ الآية تقول: «لا عقاب فعليّاً» وهذا غير كافٍ للبراءة، وإنّما الكافي للبراءة قوله: «لا استحقاق للعقاب» والآية غير متعرّضة لها.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: و{لو سلم اعتراف الخصم} أي: الأخباري القائل بالاحتياط {بالملازمة بين الاستحقاق والفعليّة} حتّى أنّه لو نفت الفعليّة نفت الاستحقاق {لما صحّ الاستدلال بها} أي: بالآية للبراءة {إلّا جدلاً}.

وثانياً: أنّا لا نسلّم أنّ الأخباري يلتزم بالملازمة بين الفعليّة والاستحقاق، كيف وفي المعصية الحقيقيّة الّتي يعترف الأخباري بالاستحقاق لا يعترف بأنّ العقاب فعليّ لاحتمال العفو ونحوه؟ فكيف يمكن أن يقول بالفعليّة في الشّبهة

ص: 233


1- فرائد الأصول 2: 23-24.

مع وضوح منعه؛ ضرورة أنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم ممّا علم بحكمه، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلّا كالوعيد به فيه، فافهم.

وأمّا السّنّة: فروايات:

منها: حديث الرّفع،

___________________________________________

الّتي هي دون المعصية الحقيقيّة؟

وإلى هذا أشار بقوله: {مع وضوح منعه} أي: منع تسليم الخصم بالملازمة {ضرورة أنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس عنده} أي: الخصم {بأعظم ممّا علم بحكمه} وأنّه حرام ولا يقول في المعلوم بالملازمة فكيف في المشكوك {وليس حال الوعيد بالعذاب فيه} أي: في المشكوك {إلّا كالوعيد به} أي: بالعذاب {فيه} أي: في ما علم بحكمه في كون كليهما لا يستلزمان الفعليّة {فافهم} لعلّه إشارة إلى عدم كون الاستحقاق محلّ الكلام، إذ محلّ الكلام هو لزوم الاجتناب شرعاً وعدمه، فالأخباري أيضاً لا بدّ وأن يلتزم بعدم وجوب الاجتناب؛ لأنّه لا محذور فيه، ومجرّد الاستحقاق المحتمل مع القطع بعدم الفعليّة لا يكفي في ثبوت الاحتياط.

ثمّ إنّه قد استدلّ للبراءة في الرّسائل(1) بآيات أُخر كقوله - تعالى - : {لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ}(2) لكن لمّا لم تستقم دلالتها على المطلب تركها المصنّف.

{وأمّا السّنّة ف-} قد استدلّ منها ب- {روايات} متعدّدة {منها حديث الرّفع} وهي الرّواية المرويّة عن النّبيّ - صلوات اللّه عليه وآله وسلّم - قال: «رفع عن أُمّتي تسعة: الخطأ، والنّسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون،

ص: 234


1- فرائد الأصول 2: 21.
2- سورة الطلاق، الآية: 7.

حيث عدّ «ما لا يعلمون» من التسعة المرفوعة فيه، فالإلزام المجهول من «ما لا يعلمون»، فهو مرفوع فعلاً وإن كان ثابتاً واقعاً، فلا مؤاخذة عليه قطعاً.

لا يقال:

___________________________________________

وما اضطرّوا إليه، والطّيرة، والحسد، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفته»(1).

ولا إشكال في سند الحديث؛ لأنّه مرويّ في الخصال(2) والتوحيد(3)

بسند صحيح، وفي دلالته على البراءة {حيث عدّ «ما لا يعلمون» من التسعة المرفوعة فيه} وتقريب الدلالة: أنّ المراد من كلمة «ما» الموصولة هو الحكم المجهول فهو مرفوع عن الأُمّة {فالإلزام المجهول} سواء كان إيجابيّاً أم تحريميّاً {من «ما لا يعلمون»} لأنّ المكلّف لايعلم به وإن احتمله أو ظنّ بوجوده {فهو مرفوع فعلاً وإن كان ثابتاً واقعاً} لما تحقّق في موضعه من أنّ الجهل لا يقيّد الأحكام الواقعيّة، بل هي ثابتة على المكلّفين، سواء علموا أم جهلوا. والقول بأنّه لا فائدة في تكليف مجهول اجتهاد في مقابل النّصّ الدالّ على أنّ أحكام اللّه عامّة لا تخصّ العالم فقط، بالإضافة إلى أنّ الأحكام لمّا كانت تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة لم يكن معنى لتخصيصها بفئة دون فئة.

نعم، الجاهل إذا كان قاصراً لم يعاقب؛ لأنّه خلاف العقل والنّقل {فلا مؤاخذة عليه قطعاً} فإنّ العقل والنّقل اتفقا على قبح مؤاخذة الجاهل القاصر.

{لا يقال}: إنّ الغرض في المقام نفي المؤاخذة حتّى يكون المكلّف الجاهل

ص: 235


1- ورد بألفاظ مختلفة، فتارةً: «رفع عن أمتي»، وأخرى: «وضع عن أمتي»، وثالثة: «ثلاث» أو «أربع» أو «ست» أو «تسع» و«تسعة»... راجعها في الكافي 2: 462؛ من لا يحضره الفقيه 1: 59؛ وسائل الشيعة 15: 369؛ مستدرك الوسائل 12: 23؛ سفينة البحار 3: 386.
2- الخصال 2: 417.
3- التوحيد: 353.

ليست المؤاخذة من الآثار الشّرعيّة، كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهراً، فلا دلالة له على ارتفاعها.

فإنه يقال: إنّها وإن لم تكن بنفسها أثراً شرعيّاً، إلّا أنّها ممّا يترتّب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه، من إيجاب الاحتياط شرعاً،

___________________________________________

في مأمن منها، والحال {ليست المؤاخذة من الآثار الشّرعيّة كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهراً} بل هي من الآثار العقليّة، والمرفوع في الخبر هي الآثار الشّرعيّة {فلا دلالة له} أي: للخبر {على ارتفاعها} أي: ارتفاع المؤاخذة.

وقد علّق المصنّف في الحاشية بقوله: «مع أنّ ارتفاعها وعدم استحقاقها بمخالفة التكليف المجهول هو المهمّ في المقام. والتحقيق في الجواب أن يقال - مضافاً إلى ما قلنا - : إنّ الاستحقاق وإن كان أثراً عقليّاً إلّا أنّ عدم الاستحقاق عقلاً مترتّب على عدم التكليف شرعاً ولو ظاهراً، تأمّل تعرف»(1).

{فإنّه يقال}: المؤاخذة لا تترتّب على التكليف الواقعي المجهول وليست أثراً له وإنّما هي أثر عقليّ للاحتياط، فنفي التكليف ظاهراً - بدليل الرّفع - دليل على عدم إيجاب الاحتياط الّذي هو موضوع المؤاخذة حقيقة، وإذا انتفى الموضوع انتفى الأثر.

والحاصل: أنّ دليل الرّفع يدلّ على إيجاب الاحتياط وبعدم الاحتياط ينتفي الموضوع للأثر العقلي الّذي هو المؤاخذة، ف- {إنّها} أي: المؤاخذة {وإن لم تكن بنفسها أثراً شرعيّاً} حتّى ترفع بدليل الرّفع {إلّا أنّها} أي: المؤاخذة {ممّا يترتّب عليه} أي: على الأثر الشّرعي {بتوسيط ما هو أثره} أي: ما يكون العقاب أثره، فالضمير يرجع إلى معنى المؤاخذة، والضّمير في «أثره» يرجع إلى الموصول أي: «ما» {وباقتضائه} عطف على «أثره» {من إيجاب الاحتياط شرعاً} بيان

ص: 236


1- حقائق الأصول 2: 226؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 28.

فالدليل على رفعه دليلٌ على عدم إيجابه، المستتبع لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته.

لا يقال: لا يكاد يكون إيجابه مستتبعاً لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول،

___________________________________________

ل- «ما» يعني أنّ المؤاخذة ليست أثراً شرعيّاً لكنّها أثر لما يترتّب على الأثر الشّرعي، فالمؤاخذة أثر لإيجاب الاحتياط الّذي هو أثر للتكليف الواقعي، فالشارع يتمكّن من رفع المؤاخذة برفع موضوعها الّذي هو الاحتياط {فالدليل على رفعه} أي: رفع ما لا يعلمون {دليل على عدم إيجابه} أي: عدم إيجاب الاحتياط {المستتبع} أي: يستتبع عدم إيجاب الاحتياط {لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته} أي: مخالفة ما لا يعلمون، أو مخالفة الاحتياط.

ثمّ إنّ المشكيني(رحمة الله) ذكر في تعليقه أنّ الجواب لا يلائم الإشكال وإنّما هو جواب عن إشكال آخر، كما أنّ الإشكال يحتاج إلى جواب آخر، فراجع(1).

{لا يقال}: ما ذكرتم في جواب الإشكال من أنّ المؤاخذة من آثار الاحتياط، فإذا لم يوجب الشّارع الاحتياط كان لازمه عدم المؤاخذة غير تام، إذ لنا مؤاخذتان: مؤاخذة على ترك الاحتياط ومؤاخذة على ترك التكليف المجهول، إذ لكلّ أمر ثواب وفي عصيانهعقاب، فالدليل على عدم المؤاخذة التابعة لعدم الاحتياط إنّما يدلّ على رفع المؤاخذة النّاشئة من الاحتياط، أمّا المؤاخذة الثّانية النّاشئة من مخالفة التكليف فلا دليل على رفعها.

والحاصل: أنّ هناك أمرين - بالتكليف وبالاحتياط، فعدم جعل الاحتياط معناه عدم المؤاخذة التابعة لهذا الأمر، وتبقى المؤاخذة التابعة للتكليف على حالها لا دليل على رفعها، فإنّه {لا يكاد يكون إيجابه} أي: إيجاب الاحتياط {مستتبعاً لاستحقاقها} أي: استحقاق المؤاخذة {على مخالفة التكليف المجهول}

ص: 237


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 34.

بل على مخالفته نفسه، كما هو قضيّة إيجاب غيره.

فإنّه يقال: هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيّاً، وإلّا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول،

___________________________________________

الّذي هو أمر آخر غير أمر الاحتياط {بل} إيجاب الاحتياط يستتبع استحقاق العقاب {على مخالفته} أي: مخالفة الاحتياط {نفسه، كما هو قضيّة} أي: مقتضى {إيجاب غيره} أي: غير الاحتياط من سائر التكاليف، فإنّ إيجاب الصّلاة مثلاً يستتبع العقاب على مخالفة الصّلاة، لا أنّه يستتبع العقاب على مخالفة الصّوم.

{فإنّه يقال}: قد يكون في المقام إيجابان نفسيّان، وهذا لا شكّ في أنّ كلّ إيجاب يستتبع عقاب نفسه، كما في الصّلاة والصّوم، وقد يكون في المقام إيجاب نفسيّ وإيجاب غيريّ طريقي، وفي هذا الحال لا يكون في الحقيقة إلّا إيجاب واحد وعقاب واحد وكان المناط هو النّفسي، فإذا خولف كان فيه العقاب وإذا أُوتي به لم يكن فيه عقاب وإن خولف الأمر الطّريقي.

فمثلاً: إذ أمر المولى بإحضار زيد ثمّ لم يعرفه العبد فأمر بإحضار من في الدار الّذين فيهم زيد، فإنّ هذا الأمر الثّاني ليس نفسيّاً وإنّما هو لمصلحة إحضار زيد، فإن أحضر زيداً كان قد أتى بكلّ تكليف متوجّه إليه وإن لم يأت به كان له عقاب واحد عقلاً وشرعاً، ففي المقام ليس أمران وعقابان حتّى يدلّ أمر الاحتياط على أنّ مخالفته توجب العقاب النّاشئ عن أمر الاحتياط ويبقى عقاب التكليف الواقعي بحاله.

ف- {هذا} الّذي ذكرتم من كون إيجاب الاحتياط يستتبع العقاب على مخالفته إنّما يصحّ {إذا لم يكن إيجابه} أي: إيجاب الاحتياط {طريقيّاً} لأجل التحفّظ على التكليف الواقعي {وإلّا} بأن كان الاحتياط طريقيّاً {فهو} أي: خلاف الاحتياط {موجب لاستحقاق العقوبة على} التكليف {المجهول} الّذي

ص: 238

كما هو الحال في غيره من الإيجاب والتحريم الطّريقيّين؛ ضرورة أنّه كما يصحّ أن يحتجّ بهما، صحّ أن يحتجّ به، ويقال: لم أقدمت مع إيجابه ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان، كما يخرج بهما.

وقد انقدح بذلك: أنّ رفع التكليف المجهول كان منّةً على الأُمّة؛ حيث كان له - تعالى - وضعُهُ بما هو قضيّته من إيجاب الاحتياط، فرفعه،

___________________________________________

جعل الاحتياط لمصلحته {كما هو الحال في غيره} أي: غير الاحتياط {من الإيجاب والتحريم الطّريقيّين} كالإيجاب والتحريم المقدّمي، فإنّه لا عقاب فيهما، وإنّما العقاب مخالفة التكليف المجهول. فمثلاً: الإلقاء من السّطح حرام لكنّه حرام طريقيّ لحرمة قتل النّفس، فإذا ألقى نفسه ومات عوقب على القتل لا على الإلقاء {ضرورة أنّه كما يصحّ أن يحتجّ} المولى على العبد {بهما} أي: بالإيجاب والتحريم الطّريقيّين، بأن يقول: لم ألقيت نفسك من السّطح؟ أو لم ما ركبت السّفينة حتّى توصلك إلى الحجّ؟ {صحّ} للمولى {أن يحتجّ به} أي: بنفس التكليف.

{ويقال: لم أقدمت} على ترك الحجّ وعلى قتل نفسك {مع إيجابه} أو تحريمه {ويخرج} المولى {به} أي: بهذا الاحتجاج بقوله: لم أقدمت على ترك التكليف الواقعي؟ {عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان، كما يخرج} المولى بالاحتجاج {بهما} أي: بالإيجاب والتحريم الطّريقيّين. وهذا دليل على وحدة التكليف، إذ لو كان التكليف بالطريق وبذي الطّريق تكليفين مستقلّين لم يصحّ الاحتجاج بأيّهما، كما لا يخفى.

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من كون التكليف المجهول كان مقتضياً لإيجاب الاحتياط تحفّظاً عليه {أن رفع التكليف المجهول كان منّة على الأُمّة} كما هو ظاهر قوله - عليه الصّلاة والسّلام - : «رفع..» {حيث كان له - تعالى - وضعه بما هو قضيّته} أي: وضعه بهذه الكيفيّة {من إيجاب الاحتياط ف-} لم يضعه، بل {رفعه}

ص: 239

فافهم.

ثمّ لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة - ولا غيرها من الآثار الشّرعيّة - في «ما لا يعلمون»، فإنّ ما لا يعلم من التكليف

___________________________________________

تفضّلاً {فافهم} لعلّه إشارة إلى الفرق بين الاحتياط وبين سائر الأوامر الطّريقيّة، فإنّ في ترك الاحتياط تجرّياً يستتبع العقاب وإن أتى بالتكليف الواقعي، كما لو صلّى إلى طرف واحد - في ما اشتبهت القبلة - وترك سائر الجهات وصادفت تلك الجهة الواقع، فإنّه يعاقب للتجرّي - كما هو خيرة المصنّف - وهذا ليس كسائر الأوامر الطّريقيّة الّتي لا عقاب لها قطعاً.

{ثمّ} إنّ المحتملات العقليّة في قوله(علیه السلام): «رفع ما لا يعلمون»(1) أربعة: لأنّ «ما» الموصولة إمّا أن يراد بها الحكم وإمّا أن يراد بها فعل المكلّف، فعلى الأوّل يراد أنّ الحكم الّذي لا يعلم مرفوع، وعلى الثّاني يكون المحتملات ثلاثة:

الأوّل: رفع الفعل حقيقة، وهذا محال إذ لم ترفع أفعال المكلّفين، كشرب التتن ودعاء رؤية الهلال.

الثّاني: تقدير شيء في الكلام، أي: رفع جميع الآثار الشّرعيّة لما لا يعلمون، أو رفع الأثر الظّاهر - الّذي هو المؤاخذة - .

الثّالث: كون الإسناد مجازاً بأن أسند الرّفع إلى «ما لا يعلمون» مجازاً، مع أنّه مسند في الحقيقة إلى آثاره أو إلى مؤاخذته.

هذه محتملات الكلام، وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى مختاره بقوله: {لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة} في الكلام {ولا غيرها} أي: غير المؤاخذة {من الآثار الشّرعيّة} بأن يقال: إنّ التقدير {في} قوله: «رفع {ما لا يعلمون»} رفع مؤاخذة ما لا يعلمون أو رفع آثار ما لا يعلمون {فإنّ ما لا يعلم من التكليف}

ص: 240


1- الخصال 2: 417.

مطلقاً - كان في الشّبهة الحكميّة أو الموضوعيّة - بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً، وإن كان في غيره لا بدّ من تقدير الآثار، أو المجاز في إسناد الرّفع إليه؛

___________________________________________

كالوجوب والحرمة المجهولين {مطلقاً} سواء {كان في الشّبهة الحكميّة} كالشكّ في وجوب دعاء الرّؤية والشّكّ في حرمة شرب التتن {أو الموضوعيّة} كالشكّ في أنّ هذا المائع الخاصّ خمر أو هذا الشّخص الخاصّ ولد فتجب نفقته {بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً} إذ للشارع أن يقول يجب وأن يقول لا يجب أو يقول يحرم وأن يقول لا يحرم.

لكن لا يخفى أنّ هذا الاحتمال - أي: رفع الحكم بنفسه الّذي استظهره المصنّف(رحمة الله) - إنّما يتمّ بالنسبة إلى هذه الفقرة من الرّواية، أي: قوله: «ما لا يعلمون»، وأمّا بالنسبة إلى سائر الفقرات كقوله: «ما لا يطيقون» و «ما اضطرّوا» و «ما استكرهوا» فلا يمكن هذا الكلام، إذ لا يمكن أن يراد ب- «ما» الموصولة فيها الحكم، فإنّه لا معنى لأن يقال: «رفع حكم اضطرّ إليه» إذ الحكم لا يضطرّ إليه وإنّما الفعل والعين يضطرّ إليهما. فمثلاً: شرب الخمر يضطرّ إليه، ومن المعلوم أنّ شرب الخمر فعل، ولا يصحّ أن يقال الوجوب المضطرّ إليه مرفوع، فإنّ الوجوب - الّذي هو الحكم - لا يضطرّ إليه.

والحاصل: أنّ كون المراد ب- «ما» الحكم خاصّ بالنسبة إلى «ما لا يعلمون» {وإن كان في غيره} من سائر الفقرات {لا بدّ من تقدير الآثار} فالمراد رفع آثار ما استكرهوا عليه - مثلاً - فإنّه إذا شرب الإنسان الخمر - مثلاً - عوقب في الآخرة وجلد في الدنيا وكره تزويجه، لكن دليل الرّفع دلّ على عدم ترتّب تلك الآثار على ما إذا كان الشّرب إكراهيّاً {أو المجاز} وذلك {في إسناد الرّفع إليه} أي: إلى ذلك الغير - مثل: «ما استكرهوا» مع أنّ الإسناد في الحقيقة إلى الآثار أو إلى المؤاخذة، فيكون من قبيل إسناد الجَرَيان إلى الميزاب والحال أنّه مسند إلى الماء

ص: 241

فإنّه ليس «ما اضطرّوا أو ما استكرهوا» - إلى آخر التسعة - بمرفوع حقيقة.

نعم، لو كان المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه، لكان أحد الأمرين ممّا لا بدّ منه أيضاً.

ثمّ

___________________________________________

حقيقة في قولنا: (جرى الميزاب) {فإنّه ليس «ما اضطرّوا أو ما استكرهوا» إلى آخرالتسعة بمرفوع حقيقة} كما لا يخفى.

{نعم، لو كان المراد من الموصول} أي: لفظة «ما» {في «ما لا يعلمون» ما اشتبه حاله} أي: فعل المكلّف حتّى يكون المعنى رفع شرب التتن الّذي لا يعلم حرمته، ورفع الدّعاء عند الرّؤية الّذي لا يعلم وجوبه ممّا علم ذاته {ولم يعلم عنوانه، لكان أحد الأمرين} من تقدير الآثار أو كون الإسناد مجازيّاً {ممّا لا بدّ منه أيضاً} لكنّه قد عرفت أنّ المحتمل - بل الظّاهر - كون المراد رفع الحكم الّذي لا يعلم، فلا يحتاج إلى تقدير الآثار أو القول بكون الإسناد مجازيّاً، لكن جماعة من العلماء قالوا بأحد الأمرين ولم يقولوا بمقالة المصنّف حتّى يستقيم السّياق، إذ نسبة الرّفع إلى «ما لا يعلمون» وإلى سائر الفقرات واحدة، وحيث لا يمكن القول برفع سائر الفقرات بل لا بدّ من أحد الأمرين كان مقتضى السّياق أن يكون «ما لا يعلمون» أيضاً كذلك. وهذا الكلام من المصنّف إشارة إلى كلام الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل(1) الّذي يقول بأنّ التقدير رفع الآثار أو رفع خصوص المؤاخذة.

ثمّ إنّ الإنصاف أنّ السّياق يؤيّد كلمات أُولئك الأعلام الّذين جعلوا الموصول عبارة عن الموضوع الخارجي، وقالوا بأنّ المراد من رفعه رفع آثاره أو يكون الإسناد مجازاً بنسبة الرّفع الّذي هو للآثار إلى الموضوع ذي الأثر.

{ثمّ} هل المقدّر جميع الآثار أو الأثر الظّاهر أو المؤاخذة؟ وجوهٌ: أقواها

ص: 242


1- فرائد الأصول 2: 28.

لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة، بعد وضوح أنّ المقدّر في غير واحدٍ غيرها، فلا محيص من أن يكون المقدّر هو الأثر الظّاهر في كلّ منها، أو تمام آثارها الّتي تقتضي المنّة رفعها.

___________________________________________

الأوّل، إذ {لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة} حتّى يكون المرفوع المؤاخذة فقط على تلك التسعة {بعد وضوح أنّ المقدّر في غير واحد} من العناوين التسعة المذكورة في الرّواية {غيرها} أي: غير المؤاخذة، إذ سيأتي في الحديث تقدير غير المؤاخذة في «ما أُكرهوا» و«ما لا يطيقون» و«الخطأ» {فلا محيص من أن يكون المقدّر هو الأثر الظّاهر في كلّ منها} أي: من التسعة حتّى يكون معنى الرّفع رفع الأثر الظّاهر ل- «ما لا يعلمون» و«ما لا يطيقون» و«ما اضطرّوا إليه» و«ما استكرهوا عليه» وهكذا {أو تمام آثارها الّتي تقتضي المنّة رفعها} لكن الثّاني أولى؛ لأنّه هو المتبادر من النّسبة إلى الشّيء، فلو قيل: (زيد وجوده كالعدم) كان الظّاهر منه أنّه لا يترتّب عليه أيّ أثرٍ، لا أنّه لا يترتّب عليه الأثر الظّاهر، فإنّ كون المراد الأثر الظّاهر يحتاج إلى قرينة.

ولعلّ السّرّ في ذلك أنّ رفع جميع الآثار أقرب إلى نفي الذّات من نفي بعض الآثار ولو كان ذلك البعض هو الأثر الظّاهر.

وإنّما قيّدنا تمام الآثار بما إذا كانت المنّة تقتضي رفعها لئلّا يرتفع تمام الآثار حتّى ما لا يقتضي المنّة رفعها، فلو كسر أحدٌ إناءَ أحدٍ خطاءً، أو قتل شخصاً اضطراراً، لم يرتفع الضّمان والدِّية؛ لأنّ رفعهما ليس منّةً مطلقاً بل على الفاعل، والرّواية تدلّ على الرّفع مطلقاً منّة على الجميع، كما أنّ الرّفع قد لا يكون منّة بالنسبة إلى الفاعل، كما لو أخطأ وصام من ليس عليه الصّوم لمرض ونحوه، فإنّ جعل صومه الخطائي كلا صوم في عدم ترتّب الأثر عليه خلاف الامتنان، ولذا أفتى الفقهاء بترتّب الأثر على مثل هذا الصّوم، وكذا بالنسبة إلى الوضوء والغسل الضّرريّين.

ص: 243

كما أنّ ما يكون بلحاظه الإسناد إليها مجازاً هو هذا، كما لا يخفى.

فالخبر دلّ على رفع كلّ أثر تكليفيّ أو وضعيّ كان في رفعه منّة على الأُمّة، كما استشهد الإمام(علیه السلام) بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطّلاق والصّدقة والعتاق.

___________________________________________

{كما أنّ ما يكون بلحاظه الإسناد إليها مجازاً هو هذا} يعني أنّا لو أردنا أن لا نقدّر في الكلام شيئاً وقلنا: إنّ إسناد الرّفع إلى التسعة مجاز بلحاظ الآثار يلزم أن نقول: إنّ الإسناد إنّما هو بلحاظ جميع الآثار أو بلحاظ أظهر الآثار {كما لا يخفى} فالإسناد الّذي كان من حقّه أن يسند إلى جميع الآثار أو أظهر الآثار، فيقال: رفع آثار ما لا يعلمون أو رفع أظهر آثار ما لا يعلمون، أسند إلى نفس «ما لا يعلمون» مجازاً.ثمّ هل المرفوع بالحديث جميع الآثار التكليفيّة والوضعيّة أم خصوص الآثار التكليفيّة؟ قد يقال بالثّاني، إذ لو كان المرفوع جميع الآثار الوضعيّة كالتكليفيّة يلزم عدم الضّمان لمن أتلف مال الغير كرهاً أو جهلاً أو اضطراراً، وعدم النَّجاسة لمن شرِب النّجس أو أكله أو استعمله بسائر أنحاء الاستعمالات المعدّية اضطراراً أو جهلاً أو نحوهما، وهكذا بالنسبة إلى سائر الآثار الوضعيّة من قبيلهما. لكن الأقوى العموم {فالخبر دلّ على رفع كلّ أثر تكليفيّ أو وضعيّ كان في رفعه منّة على الأُمّة} فمن شرب الخمر جهلاً لا يحدّ كما لا يكره تزويجه ولا عقاب عليه وهكذا، أمّا الضّمان والنّجاسة فلا بدّ من خروجهما عن دليل وذلك غير ضارّ بالعموم، وقد دلّت الأدلّة على ذلك {كما} لا يخفى.

وقد {استشهد الإمام(علیه السلام) بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطّلاق والصّدقة والعتاق} ففي المحاسن عن أبيه، عن صفوان بن يحيى والبزنطي جميعاً، عن أبي الحسن(علیه السلام)، في الرّجل يستكره على اليمين، فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال(علیه السلام): «لا، قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): رفع عن

ص: 244

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ المرفوع في «ما اضطرّ إليه» وغيره - ممّا أُخذ بعنوانه الثانوي - إنّما هو الآثار المترتّبة عليه بعنوانه الأوّلي؛

___________________________________________

أُمّتي ما أُكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما أخطأوا»(1)

الخبر.

قال الشّيخ في الرّسائل: «فإنّ الحلف بالطلاق والعتاق والصّدقة - وإن كان باطلاً عندنا مع الاختيار أيضاً - إلّا أنّ استشهاد الإمام(علیه السلام) على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرّفع، شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة»(2)،

انتهى. كما أنّها تؤيّد رفع جميع الآثار سواء كانت تكليفيّة أم وضعيّة.

{ثمّ لا يذهب عليك} أنّ التسعة المرفوعة في الحديث على قسمين:

الأوّل: ما هو بعنوانه الأوّلي كالحسد والطّيرة والتفكّر في الخلق، ولا شكّ أنّ المرفوع في هذا القسم آثار هذه الأُمور، فالمعنى أنّه لا أثر شرعيّ للحسد وللطيرة وللتفكير ولا عقاب عليها إذا لم تظهر بيد أو لسان، كما في الحديث.

الثّاني: ما هو بعنوانه الثانوي، كما لا يعلمون وغيره، فإنّ شرب التتن - مثلاً - عنوان أوّليّ للفعل الخارجي الصّادر من الشّخص وكونه لا يعلم حكمه - أي: شرب التتن المجهول الحكم - عنوان ثانوي.

وفي هذا القسم يراد {أنّ المرفوع في «ما اضطرّ إليه» وغيره ممّا أُخذ بعنوانه الثانوي} الطّارئ على العنوان الأوّلي {إنّما هو الآثار المترتّبة عليه بعنوانه الأوّلي} فلو كان للإ فطار أثر من كفّارة ونحوها يرفع ذلك الأثر إذا حدث على الإفطار عنوان ثانوي، بأن كان لا يعلم أنّه شهر رمضان أو أُكره على الإفطار أو لم يطق الصّوم فأفطر أو نحو ذلك.

ص: 245


1- المحاسن: 339؛ وسائل الشّيعة 16: 173، وفيهما: «وضع...».
2- فرائد الأصول 2: 30.

ضرورة أنّ الظّاهر أنّ هذه العناوين صارت موجبة للرفع، والموضوع للأثر مستدع لوضعه، فكيف يكون موجباً لرفعه؟

لا يقال: كيف؟ وإيجاب الاحتياط في ما لا يعلم، وإيجاب التحفّظ في الخطأ والنّسيان، يكون أثراً لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها.

___________________________________________

{ضرورة أنّ الظّاهر} من الحديث {أنّ هذه العناوين} من الاضطرار والإكراه وعدم العلم ونحوها {صارت موجبة للرفع} فالأثر يلزم أن يكون قبل هذه العناوين {و} لو كانت هذه العناوين سبباً للأثر لم تكن رافعة له، إذ {الموضوع للأثر مستدعٍ لوضعه، فكيف يكون موجباً لرفعه؟}.

والحاصل: أنّ آثار العنوان الثانوي أن يكون العنوان الثانوي علّة لثبوتها لا علّة لرفعها.

{لا يقال}: ما ذكرتم من كون حديث الرّفع يرفع آثار الواقع بعنوانه الأوّلي لا بعنوانه الثانوي يقتضي أن لا يرفع الاحتياط - بأن يجب الاحتياط في ما لا يعلمون - إذ الاحتياط ليس من آثار الواقع حتّى يرفع بحديث الرّفع، بل هو من آثار الجهل بالواقع وهذا خلافالبداهة، فإنّ حديث الرّفع يرفع الاحتياط، وعلى هذا فلا يخصّ حديث الرّفع برفع آثار الواقع بعنوانه الأوّلي، بل يرفع آثار العنوان الثانوي أيضاً - كالجهل ونحوه - .

والحاصل: أنّه {كيف} تقولون بأنّ الرّفع إنّما يرفع آثار العنوان الأوّلي {و} الحال أنّ {إيجاب الاحتياط في ما لا يعلم وإيجاب التحفّظ في الخطأ والنّسيان يكون أثراً لهذه العناوين} الثلاثة {بعينها وباقتضاء نفسها} ومع ذلك يرفعها حديث الرّفع، فإن كان حديث الرّفع خاصّاً برفع الأثر على العناوين الأوّليّة فقط لم يرفع به الاحتياط والتحفّظ اللّذين هما أثران للعناوين الثانويّة؟

ص: 246

فإنّه يقال: بل إنّما تكون باقتضاء الواقع في موردها؛ ضرورة أنّ الاهتمام به يوجب إيجابهما، لئلّا يفوت على المكلّف، كما لا يخفى.

ومنها: حديث الحَجْب، وقد انقدح تقريب الاستدلال به ممّا ذكرنا في حديث الرّفع.

___________________________________________

{فإنّه يقال}: لا نسلّم بأنّ الاحتياط وإيجاب التحفّظ من آثار الجهل والخطأ والنّسيان، بل هما من آثار الواقع لكنّها آثار للواقع في ظرف الجهل والخطأ والنّسيان فليسا من العناوين الثانويّة {بل إنّما تكون} هذه الأُمور الاحتياط والتحفّظ في الخطأ والتحفّظ في النّسيان {باقتضاء} الحكم الثابت في {الواقع في موردها} أي: مورد الجهل والخطأ والنّسيان {ضرورة أنّ الاهتمام به} أي: بالواقع {يوجب إيجابهما} أي: إيجاب الاحتياط والتحفّظ {لئلّا يفوت على المكلّف} الواقع {كما لا يخفى} ومنه تبيّن أنّ حديث الرّفع إنّما يرفعهما لكونهما من آثار العناوين الأوّليّة.

نعم، لو كان هناك أثر للعناوين الثانوية لم يرفعها حديث الرّفع كسجدتي السّهو وكفّارة الخطأ وما أشبه ممّا رتّبه الشّارع على الجاهل والسّاهي ونحوهما، فإنّ هذه الأُمور تثبت بطروّ العناوين الثانويّة، لا أنّها ترتفع بتلك العناوين.

{ومنها} أي: من الرّوايات الّتي استدلّ بها على البراءة {حديث الحجب} وهو قوله - عليه الصّلاة والسّلام - : «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(1).

{وقد انقدح تقريب الاستدلال به ممّا ذكرنا في حديث الرّفع} فشرب التتن محجوب عن العباد حكمه التحريمي مثلاً، فلا تحرم، ودعاء الرّؤية حكمه الإيجابي محجوب عنهم فلا وجوب، وكذلك بالنسبة إلى الشّبهات الموضوعيّة.

ص: 247


1- التوحيد: 413؛ وسائل الشيعة 27: 163.

إلّا أنّه ربّما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلّقت عنايته - تعالى - بمنع اطّلاع العباد عليه: لعدم أمر رُسُله بتبليغه، حيث إنّه بدونه لما صحّ إسناد الحجب إليه - تعالى - .

___________________________________________

والحاصل: أنّ الإلزام المجهول وجوبيّاً كان أو تحريميّاً، حكميّاً أو موضوعيّاً، تكليفيّاً أو وضعيّاً محجوب عن العباد فهو موضوع عنهم.

{إلّا أنّه ربّما يشكل} كما في الرّسائل {بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلّقت عنايته - تعالى - بمنع اطّلاع العباد عليه} بحيث كان المنع ناشئاً منه - تعالى - فقط، لا مثل ما إذا صار سبب عدم العلم عدم إيصال الرّاوي الحكم أو اشتباه الأُمور الخارجيّة، بل {لعدم أمر} اللّه - سبحانه - {رسله بتبليغه حيث إنّه بدونه} أي: بدون كون الحجب منه - تعالى - {لما صحّ إسناد الحجب إليه - تعالى -}.

ولذا قال الشّيخ: «إنّ هذه الرّواية مساوقة لما ورد عن الإمام أميرالمؤمنين - عليه الصّلاة والسّلام - : «إنّ اللّه - تعالى - حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تعصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تتكلّفوها، رحمة من اللّه - تعالى - بكم»(1)(2).لكن ربّما يقال بعدم ظهور الحديث في ذلك، حيث إنّ النّسبة إلى اللّه - تعالى - إذ كلّ شيء يقع في الكون يصحّ نسبته إليه - تعالى - حتّى أفعال العباد، إذ الآلة والأسباب كلّها منه سبحانه، ولذا يصحّ نسبة الضّلال وما أشبه إليه سبحانه. قال - تعالى - : {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ}(3)، فتأمّل.

ص: 248


1- من لا يحضره الفقيه 4: 75؛ جامع أحاديث الشيعة 30: 512.
2- فرائد الأصول 2: 41.
3- سورة الرعد، الآية: 27؛ سورة النحل، الآية: 93؛ سورة فاطر، الآية: 8.

ومنها: قوله(علیه السلام): «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه»(1) الحديث. حيث دلّ على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقاً، ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته.

وبعدم الفصل قطعاً بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه، وبين عدم وجوب الاحتياط في الشّبهة الوجوبيّة، يتمّ المطلوب.

___________________________________________

{ومنها} أي: من الرّوايات الّتي استدلّ بها للبراءة {قوله(علیه السلام): «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه»} إلى آخر {الحديث} فإنّه دليل على البراءة {حيث دلّ على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقاً} وفسّر قوله: «مطلقاً» بقوله: {ولو كان} عدم العلم بالحرمة {من جهة عدم الدليل على حرمته} كما لو كان عدم العلم بحرمة التبغ من جهة عدم قيام الدليل على حرمته كما هو كذلك في جميع الشّبهات الحكميّة، أمّا شمول الرّواية للشبهات الموضوعيّة فليس عليه غبار.

هذا بالنسبة إلى جريان البراءة في الشّبهات التحريميّة {و} أمّا الشّبهات الوجوبيّة - كما لو شكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو شكّ في وجوب صلة زيد لاحتمال كونه رحماً له - فنقول: {بعدم الفصل قطعاً بين إباحته} أي: الشّيء المشكوك الحرمة {وعدم وجوب الاحتياط فيه} بالترك {وبين عدم وجوب الاحتياط في الشّبهة الوجوبيّة} حكميّة كانت - كالشكّ في وجوب دعاء الرّؤية - أم موضوعيّة - كالشكّ في وجوب صلة زيد - {يتمّ المطلوب} الجار في قوله: «بعدم» متعلّق بقوله: «يتمّ» أي :إنّ الرّواية ولو تعرّضت للشبهة التحريميّة لكنّا نسحب الحكم منها إلى الشّبهة الوجوبيّة لعدم القول بالفصل، إذ لم يفصل أحد من العلماء بين الشّبهات التحريميّة والوجوبيّة بأن يقول بجريان البراءة في الأُولى دون الثّانية، وإن كان هناك قول بالتفصيل بالعكس بجريان البراءة في الشّبهات

ص: 249


1- الكافي 5: 13، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341. ومتن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

مع إمكان أن يقال: ترك ما احتمل وجوبه ممّا لم يعرف حرمته، فهو حلال، تأمّل.

ومنها: قوله(علیه السلام): «النّاس في سعة ما لا يعلمون»(1).

فهم في سعةِ ما لم يعلم، أو مادام لم يعلم وجوبه أو حرمته، ومن الواضح أنّه لو كان الاحتياط واجباً لما كانوا في سعة أصلاً، فيعارض به

___________________________________________

الوجوبيّة دون التحريميّة.

{مع إمكان أن يقال} في وجه تعميم الرّواية للشبهات الوجوبيّة: أنّ {ترك ما احتمل وجوبه ممّا لم يعرف حرمته فهو حلال} إذ الفعل المردّد بين الوجوب وغير الحرمة - كدعاء الرّؤية - يكون تركه مردّداً بين الحرمة وغير الوجوب، فيثبت حليّة تركه بسبب الرّواية، ف- {تأمّل} ولعلّ وجهه أنّ إرجاع الشّبهات الوجوبيّة إلى الشّبهة التحريميّة بهذه الكيفيّة خلاف ظاهر الرّواية، فإنّ ظاهرها أنّ كلّما دار بين الحرمة في الفعل وغير الوجوب كان مجرى البراءة.

{ومنها} أي: من الرّوايات الّتي استدلّ بها للبراءة {قوله(علیه السلام): «النّاس في سعة ما لا يعلمون»} و«ما» في الرّواية إمّا ظرفيّة توقيتيّة فيقرأ «سعة» بالجرّ، ويكون المعنى النّاس في سعة من التكليف مادام لم يعلموا بها، وإمّا موصولة مضاف إليها للسعة، ويكون المعنى النّاس في سعة الشّيء الّذي لا يعلمونه {فهم في سعة ما لم يعلم} بناءً على الموصولة {أو} في سعة {مادام لم يعلم وجوبه أو حرمته} بناءً على الظّرفيّة.ومن المعلوم أنّ ذلك شامل للشبهات الوجوبيّة والتحريميّة، التكليفيّة والوضعيّة، الحكميّة والموضوعيّة {و} على هذا لا يجب الاحتياط مطلقاً، إذ {من الواضح أنّه لو كان الاحتياط واجباً لما كانوا في سعة أصلاً} إذ الاحتياط ضيق فكيف يكونوا في سعة؟ {فيعارض به} أي: بقوله(علیه السلام): «النّاس في سعة»

ص: 250


1- غوالي اللئالي 1: 424؛ مستدرك الوسائل 18: 20، مع اختلاف يسير.

ما دلّ على وجوبه، كما لا يخفى.

لا يقال: قد عُلم به وجوب الاحتياط.

فإنّه يقال: لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله؟

نعم، لو كان الاحتياط واجباً نفسيّاً كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه،

___________________________________________

{ما دلّ على وجوبه} أي: وجوب الاحتياط {كما لا يخفى} فلا بدّ من حمل ما دلّ على الاحتياط على الاستحباب؛ لأنّه الجمع الدلالي بين الدليلين، أمّا لو أخذنا بأدلّة الاحتياط يلزم طرح ما دلّ على أنّ النّاس في سعة، كما هو واضح.

{لا يقال}: الدّليل الأوّل وهو قوله: «النّاس في سعة» يقول: إنّ السّعة إنّما تكون إذا لم يعلموا، وأدلّة الاحتياط توجب العلم بوجوب الاحتياط فلا موضوع للدليل الأوّل معها، ف- {قد علم به} أي: بدليل الاحتياط {وجوب الاحتياط}. والحاصل: أنّ دليل الاحتياط وارد على «النّاس في سعة».

{فإنّه يقال}: لا يصلح دليل الاحتياط لكونه وارداً على السّعة، إذ الوجوب والحرمة الواقعيّان ممّا لا يعلم بهما، فالنّاس في سعة منهما، وأدلّة الاحتياط لا توجب العلم بهما حتّى تكون واردة على ما دلّ على السّعة، فإنّه {لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد} أي: بعد ورود أدلّة الاحتياط {فكيف يقع} المكلّف {في ضيق الاحتياط من أجله} أي: من أجل ما لا يعلم به من الوجوب والحرمة؟

وعلى هذا يقع التعارض بين الدليلين: السّعة تقول: أنت في سعة من التكليف الواقعي، والاحتياط يقول: أنت في ضيق منه، وقد عرفت وجه الجمع بحمل أدلّة الاحتياط على الاستحباب.

{نعم، لو كان الاحتياط واجباً نفسيّاً} بحيث إنّه كان واجباً لمصلحة في نفسه لا لمصلحة الواقع {كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه} لأنّ أدلّته حينئذٍ كانت

ص: 251

لكنّه عرفت أنّ وجوبه كان طريقيّاً، لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحياناً، فافهم.

ومنها: قوله(علیه السلام): «كلّ شيء مطلق حتّى يَرِدَ فيه نهي»(1).

___________________________________________

كانت واردة على دليل «النّاس في سعة ما لا يعلمون»(2)،

إذ لقد علموا بوجوب الاحتياط للأدلّة الدالّة عليه {لكنّه عرفت أنّ وجوبه} أي: الاحتياط {كان طريقيّاً لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحياناً} فأدلّته تقول الواقع المجهول يجب العمل به وأدلّة السّعة تقول الواقع المجهول لا يجب العمل به، كما تقدّم {فافهم} لعلّه إشارة إلى احتمال أن يكون «ما» في قوله: «في سعة ما لا يعلمون» ظرفيّة، أي: إنّ النّاس في سعة مادام لم يعلموا فإذا علموا وجوب الاحتياط لم تكن سعة إذ ما لم يعلموا محذوف المتعلّق حينئذٍ، ويحتمل أن يكون متعلّقه الحكم الواقعي وأن يكون الأعمّ من الواقع والاحتياط، وعلى هذا يكون دليل الاحتياط وارداً، ويكون حاله حال ما لو قال المولى لعبده: (إذا لم تعلم شيئاً فأنت في سعة) ثمّ قال له بالنسبة إلى دعاء الرّؤية: (واجب عليك)، وقال بالنسبة إلى الإناءين المشتبهين: (احتط عنهما)، فإنّه لا شكّ في ورود كلا الدّليلين على الدليل الأوّل المتضمّن للسعة.

{ومنها} أي: من الرّوايات الّتي استدلّ بها للبراءة {قوله(علیه السلام): «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»} وقد استدلّ به الصّدوق لجواز القنوت بالفارسيّة وأنّ الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يثبت الحضر.

ثمّ لا يخفى أنّ دلالة الرّواية على البراءة تتوقّف على كون الورود فيها بمعنى الوصول، كقوله - تعالى - : {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَمَدۡيَنَ}(3) أو نحو (ورد زيد كربلاء)،

ص: 252


1- من لا يحضره الفقيه 1: 317؛ وسائل الشيعة 6: 289.
2- غوالي اللئالي 1: 424؛ مستدرك الوسائل 18: 20، مع اختلاف يسير.
3- سورة القصص، الآية: 23.

ودلالته تتوقّف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم أو ما بحكمه، بالنهي عنه، وإن صدر عن الشّارع ووصل إلى غير واحد، مع أنّه ممنوع؛ لوضوح صدقه على صدوره عنه، لاسيّما بعد بلوغه إلى غير واحد، وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.

___________________________________________

حيث إنّه فيهما بمعنى الوصول، أمّا لو قلنا بأنّ الورود بمعنى الصّدور عن الشّارع ولو لم يصل إلينا حتّى يكون مفاد الحديث أنّ الأشياء قُبيل تشريع الأحكام لها مطلقة يجوز ارتكابها فلا دلالة للرّواية على البراءة أصلاً.

ولذا قال المصنّف(رحمة الله): {ودلالته} على البراءة {تتوقّف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم} فلا ورود إذا لم نعلم وإن كان صادراً {أو ما بحكمه} أي: بحكم العلم من الأمارات والطّرق الّتي هي حجّة شرعاً أو عقلاً {بالنّهي عنه} متعلّق ب- «العلم» فلو علمنا أو قامت أمارة على النّهي عن الشّيء كان ذلك وارداً وخرج عن كونه مطلقاً وإلّا كان جائز الارتكاب {وإن صدر} النّهي بالنّسبة إليه {عن الشّارع ووصل إلى غير واحد} لأنّ المراد بالورود الوصول إلى كلّ مكلّف مكلّف، فإنّ الاحتمالات أربعة حاصلة من ضرب حالتي المطلق أي: بالنسبة إلى الجميع، أو بالنسبة إلى بعض الأفراد في حالتي الورود، أي: بالنسبة إلى الجميع أو بالنسبة إلى بعض الأفراد.

هذا إذا لم يؤخذ الورود بمعنى الصّدور عن الشّارع {مع أنّه} أي: كون الورود غير صادق إلّا بعد الوصول {ممنوع لوضوح صدقه} أي: الورود {على صدوره عنه} أي: عن الشّارع {لاسيّما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره}.

فما ذكره الشّيخ في الرّسائل(1)

من أنّ هذه الرّواية أحسن الرّوايات الدالّة على البراءة، مخدوش.

ص: 253


1- فرائد الأصول 2: 43.

لا يقال: نعم، ولكن بضميمة أصالة العدم صحّ الاستدلال به وتمّ.

فإنّه يقال: وإن تمّ الاستدلال به بضميمتها، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه، إلّا أنّه

___________________________________________

وربّما أشكل على المصنّف بأنّه إن أراد من كونه مطلقاً عدم حكم له في اللوح المحفوظ قبل صدور النّهي فهو خلاف البديهي، إذ لكلّ شيء حكم في الواقع حتّى قبل صدوره عن النّبيّ والإمام، وإن أراد من كونه مطلقاً عدم نهي عنه قبل أن ينهى عنه النّبيّ والإمام فهو ضروريّ ويكون كتوضيح الواضحات، وكلاهما لا يناسب مقام الرّواية الظّاهرة في أنّه حكم إنشائيّ ذو فائدة.

ولكن ربّما يجاب عن ذلك بأنّ المراد من كونه مطلقاً جواز ارتكابه، كما يقول به من يقول: بكون الأصل في الأشياء الإباحة مقابل من يقول: إنّ الأصل فيها الحظر، فتأمّل.

{لا يقال}: سلّمنا أنّ الورود بمعنى الصّدور لكن إذا شككنا في شيء - كشرب التتن - هل أنّه ورد فيه نهي أم لا؟ كان استصحاب عدم الورود محكماً، وبذلك تكون النّتيجة الإباحة، وعلى هذا لا يفرق بين كون الورود بمعنى الصّدور أو بمعنى الوصول {نعم} يكون الفرق في أنّ الأوّل يحتاج إلى ضمّ الاستصحاب إليه بخلاف الثّاني.

{و} الحاصل: أنّ الورود - وإن كان بمعنى الصّدور - {لكن بضميمة أصالة العدم صحّ الاستدلال به} أي: بهذا الحديث {وتمّ} حجّة البراءة.

{فإنّه يقال}: كلامنا في أنّ مجهول الحكم هل يجوز ارتكابه أم لا، وهذا الحديث لم يتعرّض لذلك وإنّما تعرّض لما لم يصدر فيه حكم، فإنّه {وإن تمّ الاستدلال به} أي: بهذا الحديث {بضميمتها} أي: ضميمة أصالة العدم {ويحكم} حينئذٍ {بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه إلّا أنّه} أي: الإطلاق والإباحة

ص: 254

لا بعنوان أنّه مجهول الحرمة شرعاً، بل بعنوان أنّه ممّا لم يرد عنهالنّهي واقعاً.

لا يقال: نعم، ولكنّه لا يتفاوت في ما هو المهم من الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.

فإنّه يقال: حيث إنّه بذاك العنوان لاختصّ بما لم يعلم ورود النّهي عنه أصلاً، ولا يكاد يعمّ ما إذا ورد النّهي عنه في زمان، وإباحتُهُ في

___________________________________________

للمجهول {لا بعنوان أنّه مجهول الحرمة شرعاً} لما عرفت أنّ مجهول الحرمة لا يشمله الحديث {بل بعنوان أنّه ممّا لم يرد عنه النّهي واقعاً} المكشوف ذلك بأصالة العدم، وهذا ممّا لا يحتاج معه إلى الحديث أصلاً، إذ أصالة العدم تجري وتحكم بعدم الحرمة وإن لم يرد هذا الحديث، كما لا يخفى.

{لا يقال}: مهم الفقيه هو الحكم بالإطلاق والإباحة، من غير فرق بين أن يكون مستنده الحديث وحده أو بضميمة أصالة العدم {نعم} هناك فرق من حيث السّبب للإباحة {ولكنّه لا يتفاوت في ما هو المهمّ من الحكم بالإباحة} والإطلاق {في مجهول الحرمة كان} الحكم بالإباحة {بهذا العنوان} أي: بعنوان أنّه مجهول الحكم - إذا قلنا بدلالة الحديث - {أو بذلك العنوان} أي: عنوان أنّه لم يرد عنه النّهي واقعاً المكشوف ذلك بأصالة العدم - إذ قلنا باحتياج الحديث إلى ضميمة أصالة العدم - .

{فإنّه يقال}: ليس الأمر على ما ذكرتم من عدم التفاوت، وإنّما يكون الدليل - بناءً على كونه مركّباً من الحديث وأصالة العدم - أخصّ من الدليل - بناءً على كونه الحديث فقط - إذ لو كان المعيار هو مجهول الحكم شمل الحكم بالإباحة ما طرأ عليه إباحة وحرمة ولم يعلم السّابق منهما، ولو كان المعيار إجراء أصالة العدم لم تجر في هذا الفرض فلا يحكم فيه بالإباحة {حيث إنّه} أي: المشكوك {بذاك العنوان} أي: بعنوان ما لم يرد فيه نهي {لاختصّ بما لم يعلم ورود النّهي عنه أصلاً} حتّى تجري أصالة العدم {ولا يكاد يعمّ ما إذا ورد النّهي عنه في زمان، وإباحة في}

ص: 255

آخر، واشتبها من حيث التقدّم والتأخّر.

لا يقال: هذا لولا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.

فإنّه يقال:

___________________________________________

زمان {آخر، واشتبها} أي: الإباحة والنّهي {من حيث التقدّم والتأخّر} إذ لا تجري أصالة العدم حينئذٍ، وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم لمجهول الحرمة - بدون احتياج إلى ضميمة أصالة العدم - فإنّه يشمل حتّى هذه الصّورة؛ لأنّه لم يعلم حكمه فعلاً.

إن قلت: لا يشمل الحديث صورة توارد الحكمين؛ لأنّا نعلم بورود النّهي حينئذٍ فلا يشمله «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي».

قلت: كلا، إذ معنى ورود النّهي: النّهي المستمر ولا نعلم ورود النّهي المستمرّ لاحتمال كون الإباحة بعد النّهي.

{لا يقال}: في ما توارد فيه النّهي والإباحة أيضاً نحكم بالإباحة، حتّى لو قلنا باحتياج الحديث إلى ضميمة أصالة العدم، فإنّ أصالة العدم وإن لم تجر هنا إلّا أنّ عدم القول بالفصل بين أفراد المشتبهات كافٍ في الحكم بالإباحة، ف- {هذا} الّذي ذكرتم من الفرق غير تامّ؛ لأنّه إنّما يتمّ {لولا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته} سواء لم يعلم حالته السّابقة أصلاً أم علم بتوارد الحالين عليه.

{فإنّه يقال}: إنّه لو قام إجماع مركّب على عدم الفرق بين موردين، فإنّ أحد الموردين لو كان ثابتاً بالدليل تعدّى الحكم إلى المورد الثّاني بالإجماع المركّب، أمّا لو كان ثبوت الحكم في أحدهما بالأصل لم يثبت الحكم في الآخر، وذلك لأنّ لوازم الأدلّة حجّة بخلاف لوازم الأصول، فمثلاً: لو قام الدليل على حرمة الخمر ودلّ الإجماع على التلازم بين الخمر والفقّاع قلنا بحرمة الفقّاع؛ لأنّ لازم الحرام حرام، أمّا لو قام الأصل على حرمة الخمر ودلّ الإجماع على التلازم لم

ص: 256

وإن لم يكن بينهما الفصل، إلّا أنّه إنّما يجدي في ما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل، لا الأصل، فافهم.

___________________________________________

نقل بأنّ الفقّاع حرام، إذ لوازم الأصول ومثبتاتها ليست بحجّة.والحاصل: أنّ إثبات الحكم في اللّازم يحتاج إلى ثلاثة أُمور:

الأوّل: وجود الحكم في الملزوم.

الثّاني: الدليل على الملازمة.

الثّالث: كون اللّازم يثبت بالملزوم، فالإجماع إنّما دلّ على الأمر الثّاني - أي: الملازمة - ويبقى الأمر الثّالث رهن كون الأمّر الأوّل لازمه حجّة أو عدم كون لازمه حجّة، وحيث إنّ لازم الدليل حجّة يتمّ المطلوب. أمّا في الأصل فحيث أنّ لازمه ليس بحجّة لا يتمّ المطلوب، وفي ما نحن فيه حيث ثبت حكم الملزوم - وهو إباحة ما لا نصّ فيه - بالأصل الّذي هو أصالة بقاء الإباحة الواقعيّة، لا يمكن إثبات الحكم في اللّازم - وهو ما توارد عليه الإباحة والحرمة - بدليل الملازمة الّذي هو الإجماع المركّب المدّعى.

{و} الحاصل: أنّه و{إن لم يكن بينهما} أي: بين ما يجهل حاله وبين ما يعلم بتوارد الحالتين عليه ولم يعلم المتأخّر منهما {الفصل} القائل بالإباحة يقول فيهما والقائل بالاحتياط يقول فيهما {إلّا أنّه} أي: عدم الفصل الثابت بالإجماع المركّب {إنّما يجدي في ما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها} وهو ما لا حالة سابقة له، بل هو مجهول مطلق {الدليل} بأن كان الدليل دالّاً على الإباحة المطلقة {لا الأصل} العملي، إذ لازم الدليل حجّة وليس لازم الأصل بحجّة {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ مدّعى الإجماع يريد به الإجماع على الحكم الظّاهري كما ليس ببعيد، فكأنّه يقول: كلّ من قال بالإباحة قال في الجميع، وكلّ من قال بالاحتياط قال في الجميع، فالقول بالإباحة في البعض والاحتياط في البعض

ص: 257

وأمّا الإجماع: فقد نقل على البراءة(1)، إلّا أنّه موهون، ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة؛ فإنّ تحصيله في مثل هذه المسألة - ممّا للعقل إليه سبيل، ومن واضح النّقل عليه دليل - بعيد جدّاً.

وأمّا العقل: فإنّه قد استقلّ بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول، بعد الفحص واليأس عن الظّفر بما كان حجّة عليه، فإنّهما

___________________________________________

إيجاد قول ثالث وهو مخالف للإجماع المركّب، فالإباحة الثابتة في اللّازم إنّما هو بنفس الإجماع لا بسبب كونه لازماً حتّى يقال بأنّ الأصل لا يثبت لوازمه.

هذا تمام الكلام في الرّوايات الّتي استدلّ بها للبراءة {وأمّا الإجماع فقد نقل على البراءة} القولي منه حيث إنّ بعضهم ادّعاه، والعملي حيث يعملون بالبراءة في مختلف أبواب الفقه حيث لا دليل {إلّا أنّه موهون} جدّاً {ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة} إذ مع الغضّ عن مخالفة الأخباريّين في الشّبهات التحريميّة فلا إجماع من الكلّ، وقد منع حجيّة الإجماع من باب اللطف مع أنّه لا مجال له بعد وجود المخالف، والحدسي في مثل هذه المسألة لا مجال له {فإنّ تحصيله} أي: تحصيل الإجماع {في مثل هذه المسألة ممّا للعقل إليه سبيل} كما يأتي {ومن واضح النّقل عليه دليل} كما تقدّم {بعيد جدّاً} فإنّ من شرط حجيّة الإجماع على مبنى المتأخّرين أن لا يكون محتمل الاستناد، وهذا الإجماع بعد ورود الأدلّة العقليّة والنّقليّة من محتمل الاستناد قطعاً لو لم يكن من مظنونه أو مقطوعه.

{وأمّا العقل} فقد استدلّ به على البراءة {فإنّه قد استقلّ بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول} سواء كان سبب الجهل عدم الصّدور أو عدم الوصول أو اشتباه الأُمور الخارجيّة {بعد الفحص واليأس عن الظّفر بما كان حجّة عليه} من العلم والعلمي والظّنّ في حال الانسداد {فإنّهما} أي: العقوبة

ص: 258


1- فرائد الأصول 2: 50.

بدونهما عقاب بلا بيان، ومؤاخذةٌ بلا برهان، وهما قبيحان بشهادة الوجدان.

ولا يخفى: أنّه مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته، فلا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل، كي يتوهّم أنّها تكون بياناً. كما أنّه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة، بل في صورةالمصادفة استحقّ العقوبة على المخالفة، ولو قيل بعدم وجوب دفع الضّرر المحتمل.

___________________________________________

والمؤاخذة {بدونهما} أي: بدون الحجّة {عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان، وهما} أي: العقاب والمؤاخذة بدون الحجّة {قبيحان بشهادة الوجدان} الحاكم في باب الإطاعة والعصيان.

{و} لا يقال: إنّ في ارتكاب المشتبه احتمال للضرر ودفع الضّرر المحتمل واجب عقلاً.

لأنّا نقول: {لا يخفى أنّه مع استقلاله} أي: العقل {بذلك} أي: بقبح العقاب بلا بيان {لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته} أي: مخالفة التكليف المجهول، بل المؤاخذة تكون معلومة العدم والضّرر معلوم الانتفاء {فلا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل كي يتوهّم أنّها} أي: قاعدة دفع الضّرر المحتمل {تكون بياناً} فلا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان تكون رافعة لموضوع قاعدة دفع الضّرر المحتمل، وإنّما تجري قاعدة دفع الضّرر المحتمل في أطراف العلم الإجمالي {كما أنّه مع احتماله} أي: احتمال العقل للضرر {لا حاجة إلى القاعدة} أي: قاعدة دفع الضّرر المحتمل {بل في صورة المصادفة} أي: مصادفة الفعل للمضرّ {استحقّ العقوبة على المخالفة} للواقع {ولو قيل بعدم وجوب دفع الضّرر المحتمل}.

والحاصل: أنّ هاتين القاعدتين - قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقاعدة دفع الضّرر المحتمل - لهما موردان ولا ترتبط إحداهما بالأُخرى، فإن جرت قاعدة

ص: 259

وأمّا ضرر غير العقوبة، فهو وإن كان محتملاً، إلّا أنّ المتيقّن منه - فضلاً عن محتمله - ليس بواجب الدفع شرعاً ولا عقلاً

___________________________________________

قبح العقاب بلا بيان لم يبق مورد لقاعدة دفع الضّرر المحتمل، إذ لا احتمال للضرر حينئذٍ وإن لم تجر قاعدة قبح العقاب بلا بيان جرت قاعدة دفع الضّرر المحتمل، بل فوق ذلك وهو أنّه لو لم تجر قاعدة القبح يلزم عقلاً اجتناب الضّرر المحتمل - وإن قلنا بأنّه لا دليل لوجوب دفع الضّرر المحتمل - وذلك لأنّه لو صادف العمل الواقع المعاقب عليه حسن العقاب ولا مانع عنه؛ لأنّ المفروض عدم قبح العقاب، فالعقل يلزم باجتناب المحتمل لئلّا يصادف الواقع فيعاقب.

والنّتيجة أنّه لو جرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان جاز الارتكاب للمشتبه، ولو لم تجر هذه القاعدة لم يجز الارتكاب عقلاً، سواء قلنا بقاعدة دفع الضّرر المحتمل أم لا، أمّا لو قلنا بها فللقاعدة، وأمّا لو لم نقل بها فلأنّه لا مؤمن للعقاب الواقعي في صورة المصادفة.

هذا كلّه في كون الضّرر المحتمل عقوبة أُخرويّة {وأمّا} ال- {ضرر} الدنيوي {غير العقوبة} كالمرض والخسارة وما أشبههما {فهو وإن كان محتملاً} في المشتبه الحرمة والوجوب ولا يجري هنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان {إلّا أنّ} احتمال الضّرر الدنيوي غير ضارّ.

والحاصل: أنّ العقل يستقلّ في المشتبهات بالبراءة، ولا دافع لهذا الحكم العقلي إلّا احتمالان:

الأوّل: قاعدة دفع الضّرر المحتمل الأُخروي - أي: العقاب - لكن هذا غير تامّ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، كما تقدّم تقريرها.

الثّاني: قاعدة دفع الضّرر المحتمل الدنيوي، لكنّها غير صحيحة أيضاً لأنّ {المتيقّن منه} أي: من الضّرر الدنيوي {فضلاً عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعاً ولا عقلاً}

ص: 260

ضرورةَ عدمِ القبح في تحمّل بعض المضارّ ببعض الدواعي عقلاً، وجوازه شرعاً.

مع أنّ احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرّة، وإن كان ملازماً لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة؛

___________________________________________

فإنّه لم يدلّ دليل من عقل أو شرع على وجوب دفع الضّرر بقول مطلق.

نعم، الضّرر إذا كان هلاك النّفس أو ذهاب بعض الأعضاء كالعين أو الأُذن لم يجز، لإطلاق {لَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَىٱلتَّهۡلُكَةِ}(1)، وما دلّ على أنّ المثلة لا تجوز حتّى بالنفس إلّا أنّ مثل إدماء بعض الجسم أو خدش الأعضاء أو شرب ما يسبّب حمى أو ضرراً أو ما أشبهها فلا دليل شرعاً أو عقلاً على المنع عنه إذا كان متيقّناً فضلاً عمّا إذا كان محتملاً، ولذا كانوا^ يقفون حتّى تتورّم أقدامهم، ويسجدون حتّى تحتاج آثار سجودهم إلى القرض، وكان يحيى(علیه السلام) يبكي حتّى أثّر في وجهه أخاديد، ويعقوب بكى حتّى ابيضّت عيناه من الحزن، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.

{ضرورة عدم القبح في تحمّل بعض المضارّ ببعض الدواعي عقلاً وجوازه شرعاً} ولذا يركب التجّار الأهوال ويتعب أصحاب الأعمال أنفسهم ولم يقل أحد بحرمته شرعاً ولا كان ذلك مناف للعقل.

هذا بناءً على أنّ الحرمة المحتملة أو الوجوب المحتمل الّذي نقول بجواز فعل الأوّل وترك الثّاني إنّما هو إذا قلنا بتلازمهما للمضرّة والمنفعة {مع أنّ احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرّة} في محتمل الحرمة {وإن كان ملازماً لاحتمال المفسدة} الّتي هي أهمّ من المضرّة الشّخصيّة {أو ترك المصلحة} في محتمل الوجوب فإنّ الحرمة القطعيّة لا تلازم الضّرر الشّخصي، فالسرقة - مثلاً - ، لا تلازم ضرراً شخصيّاً على السّارق وإن كانت ملازمة للمفسدة؛ لأنّها توجب

ص: 261


1- سورة البقرة، الآية: 195.

لوضوح أنّ المصالح والمفاسد الّتي تكون مناطات الأحكام - وقد استقلّ العقل بحسن الأفعال الّتي تكون ذات المصالح، وقبحِ ما كان ذات المفاسد - ليست براجعةٍ إلى المنافع والمضارّ، وكثيراً ما يكون محتمل التكليف مأمون الضّرر. نعم، ربّما يكون المنفعة أو المضرّة مناطاً للحكم شرعاً وعقلاً.

إن قلت: نعم،

___________________________________________

الإخلال بالأمن العام مثلاً، كما أنّ الوجوب القطعي لا يلازم المصلحة الشّخصيّة، فإنّ إعطاء الزكاة لا يلازم عود النّفع إلى المعطي وإن كان يلازم الصّلاح العام؛ لأنّه يوجب إنعاش الفقير مثلاً، فكيف بالحرمة والوجوب المحتملين {لوضوح أنّ المصالح والمفاسد الّتي تكون مناطات الأحكام} على مبنى أهل العدل القائلين بكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد {وقد استقلّ العقل بحسن الأفعال الّتي تكون ذات المصالح} وهي الّتي أوجبها الشّرع {وقبح ما كان ذات المفاسد} وهي الّتي نهى عنها الشّرع {ليست براجعة إلى المنافع والمضارّ} الشّخصيّة.

وقوله: «ليست» خبر لقوله: «إنّ المصالح» {وكثيراً ما يكون محتمل التكليف مأمون الضّرر} فنقطع بعدم الضّرر مع أنّه نحتمل التكليف {نعم، ربّما يكون المنفعة أو المضرّة} الدنيويّتان {مناطاً للحكم شرعاً وعقلاً}.

فتحصّل: أنّ الشّيء المشتبه وجوبه أو حرمته لا مانع من جريان البراءة بالنسبة إليه، إذ العقاب الأُخروي مأمون فيه لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، والضّرر الدنيوي - أوّلاً - لا يلازم محتمل الحرمة، فمحتمل الحرمة لا يلزم أن يكون محتمل الضّ-رر وهك-ذا بالنسبة إلى محتم-ل ال-وج-وب، - وثانياً - دفع الضّرر القطعي الدنيوي غير لازم عقلاً وشرعاً فكيف بالضرر المحتمل.

{إن قلت: نعم} احتمال الوجوب لا يلازم احتمال المنفعة واحتمال الحرمة لا

ص: 262

ولكن العقل يستقلّ بقبح الإقدام على ما لا يؤمن مفسدته، أو أنّه كالإقدام على ما علم مفسدته، كما استدلّ به شيخ الطّائفة+(1) على أنّ الأشياء على الحَظْر أو الوقف.

قلت: استقلاله بذلك ممنوع، واسند: شهادة الوجدان، ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان، حيث إنّهم لا يحترزون ممّا لا تؤمن مفسدته، ولا يعامِلون معه معاملة محتمل المفسدة، كيف؟ وقد أذن الشّارع بالإقدام عليه،

___________________________________________

يلازم احتمال المضرّة، وكذلك لا يلازمان احتمال العقاب الأُخروي {ولكن العقل يستقلّ بقبح الإقدام على ما يؤمن مفسدته أو أنّه كالإقدام على ما علم مفسدته} وهذا المقدار كافٍ في لزوم العقل الاجتناب، فإنّ المفسدة المحتملة ممّا لا شكّ فيها في فعل مشتبه الحرمة وترك الوجوب، إذ عدم الوصول إلى المصلحة الملزمة مفسدة أيضاً {كما استدلّ به شيخ الطّائفة+ على أنّ الأشياء على الحظر أو الوقف} حتّى يتحقّق الإذن في الإقدام ويذهب احتمال المفسدة.

{قلت}: ليس كذلك، فإنّ استقلال العقل إنّما هو في الضّرر الأُخروي فقط، كما تقدّم تقريره، فإنّ {استقلاله بذلك} الّذي ذكرتم من قبح الإقدام على ما لا يؤمن مفسدته {ممنوع، والسّند شهادة الوجدان} فإنّ الوجدان لا يحكم بأنّ محتمل المفسدة كمقطوعها {ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان} فإنّ جميع الأسفار وأقسام التجارات وما أشبهها محتمل للمفسدة، ومع ذلك فإنّ العقلاء يقدمون عليها، ولو كانت هذه الأشياء مقطوعة المفسدة لم يقدموا عليها.

ومن ذلك تبيّن أنّ محتمل المفسدة ليس لديهم كمقطوع المفسدة {حيث إنّهم لا يحترزون ممّا لا تؤمن مفسدته} بل يقدمون عليه {ولا يعاملون معه} أي: مع محتمل المفسدة {معاملة محتمل المفسدة}.

{كيف و} الخصم يعترف بأنّه {قد أذن الشّارع بالإقدام عليه} في الشّبهات

ص: 263


1- العدة في أصول الفقه 2: 742.

ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح، فتأمّل.

واحتُجّ للقول بوجوب الاحتياط - في ما لم تقم فيه حجّة - بالأدلّة الثلاثة:

أمّا الكتاب: فبالآيات النّاهية عن القول بغير العلم،

___________________________________________

الوجوبيّة {ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح} وليس للشارع رفع احتمال المفسدة الدنيويّة حتّى يقال: إنّ إذنه كاشف عن عدم المفسدة، فإذنه يكشف عن عدم قبحه عند العقلاء {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى فرق العقلاء بين المفاسد المحتملة، ففي بعضها لا يجيزون الإقدام وفي بعضها يجيزون، فإنّ الثورة مثلاً محتمل المفسدة، ومع ذلك فالعقلاء لا يجيزونها ولا يقدمون عليها؛ لأنّ المفسدة المحتملة كبيرة جدّاً، وهذا بخلاف المفاسد الجزئيّة.

هذا تمام الكلام في الأدلّة الأربعة الّتي أُقيمت على جريان البراءة في الشّبهة البدويّة - وجوبيّة كانت أم تحريميّة، موضوعيّة أم حكميّة، مهمّة أم غير مهمّة، تكليفيّة كانت أم وضعيّة - من غير فرق في الشّبهة الحكميّة بين كون سبب الشّبهة إجمال النّصّ أو فقدانه أو تعارض النّصّين، كلّ ذلك لإطلاق ما عرفت من الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل.

[أدلة القول بالاحتياط في الشبهات البدوية والجواب عنها]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، أدلّة الاحتياط في الشبهات البدوية ومناقشتها

{واحتجّ للقول بوجوب الاحتياط في ما لم تقم فيه حجّة} على البراءة سواء في الشّبهات التحريميّة أو الوجوبيّة {بالأدلّة الثلاثة} الكتاب والسّنّة والعقل.

{أمّا الكتاب فبالآيات النّاهية عن القول بغير العلم} كقوله - تعالى - : {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1)، وقوله: {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ}(2)، وقوله:

ص: 264


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة يونس، الآية: 59.

وعن الإلقاء في التهلكة، والآمرة بالتقوى.

والجواب: أنّ القول بالإباحة شرعاً، وبالأمن من العقوبة عقلاً، ليس قولاً بغير علم؛ لما دلّ على الإباحة من النّقل، وعلى البراءة من حكم العقل، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشّبهة أصلاً، ولا فيه مخالفة التقوى،

___________________________________________

{إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(1) {و} بما دلّ على النّهي {عن الإلقاء في التهلكة} وهو قوله -تعالى - : {وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ}(2) {و} بالآية {الآمرة بالتقوى} كقوله - تعالى - : {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ}(3)، فإنّ الاقتحام في الشّبهة بدون الحجّة عمل بغير علم وإلقاء للنفس في التهلكة؛ لأنّ العلم مؤمن وغيره ليس بمؤمّن، وعمل بخلاف التقوى، فإنّ التقوى معناه الاجتناب والتحذّر والاحتياط، إذ هو مشتقّ من (وقى) ومن المعلوم أنّ الإقدام في الشّبهة خلاف ذلك كلّه.

{والجواب: أنّ القول بالإباحة شرعاً} لما دلّ من الآيات والأخبار على ذلك {وبالأمن من العقوبة عقلاً} لقبح العقاب بلا بيان {ليس قولاً بغير علم، لما دلّ على الإباحة من النّقل} كقوله: «كلّ شيء حلال»(4)،

و «كلّ شيء مطلق»(5)

{وعلى البراءة من حكم العقل}.

ولا يخفى أنّه فرق بين الإباحة والبراءة، فالإباحة إيجابيّ والبراءة سلبيّ {ومعهما} أي: مع حكمي العقل والنّقل {لا مهلكة في اقتحام الشّبهة أصلاً ولا فيه مخالفة التقوى} بل من التقوى أن يبيح الإنسان ما أباحه الشّارع فقد قال(علیه السلام): «إنّ

ص: 265


1- سورة يونس، الآية: 36.
2- سورة البقرة، الآية: 195.
3- سورة التغابن، الآية: 16.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 341.
5- من لا يحضره الفقيه 1: 317؛ وسائل الشيعة 6: 289.

كما لا يخفى.

وأمّا الأخبار:

___________________________________________

اللّه يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه»(1).

وكيف كان، فالكتاب لا دلالة فيه على الاحتياط {كما لا يخفى}.

هذا تمام الكلام في ما استدلّ به من الآيات على الاحتياط {وأمّا الأخبار} فهي طوائف كثيرة نذكر بعضها: كمقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبداللّه(علیه السلام)، وفيها بعد ذكر المرجّحات: «إذا كان كذلك أرجئه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشّبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(2).

وروايات السّكوني والزهري وعبدالأعلى، وفيها: «الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(3).

وخبر مسعدة، عن جعفر، عن آبائه، عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) أنّه قال: «لا تجامعوا في النّكاح على الشّبهة وقفوا عند الشّبهة» إلى أن قال: «فإنّ الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في التهلكة»(4).

وخبر حمزة، عن الصّادق(علیه

السلام) قال: «إنّه لا يسعكم في ما نزل بكم ممّا لا تعلمون إلّا الكفّ عنه والتثبّت والرّدّ إلى أئمّة الهدى»(5)، وخبر جميل، عن الصّادق(علیه السلام)، عن آبائه قال: قال رسول اللّه(صلی

الله علیه و آله): «الأُمور ثلاثة: أمر بيّن لك رشده فاتّبعه، وأمر بيّن لك غيّة فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فردّه إلى اللّه - عزّ وجلّ...»(6).

ص: 266


1- وسائل الشيعة 16: 232.
2- الكافي 1: 67؛ تهذيب الأحكام 6: 301.
3- الكافي 1: 50؛ تفسير العيّاشي 1: 8.
4- وسائل الشيعة 27: 159.
5- الكافي 1: 50؛ مستدرك الوسائل 17: 268.
6- من لا يحضره الفقيه 4: 400.

فبما دلّ على وجوب التوقّف عند الشّبهة، - معلّلاً في بعضها بأنّ «الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في المهلكة» - من الأخبار الكثيرة الدالّة عليه مطابقة أو التزاماً. وبما دلّ على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة.

___________________________________________

وغيرهما ممّا نقل جملة منها في الرّسائل(1).وإليها أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {فبما دلّ على وجوب التوقّف عند الشّبهة معلّلاً في بعضها بأنّ «الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في المهلكة»} فإنّ الوقوف يوجب السّلامة لا محالة بخلاف الاقتحام فإنّه يحتمل أن يكون مهلكة، ومعنى كونه خيراً هو المعنى العرفي لا التفضيل، أو يراد أنّ صعوبة الوقوف أقلّ من صعوبة الهلكة {من الأخبار الكثيرة الدالّة عليه مطابقة} مثل ما تضمّن الأمر بالوقوف: فإنّه يدلّ على الوقوف مطابقة {أو التزاماً} مثل ما دلّ على الإرجاء والتثبّت الّذي هو لازم الوقوف {وبما دلّ على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة} كصحيحة عبدالرّحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال: «بل عليهما أن يجزى كلّ واحد منهما الصّيد». فقلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ قال: «إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا وتعلموا»(2).

وموثّقة عبداللّه بن وضّاح قال: كتبت إلى العبد الصّالح عنّا يتوارى القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعاً ويستر عنّا الشّمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذّن عندنا المؤذّنون فأُصلّي حينئذٍ وأفطر إن كنت صائماً أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة الّتي فوق الجبل؟ فكتب(علیه السلام): «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة

ص: 267


1- فرائد الأصول 2: 68.
2- الكافي 4: 391.

والجواب: أنّه لا مهلكة في الشّبهة البدويّة، مع دلالة النّقل على الإباحة، وحكم العقل بالبراءة، كما عرفت.

وما دلّ على وجوب الاحتياط - لو سلم - وإن كان وارداً على حكم العقل؛ فإنّه كفى بياناً على العقوبة - على مخالفة التكليف المجهول -

___________________________________________

وتأخذ الحائطة لدينك»(1).

وقول أميرالمؤمنين(علیه السلام) لكميل: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(2)،

إلى غير ذلك.

{والجواب: أنّه لا مهلكة في الشّبهة البدويّة} غير المقرونة بالعلم الإجمالي {مع دلالة النّقل على الإباحة} كما تقدّم من قوله(علیه السلام): «كلّ شيء حلال»(3)

و«كلّ شيء مطلق»(4) و «رفع ما لا يعلمون»(5) {وحكم العقل بالبراءة} لقبح العقاب بلا بيان {كما عرفت} سابقاً {وما دلّ على وجوب الاحتياط لو سلم} أنّ ظاهر الأدلّة الوجوب ولم نقل أنّه للاستحباب، كما يوجد بعض القرائن الدالّة على ذلك في نفس الأخبار، كما يشهد له قوله في خبر كميل: «بما شئت»، وغيره ممّا ذكره الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل {وإن كان وارداً على حكم العقل فإنّه كفى بياناً على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول} فإنّه لا فرق لدى العقل بين أن يقول المولى: اعمل كذا، أو احتط في هذا الموضوع، في عدم بقاء مجال لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، إذ إيجاب الاحتياط أيضاً بيان.

ص: 268


1- تهذيب الأحكام 2: 259.
2- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 341.
4- من لا يحضره الفقيه 1: 317؛ وسائل الشيعة 6: 289.
5- الخصال 2: 417.

ولا يُصغى إلى ما قيل: من «أنّ إيجاب الاحتياط إن كان مقدّمة للتحرّز عن عقاب الواقع المجهول، فهو قبيح، وإن كان نفسيّاً فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع» وذلك لما عرفت من أنّ إيجابه يكون طريقيّاً، وهو عقلاً ممّا يصحّ أن يحتجّ به على المؤاخذة في مخالفة الشّبهة،

___________________________________________

{ولا يصغى إلى ما قيل} والقائل هو الشّيخ {من «أنّ إيجاب الاحتياط} لا يمكن أن يكون طارداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، إذ لا يخلو الواقع من أمرين:الأوّل: كون إيجاب الاحتياط طريقيّاً لإحراز التكليف المجهول، وعلى هذا فالتكليف مجهول ولا بيان له، فلا يمكن العقاب عليه، كما لا يمكن العقاب على ترك الاحتياط، لفرض أنّه طريقي والطّريق لا عقاب على تركه ولا ثواب على فعله.

الثّاني: كون إيجاب الاحتياط نفسيّاً، وعلى هذا يكون العقاب على ترك الاحتياط الّذي هو واجب نفسي ولا يكون على مخالفة التكليف المجهول.

والحاصل: أنّ الاحتياط {إن كان مقدّمة للتحرّز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح} إذ الشّيء المجهول لا عقاب عليه، لما تقدّم من قاعدة قبح العقاب بلا بيان {وإن كان} الاحتياط {نفسيّاً، فالعقاب} يكون {على مخالفته لا على مخالفة الواقع»} وعلى كلا التقديرين لا يمكن أن يكون الاحتياط طارداً، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

{و} لا يخفى أنّ هذا الكلام غير تامّ، و{ذلك} لأنّا نختار الشّقّ الأوّل - وهو كون إيجاب الاحتياط طريقيّاً - لكنّا نقول بعد إيجاب الاحتياط لا مجال لقاعدة القبح، إذ لا فرق في البيان بين كونه بياناً للتكليف بنفسه أو بياناً للاحتياط الّذي يسبب التحفّظ على التكليف {لما عرفت من أنّ إيجابه} أي الاحتياط {يكون طريقيّاً، وهو عقلاً ممّا يصحّ أن يحتجّ به على المؤاخذة في مخالفة الشّبهة} الّتي

ص: 269

كما هو الحال في أوامر الطّرق والأمارات والأصول العمليّة، إلّا أنّها تعارض بما هو أخصّ وأظهر؛ ضرورة أنّ ما دلّ على حليّة المشتبه أخصّ، بل هو في الدلالة على الحليّة نصّ، وما دلّ على الاحتياط غايته أنّه ظاهر في وجوب الاحتياط.

___________________________________________

أوجب الاحتياط فيها {كما هو الحال في أوامر الطّرق والأمارات والأصول العمليّة} فإنّ جميعها وضعت طريقاً لدرك مصلحة الواقع، ومع ذلك فإنّ كلّها واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وأيّ فرق بين الاحتياط شرعاً في الشّبهة البدويّة - إذا قلنا به - والاحتياط عقلاً في الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

وكيف كان، فالحقّ في الجواب أن نقول: إنّ أخبار الاحتياط وإن كانت واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان {إلّا أنّها تعارض بما هو أخصّ} منها {وأظهر} وهذا استدراك لقوله: «وإن كان وارداً على حكم العقل»، فهنا طائفتان من الأخبار: طائفة تدلّ على الاحتياط، وطائفة تدلّ على البراءة، لكن ترجيح الطّائفة الثّانية على الطّائفة الأُولى بأُمور:

الأوّل: أنّ أدلّة الاحتياط تشمل الشّبهات البدويّة والمقرونة بالعلم الإجمالي، بخلاف أخبار البراءة فإنّها خاصّة بالشبهات البدويّة.

الثّاني: أنّ أخبار البراءة أظهر، إذ هي نصّ في البراءة وأخبار الاحتياط ظاهر في الوجوب، فلا بدّ من حملها على الاستحباب كما هو مقتضى الجمع الدلالي، فإنّه إن أخذنا بأخبار الاحتياط لم يبق وجه لأخبار البراءة بخلاف العكس.

الثّالث: أنّ في أخبار الاحتياط شواهد تدلّ على أنّها للإرشاد - كما في أوامر الإطاعة - .

{ضرورة أنّ ما دلّ على حليّة المشتبه أخصّ} ممّا دلّ على الاحتياط {بل هو في الدلالة على الحليّة نصّ} صريح {وما دلّ على الاحتياط غايته أنّه ظاهر في وجوب الاحتياط} فيقدّم النّصّ على الظّاهر - كما هو القاعدة المطّردة في جميع موارد

ص: 270

مع أنّ هناك قرائن دالّة على أنّه للإرشاد، فيختلف إيجاباً واستحباباً حسب اختلاف ما يرشد إليه.

___________________________________________

تعارض النّصّ والظّاهر - والسّرّ ما تقدّم من أنّ الظّاهر يمكن الإغماض عن ظاهره والإبقاء على أصله بخلاف النّصّ، فإنّه لا مجال له إلّا الطّرح {مع أنّ هناك قرائن دالّة على أنّه} أي: الاحتياط {للإرشاد} أي: حكم العقل {فيختلف إيجاباً واستحباباً حسب اختلاف ما يُرشد إليه} فإن كان المرشد إليه واجباً - كالشبهة في أطراف العلم الإجمالي - كان الاحتياط واجباً لحكم العقل، وإن كان المرشد إليه مستحبّاً - كالشبهة البدويّة - كان الاحتياط مستحبّاً لحكم العقل بذلك.

وأمّا القرائن الدالّة على كون الأمر بالاحتياط إرشاداً فهي أنّ في كثير منها علل الاحتياط بأنّه سبب للتحرّز عن المحذور ونحوه ممّا ظاهره الإرشاد، كقول أميرالمؤمنين(علیه السلام): «حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان لهأترك، والمعاصي حمى اللّه فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها»(1).

ورواية الباقر(علیه السلام) قال: «كان جدّي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يأمر بترك الشّبهات بين الحلال والحرام: من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا وإنّ حمى اللّه محارمه فاتّقوا حمى اللّه ومحارمه»(2).

وما ورد من أنّ «في حلال الدنيا حساباً، وفي حرامها عقاباً، وفي الشّبهات عتاباً»(3).

ص: 271


1- من لا يحضره الفقيه 4: 75.
2- وسائل الشيعة 27: 169؛ بحار الأنوار 2: 261، مع اختلاف يسير.
3- مستدرك الوسائل 12: 52.

ويؤيّده: أنّه لو لم يكن للإرشاد يوجب تخصيصه - لا محالة - ببعض الشّبهات إجماعاً، مع أنّه آبٍ عن التخصيص قطعاً.

كيف لا يكون قوله: «قف عند الشّبهة؛ فإنّ الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة» للإرشاد؟ مع أنّ المهلكة ظاهرةٌ في العقوبة، ولا عقوبة في الشّبهة البدويّة قبل إيجاب الوقوف والاحتياط،

___________________________________________

ورواية الفضل بن عياض قال: قلت لأبي عبداللّه(علیه السلام): مَنِ الورع من النّاس؟ قال: «الّذي يتورّع عن محارم اللّه - تعالى - ويجتنب هؤلاء فإذا لم يتّق الشّبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه...»(1)، إلى غير ذلك.

وقد ذكر شيخنا المرتضى في الرّسائل(2) شواهد على ذلك {ويؤيّده أنّه لو لم يكن للإرشاد يوجب تخصيصه} أي: الاحتياط {لا محالة ببعض الشّبهات إجماعاً} كالشبهات الوجوبيّة الّتي حتّى الأخباريّ لا يقول بوجوب الاحتياط فيها، فاللّازم أن نقول: إنّ الاحتياط واجب إلّا في الشّبهات الوجوبيّة {مع أنّه} أي: ما دلّ على الاحتياط {آبٍ عن التخصيص قطعاً} لأنّ لسانه لسان الوقوف عند الشّبهة، وإنّ الرّعي حول الحمى يوجب الوقوع فيه، وإنّ في الشّبهات عتاباً، وإنّ الأُمور ثلاثة بيّن رشده وبيّن غيّه وشبهات، ومن المعلوم أنّ أيّ عنوان من هذه العناوين لا يحتمل تخصيصاً.

و{كيف لا يكون قوله: «قف عند الشّبهة، فإنّ الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة» للإرشاد} إلى حكم العقل إن واجباً فواجب وإن مندوباً فمندوب {مع أنّ المهلكة ظاهرة في العقوبة، ولا عقوبة في الشّبهة البدويّة قبل إيجاب الوقوف والاحتياط} يعني أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ المهلكة يراد بها العقوبة، إذ لا ضرر

ص: 272


1- الكافي 5: 108.
2- فرائد الأصول 2: 80.

فكيف يعلّل إيجابه بأنّه خير من الاقتحام في المهلكة.

لا يقال: نعم، ولكنّه يستكشف منه - على نحو الإِنِّ -

___________________________________________

دنيويّة في بعض المحرّمات فكيف بالشبهة، وإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ العقوبة الأُخرويّة لا تكون إلّا بعد البيان، إذ لا يصحّ العقاب بلا بيان، وعلى هذا فلا مهلكة قبل البيان {فكيف يعلّل إيجابه} أي: الاحتياط {بأنّه خير من الاقتحام في المهلكة} إذ المهلكة متوقّفة على الإيجاب فكيف يتوقّف الإيجاب عليها؟!

وعلى هذا، فلا بدّ أن يحمل الكلام على الإرشاد وإنّه يرشد إلى حكم عقليّ، وهو أنّ المشتبه إن كان في أطراف العلم الإجمالي يجب الوقوف عنده وإن كان بدويّاً يستحبّ.

لكن ربّما يقال: إنّه ليس تعليلاً حقيقيّاً حتّى يجب أن يكون مقدّماً ويلزم ما ذكر، بل هو كشف عن العلّة، كقول المولى: (لا تشرب الخمر) فإنّه يوجب العقاب.

إذ لا يمكن أن يقال: إنّه كيف يمكن التعليل بالعقاب لما لم يسبق نهي عنه، فتأمّل.

{لا يقال}: من هذا التعليل نستكشف إيجاب الشّارع للاحتياط واقعاً، فالاحتياط واجب واقعيّ في الشّبهة البدويّة قبل الفحص، كما هو واجب في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي وفي الشّبهة البدويّة قبل الفحص، وقد كشف عنه الشّارع بهذه العبارة.

والحاصل: أنّه {نعم} صحيح ما ذكرتم من عدم إمكان تعليل وجوب الوقوف العقاب {ولكنّه} إذا كان تعليلاً حقيقيّاً، وليسكذلك، بل {يستكشف منه} أي: من هذا التعليل {على نحو الإنّ} وهو الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلّة، كالاستدلال لوجوده - تعالى - من آثاره، مقابل الاستدلال اللِّمّ، وهو

ص: 273

إيجابُ الاحتياط من قبلُ، ليصحّ به العقوبة على المخالفة.

فإنّه يقال: إنّ مجرّد إيجابه واقعاً ما لم يعلم لا يصحّ العقوبة، ولا يخرجها عن أنّها بلا بيان ولا برهان، فلا محيص عن اختصاص مثله بما يتنجّز فيه المشتبه - لو كان - ، كالشبهة قبل الفحص مطلقاً، أو الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، فتأمّل جيّداً.

وأمّا العقل: ف-

___________________________________________

الاستدلال بوجود العلّة على وجود المعلول، كالاستدلال لوجود الحرارة هناك من وجود النّار {إيجاب الاحتياط من قبل} أي: قبل ورود هذا الحديث وهو قوله(علیه السلام): «قف عند الشّبهة» الخ {ليصحّ به العقوبة على المخالفة} والضّمير في «به» عائد إلى إيجاب الاحتياط.

{فإنّه يقال}: الإيجاب الواقعي غير واصل فلا يجوز التكليف، والتعليل الوارد غير صالح لما عرفت، فلا دليل على الإيجاب في الشّبهة البدويّة بعد الفحص ف- {إنّ مجرّد إيجابه} أي: الاحتياط {واقعاً ما لم يعلم لا يصحّ العقوبة ولا يخرجها} أي: العقوبة {عن أنّها بلا بيان ولا برهان} وقد عرفت أنّ التعليل أيضاً لا يصحّ أن يكون إيجاباً، فلا إيجاب في البين إطلاقاً {فلا محيص عن اختصاص مثله} أي: مثل إيجاب الاحتياط {بما يتنجّز فيه المشتبه لو كان كالشبهة قبل الفحص مطلقاً} سواء في الشّبهة البدويّة أو المقرونة بالعلم الإجمالي {أو الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، فتأمّل جيّداً} وفي حقائق الأصول(1)

تفصيل طويل حول الموضوع، فراجع.

هذا تمام الكلام في الدليل الثّاني من أدلّة القائل بالاحتياط في الشّبهة. {وأمّا العقل ف-} قد استدلّ به للاحتياط بأنّا نعلم بأحكام كثيرة في بين المشتبهات، ومقتضى هذا العلم الإجمالي الاحتياط في كلّ شبهة إلّا إذا ظفرنا بالدليل، لما

ص: 274


1- حقائق الأصول 2: 242.

لاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبُه، وترك ما احتمل حرمتُه - حيث علم إجمالاً بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في ما اشتبه وجوبه أو حرمته، ممّا لم يكن هناك حجّة على حكمه - ؛ تفريغاً للذمّة بعد اشتغالها، ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلّا من بعض الأصحاب(1).

والجواب: أنّ العقل وإن استقلّ بذلك، إلّا أنّه إذا لم ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيليّ وشكّ بدويّ، وقد انحلّ هاهنا

___________________________________________

تقدّم في باب العلم الإجمالي من لزوم الاحتياط في أطرافه {لاستقلاله} أي: العقل {بلزوم فعل ما احتمل وجوبه} بالنسبة إلى الشّبهة الوجوبيّة {وترك ما احتمل حرمته} بالنسبة إلى الشّبهة التحريميّة {حيث علم إجمالاً بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في ما اشتبه وجوبه أو حرمته ممّا لم يكن هناك حجّة على حكمه} سواء كانت الحجّة موافقة للاحتياط أو مخالفة له، وإنّما يجب فعل محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة {تفريغاً للذمّة بعد} العلم ب- {اشتغالها} بالأحكام {ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي} الّذي لم ينحلّ {إلّا من بعض الأصحاب} الّذين ذهبوا إلى عدم وجوبه في بعض الأطراف أو في جميعها، ولا يعتدّ بخلافهم لقيام الدليل على وجوبه مطلقاً.

{والجواب: أنّ العقل وإن استقلّ بذلك} الّذي ذكرتم - من أنّ العلم الإجمالي منجّز للتكليف وموجب للاحتياط في الأطراف المشتبهة - {إلّا أنّه} إنّما يصحّ {إذا لم ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيليّ وشكّ بدويّ وقد انحلّ هاهنا} فإذا علمت أنّ في هذه الأواني العشرة إناءً نجساً على سبيل الإجمال، ثمّ علمت أنّ ذلك الإناء النّجس هو هذا المخصوص، فإنّه لا يجب الاجتناب حينئذٍ عن بقيّة الأواني، إذ العلم الإجمالي انحلّ إلى علمتفصيليّ بنجاسة هذا الإناء الخاصّ

ص: 275


1- قوانين الأصول 2: 35؛ مدارك الأحكام 1: 107؛ ذخيرة المعاد 1: 138.

فإنّه كما علم بوجود تكاليف إجمالاً، كذلك علم إجمالاً بثبوت طرق وأُصول معتبرة مثبتة لتكاليف، بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد، وحينئذٍ لا علم بتكاليف أُخر غير التكاليف الفعليّة في الموارد المثبتة من الطّرق والأصول العمليّة.

___________________________________________

وشكّ بدويّ بنجاسة سائر الأواني، فلا تبقى تلك الأواني الباقية طرفاً للعلم ولا هي معلومة النّجاسة، والعقل لا يلزم إلّا إذا كان الشّيء معلوم الحكم أو طرفاً للعلم.

ثمّ إنّه لا فرق في الانحلال بين أن يكون العلم الثّاني إجماليّاً أو تفصيليّاً، ففي المثال لو علم ثانياً بأنّ النّجس الموجود في البين في أحد هذين الإنائين من الأواني العشرة لم يجب الاجتناب عن الأواني الثمانية الباقية لعين ما ذكر في الفرض السّابق، وما نحن فيه من هذا القبيل {فإنّه كما علم بوجود تكاليف إجمالاً} بين جميع المشتبهات {كذلك علم إجمالاً} علم إجماليّ أضيق دائرة من العلم الإجمالي الأوّل {بثبوت طرق وأُصول معتبرة مثبتة لتكاليف} معيّنة {بمقدار تلك التكاليف المعلومة} بالعلم الإجمالي الأوّل {أو أزيد، و} ذلك كما إذا علمنا بالعلم الإجمالي الوسيع أنّ لنا تكاليف يبلغ عددها ألفاً، ثمّ علمنا بوجود الطّرق والأمارات الّتي تدلّ على ألف تكليف أو أكثر، فإنّه {حينئذٍ لا علم بتكاليف أُخر غير التكاليف الفعليّة} المعلومة {في الموارد المثبتة من الطّرق والأصول العمليّة} حتّى يجب الاحتياط في كلّ شبهة. وإنّما قيّد الموارد ب- «المثبتة» لأنّ الطّرق والأصول النّافية لا تدلّ على التكليف المجهول فلا يوجب انحلال العلم.

نعم، يوجب خروج ذلك المورد الذي دل على أنه لا تكليف فيه عن طرف العلم الإجمالي الكبير، فلا يجب فيه الاحتياط وإن لم ينحلّ العلم، وذلك كما لو تردّد النّجس بين عشرة أواني ثمّ علمنا بأنّ هذا الإناء الخاصّ ليس نجساً، فإنّه

ص: 276

إن قلت:

___________________________________________

يخرج عن أطراف الشّبهة وتكون دائرة العلم أضيق، فتكون خاصّة بتسعة، كما لا يخفى.

{إن قلت}: ما ذكرتم من انحلال العلم الإجمالي الأوّل إلى العلم الإجمالي الثّاني - في أطراف الأمارات والأصول - والشّبهة البدويّة غير تامّ، إذ العلم الإجمالي لا ينحلّ مطلقاً، بل هو على قسمين:

الأوّل: أن يقارن العلم الثّاني العلم الأوّل أو يتقدّمه، كأن يعلم ابتداءً علمين: علماً بوجود أحكام بين المشتبهات، وعلماً بأنّ تلك الأحكام في الأمارات والأصول، أو يتقدّم العلم الثّاني على العلم الأوّل، وهاهنا ينحلّ العلم الكبير إلى العلم الصّغير، لأنّه لم يعلم بتكليف منجّز عليه في أكثر من أطراف العلم الثّاني، ويكون حاله حال ما علم إجمالاً بنجاسة أحد إنائين كان أحدهما محلّ ابتلائه والآخر ليس محلّ ابتلائه، فإنّه لا يتنجّز هذا العلم بل يكون الطّرف الّذي هو محلّ الابتلاء شبهة بدويّة يجري فيه البراءة.

الثّاني: أن يتقدّم العلم الإجمالي الأوّل على العلم الثّاني، كأن علم بوجود أحكام بين المشتبهات ممّا أوجب الاحتياط في أطرافها ثمّ علم بأنّ تلك الأحكام محصورة في الأمارات والأصول، فإنّ هذا العلم الثّاني لا يوجب انحلال العلم الأوّل حتّى يقال بأنّ موارد الأمارات والأصول معلومة وغيرها من سائر المشتبهات مشكوكة، فيجري البراءة فيها، بل يكون حال ذلك حال ما لو علم بنجاسة أحد الإنائين كانا محلّ ابتلائه ثمّ أُريق أحدهما أو خرج عن محلّ ابتلائه، فإنّه لا يوجب رفع الاحتياط بالنسبة إلى الطّرف الباقي، مع أنّه لا علم بتكليف فعلي. والسّرّ في الفرق بين الصّورتين أنّ العلم الإجمالي في الثّانية قد تنجّز فيجب الاحتياط في جميع أطرافه بخلاف الأُولى، فإنّ العلم لم يتنجّز في أكثر

ص: 277

نعم، لكنّه إذا لم يكن العلم بها مسبوقاً بالعلم بالتكاليف.

قلت:

___________________________________________

من مقدار العلم الصّغير.

وهذا ما أشار إليه بقوله: {نعم} يتمّ الانحلال {لكنّه إذا لم يكن العلم بها} أي: بالأمارات والأصول{مسبوقاً بالعلم بالتكاليف} في جميع المشتبهات، أمّا إذا علم أوّلاً إجمالاً بتكاليف في مطلق المشتبهات ثمّ علم بأنّ التكاليف في الأصول والأمارات فلا ينحلّ العلم الأوّل حتّى لا يجب الاحتياط في سائر المشتبهات.

{قلت}: العلم الإجمالي الثّاني على قسمين:

الأوّل: أن ينطبق على المعلوم بالإجمال أوّلاً، كما لو علمنا بأنّ أحد هذه الأواني العشرة نجس ثمّ علمنا بأنّ ذلك النّجس بعينه في أحد هذه الخمسة من تلك العشرة، وفي هذا القسم لا يفرق بين سبق العلم الثّاني وتقارنه مع العلم الأوّل وتأخّره عنه، في انحلال العلم الإجمالي الأوّل وعدم وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الخمسة الباقية وليس هذا كما مثلتم من خروج بعض الأطراف عن الابتلاء بعد العلم الإجمالي حيث يجب الاجتناب عن الباقي، إذ في المثال يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على الإناء الباقي بخلاف ما نحن فيه، إذ يقطع بعدم وجود النّجس في الخمسة الباقية حيث علم بأنّ النّجس المنجّز المعلوم في تلك الخمسة.

الثّاني: أن لا ينطبق المعلوم الثّاني على المعلوم الأوّل، كما لو علمنا بأنّ أحد هذه الأواني العشرة نجس ثمّ علمنا بأنّ أحد هذه الخمسة نجس، ولم نعلم أنّ نجاسة أحد الخمسة هي نجاسة أحد العشرة أو غيرها، كما لو علمنا أنّ قطرة دم قطرت في إحدى العشرة ثمّ علمنا بأنّ إحدى الخمسة نجسة ولم نعلم أنّها بسبب

ص: 278

إنّما يضرّ السّبق إذا كان المعلوم اللّاحق حادثاً، وأمّا إذا لم يكن كذلك، بل ممّا ينطبق عليه ما علم أوّلاً،

___________________________________________

تلك القطرة من الدم أو بسبب نجاسة أُخرى، كما لو رأينا النّجاسة الأُولى وقامت بيّنة إجماليّة على النّجاسة الثّانية ولم تبيّن السّبب، فإنّ هنا يفرق الأمر بين أن يكون العلم الإجمالي الثّاني سابقاً ومقارناً للعلم الأوّل، وبين أن يكون العلم الإجمالي الثّاني لاحقاً، فإنّ الصّورة الأُولى وهي سبق العلم الثّاني أو تقارنه يوجب الانحلال، بخلاف الصّورة الثّانية وهي لحوق العلم الثّاني.

ووجه الفرق: أنّه لو كان العلم الصّغير سابقاً على العلم الكبير - بأن قامت بيّنة أوّلاً على نجاسة إحدى الخمسة - ثمّ قطرت قطرة في إحدى العشرة لم يحصل علم بتكليف جديد حتّى تتوسّع دائرة العلم الإجمالي الصّغير، وعليه فلا يجب الاجتناب عن الخمسة الباقية، ومثله لو كان العلمان مقترنين أمّا لو كان العلم الصّغير لاحقاً فلم يكن هناك سبب لانحلال العلم الكبير بعد تنجّزه، إذ لم يعلم أنّ هذا العلم بعينه ينطبق على العلم الأوّل حتّى ينحلّ العلم الكبير إلى العلم التفصيلي الصّغير والشّكّ البدوي بالنسبة إلى غيره.

إذا عرفت ذلك قلنا في ما نحن فيه - وهو العلم إجمالاً بوجود تكاليف في جميع المشتبهات ثمّ العلم بأنّ تلك التكاليف في الأصول والأمارات - إنّه من قبيل القسم الأوّل، ولذا ينحلّ العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الثّاني، لما عرفت من أنّه {إنّما يضرّ السّبق} أي: سبق العلم الإجمالي الكبير على العلم الثّاني - ومضرّته عدم الانحلال - في ما {إذا كان المعلوم اللّاحق حادثاً} كما إذا علم بأنّ إحدى العشرة نجس ثمّ قامت بيّنة بأنّ إحدى هذه الخمسة نجس - وكانت البيّنة لم تبيّن السّبب المنطبق على العلم الأوّل - {وأمّا إذا لم يكن} المعلوم اللّاحق {كذلك} أي: حادثاً {بل} كان المعلوم اللّاحق {ممّا ينطبق عليه ما علم أوّلاً} كما لو قامت

ص: 279

فلا محالة قد انحلّ العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشّكّ البدوي.

إن قلت: إنّما يوجب العلم بقيام الطّرق - المثبتة له بمقدار المعلوم بالإجمال - ذلك،

___________________________________________

البيّنة في المثال على أنّ القطرة من الدم الّتي رأيت سقوطها في إحدى العشرة إنّما سقطت في إحدى هذه الخمسة {فلا محالة قد انحلّ العلم الإجمالي إلى} العلم {التفصيلي} في هذه الخمسة الّتي قامت عليها البيّنة {والشّكّ البدوي} في الخمسة الأُخر، فلا يجب الاجتناب عنها.

{إن قلت}: ما ذكرتم من انحلال العلم الإجمالي بالتكليف في جميع المشتبهات إلى العلم في أطراف الأمارات والأصول غير تامّ، إذ الأمارات والأصول إنّما هي منجزة للواقع في صورة المصادفة ومعذرة في صورة المخالفة - كما سبق من أنّ معنى جعل الشّارع ليس إلّا التنجيز والإعذار - ومن المعلوم أنّ التنجيز والإعذار غير الكشف عن التكليف الواقعي حتّى يوجب الانحلال، فلو رأينا أنّ قطرة خمر قطرت في إحدى الأواني العشرة ثمّ علمنا أنّها إنّما وقعت في إحدى هاتين انحلّ العلم إلى يقين وشكّ، أمّا لو قام دليل على أنّها وقعت في إحداهما بحيث لو صادف الواقع كان منجّزاً له ولو خالف كان معذّراً لم ينحلّ العلم، إذ لم يعلمالمكلّف بأنّ التكليف في إحداهما وإنّما يعلم بالتنجيز والإعذار في إحداهما، فالعلم الإجمالي الأوّل بين عشرة المقتضي للاحتياط باق على حاله، فيجب الاجتناب عن الجميع.

وإن شئت قلت: إنّ الأمارة حيث إنّها طريقٌ لا تدلّ على التكليف حتّى ينحلّ العلم الإجمالي وإنّما تدلّ على التنجيز والإعذار، فالتكليف غير معلوم كونه في مؤدّيات الأمارات والأصول حتّى ينحلّ العلم، إذ أنّه {إنّما يوجب العلم بقيام الطّرق المثبتة له} أي: التكليف {بمقدار المعلوم بالإجمال} الظّرف متعلّق ب- «قيام» أي: قيام الطّرق بمقدار العلم الإجمالي {ذلك} أي: الانحلال، وهذا

ص: 280

إذا كان قضيّة قيام الطّريق على تكليفٍ موجباً لثبوته فعلاً. وأمّا بناءً على أنّ قضيّة حجيّته واعتباره شرعاً ليس إلّا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلاً - وهو تنجّز ما أصابه والعذر عمّا أخطأ عنه - ، فلا انحلال لما علم بالإجمال أوّلاً، كما لا يخفى.

قلت: قضيّة الاعتبار شرعاً - على اختلاف ألسنة أدلّته -

___________________________________________

مفعول لقوله: «يوجب» أي: إنّما يوجب بالطريق انحلال العلم الإجمالي الكبير {إذا كان قضيّة} أي: مقتضي {قيام الطّريق على تكليف موجباً لثبوته} أي: ثبوت ذلك التكليف {فعلاً} وهذا غير صحيح؛ لأنّه موجب للقول بالسببيّة، وهو قسم من التصويب، كما تقدّم {وأمّا بناءً على} ما هو الصّحيح عندنا من {أنّ قضيّة حجيّته واعتباره شرعاً ليس إلّا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلاً} أي: القطع الّذي هو طريق معتبر عقلاً {وهو} أي: ما للطريق المعتبر عقلاً {تنجّز ما أصابه} الواقع {والعذر عمّا أخطأ عنه} أي: عن الواقع {فلا انحلال لما علم بالإجمال أوّلاً} بل العلم الإجمالي الوسيع باقٍ على حاله {كما لا يخفى} على من تأمّل.

{قلت}: ما ذكرتم من أنّ جعل الطّرق والأمارات والأصول ليس إلّا جعل المنجّز والمعذّر صحيح، لكنّا نقول: إنّ قيام الأمارات والأصول كافٍ للانحلال إذا اكتفى الشّارع عن أحكامه الواقعيّة بمؤدّياتها، فلم ينجز أكثر من ذلك على الأُمّة وإلّا لم يكن فائدة في جعلها، وقد يمثّل ذلك بما لو علمنا بأنّ إحدى الأواني العشرة نجس ثمّ قامت البيّنة بأنّ النّجس هذا، فإنّه يوجب الانحلال، مع أنّ البيّنة إنّما هي منجّزة ومعذّرة وليست مثبتة للتكليف.

والحاصل: أنّ انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى مؤدّيات الأصول والأمارات إنّما هو انحلال حكميّ وليس بانحلال حقيقيّ، وذلك كافٍ في عدم لزوم الاحتياط، كما هو كافٍ في سائر الأبواب، فإنّ {قضيّة الاعتبار} أي: مقتضى اعتبار الأمارات والأصول {شرعاً - على اختلاف ألسنة أدلّته -} أي: أدلّة الاعتبار

ص: 281

وإن كان ذلك - على ما قوّيناه في البحث - ، إلّا أنّ نهوض الحجّة على ما ينطق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف، يكونُ عقلاً بحكم الانحلال، وصَرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطّرف، والعذر عمّا إذا كان في سائر الأطراف، مثلاً: إذا علم إجمالاً بحرمة إناء زيد بين الإناءين، وقامت البيّنة على أنّ هذا إناؤه، فلا ينبغي الشّكّ في أنّه كما إذا علم أنّه إناؤه، في عدم لزوم الاجتناب إلّا عن خصوصه دون الآخر.

ولولا ذلك

___________________________________________

{وإن كان ذلك} الّذي ذكرتم من كونها منجّزة لدى المصادفة ومعذّرة لدى الخطأ وليست متضمّنة للتكليف الواقعي على نحو السّببيّة والتصويب {- على ما قوّيناه في البحث -}.

وقد مرّ الكلام حوله سابقاً {إلّا أنّ نهوض الحجّة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف} للعلم الإجمالي بأن قامت الحجّة على أنّ هذا هو التكليف المعلوم بالإجمال - لا أن تقوم على تكليف ما محتمل الانطباق وعدمه - {يكون} ذلك النّهوض للحجّة {عقلاً بحكم الانحلال} الحقيقي {وصرف تنجّزه} أي: يصرف هذا النّهوض تنجّز التكليف الواقعي الّذي كان موجباً للاحتياط {إلى ما إذا كان} التكليف الواقعي {في ذاك الطّرف} الّذي قامت عليه الحجّة {والعذر عمّا إذا كان} التكليف الواقعي {في سائر الأطراف} الّتي لمتقم عليها الحجّة.

{مثلاً: إذا علم إجمالاً بحرمة إناء زيد} الّذي اشتبه {بين الإنائين} اللّذين هما لزيد ولعمرو كان مقتضى القاعدة الاحتياط بالاجتناب عنهما {و} إذا {قامت البيّنة على أنّ هذا} الإناء الأبيض مثلاً {إناؤه فلا ينبغي الشّكّ في أنّه} يسبّب انحلال العلم ويكون حاله {كما إذا علم أنّه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلّا عن خصوصه دون} الإناء {الآخر} الّذي هو لعمرو.

{ولولا ذلك} الّذي ذكرنا من أنّ قيام الأمارات والأصول يوجب الانحلال لم

ص: 282

لما كان يجدي القول بأنّ قضيّة اعتبار الأمارات هو كون المؤدّيات أحكاماً شرعيّة فعليّة؛ ضرورة أنّها تكون كذلك بسبب حادث، وهو كونها مؤدّيات الأمارات الشّرعيّة.

هذا إذا لم يعلم ثبوت التكاليف الواقعيّة - في موارد الطّرق المثبتة - بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلّا

___________________________________________

يفد قيام الطّريق على القول بالسببيّة - الّذي ظنّ الخصم إفادته للانحلال قطعاً - لأنّه يوجب علماً حادثاً بالتكليف، فإنّ الطّريق سبب للتكليف على ما هو المفروض، فلا يوجب انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعيّة، ويكون حال قيام الطّريق - على السّببيّة - حال ما لو علمت بأنّ إحدى هذه الأواني العشرة نجس ثمّ علمت علماً ثانياً بأنّ إحدى هذه الخمسة أيضاً نجس، فإنّ العلم الثّاني لا يوجب انحلال العلم الأوّل حتّى لم يجب الاجتناب عن الخمسة الأُخر.

والحاصل: أنّه لو لم نقل بالانحلال الحكمي على الطّريقيّة {لما كان يجدي القول بأنّ قضيّة اعتبار الأمارات هو كون المؤدّيات أحكاماً شرعيّة فعليّة} على نحو السّببيّة والموضوعيّة {ضرورة أنّها} أي: مؤدّيات الأمارات {تكون كذلك} أي: أحكاماً شرعيّة {بسبب حادث وهو} أي: السّبب الحادث {كونها مؤدّيات الأمارات الشّرعيّة} وقد عرفت أنّ مثل ذلك العلم الحادث لا يوجب الانحلال.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرنا من كون قيام الأصول والأمارات موجباً لانحلال العلم الإجمالي - على الطّريقيّة - وأنّ الانحلال وإن لم يكن حقيقيّاً لكنّه حكميّ إنّما يكون {إذا لم يعلم ثبوت التكاليف الواقعيّة في موارد الطّرق المثبتة} للتكليف {بمقدار المعلوم بالإجمال} بأن احتملنا خطأ جميع الطّرق وعدم إصابتها للواقع، أو احتملنا خطأ كثير منها بحيث لم يكن علمنا بالإصابة بمقدار المعلوم بالإجمال، فإنّه حينئذٍ يكون قيام الطّرق بحكم الانحلال وليس انحلالاً حقيقيّاً {وإلّا} بأن علمنا بأنّ هذه الطّرق القائمة تشتمل على المقدار المعلوم بالإجمال

ص: 283

فالانحلال إلى العلم بما في الموارد، وانحصار أطرافه بموارد تلك الطّرق بلا إشكال، كما لا يخفى.

وربّما استدلّ(1)

بما قيل من استقلال العقل بالحظر في الأفعال غير الضّروريّة قبل الشّرع، ولا أقلّ من الوقف وعدمِ استقلاله، لا به ولا بالإباحة، ولم يثبت شرعاً إباحة ما اشتبه حرمته؛

___________________________________________

{فالانحلال} للعلم الإجمالي الكبير {إلى العلم بما في الموارد} الّتي قامت عليها الطّرق {وانحصار أطرافه} أي: أطراف العلم الإجمالي الكبير {بموارد تلك الطّرق بلا إشكال} ويكون الانحلال حقيقيّاً لا حكميّاً {كما لا يخفى} إذ قد علمنا بمقدار المعلوم بالإجمال.

{وربّما استدلّ} للأخباري القائل بوجوب الاحتياط في الشّبهة البدويّة {ب-} دليل عقليّ آخر، وذلك {ما قيل من استقلال العقل بالحظر} أي: المنع عن الجري {في الأفعال غير الضّروريّة قبل الشّرع} فإنّ من الأفعال ما هو ضروريّ يضطرّ الشّخص إليه - كالتنفّس ونحوه، ممّا دلّ العقل على جواز الجري فيه ولو لم يعلم بالإذن اللفظي - ومن الأفعال ما ليس كذلك - كشرب التتن المشتبه الحكم مثلاً - فإنّ العقل مستقلّ بعدم جواز ارتكابه؛ لأنّه ملك المولى ولم يعلم الإذنفيه، وكلّ تصرّف في ملك الغير بدون إحراز رضاه قبيح {ولا أقلّ من الوقف} أي: من توقّف العقل {وعدم استقلاله لا به} أي: بالحظر {ولا بالإباحة}.

هذا كلّه قبل الشّرع يعني قبل تشريع الأحكام، أمّا بعده فما أُجيز التصرّف فيه جاز وما لم يجز يبقى على حظره {ولم يثبت شرعاً إباحة ما اشتبه حرمته} فيبقى على المنع العقلي الموجب ارتكابه للضرر ولو المحتمل منه.

ص: 284


1- فرائد الأصول 2: 90.

فإنّ ما دلّ على الإباحة معارض بما دلّ على وجوب التوقّف أو الاحتياط.

وفيه: أوّلاً: أنّه لا وجه للاستدلال بما هو محلّ الخلاف والإشكال، وإلّا لصحّ الاستدلال على البراءة بما قيل من كون في تلك الأفعال على الإباحة.

___________________________________________

إن قلت: دلّ الدليل الشّرعي على الإباحة كقوله: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ}(1)، {كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ}(2)، «كلّ شيء حلال»(3)

وغيرها.

قلت: هذا غير تامّ {فإنّ ما دلّ على الإباحة معارض بما دلّ على وجوب التوقّف أو الاحتياط} فيتساقطان ويبقى الأصل العقلي بحاله سليماً عن المعارض.

{وفيه أوّلاً}: أنّ كون الأصل في الأشياء الحظر محلّ الخلاف، فقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنّ كون الأصل في الأشياء هو الإباحة و{أنّه لا وجه للاستدلال} على المدّعى {بما هو محلّ الخلاف والإشكال وإلّا لصحّ الاستدلال على البراءة} في المشتبه {بما قيل} وذهب إليه غير واحد {من كون} الأصل العقلي {في تلك الأفعال} غير الضّروريّة {على الإباحة} فيقال: يجوز ارتكاب المشتبه لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة، فإنّ المنع عن التصرّف في ملك الغير إنّما يكون بالنسبة إلى النّاس وأمّا بالنسبة إلى اللّه - عزّ شأنه - فالأصل الجواز بعد ظهور استغنائه - تعالى - ، وقيام القرائن التكوينيّة على أنّها لم تخلق عبثاً وإنّما للانتفاع، بل هذا هو حال النّاس فلو أطلق المولى الغني جماعة من عبيده في بساتينه الواسعة ولم يقل شيئاً عن تصرّفهم وعدم تصرّفهم ولم يرسل أحداً لاقتطاف أثمار وتشذيب أشجاره وأخذ فاضل مياهه ولم يعيّن مصرفاً لتلك أو

ص: 285


1- سورة البقرة، الآية: 29.
2- سورة المؤمنون، الآية: 51.
3- الكافي 5: 313، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341، وقد مرّ أنّ متن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام، فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

وثانياً: إنّه تثبت الإباحة شرعاً؛ لما عرفت من عدم صلاحيّة ما دلّ على التوقّف أو الاحتياط للمعارضة لما دلّ عليها.

وثالثاً: أنّه لا يستلزم القولُ بالوقف - في تلك المسألة -

___________________________________________

أثمانها، استقلّ العقل بأنّ التصرّف فيها جائز وأنّه لا يجوز إبقاؤها حتّى تهدر الثمار بالسقوط والمياه بالغور وهكذا.

{وثانياً} إنّ قولكم: «لم تثبت الإباحة شرعاً» محلّ إشكال ف- {إنّه تثبت الإباحة شرعاً، لما عرفت من عدم صلاحيّة ما دلّ على التوقّف أو الاحتياط للمعارضة لما دلّ عليها} أي: على الإباحة لكون أدلّة الإباحة أظهر وكونها أخصّ، أمّا كونها أظهر فلأنّها نصّ في الجواز وأدلّة الاحتياط ظاهرة في الحائطة، وأمّا كون أدلّة الإباحة أخصّ فلأنّها لا تشمل المقرونة بالعلم الإجمالي والبدويّة قبل الفحص، بخلاف أدلّة الاحتياط فإنّها تشملهما بالإضافة إلى الشّبهات البدويّة بعد الفحص، كما تقدّم تفصيله.

{وثالثاً} بأنّه لو سلّمنا بكون الأصل في الأشياء الحظر ولم نقل بأنّ الأدلّة الشّرعيّة تدلّ على الإباحة، لكن نقول مع ذلك لا بأس بارتكاب الشّبهة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنّ العقل دلّ على كون الأشياء على الحظر في نفسها، مع الغضّ عن قاعدة القبح أمّا بملاحظة قاعدة القبح فيجوز الارتكاب.

والحاصل: أنّ أصالة الحظر إنّما هي بعنوان أولى وقاعدة القبح إنّما هي بعنوان ثانوي ولا تنافي بينهما، فإنّ الأصالة مع قطع النّظر عن الشّرع والقاعدة بعد تشريع الأحكام. ألا ترى أنّ العبد لا يجوز له التصرّف في ملك المولى لكن لو بيّن المولى أحكاماً وأودعها في كتاب ثمّ قال للعبد: (هذه كلّ أحكامي الّتي لا يجوز التخلّف عنها) يرى العقل جواز ارتكاب المشتبه الّذي لم يذكر حكمه في ذلك الكتاب، ف-{إنّه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة} أي: مسألة كون

ص: 286

للقول بالاحتياط في هذه المسألة؛ لاحتمال أن يقال معه بالبراءة، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وما قيل(1)

من: «أنّ الإقدام على ما لا تؤمن المفسدة فيه، كالإقدام على ما تعلم فيه المفسدة».

ممنوع، ولو قيل بوجوب دفع الضّرر المحتمل،

___________________________________________

الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة {للقول بالاحتياط في هذه المسألة} أي: مسألة الشّبهة البدويّة، فمن الممكن أن نقول في تلك المسألة بالحظر ونقول في هذه المسألة بالبراءة {لاحتمال أن يقال معه} أي: مع القول بالوقف في تلك المسألة {بالبراءة} في هذه {لقاعدة قبح العقاب بلا بيان} كما عرفت تفصيله.

وربّما أشكل على جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في ما نحن فيه بأنّ المشتبه يحتمل فيه المفسدة، وما يحتمل مفسدته - مثلما يقطع بمفسدته - يجب الاجتناب عنه، وعلى هذا فلا تجرى القاعدة وتبقى أصالة الحظر الثابتة قبل الشّرع بحالها مستمرّة إلى ما بعد الشّرع.

وفيه ما أشار إليه المصنّف(رحمة الله) بقوله: {وما قيل من: «أنّ الإقدام على ما لا تؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما تعلم فيه المفسدة»} فلا يجوز ارتكاب الشّبهة عقلاً لاحتمالها للمفسدة {ممنوع} لما أشرنا إليه سابقاً من أنّ المفسدة إن أُريد بها الضّرر الأُخروي - أي: العقوبة - فهي مأمونة لقبح العقاب بلا بيان، وإن أُريد الضّرر الدنيوي فليست المفسدة تلازم الضّرر حتّى يقال بوجوب دفع الضّرر المحتمل، إذ المفسدة أعمّ فإنّ في عدم إعطاء الزكاة مفسدة وليس فيه ضرراً مثلاً، فدفع المفسدة المحتملة غير لازم {ولو قيل بوجوب دفع الضّرر المحتمل} إذ لا تلازم بين الضّرر والمفسدة

ص: 287


1- العدة في أصول الفقه 2: 742.

فإنّ المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالباً، ضرورة أنّ المصالح والمفاسد - الّتي هي مناطات الأحكام - ليست براجعة إلى المنافع والمضارّ، بل ربّما يكون المصلحة في ما فيه الضّرر، والمفسدة في ما فيه المنفعة. واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر، ضعيف غالباً، لا يعتنى به قطعاً.

مع أنّ الضّرر ليس دائماً ممّا يجب التحرّز عنه عقلاً، بل يجب ارتكابه أحياناً، في ما كان المترتّب عليه أهمّ في نظره ممّا في الاحتراز عن ضرره، مع القطع به، فضلاً عن احتماله.

___________________________________________

{فإنّ المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالباً} أو كثيراً.

{ضرورة أنّ المصالح والمفاسد الّتي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضارّ} الرّاجعة إلى نفس المكلّف {بل ربّما} يعكس الأمر ف- {يكون المصلحة} النّوعيّة {في ما فيه الضرر} الشّخصي كالزكاة مثلاً، الّتي فيها مصلحة النّوع وضرر هذا المعطي {و} تكون {المفسدة} النّوعيّة {في ما فيه المنفعة} الشّخصيّة، كالربا، فإنّها مفسدة للنوع منفعة للشخص.

لا يقال: إنّ المشتبه يحتمل أن يكون من مصاديق ما فيه الضّرر الشّخصي، فإنّ شرب التتن يحتمل أن يكون ضارّاً للصحّة للمدخن، فيأتي حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل.

لأنّا نقول: هذا غير تامّ {و} ذلك لأنّ {احتمال أن يكون في المشتبه ضرر} شخصيّ {ضعيف غالباً لا يعتنى به قطعاً} فلا تجري قاعدة دفع الضّرر المحتمل، فإنّ المراد ب- «المحتمل» الاحتمال العقلائي {مع أنّ الضّرر} لو كان متيقّناً {ليس دائماً ممّا يجب التحرّز عنه عقلاً} فكيف إذا كان محتملاً {بل يجب ارتكابه أحياناً في ما كان المترتّب عليه} أي: على الضّرر {أهمّ في نظره} أي: نظر العقل {ممّا} أي: من الضّرر - أي: كان ضرر الارتكاب أهمّ من الضّرر - الّذي كان {في الاحتراز عن ضرره مع القطع به} أي: بالضرر {فضلاً عن احتماله} أي: احتمال الضّرر.

ص: 288

بقي أُمور مهمّة لا بأس بالإشارة إليها:

الأوّل:

___________________________________________

فمثلاً: كان في هذا السفر ضرر خسارة أُجرة الطّريق لكن كان ترك هذا السّفر موجباً لسرقة اللصّ أمواله، بحيث كان الضّرر المتوجّه عليه من ارتكاب السّفر الضّارّ لا يعدّ شيئاً بالنسبة إلى الضّرر المتوجّه إليه من تركه، فإنّ العقل يوجب ارتكاب ذلك الضّرر المتيقّن فراراً عن ضرر أكثر، فكيف إذا كان الضّرر محتملاً لا متيقّناً؟ وما نحن فيه كذلك، فإنّ ضرر العسر والحرج النّاشئ من اجتناب المشتبهات أكثر من ضرر المشتبه حتّى لو قطعنا بضرره، فكيف بما لو احتملنا ضرره، كما هو الغالب؟

وبهذا كلّه تحقّق أنّ الأصل في المشتبه البراءة مطلقاً من غير فرق بين الشّبهة الحكميّة والموضوعيّة والوجوبيّة والتحريميّة إلّا ما خرج بالدليل أو لم يشمله دليل البراءة كالشبهات البدويّة الحكميّة قبل الفحص، والشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، والشّبهة في الأُمور المهمّة كالدماء والأموال والفروج، بل والشّبهة البدويّة الموضوعيّة قبل الفحص على ما اخترناه إلّا في ما علم عدم اهتمام الشّارع به كالطهارة والنّجاسة وأمثالهما، وقد ذكرنا هناك أنّ ممّا يشهد لذلك - مع الغضّ عن شمول الأدلّة - إيجابهم فتوى أو احتياطاً الفحص في أبواب الخمس والزكاة والحجّ وحقوق النّاس، وتفصيل الكلام موكول إلى محلّه، وقد ذكرنا طرفاً منه في كتاب الحجّ من شرح العروة(1).

[تنبيهات البراءة]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، تنبيهات البراءة

{بقي أُمور مهمّة} مترتّبة على أصالة البراءة {لا بأس بالإشارة إليها}:

{الأوّل} في أصالة عدم التذكية في الحيوان المشكوك قابليّته للتذكية

ص: 289


1- موسوعة الفقه 38: 97.

أنّه إنّما تجري أصالة البراءة - شرعاً وعقلاً - في ما لم يكن هناك أصل موضوعي مطلقاً، ولو كان موافقاً لها؛ فإنّه معه لا مجال لها أصلاً؛ لوروده عليها - كما يأتي تحقيقه(1) - .

___________________________________________

{إنّه إنّما تجري أصالة البراءة شرعاً وعقلاً في ما لم يكن هناك أصل موضوعي} ينقّح موضوع الشّكّ {مطلقاً} أي: سواء كان مطابقاً للبراءة أو مخالفاً لها.

فمثلاً: لو كان هذا الماء حلالاً ثمّ شككنا في أنّه هل صار حراماً بحيازة أحد له - حتّى يصبح غصباً - أم لا لم تجر أصالة البراءة ولم يصحّ التمسّك بكلّ شيء لك حلال، بل جرى الأصل الموضوعي الموافق له.

فيقال: إنّه كان سابقاً حلالاً، ثمّ شككنا في عروض الحرمة عليه فالاستصحاب يقتضي بقاء حليّته، وكذا في العكس كما لو كان الماء ملك زيد ثمّ شككنا في إعراضه عنه لم يجز التمسّك بأصالة البراءة والقول بحليّته بمقتضى كلّ شيء حلال، بل اللّازم إجراء أصالة الحرمة؛ لأنّه كان سابقاً لا يجوز التصرّف فيه لكونه ملك شخص ثمّ شككنا في خروجه عن ملكه، فالأصل - أي: الاستصحاب - يقتضي بقاؤه على حالته السّابقة، وهكذا في كلّ مورد جرى فيه أصل موضوعيّ لم يجز إجراء البراءة، والسّرّ أنّ الأصل يخرج الموضوع عن كونه مشكوكاً، إذ هو في حكم العلم، فكما أنّه لا تجري البراءة مع العلم بأنّ الماء مباح أو لزيد كذلك لا تجري مع استصحاب الإباحة أو الملكيّة.

فتحقّق أنّ البراءة لا تجري مع جريان أصل موضوعي {ولو كان موافقاً لها} بأن كانت البراءة والأصل الموضوعي كلاهما يحكمان بالإباحة {فإنّه معه} أي: الشّأن مع الأصل الموضوعي {لا مجال لها} أي: للبراءة {أصلاً لوروده} أي: الأصل الموضوعي {عليها} أي: على البراءة، ومعنى الورود رفع موضوع البراءة شرعاً، إذ موضوع البراءة هو المشكوك والاستصحاب الموضوعي يرفع الشّكّ {كما يأتي تحقيقه}

ص: 290


1- الوصول إلى كفاية الأصول 5: 242.

فلا تجري مثلاً: أصالة الإباحة في حيوان شكّ في حليّته مع الشّكّ في قبوله التذكية؛

___________________________________________

إن شاء اللّه تعالى.

وإنّما سمّي هذا الأصل بالموضوعي؛ لأنّه على قسمين: قد يجري في الموضوع وقد يجري في الحكم. فمثلاً: لو قلنا: (العادل يجوزالصّلاة خلفه) كان الموضوع (العادل) والحكم (جواز الصّلاة خلفه) فإذا شككنا في عدالة زيد بعد علمنا بأنّه كان عادلاً، يقال يجرى الاستصحاب الموضوعي فيثبت عدالته، فيقال: (كان عادلاً سابقاً) فنستصحب الآن عدالته، وإذا شككنا في جواز الصّلاة خلفه لاحتمال فقده لسائر الشّرائط مثلاً، يقال: إنّه كان يجوز الصّلاة خلفه سابقاً فنجري الاستصحاب الحكمي بجواز الصّلاة خلفه الآن أيضاً، وهذا في كلّ مورد استصحب فيه الموضوع يسمّى الأصل الموضوعي وإن استصحب الحكم يسمّى الأصل الحكمي.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) أراد أن يمثّل لعدم جريان البراءة في مورد جريان الأصل الموضوعي بمسألة الشّكّ في التذكية {فلا تجري - مثلاً - أصالة الإباحة في حيوان شكّ في حليّته} كالمتولّد بين الكلب والشّاة ممّا لا يشبه أحدهما حتّى يدخل في عموم ذلك العنوان - إذا لم يكن هناك دليل خاصّ يدلّ على حكمه - {مع الشّكّ في قبوله التذكية} بأن لم يعلم أنّه كالشاة حتّى يقبل التذكية أو كالكلب حتّى لا يقبل التذكية.

وهذا يحتاج إلى التفصيل فنقول: إنّ الشّبهة في التذكية قد تكون موضوعيّة بأن لم نعلم أنّ هذا الحيوان القابل للتذكية هل ذكي أم لا؟ وقد تكون حكميّة بأن لم نعلم بأنّ هذا الحيوان هل هو قابل للتذكية أم لا؟ أمّا في الشّبهة الموضوعيّة فأصالة عدم التذكية محكمة وتقدّم على أصلي الطّهارة والحلّ، فإذا وجدنا حيواناً ميّتاً ولم نعلم أنّه مات حتف أنفه أو ذكي جرت أصالة عدم التذكية، وهو أصل

ص: 291

فإنّه إذا ذبح مع سائر الشّرائط المعتبرة في التذكية، فأصالة عدم التذكية تدرجها في ما لم يُذَكّ،

___________________________________________

موضوعيّ يقدّم على كلّ أصل حكميّ ويحكم بحرمة الحيوان ونجاسته.

وأمّا في الشّبهة الحكميّة - الّتي كان سبب الشّكّ قبول الحيوان للتذكية - اختلفوا في أنّه هل التذكية شيء خاصّ وقابليّة مخصوصة في الحيوان أم ليست إلّا فري الأوداج مثلاً، بشرائطها المذكورة في الفقه من كون الذابح مسلماً واستقبال القبلة وكون الفري بالحديد وغيرها؟ فإن قلنا بالأوّل كان مقتضى القاعدة إجراء أصالة عدم التذكية لعدم العلم بكون الحيوان المردّد قابلاً لها، وإذا جرت أصالة عدم التذكية حكم بالحرمة والنّجاسة، ولا مجال حينئذٍ لأصلي الطّهارة والحلّ، لما عرفت من أنّ الأصل الموضوعي لا يبقي مجالاً للأصل الحكمي، وإن قلنا بالثّاني - كما هو غير بعيد - وإنّه ليس وراء الشّرائط الخمسة المقرّرة شيء لم يبق مجال لأصالة عدم التذكية وجرت أصالة الطّهارة والحلّ في المشكوك تذكيته للشبهة الحكميّة - كالمثال السّابق وهو المتولّد بين الشّاة والكلب - لكن المصنّف استظهر الأوّل وأنّ التذكية عبارة عن الذبح الخاصّ الجامع للشرائط مع قابليّة المحلّ، ولذا قال: {فإنّه إذا ذبح مع سائر الشّرائط المعتبرة في التذكية} من الإسلام والقبلة والحديد والتسمية وفري الأوداج - في مثل الغنم - {فأصالة عدم التذكية تدرجها في ما لم يذك} لعدم العلم بقابليّة المحلّ.

وإن قلت: لا أثر لإجراء أصالة عدم التذكية، إذ الحرمة والنّجاسة معلّقتان على كون الحيوان ميتة وبأصالة عدم التذكية لا يثبت كونه ميتة، إذ بأصالة عدم أحد الضّدّين لا يثبت الضّدّ الآخر، لما تقرّر في مبحث الاستصحاب من أنّ الأصل لا يثبت لوازمه العادية والعقليّة، وإذا لم تفد أصالة عدم التذكية الحرمة

ص: 292

وهو حرام إجماعاً، كما إذا مات حتف أنفه.

فلا حاجة إلى إثبات أنّ الميتة تعمّ غير المذكّى شرعاً؛ ضرورة كفاية كونه مثله حكماً؛

___________________________________________

والنّجاسة في الحيوان لم تجر، إذ لا أثر لها، وحينئذٍ يشكّ في طهارة هذا الحيوان المذبوح وفي حليّته فأصالة الطّهارة والحليّة محكمة، والحاصل أنّه ليس في المقام أصل موضوعيّ فتصل النّوبة إلى الأصل الحكمي.

قلت: الحرمة والنّجاسة كما تترتّبان على الميتة تترتّبان على غير المذكّى، إذ الخارج إنّما هو المذكّى فقط فمهما لم نعلم بها جرت الحرمة والنّجاسة، وعلى هذا فلا حاجة لإثباتها إثبات كون الحيوان ميتة، بل أصالة عدم التذكية كافية لترتيب الأثرين.

وإلى هذا الجواب أشار بقوله: {وهو حرام إجماعاً، كما} هو حرام {إذا مات حتف أنفه} في المجازات النّبويّة: «إنّ هذه الكلمة من مجازات النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، فكأنّ الحيوان الّذي يموت يخرج روحه من أنفه بخلافالحيوان الّذي يذبح، وهكذا بالنسبة إلى الإنسان»(1){فلا حاجة إلى إثبات أنّ الميتة تعمّ غير المذكّى شرعاً} في ترتيب أثري الحرمة والنّجاسة كما ذكره الشّيخ(رحمة الله)(2)، فإنّه عمّ الميتة لمّا مات حتف أنفه وما لم يذكّ بالتذكية الشّرعيّة، كما لو لم يسمّ حين ذبحه فأصالة عدم التذكية تثبت عنوان الميتة؛ لأنّها ليست وجوديّة حتّى تكون من باب الأصل المثبت، بل هي عدميّة أي: ما لم يذكّ، والأصل المذكور يكفي لإثباته.

وإنّما قلنا بعدم الحاجة إلى ما صنعه الشّيخ ل- {ضرورة كفاية كونه} أي: كون عنوان عدم التذكية {مثله} أي: مثل عنوان الميتة {حكماً} فهما في حكم الشّارع بالنجاسة والحرمة سواء ولا حاجة إلى إدراج أحد الموضوعين في الموضوع الآخر.

ص: 293


1- المجازات النّبويّة: 80.
2- فرائد الأصول 2: 129، و 3: 198.

وذلك بأنّ التذكية إنّما هي عبارة عن فري الأوداج الأربعة مع سائر شرائطها، عن خصوصيّة في الحيوان الّتي بها يؤثر فيه الطّهارة وحدها أو مع الحليّة، ومع الشّكّ في تلك الخصوصيّة، فالأصل عدم تحقّق التذكية بمجرّد الفري بسائر شرائطها،

___________________________________________

مثلاً: لو كان كلّ من عنوان الحيض والنّفاس سبباً لترتيب آثار خاصّة من عدم جواز الاقتراب وعدم صحّة الطّلاق وحرمة العبادة وما أشبه كان الأصل الجاري لإثبات أحدهما كافياً في ترتيب الأثر ولا حاجة إلى إدراج أحد الموضوعين في الآخر لإثبات الأحكام المذكورة، لكن لا يخفى أنّه ليس بعيداً صحّة مقالة الشّيخ، إذ ليس لنا إلّا عنوانان: المذكّى والميتة، فما اجتمعت فيه الشّرائط يكون مذكّى وما لم تجتمع يكون ميتة، وهذا ليس من إدراج موضوع في موضوع، وما ذكره المصنّف وإن كان صحيحاً في نفسه لكنّه خلاف ظاهر الأدلّة والفتاوى الّتي جعلت المقابلة بين الميتة والمذكّى.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّ أصالة عدم التذكية تدرج الحيوان في عنوان ما لم يذكّ الّذي هو موضوع للنجاسة والحرمة إنّما هو {ب-} سبب {أنّ التذكية إنّما هي عبارة عن فري الأوداج الأربعة} مريء الطّعام والتنفّس وعرقا الدم الغليظان {مع سائر شرائطها} الإسلام والحديد والقبلة والتسمية {عن خصوصيّة} أي: تكون هذه الشّرائط مع خصوصيّة {في الحيوان الّتي بها} أي: بتلك الخصوصيّة {يؤثر} هذا الفري مع سائر الشّرائط وتلك الخصوصيّة {فيه} أي: في ذلك الحيوان {الطّهارة وحدها} في الحيوانات الّتي ليست قابلة للأكل كالسباع {أو مع الحليّة} في الحيوانات القابلة لها كالأنعام ونحوها {ومع الشّكّ في تلك الخصوصيّة} وأنّ الحيوان هل هو فيه هذه القابليّة أم لا {فالأصل عدم تحقّق التذكية بمجرّد الفري بسائر شرائطها} أي: شرائط التذكية، إذ الخصوصيّة من الشّرائط، فمع الشّكّ فيها كان الأصل عدمها، فلا يحكم بحليّة حيوان أُجريت عليه التذكية

ص: 294

كما لا يخفى.

نعم، لو علم بقبوله التذكية وشكّ في الحليّة فأصالة الإباحة فيه محكمة؛ فإنّه حينئذٍ إنّما يشكّ في أنّ هذا الحيوان المذكّى حلال أو حرام، ولا أصل فيه إلّا أصالة الإباحة، كسائر ما شكّ في أنّه من الحلال أو الحرام.

هذا

___________________________________________

الظّاهريّة إذا لم يعلم بوجود تلك الخصوصيّة فيه كالمولود بين الكلب والشّاة، وإنّما تعلم تلك الخصوصيّة من حكم الشّارع بقبول الحيوان الفلاني للتذكية أو قيام الإجماع عليه وإلّا كان الأصل عدمها {كما لا يخفى} لكنّك قد عرفت الإشكال، وأنّ ظاهر الأدلّة أنّ التذكية تتحقّق بمجرّد الفري مع سائر الشّرائط، ولذا يكون الأصل قبول التذكية في كلّ حيوان إلّا ما أُخرج بالدليل.

{نعم، لو علم} في حيوان {بقبوله التذكية وشكّ في الحليّة} كبعض أقسام الغراب أو الأرنب مثلاً، بناءً على فرض عدم وجود دليل على الحرمة {فأصالة الإباحة فيه محكمة} ويحكم بالحلّ لعدم أصل موضوعيّ حاكم على أصل الحلّ {فإنّه حينئذٍ} أي: حين علم بقبوله التذكية ولم يعلم حليّته وحرمته {إنّما يشكّ في أنّ هذا الحيوان المذكّى حلال أو حرام، ولا أصل فيه إلّا أصالة الإباحة}واحتمال استصحاب حال الحياة الّذي كان حراماً إلى ما بعد الموت؛ لأنّ القدر المتيقّن من الحليّة ما دلّ الدليل على حليّته بالتذكية، فيبقى الاستصحاب في غيره على حاله ساقط، لاشتراط بقاء الموضوع في صحّة الاستصحاب ولا بقاء للموضوع في المقام كما لا يخفى، فيكون حال هذا الحيوان {كسائر ما شكّ في أنّه من الحلال أو الحرام} من الأطعمة والأشربة وغيرهما.

{هذا} في ما كان الشّكّ في أصل الحليّة والحرمة، وأمّا إذا كان الشّكّ في الحليّة ناشئاً عن طروّ حالة محرّمة كالموطوئيّة والجلل وشرب لبن الخنزيرة ممّا

ص: 295

إذا لم يكن هناك أصل موضوعيّ آخرُ مثبت لقبوله التذكية، كما إذا شكّ - مثلاً - في أنّ الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليّته لها، أم لا؟ فأصالة قبوله لها معه محكمة، ومعها لا مجال لأصالة عدم تحقّقها، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحلّ بالفري بسائر شرائطها، فالأصل أنّه كذلك بعده.

وممّا ذكرنا ظهر الحال في ما اشتبهت حلّيّته وحرمته بالشبهة الموضوعيّة من الحيوان،

___________________________________________

احتمل معه ارتفاع قابليّة التذكية - إذا لم يكن هناك دليل - فالأصل يقتضي بقاء القابليّة ويحكم بالحليّة.

والحاصل: أنّ في المشكوك يتمسّك بأصل الحلّ {إذا لم يكن هناك أصل موضوعيّ آخر مثبت لقبوله التذكية} وإلّا لم يكن مجال لأصل الحلّ لارتفاع موضوع الشّكّ بجريان الأصل {كما إذا شكّ - مثلاً - في أنّ الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليّته لها} أي: للتذكية {أم لا} يوجب ارتفاع القابليّة؟ {فأصالة قبوله} أي: الحيوان {لها} أي: للتذكية {معه} أي: مع الجلل {محكمة} فيثبت بقاء القابليّة {ومعها} أي: مع هذه الأصالة - أي: الاستصحاب - {لا مجال لأصالة عدم تحقّقها} أي: عدم تحقّق التذكية {فهو قبل الجلل كان يطهر ويحلّ بالفري بسائر شرائطها} أي: مع سائر شرائط التذكية {فالأصل أنّه كذلك} قابل {بعده} أي: بعد الجلل، وهكذا كلّ أصلين كان أحدهما منقّحاً لموضوع الآخر ورافعاً للشكّ عنه، كما إذا شكّ في ماء أنّه طاهر أو نجس وقد كان قبل طاهراً، فإنّه لا مجال لإجراء أصالة الطّهارة بعد استصحابها، وفي المقام مناقشة لا تناسب وضع الشّرح.

{وممّا ذكرنا} من الحال في الشّبهة الحكميّة {ظهر الحال في ما اشتبهت حليّته وحرمته بالشبهة الموضوعيّة من الحيوان} كأن علمنا حكم الشّاة وحكم الكلب لكن لا نعلم أنّ هذا الحيوان المذبوح هل هو كلب أو شاة، أو علمنا أنّ الجلال حرام وغيره حلال لكن لم نعرف أنّه جلال أم لا، أو علمنا أنّ المذكّى من الشّاة

ص: 296

وأنّ أصالة عدم التذكية محكمة في ما شكّ فيها لأجل الشّكّ في تحقّق ما اعتبر في التذكية شرعاً.

كما أنّ أصالة قبول التذكية محكَّمة إذا شكّ في طروّ ما يمنع عنه، فيحكم بها في ما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً.

الثّاني: أنّه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعاً وعقلاً

___________________________________________

حلال والميتة منها حرام لكن لم نعرف أنّها مذكاة أو ميتة، فإنّ في الجميع لو جرى أصل موضوعي كان ذلك المحكم وإلّا جرت أصالة الحلّ والطّهارة.

{وأنّ أصالة عدم التذكية محكمة في ما شكّ فيها} أي: في التذكية {لأجل الشّكّ في تحقّق ما اعتبر في التذكية شرعاً} إذ أصالة العدم لا تبقي مجالاً لأصالة الحلّ {كما أنّ أصالة قبول التذكية محكَّمة إذا} علمنا بأنّ الحيوان كان قابلاً للتذكية ثمّ {شكّ في طروّ ما يمنع عنه} كما لو شكّ في أنّ الجلل هل يزيل قابليّته للذكاة أم لا {فيحكم بها} أي: بالتذكية {في ما أحرز الفري} للأوداج الأربعة {بسائر شرائطها} أي: إحراز الفري مع سائر شرائط التذكية {عداه} أي: عدا المشكوك الّذي جرى فيه الاستصحاب {كما لا يخفى} فيحرز بعض الشّرائط بالوجدان وبعض الشّرائط بالأصل، وذلك كاف في الحكم، كما لو شكّ فينقص الماء عن الكرّ حيث يحكم بالكريّة لإحراز كونه ماءً بالوجدان وكونه بقدر الكرّ بالأصل {فتأمّل جيّداً} هذا بعض الكلام في بيان جريان أصالة عدم التذكية وعدمه في الموارد المشكوكة.

الأمر {الثّاني} في بيان إجراء الاحتياط في مشكوك العباديّة، فنقول مقدّمة لذلك: {إنّه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعاً وعقلاً} أمّا شرعاً فلما تقدّم من أدلّة الاحتياط كقوله(علیه السلام): «أخوك دينك فاحتط لدينك»(1).

ص: 297


1- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.

في الشّبهة الوجوبيّة أو التحريميّة، في العبادات وغيرها.

كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب في ما إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النّهي.

وربّما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب،

___________________________________________

وأمّا عقلاً فلأنّه يوجب العمل على طبق الواقع، ومن المعلوم أنّ الإتيان بالواقع مطلوب عند العقلاء وإن لم يكلّفوا به تسهيلاً، من غير فرق {في} ذلك بين {الشّبهة الوجوبيّة} كالدعاء عند رؤية الهلال {أو} الشّبهة {التحريميّة} كشرب التتن {في العبادات} كصلاة الجمعة عند من لم يحرّمها {وغيرها} من التوصليّات ونحوها {كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب في ما إذا احتاط وأتى} بمحتمل الوجوب {أو ترك} محتمل الحرمة {بداعي احتمال الأمر أو النّهي} وهل الحرمة وهل الثواب للإطاعة أو الانقياد؟ احتمالان: من أوامر الاحتياط المقتضية للثواب، ومن أنّها للإرشاد فلا ثواب إلّا للمرشد إليه لو كان في الواقع.

والإنصاف أنّه لا يستبعد استفادة ثواب الإطاعة من لحن الرّوايات وإن لم يدلّ عليه دليل قطعيّ، وإنّما قيّد الإتيان والترك بكونهما بداعي احتمال الأمر والنّهي لإخراج ما إذا أتى بمحتمل الوجوب أو ترك محتمل الحرمة لا لذاك بل لداعي آخر، فإنّه لم يطع ولم ينقاد فلا ثواب له من أجلهما. نعم، لو اتفق مطابقته للواقع أدرك المصلحة واجتنب المفسدة في التوصليّات الّتي لا تحتاج إلى القربة.

{وربّما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات} المشكوكة {عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب} وغير الحرمة، وإنّما قيّدنا بذلك؛ لأنّ في صورة الدوران بين الوجوب والاستحباب، كما لو علمنا أنّ دعاء الرّؤية والصّلوات عند

ص: 298

من جهة أنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة القربة المتوقّفة على العلم بأمر الشّارع تفصيلاً أو إجمالاً.

وحسن الاحتياط عقلاً لا يكاد يجدي في رفع الإشكال،

___________________________________________

ذكر النّبيّ(صلی الله علیه و آله) واجب أو مستحبّ، لا مجال للإشكال لوجوب الأمر المقطوع به المصحّح للقربة.

نعم، يشكل من جهة قصد الوجه لكنّه ليس بالمحذور؛ لأنّ اعتباره ضعيف للغاية، وفي صورة الدوران بين الوجوب والحرمة لا مجال للاحتياط؛ لأنّه من دوران الأمر بين المحذورين، ولم يذكره المصنّف(رحمة الله) لوضوحه. وعلى كلّ فوجه الإشكال في الاحتياط في العبادة المشكوكة بين الوجوب وبين الكراهة أو الإباحة {من جهة أنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة القربة المتوقّفة على العلم بأمر الشّارع تفصيلاً أو إجمالاً} فالأوّل: كما لو علمنا بأمره بهذه العبادة الخاصّة، والثّاني: كما لو علمنا بأمره بإحدى العبادتين، فإنّ الأمر حينئذٍ معلوم بالإجمال، وكذا في مورد دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب، فمع الشّكّ في الأمر - كما هو المفروض - لا يمكن نيّة القربة، ومع عدم إمكان نيّة القربة لا يكون المأتي به عبادة.

{و} إن قلت: يمكن تحصيل الأمر للعبادة المحتملة ببيان أنّ الأمر معلول للحسن - فإذا كان شيء حسناً أمر به الشّارع - وحيث إنّ الاحتياط حسن كان هناك أمر بالاحتياط في العبادة، فيأتي الشّخص بالعبادة المحتملة بداعي هذا الأمر المكشوف باللمّ.

قلت: {حسن الاحتياط عقلاً لا يكاد يجدي في رفع الإشكال} لأنّ الحسن ليس علّة تامّة للأمر المولوي، إذ ليس كلّ حسن يصل حسنه إلى حدّ المصلحة الملزمة حتّى يؤمر به، بالإضافة إلى إمكان أن يكون هناك موانع حتّى عن الاستحباب فكيف بالأمر.

ص: 299

ولو قيل بكونه موجباً لتعلّق الأمر به شرعاً؛ بداهة توقّفه على ثبوته توقّفَ العارض على معروضه، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته؟

و

___________________________________________

{ولو} سلم ذلك و{قيل بكونه} أي: الحسن العقلي {موجباً لتعلّق الأمر به شرعاً} فهناك محذور آخر مانع عن استكشاف الأمر الشّرعي من الحسن العقلي، وهو لزوم ذلك للدور. ويقرّر الدور ببيانات أوضحها: إنّ الأمر يتوقّف على حسن صلاة الجمعة مثلاً، وحسنها يتوقّف أن تكون الصّلاة احتياطاً، وكونها احتياطاً يتوقّف على قصد القربة، إذ بدون قصد القربة لا تكون صلاة، وقصد القربة يتوقّف على الأمر فالأمر، يتوقّف على الأمر.

وقد يقرّر الدور بأنّ: الحسن عارض على الاحتياط، والاحتياط معروض له، فيجب أن يكون الاحتياط مقدّماً على الحسن، إذ كلّ معروض مقدّم على العارض. ومن ناحية أُخرى أنّ الاحتياط متأخّر عن الأمر، إذ لولا الأمر لم يكن الاحتياط احتياطاً، فكيف يمكن أن يؤثر الحسن المتأخّر عن الاحتياط في الأمر المتقدّم عليه؟.

{بداهة توقّفه} أي: الحسن {على ثبوته} أي: ثبوت الاحتياط {توقّف العارض على معروضه} فإنّ الاحتياط معروض للحسن والحسن عارض عليه {فكيف يعقل أن يكون} الحسن المتأخّر عن الاحتياط {من مبادئ ثبوته} أي: ثبوت الاحتياط، إذ مبدأ ثبوت الاحتياط هو الأمر، والحسن هو السّبب للأمر؟

{و} أجاب بعض عن الإشكال المتقدّم - وهو أنّ الاحتياط في العبادة يحتاج إلى قصد القربة والقربة متوقّفة على الأمر ولا أمر في مشكوك العباديّة - بما حاصله: أنّا نستكشف أمر الشّارع بالاحتياط من ترتّب الثواب عليه إذ الثواب تابع للأمر، وإذ حصل للاحتياط أمر أمكن إتيان العبادة الاحتياطيّة مع قصد القربة،

ص: 300

انقدح بذلك: أنّه لا يكاد يجدي في رفعه أيضاً القول بتعلّق الأمر به من جهة ترتّب الثواب عليه؛ ضرورة أنّه فرع إمكانه، فكيف يكون من مبادئ جريانه؟

___________________________________________

لكن فيه ما تقدّم في الجواب السّابق لمن ادّعى استكشاف الأمر من حسن الاحتياط، بأنّ ذلك مستلزم للدور؛ لأنّ الأمر يتوقّف على إمكان الاحتياط، وإمكان الاحتياط يتوقّف على قصد القربة، وقصد القربة يتوقّف على الأمر، فالأمر يتوقّف على الأمر.

و{انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من الإشكال على تصحيح الاحتياط في العبادة باستكشاف الأمر من الحسن {أنّه لا يكاد يجدي في رفعه} أي: رفع الإشكال {أيضاً} ما ذكره بعض من {القول بتعلّق الأمر به} أي: بالاحتياط {من جهة ترتّب الثواب عليه} فالثواب المترتّب على الاحتياط كاشف عن الأمر، والأمر مصحّح لقصد القربة، فيمكن الاحتياط في العبادة.

وإنّما قلنا لا يجدي في رفع الإشكال هذا الجواب ل- {ضرورة أنّه} أي: تعلّق الأمر بالاحتياط {فرع إمكانه} أي: إمكان الاحتياط، فإنّ الشّيء ما لم يمكن لم يؤمر به، فكشف الثواب عن الأمر فرع إمكان الاحتياط {فكيف يكون} تعلّق الأمر {من مبادئ جريانه} أي: جريان الاحتياط؟

والحاصل: إنّ الأمر لا يتعلّق بالاحتياط إلّا إذا كان الاحتياط ممكناً، فكيف يكون الأمر سبباً لإمكان الاحتياط؟ وإن شئت قلت: الأمر متأخّر عن إمكان الاحتياط - لأنّ الأمر لا يتعلّق إلّا بالاحتياط الممكن - فكيف يمكن أن يكون الأمر صانعاً لإمكان الاحتياط ويتقدّم عليه؟

فتحصّل إلى هنا خمسة مطالب:

الأوّل: أنّ الاحتياط في العبادة غير ممكن، إذ هو متوقّف على قصد القربة، وقصد القربة متوقّف على الأمر، فمع الشّكّ في الأمر لا يمكن الاحتياط.

ص: 301

هذا.

مع أنّ حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلّق الأمر به بنحو اللّمّ، ولا ترتّبِ الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الإنّ، بل يكون حاله في ذلك حال الإطاعة؛

___________________________________________

الثّاني: الجواب عن الإشكال بأنّا لا نشكّ في الأمر؛ لأنّ الاحتياط حسن عقلاً، وكلّ شيء حسن عقلاً لا بدّ له من الأمر، فالعبادة الاحتياطيّة مأمور بها.

الثّالث: ردّ هذا الجواب بأنّ تعلّق الأمر بالاحتياط مستلزم للدور؛ لأنّ الأمر يتوقّف على الاحتياط، والاحتياط يتوقّف على القربة، والقربة تتوقّف على الأمر.

الرّابع: جواب ثان عن الإشكال بأنّا لا نشكّ في الأمر؛ لأنّا نستكشف الأمر من الثواب المترتّب على الاحتياط، إذ لا ثواب بدون الأمر.

الخامس: ردّ هذا الجواب بأنّ تعلّق الأمر بالاحتياط مستلزم للدور - كما تقدّم - فلا يستكشف الأمر من الثواب. ولا يخفى أنّ في كلام المصنّف(رحمة الله) خلطاً، فراجع الخوئيني(1)

وغيره. وقد آثرنا شرح العبارة تحفّظاً على مقصدنا من التوضيح غالباً.

{هذا} بعد تسليم أنّ حسن الاحتياط كاشف عن الأمر - كما قال المجيب الأوّل - وبعد تسليم أنّ الثواب كاشف عن الأمر - كما قال المجيب الثّاني - {مع أنّ} لنا أن نمنع ذلك، فإنّ {حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلّق الأمر به} أي: الاحتياط {بنحو اللمّ} ومعرفة المعلول من العلّة، إذ الحسن علّة للأمر {ولا ترتّب الثواب عليه} أي: على الاحتياط {بكاشف عنه} أي: عن الأمر {بنحو الإنّ} ومعرفة العلّة من المعلول، إذ الثواب معلول للأمر {بل يكون حاله} أي: حال الاحتياط {في ذلك} أي: في حسنه وترتّب الثواب عليه {حال الإطاعة} فإنّ الإطاعة الحقيقيّة حسن ويترتّب الثواب عليها، ومع ذلك فإنّهما لا يكشفان عن

ص: 302


1- شرح كفاية الأصول 3: 449.

فإنّه نحوٌ من الانقياد والطّاعة.

وما قيل(1) في دفعه: من كون المراد بالاحتياط في العبادات، هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات، عدا نيّة القربة.

___________________________________________

الأمر بهما شرعاً؛ لأنّ الأمر بالإطاعة إرشاديّ، كما لا يخفى {فإنّه} أي: الاحتياط {نحو من الانقياد والطّاعة} فما نقول في الطّاعة نقول في الاحتياط.

وإن شئت قلت: إنّ الاحتياط إطاعة احتماليّة، فيكون حاله حال الإطاعة الحقيقيّة المستفادة من قوله: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ}(2)، فكما أنّ حسن الإطاعة الحقيقيّة وترتّب الثواب على الإطاعة الحقيقيّة لا يكشف عن أمر مولويّ بالإطاعة وإنّما أمره إرشاديّ إلى حكم العقل، كذلك حسن الإطاعة الاحتماليّة - الّتي هي الاحتياط - وترتّب الثواب عليها لا يكشف عن أمر مولويّ بها، وإنّما أمره - لو كان - فهو إرشاديّ إلى حكم العقل، مع أنّ الأمر الإرشادي هنا لا دليل عليه.

{وما قيل في دفعه} القائل الشّيخ، فإنّه قد أجاب {من} إشكال الاحتياط في العبادة بجواب آخر حاصله: إنّه ليس المراد بالاحتياط في العبادة الأجزاء والشّرائط مع قصد القربة حتّى يقال بأنّ قصد القربة يحتاج إلى الأمر ولا أمر في العبادة المشكوكة، بل {كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات} الأجزاء والشّرائط والموانع والخصوصيّات {عدا نيّة القربة} ويأتي بنيّة القربة بدليل آخر، كما هو كذلك في باب العبادة الحقيقيّة الّتي صحّحناها بأمرين، فيأتي بقصد القربة باحتمال الأمر أو بدليل آخر كالإجماع والضّرورة القائمين على أنّ العبادة لا تكون إلّا بقصد القربة. والّذي

ص: 303


1- فرائد الأصول 2: 153.
2- سورة النساء، الآية: 59.

فيه: - مضافاً إلى عدم مساعدة دليل حينئذٍ على حسنه بهذا المعنى فيها؛ بداهة أنّه ليس باحتياط حقيقة، بل هو أمرٌ لو دلّ عليه دليلٌ كان مطلوباً مولويّاً نفسيّاً عباديّاً، والعقلُ لا يستقلّ إلّا بحسن الاحتياط، والنّقل لا يكاد يرشد إلّا إليه.

___________________________________________

يدلّ على أنّ مراد الشّيخ ليس الإتيان بدون قصد القربة - كما فهمه المصنّف(رحمة الله) - قول الشّيخ: «فأوامر الاحتياط يتعلّق بهذا الفعل،وحينئذٍ فيقصد المكلّف فيه التقرّب بإطاعة هذا الأمر»(1).

وحيث فهم المصنّف من الشّيخ أنّ مراده الإتيان بصورة العبادة بدون قصد القربة أشكل عليه بقوله: و{فيه - مضافاً إلى عدم مساعدة دليل حينئذٍ} أي: حين كان بدون قصد القربة {على حسنه} أي: حسن الاحتياط {بهذا المعنى} أي: بمجرّد الأجزاء والشّرائط {فيها} أي: في العبادة {بداهة أنّه ليس باحتياط حقيقة} إذ هو شيء أجنبيّ عن العبادة المحتملة {بل هو أمر لو دلّ عليه دليل كان مطلوباً مولويّاً} لا إرشاديّاً {نفسيّاً} لا طريقيّاً إلى الواقع {عباديّاً} أي: منسوباً إلى العبادة لا أنّها عبادة بنفسها {و} لا دليل على مثله، إذ {العقل لا يستقلّ إلّا بحسن الاحتياط} وليس هذا منه {والنّقل لا يكاد يرشد إلّا إليه} فمن أين لنا إثبات مثل هذا الاحتياط الّذي ذكرتم وهو الأجزاء والشّرائط بدون قصد القربة؟

إن قلت: كيف ذكرتم عدم مساعدة دليل على هذا المعنى والحال أنّ أوامر الاحتياط شاملة له؟ فإنّ قوله(علیه السلام): «فاحتط لدينك»(2)

كما يشمل غير العبادة يشمل العبادة أيضاً، وحيث لا يمكن أن يكون المراد من العبادة المأمور بها - في تلك الأوامر - الأجزاء والشّرائط مع قصد القربة، فلا بدّ أن نقول بالمجازيّة، وهو أن يراد بالاحتياط جميع الأجزاء والشّرائط بدون قصد القربة صوناً لكلام الحكيم

ص: 304


1- فرائد الأصول 2: 153.
2- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.

نعم، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة، لَما كان محيص عن دلالته اقتضاءً على أنّ المراد به ذاك المعنى، بناءً على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقة، كما لا يخفى - أنّه التزامٌ بالإشكال وعدمِ جريانه

___________________________________________

عن اللغويّة.

قلت: الأوامر مصروفة إلى غير العبادة، إذ الاحتياط ظاهر في معناه الحقيقي، فأيّ وجه يقتضي حمله على معنى مجازي يشمل العبادات أيضاً، إذ الدليل على الاحتياط سواء كان عقليّاً أو فعليّاً إنّما هو بالاحتياط الّذي لا يمكن وجوده في العبادة.

{نعم، لو كان هناك} في باب الاحتياط {دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة} بأن قال: «احتط في العبادة» {لما كان محيص عن دلالته} أي: دلالة ذلك الدليل الخاصّ بالعبادة {اقتضاءً} أي: بدلالة الاقتضاء، وهو صون كلام الحكيم عن اللغويّة، إذ لو لم يحمل الاحتياط حينئذٍ على معناه المجازي كان كلام الحكيم الآمر بالاحتياط لغواً، إذ لا يمكن معناه الحقيقي {على أنّ المراد به} أي: بدليل الاحتياط {ذاك المعنى} الّذي ذكره الشّيخ وهو الأجزاء والشّرائط بدون قصد القربة {بناءً على عدم إمكانه} أي: الاحتياط {فيها} أي: في العبادة {بمعناه حقيقة} لاحتياجها إلى قصد القربة ولا قربة في مشكوك الأمر {كما لا يخفى - أنّه التزام بالإشكال} هذا مرتبط بقوله: «فيه مضافاً» و«أنّه» مبتدأ وخبره «فيه» المتقدّم.

وهذا أصل الإشكال الوارد على الشّيخ، وحاصله: أنّ الإشكال - في الاحتياط في العبادة - كان من جهة عدم إمكان قصد القربة فيها، وقد التزمتم بذلك وأنّه يراد بالاحتياط صورة العبادة {و} أنّه التزام منكم ب- {عدم جريانه} أي: الاحتياط

ص: 305

فيها، وهو كما ترى.

قلت: لا يخفى أنّ منشأ الإشكال هو تخيّل كون القربة المعتبرة في العبادة مثلَ سائر الشّروط المعتبرة فيها، ممّا يتعلّق بها الأمر المتعلّق بها، فيشكل جريانه حينئذٍ؛ لعدم التمكّن من إتيان جميع ما اعتبر فيها، وقد عرفت(1)

أنّه فاسد، وإنّما اعتبر قصد القربة فيها عقلاً، لأجل أنّ الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه.

___________________________________________

{فيها} أي: في العبادة {وهو كما ترى} لكن كلام المصنّف مبنيّ على أن يكون مراد الشّيخ الإتيان بالعبادة بدون قصد القربة، وقد عرفت تصريح الشّيخ بخلافه.{قلت}: يمكن دفع إشكال الاحتياط في العبادة بوجه آخر، وهو أنّ اعتبار القربة - في جميع العبادات - ليس شرعيّاً بل هو عقليّ، والعقل لا يعتبر أزيد من قصد الأمر جزميّاً كان أو احتماليّاً، فيتحقّق الاحتياط، إذ لم يحتج إلى أمر الشّارع المستلزم للدور، إذ {لا يخفى أنّ منشأ الإشكال} في صحّة الاحتياط في العبادة {هو تخيّل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر} الأجزاء و{الشّروط المعتبرة فيها ممّا يتعلّق بها الأمر المتعلّق بها} أي: بتلك العبادة، وإذا لزم تعلّق الأمر بأجزائها وشروطها {فيشكل جريانه} أي: الاحتياط {حينئذٍ لعدم التمكّن من إتيان جميع ما اعتبر فيها} أي: في العبادة حتّى قصد القربة، إذ قصد القربة متوقّفة على الأمر بهذه العبادة الاحتياطيّة.

{وقد عرفت} سابقاً في مبحث الأمر {أنّه فاسد} لما أُقيم من الدليل على امتناع أخذ القربة في موضوع الأمر، إذ القربة لا يمكن الإتيان بها إلّا بعد تعلّق الأمر، فكيف يمكن أن تؤخذ في متعلّق الأمر؟ {وإنّما اعتبر قصد القربة فيها} أي: في العبادة {عقلاً لأجل أنّ الغرض منها} أي: من العبادة {لا يكاد يحصل بدونه} أي: بدون قصد القربة.

ص: 306


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 418.

وعليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الإمكان؛ ضرورة التمكّن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله، غاية الأمر أنّه

___________________________________________

{وعليه} أي: بناءً على كون قصد القربة ممّا يعتبر عقلاً - لا شرعاً - {كان جريان الاحتياط فيه} أي: في باب العبادة {بمكان من الإمكان}.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) علّق على قوله: «إنّه فاسد» بقوله: «هذا مع أنّه لو أغمض عن فساده، لما كان في الاحتياط في العبادات إشكال غير الإشكال فيها، فكما يلتزم في دفعه بتعدّد الأمر فيها، ليتعلّق أحدهما بنفس العمل، والآخر بإتيانه بداعي أمره، كذلك في ما احتمل وجوبه منها كان على هذا احتمال أمرين كذلك، أي: أحدهما كان متعلّقاً بنفسه، والآخر بإتيانه بداعي ذاك الأمر، فيتمكّن من الاحتياط فيها بإتيان ما احتمل وجوبه بداعي رجاء أمره واحتماله، فيقع عبادة وإطاعة لو كان واجباً وانقياداً لو لم يكن كذلك.

نعم، كان بين الاحتياط هاهنا وفي التوصليّات فرق، وهو أنّ المأتي به فيها قطعاً كان موافقاً لما احتمل وجوبه مطلقاً، بخلافه هاهنا، فإنّه لا يوافق إلّا على تقدير وجوبه واقعاً، لما عرفت من عدم كونه عبادة إلّا على هذا التقدير، ولكنّه ليس بفارق لكونه عبادة على تقدير الحاجة إليه، وكونه واجباً. ودعوى عدم كفاية الإتيان برجاء الأمر في صيرورته عبادة أصلاً - ولو على هذا التقدير - مجازفة، ضرورة استقلال العقل بكونه امتثالاً لأمره على نحو العبادة لو كان، وهو الحاكم في باب الإطاعة والعصيان، فتأمّل جيّداً»(1)،

انتهى.

فتحصّل: أنّه بناءً على كون اعتبار القربة عقليّاً لا شرعيّاً يمكن الاحتياط في العبادة {ضرورة التمكّن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله} من الأجزاء والشّرائط حتّى القربة {غاية الأمر أنّه} لا يأتي بالعبادة بداعي الأمر لعدم علمه

ص: 307


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 120.

لا بدّ أن يؤتى به على نحو لو كان مأموراً به لكان مقرّباً، بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر، أو احتمال كونه محبوباً له - تعالى - ، فيقع حينئذٍ على تقدير الأمر به امتثالاً لأمره - تعالى - ، وعلى تقدير عدمه انقياداً لجنابه - تبارك وتعالى - ، ويستحقّ الثواب على كلّ حال: إمّا على الطّاعة أو الانقياد.

وقد انقدح بذلك: أنّه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلّق أمر بها، بل لو فرض تعلّقه بها لما كان من الاحتياط بشيء، بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها، كما لا يخفى.

___________________________________________

بالأمر، بل {لا بدّ أن يؤتى به على نحو لو كان مأموراً به لكان مقرّباً} وذلك {بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر أو احتمال كونه محبوباً له - تعالى -} وقد تقدّم أنّ العقل في ما علم بالأمر يعتبر الإطاعة الجزميّة وفي ما احتمله يعتبر الإطاعة الاحتماليّة {فيقع حينئذٍ على تقديرالأمر به امتثالاً لأمره، - تعالى -} لأنّه قصد الأمر على هذا التقدير {وعلى تقدير عدمه} أي: عدم الأمر واقعاً {انقياداً لجنابه - تبارك وتعالى - ويستحقّ الثواب} والأجر {على كلّ حال} حال المطابقة وعدمها {إمّا على الطّاعة} في الأوّل {أو الانقياد} في الثّاني.

{وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من إمكان الاحتياط في العبادة {أنّه لا حاجة في جريانه} أي: الاحتياط {في العبادات إلى تعلّق أمر بها} أي: بالعبادة الاحتياطيّة {بل لو فرض تعلّقه بها لما كان من الاحتياط بشيء} إذ الاحتياط هو الإتيان باحتمال الأمر، فلو تعلّق الأمر لم يكن احتياطاً {بل} كان {كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها} أي: من العبادات {كما لا يخفى}.

هذا تمام الكلام في ما ارتضاه المصنّف من جواب الإشكال، وقد أُشكل عليه أيضاً كما هو أشكل في الوجوه الثلاثة السّابقة، لكن مقصد الشّرح يأبى عن التعرّض له.

ص: 308

فظهر أنّه لو قيل(1) ب- «دلالة أخبار (من بلغه ثواب)(2) على استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف» لَما كان يُجدي في جريانه في خصوص ما

___________________________________________

وهناك وجه خامس لدفع إشكال الاحتياط في العبادة، وهو: أنّ مشكوك العباديّة وإن لم يمكن الإتيان به بقصد القربة، من جهة أنّه لم يحرز تعلّق الأمر به، لكن يمكن الإتيان به بقصد القربة بملاحظة الاستحباب المستفاد من أخبار من بلغ، فقد ورد في مستفيض الأحاديث أنّ «من بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب أُوتيه وإن لم يكن كما بلغه»(3).

فلو قام خبر ضعيف على استحباب الأذان لصلاة مستحبّة - مثلاً - صحّ الاحتياط بإتيان الأذان لها بقصد القربة، لوجود الأمر العام المستفاد من أخبار من بلغ، لكن هذا الوجه أيضاً مخدوش.

إذ أوّلاً: هذا لا يدفع الإشكال عن جميع موارد الشّبهة في العبادة، وإنّما يختصّ بما ورد فيه أمر ولو بخبر ضعيف. وثانياً: أنّ موافقة هذا الأمر الاستحبابي يجعل المأتي به طاعة جزميّة، ويخرج عن المتنازع فيه الّذي هو الاحتياط في محتمل الوجوب.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: {فظهر} ممّا ذكرنا من أنّه لو فرض تعلّق الأمر بالعبادة لما كان من الاحتياط بشيء {أنّه لو قيل ب- «دلالة أخبار (من بلغه ثواب) على استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف»} وإنّما قال: «لو قيل» لأنّ من الفقهاء من أنكر الاستحباب، كما هو مفصّل في محلّه {لما كان} هذا القول {يجدي في جريانه} أي: جريان الاحتياط {في خصوص ما} أي: عبادة

ص: 309


1- فرائد الأصول 2: 153.
2- راجع وسائل الشيعة 1: 59-60.
3- الكافي 2: 87.

دلّ على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف، بل كان - عليه - مستحبّاً، كسائر ما دلّ الدليل على استحبابه.

لا يقال: هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الّذي بلغ عليه الثواب بعنوانه، وأمّا لو دلّ على استحبابه

___________________________________________

{دلّ على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف} فلا يكون تلك العبادة من مصاديق الاحتياط {بل كان} الاسم وضمير «ما» الّذي مصداقه العبادة {عليه} أي: بناءً على دلالة الخبر الضّعيف {مستحبّاً كسائر ما دلّ الدليل على استحبابه}.

وقد أُجيب عن إشكال الاحتياط في العبادة بوجه سادس، وهو: أنّه كما لو كان أوامر الاحتياط الواردة في الشّريعة مولويّة دلّت على جواز الإتيان بالعبادة المشكوكة بقصد القربة، لكنّها حيث كانت إرشاديّة لم تدلّ على ذلك، كذلك أخبار من بلغ لو كانت للاستحباب لم تدلّ على إمكان الاحتياط، أمّا لو كانت في مقام أنّ الإنسان إذا أتى بالعبادة برجاء الثواب أتاه ذلك الثواب المرجّى دلّت على الاستحباب بعنوان الاحتياط، وتكفي حينئذٍ في رفع الإشكال؛ لأنّ محتمل الثواب أمر به الشّارع، فيمكن الإتيان به بقصد القربة، إذ قصد القربة كان محتاجاًإلى أمر نفسيّ بالعمل الاحتياطي وقد دلّت على ذلك أخبار من بلغ، منتهى الأمر أنّه في مورد يكون فيه خبر ضعيف وليس في جميع موارد العبادات الاحتياطيّة.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {لا يقال: هذا} الّذي ذكرتم من أنّ الأمر المستفاد من أخبار من بلغ لا يفيد لإمكان الاحتياط في العبادة؛ لأنّ الأمر يفيد استحباباً لا احتياطاً، إنّما هو {لو قيل بدلالتها} أي: دلالة أخبار من بلغ {على استحباب نفس العمل الّذي بلغ عليه الثواب بعنوانه} كأن تدلّ على استحباب دعاء رؤية الهلال بعنوان أنّه دعاء مروي.

{وأمّا لو} لم نقل بذلك بل قلنا بأنّ من بلغ {دلّ على استحبابه} أي: ذلك

ص: 310

لا بهذا العنوان، بل بعنوان أنّه محتمل الثواب، لكانت دالّة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط، كأوامر الاحتياط لو قيل بأنّها للطلب المولوي، لا الإرشادي.

فإنّه يقال:

___________________________________________

العمل - كالدعاء للرؤية - {لا بهذا العنوان، بل بعنوان أنّه محتمل الثواب} وفرق بين الأمرين، فإنّ صلاة الليل المقطوع استحبابها إنّما تدلّ أخبارها على استحبابها بما هي صلاة الليل، لا بعنوان أنّها محتملة الثواب، أمّا ما دلّ عليه خبر ضعيف، فإنّ الخبر الضّعيف لمّا لم يكن قابلاً لإفادة استحباب ذلك الموضوع لضعفه كان أخبار من بلغ كافياً لاستحبابه، لكن لا بعنوانه بل بعنوان أنّه محتمل الثواب وأنّ موضوع أخبار من بلغ ينطبق عليه، وعلى هذا {لكانت دالّة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط كأوامر الاحتياط} نحو «أخوك دينك فاحتط لدينك»(1)، {لو قيل بأنّها للطلب المولوي} حيث تدلّ حينئذٍ على الأمر المولوي بالاحتياط المفيد ذلك لصحّة الإتيان بالعمل بقصد القربة لوجود الأمر {لا} للطلب {الإرشادي} كما هو ظاهرها.

{فإنّه يقال}: لا يمكن التمسّك بأخبار من بلغ لتصحيح قصد القربة في العبادات المشكوكة، إذ لا يخلو الأمر من كون الأمر المستفاد من أخبار من بلغ للتوصليّة - الّتي يسقط الأمر بمجرّد إتيان متعلّقه ولو بدون قصد القربة - أو للتعبديّة الّتي يحتاج في إسقاط الأمر إلى قصد القربة - فلو كان الأمر بعنوان الاحتياط بالدعاء عند رؤية الهلال - مثلاً - المستفاد من أخبار من بلغ للتوصّل، كان اللّازم كفاية الإتيان بالدعاء ولو بدون قصد القربة - كما هو شأن كلّ أمر توصليّ - ولو كان الأمر المستفاد لتعبّد لم يفد أيضاً في لزوم قصد القربة، لما عرفت سابقاً من أنّ قصد القربة يأتي من قبل الأمر، فلا يمكن أخذه في متعلّق

ص: 311


1- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.

إنّ الأمر بعنوان الاحتياط - ولو كان مولويّاً - لكان توصليّاً. مع أنّه لو كان عباديّاً لما كان مصحّحاً للاحتياط، ومجدياً في جريانه في العبادات، كما أشرنا إليه آنفاً.

ثمّ

___________________________________________

الأمر للزوم الدور.

فتحصّل: أنّ أخبار من بلغ ولو كانت مفيدة للاحتياط لم تنفع في تصحيح القربة في العبادة المشكوكة، ف- {إنّ الأمر بعنوان الاحتياط} المستفاد من أخبار من بلغ {ولو كان مولويّاً} لا إرشاديّاً {لكان توصليّاً} إذ لم يدلّ دليل على تعبديّته والتوصليّة هي الأصل في الأوامر، إذ التعبديّة تحتاج إلى مؤونة زائدة ولو كان الأمر المستفاد توصليّاً لم ينفع في تصحيح قصد القربة في العبادة المشكوكة فلا يندفع الإشكال الوارد في باب الاحتياط في العبادة من أنّه بدون الأمر كيف يعقل قصد القربة {مع أنّه لو كان} الأمر بالاحتياط المستفاد من أخبار من بلغ {عباديّاً} لا توصليّاً {لما كان} هذا الأمر {مصحّحاً للاحتياط ومجدياً في جريانه} أي: جريان الاحتياط {في العبادات، كما أشرنا إليه آنفاً} لأنّه يلزم منه الدور المتقدّم.

{ثمّ} لا بأس بصرف عنان الكلام إلى أخبار من بلغ وأنّه هل يستفاد منها الاستحباب حتّى أنّه لو قام خبر ضعيف على استحباب أعمالليلة الرّغائب - مثلاً - تكون تلك الأعمال مستحبّة ويكون الثواب بإزاء نفس العمل كسائر المستحبّات أم لا يستفاد منها الاستحباب، وأنّه إنّما يكون الثواب للانقياد؟

والفرق بين الثوابين أنّ الأوّل على نفس العمل والثّاني على الانقياد، إذ المفروض أنّ العمل لا ثواب له.

مثلاً: لو قال المولى: (اغتسل للجمعة) كان الثواب على نفس الاغتسال، ولو لم يقل: (اغتسل لقتل الوزغ) لكن قام على ذلك خبر ضعيف، فاغتسل العبد لم يكن الثواب لنفس الاغتسال، إذ ليس مشروعاً في الواقع وإنّما الثواب على انقياد العبد.

ص: 312

إنّه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب؛ فإنّ صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «من بلغه عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) شيء من الثواب فعَمِلَهُ كان أجر ذلك له، وإن كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لم يقله»(1) ظاهرة في أنّ الأجر كان مترتّباً على نفس العمل الّذي بلغه عنه(صلی الله علیه و آله) أنّه ذو ثواب.

___________________________________________

وقد اختلف الشّيخ والمصنّف - رحمهما اللّه - في المستفاد من هذه الأخبار فالشيخ - رضي اللّه عنه - على أنّها لا تفيد استحباب الشّيء الّذي قام عليه الخبر الضّعيف، وإنّما يثاب ثواب الانقياد وأنّ الأخبار في صدد أنّ الانقياد للّه - تعالى - حسن كما يحكم بذلك العقل واستدلّ لذلك بما ورد في بعض تلك الأخبار من قوله(علیه السلام): «رجاء ذلك الثواب» أو «التماس ذلك الثواب» ممّا ظاهره أنّ العمل المأتي به إنّما يكون بعنوان الانقياد والخضوع برجاء الثواب، ولذا فلا يصحّ الفتوى باستحباب ما قام عليه خبر ضعيف.

والمصنّف(رحمة الله) على أنّها تفيد الاستحباب، إذ في بعض تلك الأخبار جعل الثواب بإزاء العمل؛ لأنّه قال(علیه السلام): «فعله كان أجر ذلك له»، فإنّ إضافة الأجر إلى المأتي به يفيد كون الثواب لنفس العمل لا للانقياد، والثواب لا يكون لعمل إلّا إذا كان مستحبّاً.

إذا عرفت ذلك نقول: {إنّه لا يبعد دلالة تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب} فالمستحبّ كما يثبت بالخبر الّذي هو حجّة كذلك يثبت بالخبر الضّعيف بمعونة أخبار من بلغ {فإنّ صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن} للبرقي {عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «من بلغه عن النّبيّ(صلی

الله علیه و آله) شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لم يقله»} وخبر قوله: «فإنّ» قوله: {ظاهرة في أنّ الأجر كان مترتّباً على نفس العمل الّذي بلغه عنه(صلی الله علیه و آله) أنّه ذو ثواب} ولا يكون نفس

ص: 313


1- المحاسن 1: 25.

وكون العمل متفرّعاً على البلوغ، وكونه الداعي إلى العمل(1)،

غيرُ موجب لأن يكون الثواب إنّما يكون مترتّباً عليه في ما إذا أتى برجاء أنّه مأمور به وبعنوان الاحتياط؛ بداهة أنّ الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً يؤتى به بذاك الوجه والعنوان.

وإتيان العمل بداعي طلب قول النّبيّ(صلی الله علیه و آله)(2)، - كما قيّد به في بعض الأخبار -

___________________________________________

العمل ذا ثواب إلّا إذا كان مستحبّاً، إذ العمل الانقيادي لا يثاب فاعله عليه بما هو عمل وإنّما يثاب بما هو انقياد للمولى وخضوع له.

{و} ما في بعض الأخبار الآتية من {كون العمل متفرّعاً على البلوغ وكونه} أي: البلوغ {الداعي إلى العمل} ممّا ظاهره أنّ الثواب على عنوان الرّجاء والالتماس والاحتياط فلا ثواب في إزاء الفعل بما هو فعل، بل في إزاء الفعل المعنون بعنوان البلوغ فيكون الثواب للانقياد، كما ذكره الشّيخ(رحمة الله) {غير موجب} خبر قوله: «وكون» أي: أنّ كون العمل متفرّعاً على البلوغ لا يوجب {لأن يكون الثواب إنّما يكون مترتّباً عليه} أي: على العمل المقيّد {في ماإذا أتى برجاء أنّه مأمور به وبعنوان الاحتياط} وإدراك الواقع لو كان {بداهة} أنّه للعلّة لا للتقييد، فالبلوغ علّة للعمل لا أنّ العمل مقيّد به، ف- {إنّ الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً} بحيث {يؤتى به} أي: بالعمل {بذاك الوجه والعنوان} فالترتّب على البلوغ ليس ملحوظاً قيداً في موضوع الثواب، وإنّما هو ملحوظ علّة للثواب يعني أنّ علّة الثواب هو البلوغ لا أنّ الثواب مقيّد بكون الإتيان لالتماس قول النّبيّ(صلی الله علیه و آله) {وإتيان العمل بداعي طلب قول النّبيّ(صلی الله علیه و آله) كما قيّد به في بعض الأخبار} كرواية محمّد بن مروان، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «من بلغه عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النّبيّ(صلی الله علیه و آله) كان له ذلك الثواب وإن كان النّبيّ(صلی الله علیه و آله)

ص: 314


1- فرائد الأصول 2: 155.
2- فرائد الأصول 2: 155.

وإن كان انقياداً، إلّا أنّ الثواب في الصّحيحة إنّما رتّب على نفس العمل، ولا موجب لتقييدها به، لعدم المنافاة بينهما، بل لو أتى به كذلك، أو التماساً للثواب الموعود - كما قيّد به في بعضها الآخر - لأُوتي الأجر والثواب على نفس العمل، لا بما هو احتياط وانقياد،

___________________________________________

لم يقله»(1).

الّتي ظاهرها كون الثواب إنّما هو على الفعل المقيّد برجاء قول النّبيّ وطلبه، ممّا يدلّ على كون الثواب على الانقياد لا ذات الفعل.

{وإن كان} ظاهره يعطي أن يكون العمل {انقياداً} وإطاعة لا مطلقاً {إلّا أنّ الثواب في الصّحيحة} المتقدّمة لهشام بن سالم {إنّما رتّب على نفس العمل ولا موجب لتقييدها} أي: تقييد الصّحيحة {به} أي: بهذا الخبر، بل هما خبران يفيد أحدهما كون الثواب لأصل العمل ويفيد الثّاني كون الثواب للانقياد، ولا وجه لإسقاط ظهور أحدهما {لعدم المنافاة بينهما} حتّى يستلزم التقييد {بل} فوق ذلك، وهو أنّه {لو أتى به} أي: بالعمل الّذي قام عليه الخبر الضّعيف {كذلك} أي: لأنّه مستحبّ كما هو مقتضى الصّحيحة {أو التماساً للثواب الموعود كما قيّد به في بعضها الآخر} كرواية ابن مروان {لأُوتي الأجر والثواب على نفس} ذلك {العمل لا بما هو احتياط وانقياد} وذلك لأنّ ما دلّ على أنّ الثواب على نفس العمل كاشف عن ذلك، وقصد الانقياد لا يوجب انقلاب الثواب عمّا هو عليه إلى غيره، فإنّ الانقياد إنّما ترتّب على واقعها لا على القصد المتعلّق به، فإنّ الإنسان سواء صلّى بعنوان أنّها واجبة أو صلّى بعنوان الانقياد أتاه ثواب الصّلاة لا ثواب الانقياد.

نعم، في ما لم يكن هناك واقع مجعول عليه الثواب لا محالة يكون الثواب للانقياد، وحال الثواب في ذلك حال العقاب في المعصية، فإنّه لو عصى تجرّياً عوقب للمعصية لا للتجرّي.

نعم، لو تجرّى بغير المعصية الحقيقيّة ظنّاً منه أنّها معصية كان العقاب

ص: 315


1- المحاسن 1: 25؛ وسائل الشيعة 1: 60.

فيكشف عن كونه بنفسه مطلوباً وإطاعة، فيكون وزانه وزان: «من سرّح لحيته»(1)،

أو «من صلّى» أو «صام» فله كذا. ولعلّه لذلك أفتى المشهور بالاستحباب، فافهم وتأمّل.

الثّالث: أنّه لا يخفى

___________________________________________

للتجرّي - على القول به - {ف-} ترتيب الثواب على ما قام عليه خبر ضعيف {يكشف عن كونه بنفسه مطلوباً وإطاعة، فيكون وزانه} أي: وزان خبر «من بلغ» {وزان «من سرّح لحيته» أو «من صلّى» أو «صام» فله كذا} حيث إنّ الثواب مرتّب على نفس الأفعال.

{ولعلّه لذلك} الّذي ذكرنا من استفادة استحباب ما قام عليه خبر ضعيف من الصّحيحة؛ لأنّها تكشف عن الثواب الّذي هو من آثار الاستحباب {أفتى المشهور بالاستحباب} في موارد وجود الخبر الضّعيف، فقالوا بأنّ الصّلاة الفلانيّة، وصيام يوم كذا، ودعاء ليلة الرّغائب، مستحبّة، مع أنّ الأخبار الضّعاف دلّت عليها، ولو كان الثواب مرتّباً على الانقياد لم يصحّ فتواهم بالاستحباب،بل اللّازم أن يقولوا أنّ الصّلاة يوم كذا برجاء الثواب يثاب عليها، وهكذا {فافهم وتأمّل} حتّى لا تتوهّم أنّ المشهور إنّما أفتوا بالاستحباب لأنّهم استفادوا حجيّة الخبر الضّعيف من أخبار من بلغ، إذ لا يخفى ما في ذلك، فإنّ استفادة حجيّة كلّ خبر ضعيف من هذه الأخبار أصعب بكثير من القول بكون الثواب على نفس العمل، على ما تقدّم.

{الثّالث} من الأُمور المهمّة المتعلّقة بالبراءة {أنّه لا يخفى} أنّ البراءة تجري في الشّبهات الحكميّة وجوبيّة كانت أو تحريميّة كما تقدّم تقريبه، أمّا جريان البراءة في الشّبهات الموضوعيّة فهل تجري مطلقاً كما هو قول، أو لا تجري مطلقاً كما هو احتمال، أو يفصل في ذلك بين تعلّق الحكم بالطبيعة نحو (لا تشرب الخمر) حيث إنّ المطلوب ترك هذه الطّبيعة وبين تعلّق الحكم بالأفراد نحو (لا

ص: 316


1- الكافي 6: 489.

أنّ النّهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب تركه في زمانٍ أو مكانٍ، - بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلاً - ، كان اللّازم على المكلّف إحراز أنّه تركه بالمرّة ولو بالأصل،

___________________________________________

تكرم الفسّاق) حيث إنّ المطلوب ترك إكرام كلّ فاسق، فلا تجري البراءة في الأوّل في ما لو شكّ في فرد أنّه خمر أم لا، بل يجب الاجتناب عنه إلّا إذا كان هناك أصل، وتجري في الثّاني في ما لو شكّ في فرد أنّه فاسق أم لا فيجوز إكرامه؟ احتمالات، ذهب المصنّف(رحمة الله) إلى التفصيل.

ولا يخفى أنّ مدار كلام المصنّف(رحمة الله) - وإن كان في الشّبهة التحريميّة - إلّا أنّه يجري في الشّبهة الوجوبيّة، فلو كان الوجوب متعلّقاً بالطبيعة لم تجر البراءة في الفرد المشكوك الوجوب، ولو كان متعلّقاً بالأفراد على نحو الانحلال تجري البراءة في الفرد المشكوك.

إذا عرفت ذلك قلنا: {إنّ النّهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان} خاصّ كيوم الصّوم {أو مكان} خاصّ كمكّة مثلاً {- بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو} ذلك {المكان ولو دفعة} واحدة - {لما امتثل أصلاً} كالأكل في الأوّل والصّيد في الثّاني {كان اللّازم على المكلّف إحراز أنّه تركه بالمرّة ولو} كان الإحراز {بالأصل} إذ المطلوب هو ترك الطّبيعة وصرف الوجود، وذلك لا يتحقّق إلّا بالترك المطلق وعدم الإتيان بأيّ فرد منها حتّى يتحقّق ترك صرف الوجود، فإنّه لو أتى بأكلة في الصّيام أو اصطاد صيداً واحداً في مكّة لم يمتثل ذلك النّهي، وحينئذٍ إذا شكّ في فرد أنّه أكل أم لا - كالتزريق في الوريد - أو شكّ في حيوان أنّه من الصّيد المحرّم أو المحلّل، كصيد البحر مثلاً، فإنّ مقتضى التحفّظ على الترك المطلق أن لا يأتي به إلّا إذا أحرز أنّه ليس بأكل أو ليس بصيد، ولو كان الإحراز بالأصل، كأن يقول قبل تناول هذا الشيء كالتزريق وأخذ هذا الحيوان:

ص: 317

فلا يجوز الإتيان بشيء يشكّ معه في تركه، إلّا إذا كان مسبوقاً به ليستصحب مع الإتيان به.

___________________________________________

كنت تاركاً، والآن أشكّ في ارتفاع ذلك الترك بهذا الفعل، فالأصل يقتضي عدمه.

إن قلت: ما الفرق بين الشّبهة في الحكم حيث تجرون البراءة مطلقاً وبين الشّبهة في الموضوع حيث لا تجرون البراءة في هذا القسم منه، وهو ما لو تعلّق بالطبيعة.

قلت: الفرق أنّ الشّبهة الحكميّة يشكّ فيها في أصل التكليف، فلا نعلم أنّ الحرمة تعلّقت بالتبغ أم لا، وذلك مجرى البراءة العقليّة والنّقليّة. أمّا هذا القسم من الشّبهة الموضوعيّة فقد علمنا بتعلّق التكليف بالاجتناب عن الأكل والصّيد، ولكن إذا عملنا المشكوك لم نتيقّن في الخروج عن عهدة المكلّف، فهناك شكّ في الاشتغال وهنا شكّ في الامتثال.

إن قلت: ما ذكرتم من أنّه إذا كان أصل في المسألة حكم بالبراءة، كأصالة عدم الصّيد وعدم الأكل في المثال المتقدّم، فيجوز حينئذٍ الارتكاب بسبب عدم وجود فائدة لما ذكرتم من جريان الاشتغال في الشّبهات الموضوعة، إذ ليس مورد إلّا وهو مسبوق بأصل العدم، فتكون النّتيجة البراءة أيضاً لكن ليس ابتداءً كالشبهات الحكميّة، بل ثانياً بسبب إجراء الأصل.

قلت: مع وجود الفرق العلمي وهو كاف في الفرق، كما أنّ العلماء ينقّحون موضوع استصحاب الطّهارة والحلّ من أصل الطّهارة والحلّ مع عدم فرق بينهما في مقام العمل، أنّه ربّما لا يجرى أصل العدم كما لو كان حين النّهي آتياً بالمنهي عنه، كما لو كان شارباً للخمر، فإنّه لا يجرى أصل العدم.

وعلى كلّ حال، إذا كان النّهي عن الطّبيعة يجب عليه اجتناب الفرد المشكوك {فلا يجوز الإتيان بشيء يشكّمعه في تركه} أي: ترك ذلك الشّيء المنهي {إلّا إذا كان مسبوقاً به} أي: بالترك {ليستصحب} الترك {مع الإتيان به} أي: بالفرد

ص: 318

نعم، لو كان بمعنى طلب ترك كلّ فرد منه على حدة، لَما وجب إلّا ترك ما علم أنّه فرد، وحيث لم يعلم تعلّق النّهي إلّا بما علم أنّه مصداقه، فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكّمة.

فانقدح بذلك: أنّ مجرّد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة، في ما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كلّ فرد على حدة، أو كان الشّيء مسبوقاً بالترك،

___________________________________________

المشكوك، وحينئذٍ يكون جواز الإتيان ببركة الأصل لا لجريان البراءة، بخلاف ما لو تعلّق النّهي بالأفراد، فإنّه تجرى البراءة في الفرد المشكوك.

{نعم، لو كان} النّهي {بمعنى طلب ترك كلّ فرد منه على حدة} بأن كان النّهي انحلاليّاً حتّى يكون مثل: (لا تكرم زيداً وعمراً وبكراً الفاسقين) فيكون كلّ فرد موضوعاً مستقلّاً. وإنّما أجمل المولى عن هذه الموضوعات المتعدّدة بلفظ واحد {لما وجب إلّا ترك ما علم أنّه فرد} قطعيّ للمنهي عنه {وحيث لم يعلم تعلّق النّهي إلّا بما علم أنّه مصداقه} كزيد وعمرو وبكر في المثال {فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكَّمة} فيرجع في خالد وخويلد وهند المشتبه فسقهم إلى عدم حرمة الإكرام، وذلك لأنّ الشّكّ هنا في الاشتغال، إذ يشكّ في أنّه هل اشتغل ذمّته بهم أم لا، وليس شكّاً في الامتثال كما لو كان الأمر متعلّقاً بالطبيعة.

{فانقدح بذلك أنّ} تعلّق النّهي إمّا بالطبيعة وإمّا بالأفراد، والنّهي المتعلّق بالطبيعة إمّا في ما كان الشّيء مسبوقاً بالترك أو لا، وأنّ قسمين من هذه الأقسام الثلاثة مجرى البراءة وأصالة العدم، وأنّ قسماً واحداً منها مجرى الاشتغال، وأنّ {مجرّد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة في ما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كلّ فرد على حدة} نحو (لا تكرم الفسّاق) {أو كان الشّيء مسبوقاً بالترك} في ما كان النّهي متعلّقاً بالطبيعة نحو (لا تصد في الحرم)

ص: 319

وإلّا لوجب الاجتناب عنها عقلاً لتحصيل الفراغ قطعاً.

فكما يجب في ما علم وجوب شيء إحراز إتيانه، إطاعة لأمره، فكذلك يجب في ما علم حرمته إحرازُ تركه وعدم إتيانه، امتثالاً لنهيه. غاية الأمر كما يحرز وجود الواجب بالأصل،

___________________________________________

أو (لا تأكل يوم الصّوم) في ما كان مسبوقاً بعدم الأكل وعدم الصّيد {وإلّا} بأن كان النّهي عن الطّبيعة ولم يكن مسبوقاً بالعدم {لوجب الاجتناب عنها} أي: عن الأفراد المشتبهة {عقلاً لتحصيل الفراغ قطعاً} إذ الاشتغال اليقيني يحتاج إلى الفراغ اليقيني، وذلك لا يتحقّق إلّا بالاجتناب عن جميع الأفراد القطعيّة والمشكوكة.

{فكما يجب في ما علم وجوب شيء إحراز إتيانه، إطاعة لأمره} حتّى أفراده المشكوكة، كما لو أمر ربّان السّفينة بقتل كلّ جرذ فيها بحيث كان ذلك تكليفاً واحداً بإبادة هذه الطّبيعة حتّى لو بقي واحد منها لأوجبت غرق السّفينة لخرقها إيّاها، فإنّه يجب عقلاً إطاعة لهذا الأمر قتل حتّى مشكوك كونه جرذاً تحصيلاً للبراءة اليقينيّة عن هذا الاشتغال اليقيني الّذي لا يكاد يبرأ منه لو بقي من الجرذان واحد، وذلك بخلاف ما لو كان تكاليف متعدّدة منحلّة، كما لو أمر بإكرام العلماء حيث كان لكلّ فرد إطاعة ومعصية، فإنّه لا يجب إكرام المشتبه لجريان البراءة عن ذلك بعد إطاعة الأفراد المعلومة؛ لأنّه من الشّكّ في الاشتغال فقد اشتغلت ذمّته بالمعلومين، أمّا المشكوك منهم فالأصل عدم وجوبه {فكذلك يجب في ما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالاً لنهيه} المتعلّق بالطبيعة الّذي لا يمتثل إلّا بترك الجميع حتّى المشكوك كونه فرداً لها.

{غاية الأمر كما يحرز وجود الواجب بالأصل} كما لو كان الأمر متعلّقاً بوجود طبيعة السّتر في الصّلاة الّتي لا تحقّق - بالنسبة إلى المرأة - إلّا بستر جميع

ص: 320

كذلك يحرز ترك الحرام به.والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه، إلّا أنّ قضيّة لزوم إحراز الترك اللّازم: وجوبُ التحرّز عنه، ولا يكاد يحرز إلّا بترك المشتبه أيضاً، فتفطّن.

الرّابع:

___________________________________________

جسدها، فإنّه يجب ستر المواضع المشكوكة أيضاً تحصيلاً لليقين بالفراغ اليقيني لهذا الواجب الّذي لا يتأتّى لو كان جزء منها - ولو مشكوكاً - غير مستور، وحينئذٍ لو كان للستر حالة سابقة بأن كانت مستورة ثمّ شكّ في زوال السّتر عن جزء من بدنه كان مقتضى الاستصحاب بقاء ستره {كذلك يحرز ترك الحرام به} أي: بالأصل كما تقدّم في مثال الفرد المشتبه من الأكل في باب الصّيام، والفرد المشتبه من الصّيد في باب مكّة {والفرد المشتبه} من الطّبيعة المحرّمة {وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه} لأنّه رفع ما لا يعلمون ولقبح العقاب بغير بيان {إلّا أنّ قضيّة لزوم إحراز الترك} في ما كان النّهي متعلّقاً بالطبيعة، {اللّازم وجوب التحرّز عنه ولا يكاد يحرز} الترك مطلقاً {إلّا بترك المشتبه أيضاً} كما يترك المتيقّن {فتفطّن}.

لكن الانصاف أنّ هذا إتعاب بلا وجه، فإنّ البراءة تجرى مطلقاً ولو كان النّهي أو الأمر متعلّقاً بالطبيعة ولم يكن مسبوقاً بالترك أو الفعل، من غير فرق بينها وبين تعلّق النّهي والأمر بالأفراد، لأنّه أيضاً من الشّكّ في الاشتغال، فإنّي أعلم بوجوب الاجتناب عن أقسام الأكل في يوم الصّوم ولا أعلم أنّ التزريق في الوريد مثلاً أكل، وحيث لا أعلم بذلك لا أعلم بتوجّه التكليف إليّ من هذه الجهة، ولذا اختار غير واحد من الأعلام جريان البراءة في جميع الأفراد ولم يروا للتفصيل الّذي اختاره المصنّف وجهاً.

{الرّابع} من الأُمور المهمّة التابعة لأصالة البراءة في حسن الاحتياط مطلقاً،

ص: 321

أنّه قد عرفت حسن الاحتياط عقلاً ونقلاً. ولا يخفى أنّه مطلقاً كذلك، حتّى في ما كان هناك حجّة على عدم الوجوب أو الحرمة، أو أمارة معتبرة على أنّه ليس فرداً للواجب أو الحرام، ما لم يخلّ بالنظام فعلاً، فالاحتياط قبل ذلك مطلقاً يقع حسناً، كان في الأُمور المهمّة، كالدماء والفروج، أو غيرها، وكان احتمال التكليف قويّاً أو ضعيفاً،

___________________________________________

إلّا إذا كان مخلّاً بالنظام {أنّه قد عرفت} مكرّراً {حسن الاحتياط عقلاً ونقلاً} أمّا عقلاً فلأنّه إدراك للواقع، وأمّا نقلاً فلقوله: «احتط لدينك بما شئت»(1).

{ولا يخفى أنّه} أي: الاحتياط {مطلقاً} في جميع الموارد {كذلك} أي: حسن {حتّى في ما كان هناك حجّة على عدم الوجوب أو} على عدم {الحرمة أو} كان هناك {أمارة معتبرة على أنّه ليس فرداً للواجب أو} ليس فرداً ل- {الحرام} كما لو كان حجّة على عدم وجوب رؤية الحلال وعدم حرمة تدخين التبغ، أو على عدم كون زيد من أفراد العلماء في ما لو قال، (أكرم العلماء)، أو عدم كون عمرو من أفراد الفسّاق في ما لو قال: (لا تكرم الفسّاق)، فإنّه حيث إنّ الشّكّ هنا موجود لا قطع بالواقع كان محلّ الاحتياط باقياً.

نعم، لو كان هناك قطع بالواقع لم يبق موضوع الاحتياط، كما لا يخفى {ما لم يخلّ بالنظام فعلاً} أمّا إذا أخلّ بالنظام لم يكن حسناً لا عقلاً ولا شرعاً، وما لم تصل النّوبة إلى الوسوسة فهي كذلك أيضاً {فالاحتياط قبل ذلك} الاختلال وما أشبه {مطلقاً} في جميع الأبواب {يقع حسناً} سواء {كان في الأُمور المهمّة، كالدماء والفروج} كما لو دلّ الدليل على أنّ المرتضعة معه لم تكمل الرّضاع، أو قام الدليل على أنّ العاصي يقتل في المرّة الثّالثة، لكن بشرط أن لا يكون الاحتياط سبباً لتعطيل في الحدود، كما لا يخفى {أو غيرها} أي: غير الأُمور المهمّة كأبواب الطّهارة والنّجاسة وأمثالهما {و} سواء {كان احتمال التكليف قويّاً أو ضعيفاً}.

ص: 322


1- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.

كانت الحجّة على خلافه أو لا. كما أنّ الاحتياط الموجب لذلك لا يكون حسناً كذلك، وإن كان الرّاجح لمن التفت إلى ذلك من أوّل الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً، فافهم.

___________________________________________

فمثلاً: في المعبر العام المسقّف الّذي يذبح القصّابون فيه الحيوانات احتمال النّجاسة قويّة، وفي الشّارع المبلّط النّظيف احتمالها ضعيف، ومع ذلك يحسن الاحتياط بالاجتناب فيهما، وسواء {كانت الحجة على خلافه} أي: خلاف الاحتياط بأن دلّ الدليل على الطّهارة {أو لا} كما لو كان مستند الطّهارة الأصل وما أشبه من الأصول العمليّة الّتي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل، وإن لم تكن في المسألة حجّة لفظيّة.

فمثلاً: قد يدلّ الدليل على حليّة الحيوان الفلاني ومع ذلك نحتاط بالاجتناب لاحتمال الحرمة، وقد يكون الحليّة مقتضى أصل الحلّ ومع ذلك نحتاط بالاجتناب {كما أنّ الاحتياط الموجب لذلك} الاختلال بالنظام أو ما أشبه {لا يكون حسناً كذلك} أي: مطلقاً {وإن كان الرّاجح لمن التفت إلى ذلك} أي: إلى أنّ الاحتياط المطلق موجب للاختلال {من أوّل الأمر} بأن أراد الاحتياط في الأبواب كلّها {ترجيح بعض الاحتياطات} على بعض، كترجيح احتياطات باب الفروج والدماء على احتياطات بابي الطّهارة والنّجاسة، أو ترجيح الاحتياطات الّتي يكون احتمال التكليف في مواردها قويّاً {احتمالاً} هذا للثاني {أو محتملاً} هذا للأوّل، إذ في باب الفروج المحتمل أقوى من باب الطّهارة، والاحتياط الأقوى الاحتمال أقوى، كما لا يخفى {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ مرتبة العسر والحرج من الاحتياط أيضاً ليست حسنة، فالتخصيص بالمخلّ للنظام لا وجه له، وفي حسن الاحتياط مطلقاً لنا كلام ذكرناه في بعض الموارد، واللّه العالم.

ص: 323

فصل: إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته؛ لعدم نهوض حجّة على أحدهما تفصيلاً، بعد نهوضها عليه إجمالاً، ففيه وجوه:

الحكم بالبراءة عقلاً ونقلاً؛ لعموم النّقل، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة؛ للجهل به.

ووجوب الأخذ بأحدهما تعييناً

___________________________________________

[فصل في التخيير]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، التخيير

{فصل} في دوران الأمر في الشّبهة الحكميّة بين محذورين - أي: الوجوب والحرمة - كما إذا دار أمر صلاة الجمعة بينهما {إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته لعدم نهوض حجّة على أحدهما تفصيلاً} بأن تدلّ على أنّه واجب أو حرام {بعد نهوضها} أي: الحجّة {عليه} أي: على أحدهما {إجمالاً} كما لو تعارضت روايتان أو اختلفت الأُمّة على قولين {ففيه وجوه} ذكر المصنّف منها أربعة:

الأوّل: {الحكم بالبراءة عقلاً ونقلاً} فالمشتبه حلال محض، كما لو لم نعلم أنّ شرب التتن واجب أو حرام - مثلاً - ، فنحكم بحليّته، وإنّما نحكم بالبراءة {لعموم النّقل} نحو «رفع ما لا يعلمون»(1)،

و«النّاس في سعة»(2)،

و«ما حجب اللّه علمه عن العباد»(3)، فإنّ التتن قد فرض أنّه كذلك {وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به} أي: بخصوص أحدهما، لقاعدة قبح العقاب بغير بيان.

{و} الثّاني: {وجوب الأخذ بأحدهما تعييناً} بأن يأخذ باحتمال الحرمة فيجتنب عمّا دار فيه الأمر بين الوجوب والحرمة؛ لأنّ دفع المفسدة أولى من

ص: 324


1- الخصال 2: 417.
2- غوالي اللئالي 1: 424.
3- التوحيد: 413.

أو تخييراً. والتخيير بين الترك والفعل عقلاً، مع التوقّف عن الحكم به رأساً، أو مع الحكم بالإباحة عليه شرعاً.

___________________________________________

جلب المنفعة، وللاستقراء، فإنّ الشّارع قدّم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب في غير مورد - كأيّام الاستظهار الّتي يدور فيها الأمر بين وجوب الصّلاة وحرمتها، وكيوم الشّكّ الّذي يدور فيه الصّوم بقصد رمضان بين الوجوب والحرمة - {أو تخييراً} بأن يكون المكلّف مخيّراً بين أن يأخذ باحتمال الحرمة فيلزمه الترك حتّى أنّه لا يجوز له الفعل بعد ذلك، وبين أن يأخذ باحتمال الوجوب، فيلزمه الفعل حتّى أنّه لا يجوز له الترك، وبهذا يفرق هذا الوجه عن الوجه الأوّل، فإنّ في الأوّل تكون الإباحة فيأتي بهذا مرّة وبذاك مرّة، بخلافهذا فلا يصحّ له أن يأخذ إلّا بأحدهما.

ووجه ذلك أنّه يعلم بكونه في الواقع أحدهما، فلو أخذ بهذا وذاك علم بالمخالفة القطعيّة وذلك لا يجوز بخلاف ما لو أخذ بأحدهما، فإنّه مخالفة احتماليّة وموافقة احتماليّة.

وهنا وجه ثالث ملحق بهذا الوجه الثّاني، وهو أنّه يقدّم الأهمّ من الوجوب والحرمة لو كان في البين أهمّ وإلّا فعلى أحد الشّقّين السّابقين ووجهه واضح.

{و} الثّالث: {التخيير بين الترك والفعل عقلاً} في مقام العمل {مع التوقّف عن الحكم به رأساً} فلا يحكم بالوجوب ولا بالحرمة، بل إنّما يكون تخييراً عمليّاً ويفترق هذا الوجه عن الوجه الثّالث بكون ذاك تخييراً مع الحكم بأحدهما وهذا تخيير بلا حكم بأحدهما، أمّا التخيير العملي فلأنّه لا دليل على التعيين، وأمّا التوقّف عن الحكم فلأنّ السّكوت عن الحكم أولى من مخالفة الحكم قطعاً في ما صادف واحتمالاً على كلا التقديرين.

والرّابع: التخيير بين الترك {أو} الفعل عقلاً {مع الحكم بالإباحة عليه شرعاً}

ص: 325

أوجَهُها: الأخير؛ لعدم الترجيح بين الفعل والترك، وشمول مثل «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام»(1) له، ولا مانع منه عقلاً ولا نقلاً.

___________________________________________

أمّا التخيير العقلي العملي فقد عرفت وجهه في الثّالث، وأمّا الحكم بالإباحة فلأدلّة البراءة. وهناك وجوه أُخر ذكرها المشكيني(2) وغيره لا داعي لإيرادها.

وهذه الوجوه الأربعة {أوجهها} عند المصنّف(رحمة الله) {الأخير} وهو الوجه الرّابع، وقد كان مركّباً من أمرين، استدلّ للأوّل منهما وهو التخيير بين الترك والفعل عقلاً عملاً بقوله: {لعدم الترجيح بين الفعل والترك} لأنّ في كلّ منهما احتمال الموافقة والمخالفة ولا ترجيح، فالعقل يرى التخيير في مقام العمل فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وهذا التخيير استمراريّ في كلّ مرّة، ففي كلّ يوم إن شاء شرب التتن وإن شاء لم يشرب.

واستدلّ للأمر الثّاني - وهو الحكم بالإباحة شرعاً - بقوله: {و} ل- {شمول مثل «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» له} وهكذا تشمله أدلّة الرّفع والحجب والسّعة وما أشبهها، ولا اختصاص لهذه الرّوايات بما يدور أمره بين الحرمة وغير الوجوب أو الوجوب وغير الحرمة، بل هي عامّة تشمل جميع الصّور {ولا مانع منه} أي: من شمول مثل: «كلّ شيء» {عقلاً} أي: ليس من أطراف الشّبهة المحصورة الّذي كان خارجاً عن هذا العموم لدليل عقلي {ولا نقلاً} كما في الشّبهة البدويّة قبل الفحص أو بعده بناءً على مذهب الأخباري من شمول أخبار الاحتياط له.

ص: 326


1- الكافي 5: 13، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341، ولفظ الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام، فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 146.

وقد عرفت(1)

أنّه لا يجب موافقة الأحكام التزاماً، ولو وجب لكان الالتزام إجمالاً بما هو الواقع معه ممكناً.

والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعاً محرّماً لما نهض على وجوبه دليل قطعاً.

___________________________________________

{و} إن قلت: كيف يمكن الحكم على هذا الفعل المردّد بالإباحة، فإنّه خلاف ما دلّ على لزوم الالتزام بأحكام اللّه - تعالى - إذ حكم اللّه الواقعي لا يخلو عن كونه واجباً أو حراماً؟

قلت: {قد عرفت} سابقاً في أوّل الكتاب {أنّه} ليس للأحكام موافقتان ومخالفتان: الموافقة والمخالفة العمليّة والالتزاميّة، فلو ترك الإنسان الخمر وكان ملتزماً بإباحتها، أو وطِئ في رأس كلّ أربعة أشهر زوجته وكان ملتزماً بإباحته، لم يكن مخالفاً لحكم اللّه ولم يستحقّ العقاب، ف- {لا يجب موافقة الأحكام التزاماً} وإنّما يجب الالتزام في أُصول الدين وفي مثل العبادة حال الإتيان بها لقصد القربة والتعيين ونحوهما.{ولو} سلّمنا أنّه {وجب} الالتزام بالأحكام {لكان الالتزام - إجمالاً - بما هو الواقع معه} أي: مع الالتزام بالإباحة ظاهراً {ممكناً} فيلتزم بأنّ حكمه الواقعي أحدهما وحكمه الظّاهري الإباحة، كما أنّا نلتزم بالأحكام الواقعيّة في موارد جريان أصالة الطّهارة والإباحة ونحوهما، مع العلم بأنّ هذه الأصول تخالف الواقع كثيراً {والالتزام التفصيلي بأحدهما} إمّا تعييناً كأن يلتزم بالتحريم أو تخييراً {لو لم يكن تشريعاً محرّماً} لأنّه التزام بأنّه حكم اللّه مع عدم العلم بأنّه حكمه {لما نهض على وجوبه دليل قطعاً} إذ الدليل على الالتزام لو كان فرضاً فإنّما هو في معلوم الحكم لا في مجهوله الدائر أمره بين المحذورين، ومن الممكن أن يلتزم

ص: 327


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 322.

وقياسه بتعارض الخبرين - الدالّ أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب - باطل؛

___________________________________________

بخلاف حكم اللّه، ومن المعلوم أنّ الالتزام بخلاف الحكم أكثر مفسدة من عدم الالتزام بالحكم، فإنّ عدم الالتزام تفويت لمصلحة الحكم مثلاً، والالتزام بخلافه تفويت لتلك المصلحة وجلب لمفسدة خلاف الحكم.

ثمّ إنّه قد استدلّ القائل بالتخيير الشّرعي بأنّه مثل تعارض الخبرين، فكما يخيّر هناك بين الخبرين حيث يعلم بصحّة أحدهما إذا لم يكن مرجّح في البين كذلك يخيّر هاهنا للعلم بأحدهما، لكن المصنّف أجاب عن ذلك بأنّ حجيّة الخبرين:

إمّا من باب البيّنة وأنّ كلّ خبر علّة للحكم، فيكون حال الخبرين حال الواجبين المتزاحمين كالغريقين اللّذين لا يتمكّن المكلّف إلّا من إنقاذ أحدهما، وعلى هذا يكون التخيير بين الأخذ بهذا الخبر أو ذاك على القاعدة لوجود المناط في كلّ واحد منهما.

وإمّا من باب الطّريقيّة وأنّ كلّ خبر طريق إلى الواقع، وحينئذٍ وإن كان مقتضى القاعدة التساقط، لكن الدليل الخاصّ دلّ على التخيير لو لم يكن مرجّح في البين، وأين هذا ممّا نحن فيه، فإنّ الحرمة والوجوب المشكوكين ليس لكلّ منهما مناط في ما نحن فيه حتّى يكونا كالخبرين - بناءً على السّببيّة - وليسا طريقاً إلى الواقع حتّى يكونا كالخبرين - بناءً على الطّريقيّة بالإضافة إلى أنّ مقتضى القاعدة كما عرفت التساقط في الطّريقين المتعارضين لا التخيير وإنّما دلّ الدليل الخاصّ في باب الخبر بالتخيير، وليس في المقام دليل خاصّ يدلّ على ذلك.

{و} ممّا ذكرنا تبيّن أنّ {قياسه} أي: قياس دوران الأمر بين المحذورين {بتعارض الخبرين الدالّ أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب باطل} لا وجه له

ص: 328

فإنّ التخيير بينهما - على تقدير كون الأخبار حجّة من باب السّببيّة - يكون على القاعدة، ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين.

وعلى تقدير أنّها من باب الطّريقيّة، فإنّه وإن كان على خلاف القاعدة إلّا أنّ أحدهما - تعييناً أو تخييراً - حيث كان واجداً لما هو المناط للطريقيّة - من احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشّرائط - حصل حجّة في هذه الصّورة بأدلّة الترجيح تعييناً، أو التخيير تخييراً،

___________________________________________

{فإنّ التخيير بينهما} أي: بين الخبرين {على تقدير كون الأخبار حجّة من باب السّببيّة} والموضوعيّة، وأنّ في كلّ خبر مناطاً وملاكاً حتّى يكون الخبر ذا ملاك ولو في حال التعارض، كالغريق الّذي فيه ملاك وجوب الإنقاذ وإن لم يتمكّن المكلّف من نجاته لتعارضه مع غريق آخر - {يكون على القاعدة} الأوّليّة {ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين} ولا يكون حينئذٍ من باب التعارض الّذي ملاكه عدم الملاك في أحد الطّرفين {وعلى تقدير أنّها} أي: الحجيّة في الأخبار {من باب الطّريقيّة} وأنّه لا مصلحة في الخبر بذاته وإنّما المصلحة في الواقع المكشوف به {فإنّه} أي: التخيير {وإن كان على خلاف القاعدة} إذ الأصل في الطّريقين المتعارضين التساقط لا الترجيح والتخيير بينهما {إلّا أنّ أحدهما تعييناً} وهو الّذي كان فيه المرجّحات المنصوصة أو غير المنصوصة على قول {أو تخييراً} حين لم يكن في أحدهما مرجّح أو جعلنا المرجّحات استحبابيّة كما هو رأي جماعة {حيث كان} ذلك الواحد {واجداً لما هو المناط للطريقيّة من احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشّرائط} المعتبرة في الطّريق غير الابتلاء بالمعارض {حصل} ذلك الواحد {حجّة في هذه الصّورة} أي: صورة التعارض {بأدلّة الترجيح تعييناً} لو كان هناك بعض المرجّحات {أو} بدليل{التخيير تخييراً} بينهما لو لم يكن بينهما ترجيح.

ص: 329

وأين ذلك ممّا إذا لم يكن المطلوب إلّا الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً؟ وهو حاصل، والأخذ بخصوص أحدهما ربّما لا يكون إليه بموصل.

نعم، لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة، وإحداثِهما الترديد بينهما، لكان القياس في محلّه؛ لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير هاهنا، فتأمّل جيّداً.

ولا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛

___________________________________________

{وأين ذلك} الّذي ذكرنا من سبب الأخذ بأحد الخبرين معيّناً أو أحدهما مخيّراً في صورة التعارض {ممّا إذا لم يكن المطلوب إلّا الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً} أي: ما نحن فيه الّذي دار الأمر بين الوجوب والحرمة الّذي يطلب فيه الالتزام بالواقع {وهو حاصل} لأنّ الإنسان يلتزم إجمالاً بما هو صادر واقعاً {والأخذ بخصوص أحدهما ربّما لا يكون إليه بموصل} لاحتمال كون الواقع غيره، فقياس ما نحن فيه بالخبرين المتعارضين قياس باطل، لما عرفت من الفرق الكثير بينهما.

{نعم، لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة} وأنّ ذلك سبب للخيار؛ لأنّ الحقّ لا يعدوهما {وإحداثهما الترديد بينهما} وأنّ أحدهما يطابق الواقع {لكان القياس} لما نحن فيه الّذي هو احتمال الوجوب والحرمة بالخبرين {في محلّه لدلالة الدليل} الّذي قام {على التخيير بينهما} أي: بين الخبرين {على التخيير هاهنا} في مورد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة {فتأمّل جيّداً}.

{و} أمّا من حكم في مورد دوران الأمر بين المحذورين بالبراءة عقلاً محتجّاً بدليل قبح العقاب بلا بيان، ففيه أنّه {لا مجال هاهنا} في مورد الدوران {لقاعدة قبح العقاب بلا بيان} إذ القاعدة إنّما تجري في ما لا بيان له، وليس ما نحن فيه

ص: 330

فإنّه لا قصور فيه هاهنا، وإنّما يكون عدم تنجّز التكليف لعدم التمكّن من الموافقة القطعيّة كمخالفتها، والموافقةُ الاحتماليّة حاصلة لا محالة، كما لا يخفى.

ثمّ

___________________________________________

من ذلك، بل قد بيّن أحد الحكمين، كما أنّه في مورد دوران الأمر بين طرفي العلم الإجمالي قد بيّن الحكم فقد يكون متعلّق الحكم الواحد مردّداً بين اثنين وقد يكون الشّيء الواحد مردّداً بين حكمين وفي كليهما قد بيّن في الجملة {فإنّه لا قصور فيه} أي: في البيان {هاهنا، وإنّما يكون عدم تنجّز التكليف لعدم التمكّن من الموافقة القطعيّة} وعدم التمكّن غير عدم البيان، ولذا نرى وجود البيان في ما لو دار الأمر بين وجوب هذا وحرمة ذاك، فإنّ العقل يرى ذلك بياناً وموجباً لإتيان محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة، وأيّ فرق بين تردّد الحكم بين الواجب والحرام مع وحدة الموضوع المردّد فيه أو مع تعدّد الموضوع؟

والحاصل: أنّ العجز من طرف المكلّف حيث لا يتمكّن من الموافقة القطعيّة {كمخالفتها} أي: كما لا يتمكّن من المخالفة القطعيّة، وليس العجز من قبل الحكم {والموافقة الاحتماليّة حاصلة لا محالة} سواء كان فاعلاً أو تاركاً، وعلى هذا فلا مجال للتمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لكن ربّما يقال: إنّه لو لم تجر قاعدة القبح لما ذكر كان اللّازم عدم جريان البراءة الشّرعيّة أيضاً؛ لأنّ الملاك فيهما واحد، فكيف حكم المصنّف بالإباحة شرعاً لشمول «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام»(1)

لهذا المورد؟ {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{ثمّ} إنّ دوران الأمر بين المحذورين له صور أربع:الأوّل: أن يكون كلاهما توصليّاً، كما لو دار أمر التبغ بين وجوب الشّرب وحرمته.

ص: 331


1- الكافي 5: 13، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341؛ وقد مرّ غير مرّة أنّ متن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

إنّ مورد هذه الوجوه

___________________________________________

الثّاني: أن يكون كلاهما تعبديّاً، ويتصوّر ذلك في بعض محرّمات الإحرام وتروك الصّوم، كما لو تردّد الذبح بين كونه شاة فيجب ذبحها قربة إلى اللّه - تعالى - والغزال فيحرم ذبحها قربة إلى اللّه - تعالى - لو صحّ المثال.

الثّالث: أن يكون أحدهما المعيّن تعبّديّاً، كما لو دار أمر الشّوط المشكوك بين كونه السّابع فيجب تعبّداً والثامن فيحرم مطلقاً.

الرّابع: أن يكون أحدهما المردّد تعبّديّاً، كما لو نذر أن يعطي زيداً ديناراً وأن يحرم عمراً عن الدينار؛ لأنّه فاسق، وكان قصد القربة في أحدهما، ثمّ تردّد أمر رجل خاصّ بين كونه زيداً أو عمراً فلم يعلم أنّ إعطاءه واجب أو حرام، كما لم يعلم أنّ أيّهما يجب اقترانه بقصد القربة.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الدوران بين المحذورين إنّما هو في ما لو كانا توصليّين أو كان أحدهما غير المعيّن تعبّديّاً، إذ حينئذٍ يكون كلّ من الفعل والترك محتمل الحرمة ومحتمل الوجوب، فإنّه لو أتى بشرب التتن احتمل الوجوب كما احتمل الحرمة ولو ترك كان كذلك، وهكذا لو أعطى هذا المردّد ديناراً سواء قصد القربة أم لا أم لم يعطه سواء قصد القربة أم لا احتمل كلّاً من الوجوب والحرمة، أمّا في صورتي الثّانية والثّالثة فليس من دوران الأمر بين المحذورين، فإنّه لو ذبح المردّد بدون قصد القربة أو ترك الذبح بدون قصد القربة كان مخالفاً للتكليف قطعاً، إذ الواجب كان تعبّديّاً والحرام كان تعبّديّاً ولم يأت بأحدهما في كلتا الصّورتين، وهكذا لو أتى بالشوط المردّد بدون قصد القربة فإنّه خالف قطعاً، إذ لو كان هو السّابع احتاج إلى قصد القربة ولم يقصد ولو كان الثامن حرم مطلقاً.

وبهذا كلّه تبيّن {أنّ مورد هذه الوجوه} الأربعة المحتملة في مورد دوران الأمر

ص: 332

وإن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبّديّاً؛ إذ لو كانا تعبّديّين، أو كان أحدهما المعيّن كذلك، لم يكن إشكالٌ في عدم جواز طرحهما والرّجوع إلى الإباحة؛ لأنّها مخالفة عمليّة قطعيّة - على ما أفاد شيخنا الأُستاذ+(1) - ، إلّا أنّ الحكم أيضاً فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلاً بين إتيانه على وجه قربيّ - بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه - وتركه كذلك؛ لعدم، الترجيح وقبحه بلا مرجّح.

___________________________________________

بين المحذورين - كما سبق في أوّل الفصل - {وإن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبّديّاً} بأن كانا توصّليّين كالصورة الأُولى، أو كان أحدهما المردّد تعبّديّاً كما في الصّورة الرّابعة - إذ في هاتين الصّورتين يمكن فرض دوران الأمر بين المحذورين - كما تقدّم {إذ لو كانا تعبّديّين} كالصورة الثّانية {أو كان أحدهما المعيّن كذلك} أي: تعبّديّاً كالصورة الثّالثة {لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما} أي: طرح الحكمين المردّد بينهما من الوجوب والحرمة {والرّجوع إلى الإباحة} كما اختير {لأنّها مخالفة عمليّة قطعيّة} وهو خارج عن موضوع البحث {- على ما أفاد شيخنا الأُستاذ} المرتضى {+ -} في الرّسائل {إلّا أنّ الحكم أيضاً فيهما} أي: في هاتين الصّورتين كالصورتين الأُخريين {إذا كانا كذلك} دائراً الأمر فيهما بين الوجوب والحرمة {هو التخيير عقلاً بين إتيانه على وجه قربي} كأن يذبح المردّد بين الشّاة والغزال قربة إلى اللّه - تعالى - {بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه و} بين {تركه كذلك} أي: على وجه قربي بأن يترك ذبح المردّد قربة إلى اللّه - تعالى - {لعدم الترجيح} لأحدهما على الآخر {وقبحه} أي: الترجيح {بلا مرجّح} وهكذا حال ما لو كان أحدهما المعيّن قربيّاً، كأن يطوف قربة إلى اللّه أو يترك مطلقاً.

والحاصل: أنّ الدوران بين الفعل والترك آتٍ في الصّور الأربعة، وإنّما الفرق

ص: 333


1- فرائد الأصول 2: 179.

فانقدح: أنّه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليّين بالنسبة إلى ما هوالمهمّ في المقام، وإن اختصّ بعض الوجوه بهما، كما لا يخفى.

ولا يذهب عليك: أنّ استقلال العقل بالتخيير إنّما هو في ما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين. ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه، كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام.

___________________________________________

أنّ الصّورة الأُولى والرّابعة لا يمكن المخالفة القطعيّة فيهما والصّورة الثّانية والثّالثة يمكن المخالفة القطعيّة فيهما، والوجوه الأربعة المذكورة في أوّل الفصل جارية في صورتين فقط، كما سبق.

{فانقدح} بما ذكرنا من كون التخيير في جميع الصّور الأربع {أنّه لا وجه ل-} ما وصفه الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل من {تخصيص المورد بالتوصليّين بالنسبة إلى ما هو المهمّ في المقام} من دوران الأمر بين المحذورين {وإن اختصّ بعض الوجوه} أي: الدوران {بهما} أي: بالتوصليّين {كما لا يخفى} بأدنى ملاحظة.

{ولا يذهب عليك أنّ استقلال العقل بالتخيير} في الصّور الأربع {إنّما هو في ما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين} وإنّما قيّد بأحدهما على التعيين لإخراج احتمال الترجيح في أحدهما غير المعيّن، إذ ذاك غير مفيد إطلاقاً.

{ومع احتماله} أي: احتمال الترجيح في أحدهما المعيّن - كما لو احتمل ترجيح طرف الفعل من غلبة أو قيام شاهد واحد أو أمثالهما - {لا يبعد دعوى استقلاله} أي: العقل {بتعيينه} أي: تعيين ذاك الرّاجح {كما هو الحال} من تقديم الرّاجح {في} مسألة {دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام} كما لو دار أمر المجتهدين بين أن يكون زيد أعلم وبين أن يكون هو وعمرو متساويين، فإنّه يلزم تقليد زيد؛ لأنّه مبرئ للذمّة قطعاً، بخلاف عمرو؛ لأنّه محتمل عدم كفايته، كما قرّروا في باب التقليد.

ص: 334

ولكن الترجيح إنّما يكون لشدّة الطّلب في أحدهما، وزيادته على الطّلب في الآخر بما لا يجوز الإخلال بها في صورة المزاحمة، ووجب الترجيح بها. وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزيّة في صورة الدوران.

___________________________________________

{ولكن} لا يخفى أنّ {الترجيح إنّما يكون} إذا استفيد من القرائن المفيدة {ل-} -لترجيح {شدّة الطّلب في أحدهما} أي: واحد من الواجب والحرام المحتملين {وزيادته} أي: زيادة الطّلب {على الطّلب في الآخر} كما لو كان طلب الواجب أهمّ في نظر المولى من طلب ترك الحرام.

فمثلاً: قد غرق في الماء أحد شخصين لا نعلم به تفصيلاً كابن المولى الحبيب الّذي يستعدّ أن يبذل جميع ما لديه لأجله أو عدوّه الضّعيف الّذي لا أهميّة لعداوته عنده، فإنّ دوران الأمر بينهما يوجب أن يقدّم الواجب وينقذ الحبيب؛ لأنّ الواجب أهمّ بنظر المولى من الحرام.

وبالعكس لو دار الأمر بين كون الغريق عبده الّذي لا أهميّة له إطلاقاً، إذ يكثر عنده العبيد والأموال الّتي تمكّنه من اشتراء العبد بها، وبين كونه ألدّ أعدائه الّذي يغصّ بالطعام والشّراب خوفاً منه ويترقّب كلّ حين وآخَرَ كيده ومكره، فإنّ دوران الأمر بينهما يوجب أن يقدّم الحرام ولا ينقذ الغريق؛ لأنّ الحرام أهمّ بنظره من الواجب {بما لا يجوز الإخلال بها} أي: بشدّة الطّلب وأهميّته {في صورة المزاحمة} بأن لم يكن المتعلّق شيئاً واحداً، بل كان اثنين وتزاحما - أي: دار الأمر بين هذا الواجب وهذا الحرام - بأن كان لا بدّ من فوتهما حتّى يكون الواجب هو المقدّم وتركهما حتّى يكون الحرام هو المقدّم، كما لو دار الأمر بين أن يصلّي ويترك إنقاذ الغريق أو يترك الصّلاة وينقذ الغريق {ووجب} عطف على قوله: «بما لا يجوز» {الترجيح بها} أي: بشدّة الطّلب {وكذا} عطف على قوله: «لا يجوز» {وجب ترجيح احتمال ذي المزيّة في صورة الدوران} بين التخيير والتعيين.

ص: 335

ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقاً، لأجل أنّ دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة؛ ضرورةَ أنّه رُبّ واجب يكون مقدّماً على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام، فكيف يقدّم على احتمالِهِ احتمالُهُ في صورة الدوران بين مثليهما؟ فافهم.

___________________________________________

والحاصل: أنّ شدّة الطّلب إذا بلغت حدّاً موجباً للترجيح على تقدير التزاحم وللتعيين على تقدير دوران الأمر بين التعيين والتخيير كانت هذه الشّدّة موجبة لتقديم ذلك الاحتمال لدى الجهل بالحكم ودورانه بين الوجوب والحرمة، وإلّا كان الحكم التخيير بينهما ولا يكفي للترجيح مجرّد أهميّة ما لم يعلم كونها شديدة {ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقاً} ولو لم يكن الطّلب المتعلّق بها - على تقدير الحرمة - أشدّ من الطّلب المتعلّق بالوجوب - على تقدير الوجوب - وربّما احتمل تقدّم الحرمة مطلقاً {لأجل أنّ دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة} إذ في الحرام مفسدة وفي الواجب مصلحة ومهما دار الأمر بينهما قدّم دفع المفسدة، إذ المفسدة نقص والمنفعة شيء زائد والعقلاء لا يجعلون للنقص إلى أنفسهم سبيلا، أمّا المنفعة فلا يلزم جلبها في نظرهم، لكن هذا الاحتمال غير تامّ، إذ يفترق الأمر في المصالح والمفاسد، فلو كانت المفسدة خسارة دينار للمكس(1)

والمنفعة ألف دينار حاصل من التجارة لرأوا تقدّم جلب المنفعة، وهكذا في الأحكام الشّرعيّة ل- {ضرورة أنّه ربّ واجب يكون مقدّماً على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام} كما لو غرق شخص وانحصر إنقاذه بالاستعانة بحبل مغصوب أو المرور من أرض مغصوبة، فإنّه لا شكّ في تقدّم الواجب على الحرام {فكيف يقدّم على احتماله} أي: على احتمال الواجب {احتماله} أي: احتمال الحرام {في صورة الدوران بين مثليهما} أي: الوجوب والتحريم، فما يكون مقدّماً في صورة التزاحم يكون مقدّماً في صورة الدوران {فافهم} لعلّه إشارة

ص: 336


1- الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار، لسان العرب 6: 221.

فصل: لو شكّ في المكلّف به

___________________________________________

إلى ما ذكرنا سابقاً من عدم وجه للفرق بين قاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث حكم بعدم جريانها وبين البراءة الشّرعيّة حيث حكم بشمولها للمقام، فراجع.

إلى هنا كان الكلام في الشّكّ في أصل التكليف، فلنعطف الكلام إلى الشّكّ في المكلّف به مع العلم بأصل التكليف.

[فصل في الاشتغال]

اشارة

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، الاشتغال

{فصل} في الشّكّ في المكلّف به وهو متعلّق التكليف، وهو على قسمين: إذ قد يكون الشّكّ في المكلّف به دائراً بين المتباينين، كما لو علم بوجوب صلاة في يوم الجمعة ولم يدر أنّها الجمعة أو الظّهر؟ أو علم بحرمة وطي أحد المرأتين لكونها أُختها من الرّضاعة، وقد يكون دائراً بين الأقلّ والأكثر، وهذا ينقسم إلى قسمين:

لأنّ الأقلّ والأكثر قد يكونان ارتباطيّين، كما لو شكّ في أنّ السّورة من أجزاء الصّلاة أم لا، فيكون الشّكّ في أنّ أجزاء الصّلاة تسعة أو عشرة مثلاً.

وقد يكونان غير ارتباطيّين، كما لو شكّ في أنّ دينه عشرة دنانير أو تسعة، لكن هذا القسم من الأقلّ والأكثر حيث يؤول أمره إلى الشّكّ في أصل التكليف - إذ الفرض أنّه لا يعلم أنّه مديون بدينار آخر فوق تلك الدنانير التسعة أم لا - فهو ليس مربوطاً بمحلّ الكلام، وعلى هذا يقع الكلام هنا في مبحثين:

الأوّل: دوران أمر المكلّف به بين المتباينين.

الثّاني: دورانه بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

إذا عرفت ذلك فنقول: {لو شكّ في المكلّف به} وهو متعلّق التكليف مع العلم بأصل التكليف - بأن علم بتوجّه التكليف إليه ولم يعلم أنّ متعلّقه هذا أو ذاك -

ص: 337

مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم: فتارة لتردّده بين المتباينين، وأُخرى بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين

لا يخفى: أنّ التكليف المعلوم بينهما مطلقاً - ولو كانا فعلَ أمر وترك آخر - إن كان فعليّاً من جميع الجهات -

___________________________________________

{مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم، فتارة} يكون الشّكّ {لتردّده} أي: تردّدالمكلّف به {بين المتباينين} وهما ما ليس أحدهما داخلاً في الآخر {وأُخرى} يكون الشّكّ لتردّده {بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين} كما مثّل لهما سابقاً {فيقع الكلام في مقامين}:

[المقام الأوّل في دوران الأمر بين المتباينين]
اشارة

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، الاشتغال، الدوران بين المتباينين

{المقام الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين} فنقول: {لا يخفى أنّ التكليف المعلوم بينهما} أي: بين الأمرين المتباينين {مطلقاً} أي: سواء كان فعل أحدهما كصلاة الظّهر والجمعة، أو كان ترك أحدهما كوطي هذه أو تلك، بل {ولو كانا فعل أمر وترك آخر} كأن علم بتوجّه تكليف إلزاميّ إليه لكنّه لا يعلم هل هو وجوب هذا أو حرمة ذاك، كما لو تردّد الأمر بين آخر رمضان وأوّل شوّال، فعلم أنّه توجّه إليه أمر إلزاميّ إمّا بوجوب الدعاء ليلاً أو حرمة الإفطار نهاراً مثلاً، فإنّ هذا ممّا جعله الشّيخ من الشّكّ في التكليف وجعله المصنّف من الشّكّ في المكلّف به، فإنّه بملاحظة عدم العلم بنوع التكليف - من إيجاب أو تحريم - يكون شكّاً في أصل التكليف، وبملاحظة العلم بجنس التكليف الّذي هو الإلزام يكون شكّاً في المكلّف به.

وعلى كلّ حال، فالتكليف المعلوم {إن كان فعليّاً من جميع الجهات} إذ الفعليّة لها مرتبتان:

ص: 338

بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعلي، مع ما هو عليه من الإجمال والتردّد والاحتمال - فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته، وحينئذٍ لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرّفع أو الوضع أو السّعة أو الإباحة ممّا يعمّ أطراف العلم

___________________________________________

الأُولى: ما لم يصل التكليف إلى مرتبة الإرادة والكراهة، حتّى أنّ المكلّف لو علم الحكم لم يجب عليه الإتيان به.

الثّانية: ما وصل إلى هذه المرتبة بحيث لم يكن حال انتظار إلّا علم المكلّف بحيث لو علم به لتنجّز عليه، والمراد من الفعليّة من جميع الجهات هذه المرتبة، ولذا قال: {بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث} في الإيجاب {أو الزجر} في التحريم {الفعلي مع ما هو عليه من الإجمال والتردّد والاحتمال} في المكلّف به {فلا محيص} حين كان التكليف فعليّاً من جميع الجهات {عن تنجّزه} بسبب العلم {وصحّة العقوبة على مخالفته}.

{و} حيث قد عرفت سابقاً أنّ التكليف الفعلي يضادّ الترخيص ولو كان التكليف مظنوناً أو موهوماً - لأنّه يوجب الظّنّ أو الوهم باجتماع الضّدّين - ف- {حينئذٍ} أي: حين كان التكليف فعليّاً معلوماً بالإجمال {لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرّفع} نحو «رفع ما لا يعلمون»(1)

{أو الوضع} نحو «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(2)

{أو السّعة} نحو «النّاس في سعة ما لا يعلمون»(3) {أو الإباحة} نحو «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف»(4) {ممّا يعمّ أطراف العلم}

ص: 339


1- الخصال 2: 417.
2- التوحيد: 413.
3- غوالي اللئالي 1: 424؛ مستدرك الوسائل 18: 20، مع اختلاف يسير.
4- الكافي 5: 13، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341، وقد مرّ أصل المتن غير مرّة.

مخصّصاً عقلاً؛ لأجل مناقضتها معه.

وإن لم يكن فعليّاً كذلك - ولو كان بحيث لو علم تفصيلاً لَوَجَب امتثاله وصحّ العقاب على مخالفته - لم يكن هناك مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشّرعيّة للأطراف.

___________________________________________

الإجمالي؛ لأنّ كلّ طرف ممّا لا يعلم كون التكليف متعلّقاً به {مخصّصاً} بالفتح {عقلاً} والمخصّص هو العلم الإجمالي {لأجل مناقضتها} أي: مناقضة تلك الأدلّة على البراءة {معه} أي: مع التكليف الفعلي المردّد. نعم، لو قطعنا بعدم التكليف - كما في الشّبهات البدويّة بعد الفحص - جرت أدلّة البراءة.

إن قلت: نحتمل التكليف في الشّبهات البدويّة فكيف تجري البراءة، وذلك يستلزم احتمال المناقضة؛ لأنّكم ذكرتم أنّ احتمال التكليفلا يجامع البراءة؛ لأنّه من احتمال الجمع بين الضّدّين - واحتماله كالقطع به مستحيل - .

قلت: لا يحتمل التكليف الفعلي في الشّبهات البدويّة بعد الفحص واليأس {وإن لم يكن} التكليف المعلوم فيهما {فعليّاً كذلك} أي: من جميع الجهات، بأن لم يكن فعليّاً بالمرتبة الثّانية وإن كان فعليّاً بالمرتبة الأُولى {- ولو كان بحيث لو علم تفصيلاً لوجب امتثاله وصحّ العقاب على مخالفته -} إذ لا يبقى مع العلم التفصيلي مرتبة الحكم الظّاهري محفوظة، فإنّ الحكم الظّاهري في مرتبة الجهل بالواقع والعلم التفصيلي لا يبقى مجالاً للجهل، وذلك بخلاف أطراف العلم الإجمالي الّتي يكون مرتبة الحكم الظّاهري في كلّ طرف طرف منها محفوظة {لم يكن هناك مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشّرعيّة للأطراف}.

أمّا عقلاً فلأنّ العلم الإجمالي ليس علّة تامّة للتنجّز حتّى يكون كالعلم التفصيلي في مانعيّته لجريان قبح العقاب بلا بيان وما أشبهه.

وأمّا شرعاً فلأنّ الحجب وعدم العلم وما أشبهه - الّتي هي أسباب البراءة -

ص: 340

ومن هنا انقدح: أنّه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي، إلّا أنّه لا مجال للحكم الظّاهري مع التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعليّاً من سائر الجهات لا محالة يصير فعليّاً معه من جميع الجهات، وله مجال مع الإجمالي، فيمكن أن لا يصير فعليّاً معه؛ لإمكان جعل الظّاهري في أطرافه، وإن كان فعليّاً من غير هذه الجهة، فافهم.

ثم

___________________________________________

موجودة في المقام؛ لأنّ كلّ طرف طرف ممّا لا يعلم وممّا هو محجوب.

لكن الإنصاف عدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي من هذه النّاحية، وأنّ كلّ محذور يذكر في العلم التفصيلي موجود هاهنا.

{ومن هنا انقدح أنّه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي} مطلقاً {إلّا أنّه لا مجال للحكم الظّاهري مع} العلم {التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعليّاً مع سائر الجهات لا محالة يصير} ذلك الحكم الواقعي {فعليّاً معه} أي: مع العلم التفصيلي {من جميع الجهات} حتّى لا يبقى للحكم الظّاهري مجال {وله مجال مع} العلم {الإجمالي، فيمكن أن لا يصير} الحكم الواقعي في المرتبة الأُولى {فعليّاً معه} أي: مع العلم الإجمالي، إذ المفروض وجود الجهل في كلّ طرف الّذي هو مناط الحكم الظّاهري {لإمكان جعل} الحكم {الظّاهري في أطرافه} أي: أطراف العلم الإجمالي {وإن كان} الحكم الواقعي {فعليّاً من غير هذه الجهة} أي: من سائر الجهات، بحيث لو علم تفصيلاً لتنجّز، وإنّما ليس فعليّاً من جهة أنّه لا يضادّ الحكم الواقعي {فافهم} لعلّه إشارة إلى ما تقدّم من عدم الفرق عقلاً وشرعاً بين العلمين في عدم صحّة جعل الترخيص المضادّ لها.

{ثمّ} إنّك قد عرفت أنّ المناط في جواز جعل الترخيص على خلاف العلم وعدم جوازه يناط بفعليّة الحكم الواقعي وعدم فعليّتها - أي: إرادة المولى للواقع

ص: 341

إنّ الظّاهر: أنّه لو فرض أنّ المعلوم بالإجمال كان فعليّاً من جميع الجهات، لوجب عقلاً موافقته مطلقاً، ولو كانت أطرافه غيرَ محصورة.

وإنّما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو: أنّ عدم الحصر ربّما يلازم ما يمنع عن فعليّة المعلوم مع كونه فعليّاً - لولاه - من سائر الجهات.

وبالجملة: لا يكاد يرى العقل تفاوتاً بين المحصورة وغيرها في التنجّز وعدمِه،

___________________________________________

وكراهته لضدّه وعدمهما - ولذا كلّما وجدت الفعليّة بهذا المعنى لم يكن مجال لجعل الترخيص، وكلّما لم توجد الفعليّة بهذا المعنى كان مجال لجعل الترخيص.

ومنه تبيّن أن ليس المناط كون الأطراف محصورة فلا يجوز في أطرافه أو غير محصورة فيجوز الترخيص فيها، إذ لو فرضنا كون الأطراف غير محصورة وكانت إرادة فعليّة كيف يمكن جعل خلاف الواقع، وهل ذاك إلّا مناقضة للإرادة الفعليّة، فما يظهر من الشّيخ(رحمة الله) وغيره من جعل المناط المحصورة فلا يجوز، وغير المحصورة فيجوز، ليس في محلّه.اللّهمّ إلّا أن يريدوا أنّ غير المحصورة تلازم عدم الفعليّة لعدم الإرادة والكراهة في غير المحصورة، ف- {إنّ الظّاهر أنّه لو فرض أنّ المعلوم بالإجمال كان فعليّاً من جميع الجهات} حتّى الإرادة والكراهة {لوجب عقلاً موافقته مطلقاً} بالاجتناب عن جميع أطرافه {ولو كانت أطرافه غير محصورة} كيف ما فسّرنا غير المحصورة {وإنّما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو أنّ عدم الحصر} في عدد قليل {ربّما يلازم ما يمنع عن فعليّة المعلوم} بالإجمال {مع كونه فعليّاً لولاه} أي: لولا ما يمنع {من سائر الجهات} متعلّق بقوله: «فعليّاً».

{وبالجملة لا يكاد يرى العقل تفاوتاً بين المحصورة وغيرها في التنجّز وعدمه} فإن كان في المحصورة العلم الإجمالي منجّزاً كان في غير المحصورة كذلك

ص: 342

في ما كان المعلوم إجمالاً فعليّاً، يبعثُ المولى نحوه فعلاً أو يزجر عنه كذلك، مع ما هو عليه من كثرة أطرافه.

والحاصل: أنّ اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتاً في ناحية العلم. ولو أوجب تفاوتاً فإنّما هو في ناحية المعلوم، في فعليّة البعث أو الزجر مع الحصر، وعدمها مع عدمه،

___________________________________________

{في ما كان المعلوم إجمالاً فعليّاً يبعث المولى نحوه فعلاً} بأن يريده {أو يزجر عنه كذلك} أي: فعلاً بأن يكرهه {مع ما هو عليه من كثرة أطرافه} فإنّه لا يمكن أن يريد المولى شيئاً، ثمّ يجعل ما يضادّه - بأن يريد الاجتناب عن الميتة - ثمّ يجوّز في ارتكاب الأطراف الّتي تكون الميتة بينها.

{والحاصل: أنّ اختلاف الأطراف} للمعلوم بالإجمال {في الحصر} في عدد قليل {وعدمه} أي: عدم الحصر في عدد قليل {لا يوجب تفاوتاً في ناحية العلم} بأن ينجز العلم في أحدهما فيجب الاجتناب عن جميع أطرافه، ولا ينجز في أحدهما فلا يجب الاجتناب، كما هو المستفاد من كلام الشّيخ والمنسوب إلى جماعة آخرين {ولو أوجب} اختلاف الأطراف بالحصر وعدمه {تفاوتاً فإنّما هو في ناحية المعلوم} أي: إنّ العلم الّذي كشف عن الواقع - الّذي هو معلوم - لا يوجب التفاوت، وإنّما الواقع المكشوف بالعلم يوجب التفاوت، فإن كان الواقع فعليّاً - بأن أراده المولى أو كرهه - كان ذلك سبباً للاحتياط في الأطراف كلّها ولو كانت غير محصورة، وإن لم يكن الواقع فعليّاً لم يجب الاحتياط في الأطراف ولو كانت محصورة، فالاختلاف لم يحدث من ناحية الأطراف قلّة وكثرة، وإنّما حدث من ناحية الواقع {في فعليّة البعث أو الزجر مع الحصر} فلو كانت الأطراف محصورة كان الواقع فعليّاً فيجب الاحتياط فيها {وعدمها} أي: عدم الفعليّة للواقع {مع عدمه} أي: عدم الحصر فلو كانت الأطراف غير محصورة كان الواقع

ص: 343

فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف - قلّة وكثرة - في التنجيز وعدمه، ما لم يختلف المعلوم في الفعليّة وعدمها بذلك، وقد عرفت آنفاً: أنّه لا تفاوت بين التفصيلي والإجمالي في ذلك، ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضاً، فتأمّل تعرف.

وقد انقدح: أنّه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعيّة مع حرمة مخالفتها؛

___________________________________________

غير فعليّ {فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف - قلّة وكثرة - في التنجيز} للواقع {وعدمه} أي: عدم التنجيز {ما لم يختلف} الواقع {المعلوم في الفعليّة} بإرادة المولى إيّاه فعلاً {وعدمها} أي: عدم الفعليّة بعدم إرادة المولى له فعلاً {بذلك} أي: بسبب القلّة والكثرة، فإن أوجب كثره الأطراف عدم إرادة المولى لم يجب الاحتياط وإلّا وجب وإن كانت الأطراف كثيرة جدّاً.

{وقد عرفت آنفاً أنّه لا تفاوت بين} العلم {التفصيلي والإجمالي في ذلك} أي: في تنجيز الواقع، فكلاهما ينجزان الواقع {ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم} الّذي هو الواقع {أيضاً، فتأمّل تعرف}.

ثمّ إنّه هل يجوز في الشّبهة غير المحصورة ارتكاب جميع الأطراف أم لا يجوز ذلك، بل يجب عدم ارتكاب مقدار الحرام منها؟ مثلاً: لواشتبه الحرام الواحد في ألف فهل يجوز ارتكاب الجميع أم يجوز ارتكاب غير الواحد؟ الشّيخ(رحمة الله) على الثّاني(1)،

فإنّه وإن جوّز المخالفة الاجتماعيّة لكن لا يجوز المخالفة القطعيّة، والمصنّف(رحمة الله) على الأوّل واستدلّ لذلك بأنّ المفروض أنّ الواقع ليس فعليّاً وإذا لم يكن فعليّاً جاز ارتكاب الجميع.

{وقد انقدح} ممّا تقدّم من عدم كون الواقع فعليّاً في أطراف الشّبهة غير المحصورة {أنّه لا وجه لاحتمال} ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) من {عدم وجوب الموافقة القطعيّة} فلا يجب الاجتناب عن جميع الأطراف لكنّه {مع حرمة مخالفتها} أي:

ص: 344


1- فرائد الأصول 2: 204.

ضرورة أنّ التكليف المعلوم إجمالاً لو كان فعليّاً لوجب موافقته قطعاً، وإلّا لم يحرم مخالفته كذلك أيضاً.

ومنه ظهر: أنّه لو لم يعلم فعليّة التكليف مع العلم به إجمالاً - إمّا من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه،

___________________________________________

المخالفة القطعيّة فلا يجوز ارتكاب جميع الأطراف، وإنّما قال الشّيخ ذلك لأنّه يرى أنّ العلم مقتضٍ لا علّة تامّة، فيجوز مخالفة البعض دون الكلّ لكنّه غير تامّ، ل- {ضرورة أنّ التكليف المعلوم إجمالاً} في أطراف غير المحصورة {لو كان فعليّاً} بأن تعلّق به الإرادة والكراهة {لوجب موافقته قطعاً} حتّى لا يجوز ارتكاب أحد الأطراف فضلاً عن أكثرها {وإلّا} يكن التكليف فعليّاً {لم يحرم مخالفته} أي: مخالفة ذلك التكليف المعلوم بالإجمال {كذلك} أي: قطعاً {أيضاً} كما لا يجب موافقته القطعيّة لا تحرم مخالفته القطعيّة.

ثمّ إنّه يظهر من الشّيخ وجماعة آخرين أنّه يشترط في وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي: أن لا يكون الأطراف غير محصورة، وأن لا يكون بعضها خارجاً عن محلّ الابتلاء، وأن لا يكون بعضها مضطرّاً إليه، وأن لا يكون تدريجيّاً. لكن المصنّف(رحمة الله) على أنّ جامع هذه الشّرائط عدم فعليّة التكليف، فإن كان التكليف فعليّاً لم يفد شيء من ذلك على ما تقدّم منه، فإنّه يرى دوران الأمر مدار الفعلية فقط، ولذا قال: {ومنه} أي: ممّا تقدّم من كون التنجّز دائراً مدار فعليّة الواقع وعدمها {ظهر أنّه لو لم يعلم فعليّة التكليف مع العلم به} أي: بالتكليف {إجمالاً} لم تجب الموافقة وجازت المخالفة لعدم الإرادة الفعليّة للواقع.

ثمّ إنّ عدم الفعليّة {إمّا من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه} كما لو علم الشّخص بأنّ أحد الإنائين نجس، لكن كان أحدهما خارجاً عن ابتلائه إطلاقاً

ص: 345

أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معيّناً أو مردّداً، أو من جهة تعلّقه بموضوع يقطع بتحقّقه إجمالاً في هذا الشّهر، كأيّام حيض المستحاضة مثلاً -

___________________________________________

كما لو كان أحدهما عنده والآخر في بلاد نائية لا يرتبط به ولا يصل إليه {أو من جهة الاضطرار إلى بعضها} كما لو علم بنجاسة أحد إنائين لكنّه مضطرّ إلى شرب أحدهما - سواء كان المضطرّ إليه - {معيّناً} كما لو اضطرّ إلى شرب هذا الإناء الأبيض {أو مردّداً} كما لو اضطرّ إلى أن يشرب الأبيض أو الأصفر من غير فرق بينهما {أو من جهة تعلّقه} أي: التكليف المعلوم بالإجمال {بموضوع يقطع بتحقّقه إجمالاً في هذا الشّهر} من غير علم بزمان تحقّقه، كما لو علم أنّه يبتلى بمعاملة ربويّة في ضمن معاملاته الكثيرة التدريجيّة في هذا الشّهر، أو علم بحرمة مقاربة زوجته في الجملة {كأيّام حيض المستحاضة} ممّا لا يعلم أنّه في أوّل الشّهر أو وسطه أو آخره {مثلاً} ولم يكن هناك دليل على طرف منها، فإنّ الجماعة علّلوا عدم وجوب الموافقة في هذه الموارد بأنّ التكليف في مورد عدم الابتلاء غير معلوم، إذ لا يعلم المكلّف بخطاب متوجّه إليه لاحتماله كون النّجس في ذلك الطّرف الخارج عن محلّ ابتلائه، وفي مورد الاضطرار حيث يضطرّ المكلّف إلى أحدهما وليس النّجس معيّناً، كأن يجوز له شرب ذلك فلا يعلم بتوجّه التكليف إليه.

نعم، لو كان الاضطرار بعد العلم لم يجز ارتكاب كليهما، إذ قد تنجّز التكليف فيجوز الارتكاب بعد الاضطرار، فيكون حاله حال ما لاتنجّز ويكون كلاهما محلّ ابتلائه ثمّ خرج أحدهما عن الابتلاء - على تفصيل قرّر في محلّه - وفي مورد التدريجيّة، بأنّه من أقسام الخروج عن محلّ الابتلاء؛ لأنّه لو كان الحرام سابقاً فقد مضى وفات، ولو كان لاحقاً فلما يأت ولا يتوجّه التكليف إلى المستقبل - فعلاً - والآن لا يعلم بحرمة هذا الفرد الّذي هو محلّ ابتلائه.

ص: 346

لما وجب موافقته، بل جاز مخالفته.

وأنّه لو علم فعليّته - ولو كان بين أطراف تدريجيّة - لكان منجّزاً ووجب موافقته؛ فإنّ التدرّج لا يمنع عن الفعليّة؛ ضرورة أنّه كما يصحّ التكليف بأمر حاليّ، كذلك يصحّ بأمر استقباليّ، كالحجّ في الموسم للمستطيع، فافهم.

تنبيهات

الأوّل:

___________________________________________

لكنّك قد عرفت المعيار العام على رأي المصنّف(رحمة الله) وأنّه لو لم يعلم فعليّة التكليف {لما وجب موافقته، بل جاز مخالفته} لعدم الإرادة الفعليّة {وأنّه لو علم فعليّته ولو كان بين أطراف تدريجيّة} كمثالي الرّبا والحيض {لكان} الواقع {منجّزاً ووجب موافقته} بالاجتناب عن جميع أطراف العلم {فإنّ التدرّج} بما هو تدرّج لا يوجب الخروج عن محلّ الابتلاء و{لا يمنع عن الفعليّة} للتكليف الواقعي {ضرورة أنّه كما يصحّ التكليف بأمر حاليّ كذلك يصحّ بأمر استقباليّ كالحجّ في الموسم للمستطيع} الّذي يجب عليه السّفر من قبل الموسم، وكما لو تردّد الصّوم المنذور بين أن يكون هذا اليوم أو يوم غد، فإنّه يجب أن يصوم كلا اليومين تحصيلاً للبراءة اليقينيّة {فافهم} وتأمّل، فإنّه يترتّب على اختلاف المبنيين فوائد جمّة، وإن كان الظّاهر أنّ قول الشّيخ والجماعة هو الأقرب إلى الأدلّة.

[تنبيهات]

{تنبيهات} مرتبطة بالعلم الإجمالي والبراءة.

{الأوّل} في الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجمالي، كما لو علم إجمالاً أنّ أحد الإنائين نجس لكنّه اضطرّ إلى أحدهما، فهل هذا الاضطرار موجب لعدم تنجيز العلم الإجمالي مطلقاً أم لا؟

وصور المسألة أربع: لأنّ الاضطرار قد يكون إلى أحدهما المعيّن، كما لو

ص: 347

أنّ الاضطرار كما يكون مانعاً عن العلم بفعليّة التكليف لو كان إلى واحد معيّن، كذلك يكون مانعاً لو كان إلى غير معيّن؛ ضرورة أنّه

___________________________________________

اضطرّ إلى الإناء الأبيض أو الأصفر في ما لو اشتبه النّجس بين الإناء الأبيض والأصفر، وقد يكون إلى أحدهما غير المعيّن، كما لو اضطرّ إلى أحدهما بدون فرق بين الإنائين، وعلى كلّ تقدير إمّا أن يكون الاضطرار لاحقاً على العلم الإجمالي، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحدهما ثمّ اضطرّ، وإمّا أن يكون غير لاحق بل سابقاً أو مقارناً، كما لو اضطرّ إلى أحدهما ثمّ علم بالنجاسة أو تقارن الأمران.

ثمّ إنّ الشّيخ والمصنّف اختلفا في أنّه لو اضطرّ إلى أحدهما فهل يكون الاضطرار مطلقاً سبباً لعدم تنجيز العلم فيجوز ارتكاب الطّرفين كما هو مذهب المصنّف(رحمة الله)، أم يختلف الاضطرار فإن كان إلى أحدهما غير المعيّن لم ينجز العلم ويجب الاجتناب عن غير المضطر إليه كما هو مذهب الشّيخ(رحمة الله)؟

إذا عرفت ذلك قلنا: {إنّ الاضطرار كما يكون مانعاً عن العلم بفعليّة التكليف لو كان إلى واحد معيّن} من طرفي العلم الإجمالي - كما لو كان مضطرّاً إلى شرب الإناء الأبيض مثلاً - {كذلك يكون} الاضطرار {مانعاً} عن العلم بفعليّة التكليف {لو كان إلى غير معيّن} كما لو اضطرّ إلى شرب أحد الإنائين الأبيض أو الأصفر: أمّا في صورة الاضطرار إلى المعيّن؛ فلأنّ من المحتمل أن يكون التكليف بالاجتناب بالنسبة إلى ذلك المعيّن، بأن كان النّجس في الإناء الأبيض مثلاً، فلا علم بالتكليف أصلاً، وأمّا في صورة الاضطرار إلى غير المعيّن فلأنّ الاضطرار مانع من فعليّة التكليف، ولذا يقيّد التكليف بالاجتناب بغير ما يختاره من الإنائين، فيكون ما يختاره أوّلاً حلالا ويبقى غيره مشكوك الحرمة لعدم العلم بانطباق النّجس عليه، والأصل يقتضي البراءة بالنسبة إليه، ل- {ضرورة أنّه} أي:

ص: 348

مطلقاً موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه، تعييناً أو تخييراً، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلاً.

وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقاً على حدوث العلم

___________________________________________

الاضطرار {مطلقاً} سواء كان إلى المعيّن أو غير المعيّن {موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف} في الشّبهة التحريميّة {أو تركه} أي: ترك أحد الأطراف في الشّبهة الوجوبيّة {تعييناً} إذا كان الاضطرار إلى معيّن، فيجوز فعله - في الشّبهة التحريميّة - ويجوز تركه - في الشّبهة الوجوبيّة - {أو تخييراً} في ما إذا كان الاضطرار إلى غير المعيّن {وهو} أي: تجويز الارتكاب أو تجويز الترك {ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها} أي: بين الأطراف {فعلاً} إذ جواز ارتكاب المعيّن يوجب عدم العلم بحرمة الطّرف الآخر، وجواز ارتكاب غير المعيّن يسبّب عدم العلم بحرمة الطّرف الباقي، لاحتمال انطباق النّجس على المعيّن في الأوّل وعلى المختار منهما في الثّاني، وإذا شكّ في انطباق الواقع على الباقي يكون من الشّبهة البدويّة الّتي تجري فيها الأصل.

لكن الشّيخ(رحمة الله) كما سبق أوجب الاحتياط باجتناب الطّرف الآخر في صورة الاضطرار إلى غير المعيّن، واستدلّ لذلك بما لفظه: «ولو كان المضطرّ إليه بعضاً غير معيّن، وجب الاجتناب عن الباقي - وإن كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي - لأنّ العلم حاصل بحرمة واحدة من الأُمور، ولو علم حرمته تفصيلاً وجب الاجتناب عنه، وترخيص بعضها على البدل يوجب اكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي»(1)،

الخ.

{وكذلك لا فرق} في عدم وجوب الاحتياط {بين أن يكون الاضطرار كذلك} أي: إلى أحد الأطراف {سابقاً على حدوث العلم} بأن اضطرّ إلى أحدهما ثمّ علم

ص: 349


1- فرائد الأصول 2: 245.

أو لاحقاً؛ وذلك لأنّ التكليف المعلوم بينها من أوّل الأمر كان محدوداً بعدم عروض الاضطرار إلى متعلّقه، فلو عرض على بعض أطرافه لمّا كان التكليف به معلوماً؛ لاحتمال أن يكون هو المضطرّ إليه في ما كان الاضطرار إلى المعيّن، أو يكون هو المختار في ما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين.

___________________________________________

بأنّ أحدهما نجس {أو لاحقاً} بأن علم بنجاسة أحدهما ثمّ اضطرّ {وذلك لأنّ التكليف المعلوم بينها} أي: بين الأطراف {من أوّل الأمر كان محدوداً بعدم عروض الاضطرار إلى متعلّقه} فإنّ التكاليف الواقعيّة محدودة بمثل الاضطرار والعسر والحرج وما أشبه، فكأنّ الشّارع قال: اجتنب عن النّجس إلّا إذا اضطررت إليه، فالاجتناب كان محدّداً بالاضطرار، وذلك لا يفرق فيه بين أن يأتي التحديد - أي: يحصل الاضطرار - بعد العلم أو قبله {فلو عرض} الاضطرار {على بعض أطرافه} سواء كان قبل العلم أو بعده {لمّا كان التكليف به} أي: بالواقع {معلوماً} عند المكلّف {لاحتمال أن يكون} الواقع {هو المضطرّ إليه في ما كان الاضطرار إلى المعيّن، أو يكون} الواقع {هو المختار} أي: الّذي يختاره المكلّف {في ما كان} الاضطرار {إلى بعض الأطراف بلا تعيين} وإذا لم يعلم التكليف كان مقتضى البراءة عدم التكليف، فيجوز ارتكاب الطّرف الآخر.

لكن المصنّف أضرب عمّا في المتن في تعليقه على قوله: «لأنّ التكليف» بقوله: «لا يخفى أنّ ذلك إنّما يتمّ في ما كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، وأمّا لو كان إلى أحدهما المعيّن، فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجّز، لعدم منعه عن العلم بفعليّة التكليف المعلوم إجمالاً، المردّد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطّرف أو المطلق في الطّرف الآخر، ضرورة عدم ما يوجب عدم فعليّة مثل هذا المعلوم أصلاً، وعروض الاضطرار إنّما يمنع عن فعليّة التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه، لا عن فعليّة المعلوم بالإجمال

ص: 350

لا يقال: الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلّا كفقد بعضها، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان، كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار، فيجب الاجتناب عن الباقي أوارتكابه؛ خروجاً عن عهدة ما تنجّز عليه قبل عروضه.

فإنّه يقال:

___________________________________________

المردّد بين التكليف المحدود في طرف المعروض، والمطلق في الآخر بعد العروض، وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فإنّه يمنع عن فعليّة التكليف في البين مطلقاً، فافهم وتأمّل»(1)،

انتهى.

لكن فيه: أنّ التكليف المحدود يقتضي عدم وجود تكليف بعد الحدّ، والكلام الآن في ما بعد الحدّ فلا يعلم التكليف حينئذٍ، ولذا يجوز ارتكاب الطّرف لجريان البراءة، ولعلّ أمره بالتأمّل والفهم لذلك.

{لا يقال}: ما ذكرتم من أنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف موجب لحليّة الجميع غير تامّ، إذ {الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلّا كفقد بعضها} كما لو علم بنجاسة أحد الإنائين ثمّ أريق أحدهما {فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان} لبعض الأطراف {كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعايته} أي: الاحتياط {مع الاضطرار} إلى بعض الأطراف، فيكون الاضطرار إلى البعض كفقدان البعض في أنّ كلّا منهما لا يوجب رفع الاحتياط في الطّرف الآخر الباقي وغير المضطرّ إليه {فيجب الاجتناب عن الباقي} في الشّبهة التحريميّة {أو ارتكابه} في الشّبهة الوجوبيّة {خروجاً عن عهدة ما} أي: التكليف الّذي {تنجّز عليه قبل عروضه} أي: عروض الاضطرار.

{فإنّه يقال}: فرق بين الاضطرار وبين فقدان أحد الأطراف، فإنّ تكليف

ص: 351


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 189.

حيث إنّ فقد المكلّف به ليس من حدود التكليف به وقيوده، كان التكليفُ المتعلّق به مطلقاً، فإذا اشتغلت الذمّة به كان قضيّة الاشتغال به يقيناً الفراغ عنه كذلك. وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه؛ فإنّه من حدود التكليف به وقيوده،

___________________________________________

(اجتنب عن الحرام) مقيّد في أحدهما وليس مقيّداً في الآخر، إذ المولى يقول: (اجتنب عن الحرام إذا لم تضطرّ إليه) ولا يقول: (اجتنب عن الحرام مادام باقياً) إذ بقاء الموضوع ليس من قيود التكليف، وعلى هذا في مورد الاضطرار يكون التكليف مقيّداً، فإذا انتفى القيد ارتفع التكليف بخلاف مورد الفقدان، فإنّ التكليف مطلق وقد علم به المكلّف ولا يعلم بالبراءة بفقدان بعض الأطراف، فالتكليف اليقيني يحتاج إلى البراءة اليقينيّة.

وإن شئت قلت: إنّ بعد الاضطرار يكون الشّكّ في ثبوت التكليف فالقاعدة تقتضي البراءة، ولكن بعد فقدان أحد الأطراف يكون الشّكّ في سقوط التكليف، فالقاعدة تقتضي الاشتغال، ف- {حيث إنّ فقد المكلّف به} أي: الموضوع الّذي تعلّق به التكليف ولو احتمالاً - كالإناء الّذي هو طرف للعلم الإجمالي - {ليس من حدود التكليف به} أي: بذلك الموضوع {وقيوده} إذ لم يقل المولى: (اجتنب عن الحرام مادام موجوداً) {كان التكليف المتعلّق به} أي: بذلك الموجود {مطلقاً} فقد قال المولى: (اجتنب عن الحرام)، وبفقد أحد الإنائين لا أعلم سقوط هذا التكليف، {فإذا اشتغلت الذمّة به} للعلم الإجمالي {كان قضيّة} أي: مقتضى {الاشتغال به يقيناً الفراغ عنه كذلك} أي: يقيناً، ولا يفرغ عنه يقيناً إلّا بالاجتناب عن الطّرف الباقي.

{وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه، فإنّه من حدود التكليف به} أي: بذلك الموضوع {وقيوده} فإنّ الشّارع قال: «إلّا ما اضطررتم» فقد قيّد التكليف بعدم الاضطرار، فإذا اضطرّ إلى أحد الأطراف لا يبقى تكليف معلوم لاحتمال انطباق

ص: 352

ولا يكون الاشتغال به من الأوّل إلّا مقيّداً بعدم عروضه، فلا يقين باشتغال الذمّة بالتكليف به إلّا إلى هذا الحدّ، فلا يجب رعايته في ما بعده، ولا يكون إلّا من باب الاحتياط في الشّبهة البدويّة، فافهم وتأمّل فإنّه دقيق جدّاً.

الثّاني: أنّه لمّا كان النّهي عن الشّيء إنّما هو لأجل أن يصير داعياً للمكلّف نحو تركه، لو لم يكن له داع آخر

___________________________________________

التكليف بهذا المضطرّ إليه {ولا يكون الاشتغال به من الأوّل} وقبل حصول الاضطرار {إلّا مقيّداً بعدم عروضه} أي: عروض الاضطرار {فلا يقين باشتغال الذمّة بالتكليف به إلّا إلى هذا الحدّ} أي: حدّ الاضطرار {فلا يجب رعايته} أي: رعاية ذلك التكليف المحدود بالاضطرار {في ما بعده} أي: بعد الحدّ {ولا يكون إلّا من باب الاحتياط في الشّبهة البدويّة} الّتي لا يجب الاحتياط فيها {فافهم وتأمّل فإنّه دقيق جدّاً} وبالتأمّل حقيق.

{الثّاني} من التنبيهات في بيان عدم تأثير العلم الإجمالي في وجوب الاحتياط إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء، كما لو علم بنجاسة إنائه أو إناء رجل في أفريقيا ممّا ليس بمحلّ ابتلائه إطلاقاً، فإنّ هذا العلم الإجمالي لا يوجب الاجتناب عن إنائه الموجود عنده، وذلك لأنّ النّجس لو كان في ذلك الإناء النّائي لم يتوجّه منه تكليف إليه وهو يشكّ في كونه في إنائه، فالأصل يقتضي البراءة، ف- {إنّه لمّا كان النّهي عن الشّيء إنّما هو لأجل أن يصير داعياً للمكلّف نحو تركه} أي: يكون له داعويّة فعليّة، كما في الكفّار والعصاة من ليس للنهي داعوية فعليّة بالنسبة إليهم.

وتخصيص المصنّف النّهي بالذكر إنّما هو من باب المثال وإلّا فالأمر أيضاً كذلك، كما لا يخفى، وتظهر النّتيجة في العلم الإجمالي بأمر متعلّق بأحد موضوعين أحدهما خارج عن محلّ ابتلائه {لو لم يكن له} أي: للمكلّف {داعٍ آخر}

ص: 353

- ولا يكاد يكون ذلك إلّا في ما يمكن عادة ابتلاؤه به، وأمّا ما لا ابتلاء به بحسبها، فليس للنهي عنه موقع أصلاً؛ ضرورة أنّه بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل - كان الابتلاء بجميع الأطراف ممّا لا بدّ منه في تأثير العلم، فإنّه بدونه لا علم بتكليف فعليّ؛ لاحتمال تعلّق الخطاب بما لا ابتلاء به.

___________________________________________

غير النّهي، أمّا لو كان له داع آخر إلى ترك الشّيء، كما أنّ للإنسان الداعي إلى ترك أكل القاذورة النّتنة، فإنّ النّهي يكون مؤكّداً للداعي وموجباً لإمكان قصد القربة في الترك ممّا يوجب الثواب ومانعاً عن احتمال إرادة الفعل الّتي لولا النّهي لكان من الممكن احتمال انقداحها في النّفس {ولا يكاد يكون ذلك} أي: كون النّهي داعياً إلى الترك {إلّا في ما يمكن عادة ابتلاؤه} أي: المكلّف {به} أي: بالنهي عنه، فإنّ في مثل ذلك يصحّ النّهي ويكون داعياً إلى الترك ولو لم يكن فعلاً لديه، كما لو كان الإناء النّجس في دار صديقه الّذي يذهب إليه، فإنّه يكون النّهي داعياً لابتلائه عادة بتلك الإناء.

{وأمّا ما لا ابتلاء به بحسبها} أي: بحسب العادة - كما لو كان الإناء النّجس في أفريقيا مثلاً، ممّا لا يذهب إليه أصلاً - {فليس للنهي عنه موقع أصلاً} فلا يصحّ أن يقول المولى الحكيم: (اجتنب عن ذلك الإناء) {ضرورة أنّه بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل} إذ الترك حاصل بنفسه فلا يكون طلبه تأسيساً ولا تأكيداً، فيمتنع ذلك على المولى الحكيم {كان الابتلاء} هذا جواب لقوله: «لمّا كان النّهي» أي: حيث كان النّهي إنّما يصحّ في ما يكون داعياً كان الابتلاء {بجميع الأطراف} في باب العلم الإجمالي {ممّا لا بدّ منه في تأثير العلم} وإيجابه الاحتياط {فإنّه بدونه} أي: بدون الابتلاء بجميع الأطراف - بأن كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء - {لا علم بتكليف فعليّ لاحتمال تعلّق الخطاب بما لا ابتلاء به} لاحتمال كون النّجس هناك.

ص: 354

ومنه انقدح: أنّ الملاك في الابتلاء المصحّح لفعليّة الزجر، وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلاً، هو ما إذا صحّ انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد، مع اطّلاعه على ما هو عليه من الحال.

ولو شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة؛ لعدم القطع بالاشتغال،

___________________________________________

وقوله: «تعلّق الخطاب» مسامحة، إذ لا خطاب أصلاً، فلو كان النّجس هناك لا خطاب وهنا لا علم لي بوجود النّجس فالأصل البراءة، ومن المعلوم لزوم كون الخارج عن محلّ الابتلاء بقدر المعلوم بالإجمال أو أكثر، أمّا لو كان أقلّ كان العلم منجّزاً، فلو علمنا بوجود نجسين في هذه الأواني الخمسة الّتي كان الخارج منها اثنين أو ثلاث لم ينجّز العلم، أمّا لو كان الخارج منها واحداً كان العلم منجّزاً للعلم بوجود نجس في هذه الأربعة الّتي هي محلّ الابتلاء.{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من لزوم كونه محلّاً للابتلاء حتّى يسبّب الداعي لقبح الخطاب بما لا ابتلاء به {انقدح أنّ الملاك في الابتلاء المصحّح لفعليّة الزجر} والنّهي {و} ل- {انقداح طلب تركه في نفس المولى فعلاً} حتّى ينهى عنه {هو ما إذا صحّ انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد} يعني أنّه لولا النّهي لأمكن أن يفعله العبد حتّى يكون النّهي داعياً لتركه أو مؤكّداً للداعي {مع اطّلاعه على ما هو عليه من الحال} فالميزان لكونه محلّ الابتلاء صحّة إرادة المكلّف لإتيانه وعدم الصّحّة، فإن صحّ كان محلّاً للابتلاء وإن لم يصحّ لم يكن محلّاً للابتلاء.

{ولو شكّ في ذلك} وأنّه هل يكون محلّاً للابتلاء أم لا - كما لو كان الإناء في دار جاره وشككنا في أنّه هل ينقدح إرادة الاستعمال في نفس هذا الشّخص بالنسبة إلى ذلك الإناء أم لا - فإن صحّ كان العلم الإجمالي المردّد بين إنائه وإناء جاره منجّزاً للتكليف، فيجب الاجتناب عن إنائه، وإن لم يصحّ لم يكن العلم منجّزاً فيجوز ارتكاب إنائه {كان المرجع هو البراءة لعدم القطع بالاشتغال} لأنّه

ص: 355

لا إطلاقُ الخطاب؛ ضرورةَ أنّه لا مجال للتشبّث به إلّا في ما إذا شكّ في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه، لا في ما شكّ في اعتباره في صحّته،

___________________________________________

تكليف جديد لا يعلم به، فلو وقعت قطرة نجسة في أحد الإنائين لم يجب الاجتناب عن إناء نفسه وجاز استعماله، و{لا} يكون المرجع في باب الشّكّ في الابتلاء {إطلاق الخطاب} أي: خطاب (اجتنب عن النّجس) مثلاً، حتّى يجب الاجتناب عن هذا الإناء، خلافاً لمن توهّم ذلك قائلاً: إنّ الخطاب متعلّق على نحو الإطلاق أو التقييد، فالمولى يقول: (اجتنب عن هذا الإناء) أو يقول: (اجتنب عن هذا الإناء إن صار محلّ الابتلاء) وإذ نشكّ في هذا القيد يكون الأصل عدمه.

لكن فيه أنّه إنّما يصحّ الرّجوع إلى الإطلاق - في ما شكّ في الإطلاق والتقييد - إذا علمنا بصحّة الخطاب المطلق وشككنا في التقييد، أمّا إذا شككنا في أصل صحّة الخطاب المطلق كالمقام الّذي نشكّ في أصل صحّة الخطاب المطلق - لاحتمال كونه خارجاً عن محلّ الابتلاء فلا يصحّ إطلاق (اجتنب عن النّجس) - فلا مجال لأصالة الإطلاق وأصالة عدم التقييد. {ضرورة أنّه لا مجال للتشبّث به} أي: بالإطلاق - بمقدّمات الحكمة - {إلّا في ما إذا شكّ في التقييد بشيء} أي: تقييد التكليف بشيء {بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه} أي: بدون ذلك الشّيء المشكوك - كما لو أمر المولى بإعتاق رقبة ثمّ شككنا في أنّه مطلق أو مقيّد بكونها مؤمنة - فإنّه يجوز التمسّك بمقدّمات الحكمة لإثبات الإطلاق، إذ الشّكّ في التقييد بالمؤمنة بعد الفراغ عن صحّة إطلاق الرّقبة بدونها {لا في ما شكّ في اعتباره} أي: شكّ في القيد الّذي اعتبر {في صحّته} أي: صحّة الإطلاق، فلا يمكن التشبّث بالإطلاق، إذا كان الشّكّ في قيد لا يصحّ الإطلاق بدونه كما في ما نحن فيه، فإنّ الابتلاء قيد لا يصحّ الإطلاق بدونه، فإنّه إذا كان إناء الجار خارجاً عن محلّ الابتلاء لا يصحّ أن يطلق المولى قوله: (اجتنب عن إناء زيد)

ص: 356

تأمّل لعلّك تعرف إن شاء اللّه - تعالى - .

الثّالث: أنّه قد عرفت: أنّه مع فعليّة التكليف المعلوم لا تفاوت بين أن يكون أطرافه محصورة وأن تكون غير محصورة.

نعم، ربّما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبةً لعسر موافقته القطعيّة باجتناب كلّها، أو ارتكابه،

___________________________________________

وإنّما يصحّ أن يقول: (اجتنب عنه إن ابتليت به) {تأمّل لعلّك تعرف، إن شاء اللّه - تعالى -}.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) على هنا ما لفظه: «نعم، لو كان الإطلاق في مقام يقتضي بيان التقييد بالابتلاء - لو لم يكن هناك ابتلاء مصحّح للتكليف - كان الإطلاق وعدم بيان التقييد دالّاً على فعليّته، ووجود الابتلاء المصحّح لها، كما لا يخفى، فافهم»(1).{الثّالث} من التنبيهات في أنّ كون أطراف الشّبهة غير محصورة لا يوجب رفع التكليف المعلوم بالإجمال، وإنّما سبب دفع التكليف هو كون الاحتياط ضرراً أو حرجاً أو ما أشبه {أنّه قد عرفت أنّه مع فعليّة التكليف المعلوم} بالإجمال، كما لو أراد الشّارع الاجتناب عن النّجس المتردّد بين ألف إناء مثلاً {لا تفاوت بين أن يكون أطرافه} أي: أطراف المعلوم {محصورة} في عدد قليل - كمائة مثلاً - {وأن تكون غير محصورة} في عدد قليل - كمائة ألف مثلاً - فيجب الاجتناب عن الكلّ في الشّبهة التحريميّة والإتيان في الشّبهة الوجوبيّة.

{نعم، ربّما يكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعيّة باجتناب كلّها} في الشّبهة التحريميّة {أو ارتكابه} في الشّبهة الوجوبيّة، كما لو تردّدت الأرض المغصوبة في شوارع يستطرقها المكلّف، فإنّه لو أراد اجتنابها لزم عليه أن

ص: 357


1- حقائق الأصول 2: 305؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 211.

أو ضررٍ فيها، أو غيرهما ممّا لا يكون معه التكليف فعليّاً، بعثاً أو زجراً فعلاً، وليس بموجبة لذلك في غيره. كما أنّ نفسها ربّما تكون موجبة لذلك، ولو كانت قليلة في مورد آخر.

فلا بدّ من ملاحظة ذاك

___________________________________________

يمشي كلّ يوم فراسخ لنيل حاجاته ممّا يوجب عليه عسراً وحرجاً، أو تردّد ثوبه الطّاهر الّذي يجوز الصّلاة فيه بين خمسين ثوب، ممّا يوجب حرجاً عليه لو أراد الاحتياط بإتيان خمسين صلاة {أو ضرر فيها} كما لو تردّدت شاة مغصوبة بين مائة شاة له، حتّى أنّ الاجتناب عنها ضرر ماليّ على المكلّف {أو غيرهما} أي: غير العسر والضّرر كما لو كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء {ممّا لا يكون معه التكليف فعليّاً} إذ كلّ واحد من الضّرر والحرج والخروج عن محلّ الابتلاء يسبّب عدم فعليّة التكليف {بعثاً أو زجراً فعلاً} بأن يأمر به أو ينهى عنه {وليس بموجبة لذلك في غيره} عطف على قوله: «موجبة» أي: لا يكون كثرة الأطراف بموجبة للعسر في غير ذلك المورد، مثلاً لو اشتبهت حبّة من الحنطة النّجسة في ألف حبّة لا يوجب الاجتناب عن الألف عسراً {كما أنّ نفسها} أي: الموافقة القطعيّة {ربّما تكون موجبة لذلك} العسر.

{ولو كانت} الأطراف {قليلة في مورد آخر} كما لو كانت المخابز في البلد خمسين وعلمنا بنجاسة أحدها فإنّ الاجتناب عن الجميع مقدّمة للموافقة القطعيّة موجب للعسر.

وبهذا تبيّن أن ليس للعسر الّذي هو مناط لسقوط التكليف ميزان خاصّ، فقد تكون الأطراف كثيرة ولا يوجب الاجتناب عسراً، وقد تكون الأطراف قليلة ويوجب الاجتناب عسراً، فليس المناط هو المحصورة وغير المحصورة، وإنّما المناط العسر والضّرر والخروج عن محلّ الابتلاء، كما تقدّم {فلا بدّ من ملاحظة ذاك}

ص: 358

الموجب لرفع فعليّة التكليف المعلوم بالإجمال أنّه يكون، أو لا يكون في هذا المورد، أو يكون مع كثرة أطرافه، وملاحظة أنّه مع أيّة مرتبة من كثرتها، كما لا يخفى.

ولو شكّ في عروض الموجب،

___________________________________________

الشّيء - كالعسر والضّرر والخروج عن الابتلاء - {الموجب لرفع فعليّة التكليف المعلوم بالإجمال} و{أنّه} هل {يكون أو لا يكون في هذا المورد} الخاصّ مثلاً؟ فإن كان ارتفع التكليف ولو كانت الأطراف محصورة، وإن لم يكن لم يرتفع التكليف وإن كانت الأطراف غير محصورة، {أو يكون} الرّافع للتكليف - كالعسر - {مع كثرة أطرافه} دون قلّتها {وملاحظة أنّه} أي: الرّافع للتكليف {مع أيّة مرتبة من كثرتها} فمثلاً: إنّ تردّد الماء المطلق بين ألف مضاف يقيناً موجب للعسر الموجب لرفع التكليف بالوضوء، وتردّد بين ثلاثة يقيناً غير موجب للعسر الرّافع للتكليف، وبين الثلاثة والألف لا بدّ وأن يلاحظ هل يوجد عسر في هذه المرتبة أو تلك أم لا يوجد؟ {كما لا يخفى}.

ومنه تحقّق أنّ عنوان غير المحصورة ليس عنواناً مستقلّاً رافعاً للتكليف، وإنّما العنوان هو ما جعله الشّارع من العسر ونحوه، فالأمر دائر مدار ذلك لا هذا. لكن ربّما يقال: إنّه عنوان مستقلّ لما يفهم من قول الإمام(علیه السلام): «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة يحرم مافي الأرض»(1)،

ممّا يدلّ على عدم تحريم غير المحصور.

{ولو شكّ في عروض الموجب} لرفع التكليف، كما لو كان أطراف العلم كثيرة لكنّا شككنا في أنّ الكثرة وصلت إلى حدّ العسر أم لا، أو علمنا أنّ الكثرة وصلت إلى حدّ العسر لكنّا شككنا في أنّ مثل هذا العسر رافع للتكليف أم لا - لوضوح

ص: 359


1- المحاسن 2: 496؛ وسائل الشيعة 25: 119، ولفظه هكذا: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟»

فالمتّبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان، وإلّا فالبراءة لأجل الشّكّ في التكليف الفعلي. هذا هو حقّ القول في المقام.

وما قيل في ضبط المحصورة وغيره لا يخلو من الجزاف.

الرّابع: أنّه إنّما يجب عقلاً رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف،

___________________________________________

أنّ كلّ عسر لا يوجب رفع التكليف - {فالمتّبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان} إطلاق في المقام - فنقول: قوله: {إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ}(1) مطلق ولا يعلم وجود عسر في المقام رافع لهذا التكليف، فالمرجع الإطلاق.

لكن هذا في ما لم يكن هناك أصل حاكم، كما لو كان قبل ساعة التكليف عسراً قطعاً - لبرودة الهواء - ثمّ شككنا في بقاء العسر وعدمه لتغيّر في الجملة في الهواء مثلاً {وإلّا} يكن هناك إطلاق يرجع إليه في مورد الشّكّ لكون الدليل على المسألة الإجماع، والإجماع دليل لُبّيّ لا إطلاق له، أو كان الدليل لفظيّاً لكنّه كان مجملاً لا إطلاق له {ف-} المرجع {البراءة} عن التكليف {لأجل الشّكّ في التكليف الفعلي} الموجب لشمول أدلّة البراءة العقليّة والفعليّة للمقام.

نعم، إن كانت الشّبهة مصداقيّة لم يصحّ التمسّك بالإطلاق، لما تقرّر في الجزء الأوّل من أنّه لا يتمسّك بالإطلاق في الشّبهات المصداقيّة.

{هذا هو حقّ القول في المقام} بنظر المصنّف(رحمة الله) {و} سائر {ما قيل في ضبط المحصورة وغيره لا يخلو من الجزاف} وللكلام تفصيل لا يسعه الشّرح، فراجع.

{الرّابع} من التنبيهات في عدم لزوم الاجتناب عن ملاقي الشّبهة المحصورة، كما لو اشتبه النّجس بين إنائين ثمّ لاقى شيء أحدهما لم يجب الاجتناب عن ذلك الملاقي، وإن وجب الاجتناب عن الملاقي وطرفه {أنّه إنّما يجب عقلاً رعاية الاحتياط} باجتناب الأطراف أو ارتكابها {في خصوص الأطراف} الأوّليّة،

ص: 360


1- سورة المائدة، الآية: 6.

ممّا يتوقّف على اجتنابه أو ارتكابه حصولُ العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين دون غيرها، وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوماً بحكمه واقعاً.

ومنه ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شيء مع أحد أطراف النّجس المعلوم بالإجمال، وأنّه:

___________________________________________

كالإنائين اللّذين اشتبه النّجس بينهما {ممّا يتوقّف على اجتنابه} في الشّبهة التحريميّة {أو ارتكابه} في الشّبهة الوجوبيّة {حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين} أي: في بين المشتبهين أو المشتبهات، فإنّه يتوقّف العلم بالاجتناب عن البول الواقع في أحدهما على اجتناب الإنائين، كما يتوقّف العلم بإتيان الصّلاة في ثوب طاهر على الإتيان بصلاتين، في ما لو اشتبه الطّاهر بالنجس في ثوبين {دون غيرها} أي: غير الأطراف، فإنّه لا يجب الاجتناب عن ذلك الغير {وإن كان} ذلك الغير {حاله حال بعضها} أي: بعض الأطراف {في كونه} أي: ذلك الغير {محكوماً بحكمه} أي: حكم بعض الأطراف {واقعاً} فإنّه إذا لاقى اليد الإناء الأحمر في ما لو اشتبه النّجس بينه وبين الإناء الأصغر، كانت اليد محكومة بحكم الإناء الأحمر واقعاً، فإن كان نجساً كانت نجسة وإن كان طاهراً كانت طاهرة، لكنّه لا يجب الاجتناب عن اليد وإن وجب الاجتناب عن الإنائين. لكنّه إنّما يكون في ما لو لم يكن بعض أحدهما مع الملاقي، كما لو صبّ بعض الماء من أحد الإنائين في إناء ثالث، فإنّه يجب الاجتناب عن هذا الإناء أيضاً؛ لأنّه بعضه فحكمه حكمه.

ومنه يظهر أنّه لو لاقت اليد الإناء وأخذت معها بعض الماء وجب الاجتناب عن هذه القطرات المتصلة باليد، إذ حالها حال الماء في الإناءالواجب الاجتناب عنه.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من عدم كون حال الملاقي حال المشتبهين {ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شيء} كاليد في المثال {مع أحد أطراف النّجس المعلوم بالإجمال وأنّه} على ثلاثة أقسام:

ص: 361

تارةً: يجبُ الاجتنابُ عن الملاقى دون ملاقيه، في ما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالاً بالنجس بينها؛

___________________________________________

الأوّل: أن يجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر دون الملاقي - بالكسر - كاليد.

الثّاني: أن يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - كاليد دون الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر.

الثّالث: أن يجب الاجتناب عنهما معاً.

وحاصل الوجه في هذا التفصيل: أنّه لو علم المكلّف بنجاسة أحد الإنائين ثمّ لاقى اليد أحدهما، كان الاحتياط يقتضي بوجوب الاجتناب عنهما، أمّا الملاقي - بالكسر - فتجري فيه أصل البراءة بدون المعارض، وهذا هو القسم الأوّل.

ولو علم المكلّف بنجاسة اليد والإناء الأصفر ثمّ علم بأنّ نجاسة اليد - لو كانت نجسة - مستندة إلى ملاقاتها للإناء الأحمر الّذي هو طرف النّجس الواقعي، كان مقتضى العلم الاجتناب عن اليد والإناء الأصفر دون الإناء الأحمر؛ لأنّه تنجّز العلم في اليد والإناء الأصفر، أمّا الإناء الأحمر فيجري فيه أصل البراءة بدون معارض لتنجّز العلم الإجمالي قبله، وهذا هو القسم الثّاني.

ولو علم المكلّف بنجاسة اليد والإناء الأحمر أو الإناء الأصفر - دفعة واحدة - وجب الاجتناب عن الجميع؛ لأنّ العلم تعلّق بالجميع مرّة واحدة فصار الكلّ أطرافاً للعلم.

والكلام حول ذلك يحتاج إلى بسط خارج عن وضع الشّرح، فلنقتصر على شرح المتن فنقول: إنّه {تارة يجب الاجتناب عن الملاقى} - بالفتح - كالإناء الأحمر في المثال {دون ملاقيه} كاليد في المثال {في ما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالاً بالنجس بينها} أي: بين الأطراف، كما لو علم بأنّ أحد الإنائين نجس ثمّ

ص: 362

فإنّه إذا اجتنب عنه وطرفِه اجتنبَ عن النّجس في البين قطعاً ولو لم يجتنب عمّا يلاقيه؛ فإنّه على تقدير نجاسته لنجاسته كان فرداً آخر من النّجس، قد شكّ في وجوده، كشيء آخر شكّ في نجاسته بسبب آخر.

ومنه ظهر: أنّه لا مجال لتوهّم أنّ قضيّة تنجّز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضاً؛

___________________________________________

لاقت يده أحدهما {فإنّه إذا اجتنب عنه} أي: الملاقى - بالفتح - {وطرفه} كالإناء الأصفر في المثال {اجتنب عن النّجس في البين قطعاً ولو لم يجتنب عمّا يلاقيه} بأن استعمل مع يده استعمال الطّاهر، وإنّما لم يلزم الاجتناب عن اليد الملاقية {فإنّه على تقدير نجاسته} أي: نجاسة الملاقي - بالكسر - كاليد {لنجاسته} أي: لنجاسة الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر {كان} الملاقي - بالكسر - {فرداً آخر من النّجس قد شكّ في وجوده} لأنّه لا يعلم أنّ يده قد تنجّست لاحتماله عدم نجاسة الملاقى - بالفتح - الّذي هو الإناء الأحمر، و{قد شكّ في وجوده} أي: وجود هذا النّجس الحادث {كشيء آخر شكّ في نجاسته بسبب آخر} كما لو شكّ في أنّ أرض الغرفة هل تنجّست بسبب بول الهرّة أم لا، فكما يجري أصل البراءة هناك يجري أصل البراءة في المقام.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من أنّ اليد الملاقية فرد جديد لم يعلم بنجاسته {ظهر أنّه لا مجال لتوهّم} وجوب الاجتناب عن اليد ل- {أنّ قضيّة تنجّز الاجتناب عن المعلوم} بالإجمال {هو الاجتناب عنه} أي: عن الملاقي - بالكسر - {أيضاً} كما يجب الاجتناب عن الإنائين، فإنّ العلم الإجمالي قد توسّعت دائرته، إذ بعد الملاقاة يعلم المكلّف بأنّه إمّا الإناء الأصفر نجس وإمّا اليد والإناء الأحمر نجسان، ويكون حاله حال ما لو علم بوجوب إعطاء زيد أو إعطاء عمرو وخالد بأن كان أحد طرفي العلم الإجمالي ذا طرفين، فإنّ العلم منجّز للجميع.

ص: 363

ضرورة أنّ العلم به إنّما يوجبُ تنجّزَ الاجتناب عنه، لا تنجّز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه، وإن احتمل.

وأُخرى: يجب الاجتناب عمّا لاقاه دونه، في ما لو علم إجمالاً بنجاسته أو نجاسة شيء آخر، ثمّ حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذاك الشّيء أيضاً؛

___________________________________________

لكن هذا التوهّم غير تامّ {ضرورة أنّ العلم به} أي: بالنجس في أحد الإنائين {إنّما يوجب تنجّز الاجتناب عنه} أي: عمّا هو طرف للعلم، وهو كلّ واحد من الإنائين {لا تنجّز الاجتناب عن فرد آخر} وهو الملاقي - بالكسر - كاليد حيث {لم يعلم حدوثه} أي: حدوث التكليف حول هذا الفرد الجديد {وإن احتمل} لاحتمال كون ذلك الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر نجساً، فيكون ملاقيه كاليد نجساً.

وهذا ردّ لما يحكى عن ابن زهرة القائل بوجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - لأنّ الاجتناب عنه من شؤون الاجتناب عن النّجس، فالخروج عن عهدة هذا النّهي الاجتناب عن ملاقيه لاحتمال انطباق النّجس المنهي عنه عليه وعلى ملاقاه.

وحاصل جواب المصنّف: أنّ الملاقي - بالكسر - فرد جديد لا يرتبط بالتكليف الأوّلي المعلوم، وهذا التكليف الزائد مشكوك فيه، فالأصل البراءة عنه.

هذا كلّه في ما وجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - دون الملاقي - بالكسر {وأُخرى يجب الاجتناب عمّا لاقاه} أي: الملاقي - بالكسر - كاليد في المثال {دونه} أي: دون الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر في المثال، فيجب الاجتناب عن الإناء الأصفر واليد دون الأحمر، وذلك {في ما لو علم إجمالاً نجاسته أو نجاسة شيء آخر} بأن علم أوّلاً أنّ اليد أو الأصفر نجس {ثمّ حدث العلم بالملاقاة} أي: بملاقاة الي-د للأحمر {و} ح-دث {العلم بنجاس--ة الملاق-ى} - بالفتح - أي: الأحمر {أو ذاك الشّيء} الّذي هو الإناء الأصفر {أيضاً}.

ص: 364

فإنّ حال الملاقى في هذه الصّورة بعينها حال ما لاقاه في الصّورة السّابقة، في عدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي،

___________________________________________

وعلّق المصنّف هنا بقوله: «وإن لم يكن احتمال نجاسة ما لاقاه - كاليد في المثال - إلّا من قبل ملاقاته»(1)،

انتهى.

فمثلاً: يعلم أوّلاً بأنّ اليد أو الأصفر نجس ثمّ يعلم بأنّ الأحمر أو الأصفر نجس، ويعلم بأنّ مستند نجاسة اليد المحتملة هو ملاقاته للأحمر لا أنّه نجس بنجاسة خارجيّة.

وإنّما قلنا بعدم نجاسة الأحمر مع أنّه هو طرف العلم الإجمالي واقعاً، إذ تبيّن بعد ذلك أنّ النّجس الكائن إنّما هو بين الإنائين، لما أشار إليه بقوله: {فإنّ حال الملاقى} - بالفتح - الّذي هو الإناء الأحمر {في هذه الصّورة} أي: صورة سبق علم بنجاسة اليد أو الأصفر {بعينها حال ما لاقاه} أي: الملاقي - بالكسر - الّذي هو اليد {في الصّورة السّابقة} وهي صورة ما لو علم بنجاسة الأحمر أو الأصفر ثمّ لاقى اليد الأحمر، فكما قلنا هناك بعدم لزوم الاجتناب عن اليد، كذلك نقول هنا بعدم لزوم الاجتناب عن الأحمر {في عدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي} فإنّ طرفي العلم الإجمالي هما اليد والإناء الأصفر.

إن قلت: نعلم إجمالاً بنجاسة الأحمر أو الأصفر، وهذا أمر وجداني.

قلت: هذا العلم حادث بعد العلم الإجمالي الأوّل الّذي كان يقتضي الاجتناب عن اليد والأصفر، وقد تقرّر في موضعه أنّ العلم الإجمالي غير مؤثّر إذا كان أحد أطرافه منجّزاً سابقاً. فمثلاً: لو علمنا بأنّ إناء زيد نجس ثمّ وقعت قطرة في أحد الإنائين هذا الإناء الّذي لزيد أو ذاك الّذي لعمرو لم يتوجّه منها تكليف بالاجتناب عن الإنائين، بل يجوز ارتكاب إناء عمرو وإن كان طرفاً للعلم

ص: 365


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 226.

وأنّه فردٌ آخر على تقدير نجاسته واقعاً غير معلوم النّجاسة أصلاً، لا إجمالاً ولا تفصيلاً.وكذا لو علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي، ولكن كان الملاقى

___________________________________________

الإجمالي؛ لأنّ أحد أطراف هذا العلم - وهو إناء زيد - كان منجّزاً سابقاً قبل العلم. والسّرّ أنّه لم يعلم بحدوث تكليف جديد لاحتمال وقوعها في إناء زيد الّذي كان نجساً سابقاً، فأصالة الطّهارة بالنسبة إلى إناء عمرو محكمة.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ العلم الإجمالي بنجاسة اليد أو الإناء الأصفر أوجب الاحتياط عنهما، وإذ علمنا ثانياً بأنّ أحد الإنائين من الأحمر أو الأصفر نجس كان أحد طرفي هذا العلم الثّاني الّذي هو الأصفر منجّزاً سابقاً، فلا يؤثّر هذا العلم الإجمالي الحادث في تنجيز التكليف المحتمل، فتكون أصالة الطّهارة بالنسبة إلى الأحمر محكمة، وإن علمنا بأنّ نجاسة اليد لو كانت نجسة مستندة إلى الإناء الأحمر لأنّها اكتسبت النّجاسة من الملاقاة للإناء الأحمر.

{و} بهذا تحقّق أنّ الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر في المثال لا يحكم عليه بالنجاسة بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الاثنين اليد والإناء الأصفر، ل- {أنّه فرد آخر} جديد {على تقدير نجاسته واقعاً غير معلوم النّجاسة أصلاً لا إجمالاً ولا تفصيلاً} أمّا تفصيلاً فلوضوح أنّا لا نعلم أنّ الإناء الأحمر نجس، وأمّا إجمالاً فلأنّه لا نعلم بنجاسة أحد من الإنائين بعلم إجماليّ مؤثّر، وإنّما العلم الإجمالي لا يؤثّر في المقام، كما تقدّم تقريره.

{وكذا} يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - كاليد في المثال دون الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر في المثال في ما {لو علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي} بأن علمت بأنّ يدي لاقت الإناء الأحمر ثمّ علمت بأنّ أحد الإنائين الأحمر والأصفر كان نجساً {ولكن كان الملاقى} - بالفتح - وهو الإناء

ص: 366

خارجاً عن محلّ الابتلاء في حال حدوثه، وصار مبتلى به بعده.

وثالثة: يجبُ الاجتناب عنهما

___________________________________________

الأحمر {خارجاً عن محلّ الابتلاء في حال حدوثه} أي: حدوث العلم {وصار} ذلك الملاقى - بالفتح - كالإناء الأحمر {مبتلى به بعده} أي: بعد حدوث العلم، كما لو لاقى يدي للأحمر في الصّباح وخرج الأحمر عن محلّ الابتلاء في الظّهر، وعلمت بنجاسة سابقة للأحمر أو الأصفر في العصر وعاد الأحمر إلى الابتلاء في المساء، فإنّه يجب الاجتناب عن اليد الملاقية وعن الأصفر، ولا يجب الاجتناب عن الأحمر الّذي هو الملاقى - بالفتح - وذلك لأنّ خروج الأحمر عن محلّ الابتلاء موجب لعدم توجّه التكليف إليه، فإذا علمت عصراً بأنّ أحداً من الأحمر أو الأصفر كان نجساً لم يتنجّز الأحمر ويتنجّز العلم الإجمالي بالنسبة إلى اليد والأصفر؛ لأنّهما طرفا العلم الإجمالي، فإذا صار الأحمر محلّاً للابتلاء ليلاً لم يتنجّز العلم بالنسبة إليه، لما تقدّم من أنّ العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه منجّزاً سابقاً لم يتنجّز ثانياً.

والحاصل: أنّ تعلّق العلم بالملاقى وطرفه بعد العلم بالملاقي - بالكسر - وطرف بالملاقى - بالفتح - يكون مثل عدم كون الملاقى - بالفتح - محلّاً للابتلاء حال تعلّق العلم، فإنّ في الصّورتين يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - وطرف الملاقى - بالفتح - كاليد والأصفر في المثال دون الملاقى - بالفتح - كالأحمر في المثال.

وهذا تمام الكلام في الصّورة الثّانية الّتي هي عكس الصّورة الأُولى، ففي الأُولى وجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - وفي الصّورة الثّانية وجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - .

{وثالثة: يجب الاجتناب عنهما} أي: عن المتلاقيين كاليد والأحمر معاً، وذلك

ص: 367

في ما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة؛ ضرورة أنّه حينئذٍ نعلم إجمالاً: إمّا بنجاسة الملاقي والملاقى، أو بنجاسة الآخر، كما لا يخفى، فيتنجّز التكليف بالاجتناب عن النّجس في البين، وهو الواحد أو الاثنان.

المقام الثّاني: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين

___________________________________________

{في ما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة} كما لو علم صباحاً بملاقاة اليد للأحمر ثمّ علم ظهراً بأنّ أحداً من الأحمر والأصفر نجس، فإنّه حينئذٍ يجب الاجتناب عن الأطراف الثلاثة: الملاقي والملاقى وطرف الملاقى{ضرورة أنّه حينئذٍ نعلم إجمالاً إمّا بنجاسة الملاقي} بالكسر {والملاقى} بالفتح {أو بنجاسة الآخر} الّذي هو طرف الملاقى - بالفتح - كالإناء الأصفر {كما لا يخفى} ولا يرد عليه الإيراد السّابق لتعلّق العلم بالجميع دفعة واحدة {فيتنجّز التكليف بالاجتناب عن النّجس في البين وهو الواحد} الإناء الأصفر كما في المثال {أو الاثنان} وهما الإناء الأحمر أو اليد.

لكن هذا إذا كان الملاقي - بالكسر - في حال العلم محلّاً للابتلاء، أمّا لو لم يكن كما لو لاقى الأحمر إناءً، فعلمت في حال كون ذلك الإناء خارجاً عن محلّ الابتلاء بنجاسة الواحد أو الاثنين ثمّ صار محلّاً للابتلاء، وجب الاجتناب عن الإنائين الأحمر والأصفر دون ذلك الملاقي - بالكسر - لما تقدّم في الصّورة الثّانية القائلة بوجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - دون الملاقى - بالفتح - والكلام في المقام يحتاج إلى بسط خارج عن وضع الشرح.

[المقام الثّاني في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيّين]
اشارة

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، الاشتغال، الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين

{المقام الثّاني} من مقامات العلم الإجمالي {في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيّين} كما لو علمنا بالتكليف ولم نعلم بأنّه متوجّه إلى عشرة أجزاء أم إلى تسعة أجزاء، كالتكليف المتوجّه إلى الصّلاة المردّد بين أن يكون أجزاؤها عشرة

ص: 368

والحقّ: أنّ العلم الإجمالي بثبوت التكليف بينهما أيضاً يوجب الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر؛ لتنجّزه به، حيث تعلّقَ بثبوته فعلاً.

___________________________________________

- مثلاً - لكون جلسة الاستراحة جزءاً أم تسعة، لكونها ليست بجزء.

وهذا في ما لم يكن هناك دليل على أحد الطّرفين وكان اللّازم الرّجوع إلى الأصول العمليّة، فهل مقتضاها البراة عن الجزء المشكوك فيه فيصحّ الإتيان بالصلاة ذات تسعة أجزاء بدون جلسة الاستراحة، أم مقتضاها الاحتياط الإتيان بها مع الجلسة؟

والفرق بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين وبين الأقلّ والأكثر غير الارتباطيّين كالدين المردّد بين كونه عشرة دراهم وكونه تسعة دراهم: أنّ الارتباطيّين لا يصحّ الإتيان بالأقلّ لو كان الأكثر واجباً، فلا تصحّ الصّلاة ذات تسعة أجزاء لو كانت في الواقع ذات عشرة أجزاء، وأنّ غير الارتباطيّين يصحّ الإتيان بالأقلّ ويكفي عن نفسه وإن كان الأكثر واجباً، فلو أدّى تسعة دراهم كفاه عن دين تسعة دراهم وإن بقيت ذمّته مشغولة بالدرهم العاشر لو كان الدين عشرة.

ثمّ إنّهم اختلفوا في كون المقام مجرى البراءة أو الاحتياط، فقد ذهب الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل إلى الأوّل، والمصنّف يرى وجوب الأكثر وأنّ المقام مجرى للاحتياط {و} ذلك لأنّ {الحقّ أنّ العلم الإجمالي بثبوت التكليف بينهما} أي: بين الأقلّ والأكثر {أيضاً} مثل دوران الأمر بين المتباينين {يوجب الاحتياط عقلاً} فإنّ العقل يستقلّ {بإتيان الأكثر لتنجّزه} أي: الأكثر {به} أي: بسبب العلم الإجمالي {حيث تعلّق} العلم {بثبوته} أي: ثبوت الأكثر {فعلاً} لأنّه يجب أن يخرج عن عهدة هذا التكليف المعلوم، فإنّ الاشتغال اليقيني يحتاج إلى البراءة اليقينيّة، فلو أتى بالأكثر كان خارجاً عن عهدة التكليف المتوجّه إليه قطعاً، وذلك بخلاف ما لو أتى بالأقلّ، فإنّه لا يعلم بأنّه أتى بالتكليف المعلوم المتوجّه إليه.

ص: 369

وتوهّم(1)

«انحلاله إلى العلم بوجوب الأقلّ تفصيلاً، والشّكّ في وجوب الأكثر بدواً؛ ضرورة لزوم الإتيان بالأقلّ لنفسه شرعاً، أو لغيره كذلك، أو عقلاً، ومعه

___________________________________________

{و} لكن الشّيخ(رحمة الله) ذهب إلى البراءة وأنّه يكفي الإتيان بالأقلّ للخروج عن عهدة التكليف، وذلك لأنّ التكليف بالأقلّ متيقّن على كلا التقديرين: تقدير وجوب الأقلّ، وتقدير وجوب الأكثر فيجب الإتيان به. أمّا التكليف بالجزء العاشر فهو مشكوك فيه؛ لأنّه لا يعلم وجوبه فهو مجرى البراءة، فالعلم الإجمالي المتعلّق بأحدهما منحلّ إلى يقين تفصيلي هو اليقين بالتسعة، وشكّ بدوي بالنسبة إلى الجزء العاشر، كجلسة الاستراحة في المثال.

لكن هذا الكلام بنظر المصنّف(رحمة الله) غير تامّ، إذ {توهّم «انحلاله} أي: العلم الإجمالي {إلى العلمبوجوب الأقلّ تفصيلاً} فإنّا نعلم بوجوب تسعة أجزاء علماً تفصيليّاً؛ لأنّها واجبة على كلّ تقدير {والشّكّ في وجوب الأكثر} أي: الجزء العاشر {بدواً} لأنّا لا نعلم هل إنّه واجب أم لا {ضرورة لزوم الإتيان بالأقلّ لنفسه شرعاً} إذا كان الأقلّ واجباً فقط {أو لغيره كذلك} أي: شرعاً إذا كان الأكثر واجباً، وإنّما كان الأقلّ واجباً غيريّاً على تقدير كون الأكثر واجباً؛ لأنّ الأقلّ يكون مقدّمة للأكثر فيكون له وجوب غيري، كما هو الشّأن في كلّ واجب ذي أجزاء، حيث يكون كلّ جزء منه واجباً بالوجوب المقدّمي لوجوب الكلّ الّذي هو واجب نفسي {أو عقلاً} عطف على قوله: «كذلك»، أي: إنّ وجوب الأجزاء التسعة على تقدير وجوب العشرة عقليّ أو شرعيّ، بناءً على اختلاف المبنى في وجوب المقدّمة هل أنّه شرعيّ أو عقلي.

{ومعه} أي: مع العلم بوجوب الأقلّ والشّكّ في وجوب الجزء الزائد المتمّم للأكثر. وبعبارة أُخرى: مع انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيليّ وشكّ بدوي

ص: 370


1- فرائد الأصول 2: 322.

لا يوجب تنجّزه لو كان متعلّقاً بالأكثر».

فاسدٌ قطعاً؛ لاستلزام الانحلالِ المحالَ، بداهةَ توقّفِ لزوم الأقلّ فعلاً - إمّا لنفسه أو لغيره - على تنجّز التكليف مطلقاً، ولو كان متعلّقاً بالأكثر، فلو كان لزومه كذلك مستلزماً لعدم تنجّزه إلّا إذا كان متعلّقاً بالأقلّ، كان خلفاً.

مع أنّه يلزم من وجوده عدمُهُ؛ لاستلزامه عدمَ تنجّز التكليف على كلّ حالٍ،

___________________________________________

{لا يوجب} العلم الإجمالي المتعلّق بالأقلّ والأكثر {تنجّزه} أي: تنجّز الجزء المشكوك فيه {لو كان متعلّقاً} واقعاً {بالأكثر»} كما هو شأن كلّ انحلال {فاسد} خبر قوله: «وتوهّم»، فإنّ انحلال العلم الإجمالي بهذه الكيفيّة غير تامّ {قطعاً} وذلك {لاستلزام الانحلال المحال} الّذي هو الخلف، إذ وجوب الأقلّ على كلّ تقدير متوقّف على تنجّز التكليف مطلقاً، فلو سبّب وجوب الأقلّ على كلّ تقدير انحلال العلم - الّذي معناه عدم وجوب الأكثر وعدم تنجّز التكليف مطلقاً - لزم عدم وجوب الأقلّ على كلّ تقدير، وهو خلف، إذ صارت النّتيجة أنّ وجوب الأقلّ مطلقاً مستلزم لعدم وجوب الأقلّ مطلقاً.

{بداهة توقّف لزوم الأقلّ فعلاً - إمّا لنفسه} لو كان الأقلّ واجباً واقعاً {أو لغيره -} لو كان الأكثر واجباً واقعاً {على تنجّز التكليف مطلقاً} بأن يكون هذا التكليف المتوجّه إلى التكليف منجّزاً عليه سواء كان متعلّقاً بالأقلّ أو متعلّقاً بالأكثر، وقوله: {ولو كان متعلّقاً بالأكثر} وصليّة مبيّنة لقوله: «مطلقاً».

{فلو كان لزومه} أي: الأقل {كذلك} أي: فعلاً {مستلزماً لعدم تنجّزه} أي: عدم تنجّز التكليف {إلّا إذا كان متعلّقاً بالأقلّ} لغرض الانحلال {كان خلفاً} هذا تقرير للخلف اللّازم على تقدير إجراء البراءة عن الأكثر بسبب الانحلال {مع أنّه} أي: الانحلال {يلزم من وجوده عدمه} وهذا تقرير آخر للخلف الّذي يستلزمه القول بالبراءة {لاستلزامه} أي: الانحلال {عدم تنجّز التكليف على كلّ حال} إذ معنى

ص: 371

المستلزم لعدم لزوم الأقلّ مطلقاً، المستلزم لعدم الانحلال، وما يلزم من وجوده عدمُه محال.

نعم، إنّما ينحلّ إذا كان الأقلّ ذا مصلحة ملزمة؛ فإنّ وجوبه حينئذٍ يكون معلوماً له، وإنّما كان الترديد لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين،

___________________________________________

الانحلال عدم وجوب الأكثر، وعدم وجوب الأكثر ملازم لعدم تنجّز التكليف على كلتا الحالتين، وهما كون التكليف متعلّقاً بالأقلّ وكون التكليف متعلّقاً بالأكثر {المستلزم} ذلك الّذي هو عدم التنجّز على كلّ حال {لعدم لزوم الأقلّ مطلقاً} إذ على تقدير كون التكليف متوجّهاً إلى الأكثر، والأكثر لا يجب بسبب البراءة لم يكن الأقلّ واجباً، إذ الأقلّ إنّما يكون واجباً مطلقاً إذا كان كلّ من الأقلّ والأكثر على تقدير توجّه التكليف إليه متنجّزاً {المستلزم} ذلك الّذي هو عدم لزوم الأقلّ مطلقاً {لعدم الانحلال} إذ الانحلال قوامه وجوب الأقلّ يقيناً والشّكّ في وجوب الأكثر {وما يلزم من وجوده عدمه محال} لا يعقل، فالانحلال الّذي ذكره الشّيخ(رحمة الله)(1) غير تامّ.{نعم، إنّما ينحلّ} العلم الإجمالي إلى يقين تفصيلي وشكّ بدوي {إذا كان الأقلّ} والأكثر غير ارتباطيّين، بأن يكون الأقلّ {ذا مصلحة ملزمة} سواء كان الأكثر واجباً أم لا، كالدين المردّد بين ألف وخمسمائة، وكصلاة القضاء المردّدة بين خمس وأربع {فإنّ وجوبه} أي: الأقلّ {حينئذٍ} أي: حين كان الأقلّ ذا مصلحة مطلقاً {يكون معلوماً له} أي: للمكلّف.

{وإنّما كان الترديد} بين الأقلّ والأكثر {لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين} مصلحة للأقلّ ومصلحة للزائد على الأقلّ، فالصلاتان لهما مصلحتان غير متلازمتين بحيث تنفكّ إحداهما عن الأُخرى، حتّى أنّه لو جاء بصلاة واحدة

ص: 372


1- فرائد الأصول 2: 322.

أو مصلحة أقوى من مصلحة الأقلّ، فالعقل في مثله وإن استقلّ بالبراءة بلا كلام، إلّا أنّه خارج عمّا هو محلّ النّقض والإبرام في المقام، هذا.

مع أنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلّا بالأكثر،

___________________________________________

- والحال أنّ الفائت صلاتان - أحرز مصلحتها فقط، ولو جاء بهما أحرز المصلحتين {أو} يكون الأكثر ذا {مصلحة أقوى من مصلحة الأقلّ} كما أنّه لو أمر بإعطاء شيء إلى الفقير حتّى أنّه لو أعطى ديناراً كفى، ولو أعطى أكثر أحرز المصلحة الأقوى {فالعقل في مثله وإن استقلّ بالبراءة} للانحلال إلى يقين تفصيلي بالنسبة إلى الأقلّ، وشكّ بدويّ بالنسبة إلى الزائد المعبّر عنه بالأكثر {بلا كلام} في ذلك لجريان أدلّة البراءة العقليّة والنّقليّة بالنسبة إلى الأكثر {إلّا أنّه خارج عمّا هو محلّ النّقض والإبرام في المقام} لما عرفت من أنّ الكلام في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين لا الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين.

فتحصّل: أنّ المنصف يرى في الارتباطيّين وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر، خلافاً للشيخ(رحمة الله) الّذي يرى كفاية الإتيان بالأقلّ وإجراء البراءة بالنسبة إلى الزائد.

{هذا} بيان دليل وجوب الاحتياط في الشّكّ بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {مع أنّ} هنا وجهاً آخر لوجوب الاحتياط، وهو أنّ الشّكّ في المقام من قبيل الشّكّ في المحصّل ممّا يكون مجراه البراءة قطعاً، إذ {الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلّا بالأكثر} فلو أتى المكلّف بالصلاة ذات العشرة أجزاء تيقّن بأنّه أتى بالغرض الّذي دعى المولى إلى الأمر، ولو أتى بالأقلّ وهو تسعة أجزاء لم يتيقّن بأنّه حصل الغرض، وحيث أنّ تحصيل الغرض واجب لزم الإتيان بالأكثر.

وإن شئت قلت: إنّ الدليل مركّب من مقدّمتين: الأُولى أنّ الأمر ناشئ عن الغرض، الثّانية أنّ الغرض واجب التحصيل، تنتج لزوم العلم بتحصيل الغرض، ولا يعلم بذلك إلّا بإتيان الأكثر.

ص: 373

بناءً على ما ذهب إليه المشهور من العدليّة، من تبعيّة الأوامر والنّواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها، وكون الواجبات الشّرعيّة ألطافاً في الواجبات العقليّة،

___________________________________________

أمّا المقدّمة الأُولى ف- {بناءً على ما ذهب إليه المشهور من العدليّة} وهم القائلون بعدل اللّه - سبحانه - في التكوين والتشريع الّذين هم الشّيعة والمعتزلة مقابل من لا يقول بذلك وهم الأشاعرة {من تبعيّة الأوامر والنّواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها} حتّى أنّ كلّ أمر تابع لمصلحة ملزمة وكلّ نهي تابع لمفسدة ملزمة {وكون الواجبات الشّرعيّة ألطافاً في الواجبات العقليّة} لفظة «في» بمعنى النّسبة، أي: أنّ الواجبات الشّرعيّة ألطاف بالنسبة إلى الواجبات العقليّة، إذ المصالح والمفاسد الواقعيّة ممّا يلزم العقل بانتهاجها فيأتي بالصالح ويترك الفاسد، لكن العقل لمّا لم يدرك مواقع تلك المصالح والمفاسد وعيّنها الشّرع يكون هذا التعيين من الشّرع لطفاً، أي: مقرّباً للمصلحة ومبعّداً عن المفسدة العقليّتين. وقوله: «وكون» عطف على قوله: «تبعيّة».

والحاصل: أنّ الأوامر والنّواهي تابعة للمصالح والمفاسد، وأنّ الواجب الشّرعي لطف في الواجب العقلي، وعلى هذا ففي الأمر مصلحة ولا يعلم بإتيانها إلّا بإتيان الأكثر في ما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر.

ثمّ إنّه يدلّ على كون الأوامر والنّواهي تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة جملة من الآيات والأخبار كقوله - تعالى - : {يَضَعُ عَنۡهُمۡإِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ}(1)، ممّا يدلّ على أنّ الشّريعة إنّما هي لتحرير البشر من الآثام والأغلال الاجتماعيّة ونحوها، وقوله - تعالى - : {إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ}(2)، وقوله تعالى: {وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ}(3)، وقوله:

ص: 374


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة العنكبوت، الآية: 45.
3- سورة البقرة، الآية: 179.

وقد مرّ(1) اعتبار موافقة الغرض وحصولهِ عقلاً في إطاعة الأمر وسقوطه، فلا بدّ من إحرازه في إحرازها، كما لا يخفى.

___________________________________________

{وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّٰلِمِينَ}(2)، إلى غير ذلك ممّا يتعرّض له في علم الكلام.

{و} أمّا المقدّمة الثّانية فلما {قد مرّ} سابقاً من {اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً في إطاعة الأمر وسقوطه} فإنّ العقلاء يلومون العبد التارك للغرض وإن أتى بالمأمور به، فلو أمر المولى عبده أن يسدّ باب البيت وعلمنا أنّ غرضه عدم ضياع ولده، ثمّ أطاع العبد بسدّ الباب لكن الولد ألقى بنفسه من السّطح في الشّارع ممّا يسبّب ضياعه فأهمله العبد، كان ملوماً عند العقلاء إذا لم ينقذه من الضّياع، وإن اعتذر بأنّه أطاع الأمر وأنّ المولى لم يقل له أكثر من ذلك. وقد مرّ تفصيل الكلام في ذلك فراجع {فلا بدّ من إحرازه} أي: إحراز الإتيان بالغرض {في إحرازها} أي: إحراز الإطاعة {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل. ومن المعلوم أنّه ما لم يأت بالأكثر لا يحرز الإتيان بالغرض.

هذا وقد أجاب الشّيخ(رحمة الله) عن الاستدلال لوجوب الأكثر بدليل لزوم الغرض بوجهين:

الأوّل: أنّ الكلام في هذه المسألة مع الغضّ عن مسألة تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد. والّذي يدلّ على ذلك أنّ النّزاع في هذه المسألة لا يختصّ بمذهب العدليّة، بل يجري حتّى على مذهب الأشاعرة المنكرين للمصالح والمفاسد العقليّة.

الثّاني: أنّ الغرض إنّما يجب تحصيله إذا تمكّن المكلّف من ذلك قطعاً،

ص: 375


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 418.
2- سورة الزخرف، الآية:76.

ولا وجه للتفصّي عنه:

تارة: بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدليّة، وجريانها على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرون لذلك، أو بعض العدليّة(1)

المكتفون بكون المصلحة في نفس الأمر دون المأمور به.

___________________________________________

والحال أنّ المقام لا يمكن تحصيل الغرض فيه، لاحتمال أن يكون الجزء - مثلاً - غير مأمور به، فلا يمكن من قصد الجزئيّة فيه - ومن المحتمل اعتبار قصد الجزئيّة - في باب العبادات. وعليه فيسقط حكم العقل بوجوب الجزم بحصول الغرض، فهم العقل حينئذٍ الأمن من العقاب، وهو يحصل بالإتيان بالمتيقّن الّذي هو الأقلّ للأمن من الأكثر، إذ هو مجرى البراءة، كما عرفت.

هذا حاصل ما ذكره الشّيخ في الجواب عن إشكال لزوم تحصيل الغرض.

وإليهما أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {ولا وجه للتفصّي عنه} أي: عن الاستدلال للأكثر بلزوم تحصيل الغرض {تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة} عن الأكثر {والاحتياط} بالإتيان به {على ما ذهب إليه مشهور العدليّة} من كون الأوامر والنّواهي تابعة للمصالح والمفاسد {وجريانها} أي: مسألة البراءة والاحتياط {على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرون لذلك} القول، فإنّهم يقولون أنّ الأحكام تابعة لإرادة اللّه - تعالى - وإن لم تكن فيها مصالح بل كان فيها المفاسد، فمن الممكن أن يحرم اللّه الزكاة، ويبيح الرّبا، أو يحرم الصّلاة، ويبيح الزنا، وهكذا {أو بعض العدليّة المكتفون بكون المصلحة في نفس الأمر} والنّهي {دون المأمور به} والمنهي عنه فكما يصحّ أن يأمر اللّه بالصلاة لمصلحة فيها بذاتها كذلك يمكن أن يأمر بفعل لا مصلحة ذاتيّة فيه، وإنّما يأمر حتّى يتبيّن المطيع والعاصي فيرتفع بذلك مقام الأوّل كالأوامر الامتحانيّة الّتي لا مصلحة في نفسها، وإنّما

ص: 376


1- الفصول الغرويّة: 337.

وأُخرى: بأنّ حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلّا بإتيانها على وجه الامتثال، وحينئذٍ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلاً - ليؤتى بها مع قصد الوجه - مجال، ومعه لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الأمر، فلم يبقَ

___________________________________________

المصلحة في الأمر بها كقصّة ذبح إبراهيم(علیه السلام) لولده إسماعيل، ودليل هؤلاء أنّ ما دلّ عليه العدل أنّ اللّه - سبحانه - لا يفعل عبثاً، وهذا المقدار كاف في إخراج الأمر والنّهي عن العبث.

{وأُخرى} هذا ثاني الوجهين اللّذين تفصّى الشّيخ(رحمة الله) بهما عن إشكال الغرض {بأنّ حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلّا بإتيانها على وجه الامتثال} بخلاف غير العبادات الّتي لا تحتاج إلّا إلى وجودها في الخارج، فلو أوقع الرّيح الشّيء النّجس في كرّ من الماء طهر وإن لم ينو المكلّف ذلك ولم يصدق امتثال {وحينئذٍ} أي: حين اعتبار الامتثال في العبادة {كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها} أي: أجزاء العبادة {تفصيلاً ليؤتى بها مع قصد الوجه مجال} بل ذهب إلى ذلك جمع، كما لا يخفى.

{ومعه} أي: مع هذا الاحتمال {لا يكاد يقطع} الآتي بالأكثر {بحصول اللطف} أي: كون هذا الإتيان بالمأمور به - الأكثر - مقرّباً إلى ما فيه المصلحة العقليّة الواقعيّة {و} بحصول {المصلحة الداعية إلى الأمر} فالمكلّف سواء أتى بالأقلّ أو أتى بالأكثر لم يعلم بحصول الغرض، إذ مع إتيان الأقلّ يحتمل عدم كفايته لوجوب الأكثر واقعاً وكون المصلحة في الأكثر دون الأقلّ، ومع إتيان الأكثر يحتمل لزوم قصد الوجه في تحصيل الغرض ولا يتمكّن من قصد الوجه؛ لأنّه لا يقطع بكون هذا الجزء المشكوك كجلسة الاستراحة جزءاً حتّى ينوي جزئيّته، فلا يقطع بحصول الغرض أيضاً {فلم يبق} لدى المكلّف الشّاكّ بين

ص: 377

إلّا التخلّص عن تبعة مخالفته، بإتيان ما علم تعلّقه به، فإنّه واجب عقلاً وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأساً؛ لتنجّزه بالعلم به إجمالاً. وأمّا الزائد عليه - لو كان - فلا تبعة على مخالفته من جهته؛ فإنّ العقوبة عليه بلا بيان.

وذلك ضرورة أنّ حكم العقل بالبراءة - على مذهب الأشعري - لا يُجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدليّة،

___________________________________________

الأقلّ والأكثر {إلّا التخلّص عن تبعة مخالفته} أي: مخالفة التكليف {بإتيان ما علم تعلّقه} أي: تعلّق الأمر {به} الضّمير راجع إلى «ما علم» {فإنّه واجب عقلاً} فإنّ العقل يحكم بلزوم الإتيان بالأقلّ، لأنّه واجب على كلّ تقدير {وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأساً} لكون المصلحة في الأكثر الّذي لم يأت به.

وإنّما قلنا بلزوم الإتيان بالأقلّ {لتنجّزه بالعلم به إجمالاً} لأنّ الأجزاء التسعة - مثلاً - واجبة قطعاً إمّا بنفسها وإمّا في ضمن عشرة أجزاء الّتي منها جلسة الاستراحة كما في المثال {وأمّا الزائد عليه} أي: على الأقلّ، وهو الجزء العاشر المشكوك فيه {لو كان} في الواقع جزءاً {فلا تبعة على مخالفته} أي: مخالفة الأمر المتعلّق به واقعاً {من جهته} أي: من جهة الجزء الزائد المشكوك فيه {فإنّ العقوبة عليه بلا بيان} لفرض الشّكّ فيه الّذي يكون مجرى للبراءة العقليّة والشّرعيّة.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّه لا وجه للتفصّي بالوجهين اللّذين ذكرهما الشّيخ(رحمة الله) ل- {ضرورة} أنّ التفصّي الأوّل القائل بأنّ الكلام حول البراءة والاحتياط مع الغضّ عن حيثيّة الغرض غير مُجدٍ، ف- {إنّ حكم العقل بالبراءة} في صورة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {على مذهب الأشعري} النّافي للغرض في الأوامر والنّواهي {لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدليّة} من تبعيّة الأحكام للأغراض والمصالح، فإنّ الكلام الآن مع من يذهب

ص: 378

بل مَن ذهب إلى ما عليه غير المشهور؛ لاحتمال أن يكون الداعي إلى الأمر ومصلحتهُ - على هذا المذهب أيضاً - هو ما في الواجبات من المصلحة وكونِها ألطافاً، فافهم.

___________________________________________

إلى ذلك وهل أنّه يجوز له إجراء البراءة أم لا بدّ من الاحتياط؟ والحاصل أنّ الفقهاء الّذين يريدون أن يفتوا لا بدّ لهم من القول بالاحتياط؛ لأنّهم قائلون بتبعيّة الأحكام للأغراض والمصالح.

نعم، للأشعري أن يفتي بالبراءة لكن ذلك لا يرتبط بنا نحن العدليّة.

{بل} نقول: يجب الاحتياط حتّى على قول غير المشهور من العدليّة الّذين يجوّزون أن تكون المصلحة في نفس الأمر والنّهي بدون أن تكون في متعلّقهما، إذ هذا القائل إنّما يقول باحتمال كون المصلحة في الأمر، وفي عين الحال يحتمل كونها في المأمور به، فإذا أتى بالأكثر قطع بأنّه أتى بالمصلحة المحتملة وحصل الغرض - على تقدير وجوده - أمّا إذا أتى بالأقلّ يحتمل أن لا يكون آتياً بالمأمور به لاحتمال وجود المصلحة في الأكثر، فإذا شكّ في الامتثال كان الموضع مجرى للاحتياط، وذلك مثل ما لو أمر المولى عبده بإتيان الماء فاحتمل أنّه يريد الماء الحلو للشرب والماء المطلق لسقي أرضه، فإنّه لا بدّ وأن يأتي بالماء الحلو تحصيلاً للامتثال.

وبهذا تحقّق أنّ {من ذهب إلى ما عليه غير المشهور} من العدليّة فقال بصحّة كون المصلحة في نفس الأمر لا يجديه قوله هذا في الاكتفاء بالأقلّ عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {لاحتمال أن يكون الداعي إلى الأمر ومصلحته} أي: مصلحة الأمر {على هذا المذهب أيضاً} كمذهب المشهور {هو ما في الواجبات من المصلحة وكونها} أي: الواجبات الشّرعيّة {ألطافاً} بالنسبة إلى الواجبات العقليّة، فإذا جاز أن تكون المصلحة في المأمور به لم يجز الاكتفاء بالأقلّ {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ مجرّد الاحتمال لا يكفي في لزوم الإتيان بالأكثر؛

ص: 379

وحصول اللطف والمصلحة في العبادة وإن كان يتوقّف على الإتيان بها على وجه الامتثال، إلّا أنّه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الأجزاء وإتيانها على وجهها، كيف؟ ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا، كما في المتباينين، و

___________________________________________

لأنّ الشّكّ حينئذٍ في الاشتغال لا في الامتثال، إذ الشّكّ الشّخصي في أنّ للمولى غرضاً في المأمور به، فالمجرى البراءة لا الاحتياط.

{و} أمّا تفصّي الشّيخ(رحمة الله) عن الإشكال بالوجه الثّاني القائل باعتبار قصد الوجه على ما مرّ تفصيله، ففيه أنّا وإن كنّا من القائلين باعتبار قصد الوجه فإنّما ذلك بمعنى الإتيان بالعبادة الواجبة بقصد وجوبها في الجملة، ولا يعتبر الإتيان بكلّ جزء جزء بقصد الوجوب العرضي الغيري، فإنّه لم يقل أحد بذلك، ولذا تراهم لا يشكّون في جواز الإتيان بالأكثر في ما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين حتّى على القول بلزوم قصد الوجه، وليس ذلك إلّا لأنّه لا تنافي بين قصد الوجه وبين عدم العلم بكون الجزء المشكوك فيه - كجلسة الاستراحة مثلاً - واجباً أم ندباً، فإنّ {حصول اللطف} وكون هذا المأتي به سبباً للإتيان بالتكليف العقلي الّذي فيه المصلحة.

{و} حصول {المصلحة في العبادة وإن كان يتوقّف على الإتيان بها} أي: بتلك العبادة {على وجه الامتثال} ونيّة الوجه {إلّا أنّه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الأجزاء وإتيانها على وجهها} بأن يأتي بكلّ جزء جزء بقصد وجوبه أو بدونه وعليه فمن الممكن الإتيان بالأكثر بدون أيّ تزلزل بسبب قصد الوجه المعتبر عند بعض، فيقطع المكلّف باللطف والمصلحة.

و{كيف} يحتمل اعتبار قصد كلّ جزء جزء {و} الحال أنّه {لا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا} أي: في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {كما} يمكن الاحتياط {في المتباينين} عبادة كانا أم غير عبادة {و} لو اعتبر قصد كلّ جزء جزء

ص: 380

لا يكاد يمكن مع اعتباره، هذا.

مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك. والمراد ب- «الوجه» - في كلام من صرّح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به - هو وجه نفسه من وجوبه النّفسي، لا وجهُ أجزائه من وجوبها الغيري، أو وجوبها العرضي. وإتيانُ الواجب مقترناً بوجهه - غايةً ووصفاً - بإتيان الأكثر بمكان من الإمكان؛ لانطباق الواجب عليه ولو كان هو الأقلّ، فيتأتّى من المكلّف معه قصدُ الوجه.

___________________________________________

{لا يكاد يمكن} الاحتياط {مع اعتباره} أي: اعتبار الوجه بالمعنى الّذي ذكره الشّيخ(رحمة الله) من لزوم معرفة كلّ جزء جزء.{هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك} بأن ينوي الوجوب والنّدب في كلّ جزء جزء، إذ لا دليل على ذلك إطلاقاً لا عقلاً ولا نقلاً {والمراد ب- «الوجه» في كلام من صرّح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه} أي: الواجب {به} أي: بقصد الوجه {هو وجه نفسه} أي: وجه نفس الواجب، بمعنى أن يأتي المكلّف بالواجب بقصد أنّه واجب، كأن يأتي بالصلاة بقصد وجوبها {من وجوبه النّفسي} الّذي هو وصف الواجب في الجملة {لا} أنّ المراد {وجه أجزائه} بأن يلزم قصد وجه كلّ جزء جزء من الواجب {من وجوبها} أي: وجوب تلك الأجزاء {الغيري أو وجوبها العرضي} فلا يعتبر ذلك قطعاً.

{و} من المعلوم أنّ {إتيان الواجب مقترناً بوجهه} في حال كون الوجه {غاية ووصفاً} بأن ينوي آتي بالصلاة لوجوبها أو آتي بالصلاة الواجبة {بإتيان الأكثر} المشتمل على جلسة الاستراحة - مثلاً - {بمكان من الإمكان} وذلك {لانطباق الواجب} المحتم على المكلّف {عليه ولو كان} ذلك الواجب {هو الأقل} «لو» وصليّة {فيتأتّى من المكلّف معه} أي: مع هذا النّحو من الإتيان {قصد الوجه} كما لا يخفى.

ص: 381

واحتمال اشتماله على ما ليس من أجزائه ليس بضائر، إذا قصد وجوب المأتي على إجماله، بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه،

___________________________________________

{و} إن قلت: كيف يمكن إتيان الأكثر بقصد الوجوب مع احتمال اشتماله على ما ليس بواجب وليس من أجزائه، فإنّ جلسة الاستراحة - مثلاً - يحتمل أن لا تكون جزءاً، فكيف يمكن أن يؤتى بالصلاة المشتملة عليها بقصد الوجوب؟

قلت: {احتمال اشتماله} أي: الأكثر {على ما ليس من أجزائه} كجلسة الاستراحة {ليس بضائر إذا قصد وجوب المأتي على إجماله} بأن نوى أنّه يأتي بالصلاة الواجبة - إجمالاً - حتّى يمكن انطباقه على كلّ من الأكثر والأقل، بأنّه لم يعيّن أنّه يأتي بالصلاة الّتي أجزائها الواجبة عشرة - مثلاً - حتّى يضرّ هذا القصد في ما لو كان الأقلّ واجباً واقعاً، فيأتي بالصلاة الواجبة في الجملة {بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه} «من» بيان ل- «ما»، وذلك لأنّ الشّيء المحتمل على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون جزءاً واجباً أو مندوباً، كالسورة الّتي هي جزء قطعاً لكنّها مردّدة بين الوجوب والاستحباب.

الثّاني: احتمال أن يكون جزءاً أو مقارناً من غير مدخليّة له في الصّلاة أصلاً، كما لو احتملنا في جلسة الاستراحة ذلك، بأن دار أمرها بين الجزئيّة وبين أن تكون خصوصيّة فرديّة لا ترتبط بالصلاة إطلاقاً، مثل كون الصّلاة في الغرفة الّتي هي من الخصوصيّات الفرديّة الّتي لا ترتبط بالصلاة.

الثّالث: احتمال أن يكون جزءاً أو مانعاً، كالتسبيحتين الزائدتين على الواحدة في حال ضيق الوقت، ممّا يحتمل أن يكون محرّماً لأجل إيجابه تفويت الوقت ووقوع بعض الصّلاة خارج الوقت - مثلاً - .

ومن المعلوم أنّ في غير القسم الثّالث المردّد بين الجزئيّة والمانعيّة لا يضرّ

ص: 382

لاسيّما إذا دار الزائد بين كونه جزءاً لماهيّته وجزءاً لفرده؛ حيث ينطبق الواجب على المأتيّ حينئذٍ بتمامه وكماله؛ لأنّ الطّبيعي يصدق على الفرد بمشخّصاته.

___________________________________________

إتيان ذلك المحتمل بقصد الوجوب الإجمالي {لاسيّما إذا دار} الجزء {الزائد بين كونه جزءاً لماهيّته و} بين كونه {جزءاً لفرده} جزء الماهيّة هو الّذي ينتفي الماهيّة بانتفائه، وجزء الفرد هو الّذي ينتفي الفرد بانتفائه وإن بقيت الماهيّة، وذلك يتصوّر في الماهيّات الّتي تنطبق على الكثير بعين انطباقها على القليل. فمثلاً: لو قال: (تصدّق) فإنّ الصّدقة ماهيّة تنطبق على الدرهم الواحد بعين انطباقها على عشرة دراهم، فلو أعطى تسعة دراهم - بنقص واحد من عشرة - كان آتياً بالماهيّة وإن لم يكن آتياً بأحد أفرادها - فالدرهم العاشر في المثال جزء للفرد وليس جزءاً للماهيّة - وذلك بخلاف ما لو قال: (تصدّق بدينار) فإنّه لو أعطى تسعة دراهم كانت الماهيّة منتفية، إذ الدينار عشرة دراهم، فإذا دار بين أن يكون هذا الجزء المشكوك جزئيّته - كالدرهم العاشر في المثال - جزءاً للماهيّة بأن كان الأمر متوجّهاً إلى التصدّق بالدينار، أو جزءاً للفرد بأن كان الأمر متوجّهاً إلى التصدّق مطلقاً، أمكن للمكلّف أن يعطي عشرة دراهم بقصد الوجوب إجمالاً، وإن لم يعلم أنّ الدرهم العاشر هل هو جزء للماهيّة أم جزء للفرد.{حيث ينطبق الواجب على المأتي} به {حينئذٍ} أي: حين دار الزائد بين كونه جزءاً للماهيّة وبين كونه جزءاً للفرد {بتمامه وكماله} فإنّ الأجزاء العشرة في المثال كلّها مصداق للصدقة الواجبة {لأنّ الطّبيعي يصدق على الفرد بمشخّصاته} الفرديّة.

وإنّما قال المصنّف: «لاسيّما» لأنّ الجزء الزائد لو لم يدر بين كونه جزءاً للماهيّة أو جزءاً للوجود، بل دار بين كونه جزءاً أو مقارناً أمكن التطبيق، لكن لو كان الزائد مقارناً - في الواقع - لم ينطبق الواجب على المأتي به بكماله وتمامه.

ص: 383

نعم، لو دار بين كونه جزءاً ومقارناً، لما كان منطبقاً عليه بتمامه لو لم يكن جزءاً. لكنّه غير ضائر؛ لانطباقه عليه أيضاً في ما لم يكن ذاك الزائد جزءاً، غايته لا بتمامه بل بسائر أجزائه، هذا.

مضافاً إلى أنّ اعتبار قصد الوجه من رأس ممّا يقطع بخلافه.

___________________________________________

وإليه أشار بقوله: {نعم، لو دار} الزائد {بين كونه جزءاً و} بين كونه {مقارناً لما كان} المأتي به {منطبقاً عليه بتمامه} وكماله {لو لم يكن جزءاً} بل كان مقارناً ومن خصوصيّات الوجود والفرد، إذ هذا الزائد ليس داخلاً حينئذٍ في الواجب إطلاقاً {لكنّه} أي: لكن عدم الانطباق حينئذٍ {غير ضائر} بالانطباق الإجمالي {لانطباقه} أي: الواجب {عليه} أي: على هذا المأتي به المشتمل على الجزء الزائد الخارج عن الحقيقة {أيضاً} كما كان ينطبق على الواجب المردّد جزؤه بين كونه جزءاً للماهيّة أو جزءاً للفرد {في ما لم يكن ذاك الزائد جزءاً} لا للفرد ولا للماهيّة {غايته} أي: غاية الأمر - ومرجع الضّمير مفهوم من الكلام - يكون انطباق الواجب على المأتي به {لا بتمامه} حتّى يشمل هذا الزائد أيضاً {بل} الانطباق يكون {ب-} سبب {سائر أجزائه} كالأجزاء التسعة في ما لو لم تكن جلسة الاستراحة جزءاً إطلاقاً.

{هذا} هو الجواب عن الدليل الثّاني للشيخ(رحمة الله) القائل بكفاية الإتيان بالأقلّ في صورة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {مضافاً إلى أنّ} دليله كان متوقّفاً على اعتبار قصد الوجه في العبادة، فيرد عليه:

أوّلاً: بأنّ {اعتبار قصد الوجه من رأس} أي: مطلقاً {ممّا يقطع بخلافه} إذ لم يدلّ على ذلك دليل شرعيّ ولا عقليّ، بل عدم الدليل دليل على العدم، إذ لو كان قصد الوجه معتبراً لكان اللّازم التنبيه عليه، حيث إنّه ممّا يغفل عنه العامّة، كما لايخفى.

ص: 384

مع أنّ الكلام في هذه المسألة لا يختصّ بما لا بدّ أن يؤتى به على وجه الامتثال من العبادات.

مع أنّه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردّد والاحتمال، فلا وجه معه للزوم مراعاة الأمر المعلوم أصلاً، ولو بإتيان الأقلّ لو لم يحصل الغرض،

___________________________________________

{مع} أنّه يرد عليه ثانياً: {أنّ الكلام في هذه المسألة} أي: مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {لا يختصّ بما لا بدّ أن يؤتى به على وجه الامتثال من العبادات} بل هو جار في كلّ أقلّ وأكثر ارتباطيّ، وإن لم يكن عبادة، بل كان من التوصليّات الّتي لا يعتبر فيها قصد أصلاً، فكيف بقصد الوجه؟

ودليل الشّيخ(رحمة الله) على تقدير تماميّته لا يتمّ فيها {مع} أنّه يرد على الشّيخ(رحمة الله) ثالثاً: بأنّه لو قلتم بلزوم قصد الوجه - بمعنى قصد كلّ جزء جزء على وجهه في العبادة - : كان اللّازم في مورد الشّكّ بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين عدم إمكان الإتيان بالعبادة مطلقاً، إذ سواء أتى بالأكثر أو بالأقلّ لم تصحّ العبادة، فإنّه مع الإتيان بالأقلّ كان محتملاً لعدم الإتيان بالتكليف لاحتمال عدم حصول الغرض، ومع الإتيان بالأكثر لم يتمكّن من قصد الوجه في الجزء الزائد؛ لأنّه لا يعلم بكونه جزءاً؛ لأنّه مردّد كما هو المفروض، ف- {إنّه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال} أي: في باب الامتثال {فيها} أي: في العبادات {على وجه ينافيه التردّد والاحتمال} حتّى لا يمكن قصد الوجه مع التردّد.

{فلا وجه معه} أي: مع التردّد والاحتمال في جزئيّة شيء كجلسة الاستراحة - مثلاً - {للزوم مراعاة الأمر المعلوم} أي: لا يجب الإتيان بالتكليف المتيقّن المعلوم، كالأجزاء التسعة المعلومةفي الصّلاة مثلاً {أصلاً} فيسقط التكليف عن الشّخص بمجرّد الشّكّ في جزء وإن علم بقيّة الأجزاء فلا يجب الامتثال {ولو بإتيان الأقلّ لو لم يحصل الغرض} إذ الآمر إنّما أمر للوصول إلى غرضه، فإذا لم

ص: 385

وللزم الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله، ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال؛ لاحتمال بقائه مع الأقلّ بسبب بقاء غرضه، فافهم.

هذا بحسب حكم العقل.

وأمّا النّقل:

___________________________________________

يف الأقلّ بالغرض كان ملاك الأمر باقياً، فإذا لم يسقط الأمر - عند الإتيان بالأوّل - لبقاء غرض الآمر لا تكفي موافقة الأمر بإتيان الأقلّ {وللزم الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله} أي: حصول الغرض {ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال} بالتكليف {لاحتمال بقائه} أي: الاشتغال {مع} إتيان {الأقلّ بسبب بقاء غرضه}.

وإن شئت قلت: إنّه لو اعتبر في العبادة قصد الوجه بمعنى وجوب قصد كلّ جزء جزء على ما هو عليه من الوجوب وعدمه، بحيث ينافي معه التردّد لم يتمكّن المكلّف امتثال ما دار أمره بين الأقلّ والأكثر، إذ الأقلّ لا يكون محصّلاً للغرض على ما تقدّم، والأكثر لا يمكن إتيانه لعدم العلم بجزئيّة الزائد المشكوك على ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ مع الإتيان بالأقلّ لا يقطع بعدم حصول الغرض بل يشكّ فيه، ولا دليل على وجوب الإتيان بأزيد من التكليف المعلوم إذا شكّ في حصول الغرض. ألا ترى أنّه لا يعلم بحصول الغرض في ما لو اجتنب المكلّف عن الأفراد المعلومة للخمر دون المشكوكة ممّا تجري فيها البراءة، لكونها شبهات بدويّة وإن جهل حصول الغرض من الاجتناب عن تلك الأفراد المعلومة، لعدم القطع بكون المشكوكة ليست خمراً.

{هذا} كلّه حكم دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين {بحسب حكم العقل} وقد عرفت أنّ الشّيخ يرى جواز الاكتفاء بالأقلّ، والمصنّف يوجب الإتيان بالأكثر.

{وأمّا} حكم {النّقل} وأنّه هل تجري البراءة بالنسبة إلى الجزء الزائد

ص: 386

فالظاهر أنّ عموم مثل حديث الرّفع قاضٍ برفع جزئيّة ما شكّ في جزئيّته، فبمثله يرتفع الإجمال والتردّد عمّا تردّد أمره بين الأقلّ والأكثر، ويعيّنه في الأوّل.

لا يقال:

___________________________________________

المشكوك أم هو مجرى الاحتياط؟ لكن لا يخفى أنّ هذا الاختلاف إنّما يصحّ على تقدير صحّة جريان النّقل في المقام، فقد ذكر المصنّف(رحمة الله) في تعليقته: «لكنّه لا يخفى أنّه لا مجال للنقل في ما هو مورد حكم العقل بالاحتياط، وهو ما إذا علم إجمالاً بالتكليف الفعلي الأمر الواقعي وهو واضح البطلان»(1)،

{فالظاهر أنّ عموم مثل حديث الرّفع قاض برفع جزئيّة ما شكّ في جزئيّته} فإذا شككنا في أنّه هل جلسة الاستراحة جزء أم لا كان مقتضى «رفع ما لا يعلمون»(2)

عدم جزئيّته {فبمثله} - أي: بمثل حديث الرّفع - نحو «ما حجب اللّه علمه عن العباد»(3)،

وشبهه {يرتفع الإجمال والتردّد عمّا تردّد أمره بين الأقلّ والأكثر} سواء كان في العبادة أو في غيرها {وبعينه} عطف على «يرتفع»، أي: يعيّن حديث الرّفع الشّيء المردّد فيه {في الأوّل} أي: في الأقلّ، ومرجع الضّمير البارز في «يعيّنه» هو «ما» في قوله: «عمّا».

{لا يقال}: لا يتمكّن حديث الرّفع من رفع الجزئيّة المشكوكة، فلو شكّ في أنّ السّورة - مثلاً - جزء من الصّلاة أم لا، لا يتمكّن رفع جزئيّتها بحديث الرّفع، وذلك لأنّ الرّفع إنّما يمكن بالنسبة إلى ما يكون وضعه بيد الشّارع، والجزئيّة ليست بيد الشّارع، وإذ لا يمكن وضعها لا يمكن رفعها.

ص: 387


1- حقائق الأصول 2: 326.
2- الخصال 2: 417.
3- التوحيد: 413.

إنّ جزئيّة السّورة المجهولة - مثلاً - ليست بمجعولة، وليس لها أثر مجعول، والمرفوع بحديث الرّفع إنّما هو المجعول بنفسه أو أثره. و

___________________________________________

بيان ذلك: أنّ المراد من الجزء إمّا الجزء الواقعي الّذي له دخل في المصلحة الواقعيّة - كدخل الخلّ في السّكنجبين - حتّى أنّه لو لم يؤت به لم تأت المصلحة الواقعيّة، ومن المعلوم أنّ هذا تابع للواقع، فإن كان الجزء دخيلاً في المصلحة لم يرتفع هذا الدخل بحديث الرّفع، فيكون حاله كحال الخلّ في المثال ممّا هو أمر تكوينيّ لا دخل له في عالم التشريع، وليس وضعه ورفعه بيد الشّارع، وأمّا الجزء المأمور به الّذي هو الصّلاة مثلاً، فهذا تابع للجعل، وأنّ الشّارع هل أمر بمركّب تكون السّورة جزءاً منه أم بمركّب ليست السّورة جزءاً منه، فتكون الجزئيّة أمراً انتزاعيّاً لا مجعولة حتّى يكون رفعها بيد الشّارع، وعلى كلا التقديرين سواء كانت السّورة جزءاً واقعيّاً أو انتزاعيّاً، ف- {إنّ جزئيّة السّورة} للصلاة {المجهولة - مثلاً - ليست بمجعولة} حتّى يمكن رفعها بحديث الرّفع {وليس لها أثر مجعول} إذ الجعل يتناول شيئين:

الأوّل: ما يكون هو بنفسه قابلاً للجعل كالوجوب والحرمة بالنسبة إلى الأُمور.

الثّاني: ما لا يكون هو بنفسه مجعولاً ولكنّه كان ذا أثر قابل للجعل، كما لو كان من أثر جزئيّة الخلّ للسكنجبين - مثلاً - وجوب البرّ بالنذر في ما لو نذر إعطاء درهم للفقير إن كان الخلّ جزءاً، فإنّ الخلّ ليس بالجعل وإنّما أثره بالجعل.

وإذ قد ظهر أنّ الجزئيّة ليست مجعولة ولا لها أثر مجعول فلا تشملها أدلّة البراءة - حتّى إذا شكّ فيها ترفع بحديث الرّفع ونحوه - {و} ذلك لأنّ {المرفوع بحديث الرّفع إنّما هو المجعول بنفسه} كالحرمة والوجوب {أو} المجعول {أثره} كما لو رتّب أثر شرعيّ على شيء واقعي.

{و} إن قلت: لا نسلّم عدم الأثر الشّرعي للجزئيّة، فإنّ لجزئيّة السّورة المشكوكة

ص: 388

وجوب الإعادة إنّما هو أثر بقاء الأمر الأوّل بعد العلم، مع أنّه عقليّ، وليس إلّا من باب وجوب الإطاعة عقلاً.

لأنّه يقال: إنّ الجزئيّة وإن كانت غير مجعولة بنفسها، إلّا أنّها مجعولة بمنشأ انتزاعها، وهذا كافٍ في صحّة رفعها.

___________________________________________

أثراً شرعيّاً، وهو وجوب الإعادة في ما لو أتى بالصلاة بدونها جهلاً منه بوجوبها ثمّ علم بها، ومن المعلوم أنّ وجوب الإعادة أثر شرعيّ فيصحّ جعلها ويصحّ رفعها.

قلت: {وجوب الإعادة} ليس من آثار جزئيّة السّورة، بل {إنّما هو أثر بقاء الأمر الأوّل بعد العلم} بكون السّورة جزءاً {مع أنّه} أي: وجوب الإعادة أمر {عقليّ} لا شرعيّ {وليس إلّا من باب وجوب الإطاعة عقلاً} فوجوب الإعادة معناه وجوب إطاعة الأمر بإتيان المأمور به تامّاً - بعد ما فعله ناقصاً - وهذا أثر عقليّ لبقاء الأمر.

والحاصل: أنّه حيث لم يأت بالمكلّف به - إذ الإتيان النّاقص كعدم الإتيان - يلزمه العقل بإتيانه، فهذا أمر عقليّ لا أثر شرعيّ من آثار الجزئيّة.

وعلى هذا فلا يمكن رفع الجزء المشكوك بحديث الرّفع ونحوه.

{لأنّه يقال}: نسلّم أنّ الجزئيّة ليست مجعولة بنفسها ولا لها أثر شرعي، لكن لها جعل تبعي؛ لأنّها أمر انتزاعي ومنشأ انتزاعها بيد الشّارع، إذ للشارع أن يصبّ أمره على مركّب من أجزاء عشرة حتّى ينتزع من كلّ جزء الجزئيّة وأن يصبّ أمراً على مركّب من أجزاء تسعة حتّى لا ينتزع من الشّيء العاشر الجزئيّة، وإذ كانت الجزئيّة أمراً انتزاعيّاً وكان منشأ انتزاعها بيد الشّارع كانت قابلة للرفع والوضع، فإذا شكّ في ما صحّ التمسّك بأدلّة الرّفع لرفعها.

والحاصل: {إنّ الجزئيّة وإن كانت غير مجعولة بنفسها إلّا أنّها مجعولة بمنشأ انتزاعها، وهذا} القدر {كافٍ في صحّة رفعها} فإذا صحّ رفعها شملتها أدلّة البراءة.

ص: 389

لا يقال: إنّما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه، وهو الأمر الأوّل، ولا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه.

لأنّه يقال:

___________________________________________

{لا يقال}: نسلّم أنّ الأمر الانتزاعي يمكن ارتفاعه برفع منشأ انتزاعه، لكن هذه الكليّة لا تنطبق على مقامنا، إذ الجزئيّة منشأ انتزاعها الأمر، فرفع الجزئيّة إنّما يمكن برفع الأمر المتوجّه إلى الصّلاة، فتبقى الصّلاة بدون أمر، وهذا ما لا تقولون به.

وإن شئت قلت: إنّ الأمر المتوجّه إلى الصّلاة إن كان منصبّاً على الصّلاة مع السّورة - في الواقع - كان معنى رفعه عدم وجوب الصّلاة إطلاقاً، وإن كان منصبّاً على الصّلاة بدون السّورة لم يكن محلّ لحديث الرّفع، فلا يمكن التمسّك بحديث الرّفع إطلاقاً، فإنّه {إنّما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه} كما ذكرتم {و} منشأ انتزاع الجزئيّة في المقام {هو الأمر الأوّل} المتوجّه إلى الصّلاة مع السّورة - أي: الأكثر، لا الأقلّ - {و} إذا قلتم بارتفاع هذا الأمر بسبب حديث الرّفع بقيت الصّلاة ذات تسعة أجزاء خالية من الأمر إطلاقاً، إذ {لا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه} الضّمير راجع إلى «الأمر الانتزاعي» المراد به الجزئيّة.

{لأنّه يقال}: إنّه ورد من الشّارع قسمان من الأمر:

الأوّل: ما يتعلّق بالصلاة كقوله: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ}(1).

الثّاني: ما يتعلّق بالأجزاء والشّرائط نحو «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(2).

ولهذا الأمر الثّاني إطلاق، أي: إنّ الفاتحة جزء الصّلاة مطلقاً في حال العلم

ص: 390


1- سورة الإسراء، الآية: 78.
2- مستدرك الوسائل 4: 158.

نعم، وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه، إلّا أنّ نسبة حديث الرّفع - النّاظر إلى الأدلّة الدالّة على بيان الأجزاء - إليها نسبةُ الاستثناء، وهو معها يكون دالّة على جزئيّتها إلّا مع الجهل بها، كما لا يخفى، فتدبّر جيّداً.

وينبغي التنبيه على أُمور:

___________________________________________

والجهل والذكر والنّسيان، فإذا جاء حديث الرّفع كان حاكماً على أدلّة الأجزاء، فيخصّص فاتحة الكتاب بحال العلم والذكر ويرفع جزئيّتها بالنسبة إلى حالتي الجهل والنّسيان، فالأمر الأوّل باقٍ، والأمر الثّاني باقٍ في بعض صوره، وعليه فلا يلزم من حديث الرّفع رفع الأمر مطلقاً حتّى تبقى الصّلاة بلا سورة بدون الأمر، فما ذكرتم من أنّ رفع الشّيء برفع منشأ انتزاعه.

{نعم} صحيح {و} لكنّا نقول: إنّ الأمر الانتزاعي و{إن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه إلّا أنّ نسبة حديث الرّفع} وهو قوله(صلی الله علیه و آله): «رفع عن أُمّتي تسع»(1) {النّاظر إلى الأدلّة الدالّة على بيان الأجزاء -} للصلاة مثلاً {إليها} أي: إلى تلك الأدلّة - والظّرف متعلّق ب- «نسبة» {نسبة الاستثناء} خبر «أنّ نسبة» فلا يرفع حديث الرّفع الأمر حتّى تبقى الصّلاة بلا أمر، بل يخصّص الأمر بصورة العلم والذكر.

{وهو} أي: حديث الرّفع {معها} أي: مع أدلّة الأجزاء {يكون دالّة على جزئيّتها} أي: جزئيّة تلك الأجزاء {إلّا مع الجهل بها} أو النّسيان لها {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل {فتدبّر جيّداً}.

[تنبيهات]
اشارة

{و} حيث انتهينا من بحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ممّا كان الشّكّ في الجزئيّة {ينبغي التنبيه على أُمور} مرتبطة بالمقام:

ص: 391


1- الخصال 2: 417.

الأوّل: أنّه ظهر - ممّا مرّ - : حالُ دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقهِ، وبين الخاصّ - كالإنسان - وعامّه - كالحيوان - ، وأنّه لا مجال هاهنا للبراءة عقلاً، بل كان الأمر فيهما أظهر؛ فإنّ الانحلال المتوهّم(1) في الأقلّ والأكثر

___________________________________________

[التنبيه الأوّل]

{الأوّل} في بحث دوران الأمر بين المطلق والمقيّد، كأن شككنا في أنّ الواجب مثلاً، هل هو عتق رقبة مطلقة أم عتق رقبة مؤمنة؟ودوران الأمر بين الخاصّ والعام، كأن شككنا في أنّ الواجب هل هو الإتيان بالإنسان أو بالحيوان، فهل المقام من مجرى الاشتغال حتّى لا يكتفى بمطلق الرّقبة والحيوان في ضمن أيّ قسم كان، أو من مجرى البراءة فيكتفى بذلك؟ إذا عرفت ذلك قلنا {إنّه ظهر ممّا مرّ} في مبحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، وإنّ القاعدة تقتضي الأكثر - على مذاق المصنّف - {حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه} كالرقبة المشروطة بالإيمان ومطلقها ولو كانت كافرة {وبين الخاصّ كالإنسان وعامّه كالحيوان} والفرق بين المطلق والعام قد ذكر في الجزء الأوّل، فراجع(2).

وسيأتي في آخر هذا الأمر أنّ الخاصّ هو الّذي انتزع خصوصيّته من نفس الخاصّ كإنسانيّة الإنسان وظهريّة صلاة الظّهر، والمقيّد هو الّذي انتزع قيده من أمر خارج كالطهارة في الصّلاة المنتزعة من الوضوء وأخويه.

{وإنّه لا مجال هاهنا للبراءة عقلاً} وإن قلنا بالبراءة في الأقلّ والأكثر، كما تقدّم عن الشّيخ(رحمة الله) {بل كان الأمر} بالاشتغال {فيهما} أي: في المطلق والعام وضدّيهما {أظهر، فإنّ الانحلال المتوهّم في الأقلّ والأكثر} باليقين التفصيلي بالنسبة إلى الأقلّ، والشّكّ البدوي بالنسبة إلى الزائد الّذي هو مجرى البراءة

ص: 392


1- فرائد الأصول 2: 356-357.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 87.

لا يكاد يتوهّم هاهنا؛ بداهةَ أنّ الأجزاء التحليليّة لا تكاد تتّصف باللزوم من باب المقدّمة عقلاً، فالصلاة - مثلاً - في ضمن الصّلاة المشروطة أو الخاصّة

___________________________________________

{لا يكاد يتوهّم هاهنا، بداهة أنّ الأجزاء التحليليّة} كالحيوان والرّقبة - في المثالين - {لا تكاد تتّصف باللزوم من باب المقدّمة عقلاً} فإنّ في الأقلّ والأكثر كانت الأجزاء خارجيّة، فالسورة - مثلاً - جزء خارجيّ قائم برأسه مقابل الحمد والرّكوع والسّجود، بخلاف بابي المطلق والعام، فإنّ الرّقبة المؤمنة ليست ذات جزئين خارجيّين يمتاز جزء منهما كأصل الرّقبة عن الجزء الآخر كالإيمان، وهكذا بالنسبة إلى الإنسان، فلا يمتاز حيوانه عن ناطقه، فلا يمكن أن يقال: إنّ ذات الرّقبة وذات الحيوان مقطوع بهما، إمّا أصالة أو مقدّمة والجزء الثّاني وهو النّاطق والإيمان مشكوك فيه، فالأصل العدم.

وربّما يقرّر دليل الاشتغال: بأنّ البراءة إنّما تصحّ عن الشّيء المشكوك فيه إذا كان أصل المتيقّن يمكن أن يؤتى به بدون ذاك الشّيء كالصلاة بدون السّورة، أمّا أنّه إذا لم يمكن الإتيان بالمتيقّن إلّا في ضمن فرد مباين لم يمكن التفكيك بين الأجزاء بإجراء البراءة في جزء مشكوك للزومه الإتيان بمباين المأمور به.

مثلاً: لو شكّ في أنّ الواجب بناء دار ذات ستّ غرف أو سبع جاز إجراء البراءة عن الغرفة السّابعة وكانت الدار ذات السّتّ متيقّناً من التكليف، أمّا لو شكّ في أنّ الواجب صنع الدار المربّعة أو المطلقة فبنى داراً مسدّسة الأضلاع لم يعلم بإتيان أصل التكليف، إذ الدار المسدّسة ضدّ للدار المربّعة، فلا يتيقّن بإنجاز أصل التكليف، وهكذا قل في الصّلاة.

{فالصلاة - مثلاً - في ضمن الصّلاة المشروطة} بالطهارة {أو} في ضمن الصّلاة {الخاصّة} كصلاة المغرب، في حال كون تلك الصّلاة - أي: الأركان والأجزاء

ص: 393

موجودة بعين وجودها، في ضمن صلاة أُخرى فاقدة لشرطها ولخصوصيّتها تكون متباينة للمأمور بها، كما لا يخفى.

نعم، لا بأس بجريان البراءة النّقليّة في خصوص دوران الأمر بين المشروط وغيره،

___________________________________________

الخاصّة - {موجودة بعين وجودها في ضمن صلاة أُخرى فاقدة لشرطها} كالصلاة بدون الطّهارة {و} فاقدة {لخصوصيّتها} كصلاة {تكون متباينة للمأمور بها} خبر لقوله: «فالصلاة» وإذا كانت هذه الصّلاة متباينة لم يكن الآتي بها آتياً بشيء من المأمور به على فرض كونه ذلك المشروط والخاص.

والحاصل: أنّ المكلّف يجب أن يأتي بالمكلّف به المتيقّن الّذي هو مكلّف به على كلّ تقدير، وفي صورة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثريكون الآتي بالأقلّ كذلك، إذ الأجزاء التسعة واجبة على كلا التقديرين وجوب الأقلّ ووجوب الأكثر، غاية الأمر أنّه على تقدير وجوب الأكثر لم يأت بجزء واحد فقط، وذلك بخلاف صورة دوران الأمر بين المشروط وفاقد الشّرط والخاصّ والعامّ، فالآتي بفاقد الشّرط وبفرد آخر من العامّ لم يكن آتياً بشيء من المأمور به على تقدير وجوب الخاصّ والمشروط، إذ العامّ في ضمن فرد ثانٍ كالحيوان في ضمن الفرس مباين للعامّ في ضمن الفرد المشكوك كالإنسان، وكذلك المطلق في ضمن مقيّد آخر كالصلاة في ضمن الحدث مباين للمطلق في ضمن المقيّد المشكوك، كالصلاة مع الطّهارة {كما لا يخفى}.

هذا كلّه بالنسبة إلى البراءة العقليّة عن خصوصيّة الخاصّ وشرط المشروط {نعم، لا بأس بجريان البراءة النّقليّة} لحديث الرّفع(1) وحديث الحجب(2)

وما أشبهها {في خصوص دوران الأمر بين المشروط وغيره} كما لو شكّ في وجوب

ص: 394


1- الخصال 2: 417.
2- التوحيد: 413.

دون دوران الأمر بين الخاصّ وغيره؛ لدلالة مثل حديث الرّفع على عدم شرطيّة ما شكّ في شرطيّته، وليس كذلك خصوصيّة الخاصّ؛ فإنّها إنّما تكون منتزعة عن نفس الخاصّ،

فيكون الدوران بينه وبين غيره من قبيل الدوران بين المتباينين، فتأمّل جيّداً.

الثّاني: أنّه لا يخفى؛ أنّ الأصل في ما إذا شكّ في جزئيّة شيء

___________________________________________

الطّهارة بالنسبة إلى الصّلاة {دون دوران الأمر بين الخاصّ وغيره} كما لو شكّ في وجوب الإنسان أو مطلق الحيوان {لدلالة مثل حديث الرّفع على عدم شرطيّة ما شكّ في شرطيّته} لأنّ الشّرط المشكوك فيه مرفوع بحكم «رفع ما لا يعلمون».

وقد تقدّم تقريبه في باب الشّكّ في الجزء، فهناك شيء متيقّن هو الصّلاة - مثلاً - وشيء مشكوك فيه لم يعلم أخذه في مصبّ الأمر هو الطّهارة، فجريان حديث الرّفع فيها كاف في رفع ما ينتزع منها الّذي هو الشّرطيّة.

{وليس كذلك خصوصيّة الخاصّ} كناطقيّة الإنسان في ما لو شكّ بأنّ المأمور به الإتيان بإنسان أو مطلق حيوان {فإنّها إنّما تكون منتزعة عن نفس الخاصّ} لا عن شيء آخر خارج، كالطهارة الّتي كانت منتزعة عن شيء خارج عن الصّلاة وهو الوضوء والغسل والتيمّم، وحيث إنّها منتزعة من نفس الخاصّ تكون مقوّمة لنفس الواجب {فيكون الدوران بينه} أي: بين الخاصّ {وبين غيره} كسائر أفراد العام المتحقّقة في ضمن سائر الخصوصيّات {من قبيل الدوران بين المتباينين} فليس هناك متيقّن ومشكوك حتّى نقول بجريان البراءة عن المشكوك، بل هناك شيء وشيء آخر، كما تقدّم تقريبه {فتأمّل جيّداً} حتّى لا يختلط عليك الأمر.

[التنبيه الثّاني]

التنبيه {الثّاني} في ما لو نسي الجزء كما لو نسي الحمد، فهل تجب إعادة الصّلاة أم لا؟ {أنّه لا يخفى أنّ الأصل في ما إذا شكّ في جزئيّة شيء} كالحمد

ص: 395

أو شرطيّته في حال نسيانه عقلاً ونقلاً، ما ذكر في الشّكّ في أصل الجزئيّة أو الشّرطيّة، فلولا مثل حديث الرّفع مطلقاً، و«لا تعاد» في الصّلاة، يحكم عقلاً بلزوم إعادة ما أخلّ بجزئه أو شرطه نسياناً،

___________________________________________

{أو شرطيّته} كالطهارة {في حال نسيانه} وأنّه هل هو شرط وجزء مطلقاً في حالتي الذكر والنّسيان أم لا بل خاصّ بحال الذكر، حتّى أنّه لو نسيهما وأتى بالصلاة - مثلاً - لم تجب الإعادة والقضاء لو تذكر بعد ذلك؟ {عقلاً ونقلاً} متعلّق بقوله: «الأصل» {ما ذكر في الشّكّ في أصل الجزئيّة أو الشّرطيّة} كما لو شكّ بأنّ السّورة جزء أم لا، أو الطّهارة في سجدة السّهو شرط أم لا، فإنّ مقتضى الأصل الاحتياط، فإنّ حال الجزء والشّرط المشكوكين في بعض الأحوال - كحال النّسيان- حالهما في جميع الأحوال.

هذا من جهة العقل، أمّا من جهة النّقل فأدلّة البراءة وما أشبهها محكمة {فلولا مثل حديث الرّفع مطلقاً} الجاري في جميع أبواب العبادات من صلاة وصوم وحجّ واعتكاف وغيرها {و} حديث {«لا تعاد} الصّلاة إلّا من خمس: الرّكوع، والسّجود، والقبلة، والوقت، والطّهور»(1)

{في الصّلاة} وإنّما قيّده لمعلوميّة أنّ هذا الحديث لا يجري في غير الصّلاة بخلاف حديث الرّفع {يحكم عقلاً بلزوم إعادة ما أخلّ بجزئه أو شرطه نسياناً}.

أمّا وهذان الحديثان موجودان فالأصل الشّرعي عدم لزوم الإعادة والقضاء في باب نسيان الشّرط والجزء، فلو نسى جزءاً أو شرطاً ثمّ ذكر لم يجب الإتيان بالعمل ثانياً، إلّا إذا كان في باب الصّلاة من أحد الخمسة المستثناة، بأن نسي الطّهارة أو الرّكوع أو الثلاثة الأُخر.

نعم، يشترط صدق ذلك العمل، فلو نسي جميع الأجزاء والشّرائط أتى بالعمل

ص: 396


1- مستدرك الوسائل 4: 429.

كما هو الحال في ما ثبت شرعاً جزئيّته أو شرطيّته مطلقاً، نصّاً أو إجماعاً.

ثمّ لا يذهب عليك:

___________________________________________

بما لا يسمّى الصّلاة وإن كانت مشتملة على الخمسة لم يكف ووجبت الإعادة والقضاء، كما لو كبّر وأتى بصورة الرّكوع بدون ذكر واستقرار وطمأنينة وقام وسجد السّجدتين وهكذا أتمّ العمل لم يكف لعدم تسميته صلاة، مضافاً إلى عدم استبعاد انصراف الدليل عن مثلها.

وعلى أيّ حال، فلولا الحديثان لزم الإعادة بالنسبة إلى كلّ فاقد شرط أو جزء {كما هو الحال في ما ثبت شرعاً جزئيّته} كالركوع {أو شرطيّته} كالطهارة {مطلقاً} وفي كلّ حال {نصّاً} كالخمسة المذكورة في حديث «لا تعاد» {أو إجماعاً} كتكبيرة الافتتاح وسائر الأركان، وكأنّ وجه الإجماع في بعضها عدم صدق الصّلاة بدونها، كما لا يخفى.

{ثمّ لا يذهب عليك} أنّه يظهر من كلمات الشّيخ(1) أنّ النّسيان لا يسبّب سقوط الجزء أو الشّرط عن الجزئيّة والشّرطيّة في حال النّسيان حتّى يكونان خاصّين بحال الذكر، بل إنّما يكون الشّارع قد قبل غير المأمور به مكان المأمور به - في حال النّسيان - كما قبل صلاة الإخفات مكان الجهر في الصّبح والعشائين عن الجاهل.

وإنّما نقول بعدم سقوط الجزء أو الشّرط في هذا الحال؛ لأنّه لا يمكن أن يكون المأمور النّاسي مخالفاً المأمور المتذكّر، إذ لو كان المأمور النّاسي قسماً خاصّاً لزم توجّه خطاب خاصّ إليه، كأن يقال: (يا أيّها النّاسي تجب عليك الصّلاة بلا سورة) وبمجرّد هذا الخطاب يخرج النّاسي عن كونه ناسياً وينقلب الموضوع إلى المتذكّر.

ص: 397


1- فرائد الأصول 2: 363.

أنّه كما يمكن رفع الجزئيّة أو الشّرطيّة في هذا الحال بمثل حديث الرّفع، كذلك يمكن تخصيصها

___________________________________________

والحاصل: أنّ التكليف الخاصّ محتاج إلى خطاب خاصّ، والخطاب الخاصّ موجب لعدم التكليف الخاصّ - لانقلاب الموضوع - فلا تكليف خاصّ، وتكون السّورة - مثلاً - جزءاً بالنسبة إلى كليهما، لكن الشّارع قبل غير المأمور به - عن النّاسي - مكان المأمور به.

لكن لا يخفى أنّ المحذور الّذي ذكره الشّيخ(رحمة الله) منظور فيه، لإمكان أن يجعل الشّارع أجزاء الصّلاة تسعة - بصورة عامّة - ثمّ يجعل أجزاء إضافيّة بالنسبة إلى غير النّاسي، حتّى لا يكون الجزء جزءاً بالنسبة إلى النّاسي، كما لو كان للمولى عبيد فأمر أمراً عامّاً باشتغال كلّ واحد ثمان ساعات ثمّ أمر بعض عبيده بإضافة ساعتين على ساعاتهم الثمانية، ولإمكان أن يجعل الشّارع جميع الأجزاء للجميع بخطاب عامّ، كأن يقول: (وائتوا بالسورة في الصّلاة) ثمّ يخاطب النّاسي بقوله: (يا أيّها الرّجل لا يجب عليك الإتيان بالسورة) فلا يخاطبه بالناسي حتّى ينقلب عن موضوعه الأوّل، كما يصحّ أن يخاطبه بالناسي، لكن لا يبيّن متعلّق النّسيان حتّى ينقلب ذاكراً، كأن يقول: (يا أيّها النّاسي لبعض أجزاء الصّلاة إنّما الواجب عليك تكبيرة، وحمد، وركوع، وسجود) مثلاً.

وما ذكرناه من كون الجزء المنسي في حقّ النّاسي أيضاً جزءاً هو مقتضى ظاهر أدلّة الجزئيّة بعد الجمع بينها وبين دليل «لا تعاد»، أمّا ما ذكره الشّيخ فهو خلاف الظّاهر صار إليه للمحذور الّذي ذكره، لكن عرفت النّظر في المحذور، ف- {إنّه كما يمكن رفعالجزئيّة أو الشّرطيّة في هذا الحال} أي: حال النّسيان {بمثل حديث الرّفع} حتّى يكون حديث الرّفع مخصّصاً لعموم ما دلّ على جزئيّة السّورة وشرطيّة الطّهارة الخبثيّة مثلاً {كذلك يمكن تخصيصها} أي: تخصيص أدلّة الجزء

ص: 398

بهذا الحال بحسب الأدلّة الاجتهاديّة،

كما إذا وجّه الخطاب - على نحو يعمّ الذاكرَ والنّاسي - بالخالي عمّا شكّ في دخله مطلقاً، وقد دلّ دليل آخر على دخله في حقّ الذاكر،

___________________________________________

والشّرط {بهذا الحال} أي: حال الذكر حتّى يكون ما دلّ على الجزئيّة والشّرطيّة خاصّاً - من أوّل الأمر - دائرته ضيّقة، بمعنى أن يكون مختصّاً بالذاكر.

ومن المعلوم أنّ عدم حكم على موضوع يمكن أن يكون بالتخصيص، ويمكن أن يكون بالتخصّص، فمرّة يقول: (أكرم العلماء) ثمّ يقول: (لا تكرم الفسّاق منهم) ومرّة يقول: (أكرم العلماء العدول) {بحسب الأدلّة الاجتهاديّة} مقابل الأصول العمليّة. والأصل العملي هو الّذي أخذ الجهل بالواقع في موضوعه مثل: «ما لا يعلمون»، والدّليل الاجتهادي هو الّذي يكون الحكم على الواقع نحو سائر الفقرات في حديث الرّفع، إذ الرّفع منصب على الواقع، كما لا يخفى.

وقد ذكر العلّامة المشكيني(رحمة الله) في تعليقته على المقام ما يفهم منه وجه الفرق بين قوله أوّلاً: «بمثل حديث الرّفع» وثانياً: «بحسب الأدلّة الاجتهاديّة»، فراجع(1).

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) مثّل للثاني وهو قوله: «كذلك يمكن» بقوله: {كما إذا وجّه الخطاب على نحو يعمّ الذاكر والنّاسي} كما لو قال: (يا أيّها الّذين آمنوا)، ولكن كان الخطاب {بالخالي عمّا شكّ في دخله} كجلسة الاستراحة مثلاً، فقال: (إنّ أجزاء الصّلاة تسعة) حتّى أنّ التكليف العامّ كان بتسعة أجزاء فقط {مطلقاً} بالنسبة إلى النّاسي والذاكر {و} لكن {قد دلّ دليل آخر على دخله} أي: دخل ما شكّ كجلسة الاستراحة {في حقّ الذاكر}.

ص: 399


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 276.

أو وجّه إلى النّاسي خطاب يخصّه بوجوب الخالي بعنوان آخر - عامّ أو خاصّ - ، لا بعنوان النّاسي، كي يلزم استحالة إيجاب ذلك عليه بهذا العنوان؛ لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة، كما توهّم لذلك استحالة تخصيص الجزئيّة أو الشّرطيّة بحال الذكر، وإيجاب العمل الخالي عن المنسي على النّاسي، فلا تغفل.

الثّالث:

___________________________________________

ومثّل للأوّل وهو قوله: «كما يمكن» بقوله: {أو وجّه إلى النّاسي خطاب يخصّه بوجوب الخالي} ولكن كان الخطاب {بعنوان آخر عامّ} نحو (يا أيّها الرّجل) {أو خاصّ} نحو (يا من ضعفت ذاكرته) و{لا} يكون الخطاب {بعنوان النّاسي} كأن يقول: (يا أيّها النّاسي) {كي يلزم} المحذور الّذي ذكره الشّيخ من {استحالة إيجاب ذلك} الخالي عن الجزء العاشر مثلاً {عليه} أي: على النّاس {بهذا العنوان} أي: بعنوان أنّه ناسي.

ووجّه الاستحالة المذكورة في كلام الشّيخ ما ذكره بقوله: {لخروجه} أي: النّاسي {عنه} أي: عن كونه ناسياً {بتوجيه الخطاب} بهذا العنوان {إليه لا محالة، كما توهّم لذلك} أي: للاستحالة المذكورة {استحالة تخصيص الجزئيّة أو الشّرطيّة بحال الذكر} حتّى يكون الشّرط والجزء مخصّصين بالذاكر {وإيجاب العمل الخالي عن} الجزء {المنسي} كالسورة المنسيّة {على النّاسي، فلا تغفل} يعني توهّم أنّ محذور الاستحالة في كلتا الحالتين، حالة أن يقول: (يا أيّها النّاسي تجب عليك تسعة أجزاء)، وحالة أن يقول: (يا أيّها الّذين آمنوا تجب عليكم عشرة أجزاء) (يا أيّها النّاسي لا يجب عليك الجزء العاشر).

ولا يخفى أنّ الكلام في المقام يحتاج إلى تفصيل لا يسعه الشّرح.

[التنبيه الثّالث]

{الثّالث} من التنبيهات إذا شكّ في شيء وهل أنّه مخلّ أم لا؟ كما لو شكّ في

ص: 400

أنّه ظهر - ممّا مرّ - ، حالُ زيادة الجزء إذا شكّ في اعتبار عدمها شرطاً أو شطراً في الواجب - مع عدم اعتباره في جزئيّته، وإلّا لم يكن من زيادته، بل من نقصانه - ؛

___________________________________________

أنّ قراءة السّورة في الرّكعة الثّالثة مخلّة بالصلاة أم لا، فالبراءة تقتضي عدم الإخلال، فإذا قرأ في الرّكعة الثّالثة بعد الحمد - الّذي هو عدل التسبيحات الأربعة - السّورة كان مقتضى القاعدة عدم بطلان الصّلاة، ف- {إنّه} قد {ظهر ممّا مرّ} في التنبيه الثّاني {حال زيادة الجزء إذا شكّ في اعتبار عدمها شرطاً} بأن يكون من شرط الصّلاة عدم قراءة السّورة في الرّكعة الثّالثة، كما أنّ من شرط الصّلاة عدم الضّحك ونحوه {أو شطراً} بأن كان العدم جزءاً من الواجب، فإنّه كما أنّ الشّيء الوجودي قد يكون شرطاً وقد يكون جزءاً كذلك عدم شيء قد يكون شرطاً وقد يكون جزءاً، والفرق أنّ الصّلاة لو كانت مركّبة من وجودات وأعدام - كالحجّ - يكون الأمر العدمي جزءاً، ولو كانت مركّبة من وجودات وكان الأمر العدمي خارجاً لكن أخذت الصّلاة بشرط السّكون به كان العدم شرطاً، فتدبّر.

وعلى أيّ حال، تجري البراءة لو شكّ في الاشتراط وأنّه هل يشترط {في الواجب} عدم السّورة أم لا؟ لكن لا يخفى أنّ تسمية هذا من الشّكّ في الزيادة إنّما يكون إذا لم تكن الحمد الواجبة مشروطة بعدم هذه السّورة حتّى يكون إتيان السّورة مبطلاً للحمد، بل كانت السّورة كسائر الموانع - كالضحك ونحوه - ممّا يضرّ بأصل الصّلاة، أمّا لو كان هذا الشّيء الزائد - كالسورة - ممّا يضرّ وجوده بالحمد - أي: مبطلاً لها - كان زيادته مسبّباً لنقص الصّلاة، إذ تصبح الصّلاة بلا حمد.

وهذا ما أشار إليه بقوله: {مع عدم اعتباره} أي: اعتبار هذا المشكوك عدمه {في جزئيّته} أي: لم يعتبر عدمه في الجزء {وإلّا} فلو كان معتبراً عدمه في الجزء بحيث يسقط الجزء - كالحمد - عن جزئيّته إذا جاء بهذا الشّيء - كالسورة - {لم يكن من زيادته} أي: زيادة الجزء {بل من نقصانه} لأنّ وجوده سبب عدم

ص: 401

وذلك لاندراجه في الشّكّ في دخل شيء فيه جزءاً أو شرطاً، فيصحّ لو أتى به مع الزيادة عمداً تشريعاً، أو جهلاً - قصوراً أو تقصيراً - أو سهواً، وإن استقلّ العقل - لولا النّقل - بلزوم الاحتياط؛ لقاعدة الاشتغال.

نعم،

___________________________________________

وجود الحمد الّذي هو جزء الصّلاة.

{وذلك} الّذي قلنا من ظهور حال الزيادة ممّا مرّ {لاندراجه} أي: لاندراج هذا المبحث {في الشّكّ في دخل شيء فيه} أي: في المأمور به {جزءاً أو شرطاً} فيكون أخذ العدم شرطاً أو جزءاً، مثل أخذ الوجود شرطاً أو جزءاً، فيكون حاله حال سابقه في عدم جريان البراءة العقليّة، وإنّما تجري البراءة الشّرعيّة فيه {فيصحّ لو أتى به مع} هذه {الزيادة} سواء كان الإتيان بالزيادة {عمداً تشريعاً} كما لو أتى في العبادة بشيء مشكوك ضرره عامداً مشرعاً، بأن علم أنّ الزيادة ليست من العبادة ومع ذلك أتى بها بعنوان الزيادة.

ولا يخفى أنّه حينئذٍ يكون فعله حراماً، ولا يسبّب ذلك بطلان صلاته - مثلاً - لإجراء البراءة كما تقدّم {أو جهلاً} بأنّ هذه الزيادة محتمل الضّرر، بل اعتقد كونها واجبة {قصوراً} بأن لم يتمكّن من تحصيل العلم {أو تقصيراً} في ما لو تمكّن وتساهل كأغلب الجهّال {أو سهواً} عن الواقع ونسياناً.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من صحّة العبادة المتضمّنة لهذه الزيادة إنّما كانت من جهة الشّرع {وإن استقلّ العقل - لولا النّقل} أي: البراءة النّقليّة {بلزوم الاحتياط لقاعدة الاشتغال} الّتي تقدّمت في المبحث السّابق.

{نعم} إنّ ما ذكرنا من صحّة العبادة المشتملة على الجزء الزائد إنّما تكون في ما إذا لم يقيّد الأمر بهذه الزيادة، أمّا إذا قيّده بها - كما لو نوى أنّي أُصلّي الصّلاة الّتي أمر اللّه بها مع السّورة في الرّكعة الثّالثة - فإنّه في هذه الصّورة إن لم يكن

ص: 402

لو كان عبادةً، وأتى به كذلك - على نحوٍ لو لم يكن للزائد دخلٌ فيه لَما يدعو إليه وجوبه - ، لكان باطلاً مطلقاً، أو في صورة عدم دخله فيه؛لعدم قصور الامتثال في هذه الصّورة، مع استقلال العقل بلزوم الإعادة مع اشتباه الحال؛ لقاعدة الاشتغال.

___________________________________________

للسورة أمر واقعاً بطلت الصّلاة عقلاً - للاشتغال - ونقلاً؛ لأنّه تشريع في ناحية الأمر، إذ لا أمر بمثل هذه الصّلاة.

وإن شئت قلت: إنّ الأمر الواقعي غير مقصود، والمقصود للمكلّف - وهو الصّلاة بالسورة في الثّالثة - غير مأمور به، وإن كان للسورة أمر - بأن كانت جزءاً في الرّكعة الثّالثة واقعاً - احتمل البطلان؛ لأنّ هكذا نيّة لمن لا يعلم بالجزئيّة خلاف مقام العبوديّة، واحتمل الصّحّة؛ لأنّ المأتي به مطابق للواقع والنّيّة صادفت الأمر الواقعي، منتهى الأمر أنّه متجرّئ بنيّته لا أنّ صلاته باطلة، ف- {لو كان} المأتي به {عبادة} كالصلاة {وأتى به كذلك} أي: مع هذا الجزء المشكوك فيه - كالسورة في الرّكعة الثّالثة - وكان الإتيان {على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه} أي: في المأتي به {لما يدعو إليه} أي: إلى الزائد {وجوبه} فاعل «يدعو».

وذلك بأن نوى: إنّي آتي بالصلاة المأمور بها مع السّورة في الثّالثة، بحيث كان لا يدعو أمر الصّلاة إلى مثل هذه الصّلاة، إذ كان الأمر بالخالي عن السّورة فيكون الأمر الّذي نواه غير ما أمر به الشّارع {لكان} المأتي به المشتمل على الزائد {باطلاً مطلقاً} سواء كان الزائد جزءاً واقعاً أو لم يكن، أمّا إذا لم يكن فواضح، وأمّا إذا كان فلأنّ مثل هذه النّيّة لمن لا يعلم بالجزئيّة خلاف مقام العبوديّة {أو} يكون باطلاً {في صورة عدم دخله} أي: الزائد {فيه} أي: في الماتيّ به واقعاً {لعدم قصور الامتثال في هذه الصّورة} أي: صورة الإتيان بالزيادة على نحو التقييد في ما لم يكن الزائد واقعاً مأموراً به {مع استقلال العقل بلزوم الإعادة} لما تقدّم في المبحث السّابق من عدم جريان البراءة العقليّة في مثل هذه الموارد {مع اشتباه الحال لقاعدة الاشتغال} ولا براءة شرعيّة.

ص: 403

وأمّا لو أتى به على نحو يدعوه إليه - على أيّ حال - كان صحيحاً، ولو كان مشرِّعاً في دخله الزائد فيه بنحو؛ مع عدم علمه بدخله فإنّ تشريعه في تطبيق المأتي به مع المأمور به، وهو لا ينافي قصدَه الامتثالَ والتقرّب به على كلّ حال.

ثمّ إنّه ربّما يتمسّك - لصحّة ما أتى به مع الزيادة - باستصحاب الصّحّة.

___________________________________________

هذا كلّه في ما لو أتى بالزائد المشكوك فيه تشريعاً على نحو التقييد {وأمّا لو أتى به} على نحو الخطأ في التطبيق - بأن يكون الأمر داعيه إلى إيجاد الصّلاة، لكنّه يظنّ أنّ الأمر متوجّه إلى الصّلاة مع سورة في الرّكعة الثّالثة، فينوي الأمر بالصلاة الّتي من أجزائها هذه السّورة حتّى أنّه لو علم بأنّ السّورة ليست جزءاً أتى بالصلاة أيضاً - فكان الإتيان {على نحو يدعوه} الأمر {إليه على أيّ حال} سواء كانت الصّلاة مع السّورة واقعاً أو بلا سورة، وذلك بخلاف الصّورة الأُولى الّتي هي كانت من باب التقييد بحيث لا يأتي بالصلاة لو لم تكن السّورة جزءها {كان} المأتي به بهذه الزيادة {صحيحاً ولو كان مشرِّعاً في دخله الزائد فيه بنحو} أي: بأيّ نحو {مع عدم علمه بدخله} أمّا الصّحّة، فلأنّه أتى بالمأمور به وقصد الأمر الواقعي المنطبق عليه، وأمّا التشريع في إتيان هذا الجزء، {فإنّ-} -ه بسبب {تشريعه في تطبيق المأتي به مع المأمور به} فالمأمور به الصّلاة بلا سورة والمأتي به الصّلاة معها {وهو} أي: هذا التشريع الّذي هو خارج عن العبادة {لا ينافي قصده الامتثال والتقرّب به} أي: بهذا المأتي به {على كلّ حال} لأنّه كان قاصداً إلى الأمر سواء كان هذا الزائد جزءه أم لا، فتحصّل أنّه لو أتى على نحو التقييد بطل ولو أتى على نحو الخطأ في التطبيق صحّ.

{ثمّ إنّه} لو أتى بالصلاة مع هذه الزيادة في صورة التقييد الّتي ذكرنا بطلانها ف- {ربّما يتمسّك لصحّة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصّحّة} فيقال: إنّ الصّلاة

ص: 404

وهو لا يخلو من كلام ونقض وإبرام خارج عمّا هو المهمّ في المقام، ويأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب إن شاء اللّه - تعالى - .

الرّابع:

___________________________________________

كانت صحيحة قبل أن يأتي في الرّكعة الثّالثة بالسورة، فإذا أتينا بالسورة فيها نشكّ في بطلانها فالأصل الصّحّة {وهو لا يخلو منكلام ونقض وإبرام} إذ لو أُريد بالصحّة المستصحبة أنّ الأجزاء السّابقة كانت صحيحة قبل إتيان السّورة، فذلك لا ينفع في صحّة بقيّة الأجزاء، وإن أُريد صحّة مجموع ما سبق السّورة وما يلحقها، فلا حالة سابقة له، لكن الكلام حول هذا الاستصحاب وأنّه هل له وجه صحيح أم لا؟ {خارج عمّا هو المهمّ في المقام، ويأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب إن شاء اللّه - تعالى -} وإنّه يمكن تصحيحه ببعض الوجوه.

[التنبيه الرّابع]

{الرّابع} لو علمنا بكون السّتر - مثلاً - شرطاً للصلاة أو علمنا بأنّ الرّكوع - مثلاً - جزء لها، ثمّ شككنا في أنّه هل الشّرطيّة والجزئيّة لهما مطلقة حتّى في حال العجز عنهما أو مقيّدة بحال التمكّن، حتّى تكون النّتيجة أنّه على تقدير الإطلاق للجزئيّة والشّرطيّة أنّ المكلّف لو لم يتمكّن منهما سقط أصل التكليف بالصلاة، وعلى تقدير التقييد بحال الاختيار والقدرة لو لم يتمكّن المكلّف منهما لزم الإتيان بالصلاة الفاقدة لهما، كان مقتضى القاعدة - في ما لم يكن هناك دليل على الإطلاق أو التقييد - القول بسقوط أصل التكليف إذا عجز عنهما؛ لأنّ الصّلاة المعلومة إنّما هي الواجدة للشرط والجزء، فالفاقدة لم يعلم التكليف بها والأصل البراءة.

ولا يخفى أنّ النّحوين موجودان في العبادات، فالصلاة بدون الرّكوع لمن عجز عنه حتّى عن الإشارة واجبة، والصّوم بدون الإمساك عن الأكل - لمن لا يقدر

ص: 405

أنّه لو علم بجزئيّة شيء أو شرطيّته في الجملة، ودار الأمر بين أن يكون جزءاً أو شرطاً مطلقاً ولو في حال العجز عنه، وبين أن يكون جزءاً أو شرطاً في خصوص حال التمكّن منه - فيسقط الأمرُ بالعجز عنه على الأوّل؛ لعدم القدرة حينئذٍ على المأمور به، لا على الثّاني فيبقى معلّقاً بالباقي - ، ولم يكن هناك ما يعيّن أحدَ الأمرين، - من إطلاق دليل اعتباره جزءاً أو شرطاً، أو إطلاق دليل المأمور به،

___________________________________________

على الإمساك عنه وإن قدر على الإمساك عن سائر المفطرات - غير واجب.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {إنّه لو علم بجزئيّة شيء أو شرطيّته في الجملة} إمّا مطلقاً وإمّا في حال القدرة فقط {ودار الأمر بين أن يكون جزءاً أو شرطاً مطلقاً} وبين الإطلاق بقوله: {ولو في حال العجز عنه} أي: عن ذلك الجزء أو الشّرط، كما لو عجز عن الرّكوع أو عن السّتر - مثلاً - {وبين أن يكون جزءاً أو شرطاً في خصوص حال التمكّن منه} وذكر نتيجة هذا الشّكّ بقوله: {فيسقط الأمر} المتعلّق بالصلاة - مثلاً - {بالعجز عنه} أي: بالعجز عن ذلك الجزء أو الشّرط {على الأوّل} الّذي هو اشتراط المكلّف به بهذا الجزء، والشّرط مطلقاً حتّى أنّ التكليف ليس بالفاقد {لعدم القدرة حينئذٍ على المأمور به} فلا أمر، إذ القدرة من الشّرائط العقليّة للتكليف، و{لا} يسقط الأمر {على الثّاني} الّذي هو اختصاص الشّرط والجزء بحال التمكّن {فيبقى} الأمر {معلّقاً بالباقي} الّذي يقدر عليه كسائر الأجزاء والشّرائط بدون الرّكوع والسّتر - مثلاً - {ولم يكن هناك ما يعيّن أحد الأمرين} من إطلاق الشّرط والجزء أو تقييدهما بحال التمكّن {من إطلاق دليل اعتباره} أي: اعتبار ذلك الجزء والشّرط.

وهذا بيان للمعيّن، يعني أنّه لو كان لدليل الشّرط والجزء إطلاق، بأن دلّ الدليل على أنّ هذين {جزءاً أو شرطاً} في جميع الأحوال، حتّى يتعيّن الإطلاق ويتحقّق أنّه لا صلاة بدونهما ولو في حال العجز {أو إطلاق دليل المأمور به} أي:

ص: 406

مع إجمال دليل اعتباره أو إهماله - ، لاستقلّ العقل بالبراءة عن الباقي؛ فإنّ العقاب على تركه بلا بيان، والمؤاخذةَ عليه بلا برهان.

لا يقال:

___________________________________________

دلّ الدليل على أنّ الصّلاة مطلقاً مطلوبة، سواء كانت مع الجزء أو الشّرط أو بدونهما {مع إجمال دليل اعتباره} أي: اعتبار ذلك الجزء والشّرط، بأن كان دليلهما الإجماع ممّا لا إطلاق له {أو إهماله} أي: إهمال دليل اعتبار الجزء والشّرط، بأن دلّ على الاعتبار في الجملة.

وفي هذا الحال - أي: إطلاق دليل المأمور به مع إجمال أو إهمال دليل الشّرط والجزء - يجب الإتيان بالباقي في حال العجز عنهما{لاستقلّ العقل بالبراءة} هذا جواب قوله: «لو علم» أي: لو علم بأصل الجزء والشّرط وشكّ في إطلاقهما أو تقييدهما كان العقل مستقلّاً بإجراء البراءة {عن الباقي} في صورة عدم التمكّن من ذلك الجزء والشّرط؛ لأنّ الأمر المعلوم المتعلّق بالجامع للأجزاء والشّرائط ساقط، وأمر آخر بالناقص غير معلوم، فالأصل البراءة {فإنّ العقاب على تركه} أي: ترك الباقي - النّاقص الفاقد للجزء والشّرط - {بلا بيان والمؤاخذة عليه} أي: على الترك {بلا برهان} كما لا يخفى.

{لا يقال}: إذا شككنا في اشتراط الصّلاة بالركوع والسّتر في حال العجز كان مقتضى حديث الرّفع عدم الجزئيّة والشّرطيّة للمشكوك، وذلك ممّا يلازم بقاء التكليف.

وإن شئت قلت: إنّ الشّكّ في وجوب النّاقص ناشٍ عن الشّكّ في اعتبار الجزء والشّرط في هذا الحال، فإذا رفع هذا الشّكّ بحديث الرّفع ثبت وجوب النّاقص، كما هو كذلك في حال النّسيان للجزء والشّرط.

ص: 407

نعم، ولكن قضيّة مثل حديث الرّفع عدم الجزئيّة أو الشّرطيّة إلّا في حال التمكّن منه.

فإنّه يقال: إنّه لا مجال هاهنا لمثله؛ بداهة أنّه ورد في مقام الامتنان، فيختصّ بما يوجب نفي التكليف، لا إثباته.

نعم، ربّما يقال: «بأن قضيّة الاستصحاب في بعض الصّور وجوب الباقي في حال التعذّر أيضاً».

___________________________________________

فما ذكرتم {نعم} صحيح {ولكن قضيّة مثل حديث الرّفع عدم الجزئيّة أو الشّرطيّة إلّا في حال التمكّن منه} وذلك ينتج وجوب الإتيان بالباقي.

{فإنّه يقال}: إنّ حديث الرّفع وارد في مقام الامتنان والمنّة على العباد برفع كلفة «ما لا يعلمون» عنهم، فإذا أُريد بهذا الحديث إثبات وجوب النّاقص كان منافياً للمنّة، ف- {إنّه لا مجال هاهنا} الّذي يراد بالحديث إثبات التكليف بالنسبة إلى النّاقص {لمثله} أي: مثل حديث الرّفع الوارد امتناناً {بداهة أنّه} أي: الحديث {ورد في مقام الامتنان فيختصّ بما يوجب نفي التكليف} و{لا} يجري في ما يراد به {إثباته} أي: إثبات التكليف، كالمقام.

{نعم، ربّما يقال: «بأنّ} مقتضى الدوران بين الجزئيّة والشّرطيّة المطلقة وبين المقيّدة وإن كان إجراء البراءة في حال العجز والتعذّر، إلّا أنّ {قضيّة الاستصحاب في بعض الصّور} وهي صورة طروّ العجز وبقاء أغلب الأجزاء ممكناً {وجوب الباقي في حال التعذّر أيضاً»} فإنّه لو كان أوّل الظّهر متمكّناً من الصّلاة الكاملة ثمّ عرض عدم التمكّن من السّتر كان مقتضى الاستصحاب بقاء الوجوب؛ لأنّه علم بالوجوب ثمّ شكّ فيه من جهة التعذّر، فمقتضى «لا تنقض اليقين بالشكّ» بقاء ذلك الوجوب.

وإنّما قيّدنا الاستصحاب بذينك القيدين؛ لأنّه إن كان العجز من أوّل الأمر - كما لو كان عجزه من قبل دخول الوقت - لم يكن للوجوب حالة سابقة حتّى يستصحب، بل كان الشّكّ في أصل التكليف الّذي هو مجرى البراءة، كما أنّه لو

ص: 408

ولكنّه لا يكاد يصحّ إلّا بناءً على صحّة القسم الثّالث من استصحاب الكلّي،

___________________________________________

كان العجز عن أجزاء كثيرة بحيث كان الممكن غير الصّحيح السّابق - كما لو طرأ العجز عن جميع الأجزاء والشّرائط باستثناء القراءة مثلاً - لم يستصحب الوجوب، لاشتراط وحدة السّابق واللّاحق في باب الاستصحاب.

{ولكنّه} مع توفّر هذين الشّرطين أيضاً {لا يكاد يصحّ} هذا الاستصحاب، إذ هذه الأجزاء الباقية كانت سابقاً واجبة بالوجوب الغيري والحال يراد إثبات الوجوب النّفسي لها، ومن المعلوم أنّ الوجوبين مختلفان، فإنّها سابقاً كانت واجبة في ضمن وجوب الكلّ، فكان وجوبها غيريّاً، أمّا الآن - وبعد تعذّر بعض الأجزاء - لو كانت واجبة كان الوجوب لها فقط وهو الوجوب النّفسي، فكيف يستصحب الوجوب الغيري لإثبات الوجوب النّفسي؟ {إلّا بناءً على صحّة القسم الثّالث من استصحاب الكلّي} وهو ما لو كان الكلّي موجوداً في ضمن فرد ثمّ علمنا بزوال ذلك الفرد واحتملنا وجود فرد آخر مقارن لزوال ذلك الفرد.

مثلاً: لو كان في الدار زيد ممّا تحقّق به كلّي الإنسان ثمّ علمنا بذهاب زيد واحتملنا دخول عمرو عند خروج زيد، فهل يصحّ استصحابالكلّي - أي: الإنسان - في الدار؛ لأنّه علم سابقاً بوجود هذا الكلّي ثمّ شكّ في زواله، أم لا يصحّ؛ لأنّ حصّة الكلّي الموجودة في ضمن زيد متيقّن الارتفاع والحصّة الجديدة الموجودة في ضمن عمرو مشكوك الحدوث؟ فيه كلام سيأتي في باب الاستصحاب(1)

- إن شاء اللّه تعالى - .

وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ للوجوب فردان: الوجوب النّفسي والوجوب الغيري، فمن يجوّز مثل هذا الاستصحاب يقول: إنّا علمنا سابقاً بوجود كلّي الوجوب للصلاة ثمّ شككنا في ارتفاع الكلّي - بسبب تعذّر الجزء أو الشّرط -

ص: 409


1- الوصول إلى كفاية الأصول 5: 112.

أو على المسامحة في تعيين الموضوع في الاستصحاب، وكان ما تعذّر ممّا يسامَح به عرفاً، بحيث يصدق مع تعذّره بقاءُ الوجوب لو قيل بوجوب الباقي، وارتفاعُه لو قيل بعدم وجوبه. ويأتي تحقيق الكلام فيه في غير المقام.

كما أنّ وجوب الباقي في الجملة،

___________________________________________

فالأصل البقاء، إذ الكلّي متحقّق في كلّ من النّفسي والغيري. ومن يمنع عن ذلك يقول: إنّ الوجوب السّابق النّفسي علم بارتفاعه، والوجوب الغيري اللّاحق لا حالة سابقة له ولا يعلم بوجوده.

وكيف كان، فاستصحاب الوجوب متوقّف على صحّة القسم الثّالث من استصحاب الكلّي {أو على المسامحة في تعيين الموضوع في} باب {الاستصحاب} بأن يقال: إنّ هذه الأجزاء السّابقة - بعد تعذّر السّتر أو الرّكوع مثلاً - في نظر العرف هي تلك الصّلاة الّتي كانت واجبة بالوجوب النّفسي، فيستصحب الوجوب النّفسي السّابق؛ لأنّ الموضوع الحالي نفس الموضوع السّابق بنظر العرف، كما لو نقص مقدار من ماء الكرّ ثمّ شكّ في الكريّة، فإنّ الموضوع الباقي هو الموضوع السّابق عرفاً، وإن كان بالنظر الدقّي هذا الماء الباقي غير ذلك الماء السّابق المعلوم كريّته - لفرض أنّه قد نقص منه - . {و} الحاصل: أنّ المبرّر لاستصحاب الوجوب أن نقول: إنّ النّاقص هو ذاك عرفاً؛ لأنّه {كان ما تعذّر} من الأجزاء والشّرائط {ممّا يسامح به عرفاً، بحيث يصدق مع تعذّره بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي} فيرى العرف أنّ نفس ذلك الموضوع السّابق باقٍ لا أنّ الباقي أمر جديد حادث {و} يصدق {ارتفاعه} أي: ارتفاع الوجوب السّابق {لو قيل بعدم وجوبه} فيرى العرف أنّ الوجوب السّابق ارتفع عن موضوعه الباقي لا أنّه ارتفع لارتفاع موضوعه.

{ويأتي تحقيق الكلام فيه} أي: في هذا الاستصحاب {في غير المقام} إن شاء اللّه تعالى {كما أنّ وجوب الباقي} النّاقص {في الجملة} في ما كان معظم الأجزاء

ص: 410

ربّما قيل بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله(صلی الله علیه و آله): «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(1)،

وقوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور»(2)، وقوله: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(3).

و

___________________________________________

باقياً بحيث يصدق عرفاً أنّه ميسور الكلّ {ربّما قيل بكونه مقتضى} قاعدة الميسور.

وإنّما قيّدنا بذلك لأنّ فقد الأجزاء قد يسبّب عدم صدق الاسم، كما لو فقد من ماء اللحم اللحم، فإنّ الباقي لا يسمّى ميسوراً من ماء اللحم، بخلاف ما لو فقد البصل مثلاً، فإنّ الباقي يسمّى ميسوراً من ماء اللحم. وفي المقام كذلك لو تعذّر بعض الأجزاء والشّرائط ممّا يسمّى الباقي - عرفاً - ميسوراً للصلاة تمسّك لإثبات وجوبه بقاعدة الميسور، إذ هو مقتضى {ما يستفاد من قوله(صلی الله علیه و آله): «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»، وقوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور»، وقوله: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»} ممّا دلّ على إرادة الشّارع القدرالممكن من كلّ واجب وإن تعذّر بعض أجزائه وشرائطه.

وإنّما قيّدنا بالميسور مع أنّ الحديثين الآخرين مطلقان من هذه الحيثيّة: «فما استطعتم» شامل حتّى للجزء الواحد، وكذلك «ما لا يدرك»؛ لأنّ الظّاهر من الحديثين بقاء الصّدق، فالماء فقط في ما لو تعذّر الإطعام المأمور به لا يقال له إنّه: ما استطاع من الإطعام، كما لا يصحّ أن يقول: إنّي لم أدرك كلّ المأمور به - الّذي هو الإطعام - فأردت أن لا أترك كلّه.

{و} لكن لا يخفى أنّ في التمسّك بهذه الرّوايات لإثبات الوجوب بعد التعذّر

ص: 411


1- غوالي اللئالي 4: 58، مع اختلاف يسير.
2- غوالي اللئالي 4: 58، مع اختلاف يسير.
3- غوالي اللئالي 4: 58.

دلالة الأوّل مبنيّة على كون كلمة (من) تبعيضيّة، لا بيانيّة، ولا بمعنى الباء.

وظهورُها في التبعيض وإن كان ممّا لا يكاد يخفى، إلّا أنّ كونه بحسب الأجزاء غيرُ واضح؛ لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد.

___________________________________________

عن بعض الأجزاء والشّراط نظراً، إذ {دلالة الأوّل} وهو قوله(صلی الله علیه و آله): «إذا أمرتكم بشيء» الخ، مردّدة بين ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أن يكون (من) في قوله: «منه» بيانيّة، فيكون بياناً للشيء لقوله: «بشيء»، فالمعنى: إذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا ذلك الشّيء مادام تستطيعون الإتيان به، وتكون (من) في المقام من قبيل (من) في قوله - تعالى - : {أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ}(1) أي: فأتوا ذلك الجنس المأمور به مادام الاستطاعة.

الثّاني: أن يكون (من) للتعدية، فيكون المعنى: فأتوا به ما دام الاستطاعة.

الثّالث: أن يكون (من) للتبعيض، نحو قوله - تعالى - : {مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ}(2) فيكون المعنى: فأتوا البعض الممكن منه.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ دلالة الرّواية على قاعدة الميسور {مبنيّة على كون كلمة (من) تبعيضيّة لا بيانيّة ولا بمعنى الباء} الّتي هي للتعدية {وظهورها في التبعيض وإن كان ممّا لا يكاد يخفى} إذ المعنيان الآخران محتاجان إلى عناية ورعاية {إلّا} أنّ التبعيض كما يمكن أن يكون بالنسبة إلى الأجزاء فيراد من بعض الصّلاة - مثلاً - القيام والرّكوع والسّجود، كذلك يمكن أن يكون بالنسبة إلى بعض الأفراد للكلّي، فيراد من بعض الصّلاة صلاة الظّهر مثلاً، إذ كلاهما بعض لكن الأوّل بعض الفرد والثّاني بعض الكلّي، وإذ كان كلّ من المعنيين محتملاً في الرّواية ف- {إنّ كونه بحسب الأجزاء غير واضح، لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد}.

ص: 412


1- سورة الكهف، الآية: 31.
2- سورة البقرة، الآية: 253.

ولو سلم، فلا محيص عن أنّه هاهنا بهذا اللحاظ يراد؛ حيث ورد جواباً عن السّؤال عن تكرار الحجّ بعد أمره به. فقد روي أنّه خطبَ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: «إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ»، فقام عكاشة - ويُروى سراقة بن مالك - فقال: في كلّ عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه، حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال: «ويحك! وما يؤمنك أن أقول نعم؟ واللّه لو قلتُ نعم، لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتم، وإنّما هلك من كان قبلَكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»(1).

___________________________________________

{و} إن قلت: إنّ كون التبعيض بلحاظ الأفراد خلاف الظّاهر، إذ الظّاهر كونه بلحاظ الأجزاء.

قلت: {لو سلم} ذلك ولم يناقش فيه {فلا محيص عن أنّه هاهنا بهذا اللحاظ يراد} أي: إنّ التبعيض في الرّواية هنا بلحاظ الأفراد لا الأجزاء، وإنّما قلنا بأنّه لا محيص لوجود القرينة المعيّنة {حيث} إنّ هذا الحديث {ورد جواباً عن السّؤال عن تكرار الحجّ بعد أمره}(صلی الله علیه و آله) {به} أي: بالحجّ {فقدروي} كما في الوسائل(2)

وغيره باختلاف يسير في ألفاظ الرّوايات {أنّه خطب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: «إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ»، فقام عكاشة - ويروى سراقة بن مالك - فقال: في كلّ عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه، حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثاً} في كلّ مرّة يسأل عنه(صلی الله علیه و آله) وهو لا يجيب {فقال}(صلی الله علیه و آله): {«ويحك! وما يؤمنك أن أقول نعم؟ واللّه لو قلت نعم لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتم، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»} فإنّ الظّاهر من الحديث أنّ المراد

ص: 413


1- بحار الأنوار 22: 31؛ مجمع البيان في تفسير القرآن 3: 386، مع اختلاف يسير.
2- لم نعثر على ذلك في وسائل الشيعة.

ومن ذلك ظهر الإشكال في دلالة الثّاني أيضاً، حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها؛ لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام بالمعسور منها،

___________________________________________

بالإتيان حسب الاستطاعة في أفراد الواجب لا أجزائه؛ لأنّه في مقابل أن يؤتى به كلّ عام لا في مقابل أن يؤتى بالفعل كاملاً غير منقوص.

لا يقال: إنّ الحجّ لا يجب حسب المستطاع، بل مرّة واحدة.

لأنّا نقول: أوّلاً: إنّ هذا الإشكال لا يصحّح كون المراد من الاستطاعة بالنسبة إلى الأجزاء.

وثانياً: أنّ مقتضى الحديث هو ذاك، لكن الدليل الخارجي دلّ على الوحدة، فلا بدّ وأن يحمل على الاستطاعة النّوعيّة من حيث العدد، ومن المعلوم أنّ النّوع لا يستطيعون أكثر من مرّة، فتأمّل.

{و} كيف كان، لا يكون هذا الحديث دليلاً على الميسور الّذي أُريد به الاستدلال على لزوم الإتيان بالناقص إذا تعذّر بعض الأجزاء والشّرائط، و{من ذلك} الإشكال في هذا الحديث {ظهر الإشكال في دلالة} الحديث {الثّاني} وهو قوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور» {أيضاً، حيث لم يظهر} أي: ليس له ظهور {في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها} حتّى يراد بالحديث أنّ الأجزاء الميسورة تبقى واجبة وإن تعذّرت بعض الأجزاء {لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام بالمعسور منها} فإذا وجب عام ولم يتمكّن المكلّف من امتثال تمام أفراده لا يسقط التكليف مطلقاً، بل يجب أن يأتي بما يتمكّن من أفراده.

مثلاً: لو وجب إطعام كلّ فقير فلم يتمكّن أطعم من تمكّن منه. لكن الإنصاف أنّ تخصيص الدليل بالأفراد لا وجه له، بل هو عامّ يشمل ذي الأجزاء وذي الأفراد.

ص: 414

هذا.

مضافاً إلى عدم دلالته على عدم السّقوط لزوماً؛ لعدم اختصاصه بالواجب. ولا مجال معه لتوهّم دلالته على أنّه بنحو اللزوم، إلّا أن يكون المرادُ عدمَ سقوطه بما له من الحكم - وجوباً كان أو ندباً - بسبب سقوطه عن المعسور،

___________________________________________

{هذا مضافاً إلى} أنّه لو سلم دلالة الرّواية على عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها لم يكف في ما نحن بصدده من وجوب الأجزاء الميسورة، إذ الرّواية دلّت على عدم السّقوط، لكن عدم السّقوط أعمّ من عدم السّقوط وجوباً أو استحباباً.

وبعبارة أُخرى: الرّواية تدلّ على ثبوت الميسور، لكن لا دلالة لها على أنّ هذا الثبوت هل هو على وجه الوجوب أو الاستحباب؟

إن قلت: ظاهرها الثبوت وجوباً.

قلت: كلّا، إذ دليل الميسور جار في كلّ واجب ومستحبّ، فيدلّ على بقاء الرّجحان للأجزاء الباقية، والرّجحان أعمّ من الوجوب، ف- {عدم دلالته على عدم السّقوط} لا يفيد المستدلّ، إذ لا يدلّ على عدم السّقوط {لزوماً لعدم اختصاصه} أي: الحديث {بالواجب ولا مجال معه} أي: مع عدم الاختصاص بالواجب {لتوهّم دلالته} أي: دلالة الحديث {على أنّه} أي: عدم السّقوط {بنحو اللزوم} والوجوب.اللّهمّ {إلّا أن} يقال: إنّ ظاهر الحديث عدم سقوط كلّ ميسور بحسبه، فلا يسقط الميسور من الواجب لزوماً ولا يسقط الميسور من المستحبّ ندباً، ف- {يكون المراد عدم سقوطه} أي: الميسور {بما له من الحكم - وجوباً كان أو ندباً - بسبب سقوطه عن المعسور}.

وقوله: «بسبب» متعلّق بقوله: «عدم سقوطه» أي: لا يسقط الحكم السّابق - وجوباً كان أم ندباً - إذا تعسّر بعض الأجزاء، بل يبقى الحكم السّابق على ما

ص: 415

بأن يكون قضيّة الميسور كناية عن عدم سقوطه؛ بحكمه حيث إنّ الظّاهر من مثله هو ذلك - كما أنّ الظّاهر من مثل: «لا ضرر ولا ضرار» هو نفي ما لَه من تكليف أو وضع - ، لا أنّها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه، وبقائه على عهدة المكلّف، كي لا يكون له دلالة على جريان القاعدة في المستحبّات على وجه، أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على

___________________________________________

تيسّر، فالميسّر من صلاة الظّهر واجب، والميسّر من نافلة الظّهر مستحبّ {بأن يكون قضيّة الميسور كناية عن عدم سقوطه} أي: سقوط الميسور {بحكمه} أي: بما له من الحكم {حيث إنّ الظّاهر من مثله} ممّا يثبت الحكم بلسان إثبات الموضوع {هو ذلك} وأنّ نفس الحكم باقٍ، لا أنّ الباقي شيء في الجملة وإن كان مخالفاً للحكم السّابق، فلو قال: (الصّيد بعد الخروج عن الإحرام ثابت) كان معناه أنّ حكم الصّيد الّذي هو الجواز ثابت، فلا يقال أنّه محتمل للوجوب والنّدب والجواز - مثلاً - .

{كما أنّ الظّاهر من مثل: «لا ضرر ولا ضرار»} الّذي هو عكس ما نحن فيه، إذ ما نحن فيه إثبات الحكم بلسان إثبات موضوعه، وهنا نفي الحكم بلسان نفي موضوعه {هو نفي ما له} أي: للموضوع الضّرري {من تكليف أو وضع} فالصوم الضّرري غير واجب، والبيع الضّرري غير لازم الوفاء به، بمعنى أنّ كلّ حكم كان سابقاً للموضوع إذا صار الموضوع ضرريّاً يرتفع ذلك الحكم، وفي ما نحن فيه هكذا، فالميسور من الواجب واجب، ومن المستحبّ مستحبّ.

{لا أنّها} أي: ليس قضيّة الميسور {عبارة عن عدم سقوطه} أي: الميسور {بنفسه وبقائه على عهدة المكلّف} وجوباً {كي لا يكون له} أي: للحديث {دلالة على جريان القاعدة في المستحبّات على وجه} وهو حمل عدم السّقوط على الوجوب {أو لا يكون له} أي: للحديث {دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على}

ص: 416

آخر، فافهم.

وأمّا الثّالث: فبعد تسليم ظهور كون الكلّ في المجموعي لا الأفرادي، لا دلالة له على رجحان الإتيان بباقي الفعل المأمور به - واجباً كان أو مستحبّاً - عند تعذّر بعض أجزائه؛

___________________________________________

وجه {آخر} وهو حمل الثبوت - أي: عدم السّقوط - على الرّجحان في الجملة، بل المراد أنّ الميسور ثابت كما كان في كلّ شيء بحسبه، فالثبوت في الواجب واجب، وفي المستحبّ مستحبّ {فافهم} لعلّه إشارة إلى ما تقدّم منّا من الإشكال في إيراده على قاعدة الميسور قبل قوله: «مضافاً»، فراجع.

{وأمّا} الحديث {الثّالث} وهو قوله: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» الّذي استدلّ به لوجوب النّاقص بعد تعذّر الأجزاء والشّرائط، بمعنى الصّلاة الّتي لا تدرك جميع أجزائها، بل يؤتى ببعضها الّذي يدرك {فبعد تسليم ظهور كون الكلّ} في قوله: «كلّه» {في المجموعي} أي: في الشّيء ذات الأجزاء حتّى يكون المراد بكلّه كلّ أجزائه {لا الأفرادي} أي: في الكلّي ذي الأفراد، نحو الإنسان الّذي هو مشتمل على زيد وعمرو وبكر.

وإنّما قال: «بعد تسليم» لاحتمال أن يكون المراد أنّه لو أمر بالصلاة الكلّي فلم يتمكّن المكلّف من بعض أفرادها يأتي بما يتمكّن من أفرادها الأُخر، كما سبق من المصنّف(رحمة الله) مثله في الرّوايتين السّابقتين، حتّى يكون المعنى الكلّي الّذي لا يدرك المكلّف من الإتيان بجميع أفراده يأتي بما تيسّر من أفراده {لا دلالة له إلّا على رجحان الإتيان بباقي الفعلالمأمور به} فإذا تعذّرت بعض أجزاء الصّلاة رجح الإتيان بالأجزاء الممكنة، فإنّ قوله: «لا يترك» لا دلالة له على حرمة الترك، وإنّما يدلّ على رجحان عدم الترك {واجباً كان أو مستحبّاً عند تعذّر بعض أجزائه}.

ص: 417

لظهور الموصول في ما يعمّهما.

وليس ظهور «لا يترك» في الوجوب - لو سلم - موجباً لتخصيصه بالواجب، لو لم يكن ظهوره في الأعمّ قرينة على إرادة خصوص الكراهة، أو مطلق المرجوحيّة من النّفي.

___________________________________________

وإنّما قلنا بأنّ الحديث لا يدلّ إلّا على رجحان القدر الميسور - لا وجوبه - {لظهور الموصول} وهو كلمة «ما» في قوله: «ما لا يدرك» {في ما يعمّهما} أي: الواجب والنّدب، فالمعنى أنّ الواجب والمندوب الّذي لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، ومن المعلوم أنّ عدم ترك الميسور من المندوب ليس واجباً، بل راجحاً، فالحديث يدلّ على رجحان عدم ترك الميسور، فلا يدلّ على الوجوب الّذي هو مراد المستدلّ.

{و} إن قلت: ظاهر قوله: «لا يترك» وجوب عدم الترك؛ لأنّه من قبيل النّهي الظّاهر في التحريم فالمعنى يحرم ترك الميسور، وبهذه القرينة تحمل «ما» الموصولة على خصوص الواجب، ويكون المعنى: الواجب الّذي لا يدرك كلّ أجزائه لا يترك كلّ أجزائه.

قلت: {ليس ظهور «لا يترك» في الوجوب - لو سلم -} له ظهور في الوجوب نفسه {موجباً لتخصيصه} أي: تخصيص «ما» الموصولة {بالواجب} كما ذكر في الإشكال، بل نقول بالعكس وإنّ ظهور «ما» الموصولة في الأعمّ من الواجب والمستحبّ أوجب التصرّف في ظهور «لا يترك»، وحمله على مطلق مرجوحيّة الترك ليلائم المستحب.

وهذا ما أشار إليه بقوله: {لو لم يكن ظهوره في الأعمّ} أي: ظهور «ما» في الأعمّ من الواجب والمستحبّ {قرينة على إرادة خصوص الكراهة} من الترك في قوله: «لا يترك» يعني أنّ تركه مكروه {أو مطلق المرجوحيّة} الملائم للحرام والمكروه {من النّفي} وهو قوله: «لا يترك».

ص: 418

وكيف كان، فليس ظاهراً في اللزوم هاهنا، ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام.

ثمّ إنّه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفاً، كانت القاعدة جارية مع تعذّر الشّرط أيضاً؛ لصدقه

___________________________________________

{وكيف كان، فليس} «لا يترك» {ظاهراً في اللزوم هاهنا} في حديث «ما لا يدرك» {ولو قيل بظهوره} أي: ظهور النّفي {فيه} أي: في اللزوم {في غير المقام} وهو حديث «الميسور لا يسقط بالمعسور».

لكن لا يخفى أنّ ما سلّمه المصنّف في حديث الميسور - وهو أنّ عدم سقوط كلّ شيء بحسبه - آتٍ هنا، فالمعنى: أنّ كلّ واجب ومستحبّ لا يدرك كلّه لا يترك - وجوباً أو استحباباً - كلّه، وأيّ فرق بين المقامين حتّى سلّمه هناك دون هنا؟!

وبعد هذا كلّه، فالإنصاف أنّ الأحاديث الثلاثة دالّة على الوجوب، ولذا اشتهر التمسّك بها عملاً وفتوى من أوّل الفقه إلى آخره، والمناقشات المذكورة علميّة لا تضرّ بالظهور.

{ثمّ} إنّ المناط في الميسور من الشّيء هو العرف - لا العقل - ، فكلّما رأى العرف أنّ الفاقد ميسور من الكامل لزم الإتيان به وإن رآه العقل مبايناً، وكلّما لم يره العرف ميسوراً لم يلزم الإتيان به وإن رآه العقل ميسوراً، وإذا دلّ دليل خارجيّ على أنّ بعض ما يراه العرف ميسوراً ليس بميسور - كالصلاة الفاقد للطهور - أو على أنّ ما يراه ليس بميسور وهو ميسور - كالتسبيحات الأربعة في صلاة الغريق - فالمتّبع هو الدليل لا القاعدة، كما لا يخفى.

وإلى هذا التفصيل أشار المصنّف بقوله: {إنّه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفاً} حتّى يقول العرف أنّ الصّلاة بغير سورة - مثلاً - ميسور من الصّلاة مع السّورة {كانت القاعدة جارية مع تعذّر الشّرط أيضاً} كما لو تعذّر السّتر مثلاً، فإنّه بنظر العرف مثل تعذّر الجزء {لصدقه} أي:

ص: 419

حقيقة عليه مع تعذّره عرفاً، كصدقه عليه كذلك مع تعذّر الجزء في الجملة، وإن كان فاقد الشّرط مبايناً للواجد عقلاً، ولأجل ذلك ربّما لايكون الباقي - الفاقد لمعظم الأجزاء أو لركنها - مورداً لها، في ما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفاً، وإن كان غير مباين للواجد عقلاً.

نعم، ربّما يلحق به شرعاً ما لا يعدّ بميسور عرفاً بتخطئته للعرف،

___________________________________________

الميسور {حقيقة} وعرفاً {عليه} أي: على الباقي {مع تعذّره} أي: تعذّر الشّرط {عرفاً} قيد لقوله: «لصدقه» {كصدقه} أي: الميسور {عليه} أي: على الباقي {كذلك} أي: عرفاً {مع تعذّر الجزء في الجملة} أي: في ما لم يكن الجزء والشّرط ممّا يفقد الكلّ بفقدهما.

فمثلاً: تعذّر النّار الّتي هي شرط تكون المرق موجب لعدم الصّدق فليس الّتي ميسوراً من المرق، كما أنّ عدم اللحم الّذي هو جزء لماء اللحم موجب لعدم الصّدق فليس الماء والحِمَّص وما أشبه ميسوراً من ماء اللحم {وإن كان فاقد الشّرط مبايناً للواجد عقلاً} أي: في نظر العقل.

{ولأجل ذلك} الّذي ذكرنا من دوران الأمر مدار الصّدق العرفي {ربّما لا يكون الباقي الفاقد لمعظم الأجزاء أو لركنها} أي: ركن الأجزاء - كاللحم في المثال - {مورداً لها} أي: لقاعدة الميسور {في ما إذا لم يصدق عليه} أي: الفاقد {الميسور عرفاً وإن كان غير مباين للواجد عقلاً} لما قد عرفت من كون الاعتبار بالعرف لا بالعقل والدقّة.

{نعم، ربّما} يكون شيء لا يعدّ ميسوراً عرفاً لكن الشّارع ألحقه بالميسور بالدليل الخارجي، ف- {يلحق به} أي: بالميسور {شرعاً} بالدليل {ما لا يعدّ بميسور عرفاً بتخطئته} أي: تخطئة الشّرع {للعرف} كأن يعدّ الشّارع غسل الجبيرة الموضوعة على الرّأس أو المسح عليها ميسوراً من الغسل والمسح

ص: 420

وأنّ عدم العدّ كان لعدم الاطّلاع على ما هو عليه الفاقد، من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام عليه الواجد، أو بمعظمه في غير الحال، وإلّا عدّ أنّه ميسوره.

كما ربّما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفيّ لذلك - أي: للتخطئة - وأنّه لا يقوم بشيء من ذلك.

وبالجملة: ما لم يكن دليل على الإخراج أو الإلحاق كان المرجع هو الإطلاق،

___________________________________________

الواجبين في الوضوء، مع أنّها ليسا عرفاً بميسور إطلاقاً.

{و} بذلك ينبّه الشّارع على {أنّ عدم العدّ كان لعدم الاطّلاع} من العرف {على ما هو عليه الفاقد} أي: على الصّفة الحقيقيّة الواقعيّة الّتي يتّصف بها الفاقد {من قيامه} أي: الفاقد {في هذا الحال} أي: حال التعذّر {بتمام ما قام عليه الواجد أو بمعظمه في غير الحال} أي: حال القدرة، حتّى أنّ العرف لو كان له اطّلاع بالواقع لعدّه ميسوراً أيضاً {وإلّا} فلو كان العرف مطّلعاً {عدّ أنّه} أي: الباقي {ميسوره} أي: الميسور من الواجد المتعذّر فعلاً.

{كما ربّما} يكون الأمر بالعكس، بأن {يقوم الدليل} الخارجي {على سقوط ميسور عرفي} كما قام الدليل على أنّ الصّوم إذا تخلّله - ولو شرب قطرة ماء عمدي - يسقط عن كونه صوماً، فلو اضطرّ إلى شرب قطرة دواء لم يجب عليه الصّوم، مع أنّ الإمساك بجميع شرائطه المتخلّل بقطرة دواء ميسور عرفاً عن الإمساك المطلق، فالدليل دلّ على أنّه ليس بميسور {لذلك، أي: للتخطئة} وأنّه واقعاً فاقد لملاك الميسور، حتّى أنّ العرف لو اطّلع على الواقع لم يجعله ميسوراً أيضاً {وإنّه لا يقوم بشيء من ذلك} الواجد للأجزاء والشّرائط.

{وبالجملة ما لم يكن دليل} خارجي {على الإخراج} لبعض أفراد الميسور العرفي عن كونه ميسوراً - كمثال الصّوم - {أو الإلحاق} لبعض ما ليس بنظر العرف ميسوراً بالميسور - كمثال الجبيرة - {كان المرجع هو الإطلاق} أي: إطلاق

ص: 421

ويستكشف منه أنّ الباقي قائم بما يكون المأمور به قائماً بتمامه، أو بمقدار يوجب إيجابه في الواجب، واستحبابه في المستحبّ.وإذا قام الدليل على أحدهما فيخرج أو يدرج، تخطئة أو تخصيصاً في الأوّل، وتشريكاً في الحكم - من دون الاندراج - في الموضوع في الثّاني، فافهم.

___________________________________________

دليل الميسور.

{ويستكشف منه} أي: من الإطلاق {أنّ الباقي} الصّادق عليه الميسور {قائم بما يكون المأمور به قائماً بتمامه} كأن يكون الفاقد للستر محصّلاً للغرض كما كان الواجد {أو} قائم {بمقدار يوجب إيجابه} أي: إيجاب الباقي {في الواجب واستحبابه في المستحبّ} كأن يكون السّتر محصّلاً لتسعين بالمائة من الواجد - مثلاً - حتّى أنّه لو كان هذا المقدار من أوّل الأمر لوجب أو استحبّ {وإذا قام الدليل على أحدهما} أي: الإخراج عن كونه ميسوراً أو الإلحاق بكونه ميسوراً {فيخرج} الأوّل {أو يدرج} في الميسور الثّاني {تخطئة} من الشّارع للعرف المخرج ما هو ميسور أو المدخل ما ليس بميسور {أو تخصيصاً في الأوّل} أي: لا يكون الإخراج من باب التخطئة، بل من باب التخصيص، بأن يكون الشّارع يعترف بأنّ هذا ميسور، لكنّه يخصّصه عن دليل الميسور.

وقوله: «في الأوّل» أي: من باب الإخراج {وتشريكاً في الحكم} بأنّ حكم الشّارع بأنّ هذا الشّيء الّذي أقمته مقام الوضوء التامّ - كالجبيرة - ليس بميسور من الوضوء وإنّما شركته في الحكم مع الوضوء {من دون الاندراج في الموضوع} للميسور، فهو وإن كان ليس بميسور إلّا أنّه مدرج في الحكم {في الثّاني} أي: في صورة إدراج فرد ليس بميسور في الحكم {فافهم} لعلّه إشارة بأنّ ظاهر الإدخال والإخراج كونه من الميسور؛ لأنّه من باب التخطئة والتشريك، وإن كان كلّ من الأمرين محتملاً في مقام الثبوت والواقع.

ص: 422

تذنيب: لا يخفى أنّه إذا دار الأمر بين جزئيّة شيء أو شرطيّته، وبين مانعيّته أو قاطعيّته، لكان من قبيل المتباينين، ولا يكاد يكونُ من الدوران بين المحذورين، لإمكان الاحتياط بإتيان العمل مرّتين، مع ذاك الشّيء مرّة، وبدونه أُخرى، كما هو واضح من أن يخفى.

خاتمة: في شرائط الأصول

___________________________________________

{تذنيب} لمسألة البراءة والاحتياط {لا يخفى أنّه إذا دار الأمر بين جزئيّة شيء أو شرطيّته وبين مانعيّته أو قاطعيّته} أي: شكّ بين جزئيّته ومانعيّته، أو شكّ بين شرطيّته وقاطعيّته، كما لو شكّ بأنّ السّورة في الرّكعة الثّالثة جزء أو مانع، أو شكّ بأنّ جواب السّلام في الأثناء شرط أو قاطع {لكان} هذا الشّكّ {من قبيل} الشّكّ بين {المتباينين} المقتضي للاحتياط، فيجب الإتيان بالصلاة تارة مع السّورة وأُخرى بدونها، وتارة مع الجواب وأُخرى بدونها - مثلاً - .

{ولا يكاد يكون من} باب {الدوران بين المحذورين} المقتضي للتخيير، وذلك لأنّ الدوران بين المحذورين إنّما يكون في ما لا يمكن الاحتياط، كمنذورة الوطي أو الترك، وتردّد اليوم بين كونه رمضان أو عيد شوّال مثلاً، وليس ما نحن فيه من ذلك {لإمكان الاحتياط بإتيان العمل مرّتين} بأن يأتي به {مع ذاك الشّيء} المشكوك في جزئيّته أو شرطيّته {مرّة وبدون أُخرى} فيكون قد أحرز الواقع {كما هو أوضح من أن يخفى}.

نعم، لو لم يتمكّن من الإتيان مرّتين، كما لو كان الوقت ضيّقاً - مثلاً - كان من دوران الأمر بين المحذورين، ويكون المرجع التخيير.

[خاتمة في شرائط الأصول]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، خاتمة في شرائط الأصول

{خاتمة في شرائط الأصول} المراد بها هي البراءة والاحتياط، وإنّما أتى بلفظ الجمع لأنّ كلّاً من هذين الأصلين ينقسم إلى عقليّة وشرعيّة، كما لا يخفى.

ص: 423

أمّا الاحتياط: فلا يعتبر في حسنه شيء أصلاً، بل يحسن على كلّ حال إلّا إذا كان موجباً لاختلال النّظام.

ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقاً، ولو كان موجباً للتكرار فيها.

وتوهّم: «كون التكرار عبثاً ولعباً بأمر المولى، وهو ينافي قصدالامتثال المعتبر في العبادة».

___________________________________________

{أمّا} شرط {الاحتياط فلا يعتبر في حسنه شيء أصلاً} ممّا اعتبر في البراءة والاستصحاب ونحوهما {بل يحسن على كلّ حال} سواء قام الدليل على الحكم أم لا، وسواء استلزم التكرار أم لا، وسواء كان قبل الفحص أم لا {إلّا إذا كان موجباً لاختلال النّظام} فإنّه حينئذٍ قبيح لا حسن فيه؛ لأنّ مناط الاختلال أقوى من مناط الحسن الموجود في الاحتياط، إذ العقل إنّما يحسن الاحتياط؛ لأنّه إدراك لمصلحة الواقع، وإن كان المولى اكتفى بدونه لنصبه الطّريق أو جعله الأصل العملي، ومن المعلوم أنّ مصلحة استتباب النّظام من أهمّ المصالح، فلا يزاحمه مصلحة إدراك الواقع.

{ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات} كما لا تفاوت فيه بين أقسام كلّ منهما {مطلقاً ولو كان موجباً للتكرار فيها} إذ قد يكون الاحتياط في العبادة بإتيان الأكثر في ما لو دارت بين الأقلّ والأكثر، كما لو دارت بين الصّلاة مع السّورة والصّلاة بدونها وقد يكون الاحتياط بإتيان أمرين، كما لو دارت بين صلاة الجمعة وصلاة الظّهر، أو كان أحد ثوبيه نجساً ممّا أوجب الإتيان بالصلاة مرّتين، مرّة في هذا الثوب ومرّة في ذاك.

{وتوهّم: «كون التكرار عبثاً ولعباً بأمر المولى، وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة»} فلا يتأتّى القصد المذكور من المحتاط، فلا يمكن الاحتياط في العبادة فإنّ المولى أمر بصلاة واحدة، فالإتيان بها مرّتين نحو (لعب) و(عبث)

ص: 424

فاسد؛ لوضوح أنّ التكرار ربّما يكون بداعٍ صحيح عقلائي، مع أنّه لو لم يكن بهذا الداعي، وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه، لما ينافي قصد الامتثال، وإن كان لاعباً في كيفيّة امتثاله،

___________________________________________

وبالشيء اللعبي لا يمكن قصد القربة. وهذا بخلاف التوصليّات الّتي وإن فرض الاحتياط فيها لعباً، لكن المقصود وجود المأمور به في الخارج وقد وجد {فاسد} إذ لا نسلّم أنّ التكرارمطلقاً لعب وعبث، فإنّه إنّما يتّصف باللعبيّة إذا لم يكن بداع عقلائي بل بداعي البطالة، وليس دائماً كذلك {لوضوح أنّ التكرار ربّما يكون بداع صحيح عقلائي} كما لو صعب على المكلّف تحصيل القبلة، فإنّه يصلّي إلى طرفين مثلاً، أو صعب عليه غسل الثوب ليصلّي في ثوب طاهر متيقّن فيصلّي في ثوبين، أو كان داعيه التمرّن على الصّلاة أو تحصيل الخشوع الحاصل من تكرار الصّلاة.

{مع أنّه لو لم يكن بهذا الداعي} أي: بداع عقلائي، بل كان لمجرّد ميل النّفس {و} لكن {كان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه} بأن كان داعيه إلى الصّلاة أمر الشّارع ولكن كان داعيه إلى التكرار مجرّد العبث، كما لو كان داعي المأمور في إتيانه بالكتاب أمر المولى - في ما لو أمر بإحضار الشّرائع مثلاً - لكنّه أتى بعشرة كتب في ما بينها الشّرائع، فإنّه يكون ممتثلاً وإن كان لاعباً في طريق الامتثال، فإنّه لو كان قصده من أصل العمل أمر المولى {لما ينافي} التكرار {قصد الامتثال وإن كان لاعباً في كيفيّة امتثاله} فإنّ أصل الامتثال شيء وطريق الامتثال شيء آخر، فالزمان المعيّن كأوّل الظّهر، والمكان المعيّن ككون الإتيان في المسجد، والكيفيّة المعيّنة ككونها بجماعة، أو في لباس خاصّ أو نحو ذلك كلّها من طرائق الامتثال وليست من أصل الامتثال، وكذلك الوحدة والتكرار فهما طريقان للامتثال وليسا نفس الامتثال.

ص: 425

فافهم.

___________________________________________

{فافهم} لعلّه إشارة إلى الإشكال في أصل حسن الاحتياط، فإنّ العرف لا يرون حسن من يأتي بأوامر المولى على نحو الاحتياط - مطلقاً - ، ألا ترى أنّ المولى لو أمر بدقّ مسمار في الحائط فدقّ العبد في كلّ مكان من الحائط مسماراً كان له حقّ العقاب - لا من جهة كونه تصرّفاً غير جائز، لفرض كون الحائط والمسمار مباحين - بل من جهة أنّه لعب وعبث، وكذلك لو أمر بالذهاب إلى دار زيد، فذهب إلى عشرة دور احتياطاً مع التمكّن من تحصيل الواقع بلا تكلّف وحرج، وهكذا.

ولعلّ السّرّ أنّ الامتثال عبارة عن إطاعة المولى في أوامره بقدره، فكما أنّ النّقصان خلاف الأمر كذلك الزيادة وإن كانت الزيادة غير متّصلة، ولذا نرى أنّ من يتردّد في الأعمال يعدّ خارجاً عن المتعارف، وليجرّب كلّ أحد نفسه، فلو أمر ولده بالإتيان بإناء، فلم يعرف الولدالإناء المراد، ولم يسأل عن إمكانه، ثمّ أتى بكلّ إناء في البيت، كان للأب عقابه عرفاً لعمله.

هذا وقد فصّلنا ذلك في بعض مباحثنا، كما أنّ قوله: «فافهم» لعلّه إشارة إلى منع التكرار في العبادة وأنّه لعب في ذات العبادة لا في كيفيّة الامتثال، إذ فرق بين الزمان والمكان ممّا هو خارج عن حقيقة العبادة وبين التعدّد ممّا هو نفس العبادة، بالإضافة إلى أنّ العبادة توقيفيّة، فمن المحرّم الإتيان بعبادة غير مشروعة والاحتياط يستلزم ذلك.

فمثلاً: الصّلاة في ثوب نجس محرّم، فكيف يأتي الإنسان بها في ثوبين يعلم بكون أحدهما نجساً مع تمكّنه من الفحص، وكذلك الصّلاة خلاف القبلة والصّلاة بدون الطّهارة الحدثيّة.

هذا بالإضافة إلى احتمال أنّ المحتاط فيه سبب لمفسدة واقعيّة غير مرضيّة

ص: 426

بل يحسن أيضاً في ما قامت الحجّة على البراءة عن التكليف؛ لئلّا يقع في ما كان - في مخالفته على تقدير ثبوته - من المفسدة وفوتِ المصلحة.

وأمّا البراءة العقليّة: فلا يجوز إجراؤها إلّا بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة على التكليف؛ لما مرّت الإشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلّا بعدهما.

___________________________________________

عند الشّارع، كما لو احتاط بإعطاء الخمس مرّتين من مال الطّفل، وبمجرّد هذا الاحتياط لا يحكم العقل بحسن الاحتياط، ومن أين لنا أن نقطع بعدم هذه المفسدة في الاحتياط.

اللّهمّ إلّا إذا دلّ دليل قطعيّ على ذلك، كما ورد في بعض الشّرعيّات، وأدلّة الاحتياط الشّرعيّة منصرفة إلى المشتبهات الّتي يقطع بعدم ضرر في الاحتياط بالنسبة إليها.

وكيف كان، ففتح باب الاحتياط بمثل هذه السّعة خلاف ما يستفاد من الأدلّة وسيرة المتشرّعة، ولا يبعد أن يكون خروجاً عن متعارف الموالي والعبيد {بل يحسن} الاحتياط {أيضاً في ما قامت الحجّة على البراءة عن التكليف} كما لو دلّ الدليل على عدم التكليف ثمّ احتاط المكلّف {لئلّا يقع في ما كان - في مخالفته} أي: في مخالفة التكليف {على تقدير ثبوته -} أي: ثبوت التكليف واقعاً {من المفسدة} بيان «ما» {وفوت المصلحة} عطف على «المفسدة».

{وأمّا} شرط {البراءة العقليّة} وهي قبح العقاب بلا بيان {فلا يجوز إجراؤها إلّا بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة على التكليف} وذلك لأنّ القبح للعقاب إنّما هو في ما لم يكن بيان، ووجود البيان وعدمه إنّما يعلمان بعد الفحص، فبدون الفحص لا يعلم القبح، فلا تجري البراءة {لما مرّت الإشارة إليه} في الدّليل الرّابع من أدلّة البراءة {من عدم استقلال العقل بها} أي: بالبراءة {إلّا بعدهما} أي: بعد الفحص واليأس.

ص: 427

وأمّا البراءة النّقليّة: فقضيّة إطلاق أدلّتها، وإن كان هو عدم اعتبار الفحص في جريانها، كما هو حالها في الشّبهات الموضوعيّة، إلّا أنّه استدلّ على اعتباره بالإجماع، وبالعقل، فإنّه لا مجال لها بدونه؛ حيث يعلم إجمالاً بثبوت التكليف بين موارد الشّبهات،

___________________________________________

{وأمّا} شرط {البراءة النّقليّة} وهي «رفع ما لا يعلمون»(1)، «و ما حجب اللّه علمه عن العباد»(2)، و«النّاس في سعة»(3)

وأشباهه {ف-} نقول: إنّ {قضيّة} أي: مقتضى {إطلاق أدلّتها} كالروايات السّابقة {وإن كان هو عدم اعتبار الفحص في جريانها} مثلاً «رفع ما لا يعلمون» له إطلاق بالنسبة إلى ما قبل الفحص وما بعد الفحص، وكذا سائر الرّوايات {كما هو حالها في الشّبهات الموضوعيّة} حيث تجري البراءة بدون الفحص.لكن لا يخفى أنّا ذكرنا في غير مورد من كتبنا لزوم الفحص في الشّبهات الموضوعيّة أيضاً، فراجع كتاب الحجّ من الفقه في شرح العروة(4)

وغيره {إلّا أنّه استدلّ على اعتباره} أي: اعتبار الفحص في الشّبهات الحكميّة {بالإجماع} حيث قام الإجماع على عدم جواز إجراء البراءة في الشّبهة الحكميّة بدون الفحص، وبلزوم الخروج عن الدين لو جاز إجراء البراءة بدون الفحص، إذ كلّ من بلغ التكليف يجري البراءة عن كلّ ما شكّ في وجوبه أو تحريمه.

{وبالعقل} وذكر وجه الاستدلال بالعقل بقوله: {فإنّه لا مجال لها} أي: للبراءة {بدونه} أي: بدون الفحص {حيث يعلم إجمالاً بثبوت التكليف بين موارد الشّبهات} فإنّ كلّ مكلّف يعلم إجمالاً بأنّ هناك تكاليف موجّهة إليه، ولا يجوز

ص: 428


1- الخصال 2: 417.
2- التوحيد: 413.
3- غوالي اللئالي 1: 414.
4- موسوعة الفقه 38: 97.

بحيث لو تفحّص عنه لظفر به.

ولا يخفى أنّ الإجماع هاهنا غير حاصل، ونقله - لوهنه - بلا طائل؛ فإنّ تحصيله في مثل هذه المسألة - ممّا للعقل إليه سبيل - صعبٌ،

___________________________________________

إجراء البراءة في أطراف العلم الإجمالي، فكلّ حكم يتحيّر فيه لا يصحّ له إجراء البراءة فيه إلّا بعد أن يفحص، فإن ظفر بما يدلّ على وجود الحكم في ذاك فهو وإلّا خرج هذا المشكوك عن كونه طرفاً للعلم الإجمالي، فيجري البراءة.

والحاصل: أنّه حيث يعلم بوجود الحكم {بحيث لو تفحّص عنه لظفر به} لم يجز له إجراء البراءة للتنافي بين العلم الإجمالي في البين، وبين إجراء البراءة في كلّ واحد من الأطراف، كما لا يصحّ الاستصحاب مع العلم الإجمالي.

هذا {و} لكن المصنّف(رحمة الله) لم يتمّ لديه هذان الدليلان: أمّا الإجماع فلاحتمال استناده إلى حكم العقل، ومن المعلوم أنّ الإجماع المحتمل الاستناد ليس بحجّة، وأمّا العقل فلأنّ العلم الإجمالي منجّز إذا كان جميع أطرافه محلّ الابتلاء وكان المكلّف ملتفتاً إلى علمه الإجمالي، وشيء من الشّرطين ليس بموجود لدى الشّكّ في حكم - غالباً - فإنّه {لا يخفى أنّ الإجماع هاهنا} في مسألة وجوب الفحص {غير حاصل} فإنّ كثيراً من الفقهاء لم يذكروا هذه المسألة حتّى يحصل الإجماع من أقوالهم {ونقله} أي: نقل الإجماع الّذي وقع في كلام جمع، حيث ذكروا قيام الإجماع على لزوم الفحص {لوهنه} أي: وهن هذا النّقل {بلا طائل} وبغير فائدة، فلا يمكن الاعتماد على الإجماع المنقول في هذه المسألة {فإنّ} النّاقل الّذي حصل الإجماع بالتتبّع غفل عن شيء، وهو أنّ {تحصيله في مثل هذه المسألة ممّا للعقل إليه سبيل صعب} لاحتمال استناد المجمعين إلى دليل العقل لا إلى الدليل الشّرعي حتّى يكشف إجماعهم عن قول المعصوم أو دليل معتبر، فكشف الإجماع عن دليل معتبر صعب

ص: 429

لو لم يكن عادة بمستحيل؛ لقوّة احتمال أن يكون المستند للجلّ - لولا الكلّ - هو ما ذكر من حكم العقل.

وأنّ الكلام في البراءة في ما لم يكن هناك علم موجب للتنجّز، إمّا لانحلال العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال، أو لعدم الابتلاء إلّا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشّبهات، ولو لعدم الالتفات إليها.

___________________________________________

{لو لم يكن عادة بمستحيل لقوّة احتمال أن يكون المستند للجلّ لولا الكلّ هو ما ذكر من حكم العقل} بعدم البراءة قبل الفحص، وإنّ قبح العقاب إنّما هو بعد اليأس عن البيان.

ثمّ ذكر المصنّف(رحمة الله) حكم العقل بقوله: {وإنّ الكلام في البراءة في ما لم يكن هناك علم موجب للتنجّز} والاحتياط.

ثمّ إنّ عدم العلم {إمّا لانحلال العلم الإجمالي ب-} سبب {الظّفر بالمقدار المعلوم بالإجمال} فيكون الشّكّ في الباقي شكّاً بدويّاً {أو لعدم الابتلاء إلّا بما} أي: بمقدار {لا يكون بينها علم بالتكليف} وقوله: {من موارد الشّبهات} بيان لقوله: «بما» {ولو} كان عدم الابتلاء{لعدم الالتفات إليها} فإنّه إذا لم يكن بعض الأطراف محلّاً للابتلاء جرت البراءة فيها، ولو كان عدم الابتلاء من جهة غفلة الشّاكّ عن تلك الموارد، فلو شكّ المكلّف بأنّ هذا الإناء نجس أم لا وكان غافلاً عن علمه الإجمالي بأنّه إمّا نجس وإمّا ذاك الإناء الآخر جرت البراءة في هذا المشكوك فيه وإن كان طرفه الآخر أيضاً محلّاً للابتلاء.

ثمّ لو وصلت النّوبة إلى الإناء الثّاني وشكّ فيه جرت البراءة أيضاً لعدم علم إجماليّ فعلي، والعلم الإجمالي السّابق قد انحلّ بخروج الطّرف الأوّل عن محلّ الابتلاء، فيكون حال المغفول عنه حال الخارج عن محلّ الابتلاء، كما لو علم بأنّ إناءه هذا أو إناءُ ملك الهند نجس، فأجرى البراءة بالنسبة إلى إنائه لخروج إناء

ص: 430

فالأولى: الاستدلال للوجوب بما دلّ من الآيات والأخبار على وجوب التفقّه والتعلّم، والمؤاخذة على ترك التعلّم - في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم

___________________________________________

الملك عن محلّ الابتلاء، ثمّ اتفق اتفاقاً غير عادي ابتلاؤه بإناء الملك، لم يجب الاجتناب عنه؛ لأنّه لا علم إجماليّ حالاً بالنسبة إلى هذا أو غيره.

لا يخفى أنّا - وإن سلّمنا عدم إمكان الاعتماد في مسألة وجوب الفحص على الإجماع لما ذكر فيه من المناقشة - لكن يمكن الاعتماد على الدليل الثّاني للمشهور، إذ لا نسلّم غفلة المكلّف الجاهل، فإنّ كلّ مكلّف يعلم بتوجّه أحكام إليه، مضافاً إلى أنّ كون مثل هذه الغفلة - على فرض وجودها - سبباً للخروج عن محلّ الابتلاء محلّ مناقشة.

وعلى كلّ حال {فالأولى} عند المصنّف {الاستدلال للوجوب} أي: وجوب الفحص وعدم جواز إجراء البراءة في الشّبهات الحكميّة قبل الفحص {بما دلّ من الآيات والأخبار على وجوب التّفقه والتعلّم} نحو قوله - تعالى - : {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ}(1)، وقوله تعالى: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(2)، وقوله(علیه السلام): «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة»(3)،

وقوله(علیه السلام): «ليت السّياط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقّهوا»(4)،

وقوله(علیه السلام): «تفقّهوا وإلّا كنتم أعراباً»(5).

{و} بما دلّ على {المؤاخذة على ترك التعلّم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم} يعني: أنّ من اعتذر يوم القيامة عن عدم عمله بأنّه لم يكن يعلم، لا

ص: 431


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة النحل، الآية: 43؛ سورة الأنبياء، الآية: 7.
3- بحار الأنوار 1: 177.
4- بحار الأنوار 1: 213.
5- بحار الأنوار 1: 214.

- بقوله تعالى، - كما في الخبر - : «هلّا تعلّمت؟»(1). فيقيّد بها أخبارُ البراءة؛ لقوّة ظهورها في أنّ المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلّم في ما لم يعلم،

___________________________________________

يقبل عذره، بل يؤاخذ {بقوله - تعالى - كما في الخبر: «هلّا تعلّمت؟»} فقد ورد في تفسير قوله - تعالى - : {فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَٰلِغَةُۖ}(2)، إنّه يقال للعبد يوم القيامة: هل علمت؟ فإن قال: نعم، قيل له: فهلّا عملت؟ وإن قال: لا، قيل له: فهلّا تعلّمت حتّى تعمل(3)؟

وحيث ثبت وجوب التعلّم والتفقّه {فيقيّد بها} أي: بأدلّة التعلّم {أخبار البراءة} فيكون هكذا: النّاس في سعة ما لا يعلمون، بعد التعلّم والفحص.

وربّما قيل: أنّ لأخبار التعلّم والتفقّه موردين:الأوّل: مورد العلم الإجمالي، بأن يعلم إجمالاً بوجود حكم في هذه الأُمور الّتي هي محلّ ابتلائه.

الثّاني: مورد الشّكّ البدوي، كما لو شكّ بدواً بأنّه هل صلاة الجمعة واجبة أو هل شرب التتن حرام أو أشباه ذلك، فيجمع بين هذه الأخبار وبين أخبار البراءة نحو «رفع ما لا يعلمون»(4)

بتخصيص الطّائفة الأُولى بمورد العلم الإجمالي وتخصيص الطّائفة الثّانية بمورد الشّكّ البدوي، وعلى هذا فلا يجب الفحص في الشّبهات الحكميّة إلّا إذا كانت طرفاً للعلم الإجمالي، لكن هذا الكلام غير تامّ بل اللّازم أن تخصّص أخبار البراءة بكلا الموردين، وذلك بتقديم أخبار وجوب التعلّم على أخبار البراءة مطلقاً {لقوّة ظهورها} أي: ظهور أخبار وجوب التعلّم {في أنّ المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلّم في ما لم يعلم} سواء كان من قبيل الشّبهة

ص: 432


1- الأمالي (للشيخ الطوسي): 9، مع اختلاف.
2- سورة الأنعام، الآية: 149.
3- نور الثقلين 1: 776.
4- الخصال 2: 417.

لا بترك العمل في ما علم وجوبه ولو إجمالاً، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالاً، فافهم.

ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضاً بعين ما ذكر في البراءة، فلا تغفل.

___________________________________________

البدويّة أو من قبيل الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي {لا} أنّ المؤاخذة خاصّة {بترك العمل في ما علم وجوبه ولو إجمالاً} حتّى لا تكون مؤاخذة في الشّبهة البدويّة {فلا مجال للتوفيق} بين الطّائفتين {بحمل هذه الأخبار} الدالّة على وجوب التعلّم {على ما إذا علم إجمالاً، فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ مقتضى الجمع الصّناعي بين الخبرين «النّاس في سعة ما لا يعلمون»(1)

و «اطلبوا العلم»(2)

هو ما ذكره المشهور؛ لأنّ ما لا يعلمون أعمّ من قبل الفحص وبعده، واطلبوا العلم خاصّ بما قبل الفحص، إذ ما بعد الفحص لا يعقل الطّلب، فلا حاجة إلى التمسّك بقوّة الظّهور وما أشبه.

{ولا يخفى} أنّه لو دار الأمر بين المحذورين - كما لو علم بوجوب صلاة الجمعة أو حرمتها - لم يجز إجراء أصالة التخيير العقلي قبل الفحص، بل اللّازم الفحص أوّلاً، ثمّ إن لم يظفر بالمرجّح جرى أصل التخيير، وذلك لأنّ أصل التخيير من مقدّماته عدم الرّجحان، وذلك ممّا لا يعلم إلّا بالفحص، ف- {اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضاً بعين ما ذكر} من الدليل {في} باب {البراءة، فلا تغفل} وإنّما خصّه بالتخيير العقلي؛ لأنّ التخيير الشّرعي الّذي هو بين الرّوايات المتعارضة قد نصّ في دليله بأنّه بعد الفحص عن الترجيح، كما أنّ التخيير العقلي في الشّبهات الموضوعيّة - كالمحلوفة على وطيها أو تركها - محتاج إلى الفحص واليأس، على ما اخترناه من لزوم الفحص في الشّبهات الموضوعيّة.

ص: 433


1- غوالي اللئالي 1: 424؛ مستدرك الوسائل 18: 20، مع اختلاف يسير.
2- الكافي 1: 36.

ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة - قبل الفحص - من التبعة والأحكام:

أمّا التبعة: فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة، في ما إذا كان ترك التعلّم والفحص مؤدّياً إليها؛ فإنّها وإن كانت مغفولة حينها وبلا اختيار، إلّا أنّها منتهية إلى الاختيار،

___________________________________________

{ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة - قبل الفحص - من التبعة والأحكام} بيان لقوله: «ما للعمل» وإنّه لو عمل بالبراءة ولم يفحص فهل يترتّب على عمله عقاب أو تبعة أم لا؟ وهل يفرق بين ما لو كانت البراءة مخالفة للواقع وبين ما لو كانت موافقة؟ فلو شرب التبغ قبل أن يفصح عن حرمته وحليّته، فهل يعاقب لو كان حراماً واقعاً أو مطلقاً؟ فنقول:

{أمّا التبعة} أي: العقوبة {فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة} لو كان التبغ - مثلاً - حراماً واقعاً {في ما إذا كان ترك التعلّم و} ترك {الفحص مؤدّياً إليها} أي: إلى المخالفة، إذ لا فرق في استحقاق المخالف بين كونه عالماً عامداً كما لو علم بحرمة الخمر وشربها، وبين كونه جاهلاً مقصّراً، كما لو لم يسأل عن حليّة الخمر وحرمتها وشربها، إذ كلّ مخالف عن عمد معاقب {فإنّها وإن كانت} المخالفة {مغفولةحينها} أي: حين المخالفة، بأن غفل عن كونها مخالفة أو لم يعلم أصلاً - كما هو المفروض - {وبلا اختيار} إذ الغافل ليس قابلاً للتكليف حتّى يقال بأنّه مختار {إلّا أنّها منتهية إلى الاختيار} فإنّ التفاته السّابق إلى احتمال الحرمة، ووجوب التعلّم كاف في صحّة العقوبة.

ألا ترى أنّ المولى لو أمر عبده بأن يطالع ما كتبه في الكتاب فيعمل على طبقه فلم يطالع العبد الكتاب واتفقت المخالفة لم يعذره العقلاء بجهله أو غفلته حين العمل المخالف، إذ الغفلة العذريّة هي الّتي كانت لا عن عمد، أمّا لو كانت

ص: 434

وهو كافٍ في صحّة العقوبة، بل مجرّد تركهما كافٍ في صحّتها، وإن لم يكن مؤدّياً إلى المخالفة مع احتماله؛ لأجل التجرّي وعدم المبالاة بها.

نعم،

___________________________________________

الغفلة وعدمها سواء بالنسبة إلى المكلّف حتّى أنّه لو التفت لكان آتياً بمقتضى البراءة - مثلاً - أيضاً لم تكن غفلته عذراً.

{وهو} أي: الانتهاء إلى الاختيار {كافٍ في صحّة العقوبة} عقلاً {بل} فوق ذلك، وهو أنّه لو أجرى البراءة وكان في الواقع غير محرّم استحقّ العقوبة أيضاً للتجرّي، ف- {مجرّد تركهما} أي: ترك التعلّم والفحص {كافٍ في صحّتها} أي: صحّة العقوبة {وإن لم يكن مؤدّياً إلى المخالفة} ولكن إنّما يستحقّ العقوبة في صورة عدم الحرمة الواقعيّة {مع احتماله} أي: احتمال الأداء إلى المخالفة.

وإنّما قيّدناه بذلك؛ لأنّه لو قطع بعدم الأداء لم يتحقّق التجرّي، فلا وجه للعقاب.

نعم، مع احتماله يستحقّ العقاب {لأجل التجرّي وعدم المبالاة بها} أي: بالمخالفة، لكن هذا إنّما يصحّ على تقدير حرمة التجرّي كما هو مبنى المصنّف(رحمة الله)، أمّا من يرى عدم الحرمة فلا حرمة، كما أنّه ربّما يشكل على العقاب ولو قلنا بحرمة التجرّي، إذ أنّ حرمة التجرّي متوقّفة على قصد المخالفة، كما لو شرب الماء بزعم أنّه خمر. ومن المعلوم أنّ مجرى البراءة لا يقصد المخالفة.

{نعم} ما ذكرنا من استحقاق العقاب لو لم يتعلّم، فترك الواجب إنّما هو في ما كان الواجب مطلقاً لا مشروطاً، إذ التعلّم في الواجب المطلق مقدّمة مطلقة، فإذا لم يتعلّم وترك بسببه الواجب كان تاركاً للواجب المطلق بسبب ترك مقدّمته، وذلك بخلاف الواجب المشروط كالحجّ مثلاً، فإنّه قبل الاستطاعة - مثلاً - لا

ص: 435

يشكل في الواجب المشروط والموقّت، ولو أدّى تركهما قبل الشّرط والوقت إلى المخالفة بعدهما، فضلاً عمّا إذا لم يؤدّ إليها؛ حيث لا يكون حينئذٍ تكليف فعليّ أصلاً، لا قبلهما - وهو واضح - ولا بعدهما - وهو كذلك - ؛ لعدم التمكّن منه بسبب الغفلة،

___________________________________________

يجب الحجّ فلا تجب مقدّمته الّتي هي التعلّم، فعدم تعلّمه ليس ضارّاً، وإذا حصلت الاستطاعة ولم يكن له وقت التعلّم فترك الحجّ بسببه لم يصحّ عقابه، فالتعلّم قبل الوجوب للحجّ ليس بواجب وبعد الوجوب غير متمكّن منه.

ومثله الواجب الموقّت، وهو الّذي له وقت خاصّ كصلاة الجمعة مثلاً، فإنّه قبل دخول الوقت لا وجوب لها حتّى تجب مقدّمتها وبعد دخول الوقت لا يتمكّن من التعلّم، ف- {يشكل} ما ذكرناه من العقاب على ترك الواجب لترك مقدّمته الّذي هو التعلّم {في الواجب المشروط و} الواجب {الموقّت} الّذي له وقت خاصّ، كصلاة الجمعة {ولو أدّى تركهما} أي: الفحص والتعلّم {قبل الشّرط} كالاستطاعة {و} قبل {الوقت} كالظهر {إلى المخالفة بعدهما} أي: بعد الشّرط والوقت {فضلاً عمّا إذا لم يؤدّ إليها} أي: إلى المخالفة، وذلك بخلاف الواجب المطلق الّذي ذكرنا فيه أنّه وإن لم يؤدّ إلى المخالفة كان معاقباً للتجرّي.

وإنّما قلنا بعدم العقاب ولو أدّى إلى المخالفة {حيث لا يكون حينئذٍ} أي: حين كان الواجب مشروطاً أو موقّتاً {تكليف فعليّ أصلاً لا قبلهما} أي: قبل الشّرط والوقت، إذ لا وجوب للمشروط والموقّت حتّى يترشّح منهما الوجوب إلى المقدّمة الّتي هي التعلّم {وهو واضح} لا يخفى {ولا بعدهما وهو كذلك} أي: واضح {لعدم التمكّن منه} أي: من الواجب {بسبب الغفلة}.لكن المصنّف(رحمة الله) علّق هنا بقوله: «إلّا أن يقال بصحّة المؤاخذة على ترك المشروط أو الموقّت عند العقلاء إذا تمكّن منهما في الجملة، ولو بأن تعلم وتفحص إذا التفتّ، وعدم لزوم التمكّن منهما بعد حصول الشّرط ودخول الوقت

ص: 436

ولذا التجأ المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك - قدّس سرّهما -(1)

إلى الالتزام بوجوب التفقّه والتعلّم نفسيّاً تهيّئيّاً،

___________________________________________

مطلقاً، كما يظهر ذلك من مراجعة العقلاء، ومؤاخذتهم العبيد على ترك الواجبات المشروطة أو الموقّتة، بترك تعلّمها قبل الشّرط أو الوقت، المؤدّي إلى تركها بعد حصوله أو دخوله، فتأمّل»(2).

فتحصّل الفرق بين الواجب المطلق والواجبين المشروط والموقّت: إنّه لو أجرى المكلّف البراءة بالنسبة إلى المطلق ثمّ غفل عن التكليف ولم يأت بالواجب كان معاقباً؛ لأنّ البراءة شرطها الفحص والتعلّم ولم يعمل بالشرط، فهو ترك الواجب المطلق بترك مقدّمته، ولذا يصحّ عقابه، وذلك بخلاف المشروط والموقّت، فلو أجرى المكلّف البراءة قبل التعلّم والفحص ثمّ غفل ولم يأت بهما لم يصحّ عقابه، إذ التعلّم قبل الشّرط والوقت لم يكن واجباً وبعد حصول الشّرط والوقت كان غافلاً، وغفلته هنا عذر بخلاف غفلته في الواجب المطلق.

{ولذا} أي: لما ذكرنا من لزوم عدم صحّة العقاب على ترك الواجب المشروط والمقيّد على تقدير عدم وجوب التعلّم مع بداهة العقاب على تركهما {التجأ المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك - قدّس سرّهما - إلى} القول بأنّ التعلّم واجب نفسي، فالمكلّف مأمور بالتعلّم قبل الشّرط والوقت، وليس وجوبه مقدّميّاً ترشحيّاً حتّى يقال كيف تجب المقدّمة قبل وجوب ذي المقدّمة.

ولا يخفى أنّ {الالتزام ب-} كون {وجوب التفقّه والتعلّم نفسيّاً تهيّئيّاً} غير بعيد لإطلاق أدلّتها، ولا داعي إلى جعله مقدّميّاً وإن كان ما ذكره المصنّف في التعليقة أوجه، والمراد بالتّهيّأ أنّ الوجوب النّفسي ليس على حدّ سائر الواجبات النّفسيّة،

ص: 437


1- مجمع الفائدة والبرهان 2: 110؛ مدارك الأحكام 2: 219-220.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 331.

فيكون العقوبة على ترك التعلّم نفسه، لا على ما أدّى إليه من المخالفة.

فلا إشكال حينئذٍ في المشروط والموقّت. ويسهل بذلك الأمر في غيرهما لو صعب على أحد، ولم تصدق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلاً مغفولاً عنه، وليس بالاختيار.

ولا يخفى: أنّه لا يكاد ينحلّ هذا الإشكالُ

___________________________________________

بل إنّما وجب هنا نفسيّاً للتهيّأ، وفرقه مع الوجوب الغيري أنّ في الغيري يكون الوجوب مترشّحاً من ذي المقدّمة بخلافه هنا {فيكون العقوبة على ترك التعلّم نفسه لا على ما أدّى إليه من المخالفة} للواجب، فإنّ العقل يرى لزوم تعلّم أوامر المولى ليطيعه العبد، فإذا ترك استحقّ العقوبة {فلا إشكال حينئذٍ في المشروط والموقّت} بأنّه لا عقاب على تقدير تركهما مع بداهة العقاب، وعدم الفرق لدى العقلاء بين المطلق وبينهما.

{ويسهل بذلك} الجواب الّذي ذكره الأردبيلي وصاحب المدارك {الأمر في غيرهما} أي: غير المشروط والموقّت، فيكون العقاب في ترك الواجب المطلق أيضاً على عدم التعلّم الّذي هو واجب نفسي {لو صعب} جوابنا المتقدّم {على أحد ولم تصدّق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلاً مغفولاً عنه}.

فإنّا ذكرنا أنّه لو ترك التعلّم - في الواجب المطلق - ثمّ غفل وترك الواجب غفلة كان معاقباً؛ لأنّ الترك - وإن استند إلى الغفلة فعلاً - لكنّه بالآخرة يرجع إلى ترك التعلّم، إذ لو كان قد تعلّم لما غفل فعلاً، وترك التعلّم أمر اختياري، فالترك المستند إلى الغفلة المستندة إلى ترك التعلّم الّذي هو اختياري مصحّح للعقاب، فإذا صعب على أحد هذا الجواب {و} احتمل أنّ الترك {ليس بالاختيار} استراح إلى جواب المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك.{ولا يخفى أنّه لا يكاد ينحلّ هذا الإشكال} أي: إشكال العقاب على ترك

ص: 438

إلّا بذاك، أو الالتزامِ بكون المشروط أو الموقّت مطلقاً معلّقاً، لكنّه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدّماته الوجوديّة - عقلاً - بالوجوب قبل الشّرط أو الوقت غير التعلّم، فيكون الإيجاب حاليّاً، وإن كان الواجب استقباليّاً

___________________________________________

الواجب المشروط والموقّت {إلّا بذاك} الّذي ذكره المحقّق والسّيّد {أو الالتزام} بجواب آخر، وهو أنّ الواجب - في المشروط والموقّت - معلّق، ومعنى الواجب المعلّق هو ما كان وجوبه فعلاً وظرف الواجب بعداً، فالحجّ واجب الآن وصلاة الجمعة واجبة الآن، وإنّما وقتهما بعد الاستطاعة وبعد دخول الظّهر، وعلى هذا تجب مقدّمتهما، وهو التعلّم قبل الوقت والشّرط.

لا يقال: لو كان الوجوب فعلاً لزم وجوب سائر مقدّماتهما مع فرض أنّها ليست بواجبة، فإنّ تحصيل الاستطاعة - مثلاً - ليس بواجب.

لأنّا نقول: للوجوب مراتب: فمرتبة منه الآن وهو ما تجب به مقدّمته الّتي هي التعلّم، ومرتبة منه بعد حصول الاستطاعة وهي الّتي يجب به السّير والسّفر، ومرتبة منه في الموسم وهي الّتي تجب به الأعمال.

وإن شئت قلت: حيث إنّ الإطلاق والاشتراط إضافيّان فمن الممكن أن يكون الواجب بالنسبة إلى مقدّمة - وهو التعلّم - مطلقاً، وبالنسبة إلى مقدّمة أُخرى - وهي الاستطاعة - مشروطاً، فنلتزم {بكون المشروط أو الموقّت مطلقاً} أي: في جميع الموارد والأحوال {معلّقاً} أي: إنّ الوجوب فيها فعليّ {لكنّه قد اعتبر على نحو لا تتّصف مقدّماته الوجوديّة} كالاستطاعة وسائر المقدّمات الّتي يتوقّف عليها وجود الواجب {- عقلاً -} قيد لقوله: «اعتبر» {بالوجوب قبل الشّرط أو الوقت} فلا يجب تحصيلها {غير التعلّم} الّذي هو واجب حالي لوجوب ذيه {فيكون الإيجاب} في المشروط والموقّت {حاليّاً} فعليّاً قبل الشّرط والوقت {وإن كان الواجب استقباليّاً}.

ص: 439

قد أخذ على نحو لا يكاد يتّصف بالوجوب شرطه، ولا غير التعلّم من مقدّماته قبل شرطه أو وقته.

وأمّا لو قيل بعدم الإيجاب إلّا بعد الشّرط والوقت - كما هو ظاهر الأدلّة وفتاوى المشهور - ، فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلّم نفسيّاً، لتكون العقوبة - لو قيل بها - على تركه، لا على ما أدّى إليه من المخالفة، ولا بأس به، كما لا يخفى.

___________________________________________

وهذا هو معنى الواجب المعلّق الّذي يكون فيه الهيئة والمادّة مقيّدة، لكن كون الوجوب حاليّاً - أيضاً - ليس مطلقاً بل الوجوب {قد أخذ على نحو لا يكاد يتّصف بالوجوب شرطه} الّذي هو الاستطاعة {ولا غير التعلّم من مقدّماته} كتهيئة الزاد والرّاحلة والماء للوضوء مثلاً، والتوضّي بالنسبة إلى الصّلاة الموقّتة، فإنّها لا تجب {قبل شرطه} في المشروط {أو وقته} في الموقّت.

{وأمّا لو قيل بعدم الإيجاب إلّا بعد الشّرط والوقت} وإنّ الوجوب ليس معلّقاً {كما هو ظاهر الأدلّة وفتاوى المشهور} حيث إنّ الظّاهر منهما كون الوجوب مرتّباً على الشّرط والوقت {فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلّم نفسيّاً} كما ذكره المحقّق والسّيّد {لتكون العقوبة - لو قيل بها - على تركه} أي: ترك التعلّم {لا على ما أدّى إليه من المخالفة} للواجب فإذا ترك الحجّ كان العقاب على أنّه لم يتعلّم لا على أنّه ترك الحجّ.

لكن الإنصاف أنّه خلاف ظاهر الأدلّة والمرتكز، فالأجود الالتزام بما ذكره المصنّف(رحمة الله) في تعليقته السّابقة {و} إن كان ذكر المصنّف أنّ جواب المحقّق والسّيّد {لا بأس به، كما لا يخفى}.

وأشكل عليه في الحقائق: «بأنّ لازم ذلك عدم المقيّد؛ لإطلاق أدلّة البراءة لانحصار المقيّد بأوامر التعلّم بناءً على كونها طريقيّة، ولو كانت نفسيّة لم تصلح

ص: 440

ولا ينافيه ما يظهر من الأخبار من كون وجوب التعلّم إنّما هولغيره، لا لنفسه؛ حيث إنّ وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجباً غيريّاً يترشّح وجوبه من وجوب غيره، فيكون مقدميّاً، بل للتهيّئ لإيجابه، فافهم.

وأمّا الأحكام؛ فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة،

___________________________________________

لتقييد تلك الإطلاقات»(1).

{ولا ينافيه} أي: لا ينافي كون أوامر التعلّم نفسيّة {ما يظهر من الأخبار من كون وجوب التعلّم إنّما هو لغيره لا لنفسه} كقوله(علیه السلام): «التاجر فاجر ما لم يتفقّه»(2)، وقوله(علیه السلام): «الفقه ثمّ المتجر»(3)، إلى غير ذلك.

وإنّما قلنا بعدم المنافاة {حيث إنّ وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجباً غيريّاً} بحيث {يترشّح وجوبه من وجوب غيره} فإنّ معنى كون وجوبه لغيره إنّه للتهيّأ للغير لا أنّ وجوبه مترشّح من الغير كوجوب سائر المقدّمات {فيكون مقدميّاً، بل} إنّما وجب {للتهيّئ لإيجابه} أي: إيجاب الغير {فافهم} لعلّه إشارة إلى الإشكال المتقدّم نقله عن الحقائق.

هذا كلّه بالنسبة إلى العقاب على من أجرى البراءة بدون الفحص {وأمّا} سائر {الأحكام} وهل أنّه يترتّب على هذا الشّخص حكم أم لا؟ {ف-} نقول: {لا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة} كما لو شكّ بأنّ الذكر جزء الرّكوع أم لا؟ فأجرى البراءة عن الذكر - بدون الفحص - فصلّى بدون الذكر ثمّ علم وجب عليه الإعادة في الوقت والقضاء خارجه؛ لأنّه لم يأت بالمأمور به، ومقتضى

ص: 441


1- حقائق الأصول 2: 368.
2- هكذا ورد: «التاجر فاجر، والفاجر في النار، إلّا من أخذ الحق وأعطى الحق» الكافي 5: 150.
3- الكافي 5: 150.

بل في صورة الموافقة أيضاً في العبادة، في ما لا يتأتّى منه قصد القربة؛ وذلك لعدم الإتيان بالمأمور به، مع عدم دليل على الصّحّة والإجزاء إلّا في الإتمام في موضع القصر، أو الإجهار أو الإخفات في موضع الآخر، فورد في الصّحيح - وقد أفتى به المشهور - صحّةُ الصّلاة وتماميّتها في الموضعين مع الجهل مطلقاً، ولو كان عن تقصيرٍ

___________________________________________

ذلك الإتيان به داخل الوقت أو خارجه {بل في صورة الموافقة أيضاً في العبادة} كما لو أتى بالذكر {في ما لا يتأتّى منه قصد القربة} لوضوح أنّ الذكر الواجب في الرّكوع هو ما يتأتّى بقصد القربة، فالذكر بدونه كلا ذكر، فتكون الصّلاة باطلة يجب الإتيان بها ثانياً إعادة أو قضاء {وذلك لعدم الإتيان بالمأمور به مع عدم دليل} خارجيّ {على الصّحّة والإجزاء} فإنّ سقوط المأمور به يكون إمّا بالإتيان وإمّا بحصول الغرض، وليس شيء منهما في المقام موجوداً، كما لا يخفى {إلّا في} موارد دلّ الدليل على الاكتفاء بالناقص جهلاً وإن كان مقصّراً، مثل بعض مسائل الحجّ، كما لا يخفى على من راجع كتابه.

ومثل {الإتمام في موضع القصر} كالمسافر الّذي تكليفه القصر فأتمّ جاهلاً، فإنّه تصحّ صلاته ولا يحتاج إلى إعادة أو قضاء {أو الإجهار أو الإخفات في موضع الآخر} كأن أخفت في صلاة الصّبح أو العشائين، أو أجهر في صلاة الظّهرين، فإنّه تصحّ منه الصّلاة وإن خالف التكليف جهلاً {فورد في الصّحيح - وقد أفتى به المشهور - صحّة الصّلاة} «صحّة» فاعل «ورد» {وتماميّتها} أي: تماميّة الصّلاة {في الموضعين} أي: موضع الإتمام وموضع الإجهار والإخفات {مع الجهل مطلقاً، ولو كان عن تقصير}.

فيدلّ على الأوّل صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر(علیه السلام): رجل صلّى في السّفر أربعاً أيعيد أم لا؟ قال: «إن كان قُرئت عليه آية التقصير وفُسّرت له فصلى أربعاً أعاد، وإن لم يكن قُرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة

ص: 442

موجبٍ لاستحقاق العقوبة على ترك الصّلاة المأمور بها؛ لأنّ ما أُتِيَ بها،وإن صحّت وتمّت، إلّا أنّها ليست بمأمور بها.

إن قلت: كيف يحكم بصحّتها مع عدم الأمر بها؟

___________________________________________

عليه»(1).

أقول: قوله(علیه السلام): «وفُسّرت له» كأنّ وجهه أنّ الآية لا تدلّ على التقصير في مطلق السّفر، إذ موردها الخوف، مضافاً إلى أنّ الآية تقول: «لا جناح» ممّا لا يظهر منها الحتم والإيجاب.

ويدلّ على الثّاني صحيح زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام)، عن رجل جهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه؟ فقال(علیه السلام): «أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته، وعليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه، وقد تمّت صلاته»(2).

لكن لا يخفى أنّ التقصير في ترك التعلّم والعمل بخلاف الواجب {موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصّلاة المأمور بها} فيعاقب لترك القصر وللجهر في موضع الإخفات وبالعكس {لأنّ ما أتي بها} من الصّلاة المخالفة للواقع {وإن صحّت وتمّت} فلا إعادة ولا قضاء {إلّا أنّها ليست بمأمور بها} فيكون كما لو طلب المولى الماء الحلو - لاضطراره لرفع عطشه - فأُتي بماء مالح وشرب المولى اضطراراً، فإنّه يسقط التكليف لفوات الغرض وإن استحقّ العبد العقاب.

{إن قلت}: أيّ وجه لصحّة الصّلاة، وأيّ وجه للعقاب على تقدير الصّحّة، فإنّه {كيف يحكم بحصّتها} أي: صحّة الصّلاة المخالفة {مع عدم الأمر بها؟} فإنّ الأمر كان متوجّهاً إلى القصر وإلى الإخفات في الظّهرين والجهر في الصّبح

ص: 443


1- من لا يحضره الفقيه 1: 435؛ تهذيب الأحكام 3: 226.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 344؛ تهذيب الأحكام 2: 162.

وكيف يصحّ الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصّلاة الّتي أُمر بها، حتّى في ما إذا تمكّن ممّا أُمر بها، - كما هو ظاهر إطلاقاتهم - بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الإتمام والإخفات، وقد بقي من الوقت مقدارُ إعادتها قصراً أو جهراً؟؛ ضرورة أنّه لا تقصير هاهنا يوجب استحقاق العقوبة.

وبالجملة: كيف يحكم بالصحّة بدون الأمر؟ وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة؟ لولا الحكم شرعاً بسقوطها وصحّة ما أُتِيَ بها.

قلت:

___________________________________________

والمغربين {وكيف يصحّ الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصّلاة الّتي أُمر بها} أي: الصّلاة الواقعيّة {حتّى في ما إذا تمكّن ممّا أُمر بها} يعني أنّه لو تمكّن من إعادة الصّلاة موافقة للواقع فكيف يقول له الشّارع: (لا تصلّ) - إذ لا إعادة عليه - ثمّ يعاقبه بأنّه لماذا صلّى الصّلاة النّاقصة، فإنّه كالتهافت {كما هو ظاهر إطلاقاتهم} بالكفاية حتّى في مورد التمكّن {بأن علم بوجوب القصر أو الجهر} أو الإخفات {بعد الإتمام والإخفات} والإجهار {وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصراً أو جهراً} أو إخفاتاً؟ وإنّما استغربنا استحقاق العقوبة؛ لأنّ المولى هو سبب تفويت الواجب، فإنّ العبد كان مستعدّاً للإتيان بالموافق، ل- {ضرورة أنّه لا تقصير هاهنا} من العبد {يوجب استحقاق العقوبة} وهذا خلاف العدل والحكمة.

{وبالجملة كيف يحكم بالصحّة} للصلاة المخالفة {بدون الأمر} لفرض أنّ الأمر متوجّه إلى الصّلاة التامّة {وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة لولا الحكم شرعاً بسقوطها} أي: لولا الحكم الشّرعي بالسقوط كان المكلّف قادراً على الإعادة {و} الحكم شرعاً ب- {صحّة ما أتي بها} من الصّلاة الفاقدة؟

{قلت}: الحكم بالصحّة لأجل وفائها بالغرض الأكمل، والحكم بالعقاب

ص: 444

إنّما حكم بالصحّة لأجل اشتمالها على مصلحة تامّة، لازمةِ الاستيفاء في نفسها، مهمّة في حدّ ذاتها، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر، وإنّمالم يؤمر بها لأجل أنّه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النّحو الأكمل والأتمّ.

وأمّا الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة، فإنّها

___________________________________________

لأجل أنّه فوّت على المولى مقداراً من المصلحه لا يمكن تداركها.

أقول: لكن العقاب إنّما هو بدليل اجتهاديّ لا بنصّ خاصّ، وعلى هذا فيمكن المناقشة فيه: بأنّه لا دليل على تفويت المصلحة، فليس مثل إرواء المولى بالماء المالح، ويدلّ على إمكان الإعادة ما دلّ على صحّة إعادة الصّلاة جماعة وإنّ اللّه يختار أحبّهما إليه، وما دلّ على جواز إعادة الصّلاة احتياطاً وإن كانت وافية حسب القواعد.

وعلى كلّ حال، في الأمر بالعقاب نظر، فلنرجع إلى جواب المصنّف فنقول: {إنّما حكم بالصحّة} للصلاة النّاقصة {لأجل اشتمالها على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاء} أي: كانت هذه المصلحة بحيث لو كانت وحدها لزم استيفاؤها {في نفسها مهمّة} جدّاً {في حدّ ذاتها، وإن كانت دون مصلحة الجهر} والإخفات {والقصر} الّتي كانت مأموراً بها {وإنّما لم يؤمر بها} أي: لم يأمر الشّارع بهذه المصلحة الموجودة في الصّلاة النّاقصة {لأجل أنّه أمر بما} أي: بالصلاة الكاملة الّتي {كانت واجدة لتلك المصلحة} الموجودة في النّاقصة {على النّحو الأكمل والأتمّ} فإنّ صلاة القصر مشتملة على مائة درجة والتمام على تسعين فلم يأمر بالتمام - في السّفر - لأنّ القصر مشتملة على التسعين وعلى الزائد.

{وأمّا الحكم باستحقاق العقوبة} وأنّ العبد يستحقّ عقاب ترك الأمر المتوجّه إلى القصر، حيث كان الترك بسوء اختياره؛ لأنّه لم يتعلّم {مع التّمكّن من الإعادة} الّتي تكون وافية بتمام المصلحة {ف-} لأجل {أنّها} أي: الإعادة

ص: 445

بلا فائدة؛ إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة الّتي كانت في المأمور بها، ولذا لو أتى بها في موضع الآخر جهلاً - مع تمكّنه من التعلّم - فقد قصر ولو علم بعده وقد وسع الوقت.

فانقدح: أنّه لا يتمكّن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الإتمام، ولا من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الإخفات، وإن كان الوقت باقياً.

إن قلت: على هذا يكون كلّ منهما في موضع الآخر سبباً لتفويت الواجب فعلاً،

___________________________________________

{بلا فائدة، إذ مع استيفاء تلك المصلحة} الّتي كانت في النّاقصة {لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة الّتي كانت في المأمور بها} وهي الصّلاة التامّة، فيكون حالها حال من شرب الماء المالح مع طلبه للماء الحلو، حيث لا يبقى مجال للإطاعة ثانياً مع استحقاقه للعقوبة لمخالفة الأمر.

{ولذا} أي: والّذي يدلّ على عدم بقاء مجال للتامّة أنّه {لو أتى بها} أي: بالناقصة {في موضع الآخر} التامّة {جهلاً} بالحكم {مع تمكّنه من التعلّم فقد قصر} في أداء التكليف {ولو علم بعده وقع وسع الوقت} للإتيان ثانياً.

{فانقدح} بما ذكرنا من المصلحة التامّة لا يمكن تداركها بعد الإتيان بالمصلحة النّاقصة {أنّه لا يتمكّن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الإتمام} جهلاً - في السّفر - {ولا} يتمكّن {من} صلاة {الجهر كذلك} صحيحة {بعد فعل صلاة الإخفات} وبالعكس - في الظّهرين - {وإن كان الوقت باقياً} لكنّك قد عرفت الإشكال فيه.

{إن قلت: على هذا} الّذي ذكرتم من أنّه لا يتمكّن من الإتيان بالتامّة بعد الإتيان بالناقصة {يكون كلّ منهما} من القصر والإتمام والجهر والإخفات {في موضع الآخر} المكلّف به {سبباً لتفويت الواجب فعلاً} فإنّ الإتمام سبب لتفويت

ص: 446

وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام، وحرمةُ العبادة موجبةلفسادها بلا كلام.

قلت: ليس سبباً لذلك، غايته أنّه يكون مضادّاً له، وقد حقّقنا في محلّه: أنّ الضّدّ وعدم ضدّه متلازمان ليس بينهما توقّف أصلاً.

___________________________________________

القصر الواجب، والجهر في الظّهر سبب لتفويت الإخفات {وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك} أي: الواجب العقلي {حرام، وحرمة العبادة موجبة لفسادها} فالتمام في موضع القصر والإخفات في موضع الجهر فاسد، فيجب الإتيان بالكاملة ثانياً {بلا كلام} فكيف يقال بصحّة العبادة النّاقصة؟

{قلت}: سبب ترك الواجب التامّ هو سوء الاختيار لا هذا المأتي به النّاقص فإنّه {ليس سبباً لذلك} أي: لتفويت الواجب الكامل {غايته أنّه} أي: النّاقص {يكون مضادّاً له} أي: للواجب الكامل، فالتمام مضادّ للقصر الّذي هو مأمور به والإخفات مضادّ للجهر الّذي هو مأمور به.

{وقد حقّقنا في محلّه} وهو مبحث كون الأمر بالشيء ينهى عن ضدّه {أنّ الضّدّ} كالتمام {وعدم ضدّه} كالقصر {متلازمان} و{ليس بينهما توقّف أصلاً} فلا يتوقّف القصر - المأمور به - على عدم التمام، إذ الضّدّان في مرتبة واحدة ولا يعقل أن يكون ما في مرتبة صاحبه مقدّماً عليه حتّى يتوقّف أحدهما على الآخر.

فمثلاً: عدم البياض في مرتبة السّواد، فلا يمكن أن يكون عدم البياض مقدّمة للسواد.

فتحصّل: أنّ السّبب لتفويت الواجب الّذي هو القصر - مثلاً - سوء اختيار المكلّف الّذي لم يتعلّم، لا أنّ السّبب لتفويته هو التمام الّذي أتى به، فلا يكون التمام سبباً لتفويت الواجب حتّى يقال بأنّه حرام، وأنّ الحرمة في العبادة موجبة لفسادها فالتمام باطلة ويبقى مجال للقصر.

ص: 447

لا يقال: على هذا فلو صلّى تماماً أو صلّى إخفاتاً في موضع القصر والجهر - مع العلم بوجوبهما في موضعهما - لكانت صلاته صحيحة، وإن عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر.

فإنّه يقال: لا بأس بالقول به لو دلّ دليل على أنّها تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم؛ لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل،

___________________________________________

{لا يقال: على هذا} الّذي ذكرتم من كون التمام - في السّفر - ذا مصلحة وإنّه ليس بمحرّم؛ لأنّه ليس بمقدّمة لترك الواجب {فلو صلّى تماماً} في السّفر {أو صلّى إخفاتاً} أو جهاراً {في موضع القصر والجهر} والإخفات {مع العلم بوجوبهما} أي: وجوب القصر والجهر {في موضعهما} أي: موضع التمام والإخفات، ويحتمل أن يرجع الضّمير إلى المرجع السّابق وهو القصر والجهر {لكانت صلاته صحيحة} لأنّه أتى بما يشتمل على المصلحة التامّة الكافية وإن لم يكن بقدر مصلحة الواقع المأمور به {وإن عوقب} الآتي بالمخالف {على مخالفة الأمر} الّذي توجّه إليه {ب-} الصّلاة {القصر أو الجهر} وهكذا بالنسبة إلى الإخفات.

{فإنّه يقال: لا بأس بالقول به} أي: بكون الصّلاة المخالفة صحيحة حتّى مع العلم بالواقع {لو دلّ دليل على أنّها} أي: الصّلاة المخالفة {تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم} بالواقع.

والحاصل: أنّا نقول: باشتمال الصّلاة النّاقصة على المصلحة في حال الجهل بالواقع لما دلّ على الاكتفاء بها، أمّا في صورة العلم بالواقع فلا دليل على كفاية الصّلاة النّاقصة حتّى نقول بها، ولا يعلم باشتمالها حين العلم على المصلحة {لاحتمال اختصاص أن يكون} الفاقد {كذلك} مشتملاً على المصلحة {في صورة الجهل} بالواقع فالجهر في الظّهر ذو مصلحة لمن لا يعلم بوجوب الإخفات،

ص: 448

ولا بُعد أصلاً في اختلاف الحال فيها باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به، كما لا يخفى.

وقد صار بعض الفحول(1)

بصدد بيان إمكان كون المأتيّ به في غير موضعه مأموراً به بنحو الترتّب.

___________________________________________

والتمام في السّفر ذو مصلحة لمن لا يعلم بوجوب القصر.

{و} إن قلت: كيف يمكن وجود الصّلاح في حال الجهل وعدم وجوده في حال العلم؟

قلت: {لا بعد أصلاً في اختلاف الحال فيها} أي: في الصّلاة النّاقصة {باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء} كالقصر والجهر في الصّبح مثلاً {والجهل به} أي: بوجوب ذلك الشّيء حتّى يكون المخالف لذلك الشّيء في حال العلم به بدون مصلحة وفي حال الجهل به مع المصلحة، فلا يلزم من كون المخالف ذا مصلحة في حال الجهل بالواقع كونه ذا مصلحة في حال العلم بالواقع {كما لا يخفى}.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إلى هنا كان في صدد بيان كون الصّلاة المخالفة ذات مصلحة كافية عن الواقع - في حال الجهل بالواقع - {و} لكن كاشف الغطاء(رحمة الله) أراد أن يجعل الصّلاة المخالفة ذات أمر أيضاً بنحو الترتّب، ف- {قد صار بعض الفحول} وهو الشّيخ الأكبر الشّيخ جعفر(رحمة الله) {بصدد بيان إمكان كون المأتي به في غير موضعه} وهو التمام في موضع القصر والإخفات في موضع الجهر {مأموراً به بنحو الترتّب} كأن قال المولى: (صلّ قصراً فإن عصيت فصلّ تماماً) وقال: (صلّ جهراً فإن عصيت فصلّ إخفاتاً) حتّى أنّه لو ترك الأمر الأوّل عوقب عليه ولو تركهما كان له عقابان.

ص: 449


1- كشف الغطاء 1: 171.

وقد حقّقنا في مبحث الضّدّ امتناع الأمر بالضدّين مطلقاً - ولو بنحو الترتّب - بما لا مزيد عليه، فلا نعيد.

ثمّ إنّه ذكر(1)

لأصل البراءة شرطان آخران:

أحدهما: أن لا يكون موجباً لثبوت حكم شرعي من جهة أُخرى.

ثانيهما: أن لا يكون موجباً للضرر على آخر.

___________________________________________

{و} لكن {قد حقّقنا} نحن {في مبحث الضّدّ امتناع الأمر بالضدّين مطلقاً ولو بنحو الترتّب} للزومه طلب الضّدّين في وقت المهمّ، وأوضحنا هناك أنّه من الأمر بالضدّين المحال {بما لا مزيد عليه فلا نعيد} فراجع مبحث الترتّب في الجزء الأوّل.

{ثمّ إنّه ذكر} والذاكر هو الفاضل التوني {لأصل البراءة شرطان آخران} بالإضافة إلى لزوم الفحص:

{أحدهما: أن لا يكون} أصل البراءة {موجباً لثبوت حكم شرعيّ من جهة أُخرى} كما لو وقعت نجاسة في أحد الإنائين، فإنّ إجراء أصالة الطّهارة في أحدهما معناه نجاسة الإناء الآخر ووجوب الاجتناب عنه، فالأصل هنا أوجب ثبوت حكم شرعي لغير مجراه، وهذا هو معنى قوله: «من جهة أُخرى» وكما لو وقعت نجاسة في ماء مشكوك الكريّة، فإنّ إجراء أصالة عدم الكريّة موجب لإثبات القلّة والنّجاسة، فمثل هذين الأصلين لا يجريان لأنّهما موجبان لإثبات حكم شرعيّ آخر.

{ثانيهما: أن لا يكون} أصل البراءة {موجباً للضرر على آخر} كما لو فتح إنسان قفص الطّير الّذي هو لإنسان آخر، أو حبس شاته حتّى مات ولدها أو حفظ إنساناً حتّى شردت دابّته، فإنّ إجراء أصل البراءة عن الضّمان موجب لضرر صاحب الطّير والشّاة والدابّة، فمثل هذا الأصل لا يجري.

ص: 450


1- الوافية في أصول الفقه: 193.

ولا يخفى: أنّ أصالة البراءة عقلاً ونقلاً في الشّبهة البدويّة بعد الفحص لا محالة تكون جارية. وعدمُ استحقاق العقوبة - الثابت بالبراءة العقليّة - والإباحةُ أو رفعُ التكليف - الثابت بالبراءة النّقليّة - لو كان موضوعاً لحكم شرعيّ أو ملازماً له، فلا محيص عن ترتّبه

___________________________________________

{ولا يخفى} أنّ هذين الشّرطين اللّذين ذكرهما الفاضل التوني لإجراء البراءة مناقش فيهما: أمّا الشّرط الأوّل فقد أجاب الشّيخ(رحمة الله) عنه، بأنّ الأصل في الإنائين ساقط للمعارضة لا لشيء آخر، والأصل في الكريّة لا بأس بإجرائه، وأجاب المصنّف(رحمة الله) عنه بأنّه لا مانع من إجراء البراءة بعد الفحص واليأس، ولو كان موجباً لإثبات حكم شرعي. نعم، الحكم العقلي والعادي لا يترتّب على الأصل.وأمّا الشّرط الثّاني فقد أجاب عنه بأنّ دليل الضّرر إن كان يشمل مثل تلك الموارد لم تجر البراءة؛ لأنّها بعد اليأس عن الدليل، وقد وجد الدليل فرضاً - وهو دليل لا ضرر - وإن لم يشمل دليل الضّرر لها لم يكن مانع عن إجراء البراءة.

إذا عرفت مجمل الجواب نقول: أمّا بالنسبة إلى الشّرط الأوّل ف- {إنّ أصالة البراءة عقلاً} وهو قبح العقاب بغير بيان {ونقلاً} وهو «رفع ما لا يعلمون»(1){في الشّبهة البدويّة} غير المقرونة بالعلم الإجمالي - كالإنائين - {بعد الفحص} واليأس عن الدليل {لا محالة تكون جارية} لتماميّة أدلّتها {وعدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقليّة} لأنّها تقول بقبح العقاب بغير بيان {والإباحة أو رفع التكليف الثابت بالبراءة النّقليّة} لأنّها تقول: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام»(2)، وتقول: «رفع ما لا يعلمون» {لو كان} ذلك لعدم {موضوعاً لحكم شرعي أو ملازماً له} أي: لحكم شرعي {فلا محيص عن ترتّبه} أي: ترتّب ذلك

ص: 451


1- الخصال 2: 417.
2- الكافي 5: 13، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341، ومتن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

عليه بعد إحرازه. فإن لم يكن مترتّباً عليه، بل على نفي التكليف واقعاً، فهي وإن كانت جارية، إلّا أنّ ذاك الحكم لا يترتّب؛ لعدم ثبوت ما يترتّب عليه بها،

___________________________________________

الحكم أو الملازم له {عليه} أي: على ذلك العدم {بعد إحرازه} أي: إحراز العدم بجريان البراءة، فلو ثبت بالبراءة حليّة تدخين التبغ، وقد دلّ الدليل الشّرعي على جواز بيع ما كان حلالاً ترتّب على أصل البراءة جواز بيعه.

{ف-} ما ذكره الفاضل من عدم ترتّب الحكم اللّازم أو الملازم على أصل البراءة: إن أراد أنّ أصل البراءة لا يجري قلنا إنّ عدم جريان الأصل خلاف إطلاق أدلّة البراءة، وإن أراد أنّ الأصل يجري لكن اللّازم أو الملازم لا يترتّب قلنا إنّ ذلك خلاف الدليل الدالّ على اللزوم أو على الملازمة، ففي المثال إن أراد عدم جريان أصالة الحلّ بالنسبة إلى التبغ كان ذلك خلاف قوله(علیه السلام): «كلّ شيء لك حلال»، وإن أراد عدم ترتّب جواز البيع على جواز الشّرب كان ذلك خلاف ما دلّ على أنّ كلّ حلال جائز البيع - المفهوم من قوله: «إذا حرّم اللّه شيئاً حرّم ثمنه»(1)

- .

نعم {إن لم يكن} ذلك الحكم اللّازم أو الملازم {مترتّباً عليه} أي: على العدم المستفاد من الأصل {بل} كان مترتّباً {على نفي التكليف واقعاً} كما لو نذر أنّ التبغ لو كان حلالاً واقعاً أعطى ديناراً للفقير {فهي} أي: البراءة {وإن كانت جارية إلّا أنّ ذاك الحكم لا يترتّب} فلا يجب إعطاء الدينار للفقير {لعدم ثبوت ما يترتّب} ذلك الحكم {عليه} الضّمير عائد إلى «ما» ومصداقه الحلال الواقعي {بها} أي: بالبراءة، يعني أنّ البراءة إنّما تفيد الحليّة الظّاهريّة، والتصدّق كان معلّقاً على الحليّة الواقعيّة فلا يترتّب التصدّق على البراءة الّتي تفيد الحليّة الظّاهريّة.

ص: 452


1- بحار الأنوار 100: 55.

وهذا ليس بالاشتراط.

وأمّا اعتبار أن لا يكون موجباً للضرر: فكلّ مقام تعمّه قاعدةُ نفي الضّرر، وإن لم يكن مجال فيه لأصالة البراءة - كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلّه الاجتهاديّه - ،

___________________________________________

{وهذا} الّذي ذكر من عدم الترتّب لو كان معلّقاً بالحلال الواقعي {ليس بالاشتراط} الّذي ذكره الفاضل التوني(رحمة الله).

{وأمّا} الجواب عن الشّرط الثّاني الّذي ذكره الفاضل، وهو {اعتبار أن لا يكون} أصل البراءة {موجباً للضرر} على الغير {ف-} فنقول: {كلّ مقام تعمّه قاعدة نفي الضّرر} وهو قوله(صلی الله علیه و آله): «لا ضرر ولا ضرار» {وإن لم يكن مجال فيه} أي: في ذلك المورد {لأصالة البراءة} كما لو كسر إنسان آنية غيره، فإنّه لا مجال له لإجراء أصالة البراءة عن الضّمان لشمول القاعدة له {- كما هو حالها} أي: حال البراءة {مع سائر القواعد الثابتة بالأدلّة الاجتهاديّة -} فإذا كان في المقام دليل الجتهاديّ لم يبق مجالللبراءة.

والفرق بين الدّليل الاجتهادي والأصل العملي: هو أنّ الحكم في الأوّل منصبّ على الواقع، كما لو قال: (الغنم حلال)، والحكم في الثّاني منصبّ على الواقع المشكوك فيه - أي: المجهول - ، كما لو قال: (كلّ حيوان لم تعلم أنّه حرام أو حلال فهو حلال).

ومن المعلوم أنّه لو كان في باب حكم منصبّ على الواقع لم يبق الواقع مجهولاً حتّى يكون مجال للأصل العملي، فلو دلّ دليل على أنّ لحم الأرنب حرام لم يبق مجال للبراءة وأصالة الحلّ؛ لأنّ أصل الحلّ يقول: (كلّ لحم مجهول)، وذلك الدليل قال: (لحم الأرنب ليس مجهولاً، بل هو حرام).

وعلى هذا، فإذا دلّ دليل على وجود الضّمان في مورد لا يبقى مجال لدليل البراءة، إذ البراءة تقول: (إذا لم تعلم الضّمان فأنت بريء) وذاك الدليل يقول: (أنت ضامن).

ص: 453

إلّا أنّه حقيقة لا يبقى لها مورد؛ بداهة أنّ الدليل الاجتهادي يكون بياناً وموجباً للعلم بالتكليف ولو ظاهراً، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك، فلا بدّ من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهاديّ، لا خصوص قاعدة الضّرر، فتدبّر، والحمد للّه على كلّ حال.

ثمّ إنّه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضّرر والضّرار على نحو الاختصار، وتوضيح مدركها، وشرح مفادها، وإيضاح نسبتها مع الأدلّة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوليّة

___________________________________________

والحاصل: أنّه وإن لم يكن مجال للبراءة إذا عمّ دليل الضّرر لمورد {إلّا أنّه حقيقة لا يبقى لها} أي: للبراءة {مورد} بعد عموم دليل الضّرر {بداهة أنّ الدليل الاجتهادي يكون بياناً وموجباً للعلم بالتكليف ولو} كان إيجابه {ظاهراً} لا واقعاً، فإنّ أدلّة البراءة تعيّن التكليف الظّاهري، كما لا يخفى.

إذا عرفت الجواب عن شرط الفاضل التوني(رحمة الله) نقول: {فإن كان المراد من الاشتراط} أي: اشتراط البراءة بعدم الضّرر {ذلك} الّذي ذكرنا من عدم بقاء مورد للبراءة مع جريان أدلّة الضّرر {ف-} أيّ وجه لتخصيص أدلّة الضّرر بالاشتراط، بل {لا بدّ من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهاديّ} مطلقاً {لا خصوص قاعدة الضّرر} كما ذكر {فتدبّر} جيّداً {والحمد للّه على كلّ حال} هذا تمام الكلام في شراط الأصول العمليّة.

[قاعدة نفي الضرر]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، قاعدة نفي الضرر

{ثمّ} حيث انتهى الكلام إلى اشتراط البراءة بعدم جريان أدلّة الضّرر ف- {إنّه لا بأس بصرف} عنان {الكلام إلى بيان قاعدة الضّرر والضّرار على نحو الاختصار} والإيجاز {وتوضيح مدركها وشرح مفادها} أي: سندها ودلالتها {وإيضاح نسبتها مع الأدلّة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوليّة} كنسبة القاعدة مع

ص: 454

أو الثانويّة، وإن كانت أجنبيّة عن مقاصد الرّسالة، إجابة لالتماس بعض الأحبّة، فأقول وبه أستعين:

إنّه قد استدلّ عليها بأخبار كثيرة:

منها: موثّقة زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام): «أنّ سمرة بن جُندب كان له عَذقٌ في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان سمرة يمرّ إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فجاء الأنصاري إلى النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، فشكا إليه، وأخبره بالخبر، فأرسل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأخبره بقول الأنصاري وما شكاه، فقال: إذا أردتَ الدخول فاستأذن، فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ من الثمن ما شاء اللّه، فأبى أن يبيعه، فقال:

___________________________________________

وجوب الصّلاة والصّيام وحرمة الخمر والميتة {أو} بعناوينها {الثانويّة} كنسبة القاعدة مع «كلّ شيء لك حلال حتّىتعرف»(1)

{وإن كانت} هذه القاعدة {أجنبيّة عن مقاصد الرّسالة} وإنّما نذكرها {إجابة لالتماس بعض الأحبّة، فأقول وبه أستعين: إنّه قد استدلّ عليها} أي: على القاعدة {بأخبار كثيرة}:

{منها: موثّقة زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام): «أنّ سمرة بن جندب كان له عذق} وهو النّخل {في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان سمرة يمرّ إلى نخلته ولا يستأذن} حتّى يتهيّأ الأنصاري وأهله لدخوله {فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فجاء الأنصاري إلى النّبيّ(صلی الله علیه و آله) فشكى إليه، وأخبره بالخبر، فأرسل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأخبره بقول الأنصاري وما شكاه فقال} الرّسول(صلی الله علیه و آله): {إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ من الثمن ما شاء اللّه، فأبى أن يبيعه} أي: يبيع النّخلة للرسول(صلی الله علیه و آله) {فقال}(صلی الله علیه و آله)

ص: 455


1- الكافي 5: 13، مع اختلاف يسير؛ من لا يحضره الفقيه 3: 341. ومتن الحديث هكذا: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

لك بها عذق في الجنّة، فأبى أن يقبل، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار»(1).

وفي رواية الحذّاء عن أبي جعفر(علیه السلام) مثل ذلك، إلّا أنّه فيها بعد الإباء: «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّاً؛ اذهب يا فلان. فاقلعها وارم بها وجهَه»(2).

إلى غير ذلك من الرّوايات الواردة في قصّة سَمُرة وغيرها.

___________________________________________

{لك بها عذق في الجنّة، فأبى} سمرة {أن يقبل، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار»} وقد روى هذه الرّواية جماعة.

{وفي رواية الحذّاء، عن أبي جعفر(علیه السلام) مثل ذلك إلّا أنّه فيها بعد الإباء} أي: بعد إباء سمرة للبيع أنّ النّبيّ(صلی الله علیه و آله) قال له: {«ما أراك يا سمرة إلّا مضارّاً، اذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه»} وفي نسخة «فاقطعها واضرب بها» {إلى غير ذلك من الرّوايات الواردة في قصّة سمرة وغيرها}.

فعن عقبة بن خالد، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «قضى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالشفعة بين الشّركاء في الأرضين والمساكن، قال: ولا ضرر ولا ضرار»(3).

وعن عقبة بن خالد، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «قضى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بين أهل المدينة في مشارب النّخل أنّه لا يمنع نقع البئر، وقضى بين أهل البادية أن لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء، وقال: لا ضرر ولا ضرار»(4).

وعن هارون بن حمزة الغنوي، عن أبي عبداللّه(علیه السلام)، عن رجل شهد بعيراً مريضاً يباع، فاشتراه رجل بعشرة دراهم، فجاء واشترك فيه رجل بدرهمين بالرأس

ص: 456


1- من لا يحضره الفقيه 3: 233، مع اختلاف يسير.
2- الكافي 5: 292.
3- الكافي 5: 280.
4- الوافي 18: 1015.

وهي كثيرة، وقد ادّعي(1)

تواترها مع اختلافها لفظاً ومورداً، فليكن المراد بها تواترها إجمالاً، بمعنى القطع بصدور بعضها.

___________________________________________

والجلد، فقضى أنّ البعير بريء، فبلغ ثمنه دنانير، قال: فقال(علیه السلام): «لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ، فإن قال أُريد الرّأس والجلد فليس له ذلك هذا الضّرار، وقد أُعطي حقّه إذا أُعطي الخمس»(2).

وعن طلحة بن زيد، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «إنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم»(3).

وعن عقبة بن خالد، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) في رجل أتى جبلاً فشقّ فيه قناة فذهبت قناة الآخر بماء قناة الأُولى: «يتقايسان بحقائب البئر ليلة ليلة، فينظر أيّهما أضرّت بصاحبها، فإن رأيت الأخيرة ضرّت بالأُولى فلتعوّر»(4).

وعن التذكرة مرسلاً عن النّبيّ(صلی الله علیه و آله) أنّه قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(5)،

إلى غير ذلك ممّا يجدها المتتبّع في الوسائل(6)

والمستدرك(7).

{وهي كثيرة، وقد ادّعى} الفخر في الإيضاح {تواترها مع اختلافها لفظاً ومورداً} كما تقدّم في جملة منها {فليكن المراد بها تواترها إجمالاً} لا التواتر اللفظي أو التواتر المعنوي {بمعنى القطع بصدور بعضها} ولو واحداً منها، وذلك بخلاف التواتر اللفظي الذي هو أن يكون لفظ واحد رواه جمع يؤمن من

ص: 457


1- إيضاح الفوائد 2: 48.
2- الكافي 5: 293.
3- الكافي 5: 292.
4- وسائل الشيعة 25: 432.
5- تذكرة الفقهاء 11: 68.
6- وسائل الشيعة 25: 427.
7- مستدرك الوسائل 17: 118.

والإنصاف، أنّه ليس في دعوى التواتر كذلك جزاف. وهذا مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها وانجبار ضعفها؛ مع أنّ بعضها موثّقة، فلا مجال للإشكال فيها من جهة سندها، كما لا يخفى.

وأمّا دلالتها: فالظاهر أنّ الضّرر هو ما يقابل النّفع - من النّقص في النّفس أو الطّرف أو العرض أو المال - تقابلَ العدم والملكة.

___________________________________________

اجتماعهم على الكذب أو اشتباههم، وبخلاف التواتر المعنوي الّذي هو أن يروي جماعة عدّة ألفاظ لها معنى واحد نعلم قطعاً بذلك المعنى، كما قرّر في مبحث التواتر.

{والإنصاف أنّه ليس في دعوى التواتر كذلك} إجمالاً {جزاف، وهذا} التواتر الإجمالي {مع استناد المشهور إليها} في مختلف أبواب الفقه {موجب لكمال الوثوق بها وانجبار ضعفها} لو كان {مع أنّ بعضها موثّقة} وهو كاف في الاستناد {فلا مجال للإشكال فيها من جهة سندها، كما لا يخفى} على من أعطى المسألة حقّ النّظر.

هذا هو الجهة الأُولى في الرّواية {وأمّا دلالتها فالظاهر أنّ الضّرر هو ما يقابل النّفع من النّقص في النّفس} كالجنون مقابل العقل أو ذهاب بعض النّفوس في مهلكة مقابل بقائها {أو الطّرف} كالعمى مقابل البصر {أو العرض} كانتهاك العرض مقابل سلامته {أو المال} كذهاب بعض المال مقابل بقائه، من غير فرق بين المال الموجود أو المترقّب {تقابل العدم والملكة} وهما وجوب خاصّ وعدم خاصّ، فالملكة هو الوجود الخاصّ سواء كان لشيء كالبصر أو كان في نفسه كوجود الجدار مثلاً، وهذا التقابل أحد أقسام التقابل الأربعة، وهي تقابل الضّدّين، والنّقيضين، والتضايف والتماثل، فراجع شرح التجريد(1) وغيره.

ص: 458


1- كشف المراد: 108.

كما أنّ الأظهر: أن يكون الضّرار بمعنى الضّرر، جيء به تأكيداً -كما يشهد به إطلاق المضارّ على سمرة، وحكي عن النّهاية(1)- ، لا فعل الاثنين، وإن كان هو الأصل في باب المفاعلة، ولا الجزاء على الضّرر؛ لعدم تعاهده من باب المفاعلة.

___________________________________________

{كما أنّ الأظهر أن يكون الضّرار بمعنى الضّرر} فقوله(صلی الله علیه و آله): «لا ضرر ولا ضرار» {جيء به تأكيداً} فهو مثل أن يقول: «لا ضرر ولا ضرار» {كما يشهد به إطلاق المضار} في نفس الرّواية {على سمرة} فإنّه(صلی الله علیه و آله) قال له: «إنّك رجل مضارّ»، فإنّه من باب المفاعلة، تقول: ضارّ، يضارّ، مضارّ، وله مصادر: مضارّةً، وضراراً، وضيراراً، على وزن مفاعلة، وفعالاً، وفيعالاً.

{و} هذا المعنى {حكي عن النّهاية} لابن الأثير {لا فعل الاثنين} بأن يضرّ هذا ذاك وذاك هذا {وإن كان هو الأصل في باب المفاعلة} كما هو المذكور في كلام غير واحد من أهل العربيّة، فمعنى ضارب: أنّ كلّ واحد من الاثنين ضرب الآخر، وكذا (قاتل) وغيرهما، وإن كان هذا غير دائمي كما في قوله - تعالى - : {قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ}(2) {ولا الجزاء على الضّرر} بمعنى أنّه جازى على الضّرر حتّى يكون «ضارّه» بمعنى «جازاه على الضّرر» وإنّما لم يكن معنى المضارّ الجزاء على الضّرر {لعدم تعاهده من باب المفاعلة}.

هذا بالإضافة إلى كونه من الاثنين أو الجزاء خلاف استعمالات هذه الكلمة أو مشتقّاتها، كقوله - تعالى - : {وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا}(3)، وقوله - تعالى - : {لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا}(4)، وقوله - تعالى - : {وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ}(5)، وقوله - تعالى - :

ص: 459


1- النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 81، مادة (ضرر)
2- سورة التوبة، الآية: 30؛ سورة المنافقون، الآية: 4.
3- سورة التوبة، الآية: 107.
4- سورة البقرة، الآية: 233.
5- سورة البقرة، الآية: 282.

وبالجملة لم يثبت له معنى آخَرُ غير الضّرر.

كما أنّ الظّاهر: أن يكون «لا» لنفي الحقيقة

___________________________________________

{وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا}(1)، وقول الصّادق(علیه السلام) في خبر الغنوي: «هذا الضرار»(2)، على أنّ أحد المعنيين لا يستقيم في رواية سمرة، فهو لم يكن مجازيّاً على الضّرر ولا هو والأنصاري كان يضرّ أحدهما الآخر.

{وبالجملة لم يثبت له} أي: لضرار {معنى آخر غير الضّرر} والمقصود من هذا الكلام بيان أنّه ليس هناك شيئان منفيّان بل المنفي هو شيء واحد فقط، فلا تكليف أزيد ممّا يترتّب على نفي الضّرر.

وعلى تقدير أنّه لو شكّ في أنّه هل للضّرار معنى آخر أم لا كان مقتضى البراءة عن التكليف الزائد عدم لزوم شيء، وإن كان هذا الأصل لا يثبت المعنى اللغوي، كما لا يخفى، لكن لا يبعد ولو بقرينة كون التأكيد خلاف الأصل أنّ الضّرر بمعنى اسم المصدر كالألم، والضّرار بمعنى المصدر كالإيلام، فالمعنى لا ضرر ولا ضرار. وهذا وإن كان مآله التأكيد إلّا أنّه فرق بين التأكيد بلفظ واحد وبين هذا القسم من التأكيد، والّذي يؤيّد ذلك أنّ الرّسول(صلی الله علیه و آله) قال له: «إنّك رجل مضارّ»(3)، وفي المقام تفصيل لا يسعه المقام.

{كما أنّ الظّاهر} من المنسبق العرفي {أن يكون «لا»} في قوله(صلی الله علیه و آله): «لا ضرر» {لنفي الحقيقة} فإنّ (لا) النّافية، بل مطلق النّفي تستعمل على وجهين:

الأوّل: نفي الحقيقة حقيقة، مثل أن يقول: (لا رجل في الدار) في ما ليس فيها رجل أصلاً.

ص: 460


1- سورة البقرة، الآية: 231.
2- الكافي 5: 293.
3- الكافي 5: 294.

- كما هو الأصل في هذا التركيب - حقيقةً أو ادّعاءً كناية عن نفي جميعالآثار، كما هو الظّاهر من مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد»(1)،

و«يا أشباه الرّجال ولا رجال»(2)؛

___________________________________________

الثّاني: نفي الحقيقة ادّعاءً، وهذا القسم إمّا بلحاظ نفي جميع الآثار وإمّا بلحاظ نفي آثار الكمال، كما لو قصد رجلاً قائلاً: (إنّه ليس برجل)، فقد يريد عدم آثار الرّجوليّة له إطلاقاً، وقد يريد عدم آثار الكمال له كعدم كونه عالماً حليماً شجاعاً - مثلاً - .

ففي ما نحن فيه الظّاهر أن يكون قوله: «لا ضرر» لنفي الحقيقة بلحاظ نفي الآثار {كما هو} أي: نفي الحقيقة {الأصل في هذا التركيب} وأشباهه ممّا أسند النّفي - بأيّ لفظ كان - إلى ذات خارجيّة {حقيقة} بأن كان المراد نفي حقيقة الضّرر الإسلامي بأن يراد نفي الضّرر الآتي من الحكم الإسلامي، فإنّه ممّا يمكن نفيه حقيقة بنفي سببه وهو الحكم {أو} نفيه {ادّعاءً} ومجازاً بأن يكون نفي الحقيقة {كناية عن نفي جميع الآثار} فليس المراد عدم الضّرر، بل الضّرر كائن وجوده في الخارج لكنّه لا يترتّب عليه أيّ حكم شرعي {كما هو} أي: نفي الحقيقة كناية عن نفي الآثار - لا أنّ المراد نفي جميع الآثار، لظهور أنّ المثالين ليسا لنفي جميع الآثار - فتأمّل {الظّاهر من مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» و «يا أشباه الرّجال ولا رجال»} حيث إنّ المراد نفي الرّجال ونفي الصّلاة - لا حقيقة - بل ادّعاءً لنفي الآثار الكاملة، يعني ليست صلاة كاملة ولا رجالاً كملون.

إن قلت: أليس من الأفضل أن نقدّر في المقام شيئاً فنقول: إنّ تقدير «لا ضرر» لا حكم ضرريّاً - مثلاً -؟

ص: 461


1- مستدرك الوسائل 3: 356.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 27.

فإنّ قضيّة البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادّعاءً، لا نفي الحكم أو الصّفة، كما لا يخفى.

ونفيُ الحقيقة ادّعاءً بلحاظ الحكم أو الصّفة، غيرُ نفي أحدهما ابتداءً مجازاً في التقدير أو في الكلمة، ممّا لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة.

وقد انقدح بذلك: بُعد إرادة نفي الحكم الضّرري، أو الضّرر غير المتدارك،

___________________________________________

قلت: كلّا {فإنّ قضيّة البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادّعاءً} فإنّه لو قال: (ليس فيكم صفة الرّجال) لم يكن بليغاً {لا نفي الحكم أو الصّفة، كما لا يخفى} على من له أدنى إلمام بالبلاغة.

هذا مضافاً إلى أنّه خلاف الظّاهر، فإنّ الظّاهر نفي الحقيقة ادّعاءً.

{و} إن قلت: أيّ فرق بين نفي الحقيقة وبين المجاز في التقدير أو في الكلمة حتّى قلتم بأن «لا ضرر» من نفي الحقيقة ادّعاءً لا من المجاز؟

قلت: {نفي الحقيقة ادّعاءً} أي: نقول: لا ضرر - من دون عدم وجود الضّرر - {بلحاظ الحكم أو الصّفة} أي: ليس حكم الضّرر موجوداً، أو ليست صفة الضّرر موجودة، والمراد بصفة الضّرر: غير المتدارك، أي: لا ضرر غير المتدارك موجود {غير نفي أحدهما ابتداءً} بأن نقول: لا ضرر غير المتدارك موجود، أو لا حكم ضرريّاً موجود {مجازاً في التقدير} بأن تقدّر الصّفة للضرر أو الحكم المضاف إلى الضّرر الموجود في الكلام {أو في الكلمة} بأن قيل لفظ (الضّرر) وأُريد به حكمه أو صفته، كما يقال لفظ (الأسد) ويراد به الرّجل الشّجاع {ممّا لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة} بالإضافة إلى ما ذكر من أنّه خلاف الظّاهر - لا خلاف البلاغة فقط - .

{وقد انقدح بذلك} الّذي قرّرنا في معنى «لا ضرر» {بُعد إرادة نفي الحكم الضّرري} وهو من تقدير «الحكم» في الكلام {أو الضّرر غير المتدارك} وهو من

ص: 462

أو إرادة النّهي من النّفي جدّاً؛ ضرورة بشاعة استعمال الضّرر وإرادة خصوص سبب من أسبابه، أو خصوص غير المتدارك منه.

ومثله لو أُريد ذاك بنحو التقييد، فإنّه وإن لم يكن ببعيد، إلّا أنّه بلادلالة عليه غير سديد.

وإرادة النّهي من النّفي وإن كان ليس بعزيز،

___________________________________________

تقدير صفة للضرر في الكلام {أو إرادة النّهي من النّفي} بأن قال: «لا ضرر» وأراد: لا يضرّ، كقوله - تعالى - : {لَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ}(1) أي: لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل، فإنّ هذه المعاني الثلاثة بعيدة {جدّاً، ضرورة بشاعة استعمال الضّرر وإرادة خصوص سبب من أسبابه} كما لو قدّرنا لا حكم ضرر {أو} إرادة {خصوص غير المتدارك منه} كما لو قدّرنا لا ضرر غير المتدارك.

{ومثله} أي: مثل بعد تلك المعاني الثلاثة بُعد ما {لو أُريد ذاك} المعنى الحاصل من الوصف أو الإضافة، بأن لا يقدّر مضاف أو وصف وإنّما يراد من الضّرر في «لا ضرر» هذا القسم من الضّرر، أي: غير المتدارك أو حكم الضّرر {بنحو التقييد} فإنّه ربّما يقدّر شيء وربّما لا يقدّر ولكن يقصد من اللفظ نفس ذلك المعنى المقيّد، فقد يقال: (جرى النّهر) فيقدّر جرى ماء النّهر، وربّما يراد ب- (النّهر) ماء النّهر، والفرق بينهما أنّ أحدهما مجاز بالإضمار والآخر مجاز في الكلمة.

هذا ما احتمل في مراد المصنّف من العبارة، وللمشكيني(2)

والسّيّد الحكيم(3)

وغيرهما للعبارة تفسيرات، فراجع.

{فإنّه وإن لم يكن ببعيد} إذ المجاز في الكلمة شيء دائر {إلّا أنّه بلا دلالة عليه غير سديد} بعد عدم كونه ظاهر اللفظ {وإرادة النّهي من النّفي وإن كان ليس بعزيز}

ص: 463


1- سورة البقرة، الآية: 197.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 358.
3- حقائق الأصول 2: 380.

إلّا أنّه لم يعهد من مثل هذا التركيب.

وعدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة لا يكاد يكون قرينة على إرادة واحد منها، بعد إمكان حمله على نفيها

___________________________________________

لوروده بكثرة في الآيات والرّوايات، نحو {لَا رَفَثَ}(1) و{لَا مِسَاسَۖ}(2)، وقوله(صلی الله علیه و آله): «لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام»(3)،

وقوله(صلی الله علیه و آله): «لا جلب ولا جنب ولا اعتراض»(4)، وقوله(صلی الله علیه و آله): «لا حفاء في الإسلام ولا بنيان لكنيسة»(5)، وقوله(صلی الله علیه و آله): «لا حمى في الإسلام ولا مناجشة»(6) وغيرها {إلّا أنّه لم يعهد من مثل هذا التركيب} قال المشكيني: «يعني الكلام الّذي دخلت لا النّافية على الاسم العامل فيه للنصب لفظاً أو محلّاً»(7).

{و} إن قلت: إنّا مجبورون لأحد هذه التقديرات صوناً للكلام عن الكذب، إذ لو أُريد «لا ضرر» حقيقة ممّا معناه أنّه لا يكون في الإسلام ضرر تكويني، لكان ذلك كذباً قطعاً.

قلت: {عدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة} لما قلتم من استلزامه الكذب {لا يكاد يكون قرينة على إرادة واحد منها} أي: واحد من هذه المعاني الّتي ذكرتموها {بعد إمكان حمله} أي: حمل «لا ضرر» {على نفيها} أي: نفي الحقيقة

ص: 464


1- سورة البقرة، الآية: 197.
2- سورة طه، الآية: 97.
3- الكافي 5: 361؛ معاني الأخبار: 274.
4- تاج العروس من جواهر القاموس 10: 91.
5- مستدرك الوسائل 8: 287، وفيه: «ليس في الإسلام إخصاء ولا كنيسة محدثة»؛ وراجع الجامع الصغير 2: 725.
6- الجامع الصغير 2: 746.
7- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 359.

ادّعاءً، بل كان هو الغالب في موارد استعماله.

ثمّ

___________________________________________

{ادّعاءً} بأن يراد نفي الحقيقة مبالغة، كما في (ولا رجال) - كما تقدّم - {بل كان هو الغالب في موارداستعماله} أي: استعمال هذا التركيب، إذ الغالب في أمثاله نفي الحقيقة ادّعاءً.

{ثمّ} لا يخفى أنّ الأحكام على قسمين:

الأوّل: ما كان ثابتاً للموضوع بعنوانه الأوّلي، كما لو قال: (الوضوء واجب)، و(شرب الخمر حرام).

الثّاني: ما كان ثابتاً للموضوع بعنوانه الضّرري سواء ذكر القيد بالضرر في لسان الدليل، كما لو قال: (الصّوم المضرّ حرام)، أم لم يذكر كما لو قال: (الزكاة واجبة) و(الجهاد واجب)، فإنّ كلّاً من الزكاة والجهاد حكم ضرري، إذ الأوّل ضرر في المال والثّاني ضرر في النّفس.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ أدلّة «لا ضرر» إنّما تنفي الأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوليّة كالقسم الأوّل، فإذا صار الوضوء ضرراً ارتفع وجوبه، وكذلك إذا صار عدم شرب الخمر ضرراً ارتفعت حرمتها، أمّا الأحكام الثابتة للموضوعات الضّرريّة كالقسم الثّاني، سواء أخذ الضّرر في لسان الدليل أم لا فأدلّة «لا ضرر» لا تنفيها؛ وذلك لأنّه في الشّقّ الأوّل انصبّ الحكم على الموضوع الضّرري، فالضرر صار علّة للحكم، فكيف يمكن أن يكون رافعاً للحكم، فإنّ في قوله: (الصّوم الضّرري حرام) صبّ الحرمة على الصّوم الضّرري، فكيف يمكن أن يكون الضّرر رافعاً لهذا الحكم - وهو الحرمة -؟ وفي الشّقّ الثّاني ترتّب الحكم على الموضوع الّذي هو ضرريّ، فكيف يمكن أن يرفع الضّرر الحكم؟ فإنّ ذلك ملازم لعدم الحكم إطلاقاً، فقوله: (الزكاة واجبة) معناه أنّ دفع المال الّذي هو

ص: 465

الحكم الّذي أُريد نفيه بنفي الضّرر هو الحكم الثابتُ للأفعال بعناوينها، أو المتوهّم ثبوته لها كذلك في حال الضّرر، لا الثابت له بعنوانه؛ لوضوح أنّه العلّة للنفي ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه بل يثبته ويقتضيه.

___________________________________________

ضرر واجب، فكيف يمكن أن يرفع الضّرر هذا الحكم، وهل معناه إلّا عدم وجوب الزكاة مطلقاً؟ ومثله الجهاد الموجب للشهادة وهكذا.

وبهذا تبيّن أنّ {الحكم الّذي أُريد نفيه} أي: نفي ذلك الحكم {بنفي الضّرر} أي: بلسان نفي الضّرر {هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها} الأوّليّة نحو الوضوء، وشرب الخمر، والمراد من قوله: «بعناوينها» مقابل العناوين الضّرريّة لا مقابل العناوين الثانويّة، إذ «لا ضرر» منصبّ على الأفعال حتّى بعناوينها الثانويّة، فقولنا: (اللحم المشكوك تذكيته محرّم) إذا صارت الحرمة ضرريّة ارتفعت حرمته، وإن كان الحكم بالحرمة منصبّاً على اللحم بعنوانه الثانوي وهو الشّكّ في تذكيته.

وكذا لو صار الصّوم المنذور ضرريّاً كما لا يخفى {أو المتوهّم ثبوته} أي: الحكم {لها} أي: للأفعال {كذلك} أي: بعناوينها، وهذا عطف على قوله: «الثابت» والمراد أنّه لا يجب أن يكون الحكم ثابتاً محقّقاً، بل يكفي أن يكون متوهّم الثبوت في نظر المكلّف {في حال الضّرر} متعلّق بقوله: «المتوهّم ثبوته» {لا} الحكم {الثابت له} أي: للموضوع {بعنوانه} أي: بعنوان الضّرر بأن كان الموضوع بذاته ضرريّاً - كما في القسم الثّاني - {لوضوح أنّه} أي: الضّرر في لا ضرر {العلّة للنفي} أي: علّة لنفي الحكم عن الموضوع - في الموضوعات الأوّليّة - .

{و} إذا فرض أنّ الضّرر كان جزءاً للموضوع ف- {لا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه} بأن يكون جزء الموضوع الّذي هو سبب لثبوت الحكم طارداً للحكم فيمنع عنه {وينفيه، بل} الموضوع {يثبته} أي: يثبت الحكم {ويقتضيه}.

ص: 466

ومن هنا لا يلاحظ النّسبة بين أدلّة نفيه وأدلّة الأحكام، وتقدّم أدلّته على أدلّتها، - مع أنّها عموم من وجه - ؛ حيث إنّه يوفّق بينهما عرفاً بأنّ الثابت للعناوين الأوّليّة اقتضائيّ، يمنع عنه فعلاً ما عرض عليها من عنوان الضّرر بأدلّته، كما هو الحال في التوفيق بين سائر الأدلّة المثبتة أو النّافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانويّة

___________________________________________

{ومن هنا} أي: من أجل وضوح أنّ الضّرر علّة لنفي الحكم بعنوان ثانوي تبيّن أنّه {لا يلاحظ النّسبة بين أدلّه نفيه} أي: نفي الضّرر {و} بين {أدلّة الأحكام} الأوّليّة، كالصلاة والصّيام وشرب الخمر وغيرها {وتقدّم أدلّته} أي: أدلّة «لا ضرر» {على أدلّتها} أي: أدلّة الأحكام {مع أنّها} بينهما {عموم من وجه}.

فمثلاً: بعض أقسام الوضوء ضرريّة، وبعضها ليست بضرريّة، وبعض الضّرر ليس في الوضوء، فإن كانت أدلّة الضّرر في عرض سائرالأدلّة، ولم تكن مقدّمة عليها، كان مقتضى القاعدة أن يتعارض الدليلان في مادّة الاجتماع وهو الوضوء الضّرري، ويقدّم أحدهما على الآخر بدليل خارجي، لكنّه ليس كذلك، بل يقدّم دليل الضّرر مطلقاً، فكلّ شيء ضرريّ مرفوع الحكم {حيث إنّه يوفّق بينهما} أي: بين دليل الضّرر ودليل الأحكام {عرفاً بأنّ الثابت للعناوين الأوليّة اقتضائي} يثبت الحكم للموضوع المجرّد بدون نظر إلى الطّوارئ والأحوال، ف- {يمنع عنه فعلاً ما عرض} «ما» فاعل «يمنع» {عليها} أي: على تلك العناوين الأوّليّة {من عنوان الضّرر} بيان «ما» {بأدلّته} أي بأدلّة الضّرر، والجار متعلّق بقوله: «عرض».

{كما هو الحال في التوفيق بين سائر الأدلّة المثبتة أو النّافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية} كأدلّة النّذر والعهد واليمين والشّرط وإطاعة الوالدين والزوج والمولى المثبتة للأحكام بهذه العناوين الثانوية، كأدلّة العسر والحرج واختلال

ص: 467

والأدلّة المتكفّلة لحكمها بعناوينها الأوليّة.

نعم، ربّما يعكس الأمر في ما أحرز - بوجه معتبر - أنّ الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء، بل بنحو العليّة التامّة.

___________________________________________

النّظام النّافية للأحكام بهذه العناوين الثانويّة {والأدلّة المتكفّلة لحكمها} أي: حكم الأفعال {بعناوينها الأوليّة} كأدلّة الوضوء والتصدّق وسائر العاديات المباحة وسائر الأحكام، فإنّ الوضوء الواجب لو صار ضرريّاً لم يجب، والتصدّق المستحبّ لو وقع متعلّق النّذر وجب، والأكل المباح لو كان ضرريّاً حرم ولو كان سادّاً للرمق واجب وهكذا.

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ لتقدّم هذه الأدلّة على سائر الأدلّة المتكفّلة للأحكام بعناوينها الأوليّة بوجهين آخرين:

الأوّل: أنّ موضوعات أدلّة الأحكام الثانويّة هي نفس موضوعات أدلّة الأحكام الأوّليّة بزيادة، فمثلاً: دليل «لا ضرر» أخصّ من أدلّة الأحكام بمجموعها، فالتقديم على القاعدة المطّردة بين العامّ والخاصّ.

الثّاني: إنّه لو لم تقدّم أدلّة الأحكام الثانويّة لزم أن لا يبقى للثانويّة مورداً، فمثلاً: الوضوء الضّرري واجب والصّدقة الضّرريّة مستحبّة، وشرب الخمر - الّذي لولا شربها لكان الهلاك - حرام، وأكل الفاكهة الضّرريّة مباح، والنّوم بين الطّلوعين الضّرري مكروه، فأيّ مورد يبقى لقوله(صلی الله علیه و آله): «لا ضرر».

لكن لا يخفى أنّ الوجه في التقديم هو الحكومة المتقدّمة، فإنّها عرفاً حاكمة على الأدلّة الأوّليّة، كما لا يخفى.

{نعم، ربّما يعكس الأمر} فيقدّم دليل الحكم بعنوانه الأوّلي على أدلّة الأحكام الثانويّة {في ما أحرز بوجه معتبر أنّ الحكم} الأوّلي {في المورد ليس بنحو الاقتضاء} حتّى يرفع بالعنوان الثانوي {بل بنحو العليّة التامّة} كموضوع إنقاذ

ص: 468

وبالجملة: الحكم الثابت بعنوان أوّلي:

تارة: يكون بنحو الفعليّة مطلقاً، أو بالإضافة إلى عارض، دون عارض، بدلالة لا يجوز الإغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له، فيقدّم دليل ذاك العنوان على دليله.

وأُخرى: يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الإغماض عنها بسببه

___________________________________________

النّبي مثلاً، فإنّه علّة تامّة ولو كان ضرريّاً.

{وبالجملة الحكم الثابت بعنوان أوّلي} على قسمين، ف- {تارة يكون بنحو الفعليّة} وإنّ الحكم دائمي {مطلقاً} عرض عارض أم لا، كإنقاذ النّبي(صلی الله علیه و آله) الّذي هو واجب مطلقاً، سواء كان ضرريّاً أو حرجيّاً أو مخالفاً للنذر والشّرط وأمر الأبوين أم لا {أو} يكون بنحو الفعليّة - لكن لا مطلقاً - بل {بالإضافة إلى عارض دون عارض} كشرب الخمر مثلاً، الّذي هو حرام بالنسبة إلى الضّرر غير المهلك وليس بحرام بالنسبة إلى الضّرر المهلك، فإنّ الحرمة حكم فعليّ بالنسبة إلى عارض - وهو غير المهلك - دون عارض آخر وهو المهلك، فإنّ الفعليّة المطلقة في الأوّل والخاصة ببعض العوارض في الثّاني قد ثبتت {بدلالة لا يجوز الإغماض عنها بسبب دليل حكم العارض}أي: «لا ضرر» في المثال {المخالف} هذا العارض {له} أي: لذلك الحكم الفعلي {فيقدّم دليل ذاك العنوان} الأوّلي الفعلي {على دليله} أي: دليل العارض نحو «لا ضرر» في المثال، فيجب إنقاذ النّبي مطلقاً، ويحرم شرب الخمر إذا لم يكن المرض مهلكاً، وإن كان فيهما ضرر شديد وعسر أكيد.

{وأُخرى يكون} الحكم الثابت بعنوان أوّلي {على نحو لو كانت هناك دلالة} على خلافه بسبب عنوان ثانوي {للزم الإغماض عنها} أي: عن تلك الأحكام الأوليّة، ومرجع الضّمير مفهوم من الكلام {بسببه} أي: بسبب دليل حكم العارض

ص: 469

عرفاً، حيث كان اجتماعهما قرينة على أنّه بمجرّد المقتضي، وإنّ العارض مانع فعلي. هذا ولو لم نقل بحكومة دليله؛ على دليله لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله، كما قيل(1).

ثمّ

___________________________________________

ولو عكس المصنّف فقال: (عنه بسببها) كان أوفق {عرفاً} أي: يفهم العرف ذلك {حيث كان اجتماعهما} أي: اجتماع دليلي العارض والحكم الأوّلي {قرينة على أنّه} أي: الحكم الثابت بالعنوان الأوّلي {بمجرّد المقتضي} كأدلّة استعمال المباحات {وإنّ العارض مانع فعلي} فيقدّم دليل «لا ضرر» - مثلاً - عليها.

ثمّ إنّ الشّيخ ذكر أنّ أدلّة الأحكام الثانويّة حاكمة على أدلّة الأحكام الأوّليّة، بمعنى أنّ الثانويّة ناظرة إلى الأوّليّة، ولهذا تقدّم الثانويّة على الأوّليّة، لكن المصنّف لم يرتض بالحكومة ورأى أنّ الوجه في التقديم كون الأوّليّة اقتضائيّة والثانويّة فعليّة.

ولذا عرّض بالحكومة الّتي ذكرها الشّيخ بقوله: {هذا} الّذي ذكرنا من التقديم وجهه الاقتضائيّة والفعليّة {ولو لم نقل بحكومة دليله} أي: دليل الحكم الثانوي {على دليله} أي: دليل الحكم الأوّلي {لعدم ثبوت نظره} أي: نظر الثانوي {إلى مدلوله} أي: مدلول الأوّلي.

وقد اشترط في دليل الحاكم أن يكون ناظراً إلى دليل المحكوم، كأن يقول: (لا شكّ لكثير الشّكّ)، بعد ما قال: (ابن على الأربع في الشّكّ بين الثلاث والأربع) {كما قيل} والقائل الشّيخ كما ذكرنا.

{ثمّ} بعد ما فرغنا من النّسبة بين دليل لا ضرر وأدلّة الأحكام الأوليّة نذكر النّسبة بين دليلين من الأحكام الثانويّة، كما لو تعارض دليل الضّرر ودليل العسر مثلاً، في ما لو اعتاد شرب التتن - مثلاً - بحيث إنّ تركه عسر عليه واستعماله

ص: 470


1- فرائد الأصول 2: 462.

انقدح بذلك: حال توارد دليلي العارضين، كدليل نفي العسر ودليل نفي الضّرر مثلاً. فيعامل معهما معاملة المتعارضين لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين، وإلّا فيقدّم ما كان مقتضيه أقوى، وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى.

ولا يبعد: أنّ الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب،

___________________________________________

مضرّ له، فنقول: {انقدح بذلك} الّذي ذكرنا في دليلي الضّرر والأحكام الأوّليّة {حال توارد دليلي العارضين} بأن كان كلا الدليلين ثانويّين {كدليل نفي العسر ودليل نفي الضّرر} أو كدليل وجوب النّذر ودليل نفي الضّرر في ما صار الصّوم المنذور ضرريّاً {مثلاً، فيعامل معهما معاملة المتعارضين} لو كان لأحدهما فقط ملاك، بأن علمنا من الخارج أنّه لا ملاك في أحدهما ولم نعلم صاحب الملاك، وحين عومل معهما معاملة المتعارضين نأخذ بالراجح لو كان أحدهما راجحاً، وإلّا فالتخيير أو الرّجوع إلى الأصل، فإنّه قد اختلف في أنّ مورد الاجتماع من العامين من وجه هل يحكم بالتخيير فيه أم بالرجوع إلى الأصول العمليّة؟

لكن معاملتهما معاملة المتعارضين إنّما هو في ما {لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين} بأن كان في كلّ واحد منهما ملاك تامّ حتّى في مورد الاجتماع، كمثل إنقاذ الغريقين {وإلّا} بأن كانا من باب التزاحم {فيقدّم ما كان مقتضيه أقوى} على ما كان مقتضيه أضعف، فإنّه في مثال النّذر والضّرر يقدّم دليل الضّرر على دليل النّذر لو كان الصّوم موجباً للهلاك مثلاً.{وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى} في مقام الدليليّة، إذ الرّجحان اللفظي إنّما ينفع في مقام التعارض لا مقام التزاحم، فلو ورد دليل ضعيف بوجوب إنقاذ النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، ودليل قوي بوجوب إنقاذ المؤمن، قدّم الأوّل في مقام التزاحم {ولا يبعد أنّ الغالب في توارد العارضين} أي: الدليلين الثانويّين {أن يكون من ذاك الباب}

ص: 471

بثبوت المقتضي فيهما مع تواردهما، لا من باب التعارض؛ لعدم ثبوته إلّا في أحدهما، كما لا يخفى.

هذا حال تعارض الضّرر مع عنوان أوّلي أو ثانوي آخر.

وأمّا لو تعارض مع ضرر آخر، فمجمل القول فيه:

أنّ الدوران، إن كان بين ضررَي شخص واحد أو اثنين، فلا مسرح إلّا لاختيار أقلّهما

___________________________________________

أي: باب التزاحم {بثبوت المقتضي فيهما مع تواردهما} على موضوع واحد، فلكلّ منهما ملاك ومقتضي {لا من باب التعارض} بوجود الملاك في أحدهما فقط، و{لعدم ثبوته} أي: المقتضي {إلّا في أحدهما، كما لا يخفى} وهذا تعليل لعدم كونه من باب التعارض.

{هذا} كلّه {حال تعارض الضّرر مع عنوان أوّلي} كالوضوء {أو ثانوي} كالحرج {آخر} أي: غير نفس الضّرر {وأمّا لو تعارض مع ضرر آخر} بأن دار الأمر بين ضررين فهو على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يدور بين ضرري شخص واحد، كما لو أُجبر بين قتل زيد وبين أخذ دينار منه.

الثّاني: أن يدور بين ضرري شخصين، كما لو أُجبر بين قتل زيد أو ضرب عمرو.

الثّالث: أن يدور بين ضرر نفسه وضرر غيره، كما لو أُجبر على قبول الولاية فإن لم يقبل ضرّه، وإن قبل كان مستلزماً لضرر آخرين.

{فمجمل القول فيه أنّ الدوران إن كان بين ضررَي شخص واحد} كالأوّل {أو} ضرري {اثنين} كالمثال الثّاني {فلا مسرح إلّا لاختيار أقلّهما} فإنّ الضّرورات تقدّر بقدرها.

ومن المعلوم أنّ الضّرر الأقلّ سواء كان بالنسبة إلى شخص واحد أو إلى

ص: 472

لو كان، وإلّا فهو مختار.

وأمّا لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره، فالأظهر عدم لزوم تحمّله الضّررَ، ولو كان ضرر الآخر أكثر؛ فإنّ نفيه يكون للمنّة على الأُمّة، ولا منّة على تحمّل الضّرر لدفعه عن الآخر، وإن كان أكثر.

___________________________________________

شخصين ضرورة دون الضّرر الأكثر، فيكون حاله حال ما لو دار أمره بين أن يشرب قدح خمر أو قدحين، فإنّ الثّاني لا يجوز لعدم ضرورة بالنسبة إليه.

لكن هذا {لو كان} بينهما أقلّ وأكثر كالمثالين {وإلّا} بأن تساويا، كما لو أُجبر على قطع إحدى يدي زيد أو قطع يد زيد أو ضرر {فهو مختار} بينهما لعدم ترجيح هناك.

{وأمّا لو كان} الأمر دائراً {بين ضرر نفسه وضرر غيره ف-} له صور وأحكام، كدوران الأمر بين قتل نفسه أو غيره، أو قتل نفسه أو قطع طرف غيره، أو قتل نفسه أو إضرار غيره مالياً، أو بالعكس فيهما، أو رفع سلطة نفسه أو غيره، كما لو دار بين عدم حفر في داره أو حفر وتضرّر جدار جاره، أو أشباه هذه الموارد ممّا له صور كثيرة.

وقد وقع الخلاف في بعضها والاتفاق في بعضها الآخر، لكن المصنّف(رحمة الله) على أنّ {الأظهر عدم لزوم تحمّله الضّرر ولو كان ضرر الآخر أكثر} كما لو أجبره الجابر بين إعطاء دينار من نفسه أو إعطاء دينارين من غيره {فإنّ نفيه} أي: الضّرر بقوله: «لا ضرر» {يكون للمنّة على الأُمّة} ف- «لا ضرر» بالنسبة إلى الغير منّة عليه {ولا منّة على تحمّل} الإنسان {الضّرر لدفعه عن الآخر وإن كان} ضرر الآخر {أكثر}.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من تفسير قوله: «وأمّا لو تعارض مع ضرر آخر» بناءً على احتمال، وهناك احتمال آخر أقرب إلى العبارة، وهو أن يراد: أقسام الضّرر الثلاثة

ص: 473

نعم، لو كان الضّرر متوجّهاً إليه، ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر.

___________________________________________

غير المرتبطة بالمكلّف على كلّ تقدير، كما لو أراد اللصّ أن يقطع يد زيد أو يسرق ماله، أو أراد اللصّ أن يسرق مال زيد أو مال عمرو، أو أراد زيد أن يحفر بئراً في داره ممّا يكون عدم حفره ضرراً عليه وكان حفر بئره ضرراً على جاره، فإنّه لا يجب على زيد تحمّل الضّرر ولو كان ضرر الآخر أكثر في الصّورتين الأخيرتين، ويجب عليه تحمّل أقلّهما لو كان دائراً بين ضرري شخصه، لكنّه إذا كان تحمّلهما حراماً، كما لو دار بين قطع يده أو قطع يديه أمّا لو كان تحمّل أحدهما جائزاً قدّم على المحرّم، كما لو دار بين قطع يده أو أخذ دينار منه، ولو كان كلاهما جائزاً كان له الخيار، كما لا يخفى.

{نعم} إنّ ما ذكرنا من عدم لزوم تحمّل الضّرر على النّفس لدفع الضّرر عن الغير إنّما يصحّ في ما لم يكن الضّرر متوجّهاً إليه، أمّا {لو كان الضّرر متوجّهاً إليه} كما لو أراد اللصّ سرقة ماله ف- {ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر} بأن يدلّه على مال صديقه حتّى يسرقه فيجوز عن ماله.

لكن هذا إنّما يتمّ لو كان الدفع عن النّفس بلحاظ إرادة ضرر الغير، أمّا لو لم يكن كذلك بل كان فراراً يوجب بالآخرة الضّرر على الغير، كما لو رماه الظّالم ففرّ حتّى أصاب السّهم غيره، أو أراد اللصّ سرقة ماله ففرّ حتّى أخذ مال غيره، فالظاهر عدم إشكال في ذلك؛ لأنّه من دفع الضّرر عن النّفس ولا يرتبط بإضرار الغير.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من عدم لزوم تحمّل الضّرر وإن كان ضرر الآخر أكثر إنّما يصحّ إذا قلنا بأنّه لوحظت المنّة بالنسبة إلى كلّ فرد فرد، وأمّا إن قلنا بأنّ المنّة لوحظت بالنسبة إلى مجموع الأُمّة - بأن جعلت الأُمّة كفرد واحد - يكون حال تعارض الضّررين بالنسبة إلى شخصين كتعارضهما بالنسبة إلى شخص واحد

ص: 474

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ نفي الضّرر وإن كان للمنّة، إلّا أنّه بلحاظ نوع الأُمّة، واختيار الأقلّ بلحاظ النّوع منّة، فتأمّل.

___________________________________________

في وجوب التحمّل للضرر الأخفّ، وإلى هذا أشار بقوله: {اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ نفي الضّرر وإن كان للمنّة} على الأُمّة {إلّا أنّه} أي: الرّفع الامتناني {بلحاظ نوع الأُمّة واختيار الأقلّ بلحاظ النّوع منّة} فيجب تحمّل الضّرر الأقلّ على النّفس دفعاً للضرر الأكثر المتوجّه إلى الغير {فتأمّل}.

فإنّ الظّاهر اختلاف موارده، فلو توجّه ضرر القتل إلى الغير أو ذهاب مال يسير من النّفس قدّم الثّاني، ولو توجّه ضرر دينارين على الغير أو دينار على النّفس لم يلزم الدفع عن الغير، والكلام في هذا الباب طويل، فليراجع الفقه واللّه المستعان.

ص: 475

ص: 476

فهرس المحتويات

فصل: حجيّة خبر الواحد...... 5

المسألة أصولية........ 5

أدلة القول بعدم حجيّة الخبر الواحد..... 9

أدلة حجيّة خبر الواحد.... 18

فصل: الآيات التي يستدل بها على حجيّة خبر الواحد ومناقشتها........ 18

الاستدلال بآية النبأ... 18

الإشكال الأوّل....... 21

الإشكال الثّاني....... 23

الإشكال الثّالث....... 25

الإشكال الرّابع....... 31

الاستدلال بآية النفر........ 34

الاستدلال بآية الكتمان..... 42

الاستدلال بآية السؤال..... 45

الاستدلال بآية الاُذُن....... 49

فصل: الأخبار التي يستدل على حجيّة خبر الواحد...... 53

فصل: الإجماع على حجيّة خبر الواحد....... 55

الوجه الأوّل: دعوى الإجماع القولي........ 55

الوجه الثّاني: دعوى الإجماع العملي....... 57

الوجه الثّالث: سيرة العقلاء..... 59

فصل: في الوجوه العقليّة التي أُقيمت على حجيّة خبر الواحد...... 65

الوجه الأوّل: العلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار...... 65

ص: 477

الوجه الثّاني: ثبوت كثير من الأحكام بخبر الواحد.... 69

الوجه الثّالث: وجوب العمل بالظن عند الانسداد....... 74

فصل: أدلة حجيّة مطلق الظن..... 78

الدليل الأوّل: قاعدة دفع الضرر المظنون........ 78

الدليل الثّاني: الملازمة بين عدم الأخذ بالظن وترجيح المرجوح على الراجح........ 87

الدليل

الثّالث: لزوم العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكاتوالموهومات... 89

الدليل الرّابع: دليل الانسداد..... 91

مقدمات دليل الانسداد...... 91

التحقيق في مقدمات دليل الانسداد...... 93

1- انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف بسبب الأخبار الواردة عن أهل البيت^ 94

2- انسداد باب العلم، لا باب العلمي........ 95

3- عدم جواز الإهمال.... 96

4- عدم وجوب الاحتياط في ما يوجب عُسره اختلال النظام، لا في ما لا يوجبه........ 99

لا مانع من إجراء الأصول المثبتة في أطراف العلم....... 103

لا مانع من إجراء الأصول النافية أيضاً مع الانحلال...... 107

لزوم الاحتياط في موارد الأصول النافية مع عدم الانحلال..... 110

عدم جواز رجوع الانسدادي إلى المجتهد الانفتاحي....... 111

5- ترجيح المرجوح على الراجح قبيح قطعاً إلّا أن النوبة لا تصل إليه 112

فصل: الظّنّ بالطريق والظن بالواقع........ 115

الوجه في اختصاص الحجيّة بالظن بالواقع.... 118

الوجه الأوّل........ 120

الوجه الثّاني....... 138

فصل: في الكشف والحكومة.... 144

لا مجال لاستكشاف حجيّة الظّنّ شرعاً... 144

عدم الإهمال في النتيجة بناءً على الحكومة.... 150

التفصيل بين محتملات الكشف...... 151

ص: 478

الاحتمال الأوّل..... 152

الاحتمال الثّاني.... 155

الاحتمال الثّالث.... 157

وهم ودفع.... 158

طريق تعميم النتيجة على الكشف... 159

فصل: خروج القياس عن حجيّة الظن...... 166

فصل: الظّنّ المانع والممنوع... 180

فصل: الظّنّ بالحكم وبمقدّماته........ 183

حجيّة قول اللغوي مع الانسداد...... 184

حجيّة قول الرجالي في حال الانسداد..... 186

تنبيه...... 187فصل: الظّنّ بالفراغ 189

خاتمة..... 192

عدم اعتبار الظّنّ في الاعتقادات.... 192

وجوب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات..... 195

لا دليل على عموم وجوب المعرفة....... 199

عدم كفاية الظّنّ في ما يجب معرفته...... 202

لا دلالة للعقل ولا للنقل على وجوب تحصيل الظّنّ مع اليأس عن العلم... 207

وجود القاصر في تحصيل العلم بالاعتقاديّات........ 209

الجبر والوهن والترجيح بالظن غير المعتبر... 211

جبر ضعف السند بالظن....... 215

عدم جبر ضعف الدلالة بالظن...... 216

عدم وهن السند والدلالة بالظن...... 217

عدم الترجيح بالظن...... 218

عدم حصول الجبر والوهن والترجيح بمثل القياس........ 221

ص: 479

المقصد السّابع: في الأصول العمليّة

المقصد السّابع: في الأصول العمليّة........ 223

تعريف الأصول العمليّة....... 225

المهم من الأصول العمليّة..... 226

فصل: أصل البراءة........ 229

الاستدلال على البراءة بالأدلة الأربعة...... 231

الاستدلال بالكتاب..... 231

الاستدلال بالروايات........ 234

حديث الرفع........ 234

المراد من الموصول في «ما لا يعلمون»...... 240

المرفوع في غير «ما لا يعلمون»....... 245

حديث الحجب...... 247

حديث الحلّ........ 249

تعميم مفاد الحديث للشبهة الوجوبيّة....... 249

حديث السعة....... 250

حديث الإطلاق..... 252

دعوى الإجماع على البراءة..... 258

حكم العقل بالبراءة... 258

عدم جريان قاعدة دفع الضرر المحتمل في الشبهات البدويّة.... 259

أدلة القول بالاحتياط في الشبهات البدويّة والجواب عنها... 264

الاستدلال بالكتاب........ 264

الاستدلال بالأخبار....... 266

الاستدلال بالعقل... 274

الوجه الأوّل: العلم الإجمالي........ 274

الوجه الثّاني: أصالة الحظر... 284

تنبيهات البراءة...... 289

ص: 480

التنبيه الأوّل: اشتراط جريان البراءة بعدم وجود أصل موضوعي في موردها...... 289

صور الشك في التذكية........ 291

الصورة الأولى.... 291

الصورة الثّانية..... 295

الصورة الثّالثة..... 295

الصورة الرّابعة... 296

الصورة الخامسة........ 297

التنبيه الثّاني: حسن الاحتياط شرعاً وعقلاً...... 297

الإشكال في جريان الاحتياط في العبادات...... 298

الجواب الأوّل...... 299

الجواب الثّاني...... 300

الجواب الثّالث..... 303

الجواب الرّابع..... 306

الجواب الخامس... 309

الجواب السّادس.... 310

مفاد أخبار «من بلغه»........ 312

التنبيه الثّالث: لزوم التفصيل في جريان البراءة في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة....... 316

عدم لزوم الاحتياط في جميع الشبهات الموضوعيّة........ 319

التنبيه الرّابع: الاحتياط حسنٌ مطلقاً إلّا إذا أخلّ بالنظام..... 321

دوران الأمر بين الوجوب والحرمة...... 324

فصل: في التخيير.... 324

توهم وجود المانع عن جريان أصالة الحلّ..... 327

الرد على القول بالتخيير الشرعي في المقام... 328

عدم جريان البراءة العقليّة في المقام..... 330

شمول النزاع للتعبّديّات........ 331

تقديم محتمل الأهمّيّة..... 334

ص: 481

بطلان القول بترجيح جانب الحرمة...... 336

فصل: في الاشتغال... 337

المقام الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين.... 338

منجزيّة العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي من جميع الجهات....... 338

عدم التنجيز في الإجمالي غير الفعلي.... 340

جريان الحكم الظاهري في أطراف الإجمالي غير الفعلي....... 341

بطلان التفصيل بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة...... 341

مسلك الاقتضاء.... 344

موانع فعلية الحكم في العلم الإجمالي..... 345

منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات... 347

تنبيهات... 347

التنبيه الأوّل: الاضطرار إلى المعين أو غير المعين مانع عن التكليف. 347

لا فرق بين الاضطرار السابق على حدوث العلم واللاحق له... 349

التنبيه الثّاني: شرطيّة الابتلاء بتمام الأطراف... 353

الملاك في الابتلاء....... 355

حكم الشك في الابتلاء... 355

التنبية الثّالث: الشبهة غير المحصورة..... 357

حكم الشك في طروء الموجب لرفع فعليّة التكليف... 359

التنبيه الرّابع: حكم ملاقي بعض الأطراف........ 360

الصورة الأولى.... 362

الصوة الثّانية....... 364

الصورة الثّالثة..... 367

المقام الثّاني: في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيّين..... 368

لزوم الاحتياط عقلاً والدليل عليه... 369

توهم انحلال العلم الإجمالي... 370

انحلال العلم الإجمالي في الأقل والأكثر الاستقلاليّين...... 372

ص: 482

دليل آخر على لزوم الاحتياط عقلاً....... 373

جريان البراءة الشرعيّة عن الأكثر....... 386

تنبيهات... 391

التنبيه الأوّل: عدم جريان البراءة العقليّة في الشك في الشرطيّة والخصوصيّة...... 392

جريان البراءة الشرعيّة في الشك في الشرطيّة دون الخصوصيّة.... 394

التنبيه الثّاني: حكم ناسي الجزء والشرط........ 395

التنبيه الثّالث: حكم زيادة الجزء عمداً أو سهواً في التوصّليّات........ 400

حكم زيادة الجزء في التعبّديّات..... 402

استصحاب صحة العبادة في صورة الزيادة.... 404

التنبيه الرّابع: الشك في إطلاق الجزئية والشرطية.... 405

جريان البراءة عن الباقي بعد تعذر الجزء أو الشرط...... 406

التمسك باستصحاب وجوب الباقي........ 408

التمسك بقاعدة الميسور لإثبات وجوب الباقي........ 410

جريان قاعدة الميسور مع تعذر الجزء والشرط...... 419

المناط في تشخيص الميسور هو العرف إلّا مع تصرّف الشرع...... 420

الدوران بين الجزئية والمانعيّة ونحوهما....... 423

خاتمة: في شرائط الأصول...... 423

شرط حُسن الاحتياط..... 424

اشتراط الفحص في البراءة العقليّة والنقليّة..... 427

لزوم الفحص في التخيير العقلي.... 433

حكم العمل بالبراءة قبل الفحص.... 434استحقاق العقوبة... 434

وجوب الإعادة إلّا في الجهر والإخفات والقصر والإتمام........ 441

تصحيح الأمر بالتمام على نحو الترتّب........ 449

شرطان آخران ذكرهما الفاضل التوني لأصل البراءة..... 450

الفرق بين الدليل الاجتهادي والأصل العملي... 453

ص: 483

قاعدة نفي الضرر.... 454

أخبار نفي الضرر....... 455

لا إشكال في صدور بعض أخبار نفي الضرر....... 458

معنى «الضرر»........ 458

معنى «الضرار»....... 459

المقصود من «لا» هو نفي الحقيقة ادّعاءً...... 460

استبعاد إرادة نفي الحكم أو الصفة أو إرادة النهي من النفي..... 462

المرفوع بالضرر هو الحكم الثابت للشيء بعنوانه الأولي....... 465

نسبة القاعدة مع أدلة الأحكام الأوّليّة...... 467

نسبة القاعدة مع أدلة الأحكام الثّانويّة..... 470

تعارض الضررين...... 472

فهرس المحتويات.... 477

ص: 484

المجلد 5

هویة الکتاب

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : کفایه الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصول الی کفایه الاصول/ السیدمحمد الحسینی الشیرازی ؛ [برای] الشجرةالطیبه.

مشخصات نشر : قم : انتشارات دارالعلم، 1441ق.= 1399.

مشخصات ظاهری : 5ج.

شابک : دوره:978-964-204524-2 ؛ ج.2:978-964-204522-8 ؛ ج.2:978-964-204523-5 ؛ ج.3:978-964-204525-9 ؛ ج.4:978-964-204526-6 ؛ ج.5:978-964-204527-3

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : این کتاب شرحی بر کفایه الاصول، آخوند خراسانی است.

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

موضوع : اصول فقه شیعه -- قرن 14

Islamic law, shiites -- Interpretation and construction -- 20th century

شناسه افزوده : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

شناسه افزوده : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

شناسه افزوده : موسسه شجره طیبه(قم)

رده بندی کنگره : BP159/8

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 6131319

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا

ص: 1

اشارة

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمة الله)

الناشر:دار العلم

المطبعة:إحسان

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

كمية:500

الطبعة:السابعة والأربعون، الأولى

للناشر - 1441ه- .ق

-------------------

شابك (الدورة): 2-204524-964-978

شابك (المجلد الرابع): 6-204526-964-978

-------------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم قم

المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم إلى قيام يوم الدّين.

وبعد: فهذا الجزء الخامس من الوصول في شرح كفاية الأصول للمحقّق آية اللّه الخراساني(قدس سره)، كتبته للإيضاح، واللّه أسأل التّوفيق والتّمام والثّواب، إنّه وليّ ذلك، وهو المستعان.

كربلاء المقدّسة

محمّد بن المهدي

ص: 3

ص: 4

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، الاستصحاب

اشارة

فصل: في الاستصحاب، وفي حجيّته - إثباتاً ونفياً - أقوال للأصحاب.

ولا يخفى: أنّ عباراتهم في تعريفه، وإن كانت شتّى، إلّا أنّها تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد، وهو «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شُكَّ في بقائه»:

إمّا من جهة بناء العقلاء على ذلك

___________________________________________

[فصل في الاستصحاب]

اشارة

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، الاستصحاب

{فصل: في الاستصحاب} وهو مصدر باب الاستفعال، يقال: (استصحب الشّيء) أي: لازمه وجعله في صحبته، فكأنّ المستصحب يجعل الشّيء المشكوك فيه في صحبته، فإذا شكّ في بقاء طهارته، وقد كان سابقاً متطهّراً لازم الطّهارة وبنى على أنّها معه.

{وفي حجيّته - إثباتاً ونفياً - أقوال للأصحاب} تطلع على أهمّها في المباحث الآتية.

{ولا يخفى أنّ عباراتهم في تعريفه} أي: في تعريف الاستصحاب {وإن كانت شتّى} كقولهم: «إنّه إثبات الحكم في الزمان الثّاني تعويلاً على ثبوته في الزمان الأوّل» أو «إنّه إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه» أو «إنّه إبقاء ما كان» أو أمثال ذلك {إلّا أنّها تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد، و} مراد موحّد و{هو «الحكم ببقاء حكم} كالطهارة {أو موضوع ذي الحكم} كزيد في ما لو كان ذا حكم كوجوب النّفقة على عياله {شكّ في بقائه»} وإنّما قلنا بأنّ مراد الجميع واحد، لما يظهر من كلماتهم من أنّهم لا يعنون أُموراً متعدّدة.ثمّ إنّ الحكم بالبقاء لأحد أُمور أربعة: {إمّا من جهة بناء العقلاء على ذلك}

ص: 5

في أحكامهم العرفيّة مطلقاً، أو في الجملة - تعبّداً، أو للظنّ به النّاشئ عن ملاحظة ثبوته سابقاً - .

وإمّا من جهة دلالة النّصّ، أو دعوى الإجماع عليه كذلك، حسب ما يأتي الإشارة إلى ذلك مفصّلاً.

ولا يخفى: أنّ هذا المعنى هو القابل لأن يقع فيه النّزاع والخلاف في نفيه وإثباته - مطلقاً أو في الجملة - وفي وجه ثبوته على أقوال.

ضرورة أنّه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء، أو هو الظنّ به النّاشئ من العلم بثبوته،

___________________________________________

الإبقاء {في أحكامهم العرفيّة مطلقاً} في البيع والشّراء والحركة والسّكون وغيرها {أو في الجملة} في غير الأشياء الخطيرة - وسيأتي التفصيل - {تعبّداً} من العقلاء وإن لم يورث الظنّ {أو} من جهة بناء العقلاء {للظنّ به} أي: بالبقاء {النّاشئ} هذا الظنّ {عن ملاحظة ثبوته سابقاً} فلا تعبّد في البين {وإمّا من جهة دلالة النّصّ} مثل قوله(علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشّك»(1)، {أو دعوى الإجماع عليه كذلك} مطلقاً أو في الجملة {حسب ما يأتي الإشارة إلى ذلك مفصّلاً}.

{ولا يخفى أنّ هذا المعنى} وهو الحكم ببقاء حكم أوموضوع الخ {هو القابل لأن يقع فيه النّزاع والخلاف في نفيه وإثباته مطلقاً} بأن يدّعي بعض نفيه مطلقاً أو إثباته مطلقاً {أو في الجملة} كما يأتي {و} أن يقع النّزاع {في وجه ثبوته} وإنّه الخبر أو بناء العقلاء أو الإجماع {على أقوال} بخلاف ما لو عرفنا الاستصحاب بأنّه بناء العقلاء - مثلاً - . {ضرورة أنّه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء، أو} كان {هو الظنّ به} أي: بالبقاء {النّاشئ} هذا الظنّ {من العلم بثبوته}

ص: 6


1- تهذيب الأحكام 1: 8، عن الصّادق(علیه السلام) أنّه قال: «ولا ينقض اليقين أبداً بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر» وفي وسائل الشيعة 1: 245 «لا تنقض اليقين أبداً بالشك».

لما تقابل فيه الأقوال، ولما كان النّفي والإثبات واردين على مورد واحد، بل موردين.

وتعريفه بما ينطبق على بعضها، وإن كان ربّما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء، بل ذاك الوجه، إلّا أنّه حيث لم يكن بحدّ ولا برسم، بل من قبيل شرح الاسم - كما هو الحال في التعريفات غالباً - لم يكن له دلالة على أنّه نفس الوجه، بل الإشارة إليه من هذا الوجه.

___________________________________________

سابقاً {لما تقابل فيه الأقوال} فقول النّافي لبناء العقلاء لا يقابل قول المثبت له، إذ لعلّهما يثبتان الاستصحاب؛ لأنّ النّافي للبناء يثبت الاستصحاب للنصّ - مثلاً - {ولما كان النّفي والإثبات واردين على مورد واحد} فالنافي للاستصحاب بمعنى بناء العقلاء لا ينصبّ كلامه على المورد الّذي ينصبّ عليه المثبت للاستصحاب الثابت بالنصّ {بل} كان كلامهما وارداً على {موردين} كما لا يخفى.

{و} إن قلت: كيف تقولون إنّ جميع التعاريف تقصد شيئاً واحداً، والحال أنّبعضها لا ينطبق على ما ذكرتم من التعريف؟

قلت: {تعريفه} أي: الاستصحاب {بما ينطبق على بعضها} أي: بعض المباني الّتي ذكرنا أنّها ليست صحيحة {وإن كان ربّما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء} فلا ينطبق على تعريفنا {بل} يكون الاستصحاب {ذاك الوجه} المذكور في التعريف {إلّا أنّه} أي: ذلك التعريف الموهم للخلاف {حيث لم يكن بحدّ} يذكر الفصل للاستصحاب {ولا برسم} يذكر الخاصّة له {بل من قبيل شرح الاسم} والإتيان بلفظ لإيضاح معنى في النّفس {كما هو الحال في التعريفات غالباً} حيث لا يقصدون إلّا التوضيح وشرح اللفظ {لم يكن له} أي: لذلك التعريف الموهم للخلاف {دلالة على أنّه} أي: ذلك التعريف {نفس الوجه} الّذي يقصد المعرّف {بل} المقصود {الإشارة إليه} أي: إلى الاستصحاب الّذي عرفناه {من هذا الوجه} الّذي ذكره المعرّف.

ص: 7

ولذا لا وقع للإشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطّرد أو العكس، فإنّه لم يكن به - إذا لم يكن بالحدّ أو الرّسم - بأس.

فانقدح: أنّ ذكر تعريفات القوم له - وما ذكر فيها من الإشكال - بلا حاصل، وتطويل بلا طائل.

ثمّ

___________________________________________

{ولذا} أي: حيث كان التعريف لشرح الاسم {لا وقع للإشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطّرد} أي: المنعللأغيار {أو} بعدم {العكس} أي: الجمع للأفراد {فإنّه لم يكن به} أي: بالتعريف الموهم للخلاف بأس {إذا لم يكن بالحدّ أو الرّسم} وقوله: {بأس} فاعل «لم يكن» أخّره استطرافاً.

{فانقدح أنّ ذكر تعريفات القوم له} أي: للاستصحاب {وما ذكر فيها من الإشكال بلا حاصل، وتطويل بلا طائل} لكنّه أشكل في كلام المصنّف(رحمة الله) هذا غير واحد، وعلى كلّ فالأمر سهل.

{ثمّ} إنّ الحكم الفرعي هو ما يتعلّق بالعمل بلا واسطة، والمسألة الأصوليّة هي الّتي تقع نتيجتها في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة، فالوجوب والحرمة وما أشبهها أحكام فرعيّه؛ لأنّها تتعلّق بالعمل، وليست كالمسائل الأصوليّة الّتي تتعلّق بالأدلّة لا بالعمل، وتعلّقها بالعمل بلا واسطة، وليست كالمسائل الاعتقاديّة الّتي تتعلّق بالعمل لكن بواسطة، ومسألة المقدّمة والضّدّ والمطلق والمقيّد وما أشبهها مسائل أُصوليّة لأنّ نتائجها تقع في طريق الاستنباط.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الاستصحاب له قسمان:

الأوّل: الاستصحاب الكلّي، كالحجيّة وما أشبهها.

الثّاني: الاستصحاب الجزئي، كطهارة اليد المسبوقة بالطهارة ونجاسة الماء المسبوق بالنجاسة وما أشبههما.

ص: 8

لا يخفى: أنّ البحث في حجيّته مسألة أُصوليّة؛ حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة، وليس مفادها حكم العمل بلا واسطة، وإن كان ينتهى إليه، كيف؟ وربّما لا يكون مجرى الاستصحاب إلّا حكماً أُصوليّاً، كالحجيّة مثلاً.

هذا لو كان الاستصحاب عبارةً عمّا ذكرنا.

وأمّا لو كان عبارة عن بناء العقلاء علىبقاء ما علم ثبوته، أو الظنّ به النّاشئ من ملاحظة ثبوته،

___________________________________________

لكن حيث إنّ الاستصحاب في الجملة يقع نتيجته في طريق استنباط الحكم عدّوه من المسائل الأصوليّة، فإنّه {لا يخفى أنّ البحث في حجيّته} أي: حجيّة الاستصحاب وأنّه هل هو حجّة أم لا {مسألة أُصوليّة، حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة} فإنّه إذا تمّ كونه حجّة أنتج ذلك كثيراً من الأحكام المرتبطة بالعمل بلا واسطة، كما عرفت في تعريف المسألة الفرعيّة {وليس مفادها} أي: مفاد حجيّة الاستصحاب {حكم العمل بلا واسطة} فإنّ كونه حجّة يقع في طريق الحكم لا أنّه بنفسه حكم للعمل {وإن كان ينتهي} مفاد الحجيّة {إليه} أي: إلى حكم العمل بلا واسطة.

و{كيف} يكون البحث عن حجيّة الاستصحاب مسألة فرعيّة {و} الحال إنّه {ربّما لا يكون مجرى الاستصحاب إلّا حكماً أُصوليّاً} بحتاً {كالحجيّة مثلاً} كما لو كان شيء حجّة سابقاً ثمّ شككنا في سقوطه عن الحجيّة، فإنّه تستصحب حجيّته السّابقة مع وضوح أنّ الحجيّة ليست حكماً فرعيّاً.

و{هذا} الّذي ذكرنا من كون الاستصحاب من المسائل الأصوليّة {لو كان الاستصحاب عبارة عمّا ذكرنا} أي: نفس الحكم ببقاء ما ثبت سابقاً {وأمّا لو كان} الاستصحاب {عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته أو} كان عبارة عن {الظنّ به} أي: بالبقاء {النّاشئ من ملاحظة ثبوته} أي: ثبوت الشّيء المعلوم وجوده

ص: 9

فلا إشكال في كونه مسألة أُصوليّة.

وكيف كان، فقد ظهر ممّا ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين في مورده: القطع بثبوت شيء، والشّكّ في بقائه.

ولا يكاد يكون الشّكّ في البقاء إلّا مع اتحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة،

___________________________________________

في الزمان السّابق {فلا إشكال في كونه مسألة أُصوليّة} لأنّ بناء العقلاء والظنّ لا يرتبطان بالعمل بلا واسطة، بل يكون حينئذٍ من قبيل مباحث حجيّة خبر الواحد وأشباهه.

{وكيف كان} الأمر في تعريف الاستصحاب {فقد ظهر ممّا ذكرنا في تعريفه} من أنّه الحكم ببقاء ما شكّ في بقائه {اعتبار أمرين في مورده} أي: في المورد الّذي يجري فيه الاستصحاب، كالطهارة المشكوكة الّتي نريد استصحابها:

الأوّل: {القطع بثبوت شيء} لأنّ قولنا: «ما شكّ في بقائه» يدلّ على أنّه سابقاً كان مقطوعاً به.

{و} الثّاني: {الشّكّ في بقائه} كما صرّح بذلك في التعريف.

إذا تبيّن هذا فنقول: إنّه لا بدّ أن يكون الشّكّ منصباً على ما كان اليقين السّابق منصباً عليه حتّى يصحّ التعريف المتقدّم - إنّه الحكم ببقاء ما شكّ - إذ لو كان المشكوك غير المتيقّن لم يصحّ التعريف. فمثلاً: إذا شككنا في وجود زيد في الدار بعد ما علمنا بذلك كان مصبّ الشّكّ وجود زيد وهو مصبّ اليقين السّابق.

أمّا إذا شككنا في بقاء الكريّة بالنسبة إلى ما أخذوا نصفه لم يكن مصبّ الشّكّ بعينه مصبّ اليقين، إذ اليقين قد كان تعلّق بمجموع الماء والشّكّ تعلّق بنصف الماء، وهما شيئان لا شيء واحد.

وإلى هذا أشار بقوله: {ولا يكاد يكون الشّكّ فيالبقاء إلّا مع اتحاد القضيّة المشكوكة و} القضيّة {المتيقّنة} سواء كانا مفاد كان التامّة أو النّاقصة، أو مفاد

ص: 10

بحسب الموضوع والمحمول. وهذا ممّا لا غبار عليه في الموضوعات الخارجيّة في الجملة.

وأمّا الأحكام الشّرعيّة،

___________________________________________

ليس التامّة أو النّاقصة، نحو (كان زيد) و (كان زيد عادلاً)، و(لم يكن زيد) و(لم يكن زيد عادلاً)، فإنّها {بحسب الموضوع والمحمول} واحدٌ، وإنّما حدث الشّكّ في الآن اللّاحق وأنّه هل كما كان في السّابق أم لا؟

{وهذا} الّذي ذكرنا من لزوم اتحاد القضيّتين {ممّا لا غبار عليه في الموضوعات الخارجيّة} كالأمثلة الأربعة {في الجملة} وإنّما قيّده بهذا؛ لأنّه قد يختلف الموضوع الخارجي أيضاً، كمثال الكريّة المتقدّمة، فإنّه موضوع خارجيّ وقد تبدّل، وهكذا غيره ممّا لا يعلم ببقاء الموضوع فيه.

{وأمّا الأحكام الشّرعيّة} كالوجوب والحرمة وكالطهارة والنّجاسة وغيرها من الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة، فربّما يشكل في صحّة استصحابها من جهة أنّ القضيّة المشكوكة غير القضيّة المتيقّنة؛ وذلك لأنّ موضوعات الأحكام نفس المفاهيم الكليّة، ومن المعلوم أنّ الشّكّ لا يحدث إلّا بسبب اختلاف القيود في السّابق واللّاحق وباختلاف القيود يختلف المفهوم الكلّي، وبذلك يكون الموضوع السّابق الّذي تيقّنّا انصباب الحكم عليه غير الموضوع اللّاحق الّذي شككنا في بقاء الحكم بالنسبة إليه، ومع الاختلاف لا يجوز الاستصحاب.

مثلاً: إذا علمنا بوجوب الجهاد في زمن الإمام(علیه السلام) ثمّ شككنا فيبقاء وجوبه عند غيبته لم يجز لنا الاستصحاب؛ لأنّ موضوع الوجوب كان الجهاد الكلّي المقيّد بزمن الإمام، وهذا الموضوع حال الشّكّ منتفٍ، إذ ليس الموضوع الموجود فعلاً - وهو الجهاد الكلّي حال الغيبة - عين ذلك الموضوع الموجود سابقاً.

ص: 11

- سواء كان مدركها العقل أم النّقل - فيشكل حصوله فيها؛

___________________________________________

وهكذا إذا أردنا استصحاب وجوب التمام حال الشّكّ في التجاوز عن محلّ الترخّص - في السّفر - فإنّه غير تامّ، إذ الموضوع للتمام كان الحضر، وبعد ذهاب مسافة مجهولة نشكّ في بقاء الحضر.

ومثل ذلك الأحكام الوضعيّة، كما لو أردنا استصحاب نجاسة الماء بعد زوال تغيّره - في ما كان سبب النّجاسة التغيّر - فإنّ الموضوع للنجاسة سابقاً كان هو الماء المتغيّر والآن الموضوع الموجود غير ذلك الموضوع؛ لأنّه ماء غير متغيّر.

والجواب: أنّ الموضوع يلاحظ على ثلاثة أنحاء:

[1] الموضوع الدقّي العقلي.

[2] والموضوع الدليلي اللفظي.

[3] والموضوع الخارجي العرفي.

والمناط في بقاء الموضوع في باب الاستصحاب هو الموضوع العرفي، وهو باقٍ وإن كان الموضوع الدقّي العقلي واللفظي الدليلي منتف.

ففي مثال المتغيّر مثلاً الموضوع العقلي منتفٍ، إذ الماء بقيد التغيّر غير الماء بقيد عدم التغيّر، وكذلك الموضوع الدليلى؛ لأنّ الدليل قال: (الماء المتغيّر نجس) وأمّا الموضوع العرفي فهو باقٍ، إذ العرف يرى أنّ النّجاسة عارضة للماء والماء باق حال الشّكّ، ويرى أنّ التغيّر من الحالات لا المقوّمات.وعلى هذا فكلّما كان موضوع الحكم العرفي باقياً كان كافياً في جريان الاستصحاب، لاتحاد قضيّة المشكوكة والمتيقّنة.

وإلى هذا الإشكال والجواب أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: وأمّا الأحكام الشّرعيّة {سواء كان مدركها العقل} كوجوب المقدّمة - مثلاً - {أم النّقل} كالأحكام المنصوصة في الشّريعة {فيشكل حصوله} أي: اتحاد القضيّتين {فيها} أي: في

ص: 12

لأنّه لا يكاد يشكّ في بقاء الحكم إلّا من جهة الشّكّ في بقاء موضوعه، بسبب تغيّر بعض ما هو عليه، ممّا احتمل دخله فيه حدوثاً أو بقاءً، وإلّا لا يختلف الحكم عن موضوعه إلّا بنحو البداء بالمعنى المستحيل في حقّه - تعالى - ،

___________________________________________

تلك الأحكام {لأنّه لا يكاد يشكّ في بقاء الحكم إلّا من جهة الشّكّ في بقاء موضوعه} إذ لو لم يشكّ في بقاء الموضوع لم يكن وجه للشكّ في بقاء الحكم، فالشكّ في بقاء الحكم ناشئ عن زيادة قيد أو نقص قيد من الموضوع يكون ذلك سبباً للشكّ في بقاء الحكم، كنقص قيد (زمن الإمام) في الشّكّ في وجوب الجهاد، ونقص قيد (التغيّر) في الشّكّ في نجاسة الماء المتغيّر، فيكون الشّكّ {بسبب تغيّر بعض ما هو عليه} أي: بعض القيود الّتي كان الموضوع على تلك القيود {ممّا} أي: من القيود الّتي {احتمل دخله فيه} أي: في الموضوع {حدوثاً أو بقاءً} فإنّ بعض الأشياء يشكّ في دخله حتّى حدوثاً، كالأعلميّة في مرجع التقليد، فلو قلّده وهو أعلم ممّن عداه ثمّ صار غيره أعلم فالأعلميّة ممّا يحتمل دخله حدوثاً، وبعض الأشياء يشكّ في دخله بقاءً مع القطع بدخله حدوثاً، كالتغيّر بالنسبة إلى الماء، فإنّه ممّا يشكّ في دخله بقاءً وإنقطع في دخله حدوثاً.

{وإلّا} يكن الشّكّ في الموضوع، بل علم ببقاء الموضوع بتمام شروطه وقيوده فبقاء الحكم واضح لا يشكّ فيه، إذ {لا يتخلّف الحكم عن موضوعه} فإنّ الموضوع علّة تامّة للحكم ولا يتخلّف المعلول عن العلّة {إلّا بنحو البداء}.

وإذ كان للبداء معنيان:

أحدهما: ممكن، وهو إظهار المخفي لمصلحة.

والآخر: مستحيل، وهو أن يظهر للحاكم الخطأ في حكمه، فيعدل ممّا حكم به أوّلاً بدون أيّ اختلاف في الموضوع، قيّد المصنّف ذلك بقوله: {بالمعنى المستحيل في حقّه - تعالى -} إذ مع بقاء الموضوع لا يمكن رفع الحكم عنه وإن

ص: 13

ولذا كان النّسخ بحسب الحقيقة دفعاً، لا رفعاً.

ويندفع هذا الإشكال بأنّ الاتحاد في القضيّتين بحسبهما - وإن كان ممّا لا محيص عنه في جريانه - ، إلّا أنّه لمّا كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافياً في تحقّقه، وفي صدق الحكم ببقاء ما شكّ في بقائه، وكان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيّات الّتي يقطع معها بثبوت الحكم له،

___________________________________________

اختلف الزمان.

{ولذا} الّذي ذكرنا من أنّ هذا القسم من البداء مستحيل في حقّه - سبحانه - {كان النّسخ} للحكم - وهو أن ينسخ الحكم بعد الأمر به - {بحسب الحقيقة} والواقع {دفعاً} فلم يكن الحكم واقعاً شاملاً لما بعد وقت النّسخ وإن كان في الظاهر شاملاً له {لا رفعاً} بأن يكونالحكم شاملاً ثمّ يرفع، فإنّ الرّفع مستلزم للجهل، وهو محال في حقّه - سبحانه - .

هذا خلاصة الإشكال في استصحاب الحكم، وأنّه كيف يكون مع أنّ الشّكّ إنّما يطرأ بعد تغيّر الموضوع، وإذا تغيّر الموضوع لا مجال لبقاء الحكم السّابق {ويندفع هذا الإشكال بأنّ الاتحاد في القضيّتين} القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة {بحسبهما} أي: بحسب الموضوع والمحمول بأن يكون موضوع القضيّتين واحداً ومحمولهما واحداً - {وإن كان ممّا لا محيص عنه} أي: عن الاتحاد {في جريانه} أي: جريان الاستصحاب - {إلّا أنّه لمّا كان الاتحاد بحسب نظر العرف} لا العقل ولا لسان الدليل {كافياً في تحقّقه} أي: تحقّق الاتحاد {و} كافياً {في صدق الحكم ببقاء ما شكّ في بقائه} فإنّه يصدق إنّا حكمنا ببقاء ما كان، إذا اتّحد الموضوع والمحمول بنظر العرف {وكان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيّات} بيان «ما» {الّتي يقطع معها} أي: مع تلك الخصوصيّات {بثبوت الحكم له} أي: للموضوع، كالتغيّر الّذي هو خصوصيّة للماء، ومعه يقطع بثبوت

ص: 14

ممّا يعدّ بالنّظر العرفي من حالاته - وإن كان واقعاً من قيوده ومقوّماته - كان جريان الاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة الثابتة لموضوعاتها عند الشّكّ فيها - لأجل طروّ انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها، ممّا عدّ من حالاتها لا من مقوّماتها - بمكانٍ من الإمكان؛ ضرورة صحّة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء تعبّداً، أولكونه مظنوناً ولو نوعاً، أو دعوى دلالة النّصّ، أو قيام الإجماع عليه قطعاً، بلا تفاوت في ذلك بين كون دليل الحكم نقلاً أو عقلاً.

___________________________________________

النّجاسة للماء {ممّا يعدّ بالنّظر العرفي من حالاته} أي: حالات الموضوع. وهذا خبر «كان بعض» {وإن كان} تلك الخصوصيّة {واقعاً} وبالنّظر الدقّي العقلي {من قيوده ومقوّماته} أي: قيود الموضوع {كان} هذا جواب قوله: «إلّا أنّه لمّا كان» أي: أنّ النّظر العرفي لمّا كان كافياً كان {جريان الاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة الثابتة لموضوعاتها} كوجوب الجهاد عند الغيبة، ونجاسة الماء عند زوال التغيّر {عند الشّكّ فيها} أي: في تلك الأحكام {لأجل طروّ انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها} أي: في الموضوعات {ممّا عدّ من حالاتها} أي: حالات تلك الموضوعات {لا من مقوّماتها} كحضور الإمام(علیه السلام) والتغيّر {بمكانٍ من الإمكان} فالموضوع بنظر العرف هو الموضوع، وبقاؤه العرفي كافٍ في ترتّب الحكم عليه وإن تبدّل بعض أحواله ممّا لا يضرّ بالصدق.

وقد علّل(رحمة الله) كفاية الاتحاد العرفي بقوله: {ضرورة صحّة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء} للحكم على موضوعه {تعبّداً} أي: ولو لم يظنّ بالبقاء فالإبقاء تعبّد من العقلاء {أو لكونه} أي: البقاء {مظنوناً ولو نوعاً} أي: ظنّاً نوعيّاً، فإنّ الغالب يظنّون بالبقاء إذا كانت له الحالة السّابقة {أو دعوى دلالة النّصّ} على كفاية الاتحاد العرفي {أو قيام الإجماععليه} أي: على البقاء {قطعاً بلا تفاوت في ذلك} البقاء {بين كون دليل الحكم} السّابق الّذي يراد استصحابه {نقلاً أو عقلاً}.

ص: 15

أمّا الأوّل: فواضح.

وأمّا الثّاني: فلأنّ الحكم الشّرعي المستكشف به عند طروّ انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه - ممّا لا يرى مقوّماً له - كان مشكوك البقاء عرفاً؛ لاحتمال عدم دخله فيه واقعاً، وإن كان لا حكم للعقل بدونه قطعاً.

___________________________________________

{أمّا} استصحاب {الأوّل} وهو الحكم النّقلي {فواضح} لما تقدّم من شمول أدلّة الاستصحاب له {وأمّا الثّاني} وهو استصحاب الحكم العقلي {ف-} ربّما أشكل فيه بأنّ العقل لا بدّ وأن يلاحظ الموضوع بجميع قيوده وشروطه حتّى يحكم عليه بحكم، فإذا انتفى قيد أو شرط لم يحكم العقل فكيف يمكن إبقاء الحكم العقلي - بالاستصحاب - بعد فقد بعض خصوصيّات الموضوع.

فمثلاً: العقل يحكم بقبح الكذب الضّارّ غير المتدارك، فإذا انتفى أحد القيدين لا يحكم العقل بالقبح، فكيف يجوز استصحابه بعد انتفاء أحدهما؟

والجواب: أنّه لا بأس بانتقاء بعض القيود {لأنّ الحكم الشّرعي المستكشف به} أي: بسبب هذا الحكم العقلي، كالحرمة المستكشفة من القبح في باب الكذب {عند طروّ انتفاء ما احتمل دخله} الضّمير يعود إلى «ما» أي: عند طروّ انتفاء قيد احتمل دخله {في موضوعه} أي: موضوع الحكم العقلي {ممّا لا يرى مقوّماًله} أي: للموضوع. و«ممّا» وصف لقوله: «ما احتمل» {كان} ذلك الحكم الشّرعي المستكشف {مشكوك البقاء عرفاً} فإنّا اكتشفنا من قبح الكذب عقلاً حرمته شرعاً، وعند انتفاء بعض القيود نقطع بذهاب الحكم العقلي الّذي هو القبح، لكن نشكّ في ذهاب الحكم الشّرعي الّذي هو الحرمة {لاحتمال عدم دخله} أي: دخل ذلك القيد {فيه} أي: في الحكم الشّرعي {واقعاً، وإن كان لا حكم للعقل بدونه} أي: بدون ذلك القيد {قطعاً} قيد لقوله: «لا حكم».

ص: 16

إن قلت: كيف يكون هذا؟ مع الملازمة بين الحكمين؟

قلت: ذلك لأنّ الملازمة إنّما تكون في مقام الإثبات والاستكشاف، لا في مقام الثبوت، فعدم استقلال العقل إلّا في حالٍ غيرُ ملازمٍ لعدم حكم الشّرع في تلك الحال؛ وذلك لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشّرع - من المصلحة أو المفسدة الّتي هي ملاك حكم العقل - كان على حاله في كلتا الحالتين، وإن لم يدركه إلّا في إحداهما؛

___________________________________________

{إن قلت: كيف يكون هذا} الّذي ذكرتم من عدم الحكم العقلي مع وجوب الحكم الشّرعي {مع} أنّه قد ثبتت {الملازمة بين الحكمين} فكلّما لم يحكم العقل لم يحكم الشّرع، وذلك مقتضٍ لعدم الحكم الشّرعي أيضاً؟

{قلت}: المقدار الّذي دلّ دليل الملازمة عليه هو الإثبات عند الإثبات - أي: كلّما حكم به العقل حكم به الشّرع - لا النّفي عند النّفي حتّى يكون كلّما لم يحكم به العقل لم يحكم به الشّرع، و{ذلك لأنّ الملازمة إنّماتكون في مقام الإثبات} للحكم الشّرعي من الحكم العقلي {والاستكشاف، لا في مقام الثبوت} فإذا ثبت الحكم الشّرعي لم يدلّ دليل على الملازمة.

{فعدم استقلال العقل} بالحكم {إلّا في حال} وهو حال جمع القيود والشّروط في الموضوع {غير ملازم لعدم حكم الشّرع في تلك الحال} حتّى لا يكون للشارع حكم في حال انتفاء بعض القيود والشّروط.

{وذلك لاحتمال أن يكون} ملاك حكم العقل باقياً لكن العقل لم يطّلع عليه والشّرع عالم به فلذا حكم بالبقاء، ف- {ما هو ملاك الحكم الشّرع من المصلحة} في الواجب {أو المفسدة} في المحرّم {الّتي هي ملاك حكم العقل كان على حاله} باقياً {في كلتا الحالتين} حالة وجود قيد الموضوع وحالة انتفائه {وإن لم يدركه} أي: لم يدرك العقل ذلك الملاك {إلّا في إحداهما} وهي حالة وجود القيد.

ص: 17

لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه، أو احتمال أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلاً، وإن كان لها دخل في ما اطّلع عليه من الملاك.

وبالجملة: حكم الشّرع إنّما يتّبع ما هو ملاك حكم العقل واقعاً، لا ما هو مناط حكمه فعلاً. وموضوع حكمه كذلك ممّا لا يكاد يتطرّق إليه الإهمال والإجمال، مع تطرّقه إلى ما هو موضوع حكمه شأناً، وهو ما قام به ملاك حكمه واقعاً،

___________________________________________

وعلّل قوله: «وذلك لاحتمال» بقوله: {لاحتمال عدم دخل تلكالحالة} الّتي كانت سابقاً ثمّ زالت، كالتغيّر - مثلاً - {فيه} أي: في ملاك الشّرع، فالحكم الشّرعي باقٍ مع ذهابها {أو احتمال أن يكون معه} أي: مع الملاك الموجود في حال التغيّر {ملاك آخر} بأن كان لنجاسة الماء المتغيّر ملاكان أحد الملاكين ملازم للتغيّر حتّى أنّه يذهب بذهابه، لكن يبقى الملاك الثّاني {بلا دخل لها} أي: لتلك الحالة الزائلة {فيه} أي: في الملاك الآخر {أصلاً، وإن كان لها} أي: لتلك الحالة {دخل في ما اطّلع عليه من الملاك} أي: في الملاك الأوّل.

والحاصل: أنّا علمنا بثبوت الحكم الشّرعي ثمّ شككنا في زواله، إمّا للشكّ في زوال الملاك المنفرد، وإمّا للشكّ في عدم ملاك آخر بعد العلم بزوال الملاك المعلوم، فاللّازم أن نستصحب الحكم لصدق أدلّته في المقام، وإن لم نتمكّن من استصحاب الحكم العقلي؛ لأنّه يزول بزوال كلّ قيد وشرط.

{وبالجملة حكم الشّرع} المستكشف من حكم العقل {إنّما يتّبع ما هو ملاك حكم العقل واقعاً} وذلك مشكوك الزوال و{لا} يتبع {ما هو مناط حكمه} أي: حكم العقل {فعلاً} المناط الفعلي الّذي هو الموضوع بشروطه وقيوده {وموضوع حكمه كذلك} أي: فعلاً {ممّا لا يكاد يتطرّق إليه الإهمال والإجمال} إذ العقل إنّما يحكم على موضوع يعلم جميع خصوصيّاته {مع تطرّقه} أي: الإهمال {إلى ما هو موضوع حكمه شأناً، وهو} أي: موضوع حكم العقل شأناً {ما قام به ملاك حكمه واقعاً}

ص: 18

فربّ خصوصيّة لها دخل في استقلاله مع احتمال عدم دخله، فبدونها لا استقلال لهبشيءٍ قطعاً، مع احتمال بقاء ملاكه واقعاً، ومعه يحتمل بقاء حكم الشّرع جدّاً؛ لدورانه معه وجوداً وعدماً، فافهم وتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّه لا يخفى اختلاف آراء الأصحاب في حجيّة الاستصحاب مطلقاً، وعدم حجيّته كذلك، والتفصيل بين الموضوعات والأحكام، أو بين ما كان الشّكّ في الرّافع وما كان من المقتضي، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة،

___________________________________________

مثلاً: العقل يحكم بوجوب إطاعة الآمر غير المعزول، فإذا شكّ في عزله لم ير العقل وجوب الإطاعة، لكنّه لو لم يكن معزولاً واقعاً كان ملاك حكمه موجوداً.

{فربّ خصوصيّة لها} أي: لتلك الخصوصيّة {دخل في استقلاله} بالحكم {مع احتمال عدم دخله} واقعاً {فبدونها} أي: بدون تلك الخصوصيّة {لا استقلال له} أي: للعقل {بشيء} أي: بحكمه {قطعاً مع احتمال بقاء ملاكه واقعاً} كما في المثال {ومعه} أي: مع احتمال بقاء الملاك {يحتمل بقاء حكم الشّرع جدّاً، لدورانه} أي: حكم الشّرع {معه} أي: مع الملاك {وجوداً وعدماً، فافهم وتأمّل جيّداً}.

وحيث انتهى عن صحّة استصحاب الحكم حتّى العقلي منه شرع في بيان دليل الاستصحاب فقال: {ثمّ إنّه لا يخفى اختلاف آراء الأصحاب في حجيّة الاستصحاب مطلقاً وعدم حجيّته كذلك} مطلقاً {والتفصيل بين الموضوعات} فحجّة فيها {والأحكام} فليس بحجّة فيها {أو بين ما كان الشّكّ في الرّافع} فهو حجّة، كما لو شكّفي موت زيد بسبب {وما كان في المقتضي} فليس بحجّة، كما لو شكّ في بقاء المصباح للشكّ في اقتضاء زيته للبقاء {إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة} الّتي أنهاها الشّيخ(رحمة الله) في الرّسائل(1) إلى أحد عشر قولاً

ص: 19


1- فرائد الأصول 3: 51-190.

على أقوال شتّى لا يهمّنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها.

وإنّما المهمّ الاستدلال على ما هو المختار منها - وهو الحجيّة مطلقاً - على نحو يظهر بطلان سائرها.

فقد استدلّ عليها بوجوه:

الوجه الأوّل: استقرار بناء العقلاء من الإنسان - بل ذوي الشّعور من كافّة أنواع الحيوان - على العمل على طبق الحالة السّابقة، وحيث لم يردع عنه الشّارع كان ماضياً.

___________________________________________

{على أقوال شتّى لا يهمّنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها} فإنّه إطالة بغير طائل {وإنّما المهمّ الاستدلال على ما هو المختار منها} أي: من هذه الأقوال {وهو} القول الأوّل - أعني: {الحجيّة مطلقاً} - فاللّازم أن نستدلّ لذلك {على نحو يظهر بطلان سائرها}.

[حجيّة الاستصحاب مطلقاً والأدلة عليها]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، فصل في الاستصحاب، أدلة حجيته

{فقد استدلّ عليها} أي: على هذا القول {بوجوه}:

[الوجه الأوّل]

{الوجه الأوّل: استقرار بناء العقلاء من الإنسان، بل ذوي الشّعور من كافّة أنواع الحيوان} ممّا نشعر بحركاته وسكناته وتصرّفاته {على العمل على طبق الحالة السّابقة} فإنّا نرى أنّ الإنسان إذا عهد بوجود مدرسة في المحلّة الفلانيّة، أو كان له صديق في دار مخصوصة ثمّ سافر فإذا رجع وأرادهما قصد تلك المحلّة وذيك الدار، مع احتماله عدمهما، لخراب أو انتقال، وكذلك الحيوان، فإنّه إذا تعاهد محلّاً للماء أو مربضاً أو ما أشبه، فإنّه يقصد نحوه في حال الاحتياج.

وهذا واضح لا غبار عليه {وحيث لم يردع عنه الشّارع} إذ لم يرد في آية أو رواية الرّدع عن العمل على طبق الحالة السّابقة {كان ماضياً} بل ربّما أيّد ذلك بأنّ أصحاب النّبيّ(صلی الله علیه و آله) كانوا يعملون بالأوامر والنّواهي حتّى يعلموا بالنسخ بدون

ص: 20

وفيه أوّلاً: منع استقرار بناءهم على ذلك تعبّداً، بل إمّا رجاءً واحتياطاً، أو اطمئناناً بالبقاء، أو ظنّاً - ولو نوعاً - ؛ أو غفلة، كما هو الحال في سائر الحيوانات دائماً، وفي الإنسان أحياناً.

وثانياً: سلّمنا ذلك، لكنّه لم يعلم أنّ الشّارع به راضٍ، وهو عنده ماضٍ،

___________________________________________

سؤال واستفسار عن النّاسخ، ولو لم يكن العمل على طبق الحالة السّابقة ممضى من الشّارع لزم تنبيههم، وأنّه لا يجوز ذلك بدون سؤال مستمرّ واستعلام دائم.

{وفيه أوّلاً: منع استقرار بنائهم} أي: بناء العقلاء {على ذلك} العمل على طبق الحالة السّابقة {تعبّداً} بأن يكون مجرّد وجود حالة سابقة كافية في العمل لاحقاً على طبقها بدون رجاء أو احتياط أواطمئنان أو ظنّ {بل} كان عملهم {إمّا رجاءً واحتياطاً} فوجه العمل الاحتياط، وذلك لا ينفع المستدلّ، إذ هو لا يريد الحجيّة وباب الاحتياط غير بابها {أو اطمئناناً بالبقاء} كما هو الغالب في الاستصحابات العقلائيّة بالنسبة إلى الأشياء المستقرّة، كاستصحاب بقاء مدرسة أو نحوها {أو ظنّاً} بالبقاء {ولو نوعاً} فهم يتّبعون الظنّ لا الحالة السّابقة بما هي هي ولو ظنّوا بالعدم {أو غفلة} عن الالتفات إلى احتمال تبدّل الحالة السّابقة، والغفلة ليست من العمل العقلائي حتّى يكون معتمداً ومتّكئاً {كما هو} أي: العمل عن غفلة واعتياد {الحال في سائر الحيوانات دائماً وفي الإنسان أحياناً} ممّا تحرّكه العادة بدون وعي والتفات.

لكن الإنصاف أنّ منع بناء العقلاء خلاف المشاهد، فإنّ غالب حركات العقلاء الاستمراريّة مستند إلى الاستصحاب، حتّى أنّهم يعدّون من لا يبني عليه خارجاً عن المتعارف.

{وثانياً: سلّمنا ذلك} وهو كون بنائهم على الاستصحاب بدون احتياط واطمئنان وغفلة، بل من باب أنّ الجري على الحالة السّابقة بما هو هو عمل عقلائي متّبع لديهم {لكنّه لم يعلم أنّ الشّارع به راضٍ وهو عنده ماضٍ} حتّى يكون

ص: 21

ويكفي في الرّدع عن مثله: ما دلّ من الكتاب والسّنّة على النّهي عن اتّباع غير العلم، وما دلّ على البراءة أو الاحتياط في الشّبهات، فلا وجه لاتّباع هذا البناء في ما لا بدّ من اتّباعه من الدلالة على إمضائه،

___________________________________________

حجّة شرعيّة {ويكفي في الرّدع عن مثله ما دلّمن الكتاب والسّنّة على النّهي عن اتّباع غير العلم} كقوله - سبحانه - : {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡٔٗا}(1) وقوله: {بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ}(2)، وقوله: {قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ}(3)، وقوله(علیه السلام): «من أفتى النّاس بغير علم...»(4)،

وقوله(علیه السلام): «... رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم»(5)، وأشباه ذلك.

{و} كذلك يكفي في الرّدع {ما دلّ على البراءة أو الاحتياط} كقوله: «كلّ شيء مطلق»(6)،

وقوله: «أخوك دينك فاحتط لدينك»(7) {في الشّبهات} فإذا كان مقتضى الحالة السّابقة الوجوب كان دليل البراءة رافعاً له، كما لو وجب عليه سابقاً الإنفاق على أبيه لكونه فقيراً، ثمّ شكّ في أنّه هل استغنى أم لا كان قوله(علیه

السلام): «كلّ شيء مطلق» دليلاً على عدم الوجوب، وبالعكس لو كان في السّابق متطهّراً وشكّ في الحدث كان «احتط لدينك» مقتضياً للتوضّي وعدم الاكتفاء بالوضوء السّابق.

{فلا وجه لاتّباع هذا البناء} العقلائي {في ما لا بدّ في اتّباعه} أي: في ما يتّبعه العقلاء {من الدلالة على إمضائه} بيان قوله: «لا وجه» أي: لا دليل على إمضاء

ص: 22


1- سورة النجم، الآية: 28.
2- سورة الحج، الآية: 8؛ سورة لقمان، الآية: 20.
3- سورة يونس، الآية: 59.
4- المحاسن 1: 205؛ الكافي 1: 42؛ بحار الأنوار 2: 116 و 118.
5- الكافي 7: 407.
6- من لا يحضره الفقيه 1: 317؛ وسائل الشيعة 6: 289.
7- وسائل الشيعة 27: 167؛ بحار الأنوار 2: 258.

فتأمّل جيّداً.الوجه الثّاني: أنّ الثبوت في السّابق موجب للظنّ به في اللّاحق.

وفيه: منع اقتضاء مجرّد الثبوت للظنّ بالبقاء فعلاً ولا نوعاً، فإنّه لا وجه له أصلاً، إلّا كون الغالب في ما ثبت أن يدوم، مع إمكان أن لا يدوم، وهو غير معلوم.

ولو سلم، فلا دليل على اعتباره بالخصوص، مع نهوض الحجّة على عدم اعتباره بالعموم.

___________________________________________

بناء العقلاء {فتأمّل جيّداً} وإن كان فيه أن أدلّة البراءة والاحتياط والآيات النّاهية لا تصلح للردع، كما تقدّم في بحث خبر الواحد.

[الوجه الثّاني]

{الوجه الثّاني}: من أدلّة حجيّة الاستصحاب {أنّ الثبوت في السّابق موجب للظنّ به في اللّاحق} فاتّباع الحالة السّابقة إنّما هو اتّباع للظنّ.

{وفيه} أوّلاً: أنّ الثبوت في السّابق لا يوجب الظنّ به في اللّاحق مطلقاً، كما لا يخفى، ل- {منع اقتضاء مجرّد الثبوت} في السّابق {للظنّ بالبقاء فعلاً} أي: ظنّاً فعليّاً {ولا نوعاً} أي: ظنّاً نوعيّاً، وإن لم يظنّ به هذا المستصحب الشّخصي حتّى يكون حجيّته من باب الظنّ النّوعي {فإنّه لا وجه له} أي: للاقتضاء {أصلاً} فإنّه لمّا لا يكون الثبوت السّابق موجباً للظنّ اللّاحق {إلّا كون الغالب في ما ثبت أن يدوم مع إمكان أن لا يدوم} فإن كان الغلبة سبباً للاقتضاء قلنا: إنّ ذلك ليس كليّاً، إذ كثيراً يكون ما ثبت لا يدوم، كما في ما لو كان الشّكّ في المقتضي.

وإلى هذا أشار بقوله: {وهو غير معلوم} بل لو كان الرّافع غالبيّاً لم يبق وجه للاقتضاء أيضاً {ولو سلم} أنّ مجرّد الثبوت مقتضٍ للبقاء غالباً{ف-} نقول ثانياً: {لا دليل على اعتباره} أي: اعتبار هذا الظنّ المستند إلى الغلبة {بالخصوص} أي: بدليل خاصّ مقابل الظنّ الانسدادي إذا تمّت مقدّمات الانسداد {مع نهوض الحجّة على عدم اعتباره} أي: الظنّ {بالعموم} لما دلّ من الآيات والرّوايات على

ص: 23

الوجه الثّالث: دعوى الإجماع عليه، كما عن المبادئ، حيث قال: «الاستصحاب حجّة؛ لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم، ثمّ وقع الشّكّ في أنّه طرأ ما يزيله أم لا، وجب الحكم ببقائه على ما كان أوّلاً، ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّة، لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح»(1)، انتهى. وقد نقل عن غيره أيضاً(2).

وفيه: أنّ تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة - ممّا له مَبَانٍ مختلفة -

___________________________________________

عدم حجيّة الظنّ.

[الوجه الثّالث]

{الوجه الثّالث}: من أدلّة حجيّة الاستصحاب {دعوى الإجماع عليه كما عن المبادئ} وفي الرّسائل نسبه إلى غاية المبادئ {حيث قال: «الاستصحاب حجّة لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم} في الزمان السّابق {ثمّ وقع الشّكّ في أنّه طرأ ما يزيله أم لاوجب الحكم ببقائه على ما كان أوّلاً}.

ثمّ استدلّ على ذلك بقوله: {ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّة لكان} الحكم بالبقاء {ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح»} إذ كلّ من الطّهارة والحدث - مثلاً - ممكن في الآن اللّاحق، فالحكم بالطهارة - لمن كان حاله السّابق ذلك - ترجيح لأحد طرفي الممكن بلا مرجّح، وذلك لا يكون، فالترجيح إنّما هو بحجّة وهو الاستصحاب {انتهى}.

{وقد نقل} هذا الدليل {عن غيره أيضاً} كالنهاية(3)

وغيرها.

{وفيه: أنّ تحصيل الإجماع} الكاشف عن قول المعصوم(علیه السلام) {في مثل هذه المسألة - ممّا له مبان مختلفة} من الغلبة والظنّ وبناء العقلاء والرّوايات -

ص: 24


1- مبادئ الوصول: 250-251.
2- الذي وجدناه في الرسائل النسبة إلى المبادئ. فرائد الأصول 3: 53.
3- نهاية الوصول 4: 363.

في غاية الإشكال، ولو مع الاتفاق، فضلاً عمّا إذا لم يكن، وكان مع الخلاف من المعظم؛ حيث ذهبوا إلى عدم حجيّته مطلقاً، أو في الجملة، ونقله موهون جدّاً لذلك، ولو قيل بحجيّته لولا ذلك.

الوجه الرّابع: - وهو العمدة في الباب - الأخبار المستفيضة:

منها: صحيحة زرارة. قال: قلت له: الرّجل ينام وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟

___________________________________________

{في غاية الإشكال، ولو مع الاتفاق} القطعي من جميع الفقهاء، إذ الإجماع إذا كان محتمل الاستناد سقط عن الحجيّة، كما تقرّرفي مباحث الإجماع {فضلاً عمّا إذا لم يكن} اتفاق من الكلّ {وكان} دعوى الإجماع {مع الخلاف من المعظم حيث ذهبوا إلى عدم حجيّته مطلقاً أو في الجملة} كما في ما لو كان الشّكّ في المقتضي - مثلاً - .

{و} إن قلت: لا ندّعي الإجماع المحصّل بل الإجماع المنقول.

قلت: {نقله موهون جدّاً لذلك} الخلاف الّذي عرفت {ولو قيل بحجيّته} أي: حجيّة الإجماع المنقول {لولا ذلك} الخلاف العظيم، يعني أنّا لو قلنا بحجيّة الإجماع المنقول فإنّما نقول به في ما لم نعلم خلافا من الفقهاء، أمّا لو علمنا ذلك فلا مجال للذهاب إلى الحجيّة.

[الوجه الرّابع]

{الوجه الرّابع}: من أدلّة حجيّة الاستصحاب {وهو العمدة في الباب} لما عرفت من الإشكال في سائر الأدلّة {الأخبار المستفيضة}.

[صحيحة زرارة الأولى]

{منها: صحيحة زرارة} ابن أعين(رحمة الله) {قال: قلت له: الرّجل ينام، وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟} وقوله: «ينام» أراد به الخفقة، وهي حالة

ص: 25

قال: «يا زرارة! قد تنام العين ولا ينام القلب والأُذن، وإذا نامت العين والأُذن والقلب فقد وجب الوضوء».

قلت: فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟

قال: «لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين بالشكّأبداً، ولكنّه ينقضه بيقين آخر»(1).

وهذه الرّواية وإن كانت مضمرة، إلّا أنّ إضمارها لا يضرّ باعتبارها، حيث كان مُضْمِرها مثل زرارة، وهو ممّن لا يكاد يستفتي من غير الإمام(علیه السلام)، لاسيّما مع هذا الاهتمام.

___________________________________________

نعاس تسبق النّوم يذهب قسم من حواسّ الرّأس معها، فيسقط الرّأس غالباً لعدم الحسّ الكامل {قال: «يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام القلب والأُذن، وإذا نامت العين والأُذن والقلب فقد وجب الوضوء»}.

{قلت: فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟} أي: هل يكون هذا دليلاً على نوم الثلاثة أم لا {قال: «لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلّا} يستيقن ويأت أمر بيّن {فإنّه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين بالشكّ أبداً ولكنّه ينقضه بيقين آخر»} هذه تمام رواية زرارة.

{وهذه الرّواية وإن كانت مضمرة} لعدم ذكر الإمام المروي عنه صريحاً فيها، بل أُشير إليه بالضمير بقوله: «قلت له»، والمضمره غالباً ليست بحجّة، إذ ليس من المعلوم أنّ الضّمير يعود إلى الإمام أو غيره {إلّا أنّ} هذه الرّواية {إضمارها لا يضرّ باعتبارها حيث كان مضمرها} بصيغة اسم الفاعل - أي: الّذي أضمرها - {مثل زرارة} وهو من أعاظم أصحاب الباقرين‘{وهو ممّن لا يكاد يستفتي من غير الإمام(علیه السلام)، لاسيّما مع هذا الاهتمام} فيالسّؤال والجواب.

ص: 26


1- تهذيب الأحكام 1: 8، مع اختلاف يسير.

وتقريب الاستدلال بها أنّه لا ريب في ظهور قوله(علیه السلام): «وإلّا فإنّه على يقين» الخ - عرفاً - في النّهي عن نقض اليقين بشيء بالشكّ فيه، وأنّه(علیه السلام)

___________________________________________

هذا مضافاً إلى قرب احتمال أن وقع الإضمار فيها من جرّاء تقطيع الرّوايات، فإنّه كان غالباً يسال الرّاوي الإمام ويصدّر سؤاله باسمه(علیه السلام) ثمّ يأتي بالضمير في سائر الأسئلة استفتاءً، كأن يقول: (سألت الصّادق(علیه السلام) عن الصّلاة، وسألته عن الزكاة، وسألته عن النّكاح) وهكذا، كما يظهر ذلك لمن راجع كتب الحديث الأصول، ثمّ لمّا بوّب الفقهاء وأصحاب الحديث الرّوايات وجعلوا كلّ فقرة من الرّواية في الباب المناسب لها وقع هذا الإضمار.

ولا يبعد أن يكفي في الحجيّة ذكر أصحاب الحديث الموثّقين المضمرة في كتب حديثهم في الأبواب المرتبطة، فإنّه شاهد على كون الرّواية من الإمام(علیه السلام)، وإذا اعتبرنا هذه القرينة - كما لا يبعد - استرحنا من السّند من هذه الجهة في كثيرة من الرّوايات.

هذا بالإضافة إلى أنّ مضمر زرارة المتقدّم قد قامت شواهد أُخرى على اعتبارها وصحّتها، كما تجد ذلك في الحقائق(1)

وغيره، فراجع.

هذا كلّه من جهة السّند {و} أمّا من جهة الدلالة ف- {تقريب الاستدلال بها أنّه لا ريب} في أنّ الإمام(علیه السلام) بصدد إدراج هذا الشّكّ في الوضوء - بعد ما كان يعلم به سابقاً - في كليّة ارتكازيّة هيقوله(علیه السلام): «وما ينقض اليقين بالشكّ أبداً» فهي إذن كليّة تجري في جميع موارد الاستصحاب.

وتوضيحه: أنّه لا ريب {في ظهور قوله(علیه السلام): «وإلّا فإنّه على يقين» الخ - عرفاً - في النّهي عن نقض اليقين بشيء بالشكّ فيه} أي: في ذلك الشّيء {وأنّه(علیه السلام)} في ذكره

ص: 27


1- قال في الحقائق: «رواها الشّيخ، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة... وإثبات الشّيخ والحسين لها في كتب الحديث، وإثبات حمّاد لها في أصله راوياً لها عن حريز، شهادة قطعيّة على كونها رواية عن معصوم»، حقائق الأصول 2: 400.

بصدد بيان ما هو علّة الجزاء المستفاد من قوله(علیه السلام): «لا» في جواب: «فإن حرّك في جنبه» الخ، وهو اندراج اليقين والشّكّ في مورد السّؤال، في القضيّة الكليّة الارتكازيّة غير المختصّة بباب دون باب.

___________________________________________

لهذه الفقرة «فإنّه على يقين» {بصدد بيان ما هو علّة الجزاء المستفاد} ذلك الجزاء {من قوله(علیه السلام): «لا» في جواب: «فإن حرّك في جنبه» الخ} يعني: أنّ السّائل لمّا سأل عن وجوب إعادة الوضوء أجاب الإمام(علیه السلام) بأنّه لا يجب، ثمّ علّل الإمام عدم الوجوب بأنّ المورد داخل في قضيّة كليّة ارتكازيّة شرعيّة على عدم نقض بالشكّ.

{وهو} أي: ما هو علّة الجزاء {اندراج اليقين} بالوضوء سابقاً {والشّكّ} فيه لاحقاً {في مورد السّؤال} في هذه الرّواية {في القضيّة الكليّة الارتكازيّة غير المختصّة بباب دون باب} فإنّ المرتكز في أذهان العقلاء أنّ هذه الكليّة هي علّة الحكم بعدم إعادة الوضوء كارتكازهم بأنّه لو قال المولى: (أكرم زيداً لأنّه عالم) كون العلّة في الإكرام هو العلم، ومن المعلوم أنّ هذهالقضيّة الكليّة لا تختصّ بباب الوضوء دون سائر الأبواب حتّى نقول بحجيّة الاستصحاب في هذا الباب فقط دون غيره.

وحيث كان في المقام احتمالان آخران يسبّبان عدم التمكّن من الاستدلال على الاستصحاب مطلقاً بهذه الرّواية ذكرهما المصنّف(رحمة الله) مع الإيراد عليهما:

الأوّل: احتمال أن يكون قوله(علیه السلام): «فإنّه على يقين من وضوئه» جواب الشّرط، ويكون قوله: «ولا ينقض اليقين» عطفاً تفسيريّاً له، فيكون المعنى: فإن حرّك إلى جنبه شيء، فإنّه متيقّن بالوضوء ولا ينقضه بالشكّ، وحينئذٍ يختصّ الكلام بباب الوضوء؛ لأنّه لم يذكر قاعدة كليّة تنطبق على كلّيّ الاستصحاب في جميع الأبواب.

ص: 28

واحتمال: أن يكون الجزاء هو قوله: «فإنّه على يقين»» الخ، غير سديد؛ فإنّه لا يصحّ إلّا بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه، وهو إلى الغاية بعيد.

وأبعد منه كون الجزاء قوله: «لا ينقض» الخ، وقد ذكر: «فإنّه على يقين» للتمهيد.

___________________________________________

الثّاني: احتمال أن يكون قوله(علیه السلام): «ولا ينقض اليقين» جواباً للشرط، ويكون قوله: «فإنّه على يقين» تمهيداً للجواب، فيكون المعنى أنّه لا يستيقن بأنّه نام، فبعد ما كان على يقين من وضوئه لا ينقض يقينه بالشكّ في النّوم. وعلى هذا الاحتمال لا يكون للرواية كليّة تشمل جميع الاستصحابات، بل يكون خاصّاً بالوضوء.

إذا عرفت ذلك قلنا قد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى إبطال الاحتمال الأوّل بقوله: {واحتمال أن يكون الجزاء هو قوله:«فإنّه على يقين» الخ، غير سديد} لأنّه إمّا خبر وإمّا إنشاء بلسان الخبر، نحو «الطّواف بالبيت صلاة»(1)، أمّا لو كان خبراً فلا وجه له؛ لأنّ السّائل كان يعلم أنّه على يقين سواء استيقن بالنوم أم لم يستيقن، فلا وجه لتعليقه على عدم الاستيقان بالنوم، وأمّا لو كان إنشاءً حتّى يكون معناه: اعمل على يقينك، فهو إنشاء للزوم العمل بلسان جعل موضوعه وهو اليقين، فهو بعيد إذ الإتيان بالخبر وإرادة الإنشاء خلاف الظاهر.

وإلى هذا أشار بقوله: {فإنّه} أي: هذا الاحتمال {لا يصحّ إلّا بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه} بأن يكون حكماً إنشائيّاً أتى بصورة الخبر {وهو إلى الغاية بعيد} لما عرفت من أنّ الإتيان بالخبر وإرادة الإنشاء خلاف الظاهر.

{وأبعد منه} الاحتمال الثّاني، وهو {كون الجزاء قوله: «لا ينقض» الخ وقد ذكر «فإنّه على يقين» للتمهيد} وإنّما كان أبعد؛ لأنّ الجزاء لا يدخله الواو، وقوله: «ولا ينقض» مصدّر بالواو.

ص: 29


1- غوالي اللئالي 1: 214؛ مستدرك الوسائل 9: 410.

وقد انقدح بما ذكرنا: ضعف احتمال اختصاص قضيّة «لا تنقض» باليقين والشّكّ في باب الوضوء جدّاً؛ فإنّه ينافيه ظهور التعليل في أنّه بأمر ارتكازيّ لا تعبديّ قطعاً.

ويؤيّده: تعليل الحكم بالمضيّ مع الشّكّ في غير الوضوء، - في غير هذه الرّواية - بهذه القضيّة، أو ما يرادفها، فتأمّل جيّداً.

هذا مع أنّه لا موجب لاحتماله إلّا احتمالكون اللّام في اليقين

___________________________________________

{وقد انقدح بما ذكرنا} من بعد الاحتمالين {ضعف احتمال اختصاص قضيّة «لا تنقض» باليقين والشّكّ في باب الوضوء} حتّى يكون الاستصحاب حجّة في هذا الباب فقط، بل اللّازم كونه خاصّاً بباب الشّكّ النّاشئ من النّوم لا مطلق الشّكّ، فإنّه ضعيف {جدّاً، فإنّه ينافيه} أي: ينافي الاختصاص {ظهور التعليل} في قوله: «فإنّه على يقين» {في أنّه بأمر ارتكازي لا تعبّديّ قطعاً} إذ لو كان هذا الشّيء خاصّاً بباب الوضوء لم ير العرف له وجهاً، وكان من قبيل أن يعلّل بقاء وضوئه، بأن كان مسمّى ب- (زرارة) ممّا لا يرتبط في العرف مع المعلّل.

{ويؤيّده} أي: يؤيّد كون التعليل عامّاً لا خاصّاً {تعليل الحكم بالمضي مع الشّكّ في غير الوضوء - في غير هذه الرّواية - بهذه القضيّة} فإنّ الإمام(علیه السلام) علّل المعنى على طبق اليقين السّابق وعدم الاعتناء بالشكّ الحادث، بأنّه على يقين ولا ينقضه بالشكّ {أو ما يرادفها} فإنّه يأتي في صحيحة زرارة الثّانية قوله(علیه السلام): «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً».

وفي صحيحة ثالثة «ولا ينقض اليقين بالشكّ»، فإنّ ذلك كلّه دليل على ارتكازيّة التعليل وعدم اختصاصه بباب الوضوء {فتأمّل جيّداً}.

{هذا} تمام الكلام في وجه استظهار العموم من الرّواية {مع أنّه لا موجب لاحتماله} أي: احتمال الاختصاص بباب الوضوء {إلّا احتمال كون اللّام في اليقين}

ص: 30

للعهد، إشارة إلى اليقين في «فإنّه على يقين من وضوئه»، مع أنّ الظاهر أنّه للجنس، كما هو الأصل فيه، وسبق «فإنّه على يقين» الخ، لا يكون قرينة عليه، مع كمال الملائمة مع الجنس أيضاً، فافهم.

مع أنّه غير ظاهر في اليقين بالوضوء؛ لقوّة احتمال أن يكون «من وضوئه» متعلّقاً بالظرف، لا

___________________________________________

في قوله(علیه السلام): «ولا ينقض اليقين بالشكّ» {للعهد} الذكرى حتّى يكون {إشارة إلى اليقين في} قوله(علیه السلام): {«فإنّه على يقين من وضوئه»} فيكون قضيّة «ولا ينقض اليقين» خاصّة بيقين الوضوء لا كليّة تشمل جميع أنواع اليقين والشّكّ {مع أنّ الظاهر أنّه} أي: «اللّام» في اليقين {للجنس} لا للعهد {كما هو} أي: كون اللّام للجنس {الأصل فيه} كما لا يخفى على من راجع علوم العربيّة.

{و} إن قلت: قد سبق قوله(علیه السلام): «فإنّه على يقين من وضوئه» وذلك قرينة على إرادة العهد من اللّام في قوله: «لا ينقض اليقين».

قلت: {سبق «فإنّه على يقين» الخ لا يكون قرينة عليه} أي: على كون اللّام للعهد {مع كمال الملائمة} للّام {مع الجنس أيضاً} وقد عرفت أنّ الجنس هو الأصل {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ كمال الملائمة مع الجنس لا يقتضي الحمل عليه بعد ظهور اللّام في العهد إذا سبقه ما يدلّ عليه، لكن لا يخفى أنّ الجنس أقوى، والمؤيّدات الخارجيّة والداخليّة تؤيّده أيضاً، كما سبق {مع أنّه} لو أخذنا اللّام في «لا ينقض اليقين» للعهد، لم ينفع الاختصاص أيضاً؛لأنّ المعهود ذو احتمالين:

الأوّل «يقين»، الثّاني «يقين من وضوئه» والعهد إنّما يوجب الاختصاص إذا كان المعهود الثّاني لا الأوّل، فإنّه على الأوّل يكون مطلق اليقين معهوداً، فالمعهود {غير ظاهر في اليقين بالوضوء لقوّة احتمال أن يكون «من وضوئه»} في قوله(علیه السلام): «فإنّه على يقين من وضوئه» {متعلّقاً بالظرف} وهو «على يقين» و{لا}

ص: 31

ب- «يقين»، وكان المعنى: فإنّه كان من طرف وضوئه على يقين، وعليه لا يكون الأصغر(1) إلّا اليقين، لا اليقين بالوضوء، كما لا يخفى على المتأمّل.

وبالجملة: لا يكاد يشكّ في ظهور القضيّة في عموم اليقين والشّكّ، خصوصاً بعد ملاحظة تطبيقها في الأخبار على غير الوضوء أيضاً.

ثمّ لا يخفى

___________________________________________

يكون الظرف متعلّقاً {ب- «يقين» و} على هذا {كان المعنى: فإنّه كان من طرف وضوئه} أي: من جهة وضوئه {على يقين}.

{وعليه} أي: بناءً على هذا الاحتمال {لا يكون الأصغر} في القياس الواقع في الرّواية {إلّا اليقين لا اليقين بالوضوء} فيكون المعنى: إنّه من جهة وضوئه على يقين، ولا ينقض اليقين {كما لا يخفى على المتأمّل} فاللّام وإن كان للعهد، لكنّهلا يوجب الاختصاص.

{وبالجملة لا يكاد يشكّ في ظهور القضيّة} الواقعة في الرّواية {في عموم اليقين والشّكّ} لكلّ مورد {خصوصاً بعد ملاحظة تطبيقها في} سائر {الأخبار على غير الوضوء أيضاً} واللّه العالم.

{ثمّ لا يخفى} أنّ مقتضى إطلاق هذا الخبر كون الاستصحاب حجّة مطلقاً، سواء كان في الأُمور العدميّة أو الوجوديّة من الأحكام الوضعيّة أو التكليفيّة في الموضوعات أو في الأحكام طالت المدّة بحيث يظنّ بالخلاف أم لا... إلى غير ذلك، لكن الشّيخ(رحمة الله) فصّل بين كون الشّكّ في المقتضي فالاستصحاب ليس بحجّة، وكونه في المانع فهو حجّة(2).

وتوضيحه: أنّه قد يشكّ في الاستمرار لاحتمال عدم اقتضاء المقتضي للثبات

ص: 32


1- وفي المصحّحة: «الأوسط» بدل «الأصغر».
2- فرائد الأصول 3: 159.

حسن إسناد النّقض - وهو ضدّ الإبرام -

___________________________________________

والدوام، كما لو شكّ في إنارة المصباح من جهة احتمال كون الزيت الّذي فيه قليلاً لا يدوم إلى هذا الوقت، وقد يشكّ لاحتمال وجود الرّافع، كما لو علمنا بأنّ الزيت كان كافياً للإنارة إلى الصّباح، لكن احتملنا هبوب الرّيح المطفئة له.

وقد تبع الشّيخُ(1)

في هذا الإشكال والتفصيل المحقّقَ الخوانساري، وقد استدلّ لذلك بأنّ قوله(علیه السلام): «لا ينقض اليقين بالشكّ» حيث يتعذّر حمله على معناه الحقيقي، إذ ليس بالفعل يقين يراد نقضه - لفرض الشّكّ في الحكم - لا بدّ حمله على المجاز، وهنا مجازان:

الأوّل: أن يراد رفع اليد عن الأمر الثابت الّذي وجد مقتضيه ممّا له صلاحيّةالبقاء والدوام.

الثّاني: رفع اليد عن الأمر الثابت ممّا لم يعلم وجود المقتضي له، وحيث إنّ المجاز الأوّل أقرب إلى الحقيقة كان أولى بالإرادة.

وعلى هذا فالاستصحاب ليس بحجّة إذا كان الشّكّ في المقتضي، وحجيّته خاصّة بما إذا كان الشّكّ في الرّافع، لكن المصنّف(رحمة الله) تبعاً للمشهور لم يقل بهذا التفصيل.

وأجاب عن الشّيخ(رحمة الله) بما حاصله: أنّ صحّة استناد النّقض إلى اليقين إنّما هو بلحاظ كون اليقين بذاته أمراً مبرماً، وذلك لا يفرق فيه بين أن يكون المتيقّن ممّا له اقتضاء البقاء أم لم يعلم حاله، فليس أحد المجازين أولى من الآخر؛ لأنّهما بلحاظ اليقين على حدّ سواء.

وإلى هذا أشار بقوله: لا يخفى {حسن إسناد النّقض - وهو ضدّ الإبرام -} كما في قوله - تعالى - : {وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا}(2)، وقوله:

ص: 33


1- فرائد الأصول 3: 78-82.
2- سورة النحل، الآية: 92.

إلى اليقين، ولو كان متعلّقاً بما ليس فيه اقتضاء البقاء والاستمرار، لِما يتخيّل فيه من الاستحكام، بخلاف الظنّ، فإنّه يظنّ أنّه ليس فيه إبرام واستحكام، وإن كان متعلّقاً بما فيه اقتضاء ذلك، وإلّا لصحّ أن يسند إلى نفس ما فيه المقتضي له، مع ركاكة مثل: (نقضت الحجر عن مكانه)، ولمّا صحّ أن يقال: (انتقض اليقين باشتعال السّراج)،

___________________________________________

وقوله: {وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا}(1) {إلى اليقين} لأنّه قال: «لا ينقض اليقين» {ولو كان} اليقين {متعلّقاً بما ليس فيه اقتضاء البقاء والاستمرار} كما لو كان الشّكّ في المقتضي، كما لو لم يعلم بأنّ زوج المرأة الغائب هل كان في بنيته اقتضاء البقاء إلى ثمانين سنة حتّى تجب النّفقة من ماله على زوجته وحتّى يحرم لها النّكاح برجل آخر أم لا.

وإنّما حسن هذا الإسناد {لما يتخيّل فيه} أي: في اليقين {من الاستحكام} فإنّ اليقين شيء مستحكم {بخلاف الظنّ، فإنّه يظنّ أنّه ليس فيه إبرام واستحكام، وإن كان} الظنّ {متعلّقاً بما فيه اقتضاء ذلك}.

والحاصل: أنّ العبرة باليقين والظنّ لا بمتعلّقهما، فلو تيقّن بعمر زيد كان فيه إحكام؛ لأنّه يقين، ولو ظنّ عمر الملائكة لم يكن فيه إحكام؛ لأنّه ظنّ، ولا ينظر إلى أنّ أحدهما عمر زيد الّذي لا اقتضاء فيه للبقاء، والآخر عمر الملائكة الّذي فيه اقتضاء البقاء.

{وإلّا} يكن وجه صحّة النّقض كونه مستنداً إلى اليقين، وإنّما كان الوجه كون المتيقّن ما فيه اقتضاء البقاء - كما يقوله الشّيخ - {لصحّ أن يسند} النّقض {إلى نفس ما فيه المقتضي له} أي: للبقاء {مع ركاكة مثل: (نقضت الحجر عن مكانه)} مع أنّ كونه في مكانه ممّا فيه اقتضاء البقاء، إذ لا ينقص عن مكانه إلّا برافع {ولمّا صحّ أن يقال: (انتقض اليقين باشتعال السّراج)} بنسبة النّقض إلى اليقين

ص: 34


1- سورة النحل، الآية: 91.

في ما إذا شكّ في بقائه للشكّ فياستعداده، مع بداهة صحّته وحسنه.

وبالجملة: لا يكاد يشكّ في أنّ اليقين - كالبيعة والعهد - إنّما يكون حسن إسناد النّقض إليه بملاحظته، لا بملاحظة متعلّقه، فلا موجب لإرادة ما هو أقرب إلى الأمر المبرم، أو أشبه بالمتين المستحكم ممّا فيه اقتضاء البقاء؛ لقاعدة: إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى، بعد تعذّر إرادة مثل ذاك الأمر، ممّا يصحّ إسناد النّقض إليه حقيقةً.

إن قلت:

___________________________________________

{في ما إذا شكّ في بقائه} أي: بقاء نور السّراج {للشكّ في استعداده} لعدم العلم بمقدار الزيت الكائن فيه {مع بداهة صحّته وحسنه}.

ومن هذا يعرف أنّ المعيار إنّما هو اليقين لا متعلّقه.

{وبالجملة لا يكاد يشكّ في أنّ اليقين كالبيعة والعهد إنّما يكون حسن إسناد النّقض إليه} بأن يقال: (نقض اليقين)، كما يقال: (نقض العهد) أو (نقض البيعة) {بملاحظته} أي: بملاحظة نفس اليقين {لا بملاحظة متعلّقه فلا موجب ل-} ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) من {إرادة ما هو أقرب إلى الأمر المبرم أو أشبه بالمتين المستحكم} وهو ما كان الشّكّ في الرّافع {ممّا فيه اقتضاء البقاء} لولا الرّافع، وقوله: «ممّا» بيان لقوله: «ما هو» {لقاعدة: إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى} تعليل لقوله: «إرادة» أي: المنفي لا النّفي {بعد تعذّر إرادة مثل ذاك الأمر} أي: مثل الأمر المبرمالحقيقي، لما عرفت من مجازيّة نسبة النّقض إلى اليقين في مثل المقام الّذي ليس هناك يقين فعليّ {ممّا يصحّ إسناد النّقض إليه حقيقة} قوله: «ممّا» بيان لقوله: «ذاك الأمر».

والحاصل: أنّه لا وجه للقول: بأنّه لما تعذّر نسبة النّقض إلى اليقين - حقيقة - لا بدّ وأن ينسب إلى ما فيه اقتضاء البقاء.

{إن قلت}: لا يقين في مقام الشّكّ - وهذا واضح - فإذا لم يعتبر في المتيقّن

ص: 35

نعم، ولكنّه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقةً، فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقّن، لما صحّ إسناد الانتقاض إليه بوجه ولو مجازاً، بخلاف ما إذا كان هناك، فإنّه وإن لم يكن معه أيضاً انتقاض حقيقة، إلّا أنّه صحّ إسناده إليه مجازاً، فإنّ اليقين معه كأنّه تعلّق بأمر مستمرّ مستحكم، قد انحلّ وانفصم بسبب الشّكّ فيه من جهة الشّكّ في رافعه.

قلت: الظاهر: أنّ وجه الإسناد

___________________________________________

الإبرام والاقتضاء كان نسبة النّقض غلطاً، إذ لا يقين حتّى تكون النّسبة حقيقة، ولا أمر مبرم حتّى تكون النّسبة مجازاً، فإنّه {نعم} كما ذكرتم يصحّ إسناد النّقض باعتبار اليقين {ولكنّه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقة} حيث إنّ المفروض كون الحكم مشكوكاً فعلاً {فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقّن} بأن كان المتيقّن غير معلوم الاقتضاء {لما صحّ إسناد الانتقاض إليه} أي: إلى اليقين {بوجه} أصلاً{ولو مجازاً} لما عرفت من عدم الحقيقة وعدم الإبرام في المتيقّن المصحّح للمجازيّة {بخلاف ما إذا كان هناك} اقتضاء البقاء في المتيقّن {فإنّه وإن لم يكن معه} أي: مع المتيقّن المقتضي للبقاء {أيضاً انتقاض حقيقة إلّا أنّه صحّ إسناده} أي: النّقض {إليه} أي: إلى اليقين {مجازاً، فإنّ اليقين معه} أي: مع المتيقّن الّذي فيه اقتضاء البقاء {كأنّه تعلّق} حينما تعلّق سابقاً {بأمر مستمرّ مستحكم قد انحلّ وانفصم بسبب الشّكّ فيه} أي: في ذلك الأمر {من جهة الشّكّ في رافعه} وعلى هذا فاللّازم تخصيص الأخبار بحجيّة الاستصحاب في ما كان الشّكّ في الرّافع لا ما إذا كان الشّكّ في المقتضي.

{قلت}: إنّ الشّكّ واليقين اعتبرا وكأنّهما في زمان واحد، ولذا كان لازم الاعتناء بالشكّ رفع اليد عن اليقين، وعلى هذا كان النّقض لليقين - مسامحة - وذلك حسن عرفاً، فإنّ {الظاهر أنّ وجه الإسناد} أي: إسناد النّقض إلى اليقين

ص: 36

هو لحاظ اتحاد متعلّقي اليقين والشّكّ ذاتاً، وعدم ملاحظة تعدّدهما زماناً، وهو كاف

- عرفاً - في صحّة إسناد النّقض إليه واستعارته له، بلا تفاوت في ذلك أصلاً - في نظر أهل العرف - بين ما كان هناك اقتضاء البقاء وما لم يكن.

وكونه مع المقتضي أقرب بالانتقاض وأشبه، لا يقتضي تعيينه لأجل قاعدة: إذا تعذّرت الحقيقة؛ فإنّ الاعتبار في الأقربيّةإنّما هو بنظر العرف لا الاعتبار، وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله.

___________________________________________

{هو لحاظ اتحاد متعلّقي اليقين والشّكّ} فإنّ الشّكّ قد تعلّق بما تعلّق به اليقين {ذاتاً وعدم ملاحظة تعدّدهما} أي: اليقين والشّكّ {زماناً} بأن تعلّق أحدهما بالطهارة صباحاً والآخر قد تعلّق بها عصراً {وهو} أي: اتّحاد المتعلّقين ذاتاً {كافٍ - عرفاً - في صحّة إسناد النّقض إليه} أي: إلى اليقين.

{و} صحّة {استعارته} أي: النّقض {له} أي: لليقين، فإنّ النّقض الّذي يكون حقيقته في ما إذا تعلّق باليقين قد استعير لأن يتعلّق بما كان سابقاً متعلّقاً لليقين {بلا تفاوت في ذلك} الإسناد {أصلاً - في نظر أهل العرف - بين ما كان هناك اقتضاء البقاء} وكان الشّكّ في الرّافع {وما لم يكن} له اقتضاء البقاء وكان الشّكّ في المقتضي {وكونه} أي: اليقين السّابق {مع} وجود {المقتضي} في المتيقّن {أقرب بالانتقاض} لأنّه ينتقض ما كان له صلاح البقاء {وأشبه} بذات اليقين {لا يقتضي تعيينه} دون ما كان الشّكّ في المقتضي {لأجل قاعدة: إذا تعذّرت الحقيقة} فأقرب المجازات أولى، وهذا تعليل ل- «يقتضي» لا للنفي، كما لا يخفى {فإنّ الاعتبار في الأقربيّة} للمجاز إلى الحقيقة {إنّما هو بنظر العرف لا} بحسب {الاعتبار} العقلي، إذ الظواهر حجّة وهي أُمور عرفيّة لا اعتباريّة {وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله} أي: أهلالعرف.

ص: 37

هذا كلّه في المادّة.

وأمّا الهيئة،

___________________________________________

{هذا كلّه} بيان كون مادّة (ن، ق، ض) إنّما يناسب اليقين كما ذكره المصنّف، لا المتيقّن كما ذكره الشّيخ، وبذلك تبيّن عدم الفرق بين كون اليقين متعلّقاً بما فيه اقتضاء البقاء حتّى يكون من قبيل الشّكّ في الرّافع، أو بما ليس فيه اقتضاء البقاء حتّى يكون الشّكّ في المقتضي، خلافاً لما ذكره الشّيخ من اختصاص ذلك بالشكّ في الرّافع.

وإذ أتممنا الكلام {في المادّة} نقول: {وأمّا الهيئة} أي: هيئة النّهي - وهي «لا تنقض» - فهي أيضاً تؤيّد مقالة المصنّف(رحمة الله) من كون النّقض أعمّ من كونه في الشّكّ في المقتضي أو في الشّكّ في الرّافع، خلافاً للشيخ، فإنّه ربّما يستدلّ له بالهيئة لكون المراد الشّكّ في الرّافع فقط.

وتقريب الاستدلال بالهيئة: إنّ الحرمة الّتي هي مفاد الهيئة لا تكون متعلّقة إلّا بالمقدور، ونقض اليقين بعد وقوع الشّكّ أمر قهري غير قابل للنهي، فلا بدّ وأن يراد منه المتيقّن، وحيث إنّ الأقرب للمعنى الحقيقي للنقض رفع اليد من الشّيء المستمر - وهو ما أحرز فيه المقتضي وشكّ في الرّافع - انحصر معناه في ذلك.

والجواب: أنّه كما لا يمكن نقض اليقين - لأنّ ذهاب اليقين حين الشّكّ أمر قهري - كذلك لا يمكن نقض المتيقّن؛ لأنّ المتيقّن سواء كان حكماً أو موضوعاً ليس نقضه باختيار المكلّف، فإنّ الحكم نقضه بيد الشّارع والموضوع نقضه بيد التكوين، إذن فنسبة النّقض إلى كليهما مجاز، لكن ما صنعه الشّيخ من أخذ اليقين في الرّواية بمعنى المتيقّن مجاز، ثمّ جعله المتيقّن بمعنى آخر يناسبهالنّقض مجاز آخر، أمّا نحن فلا نصنع إلّا مجازاً واحداً هو جعل اليقين بمعنى

ص: 38

فلا محالة يكون المراد منها: النّهي عن الانتقاض بحسب البناء والعمل، لا الحقيقة؛ لعدم كون الانتقاض بحسبها تحت الاختيار، سواء كان متعلّقاً باليقين - كما هو ظاهر القضيّة - أم بالمتيقّن، أم بآثار اليقين، بناءً على التصرّف فيها بالتجوّز، أو الإضمار؛

___________________________________________

يناسب النّقض، بدون احتياج إلى المجاز الأوّل وهو جعل اليقين بمعنى المتيقّن.

وبهذا تبيّن أنّ الهيئة أيضاً تؤيّد الإطلاق، وعدم الفرق بين أن يكون الشّكّ في المقتضي أو في الرّافع.

إذا عرفت ذلك قلنا: وأمّا الهيئة {فلا محالة يكون المراد منها النّهي عن الانتقاض بحسب البناء والعمل} أي: لا تنقض بناءك على اليقين السّابق وعملك على طبق ذلك اليقين بسبب الشّكّ، فكما كنت تبني حين كنت مستيقناً بالطهارة - من الصّلاة والطّواف ومسّ كتابة القرآن - ابن الآن وأنت شاكّ في أنّه هل أنت مطهّر أم لا {لا} بحسب {الحقيقة}.

إذ قد عرفت أنّ النّهي عن النّقض حقيقةً غير مقدور {لعدم كون الانتقاض بحسبها} أي: بحسب الحقيقة {تحت الاختيار} حتّى ينهى عنه {سواء كان متعلّقاً باليقين كما هو ظاهر القضيّة} لأنّه قال: «لا تنقض اليقين» {أم بالمتيقّن} كما أوّله الشّيخ(رحمة الله) إليه {أم بآثاراليقين} حتّى يكون المعنى «لا تنقض آثار اليقين» فإنّ آثار اليقين هي أحكامه، والأحكام وضعها ونقضها بيد الشّارع لا بيد المكلّف {بناءً على التصرّف فيها} أي: في الرّواية في اليقين {بالتجوّز} بأن يراد من اليقين آثاره على نحو المجاز في الكلمة، كما يقال: (أسد) ويراد به الرّجل الشّجاع {أو الإضمار} بأن يقدّر لفظ (الآثار)، فتقدير «لا تنقض اليقين» لا تنقض آثار اليقين على نحو المجاز في الإسناد.

ص: 39

بداهةَ أنّه كما لا يتعلّق النّقض الاختياري - القابل لورود النّهي عليه - بنفس اليقين، كذلك لا يتعلّق بما كان على يقين منه، أو أحكام اليقين، فلا يكاد يجدي التصرّف بذلك في بقاء الصّيغة على حقيقتها، فلا مجوّز له، فضلاً عن الملزم، كما توهّم.

___________________________________________

وإنّما قلنا بأنّ النّقض ليس مقدوراً بأيّ معنى أُخذ اليقين، ل- {بداهة أنّه كما لا يتعلّق النّقض الاختياري القابل لورود النّهي عليه بنفس اليقين} إذ اليقين أمر تكويني يأتي بأسبابه ويذهب بذهاب تلك الأسباب، سواء أراد المكلّف أم لم يرد {كذلك لا يتعلّق} النّقض الاختياري {بما كان على يقين منه} أي: المتيقّن كالطهارة - في ما يتيقّن بها - {أو أحكام اليقين} كجواز الصّلاة والطّواف ومسّ كتابة القرآن.

وبهذا تبيّن أنّ ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) منظور فيه، قال: «ثمّ لا يتوهّم الاحتياج إلى التصرّف في اليقين بإرادة المتيقّن منه؛ لأنّ التصرّف لازم على كلّ حال، فإنّ النّقض الاختياري القابل لورود النّهي عليه لا يتعلّق بنفس اليقين على كلّ تقدير، بل المراد نقض ما كان على يقين منه - وهو الطّهارة السّابقة - أوأحكام اليقين»(1)،

انتهى.

لكنّك قد عرفت عدم الفرق بين التعليقات الثلاثة {فلا يكاد يجدي التصرّف بذلك} أي: بأخذ اليقين بمعنى المتيقّن، أو بمعنى أحكام اليقين {في بقاء الصّيغة} أي: صيغة النّهي {على حقيقتها، فلا مجوّز له} إذ التصرّف المخالف للظاهر فلا يجوز {فضلاً عن الملزم، كما توهّم}.

وربّما أُشكل على المصنّف(رحمة الله) بأنّ إيراده على الشّيخ غير وارد، إذ آخر كلام الشّيخ يعطي إمكان ذلك؛ لأنّه أراد النّقض العملي. وكيف كان فلا داعي إلى أخذ اليقين بمعنى المتيقّن بالإضافة إلى أنّه خلاف الظاهر.

ص: 40


1- فرائد الأصول 3: 79.

لا يقال: لا محيص عنه؛ فإنّ النّهي عن النّقض بحسب العمل، لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره؛ لمنافاته مع المورد.

فإنّه يقال: إنّما يلزم لو كان اليقين ملحوظاً بنفسه وبالنّظر الاستقلالي، لا ما إذا كان ملحوظاً بنحو المرآتيّة وبالنّظر الآلي، كما هو الظاهر في مثل قضيّة «لا تنقض اليقين» حيث تكون ظاهرة عرفاً في أنّها كناية عن لزوم البناء والعمل، بالتزام حكم مماثل للمتيقّن تعبّداً إذا كان حكماً،

___________________________________________

{لا يقال}: لا بدّ وأن نتصرّف في لفظ «اليقين» في الرّواية بإرادة المتيقّن منه، إذ مورد الرّواية الوضوء، ومن المعلوم أنّه متعلّق اليقين لا نفس اليقين، وبهذا تبيّن أنّه {لا محيص عنه} أي: عن التصرّف بإرادة المتيقّنمن اليقين {فإنّ النّهي عن النّقض بحسب العمل} أي: لا تنقض اليقين عملاً {لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره} وذلك {لمنافاته مع المورد} فإنّ الأحكام مترتّبة على الطّهارة المشكوكة لا على اليقين بها.

{فإنّه يقال}: لو أخذ اليقين في قوله: «لا تنقض اليقين» استقلاليّاً لم يكن محيص إلّا عن التصرّف فيه - كما ذكرتم - ف- {إنّما يلزم} التصرّف في «اليقين» {لو كان اليقين} المأخوذ في الرّواية {ملحوظاً بنفسه وبالنّظر الاستقلالي} إذ لا يلائم نسبة النّقض إليه {لا ما إذا كان} اليقين {ملحوظاً بنحو المرآتيّة وبالنّظر الآلي} فإنّ النّقض العملي لليقين يعتبر اليقين - فيه - آلة ومرآة للمتيقّن، كما هو كذلك دائماً في باب العلم والظنّ واليقين وما أشبه، فإنّها لو أُطلقت يراد بها في الأغلب متعلّقاتها لا أنّها بما هي صفات نفسيّة.

{كما هو الظاهر} عرفاً {في مثل قضيّة «لا تنقض اليقين» حيث تكون ظاهرة عرفاً في أنّها} أي: هذه القضيّة {كناية عن لزوم البناء والعمل} ولا يكون ذلك البناء العملي إلّا {بالتزام حكم مماثل للمتيقّن تعبّداً} في ما {إذا كان} المتيقّن {حكماً}

ص: 41

ولحكمه إذا كان موضوعاً، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين، بالالتزام بحكم مماثل لحكمه شرعاً؛ وذلك لسراية الآليّة والمرآتيّة من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلّي، فيؤخذ في موضوع الحكم فيمقام بيان حكمه، مع عدم دخله فيه أصلاً،

___________________________________________

فلو علمنا في السّنة الماضية بوجوب إعطاء النّفقة لزيد لكونه حيّاً، ثمّ شككنا في هذه السّنة في الوجوب كان معنى «لا تنقض اليقين» التزم بوجوب مماثل لذلك الوجوب المتيقّن {و} بالتزامه حكم مماثل {لحكمه} أي: لحكم المتيقّن {إذا كان} المتيقّن {موضوعاً} ذا حكم، فلو علمنا صباحاً بالوضوء ثمّ شككنا ظهراً فيه كان معنى «لا تنقض اليقين»: التزم بجواز الصّلاة الّذي هو مماثل لجواز الصّلاة الّذي كان حكماً للوضوء المتيقّن صباحاً {لا عبارة} هذا عطف على قوله «كناية» أي: ليس «لا تنقض» عبارة {عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالالتزام بحكم مماثل لحكمه} أي: حكم اليقين {شرعاً} حتّى إذا كان لليقين بما هو صفة نفسيّة حكم، كما لو نذر أنّه لو كان متيقّناً بالوضوء تصدّق بدينار لزم ترتيب ذلك الأثر بمجرّد قوله: «لا تنقض».

والحاصل: أنّه إذا كان للمتيقّن حكم ولليقين حكم فهم العرف من قوله: «لا تنقض» ترتيب آثار المتيقّن لا آثار نفس اليقين {وذلك} الّذي ذكرنا من اليقين في «لا تنقض» أخذ آليّاً لا استقلاليّاً {لسراية الآليّة والمرآتيّة من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلّي} يعني: أنّ اليقين الخارجي القائم بنفس الإنسان لا شكّ وأنّه مرآة للمعلوم الخارجي، فمفهوم الكلّي لليقين الّذي ورد في قوله: «لا تنقض اليقين» أيضاً كذلك يراد به اليقين الآلي لا اليقين الاستقلالي {فيؤخذ} مفهوم اليقين آليّاً {في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه} فحيث يحكم على اليقين بقوله: «لا تنقض» يريد باليقين الآلي لا الاستقلالي {مع عدم دخله} أي: اليقين استقلاليّاً {فيه} أي: في الحكم {أصلاً} فيكون الحكم للمتيقّن فقط.

ص: 42

كما ربّما يؤخذ في ما له دخل فيه، أو تمام الدخل، فافهم.

ثمّ إنّه حيث كان كلّ من الحكم الشّرعي وموضوعه مع الشّكّ، قابلاً للتنزيل بلا تصرّف وتأويل - غاية الأمر تنزيل الموضوع بجعل مماثل حكمه وتنزيل الحكم بجعل مثله، كما أُشير إليه آنفاً - كان قضيّة «لا تنقض» ظاهرة في اعتبار الاستصحاب في الشّبهات الحكميّة والموضوعيّة.

___________________________________________

{كما ربّما يؤخذ} اليقين {في ما له دخل فيه} أي: في موضوع لليقين - الاستقلالي - دخل في ذلك الموضوع، بأن يكون الموضوع مركّباً من اليقين والمتيقّن {أو تمام الدخل} بأن يكون اليقين الاستقلالي تمام الموضوع {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ جعل «اليقين» في قوله: «لا تنقض اليقين» آليّاً ومرآةً إلى المتيقّن خلاف ظاهر جعل اليقين في الرّواية عدلاً للشكّ، حيث قال: «ولا ينقض اليقين بالشكّ».

{ثمّ} إنّ الرّواية دلّت على استصحاب كلّ من الحكم والموضوع، ف- {إنّه حيث كان كلّ من الحكم الشّرعي} التكليفيّة والوضعيّة {وموضوعه} أي: موضوع الحكم، سواء كان موضوعاً مخترعاً كالوضوء أم لا كوجود زيد {مع الشّكّ} في بقاء ذلك الحكم أو الموضوع {قابلاً للتنزيل} بأن ينزل الشّارع المشكوك منهما منزلة المتيقّن {بلا تصرّف وتأويل} على خلاف ظاهر الكلام {غاية الأمر} يكون {تنزيل الموضوع ب-} معنى {جعل مماثل حكمه} فلو قال: (نزّل زيداً المشكوك منزلة المتيقّن) كان معناه رتّب آثار وجود زيد فعلاً وإن كنت شككت فيه {و} يكون {تنزيل الحكم ب-} معنى {جعل مثله} فمعنىنزّل الوجوب المشكوك منزلة المتيقّن التزم بالوجوب المماثل للوجوب المتيقّن {كما أُشير إليه آنفاً} في قولنا: «حيث تكون ظاهرة عرفاً» {كان قضيّة} هذا خبر قوله: «حيث كان»، أي: كان قوله(علیه السلام): {«لا تنقض» ظاهرة في اعتبار الاستصحاب في الشّبهات الحكميّة والموضوعيّة} على أقسامها.

ص: 43

واختصاص المورد بالأخيرة لا يوجب تخصيصها بها، خصوصاً بعد ملاحظة أنّها قضيّة كليّة ارتكازيّة، قد أُتي بها في غير مورد لأجل الاستدلال بها على حكم المورد، فتأمّل.

ومنها: صحيحة أُخرى لزرارة. قال: قلت له: أصاب ثوبي دَمُ رُعافٍ أو غيره أو شيء من المني، فعلّمت أثره إلى أن أُصيب له الماء، فحضرت الصّلاة، ونسيت أنّ بثوبي شيئاً، وصلّيت، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟

قال: «تعيد الصّلاة، وتغسله».

___________________________________________

{و} إن قلت: كيف تعمّمون الرّواية للاستصحاب الحكمي والحال أنّ موردها هو الاستصحاب الموضوعي؛ لأنّها في باب الوضوء؟

قلت: {اختصاص المورد بالأخيرة} وهي الشّبهة الموضوعيّة {لا يوجب تخصيصها} أي: الرّواية {بها} أي: بالشبهة الموضوعيّة {خصوصاً بعد ملاحظة أنّها} أي: قضيّة «لا تنقض» {قضيّة كليّة ارتكازيّة} عند العقلاء {قد أُتي بها} في الرّوايات {في غير مورد لأجل الاستدلال بها على حكم المورد} فلا يكون المورد مخصّصاً {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّ العموم المستفاد إنّما هو بالنسبة إلى ما هو من نسخ المورد، وهوسائر الموضوعات لا مطلقاً، ولو لم يكن من نسخ المورد كالأحكام.

[صحيحة زرارة الثّانية]

{ومنها} أي: من الأخبار الّتي استدلّ بها للاستصحاب {صحيحة أُخرى لزرارة قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره} أي: غيرُ دمِ رُعاف {أو شيء من المني فعلّمت أثره} أي: جعلت له علامة {إلى أن أُصيب له الماء فحضرت الصّلاة} أي: جاء وقتها {ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال}(علیه السلام): {«تعيد الصّلاة وتغسله». قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه فطلبته

ص: 44

قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنّه قد أصابه، فطلبته ولم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته؟

قال(علیه السلام): «تغسله وتعيد».

قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أر شيئاً فصلّيت، فرأيت فيه؟

قال: «تغسله ولا تعيد الصّلاة».

قلت: لم ذلك؟ قال: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً».

قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو، فأغسله؟

قال: «تغسل من ثوبك النّاحية الّتي ترى أنّه قد أصابها، حتّى تكون على يقين من طهارتك».

قلت: فهل عَلَيّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟قال: «لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشّكّ الّذي وقع في نفسك».

___________________________________________

ولم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته؟ قال(علیه السلام): «تغسله وتعيد». قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر شيئاً فصلّيت فرأيت فيه؟ قال: «تغسله ولا تعيد الصّلاة». قلت: لم ذلك؟} أي: عدم إعادة الصّلاة في صورة الظنّ بالنجاسة {قال: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ ابداً». قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟} أي: فماذا أصنع؟ {قال: «تغسل من ثوبك النّاحية الّتي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك». قلت: فهل علَيّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟} أي: هل أتحقّق أنّه أصابه أم لا؟ {قال: لا، ولكنّك تريد أن تذهب الشّكّ الّذي وقع في نفسك} يعنى(علیه السلام) أنّه لا بأس بهذا النّظر المذهب للشكّ.

ص: 45

قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة؟

قال: «تنقض الصّلاة وتعيد، إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة، وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أُوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقينبالشك»(1).

وقد ظهر ممّا ذكرنا في الصّحيحة الأُولى تقريب الاستدلال بقوله: «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» في كلا الموردين، ولا نعيد.

___________________________________________

{قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة؟ قال: «تنقض الصّلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة} والمراد بقطع الصّلاة الكفّ عن أعمالها ثمّ غسل الثوب ثمّ إتمام الصّلاة من موضع الكفّ، بقرينة قوله(علیه السلام): «ثمّ بنيت» {لأنّك لا تدري لعلّه شيء أُوقع عليك} أي: في أثناء الصّلاة {فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»} والمراد باليقين اليقين بالطهارة حالة الشّروع في الصّلاة، ثمّ في الأثناء لمّا رأى النّجاسة شكّ في أنّها هل هي حادثة أم سابقة، فليس له أن ينقض يقينه السّابق بالطهارة بشكّه الحادث وسط الصّلاة.

{وقد ظهر ممّا ذكرنا في الصّحيحة الأُولى تقريب الاستدلال} للاستصحاب {بقوله}(علیه السلام): {«فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» في كلا الموردين} في أوّل الرّواية وآخرها {و} لذا {لا نعيد} تقريب الاستدلال.

ثمّ لا يخفى أنّ في المقام قاعدتين:الأُولى: قاعدة الشّكّ الطّارئ، وهي الاستصحاب، بأن يطرأ الشّكّ على الشّيء بعد العلم به مع كون العلم محفوظاً في محلّه، وإنّما يكون متعلّق الشّكّ

ص: 46


1- علل الشرائع 2: 361؛ الاستبصار 1: 183.

___________________________________________

غير متعلّق اليقين، كما لو علمت بأنّ زيداً كان عادلاً يوم السّبت وأشكّ في أنّه هل بقي عادلاً في هذا اليوم وهو يوم الأحد أم لا؟

الثّانية: قاعدة الشّكّ السّاري، وهي قاعدة اليقين، بأن يسري الشّكّ في متعلّق العلم فيقلع العلم عن موضعه، كما لو علمت يوم السّبت بأنّ زيداً عادل، ثمّ شكّ يوم الأحد في مستند علمه حتّى كان ذلك شكّاً في نفس محلّ العلم، ويسمّى الشّكّ السّاري بهذه المناسبة؛ لأنّه يسري إلى موضع العلم. وهذه القاعدة محلّ كلام بين الأعلام كما يأتي.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ قول الإمام(علیه السلام) في المورد الأوّل: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك» الخ يحتمل وجهين:

الأوّل: أن يكون لبيان الاستصحاب إذا كان المراد من اليقين اليقين الحاصل قبل ظنّ الإصابة، والمراد من الشّكّ الشّكّ الحاصل حال الصّلاة لاحتمال الإصابة؛ لأنّه يقين سابق وشكّ طار لاحق، وقد قال الإمام(علیه السلام) بأنّه لا ينقض ذلك اليقين بهذا الشّكّ.

الثّاني: أن يكون لبيان قاعدة اليقين إذا كان المراد من اليقين اليقين بالطهارة الحاصل بالنّظر - بعد أن ظنّ أنّه أصابه - بأن يحمل قوله: «فلم أر شيئاً» على معنى علمت بأنّه لم يكن شيء، والمراد من الشّكّ الشّكّ حال الصّلاة بوجود النّجاسة حال النّظر حتّى يكون الشّكّ قالعاً لليقين عن موضعه، لكن الاحتمال الأوّل أقرب؛ لأنّ الاحتمال الثّاني مبنيّ على أن يحمل قوله: «فلم أر شيئاً» علىاليقين بعدم الإصابة، وهو خلاف الظاهر، فإنّ المنصرف من اليقين الوارد في الرّواية اليقين قبل ظنّ الإصابة لا اليقين بعده.

ص: 47

نعم، دلالته في المورد الأوّل على الاستصحاب مبنيّ على أن يكون المراد من «اليقين» في قوله(علیه السلام): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك»: اليقين بالطهارة قبل ظنّ الإصابة، كما هو الظاهر؛ فإنّه لو كان المراد منه اليقين الحاصل بالنّظر والفحص بعده - الزائل بالرؤية بعد الصّلاة - كان مفاده قاعدة اليقين، كما لا يخفى.

ثمّ

___________________________________________

ولذا قال المصنّف(رحمة الله): {نعم، دلالته} أي: الخبر {في المورد الأوّل} من الموردين اللّذين قال(علیه السلام) فيهما: «لا تنقض اليقين» {على الاستصحاب مبنيّ على أن يكون المراد من «اليقين» في قوله(علیه السلام): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك»} فشككت {اليقين بالطهارة قبل ظنّ الإصابة، كما هو الظاهر}.

وقد عرفت وجهه {فإنّه لو كان المراد منه} أي: من «اليقين» المذكور {اليقين الحاصل بالنّظر والفحص بعده} أي: بعد ظنّ الإصابة {الزائل} ذلك اليقين {بالرؤية بعد الصّلاة} المشكوك في أثناء الصّلاة، بحيث اقتلع اليقين - بسبب الشّكّ - عن أصله {كان مفاده} أي: مفاد المورد الأوّل {قاعدةاليقين} أي: الشّكّ السّاري {كما لا يخفى} لكن لو قيل بأنّ هذا المورد من الرّواية يفيد قاعدة اليقين لم يكن ذلك ضارّاً بالرواية، لدلالة المورد الثّاني على الاستصحاب قطعاً.

{ثمّ} إنّ الإمام(علیه السلام) علّل عدم وجوب الإعادة بأنّها نقض لليقين بالشكّ، فأشكل الأمر بأنّه ليس من نقض اليقين بالشكّ، بل هو نقض اليقين باليقين؛ لأنّ الإعادة مستندة إلى وجدان النّجاسة بعد الصّلاة.

والجواب: أنّ إحراز الطّهارة - ولو بالاستصحاب - كافٍ في صحّة الصّلاة، فلو جرى الاستصحاب كان كافياً في الحكم بصحّة الصّلاة، فلو أمر بالإعادة كان معناها عدم جريان الاستصحاب، فتكون الإعادة نقضاً لليقين بالشكّ.

ص: 48

إنّه أشكل على الرّواية(1)

بأنّ الإعادة بعد انكشاف وقوع الصّلاة ليست نقضاً لليقين بالطهارة بالشكّ فيها، بل باليقين بارتفاعها، فكيف يصحّ أن يعلّل عدم الإعادة بأنّها نقض اليقين بالشكّ؟ نعم، إنّما يصحّ أن يعلّل به جواز الدخول في الصّلاة، كما لا يخفى.

ولا يكاد يمكن التفصّي عن هذا الإشكال إلّا بأن يقال: إنّ الشّرط في الصّلاة فعلاً حين الالتفات إلى الطّهارة

___________________________________________

وإلى هذا أشار بقوله: {إنّه أشكل على الرّواية بأنّ الإعادة بعد انكشاف وقوع الصّلاة} مع النّجاسة {ليست نقضاً لليقين بالطهارة بالشكّ فيها} أي: في الطّهارة {بل} هي نقض للطهارة {باليقين بارتفاعها} لأنّه علم بعد الصّلاة أنّه لم يكن متطهّراً {فكيف يصحّأن يعلّل عدم الإعادة بأنّها نقض اليقين بالشكّ؟} فإنّه من نقض اليقين باليقين.

{نعم} لو كانت الرّواية علّلت جواز الدخول في الصّلاة - بأنّه لو لم يدخل لكان نقضاً لليقين بالشكّ - لكان ذلك صحيحاً؛ لأنّه كان على يقين من الطّهارة ثمّ شكّ فدخل في الصّلاة مستصحباً الطّهارة، وعليه فالاستصحاب {إنّما يصحّ أن يعلّل به جواز الدخول في الصّلاة، كما لا يخفى} لا عدم وجوب الإعادة، كما صنعته الرّواية.

{ولا يكاد يمكن التفصّي عن هذا الإشكال إلّا بأن يقال}: ليس الشّرط لصحّة الصّلاة الطّهارة الواقعيّة، حتّى لو انكشف عدم الطّهارة وجبت إعادة الصّلاة، بل {إنّ الشّرط في الصّلاة فعلاً حين الالتفات إلى الطّهارة} مقابل حال الغفلة عن الطّهارة حيث لا تصحّ الصّلاة؛ لأنّ الطّهارة شرط في الصّلاة إمّا واقعاً أو إحرازاً، وليس أحدهما موجوداً حال الغفلة؛ لأنّ المفروض أنّه لا طهارة واقعاً، كما أنّ معنى الغفلة أنّه لا إحراز لها بأصل أو دليل، فالصلاة باطلة في هذا الحال

ص: 49


1- فرائد الأصول 3: 60.

هو إحرازها، ولو بأصل أو قاعدة، لا نفسها، فتكون قضيّة استصحاب الطّهارة - حال الصّلاة - : عدم إعادتها، ولو انكشف وقوعها في النّجاسة بعدها. كما أنّ إعادتها بعد الكشف، تكشف عن جواز النّقض وعدم حجيّة الاستصحاب حالها، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً.

لا يقال:

___________________________________________

{هو إحرازها ولو بأصل أو قاعدة لا نفسها} أي: ليس نفس الطّهارة الواقعيّة شرطاً، وإذ كان الشّرط إحراز الطّهارة {فتكونقضيّة استصحاب الطّهارة - حال الصّلاة - عدم إعادتها} لأنّ الصّلاة واجدة للشرط الّذي هو إحراز الطّهارة بالاستصحاب {ولو انكشف وقوعها في النّجاسة بعدها} أي: ظهر بعد الصّلاة أنّها كانت في النّجاسة {كما أنّ إعادتها} أي: الصّلاة {بعد الكشف} لوقوع الصّلاة في النّجاسة {تكشف عن جواز النّقض وعدم حجيّة الاستصحاب حالها} إذ لو كان الاستصحاب لكان حال الدخول في الصّلاة محرزاً للشرط، وإحراز الشّرط كافٍ في الصّحّة {كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً} وقوله: «حالها» ظرف لقوله: «جواز النّقض».

{لا يقال}: المستصحب يجب أن يكون حكماً شرعيّاً أو موضوعاً ذا حكم، والطّهارة حالة الصّلاة ليست أحدهما:

أمّا إنّها ليست بحكم فواضح، إذ الأحكام هي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة.

وأمّا إنّها ليست بموضوع ذي حكم، فلأنّكم ذكرتم أنّ إحراز الطّهارة كافٍ في الدخول في الصّلاة، فليست الطّهارة ذات فائدة حتّى تجعل موضوعاً لحكم، إذ لم يرتّب عليها أيّ حكم إطلاقاً.

وعلى هذا يمتنع جريان الاستصحاب لإثبات الطّهارة، وإذ لم يجر الاستصحاب امتنع إحراز الطّهارة الّذي هو الشّرط، فاللّازم بطلان الصّلاة ولزوم

ص: 50

لا مجال حينئذٍ لاستصحاب الطّهارة؛ فإنّه إذا لم يكن شرطاً لم يكن موضوعاً لحكم، مع أنّه ليس بحكم، ولا محيص في الاستصحاب عن كون المستصحب حكماً أو موضوعاً لحكم.

فإنّه يقال: إنّ الطّهارة وإن لم تكن شرطاً فعلاً، إلّا أنّها غير منعزلة عن الشّرطيّة رأساً، بل هي شرط واقعيّ اقتضائي- كما هو قضيّة التوفيق بين بعض الإطلاقات ومثل هذا الخطاب - ،

___________________________________________

الإعادة، فكيف علّلت الرّواية عدم وجوب الإعادة بالاستصحاب، إذ {لا مجال حينئذٍ} أي: حين كان الشّرط إحراز الطّهارة {لاستصحاب الطّهارة، فإنّه إذا لم يكن} الطّهور {شرطاً} بل كان إحرازه فقط شرطاً {لم يكن موضوعاً لحكم مع أنّه ليس بحكم} فهو ليس بموضوع ذي حكم ولا حكم {ولا محيص في الاستصحاب عن كون المستصحب حكماً أو موضوعاً لحكم}.

والحاصل: أنّ الاستصحاب غير تامّ فكيف يعلّل به عدم وجوب إعادة الصّلاة؟

{فإنّه يقال}: الشّرط للصلاة أوّلاً وبالذات هو الطّهارة، لكن دلّ الدليل على أنّ الاستصحاب لو أخطأ كفى، فليست الطّهارة منعزلة عن الشّرطيّة فهي موضوع حكم، ولذا يصحّ استصحابها ف- {إنّ الطّهارة وإن لم تكن شرطاً فعلاً} حين استصحبت خطاءً، بأن لم يكن المصلّي متطهّراً واقعاً {إلّا أنّها} أي: الطّهارة {غير منعزلة عن الشّرطيّة رأساً، بل هي شرط واقعيّ اقتضائي} أي: فيها مقتضى الشّرطيّة حتّى في حال الاستصحاب الخطائي، وليست كالأشياء الأجنبيّة الّتي لا ترتبط بالصلاة إطلاقاً {كما هو} أي: ما ذكرنا من أنّه شرط اقتضائي وإن لم يكن شرطاً فعلاً {قضيّة التوفيق بين بعض الإطلاقات} نحو قوله: «لا صلاة إلّا بطهور»(1)

{ومثل هذا الخطاب} الوارد في هذه الرّواية بأنّه لا يعيد.

ص: 51


1- من لا يحضره الفقيه 1: 33.

هذا.مع كفاية كونها من قيود الشّرط؛ حيث إنّه كان إحرازها بخصوصها - لا غيرها - شرطاً.

لا يقال: سلّمنا ذلك، لكن قضيّة أن يكون علّة عدم الإعادة حينئذٍ - بعد انكشاف وقوع الصّلاة في النّجاسة - هو إحراز الطّهارة حالها باستصحابها، لا الطّهارة المحرزة بالاستصحاب.

___________________________________________

{هذا} أوّلاً {مع} أنّ لنا أن نقول: ثانياً ب- {كفاية كونها} أي: الطّهارة {من قيود الشّرط} وكلّ قيد للشرط يجري فيه الاستصحاب.

أمّا أنّها من قيود الشّرط؛ فلأنّ شرط الصّلاة إحراز الطّهارة، فالطهارة صارت من قيود الشّرط.

وأمّا أنّ كلّ قيد للشرط يجري فيه الاستصحاب؛ فلأنّ الاستصحاب يجري في الحكم وفي كلّ ما له دخل في الحكم، ومن المعلوم أنّ قيود الشّرط ممّا له دخل في الحكم، ولذا يجري استصحاب طهارة الماء المتوضّأ به مع أنّ الطّهارة قيد لشرط الصّلاة وهو الوضوء، فالطهارة هنا كذلك {حيث إنّه كان إحرازها} أي: الطّهارة {بخصوصها لا غيرها شرطاً} للصلاة.

{لا يقال: سلّمنا ذلك} الّذي ذكرتم من أنّ شرط صحّة الصّلاة إحراز الطّهارة، ولكن لو كان الشّرط ذلك كان من المناسب أن يعلّل الإمام(علیه السلام) عدم وجوب الإعادة بأنّه واجد للشرط الّذي هو إحراز الطّهارة، لا أن يعلّل بوجود الطّهارة، فإنّ قوله(علیه السلام): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك» ظاهر في أنّ وجه الصّحّة نفس الطّهارة لا إحراز الطّهارة - كما ادّعيتم - {لكن قضيّة أن يكون علّة عدم الإعادة حينئذٍ} أي: حين استصحاب الطّهارة {- بعد انكشاف وقوع الصّلاةفي النّجاسة - هو إحراز الطّهارة حالها} أي: حال الصّلاة {ب-} سبب {استصحابها} أي: استصحاب الطّهارة {لا الطّهارة المحرزة بالاستصحاب} وفرق بين الأمرين، كما لا يخفى.

ص: 52

مع أنّ قضيّة التعليل أن تكون العلّة له هي نفسها لا إحرازها؛ ضرورة أنّ نتيجة قوله: «لأنّك كنت على يقين» الخ. إِنّه على الطّهارة، لا أنّه مستصحبها، كما لا يخفى.

فإنّه يقال: نعم، ولكن التعليل إنّما هو بلحاظ حال قبل انكشاف الحال، لنكتة التنبيه على حجيّة الاستصحاب، وأنّه كان هناك استصحاب، مع وضوح استلزام ذلك لأن يكون المجدي بعد الانكشاف هو ذاك الاستصحاب، لا الطّهارة،

___________________________________________

{مع أنّ قضيّة التعليل} أي: مقتضى التعليل الصّادر من الإمام(علیه السلام) {أن تكون العلّة له} أي: لعدم الإعادة {هي نفسها} أي: نفس الطّهارة المحرزة {لا إحرازها} ل- {ضرورة أنّ نتيجة قوله: «لأنّك كنت على يقين» الخ، إنّه على الطّهارة} فكأنّه قال: إنّك واجد للشرط الّذي هو الطّهارة، لأنّك أحرزتها باليقين السّابق {لا أنّه مستصحبها} أي: مستصحب الطّهارة، حتّى يكون إحراز الطّهارة شرطاً {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{فإنّه يقال}: إنّ التعليل إنّما هو بلحاظ حال الدخول في الصّلاة، ويريد الإمام(علیه السلام) أن ينبّه على أنّه حال الدخول كان مستصحب الطّهارة فصلاته صحيحة.{نعم} يجب أن يكون التعليل بالإحراز لو لوحظ في التعليل حال العلم بعدم الطّهارة بعد الصّلاة {ولكن التعليل إنّما هو بلحاظ حال قبل انكشاف الحال} أي: قبل تبيّن أنّه لم يكن على طهارة.

وإنّما علّل الإمام لتلك الحالة ولم يعلّل لحالة انكشاف الحال {لنكتة التنبيه على حجيّة الاستصحاب وأنّه كان هناك} في حال الدخول في الصّلاة {استصحاب مع وضوح استلزام ذلك} أي: إنّ من الواضح أنّه يستلزم هذا التنبيه على حجيّة الاستصحاب {لأن يكون المجدي بعد الانكشاف} وأنّه لم يكن على طهر {هو ذاك الاستصحاب، لا الطّهارة} إذ الشّرط في الصّحّة: إمّا الطّهارة الواقعيّة وهي مفقودة، وإمّا استصحاب الطّهارة فمن الضّروري التنبيه على وجود الطّهارة الظاهريّة

ص: 53

وإلّا لما كانت الإعادة نقضاً، كما عرفت في الإشكال.

ثمّ إنّه لا يكاد يصحّ التعليل لو قيل باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء - كما قيل - ؛ ضرورة أنّ العلّة عليه إنّما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصّلاة للإجزاء وعدم إعادتها، لا لزوم النّقض من الإعادة، كما لا يخفى.

اللّهمّ إلّا أن يقال:

___________________________________________

المستصحبة {وإلّا} يكن المجدي الاستصحاب {لما كانت الإعادة نقضاً، كما عرفت في الإشكال}.

هذا {ثمّ إنّه} ربّما قيل بأنّ تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب صحيح من جهة أنّ الاستصحاب أمر ظاهريّ والأمر الظّاهري مقتضٍ للإجزاء، فكأنّالإمام(علیه السلام) قال: لا تعد لوجود الأمر الظاهري، وعلى هذا فالتعليل إنّما هو بلحاظ حال الانكشاف لا بلحاظ حال الدخول في الصّلاة - قبل الانكشاف - .

وأشكل عليه المصنّف(رحمة الله) بأنّه لو كان الأمر كذلك لزم أن يعلّل الإمام(علیه السلام) بأنّ الأمر الظّاهري مقتضٍ للإجزاء، لا أنّ يعلّل بالاستصحاب، فإنّه {لا يكاد يصحّ التعليل} بعدم نقض اليقين بالشكّ {لو قيل باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، كما قيل} بأنّ التعليل بهذا اللحاظ، وإنّما نقول بعدم صحّة هذا الوجه: ل- {ضرورة أنّ العلّة} لعدم الإعادة {عليه} أي: على هذا الوجه {إنّما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصّلاة} بأن صَلِّ لأنّك متطهّر {للإجزاء و} ل- {عدم إعادتها} أي: الصّلاة المأتي بها بذاك الأمر الظاهري، فاللّازم أن يعلّل به {لا} ب- {لزوم النّقض} لليقين {من الإعادة} كما وقع في لفظ الرّواية {كما لا يخفى} على المتدبّر.

{اللّهمّ إلّا أن يقال}: بأنّ هذا التعليل بلحاظ حال الصّلاة، وأنّ العلّة لعدم الإعادة صغرى هي «لا تنقض» وكبرى هي: اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، فكان حقّ الكلام أن يقال: لا إعادة لوجود الأمر الظاهري الاستصحابي، وكلّ أمر

ص: 54

إنّ التعليل به إنّما هو بملاحظة ضميمة اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، بتقريب: أنّ الإعادة - لو قيل بوجوبها - كانت موجبة لنقض اليقين بالشكّ في الطّهارة قبل الانكشاف، وعدم حرمته شرعاً، وإلّا للزم عدم اقتضاء ذاك الأمر له، كما لايخفى، مع اقتضائه شرعاً أو عقلاً،

___________________________________________

ظاهري يقتضي الإجزاء.

ومن المعلوم أنّه لو كان لشيء علّة مركّبة من صغرى وكبرى يصحّ تعليله بأحدهما ويصحّ تعليله بهما معاً، فلو كان زيد عالماً وكان عالم يكرم، يصحّ أن يقال: (أكرم زيداً؛ لأنّه عالم) وأن يقال: (لأنّ كلّ عالم يكرم) وأن يقال: (لأنّه عالم، وكلّ عالم يكرم) فنقول في المقام: {إنّ التعليل} لعدم وجوب الإعادة {به} أي: ب- «لا تنقض» {إنّما هو بملاحظة ضميمة اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء} فليست العلّة «لا تنقض» وحده {بتقريب أنّ الإعادة لو قيل بوجوبها} أي: بوجوب الإعادة {كانت موجبة لنقض اليقين بالشكّ في الطّهارة} «بالشكّ» متعلّق ب- «نقض» و «في الطّهارة» متعلّق ب- «الشّك» {قبل الانكشاف وعدم حرمته} أي: حرمة النّقض {شرعاً، وإلّا} تكن الإعادة موجبة للنقض ومع ذلك وجبت الإعادة {للزم عدم اقتضاء ذاك الأمر} الظاهري {له} أي: للإجزاء، فإنّ الإعادة مستندة إلى أحد أمرين: إمّا جواز نقض اليقين بالشكّ، وإمّا عدم اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، فلو قيل بوجوب الإعادة ولم نقل بجواز النّقض كان السّبب عدم اقتضاء الأمر الظاهري {كما لا يخفى، مع اقتضائه} أي: الأمر الظاهري للإجزاء {شرعاً أو عقلاً}.

وقد ظهر بما ذكرنا أنّ الفرق بين كلام المصنّف(رحمة الله) وبين هذا الوجه أنّ كلام المصنّف مبنيّ على كون الشّرط الفعلي إحراز الطّهارة لا نفس الطّهارة، وقد وجد إحرازها بالاستصحاب. وهذا الوجه مبنيّ على أنّ الشّرط هو الطّهارة

ص: 55

فتأمّل.

ولعلّ ذلك مراد من قال بدلالة الرّواية على إجزاء الأمر الظاهري.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل.

مع أنّه لا يكاد يوجب الإشكالُ فيه، والعجز عن التفصّي عنه إشكالاً في دلالة الرّواية على الاستصحاب؛ فإنّه لازم على كلّ حال،

___________________________________________

الواقعيّة، لكن الطّهارة الظاهريّة مجزية لاقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء.

وقوله: «مع اقتضائه شرعاً أو عقلاً» يشير إلى أنّ المصلحة لو كان الفائت منها - عند الأمر الظاهري - بقدر الإلزام وكان ممكن التدارك كان الإجزاء شرعيّاً؛ لأنّه يحتاج حينئذٍ إلى جعل جديد ودليل آخر، ولو كان الفائت بمقدار غير ملزم أو غير ممكن التدارك كان الإجزاء عقلاً بلا حاجة إلى دليل جديد.

{فتأمّل} لعلّه إشارة إلى ما ذكره المصنّف(رحمة الله) في الحاشية من: «أنّ اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ليس بذلك الوضوح كي يحسن بملاحظته التعليل بلزوم النّقض من الإعادة»(1).

{ولعلّ ذلك} الّذي ذكرنا في وجه التعليل عند قولنا: «اللّهمّ» {مراد من قال بدلالة الرّواية على إجزاء الأمر الظاهري} وإلّا فليس في موضع آخر منها دلالة على ذلك، كما لا يخفى.

{هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل، مع} أنّه لو لم نتمكّن من توجيه التعليل لم يضرّ ذلك بدلالةالرّواية على الاستصحاب الّذي نحن بصدده. ف- {إنّه لا يكاد يوجب الإشكال فيه} أي: في التعليل {و} لا يكاد يوجب {العجز عن التفصّي عنه} أي: عن الإشكال الوارد في التعليل {إشكالاً في دلالة الرّواية على الاستصحاب} «إشكالاً» مفعول «يوجب» {فإنّه} أي: الإشكال {لازم على كلّ حال} سواء

ص: 56


1- حقائق الأصول 2: 420؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 442.

كان مفاده قاعدته، أو قاعدة اليقين، مع بداهة عدم خروجه منهما، فتأمّل جيّداً.

ومنها: صحيحة ثالثة لزرارة: «وإذا لم يدر في ثلاث هو أو أربع، وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أُخرى، ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشكّ، ولا يدخل الشّكّ في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنّه ينقض الشّكّ باليقين، ويتمّ على اليقين فيبني عليه، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات»(1).

___________________________________________

{كان مفاده} أي: مفاد «لا تنقض» {قاعدته} أي: قاعدة الاستصحاب {أو قاعدة اليقين} فلا يمكن أن يقال: إنّ مفاد الرّواية قاعدة اليقين؛ لأنّه لو كان مفادها قاعدة الاستصحاب لزم الإشكال، لما عرفت أنّ الإشكال لازم على التقديرين، فاللّازم حمل الرّواية على ظاهرها الّذي هو الاستصحاب {مع بداهة عدم خروجه} أي: خروج مفاد «لا تنقض» {منهما} أي: من قاعدة اليقين أو الاستصحاب {فتأمّل جيّداً}.

ولا يخفى أنّ في كلام المصنّف(رحمة الله) مواقع للنظر أضربنا عنها لخروجها عن مقصد الشّرح.

[صحيحة زرارة الثّالثة]

{ومنها} أي: من الأخبار الدالّة على الاستصحاب {صحيحة ثالثة لزرارة} أيضاً عن أحدهما‘ قال: قلت له: من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين. قال: «يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه {وإذا لم يدر في ثلاث هو أو أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أُخرى ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشكّ، ولا يدخل الشّكّ في اليقين، ولا يخلط أحدهما} أي: من الشّكّ واليقين {بالآخر، ولكنّه ينقض الشّكّ باليقين ويتمّ على اليقين فيبني عليه، ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات»}.

ص: 57


1- الكافي 3: 351؛ الاستبصار 1: 373.

والاستدلال بها على الاستصحاب مبنيّ على إرادة اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرّابعة سابقاً، والشّكّ في إتيانها.

___________________________________________

ولا يخفى أنّ الحديث محتمل لأمرين:

الأوّل: الاستصحاب، بأن يكون قوله(علیه السلام): «ولا ينقض اليقين بالشكّ» يراد به لا ينقض اليقين بعدم الرّابعة بالشكّ فيها، فإنّه قد علم أنّه صلّى ثلاث ركعات، وكان تيقّن أنّه لم يأت بالرّابعة ثمّ شكّ في إتيانها، فإنّه لو بنى على الإتيان كان ناقضاً لليقين بعدم الإتيان بالشكّ في الإتيان.

الثّاني: أن يكون المراد من قوله(علیه السلام): «ولا ينقض» اليقين بالفراغ، أي: يأتي بكيفيّة يتيقّن بفراغ ذمّته، وذلك بأن يبني على الأربع ثمّ يأتي بركعة مفصولة، كما في كلّ شكّ بين الأقلّ والأكثر، وعلى هذا فالرواية أجنبيّة عن الاستصحاب.

وربّما قيل: بأنّ هذا الاحتمال هو الأقوى؛ لأنّ المراد باليقين لو كان هوالاحتمال الأوّل لزم إتيان الرّكعة المشكوكة موصولة بالصلاة لا مفصولة عنها، فأمر الإمام(علیه السلام) بإتيانها مفصولة يدلّ على أنّ المراد من الرّواية هو الاحتمال الثّاني.

وأُجيب: بأنّ الظاهر من اليقين هو الاستصحاب، وأمّا الإتيان بالركعة مفصولة فهو أمر آخر يقتضيه الاحتياط؛ لأنّه إن كان صلّى أربع لم تضرّه الرّكعة المفصولة، وإن كان صلّى ثلاث لم يضرّه الفصل للرابعة بالتشهّد والسّلام والتكبير؛ لأنّها ذكر ودعاء.

{و} من هذا تبيّن أنّ {الاستدلال بها} أي: بهذه الصّحيحة {على الاستصحاب مبنيّ على إرادة} الإمام من اليقين في قوله: «ولا ينقض اليقين» {اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرّابعة سابقاً} أي: قبل الشّروع في هذه الرّكعة المشكوكة إنّها الثّالثة أو الرّابعة {و} إرادة الإمام من الشّكّ {الشّكّ في إتيانها} حتّى يكون هناك يقين سابق وشكّ لاحق.

ص: 58

وقد أشكل(1)

بعدم إمكان إرادة ذلك على مذهب الخاصّة؛ ضرورة أنّ قضيّته إضافة ركعة أُخرى موصولة، والمذهب قد استقرّ على إضافة ركعة بعد التسليم مفصولة. وعلى هذا يكون المراد باليقين: اليقين بالفراغ، بما علّمه الإمام(علیه السلام) من الاحتياط بالبناء على الأكثر، والإتيان بالمشكوك بعد التسليم مفصولة.

___________________________________________

{وقد أشكل} هذا الاحتمال الأوّل {بعدم إمكان إرادةذلك} من اليقين والشّكّ {على مذهب الخاصّة} الّذين يرون وجوب البناء على الأكثر مطلقاً {ضرورة أنّ قضيّته} أي: مقتضى الاستصحاب بحمل اليقين على اليقين بعدم الرّابعة وحمل الشّكّ بالشكّ فيها {إضافة ركعة أُخرى موصولة} أي: لو أجرينا الاستصحاب كان مقتضاه أن نأتي بركعة أُخرى قبل السّلام {و} الحال أنّ {المذهب قد استقرّ على إضافة ركعة بعد التسليم مفصولة} فلا يمكن أن يراد باليقين والشّكّ ما ذكرتم من الاستصحاب.

{وعلى هذا} لا بدّ من القول بالاحتمال الثّاني الّذي ذكرناه و{يكون المراد باليقين اليقين بالفراغ} عن التكليف الصّلاتي بالإتيان - في حال الشّكّ - {بما علمه الإمام(علیه السلام) من الاحتياط بالبناء على الأكثر} فيبني على أنّه أتى بأربع ركعات {والإتيان بالمشكوك} وهو الرّكعة الرّابعة {بعد التسليم مفصولة} وهذا لا يخالف المذهب، بل هو موافق له، فالمراد من الرّواية أنّ الشّاكّ في الرّكعة الرّابعة لا ينقض اليقين بالفراغ - على نحو ما نذكره من إتيان الرّكعة مفصولة - بالشكّ في الفراغ؛ لأنّه إن أتى بالمشكوكة موصولة احتمل أن تكون ركعات صلاته خمساً، فيكون من صلاته على شكّ، وقد أدخل الشّك وهو الرّابعة المحتملة للخامسة في اليقين وهو الثلاث المتيقّنة.

ص: 59


1- فرائد الأصول 3: 62-63.

ويمكن الذبّ عنه: بأنّ الاحتياط كذلك لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الرّكعة المشكوكة، بل كان أصل الإتيان بها باقتضائه، غاية الأمر إتيانها مفصولةً ينافي إطلاق النّقض، وقد قام الدليل على التقييد في الشّكّ في الرّابعة وغيره، وأنّالمشكوكة لا بدّ أن يؤتى بها مفصولةً، فافهم.

___________________________________________

{و} لكن لا يخفى ما في هذا الاحتمال من التكلّف، بل الظاهر أنّ قوله: «ولا ينقض» علّة لإضافة ركعة أُخرى، أي: لا يكتفي بما أتى ممّا يحتمل أنّه ثلاث ركعات، ويكون قوله: «ولا يدخل» بياناً لكيفيّة العلاج.

والحاصل: أنّ هنا أمرين:

الأوّل: أن لا يكتفي بهذا المقدار الّذي أتى به غير المعلوم أنّه ثلاث أو أربع، وقد بيّنه الإمام ب- «لا ينقض».

الثّاني: أن يكون إتيانه بالباقي مفصولاً لئلّا يكون قد أتى في الواقع بأربع، فيكون عدد الرّكعات خمساً، وقد بيّنه الإمام ب- «لا يدخل».

فتحصّل أنّه {يمكن الذبّ عنه} أي: عن الإشكال {بأنّ الاحتياط كذلك} بإتمام الصّلاة وإتيان ركعة مفصولة {لا يأبى عن إرادة} الإمام من اليقين {اليقين بعدم الرّكعة المشكوكة، بل كان أصل الإتيان بها} أي: بهذه الرّكعة المشكوكة {باقتضائه} أي: باقتضاء «اليقين بالعدم» أي: بالاستصحاب {غاية الأمر إتيانها} أي: تلك الرّكعة {مفصولة ينافي إطلاق النّقض} إذ ظاهر إطلاق «لا ينقض» إتيانها موصولة.

{و} لكن نقول بذلك؛ لأنّه {قد قام الدليل على التقييد} بأن يأتي بها مفصولة {في الشّكّ في الرّابعة وغيره} سواء كان بين الثلاث والأربع أو الاثنتين والأربع أو الاثنتين والثلاث والأربع {وإنّ المشكوكة لا بدّ أن يؤتى بها مفصولة} لا موصولة رعاية للاحتياط {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّالحديث ذو احتمالين فلا يمكن أن يستدلّ به للاستصحاب.

ص: 60

وربّما أشكل أيضاً بأنّه لو سلّم دلالتها على الاستصحاب كانت من الأخبار الخاصّة الدالّة عليه في خصوص المورد، لا العامّة لغير مورد؛ ضرورة ظهور الفقرات في كونها مبنية للفاعل، ومرجع الضّمير فيها هو المصلّي الشّاكّ.

وإلغاء خصوصيّة المورد ليس بذلك الوضوح، وإن كان يؤيّده تطبيق قضيّة «لا تنقض اليقين» - وما يقاربها - على غير مورد.

بل دعوى: «أنّ الظاهر من نفس القضيّة هو أنّ مناط حرمة النّقض إنّما يكون لأجل ما في اليقين والشّكّ،

___________________________________________

{وربّما أشكل} في دلالة هذه الصّحيحة على مطلق الاستصحاب {أيضاً بأنّه لو سلّم دلالتها على الاستصحاب} ولم تناقش فيها بالمناقشة السّابقة {كانت من الأخبار الخاصّة الدالّة عليه} أي: على الاستصحاب {في خصوص المورد} أي: مورد الشّكّ في الرّكعات {لا} الأخبار {العامّة} الشّاملة {لغير مورد} واحد حتّى تعمّ جميع أنواع الاستصحاب، وإنّما كانت خاصّة لا عامّة ل- {ضرورة ظهور الفقرات} أي: قوله: «ينقض»، و«يدخل»، و«يخلط»، و«يتمّ»، و«يبني»، ولا يعتدّ {في كونها مبنيّة للفاعل} لأنّه(علیه السلام) قال في أوّلها: «قام فأضاف» {ومرجع الضّمير فيها} أي: في هذه الفقرات {هو المصلّي الشّاكّ} فالرواية مرتبطة به لا مطلقة.

{و} إن قلت: نلغي خصوصيّة المورد، فإنّ المورد لا يخصّص.قلت: {إلغاء خصوصيّة المورد ليس بذلك الوضوح} الّذي يمكن استظهار العموم منه {وإن كان يؤيّده} أي: يؤيّد إلغاء خصوصيّة المورد حتّى يكون الحديث عامّاً لكلّ استصحاب {تطبيبق قضيّة «لا تنقض اليقين» وما يقاربها} لفظاً في بعض الأحاديث الأُخر {على غير مورد} واحد، بل بعضها في الطّهارة وبعضها مطلقة {بل دعوى: «إنّ الظاهر من نفس القضيّة} أي: قضيّة لا تنقض اليقين بالشكّ {هو أنّ مناط حرمة النّقض إنّما يكون} ذلك المناط {لأجل ما في اليقين والشّكّ} من عدم

ص: 61

لا لما في المورد من الخصوصية، وأنّ مثل اليقين لا ينقض بمثل الشّكّ»، غير بعيدة.

ومنها: قوله: «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه؛ فإنّ الشّكّ لا ينقض اليقين» أو؛ «بأنّ اليقين لا يدفع بالشكّ».

___________________________________________

صلاحيّة الشّكّ لرفع اليقين، و{لا} يكون المناط {لما في المورد} كالركعة المشكوكة في ما نحن فيه {من الخصوصيّة، و} لأجل {أنّ مثل اليقين} المستحكم {لا ينقض بمثل الشّكّ»} الواهي {غير بعيدة} خبر قوله: «بل دعوى» وعلى هذا فالصحيحة تدلّ على الاستصحاب بصورة عامّة.

[رواية محمد بن مسلم]

{ومنها} أي: من الرّوايات الدالّة على الاستصحاب روايتان نقلهماالشّيخ في الرّسائل(1)

عن الخصال بسنده عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: قال أميرالمؤمنين - صلوات اللّه عليه - : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه فإنّ الشّكّ لا ينقض اليقين»(2)،

وفي رواية أُخرى عنه(علیه السلام): «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ»(3)، وقد خلطهما المصنّف(رحمة الله) بقوله: {قوله: «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه، فإنّ الشّكّ لا ينقض اليقين»، أو «بأنّ اليقين لا يدفع بالشكّ»}.

وكيف كان، فمن المحتمل أن يكون مفاد الرّواية قاعدة اليقين، فلو علمنا بأنّ زيداً كان يوم الجمعة عادلاً، ثمّ شككنا في مستند ذلك العلم، يلزم عدم الاعتناء بهذا الشّكّ والبناء على ذلك العلم، ومن المحتمل أن يكون مفادها الاستصحاب، فإن علمنا أنّ زيداً كان عادلاً يوم الجمعة، ثمّ شككنا في بقاء

ص: 62


1- فرائد الأصول 3: 68.
2- الخصال: 619، مع اختلاف يسير؛ وسائل الشيعة 1: 246.
3- الإرشاد 1: 302؛ مستدرك الوسائل 1: 228.

وهو وإن كان يحتمل قاعدة اليقين؛ - لظهوره في اختلاف زمان الوصفين، وإنّما يكون ذلك في القاعدة دون الاستصحاب؛ ضرورة إمكان اتحاد زمانهما - ، إلّا أنّ المتداول في التعبير عن مورده هو مثل هذه العبارة،

___________________________________________

عدالته يوم السّبت، يلزم عدم الاعتناء بهذا الشّكّ والحكم ببقاء عدالته.

والفرق بين القاعدتين - كما تقدّم - أنّ في قاعدة اليقين يختلف زمان نفس الوصفين - أي: اليقين والشّكّ مع اتحاد متعلّقهما، فإنّ المتعلّق في المقام عدالةزيد يوم الجمعة، لكن علمنا بها يوم الجمعة وشككنا فيها يوم السّبت، وإنّ في الاستصحاب يختلف المتعلّق وإن اتحد الزمان، فإنّ متعلّق اليقين عدالة زيد يوم الجمعة ومتعلّق الشّكّ عدالة زيد يوم السّبت. أمّا زمان الشّكّ واليقين فيمكن اقترانهما ويمكن تقدّم كلّ منهما على الآخر.

إذا عرفت هذا قلنا: {وهو} أي: هذا الحديث {وإن كان يحتمل قاعدة اليقين لظهوره في اختلاف زمان الوصفين} أي: الشّكّ واليقين؛ لأنّه قال: «من كان على يقين فشكّ» ممّا ظاهره أنّ زمان الشّكّ بعد زمان اليقين {وإنّما يكون ذلك} الاختلاف في زمان الوصفين {في القاعدة} أي: قاعدة اليقين {دون الاستصحاب} فإنّ الاستصحاب لا يحتاج إلى اختلاف زمان الوصفين، فيمكن تقدّم الشّكّ على اليقين، كما لو شكّ في أنّ زيداً هل هو عادل الآن أم لا، ثمّ تيقّن أنّه كان عادلاً يوم أمس، كما يمكن العكس، ويمكن اتحاد زمانيهما، كما لو تيقّن الآن في عدالة زيد أمس وشكّ في عدالته الآن.

وإلى هذا أشار بقوله: {ضرورة إمكان اتحاد زمانهما} أي: زمان اليقين والشّكّ في باب الاستصحاب، فلا يعبّر عنه بمثل «من كان على يقين فشكّ» ممّا ظاهره تأخّر الشّكّ عن اليقين {إلّا} أنّ الظاهر مع ذلك إرادة الاستصحاب من الرّواية ل- {أنّ المتداول في التعبير عن مورده} أي: مورد الاستصحاب {هو مثل هذه العبارة} ولذا لا يكاد يشكّ أحد في أنّ من يسأل المفتي «إنّي كنت على يقين من طهارتي

ص: 63

ولعلّه بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين، وسرايته إلى الوصفين، لما بين اليقين والمتيقّن من نحو من الاتحاد، فافهم.

هذا مع وضوح أنّ قوله: «فإنّ الشّكّ لا ينقض» الخ، هي القضيّة المرتكزة الواردةمورد الاستصحاب في غير واحد من أخبار الباب.

ومنها: خبر الصّفّار عن عليّ بن محمّد القاساني. قال: كتبتُ إليه - وأنا بالمدينة - عن اليوم الّذي يشكّ فيه من رمضان،

___________________________________________

فشككت» يكون مراده مورد الاستصحاب لا قاعدة اليقين.

{ولعلّه} إنّما عبّر بقوله: «فشكّ» بالفاء {بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين} فإنّ الموصوف بالعدالة زيد يوم الجمعة والموصوف بالشكّ في عدالته زيد يوم السّبت {وسرايته} أي: سراية الاختلاف {إلى الوصفين} فاليقين بالعدالة يوم الجمعة سابق على الشّكّ في العدالة كما هو الغالب، وإنّما يسري اختلاف زمان الموصوفين إلى زمان الوصفين - في باب الاستصحاب - مع أنّه لا ضرورة إلى اختلاف زمان الوصفين {لما بين اليقين} الّذي هو الوصف {والمتيقّن} الّذي هو الموصوف {من نحو من الاتحاد} والوحدة.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ هذا التعليل لا يخرج «الفاء» عن ظاهره الّذي هو ترتّب الزمان بين اليقين والشّكّ الّذي هو معيار قاعدة اليقين.

{هذا} تقريب كون المراد من الرّواية قاعدة الاستصحاب {مع وضوح أنّ قوله: «فإنّ الشّكّ لا ينقض» الخ، هي القضيّة المرتكزة الواردة} في {مورد الاستصحاب في غير واحد من أخبار الباب} وهذا قرينة على إرادته من العبارة لا إرادة القاعدة.

[مكاتبة القاساني]

{ومنها} أي: من الأخبار الدالّة على الاستصحاب {خبر الصّفّار، عن عليّ بن محمّد القاساني قال: كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الّذي يشكّ فيه من رمضان}

ص: 64

هل يُصامُ أم لا؟ فكتب(علیه السلام): «اليقين لا يدخل فيه الشّكّ، صُم للرؤية وافطر للرؤية»(1).

حيث دلّ على أنّ اليقين بشعبان لا يكون مدخولاً بالشكّ في بقائه وزواله بدخول شهر رمضان، ويتفرّع عليه عدم وجوب الصّوم إلّا بدخول شهر رمضان.

وربّما يقال: إنّ مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشّكّ

___________________________________________

وهذا وإن كان محتملاً لكون الشّكّ لاحتمال كونه من شوّال، بأن كان الشّكّ في آخر الشّهر لا أوّله، إلّا أنّ المتبادر هو الأوّل {هل يصام أم لا؟ فكتب(علیه السلام): «اليقين لا يدخل فيه الشّكّ، صُمْ للرّؤية وأَفْطِر للرّؤية»}.

ووجه الاستدلال أنّ الإمام(علیه السلام) بيّن عدم دخول الشّكّ في اليقين بمعنى بقاء اليقين وأنّه لا يرفعه الشّكّ {حيث دلّ على أنّ اليقين بشعبان لا يكون} هذا اليقين {مدخولاً بالشكّ في بقائه و} في {زواله بدخول شهر رمضان} فيستصحب بقاء شهر شعبان حتّى يتيقّن بدخول شهر رمضان.

{ويتفرّع عليه عدم وجوب الصّوم} في يوم الشّكّ {إلّا} إذا علم {بدخول شهر رمضان} فقوله: «اليقين لا يدخل فيهالشّكّ» قاعدة كليّة يتفرّع عليها عدم الصّوم إلّا باليقين.

{وربّما يقال}: بأنّ هذا الخبر لا يدلّ على الاستصحاب، فليس اليقين المذكور في الخبر يراد به اليقين السّابق، بل المراد به اليقين بفريضة الصّوم، أي: فريضة الصّوم المتيقّنة لا يدخلها صوم مشكوك، ف- {إنّ مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشّكّ} كرواية الخزّاز: «شهر رمضان فريضة من فرائض اللّه - تعالى - فلا تؤدوا بالتظنّي»(2)، ورواية إسحاق: «صُمْ للرّؤية وأَفْطِرْ للرؤية، وإيّاك والشّكّ والظنّ»(3)،

ص: 65


1- وسائل الشيعة 10: 255.
2- تهذيب الأحكام 4: 160.
3- تهذيب الأحكام 4: 158؛ الاستبصار 2: 64.

يُشرف على القطع بأنّ المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان، وأنّه لا بدّ في وجوب الصّوم ووجوب الإفطار من اليقين بدخول شهر رمضان وبخروجه، وأين هذا من الاستصحاب؟ فراجع ما عُقِدَ في الوسائل لذلك من الباب تجده شاهداً عليه.

ومنها: قوله(علیه السلام):

___________________________________________

ورواية ابن مسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فَأَفْطِروا، وليس بالرأي، ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية»(1)، إلى غيرها {يشرف على القطع بأنّ المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان وأنّه لا بدّ في وجوب الصّوم} في أوّله {ووجوب الإفطار} في آخره {من اليقين بدخول شهر رمضان و} اليقين {بخروجه، وأين هذا} المعنى {من الاستصحاب؟ فراجع ما عقد في الوسائل لذلك من الباب تجده شاهداً عليه}.لكن قد يقال: بأنّه خلاف ظاهر الحديث، ولا منافاة بين الأمرين، بأن يكون الاستصحاب ومقتضى الدليل الخاصّ عدم الدخول في الصّوم إلّا بالعلم الحاصل من الرّؤية ونحوها، وخصوصاً مثل هذه القضيّة مذكورة في أخبار الوضوء والصّلاة ممّا يكون المرتكز منها الاستصحاب.

[أخبار الحلية والطهارة]

{ومنها} أي: من الأخبار الدالّة على الاستصحاب {قوله(علیه السلام)} أي: قول الصّادق(علیه السلام) في موثّقة عمّار: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك»(2)،

وقوله(علیه السلام) في خبر حمّاد: «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر»(3)،

وقوله(علیه

السلام) في خبر مسعدة: «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه»(4)،

هذه هي نصوص الأخبار، وأمّا ما ذكره

ص: 66


1- تهذيب الأحكام 4: 156.
2- تهذيب الأحكام 1: 285.
3- تهذيب الأحكام 1: 215؛ الكافي 3: 1.
4- تهذيب الأحكام 7: 226.

«كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، وقوله: «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه نجس»، وقوله: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام».

وتقريب دلالة مثل هذه الأخبار على الاستصحاب أن يقال: إنّ الغاية فيها إنّما هو لبيان استمرار ما حكم على الموضوع واقعاً - من الطّهارة والحليّة - ظاهراً، ما لم يعلم بطروّ ضدّه

___________________________________________

المصنّف(رحمة الله) بقوله: {«كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، وقوله: «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه نجس»، وقوله: «كلّ شيء حلال حتّىتعرف أنّه حرام»} فكأنّه نقل بالمعنى، إذ المهمّ بيان مفادها لا خصوصيّة ألفاظها.

ثمّ إنّه قد اختلف في المستفاد من هذه الأخبار، وقد يقال باستفادة ثلاث قواعد منها:

الأُولى: كون كلّ شيء طاهراً وحلالاً واقعاً.

الثّانية: كون كلّ شيء طاهراً وحلالاً ظاهراً، أي: ما شكّ في حليّته وحرمته حلال وما شكّ في طهارته ونجاسته طاهر.

الثّالثة:

الاستصحاب، فكلّ مشكوك حليّته وحرمته وله سابقة الحليّة تستصحب حليّته، وكلّ مشكوك طهارته ونجاسته وله سابقة الطّهارة تستصحب طهارته.

والمصنّف قد اختلف كلامه، ففي بعض كلامه لم يستبعد استفادة الأُمور الثلاثة من الرّواية، لكن هنا استقرب استفادة أمرين فقط الحليّة والطّهارة الواقعيّة واستصحابهما، وأنكر استفادة قاعدتي الطّهارة والحليّة منها.

قال: {وتقريب دلالة مثل هذه الأخبار على الاستصحاب أن يقال: إنّ الغاية فيها} وهي قوله: «حتّى تعلم» و«حتّى تعرف» {إنّما هو لبيان استمرار ما حكم على الموضوع} وهو «كلّ شيء» {واقعاً} أي: حكماً واقعيّاً {من الطّهارة والحليّة} بيان «ما» أي: إنّ الطّهارة والحليّة الواقعيّة مستمرّة {ظاهراً ما لم يعلم بطروّ ضدّه}

ص: 67

أو نقيضه، لا لتحديد الموضوع، كي يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شكّ في طهارته أو حليّته؛ وذلك لظهور المغيّى فيها في بيان الحكم للأشياء بعناوينها، لا بما هي مشكوكة الحكم، كما لا يخفى.

___________________________________________

كالحرمة {أو نقيضه} بأن علم ارتفاع الطّهارة مثلاً، وكأنّه أراد بذلك أنّ الحرمة والحليّة ضدّان؛ لأنّهما أمران وجوديّان لا يمكن اجتماعهما، بخلاف الطّهارة والنّجاسة، فإنّ الطّهارة عند بعض عدم القذارة لا أنّها أمر وجوديّ في قبال القذارة {لا} أن تك--ون الغاية - وه-ي «حتّ-ى تعلم» - {لتحديد الموضوع} حتّى يكون حاصل مفاد هذه الأخبار: كلّ شيء مشكوك طهارته طاهر، وكلّ شيء مشكوك حليّته حلال {كي يكون الحكم بهما} أي: بالطهارة والحليّة {قاعدة مضروبة لما شكّ في طهارته أو} شكّ في {حليّته}.

{وذلك} الّذي قلنا من أنّ الغاية لبيان الاستمرار - فيكون مفادها الاستصحاب - لا لبيان تحديد الموضوع - فيكون مفادها قاعدة الطّهارة والحليّة - {لظهور المغيّى فيها} أي: في هذه الأخبار، والمغيّى هو «حتّى تعلم» {في بيان الحكم للأشياء بعناوينها} الواقعيّة، فقوله: «كلّ شيء - يعني: الحجر والإنسان والشّجر - طاهر» وقوله: «كلّ شيء - يعني الماء والفاكهة والنّبت - حلال» {لا بما هي مشكوكة الحكم} حتّى يكون مفاد الحديثين أنّ كلّ مشكوك الطّهارة طاهر وكلّ مشكوك الحليّة حلال {كما لا يخفى}.

لكن ربّما يقال: بشمول الدليل للقاعدة أيضاً، بتقريب أنّ قوله: «كلّ شيء» له عمومان: عموم أفرادي لكلّ ذات من الذوات، وعموم أحوالي لكلّ حال من الأحوال، ومن المعلوم أنّ من أحوال الشّيء حال الشّكّ، فمعنى «كلّ شيء»: كلّ شيء بعنوانه الأوّلي وكلّ شيء مشكوك، فيثبت بالحديث حليّة الأشياء المشكوكة وطهارتها، فالحديث قد أفاد القاعدة كما أفاد الطّهارة والحليّة الواقعيّتين.

ص: 68

فهو وإن لم يكن له بنفسه مساس بذيلالقاعدة ولا الاستصحاب، إلّا أنّه بغايته دلّ على الاستصحاب؛ حيث إنّها ظاهرة في استمرار ذاك الحكم الواقعي ظاهراً ما لم يعلم بطروّ ضدّه أو نقيضه.

كما أنّه لو صار مُغَيًّى لغاية - مثل الملاقاة للنجاسة أو ما يوجب الحرمة - لدلّ على استمرار ذاك الحكم واقعاً، ولم يكن له حينئذٍ - بنفسه ولا بغايته - دلالة على الاستصحاب.

ولا يخفى: أنّه لا يلزم على ذلك

___________________________________________

وعلى كلّ حال {فهو} أي: الحكم المذكور - وهو الحليّة والطّهارة - {وإن لم يكن له بنفسه} أي: نفس الحكم وهو «كلّ شيء حلال» و «كلّ شيء طاهر» {مساس بذيل القاعدة} أي: بذيل قاعدة الطّهارة وذيل قاعدة الحليّة، وإنّما قال: «بذيل القاعدة» إرادة للطهارة والحليّة، فإنّهما ذيل للقاعدة، فإنّ القاعدة تقول: «كلّ مشكوك حلال» و«طاهر» فالحلال والطّاهر ذيل للقاعدة {ولا} له دلالة على {الاستصحاب إلّا أنّه بغايته} أي: قوله: «حتّى تعلم أنّه حلال» و «حتّى تعرف أنّه قذر» {دلّ على الاستصحاب حيث إنّها} أي: الغاية المقرونة بكلمة «حتّى» {ظاهرة في استمرار ذاك الحكم} بالحليّة والطّهارة {الواقعي ظاهراً} قيد للاستمرار، أي: إنّ ذلك الحكم مستمرّ ظاهراً {ما لم يعلم بطروّ ضدّه} أي: الحرمة {أو نقيضه} أي: النّجاسة.

{كما أنّه} أي: الحكم بالطهارة والحليّة {لو صار مُغَيًّى لغاية - مثل الملاقاة للنجاسة أو ما يوجب الحرمة -} كما لو قال: (كلّ شيء طاهر حتّى يلاقي النّجس) و (كلّ شيء حلال حتّى يعرض له ما يسبّب الحرمة) {لدلّ على استمرار ذاك الحكم} بالطهارة والحليّة {واقعاً ولميكن له حينئذٍ بنفسه ولا بغايته دلالة على الاستصحاب} أمّا بنفسه فواضح، وأمّا بغايته؛ لأنّه لم يجرّ الحكم في زمان الجهل إلى العلم، بل جرّه إلى زمان الملاقاة والانقلاب إلى الحرام.

{ولا يخفى أنّه لا يلزم على ذلك} الّذي ذكرنا من كون صدر الحديث يدلّ على

ص: 69

استعمال اللفظ في معنيين أصلاً، وإنّما يلزم لو جعلت الغاية - مع كونها من حدود الموضوع وقيوده - غاية لاستمرار حكمه، ليدلّ على القاعدة والاستصحاب، من غير تعرّض لبيان الحكم الواقعي للأشياء أصلاً، مع وضوح ظهور مثل: «كلّ شيء حلال» أو «طاهر»، في أنّه لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأوّليّة،

___________________________________________

الحكم الواقعي وذيله على الاستصحاب {استعمال اللفظ في معنيين أصلاً} خلافاً لما لو أُريد القاعدة والاستصحاب، كما قال الشّيخ(رحمة الله) بما لفظه: «نعم، إرادة القاعدة والاستصحاب معاً يوجب استعمال اللفظ في معنيين - أي: القاعدة والاستصحاب - لما عرفت من أنّ المقصود في القاعدة مجرّد إثبات الطّهارة في المشكوك، وفي الاستصحاب خصوص إبقائها في معلوم الطّهارة سابقاً، والجامع بينهما غير موجود، فيلزم ما ذكرناه»(1)،

انتهى.

{وإنّما يلزم} استعمال اللفظ في معنيين {لو جعلت الغاية} وهو «حتّى تعلم» {مع كونها من حدود الموضوع وقيوده غاية لاستمرار حكمه} حتّى يكون المعنى: كلّ شيء مشكوك الطّهارة طاهر وكلّ شيء مشكوك الحليّة حلال،ثمّ إنّ هذه الطّهارة والحليّة مستمرّتان إلى زمان العلم {ليدلّ} الحديث {على القاعدة} أي: قاعدة الطّهارة وقاعدة الحلّ {والاستصحاب} معاً.

وإنّما يلزم استعمال اللفظ في معنيين؛ لأنّ الغاية استعملت في كونها قيداً للموضوع - لتتمّ القاعدة - وفي كونها دالّة على الاستمرار للقاعدتين إلى زمان العلم - ليتمّ الاستصحاب - فيكون الحديث دالّاً عليهما {من غير تعرّض لبيان الحكم الواقعي للأشياء أصلاً} وأنّ كلّ شيء حلال واقعاً وكلّ شيء طاهر واقعاً؛ لأنّه كان بصدد بيان حكم مشكوك الطّهارة ومشكوك الحليّة {مع وضوح} أنّ ذلك باطل، ل- {ظهور مثل: «كلّ شيء حلال» أو «طاهر» في أنّه لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأوليّة}

ص: 70


1- فرائد الأصول 3: 74.

وهكذا: «الماء كلّه طاهر»، وظهور الغاية في كونها حدّاً للحكم لا لموضوعه، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً.

ولا يذهب عليك: أنّه بضميمة عدم القول بالفصل - قطعاً - بين الحلّيّة والطّهارة وبين سائر الأحكام، لعمّ الدليل وتمّ.

ثمّ لا يخفى: أنّ ذيل موثّقة عمّار: «فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك»(1)

يؤيّد ما استظهرنا منها، من كون

___________________________________________

لا بعنوان كونها مشكوكة {وهكذا «الماء كلّه طاهر»} فإنّه ظاهر في كونه حكم الماء بما هو ماء، لا أنّه حكم بما هو مشكوك الطّهارة والنّجاسة.

{و} كذا ل- {ظهور الغاية} وهو «حتّى تعلم» {في كونها حدّاً للحكم} وأنّ هذا الحكم الّذي هو الطّهارة أو الحليّة مستمرّ إلىزمان العلم {لا لموضوعه} حتّى يكون المعنى كلّ شيء مجهول الحكم {كما لا يخفى} فإنّ القيد قد ذكر بعد الحكم لا بعد الموضوع، والظاهر كونه قيداً لما وليه لا لما تقدّم عليه - أي: الموضوع - {فتأمّل جيّداً}.

هذا كلّه تمام وجه دلالة الخبرين «كلّ شيء حلال» و «كلّ شيء طاهر» على الاستصحاب في هذين الموردين، أي: موردي الطّهارة والحليّة.

{ولا يذهب عليك أنّه بضميمة عدم القول بالفصل - قطعاً -} قيد للعدم {بين الحليّة والطّهارة وبين سائر الأحكام} التكليفيّة والوضعيّة {لعمّ الدليل وتمّ} فإنّه لم يقل أحد بأنّ الاستصحاب حجّة في هذين الحكمين دون سائر الأحكام، فإذا ثبتت الحجيّة فيهما بالدليل ثبتت في سائر الأحكام، لكن لقائل أن يقول: إنّ عدم القول بالفصل لا يفيد وإنّما المفيد هو القول بعدم الفصل.

{ثمّ لا يخفى أنّ ذيل موثّقة عمّار} وهو قوله(علیه السلام): {«فإذا علمت فقد قَذِرَ وما لم تعلم فليس عليك» يؤيّد ما استظهرنا منها} أي: من الموثّقة {من كون} صدرها

ص: 71


1- وسائل الشيعة 3: 467.

الحكم المغيّى واقعيّاً ثابتاً للشيء بعنوانه، لا ظاهريّاً ثابتاً له بما هو مشتبه؛ لظهوره في أنّه متفرّع على الغاية وحدها - وأنّه بيان لها وحدها منطوقها ومفهومها - ، لا لها مع المغيّى، كما لا يخفى على المتأمّل.

ثمّ إنّك إذا حقّقت ما تلونا عليك

___________________________________________

وهو قوله: «كلّ شيء طاهر» بيان لحكم الأشياء بما هي هي لا بما هي مشكوكةحتّى تكون قاعدة الطّهارة، فكون {الحكم المغيّى} أي: كلّ شيء طاهر {واقعيّاً ثابتاً للشيء بعنوانه} أي: إنّه ثابت واقعيّاً بعنوان نفسه {لا ظاهريّاً ثابتاً له بما هو مشتبه} ومشكوك فيه الّذي هو يظهر من الذيل {لظهوره في أنّه متفرّع على الغاية وحدها} وأنّ الغاية هي الّتي أفادت هذين الحكمين {وأنّه} أي: الذيل {بيان لها} أي: للغاية {وحدها} بلا مشاركة المغيّى في إفادته، بل الذيل مجمل من الغاية {منطوقها ومفهومها} إذ قد عرفت أنّ الذيل قد تضمّن حكمين: أحدهما مثبت، وهو قوله: «فإذا علمت فقد قذر»، والآخر منفيّ، وهو قوله: «وما لم تعلم فليس عليك».

وظاهر هذا التفريع كونه تفريعاً على الغاية الّتي هي «حتّى تعلم» فيدلّ ذلك على أنّ الغاية تضمّنت حكمين أيضاً:

أحدهما: مفاد الاستصحاب، الّذي هو استمرار الحكم المثبت في الصّدر.

وثانيهما: انتهاء الاستمرار بالعلم، فيتفرّع على الأوّل الحكم المنفي في الذيل، وعلى الثّاني الحكم المثبت.

ومن هذا يتبيّن أنّ صدر الحديث - وه-و قول-ه: «كلّ شيء طاهر» - حكم واقعيّ للأشياء بما لها من العناوين، لا أنّه ضرب للقاعدة لدى الشّكّ، فإنّ التفريع بيان للغاية وحدها {لا لها مع المغيّى، كما لا يخفى على المتأمّل} حتّى يقال بأنّ المنفي - وهو: ما لم تعلم فليس عليك - بيان للمغيّى.

{ثمّ إنّك إذا حقّقت ما تلونا عليك} من حجيّة الاستصحاب مطلقاً

ص: 72

ممّا هو مفاد الأخبار، فلا حاجة في إطالة الكلام في بيان سائر الأقوال،والنّقض والإبرام في ما ذكر لها من الاستدلال.

ولا بأس بصرفه إلى تحقيق حال الوضع: وأنّه حكم مستقلّ بالجعل - كالتكليف - ، أو منتزع عنه وتابع له في الجعل، أو فيه تفصيل؟ حتّى يظهر حال ما ذكر هاهنا بين التكليف والوضع من التفصيل.

فنقول - وباللّه الاستعانة - :

___________________________________________

{ممّا هو مفاد الأخبار، فلا حاجة في إطالة الكلام في بيان سائر الأقوال} النّافية والمفصّلة {والنّقض والإبرام في ما ذكر لها من الاستدلال}.

[الأحكام الوضعية]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، فصل في الاستصحاب، الأحكام الوضعية

{ولا بأس بصرفه} أي: صرف الكلام {إلى تحقيق حال الوضع} أي: الأحكام الوضعيّة، كالطهارة والملكيّة والزوجيّة من الأحكام الشّرعيّة غير التكليفيّة الخمسة، وهي الواجب والحرام والمكروه والمستحبّ والمباح، فإنّ كلّ حكم ممّا عدا هذه ممّا له ارتباط بالشرع يسمّى حكماً وضعيّاً {وأنّه} أي: الوضع {حكم مستقلّ بالجعل كالتكليف} الّذي لا شكّ أنّه مستقلّ وأنّه لم ينتزع من شيء آخر {أو} أنّ الحكم الوضعي ليس حكماً مستقلّاً في قبال التكليف، بل هو {منتزع عنه} أي: عن التكليف {وتابع له في الجعل أو فيه تفصيل} فبعضه منتزع وبعضه مستقلّ؟ فإنّه لا بأس بصرف عنان الكلام إلى هذا {حتّى يظهر حال ما ذكر هاهنا بين التكليف والوضع من التفصيل} بيان لقوله: «ما ذكر».{فنقول وباللّه الاستعانة}: إنّ الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في بعض الأشياء المرتبطة بالوضع غير المهمّة.

الثّاني: في كونه مجعولاً أم لا؟ وهذا هو المهمّ في المبحث، فنقول:

ص: 73

لا خلاف - كما لا إشكال - في اختلاف التكليف والوضع مفهوماً، واختلافهما في الجملة مورداً؛ لبداهة ما بين مفهوم السّببيّة أو الشّرطيّة، ومفهوم مثل الإيجاب أو الاستحباب من المخالفة والمباينة.

كما لا ينبغي النّزاع في صحّة تقسيم الحكم الشّرعي إلى التكليفي والوضعي؛ بداهة أنّ الحكم وإن لم يصحّ تقسيمه إليهما ببعض معانيه، ولم يكد يصحّ إطلاقه على الوضع، إلّا أنّ صحّة تقسيمه بالبعض الآخر

___________________________________________

{لا خلاف كما لا إشكال في اختلاف التكليف والوضع مفهوماً} فإنّ لكلّ منهما مفهوماً غير مفهوم الآخر، فمفهوم التكليف الأحكام الخمسة، ومفهوم الوضع ما عداها ممّا يرتبط بالشرع {واختلافهما في الجملة مورداً} فمثلاً نقول: (اليد نجسة) و(الإنسان واجب عليه الحجّ) فمورد النّجاسة اليد، ومورد وجوب الحجّ الإنسان، أو نقول: (القلم ملكي) و(شرب الخمر حرام) فالقلم مورد الملكيّة، وفعل الإنسان مورد الحرمة.

وإنّما قلنا بهذين الاختلافين بين التكليف والوضع {لبداهة ما بين مفهوم السّببيّة} كقولنا: (القتل سبب الدية) {أو الشّرطيّة} كقولنا: (الوضوء شرط الصّلاة) {ومفهوم مثل الإيجاب أو الاستحباب} نحو (الصلاة واجبة) و (صوم شهر رجب مستحبّ) {منالمخالفة والمباينة} بيان «ما»، إذ لكلّ من هذين مفهوم خاصّ، بخلاف مثل مفهوم الإيجاب في (الصّلاة واجبة، والصّيام واجب) فإنّه مفهوم واحد.

{كما لا ينبغي النّزاع في صحّة تقسيم الحكم الشّرعي إلى التكليفي والوضعي} فيقال: الحكم الشّرعي إمّا تكليفيّ وإمّا وضعيّ {بداهة أنّ الحكم وإن لم يصحّ تقسيمه إليهما} أي: إلى التكليفي والوضعي {ببعض معانيه، و} ذلك مثل قولهم: هو المجعول اقتضائيّاً أو تخييريّاً، فإنّه {لم يكد يصحّ إطلاقه على الوضع} إذ ليس في الوضع اقتضاء أو تخيير {إلّا أنّ صحّة تقسيمه بالبعض الآخر} أي: ببعض المعاني

ص: 74

إليهما، وصحّة إطلاقه عليه بهذا المعنى، ممّا لا يكاد ينكر، كما لا يخفى. ويشهد به كثرة إطلاق الحكم عليه في كلماتهم، والالتزام بالتجوّز فيه كما ترى.

وكذا لا وقع للنزاع في أنّه محصور في أُمور مخصوصة - كالشرطيّة والسّببيّة والمانعيّة، كما هو المحكي عن العلّامة(1)، أو مع زيادة العلّيّة والعلاميّة،

___________________________________________

الأُخر {إليهما} أي: إلى التكليف والوضع كقولهم: ما أتى به الشّارع، أو ما يؤخذ من الشّارع بما هو شارع، أو المحمولات الشّرعيّة، أو خطاب اللّه المتعلّق بفعل المكلّف {وصحّة إطلاقه} أي: الحكم {عليه} أي: على الوضع{بهذا المعنى ممّا لا يكاد ينكر، كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{ويشهد به} أي: بأنّه يصحّ تقسيم الحكم إليهما {كثرة إطلاق الحكم عليه} أي: على الوضع {في كلماتهم} وكلّما صحّ الإطلاق صحّ التقسيم، ألا ترى أنّ الإنسان لا يطلق على الحجر فلا يصحّ تقسيمه إليه وإلى غيره، لكنّه حيث يطلق على الأحمر يصحّ تقسيمه إلى الأحمر والأبيض {والالتزام بالتجوّز فيه} أي: في هذه الإطلاق {كما ترى} فإنّه بالإضافة إلى أنّه لا وجه له لا داعي إليه.

{وكذا لا وقع للنزاع في أنّه} أي: الحكم الوضعي {محصور في أُمور مخصوصة كالشرطيّة والسّببيّة والمانعيّة} وهو ما يلزم من وجوده العدم كالضحك المانع عن الصّلاة {كما هو المحكي عن العلّامة} وغيره {أو مع زيادة العلّيّة} ككون القتل علّة للدية، ويحتمل أن يكون الفرق بينها وبين السّببيّة: أنّ العلّة ما هو بالاختيار والسّبب ما ليس بالاختيار، كدخول الوقت لوجوب الصّلاة، وإلّا فلا وجه للفرق، كما لا يخفى {والعلامية} أي: كون شيء علامة لشيء، ككون انقضاء العدّة علامة لبراءة الرّحم، وهذه الزيادة محكية عن الشّهيد(رحمة الله)(2)

ص: 75


1- تهذيب الوصول إلى علم الأصول: 50.
2- تمهيد القواعد: 37.

أو مع زيادة الصّحّة والبطلان، والعزيمة والرّخصة، أو زيادة غير ذلك، كما هو المحكي عن غيره(1)

- أو ليس بمحصور، بل كلّ ما ليس بتكليف ممّا له دخل فيه، أو في متعلّقه وموضوعه، أو لميكن له دخل ممّا أُطلق عليه الحكم في كلماتهم؛ ضرورة أنّة لا وجه للتخصيص بها بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها،

___________________________________________

{أو مع زيادة الصّحّة والبطلان والعزيمة والرّخصة} فالصّلاة في السّاتر النّجس باطلة وفي السّاتر الطّاهر صحيحة، والقصر عزيمة في غير الأماكن الأربعة وفيها رخصة، وهذه الزيادة محكية عن الآمدي {أو زيادة غير ذلك} كزيادة التقدير، أي: فرض شيء مكان شيء نحو تنزيل المقتول منزلة الحيّ في كونه مالكاً للدية، وزيادة الحجج وهي الّتي يستند إليها القضاة من بيّنة ويمين ونحوهما {كما هو المحكي عن غيره} وهو صلاح الدّين(2)

{أو} أنّ الحكم الوضعي {ليس بمحصور} في هذه الأشياء {بل كلّ ما ليس بتكليف} وهو الخمس فقط {ممّا له دخل فيه} كالزوجيّة الّتي لها دخل في جواز النّظر ووجوب النّفقة {أو في متعلّقه} أي: في متعلّق التّكليف كالجزئيّة للمأمور به، فإنّ المأمور به متعلّق التكليف والجزئيّة دخيل فيه {وموضوعه} عطف بيان ل-«متعلّقه» {أو لم يكن له دخل} في التكليف أصلاً - ومثّلوا له بالوكالة(3) - لكن الأُولى المثال بنجاسة خارجة عن محلّ الابتلاء إطلاقاً أو نحوها، إذ الوكالة موجبة لإباحة التصرّف في متعلّق الوكالة، كما لا يخفى {ممّا أُطلق عليه الحكم في كلماتهم}.

وإنّما قلنا بأنّه غير محصور ل- {ضرورة أنّه لا وجهللتخصيص بها} أي: بالمذكورات {بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها} أي: غير المذكورات

ص: 76


1- الإحكام في أصول الأحكام 1: 137.
2- راجع شرح كفاية الأصول 2: 239؛ حقائق الأصول 2: 433.
3- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 472.

مع أنّه لا تكاد تظهر ثمرة مهمّة علميّة أو عمليّة للنزاع في ذلك.

وإنّما المهمّ في النّزاع هو: أنّ الوضع كالتكليف في أنّه مجعول تشريعاً، بحيث يصحّ انتزاعه بمجرّد إنشائه أو غير مجعول كذلك، بل إنّما هو منتزع عن التكليف، ومجعول بتبعه وبجعله؟

والتحقيق: أنّ ما عدّ من الوضع على أنحاء:

منها: ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعاً أصلاً، لا استقلالاً ولا تبعاً، وإن كان

___________________________________________

{مع أنّه لا تكاد تظهر ثمرة مهمّة علميّة أو عمليّة للنزاع في ذلك} وأنّه محصور أو غير محصور {وإنّما المهمّ في النّزاع هو أنّ الوضع كالتكليف في أنّه مجعول تشريعاً بحيث يصحّ انتزاعه بمجرّد إنشائه} فلو قال: (هذا ملك) أو (هذه زوجة) صحّ انتزاع الملكيّة أو الزوجيّة من مجرّد هذا الجعل {أو غير مجعول كذلك} تشريعاً {بل إنّما هو} أي: الوضع {منتزع عن التكليف} فلو أباح التصرّف أو الوطي انتزع الملك والزوجيّة {ومجعول بتبعه وبجعله} أي: بتبع التكليف حتّى أنّه لو لم يكن هناك تكليف لم يصحّ جعل الوضع إطلاقاً؟

{والتحقيق} لدى المصنّف(رحمة الله) {أنّ ما عدّ من الوضع على أنحاء} ثلاثة:الأوّل: ما يستحيل جعله مطلقاً لا استقلالاً ولا تبعاً.

الثّاني: ما يستحيل جعله استقلالاً.

الثّالث: ما يمكن جعله مطلقاً استقلالاً وتبعاً.

ف- {منها} وهو القسم الأوّل {ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعاً أصلاً} أي: إطلاقاً {لا استقلالاً} بأن يجعله الشّارع ابتداءً {ولا تبعاً} بأن يجعل شيئاً آخر، فينجعل هذا بتبع ذاك، كما يقال: (إنّ الزوجيّة مجعولة تكويناً تبعاً) بمعنى: أنّ المكوّن يوجد الأربعة فتوجد الزوجيّة بتبعها {وإن كان} هذا القسم من الوضع

ص: 77

مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك.

ومنها: ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل التشريعي إلّا تبعاً للتكليف.

ومنها: ما يمكن فيه الجعل استقلالاً - بإنشائه - وتبعاً للتكليف - بكونه منشأ لانتزاعه - ،

___________________________________________

وهو ما لا تناله يد التشريع إطلاقاً {مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك} أي: تكويناً.

فمثلاً: كون الدّلوك سبباً لوجوب الصّلاة ليس بجعل تشريعيّ استقلاليّ ولا تبعي، وإنّما هو لأنّ الشّارع كوّن وأوجد فيه خصوصيّة سبّبت تلك الخصوصيّة المجعولة فيه تكويناً أن يكون له سببيّة لوجوب الصّلاة، فهو مجعول تكويني عرضيّ تبعاً لجعل موضوعه.

{ومنها} وهو القسم الثّاني {ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل التشريعي إلّا تبعاً للتكليف} فهي غير قابلة للجعل الاستقلالي التشريعي، وإنّما يجعل تشريعاً منشأ انتزاعهفينتزع منه هذا الحكم الوضعي تبعاً.

فمثلاً: كون السّورة جزءاً للصلاة ليس قابلاً للجعل التشريعي ابتداءً، وإنّما يكون توجّه الأمر التشريعي إلى هذا المركّب، من السّورة وغيرها، بجعل الوجوب على الصّلاة سبباً لانتزاع الجعل للسورة جزءاً - أي: جعل الجزئيّة للسورة إنّما هو بالتبع لا بالاستقلال - فلولا الأمر بالصلاة لم يكن جعل لجزئيّة السّورة.

{ومنها} وهو القسم الثّالث {ما يمكن فيه الجعل استقلالاً بإنشائه} بأن ينشأ هو بذاته {و} يمكن فيه الجعل {تبعاً للتكليف} وذلك {بكونه} أي: التكليف {منشأً لانتزاعه} كالزوجيّة الّتي يصحّ جعلها ابتداءً بأن يحكم الشّارع بأنّ هذه زوجة ذاك، كما يمكن جعلها تبعاً بأن يبيح النّظر والوطي ويوجب النّفقة والإرث

ص: 78

وإن كان الصّحيح انتزاعه من إنشائه وجعله، وكون التكليف من آثاره وأحكامه، على ما تأتي الإشارة إليه.

أمّا النّحو الأوّل: فهو كالسببيّة والشّرطيّة والمانعيّة والرّافعيّة لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه؛

حيث إنّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخّر عنها ذاتاً

___________________________________________

والإطاعة، فينتزع منها الزوجيّة {وإن كان الصّحيح} في هذا القسم {انتزاعه من إنشائه} استقلالاً، فقد أنشأ الشّارع الزوجيّة ابتداءً {و} من {جعله} استقلالاً {وكون التكليف من آثاره وأحكامه} «وكون» عطف على «انتزاعه»، فهو بمنزلة خبر«إن كان»، أي: أنّ الصّحيح أنّ التكليف بجواز النّظر ووجوب النّفقة وغيرهما إنّما هو من آثار جعل الزوجيّة استقلالاً {على ما يأتي الإشارة إليه} إن شاء اللّه - تعالى - .

إذا عرفت إجمال الأقسام فنقول في تفصيلها: {أمّا النّحو الأوّل} وهو ما لا يتطرّق إليه الجعل إطلاقاً {فهو كالسببيّة} للدلوك {والشّرطيّة} كالعقل الّذي هو شرط للتكليف {والمانعيّة} كالحيض مثلاً {والرّافعيّة} للنسيان في ما يرفع به التكليف {لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه} كالأمثلة المتقدّمة.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) استدلّ لعدم كونها مجعولة تبعاً، ولعدم كونها مجعولة استقلالاً: أمّا عدم كونها مجعولة تبعاً {حيث إنّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين} الأربعة {لها} أي: لهذه الأُمور، أي: لا ينتزع الشّرطيّة للشرط والرّافعيّة للرافع وهكذا {من التكليف المتأخّر عنها ذاتاً} فإنّه لو قيل - مثلاً - بأنّ سببيّة الدلوك لوجوب الصّلاة منتزعة عن وجوب الصّلاة لزم تأخّر السّبب عن المسبّب، وذلك محال فالانتزاع محال.

والدليل على الملازمة: أنّه لو كان وصف السّببيّة منتزعاً من المسبّب كان

ص: 79

- حدوثاً وارتفاعاً - ، كما أنّ اتصافها بها ليس إلّا لأجل

___________________________________________

متأخّراً عنه، إذ يلزم تقدّم منشأ الانتزاع على وصف الانتزاع، فيلزم تأخّر ذات السّبب بوصف كونه سبباً عن المسبّب، وهو محال لفرض كونه السّبب فيلزم تقدّمه. وقوله: {حدوثاً وارتفاعاً} تمييزان لقوله: «المتأخّر».قال المشكيني: «الأوّل: أي: قوله: حدوثاً - في الشّرطيّة والسّببيّة والمانعيّة: أمّا الأوّلان فواضح لتأخّر التكليف عنهما ممّا تقدّم، وأمّا الأخير فلأنّ المانعيّة متقدّمة على عدم التكليف، فتكون متقدّمة على نفس التكليف - أيضاً - حفظاً لاتحاد مرتبة النّقيضين، فيكون التكليف متأخّراً عن المانعيّة. والثّاني: أي: قوله: ارتفاعاً - في الرّافعيّة؛ لأنّها متقدّمة على عدم التكليف بقاءً، فتكون متقدّمة على بقائه، لما تقدّم، فيكون التكليف في البقاء متأخّراً عن الرّافعيّة»(1)، انتهى.

هذا دليل لعدم كون هذه الأربعة مجعولة تبعاً، وأمّا الدليل على عدم كونها مجعولة استقلالاً فقد استدلّ له بقوله: {كما أنّ اتّصافها} أي: السّبب والشّرط والمانع والرّافع {بها} أي: بالسّببيّة والشّرطيّة والمانعيّة والرّافعيّة {ليس إلّا لأجل} أنّ في هذه الذوات خصوصيّة تلك الخصوصيّة تسبّب هذه الآثار وتلك الخصوصيّة تكوينيّة لا جعليّة تشريعيّة: أمّا أنّ في هذه الذوات خصوصيّة؛ فلأنّه إن لم تكن بها خصوصيّة لم يكن جعل الدلوك سبباً للوجوب أولى من جعل الضّحى سبباً ولم يكن جعل العقل شرطاً أولى من جعل السّنّ الكذائي - مثلاً - .

وهذا هو الّذي بيّنه أهل المعقول من أنّه يجب أن يكون بين الفاعل بالجبر وبين المعلول سنخيّة وإلّا لصدر كلّ شيء من كلّ شيء، فلو لم يكن بين النّار وبين الإحراق سنخيّة لزم أن يصدر الإحراق عن الثلج أيضاً، كما يجب أن يصدر الإبراد عن النّار أيضاً، وهذه السّنخيّة هي المعبّر عنها بخصوصيّة في الفاعل

ص: 80


1- راجع كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 474.

ما عليها من الخصوصيّة المستدعية لذلك تكويناً؛ للزوم أن يكون في العلّة بأجزائها

___________________________________________

تقتضي صدور المعلول عنه.

وإنّما قيّدنا ذلك بالفاعل بالجبر؛ لأنّ الفاعل بالاختيار لا يحتاج إلى السّنخيّة، إذ الصّدور إنّما يكون بالإرادة والإرادة تتعلّق بكلّ شيء ممكن. وبناءً على هذه القاعدة يجب أن يكون في الدلوك والعقل والحيض والخطأ خصوصيّة بتلك الخصوصيّة استوجبت هذه الأُمور لأن تكون سبباً وشرطاً ومانعاً ورافعاً، وإلّا فلو لم تكن خصوصيّة وكان بصرف ذواتها كان اللّازم إمكان أن يكون الحيض شرطاً والعقل مانعاً، كما لا يخفى.

وأمّا أنّ تلك الخصوصيّة الكامنة في هذه الذوات الّتي سبّبت هذه الآثار لهذه الذوات تكوينيّة لا جعليّة؛ فلأنّ الجعل التشريعي لا يعطي الفاقد ما يتمكّن به من التأثير، فلو لم يكن في الدلوك ما يسبّب كونه سبباً لا يمكن أن يتحصّل عليه بمجرّد الإنشاء. ألا ترى أنّ الماء الفاقد ذاتاً لخصوصيّة الإحراق لا يمكن إعطاء هذه الخصوصيّة له بمجرّد الإنشاء التشريعي، بأن يقول المولى: (جعلت الماء محرقاً)، وعلى هذا فالخصوصيّة الموجودة في السّبب والشّرط والمانع والرّافع ممّا أهّلها لهذه التأثيرات التكوينيّة ليست قابلة للجعل استقلالاً، فاتصاف الذوات بهذه الخصوصيّات إنّما هو لأجل {ما عليها} هذه الذوات {من الخصوصيّة المستدعية} تلك الخصوصيّة {لذلك} أي: لهذا النّحو من التأثير {تكويناً} كخصوصيّة النّار للإحراق تكويناً.

وإنّما قلنا بأنّ الخصوصيّة لا تنالها يد التشريع {للزوم أن يكون في العلّة} سواء كان علّة الإيجاب كالسبب والشّرط أم علّة السّلب كالمانع والرّافع {بأجزائها} أي: بأجزاء العلّة من المعدّ والمانع والشّرط ونحوها، أو بأجزاء العلّة

ص: 81

ربط خاصّ، به كانت مؤثّراً في معلولها،لا في غيره، ولا غيرها فيه، وإلّا لزم أن يكون كلّ شيء مؤثّراً في كلّ شيء.

وتلك الخصوصيّة لا تكاد توجد فيها بمجرّد إنشاء مفاهيم العناوين، وبمثل قول: (دلوك الشّمس سبب لوجوب الصّلاة)، إنشاءً لا إخباراً؛ ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السّببيّة له، من كونه واجداً لخصوصيّة مقتضية لوجوبها، أو فاقاً لها،

___________________________________________

إذا كانت ذات أجزاء كالمعاجين المركّبة المؤثّرة لبعض الآثار {ربط خاصّ به} أي: بسبب ذلك الرّبط الخاصّ {كانت} العلّة {مؤثّراً في معلولها} والأحسن أن يقول: «مؤثّرة» {لا في غيره} أي: في غير المعلول - كالتبريد - فالنار فيها خصوصيّة بها تؤثّر في الإحراق {ولا غيرها} أي: غير العلّة - كالماء مثلاً - {فيه} أي: في هذا المعلول {وإلّا} فلو لم يلزم ربط خاصّ بين العلّة والمعلول {لزم أن يكون كلّ شيء مؤثّراً في كلّ شيء} إذ لا وجه لاختصاص بعض المؤثّرات ببعض الآثار، فيؤثّر الماء والنّار في كلّ واحد من الإحراق والتبريد ويؤثّر النّور في الإضاءة والإظلام وهكذا.

{وتلك الخصوصيّة} الرّابطة بين العلّة والمعلول {لا تكاد توجد فيها} أي: في العلّة {بمجرّد إنشاء مفاهيم العناوين وبمثل قول: (دلوك الشّمس سبب لوجوب الصّلاة} والعقل شرط لوجوبها، والحيض مانع) وهكذا إذا كان مجرّد هذا القول {إنشاءً لا إخباراً} بأن لا يكون مثل: (النّار محرقة)، فإنّه إخبار صحيح؛ لأنّه إعلام عن وجود الخصوصيّة، أمّا الإنشاء فلا يوجب أن يكون ذلك الشّيء واجداً للخصوصيّة إذا كان فاقداً لها تكويناً{ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السّببيّة له} أي: للدلوك، وبيّن قوله: «ما هو عليه» بقوله: {من كونه} أي: الدلوك {واجداً لخصوصيّة مقتضية لوجوبها} أي: وجوب الصّلاة {أو فاقداً لها}

ص: 82

وأنّ الصّلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها، ومعه تكون واجبة لا محالة، وإن لم ينشئ السّببيّة للدلوك أصلاً.

ومنه انقدح أيضاً: عدم صحّة انتزاع السّببيّة له حقيقة من إيجاب الصّلاة عنده؛ لعدم اتصافه بها بذلك ضرورة.

نعم، لا بأس باتصافه بها عناية،

___________________________________________

أي: لتلك الخصوصيّة {وأنّ الصّلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما} أي: خصوصيّة في الدلوك {يدعو إلى وجوبها} أي: وجوب الصّلاة {ومعه} أي: مع وجود «ما يدعو» أي: تلك الخصوصيّة في الدلوك {تكون} الصّلاة {واجبة لا محالة} عند دلوك الشّمس {وإن لم ينشئ السّببيّة للدلوك أصلاً} فهو بعينه كالنار والإحراق، فإن كانت الخصوصيّة تسبّب الإحراق أحرقت ولو لم ينشئ المشرع الإحراق لها، بأن لم يقل: النّار تحرق، وإن لم تكن فيها تلك الخصوصيّة لم تحرق وإن أنشأ المشرع لها بأن قال: (النّار تحرق) - كما لو أنشأ الإحراق للثلج - .

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من أنّ الإنشاء لفاقد الخصوصيّة لا يفيد {انقدح أيضاً} أي: كما انقدح عدم صحّة تسميته سبباً {عدم صحّة انتزاع السّببيّة له حقيقةً من إيجابالصّلاة عنده، لعدم اتّصافه} أي: اتّصاف هذا الشّيء الّذي وجبت الصّلاة عنده {بها} أي: بالسببيّه - إذا كان فاقداً للخصوصيّة - {بذلك} أي: بإيجاب الصّلاة عنده {ضرورة} لما عرفت.

{نعم} لو لم يكن للدلوك خصوصيّة توجب إيجاب الصّلاة ثمّ رأينا الشّارع أنشأ إيجاب الصّلاة عنده، بأن قال: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ}(1) {لا بأس باتصافه} أي: ذلك المنشأ عنده - كالدلوك - {بها} أي: بالسببيّة {عناية} ومجازاً

ص: 83


1- سورة الإسراء، الآية: 78.

وإطلاق السّبب عليه مجازاً. كما لا بأس بأن يعبّر عن إنشاء وجوب الصّلاة عند الدلوك - مثلاً - بأنّه سبب لوجوبها، فكنّي به عن الوجوب عنده.

فظهر بذلك: أنّه لا منشأ لانتزاع السّببيّة - وسائر ما لأجزاء العلّة للتكليف - إلّا عمّا هو عليها من الخصوصيّة الموجبة لدخل كلٍّ فيه على نحوٍ غير دخل الآخر، فتدبّر جيّداً.

___________________________________________

لشبهه لفظاً بالسبب الحقيقي {و} يصحّ حينئذٍ {إطلاق السّبب عليه مجازاً، كما لا} يخفى.

فإن قلت: إذا لم تكن السّببيّة قابلة للجعل - كما ذكرتم - فلماذا نرى في بعض الأخبار قوله: (إنّ الشّيء الفلاني سبب للحكم الكذائي، مثلاً) وهل ظاهر هذا الكلام إلّا أنّ السّببيّة مجعولة؟

قلت: كلّا، فإنّه مجاز، إذ لا {بأس بأن يعبّر عن إنشاء وجوب الصّلاة عند الدلوك - مثلاً - بأنّه سبب لوجوبها} أي: الدلوك سبب لوجوب الصّلاة {فكنّي به}أي: بلفظ «السّبب» {عن الوجوب عنده} لأنّه يشبه السّبب، فكما أنّ السّبب يصاحب المسبّب، كذلك الدلوك يصاحب الوجوب {فظهر بذلك} كلّه {أنّه لا منشأ لانتزاع السّببيّة و} انتزاع {سائر ما لأجزاء العلّة للتكليف} كالشرطيّة وعدم المانع وعدم الرّافع، أي: لا تنتزع هذه الصّفات {إلّا عمّا هو عليها من الخصوصيّة} أي: إلّا عن أشياء فيها خصوصيّات تؤهِّلها لكونها سبباً وشرطاً ومانعاً ورافعاً، فليس الانتزاع بمجرّد التشريع، بل إنّما تنتزع هذه الاعتبارات ممّا فيها خصوصيّات كانت هي {الموجبة لدخل كلّ} من السّبب والشّرط والمانع والرّافع {فيه} أي: في التكليف كالصلاة - مثلاً - {على نحو غير دخل الآخر} فدخل السّبب في الصّلاة على نحو غير نحو دخل الشّرط وهكذا {فتدبّر جيّداً} والإنصاف أنّ في كلام المصنّف مواقع للنظر، كما لا يخفى على من تأمّل،

ص: 84

وأمّا النّحو الثّاني: فهو كالجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة والقاطعيّة لما هو جزء المكلّف به وشرطه ومانعه وقاطعه؛

___________________________________________

أضربنا عنها لخروجها عن مقصد الشّرح.

{وأمّا النّحو الثّاني} من أنحاء الوضع - وهو ما لا يتطرّق إليه الجعل الاستقلالي ويتطرّق إليه الجعل التبعي - {فهو كالجزئيّة} كجزئيّة الرّكوع للصلاة {والشّرطيّة} كشرطيّة الطّهارة لها {والمانعيّة} كلباس غير المأكول {والقاطعيّة} كالضحك {لما هو جزء المكلّف وشرطه ومانعه وقاطعه} على نحو اللفّ والنّشر المرتّب.

ولا يخفى أنّ الكلام في النّحو الأوّل في السّبب والشّرط والمانع والرّافعللتكليف، وهنا للجزء والشّرط والمانع والقاطع للمكلّف به.

ومن المعلوم أنّ خصوصيّات التكليف غير خصوصيّات المكلّف به، فقولنا: (الصّلاة واجبة) إذا نظرنا إلى الموضوع - وهو: الصّلاة - سمّي ذلك المكلّف به، وإذا نظرنا إلى المحمول - وهو: واجبة - سمّي ذلك التكليف، ومنه يعلم أنّ ذكر المانع في النّحو الأوّل وفي النّحو الثّاني ليس بتكرار، كما ربّما يسبق إلى بعض الأذهان المبتدئة.

وعلى كلٍّ فهذه الأشياء الأربعة قابلة للجعل تبعاً، وليست قابلةً للجعل استقلالاً:

أمّا أنّ هذه الأُمور قابلة للجعل تبعاً، فلأنّه إذا ورد أمر بجملة أُمور تدريجيّة متصلة مقيّدة بوجود شيء وعدم شيء آخر كانت تلك الأُمور أجزاءً وما يقطع هذا الاتصال قاطعاً، وما أخذ وجوده قيداً شرطاً وما أخذ عدمه قيداً مانعاً، فإذا ورد الأمر بالتكبير والقراءة والرّكوع والسّجود بشرط الاتصال مقيّدةً بالطهارة وعدم لبس غير المأكول كانت الأُمور الأربعة - التكبير وأخواتها - أجزاءً، والضّحك المنافي للاتصال قاطعاً، والطّهارة شرطاً، ولباس غير المأكول مانعاً.

ص: 85

حيث إنّ اتصاف شيء بجزئيّة المأمور به أو شرطيّته أو غيرهما؛ لا يكاد يكون إلّا بالأمر بجملة أُمور مقيّدة بأمر وجودي أو عدمي، ولا يكاد يتصف شيء بذلك - أي: كونه جزءاً أو شرطاً للمأمور به - إلّا بتبع ملاحظة الأمر بما يشتمل عليه مقيّداً بأمر آخر، وما لم يتعلّق بها الأمر كذلك لما كاد اتصف بالجزئيّة أو الشّرطيّة، وإن أنشأ الشّارع له الجزئيّة أو الشّرطيّة.

و

___________________________________________

وأمّا أنّ هذه الأُمور غير قابلة للجعل استقلالاً؛ فلأنّه لو لم يأمر الشّارع بالصلاة ثمّ قال: (الرّكوع جزء)، أو (الطّهارة شرط) لم يفد قوله هذا في تشريعالجزئيّة والشّرطيّة، إذ لا شيء مأمور به حتّى يكون له جزء وشرط.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) بيّن وجه إمكان الجعل التبعي بقوله: {حيث إنّ اتصاف شيء بجزئيّة المأمور به أو شرطيّته أو غيرهما} كمانعيّته وقاطعيّته {لا يكاد يكون إلّا بالأمر بجملة أُمور} كالركوع والسّجود والتكبير {مقيّدة بأمر وجودي} كالطهارة {أو عدمي} كالضحك ولبس غير المأكول {ولا يكاد يتصف شيء بذلك - أي: كونه جزءاً أو شرطاً للمأمور به -} أو مانعاً أو قاطعاً له {إلّا بتبع ملاحظة الأمر بما يشتمل} ذلك الشّيء {عليه} الضّمير يعود إلى «ذلك» {مقيّداً بأمر آخر} هذا للشرط، كما أنّ قوله: «بما يشتمل» للجزء، فالركوع والطّهارة لا يكونان جزءاً وشرطاً إلّا بتبع ملاحظة الأمر بالصلاة المشتملة على الرّكوع المقيّدة بالطهارة.

وبيّن المصنّف عدم إمكان الجعل الاستقلالي بقوله: {وما لم يتعلّق بها} أي: بالأجزاء والشّرائط {الأمر كذلك} أي: في ضمن مركب ذي أجزاء وشروط {لما كاد اتصف بالجزئيّة أو الشّرطيّة وإن أنشأ الشّارع له الجزئيّة أو الشّرطيّة} لما عرفت.

{و} إن قلت: إنّه لا إشكال في أنّ الماهيّات المخترعة - كالصلاة والحجّ - مجعولة للشارع، وذلك الاختراع كافٍ في اعتبار الجزئيّة أو الشّرطيّة لأجزائها

ص: 86

جعل الماهيّة وأجزائها ليس إلّا تصوير ما فيه المصلحة المهمّة الموجبة للأمر بها، فتصوّرها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئيّة المأمور به أو شرطيّته قبل الأمر بها.

فالجزئيّة للمأمور به أو الشّرطيّة لهإنّما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به، بلا حاجة إلى جعلها له، وبدون الأمر به لا اتصاف بها

___________________________________________

وشرائطها وإن لم يأمر بها الشّارع.

قلت: إنّ معنى اختراع الماهيّات: تصوّرها ولحاظها، ومن المعلوم أنّ تصوّر الصّلاة - مثلاً - بدون أمر بها لا يصحّ أن يسمّى الرّكوع والطّهارة جزءاً وشرطاً للمأمور به.

نعم، يصحّ أن يقول: الرّكوع والطّهارة جزء وشرط لذي المصلحة أو للأمر الذهني المقصود، وذلك غير ما نحن فيه، لبداهة أنّ {جعل الماهيّة وأجزائها} وشرائطها وموانعها وقواطعها {ليس إلّا تصوير ما فيه المصلحة المهمّة الموجبة للأمر بها} أي: بتلك الماهيّة {فتصوّرها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شيء منها} أي: من تلك الأجزاء والقيود المتصوّرة {بجزئيّة المأمور به أو شرطيّته قبل الأمر بها} أي: بتلك الماهيّة، فإنّه إذا لم يكن أمر كيف يمكن أن يقال: إنّ هذا جزء أو قيد للمأمور به؟

{فالجزئيّة للمأمور به أو الشّرطيّة له إنّما ينتزع لجزئه} أي: جزء المأمور به {أو شرطه بملاحظة الأمر به} أي: بذلك المأمور به - أي: الماهيّة المتصوّرة - {بلا حاجة إلى جعلها} أي: الجزئيّة والشّرطيّة {له} أي: للمأمور به فلا يحتاج أن يقول المولى: (جعلت الرّكوع جزءاً والطّهارة شرطاً) بل يكفي الأمر بالصلاة المركّبة المقيّدة {وبدون الأمر به} أي: بالمأمور به كالصلاة - مثلاً - {لا اتصاف} للأجزاء والشّرائط المتصوّرة{بها} أي: بالجزئيّة والشّرطيّة للمأمور به

ص: 87

أصلاً، وإن اتصف بالجزئيّة أو الشّرطيّة للمتصور أو لذي المصلحة، كما لا يخفى.

وأمّا النّحو الثّالث: فهو كالحجيّة والقضاوة والولاية والنّيابة والحريّة والرّقيّة والزوجيّة والملكيّة... إلى غير ذلك؛ حيث إنّها وإن كان من الممكن انتزاعها من الأحكام التكليفيّة الّتي تكون في مواردها - كما قيل(1) -

___________________________________________

{أصلاً، وإن اتصف بالجزئيّة أو الشّرطيّة للمتصوّر} بصيغة اسم المفعول {أو} الجزئيّة والشّرطيّة {لذي المصلحة، كما لا يخفى} لكنّه غير محلّ الكلام.

{وأمّا النّحو الثّالث} من أنحاء الحكم الوضعي - وهو الّذي يصحّ جعله استقلالاً ويصحّ جعله تبعاً للتكليف - {فهو كالحجيّة} للخبر الواحد مثلاً.

{والقضاوة} بأن يكون لفرد حقّ فصل الخصومات ويكون أمره نافذاً فيها {والولاية} بأن يكون لأحد حقّ التصرّف في الشّؤون الاجتماعيّة أو في شؤون القصّر والغيّب والأموات.

{والنّيابة} بأن يكون شخص نائباً عن الإمام(علیه السلام) مثلاً، فيجوز له أن يتصرّف في ما لا يجوز لغير الإمام التصرّف فيه من أُمور الحسبة والجهاد وإجراء الحدود {والحريّة} بأن يكون شخص مختاراً في ما يفعل ممّا أباحه الشّرع.

{والرّقيّة} بأن يكون شخص مقيّداً لغيره في جميع الشّؤون باستثناء ماألزمه الشّارع {والزوجيّة} بأن يحلّ لأحد الوطي والنّظر وتجب النّفقة وتجب الإطاعة {والملكيّة} بأن يكون لأحد التصرّف في شيءٍ كما أراد - باستثناء ما حظره الشّارع - {إلى غير ذلك} من الأشياء الّتي من هذا القبيل {حيث إنّها وإن كان من الممكن انتزاعها من الأحكام التكليفيّة الّتي تكون في مواردها - كما قيل -} فتنتزع من وجوب العمل الحجيّة، ومن لزوم الرّجوع إليه في الخصومات ولزوم إطاعة فصله في القضاء وإباحة تصرّفه ونفوذه الولاية وهكذا.

ص: 88


1- فرائد الأصول 3: 126.

ومن جعلها بإنشاء أنفسها، إلّا أنّه لا يكاد يشكّ في صحّة انتزاعها من مجرّد جعله - تعالى - ، أو من بيده الأمر من قبله لها بإنشائها، بحيث يترتّب عليها آثارها، كما تشهد به ضرورة صحّة انتزاع الملكيّة والزوجيّة والطّلاق والعتاق، بمجرّد العقد والإيقاع ممّن بيده الاختيار، بلا ملاحظة التكاليف والآثار. ولو كانت منتزعة عنها لما كاد يصحّ اعتبارها إلّا بملاحظتها،

___________________________________________

{ومن} الممكن {جعلها بإنشاء أنفسها} بأن يقول المولى: جعلته قاضياً ونائباً وزوجة وملكاً وهكذا {إلّا أنّه لا يكاد يشكّ في صحّة انتزاعها} أي: انتزاع هذه الأُمور كالقضاوة والحجيّة، الخ {من مجرّد جعله - تعالى - أو} جعل {من بيده الأمر من قبله} - تعالى - كالنبيّ والإمام أو من عيّنه اللّه - تعالى - لهذه الأُمور، وأعطاه السّلطنة كالمالك والأب بالنسبة إلى عقد الصّغير وهكذا {لها} أي: لهذه الأُمور، والظرف متعلّق بقوله: «جعله» وكيفيّة جعله -سبحانه - لهذه الأُمور إنّما هي {بإنشائها} أي: إنشاء هذه الأُمور {بحيث يترتّب عليها آثارها} فيترتّب على الملك جواز البيع والشّراء، وعلى الزوجيّة جواز الملامسة ووجوب النّفقة وهكذا {كما تشهد به} أي: بما ذكرنا من صحّة انتزاع هذه الأُمور من مجرّد الجعل بلا حاجة إلى توسيط حكم تكليفي {ضرورة} بالرّفع فاعل «تشهد» {صحّة انتزاع الملكيّة والزوجيّة والطّلاق والعتاق بمجرّد العقد} في الأوّلين {والإيقاع} في الأخيرين {ممّن بيده الاختيار} وله السّلطة على إنشائها في نظر الشّارع مالكاً أم وليّاً أم وكيلاً أم مأذوناً أم غيرهم {بلا ملاحظة التكاليف والآثار} المترتّبة على هذه الأُمور فلا يحتاج في صحّة انتزاع الملكيّة أكثر من أن يقول المالك: «بعت» بلا ملاحظة الآثار المترتّبة على المشتري من جواز تصرّفه في الشّيء وهبته ورهنه وبيعه وإيجاره.

{ولو كانت} هذه الأحكام الوضعيّة {منتزعة عنها} أي: عن التكاليف {لما كاد يصحّ اعتبارها} أي: اعتبار هذه الأحكام الوضعيّة {إلّا بملاحظتها} أي: ملاحظة

ص: 89

وللزم أن لا يقع ما قصد، ووقع ما لم يقصد.

كما لا ينبغي أن يشكّ في عدم صحّة انتزاعها عن مجرّد التكليف في موردها، فلا ينتزع الملكيّة عن إباحة التصرّفات، ولا الزوجيّة من جواز الوطي، وهكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود والإيقاعات.

___________________________________________

التكاليف، فإذا أردنا أن ننتزع الملكيّة عن شيء لم يكف ملاحظة قول البائع: «بعت»، بل اللّازم ملاحظة أنّه يجوز للمشتري التصرّف فيه {وللزم} منكون هذه العناوين منتزعة من الآثار لا من إنشائها {أن لا يقع ما قصد ووقع ما لم يقصد} إذ اللّازم أن لا تترتّب هذه العناوين على إنشائها - مع أنّه المقصود - فلم يقع ما قصد، وأن تترتّب الآثار على الإنشاء - مع أنّه ليس بمقصود - فوقع ما لم يقصد.

والحاصل: أنّ غرض القائل «بعت» ترتّب الملك لا ترتّب الآثار، فإذا ترتّبت الآثار على «بعت» دون الملك، فقد وقع ما لم يقصد وقصد ما لم يقع، وذلك محال، إذ الأُمور القصديّة لا بدّ وأن تترتّب على القصد وإلّا لزم تخلّف المعلول عن العلّة.

وقد يستدلّ لكون هذه العناوين ليست منتزعة من الأحكام التكليفيّة وإنّما هي مستقلّة بإنشائها وإنّ الأحكام التكليفيّة مترتّبة عليها، بأنّه لو كانت هذه العناوين من آثار التكليف لزم أن تنتزع الملكيّة من إباحة جميع التصرّفات، فلو أباح زيد لمحمّد جميع التصرّفات في كتابه لزم أن تنتزع الملكيّة لهذا الكتاب بالنسبة إلى محمّد مع أنّه ليس كذلك، إذ لا يسمّى الكتاب ملكاً لمحمّد.

وإلى هذا أشار بقوله: {كما لا ينبغي أن يشكّ في عدم صحّة انتزاعها} أي: هذه العناوين {عن مجرّد التكليف في موردها} أي: في مورد هذه العناوين {فلا ينتزع الملكيّة عن إباحة التصرّفات ولا الزوجيّة من جواز الوطي} ولا الرّقيّة من صحّة الأمر والنّهي {وهكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود والإيقاعات} لكن لا يخفى

ص: 90

فانقدح بذلك: أنّ مثل هذه الاعتبارات إنّما تكون مجعولة بنفسها، يصحّ انتزاعها بمجرّد إنشائها كالتكليف، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه.وهم ودفع:

أمّا الوهم فهو: أنّ الملكيّة كيف جعلت من الاعتبارات الحاصلة بمجرّد الجعل والإنشاء الّتي تكون من خارج المحمول،

___________________________________________

ما في ذلك أيضاً.

وعلى كلّ {فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من كون هذه الأحكام الوضعيّة مجعولة بإنشائها لا أنّها مجعولة تبعاً لإنشاء التكاليف في موردها {أنّ مثل هذه الاعتبارات إنّما تكون مجعولة بنفسها يصحّ انتزاعها بمجرّد إنشائها كالتكليف} الّذي ينشأ بنفسه، فكما ينشئ المولى الوجوب والتحريم كذلك ينشئ الحجيّة والقضاء، و{لا} تكون الأحكام الوضعيّة {مجعولة بتبعه} أي: بتبع التكليف {ومنتزعة عنه} واللّه العالم.

[وهم ودفع]

{وهم ودفع} حاصل الوهم: أنّ الملك من مقولة الجدة الّتي لا تحصل إلّا بأسبابها الخاصّة فهو مثل التعمّم والتقمّص له تأصّل في الخارج، فكيف قلتم بأنّه من الأُمور الجعليّة الّتي توجد بالإنشاء؟ وحاصل الدفع أنّ للملك إطلاقين:

الأوّل: إطلاقه على الجدة، وهذا ليس بمراد هنا.

الثّاني: إطلاقه على اختصاص شيء بشيء الّذي هو من مقولة الإضافة، وهذا هو المراد هنا، فلا ينافي ما ذكرناه هنا ما ذكره أهل المعقول.

{أمّا الوهم: فهو أنّ الملكيّة كيف جعلت} في كلامكم {من الاعتبارات الحاصلة بمجرّد الجعل والإنشاء} حتّى أنّه لو أنشأ الملك من بيده السّلطة تحقّق في الخارج {الّتي تكون} هذه الاعتبارات {من خارجالمحمول} فإنّ المحمول قد

ص: 91

حيث ليس بحذائها في الخارج شيء، وهي إحدى المقولات المحمولات بالضميمة الّتي لا تكاد تكون بهذا السّبب، بل بأسباب أُخر كالتعمّم والتقمّص والتنعّل، فالحالة الحاصلة منها للإنسان هو الملك، وأين هذه من الاعتبار الحاصل بمجرّد إنشائه؟

___________________________________________

يكون بإزائه شيء في الخارج فيسمّى المحمول بالضميمة كالسواد والبياض، وقد لا يكون بإزائه شيء في الخارج فيسمّى خارج المحمول، وقد تقدّم في المجلّد الأوّل تفصيله(1)،

وأنّ السّبزواري أشار في منظومته إلى ذلك بقوله:

والخارج المحمول من صميمه

يغاير المحمول بالضميمة(2)

وعلّل كون تلك الاعتبارات من خارج المحمول بقوله: {حيث ليس بحذائها في الخارج شيء و} الحال {هي} أي: الملكيّة {إحدى المقولات المحمولات بالضميمة} وإنّما سمّيت بالمحمولات بالضميمة؛ لأنّها أشياء منضمّة إلى المعروضات، فالسواد - مثلاً - منضمّ إلى الجسم، ولذا يسمّى بالمحمول بالضميمة {الّتي لا تكاد تكون بهذا السّبب} أي: إنّ وجود المحمول بالضميمة لا يكون بالجعل والإنشاء، فكما أنّه لا يمكن إيجاد السّواد بالإنشاء كذلك لا يمكن إيجاد الملك بالإنشاء {بل} تكون وتوجد {بأسباب} تكوينيّة {أُخر كالتعمّم والتقمّص والتنعّل} فإنّها من مقولة الملك الّذي عرّفوه بأنّة هيئة تحصل بسبب نسبة الجسم إلى ما يلاصق جميعه أو بعضه بحيث ينتقل بانتقاله، وقد ذكروا أنّ هذه المقولة قد تكون ذاتيّة كنسبة إهاب الكبش إليهوقد تكون عرضيّة، كالتعمّم والتقمّص.

{فالحالة الحاصلة منها للإنسان هو الملك} في اصطلاح أهل المعقول {وأين هذه من} ما ذكرتم من تعريف الملك من أنّه {الاعتبار الحاصل بمجرّد إنشائه؟} وهل يمكن إنشاء التنعّل والتقمّص.

ص: 92


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 325.
2- شرح المنظومة 1: 154.

وأمّا الدفع فهو: أنّ الملك يقال بالاشتراك على ذلك - ويسمّى بالجِدَةِ أيضاً - واختصاص شيء بشيء خاصّ، وهو ناشئ.

إمّا من جهة إسناد وجوده إليه، ككون العالم ملكاً للباري - جلّ ذكره - .

أو من جهة الاستعمال والتصرّف فيه، ككون الفرس لزيد بركوبه له وسائر تصرّفاته فيه.

أو من جهة إنشائه والعقد مع من اختياره بيده، كملك الأراضي والعقار البعيدة للمشتري بمجرّد عقد البيع شرعاً وعرفاً.

___________________________________________

{وأمّا الدفع: فهو} أنّ الملك الّذي ذكرنا أنّه يحصل بالإنشاء غير الملك الّذي ذكره أهل المعقول، ف- {أنّ الملك يقال بالاشتراك على ذلك} المعنى الّذي ذكره أهل المعقول {ويسمّى بالجدة} مصدر (وجد) ك- (عدة) مصدر (وعد) {أيضاً} أي: كما يسمّى بالملك؛ لأنّ الشّيء يجد هذه الهيئة بواسطة نسبته إلى ما يلاصقه {و} على {اختصاص شيء بشيء خاصّ} كاختصاص الكتاب بزيد والدار بعمرو {وهو} أي: إنّ هذا المعنى للملك الّذي قصدناه نحن - في قولنا: «إنّه يجعل بالإنشاء» - {ناشئ إمّا من جهة إسناد وجوده إليه ككون العالم ملكاً للباري -جلّ ذكره -} فإنّه حيث أسند وجود العالم إليه - تعالى - سمّي ملكاً له {أو من جهة الاستعمال والتصرّف فيه} أي: يستعمل المالك لملكه {ككون الفرس لزيد ب-} سبب {ركوبه له وسائر تصرّفاته فيه} وهذا يضرّ جليّاً في ما لو تصرّف فيه بدون سبق عقد، كحيازة المباحات.

{أو من جهة إنشائه} أي: الملك {والعقد مع من اختياره بيده} أي: مع شخص صاحب سلطة اختيار هذا الملك بيده {كملك الأراضي والعقار البعيدة للمشتري بمجرّد عقد البيع شرعاً وعرفاً} فإنّه ليس بالخلق - كالأوّل - ولا بالتصرّف - كالثّاني - فيكون قسماً ثالثاً، وجميع هذه الأقسام ليست من مقولة الجدة.

ص: 93

فالملك الّذي يسمّى بالجدة أيضاً غير الملك الّذي هو اختصاص خاصّ ناشئ من سبب اختياري كالعقد، أو غير اختياري كالإرث، ونحوهما من الأسباب الاختياريّة وغيرها.

فالتوهّم إنّما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضاً، والغفلة عن أنّه بالاشتراك بينه وبين الاختصاص الخاصّ والإضافة الخاصّة الإشراقيّة، كملكه - تعالى - للعالم، أو المقوليّة، كملك غيره لشيء بسبب، من تصرّف واستعمال أو إرث أو عقد أو غيرهما من الأعمال، فيكون شيء ملكاً لأحد بمعنى، ولآخر بالمعنى الآخر،

___________________________________________

{فالملك الّذي يسمّى بالجدة أيضاً} المصطلح عند أهل المعقول {غير الملك} الّذي هو مقصودنا ونقول بأنّه ينشأبالجعل {الّذي هو اختصاص خاصّ ناشئ من سبب اختياري كالعقد} والتمليك {أو غير اختياري كالإرث ونحوهما} أي: نحو العقد والإرث {من} سائر {الأسباب الاختياريّة وغيرها ف-} إذا عرفت ما ذكرناه تعرف بأنّ {التوهّم إنّما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضاً} كما يطلق على هذا الاختصاص النّاشئ من الخلق والتصرّف والعقد {والغفلة عن} أي: مرادنا من كون الملك قابلاً للجعل المعنى الثّاني لا المعنى الأوّل المعقولي، ف- {إنّه} أي: الملك يقال {بالاشتراك بينه} أي: بين الملك بمعنى الجدة {وبين الاختصاص الخاصّ والإضافة الخاصّة} بين المالك والمملوك، سواء كانت على نحو الإضافة {الإشراقيّة} وهي الحاصلة من إشراق المبدأ الأعلى على الموجودات {كملكه - تعالى - للعالم أو} على نحو الإضافة {المقوليّة} الّتي هي أحد المقولات العشر.

فإنّ الإضافة من المقولات، كما لا يخفى {كملك غيره} تعالى {لشيء بسبب: من تصرّف، واستعمال، أو إرث، أو عقد، أو غيرهما} أي: غير الإرث والعقد {من الأعمال} الموجبة للملكيّة الاختياريّة أو الاضطراريّة {فيكون شيء ملكاً لأحد بمعنى} التصرّف والاستعمال {ولآخر بالمعنى الآخر} الّذي هو العقد وهكذا

ص: 94

فتدبّر.

إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل، فقد عرفت أنّه لا مجال لاستصحاب دخل ما له الدخل في التكليف، إذا شكّ في بقائه علىما كان عليه من الدخل؛ لعدم كونه حكماً شرعيّاً، ولا يترتّب عليه أثر شرعي، و

___________________________________________

بالنسبة إلى ملكه سبحانه، والملك الّذي هو مقولة الجدة {فتدبّر} لعلّه إشاره إلى أنّ الملك بمعنى السّلطة من أقسام الملك بمعنى الجدة، إذ هو أيضاً هيئة إحاطة المالك بالمملوك ولو كانت هيئة واقعيّة لا خارجيّة، كما أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى الإشكال في أصل المطلب وأنّ الملك ونحوه من الأحكام الوضعيّة ليست هي في الحقيقة أشياء في مقابل الأحكام التكليفيّة وإنّما هي عبارة مجملة عن عدّة من الأحكام التكليفيّة.

{إذا عرفت اختلاف} أنحاء {الوضع في} قابليّة {الجعل} وعدمها، وأنّ منها ما لا يتطرّق إليه الجعل لا استقلالاً ولا تبعاً، ومنها يتطرّق إليه الجعل تبعاً لا استقلالاً، ومنها يتطرّق إليه الجعل بكلا قسميه، إلّا أنّ الظاهر أنّه مجعول استقلالاً {فقد عرفت أنّه} في القسم الأوّل {لا مجال لاستصحاب دخل ما له الدخل في التكليف إذا شكّ في بقائه على ما كان عليه من الدخل} فلو شككنا في بقاء السّبب - مثلاً - على سببيّته لم يكن لنا أن نستصحبه، وذلك {لعدم كونه حكماً شرعيّاً} لما عرفت من أنّ هذا القسم ليس بمجعول إطلاقاً {ولا يترتّب عليه أثر شرعي} فالدلوك ليس بحكم شرعي ولا يترتّب عليه أثر شرعي حتّى يستصحب سببيّته إذا شكّ في بقائه سبباً أم أُزيل عن السّببيّة، وقد تقدّم كون وجوب المستصحب إمّا حكماً شرعيّاً أو ذا أثر شرعي.

{و} إن قلت: هب أنّ هذا القسم من الحكم الوضعي ليس حكماً شرعيّاً، لكنّه يترتّب عليه أثر شرعي، فالدلوك - مثلاً - يترتّب عليه وجوب الصّلاة، إذا كان

ص: 95

التكليف وإن كان مترتّباً عليه، إلّاأنّه ليس بترتّب شرعيّ، فافهم.

وأنّه لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقلّ بالجعل؛ حيث إنّه كالتكليف.

وكذا ما كان مجعولاً بالتبع؛ فإنّ أمر وضعه ورفعه بيد الشّارع ولو بتبع منشأ انتزاعه.

___________________________________________

باقياً على سببيّته.

قلت: كلّا، فإنّ {التكليف وإن كان مترتّباً عليه إلّا أنّه ليس بترتّب شرعي} فإنّ المعلول مترتّب على علّته تكويناً لا تشريعاً، وقد عرفت أنّ هذه الأشياء تؤثّر في المعلول بما لها من خصوصيّات كامنة فيها من غير دخل للتشريع فيها أصلاً {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّه لو تمّ هذا لأشكل في استصحاب عامّة الموضوعات الشّرعيّة، فإنّ ترتّب التكليف عليها ليس إلّا لخصوصيّة ذاتيّة فيها.

على أنّه يمكن أن يقال: بعد تسليم كون السّبب ونحوه حقيقيّاً، بل هو أمر صوري، وإنّما العلّة إراده الشّارع، فليس ترتّب الصّلاة على الدلوك - مثلاً - من قبيل ترتّب المعلول على العلّة {وأنّه لا إشكال} في القسم الثّالث - وهو ما يمكن جعله تبعاً واستقلالاً - فلا شبهة {في جريان الاستصحاب في الوضع المستقلّ بالجعل} والإنشاء كالزوجيّة والملكيّة {حيث إنّه} أي: هذا القسم {كالتكليف} فكما يجري الاستصحاب في الوجوب كذلك يجري الاستصحاب في الزوجيّة؛ لأنّ كلّاً منهما حكم مجعول شرعي.

{وكذا} لا إشكال في جريان الاستصحاب في القسم الثّاني، وهو ما يمكن جعله تبعاً لا استقلالاً، ف- {ما كان مجعولاً بالتبع}كالجزئيّة إذا شكّ في بقائها وزوالها يستصحب بقاؤها {فإنّ أمر وضعه ورفعه بيد الشّارع} أمّا في القسم الثّالث فواضح.

وأمّا في القسم الثّاني فلما أشار إليه بقوله: {ولو بتبع منشأ انتزاعه} فإنّ كون

ص: 96

وعدم تسميته حكماً شرعيّاً - لو سلّم - غير ضائر، بعد كونه ممّا تناله يد التصرّف شرعاً.

نعم، لا مجال لاستصحابه؛ لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه، فافهم.

___________________________________________

الأمر بالمركّب بيد الشّارع كافٍ في كون الجزئيّة بيد الشّارع، فإذا كان بيد الشّارع وضعه ورفعه جرى الاستصحاب فيه.

{و} إن قلت: كيف يجري الاستصحاب في هذه الأُمور والحال أنّ الاستصحاب لا يجري إلّا في الحكم الشّرعي؟

قلت: {عدم تسميته حكماً شرعيّاً - لو سلّم -} عدم التسمية، ولم نقل بأنّه يسمّى حكماً شرعيّاً، إذ الحكم الشّرعي أعمّ من التكليفي والوضعي، فكون مريم زوجة جواد حكم شرعي، كما أنّ وجوب الصّلاة حكم شرعي {غير ضائر بعد كونه ممّا تناله يد التصرّف شرعاً} ولا دليل على لزوم تسمية المستصحب حكماً شرعيّاً، وإنّما الدليل على لزوم أن تناله يد الجعل، وهو موجود في الأحكام الوضعيّة.

{نعم} إذا كان هناك استصحاب حاكم على هذا الاستصحاب في القسم الثّاني لم يجر الاستصحاب المسبّبي لجريان الاستصحاب السّببي، لما يأتي من أنّه إذا كان هناك استصحاب سببي واستصحاب مسبّبي لم يجر الثّاني في صورةجريان الأوّل، فلو كان هناك ماء مستصحب الكريّة وكانت يدي نجسة فغسلتها بذلك الماء لم يجر استصحاب نجاسة اليد؛ لأنّ استصحاب الكريّة في الماء حاكم عليه، كما سيأتي إن شاء اللّه - تعالى - ف- {لا مجال لاستصحابه} أي: استصحاب القسم الثّاني وهو المجعول تبعاً {لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه} فإذا شككنا في جزئيّة السّورة للصلاة بعد ما كنّا متيقّنين بها لم يجر استصحاب الجزئيّة؛ لأنّ استصحاب وجوب الصّلاة حاكم عليه، وبهذا الاستصحاب تثبت الجزئيّة بدون حاجة إلى استصحاب جديد لها {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّه ربّما

ص: 97

ثمّ إنّ هاهنا تنبيهات

الأوّل: إنّه يعتبر في الاستصحاب فعليّة الشّكّ واليقين، فلا استصحاب مع الغفلة؛ لعدم الشّكّ فعلاً، ولو فرض أنّه يشكّ لو التفت؛ ضرورة أنّ الاستصحاب وظيفة الشّاكّ، ولا شكّ مع الغفلة أصلاً.

___________________________________________

لا يجري الاستصحاب السّببي لوجود معارض أو نحوه، فيجري الاستصحاب المسبّبي، فلا وجه لإطلاق القول: بأنّه لا مجال لاستصحابه واللّه العالم. هذا تمام الكلام في أصل الاستصحاب.

{ثمّ إنّ هاهنا} في باب الاستصحاب {تنبيهات} أربعة عشر:

[تنبيهات الاستصحاب]

[التنبيه الأوّل]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، فصل في الاستصحاب، تنبيهات الاستصحاب

التنبيه {الأوّل} في اعتبار فعليّة اليقين والشّكّ في جريان الاستصحاب وما يترتّب على ذلك من الثمرة {أنّه يعتبر في} جريان{الاستصحاب فعليّة الشّكّ واليقين} بأن يكون المكلّف شاكّاً فعلاً بالنسبة إلى الحال - ومتيقّناً فعلاً - بالنسبة إلى السّابق، كما لو علمت الآن بأنّ زيداً كان عادلاً يوم الجمعة وشككت الآن في بقاء عدالته إلى هذا اليوم - وهو يوم السّبت - فإنّه تستصحب العدالة لفعليّة الشّكّ واليقين {فلا استصحاب مع الغفلة} عن متعلّق الشّكّ واليقين {لعدم الشّكّ فعلاً ولو فرض أنّه يشكّ لو التفت} قوله: «ولو فرض» وصليّة.

وإنّما قلنا باشتراط فعليّة الشّكّ واليقين في جريان الاستصحاب ل- {ضرورة أنّ الاستصحاب وظيفة الشّاكّ} لأنّه(علیه السلام) قال: «لا ينقض اليقين بالشكّ»(1)،

فلا بدّ من أن يكون هناك شكّ فعلي {ولا شكّ مع الغفلة أصلاً} والقول بأنّ الشّكّ أعمّ

ص: 98


1- تهذيب الأحكام 2: 186؛ الاستبصار 1: 373.

فيحكم بصحّة صلاة من أحدث، ثمّ غفل وصلّى، ثمّ شكّ في أنّه تطهّر قبل الصّلاة؛ لقاعدة الفراغ. بخلاف من التفت قبلها وشكّ، ثمّ غفل وصلّى، فيحكم بفساد صلاته في ما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشّكّ؛

___________________________________________

من الفعلي والتقديري خلاف الظاهر، فإنّ قولنا: (فلان شاكّ) ينصرف منه الشّكّ فعلاً، لا أنّه لو التفت لكان شاكّاً.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الشّخص إذا صلّى غافلاً عن الطّهارة ثمّ بعد الصّلاة شكّ في أنّه هل كان متطهّراً حال الصّلاة أم لا، وقد كان قبل الصّلاة أحدث لكنّه يحتمل أنّه قد توضّأ قبل الصّلاة بعد الحدث، كانت قاعدة الفراغ محكمة وحكم بصحّة صلاته؛ لأنّه حيث كان غافلاً عن الطّهارة قبل الصّلاة لم يكن يجريبالنسبة إليه استصحاب الحدث، أمّا إذا تيقّن بالحدث وشكّ في الطّهارة ثمّ غفل ثمّ صلّى ثمّ التفت بعد الصّلاة حكم ببطلان صلاته؛ لأنّه بمجرّد التفاته - قبل الصّلاة - إلى حاله شكّ في الطّهارة واستصحب الحدث، فدخل في الصّلاة وهو مستصحب الحدث، فكانت صلاته باطلة، إذ لا مجال لقاعدة الفراغ بعد الصّلاة في ما كان قبل الصّلاة قاطعاً بالحدث أو مستصحب الحدث.

وعلى هذا {فيحكم بصحّة صلاة من أحدث ثمّ غفل وصلّى ثمّ} بعد الصّلاة توجّه إلى حالته و{شكّ في أنّه} هل {تطهّر قبل الصّلاة} بعد الحدث أم لم يتطهّر، فإنّه حيث لا يعلم بكونه كان محدثاً حالة الصّلاة - لاحتماله التوضّئ بعد الحدث - .

وحيث لا يجرى بالنسبة إليه استصحاب الحدث - لأنّه كان غافلاً عن حاله قبل أن يشرع في الصّلاة - حكم بصحّة صلاته {لقاعدة الفراغ} الّتي لا حاكم عليها {بخلاف من} أحدث ثمّ {التفت قبلها} أي: قبل الصّلاة {وشكّ} في أنّه هل توضّأ أم لا {ثمّ غفل} عن استصحابه للحدث {وصلّى} ثمّ التفت بعد الصّلاة {فيحكم بفساد صلاته في ما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشّكّ} بخلاف من احتمل

ص: 99

لكونه محدثاً قبلها بحكم الاستصحاب مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي.

لايقال: نعم، ولكن استصحاب الحدث في حال الصّلاة بعد ما التفت بعدها يقتضي أيضاً فسادها.

فإنّه يقال: نعم، لولا قاعدة الفراغ المقتضية لصحّتها، المقدّمة على أصالة فسادها.

___________________________________________

أنّه تطهّر بعد الشّكّ قبل الصّلاة، إذ يجري بالنسبة إليه قاعدة الفراغ أيضاً.

وإنّما قلنا بعدم جريان القاعدة بالنسبة إلى من أحدث ثمّ شكّ ثمّ صلّى وقد قطع أنّه بين شكّه وصلاته لم يتطهّر {لكونه محدثاً قبلها} أي: قبل الصّلاة {بحكم الاستصحاب} السّابق على الصّلاة {مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي}.

{لا يقال}: ما ذكرتم من صحّة الصّلاة في صورة كونه غافلاً عن الحدث قبل الصّلاة {نعم} صحيح من جهة عدم استصحاب الحدث قبل الصّلاة {ولكن} لا تتمّ الصّحّة من جهة أُخرى.

إذ {استصحاب الحدث في حال الصّلاة بعد ما التفت بعدها} أي: بعد الصّلاة {يقتضي أيضاً فسادها} فإنّه لم يكن مستصحب الحدث قبل الصّلاة، لكن بعد الصّلاة لمّا التفت شكّ في أنّه هل تطهّر أم لا، فاستصحاب الحدث قاضٍ بأنّه لم يتطهّر.

ومنه يعلم أنّه دخل في الصّلاة بلا طهارة فاللّازم أن نحكم بفساد صلاته، للاستصحاب المتأخّر عن الصّلاة - وإن لم يجر الاستصحاب قبل الصّلاة لما ذكرتم من الغفلة - .

{فإنّه يقال: نعم} مقتضى الاستصحاب بعد الصّلاة الفساد {لولا قاعدة الفراغ المقتضية لصحّتها} أي: صحّة الصّلاة {المقدّمة على أصالة فسادها} ولذا يحكم بصحّة الصّلاة السّابقة وإن حكم بأنّه يلزم التطهّر للصلاة اللّاحقة.

ولا يستشكل بأنّه كيف يمكن ذلك، فإن كان متطهّراً صحّ الدخول في الصّلاة

ص: 100

الثّاني: أنّه هل يكفي في صحّة الاستصحاب الشّكّ في بقاء شيء على تقدير ثبوته، وإن لم يحرز ثبوته، في ما رتّبعليه أثر شرعاً أو عقلاً؟ إشكال:

من عدم إحراز الثبوت، فلا يقين، وأنّه لا بدّ منه،

___________________________________________

اللّاحقة، وإن لم يكن متطهّراً لم تصحّ الصّلاة السّابقة، فكيف يمكن التفكيك بينهما؟ لأنّه يجاب عن ذلك بأنّه تفكيك حسب الدليل ولا بأس به، فهو كدرهمي الودعي الّذي ضاع أحدهما، وكإقرارين من شخص واحد لشخصين بشيء واحد، وهكذا.

[التنبيه الثّاني]

التنبيه {الثّاني} إذا قامت أمارة على حكم ولم يكن للأمارة إطلاق بحيث يشمل الزمان الثّاني، فهل يصحّ الرّجوع في الزمان الثّاني إلى الاستصحاب لإثبات الحكم أم لا؟ كما لو قام الدليل على وجوب الدعاء عند هلال رمضان ثمّ شكّ في انسحاب الحكم في كلّ أوّل شهر ولم يكن للدليل إطلاق، فإنّ وجوب الدعاء عند الرّؤية في رمضان غير ثابت واقعاً وإنّما قام الدليل عليه فقط، فنشكّ في أنّه هل هذا الوجوب باقٍ على تقدير ثبوته واقعاً أم لا {أنّه هل يكفي في صحّة الاستصحاب الشّكّ في بقاء شيء على تقدير ثبوته وإن لم يحرز ثبوته} سابقاً {في ما رتّب عليه أثر شرعاً أو عقلاً} فإنّه على تقدير ثبوت الدعاء واقعاً كان الوجوب سابقاً ثابتاً، فهل هذا باق - إلى أوّل شوّال مثلاً - أم لا؟

وقوله: «في ما» متعلّق بقوله: «صحّة الاستصحاب» أي: هل يصحّ الاستصحاب في الشّيء الّذي رتّب عليه أثر إذا كان على تقدير ثبوته، وقوله: «شرعاً» بالنسبة إلى استصحاب الموضوع، وقوله: «عقلاً» بالنسبة إلى استصحاب الحكم.

{إشكال} مرتبط بقوله: «هل يكفي» ووجه الإشكال ما بيّنه بقوله: {منعدم إحراز الثبوت} سابقاً {فلا يقين و} الحال {أنّه لا بدّ منه} لأنّ ركني الاستصحاب

ص: 101

بل ولا شكّ، فإنّه على تقدير لم يثبت.

ومن أنّ اعتبار اليقين إنّما هو لأجل أنّ التعبّد والتنزيل شرعاً إنّما هو في البقاء، لا في الحدوث، فيكفي الشّكّ فيه على تقدير الثبوت، فيتعبّد به على هذا التقدير، فيترتّب عليه الأثر فعلاً في ما كان هناك أثر،

___________________________________________

اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق، فإذا زال أحد الرّكنين انتفى الاستصحاب {بل ولا شكّ} لاحقاً {فإنّه} أي: الشّكّ {على تقدير لم يثبت} ذلك التقدير.

والحاصل: أنّه لو كان هناك شيء محقّق ثمّ شكّ فيه حصل ركنا الاستصحاب، أمّا في المقام فإنّ اليقين السّابق تقديريّ لا موجود واقعاً، وإذا انتفى اليقين السّابق ينتفي الشّكّ اللّاحق، إذ لا يشكّ في ما لا وجود له، وعلى هذا فلا يصحّ مثل هذا الاستصحاب.

هذا كلّه وجه عدم جريان الاستصحاب، وأمّا وجه جريان الاستصحاب فقد بيّنه بقوله: {ومن أنّ اعتبار اليقين} السّابق في الاستصحاب {إنّما هو لأجل أنّ التعبّد والتنزيل شرعاً إنّما هو في البقاء لا في الحدوث} فلا بدّ من إتيان اليقين في كيان الدليل توصّلاً إلى إفهام هذا الأمر، لا أنّ اليقين له موضوعيّة حتّى يلزم وجوده سابقاً {فيكفي الشّكّ فيه على تقدير الثبوت} بأنّه لو كان سابقاً يقين لشككنا فيه الآن {فيتعبّد به} أي: باليقين {على هذا التقدير} أي:تقدير ثبوته {فيترتّب عليه الأثر فعلاً في ما كان هناك أثر}.

والحاصل: أنّ أدلّة الاستصحاب تفيد الملازمة بين ثبوت الشّيء وبقائه، ومن المعلوم أنّ صدق الشّرطيّة لا يتوقّف على صدق طرفيها، فيصحّ أن يقال: (لو كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين)(1)

فكيف يمكن الثبوت، فإذا ثبتت الملازمة بسبب الاستصحاب ودلّ الدليل على الثبوت دلّ على البقاء، فإنّ الدليل على أحد

ص: 102


1- إشارة إلى الآية الكريمة: {قُلۡ إِن كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٞ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡعَٰبِدِينَ} سورة الزخرف، الآية: 81.

وهذا هو الأظهر.

وبه يمكن أن يذبّ عمّا في استصحاب الأحكام الّتي قامت الأمارات المعتبرة على مجرّد ثبوتها، وقد شكّ في بقائها على تقدير ثبوتها، من الإشكال بأنّه لا يقين بالحكم الواقعي، ولا يكون هناك حكم آخر فعلي، بناءً على ما هو التحقيق

___________________________________________

المتلازمين دليل على الآخر {وهذا} القول أعني: جريان الاستصحاب {هو الأظهر}.

إذا عرفت ذلك نقول: إذا قامت الأمارة على حكم ولم يكن للأمارة إطلاق يشمل الثبوت والبقاء، ثمّ شككنا في بقاء ذلك الحكم فربّما أشكل في صحّة استصحاب ذلك الحكم من جهة أنّه لا يقين سابق بالحكم حتّى يستصحب:

أمّا عدم اليقين الواقعي، فلبداهة أنّا لا نعلم بالحكم الواقعي بمجرّد قيام الأمارة فإنّها تورث الظنّ بالواقع لا اليقين به.

وأمّا عدم اليقين بالحكم الظاهري؛ فلأنّ الأمارات - على ما عرفت في بعض المباحث السّابقة - لا توجب أكثر من التنجيز والإعذار، فلو قام دليل على وجوب الدعاء عند رؤية هلال رمضان وشككنا في امتداد الوجوب رأس كلّ شهرلم نعلم بالحكم الواقعي ولا الحكم الظاهري، إذ الدليل إنّما ينجّز على تقدير المصادفة لا أنّه ينشئ حكماً ظاهريّاً، فكيف يمكن استصحاب الحكم؟

والجواب: أنّه يمكن إثبات ذلك الحكم بنحو الاستصحاب التقديري، وإلى هذا أشار بقوله: {وبه} أي: بما ذكرنا من جريان الاستصحاب {يمكن أن يذبّ} ويدفع {عمّا في استصحاب الأحكام الّتي قامت الأمارات المعتبرة على مجرّد ثبوتها} أي: ثبوت تلك الأحكام {وقد شكّ في بقائها على تقدير ثبوتها من الإشكال} بيان قوله: «عمّا».

والإشكال هو ما أشار إليه بقوله: {بأنّه لا يقين بالحكم الواقعي} إذ الأمارة لا تثبت الحكم الواقعي {ولا يكون هناك حكم آخر فعلي} ظاهري {بناءً على ما هو التحقيق}

ص: 103

من: أنّ قضيّة حجيّة الأمارة ليست إلّا تنجّز التكاليف مع الإصابة، والعذر مع المخالفة - كما هو قضيّة الحجّة المعتبرة عقلاً، كالقطع والظنّ في حال الانسداد على الحكومة - ، لا إنشاء أحكام فعليّة شرعيّة ظاهريّة، كما هو ظاهر الأصحاب.

___________________________________________

هذا وجه عدم الحكم الظاهري {من أنّ قضيّة حجيّة الأمارة ليست إلّا تنجّز التكاليف مع الإصابة} بأن كانت مطابقة للواقع {والعذر مع المخالفة} بأن كانت مخالفة للواقع.

وقد علّق المصنّف على هذا بقوله: «وأمّا بناءً على ما هو المشهور من كون مؤدّيات الأمارات أحكاماً ظاهريّة شرعيّة - كما اشتهر أنّ ظنيّة الطّريق لا تنافيقطعيّة الحكم - إذ الحكم الظاهري قطعيّ، فالاستصحاب جارٍ؛ لأنّ الحكم الّذي أدّت إليه الأمارة محتمل البقاء، لإمكان إصابتها الواقع، وكان ممّا يبقى، والقطع بعدم فعليّته - حينئذٍ - مع احتمال بقائه، لكونها بسبب دلالة الأمارة، والمفروض عدم دلالتها إلّا على ثبوته، لا على بقائه، غير ضائر بفعليّته النّاشئة باستصحابه، فلا تغفل»(1)،

انتهى.

{كما هو} أي: التنجيز والإعذار {قضيّة} أي: مقتضى {الحجّة المعتبرة عقلاً كالقطع} فإنّه إذا قطع المكلّف بحكم فلا يوجب قطعه هذا إنشاء حكم ظاهري، بل يوجب التنجيز لدى المصادفة والإعذار لدى المخالفة {و} كذا {الظنّ} المطلق {في حال الانسداد} بناءً {على الحكومة} أي: حكومة العقل لا على الكشف، إذ على الكشف يكون حاله حال سائر الأمارات الشّرعيّة.

والحاصل: أنّ الأمارة ليست إلّا للتنجيز والإعذار، و{لا} يكون مقتضاها {إنشاء أحكام فعليّة شرعيّة ظاهريّة، كما هو ظاهر الأصحاب} حتّى يستصحب ذاك الحكم الظاهري.

ص: 104


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 496.

ووجه الذبّ بذلك: أنّ الحكم الواقعي الّذي هو مؤدّى الطّريق حينئذٍ محكوم بالبقاء، فتكون الحجّة على ثبوته حجّة على بقائه تعبّداً؛ للملازمة بينه وبين ثبوته واقعاً.

إن قلت: كيف؟ وقد أُخِذَ اليقين بالشيء في التعبّد ببقائه في الأخبار، ولا يقين في فرض تقدير الثبوت.

___________________________________________

هذا حاصل الإشكال في استصحاب مؤدّيات الأمارات {ووجه الذبّبذلك} الّذي ذكرناه في أوّل التنبيه {أنّ الحكم الواقعي} - كوجوب الدعاء عند الرّؤية - {الّذي هو مؤدّى الطّريق} كخبر زرارة الّذي قام عليه {حينئذٍ} أي: حين الشّكّ {محكوم بالبقاء، فتكون الحجّة على ثبوته} أي: ثبوت ذلك الحكم {حجّة على بقائه تعبّداً} وإن لم نعلم ببقائه واقعاً، بل لم نعلم بثبوته الواقعي أصلاً، وإنّما كانت الحجّة على ثبوته حجّة على بقائه {للملازمة بينه} أي: بين البقاء {وبين ثبوته واقعاً}.

والحاصل: هنا دليلان: دليل يقول كلّما ثبت دام - هو الاستصحاب - ، ودليل يقول هذا الحكم ثابت - هو خبر زرارة - ، فإذا جمعنا هذين الدليلين أنتج بقاء وجوب الدعاء.

وإن شئت قلت: قيام الخبر على وجوب الدعاء يرفع عذريّة الجهل وينجز الواقع على تقدير الإصابة، فيأتي دور دليل الاستصحاب ليقول: لو كان الحكم ثابتاً واقعاً لكان منجّزاً عليك، فتجب عليك الموافقة حتّى تحترز عن احتمال العقاب المنجز.

{إن قلت: كيف} يجري الاستصحاب ويثبت به الحكم والحال أنّه لم يتمّ ركنه وهو اليقين السّابق؟ {و} ذلك لأنّه {قد أخذ اليقين بالشيء في التعبّد ببقائه في الأخبار} في دليل الاستصحاب {ولا يقين في فرض تقدير الثبوت} إذ لو فرض الحكم الواقعي ثابتاً لم يكن لنا يقين به، فإنّ الدليل لا يثبت أكثر من التنجيز والإعذار.

ص: 105

قلت: نعم، ولكن الظاهر أنّه أخذ كشفاً عنه ومرآة لثبوته، ليكون التعبّد في بقائه، والتعبّد مع فرض ثبوته إنّمايكون في بقائه، فافهم.

الثّالث:

___________________________________________

{قلت: نعم} لا يقين سابقاً كما ذكرتم {ولكن الظاهر} كون أخذ اليقين من باب المرآة إلى الثبوت والحدوث حتّى يرد التعبّد على البقاء، وهي على تقدير ثبوته واقعاً في الآن الأوّل يكون بقاؤه مورداً للتعبّد، ف- {إنّه} أي: اليقين {أخذ كشفاً عنه} أي: لأجل الكشف عن الواقع {ومرآة لثبوته ليكون التعبّد في بقائه} لا أنّ لليقين موضوعيّة حتّى إذا لم يكن في السّابق لم يصحّ الاستصحاب اللّاحق {والتعبّد مع فرض ثبوته} أي: ثبوت الواقع {إنّما يكون} ذلك التعبّد {في بقائه، فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ كون اليقين أخذ مرآة خلاف الظاهر، فالوجه في الدفع أنّ المؤدّي للأمارة منزل منزلة الواقع ولذا يصحّ استصحابه.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكره المصنّف(رحمة الله) في هذا التنبيه غير ما ذكره في الاستصحاب التعليقي الآتي في التنبيه الخامس، فإنّ هذا التنبيه متعرّض لما لا يقين به سابقاً، والآتي متعرّض لما يكون اليقين التعليقي موجوداً سابقاً.

[التنبيه الثّالث]

التنبيه {الثّالث} في أقسام الاستصحاب الكلّي، وهو على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يعلم بوجود الكلّي في ضمن فرد خاصّ ثمّ يشكّ في زوال الكلّي للشكّ في زوال الفرد، كما لو كان المولى أمر بالبقاء في الدار مادام فيها شخص ثمّ دخل زيد وبعد مدّة شكّ العبد في أنّه هل خرج أم لا، فإنّه يستصحب بقاء الشّخص في الدار؛ لأنّه علم بالكلّي وشكّ في زواله فيستصحب بقاءه. ولا يخفى أنّه كما يجري في المقام استصحاب الكلّي يجري استصحاب الفرد أيضاً في ما لو رتّب عليه أثر شرعي.

ص: 106

أنّه لا فرق في المتيقّن السّابق بين أن يكون خصوص أحد الأحكام، أو ما يشترك بين الاثنين منها،

___________________________________________

الثّاني: أن يعلم بوجود الكلّي في ضمن فرد، لكن يشكّ في أنّ هذا الفرد طويل العمر أم قصيره بحيث لا يبقى إلى هذا الزمان، كما لو أمر عبده بالبقاء في الحمّام مادام فيه إنسان ودخل إنسان يشكّ كونه زيداً الّذي يبقى في الحمّام ثلاث ساعات أم عمرواً الّذي لا يبقى أكثر من ساعة، فبعد ساعتين يشكّ في بقاء الإنسان في الحمّام، وهنا يجري استصحاب الكلّي؛ لأنّه علم بوجوده وشكّ في زواله، وإن لم يجر استصحاب الفرد؛ لأنّه لم يعلم بوجود هذا الفرد الخاصّ - وهو زيد - .

الثّالث: أن يعلم بوجود الكلّي في ضمن فرد ويتيقّن بزواله بزوال ذلك الفرد، لكنّه يحتمل في أنّه حدث فرد جديد مقارناً لذهاب الفرد الأوّل أو في حال كون الفرد الأوّل موجوداً، كما لو علم بدخول إنسان في الحمّام وعلم بخروجه واحتمل أنّه مقارن لخروجه أو قبل خروجه دخل إنسان آخر ممّا يبقى معه الكلّي ولذا يحتمل بقاء الكلّي، وفي جريان الاستصحاب في هذا القسم من الكلّي خلاف: فبعضهم يرون جريانه؛ لأنّه تيقّن بوجود الكلّي وشكّ في زواله فالأصل يقتضي بقاءه، والعلم بخروج الفرد الأوّل غير ضارّ بعد الشّكّ في بقاء الكلّي لاحتمال تقوّمه بفرد آخر، وبعضهم يرون عدم جريان الاستصحاب؛ لأنّ الحصّة من الكلّي الّتي وجدت في ضمن الفرد السّابق متيقّن الزوال وغير ذلك الحصّة مشكوك الحدوث، ولذا فلا مجال للاستصحاب.

إذا عرفت ذلك قلنا: {إنّه لا فرق في المتيقّن السّابق} الّذي يجري فيه الاستصحاب و{بين أن يكون خصوص أحد الأحكام} كما لو علم سابقاً بوجوب الدعاء عند رؤيةالهلال ثمّ شكّ في بقاء الوجوب {أو ما يشترك بين الاثنين منها}

ص: 107

أو الأزيد من أمر عام.

فإن كان الشّكّ في بقاء ذاك العام من جهة الشّكّ في بقاء الخاصّ - الّذي كان في ضمنه - وارتفاعه، كان استصحابه كاستصحابه بلا كلام.

وإن كان الشّكّ فيه من جهة تردّد الخاصّ - الّذي في ضمنه - بينما هو باقٍ أو مرتفع قطعاً، فكذا لا إشكال في استصحابه، فيترتّب عليه كافّة ما يترتّب عليه عقلاً أو شرعاً من أحكامه ولوازمه.

___________________________________________

أي: من الأحكام {أو الأزيد من أمر عام} بيان «ما» كما لو علم سابقاً بأنّه توجّه إليه إلزام إمّا بالفعل أو بالترك وشكّ في بقائه، أو علم سابقاً بتوجيه تكليف إليه إلزام أو ترغيب ممّا يشترك بين الوجوب والحرمة والاستحباب {فإن كان الشّكّ في بقاء ذاك العام} هذا إشارة إلى القسم الأوّل {من جهة الشّكّ في بقاء الخاصّ الّذي كان} العام {في ضمنه و} في {ارتفاعه} بأن شكّ في بقاء الإنسان من جهة الشّكّ في بقاء زيد وخروجه {كان استصحابه} أي: استصحاب العام {كاستصحابه} أي: استصحاب الخاص {بلا كلام} فيجري كلّ منهما.

{وإن كان الشّكّ فيه} أي: في بقاء ذاك العام، وهذا إشارة إلى القسم الثّاني {من جهة تردّد الخاصّ الّذي} كان العام {في ضمنه بينما هو باقٍ أو مرتفع قطعاً} كما لو تردّد بين زيد الباقي قطعاً وبين عمرو الخارج قطعاً {فكذا لا إشكال فياستصحابه} أي: استصحاب العام {فيترتّب عليه} أي: على هذا البقاء الاستصحابي {كافّة ما يترتّب عليه عقلاً أو شرعاً} وليس المراد من قوله: «عقلاً» اللوازم العقليّة، بل الآثار العقليّة كوجوب الامتثال ونحوه.

وقد يقال: إنّ عقلاً بالنسبة إلى استصحاب الحكم وشرعاً بالنسبة إلى استصحاب الموضوع {من أحكامه ولوازمه} الشّرعيّة لا العقليّة والعادية، لما سيأتي من عدم ترتّب الأثر غير الشّرعي على الاستصحاب، وقوله: «من» بيان لقوله: «ما».

ص: 108

وتردّدُ ذاك الخاصّ - الّذي يكون الكلّي موجوداً في ضمنه، ويكون وجوده بعين وجوده، بين متيقّن الارتفاع ومشكوك الحدوث المحكوم بعدم حدوثه - غيرُ ضائرٍ باستصحاب الكلّي المتحقّق في ضمنه، مع عدم إخلاله باليقين والشّكّ في حدوثه وبقائه. وإنّما كان التردّد بين الفردين ضائراً باستصحاب أحد الخاصّين - اللّذين كان أمره مردّداً بينهما - ؛

___________________________________________

{و} إن قلت: كيف يجري الاستصحاب في هذا القسم الثّاني مع أنّ أركان الاستصحاب غير تامّ فيه، إذ زيد الطّويل غير معلوم الحدوث وعمرو القصير - لو كان - فهو معلوم الارتفاع، فعلى أحد التقديرين ليس يقين سابق، وعلى التقدير الآخر ليس شكّ لاحق؟

قلت: {تردّد ذاك الخاص - الّذي يكون الكلّي موجوداً في ضمنه و} الّذي {يكون وجوده} أي: الكلّي {بعين وجوده} أي: الخاص {بين متيقّن الارتفاع} وهو عمرو - مثلاً - {ومشكوك الحدوث} وهو زيد - مثلاً -{المحكوم بعدم حدوثه -} لأنّه إذا شكّ في حدوث زيد - الطّويل - كان الأصل عدم حدوثه {غير ضائر باستصحاب الكلّي} إذ الكلّي بوصف الكليّة متيقّن حدوثه مشكوك بقاؤه، فيتمّ فيه ركنا الاستصحاب، وإن كان ركنا الاستصحاب بالنسبة إلى الخاصّين غير تامّ، لعدم يقين سابق بوجود زيد وعدم شكّ لاحق في وجود عمرو، فاستصحاب الكلّي {المتحقّق في ضمنه} أي: ضمن الخاصّ لا يضرّ به تردّد الخاصّ {مع عدم إخلاله} أي: التردّد {باليقين والشّكّ في حدوثه وبقائه} فإنّا نتيقّن بحدوث الكلّي ونشكّ في بقائه، فيتمّ فيه ركنا الاستصحاب {وإنّما كان التردّد بين الفردين ضائراً باستصحاب أحد الخاصّين اللّذين كان أمره} أي: أمر الخاصّ {مردّداً بينهما} إذ لا يقين بالفرد الطّويل ولا شكّ بالنسبة إلى الفرد القصير، فإذا كان حكم مرتّباً على زيد أو عمرو لم يصحّ ترتيبه فعلاً لعدم صحّة الاستصحاب بالنسبة إلى أحدهما

ص: 109

لإخلاله باليقين الّذي هو أحد ركني الاستصحاب، كما لا يخفى.

نعم، يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالاً المترتّبة على الخاصّين، في ما علم تكليف في البين.

وتوهّمُ؛ «كون الشّكّ في بقاء الكلّي - الّذي في ضمن ذاك المردّد - مسبّباً عن الشّكّ في حدوث الخاصّ

___________________________________________

{لإخلاله} علّة قوله: «ضائراً» أي: إخلال التردّد {باليقين الّذي هو أحد ركني الاستصحاب}.

وإنّما لم يذكر الشّكّ؛ لأنّ الفرد الّذي يدوم هو زيد ولا يقين سابق به، وأمّا الفردالّذي لا يدوم وهو عمرو لا يهمّ المستصحب {كما لا يخفى} لكن عدم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الخاصّ إنّما هو في ما لو كان لأحدهما حكم خاص.

{نعم، يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالاً المترتّبة على الخاصّين في ما علم تكليف في البين} كما لو أمر المولى ببقائه في الحمّام مادام فيه إنسان، وأمر بإعطاء خبز للفقير إن جاء إلى الحمّام، وإعطاء درهم له إن جاء عمرو، فإنّه وإن لم يصحّ استصحاب أحدهما لكنّه يجب عليه إعطاء الخبز والدرهم للعلم الإجمالي.

{و} إذ قد فرغنا من الجواب عن الإشكال الأوّل في استصحاب الكلّي في القسم الثّاني نقول: قد أُشكل على هذا الاستصحاب بإشكال آخر، وهو أنّ الشّكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشّكّ في وجود زيد الطّويل، لكن الأصل عدم وجود زيد فلا مجال لاستصحاب الكلّي، إذ الأصل الجاري في السّبب مقدّم على الأصل الجاري في المسبّب.

وإلى هذا أشار بقوله: و{توهّم «كون الشّكّ في بقاء الكلّي الّذي في ضمن ذاك} الفرد {المردّد} بين الطّويل والقصير {مسبّباً عن الشّكّ في حدوث الخاصّ} الطّويل

ص: 110

المشكوك حدوثه، المحكوم بعدم الحدوث بأصالة عدمه»(1).

فاسدٌ قطعاً؛ لعدم كون بقائه وارتفاعه من لوازم حدوثه وعدم حدوثه، بل من لوازم كون الحادث المتيقّن ذاك المتيقّن الارتفاع أو البقاء.

___________________________________________

{المشكوك حدوثه} لأنّ شكّنا في بقاء الإنسان من جهة شكّنا في وجود زيد {المحكوم} هذا الخاصّ الطّويل {بعدم الحدوث ب-} سبب جريان {أصالة عدمه»} فإذا انتفى الخاصّ الطّويل بالأصل انتفى الشّكّ في بقاء الكلّي، فلا مجال لاستصحاب الكلّي.

لكن هذا التوهّم {فاسد قطعاً} لما يرد عليه من إشكالات ثلاثة:

الأوّل: إن كان السّببيّ والمسبّبي هو الأوّل كان المسبّب وجوداً وعدماً منوطاً بالسبب، كطهارة اليد الّتي غسلها بماء مشكوك الكريّة مسبوقاً بكونه كرّاً، فإنّ وجود الطّهارة لليد وعدمها منوط بالكريّة وعدمها، وذلك بخلاف ما نحن فيه، فإنّ بقاء الكلّي مسبّب عن كون الحادث هو الفرد الطّويل وارتفاعه مسبّب عن كون الحادث هو الفرد القصير.

ومن المعلوم أنّه لا أصل يعيّن الفرد الحادث وأنّه طويل أو قصير حتّى يكون ذلك الأصل سبباً واستصحاب الكلّي مسبّباً، فلا أصل سببيّ ومسبّبيّ في البين {لعدم كون بقائه} أي: الكلّي {وارتفاعه من لوازم حدوثه} أي: حدوث الفرد الطّويل {وعدم حدوثه، بل} كلّ من بقاء الكلّي وارتفاعه يترتّب على أحد أمرين، فارتفاعه {من لوازم كون الحادث المتيقّن ذاك} الفرد القصير {المتيقّن الارتفاع} وبقاؤه من لوازم كون الحادث المتيقّن ذاك الفرد المتيقّن البقاء، وإليه أشار بقوله: {أو البقاء}.

الثّاني: إنّ بقاء الكلّي ليس مسبّباً عن بقاء الفرد الطّويل حتّى يكون من باب السّببي والمسبّبي، بل بقاء الكلّي عين بقاء ذاك، وإليه أشار بقوله:

ص: 111


1- فرائد الأصول 3: 193.

مع أنّ بقاء القدر المشترك إنّما هو بعين بقاء الخاصّ الّذي في ضمنه، لا أنّه من لوازمه.على أنّه لو سلّم أنّه من لوازم حدوث المشكوك، فلا شبهة في كون اللزوم عقليّاً، ولا يكاد يترتّب بأصالة عدم الحدوث إلّا ما هو من لوازمه وأحكامه شرعاً.

وأمّا إذا كان الشّكّ في بقائه من جهة الشّكّ في قيام خاصّ آخر في مقام ذاك الخاصّ - الّذي كان في ضمنه -

___________________________________________

{مع أنّ بقاء القدر المشترك إنّما هو بعين بقاء الخاصّ الّذي} كان الكلّي {في ضمنه} أي: ضمن ذاك الخاصّ {لا أنّه} أي: بقاء الكلّي {من لوازمه} أي: من لوازم بقاء الخاصّ.

الثّالث: إنّه لو سلّمنا كون بقاء الكلّي من لوازم حدوث الفرد، لكن الاستصحاب في السّبب لا يرفع الاستصحاب في المسبّب، إذ اللزوم عقليّ، وفي اللزوم العقلي لا يكون الأصل الجاري في السّبب حاكماً على الأصل الجاري في المسبّب، وإليه أشار بقوله: {على أنّه لو سلّم أنّه} أي: بقاء الكلّي {من لوازم حدوث} الفرد الطّويل {المشكوك} حدوثه {فلا شبهة في كون اللزوم عقليّاً} إذ العقل هو الحاكم ببقاء الكلّي عند بقاء الفرد الطّويل - لا الشّرع - {ولا يكاد يترتّب بأصالة عدم الحدوث} للفرد الطّويل {إلّا ما هو من لوازمه وأحكامه شرعاً} كما لو نذر بأن يتصدّق بدينار إذا لم يأت زيد إلى الحمّام، إذ الأصل لا يثبت اللوازم العقليّة والعادية وإنّما يثبت اللوازم الشّرعيّة، كما سيأتي.

هذا تمام الكلام في القسم الثّاني من أقسام الاستصحاب الكلّي {وأمّا} القسم الثّالث، وهو ما {إذا كان الشّكّ في بقائه} أي: بقاءالكلّي {من جهة الشّكّ في قيام خاصّ آخر في مقام ذاك الخاصّ} الأوّل {الّذي كان} الكلّي {في ضمنه} أي: في ضمن ذلك الخاصّ، كما إذا شكّ في دخول عمرو الدّار مقارناً لخروج زيد

ص: 112

بعد القطع بارتفاعه، ففي استصحابه إشكال، أظهره عدم جريانه؛ فإنّ وجود الطّبيعي وإن كان بوجود فرده، إلّا أنّ وجوده في ضمن المتعدّد من أفراده ليس من نحو وجود واحد له، بل متعدّد حسب تعدّدها، فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده منها لقطع بارتفاع وجوده، وإن شكّ في وجود فرد آخر مقارن لوجود ذاك الفرد، أو لارتفاعه بنفسه

___________________________________________

منها {بعد القطع بارتفاعه} أي: ارتفاع الخاصّ الأوّل {ففي استصحابه} أي: الكلّي {إشكال} من أنّه علم بوجود الكلّي وشكّ في ارتفاعه - وإن قطع بارتفاع فرده الأوّل - فقد تمّ ركنا الاستصحاب وهو اليقين السّابق والشّكّ واللّاحق، ومن أنّه حيث علم بارتفاع الفرد الأوّل فقد علم بارتفاع الحصّة المتيقّنة من الكلّي والحصّة الأُخرى مشكوكة الحدوث، فلا مجال للاستصحاب.

وهذا هو المختار، ولذا قال: {أظهره عدم جريانه} أي: جريان الاستصحاب الكلّي {فإنّ وجود} الكلّي {الطّبيعي وإن كان بوجود فرده} كما حقّق في المنطق، ولذا قال في التهذيب: «والحقّ أنّ وجود الطّبيعي بمعنى وجود أفراده»(1)

{إلّا أنّ وجوده}أي: الطّبيعي {في ضمن المتعدّد من أفراده} كزيد وعمرو وبكر {ليس من نحو وجود واحد له} أي: للطّبيعي {بل متعدّد} وجود الطّبيعي {حسب تعدّدها} أي: تعدّد الأفراد.

{فلو قطع} الشّخص {بارتفاع ما علم وجوده منها} كما لو علم بخروج زيد عن الدار {لقطع بارتفاع وجوده} أي: وجود الطّبيعي {وإن شكّ في وجود فرد آخر} كعمرو {مقارن لوجود ذاك الفرد} المرفوع، بأن احتمل دخول عمرو الدار قبل خروج زيد منها {أو} مقارن {لارتفاعه} أي: ارتفاع الفرد الأوّل، بأن احتمل دخول عمرو مقارناً لخروج زيد - سواء كان وجود هذا الفرد المحتمل المقارن لزوال الفرد الأوّل - {بنفسه} بأن كان وجود الحادث مقارناً لوجود الفرد القديم

ص: 113


1- الحاشية على تهذيب المنطق: 49.

أو بملاكه، كما إذا شكّ في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الإيجاب بملاك مقارن أو حادث.

لا يقال: إنّ الأمر وإن كان كما ذكر، إلّا أنّه حيث كان التفاوت بين الإيجاب والاستحباب - وهكذا بين الكراهة والحرمة - ليس إلّا بشدّة الطّلب بينهما وضعفه، كان تبدّل أحدهما بالآخر - مع عدم تخلّل العدم - غير موجب لتعدّد وجود الطّبيعي بينهما؛

___________________________________________

{أو} كان {بملاكه} بأن قارن زوال الفرد الأوّل الثّاني، فالأقسام ثلاثة: المقارن للارتفاع، والمقارن للوجود بنفسه، والمقارن للوجود بملاكه {كما إذا شكّ في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الإيجاب} بحيث كان ذلك الاستحباب الحادث {بملاك مقارن} للوجوب {أو حادث} عند زوال الوجوب.ومن المعلوم أنّه إذا كان الملاك مقارناً للوجوب كان الاستحباب بنفسه موجوداً حالة الوجوب، بخلاف ما إذا كان حادثاً. وقد اختلف المعلّقون في مراد المصنّف(رحمة الله) هنا، فراجع.

{لا يقال}: كيف ذكرتم أنّ الاستحباب فرد جديد، وجعلتم ذلك من القسم الثّالث من استصحاب الكلّي، والحال أنّه بعض مراتب الوجوب، إذ الوجوب شدّة الطّلب والاستحباب ضعفه، فالجامع بينهما موجود من أوّل الأمر، فلا مانع من استصحاب الاستحباب بعد العلم برفع الوجوب.

ف- {إنّ الأمر} في الوجوب والاستحباب {وإن كان كما ذكر} من أنّها فردان {إلّا أنّه حيث كان التفاوت بين الإيجاب والاستحباب، وهكذا} التفاوت {بين الكراهة والحرمة ليس إلّا بشدّة الطّلب بينهما} أي: بين الإيجاب والاستحباب، وبين الكراهة والحرمة {وضعفه} أي: ضعف الطّلب {كان تبدّل أحدهما بالآخر مع عدم تخلّل العدم} بأن جاء الاستحباب بمجرّد زوال الوجوب {غير موجب لتعدّد وجود الطّبيعي بينهما} أي: بين الوجوب والاستحباب والكراهة والحرمة.

ص: 114

لمساوقة الاتصال مع الوحدة، فالشكّ في التبدّل حقيقة شكّ في بقاء الطّلب وارتفاعه، لا في حدوث وجود آخر.

فإنّه يقال: الأمر وإن كان كذلك،

إلّا أنّ العرف حيث يرى الإيجاب والاستحباب المتبادلين فردين متباينين، لا واحد مختلف الوصف في زمانين، لم يكن مجال للاستصحاب؛

___________________________________________

وإنّما قلنا: إنّ الفرق بينهما غير موجب لتعدّد الطّبيعي {لمساوقة الاتصال مع الوحدة} أي: إنّ الوجود المتصل وجود واحد لا أنّه وجودات متعدّدة، فالوجوب والاستحباب حيث إنّ الطّلب فيهما واحد يكونان شيئاً واحداً {فالشكّ في التبدّل} وهل أنّه انعدم الوجوب بلا خلف أو انعدم مع خلف هو الاستحباب {حقيقة شكّ في بقاء الطّلب وارتفاعه} لفرض أنّ الطّلب في الواجب والمستحبّ أمر واحد لا متعدّد {لا في حدوث وجود آخر} فهو من قبيل تبدّل السّواد الشّديد بالسواد الضّعيف، لا من قبيل تبدّل زيد بعمرو - ممّا لهما وجودان منحازان - .

وعلى هذا فلا يصحّ التمثيل للقسم الثّالث بالوجوب والاستحباب.

{فإنّه يقال}: الوجوب والاستحباب وإن كانا كما ذكرتم حقيقة إلّا أنّهما متباينان عرفاً، والمناط في الاستحباب وحدة الموضوع عرفاً، فإنّ {الأمر وإن كان كذلك} بأنّ الاستحباب من مراتب الوجوب والطّلب فيها واحد منتهى الأمر بشدّة وضعف {إلّا أنّ العرف حيث يرى الإيجاب والاستحباب المتبادلين} القائم أحدهما مكان الآخر {فردين متباينين} لا علقة بينهما أصلاً، و{لا} يرى أنّهما {واحد مختلف الوصف} بالشدّة والضّعف {في زمانين} زمان الوجوب السّابق وزمان الاستحباب اللّاحق {لم يكن} جواب قوله: «حيث يرى» أو أنّ العرف حيث يراهما اثنين لم يكن {مجال للاستصحاب} وهكذا في السّواد الضّعيف والشّديد

ص: 115

لما مرّت الإشارة إليه ويأتي من أنّ قضيّة إطلاق أخبار الباب: أنّ العبرة فيه بما يكون رفع اليد عنه - مع الشّكّ، بنظرالعرف - نقضاً، وإن لم يكن بنقض بحسب الدقّة، ولذا لو انعكس الأمر ولم يكن نقض عرفاً، لم يكن الاستصحاب جارياً وإن كان هناك نقض عقلاً.

وممّا ذكرنا في المقام يظهر أيضاً حال الاستصحاب في متعلّقات الأحكام في الشّبهات الحكميّة والموضوعيّة،

___________________________________________

{لما مرّت الإشارة إليه ويأتي} تفصيله في الخاتمة {من أنّ قضيّة إطلاق أخبار الباب أنّ العبرة فيه} أي: في الاستصحاب {بما} خبر «إنّ» أي: الاعتبار بشيء {يكون رفع اليد عنه - مع الشّكّ، بنظر العرف - نقضاً} فكلّما رأى العرف أنّه نقض جرى الاستصحاب، وكلّما رأى أنّه ليس بنقض لم يجر وإن كان في نظر الدقّة والعقل خلاف ذلك.

وما نحن فيه ممّا يرى أنّه ليس بنقض، ولذا نرى أنّه لو ارتفع الوجوب عن شيء فلم يقل المكلّف باستحبابه لم يره العرف ناقضاً ليقينه السّابق، فكلّما قال العرف أنّه نقض {وإن لم يكن بنقض بحسب الدقّة} العقليّة جرى الاستصحاب، كما لو نقص عن ماء الكرّ مقدار، فإنّ رفع اليد عن الكريّة نقض عرفي، وإن لم يكن نقضاً دقّيّاً، وكلّما قال العرف إنّه ليس بنقض - وإن كان نقضاً بحسب الدقّة - لم يجر الاستصحاب، كما نحن فيه من مثال الوجوب والاستحباب {ولذا لو انعكس الأمر ولم يكن نقض عرفاً} وإن كان نقضاً عقلاً ودقّة {لم يكن الاستصحاب جارياً، وإن كان هناك نقض عقلاً} كما عرفت.

{وممّا ذكرنا في المقام} من تفصيل أقسام الاستصحاب الكلّي وأنّه يجري في الأوّلين دون الأخير {يظهر أيضاًحال الاستصحاب في متعلّقات الأحكام} وهي الموضوعات ممّا ليس بأُمور مجعولة كالخمر والميتة ونحوهما {في الشّبهات الحكميّة} كما لو شكّ في أنّ الواجب في الكفّارة مدّ أو مدّان {والموضوعيّة} كما

ص: 116

فلا تغفل.

الرّابع: أنّه لا فرق في المتيقّن بين أن يكون من الأُمور القارّة

___________________________________________

لو علم بأنّه وجب عليه أمداد متعدّدة لكن لا يعلم بأنّها لشهر كامل أو لنصف شهر، فإنّه لا يجري استصحاب الوجوب لتعيين الزائد؛ لأنّه من القسم الثّالث من الاستصحاب الكلّي، وقد عرفت عدم جريانه {فلا تغفل} واللّه العالم.

[التنبيه الرّابع]
اشارة

التنبيه {الرّابع} في جريان الاستصحاب في الأُمور التدريجيّة، كجريان النّهر وسيلان الدم، فإنّ الأُمور تنقسم إلى قسمين:

الأوّل: الأُمور القارّة، وهي الّتي تجتمع أجزاؤها في الوجود كالخطّ والإنسان والشّجر وما أشبه، ولا إشكال في جريان الاستصحاب فيها؛ لأنّها كانت في الزمان الأوّل ثمّ شكّ في بقائها فيستصحب.

الثّاني: الأُمور غير القارّة، وهي الّتي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود، بل ينعدم جزء ليوجد جزء، وقد أشكل في جريان الاستصحاب في هذا القسم من جهة أنّ الجزء السّابق المتيقّن قد زال يقيناً، فإنّ القطرة الأُولى من الدم قد أُريقت، والجزء اللّاحق المشكوك لا حالة سابقة له، فإنّه لا يعلم بخروج قطرة أُخرى من الرّحم - في باب الحيض - فكيف يستصحب بقاء دم الحيض - مثلاً - .

وإن شئت قلت: القطرة الأُولى متيقّن الزوال والقطرة الثّانية مشكوك الحدوث، فلا يتمّ ركنا الاستصحاب في مثله.لكن يدفع هذا الإشكال بأنّ موضوع الاستصحاب - كما عرفت - هو الأمر العرفي، ومن المعلوم أنّ العرف يرى هذا الدم هو الدم الأوّل، فإنّه لا يفرق بين الأجزاء القارّة وغير القارّة، والموضوع العرفي كافٍ في جريان الاستصحاب، ف- {إنّه لا فرق في المتيقّن بين أن يكون من الأُمور القارّة} الّتي تجتمع أجزاؤها في

ص: 117

أو التدريجيّة غير القارّة؛ فإنّ الأُمور غير القارّة، وإن كان وجودها ينصرم، ولا يتحقّق منه جزء إلّا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم، إلّا أنّه ما لم يتخلّل في البين العدم - بل وإن تخلّل بما لا يخلّ بالاتصال عرفاً، وإن انفصل حقيقة - كانت باقية مطلقاً أو عرفاً، ويكون رفع اليد عنها مع الشّكّ في استمرارها وانقطاعها نقضاً، ولا يعتبر في الاستصحاب - بحسب تعريفه وأخبار الباب وغيرها من أدلّته -

___________________________________________

الوجود في زمان واحد {أو} الأُمور {التدريجيّة غير القارّة} ممّا لا تجتمع أجزاؤها في زمان واحد.

{فإنّ الأُمور غير القارّة، وإن كان وجودها ينصرم} ويمضي {ولا يتحقّق منه جزء إلّا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم} ومضى {إلّا أنّه ما لم يتخلّل في البين العدم} بأن لم تر المرأة بياضاً بعد الجزء الأوّل من الدم - مثلاً - {بل وإن تخلّل} العدم القليل {بما لا يخلّ بالاتصال عرفاً، وإن انفصل حقيقة}.

كما لو رأت البياض لحظة واحدة ممّا لا يسبّب الاثنينيّة بين الدم الأوّل والدمالثّاني عند العرف {كانت} متعلّق بقوله: «إنّه ما لم يتخلّل» أي: كانت هذه الأُمور غير القارّة {باقية مطلقاً} أي: حقيقة وعرفاً في ما لم يتخلّل العدم أصلاً {أو} باقية {عرفاً} لا حقيقة في ما تخلّل العدم القليل {ويكون رفع اليد عنها} أي: عن تلك الأُمور غير القارّة {مع الشّكّ في استمرارها وانقطاعها}.

كما لو شكّ في أنّه هل انقطع دمها أم استمرّ، فإنّه لو رفعت اليد عن الدم كان ذلك {نقضاً} لليقين بالشك، ويقال لها عرفاً: أنت الّتي كنت تيقّنت بالدم كيف رفعت اليد عنه مع أنّك لا تعلمين بالنقاء؟

{و} على هذا فيجب الاستصحاب، إذ {لا يعتبر في الاستصحاب بحسب تعريفه} وه--و إبقاء ما كان {وأخبار الباب} ك- «لا تنقض اليقين ب-الشكّ» {وغيرها} أي: غير الأخبار {من أدلّته} كالظنّ وبناء العقلاء والإجماع

ص: 118

غيرُ صدق النّقض والبقاء كذلك قطعاً، هذا.

مع أنّ الانصرام والتدرّج في الوجود في الحركة - في الأين وغيره -

___________________________________________

{غير صدق النّقض والبقاء كذلك} أي: عرفاً {قطعاً} كما لا يخفى.

{هذا مع} أنّه يمكن الجواب عن إشكال الاستصحاب في الأشياء التدريجيّة بوجه آخر، وهو أنّ الحركة على قسمين: قطعيّة، وتوسّطيّة.

فالحركة القطعيّة: هي الّتي يعتبر المتحرّك في كلّ زمان في مكان خاصّ أو عند حدّ خاصّ، ككون المسافر من كربلاء إلى النّجف في السّاعة الأُولى في الفرسخ الأوّل وهكذا، أو كون الطّفل في اليوم الأوّل في هذا الحدّ الخاصّ من عمره، وفياليوم الثّاني في حدّ آخر، أو كون التمر في اليوم الأوّل في الاخضرار وفي اليوم الثّاني في الاصفرار وهكذا، وبهذا الاعتبار يكون المتيقّن السّابق غير المشكوك اللّاحق، إذ كون المسافر في الفرسخ الأوّل غير كونه في الفرسخ الثّاني.

والحركة التوسطيّة: عبارة عن كون المتحرّك بين المبدأ والمنتهى، ككون المسافر بين كربلاء والنّجف، والطّفل بين الجنينيّة والكهليّة، والتمر بين الاخضرار والاسوداد، وبهذا الاعتبار يكون المتيقّن السّابق عين المشكوك اللّاحق.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الأُمور التدريجيّة لو اعتبرناها بالحركة القطعيّة لم يجر الاستصحاب فيها؛ لأنّ المتيقّن قد زال والمشكوك لا يقين سابق بالنسبة إليه، ولو اعتبرناها بالحركة التوسطيّة جرى الاستصحاب فيها، لما عرفت من أنّ المتيقّن عين المشكوك، فنقول: كان المسافر بين المبدأ والمنتهى فنشكّ عن خروجه عن ذلك فالأصل البقاء، لكن لا يخفى أنّ هذا جواب دقّيّ مستغن عنه في باب الاستصحاب، وربّما يشكل عليه بما لا مجال لذكره.

إذا عرفت ذلك فلنوضّح المتن ونقول: {إنّ الانصرام والتدرّج في الوجود في الحركة في الأين وغيره} كالحركة في الكمّ في الطّفل النّامي، والحركة في الكيف

ص: 119

إنّما هو في الحركة القطعيّة، وهي: كون الشّيء في كلّ آن في حدّ أو مكان، لا التوسطيّة، وهو كونه بين المبدأ والمنتهى؛ فإنّه بهذا المعنى يكون قارّاً مستمرّاً.

فانقدح بذلك أنّه: لا مجال للإشكال في استصحاب مثل الليل أو النّهار وترتيب ما لهما من الآثار.

وكذا كلّما إذا كان الشّكّ في الأمر التدريجي من جهة الشّكّ في انتهاء حركته ووصوله

___________________________________________

في التمر المتلوّن، وهكذا من أقسام الحركة المذكورة في كتب الكلام والفلسفة {إنّما هو في الحركة القطعيّة، وهي} الّتي تعتبر الحركة أجزاء تدريجيّة، فالمتحرّك في كلّ آن في مكان أو حال غير المكان الأوّل، والحال الأوّل بما حاصلها {كون الشّيء في كل آنٍ في حدٍّ أو مكانٍ} فلا متيقّن باقٍ حتّى يستصحب {لا} الحركة {التوسطيّة، وهو كونه} أي: الشّيء المتحرّك {بين المبدأ والمنتهى} بأن تعتبر الحركة أمراً واحداً يبتدئ من هنا وينتهي إلى هنا {فإنّه} أي: الشّيء المتحرّك {بهذا المعنى} التوسطي {يكون قارّاً مستمرّاً} ويصحّ استصحابه لليقين السّابق بعين ما يشكّ فيه لاحقاً.

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من صحّة استصحاب الأُمور التدريجيّة {أنّه لا مجال للإشكال في استصحاب مثل اللّيل أو النّهار} إمّا ببيان أنّ كلّاً منهما أمر واحد عرفاً، فإذا شكّ في زواله استصحب لليقين السّابق، وإمّا ببيان أنّ النّهار عبارة عن: كون الشّمس بين المشرق والمغرب، والليل عبارة عن: كونها بين المغرب والمشرق، وهما أمران باقيان قارّان لا متصرّمان تدريجيان غير قارّين {و} عليه يجب الاستصحاب و{ترتيب ما لهما من الآثار} الشّرعيّة عليهما.

{وكذا} لا مجال للإشكال في {كلّما إذا كان الشّكّ في الأمر التدريجي} وأنّه هل زال أم بعد باقٍ {من جهة الشّكّ في انتهاء حركته ووصوله} أي: المتحرّك

ص: 120

إلى المنتهى، أو أنّه بعد في البين.

وأمّا إذا كان من جهة الشّكّ في كميّته ومقداره - كما في نبع الماء وجريانه، وخروج الدم وسيلانه، في ما كان سبب الشّكّ في الجريان والسّيلان، الشّكّ في أنّه بقي في المنبع والرّحم فعلاً شيء من الماء والدم غير ما سال وجرى منهما - .

فربّما يشكل في استصحابهما حينئذٍ؛ فإنّ الشّكّ ليس في بقاء جريان شخص ما كان جارياً، بل في حدوث جريان جزء آخر شكّ في جريانه من جهة الشّكّ في حدوثه.

___________________________________________

{إلى المنتهى أو أنّه بعد في البين} وهذا في ما إذا كان الشّكّ في المانع، كما لو شكّ في أنّه منع عن جريان النّهر مانع أم لا، مع العلم بالاستعداد واضح، فإذا علمنا بأنّ للماء استعداداً للجريان ثمّ شككنا في أنّه هل وقع على فم العين حجر يمنع عن الجريان، كان الأصل مقتضياً للجريان.

{وأمّا إذا كان} الشّكّ في الأمر التدريجي {من جهة الشّكّ في كمّيّته ومقداره كما} لو شكّ {في نبع الماء وجريانه} وهل أنّه لهذه العين استعداد للجريان إلى هذا الوقت أم لا {وخروج الدم وسيلانه} بأن شكّ في أنّ دمها للحيض هل يكون بكميّة يمكن بقاؤه إلى هذا اليوم أم لا {في ما كان سبب الشّكّ في الجريان والسّيلان الشّكّ في أنّه بقي في المنبع} للماء {والرّحم} بالنسبة إلى الدم {فعلاً شيء من الماء والدم غير ما سال وجرى منهما} أم لا، فهل يستصحبان؟{فربّما يشكل في استصحابهما} أي: الجريان والسّيلان {حينئذٍ} أي: حين كان الشّكّ في المقتضي لأجل ما ذكره بقوله: {فإنّ الشّكّ} في الاستمرار {ليس في بقاء جريان شخص ما كان جارياً} إذ الشّخص الجاري قد نفد وتمّ {بل} الشّكّ {في حدوث جريان جزء آخر} الّذي {شكّ في جريانه من جهة الشّكّ في حدوثه} لأنّه لا يعلم بالكميّة، ولهذا لا يدري أنّ الماء الزائد والدم الزائد هل حدث في المنبع والرّحم حتّى يجري أم لا؟

ص: 121

ولكنّه يتخيّل بأنّه لا يختلّ به ما هو الملاك في الاستصحاب، بحسب تعريفه ودليله حسب ما عرفت.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ استصحاب بقاء الأمر التدريجي إمّا يكون من قبيل استصحاب الشّخص، أو من استصحاب الكلّي بأقسامه.

فإذا شكّ في أنّ السّورة المعلومة الّتي شرع فيها تمّت، أو بقي شيء منها، صحّ فيه استصحاب الشّخص والكلّي.

___________________________________________

{ولكنّه} لا يتمّ هذا الإشكال، فإنّ مقتضى القاعدة القول بجريان الاستصحاب، إذ {يتخيّل} وهذا من باب التواضع من المصنّف(رحمة الله) {بأنّه لا يختلّ به} أي: بهذا الشّكّ {ما هو الملاك في الاستصحاب بحسب تعريفه ودليله} إذ يصدق هنا «بقاء ما كان» كما يصدق «لا تنقض اليقين بالشكّ» {حسب ما عرفت} سابقاً، فإذا صدق دليل الاستصحاب وتعريفه لم يكن مجال للإشكال.

{ثمّ إنّه لا يخفى} أنّ الأقسام الأربعة للاستصحاب: وهو الاستصحاب الشّخصي، والاستصحاب الكلّي بأقسامه الثلاثة، وهي ما كان الشّكّ في الكلّي من جهة الشّكّ في بقاء الفرد المتحقّق في ضمنه، والشّكّ فيالكلّي من جهة تردّد الأمر بين الفرد القصير والفرد الطّويل، والشّكّ في الكلّي من جهة الشّكّ في أنّه هل حدث فرد جديد عند ذهاب الفرد الأوّل أم لا؟

وإنّما قلنا بجريان الاستصحاب في جميع هذه الأقسام في الأُمور التدريجيّة لما عرفت من جريان دليل الاستصحاب وتعريفه فيها.

والحاصل: {أنّ استصحاب بقاء الأمر التدريجي إمّا يكون من قبيل استصحاب الشّخص أو من استصحاب الكلّي بأقسامه} الثلاثة {فإذا شكّ في أنّ السّورة المعلومة} كسورة تبارك {الّتي شرع فيها تمّت أو بقي شيء منها صحّ فيه استصحاب الشّخص} بأن يقال: إنّ سورة تبارك لم تتمّ {والكلّي} بأن يقول: السّورة لم تتمّ في

ص: 122

وإذا شكّ فيه من جهة تردّدها بين القصيرة والطّويلة كان من القسم الثّاني.

وإذا شكّ في أنّه شرع في أُخرى مع القطع بأنّه قد تمّت الأُولى، كان من القسم الثّالث، كما لا يخفى.

هذا في الزّمان ونحوه من سائر التّدريجيّات.

وأمّا الفعل المقيّد بالزمان:

___________________________________________

ما كان كلّ منهما ذا أثر.

ولا يفرق في ذلك الشّكّ كون منشأه الشّكّ في المقتضي، بأن كان الشّكّ من جهة عدم علمه بطول السّورة وقصرها، أم الشّكّ في المانع؟ وأنّه هل منعه عن إتمامها شيء {وإذا شكّ فيه من جهة تردّدها بين القصيرة والطّويلة} كما لو لم يدر بأنّه هل كان يقرأ سورة البقرةحتّى لم تكن قد تمّت، أم كان يقرأ {قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ}(1) حتّى تكون قد تمّت {كان من القسم الثّاني} الّذي ذكرنا بجريان الاستصحاب فيه، فأصالة عدم التمام محكمة.

وعليه يقتضي إمّا إتمام البقرة - لو كان يعلم أنّه قرأ إلى آية كذا على تقدير كون المقروّة البقرة - أو الإتيان بسورة جديدة وفاءً للنذر أو امتثالاً لقراءة السّورة الكاملة بعد الحمد في الصّلاة.

{وإذا شكّ في أنّه} هل {شرع في} سورة {أُخرى مع القطع بأنّه قد تمّت الأُولى} في ما لو كان المكلّف به: أن يقف العبد بخدمة القارئ مادام مشتغلاً بقراءة السّورة، فعلم بأنّه أتمّ السّورة الأُولى ولم يعلم بأنّه هل شرع في أُخرى أم لا؟ {كان من القسم الثّالث} الّذي ذكرنا أنّه لا يجري الاستصحاب فيه {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{هذا} كلّه {في الزّمان ونحوه من سائر التدريجيّات} وقد علمت أنّها كسائر الأُمور القارّة في جميع الخصوصيّات {وأمّا الفعل المقيّد بالزمان} كصوم نهار

ص: 123


1- سورة الإخلاص، الآية: 1.

فتارة: يكون الشّكّ في حكمه من جهة الشّكّ في بقاء قيده

___________________________________________

رمضان والجلوس في المسجد يوم الجمعة، فإنّ الشّكّ فيه على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون الشّكّ في الفعل، لأجل الشّكّ في بقاء الزمان وعدمه، كما لو شكّ في وجوب الإمساك من جهة الشّكّ في بقاء النّهار ودخول الليل، وهذا ممّالا شكّ في جريان الاستصحاب في الزمان بالنسبة إليه، فيحكم بوجوب الإمساك.

الثّاني: أن يكون الشّكّ في الفعل من جهة الشّكّ في أنّه هل الفعل محدود بهذا الزمان أم ليس بمحدود، بل يجب حتّى بعد انتهاء الزمان مع كون الزمان قيداً للفعل، كما لو قال: (اجلس في المسجد نهار يوم الجمعة) فانقضى النّهار وجاء الليل وشكّ في أنّه هل يجب جلوسه فيه في الليل أم انتهى الوجوب بانتهاء النّهار، وكان سبب شكّه في الوجوب احتماله وجوب الجلوس في الليل أيضاً، وإنّما قيل بالنهار - في لسان الدليل - من باب تعدّد المطلوب، بأن يكون أصل الجلوس في المسجد مطلوباً وكونه في النّهار مطلوباً ثانياً، وهنا لا يجري الاستصحاب؛ لأنّ كون النّهار قيداً لموضوعه موجب لانتفاء الحكم بزوال القيد، إذ الشّيء المقيّد غير الشّيء المطلق، واستصحاب الحكم حينئذٍ يكون من باب انسحاب الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

الثّالث: هو الثّاني لكن في ما إذا أخذ الزمان - في لسان الدليل - ظرفاً للفعل لا قيداً، وهنا يجري الاستصحاب؛ لأنّ الفعل مطلق غير مقيّد ونشكّ في بقائه وارتفاعه والأصل بقاؤه. وبهذا تعرف أنّ قول المصنّف: «المقيّد بالزمان» يراد به المذكور فيه الزمان، حتّى يشمل القسم الثّالث.

وكيف كان {ف-} الفعل المذكور فيه الزمان {تارة يكون الشّكّ في حكمه من جهة الشّكّ في بقاء قيده} كالشكّ في الإمساك من جهة الشّكّ في بقاء النّهار

ص: 124

وطوراً: مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة أُخرى، كما إذا احتمل أن يكون التعبّد به إنّما هو بلحاظ تمام المطلوب، لا أصله.

فإن كان من جهة الشّكّ في بقاء القيد،فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان، كالنهار الّذي قيّد به الصّوم - مثلاً - ، فيترتّب عليه وجوب الإمساك وعدم جواز الإفطار ما لم يقطع بزواله.

كما لا بأس باستصحاب نفس المقيّد، فيقال: إنّ الإمساك كان قبل هذا الآن في النّهار، والآن كما كان، فيجب، فتأمّل.

___________________________________________

{وطوراً} يكون الشّكّ في حكمه {مع القطع بانقطاعه وانتفائه} أي: انتفاء القيد ويكون سبب الشّكّ {من جهة أُخرى، كما إذا احتمل أن يكون التعبّد به} أي: التعبّد بهذا المقيّد بالزمان كالجلوس يوم الجمعة في المسجد {إنّما هو بلحاظ تمام المطلوب، لا أصله} أي: لا أصل المطلوب، فالمطلوب متعدّد. وقد أراد المصنّف بهذا التقسيم بين القسمين الأخيرين القيد والظرف، وسيأتي منه التفكيك بينهما، إذ يوم الجمعة في المثال قد يكون ظرفاً وقد يكون قيداً.

إذا عرفت القسمين من تقيّد الفعل بالزمان - الإمساك والجلوس - قلنا {فإن كان} الشّكّ في بقاء الحكم {من جهة الشّكّ في بقاء القيد فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان} «من» بيان لقوله: «قيده» {كالنهار الّذي قيّد به الصّوم مثلاً} فإذا شكّ في آخر النّهار - لظلمة - هل أنّه يجب عليه الإمساك أم لا استصحب النّهار {فيترتّب عليه وجوب الإمساك وعدم جواز الإفطار ما لم يقطع بزواله} أي: زوال النّهار {كما لا بأس باستصحاب نفس} الفعل {المقيّد} بالزمان - بأن لا يستصحب الزمان - {فيقال: إنّ الإمساك كان قبل هذا الآن}المشكوك كونه من النّهار أو الليل {في النّهار، والآن} حالة الشّكّ {كما كان فيجب، فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّه لا مجال لهذا الاستصحاب مع وجود الاستصحاب السّببي الّذي هو النّهار، إذ

ص: 125

وإن كان من الجهة الأُخرى، فلا مجال إلّا لاستصحاب الحكم في خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلّا ظرفاً لثبوته، لا قيداً مقوّماً لموضوعه، وإلّا فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه في ما بعد ذاك الزمان؛ فإنّه غير ما علم ثبوته له، فيكون الشّكّ في ثبوته له أيضاً شكّاً في أصل ثبوته بعد القطع بعدمه،

___________________________________________

الشّكّ في وجوب الإمساك ناشئ عن الشّكّ في بقاء النّهار.

{وإن كان} الشّكّ في بقاء الحكم {من الجهة الأُخرى} واحتمال أن يكون القيد بالزمان من باب تعدّد المطلوب كالجلوس {فلا مجال إلّا لاستصحاب الحكم في} القسم الثّالث، وهو {خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلّا ظرفاً} بأن كان قيداً للنسبة لا قيداً للموضوع أو قيداً للمحمول {لثبوته} أي: ثبوت الحكم، كما لو قال: (يجب عليك الجلوس في المسجد) ثمّ قال: (هذا الأمر في يوم الجمعة) بأن لم يقيّد الموضوع ولا المحمول بكونه في يوم الجمعة {لا قيداً مقوّماً لموضوعه} أو محموله، وإنّما يجري الاستصحاب حينئذٍ لأنّ أركانه تامّة، فيقين سابق وشكّ لاحق والموضوع المشكوك فيه هو الموضوع المتيقّن؛ لأنّه لم يؤخذ الزمان قيداً حتّى يتبدّل الموضوع بذهاب القيد.

{وإلّا} بأن أُخذ الزمان قيداً - لا ظرفاً - {فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه} أي: عدم الحكم - وهذا هو القسم الثّاني - {فيما بعد ذاك الزمان} فإذا انتهى النّهار لم يجب الجلوس في المسجد {فإنّه} أي: الحكم في الزمان الثّاني {غير ما علم ثبوته له} فإنّ وجوب الجلوس في الليل غير وجوب الجلوس المعلوم في النّهار، ومصداق «ما» الحكم، وضمير «ثبوته» عائد إلى «ما»، وضمير «له» عائد للموضوع {فيكون الشّكّ في ثبوته} أي: ثبوت الحكم في الزمان الثّاني {له} أي: للموضوع {أيضاً شكّاً في أصل ثبوته} أي: إنّه شكّ في أنّه هل هنا - في الليل - حكم جديد بوجوب الجلوس أم لا {بعد القطع بعدمه} لأنّه كان العبد - قبل أن

ص: 126

لا في بقائه.

لا يقال: إنّ الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع، وإن أُخذ ظرفاً لثبوت الحكم في دليله؛ ضرورة دخل مثل الزمان في ما هو المناط لثبوته، فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه.

___________________________________________

يقول المولى: (اجلس في المسجد يوم الجمعة) - قاطعا بعدم وجوب الجلوس في الليل، فإذا شكّ في أنّه هل وجب أم لا؟ كان محلّاً لاستصحاب العدم {لا} أنّ الشّكّ فيه شكّ {في بقائه} أي: بقاء الحكم النّهاري.

والحاصل: أنّه لم يتمّ فيه ركنا الاستصحاب، فإن قلنا بالوجوب كان حكماً جديداً لا حكماً مستصحباً.

وإن شئت قلت: في يوم الخميس لم يكن تكليف بالجلوس في المسجد لا بالنسبة إلى يوم الجمعة ولا بالنسبة إلى ليلة السّبت، ثمّ انقطع هذا العدم بسبب أمر المولى بوجوب الجلوس في يوم الجمعة وبقي عدم الوجوب على حاله بالنسبة إلى ليلة السّبت، فالاستصحاب يقتضي عدم الوجوب.

{لا يقال}: كيف ذكرتم بأنّ الزمان المأخوذ في لسان الدليل قد يكونظرفاً لا قيداً فيمكن استصحاب الحكم والحال {إنّ الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع} فقوله: (اجلس يوم الجمعة) ينحلّ إلى: (الجلوس يوم الجمعة واجب) {وإن أُخذ} الزمان {ظرفاً لثبوت الحكم في دليله} بأن كان لسان الدليل ظاهراً في ظرفيّة الزمان لا في قيديّته.

وإنّما قلنا بأنّ الزمان لا محالة قيد ل-{ضرورة دخل مثل الزمان في ما هو المناط لثبوته} أي: ثبوت الحكم، فإنّ الزمان من الأُمور المهمّة {فلا مجال} في الحكم المذكور فيه الزمان {إلّا لاستصحاب عدمه} فلا يكون هناك زمان ظرف وزمان قيد، بل كلّ زمان قيد.

ص: 127

فإنّه يقال: نعم، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقّة ونظر العقل، وأمّا إذا كانت العبرة بنظر العرف، فلا شبهة في أنّ الفعل - بهذا النّظر - موضوع واحد في الزمانين، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الأوّل، وشكّ في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثّاني، فلا يكون مجال إلّا لاستصحاب ثبوته.

لا يقال:

___________________________________________

{فإنّه يقال: نعم} الزمان من الأُمور المهمّة الّتي لا بدّ وأن يكون له مدخليّة في الحكم، لكن هذا إنّما يتبع في باب الاستصحاب {لو كانت العبرة في تعيين الموضوع} الاستصحابي {بالدقّة و} ب- {نظر العقل، وأمّا إذا كانت العبرة} في موضوع الاستصحاب {بنظر العرف، فلا شبهة في أنّ الفعل بهذا النّظر} العرفي {موضوعواحد في الزمانين} الزمان المذكور في لسان الدليل والزمان الّذي بعده {قطع بثبوت الحكم له} أي: لذلك الموضوع {في الزمان الأوّل وشكّ في بقاء هذا الحكم له} أي: للموضوع {و} في {ارتفاعه} عنه {في الزمان الثّاني} غير المذكور في لسان الدليل {فلا يكون مجال إلّا لاستصحاب ثبوته} أي: بقاء الحكم الأوّل إلى الزمان الثّاني، لتماميّة أركان الاستصحاب الّتي هي اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق.

{لا يقال}: ذكر الفاضل النّراقي في المناهج - في ما لو علم وجوب الجلوس يوم الجمعة إلى الزوال وشكّ فيه في ما بعد الزوال - يجوز استصحاب الوجوب إلى ما بعد الزوال، كما يجوز استصحاب عدمه الثابت قبل التكليف بالجلوس(1)، انتهى.

وعلى هذا فلو سلّمنا بجريان استصحاب الحكم إلى ما بعد الزمان الأوّل يقع التعارض بين استصحاب الحكم الممتد من قبل الظهر واستصحاب عدمه

ص: 128


1- مناهج الأحكام والأصول: 239.

فاستصحاب كلّ واحد من الثبوت والعدم يجري؛ لثبوت كلا النّظرين، ويقع التعارض بين الاستصحابين، كما قيل.

فإنّه يقال: إنّما يكون ذلك لو كان في الدليل ما بمفهومه يعمّ النّظرين، وإلّا فلا يكاد يصحّ إلّا إذا سبق بأحدهما؛ لعدم إمكان الجمع بينهما؛ لكمال المنافاة بينهما، ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمّهما،

___________________________________________

الممتد من تخوم العدم {فاستصحاب كلّ واحد من الثبوت والعدم يجري لثبوت كلا النّظرين} أي: النّظر إلى أنّهلم يكن بعد الظهر واجباً فهو على حالة عدم الوجوب، وإلى أنّه كان قبل الظهر واجباً فيستصحب إلى ما بعد الظهر فهو على حالة الوجوب {ويقع التعارض بين الاستصحابين كما قيل} والقائل النّراقي كما عرفت.

{فإنّه يقال}: لا يمكن أن يعمّ دليل الاستصحاب كلا الاستصحابين للزومه التناقض، فلا بدّ وأن يشمل أحدهما، فإذا أُخذ الزمان قيداً شمل استصحاب عدم التكليف لتبدّل الموضوع وإذا أُخذ الزمان ظرفاً شمل استصحاب الوجود لتماميّة أركان الاستصحاب فيه، ف- {إنّما يكون ذلك} الّذي ذكرتم من لزوم التعارض بين استصحاب الجلوس واستصحاب عدم الجلوس {لو كان في الدليل} الدالّ على الاستصحاب {ما بمفهومه يعمّ النّظرين} النّظر إلى استصحاب الجلوس الواجب قبل الظهر، والنّظر إلى استصحاب عدم الجلوس الّذي كان من الأوّل {وإلّا} فلو لم يكن في دليل الاستصحاب ما يعمّ الأمرين {فلا يكاد يصحّ} الدليل {إلّا إذا سبق بأحدهما} أي: أحد النّظرين {لعدم إمكان الجمع بينهما} أي: بين النّظرين؛ لأنّ في الجمع بينهما تناقضاً في مدلول الدليل.

وهذا علّة لعدم إمكان أن يشمل دليل الاستصحاب للأمرين {لكمال المنافاة بينهما ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمّهما} لما عرفت من عدم تماميّة

ص: 129

فلا يكون هناك إلّا استصحاب واحد، وهو استصحاب الثبوت في ما إذا أُخذ الزمان ظرفاً، واستصحاب العدم في ما إذا أُخذ قيداً؛ لما عرفت من أنّ العبرة في هذا الباب بالنّظر العرفي.ولا شبهة في أنّ الفعل - في ما بعد ذاك الوقت مع قبله - متّحد في الأوّل، ومتعدّد في الثّاني بحسبه؛ ضرورة أنّ الفعل المقيّد بزمان خاصّ غير الفعل في زمان آخر، ولو بالنّظر المسامحي العرفي.

___________________________________________

أركان الاستصحاب فيهما معاً في وقت واحد {فلا يكون هناك إلّا استصحاب واحد} فقط من دون معارض {وهو استصحاب الثبوت في ما إذا أُخذ الزمان ظرفاً} لا قيداً للموضوع، بأن كان الدليل متعرّضاً لوجود الحكم هاهنا - قبل الظهر - من دون أن يقيّده بالقبليّة، فهو مثل أن يخبر أنّ زيداً كان جالساً قبل الظهر، فإنّه ليس مقيّداً جلوسه بالقبليّة {واستصحاب العدم في ما إذا أُخذ} الزمان {قيداً} لا ظرفاً، بأن كان المأمور به الجلوس المقيّد بكونه قبل الظهر {لما عرفت من أنّ العبرة في هذا الباب} أي: باب الاستصحاب {بالنّظر العرفي} فإنّ العرف هو الحاكم في تعيين الموضوع لا الدقّة.

{ولا شبهة في أنّ الفعل} كالجلوس {في ما بعد ذاك الوقت} كبعد الظهر {مع قبله متّحد في الأوّل} الّذي أُخذ الزمان ظرفاً للفعل {ومتعدّد في الثّاني} الّذي أُخذ الزمان قيداً {بحسبه} أي: بحسب النّظر العرفي.

{ضرورة أنّ الفعل المقيّد بزمان خاصّ غير الفعل في زمان آخر} هذا وجه التعدّد في صورة التقييد {ولو بالنّظر المسامحي العرفي} «لو» متّصلة بقوله: «ومتعدّد»، فإنّه لو قال المولى: (اذهب إلى دار زيد في هذا اليوم) رآه العرف غير الذهاب إلى داره غداً، وهكذا لو قال: (اجلس هنا مادام زيد في الدار) رأوه غير الجلوسبعد خروج زيد.

ص: 130

نعم، لا يبعد أن يكون بحسبه أيضاً متّحداً في ما إذا كان الشّكّ في بقاء حكمه، من جهة الشّكّ في أنّه بنحو التعدّد المطلوبي، وأنّ حكمه - بتلك المرتبة الّتي كان مع ذاك الوقت - وإن لم يكن بعده باقياً قطعاً، إلّا أنّه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة من مراتبه، فيستصحب، فتأمّل جيّداً.

إزاحة وهم

___________________________________________

{نعم} لو احتمل أن يكون التقييد بالزمان من باب تعدّد المطلوب - كما لو قال: (اجلس ليلة عرفة في حرم الحسين(علیه السلام) إلى الصّباح) - فإنّه لو شكّ في أنّ المطلوب هل هو المقيّد فقط، أو أنّ المقيّد ذو طلبين طلب الأصل وطلب كونه مقيّداً وأنّه بعد الصّباح أيضاً الجلوس مستحبّ، جرى الاستصحاب وأنّه كان مطلوباً قبل الصّباح، فهو مطلوب بعده، لتماميّة أركان الاستصحاب من اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق.

ف- {لا يبعد أن يكون} الجلوس في الزمان الأوّل والثّاني {بحسبه} أي: بحسب النّظر العرفي {أيضاً متّحداً} كما هو متّحد في صورة العلم بتعدّد المطلوب {في ما إذا كان الشّكّ في بقاء حكمه من جهة الشّكّ في أنّه بنحو التعدّد المطلوبي} حتّى يكون أصل الفعل مطلوباً مطلقاً، وكونه في هذا الزمان الخاصّ مطلوباً آخر {و} في {أنّ حكمه بتلك المرتبة} الأكيدة {الّتي كان مع ذاك الوقت وإن لم يكن بعده باقياً قطعاً، إلّا أنّه يحتمل بقاؤه} أي: بقاء ذلك الحكم {بما دون تلك المرتبة}بمرتبة ضعيفة {من مراتبه} أي: من مراتب الحكم {فيستصحب، فتأمّل جيّداً}.

وبهذا تحقّق أنّ الاستصحاب يجري في صورتين: صورة الظرفيّة للزمان، وصورة الشّكّ في أنّه على نحو تعدّد المطلوب أو وحدته.

[إزاحة وهم]

{إزاحة وهم} ذكر الفاضل النّراقي(رحمة الله)، أنّه لو تطهّر الإنسان ثمّ خرج منه مذي

ص: 131

لا يخفى: أنّ الطّهارة الحدثيّة والخبثيّة وما يقابلها يكون ممّا إذا وجدت بأسبابها، لا يكاد يشكّ في بقائها إلّا من قبل الشّكّ في الرّافع لها، لا من قبل الشّكّ في مقدار تأثير أسبابها؛

___________________________________________

يشكّ في كونه ناقضاً أم لا؟ يتعارض هنا استصحابان: استصحاب الطّهارة، واستصحاب عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذي، وهكذا إذا غسل الثوب النّجس بالماء مرّة - إذا شكّ في لزوم الغسل مرّة أو مرّتين - فإنّه يتعارض استصحاب النّجاسة واستصحاب عدم جعل الشّارع الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة.

ثمّ جعل الفاضل(رحمة الله) استصحاب عدم الرّافعيّة للمذي والغسل مرّة حاكماً على ذينك الاستصحابين المتعارضين، ثمّ ذكر أنّ التعارض والحكومة إنّما هو بالنسبة إلى الأُمور الشّرعيّة، أمّا الأُمور الخارجيّة كالليل والنّهار، فلا مجال إلّا لاستصحاب الوجود فيها، فلا يعقل التعارض.

وأجاب المصنّف(رحمة الله) بما ملخّصه: أنّ الطّهارة والنّجاسة الحدثيّة والخبثيّة ممّا ثبت في الشّريعة أنّها تدوم إذا حدثت، فلا مجال إلّا لاستصحاب بقائها حينما يشكّ في الرّافع لها، ففي المثالين لا مجال إلّا لاستصحاب الطّهارةبعد خروج المذي واستصحاب النّجاسة بعد الغسل بالماء مرّة، إذ {لا يخفى أنّ الطّهارة الحدثيّة والخبثيّة وما يقابلها} أي: يقابل الطّهارة - وهي النّجاسة الحدثيّة والخبثيّة - {يكون ممّا إذا وجدت بأسبابها} المقرّرة في الشّريعة {لا يكاد يشكّ في بقائها إلّا من قبل الشّكّ في الرّافع لها} فالمذي إذا خرج يشكّ في كونه رافعاً للوضوء أم لا، لا أنّه يشكّ في أنّ الوضوء له مقتضٍ للبقاء بعده أم لا، وكذلك بالنسبة إلى الغسل مرّة بعد النّجاسة، فإنّه يشكّ في كون الغسل مرّة رافعاً أم لا، لا أنّه يشكّ في كون النّجاسة لها مقتضٍ للبقاء بعد الغسل مرّة أم لا {لا من قبل الشّكّ في مقدار تأثير أسبابها} أي: أسباب الطّهارة والنّجاسة، وأنّه هل سبب

ص: 132

ضرورة أنّها إذا وجدت بها كانت تبقى ما لم يحدث رافع لها، - كانت من الأُمور الخارجيّة، أو الأُمور الاعتباريّة الّتي كانت لها آثار شرعيّة - ، فلا أصل لأصالة عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذي، وأصالة عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة - كما حكي عن بعض الأفاضل(1)

- ، ولا يكون هاهنا أصل إلّا أصالة الطّهارة أو النّجاسة.

الخامس:

___________________________________________

الطّهارة والنّجاسة ذو مقتضٍ طويل أم مقتضٍ قصير.

{ضرورة أنّها} أي: الطّهارة والنّجاسة بقسميها {إذا وجدت بها} أي: بأسبابها الخاصّة {كانت تبقى ما لم يحدثرافع لها} سواء {كانت} الطّهارات والنّجاسات {من الأُمور الخارجيّة} الّتي كشف عنها الشّارع {أو الأُمور الاعتباريّة} صرف المجعولة {الّتي كانت لها آثار شرعيّة} بالنسبة إلى الصّلاة وبعض أنحاء الاستعمال وغيرهما، وعلى هذا الّذي ذكرنا من كونها ممّا إذا ثبتت دامت {فلا أصل لأصالة عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذي} حتّى يعارض أصالة الطّهارة الممتدّة ممّا قبل المذي {و} كذا لا أصل ل- {أصالة عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة} حتّى يعارض أصالة النّجاسة الممتدّة ممّا قبل التطهير مرّة {كما حكي عن بعض الأفاضل} وهو النّراقي(رحمة الله) القول بذلك ممّا عرفت تفصيله {ولا يكون هاهنا أصل إلّا أصالة الطّهارة أو النّجاسة} كما لا يخفى.

[التنبيه الخامس]

التنبيه {الخامس} في استصحاب التعليقي. اعلم أنّ المستصحب قد يكون شيئاً محقّقاً سابقاً فيستصحب حكمه إذا شكّ فيه في الزمان اللّاحق، كما إذا علمنا أنّ ماء العنب المغلي قد حرم، ثمّ شككنا بعد ذلك هل أنّ هذا الماء الّذي صار حراماً بالغليان باقٍ على حرمته أم طهر بسبب تبخّر ثلثيه بالهواء، فإنّه لا

ص: 133


1- مناهج الأحكام والأصول: 237.

أنّه كما لا إشكال في ما إذا كان المتيقّن حكماً فعليّاً مطلقاً، لا ينبغي الإشكال في ما إذا كان مشروطاً معلّقاً، فلو شكّ في مورد - لأجل طروّ بعض الحالات عليه - في بقاء أحكامه، ففي ما صحّ استصحاب أحكامه المطلقة، صحّ استصحاب أحكامه المعلّقة؛

___________________________________________

إشكال في استصحاب الحكم السّابق هنا، وقد يكون المستصحب شيئاً تقديريّاً وتعليقيّاً في الزمان السّابق، بمعنى أنّه أمر على تقدير لا أمر محقّق، كما أنّه لو علم بأنّ العنب إذا غلى ماؤه صار حراماً ثمّ شكّ في أنّ الزبيب هل هو كذلك أم لا؟ فإذا غلى ماء الزبيب ربّما يقال باستصحاب الحرمة التقديريّة، فيقال: إنّ هذا الماء لو غلى قبل شهر - في ما كان عنباً - صار حراماً فلمّا غلى فعلاً نشكّ في عدم الحرمة فالأصل الحرمة، وهذا يسمّى بالاستصحاب التعليقي؛ لأنّه يريد استصحاب الحرمة المعلّقة بالغليان لا الحرمة المحقّقة، لكون المفروض أنّه لم يكن في السّابق حراماً.

وربّما يقال بالعدم وإنّه قبل الغليان لم تكن حرمة، فإذا غلى نشكّ في طروّ الحرمة والأصل العدم، والغالب على جريان الاستصحاب التعليقى، ف- {إنّه كما لا إشكال في ما إذا كان المتيقّن} السّابق {حكماً فعليّاً} في جريان الاستصحاب {مطلقاً} كذلك {لا ينبغي الإشكال في ما إذا كان} المتيقّن السّابق {مشروطاً} بشرط و{معلّقاً} بقيد، سواء كان الحكم المراد استصحابه تكليفيّاً كحرمة المغلي من ماء الزبيب أم وضعيّاً كنجاسته.

{فلو شكّ في مورد - لأجل طروّ بعض الحالات عليه -} أي: على ذلك المورد {في بقاء أحكامه} السّابقة {ففي ما صحّ استصحاب أحكامه المطلقة} غير المشروطة فنقول: هذا كان ملكاً لزيد والحال ملك له، وهذا كان جائز الاستعمال في غير شؤون الأكل والحال جائز، وهكذا {صحّ استصحاب أحكامه المعلّقة} بأن يقال: كان حراماً إذا غلى ولم يذهب ثلثاه والآن حرام إذا غلى كذلك، وكان نجساً

ص: 134

لعدم الاختلال بذلك في ما اعتبر في قوام الاستصحاب، من اليقين ثبوتاً والشّكّ بقاءً.

وتوهّم: «أنّه لا وجود للمعلّق قبل وجود ما علّق عليه فاختلّ أحد ركنيه»(1).

فاسدٌ؛ فإنّ المعلّق قبله إنّما لا يكون موجوداً فعلاً، لا أنّه لا يكون موجوداً أصلاً ولو بنحو التعليق، كيف؟ والمفروض أنّه مورد فعلاً للخطاب بالتحريم - مثلاً - أو الإيجاب، فكان على يقين منه

___________________________________________

- على القول به - إذا غلى قبل ذهاب الثلثين والآن كذلك {لعدم الاختلال بذلك} التعليق {في ما اعتبر في قوام الاستصحاب من اليقين ثبوتاً والشّكّ بقاءً} فإنّا نتيقّن أنّه كان يحرم إذا غلى - قبل شهر حال كونه عنباً - والآن نشكّ في ذلك فيجب بقاؤه على ما كان.

{وتوهّم} أنّه لم يتمّ ركنا الاستصحاب لأنّه لا يقين سابقاً، إذ لم تكن حرمة قبل الغليان، ف- {«إنّه لا وجود للمعلّق} وهو الحرمة والنّجاسة {قبل وجود ما علّق عليه} وهو الغليان الّذي علّق عليه الحرمة والنّجاسة {فاختلّ أحد ركنيه»} أي: ركني الاستصحاب وهو اليقين السّابق {فاسد، فإنّ} الحكم بالتحريم {المعلّق قبله} أي: قبل وجود المعلّق عليه - وهو الغليان - {إنّما لا يكون موجوداً فعلاً} سابقاً {لا أنّه لا يكون موجوداً أصلاً ولو بنحو التعليق} والوجود التعليقي هو قسم من الوجود؛ لأنّه تلازم في ظرفه.و{كيف} لا يكون موجوداً سابقاً بنحو التعليق {و} الحال كون {المفروض أنّه} أي: المكلّف - المفهوم من الكلام - {مورد فعلاً للخطاب بالتحريم مثلاً} فيقال له: (لا تشرب العصير إذا غلى) {أو الإيجاب} فيقال له: (حجّ إذا استطعت) فإذا استطاع بعد ما عرض له شيء يشكّ في أنّه هل يكون مانعاً عن الحجّ أم لا؟ كان مقتضى الاستصحاب الوجوب {فكان على يقين منه} أي: من

ص: 135


1- كتاب المناهل: 652.

قبل طروّ الحالة، فيشكّ فيه بعده. ولا يعتبر في الاستصحاب إلّا الشّكّ في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته. واختلاف نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتاً في ذلك.

وبالجملة: يكون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدليل على الحكم في ما أهمل أو أجمل، - كان الحكم مطلقاً أم معلّقاً - ، فببركته يعمّ الحكم للحالة الطّارئة اللّاحقة كالحالة السّابقة،

___________________________________________

الحكم التعليقي {قبل طروّ الحالة} الّتي صارت سبباً للشكّ {فيشكّ فيه} أي: في الحكم {بعده} أي: بعد طروّ الحالة، فيجري الاستصحاب لتماميّة أركانه.

{و} من المعلوم أنّه {لا يعتبر في الاستصحاب إلّا الشّكّ في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته}.

وإن شئت قلت: كان سابقاً تلازم بين الغليان والحرمة، فإذا شككنا في ذهاب التلازم - بعد صيرورته زبيباً - كان مقتضى الأصل بقاءَهُ {و} من المعلوم أنّ {اختلاف نحو ثبوته} أي: ثبوت الحكم سابقاً بكون أحدهما ثبوتاً تحقيقيّاً والآخر ثبوتاً تقديريّاً {لا يكاد يوجب تفاوتاً فيذلك} الأمر المعتبر في الاستصحاب من اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق.

{وبالجملة} إنّه كما لا إشكال في ما إذا قال المولى: (إذا غلى العصير صار حراماً ولو بعد الزبيبيّة) كذلك لا ينبغي الإشكال في ما إذا قال المولى: (إذا غلى العصير صار حراماً) وقال دليل الاستصحاب هذا الحكم ممتدّ إلى ما بعد الزبيبيّة، فإنّه {يكون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدليل على الحكم} السّابق {في ما أُهمل أو أُجمل} ففي حالة الشّكّ الّذي أُهملت في الدليل أو أُجملت يكون الاستصحاب مبيّناً لها سواء {كان الحكم مطلقاً} كما لو قال: (ماء العنب المغلي حرام) {أم معلّقاً} كما لو قال: (إذا غلى ماء العنب حرم) {فببركته} أي: ببركة الاستصحاب {يعمّ الحكم} السّابق {للحالة الطّارئة اللّاحقة كالحالة السّابقة} من

ص: 136

فيحكم - مثلاً - بأنّ العصير الزبيبي يكون على ما كان عليه سابقاً في حال عنبيّته، من أحكامه المطلقة والمعلّقة لو شكّ فيها، فكما يحكم ببقاء ملكيّته، يحكم بحرمته على تقدير غليانه.

إن قلت: نعم، ولكنّه لا مجال لاستصحاب المعلّق؛ لمعارضته باستصحاب ضدّه المطلق، فيعارض استصحاب الحرمة المعلّقة للعصير باستصحاب حليّته المطلقة.

قلت:

___________________________________________

دون تفاوت بين المطلق والمعلّق والتكليفي والوضعي.

{فيحكم مثلاً بأنّ العصير الزبيبي} وهو الماء المستخرج منه ولو بمعونة ماء مطلق عصر فيه {يكون على ما كانعليه سابقاً في حال عنبيّته من أحكامه المطلقة} كالملكيّة وجواز الاستعمالات {والمعلّقة} من أنّ غليانه سبب لنجاسته وحرمته {لو شكّ فيها} أي: في تلك الأحكام {فكما يحكم ببقاء ملكيّته} المطلقة لمالكه {يحكم بحرمته على تقدير غليانه} وعدم ذهاب ثلثيه.

{إن قلت: نعم} نسلّم جريان استصحاب الحرمة المعلّقة المقتضي لحرمته إذا غلى {ولكنّه لا مجال لاستصحاب} الحكم {المعلّق} من جهة أُخرى، وذلك {لمعارضته} أي: هذا الاستصحاب للحكم المعلّق {باستصحاب ضدّه المطلق} فإنّ هذا الماء للزبيب قبل أن يغلي كان حلالاً، فإذا غلى نشكّ في ذهاب حليّته، فالأصل بقاؤها {فيعارض استصحاب الحرمة المعلّقة للعصير باستصحاب حليّته المطلقة} لكن هذا الاستصحاب أقوى؛ لأنّه قبل الغليان مباشرة فيقدّم على ذلك، أو يقال بأنّهما يتعارضان فيتساقطان وتكون النّتيجة عدم جريان الاستصحاب التعليقي والحكم بالحليّة لقاعدة كلّ شيء لك حلال.

{قلت}: لا تعارض بين الاستصحابين؛ لأنّه لا يجري استصحاب الحلّ، فإنّ الحلّ كان مغيّى بالغليان، فإذا غلى ذهب الحلّ تلقائيّاً فيكون حال الزبيبيّة مثل

ص: 137

لا يكاد يضرّ استصحابه على نحو كان قبل عروض الحالة الّتي شكّ في بقاء حكم المعلّق بعده؛ ضرورة أنّه كان مغيّى بعدم ما علّق عليه المعلّق، وما كان كذلك لا يكاد يضرّ ثبوته بعده بالقطع، فضلاً عن الاستصحاب؛ لعدم المضادّة بينهما، فيكونان بعد عروضها بالاستصحاب، كماكانا معاً - بالقطع - قبل،

___________________________________________

حال العنبيّة، فكما أنّه إذا غلى ماء العنب يذهب حلّه كذلك إذا غلى ماء الزبيب يذهب حلّه، إذ {لا يكاد يضرّ استصحابه} أي: استصحاب الضّدّ الّذي هو الحلّ، لكن لكم أن تقولوا بالحلّ - بالنسبة إلى الزبيب - بالنحو الّذي كنتم تقولون بالحلّ - بالنسبة إلى العنب - .

وهذا معنى قوله: {على نحو} أي: إنّ الحلّ المستصحب يكون على نحوٍ وصِفَةٍ {كان} ذلك النّحو {قبل عروض الحالة} أي: حالة الزبيبيّة {الّتي شكّ في بقاء حكم المعلّق بعده} أي: بعد العروض، فإنّ الحلّ المستصحب ليس حلّاً جديداً، بل هو الحلّ السّابق الّذي كان في زمان العنبيّة، ومن المعلوم أنّ الحلّ في زمان العنبيّة كان مغيّى بعدم الغليان، ل- {ضرورة أنّه} أي: الحلّ - في حال العنبيّة - {كان مغيّى بعدم ما} أي: الغليان الّذي {علّق عليه} أي: على ذلك الغليان {المعلّق} الّذي هو الحرمة {وما} أي: الحلّ الّذي {كان كذلك} أي: مغيّى بعدم الغليان {لا يكاد يضرّ ثبوته بعده} أي: بعد عروض حالة الزبيبيّة {بالقطع} يعني لو قطعنا بأنّ لماء الزبيب حليّة ماء العنب على نحو الحلّ المغيّى الّذي كان لماء العنب لم يضرّنا من جهة الاستصحاب التعليقي {فضلاً عن} ما إذا ثبت هكذا حليّة ب- {الاستصحاب لعدم المضادّة بينهما} أي: بين استصحاب حلّ مغيّى واستصحاب حرمة معلّقة، إذ الثّاني يرفع موضوع الأوّل {فيكونان} أي: هذان الحالان الحلّ والحرمة {بعد عروضها} أي: عروض الحالة الزبيبيّة {بالاستصحاب} متعلّق ب- «يكونان» {كما كانا معاً - بالقطع - قبل} أي: قبل عروض الحالة، فكما أنّ الحلّ

ص: 138

بلا منافاة أصلاً، وقضيّة ذلك انتفاء حكم المطلق بمجرّد ثبوت ما علّق عليه المعلّق.

فالغليان في المثال كما كان شرطاً للحرمة كان غاية للحليّة، فإذا شكّ في حرمته المعلّقة بعد عروض حالة عليه، شكّ في حليّته المغيّاة لا محالة أيضاً، فيكون الشّكّ في حليّته أو حرمته فعلاً بعد عروضها، متّحداً خارجاً مع الشّكّ في بقائه على ما كان عليه من الحليّة والحرمة بنحوٍ كانتا عليه، فقضيّة استصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضها - الملازم لاستصحاب حليّته المغيّاة -

___________________________________________

القطعي يخلّي مكانه للحرمة المعلّقة كذلك الحلّ المستصحب يخلّي مكانه للحرمة المستصحبة {بلا منافاة} بين الاستصحابين {أصلاً}.

{وقضيّة ذلك} أي: مقتضى كونهما بعد الحالة ككونهما قبل الحالة {انتفاء حكم المطلق} وهو الإباحة {بمجرّد ثبوت ما} أي: الغليان الّذي {علّق عليه المعلّق} وهو الحرمة {فالغليان في المثال كما كان شرطاً للحرمة كان غاية للحليّة} فإذا جاء الغليان ذهب الحلّ وجاءت الحرمة {فإذا شكّ في حرمته المعلّقة} بالغليان وكان الشّكّ {بعد عروض حالة} زبيبيّة {عليه شكّ في حليّته المغيّاة} بالغليان {لا محالة أيضاً} لتلازمهما {فيكون الشّكّ في حليّته} أي: العصير {أو حرمته فعلاً} أي: بعد الغليان {بعد عروضها} أي: عروض الحالة الزبيبيّة {متّحداً خارجاً مع الشّكّ في بقائه} أي: العصير{على ما كان عليه من الحليّة والحرمة بنحو كانتا عليه} أي: إنّه نشكّ بعد غليان عصير الزبيب هل أنّ الحليّة والحرمة في حال الزبيبيّة كالحليّة والحرمة في حال العنبيّة أم لا؟

{فقضيّة} أي: مقتضى {استصحاب حرمته المعلّقة} بالغليان {بعد عروضها} أي: عروض الحالة الزبيبيّة؛ لأنّكم تريدون أن تقولوا بحرمة العصير الزبيبي إذا غلى {الملازم} هذا الاستصحاب للحرمة {لاستصحاب حليّته المغيّاة} بالغليان، إذ الاستصحابان متلازمان فلو كان حلالاً كانت حليّته مغيّاة بالغليان

ص: 139

حرمته فعلاً بعد غليانه وانتفاء حليّته؛ فإنّه قضيّة نحو ثبوتهما، كان بدليلهما أو بدليل الاستصحاب، كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب، فالتفت ولا تغفل.

السّادس:

___________________________________________

{حرمته فعلاً بعد غليانه وانتفاء حليّته} لفرض كون حليّته مغيّاة {فإنّه} أي: كونه فعلاً حراماً {قضيّة} أي: مقتضى {نحو ثبوتهما} أي: مقتضى كيفيّة ثبوت الحليّة والحرمة، سواء {كان} نحو ثبوتهما {بدليلهما} القائل بأنّ عصير العنب حلال إذا لم يغل فإذا غلى حَرم {أو بدليل الاستصحاب} القائل بأنّ حالته بعد الزبيبيّة كحالته وقت العنبيّة {كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب، فالتفت ولا تغفل}.

وفي المقام إشكالات وأجوبة أضربنا عنها.

وقد علّق المصنّف(رحمة الله) على المقام بقوله: «كيلا تقول في مقام التفصّيعن إشكال المعارضة: إنّ الشّكّ في الحليّة فعلاً بعد الغليان، فيكون مسبّباً عن الشّكّ في الحرمة المعلّقة، فيشكل بأنّه لا ترتّب بينهما عقلاً ولا شرعاً، بل بينهما ملازمة عقلاً، لما عرفت من أنّ الشّكّ في الحليّة أو الحرمة الفعليّين بعده، متّحد مع الشّكّ في بقاء حرمته وحليّته المعلّقة، وأنّ قضيّة الاستصحاب حرمته فعلاً، وانتفاء حليّته بعد غليانه، فإنّ حرمته كذلك - وإن كان لازماً عقلاً لحرمته المعلّقة المستصحبة - إلّا أنّه لازم لها كان ثبوتها بخصوص خطاب، أو عموم دليل الاستصحاب، فافهم»(1)،

انتهى.

[التنبيه السّادس]

التنبيه {السّادس} في أنّه هل يستصحب أحكام الشّرائع السّابقة في ما إذا لم يكن في هذه الشّريعة تعرّض لها لا إثباتاً ولا نفياً؟ فيه خلاف، والمصنّف على أنّه يستصحب، وذلك لتماميّة أركان الاستصحاب، إذ هناك يقين سابق بالحكم

ص: 140


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 534.

لا فرق أيضاً بين أن يكون المتيقّن من أحكام هذه الشّريعة أو الشّريعة السّابقة إذا شكّ في بقائه وارتفاعه بنسخه في هذه الشّريعة؛ لعموم أدلّة الاستصحاب، وفساد توهّم(1)

اختلال أركانه في ما كان المتيقّن من أحكام الشّريعة السّابقة لا محالة:

___________________________________________

وشكّ لاحق فيستصحب.

وقد أُشكل في ذلك بأمرين:

الأوّل: إنّه لا يقين سابقاً، إذ الحكم كان لأُولئك المتشرّعين بذلك الشّرع لا مطلقاً.

والجواب: أنّ الأحكام مطلقة، وإنّما كان ظرف تلك الأحكام تلك الشّريعة، كما نشاهد من إطلاق أحكام شرعنا.الثّاني: أنّه لا شكّ لاحقاً، بل نقطع بعدم جريان أحكام أُولئك بالنسبة إلينا؛ لأنّ ديننا قد نسخ الأديان.

والجواب: أنّ النّسخ لم يقع في كلّ الأحكام، والمقدار المنسوخ معلوم فما عداه يشكّ في بقائه وزواله، فالأصل بقاؤه.

إذا عرفت ذلك قلنا: {لا فرق} في الاستصحاب {أيضاً} كما لم يكن فرق بين الاستصحاب التعليقي والتنجيزي في التنبيه المتقدّم {بين أن يكون المتيقّن من أحكام هذه الشّريعة} كما لو شككنا في كون الجهاد والحدود كانت خاصّة بزمان المعصوم أم تعمّ سائر الأزمان {أو} أحكام {الشّريعة السّابقة إذا شكّ في بقائه} أي: حكم تلك الشّريعة {وارتفاعه ب-} سبب {نسخه في هذه الشّريعة}.

وإنّما قلنا بعدم الفرق بين هذين {لعموم أدلّة الاستصحاب} إذ لم يقل الدليل لا تنقض اليقين بحكم هذه الشّريعة بالشكّ، بل أطلق {و} ل- {فساد توهّم اختلال أركانه} أي: أركان الاستصحاب {في ما كان المتيقّن من أحكام الشّريعة السّابقة لا محالة} لأحد أمرين:

ص: 141


1- الفصول الغرويّة: 315.

إمّا لعدم اليقين بثبوتها في حقّنا، وإن علم بثبوتها - سابقاً - في حقّ آخرين، فلا شكّ في بقائها أيضاً، بل في ثبوت مثلها، كما لا يخفى.

وإمّا لليقين بارتفاعها بنسخ الشّريعة السّابقة بهذه الشّريعة، فلا شكّ في بقائها حينئذٍ، ولو سلم اليقين بثبوتها في حقّنا.

وذلك لأنّ الحكم الثابت في الشّريعةالسّابقة حيث كان ثابتاً لأفراد المكلّف،

___________________________________________

الأوّل: ما أشار إليه بقوله: {إمّا لعدم اليقين بثبوتها} أي: ثبوت تلك الأحكام الّتي يراد استصحابها {في حقّنا وإن علم بثبوتها - سابقاً - في حقّ آخرين} فإنّ تلك الشّريعة كانت لهم لا لنا، فلا يقين سابق لنا بثبوت تلك الأحكام بالنسبة إلينا حتّى نستصحب ذلك المتيقّن، وإذ لا يقين سابقاً {فلا شكّ} لاحقاً {في بقائها} أي: بقاء تلك الأحكام {أيضاً} أي: كما لا يقين {بل} لو كان هناك شكّ كان {في ثبوت مثلها} أي: مثل تلك الأحكام بالنسبة إلينا {كما لا يخفى} ومن المعلوم أنّ الأصل قاض بعدم الثبوت.

الثّاني: ما أشار إليه بقوله: {وإمّا} نسلّم اليقين السّابق لكن نقول: لا يتمّ الاستصحاب {لليقين بارتفاعها} أي: ارتفاع تلك الأحكام {ب-} سبب {نسخ الشّريعة السّابقة بهذه الشّريعة} فإنّ شريعة الإسلام ناسخة للشرائع الّتي كانت قبلها، وعلى هذا فيختلّ ركنا الاستصحاب {فلا شكّ في بقائها} بل قطع بعدم البقاء {حينئذٍ} أي: حين القطع بالنسخ {ولو سلم اليقين بثبوتها في حقّنا} سابقاً لإطلاق أدلّة تلك الأحكام.

{وذلك} الّذي قلنا بفساد توهّم اختلال أركان الاستصحاب {ل-} أنّا نجيب عن الإشكال الأوّل ب- {إنّ الحكم الثابت في الشّريعة السّابقة حيث كان ثابتاً لأفراد المكلّف} بصورة عامّة، ويأتي خبر قوله: «كان ثابتاً» في قوله: «كان الحكم» سواء

ص: 142

كانت محقّقة وجوداً أو مقدّرة - كما هوقضيّة القضايا المتعارفة المتداولة، وهي قضايا حقيقيّة - ، لا خصوص الأفراد الخارجيّة - كما هو قضيّة القضايا الخارجيّة - ، وإلّا لما صحّ الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشّريعة، ولما صحّ النّسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها،

___________________________________________

{كانت} تلك الأفراد {محقّقة وجوداً} لها وجودات خارجيّة حال الحكم {أو مقدّرة} بأن لم يكن لها وجود ولكنّه حكم عليهم على فرض وجودهم {كما هو} أي: كون الحكم على الأفراد الأعمّ من المحقّقة والمقدّرة {قضيّة} أي: مقتضى {القضايا المتعارفة المتداولة} في الألسنة، فإنّه إذا قال: (صلّ) أراد كلّ فرد محقّق أو مقدّر، لا الفرد الخارجي الموجود حال الخطاب {وهي} أي: القضايا المتعارفة {قضايا حقيقيّة} أي: يحكم على طبيعة المكلّف المقيّدة بالوجود سواء فعلاً أم بعداً، مقابل القضايا الّتي يحكم على المكلّف الموجود وتسمّى الخارجيّة، والقضايا الّتي يحكم على طبيعة الشّيء بما هي هي وتسمّى الطّبيعيّة {لا خصوص الأفراد الخارجيّة} عطف على قوله: «ثابتاً لأفراد المكلّف» {كما هو قضيّة القضايا الخارجيّة} كما لو قال: (جئني بكلّ من في الدار) فإنّه قضيّة خارجيّة لا تشمل إلّا الموجودين فعلاً {وإلّا} فلو كانت القضايا على نحو القضيّة الخارجيّة {لما صحّ الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشّريعة} إذ لو كان قوله - تعالى - : {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ} و{ءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ} قضايا خارجيّة كان المكلّف بها الموجودين في زمان الخطاب، فلم يصحّ استصحاب تلك الأحكام بالنسبةإلينا.

{و} كذلك لو كانت القضايا الخارجيّة {لما صحّ النّسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها} أي: ثبوت تلك الأحكام، وإنّما لم يصحّ النّسخ لأنّ النّسخ فرع عموم الحكم، وإذا كان الخطاب خاصّاً بالنسبة إلى الموجود لم يعمّ

ص: 143

كان الحكم في الشّريعة السّابقة ثابتاً لعامّة أفراد المكلّف، ممّن وجد أو يوجد، وكان الشّكّ فيه كالشكّ في بقاء الحكم الثابت في هذه الشّريعة لغير من وجد في زمان ثبوته.

___________________________________________

الحكم بالنسبة إلى المعدوم حتّى يصحّ نسخه بالنسبة إليه، فلا يصحّ أن يقال: شريعة الإسلام نسخت الشّرائع السّابقة - إطلاقاً - .

{كان الحكم} خبر قوله: «حيث كان ثابتاً» أي: لمّا كان الحكم في الشّريعة السّابقة للأفراد الخارجيّة والمقدّرة كان الحكم {في الشّريعة السّابقة ثابتاً لعامّة أفراد المكلّف ممّن وجد} حال الخطاب {أو يوجد} إلى هذا اليوم وبعده {وكان الشّكّ فيه} أي: في بقاء ذلك الحكم بالنسبة إلينا {كالشكّ في بقاء الحكم الثابت في هذه الشّريعة لغير من وجد في زمان ثبوته} أي: ثبوت الحكم - كزمان النّبيّ(صلی الله علیه و آله) والأئمّة - فكما لا إشكال في استصحاب الأحكام بالنسبة إلى الّذين لم يوجدوا في زمان بيان الأحكام كذلك لا إشكال في استصحاب أحكام الشّرائع السّابقة بالنسبة إلينا.

وقد علّق المصنّف على قوله: «وكان الشّكّ فيه» بقوله: «في كفاية اليقين بثبوته، بحيث لو كان باقياً ولم ينسخ لعمّه، ضرورة صدق أنّه على يقين منه،فشكّ فيه بذلك، ولزوم اليقين بثبوته في حقّه سابقاً بلا ملزم.

وبالجملة، قضيّة دليل الاستصحاب جريانه لإثبات حكم السّابق للّاحق، وإسرائه إليه في ما كان يعمّه ويشمله، لولا طروّ حالة معها يحتمل نسخه ورفعه، وكان دليله قاصراً عن شمولها، من دون لزوم كونه ثابتاً له قبل طروّها أصلاً، كما لا يخفى»(1)، انتهى.

هذا تمام الكلام في وجه فساد الإشكال الأوّل القائل بأنّه لا يقين سابقاً

ص: 144


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 539.

والشّريعة السّابقة وإن كانت منسوخة بهذه الشّريعة يقيناً، إلّا أنّه لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها؛ ضرورة أنّ قضيّة نسخ الشّريعة ليس ارتفاعها كذلك، بل عدم بقائها بتمامها.

والعلمُ إجمالاً بارتفاع بعضها

___________________________________________

بالنسبة إلى أحكام الشّرائع السّابقة {و} أمّا جواب الإشكال الثّاني القائل بأنّه لا شكّ لاحقاً؛ لأنّا نعلم بنسخ تلك الشّرائع ففيه: أنّ {الشّريعة السّابقة وإن كانت منسوخة بهذه الشّريعة يقيناً إلّا أنّه} بمعنى النّسخ في الجملة لا نسخ جميع الأحكام، إذ النّسخ {لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها} وذلك ل- {ضرورة أنّ قضيّة نسخ الشّريعة ليس ارتفاعها كذلك} بتمام أحكامها {بل} معناه {عدم بقائها بتمامها} ولذا نرى بقاء كثير من الأحكام السّابقة في الجملة كالصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والصّدق والأمانة والوفاء والحياء والتولّي للأولياء والتبرّي من الأعداء وغيرهما، ممّا هو منسوب في نصّ القرآن إلى الأنبياء وأُممهم.{و} إن قلت: سلّمنا أنّ نسخ الشّريعة لا يوجب ارتفاع تمام أحكامها لكن العلم الإجمالي بارتفاع بعض الأحكام كافٍ في عدم جريان الاستصحاب في كلّ حكم مشكوك ارتفاعه وبقاؤه، فإنّ الاستصحاب لا يجري في أطراف العلم الإجمالي.

قلت: إذا علم مقدار المعلوم بالإجمال نسخه كان الشّكّ في غير المعلوم محلّاً للاستصحاب، وذلك كما لو علمنا بأنّ عشرة أحكام نسخت ثمّ وجدناها كان الاستصحاب مقتضى القاعدة في بقيّة الأحكام المشكوكة نسخها، ويكون من قبيل ما لو علمنا بنجاسة إناء في عشرة أواني ثمّ وجدناها، فإنّ التسعة الباقية تكون محلّاً لاستصحاب الطّهارة، فإنّ {العلم إجمالاً بارتفاع بعضها} أي: بعض

ص: 145

إنّما يمنع عن استصحاب ما شكّ في بقائه منها، في ما إذا كان من أطراف ما علم ارتفاعها إجمالاً، لا في ما إذا لم يكن من أطرافه، كما إذا علم بمقداره تفصيلاً، أو في موارد ليس المشكوك منها، وقد علم بارتفاع ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشّريعة.

ثمّ

___________________________________________

أحكام الشّرائع السّابقة {إنّما يمنع عن استصحاب ما شكّ في بقائه منها} أي: من تلك الأحكام {في ما إذا كان} المشكوك ارتفاعه وبقاؤه {من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالاً لا في ما إذا لم يكن} المشكوك {من أطرافه} أي: أطراف العلم الإجمالي {كما إذا علم بمقداره} أي: مقدار المعلوم بالإجمال بأن ظفرنا بمقداره علمنا بالنسخ{تفصيلاً} حتّى صار المشكوك من الشّكّ البدوي {أو} علمنا بالمنسوخ علماً إجماليّاً أصغر {في موارد ليس المشكوك منها} كما لو علمنا أوّلاً بأنّ مائة حكم في مجموع ألف حكم للشريعة السّابقة منسوخة، ثمّ علمنا أنّ هذه المائة محصورة في النّصف الأوّل من أحكام التوراة والإنجيل - مثلاً - فإنّ المشكوك نسخه لو كان في النّصف الثّاني لم يكن من أطراف العلم وجاز الاستصحاب فيه ويكون حاله حال ما لو علمنا بأنّ إناءً في هذه العشرة نجس ثمّ علمنا بأنّ النّجس في أطراف الأواني البيض، فإنّ الشّكّ بالنسبة إلى الحمر حينئذٍ يكون بدويّاً ويكون مورده مجرى للاستصحاب.

{و} حيث {قد علم بارتفاع} أحكام الشّريعة السّابقة بالنسبة إلى {ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشّريعة} إذ كلّ حكم في هذه الشّريعة مناف لحكم الشّرائع السّابقة دليل على النّسخ في مورده، ففي سائر الموارد يكون الارتفاع مشكوكاً فيكون مجرى لاستصحاب البقاء.

{ثمّ} إنّ شيخنا المرتضى(رحمة الله) قد أجاب عن الإشكالين - الواردين على استصحاب أحكام الشّرائع السّابقة قائلاً في أوّلهما: بأنّه لا يقين في السّابق

ص: 146

___________________________________________

لاختصاص الحكم بأُولئك المخاطبين، فلا وجه لجريان الحكم بالنسبة إلينا. وفي ثانيهما: بأنّه لا شكّ في اللّاحق؛ لأنّا نعلم بنسخ تلك الشّرائع بشريعة الإسلام. - بما حاصل جوابه عن الوجه الأوّل: بأنّه يمكن تحصيل اليقين السّابق بالنّسبة إلى مدرك الشّريعتين، فإنّه لو شكّ في أنّ حكمه السّابق باقٍ أم لا؟ يستصحب البقاء ويستصحب غيره - ممّن لم يدرك - البقاء، لعدم التفاوت بين نفرين محكومين بحكم شريعة واحدة.وبما حاصل جوابه عن الثّاني: بأنّ المستصحب هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه غاية الأمر احتمال مدخليّة بعض أوصافهم المعتبرة في موضوع الحكم، ومثل هذا لو أثّر في الاستصحاب لقدح في أكثر الاستصحابات(1)، انتهى.

لكن المصنّف(رحمة الله) أشكل في الجواب الأوّل: بأنّه وإن كان صحيحاً بالنسبة إلى من أدرك الشّريعتين أمّا بالنّسبة إلى غيره فلا يتمّ، إذ اشتراك أهل شريعة واحدة لازمه أن يكون لكلّ مدركٍ للشريعتين استصحاب الحكم السّابق، إلّا من لم يدرك الشّريعة السّابقة فلا يكون محكوماً بحكم من أدرك؛ لأنّ من أدرك له يقين سابق ومن لم يدرك ليس له يقين سابق.

وأشكل في الجواب الثّاني: بأنّه إن أراد ما ذكرناه من كون الحكم في الشّريعة السّابقة للكلّي الموجود في ضمن أُولئك كما هو موجود في ضمن هؤلاء كان تامّاً، وإن أراد كون الحكم لمجرّد الكلّي بما هو كلّيّ فليس يصحّ إذ الكلّي بما هو هو لا وجود له في الخارج حتّى يصحّ كونه مخاطباً.

ص: 147


1- راجع فرائد الأصول 3: 225-226.

لا يخفى: أنّه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلّامة - أعلى اللّه في الجنان مقامه(1)

- في الذبّ عن إشكال تغاير الموضوع في هذا الاستصحاب - من الوجه الثّاني - إلى ما ذكرنا، لا ما يوهمه ظاهر كلامه من: «أنّ الحكم ثابت للكلّي، كما أنّ الملكيّة له في مثل باب الزكاة والوقف العام، حيث لا مدخل للأشخاص فيها»؛

___________________________________________

إذا عرفت تفصيل الكلام فلنرجع لشرح المتن فنقول: {لا يخفى أنّه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا} المرتضى {العلّامة - أعلى اللّه في الجنان مقامه - في الذبّ عن إشكال تغاير الموضوع} وهو الإشكال الثّاني الّذي كان يقول: موضوع الحكم المتيقّن هم أُولئك، أمّا بالنسبة إلينا فلا يقين في السّابق {في هذا الاستصحاب} أي: استصحاب أحكام الشّريعة السّابقة {من الوجه الثّاني} بيان «ما» في قوله: «ما أفاده» {إلى ما ذكرنا} متعلّق بقوله: «إرجاع» {لا} إلى {ما يوهمه ظاهر كلامه من: «أنّ الحكم ثابت للكلّي} إذ لو أراد ذلك أشكل عليه بأنّ الكلّي بما هو كلّيّ ليس قابلاً للحكم؛ لأنّه لا وجود له في الخارج، بخلاف أن يريد الكلّي بما هو موجود مقابل الأفراد الخارجيّة، إذ لو أراد الكلّي بما هو موجود فهو محقّق الآن كما كان محقّقاً سابقاً.

وليس كذلك لو كان الحكم على الأفراد - كما هو كذلك في القضيّة الخارجيّة - إذ الأفراد الحاليّة غير تلك الأفراد فلا يمكن الاستصحاب {كما أنّ الملكيّة له} أي: للكلّي بما هو موجود - لا أنّه للكلّي بما هو كلّيّ كما توهّم - {في مثل باب الزكاة} فكلّيّ الفقير مستحقّ لكن الكلّي الموجود لا الكلّيّ بما هو هو، ولا الأفراد الخارجيّة بما هم أفراد {والوقف العام} الّذي وقفه للطلّاب مثلاً، فإنّه للكلّي بما هو موجود في الخارج {حيث لا مدخل للأشخاص فيها»} على نحو القضيّة الخارجيّة، إذ لو كان ملكاً ووقفاً للأشخاص لزم أن يبقى الملك بلا مالك

ص: 148


1- فرائد الأصول 3: 226.

ضرورة أنّ التكليف والبعث أو الزجر لا يكاد يتعلّق به كذلك، بل لا بدّ من تعلّقه بالأشخاص، وكذلك الثواب أو العقاب المترتّب على الطّاعة أو المعصية، وكانغرضه من عدم دخل الأشخاص: عدم دخل أشخاص خاصّة، فافهم.

وأمّا ما أفاده من الوجه الأوّل، فهو وإن كان وجيهاً بالنسبة إلى جريان الاستصحاب في حقّ خصوص المدرك للشريعتين، إلّا أنّه غير مجد في حقّ غيره من المعدومين.

___________________________________________

والوقف بلا مصرف لو فنوا أُولئك المعاصرون وجاء آخرون.

وإنّما قلنا بأنّ المراد الكلّي بما هو موجود لا بما هو كلّيّ ل- {ضرورة أنّ التكليف والبعث أو الزجر لا يكاد يتعلّق به} أي: بالكلّي {كذلك} أي: بما هو كلّيّ - لا بما هو موجود في الخارج - {بل لا بدّ من تعلّقه} أي: التكليف وأخويه {بالأشخاص} لا الخارجيّة وإنّما بما هم مشتملون على الكلّي.

{وكذلك الثواب أو العقاب المترتّب على الطّاعة أو المعصية} فإنّهما مرتّبان على الكلّي بما هو موجود {وكان غرضه} أي: غرض الشّيخ {من عدم دخل الأشخاص} في التكليف {عدم دخل أشخاص خاصّة} على نحو القضيّة الخارجيّة لا عدم دخل الأشخاص مطلقاً، حتّى يرد عليه ما ذكرنا من أنّ الكلّي بما هو هو ليس قابلاً للتكليف والبعث والزجر {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ ظاهر عبارة الشّيخ(رحمة الله) مخالف لما ذكرناه؛ لأنّه نصّ على عدم مدخليّة الأشخاص، فظاهره عدم المدخليّة مطلقاً.

{وأمّا ما أفاده} الشّيخ {من} الجواب عن {الوجه الأوّل} بمدرك الشّريعتين وقياس غيره عليه لعدم اختلاف الأحكام في شريعة واحدة {فهو وإن كان وجيهاً بالنسبة إلى جريان الاستصحاب في حقّ خصوص المدرك للشريعتين} لأنّ له يقين سابق وشكّ لاحق، فيجري في حقّهالاستصحاب {إلّا أنّه غير مجد في حقّ غيره من المعدومين} حال تلك الشّريعة الّذين وجدوا في هذه الشّريعة، إذ لا حالة

ص: 149

ولا يكاد يتمّ الحكم فيهم بضرورة اشتراك أهل الشّريعة الواحدة أيضاً؛ ضرورة أنّ قضيّة الاشتراك ليس إلّا أنّ الاستصحاب حكم كلّ من كان على يقين فشكّ، لا أنّه حكم الكلّ ولو من لم يكن كذلك، بلا شكّ، وهو واضح.

السّابع:

___________________________________________

سابقة لهم حتّى يتمّ الاستصحاب.

{ولا يكاد يتمّ الحكم} الثابت في الشّريعة السّابقة {فيهم ب-} ما استدلّ له الشّيخ من {ضرورة اشتراك أهل الشّريعة الواحدة} في جميع التكاليف {أيضاً} أي: كما لا حالة سابقة لا اشتراك {ضرورة أنّ قضيّة الاشتراك} المحقّق بالإجماع {ليس إلّا أنّ الاستصحاب حكم كلّ من كان على يقين فشكّ} فهما مشتركان؛ لأنّهما مثلان في الصّفة {لا أنّه حكم الكلّ}: مدرك الشّريعتين وغيره {ولو من لم يكن كذلك} أي: لا يقين سابق له؛ لأنّه لم يدرك تلك الشّريعة {بلا شكّ، وهو واضح} فقياس غير المدرك بالمدرك مثل قياس من لا حالة له سابقاً بمن له طهارة سابقة، وهو باطل قطعاً.

[التنبيه السّابع]

التنبيه {السّابع} في الأصل المثبت. لا يخفى أنّ لوجود زيد أربعة أقسام من الآثار:الأوّل: الآثار الشّرعيّة بلا واسطة، كوجوب نفقة زوجته.

الثّاني: في الآثار الشّرعيّة مع الواسطة، كاستحباب خضاب لحيته، فإنّه أثر شرعيّ لكن مع واسطة هي إنبات لحيته.

الثّالث: الآثار العادية كإنبات لحيته، فإنّه عادة تنبت لحية الرّجل إذا تجاوز سنّ البلوغ.

الرّابع: الآثار العقليّة ككونه في الحيّز.

ص: 150

لا شبهة في أنّ قضيّة أخبار الباب هو إنشاء حكم مماثل للمستصحب في استصحاب الأحكام، ولأحكامه في استصحاب الموضوعات.

كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشّرعيّة والعقليّة.

___________________________________________

إذا عرفت ذلك قلنا: لو غاب زيد عن البلد وهو أمرد، ثمّ شككنا في موته وحياته، فلا إشكال في جريان استصحاب حياته، وهذا الاستصحاب موجب لترتّب الآثار الشّرعيّة بلا واسطة عليه، فيحكم بوجوب الإنفاق على زوجته، لكن هل يثبت بهذا الاستصحاب سائر أقسام الآثار الثلاثة أم لا؟ فيه خلاف، والمشهور عدم الترتّب، وهذا هو الّذي اصطلحوا عليه بأنّ الأصل المثبت ليس بحجّة، أي: إنّ الأصل لا يثبت سائر الآثار غير الشّرعيّة.

وبيان ذلك: أنّه {لا شبهة في أنّ قضيّة} أي: مقتضى {أخبار الباب} أي: أخبار الاستصحاب نحو «من كان على يقين فشكّ» و «لا تنقض اليقين بالشكّ» {هو إنشاء حكم مماثل للمستصحب في استصحاب الأحكام} فلو استصحبنا وجوب الجهاد في زمان الغيبة كان معناه أنّ الشّارع أنشأ وجوباً مماثلاً للوجوب الحضوري في زمان الغيبة {و} أنشأ أحكاماً مماثلة {لأحكامه} أي: أحكامالمستصحب {في استصحاب الموضوعات} فلو استصحبنا وجود زيد كان معناه أنّ الشّارع أنشأ وجوب النّفقة وحرمة التزويج لزوجته وحرمة الخروج عن الدار بدون إذنه - في هذا الحال - كما أنشأها في حال وجود زيد خارجاً، فلزيد الواقعي كانت أحكام، ولزيد المستصحب أحكام مماثلة لتلك الأحكام.

{كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشّرعيّة والعقليّة} أي: إنّا نرتّب على وجوب الجهاد المستصحب كلّ أثر شرعيّ أو عقلي، فالأثر العقلي: وجوب المقدّمة ووجوب الإطاعة وحرمة المخالفة.

ص: 151

وإنّما الإشكال في ترتيب الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب بواسطة غير شرعيّةٍ، - عاديةً كانت أو عقليّةً - . ومنشأه أنّ مفاد الأخبار:

هل هو تنزيل المستصحب والتعبّد به وحده، بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة؟

أو تنزيله بلوازمه العقليّة أو العادية، كما هو الحال في تنزيل مؤدّيات الطّرق والأمارات؟

___________________________________________

والأثر الشّرعيّ: كما لو نذر أنّه لو كان الجهاد واجباً أرسل ولده وأعطى دابّته وهكذا، وكذلك بالنسبة إلى استصحاب الموضوع، كما لا يخفى.

{وإنّما الإشكال في ترتيب الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب بواسطة غير شرعيّةٍ، عاديةً كانت} تلك الآثار كإنبات لحيته {أو عقليّة} ككونه في الحيّز، وأنّ ضدّه لا يجتمع معه، فإذا نذر أنّه لو نبتت لحيةزيد أو كان في الحيّز أعطى ديناراً للفقير، هل يجب الإعطاء بهذا الاستصحاب أم لا؟

{ومنشأه} أي: منشأ الإشكال {أنّ مفاد الأخبار} محتمل بدواً لثلاثة أُمور ف- {هل هو}:

الأوّل: بأن يكون المفاد {تنزيل المستصحب} منزلة المتيقّن {والتعبّد به وحده بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة} فإذا شكّ في الطّهارة قال له الشّارع: (أنت متطهّر) بلحاظ آثار الطّهارة فقط، وهو جواز مسّ كتابة القرآن.

{أو} هو الثّاني: بأن يكون المفاد {تنزيله} أي: تنزيل المستصحب {بلوازمه العقليّة} في ما كان له لازم عقليّ {أو العادية} في ما كان له لازم عادي، فلو أشعل ناراً ثمّ بعد ساعة شكّ في بقائها وعدمه واستصحب بقائها، كان يترتّب عليه ضمان إحراق حطب الغير الّذي جعله بقرب النّار، ممّا أثّر الإحراق فيه قطعاً لو كانت النّار باقية {كما هو الحال في تنزيل مؤدّيات الطّرق والأمارات}.

ص: 152

أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة، بناءً على صحّة التزيل بلحاظ أثر الواسطة أيضاً؛ لأجل أنّ أثر الأثر أثر؟

___________________________________________

الطُّرُق: عبارة عن الأُمور المنصوبة لإفادة الأحكام كخبر الواحد.

والأمارات: عبارة عن الأُمور المنصوبة لإفادة الموضوعات كالبيّنة، فلو قام الخبر الواحد على أنّ الشّيء الكذائي واجب ترتّب عليه كلّ أثر شرعي وعقليوعادي، وكذلك لو قامت البيّنة على أنّ هذه الدار لزيد ترتّب على ملكيّته لها جميع الآثار، فهل الاستصحاب أيضاً كذلك بأنّه لو استصحب كون الشّيء الفلاني واجباً أو استصحب كون الدار الفلانية باقية في ملك زيد، ترتّب عليهما جميع آثارهما أم لا؟

{أو} هو الثّالث: بأن يكون المفاد تنزيله {بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة} فيترتّب على الاستصحاب التعبّد بالمستصحب وبأثره غير الشّرعي ليترتّب الأثر الشّرعي لأثره أيضاً، فإذا استصحب وجود النّار كان معناه هو التعبّد بها وبالاحتراق معاً، فيترتّب الأثر الشّرعي للنار والأثر الشّرعي للاحتراق معاً.

وهذا الاحتمال الثّالث إنّما يكون {بناءً على صحّة التنزيل بلحاظ أثر الواسطة أيضاً، لأجل أنّ أثر الأثر أثر} فأثر الإحراق الّذي هو أثر النّار أثر للنار، فإذا استصحب وجود النّار ترتّب عليه أثر الإحراق أيضاً.

وقد علّق المصنّف على قوله: «بناءً» بقوله: «ولكن الوجه عدم صحّة التنزيل بهذا اللحاظ، ضرورة أنّه ما يكون شرعاً لشيء من الأثر لا دخل له بما يستلزمه عقلاً أو عادة، وحديث أثر الأثر أثر - وإن كان صادقاً - إلّا أنّه إذا لم يكن الترتّب بين الشّيء وأثره وبينه وبين مؤثّره مختلفاً، وذلك ضرورة أنّه لا يكاد يكون الأثر الشّرعي لشيء أثراً شرعيّاً لما يستلزمه عقلاً أو عادة أصلاً - لا بالنّظر الدقيق العقلي ولا بالنّظر المسامحي العرفي - إلّا في ما عدّ أثر الواسطة أثراً لذيها،

ص: 153

وذلك لأنّ مفادها لو كان هو تنزيل الشّيء وحده بلحاظ أثر نفسه لم يترتّب عليه ما كان مترتّباً عليها؛ لعدم إحرازها حقيقة ولا تعبّداً، ولا يكون تنزيله بلحاظه، بخلاف ما لو كان تنزيلهبلوازمه، أو بلحاظ ما يعمّ آثارها، فإنّه يترتّب باستصحابه ما كان بواسطتها.

___________________________________________

لخفائها أو لشدّة وضوح الملازمة بينهما، عدا شيئاً واحداً ذا وجهين، وأثر أحدهما أثر الاثنين، كما يأتي الإشارة إليه، فافهم»(1)،

انتهى.

{وذلك} الّذي ذكرنا من أنّ منشأ الاختلاف تابع لمفاد أخبار الباب {لأنّ مفادها لو كان هو تنزيل الشّيء وحده} فمعنى «لا تنقض اليقين» احكم بقاء المتيقّن وحده {بلحاظ أثر نفسه} كأن يحكم بالطهارة بلحاظ جواز الصّلاة {لم يترتّب عليه} أي: على المتيقّن المستصحب {ما كان مترتّباً عليها} أي: على الواسطة {لعدم إحرازها} أي: الواسطة {حقيقة} فلا نعلم بوجود الواسطة علماً قطعيّاً {ولا تعبّداً} أي: لم يكن هناك تعبّد من الشّارع بوجود الواسطة. وقوله: «لعدم» علّة لقوله: «لم يترتّب».

{ولا يكون تنزيله} أي: تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن {بلحاظه} أي: بلحاظ أثر الواسطه، فالضمان الّذي هو أثر الإحراق الّذي هو الواسطة لا يترتّب - كما في المثال الثّاني - لأنّ الإحراق لم يحرز بالعلم، ولا دلّ دليل تعبّديّ على وجوده، وليس تنزيل النّار المشكوكة منزلة النّار المتيقّنة بلحاظ الضّمان الّذي هو أثر الإحراق، فكيف يمكن إثبات الضّمان؟

{بخلاف ما لو كان تنزيله} أي: تنزيل المشكوك {بلوازمه} العقليّة والعادية كما هو الاحتمال الثّاني {أو بلحاظ ما يعمّ آثارها} مطلقاً كما هو الاحتمال الثّالث {فإنّه يترتّب باستصحابه ما كان بواسطتها} أي: بواسطة الواسطة، كما لا يخفى.

ص: 154


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 548.

والتحقيق: أنّ الأخبار إنّما تدلّ على التعبّد بما كان على يقين منه فشكّ، بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحكامه، ولا دلالة لها بوجه على تنزيله بلوازمه الّتي لا تكون كذلك - كما هي محلّ ثمرة الخلاف - ، ولا على تنزيله بلحاظ ما له مطلقاً ولو بالواسطة؛ فإنّ المتيقّن إنّما هو لحاظ آثار نفسه، وأمّا آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها أصلاً، وما لم يثبت لحاظها بوجه أيضاً لما كان وجه لترتيبها عليه باستصحابه، كما لا يخفى.

___________________________________________

{و} إذا عرفت الاحتمالات الثلاثة نقول: {التحقيق أنّ الأخبار إنّما تدلّ على التعبّد بما كان على يقين منه فشكّ} لأنّه قال: «لا تنقض اليقين» بمعنى جعل المتيقّن كما كان، وعدم الاعتناء بالشكّ الطّارئ، وهذا لا يكون إلّا {بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحكامه} فكلّ أثر وحكم كان مترتّباً على المتيقّن حال اليقين به يترتّب عليه حال الشّكّ به، فإذا كان الإنسان متيقّناً بالطهارة جاز له الصّلاة ومسّ الكتابة والطّواف، وكذلك إذا شكّ فيها، فإنّ استصحابها موجب لليقين التعبّدي بها.

{ولا دلالة لها} أي: للأخبار {بوجه على تنزيله} أي: تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن {بلوازمه الّتي لا تكون كذلك} أي: لا تكون تلك اللوازم من آثاره وأحكامه، كما هو الاحتمال الثّالث {كما هي محلّ ثمرة الخلاف} فإنّ ثمرة الخلاف إنّما هي بلحاظ الآثار الشّرعيّة الثابتة لأثر غير شرعيّ للمستصحب {ولا} دلالة للأخبار {على تنزيله بلحاظ ما له} من الأثر {مطلقاً ولو بالواسطة} كما هو الاحتمال الثّاني.{فإنّ المتيقّن} من دليل الاستصحاب {إنّما هو لحاظ آثار نفسه، وأمّا آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها} في دليل الاستصحاب {أصلاً وما لم يثبت لحاظها} أي: لحاظ الآثار {بوجه أيضاً} كما لم تلاحظ استقلالاً {لما كان وجه لترتيبها عليه} أي: على المستصحب {باستصحابه، كما لا يخفى} فتحقّق أنّه لا يثبت

ص: 155

نعم، لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه، لخفاء ما بوساطته، بدعوى: أنّ مفاد الأخبار عرفاً ما يعمّة

___________________________________________

بالاستصحاب الآثار العقليّة والعادية والآثار الشّرعيّة المتوقّفة على أثر غير شرعي.

{نعم} قد استثني من عدم حجيّة الأصل المثبت موارد:

منها: ما لو كانت الواسطة بين المستصحب وبين الأثر الشّرعي خفيّة، بأن كانت الآثار الشّرعيّة للوازم غير شرعيّة لكن كانت وساطة تلك اللوازم بين المستصحب وبين الأثر الشّرعي بحيث لا يلتفت إليه العرف، ويرى كأنّ الأثر الشّرعي لنفس المستصحب لا لواسطة هناك، كما لو لاقى شيء مع ثوب نجس كان سابقاً مرطوباً فشككنا في نجاسة ذلك الشّيء من جهة الشّكّ في بقاء الرّطوبة، فإذا استصحبنا الرّطوبة حكمنا بنجاسة الملاقي، مع أنّ النّجاسة ليست من آثار الرّطوبة وإنّما هي من آثار السّراية الّتي هي من لوازم الرّطوبة، فإنّ وساطة السّراية خفيّة عند العرف، ولذا لا بأس بترتيب النّجاسة على مجرّد استصحاب الرّطوبة.

وهكذا في ما لو شككنا في الوضوء والغسل بأنّه هل هناك مانع أم لا؟ فإنّ استصحاب عدم المانع كافٍ في الحكم بصحّة الوضوء والغسل، مع أنّ الصّحّةليست من آثار عدم المانع وإنّما هي من آثار غسل الموضع المشكوك، لكن العرف يرى أنّ عدم المانع يترتّب عليه الصّحّة بدون الالتفات إلى الواسطة الّتي هي غسل المحلّ، فإنّه {لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها} أي: من الآثار الشّرعيّة المترتّبة على وسائط {محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه} أي: نفس المستصحب {لخفاء ما} أي: الشّيء الّذي هذا الأثر {بوساطته}.

وإنّما نقول بترتيب مثل هذه الآثار الشّرعيّة الّتي هي بواسطة خفيّة {بدعوى أنّ مفاد الأخبار عرفاً} أي: في نظر العرف {ما يعمّه} أي: يعمّ مثل هذا الأثر الّذي

ص: 156

أيضاً حقيقة، فافهم.

___________________________________________

هو بواسطة خفيّة {أيضاً} كما يشمل ما ليس بواسطة إطلاقاً {حقيقة، فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّه لا عبرة بخطأ العرف في تطبيق مفاد الدليل، بل العبرة بنظرهم في تشيخص المعنى، إذ العرف هو المرجع في الثّاني لا الأوّل، فإنّ للعرف أن يعيّن أنّ الكرّ ألف ومائتا رطل، لكن ليس له أن يطبّق هذا المعنى على ما نقص عن هذا المقدار بدعوى التسامح، فيقول: إنّ أقلّ من ألف ومائتا رطل أيضاً يعدّ كرّاً.

أقول: لكن ذكرنا في بعض المسائل أنّ العرف هو المحكم في الأمرين؛ لأنّه المخاطب ففهمه حجّة مطلقاً.

ومن الموارد المستثناة من الأصل المثبت ما لو كان بينهما تلازم، بحيث كان تنزيل أحدهما تنزيلاً للآخر كالمتضايفات، فمثلاً التعبّد بأُبوّة زيد لعمرو ملازم للتعبّد ببنوّة عمرو لزيد، فإذا جرى الاستصحاب في الأوّل ثبت لوازم الثّاني.

ومن الموارد الّتي قالوا بعدم المانع عن كون الأثر بواسطة ما لو كان بينالمستصحب وبين شيء آخر ملازمة، بحيث يرى العرف أنّ الاستصحاب موجب لإثبات آثار اللّازم، حتّى أنّه لو لم ترتّب الآثار لرأوا أنّه من نقض اليقين بالشك، كما لو كان أثر للميتة ثمّ أجرينا استصحاب عدم التذكية لترتيب ذلك الأثر على الاستصحاب، وإن كان بين الميتة وعدم التذكية تلازم، فإذا جرى استصحاب أحدهما ثبت الآخر وترتّب على ذلك أثر اللّازم، فإنّ بين المستصحب وبين الأثر واسطة وهو اللّازم لكن رؤية العرف أنّ الأثر كأنّه للمستصحب كافية في جواز ترتيبه.

ومثل التلازم بين عدم الإتيان وبين الفوت، فإنّه لو استصحب عدم إتيان الفريضة في الوقت ترتّب عليه وجوب القضاء مع أنّه من آثار الفوت، لكن العرف لا يلتفت إلى هذه الواسطة الّتي هي الفوت.

ص: 157

كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفاً بينه وبين المستصحب تنزيلاً، كما لا تفكيك بينهما واقعاً، أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له، أو ملازمته معه بمثابةٍ عُدَّ أثرُهُ أثراً لهما؛ فإنّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه يكون نقضاً ليقينه بالشكّ أيضاً بحسب ما يفهم من النّهي عن نقضه عرفاً، فافهم.

___________________________________________

وإلى هذا أشار بقوله: {كما لا يبعد ترتيب ما} أي: الأثر الشّرعي الّذي {كان بوساطة ما} أي: بوساطة ملازم {لا يمكن التفكيك عرفاً بينه} أي: بين ذلك الملازم {وبين المستصحب تنزيلاً} فإذا نزّل الشّارع أحدهما كان معناه تنزيل الآخر أيضاً، فلو نزل الأب كان معناه تنزيل الابن وبالعكس.

{كما لا تفكيك بينهما} أي: بين هذين الأمرين{واقعاً} فإنّ الحقيقة أنّه كلّ أب يلازم الابن وكلّ ابن يلازم الأب، فإنّه لا ينفكّ في الخارج أحدهما عن الآخر {أو} ترتيب الأثر {بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له} أي: لزوم ذلك اللّازم للملزوم الّذي هو المستصحب {أو ملازمته} أي: ملازمة الشّيء ذي الأثر {معه} أي:مع المستصحب {بمثابةٍ عُدَّ أثرُهُ} أي: أثر المستصحب الّذي هو اللّازم أو الملازم {أثراً لهما} فيرى العرف أنّ أثر الميتة - كالنجاسة - وأثر الفوت - وهو القضاء - أثر لعدم التذكية وأثر لعدم الإتيان بالصلاة.

والحاصل: أنّ المتضايفين والمتلازمين واللّازم والملزوم يكون جريان الاستصحاب في أحدهما كافٍ لترتيب آثار الآخر عليه {فإنّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه} أي: على المستصحب {يكون نقضاً ليقينه بالشكّ أيضاً} أي: كما أنّ عدم ترتيب أثر نفسه عليه يكون نقضاً {بحسب ما يفهم من النّهي عن نقضه عرفاً} فإنّ العرف يفهم من النّقض أعمّ من نقض أثر نفسه أو أثر لازمه وملازمه ومضايفه.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى ما تقدّم من عدم الاعتبار بالفهم العرفي في تطبيق مفاد الدليل.

ص: 158

ثمّ لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الأصول التعبديّة وبين الطّرق والأمارات؛

___________________________________________

{ثمّ} إنّه ربّما يشكل بأنّه ما الفرق بين الاستصحاب الّذي تقولون: إنّ لازمه ليس بحجّة، وبين الطّرق والأمارات الّتي تقولون بأنّ لوازمها حجّة مع أنّ جميعها أدلّة تعبّديّة؟ لكن هذا الإشكال ليس في محلّه، إذ {لا يخفى وضوحالفرق بين الاستصحاب وسائر الأصول التعبّديّة} كأصل الطّهارة وأصل الحلّ وغيرهما {وبين الطّرق} كالخبر الواحد {والأمارات} كالبيّنة، فإنّ الأصول إنّما تحكم تعبّداً بمفادها، فإذا قال: «كلّ شيء طاهر»(1)

أو (احمل فعل أخيك على الصّحّة)(2)

- في أصالة الصّحّة - فليس معنى ذلك إلّا أنّ هذا الشّيء طاهر أو أنّ هذا الفعل صحيح تعبّداً، وليس هناك علم بلازمه ولا تعبّد بالنسبة إليه، فلو كان لازم طهارة هذا الشّيء نجاسة شيء آخر وصحّة هذا العمل بطلان عمل آخر لم يكن دليل شرعيّ أو عقليّ على ذلك اللّازم، ولذا لا يقال بترتيب ذلك اللّازم على مجرّد هذه الأصول.

وهذا بخلاف الطّرق والأمارات، فإنّها جعلت كاشفة عن الواقع، فمعنى كون خبر الواحد حجّة أنّ مفاده هو الواقع، كما أنّ معنى كون البيّنة حجّة أنّ قولها هو الواقع، فإذا قاما على شيء كان ذلك الشّيء ثابتاً - تعبّداً - وكما أنّه يترتّب على ذلك الشّيء لازمه وملازمه كذلك يترتّب على وجوده التعبّدي، فلو دلّ الدليل على أنّ صلاة الظهر يوم الجمعة واجبة، وكان هناك دليل آخر على أنّه لا صلاتين في يوم واحد، كان ذلك مقتضياً لعدم وجوب الجمعة، فكما أنّه لو علمنا بمفاد هذين الخبرين لم تجب الجمعة كذلك إذا كشف لنا الشّارع عنهما بالتعبّد.

ص: 159


1- مستدرك الوسائل 2: 583.
2- إشارة إلى: «ضع أمر أخيك على أحسنه»، وسائل الشيعة 12: 302.

فإنّ الطّريق أو الأمارة حيث إنّه - كما يحكى عن المؤدّى ويشير إليه، كذا يحكى عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ويشير إليها - كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها،

___________________________________________

لكن ربّما يقال: بأنّ هذا الفرق ليس بفارق إذ كما لا يكون في الأصول علم بالواقع كذلك لا يكون في الأمارات، وكما يكون في الأمارات تعبّد بمفادها كذلك يكون في الأصول تعبّد بمفادها، وأيّ فرق عرفاً بين أن يقول المولى: (هذا المتولّد بين حيوانين طاهر إذا لم تعلم بطهارته أو نجاسته) الّذي هو مفاد الأصل، وبين أن يقول: (خذ بقول زرارة) ثمّ يقول: (قال المولى هذا المتولّد بين حيوانين طاهر) الّذي هو مفاد الطّريق، فإنّ في كليهما يرى العرف حكم المولى بالطهارة، ويرى أنّ كليهما بمثابة واحدة في أنّ لازمه وملازمه ومضايفه وآثارها يترتّب عليه.

وعلى أيّ حال، فما ذكروه من الفرق فيه غموض، ولذا نرى أنّ القدماء والمتأخّرين ومتأخّريهم - باستثناء من قاربنا عصرهم - لم يفهموا من أدلّة الأصول إلّا كما فهموا من أدلّة الأمارات، مع أنّ أفهامهم من أصفى أفهام العرف.

وحيث إنّ البحث في ذلك خارج عن نطاق الشّرح، فلنعد إلى توضيح المتن فنقول: إنّ الفرق بين الأصول وبين الطّرق والأمارات واضح {فإنّ الطّريق أو الأمارة حيث إنّه كما يحكى عن المؤدّى ويشير إليه كذا يحكى عن أطرافه} المرتبطة به {من ملزومه ولوازمه وملازماته} فالضوء ملزومه الشّمس - أي: إنّ الشّمس تلزم الضّوء - ولازمه نفوذ نور البصر وملازمه الحرارة - لأنّ الضّوء والحرارة لازمان للشمس، فأحدهما ملازم للآخر {ويشير إليها} فمعنى قول القائل: (الضّوء موجود) أنّ نور البصر ينفذ في الأشياء، والشّمس طالعة والهواء ذات حرارة {كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها} أي: اعتبار الطّرق والأمارات {لزوم تصديقها} أي: تصديق تلك الطّرق والأمارات {في حكايتها}.

ص: 160

وقضيّته حجيّة المثبت منها، كما لا يخفى.بخلاف مثل دليل الاستصحاب، فإنّه لا بدّ من الاقتصار بما فيه من الدلالة على التعبّد بثبوته، ولا دلالة له إلّا على التعبّد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره حسب ما عرفت، فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه كسائر الأصول التعبديّة، إلّا في ما عدّ أثر الواسطة أثراً له، لخفائها، أو شدّة وضوحها وجلائها، حسب ما حقّقناه.

الثّامن: إنّه لا تفاوت في الأثر المترتّب على المستصحب بين أن يكون مترتّباً عليه بلا وساطة شيء،

___________________________________________

{وقضيّته} أي:مقتضى تصديقها {حجيّة المثبت منها، كما لا يخفى} لازماً أو ملزوماً أو ملازماً {بخلاف مثل دليل الاستصحاب} وأدلّة سائر الأصول {فإنّه لا بدّ من الاقتصار بما فيه من الدلالة على التعبّد بثبوته} أي: ثبوت ما فيه {ولا دلالة له} أي: لمثل الاستصحاب {إلّا على التعبّد بثبوت المشكوك} فقط {بلحاظ أثره} لا شيء آخر {حسب ما عرفت} تفصيله.

{فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه} من اللّازم والملزوم والملازم وآثارها {ك-} ما هو كذلك في {سائر الأصول التعبديّة} كأصالة الحلّ والطّهارة والصّحّة {إلّا في ما عدّ أثر الواسطة} كالنّجاسة الّتي هي أثر السّراية الّتي هي واسطة بين استصحاب الرّطوبة وبين النّجاسة {أثراً له} أي: لنفس المستصحب {لخفائها} أي: خفاء الواسطة {أو شدّة وضوحها وجلائها} بحيث كان دليل التنزيل دليلاً على تنزيلها لما بينهما من الارتباط الجلي الواضح {حسب ما حقّقناه} في الموارد الثلاثة المستثناة منالأصل المثبت.

[التنبيه الثّامن]

التنبيه {الثّامن} في بيان موارد ليست من الأصل المثبت {إنّه لا تفاوت في الأثر المترتّب على المستصحب بين أن يكون مترتّباً عليه بلا وساطة شيء} فإنّ

ص: 161

أو بوساطة عنوان كلّيّ ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشّائع، ويتحد معه وجوداً، كان منتزعاً عن مرتبة ذاته، أو بملاحظة بعض عوارضه ممّا هو خارج المحمول

___________________________________________

الأمر المترتّب على شيء على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ماكان مرتّباً على نفس المستصحب، كما لو وجب إكرام زيد فشكّ في بقائه، فإنّه يجب إكرامه استصحاباً.

الثّاني: ما كان مرتّباً على لازمه أو ملزومه أو ملازمه أو مقارنه، وقد عرفت في التنبيه المتقدّم أنّه من الأصل المثبت الّذي لا يجري.

الثّالث: أن يترتّب على محموله، والمحمول إمّا أن يكون غير الذات كحمل النّوع أو جنسه أو فصله أو عارضه الّذي هو من قبيل خارج المحمول، أو من عارضه الّذي هو من قبيل المحمول بالضميمة، نحو (زيد إنسان، أو حيوان، أو ناطق، أو زوج، أو أسود).

والكلام في هذا التنبيه الثّامن في هذا القسم، فالشيخ على أنّه لا يثبت بالاستصحاب هذه الأُمور الخمسة، فإذا شكّ في وجود زيد واستصحبناه لم يجز أن نرتّب عليه هذه الأُمور، خلافاً للمصنّف الّذي لا يرى من الأصل المثبت إلّا الأمر الخامس، وهو المحمول بالضميمة كالسواد.إذا عرفت ذلك قلنا: يترتّب الأثر على الاستصحاب سواء كان بلا واسطة كإكرام زيد وهو القسم الأوّل {أو بوساطة عنوان كلّيّ ينطبق} ذلك العنوان الكلّي {ويحمل عليه بالحمل الشّائع} الصّناعيّ، مقابل الحمل الأوّلي الذاتي الّذي هو حمل الشّيء على نفسه، نحو (الإنسان إنسان) {ويتّحد معه} أي: مع المستصحب {وجوداً} لا مفهوماً سواء {كان} ذلك الكلّي {منتزعاً عن مرتبة ذاته} أي: ذات المستصحب كالنوع والجنس والفصل {أو} منتزعاً {بملاحظة بعض عوارضه ممّا هو خارج المحمول} نحو الزوجيّة والملكيّة والغصبيّة والرّقّيّة،

ص: 162

لا بالضميمة؛ فإنّ الأثر في الصّورتين إنّما يكون له حقيقة، حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلّي في الخارج سواه، لا لغيره ممّا كان مبايناً معه، أو من أعراضه ممّا كان محمولاً عليه بالضميمة كسواده - مثلاً - أو بياضه؛ وذلك

___________________________________________

فإذا استصحبنا وجود زيد أو وجود الدار المملوكة أو المغصوبة - سابقاً - ثبت وجوب نفقة زوجته وجواز التصرّف أو حرمة التصرّف أو جواز الإعتاق؛ لأنّ بقاء زيد موجب لانتزاع عناوين هذه الأحكام.

وقد عرفت أنّها ليست من الأُمور الخارجة حتّى يندرج في الأصل المثبت {لا} المحمول {بالضميمة} فإنّه لا يثبت، فإذا استصحبنا بقاء زيد لم يثبت بقاء سواده؛ لأنّ السّواد أمر خارج، وليس مثل خارج المحمول ممّا ليس إلّا أمراً انتزاعيّاً لا غير.

وإنّما قلنا بترتّب القسم الأوّل والقسم الثّالث {فإنّ الأثر في الصّورتين} صورة الترتّب على نفس الذات، وصورة الترتّب على عنوان كلّيّمنتزع {إنّما يكون له} أي: للمستصحب {حقيقة} فإنّ آثار الإنسان والحيوان والنّاطق والزوج آثار لزيد في الواقع والحقيقة، فلا مانع من ترتّب آثارها عليه {حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلّي} الّذي هو صاحب الأثر {في الخارج سواه} أي: سوى ذلك الفرد المستصحب {لا لغيره} أي: ليس الأثر لغير ذلك المستصحب {ممّا كان مبايناً معه} كما في القسم الثّاني الّذي يكون الأثر للملازم واللّازم والملزوم والمقارن {أو} ممّا كان {من أعراضه ممّا كان محمولاً عليه بالضميمة} فإنّه لو كان للسواد أثر لم يكن استصحاب زيد كافياً في ترتّب أثر السّواد عليه، إذ السّواد الّذي هو محمول على زيد ليس خارج المحمول، وإنّما هو محمول بالضميمة، فأثره ليس أثراً لزيد حتّى إذا استصحب زيد ترتّب أثر السّواد عليه {كسواده - مثلاً - أو بياضه} ولو أُريد ترتّب هذا النّحو من الأثر كان من الأصل المثبت الّذي تقدّم أنّه ليس بحجّة.

{وذلك} الّذي ذكرنا من ترتّب الآثار في الصّورتين لكونه للمستصحب

ص: 163

لأنّ الطّبيعي إنّما يوجد بعين وجود فرده، كما أنّ العرضي - كالملكيّة والغصبيّة ونحوهما - لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه، فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتّب عليه الأثر، لا لشيء آخر، فاستصحابه لترتيبه لا يكون بمثبت، كما توهّم(1).

وكذا لا تفاوت في الأثر المستصحب أو المترتّب عليه، أن يكون مجعولاً شرعاً بنفسه، - كالتكليف وبعض أنحاء الوضع - ،

___________________________________________

{لأنّ الطّبيعي} الّذي هو صاحب الأثر في الواقع {إنّما يوجد بعين وجود فرده} فإنّ الإنسان والحيوان والنّاطق توجد بعين وجود زيد، فأثرها أثره {كما أنّ العرضي كالملكيّة والغصبيّة} والزوجيّة والرّقيّة {ونحوهما لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه} الّذي هو زيد ودار، وذلك بخلاف المحمول بالضميمة الّذي له وجود منحاز عن وجود منشأ انتزاعه {فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج} كزيد الّذي هو فرد للإنسان ومنشأ لانتزاع الزوجيّة، و{هو عين ما رتّب عليه الأثر} إذ الأثر له {لا لشيء آخر} غير زيد {فاستصحابه} أي: استصحاب الفرد {لترتيبه} أي: ترتيب الأثر {لا يكون بمثبت كما توهّم} وكأنّه أراد بذلك الشّيخ(رحمة الله).

{وكذا} ليس من الاستصحاب المثبت ما توهّم من استصحاب الأجزاء والشّرائط والموانع، حيث إنّها ليست بذات أثر شرعي، بل إجراء الاستصحاب فيها إنّما هو للكلّ والمشروط والممنوع الّتي يترتّب عليها الآثار، لكن فيه أنّ الجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة أيضاً من الآثار الشّرعيّة، منتهى الأمر أنّها وضعيّة لا تكليفيّة، فالاستصحاب في الجزء والشّرط والمانع ليس مثبتاً.

وعلى هذا {لا تفاوت في الأثر المستصحب أو المترتّب عليه أن يكون مجعولاً شرعاً بنفسه كالتكليف} كاستصحاب الوجوب والحرمة {وبعض أنحاء الوضع}

ص: 164


1- فرائد الأصول 3: 235-236.

أو بمنشأ انتزاعه، - كبعض أنحائه، كالجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة - ؛ فإنّهأيضاً ممّا تناله يد الجعل شرعاً، ويكون أمره بيد الشّارع وضعاً ورفعاً، ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه. ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتّب أو المستصحب مجعولاً مستقلّاً، كما لا يخفى.

فليس استصحاب الشّرط أو المانع لترتيب الشّرطيّة أو المانعيّة بمثبت - كما ربّما توهّم - بتخيّل أنّ الشّرطيّة أو المانعيّة ليست من الآثار الشّرعيّة، بل من الأُمور الانتزاعيّة(1)،

___________________________________________

وهو القسم الثّالث من أقسام الوضع المتقدّمة، وهو الّذي يمكن فيه الجعل استقلالاً وتبعاً، كالولاية والحجيّة والقضاء وغيرها، فيجوز استصحاب الولاية والحجيّة، كما يصحّ استصحاب الوجوب والحرمة.

{أو} يكون مجعولاً شرعاً {بمنشأ انتزاعه، كبعض أنحائه كالجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة، فإنّه أيضاً ممّا تناله يد الجعل شرعاً ويكون أمره بيد الشّارع وضعاً ورفعاً} بأن يجعل شيئاً جزءاً لشيء أو يرفع الجزئيّة في حال دون حال مثلاً، وهكذا بالنسبة إلى الشّرطيّة والمانعيّة {ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه} كما تقدّم في القسم الثّاني من أقسام الوضع تفصيله.

{ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتّب أو المستصحب مجعولاً مستقلّاً، كما لا يخفى} فإذا شكّ في شرطيّة الطّهارة الخبثيّة في حال الاضطرار جاز إجراء أصالة العدم، كما أنّه لو شكّ في الطّهارة لعارض بعد ما كانت سابقاً موجودة صحّ إجراء أصالة البقاء، فما قيل من أنّه لا أثر لهذه الأُمور إلّا صحّة الصّلاة وبطلانها - مثلاً - وهما حكمانعقليّان لا يرتبطان بالشرع، في غير محلّه.

{فليس استصحاب الشّرط أو المانع} أو الجزء {لترتيب الشّرطيّة أو المانعيّة} أو الجزئيّة {بمثبت - كما ربّما توهّم -} أنّها مثبتات فليست بحجّة {بتخيّل أنّ الشّرطيّه أو المانعيّة ليست من الآثار الشّرعيّة، بل من الأُمور الانتزاعيّة} من كون

ص: 165


1- فرائد الأصول 2: 333 و 367، 3: 127.

فافهم.

وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتّب بين أن يكون ثبوت الأثر ووجودَه، أو نفيه وعدمه؛ ضرورة أنّ أمر نفيه بيد الشّارع كثبوته.

___________________________________________

شيء دخيلاً في شيء وجوداً أو دخيلاً فيه عدماً {فافهم} وتأمّل.

ثمّ إنّه ربّما أُشكل في جريان استصحاب عدم الحكم أو عدم الموضوع: بأنّه يجب أن يكون للاستصحاب أثر شرعيّ، وعدم الحكم أو عدم الموضوع المسبّب لعدم الحكم لا أثر شرعيّ لهما، فلا يجري استصحابهما، وعلى هذا فلا يصحّ استصحاب عدم التكليف بأن يقال: زيد لم يكن مكلّفاً فإذا شككنا في أنّه هل كلّف أم لا فالأصل عدم تكليفه، وهكذا في استصحاب عدم الموضوع.

وإن قلت: إنّ استصحاب العدم له أثر وهو عدم العقاب.

قلت: لا يكون عدم العقاب أثراً شرعيّاً، وإنّما هو أثر عقليّ لعدم التكليف، لكن يرد على هذا الإشكال أنّه حيث كان كلّ من التكليف وعدمه بيد الشّارع صحّ جريان الاستصحاب فيهما، وأمّا ما ذكر من أنّ عدم العقاب من الآثار العقليّة ففيه أنّ كونه من الآثار العقليّة إنّما يصحّ بالنسبة إلى الواقع، وأمّا بالنسبةإلى الظاهر فالاستصحاب مثبت لموضوع عدم العقاب العقلي.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتّب} على المستصحب {بين أن يكون} المستصحب والمترتّب {ثبوت الأثر ووجوده} كأن يستصحب الوجوب أو يستصحب بقاء زيد المترتّب عليه وجوب الإنفاق على زوجته {أو نفيه وعدمه} كأن يستصحب عدم الوجوب وعدم وجود زيد {ضرورة أنّ أمر نفيه} أي: نفي الأثر {بيد الشّارع ك-} ما أنّ {ثبوته} بيد الشّارع.

ص: 166

وعدم إطلاق الحكم على عدمه غير ضائر؛ إذ ليس هناك ما دلّ على اعتباره بعد صدق نقض اليقين بالشكّ برفع اليد عنه، كصدقه برفعها من طرف ثبوته، كما هو واضح.

فلا وجه للإشكال في الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة من التكليف، وعدم المنع عن الفعل بما في الرّسالة من: «أنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشّرعيّة»(1)؛

فإنّ عدم استحقاق العقوبة - وإن كان غير مجعول - إلّا أنّه

___________________________________________

{و} إن قلت: إنّ لنا أن نستصحب الأحكام، والأعدام ليست بأحكام.

قلت: {عدم إطلاق الحكم على عدمه} أي: عدم الأثر، فإنّ عدم الوجوب ليس حكماً بل هو عدم حكم {غير ضائر، إذ ليس هناك ما دلّ على اعتباره} أي: اعتبار أن يطلقعلى المستصحب لفظ (الحكم) {بعد صدق نقض اليقين بالشكّ برفع اليد عنه} فإنّه لو علمنا سابقاً بعدم وجوب الصّلاة على زيد ثمّ شككنا في الوجوب فقلنا بأنّها واجبة صدق أنّا نقضنا يقيننا بالشكّ، وهو غير جائز {كصدقه} أي: صدق نقض اليقين بالشكّ {برفعها} أي: رفع اليد {من طرف ثبوته} أي: حيث يكون الثبوت مورداً للاستصحاب {كما هو واضح} لا يخفى.

{فلا وجه للإشكال في الاستدلال على البراءة: باستصحاب البراءة من التكليف} في ما شكّ في أنّه هل كلّف بالفعل أم لا {و} الاستدلال على البراءة ب- {عدم المنع عن الفعل} في ما شكّ في أنّه هل منع عن الفعل أم لا {بما في الرّسالة} للشيخ(رحمة الله) {«من أنّ عدم استحقاق العقاب} في ترك المشكوك الوجوب وفعل مشكوك الحرمة {في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشّرعيّة»} حتّى يرفع بالاستصحاب ولا أثر آخر لهذا الاستصحاب؛ لأنّه نافٍ للتّكليف لا مثبت له.

وإنّما قلنا بأنّه لا وجه للإشكال {فإنّ عدم استحقاق العقوبة - وإن كان غير مجعول -} بل هو أثر عقليّ لعدم التكليف {إلّا أنّه} لا دليل لنا على أنّ كلّ

ص: 167


1- فرائد الأصول 2: 60، مع اختلاف يسير.

لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع.

وترتّب عدم الاستحقاق - مع كونه عقليّاً - على استصحابه، إنّما هو لكونه لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر، فتأمّل.

التّاسع:

___________________________________________

استصحاب يلزم أن يكون له أثر وجوديّ، إذ {لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع} فإذا أردنا أن نستصحب عدم المنع - بأن نقول: إنّ هذا الفعل لم يكن ممنوعاً سابقاً فهو ليس بممنوع فعلاً - لا نحتاج إلى أن يكون لهذا الاستصحاب أثر مجعول، بل نفس عدم التكليف أمر مهمّ مع صدق دليل الاستصحاب وهو «لا تنقض اليقين بالشكّ».

{و} أمّا ما ذكره من أنّ عدم استحقاق العقاب مرتّب على عدم المنع واقعاً، ففيه: أنّه مرتّب على الأعمّ من عدم المانع الواقعي والظاهري، فإذا ثبت الاستصحاب عدم المنع الظاهري ترتّب عليه عدم استحقاق العقاب، فإنّ {ترتّب عدم الاستحقاق} للعقاب عل-ى استصحاب ع--دم المنع {- مع كونه عقليّاً - على استصحابه} أي: استصحاب عدم المنع {إنّما هو لكونه} أي: عدم الاستحقاق {لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر} فإذا استصحبنا عدم المنع تحقّق موضوع عدم العقاب - ظاهراً - {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّ الشّيخ(رحمة الله) يرى أنّ عدم استحقاق العقاب من لوازم عدم ثبوت المنع الواقعي، فيترتّب بمجرّد الشّكّ، ولا يحتاج في ترتّبه إلى الاستصحاب.

[التنبيه التّاسع]

التنبيه {التّاسع} في أنّه يترتّب على المستصحب الآثار العقليّة الّتي هي من قبيل وجوب الإطاعة وحرمة المخالفة، فإنّ ما ذكرنا سابقاً من أنّه لا يترتّب على المستصحب الأثر العقلي أو الأثر الشّرعي المتوقّف على الأثر غير الشّرعي إنّما

ص: 168

إنّه لا يذهب عليك: أنّ عدم ترتّب الأثرغير الشّرعي ولا الشّرعي، بواسطة غيره من العادي أو العقلي بالاستصحاب، إنّما هو بالنسبة إلى ما للمستصحب واقعاً، فلا يكاد يثبت به من آثاره إلّا أثره الشّرعي الّذي كان له بلا واسطة أو بوساطة، أثر شرعيّ آخر - حسب ما عرفت في ما مرّ - ،

___________________________________________

أُريد بالأثر الأثر الّذي يكون متوقّفاً على الشّيء واقعاً، فإنّ كون زيد في الحيّز من الآثار المتوقّفة على وجوده واقعاً فلا يترتّب على وجوده الاستصحابي.

أمّا الآثار العقليّة الّتي هي أثر للأعمّ من وجود المستصحب واقعاً أو ظاهراً فهي تترتّب على المستصحب، وذلك كوجوب الإطاعة، فإنّه وإن كان أثراً عقليّاً إلّا أنّه مترتّب على الحكم سواء ثبت واقعاً أو ظاهراً، فإذا استصحبنا وجوب الجمعة حال الغيبة ترتّب عليه وجوب الإطاعة عقلاً، كما أنّ وجوب الإطاعة كما يترتّب على وجوب الجمعة إذا كان معلوماً لدينا بدون الاستصحاب، ف- {إنّه لا يذهب عليك أنّ} ما ذكرنا من {عدم ترتّب الأثر غير الشّرعي} كالعقلي والعادي {ولا} ترتّب الأثر {الشّرعي بواسطة غيره} أي: غير الشّرعي {من العادي أو العقلي} كالأثر الشّرعي المتوقّف على إنبات لحية زيد الّذي هو أثر عادي لوجوده المستصحب {بالاستصحاب} متعلّق بقوله: «عدم ترتّب الأثر» {إنّما هو بالنسبة إلى ما للمستصحب واقعاً} أي: الأثر العقلي والعادي الّذي هو للمستصحب واقعاً لا يثبت بالاستصحاب.

{فلا يكاد يثبت به} أي: بالاستصحاب {من آثاره} أي: آثار المستصحب {إلّا أثره الشّرعي الّذي كان له} أي: للمستصحب {بلا واسطة} كالدخول في الصّلاة الّذي هو أثرللطهارة بلا واسطة {أو بوساطة أثر شرعيّ آخر} كما لو نذر بأنّه لو جاز له الدخول في الصّلاة تصدّق بكذا، فالتصدّق أثر شرعيّ مترتّب على الطّهارة بواسطة جواز الدخول في الصّلاة {حسب ما عرفت في ما مرّ} في التنبيه

ص: 169

لا بالنسبة إلى ما كان للأثر الشّرعي مطلقاً، كان بخطاب الاستصحاب، أو بغيره من أنحاء الخطاب؛ فإنّ آثاره - شرعيّة كانت أو غيرها - يترتّب عليه إذا ثبت، ولو بأن يستصحب، أو كان من آثار المستصحب؛ وذلك لتحقّق موضوعها حينئذٍ حقيقة.

فما للوجوب عقلاً يترتّب على الوجوب الثابت شرعاً باستصحابه أو استصحاب موضوعه، من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة... إلى غير ذلك،

___________________________________________

السّابع {لا بالنسبة إلى ما كان} أي: إلى الأثر العقلي الّذي كان {للأثر الشّرعي مطلقاً}.

فإنّ الأثر العقلي - كوجوب الإطاعة - الّذي كان مرتّباً على أثر شرعيّ مطلقاً يترتّب مهما وجد أثر شرعي، سواء {كان بخطاب الاستصحاب} بأن ثبت الحكم بالاستصحاب {أو بغيره من أنحاء الخطاب} كالبيّنة وخبر الواحد وغيرهما.

{فإنّ آثاره} أي: آثار الحكم الشّرعي الثابتة له مطلقاً {شرعيّة كانت} تلك الآثار {أو غيرها} كالعقليّة {يترتّب عليه} أي: على الأثر الشّرعي {إذا ثبت} ذاك الأثر الشّرعي {ولو بأن يستصحب} كالوجوب الّذي يستصحب {أو كان من آثارالمستصحب} كما لو استصحب الموضوع الّذي كان الوجوب من آثاره، فإنّه إذا استصحبنا الوجوب أو موضوع الوجوب يثبت تبعاً - لثبوت الوجوب - كلّ أثر شرعيّ أو عقليّ للوجوب.

{وذلك} الّذي ذكرنا من ثبوت كلّ أثر عقليّ أو شرعيّ إنّما هو {لتحقّق موضوعها} أي: موضوع تلك الآثار الشّرعيّة والعقليّة {حينئذٍ} أي: حين ثبت الحكم ولو بالاستصحاب {حقيقة فما للوجوب عقلاً} كوجوب الإطاعة وحرمة المخالفة {يترتّب على الوجوب الثابت شرعاً باستصحابه أو استصحاب موضوعه} إذ باستصحاب الموضوع يثبت الحكم أيضاً، فيثبت آثار الحكم عقليّة كانت أو شرعيّة {من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة} «من» بيان قوله: «ما للوجوب» {إلى غير ذلك} من الآثار.

ص: 170

كما يترتّب على الثابت بغير الاستصحاب، بلا شبهة ولا ارتياب، فلا تغفل.

العاشر: إنّه قد ظهر ممّا مرّ: لزوم أن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو ذا حكم كذلك. لكنّه لا يخفى: أنّه لا بدّ أن يكون كذلك بقاءً، ولو لم يكن كذلك ثبوتاً. فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكماً، ولا له أثر شرعاً، و

___________________________________________

{كما يترتّب} مثل هذه الآثار {على} الحكم {الثابت بغير الاستصحاب} كما لو ثبت بالخبر أو الإجماع {بلا شبهة ولا ارتياب، فلا تغفل} فإنّ هذه ليست من الأثر المثبت، كما لا يخفى.

[التنبيه العاشر]

التنبيه {العاشر} في أنّه لا يجب في المستصحب أن يكون ذا أثر شرعيّ حال اليقين، بل كونه ذا أثر حال الشّكّ كافٍ في إجراء الاستصحاب.

فمثلاً: لو شكّ في بلوغ زيد، فإنّ استصحاب عدم التكليف بالنسبة إليه جارٍ، وإن كان قبل البلوغ لا أثر شرعيّ بالنسبة إلى زيد، إذ ليس داخلاً في موضوع التكليف حتّى يكون لليقين السّابق أثر شرعيّ.

وكذلك إذا وقع مالٌ لزيدٍ في البحر ثمّ أخرج جرى استصحاب ملكيّته له، وإن كان في حال كونه في البحر مأيوساً منه لا أثر شرعيّ لملكيّته إيّاه، لكنّه حيث يكون في حال الشّكّ ذا أثر من جواز تصرّفه وحرمة تصرّف غيره. وهكذا، جرى الاستصحاب {إنّه قد ظهر ممّا مرّ لزوم أن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً} كاستصحاب الوجوب {أو ذا حكم كذلك} شرعيّ كاستصحاب الملك.

{لكنّه لا يخفى أنّه} أي: أنّ المستصحب {لا بدّ أن يكون كذلك} حكماً أو ذا حكم {بقاءً} وفي حال الشّكّ {ولو لم يكن كذلك ثبوتاً} في حال اليقين {فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكماً} شرعيّاً {ولا له أثر شرعاً، و} لكن

ص: 171

كان في زمان استصحابه كذلك - أي: حكماً أو ذا حكم - يصحّ استصحابه، كما في استصحاب عدم التكليف؛ فإنّه وإن لم يكن بحكم مجعول في الأزل ولا ذا حكم، إلّا أنّه حكم مجعول في ما لا يزال؛ لما عرفت من أنّ نفيه - كثبوته في الحال - مجعول شرعاً.

وكذا استصحاب موضوع لم يكن له حكم ثبوتاً، أو كان ولم يكن حكمه فعليّاً، ولهحكم كذلك بقاءً، وذلك لصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عنه، والعمل كما إذا قطع بارتفاعه يقيناً، ووضوح عدم دخل أثر الحالة السّابقة - ثبوتاً - فيه وفي تنزيلها بقاءً.

___________________________________________

{كان في زمان استصحابه} في حال الشّكّ {كذلك أي: حكماً أو ذا حكمٍ، يصحّ استصحابه} فعلاً {كما في استصحاب عدم التكليف} قبل البلوغ في ما لو شكّ أنّه هل بلغ أم لا {فإنّه وإن لم يكن بحكم مجعول في الأزل ولا} موضوعاً {ذا حكم} شرعيّ {إلّا أنّه حكم مجعول في ما لا يزال} وفي حال الشّكّ {لما عرفت} في التنبيه السّابق {من أنّ نفيه} أي: نفي التكليف {كثبوته في الحال مجعول شرعاً} وهذا القدر كافٍ في صدق «لا تنقض».

{وكذا استصحاب موضوع لم يكن له حكم ثبوتاً} في حال اليقين {أو كان} له حكم ثبوتاً {ولم يكن حكمه فعليّاً} بل اقتضائيّاً أو إنشائيّاً {وله حكم كذلك} فعليّاً {بقاءً} في حال الشّك.

{وذلك} الّذي ذكرنا من عدم لزوم الحكم في الحالة السّابقة {لصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عنه} فإنّه لو رفع اليد عن الملكيّة بالنسبة إلى الشّيء الملقى في البحر صدق أنّه نقض يقينه بكونه ملك زيد بالشكّ فيه - بعد خروجه من البحر - {والعمل} أي: إذا رفع اليد عنه وعمل {كما إذا قطع بارتفاعه يقيناً} بأن عملنا مع الملقى في البحر عمل ما لا مالك له {ووضوح} عطف على قوله:«لصدق» {عدم دخل أثر الحالة السّابقة - ثبوتاً - فيه} أي: في النّقض {وفي تنزيلها} أي: تنزيل الحالة السّابقة {بقاءً} يعني لا يتوقّف التعبّد ببقاء الحالة

ص: 172

فتوهّم اعتبار الأثر سابقاً - كما ربّما يتوهّمه الغافل من اعتبار كون المستصحب حكماً أو ذا حكم - ، فاسد قطعاً، فتدبّر جيّداً.

الحادي عشر:

___________________________________________

السّابقة على ثبوت الأثر في الزمان السّابق، بل يكفي الأثر في الزمان اللّاحق.

{فتوهّم اعتبار الأثر} الشّرعي {سابقاً} في حال اليقين {كما ربّما يتوهّمه الغافل} توهّماً ناشئاً {من اعتبار كون المستصحب حكماً أو ذا حكم} فيظنّ أنّه يجب كونه كذلك في السّابق {فاسد قطعاً} خبر قوله: «فتوهّم» {فتدبّر جيّداً}.

[التنبيه الحادي عشر]

التنبيه {الحادي عشر} يتعرّض في هذا التنبيه إلى أربعة أقسام من الاستصحاب:

الأوّل: ما إذا شكّ في وجود حادث فإنّ الأصل عدمه، كما لو شكّ في أنّه هل وجب عليه كذا أم لا، ولا إشكال في هذا.

الثّاني: ما إذا علم بوجود هذا الحادث ولكنّه شكّ في أنّه هل حدث في زمان متقدّم أم زمان متأخّر، كما إذا علم بأنّ زوجته خرجت عن النّشوز، ولكن يشكّ في أنّها خرجت أوّل شهر رمضان أو أوّل شوّال، ممّا يسبّب عدم اشتغال ذمّته بنفقة شهر رمضان، وهنا يجري أصالة عدم الطّاعة إلى أوّل شوّال، فذمّته فارغةعن نفقتها لشهر رمضان.

الثّالث: ما إذا علم بوجود هذا الحادث، ولكن كان ترتّب الأثر متوقّفاً على وصف خاصّ، كما لو أسلم أحد الورثة وشكّ في أنّ إسلامه هل كان متأخّراً عن القسمة حتّى لا يشارك باقي الورثة أم كان قبل ذلك حتّى يشاركهم، فإنّ الإسلام وإن كان أمراً حادثاً والأصل عدم حدوثه إلى زمان القسمة، إذ التأخّر وصف زائد على عدم الحدوث، فإنّه إن كان ملازماً معه - إذ عدم الحدوث إلى زمان القسمة

ص: 173

لا إشكال في الاستصحاب في ما كان الشّكّ في أصل تحقّق حكم أو موضوع.

وأمّا إذا كان الشّكّ في تقدّمه وتأخّره، بعد القطع بتحقّقه وحدوثه في زمان:

فإن لوحظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان، فكذا لا إشكال في استصحاب عدم تحقّقه في الزمان الأوّل، وترتيب آثاره، لا آثار تأخّره عنه؛ - لكونه بالنسبة إليها مثبتاً،

___________________________________________

ملازم للحدوث بعدها - إلّا أنّه مثبت، وقد عرفت أنّ الأصل المثبت ليس بحجّة.

الرّابع: ما لو علم بحدوث الحادثين لكن لا يعلم التأخّر والتقدّم، كما لو علم بأنّ هذا الماء كان قليلاً ويده كانت نجسة، وقد حدثت الكريّة والملاقاة ولكنّه لا يعلم بتقديم الملاقاة حتّى يحكم بنجاسة الماء أم تأخّره حتّى يحكم بطهارته، وسيأتي تفصيل الكلام فيه، إذا عرفت ذلك قلنا:

أمّا الأوّل: فقد أشار إليه بقوله: {لا إشكال في الاستصحاب في ما كان الشّكّ في أصل تحقّق حكم أو موضوع} ذي حكم، لما سبق من أدلّة حجيّة الاستصحاب.

وأمّا الثّاني: فقد أشار إليه بقوله: {وأمّا إذا} علم بحدوثه - كالطاعة - و{كان الشّكّ في تقدّمه} أوّل شهر رمضان {وتأخّره} أوّلشوّال {بعد القطع بتحقّقه} أي: تحقّق ذلك الحادث {وحدوثه في زمان} ما {فإن لوحظ} هذا الحادث {بالإضافة إلى أجزاء الزمان} كما في المثال {فكذا لا إشكال في استصحاب عدم تحقّقه في الزمان الأوّل} لأنّه يشكّ في حدوثه ذلك الوقت، فالأصل عدمه {و} لا إشكال في {ترتيب آثاره} أي: آثار عدم التحقّق، فلا تجب نفقتها لشهر رمضان.

وأمّا الثّالث: فقد اشار إليه بقوله: {لا آثار تأخّره عنه} يعني أنّه إذا شكّ في تقدّم الحادث وتأخّره، كما لو شكّ في تقدّم الإسلام على القسمة وتأخّره عنه، فإنّه لا يرتّب على أصالة عدم الإسلام إلى حال القسمة تأخّر الإسلام عن القسمة {لكونه} أي: الاستصحاب {بالنسبة إليها} أي: آثار التأخّر {مثبتاً} فإنّ صفة التأخّر الّتي هي موضوع للأثر الشّرعي - وهو عدم استحقاق هذا الشّخص الإرث -

ص: 174

إلّا بدعوى خفاء الواسطة، أو عدم التفكيك في التنزيل بين عدم تحقّقه إلى زمان، وتأخّره عنه عرفاً، كما لا تفكيك بينهما واقعاً - ، ولا آثار حدوثه في الزمان الثّاني؛

___________________________________________

صفة وجوديّة، وهي ليست مجرى للاستصحاب بل من لوازم عدم وجود الإسلام قبل القسمة، فإثبات هذه الصّفة باستصحاب العدم من قبيل الأصل المثبت الّذي تقدّم أنّه غير صحيح.

والحاصل: أنّ مجرى الاستصحاب هو عدم الإسلام إلى حال القسمة، ولازم ذلك تأخّر الإسلام، والأصل إنّما يثبت مجراه لا لازم مجراه {إلّا بدعوىخَفَاء الواسطة} فإنّ العرف يرى أنّ عدم الإرث من آثار عدم الإسلام إلى حال القسمة، ولا يرى الواسطة - الّتي هي تأخّر الإسلام عن القسمة - بينهما، وقد عرفت أنّ الأصل لا يكون مثبتاً إذا كانت الواسطة خفيّة.

{أو} دعوى {عدم التفكيك في التنزيل} أي: تنزيل الشّارع المشكوك منزلة المتيقّن {بين عدم تحقّقه} أي: الإسلام {إلى زمان} القسمة {وتأخّره} أي: الإسلام {عنه} أي: عن ذلك الزمان {عرفاً} فبين عدم الإسلام إلى زمان القسمة وبين تأخّر الإسلام عن القسمة تلازم جلي، فإذا نزل الشّارع أحدهما - وهو عدم الإسلام - فإنّه قد نزل الآخر - وهو التأخّر - عرفاً، إذ لا تفكيك بينهما في نظرهم {كما لا تفكيك بينهما واقعاً} فإنّه إذا حدث شيء ولم يكن إلى زمان القسمة كان متأخّراً عنه في الخارج - قطعاً - وقد عرفت سابقاً أنّه لو كان تلازم جلي بين المستصحب وبين ذي الأثر لم يكن ذلك من الأصل المثبت.

وكيف كان، فقد عرفت أنّه لا يثبت بالاستصحاب آثار تأخّر المستصحب {ولا آثار حدوثه في الزمان الثّاني} فإذا قال المولى: (إن جاءك زيد يوم الجمعة فأكرمه) ثمّ شككنا في أنّه هل جاء يوم الخميس أو يوم الجمعة، فإنّه يستصحب عدم مجيئه يوم الخميس، لكن لا يثبت بذلك مجيئه يوم الجمعة حتّى يثبت

ص: 175

فإنّه نحو وجود خاصّ.

نعم، لا بأس بترتيبها بذاك الاستصحاب، بناءً على أنّه عبارة عن أمر مركّب من الوجود في الزمان اللّاحق، وعدم الوجود في السّابق.

___________________________________________

بذلك هذا الأثر وهو وجوب إكرامه {فإنّه} أي: الحدوث في الزمان الثّاني{نحو وجود خاصّ} والاستصحاب لا يفيد إلّا عدم الوجود في الزمان الأوّل لا الوجود في الزمان الثّاني، فإنّ الوجود يوم الجمعة لازم عدم الوجود يوم الخميس.

{نعم} لو قلنا: إنّ الإكرام معلّق على أمر مركّب من عدم الوجود يوم الخميس والوجود يوم الجمعة ثبت بالاستصحاب ذلك؛ لأنّ هذا المركّب - الّذي هو موضوع الإكرام - ذو جزأين:

الأوّل: عدمي، ثبت بالاستصحاب.

والثّاني: وجوديّ، ثبت بالوجدان؛ لأنّا نرى زيداً فعلاً - أي: في يوم الجمعة - وجداناً.

ف- {لا بأس بترتيبها} أي: ترتيب آثار الحدوث في الزمان الثّاني {بذاك الاستصحاب} أي: استصحاب عدم الحدوث في الزمان الأوّل {بناءً على أنّه} أي: الحدوث {عبارة عن أمر مركّب من الوجود في الزمان اللّاحق} المعلوم بالوجدان {وعدم الوجود في} الزمان {السّابق} المحرز بالأصل.

وإذ تمّ الكلام في القسم الثّالث فلنشرع في القسم الرّابع، فنقول: إذا حدث أمران فإمّا أن نعلم زمانهما ولا إشكال في هذا، وإمّا أن نجهل زمانهما، وإمّا أن نعلم زمان أحدهما دون الآخر، فلو مات ابن وأب، وعلمنا أنّ موت الابن يوم الجمعة، وموت الأب يوم السّبت، ورث الأب من الابن، وليس من محلّ الكلام، ولو علمنا أنّ الأب مات يوم السّبت، ولم نعلم أنّ الابن مات يوم الجمعة أو يوم الأحد، كان من القسم الثّالث الّذي يأتي الكلام فيه.

ص: 176

وإن لوحظ بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه أيضاً، وشكّ في تقدّم ذاك عليهوتأخّره عنه، كما إذا علم بعروض حكمين، أو موت متوارثين، وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما:

فإن كانا مجهولي التاريخ:

فتارة: كان الأثر الشّرعي لوجود أحدهما

___________________________________________

ولو لم نعلم أنّ أيّهما مات مقدّماً، وأيّهما مات مؤخّراً، وهذا يتصوّر على صورتين:

الأُولى: أن نعرف التقدّم والتأخّر، ولكن لا نعلم بأنّ أيّهما المقدّم وأيّهما المؤخّر.

الثّانية: أن لا نعلم التقارن والتقدّم والتأخّر - بأن لم نعلم هل ماتا معاً أم مات أحدهما مقدّماً والآخر مؤخّراً - .

إذا عرفت ذلك نقول: {وإن لوحظ} ما كان الشّكّ في تقدّمه وتأخّره {بالإضافة إلى حادث آخر} - لا بالإضافة إلى أجزاء الزمان - بأن {علم بحدوثه} أي: حدوث الحادث الآخر {أيضاً} كما علم حدوث الحادث الأوّل {وشكّ في تقدّم ذاك} الحادث الآخر {عليه} أي: على الحادث الأوّل {وتأخّره عنه، كما إذا علم بعروض حكمين} بأن علم أنّ صلاة الجمعة وجبت وحرمت ولم يعلم أنّ أيّ الحكمين كان سابقاً وأيّهما كان لاحقاً حتّى يكون اللّاحق ناسخاً للسابق {أو موت متوارثين} كالأب والابن اللّذين ماتا ولم يعلم بأنّ أيّهما مات أوّلاً حتّى يرثه الآخر - فيرث ورثة الآخر أمواله - {وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما} فهذا على قسمين:

الأوّل: الجهل بتاريخهما.

الثّاني: الجهل بتاريخ أحدهما.

{فإن كانا مجهولي التاريخ} فهو على قسمين: {فتارة كان الأثر الشّرعي لوجود أحدهما}وأُخرى كان الأثر الشّرعي لعدم أحدهما، وكلّ واحد منهما على نحوين:

ص: 177

بنحو خاصّ، من التقدّم أو التأخّر أو التقارن، لا للآخر، ولا له بنحو آخر، فاستصحاب عدمه صار بلا معارض، بخلاف ما إذا كان الأثر لوجود كلّ منهما كذلك،

___________________________________________

فلو كان الأثر للوجود فإمّا أن يكون مترتّباً على نحو من أنحاء الوجود من التقدّم والتأخّر والتقارن بنحو كان التامّة، وإمّا أن يكون مترتّباً على نحو من أنحائه بنحو كان النّاقصة.

ولو كان الأثر للعدم فإمّا أن يكون موضوعه هو العدم التامّ المقيّد بكونه في زمان الآخر، وإمّا أن يكون موضوعه هو العدم النّاقص، بأن يكون الموضوع هو الحادث الّذي كان معدوماً في زمن الآخر، فهذه أربعة أقسام لمجهولي التاريخ.

فلو كان الأثر الشّرعي لوجود أحدهما {بنحو خاصّ من التقدّم أو التأخّر أو التقارن} كما لو نذر بأنّه لو جاء زيد مقدّماً على عمرو أعطاه ديناراً، ثمّ جاءا وشكّ في أنّه هل جاء مقدّماً أو مؤخّراً أم مقارناً، فإنّ الأثر الشّرعي مرتّب على وجود زيد بنحو خاصّ هو التقدّم {لا للآخر} أي: لا يكون الأثر الشّرعي للوجود الخاصّ للآخر؛ فإنّ وجود عمرو لا أثر له، إذ لم يجعل وجوده موضوعاً لدليل {ولا له} أي: لا يكون أثر شرعيّ لوجود الحادث الأوّل - وهو مجيء زيد في المثال - {بنحو آخر} إذ لا يترتّب أثر شرعيّ على وجود زيد مقارناً لعمرو أو مؤخّراً عنه {فاستصحاب عدمه} أي: عدم هذا الوجود الخاصّ الّذي هو موضوع للحكم {صار بلا معارض} فيقول: الأصل عدم مجيء زيد مقدّماً على عمرو، فلا يجب عليه إعطاء الدينار، ولا معارض لهذا الأصل.

وذلك {بخلاف ما إذا كان الأثر} الشّرعي {لوجودكلّ منهما} أي: من الحادثين {كذلك} أي: بنحو خاصّ، كما لو نذر بأنّه لو جاء زيد مقدّماً على عمرو أعطى زيداً ديناراً، ولو جاء عمرو مقدّماً على زيد أعطى عمرواً ديناراً ثمّ شكّ في أنّ أيّهما جاء مقدّماً.

ص: 178

أو لكلّ من أنحاء وجوده، فإنّه حينئذٍ يعارض، فلا مجال لاستصحاب العدم في واحد؛ للمعارضة باستصحاب العدم في آخر؛ لتحقّق أركانه في كلّ منهما.

هذا إذا كان الأثر المهمّ مترتّباً على وجوده الخاصّ الّذي كان مفاد كان التامّة.

وأمّا إن كان مترتّباً على ما إذا كان متّصفاً بالتقدّم، أو بأحد ضدّين الّذي كان مفاد كان النّاقصة،

___________________________________________

{أو} كان الأثر الشّرعي {لكلّ من أنحاء وجوده} أي: وجود الحادث الأوّل، كما لو نذر إن جاء زيد مقدّماً على عمرو أعطى زيداً ديناراً، وإن جاء زيد مؤخّراً عن عمرو أعطى عمرواً ديناراً {فإنّه} أي: الاستصحاب في الحادث الأوّل {حينئذٍ يعارض} بالاستصحاب في الحادث الثّاني أو بالاستصحاب في حالة أُخرى للحادث الأوّل، فيعارض عدم مجيء زيد مقدّماً بعدم مجيء عمرو مقدّماً بالنسبة إلى «وجود كلّ منهما»، ويعارض عدم مجيء زيد مقدّماً بعدم مجيئه مؤخّراً بالنسبة إلى «كلّ من أنحاء وجوده» {فلا مجال لاستصحاب العدم في واحد} من الأمرين أو من الحالتين {للمعارضة باستصحاب العدم في آخر لتحقّق أركانه} أي: أركان الاستصحاب {في كلّ منهما} لأنّ لعدم كلّ منهما يقيناً سابقاً وشكّاً لاحقاً.

ثمّ إنّ {هذا} الّذي ذكرناه من جريان الاستصحاب في ما إذا كان الأثر الشّرعي لأحدهما فقط، إنّما يصحّ {إذا كان الأثر المهمّ}الّذي نريد ترتيبه على الاستصحاب {مترتّباً على وجوده الخاصّ الّذي كان مفاد كان التأمّة} كما لو نذر إعطاء الدينار لزيد المتقدّم، بأن جعل متعلّق النّذر الوجود الخاصّ، فإنّ هذا الوجود الخاصّ لم يكن سابقاً، فإذا شكّ فيه فالأصل عدمه.

{وأمّا إن كان} الأثر المهمّ {مترتّباً على ما إذا كان} الحادث {متّصفاً بالتقدّم أو بأحد ضدّين} التقارن والتأخّر، كما لو نذر إعطاء الدينار لزيد إذا جاء مقدّماً {الّذي كان مفاد كان النّاقصة} بمعنى أنّه لم يلحظ الوجود الخاصّ، بل لوحظ

ص: 179

فلا مورد هاهنا للاستصحاب؛ لعدم اليقين السّابق فيه بلا ارتياب.

___________________________________________

وجود شيء لشيء.

إذ قد يلحظ الوجود المتقدّم حتّى يكون المراد حصّة خاصّة من الوجود، وقد يلحظ المتقدّم للوجود، بأن يؤخذ مطلقاً ثمّ يضاف إليه التقدّم، فالأوّل مفاد كان التامّة، والثّاني مفاد كان النّاقصة.

والأوّل يمكن إجراء الاستصحاب العدمي فيه، فإنّ هذه الحصّة من الوجود لم تكن، فإذا شكّ فيها كان الأصل عدمها، بخلاف الثّاني فلا يجري فيه الاستصحاب، إذ لا حالة سابقة عدميّة ل- (الوجود المضاف إلى التقدّم)، فإنّه إن أُريد عدم الوجود فإنّ له حالة سابقة لكنّه لا ينفع في نفي الوجود الموصوف بالتقدّم، فإنّه مثبت وهو من قبيل أن نقول - في الماء المشكوك الكريّة - : (لم يكن هنا ماء فماء الكرّ لم يكن) أو نقول - في زيد المشكوك عدم اليد له - : (لم يكن سابقاً زيد فلم يكن له يد) لنثبت بذلك أن لا يد لزيد الموجود، وإن أُريدعدم الوجود الموصوف فإنّه كيف نعلم بأنّه كان في زمان سابق الوجود بلا وصف حتّى يتحقّق عدم الوجود الموصوف.

والحاصل: أنّ الأصل على التقدير الأوّل مثبت، وعلى التقدير الثّاني لا يقين سابق له.

فتحصّل أنّه إن ترتّب الأثر على الوجود المتّصف على نحو كان النّاقصة {فلا مورد هاهنا للاستصحاب لعدم اليقين السّابق فيه بلا ارتياب}.

وإن خفي عليك الفرق بين النّاقصة والتامّة في المقام فقس ذلك بهذا المثال، فإنّه ربّما يقول المولى: (العالم واجب الاحترام) فإذا شككت في وجود الموضوع كان الأصل عدمه.

وربّما يقول: (الإنسان العالم واجب الاحترام) فإنّه إذا شككت في أنّه هل هذا

ص: 180

وأُخرى: كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر، فالتحقيق أنّه أيضاً ليس بمورد للاستصحاب، في ما كان الأثر المهمّ مترتّباً على ثبوته للحادث، بأن يكون الأثر للحادث المتّصف بالعدم في زمان حدوث الآخر؛ لعدم اليقين بحدوثه كذلك في زمان.

___________________________________________

الإنسان عالم أم لا يمكن إجراء أصل العدم، إذ لو أُريد نفي الإنسان فله حالة سابقة لكنّه لا يثبت نفي العالم، ولو أُريد نفي الإنسان العالم - بمعنى أنّه كان إنساناً ولم يكن عالماً - فإنّه لا حالة سابقة له.

{و} تارة {أُخرى كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر، فالتحقيق أنّه أيضاً} كالقسم السّابق الّذي كان مفاد كان النّاقصة {ليس بمورد للاستصحاب} سواء أُخذالعدم على نحو ليس النّاقصة أم أُخذ على نحو ليس التامّة.

أمّا عدم جريان الاستصحاب في ما أُخذ العدم على نحو ليس النّاقصة، أي: {في ما كان الأثر المهمّ مترتّباً على ثبوته} أي: ثبوت العدم {للحادث} أي: العدم القائم بالحادث {بأن يكون الأثر للحادث المتّصف بالعدم في زمان حدوث الآخر} كما لو علم بحدوث الكريّة والملاقاة للنجاسة بالنسبة إلى ماء قليل ولم يعلم هل أنّ الملاقاة كانت أسبق حتّى يكون الماء نجساً أم أنّ الكريّة كانت أسبق حتّى يكون الماء طاهراً، وكان الدليل يقول عدم الكريّة في زمان الملاقاة موجبة للنجاسة، فإنّه لا يصحّ أن نستصحب عدم الكريّة في زمان الملاقاة، إذ المتيقّن إنّما هو عدم الكريّة في السّابق.

أمّا عدم الكريّة في حال الملاقاة فلا حالة سابقة له {لعدم اليقين بحدوثه كذلك في زمان} بل قضيّة الاستصحاب عدم حدوثه كذلك، كما لا يخفى.

فإنّ المتيقّن أنّ الكريّة لم تحدث إلى زمان الملاقاة، وذلك لا ينفع، وإنّما النّافع الملاقاة في زمن عدم الكريّة وذلك لا يقين به.

ص: 181

وكذا في ما كان مترتّباً على نفس عدمه في زمان الآخر واقعاً، وإن كان على يقين منه في آن قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما؛

___________________________________________

{وكذا} ليس بمورد للاستصحاب {في ما كان} الأثر {مترتّباً على نفس عدمه في زمان الآخر واقعاً} بلا تقيّد العدم بالاتصاف.

والحاصل: أنّ الأثر مترتّب على العدم على نحو مفاد ليس التامّة، فإنّه لايجري استصحاب العدم هنا أيضاً {وإن كان على يقين منه} أي: من هذا العدم {في آنٍ قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما}.

ولتوضيح المطلب نفرض الزمان ثلاث ساعات: السّاعة الأُولى نعلم بعدم الملاقاة وعدم الكريّة، والسّاعة الثّانية نعلم بوجود أحدهما دون الآخر، والسّاعة الثّالثة نعلم بوجودهما - لكن لا نعلم هل أنّ الكريّة حدثت في السّاعة الثّانية أم الملاقاة - ففي هذه الصّورة لا يجري استصحاب عدم الكريّة ولا استصحاب عدم الملاقاة في السّاعة الثّانية، لاحتمال انتقاض اليقين في السّاعة الأُولى باليقين في السّاعة الثّانية؛ لأنّه يحتمل الوجود بالنسبة إلى كلّ منهما حيث يعلم بوجود أحدهما.

فمثلاً: لو كان في الواقع أنّ الماء صار كرّاً في السّاعة الثّانية والملاقاة في السّاعة الثّانية فأردنا أن نستصحب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة كان اليقين بعدم الكريّة - في السّاعة الأُولى - غير متصل بالشكّ في الكريّة - في السّاعة الثّالثة - إذ اليقين بالعدم انقطع بواسطة الكريّة المتحقّقة في السّاعة الثّانية واقعاً. والمستصحب وإن لم يكن يعلم ذلك إلّا أنّه يحتمل الانقطاع، وهذا القدر كافٍ في عدم جريان الاستصحاب، إذ دليل الاستصحاب يقول: «لا تنقض اليقين بالشكّ» ونحن نحتمل أنّه من نقض اليقين باليقين لا بالشكّ.

والحاصل: أنّه إنّما يصحّ الاستصحاب لو كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق،

ص: 182

لعدم إحراز اتصال زمان شكّه - وهو زمان حدوث الآخر - بزمان يقينه؛ لاحتمال انفصاله عنه باتصال حدوثه به.

وبالجملة: كان بعد ذاك الآن - قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما - زمانان: أحدهما: زمان حدوثه، والآخر: زمان حدوث الآخروثبوته، الّذي يكون طرفاً للشكّ في أنّه فيه أو قبله، وحيث شكّ في أنّ أيّهما مقدّم وأيّهما مؤخّر، لم يحرز اتصال زمان الشّكّ بزمان اليقين،

___________________________________________

أمّا لو كان يقين سابق واحتمال يقين مضادّ وشكّ لاحق فلا يجري الاستصحاب {لعدم إحراز اتصال زمان شكّه} في الكريّة وهو السّاعة الثّالثة في المثال {وهو زمان حدوث الآخر} أي: الملاقاة في المثال {بزمان يقينه} بعدم الكريّة {لاحتمال انفصاله} أي: انفصال زمان شكّه {عنه} أي: عن زمان يقينه {باتصال حدوثه} أي: حدوث المشكوك فيه - كالكريّة - {به} أي: بزمان اليقين، لاحتماله أنّ الكريّة حدثت في السّاعة الثّانية.

{وبالجملة كان بعد ذاك الآن} أي: بعد السّاعة الأُولى، أي: {قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما} وهو السّاعة الثّانية {زمانان} اسم «كان» {أحدهما زمان حدوثه} أي: حدوث الحادث الأوّل الّذي استصحب عدمه - كالكريّة فرضاً - {و} الزمان {الآخر زمان حدوث الآخر} - كالملاقاة فرضاً - .

{وثبوته} عطف على «حدوث»، فإنّ هذا الزّمان الثّاني هو الزّمان {الّذي يكون طرفاً للشكّ في أنّه} أي: الحادث {فيه أو قبله} إذ كلّ واحد من الحادثين يحتمل كونه في السّاعة الثّالثة، ويحتمل كونه في السّاعة الثّانية {وحيث شكّ في أنّ أيّهما} أي: الحادثين {مقدّم وأيّهما مؤخّر لم يحرز اتّصال زمان الشّكّ} وهو السّاعة الثّالثة {بزمان اليقين} وهو السّاعة الأُولى، لما تقرّر من احتمال كون المشكوك قد وجد في السّاعة الثّانية،فكان نقض يقين عدمه - في السّاعة الأُولى -

ص: 183

ومعه لا مجال للاستصحاب؛ حيث لم يحرز معه كون رفع اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا الشّكّ، من نقض اليقين بالشكّ.

لا يقال:

___________________________________________

بوجوده في السّاعة الثّالثة من نقض اليقين باليقين، لاحتمال أن يكون اليقين بالوجود في السّاعة الثّانية، فالساعة الأُولى عدم والسّاعة الثّانية محتمل والسّاعة الثّالثة مشكوك، فلم يتصل الشّكّ باليقين.

{ومعه} أي: مع عدم اتصال زمان الشّكّ بزمان اليقين {لا مجال للاستصحاب حيث لم يحرز معه} أي: مع عدم الاتصال {كون رفع اليد عن اليقين} السّابق في السّاعة الأُولى المتعلّق هذا اليقين {بعدم حدوثه} أي: حدوث الحادث المستصحب {بهذا الشّكّ} متعلّق بقوله: «رفع» {من نقض اليقين بالشكّ} خبر «كون» فلا يشمله دليل الاستصحاب القائل بعدم نقض اليقين بالشكّ.

وقد علّق المصنّف على قوله: «وبالجملة» بقوله: «إن شئت قلت: إنّ عدمه الأزلي المعلوم قبل السّاعتين، وإن كان في السّاعة الأُولى منهما مشكوك، إلّا أنّه - حسب الفرض - ليس موضوعاً للحكم والأثر، وإنّما الموضوع هو عدمه الخاصّ، وهو عدمه في زمان حدوث الآخر، المحتمل كونه السّاعة الأُولى المتصلة بزمان يقينه، أو الثّانية المنفصلة عنه، فلم يحرز اتصال زمان شكّه بزمان يقينه، ولا بدّ منه في صدق «لا تنقض اليقين بالشكّ» فاستصحاب عدمه إلى السّاعة الثّانية، لا يثبت عدمه في زمان حدوث الآخر، إلّا على الأصل المثبت فيما دار الأمر بين التقدّم والتأخّر، فتدبّر»(1)،

انتهى.

{لا يقال}: إنّ المكلّف شاكّ في السّاعة الثّانية والسّاعة الثّالثة في حدوث الكريّة وفي حدوث الملاقاة، فزمان اليقين وهو السّاعة الأُولى متصل بزمان

ص: 184


1- حقائق الأصول 2: 503؛ كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 576.

لا شبهة في اتصال مجموع الزمانين بذلك الآن، وهو بتمامه زمان الشّكّ في حدوثه؛ لاحتمال تأخّره عن الآخر. مثلاً: إذا كان على يقين من عدم حدوث واحد منهما في ساعة، وصار على يقين من حدوث أحدهما - بلا تعيين - في ساعة أُخرى بعدها، وحدوث الآخر في ساعة ثالثة، كان زمان الشّكّ في حدوث كلّ منهما تمام السّاعتين، لا خصوص أحدهما، كما لا يخفى.

فإنّه يقال:

___________________________________________

الشّكّ وهو السّاعتان، فإنّه {لا شبهة في اتصال مجموع الزمانين} الثّانية والثّالثة {بذلك الآن} أي: السّاعة الأُولى {وهو} أي: مجموع الزمانين {بتمامه زمان الشّكّ في حدوثه} أي: حدوث هذا الحادث الّذي يراد استصحاب عدمه إلى السّاعة الثّالثة - كالكريّة - إذ نريد استصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة {لاحتمال تأخّره} - كالكريّة - {عن الآخر} - كالملاقاة - .

{مثلاً: إذا كان على يقين من عدم حدوث واحد منهما في ساعة} وهي السّاعة الأُولى {وصار على يقين من حدوث أحدهما - بلا تعيين -} وإنّه هل الكريّة أم الملاقاة {في ساعة أُخرى} ثانية {بعدها} أي: بعدالسّاعة الأُولى {وحدوث الآخر في ساعة ثالثة كان زمان الشّكّ في حدوث كلّ منهما} من الكريّة والملاقاة {تمام السّاعتين} الثّانية والثّالثة {لا} أنّ زمان الشّكّ {خصوص أحدهما} أي: إحدى السّاعتين - كالثّالثة - حتّى يقال بأنّ السّاعة الثّانية فاصلة بين زمان اليقين - أي: السّاعة الأُولى - وزمان الشّكّ - أي: السّاعة الثّالثة - {كما لا يخفى}.

{فإنّه يقال:} بما توضيحه بلفظ الحقائق: «إنّ الأثر الشّرعي تارة يكون مترتّباً على عدم أحد الحادثين في الزمان التفصيلي، مثل يوم الجمعة ونحوه، وأُخرى يكون مترتّباً على عدم في الزمان الإجمالي، مثل ما نحن فيه - أعني: العدم في زمان حدوث الآخر - فإن كان مترتّباً على النّحو الأوّل أمكن استصحابه في

ص: 185

نعم، ولكنّه إذا كان بلحاظ إضافته إلى أجزاء الزمان، والمفروض أنّه بلحاظ إضافته إلى الآخر، وأنّه حدث في زمان حدوثه وثبوته أو قبله، ولا شبهة أنّ زمان شكّه بهذا اللحاظ إنّما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر وحدوثه، لا السّاعتين.

فانقدح:

___________________________________________

مجموع الزمانين وترتيب أثره عليه، أمّا إذا كان مترتّباً على النّحو الثّاني فلا يتمّ؛ لأنّ زمان حدوث أحدهما - الّذي هو زمان الشّكّ - لا ينطبق إلّا على أحدهما على البدل ويمتنع انطباقه عليهما معاً، كما عرفت، فلا يكون زمان الشّكّ إلّا أحدهما، ومع احتمال انطباقه على الثّاني دون الأوّل يكون ممّا لم يحرز اتصالهبزمان اليقين بالمستصحب، ويرجع الإشكال»(1)،

انتهى.

فما ذكرتم من أنّ السّاعتين زمان الشّكّ صحيح {نعم، ولكنّه إذا كان بلحاظ إضافته} أي: إضافة هذا الحادث {إلى أجزاء الزمان، والمفروض أنّه} ليس كذلك وإنّما هو {بلحاظ إضافته إلى الآخر} إذ نريد استصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة، ولا نريد استصحاب عدم الكريّة إلى السّاعة الثّالثة {وأنّه} هل {حدث} هذا الحادث الأوّل - كالكريّة - {في زمان حدوثه} أي: حدوث الآخر - كالملاقاة - {وثبوته} بأن صارت الملاقاة ثمّ الكريّة {أو} حدث {قبله} بأن صارت الكريّة ثمّ الملاقاة.

{ولا شبهة أنّ زمان شكّه} أي: شكّ هذا الحادث - كالكريّة - {بهذا اللحاظ} أي: بلحاظ النّسبة إلى الآخر {إنّما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر} أي: ثبوت الملاقاة - مثلاً - {وحدوثه} فالزمان المشكوك فيه إجماليّ {لا السّاعتين}.

{فانقدح} أنّ ما ذكره الشّيخ(رحمة الله) من أنّ الاستصحاب في مجهولي التاريخ جارٍ لكنّه يسقط بالمعارضة، فاستصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة معارض

ص: 186


1- حقائق الأصول 2: 505.

أنّه لا مورد هاهنا للاستصحاب؛ لاختلال أركانه، لا أنّه مورده، وعدم جريانه إنّما هو بالمعارضة، كي يختصّ بما كان الأثر لعدم كلّ في زمان الآخر، وإلّا كان الاستصحاب في ما له الأثر جارياً.

وأمّا لو علم بتاريخ أحدهما، فلا يخلوأيضاً:

إمّا أن يكون الأثر المهمّ مترتّباً على الوجود الخاصّ، من المقدّم أو المؤخّر

___________________________________________

باستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة(1)،

ف- {إنّه لا مورد هاهنا للاستصحاب لاختلال أركانه} لعدم اتصال الشّكّ باليقين، فليس نقض الحالة السّابقة نقضاً لليقين بالشكّ {لا أنّه} أي: هاهنا {مورده} أي: مورد الاستصحاب {وعدم جريانه إنّما هو بالمعارضة كي يختصّ} عدم الجريان {بما كان الأثر لعدم كلّ في زمان الآخر، وإلّا} يكن كذلك، بل كان الأثر لأحدهما فقط {كان الاستصحاب في ما له الأثر جارياً} دون ما لا أثر له.

والحاصل: أنّه لا مقتضى للاستصحاب، لا أنّ له مقتضياً، ولكن يمنع عنه مانع المعارضة حتّى يقال بأنّه يجري حيث لا معارضة لعدم الأثر لأحد الاستصحابين.

هذا كلّه في مجهولي التاريخ {وأمّا لو علم بتاريخ أحدهما} كما لو علمنا بأنّ الأب مات يوم الجمعة، ولم نعلم بأنّ الابن أسلم يوم الخميس أو يوم السّبت، فهو على أربعة أقسام: لأنّه إمّا مفاد كان التامّة، أو النّاقصة، أو ليس التامّة، أو النّاقصة، كما أنّ مجهولي التاريخ كان على أربعة أقسام.

{فلا يخلو} الأمر {أيضاً} كالمجهولين {إمّا أن يكون الأثر المهمّ} الّذي يراد ترتيبه على الاستصحاب {مترتّباً على الوجود الخاصّ من المقدّم} ككون تقدّم الإسلامموجباً للإرث {أو المؤخّر} ككون تأخّر الإسلام موجباً لإرث سائر الورثة

ص: 187


1- راجع فرائد الأصول 3: 248-249.

أو المقارن، فلا إشكال في استصحاب عدمه، لولا المعارضة باستصحاب العدم في طرف الآخر أو طرفه - كما تقدّم - .

وإمّا أن يكون مترتّباً على ما إذا كان متّصفاً بكذا، فلا مورد للاستصحاب أصلاً، لا في مجهول التاريخ ولا في معلومه،

___________________________________________

{أو المقارن} كما لو كان تقارن الإسلام للموت موجباً لعدم الإرث من هذا، وإرث سائر الورثة مثلاً.

{فلا إشكال في استصحاب عدمه} فيجري استصحاب عدم التقدّم وعدم التأخّر وعدم التقارن، ويترتّب على هذا الاستصحاب انتفاء الأثر المترتّب على التقدّم وأخويه، إذ هذا الوجود الخاصّ - أعني: تقدّم الإسلام على الموت، مثلاً - مسبوق بالعدم، فإذا شكّ فيه كان الأصل عدمه.

لكن لا يخفى أنّ هذا الاستصحاب يجري {لولا المعارضة باستصحاب العدم في طرف الآخر} كأن يقال: استصحاب عدم الإسلام قبل الموت معارض باستصحاب عدم الموت قبل الإسلام، بأن يضاف العدم إلى أمرين، كالإسلام والموت {أو طرفه} أي: ولا يكون تعارض بين هذا الاستصحاب واستصحاب آخر في طرف آخر كهذا المستصحب أيضاً، كأن يقال استصحاب عدم الإسلام قبل الموت معارض باستصحاب عدم الإسلام بعد الموت، ففيهما أُضيف العدم إلى الإسلام لكن أحدهما: إسلام قبل الموت، والآخر: إسلام بعد الموت {كما تقدّم} مفصّلاً.

{وإمّا أن يكون} الأثر {مترتّباً على ما إذا كان متّصفاً بكذا} بمعنى كون الموضوع أُخذ على نحو كان النّاقصة،فالأثر مرتب على الوجود المتّصف بالتقدّم أو التأخّر أو التقارن {فلا مورد للاستصحاب أصلاً لا في مجهول التاريخ ولا في معلومه} إذ ليس للوجود الرّبطي حالة سابقة إلّا بنحو السّالبة بانتفاء الموضوع.

فلا يصحّ أن نستصحب عدم الإسلام قبل الموت، ولا أن نستصحب عدم

ص: 188

كما لا يخفى؛ لعدم اليقين بالاتّصاف به سابقاً منهما.

وإمّا أن يكون مترتّباً على عدمه - الّذي هو مفاد ليس التامّة - في زمان الآخر، فاستصحاب العدم في مجهول التاريخ منهما كان جارياً؛ لاتّصال زمان شكّه بزمان يقينه، دون معلومه؛ لانتفاء الشّكّ فيه في زمان،

___________________________________________

الموت قبل الإسلام {كما لا يخفى، لعدم اليقين بالاتّصاف به} أي: بكذا {سابقاً منهما} أي: من مجهول التاريخ ومعلومه، لوضوح أنّ التقدّم والتأخّر والتقارن أوصاف تنتزع من الوجود الخارجي، فإذا وجد الشّيء يكون إمّا واجداً لمنشأ انتزاع هذه العناوين أو ليس بواجدٍ لها، لا أنّه ليس بواجدٍ له من الأزل، ثمّ يشكّ في اتّصافه بها حتّى يجري استصحاب عدم الاتّصاف.

{وإمّا أن يكون} الأثر {مترتّباً على عدمه - الّذي هو مفاد ليس التامّة - في زمان الآخر} أي: إنّ الموضوع للأثر عدم أحد الحادثين المقيّد بكونه في زمان الحادث الآخر، كما لو كان موضوع الأثر عدم الإسلام إلى حين القسمة، أو عدم القسمة إلى حين الإسلام - على نحو مفاد ليس التامّة - {فاستصحاب العدم في مجهول التاريخ منهما كانجارياً} كما لو علمنا بأنّ القسمة وقعت ظهر يوم الجمعة ولكن لم نعلم أنّ الإسلام حدث قبل الظهر أو بعد الظهر، فإنّه نقول: الأصل عدم الإسلام إلى ما بعد الظهر، ويترتّب على هذا الاستصحاب أثره، وهو عدم إرث هذا المسلم الجديد.

وإنّما قلنا بجريان الاستصحاب هنا {ل-} تماميّة أركانه الّتي هي اليقين السّابق والشّكّ اللّاحق، و{اتّصال زمان شكّه بزمان يقينه دون معلومه} أي: لا يجري استصحاب العدم في معلوم التاريخ؛ لأنّ هذا الاستصحاب:

إمّا أن يكون بالنسبة إلى أجزاء الزمان فهو منقطع بالعلم {لانتفاء الشّكّ فيه في زمان} فلا يصحّ أن يقال: الأصل عدم القسمة؛ لأنّا نعلم بوجودها ظهر يوم

ص: 189

وإنّما الشّكّ فيه بإضافة زمانه إلى الآخر، وقد عرفت جريانه فيهما تارةً، وعدم جريانه كذلك أُخرى.

فانقدح: أنّه لا فرق بينهما، كان الحادثان مجهولي التاريخ، أو كانا مختلفين، ولا بين مجهوله ومعلومه في المختلفين، في ما اعتبر في الموضوع خصوصيّة ناشئة من إضافة أحدهما إلى الآخر بحسب الزمان، من التقدّم أو أحد ضدّيه، وشكّ فيها، كما لا يخفى.

___________________________________________

الجمعة. نعم، لو شكّ في أنّها هل حدثت ظهراً أم قبله كان الأصل عدمها إلى الظهر.

وإمّا يكون بالنسبة إلى الحادث الآخر، ولا يجري هنا؛ لأنّه لا اتصال للشكّ باليقين، وإلى هذا أشار بقوله: {وإنّما الشّكّ فيه} أي: في هذاالمعلوم التاريخ {بإضافة زمانه إلى} زمان الحادث {الآخر، وقد عرفت جريانه} أي: الاستصحاب {فيهما} أي: في الحادثين {تارة} في ما كان الأثر مترتّباً على الوجود الخاصّ - تقدّماً أو تأخّراً أو تقارناً - على نحو مفاد كان التامّة {وعدم جريانه} أي: الاستصحاب {كذلك} فيهما أي: في الحادثين تارة {أُخرى} في ما كان الأثر مترتّباً على الوجود المتّصف بكونه متقدّماً أو متأخّراً أو مقارناً على نحو مفاد كان النّاقصة.

{فانقدح} من أوّل البحث إلى هنا أنّ الأقسام ثلاثة: مجهولا التاريخ، ومعلوما التاريخ، ومختلفا التاريخ. ولا كلام في الثّاني، و{أنّه لا فرق بينهما} أي: بين الحادثين سواء {كان الحادثان مجهولي التاريخ أو كانا مختلفين} أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً {ولا بين مجهوله ومعلومه في المختلفين} ولا فرق {في ما اعتبر في الموضوع خصوصيّة ناشئة من إضافة أحدهما} أي: أحد الحادثين {إلى الآخر بحسب الزمان من التقدّم أو أحد ضدّيه} أي: التأخّر والتقارن {وشكّ فيها، كما لا يخفى} وقوله: «من» بيان لقوله: «خصوصيّة».

ص: 190

كما انقدح: أنّه لا مورد للاستصحاب أيضاً في ما تعاقب حالتان متضادّتان - كالطهارة والنّجاسة - وشكّ في ثبوتهما وانتفائهما؛

___________________________________________

والحاصل: أنّه إذا اعتبر في الموضوع خصوصيّة - كالتقدّم والتقارن والتأخّر - جرى أصل عدمه. واحترز بهذا عمّا لو أُخذ بنحو النّاقصة، بأن كان المعتبرالاتصاف.

وهذا إشارة إلى ردّ الشّيخ(رحمة الله) حيث فرّق بين معلوم التاريخ فلا يجري أبداً، وبين مجهوله فيجري كذلك.

والحاصل: أنّه لا تفاوت من جهة العلم والجهل، ولا من ناحية التقدّم والتأخّر، ولا من ناحية العدمي والوجودي، وإنّما التفاوت من حيث كون المراد استصحابه مفاد التامّة أو النّاقصة، ففي كان التامّة وليس التامّة يجرى الاستصحاب مطلقاً، وفي النّاقصة منهما لا يجرى مطلقاً.

{كما انقدح} أنّه لو تعاقبت حالتان متضادّتان على الشّخص وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما، كما لو كان في السّاعة الأُولى متيقّناً بعدم الطّهارة والحدث وفي السّاعة الثّانية بأحدهما وفي السّاعة الثّالثة بالآخر وشكّ في السّاعة الرّابعة فهل في هذه السّاعة يجرى استصحاب الطّهارة واستصحاب الحدث ويسقطان بالمعارضة أو لا يجرى أيّ من الاستصحابين لعدم تماميّة أركان الاستصحاب فيهما؟ فيه خلاف، فالمشهور الجريان والسّقوط بالمعارضة، والمصنّف على عدم الجريان لعدم اتصال زمان الشّكّ بزمان اليقين.

إذ انقدح ممّا تقدّم {أنّه لا مورد للاستصحاب أيضاً} كما لا مورد له في السّابق {في ما تعاقب حالتان متضادّتان كالطهارة والنّجاسة} المراد بهما الحدث أو الخبث {وشكّ} في السّاعة الرّابعة - بعد اليقين بوجودهما - {في ثبوتهما وانتفائهما} أي: الثبوت والانتفاء بالنسبة إلى كلّ واحد منهما لا ثبوتهما معاً

ص: 191

للشكّ في المقدّم والمؤخّر منهما؛ وذلك لعدم إحراز الحالة السّابقة المتيقّنة المتّصلة بزمان الشّكّ في ثبوتهما،وتردّدها بين الحالتين، وأنّه ليس من تعارض الاستصحابين، فافهم وتأمّل في المقام، فإنّه دقيق.

الثّاني عشر: أنّه قد عرفت(1):

أنّ مورد الاستصحاب لا بدّ أن يكون حكماً شرعيّاً،

___________________________________________

وانتفائهما كذلك لوضوح عدم إمكان الجمع بينهما {للشكّ في المقدّم والمؤخّر منهما} وأنّه هل أحدث في السّاعة الثّانية وتطهّر في الثّالثة أو بالعكس.

{وذلك} الّذي ذكرنا من عدم مورد للاستصحاب هاهنا {لعدم إحراز الحالة السّابقة المتيقّنة المتّصلة بزمان الشّكّ} لاحتمال انفصال الشّكّ عن اليقين بزمان اليقين بانتقاضه، فإنّه لو كان في الواقع تطهّر في الثّانية وأحدث في الثّالثة كان شكّه في الطّهارة في الرّابعة غير متصل بزمان يقينه وهو السّاعة الثّانية، لانتقاض اليقين بالطهارة بالحدث الّذي كان زمانه السّاعة الثّالثة، فالمتيقّن السّاعة الثّانية والمشكوك السّاعة الرّابعة.

وبالعكس في ما لو أراد استصحاب الحدث لاحتمال كونه في الثّانية وأنّه انفصل عن زمان شكّه - وهو الرّابعة - باليقين بالطهارة في السّاعة الثّالثة {في ثبوتهما} متعلّق ب- «الشّكّ» أي: الشّكّ في ثبوت الطّهارة والحدث {وتردّدها} أي: تردّد الحالة السّابقة {بين الحالتين} أي: حالة الطّهارة والحدث.

{وأنّه} أي: انقدح أنّ تعاقب الحالتين {ليس من تعارض الاستصحابين} كما يظهر من المشهور {فافهم وتأمّل في المقام، فإنّه دقيق} وبالتأمّل حقيق.

[التنبيه الثّاني عشر]

التنبيه {الثّاني عشر} في بيان عدم صحّة استصحاب الكتابي بنبوّة الأنبياء السّالفين {أنّه قد عرفت أنّ مورد الاستصحاب لا بدّ أن يكون حكماً شرعيّاً}

ص: 192


1- الوصول إلى كفاية الأصول 5: 171.

أو موضوعاً لحكم كذلك، فلا إشكال في ما كان المستصحب من الأحكام الفرعيّة، أو الموضوعات الصّرفة الخارجيّة، أو اللغويّة، إذا كانت ذات أحكام شرعيّة.

وأمّا الأُمور الاعتقاديّة الّتي كان المهمّ فيها شرعاً هو الانقياد والتسليم والاعتقاد - بمعنى عقد القلب عليها - من الأعمال القلبيّة الاختياريّة، فكذا لا إشكال في الاستصحاب فيها حكماً،

___________________________________________

كاستصحاب الوجوب {أو موضوعاً لحكم كذلك} أي: لحكم شرعيّ كاستصحاب حياة زيد الموجب لنفقة عياله، وإنّما اشترط أن يكون حكماً أو موضوعاً لحكم؛ لأنّ ما ليس كذلك ليس له في مقام التشريع مجال.

وعلى هذا {فلا إشكال في ما كان المستصحب من الأحكام الفرعيّة} وجوباً وحرمة وإباحة واستحباباً وكراهة، وسائر الأُمور الوضعيّة القابلة للوضع والرّفع - كما مرّ تفصيله - {أو الموضوعات} الشّرعيّة كالصلاة والصّيام والحجّ أو {الصّرفة} كالماء والتراب {الخارجيّة أو اللغويّة} مثلاً كان الأمر في اللغة بمعنى الوجوب ثمّ شككنا في أنّه هل تغيّر عن ذلك المعنى أم لا {إذا كانت ذات أحكام شرعيّة} إذ اللّازم في الاستصحاب أن يكون ذا أثر، كما مرّ.{وأمّا الأُمور الاعتقاديّة} فهي على قسمين: الأوّل: ما كان اللّازم فيها صرف الاعتقاد وعقد القلب، والثّاني: ما كان اللّازم فيها المعرفة واليقين.

أمّا القسم الأوّل - {الّتي كان المهمّ فيها شرعاً هو الانقياد والتسليم والاعتقاد

- بمعنى عقد القلب عليها - من الأعمال القلبيّة الاختياريّة} حتّى يمكن الأمر بها ولو مع عدم المعرفة واليقين {فكذا لا إشكال في الاستصحاب فيها حكماً} بأن كان سابقاً واجب الاعتقاد ثمّ يشكّ في أنّه هل سقط عن وجوب الاعتقاد أم لا، فإنّه يستصحب وجوب الاعتقاد، وكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام بأن لم يكن سابقاً واجب الاعتقاد ثمّ شكّ في أنّه هل وجب أم لا.

ص: 193

وكذا موضوعاً، في ما كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق؛ لصحّة التنزيل وعموم الدليل.

وكونُهُ أصلاً عمليّاً إنّما هو بمعنى أنّه وظيفة الشّاكّ تعبّداً، قبالاً للأمارات الحاكية عن الواقعيّات، فيعمّ العمل بالجوانح كالجوارح.

وأمّا الّتي كان المهمّ فيها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها، فلا مجال له موضوعاً،

___________________________________________

{وكذا موضوعاً} كما لو شكّ في أنّ الشّيء الّذي يجب الاعتقاد به هل هو باقٍ أم زائل؟ كما لو فرض أنّه كان من الواجب الاعتقاد بالإمام الحيّ بقسم خاصّ غير الاعتقاد بالإمام مطلقاً، ثمّ شكّ في أنّ الإمام هل مات أم لا؟ فإنّه يستصحب حياته، فإنّه يجري الاستصحاب في الأُمور الاعتقاديّة مطلقاً{في ما كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق} وإنّما قلنا بجريان الاستصحاب في الأُمور الاعتقاديّة {لصحّة التنزيل} للمشكوك منزلة المتيقّن {وعموم الدليل} فإنّ قوله: «لا تنقض» شامل للأُمور الاعتقاديّة كما هو شامل لسائر الأُمور.

{و} إن قلت: إنّ الاستصحاب من الأصول العمليّة فلا يجري في الأُمور الاعتقاديّة، إذ الاعتقاد مقابل للعمل.

قلت: {كونه أصلاً عمليّاً إنّما هو بمعنى أنّه وظيفة الشّاكّ تعبّداً، قبالاً} أي: مقابلاً {للأمارات الحاكية عن الواقعيّات} أي: إنّه أصل لا أمارة {فيعمّ العمل بالجوانح} والقلوب - كالاعتقاد - {كالجوارح} وليس المراد بكونه أصلاً عمليّاً أنّه للعمل الجارحي فقط حتّى لا يعمّ العمل القلبي.

هذا كلّه في القسم الأوّل من الأُمور الاعتقاديّة {وأمّا} القسم الثّاني من الأُمور الاعتقاديّة {الّتي كان المهمّ فيها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها فلا مجال له} أي: للاستصحاب {موضوعاً} فإن شكّ في أنّه هل بقي موضوعه أم لا لم يستصحب فلا يصلح الاستصحاب لإثبات الموضوعات الّتي يجب معرفتها

ص: 194

ويجري حكماً. فلو كان متيقّناً بوجوب تحصيل القطع بشيء - كتفاصيل القيامة - في زمان، وشكّ في بقاء وجوبه، يستصحب.

وأمّا لو شكّ في حياة إمام زمان - مثلاً - فلا يستصحب، لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه، بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع إمكانه.

___________________________________________

{ويجري حكماً} فإذا علم ببقاء الموضوع وشكّ في أنّه هل خرج عن وجوب المعرفة أم لا استصحب الحكم، فيبنى على وجوب المعرفة.

وإن شئت قلت: إنّ الاعتقاد بالإمام - مثلاً - أُخذ في موضوعه العلم بالإمام بحيث كان العلم جزء الموضوع، ولذا لو شكّ في الإمام ذهب الموضوع ولم يكن معنى لاستصحاب وجود الإمام ليترتّب عليه وجوب الاعتقاد به، إذ الاستصحاب لا يوجب العلم الّذي هو جزء الموضوع، وهذا بخلاف ما لو علم بالموضوع وشكّ في ذهاب الحكم - أي: وجوب الاعتقاد به - فإنّه حيث كان الموضوع باقياً كان مجال للاستصحاب إذا طرأ ما يشكّ معه في بقاء الحكم.

{فلو كان} المكلّف {متيقّناً} سابقاً {بوجوب تحصيل القطع بشيء كتفاصيل القيامة} من الميزان والصّراط والحساب {في زمان} سابق {وشكّ في بقاء وجوبه} لطروّ عارض {يستصحب} لأنّه من الشّكّ في الحكم الّذي عرفت أنّه لا مانع من الاستصحاب فيه.

{وأمّا لو شكّ في حياة إمام زمان مثلاً} ممّا دلّ الدليل على أنّه يجب الاعتقاد بمن علم حياته من الأئمّة {فلا يستصحب} حياة ذلك الإمام {لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه} على ذلك المستصحب {بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع إمكانه} أي: إمكان تحصيل اليقين، كما تقدّم من أنّ وجوب الاعتقاد إنّما هو منصب على موضوع العلم بالإمام، فإذا ذهب العلم وشكّ لم يكن موضوع في البين ليستصحب حكمه، إذ العلم جزء الموضوع.

ص: 195

ولا يكاد يُجدي في مثل وجوب المعرفة عقلاً أو شرعاً، إلّا إذا كان حجّة من بابإفادته الظنّ، وكان المورد ممّا يكتفى به أيضاً.

فالاعتقادات - كسائر الموضوعات - لا بدّ في جريانه فيها من أن يكون في المورد أثر شرعي، يتمكّن من موافقته، مع بقاء الشّكّ فيه، كان ذاك متعلّقاً بعمل الجوارح أو الجوانح.

___________________________________________

{ولا يكاد يجدي} الاستصحاب {في مثل وجوب المعرفة عقلاً أو شرعاً} فكلّما دلّ العقل على وجوب معرفته - كالباري سبحانه - أو دلّ النّقل على وجوب معرفته كالأئمّة^، إذا زالت المعرفة لشبهة لم يصحّ استصحابه بأن يستصحب الإمام مثلاً، إذ الاستصحاب لا يفيد العلم والمعرفة {إلّا} إذا أفاد الاستصحاب الظنّ وقلنا بأنّه يكفي الظنّ باللّه وبالأئمّة، ف- {إذا كان} الاستصحاب {حجّة من باب إفادته الظنّ وكان المورد} الّذي يراد استصحابه {ممّا يكتفى به} أي: بالظنّ {أيضاً} كما تجب معرفته صحّ الاستصحاب.

لكن في كلتا المقدّمتين نظر، إذ الاستصحاب حجّة من باب الأخبار، والأصول ممّا يلزم فيها المعرفة فلا يكتفى فيها بالظنّ.

{ف-} تحصّل ممّا سبق أنّ {الاعتقادات كسائر الموضوعات} الّتي هي مصبّ الأحكام {لا بدّ في جريانه} أي: الاستصحاب {فيها} أي: في الاعتقادات {من أن يكون في المورد} أي: مورد الاستصحاب {أثر شرعيّ يتمكّن من موافقته} أي: موافقة ذلك الأثر الشّرعي {مع بقاء الشّكّ فيه} أي: في ذلك الموضوع، كما لو وجب الاعتقاد، فإنّه يمكن الاعتقاد مع بقاء الشّكّ في موضوعه، إذ الاعتقاد عبارة عن البناء وعقد القلب، وهو ممكن معالشّكّ، كما لا يخفى، سواء {كان ذاك} الأثر المترتّب على الاستصحاب {متعلّقاً بعمل الجوارح أو الجوانح}.

فتحصّل أنّ الاستصحاب في الأصول مثل الاستصحاب في الفروع له شرطان:

ص: 196

وقد انقدح بذلك: أنّه لا مجال له

___________________________________________

الأوّل: أن يكون المستصحب حكماً أو موضوعاً ذا حكم.

الثّاني: أن لا يكون العلم جزءاً للموضوع.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّه قد وقع بحث بين بعض المسلمين وبعض أهل الكتاب، فأراد الكتابي إثبات نبوّة نبيّه بالاستصحاب، لكن هذا الاستصحاب غير تامّ، إذ لا يخلو الأمر إمّا أن يراد استصحاب النّبوّة نفسها أو استصحاب أحكامها، فإن أُريد استصحاب الأحكام فلا بأس بذلك كما تقدّم في جواز استصحاب الشّرائع السّابقة.

وإن أُريد استصحاب النّبوّة قلنا إنّ النّبوّة إمّا هي كمال نفسي غير قابل للزوال، وإمّا كمال نفسيّ قابل للزوال كالعدالة، وإمّا منصب إلهيّ كالولاية والوكالة:

فإن كانت كمالاً غير قابل للزوال لم يكن معنى لاستصحابها؛ لأنّها إمّا بلا يقين سابق وإمّا بلا شكّ لاحق.

وإن كانت كمالاً قابلاً للزوال فهي أمر واقعيّ كالعدالة، فلا معنى لاستصحابها؛ لأنّ المطلوب المعرفة بها وتلك لا تثبت بالاستصحاب، وإن كانت منصباً كالولاية فهي قابلة للاستصحاب فيترتّب عليها آثار النّبوّة.

لكن هذا الاستصحاب مستلزم للدور، إذ الاستصحاب متوقّف على نبوّة النّبيّ(صلی الله علیه و آله) حتّى يحكم بصحّته ونبوّة النّبيّ متوقّفة على الاستصحاب لفرض أنّها تثبت بها، إذن فاستصحاب النّبوّة بمعنى بقاء الأحكام لا ينفع الكتابي واستصحابها بمعنى البناء على بقائها في نفسها غير تامّ، فلايمكن إثبات النّبوّة بالاستصحاب.

إذا عرفت ذلك نرجع إلى شرح العبارة فنقول: {وقد انقدح بذلك} الّذي ذكرنا من التفصيل في جريان الاستصحاب في الأصول الاعتقاديّة {أنّه لا مجال له} أي:

ص: 197

في نفس النّبوّة، إذا كانت ناشئة من كمال النّفس بمثابة يوحى إليها، وكانت لازمة لبعض مراتب كمالها، إمّا لعدم الشّكّ فيها بعد اتصاف النّفس بها، أو لعدم كونها مجعولة، بل من الصّفات الخارجيّة التكوينيّة، ولو فُرض الشّكّ في بقائها باحتمال انحطاط النّفس عن تلك المرتبة، وعدم بقائها بتلك المثابة - كما هو الشّأن في سائر الصّفات والملكات الحسنة، الحاصلة بالرياضات والمجاهدات - ، وعدم أثر شرعيّ مهمّ لها يترتّب عليها باستصحابها.

___________________________________________

للاستصحاب {في نفس النّبوّة إذا كانت ناشئة من كمال النّفس بمثابة يوحى إليها} فإذا وصلت النّفس إلى تلك المرتبة من الرّوحانيّة أوحى اللّه إليها، وهذا لا ينافي حصر الأنبياء وعدم لياقة غيرهم حتّى هذه المرتبة من الكمال {وكانت} النّبوّة {لازمة لبعض مراتب كمالها} أي: كمال النّفس.

وإنّما قلنا بعدم جريان الاستصحاب لو كانت النّبوّه بمعنى كمال النّفس {إمّا لعدم الشّكّ فيها} أي: في النّبوّة {بعد اتصاف النّفس بها} حيث قلنا بأنّها غير قابلة للزوال {أو لعدم كونها مجعولة، بل من الصّفات الخارجيّةالتكوينيّة} كالعدالة {ولو فرض الشّكّ في بقائها} أي: بقاء النّبوّة {ب-} سبب {احتمال انحطاط النّفس عن تلك المرتبة وعدم بقائها} أي: بقاء النّفس {بتلك المثابة} من الكمال والصّفة الرّاقية {كما هو الشّأن} أي: إمكان انحطاط النّفس {في سائر الصّفات والملكات الحسنة الحاصلة بالرياضات والمجاهدات، و} من جاهد في اللّه هداه - سبحانه - إلى سبله.

وإنّما قلنا بعدم إجراء الاستصحاب لو كانت النّبوّة من الملكات القابلة للزوال ل- {عدم أثر شرعيّ مهمّ لها} أي: للنبوّة بهذا المعنى {يترتّب} ذلك الأثر {عليها} أي: على النّبوّة {باستصحابها} لما عرفت من أنّ الموضوع للآثار هي معرفة النّبيّ(صلی الله علیه و آله)، والمعرفة لا تحصل بالاستصحاب، كما تقدّم.

ص: 198

نعم، لو كانت النّبوّة من المناصب المجعولة، وكانت الولاية - وإن كان لا بدّ في إعطائها من أهليّة وخصوصيّة يستحقّ بها لها - لكانت مورداً للاستصحاب بنفسها، فيترتّب عليها آثارها - ولو كانت عقليّة - بعد استصحابها، لكنّه يحتاج إلى دليل كان هناك غير منوط بالنبوّة، وإلّا لدار، كما لا يخفى. وأمّا استصحابها، بمعنى استصحاب بعض أحكام شريعة من اتصف بها، فلا إشكال فيها، كما مرّ.

___________________________________________

{نعم، لو كانت النّبوّة من المناصب المجعولة وكانت الولاية} والوكالة {- وإن كان لا بدّ في إعطائها} لشخص {من أهليّة وخصوصيّةيستحقّ} ذلك الشّخص {بها} أي: بتلك الأهليّة {لها -} أي: للنبوّة {لكانت مورداً للاستصحاب} جواب «لو كانت» {بنفسها} كما تستصحب سائر المناصب إذا شكّ في بقائها وزوالها {فيترتّب عليها} أي: على النّبوّة {آثارها ولو كانت} تلك الآثار {عقليّة} كوجوب العلم بالأحكام، فإنّ العقل يحكم بوجوب العمل بأحكام النّبيّ كما يحكم بوجوب العمل بسائر الحجج والأدلّة {بعد استصحابها} أي: استصحاب النّبوّة.

{لكنّه} أي: استصحاب النّبوّة بهذا المعنى {يحتاج إلى دليل كان هناك} لحجيّة الاستصحاب، كما لو قلنا بأنّ حجيّة الاستصحاب بدليل عقليّ مستقلّ حتّى يقال: النّبوّة ثابتة بالاستصحاب والاستصحاب حجّة بدليل العقل، فدليل الاستصحاب حجّة {غير منوط بالنبوّة وإلّا} بأن كان منوطاً بالنبوّة {لدار} إذ يكون إثبات النّبوّة بالاستصحاب وإثبات حجيّة الاستصحاب بالنبوّة، وهو دور صريح {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

هذا تمام الكلام في استصحاب النّبوّة بمعانيها الثلاث {وأمّا استصحابها} أي: استصحاب النّبوّة {بمعنى استصحاب بعض أحكام شريعة من اتصف بها} كاستصحاب بعض أحكام شريعة موسى(علیه السلام) إلى هذا الحال {فلا إشكال فيها، كما مرّ} في التنبيه السّادس.

ص: 199

ثمّ لا يخفى: أنّ الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم، إلّا إذا اعترف بأنّه على يقين فشكّ، في ما صحّ هناك التعبّد والتنزيل ودلّ عليه الدليل، كما لا يصحّ أن يقنع به إلّا مع اليقين والشّكّ،والدليل على التنزيل.

ومنه انقدح: أنّه لا موقع لتشبّث الكتابي باستصحاب نبوّة موسى أصلاً:

لا إلزاماً للمسلم؛ لعدم الشّكّ في بقائها قائمة بنفسه المقدّسة،

___________________________________________

{ثمّ لا يخفى} أنّ المفروض من الاستصحاب إمّا إلزام الخصم وإمّا إقناع الإنسان نفسه، ولا يصحّ الإلزام ولا الإقناع إلّا مع ثلاثة شروط:

[1] تماميّة أركان الاستصحاب، بأن كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق.

[2] وكان الاستصحاب حجّة.

[3] وكان للاستصحاب أثر شرعي.

ف- {إنّ الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم إلّا إذا اعترف} الخصم {بأنّه على يقين فشكّ} وهو الشّرط الأوّل {في ما صحّ هناك التعبّد والتنزيل} وهو الشّرط الثّالث {ودلّ عليه} أي: على الاستصحاب {دليل} وهو الشّرط الثّاني، إذ لو لم يكن الاستصحاب حجّة أو لم يكن يقين وشكّ أو لم يكن للاستصحاب أثر شرعيّ لم يجر الاستصحاب بديهة {كما لا يصحّ أن يقنع} الإنسان {به} أي: بالاستصحاب {إلّا مع} الشّروط الثلاثة المذكورة من {اليقين والشّك} والأثر المستصحب {والدليل على التنزيل} كما هو واضح.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من لزوم توفّر الاستصحاب لهذه الشّروط الثلاثة {انقدح أنّه لا موقع لتشبّث الكتابي} يهوديّاً كان أم نصرانيّاً أم غيرهما {باستصحاب نبوّة موسى} أو عيسى أو غيرهما - عليهم الصّلاة والسّلام - {أصلاً} أي: {لا إلزاماًللمسلم، لعدم الشّكّ في بقائها} أي: بقاء النّبوّة {قائمة بنفسه المقدّسة} بل

ص: 200

واليقين بنسخ شريعته، وإلّا لم يكن بمسلم، مع أنّه لا يكاد يلزم به ما لم يعترف بأنّه على يقين وشكّ.

ولا إقناعاً مع الشّكّ؛ للزوم معرفة النّبيّ بالنّظر إلى حالاته ومعجزاته عقلاً، وعدم الدليل على التعبّد بشريعته، لا عقلاً ولا شرعاً، - والاتّكال على قيامه

___________________________________________

كلّ مسلم يعلم بأنّ موسى نبيّ إلى الآن {لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ}(1) فلا يقين وشكّ حتّى يكون مجالاً للاستصحاب لانتفاء الشّرط الأوّل {واليقين بنسخ شريعته وإلّا لم يكن بمسلم} فهو ليس بشاكّ لا في النّبوّة ولا في الشّريعة، إذ الأوّل باق والثّاني منسوخ.

هذا كلّه بالنسبة إلى الواقع وأمّا بالنسبة إلى الظاهر فللمسلم أن يقول: أنا لست بمتيقّن ولا شاكّ - جدلاً - حتّى لا يتمكّن الكتابي من إلزامه.

وإلى هذا أشار بقوله: {مع أنّه لا يكاد يلزم} المسلم {به} أي: بالاستصحاب {ما لم يعترف بأنّه على يقين وشكّ} هذا لو أراد الكتابي إلزام المسلم.

{ولا} يمكن تشبّث الكتابي بالاستصحاب لنبوّة نبيّه {إقناعاً} لنفسه حتّى {مع الشّكّ} في أنّه هل بقي نبيّاً أم لا {للزوم معرفة النّبيّ بالنّظر إلى حالاته ومعجزاته عقلاً} فإنّ العقل يلزم النّظر وتحصيل المعرفة {وعدم الدليل على التعبّد بشريعته لا عقلاً ولا شرعاً} إذ لا دليل فيشريعة أهل الكتاب على حجيّة الاستصحاب، ولا دليل عقليّ لها حتّى يمكن بالاستصحاب إثبات شيء، فالشرط الثّاني لإجراء الاستصحاب منتف.

{و} إن قلت: إنّه يتّكل في حجيّة الاستصحاب على شريعتنا، فقد دلّ الدليل الشّرعي على حجيّة الاستصحاب.

قلت: {الاتّكال على قيامه} أي: قيام الدليل على حجيّة الاستصحاب

ص: 201


1- سورة البقرة، الآية: 285.

في شريعتنا لا يكاد يجديه إلّا على نحو محال - ، ووجوب العمل بالاحتياط عقلاً - في حال عدم المعرفة - بمراعاة الشّريعتين، ما لم يلزم منه الاختلال؛ للعلم بثبوت إحداهما على الإجمال، إلّا إذا علم بلزوم البناء على الشّريعة السّابقة ما لم يعلم الحال.

الثّالث عشر:

___________________________________________

{في شريعتنا} لقوله(علیه السلام): «لا تنقض» {لا يكاد يجديه} أي: يجدي الكتابي {إلّا على نحو محال} لأنّ اعتماد الكتابي على الاستصحاب الثابت في شريعتنا ملازم لتصديقه بشريعتنا، وتصديقه بشريعتنا ملازم لتصديقه برفع شريعته، وتصديقه برفع شريعته ملازم لعدم صحّة استصحاب شريعته، فيلزم من استصحاب شريعته عدم استصحاب شريعته.

{و} إن قلت: إنّكم ذكرتم أنّه لا مجال لاستصحاب الكتابي إقناعاً لنفسه؛ لأنّ المعرفة واجبة فلا يمكن الاكتفاء بالاستصحاب، لكن هذا إنّما يتمّ إذا تمكّن الكتابي من تحصيل المعرفة، أمّا إذا لم يتمكّن فله مجال لأن يستصحب شريعته.

قلت: إنّه إذا لم يتمكّن يجب عليه الاحتياط باتّباع أحكام الشّريعتين لاالاستصحاب.

وإلى هذا أشار بقوله: و{وجوب العمل} عطف على قوله: «للزوم معرفه النّبيّ» أي: يجب العمل {بالاحتياط - عقلاً -} أي: وجوباً عقليّاً للأمن من العقوبة {في حال عدم} إمكان {المعرفة} والاحتياط إنّما يكون {بمراعاة الشّريعتين ما لم يلزم منه} أي: من الاحتياط {الاختلال} بالنظام، وإنّما يجب الاحتياط {للعلم بثبوت إحداهما} أي: إحدى الشّريعتين {على الإجمال إلّا إذا علم بلزوم البناء على الشّريعة السّابقة ما لم يعلم الحال} وإنّه هل أتت شريعة أُخرى أم لا.

[التنبيه الثّالث عشر]

التنبيه {الثّالث عشر} في كون الزمان قد يكون مفرداً وقد يكون ظرفاً، وأنّه لو

ص: 202

أنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في مقام مع دلالة مثل العام،

___________________________________________

تعارض استصحاب مع عموم كان المرجع أيّهما، فإنّه إذا ورد عامّ مثل: (أكرم العلماء) وخاصّ مثل: (لا تكرم زيداً يوم الجمعة) فإنّه لا شكّ في وجوب إكرام زيد قبل يوم الجمعة، كما لا شبهة في حرمة إكرامه يوم الجمعة، لكن يوم السّبت هل يجب إكرامه تمسّكاً بالعام أم يحرم تمسّكاً باستصحاب المخصّص؟ فيه تفصيل، وهو أنّ الزمان المأخوذ في كلّ من العام والمخصّص قد يؤخذ مفرداً، فإكرام العلماء في كلّ يوم واجب مستقلّ، حتّى أنّ للعام - مثلاً - أفراداً عرضيّة هي أفراد العلماء وأفراداً طوليّة هي الأيّام، فإكرام كلّ عالم في كلّيوم واجب مستقلّ، وكذا يلاحظ الزمان بالنسبة إلى المخصّص، فيكون الزمان مقيّداً له، حتّى أنّ قوله: (لا تكرم زيداً يوم الجمعة) يراد به أنّ حرمة الإكرام مقيّدة بيوم الجمعة.

وقد يؤخذ الزمان ظرفاً حتّى أنّ قوله: (أكرم العلماء) يكون إكرام كلّ عالم في مجموع الأزمان فرداً واحداً، ويكون يوم الجمعة في (لا تكرم زيداً يوم الجمعة) ظرفاً بحتاً لا مقيّداً.

إذا تحقّق هذا نقول: الأقسام أربعة: لأنّ الزمان في العام إمّا ظرف وإمّا مفرد، وعلى كلّ تقدير فالزمان في الخاصّ إمّا ظرف وإمّا مفرد، فإن كان الزمان فيهما ظرفاً كان المرجع يوم السّبت استصحاب الخاصّ، وإن كان الزمان فيهما مفرداً كان المرجع عموم العام، وإن كان الزمان ظرفاً للعام مفرداً للخاصّ كان المرجع سائر الأدلّة كالبراءة في المثال، وإن كان الزمان مفرداً للعامّ ظرفاً للخاصّ كان المرجع العام.

ثمّ {إنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في مقام مع دلالة مثل العام} فلا مجال لاستصحاب عدم الرّكعة الزائدة في قبال قوله(علیه السلام): «إذا شككت فابن على

ص: 203

لكنّه ربّما يقع الإشكال - والكلام في ما إذا خصّص في زمان - في: أنّ المورد بعد هذا الزمان مورد الاستصحاب، أو التمسّك بالعام.

والتحقيق أن يقال:

إنّ مفاد العام تارة: يكون - بملاحظة الزمان - ثبوت حكمه لموضوعه على نحو الدوام والاستمرار. وأُخرى: على نحو جعل كلّ يوم من الأيّام مثلاً فرداً لموضوع ذاك العام.

وكذلك مفاد مخصّصة: تارة: يكون على نحوأخذ الزمان ظرف استمرار حكمه ودوامه.

___________________________________________

الأكثر»(1)؛

لأنّ العام دليل والاستصحاب أصل، والأصل أصيل حيث لا دليل، إذ قد أُخذ في موضوع الاستصحاب الجهل بالواقع، والعام يعيّن الواقع، فلا جهل به حتّى يكون موضوعاً للاستصحاب.

وهذا ممّا لا إشكال فيه {لكنّه ربّما يقع الإشكال والكلام في ما إذا خصّص} العام {في زمان} كالمثال المتقدّم {في أنّ المورد بعد هذا الزمان} كيوم السّبت هل هو {مورد الاستصحاب} حتّى يحرم إكرام زيد {أو التمسّك بالعام} حتّى يجب؟

{والتّحقيق أن يقال:} إنّ الأقسام أربعة: ف- {إنّ مفاد العام تارةً يكون - بملاحظة الزمان} أي: إذا لوحظ الزمان بالنسبة إلى الزمان وهل أنّ الزمان قيد له أو ظرف - {ثبوت حكمه لموضوعه على نحو الدّوام والاستمرار} حتّى يكون الزمان ظرفاً ويكون إكرام كلّ عالم واجباً واحداً مستمرّاً {وأُخرى على نحو جعل كلّ يوم من الأيّام مثلاً فرداً لموضوع ذاك العام} حتّى يكون الزمان قيداً ويكون إكرام كلّ عالم في كلّ يوم فرداً مستقلّاً من الواجب، فللعام أفراد طوليّة وأفراد عرضيّة.

{وكذلك مفاد مخصّصه} يكون على نوعين ف- {تارة يكون على نحو أخذ الزمان ظرف استمرار حكمه ودوامه} أي: دوام الحكم، بأن تكون حرمة إكرام زيد غير

ص: 204


1- الفصول المهمة في أصول الأئمة 2: 115؛ وفي تهذيب الأحكام 2: 349: «إذا سهوت فابن على الأكثر»؛ وفي وسائل الشيعة 8: 212، «متى ما شككت فخذ بالأكثر».

وأُخرى: على نحو يكون مُفَرِّداً ومأخوذاًفي موضوعه.

فإن كان مفاد كلّ من العامّ والخاصّ على النّحو الأوّل. فلا محيص عن استصحاب حكم الخاصّ في غير مورد دلالته؛ لعدم دلالة للعامّ على حكمه، لعدم دخوله في حدة في موضوعه، وانقطاع الاستمرار بالخاصّ الدالّ على ثبوت الحكم له في الزمان السّابق، من دون دلالته على ثبوته في الزمان اللّاحق، فلا مجال إلّا لاستصحابه.

نعم،

___________________________________________

مقيّدة بيوم الجمعة وإنّما يوم الجمعة ظرف للتحريم {وأُخرى على نحو يكون مفرّداً ومأخوذاً في موضوعه} بحيث يكون يوم الجمعة قيداً للتحريم.

إذا عرفت الأقسام الأربعة الحاصلة من ضرب صورتي العام في صورتي الخاص نقول: {فإن كان مفاد كلّ من العامّ والخاصّ على النّحو الأوّل} بأن أُخذ الزمان فيها ظرفاً - وهو القسم الأوّل - {فلا محيص عن استصحاب حكم الخاصّ في غير مورد دلالته} فمورد دلالة حكم الخاصّ - وهو يوم الجمعة - يحكم بحرمة الإكرام للنصّ، وغير مورده - وهو يوم السّبت - يحكم بالحرمة للاستصحاب، وذلك {لعدم دلالة للعام على حكمه} أي: حكم هذا المورد وهو يوم السّبت {لعدم دخوله} أي: دخول هذا المورد {على حدة في موضوعه} أي: موضوع العام، إذ ليس الزمان مفرداً للعام حتّى يدلّ على وجوب إكرام كلّ يوم {وانقطاع الاستمرار} الّذي كان للعام {بالخاصّ الدالّ على ثبوت الحكم له} أي: للخاص {في الزمان السّابق}وهو يوم الجمعة {من دون دلالته} أي: دلالة الخاصّ {على ثبوته} أي: ثبوت حكم الخاصّ {في الزمان اللّاحق} فإنّ المفروض أنّ الزمان أُخذ ظرفاً للخاصّ أيضاً {فلا مجال إلّا لاستصحابه} أي: استصحاب الخاص.

{نعم} يستثنى من هذا الحكم - وهو استصحاب الخاص - مورد واحد كان المرجع فيه هو العام، وهو في ما إذا كان الخاص وارداً في أوّل زمان العام، كما لو

ص: 205

لو كان الخاصّ غير قاطع لحكمه، - كما إذا كان مخصّصاً له من الأوّل - لما ضرّ به في غير مورد دلالته، فيكون أوّل زمان استمرار حكمه بعد زمان دلالته، فيصحّ التمسّك ب-{أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(1) ولو خصّص بخيار المجلس ونحوه،

___________________________________________

قال: {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ} ممّا دلّ على اللزوم مطلقاً، ثمّ قال: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا»(2)

ممّا دلّ على خيار المجلس الكائن في أوّل زمان العقد، فإنّه بعد المجلس يكون المرجع عموم العام لا استصحاب المخصّص، فيحكم بلزوم المعاملة لا أنّ له اختيار الفسخ.

والسّبب في كون المرجع في هذه الصّورة العام لا الاستصحاب أنّ العام يدلّ على أمرين:

الأوّل: أنّ حكماً واحداً - هو اللزوم - مستمرّ.

الثّاني: أنّ مبدأ ثبوت هذا الحكم أوّل وجود الموضوع - وهو العقد - ،والخاصّ إذا كان مخصّصاً في أوّل الأزمنة - كخيار المجلس - إنّما ينافي دلالة العام على الثّاني دون دلالته على الأوّل فيجب الأخذ به، فيفيد أنّ الاستمرار يبتدئ من بعد المجلس.

ف- {لو كان الخاصّ غير قاطع لحكمه} أي: لحكم العام بأن لم يكن يرفع العام من وسط الزمان {كما إذا كان مخصّصاً له من الأوّل لما ضرّ} الخاص {به} أي: بالعام {في غير مورد دلالته} أي: دلالة الخاصّ {فيكون أوّل زمان استمرار حكمه} أي: حكم العام {بعد زمان دلالته} أي: دلالة الخاص {فيصحّ التمسّك ب-{أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ} ولو خصّص بخيار المجلس} فيحكم بأنّ المجلس إذا انقضى وجب البيع {ونحوه} أي: نحو خيار المجلس من الخيارات الّتي تكون في أوّل

ص: 206


1- سورة المائدة، الآية: 1.
2- الكافي 5: 170.

ولا يصحّ التمسّك به في ما إذا خصّص بخيار لا في أوّله، فافهم.

وإن كان مفادهما على النّحو الثّاني، فلا بدّ من التمسّك بالعام بلا كلام؛ لكون موضوع الحكم - بلحاظ هذا الزمان - من أفراده، فله الدلالة على حكمه، والمفروض عدم دلالة الخاصّ على خلافه.

___________________________________________

المعاملة كخيار الغبن ونحوه.

{ولا يصحّ التمسّك به} أي: بالعام {في ما إذا خصّص بخيار لا في أوّله} كخيار الثلاثة بالنسبة إلى من اشترى شيئاً ولم يسلّم الثمن ولم يأخذ المبيع، فإنّ العقد لازم إلى ثلاثة أيّام وبعده يكونالبائع بالخيار.

فإنّه في مثل هذا لا يكون المرجع بعد انقضاء زمان الخيار عموم العام؛ لأنّ العام قد انقطع، فالمرجع استصحاب الخاصّ {فافهم} يمكن أن يكون إشارة إلى ما يظهر من {أَوۡفُواْ} من كون العقد علّة للزوم، فإذا استثنى فيه وقت - كخيار الثلاثة - يبقى المرجع العام بعد تمام وقت الخاصّ لوجود العلّة، فلا فرق بين أقسام الخيار سواء أوجب جواز البيع من الأوّل أو من الوسط.

{وإن كان مفادهما} أي: العام والمخصّص {على النّحو الثّاني} وهو أن يكون الزمان مفرداً فيهما وهو القسم الثّاني {فلا بدّ من التمسّك بالعام} في يوم السّبت {بلا كلام، لكون موضوع الحكم} أي: حكم العام {بلحاظ هذا الزمان} وهو يوم السّبت {من أفراده} أي: من أفراد العام، إذ العام دلّ على وجوب إكرام زيد يوم الخميس والجمعة والسّبت والأحد وهكذا، فخروج الجمعة بالمخصّص لا يضرّ بالسبت {فله} أي: للعام {الدلالة على حكمه} أي: حكم يوم السّبت {والمفروض عدم دلالة الخاصّ على خلافه} فإنّ الخاصّ لم يحكم إلّا على يوم الجمعة فقط.

ص: 207

وإن كان مفاد العام على النّحو الأوّل، والخاص على النّحو الثّاني، فلا مورد للاستصحاب؛ فإنّه وإن لم يكن هناك دلالة أصلاً، إلّا أنّ انسحاب الحكم الخاصّ إلى غير مورد دلالته، من إسراء حكم موضوع إلى آخر، لا استصحاب حكم الموضوع. ولا مجال - أيضاً - للتمسّك بالعامّ؛ لما مرّ آنفاً، فلا بدّ من الرّجوع إلى سائر الأصول.وإن كان مفادهما على العكس كان المرجع هو العام؛ للاقتصار في تخصيصه

___________________________________________

{وإن كان مفاد العام على النّحو الأوّل} بأن كان الزمان فيه ظرفاً {والخاصّ على النّحو الثّاني} مفرداً، بأن كان الزمان قيداً فيه وهو القسم الثّالث، فهنا يجب الرّجوع في يوم السّبت إلى دليل ثالث غير الخاصّ والعالم.

{فلا مورد للاستصحاب} أي: استصحاب حكم الخاص {فإنّه وإن لم يكن هناك} بالنسبة إلى يوم السّبت {دلالة أصلاً} من العام {إلّا أنّ انسحاب الحكم الخاص} من يوم الجمعة {إلى غير مورد دلالته} أي: دلالة الخاصّ - فإنّ يوم السّبت ليس مورداً لدلالة الخاصّ - {من إسراء حكم موضوع إلى آخر} إذ موضوع الخاصّ كان هو يوم الجمعة {لا} من {استصحاب حكم الموضوع} إذ لو كان الزمان قيداً لا يبقى الموضوع إذا ذهب القيد، كما لا يخفى، ففي يوم السّبت لا مجال لاستصحاب الخاصّ.

{ولا مجال - أيضاً - للتمسّك بالعام} بأن نقول بوجوب الإكرام يوم الجمعة {لما مرّ آنفاً} من أنّ العام لم يجعل هذا الوقت فرداً لنفسه حتّى يشمله {فلا بدّ من الرّجوع} في يوم السّبت - مثلاً - {إلى سائر الأصول} كأصالة البراءة عن الوجوب وعن التحريم.

{وإن كان مفادهما} أي: العام والخاصّ {على العكس} بأن كان الزمان في العام مفرداً وفي الخاصّ ظرفاً وهو القسم الرّابع {كان المرجع} يوم السّبت{هو العام} فيجب إكرام زيد فيه {للاقتصار في تخصيصه} أي: تخصيص العام

ص: 208

بمقدار دلالة الخاص. ولكنّه لولا دلالته لكان الاستصحاب مرجعاً؛ لما عرفت من أنّ الحكم في طرف الخاص قد أُخِذ على نحو صحّ استصحابه.

فتأمّل تعرف أنّ إطلاق كلام شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه(1)

- في المقام نفياً وإثباتاً، في غير محلّه.

الرّابع عشر: الظاهر: أنّ الشّكّ - في أخبار الباب وكلمات الأصحاب - هو خلاف اليقين، فمع الظنّ بالخلاف - فضلاً عن الظنّ بالوفاق - يجرى الاستصحاب.

___________________________________________

{بمقدار دلالة الخاص} وهو يوم الجمعة.

{ولكنّه} لا يخفى أنّه {لولا دلالته} أي: دلالة العام على المفرديّة {لكان الاستصحاب} للخاصّ {مرجعاً} كما تقدّم في حال كون الزمان ظرفاً فيهما {لما عرفت من أنّ الحكم في طرف الخاصّ قد أُخذ على نحو صحّ استصحابه} لكون الزمان ظرفاً فيه {فتأمّ-ل تعرف أنّ إطلاق ك-لام شيخنا العلّام-ة} المرتضى {- أعلى اللّه مقامه - في المقام نفياً وإثباتاً في غير محلّه} فإنّه(رحمة الله) أناط نفي الاستصحاب بكون الزمان في طرف الخاصّ قيداً، وأناط إثبات الاستصحاب بكون الزمان في طرف الخاصّ ظرفاً، مع أنّك علمت أنّ المناط ملاحظة العام والخاص لا الخاص فقط، واللّه العالم.

[التنبيه الرّابع عشر]

التنبيه {الرّابع عشر} في كون المراد من الشّك الّذي لا ينقض اليقين به الأعمّ من الشّكّ والظنّ، فلو كان سابقاً متطهّراً ثمّ ظنّ بأنّه أحدث لم يعتن بهذا الظنّ، بل يستصحب الطّهارة.

{الظاهر أنّ الشّكّ في أخبار الباب وكلمات الأصحاب هو خلاف اليقين} ظنّاً أو شكّاً أو وهماً {فمع الظنّ بالخلاف} أي: بخلاف الحالة السّابقة {فضلاً عن الظنّ بالوفاق} كان ظنّ بقاء الطّهارة بأن وهم الخلاف {يجري الاستصحاب} ولا يرفع

ص: 209


1- فرائد الأصول 3: 274-275.

ويدلّ عليه - مضافاً إلى أنّه كذلك لغة، كما في الصّحاح(1)

وتعارف استعماله فيه في الأخبار في غير باب - قوله(علیه السلام)في أخبار الباب: «ولكن تنقضه بيقين آخر»(2)، حيث إنّ ظاهره أنّه في بيان تحديد ما ينقض به اليقين، وأنّه ليس إلّا اليقين.

وقوله(علیه السلام) أيضاً: «لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام»(3)، بعد السّؤال منه: عمّا إذا حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم، حيث دلّ بإطلاقه - مع ترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الأمارة

___________________________________________

اليد عن اليقين السّابق.

{ويدلّ عليه} أي: على كون المراد من الشّكّ الأعمّ من الظنّ {مضافاً إلى أنّه} أي: الشكّ {كذلك} بمعنى الأعمّ من الظنّ {لغةً كما في الصّحاح} والقاموس(4)

ومجمع البحرين(5)

وغيرها {و} مضافاً إلى {تعارف استعماله} أي: الشّكّ {فيه} في الأعمّ {في الأخبار في غير باب} واحد، بل أبواب متعدّدة، كباب الشّكّ في عدد الرّكعات وغيره - {قوله(علیه السلام)} فاعل «يدلّ» {في أخبار الباب} أي: باب الاستصحاب {«ولكن تنقضه بيقين آخر» حيث إنّ ظاهره أنّه} لا تنقض الحالة السّابقة بالشكّ والظنّ والوهم؛ لأنّه {في بيان تحديد ما ينقض به اليقين وأنّه ليس} النّاقض للحالة السّابقة {إلّا اليقين}.

{وقوله(علیه السلام) أيضاً: «لا حتّى يستيقن أنّه قد نام» بعد السّؤال منه: عمّا إذا حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟ حيث دلّ بإطلاقه - مع ترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الأمارة}

ص: 210


1- الصحاح 4: 1594.
2- تهذيب الأحكام 1: 8، وفيه: «ولكن ينقضه بيقين آخر»، وفي وسائل الشيعة 1: 245: «إنما تنقضه بيقين آخر».
3- تهذيب الأحكام 1: 8؛ وسائل الشيعة 1: 245.
4- القاموس المحيط 3: 421.
5- مجمع البحرين 5: 276.

الظنّ، وما إذا لم تفد؛ بداهة أنّها لو لم تكن مفيدة له دائماً لكانت مفيدة له أحياناً - على عموم النّفي لصورة الإفادة.

وقوله(علیه السلام) - بعده - : «ولا تنقض اليقين بالشكّ»(1)، أنّ الحكم في المغيّىمطلقاً هو: عدم نقض اليقين بالشكّ، كما لا يخفى.

وقد استدلّ عليه أيضاً بوجهين آخرين:

الأوّل: الإجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف، على تقدير اعتباره من باب الإخبار.

___________________________________________

وهي أن يحرّك في جنب الغافي شيء وهو لا يعلم {الظنّ} بالنوم {وما إذا لم تفد؟ بداهة أنّها} أي: هذه الأمارة {لو لم تكن مفيدة له دائماً لكانت مفيدة له} أي: للظنّ بالنّوم، وهو الحدث {أحياناً - على عموم} متعلّق بقوله: «حيث دلّ بإطلاقه» أي: إنّ إطلاق قوله: «حتّى يستيقن» دلّ على عموم {النّفي} أي: قوله: «لا» {لصورة الإفادة} أي: إفادة الأمارة الظنّ بالنوم.

{و} دلّ {قوله(علیه السلام) - بعده - : «ولا تنقض اليقين بالشكّ»} على {أنّ الحكم في المغيّى} وهو قوله(علیه السلام): «حتّى يستيقن» {مطلقاً هو عدم نقض اليقين بالشكّ، كما لا يخفى} لأنّه تقرير للحكم السّابق في المغيّى.

{وقد استدلّ عليه} أي: على أنّ المراد بالشكّ الأعمّ من الظنّ، والمستدلّ هو الشّيخ(رحمة الله) {أيضاً بوجهين آخرين:}

{الأوّل: الإجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف} أي: بخلاف الحالة السّابقة، لكن الإجماع على الاعتبار إنّما هو {على تقدير اعتباره} أي: اعتبار الاستصحاب {من باب الإخبار} أمّا لو اعتبرناه من باب إفادتهالظنّ لم يكن حجّة إذا كان الظنّ النّوعي على خلافه.

ص: 211


1- تهذيب الأحكام 1: 8؛ وسائل الشيعة 1: 245، مع اختلاف يسير.

وفيه: أنّه لا وجه لدعواه، ولو سلّم اتفاق الأصحاب على الاعتبار؛ لاحتمال أن يكون ذلك من جهة ظهور دلالة الأخبار عليه.

الثّاني: «أنّ الظنّ غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل، فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند الشّارع، وأنّ كلّ ما يترتّب شرعاً على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده. وإن كان ممّا شكّ في اعتباره، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السّابق بسبّبه

___________________________________________

{وفيه أنّه لا وجه لدعواه} أي: دعوى الإجماع {ولو سلّم اتفاق الأصحاب على الاعتبار} للاستصحاب ولو مع الظنّ بالخلاف {لاحتمال أن يكون ذلك} الاتفاق من الأصحاب {من جهة ظهور دلالة الأخبار عليه} وقد تقرّر في مبحث الإجماع أنّ الإجماع المحتمل الاستناد ليس بحجّة.

{الثّاني}: الظنّ الّذي لم يعتبره الشّارع إذا كان على خلاف الحالة السّابقة، فلا يخلو الأمر: إمّا أن نعلم أنّه ليس بمعتبر فلا إشكال في أنّه غير صالح لنقض الاستصحاب، وإمّا أن نشكّ في أنّه معتبر أم لا، فإذا رفعنا اليد عن الاستصحاب بسبب هذا الظنّ المشكوك فيه كان نقضاً لليقين السّابق بالشك، ف- {«إنّ الظنّ غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل} كالظنّ القياسي إذا كان على خلاف الاستصحاب {فمعناه} أي: معنى عدم اعتباره {أنّ وجوده كعدمه عند الشّارع، وأنّ كلّ ما يترتّب شرعاً على تقدير عدمه} كاستصحاب الحالة السّابقة المرتّبعلى تقدير عدم هذا الظنّ القياسي {فهو المترتّب على تقدير وجوده} لأنّ الشّارع أسقطه عن الاعتبار.

{وإن كان} هذا الظنّ المخالف للاستصحاب {ممّا شكّ في اعتباره} كالظنّ الحاصل من الشّهرة إذا شككنا في كونه حجّة أم لا {فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السّابق بسببه} أي: بسبب هذا الظنّ المخالف المشكوك اعتباره

ص: 212

إلى نقض اليقين بالشكّ، فتأمّل جيّداً».

وفيه: أنّ قضيّة عدم اعتباره؛ - لإلغائه أو لعدم الدليل على اعتباره - لا يكاد يكون إلّا عدم إثبات مظنونه به تعبّداً ليترتّب عليه آثاره شرعاً، لا ترتيب آثار الشّكّ مع عدمه،

___________________________________________

{إلى نقض اليقين بالشكّ} «إلى» متعلّق «بمرجع»، إذ أنّك كنت متيقّناً سابقاً وتشكّ فعلاً في أنّ هذا الظنّ المخالف حجّة أم لا، فإذا رفعت اليد عن يقينك كان بسبب هذا الشّكّ {فتأمّل جيّداً»} هذا تمام الوجه الثّاني للشيخ(رحمة الله).

{وفيه} أنّ عدم اعتبار الظنّ قد يكون بمعنى ترتيب آثار الشّكّ عليه، وقد يكون بمعنى عدم ترتيب آثار الظنّ.

والظاهر الأوّل، فمعنى عدم حجيّة الظنّ: لا ترتّب أثر الظنّ، لا أنّ معناه: رتّب أثر الشّكّ، فإذا كان أثر الاستصحاب إنّما يجري إذا شكّ في الأمر لم يكن جارياً إذا لم يكن هناك شكّ، فلو ظنّ بالخلاف لم يجر الاستصحاب لعدم الشّكّ ولم يرتّب أثر الظنّ؛ لأنّه ليس بحجّة، وإنّما اللّازم الرّجوع إلى سائر الأصول العمليّة.

ف- {إنّ قضيّة} أي: مقتضى {عدم اعتباره} أي: عدم اعتبارالظنّ {لإلغائه} أي: لكون الشّارع ألغاه كالظنّ القياسي {أو لعدم الدليل على اعتباره} كالظنّ الحاصل من الشّهرة - مثلاً - {لا يكاد يكون} مقتضى عدم الاعتبار {إلّا عدم إثبات مظنونه}.

فإذا ظنّ بالحدث - مثلاً - لا يرتّب أثر الحدث {به} أي: بسبب هذا الظنّ {تعبّداً} قيد للمنفي، أي: لا يرتّب أثر الظنّ ترتيباً تعبّديّاً {ليترتّب عليه} أي: على هذا الظنّ {آثاره شرعاً} إذ معنى عدم حجيّة شيء عدم ترتيب أثره عليه {لا} أنّ معنى عدم حجيّة الظنّ {ترتيب آثار الشّكّ مع عدمه} أي: مع عدم الشّكّ، إذ للشكّ آثار وللظنّ آثار فليس معنى عدم الثّاني ترتيب آثار الشّكّ.

ص: 213

بل لا بدّ حينئذٍ في تعيين أنّ الوظيفة أيّ أصلٍ من الأصول العمليّة من الدليل، فلو فرض عدم دلالة الأخبار معه على اعتبار الاستصحاب، فلا بدّ من الانتهاء إلى سائر الأصول بلا شبهة ولا ارتياب. ولعلّه أُشير إليه بالأمر بالتأمّل(1)،

فتأمّل جيّداً.

تتمّة

لا يذهب عليك: أنّه لا بدّ في الاستصحاب من: بقاء الموضوع؛ وعدم أمارة معتبرة هناك ولو على وفاقه.

___________________________________________

{بل لا بدّ حينئذٍ} أي: حين ظنّ بخلاف الحالة السّابقة {في تعيين أنّ الوظيفة} لهذا الظانّ بخلاف الحالة السّابقة {أَيُّ أصلٍ من الأصول العمليّة من الدليل} متعلّق بقوله:«لا بدّ»، إذ الاستصحاب لا يجري لعدم الشّكّ، وآثار الظنّ لا ترتب لعدم حجيّة الظنّ، فلا بدّ من التماس دليل ثالث.

{فلو فرض عدم دلالة الأخبار معه} أي: مع الظنّ بالخلاف {على اعتبار الاستصحاب فلا بدّ من الانتهاء إلى سائر الأصول} العمليّة {بلا شبهة ولا ارتياب}.

{ولعلّه} أي: هذا الإشكال {أُشير إليه} في كلام الشّيخ {بالأمر بالتأمّل، فتأمّل جيّداً}.

فتحصّل أنّه إن دلّ دليل الاستصحاب على أنّ الظنّ بالخلاف كالشكّ فلا بأس من القول به، وإلّا كان المرجع في ما ظنّ بالخلاف - الأصول العمليّة - ولا ينفع دليل الشّيخ في إلحاقه بالشّكّ.

[تتمّة للاستصحاب]

اشارة

{تتمّة} للاستصحاب {لا يذهب عليك أنّه لا بدّ في الاستصحاب من بقاء الموضوع} في حال الشّكّ {وعدم أمارة معتبرة هناك} على الحكم {ولو على وفاقه} أي: وفاق الاستصحاب، فإذا ذهب الموضوع السّابق لم يجر الاستصحاب،

ص: 214


1- في كلام الشيخ الأعظم، فرائد الأصول 3: 286.

فهاهنا مقامان:

المقام الأوّل: أنّه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع، بمعنى اتحاد القضيّة المشكوكة مع القضيّة المتيقّنة موضوعاً، كاتحادهما حكماً؛ ضرورة أنّه بدونه لا يكون الشّكّ في البقاء، بل في الحدوث، ولا رفع اليد عن اليقين في محلّ الشّكّ

___________________________________________

وإذا كان الموضوع السّابق ولكن كانت أمارة على وفاق الحكم الّذي يراد استصحابه لم يجر الاستصحاب أيضاً {فهاهنا مقامان}: مقام بقاء الموضوع، ومقام عدم أمارة في باب الاستصحاب على خلافه أو وفاقه.

[المقام الأوّل اعتبار بقاء الموضوع]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، فصل في الاستصحاب، تتمة للاستصحاب

{المقام الأوّل} في أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع السّابق، فلو شكّ في أنّ الماء هل سقط عن الكرّيّة أم لا - بسبب أخذ بعضه - كان شرط جريان الاستصحاب أن يكون الماء المراد استصحاب كريّته هو ذاك المعلوم كريّته، ف- {إنّه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضيّة المشكوكة} نحو (هل هذا الماء كرّ؟) {مع القضيّة المتيقّنة} وهي (هذا الماء كُرٌّ) {موضوعاً} فإنّ موضوع القضيّتين (هذا الماء) {كاتحادهما} أي: اتحاد القضيّتين {حكماً} نحو (كرّ) في المثال، منتهى الأمر أنّ في القضيّة المتيقّنة الكرّيّة مقطوعة، وفي القضيّة المشكوكة الكريّة مشكوكة.

وإنّما قلنا بلزوم بقاء الموضوع ل- {ضرورة أنّه بدونه} أي: بدون بقاء الموضوع {لا يكون الشّكّ في البقاء، بل في الحدوث} فلو علمنا سابقاً بأنّ الماء في الإناء الأصفر كرّ، وشككنا فعلاً في أنّ الماء في الإناء الأبيض كرّ أم لا، لم يكن شكّاً في البقاء بالنسبة إلى الأصفر، بل شكّاً في حدوث الكريّة بالنسبة إلى الإناء الأبيض {ولا} يكون {رفع اليد عن اليقين في محلّ الشّكّ} أي: لو رفعنا اليد عن اليقين بكون الأبيض كرّاً وشككنا فيه لم يكن رفع اليد عن اليقين من

ص: 215

نقض اليقين بالشكّ. فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان.والاستدلال عليه ب- «استحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر؛ لتقوّمه بالموضوع وتشخّصه به»(1)،

غريبٌ؛ بداهة أنّ استحالته حقيقةً

___________________________________________

{نقض اليقين بالشكّ} إذ لم يكن هناك يقين سابق حتّى نكون قد نقضناه بالشكّ {فاعتبار البقاء} للموضوع السّابق {بهذا المعنى} الّذي ذكرناه {لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان} كما لا يخفى.

{والاستدلال عليه} أي: على لزوم بقاء الموضوع {ب- «استحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر لتقوّمه} أي: العرض {بالموضوع وتشخّصه} أي: العرض {به»} أي: بالموضوع.

وهذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من أنّ العَرَض هو الّذي يقوم بغيره، فانتقاله عنه محال، إذ في حال الانتقال لا يخلو إمّا أن يكون قائماً بالمنتقل عنه أو بالمنتقل إليه أو بهما، فالأوّل يسبّب عدم الانتقال، والثّاني خلف، إذ المفروض أنّه في حال الانتقال لا بعد الانتقال، والثّالث محال إذ الشّيء الواحد لا يمكن قيامه بشيئين.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الحكم عَرَضٌ على الموضوع، فلو أردنا استصحاب الحكم لموضوع آخر كان ذلك سبباً لانتقال العَرَض من موضوع إلى موضوع آخر الّذي عرفت استحالته.

لكن الاستدلال لبقاء الموضوع في باب استصحاب بهذا الدليل الفلسفي {غريب} وإن صدر من الشّيخ المرتضى(رحمة الله)، إذ لو كان المراد من البقاء هو البقاء الحقيقي لزم ما ذكر - على تقدير تماميّة المقدّمات - أمّا لو أُريد الإبقاءالتعبّدي الّذي هو عبارة عن ترتيب الآثار فقط فلا استحالة فيه مع الشّكّ في الموضوع {بداهة أنّ استحالته} أي: استحالة انتقال العرض {حقيقة} كما ذكره الحكماء

ص: 216


1- فرائد الأصول 3: 290.

غيرُ مستلزم لاستحالته تعبّداً، والالتزام بآثاره شرعاً.

وأمّا بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجاً، فلا يعتبر قطعاً في جريانه؛ لتحقّق أركانه بدونه. نعم، ربّما يكون ممّا لا بدّ منه في ترتيب بعض الآثار، ففي استصحاب عدالة زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته لجوازه تقليده، وإن كان محتاجاً إليه في جواز الاقتداء به، أو وجوب إكرامه، أو الإنفاق عليه.

وإنّما الإشكال كلّه

___________________________________________

{غير مستلزم لاستحالته تعبّداً، و} الانتقال تعبّداً يراد منه {الالتزام بآثاره شرعاً} كما لو كان هناك ماء كثير ثمّ أخذ نصفه ممّا شكّ معه في بقاء الموضوع، فإنّه لا يستحيل أن يعبّدنا الشّارع ببقاء آثار الكريّة بالنسبة إلى هذا الماء.

ثمّ إن قلنا بوجوب اتحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة موضوعاً وحكماً، والمراد ببقاء الموضوع في ظرف نفسه من الخارج أو الذهن أو التقرّر في نفس الأمر، فإنّ البقاء صادق بمجرّد ذلك.

{وأمّا} بقاء الموضوع {بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجاً فلا يعتبر قطعاً في جريانه} أي: جريان الاستصحاب {لتحقّق أركانه} أي: أركان الاستصحاب {بدونه} أي: بدون البقاء الخارجي.

{نعم، ربّما يكون} بقاء الوجود الخارجي {ممّا لا بدّمنه في ترتيب بعض الآثار} مما أخذ في موضوعها الوجود الخارجي {ففي استصحاب عدالة زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته} إذا كان الاستصحاب {لجواز تقليده} فلو شككنا في أنّ زيداً هل سقط عن العدالة أم لا، جاز الاستصحاب، وإن كنّا لم نعلم أنّه بقي حيّاً أم لا، إذ جواز التقليد ليس متوقّفاً على الحياة {وإن كان محتاجاً إليه} أي: إلى إحراز الحياة {في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الإنفاق عليه} لأنّ هذه الأحكام تحتاج إلى الوجود الخارجي.

هذا كلّه ممّا لا إشكال فيه {وإنّما الإشكال كلّه} في أنّ الموضوع الّذي يجب

ص: 217

في: هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف، أو بحسب دليل الحكم، أو بنظر العقل؟

فلو كان مناط الاتحاد هو نظر العقل، فلا مجال للاستصحاب في الأحكام؛ لقيام احتمال تغيّر الموضوع في كلّ مقام شكّ في الحكم، بزوال بعض خصوصيّات موضوعه؛ لاحتمال دخله فيه، ويختصّ بالموضوعات؛

___________________________________________

بقاؤه هل هو الموضوع العقلي أو الدليلي - أي: ما أُخذ في لسان الدليل - أو العرفي.

فمثلاً: لو قال المولى: (الماء المتغيّر نجس) فتغيّر الماء ثمّ زال تغيّره هل يجوز استصحاب النّجاسة أم لا؟ لو قلنا بأنّ الموضوع هو العقلي أو الدليلي لم يصحّ الاستصحاب، إذ الموضوع الدقّي قد ذهب، وكذا الموضوع الدليلي، فإنّ الدليل قال: (الماء المتغيّر) وليس الباقي متغيّراً، وهذا بخلاف ما لو أخذنا الموضوع عرفيّاً، فإنّه باقٍ، إذ العرف يرى أنّ الماء هو الموضوع للنجاسة وأنّالتغيّر من أحواله لا من مقوّماته.

فنقول: قد وقع الكلام {في هذا الاتحاد} بين القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة موضوعاً {هل هو بنظر العرف أو بحسب دليل الحكم أو بنظر العقل} والدقّة {فلو كان مناط الاتحاد هو نظر العقل فلا مجال للاستصحاب في الأحكام} إطلاقاً {لقيام احتمال تغيّر الموضوع في كلّ مقام شكّ في الحكم} وكان الشّكّ {ب-} سبب {زوال بعض خصوصيّات موضوعه} وإنّما يكون الشّكّ {لاحتمال دخله} أي: ذلك البعض الزائل {فيه} أي: في الموضوع، إذ كلّ شكّ في الحكم ناشٍ عن تغيّر بعض خصوصيّات الموضوع، ولو كان تلك الخصوصيّة الزمان؛ لأنّ للزمان أيضاً دخلاً في الموضوع، ولذا لا يكون التناقض مع اختلاف الزمان. {ويختصّ} الاستصحاب بناءً على كون المناط في الموضوع نظر العقل {بالموضوعات} كاستصحاب حياة زيد ووجود الدار وأشباههما.

ص: 218

بداهة أنّه إذا شكّ في حياة زيد شكّ في نفس ما كان على يقين منه حقيقة.

بخلاف ما لو كان بنظر العرف، أو بحسب لسان الدليل؛ ضرورة أنّ انتفاء بعض الخصوصيّات وإن كان موجباً للشكّ في بقاء الحكم، - لاحتمال دخله في موضوعه - ، إلّا أنّه ربّما لا يكون - بنظر العرف ولا في لسان الدليل - من مقوّماته:

كما أنّه ربّما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعاً، مثلاً إذا ورد (العنب إذا غلى يحرم) كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفاً هو خصوص العنب،

___________________________________________

{بداهة أنّه إذا شكّ في حياة زيد} مثلاً {شكّ في نفس ما كان على يقين منه حقيقة} بلا تغيّر خصوصيّة أصلاً، ولا يأتي هاهنا ما ذكرناه سابقاً من أنّ الزمان أيضاً من الخصوصيّات المغيّرة، إذ موضوع الموضوع هو الماهيّة المتقرّرة والزمان لا دخل له فيها.

هذا كلّه بناءً على أنّ الموضوع يجب أن يكون بنظر العقل {بخلاف ما لو كان بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل} فإنّ الموضوع فيهما باقٍ غالباً وإن لم يحكم العقل بالبقاء {ضرورة أنّ انتفاء بعض الخصوصيّات وإن كان موجباً للشكّ في بقاء الحكم لاحتمال دخله} أي: دخل ذلك البعض المنتفي {في موضوعه} أي: في موضوع الحكم - كالحياة في جواز التقليد - فإنّا نحتمل دخله في موضوع التقليد {إلّا أنّه ربّما لا يكون بنظر العرف ولا في لسان الدليل من مقوّماته} أي: من مقوّمات الموضوع {كما أنّه ربّما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعاً} فإنّه وإن أُخذ في الدليل موضوع خاصّ لكن العرف يرى الأعمّ من ذلك موضوعاً، فإذا كان معيار بقاء الموضوع نظر العرف جاز الاستصحاب، وإن كان المعيار دلالة الدليل لم يجز لانتفاء الموضوع الدليلي.

{مثلاً: إذا ورد (العنب إذا غلى يحرم) كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفاً هو خصوص العنب} أي: خصوص الرّطب لا الأعمّ من الرّطب والجاف حتّى يشمل

ص: 219

ولكن العرف - بحسب ما يرتكز في أذهانهم، ويتخيّلونه من المناسبات بينالحكم وموضوعه - ويجعلون الموضوع للحرمة ما يعمّ الزبيب، ويرون العنبيّة والزبيبيّة من حالاته المتبادلة، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوماً بما حكم به العنبُ، كان عندهم من ارتفاع الحكم من موضوعه، ولو كان محكوماً به كان من بقائه.

ولا ضير في أن يكون الدليل بحسب فهمهم، على خلاف ما ارتكز في أذهانهم، بسبب ما تخيّلوه من الجهات والمناسبات،

___________________________________________

الزبيب {ولكن العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم} من كون جاف غالب الأشياء كرطبه في الخواصّ والآثار {و} بحسب ما {يتخيّلونه من المناسبات بين الحكم وموضوعه} في كلّ مكانٍ، فيعمّمون الحكم تارةً، ويخصّصونه أُخرى، ولذا لو قال الطّبيب لمن به سعال: (لا تأكل الرّمّان) عمّمه العرف إلى كلّ حامض، كما يخصّصه بالرمّان الّذي فيه الحموضة ويستثني الحلو المحض {ويجعلون الموضوع للحرمة ما يعمّ الزبيب ويرون العنبيّة والزبيبيّة من حالاته} أي: حالات الموضوع {المتبادلة} الّتي لا ترتبط ببقاء الموضوع {بحيث لو لم يكن الزبيب محكوماً بما حكم به العنب} من الحرمة إذا غلى {كان عندهم من ارتفاع الحكم من موضوعه، ولو كان} الزبيب {محكوماً به} أي: بما حكم به العنب من الحرمة إذا غلى {كان} في نظرهم {من بقائه} أي: بقاء الحكم على موضوعه.

{و} إن قلت: كيف قلتم إنّ العرف يفهم من العنب خصوص العنب ثمّ قلتم أنّهم يرون الموضوع أعمّ من العنب والزبيب؟

قلت: هنا شيئان:الأوّل: معنى اللفظ وهو خصوص الرّطب.

الثّاني: المراد من اللفظ بقرينة الحكم وهو الأعمّ، ولا تنافي بينهما، إذ {لا ضير في أن يكون الدليل بحسب فهمهم} لمعنى اللّفظ {على خلاف ما ارتكز في أذهانهم بسبب ما تخيّلوه من الجهات والمناسبات} حتّى يرون الموضوع للحكم

ص: 220

في ما إذا لم تكن بمثابة تصلح قرينة على صرفه ممّا هو ظاهر فيه.

ولا يخفى: أنّ النّقض وعدمه - حقيقة - يختلف بحسب الملحوظ من الموضوع، فيكون نقضاً بلحاظ موضوع، ولا يكون بلحاظ موضوع آخر.

___________________________________________

أعمّ ممّا هو معنى اللفظ لغةً {في ما إذا لم تكن} الجهات والمناسبات {بمثابة تصلح قرينةً على صرفه} أي: صرف الدليل {ممّا} أي: عن معنى {هو} أي: الدليل {ظاهر فيه} أي: في ذلك المعنى.

والحاصل: أنّ الموضوع الدليلي والموضوع العرفي إنّما يختلفان في ما إذا كان ظاهر الدليل شيئاً ومتفاهم العرف - بسبب المناسبات - شيئاً آخر، أمّا إذا كانت المناسبات الّتي في أذهان العرف صارفة للدليل عن ظاهره لم يكن تخالف بين الدليل والعرف.

مثلاً: لو قال: (رأيت أسداً في الحمّام) كانت المناسبة العرفيّة بين الأسد والحمّام صارفة للأسد عن ظاهره إلى معنى الرّجل الشّجاع، ولذا كان معنى الأسد في اللفظ هو الرّجل الشّجاع كما هو متفاهم العرف، وهنا لا تخالف بين موضوع الدليل وموضوع العرف، بخلاف مثل: (العنب إذا غلى) فإنّ المناسبةالموجبة لرؤية العرف أعمّ من الجافّ والرّطب ليست بحيث تصلح صارفة للفظ حتّى يكون العنب بمعنى الأعمّ.

والحاصل: أنّه قد يوسّع في الحكم فقط وقد يتصرّف في الموضوع، ففي مثال العنب والرّمّان توسعة في الحكم، وفي مثال الأسد تصرّف في الموضوع.

{و} بعد ما ذكرناه لا مجال لأن يقال: وهل يختلف الموضوع الدليلي والموضوع العرفي؟ إذ {لا يخفى أنّ النّقض وعدمه - حقيقةً - يختلف بحسب الملحوظ من الموضوع} دليليّاً وعرفيّاً {فيكون نقضاً بلحاظ موضوع} فعدم الحرمة للزبيب نقض بلحاظ الموضوع العرفي {ولا يكون} نقضاً {بلحاظ موضوع آخر} كما إذا أخذنا

ص: 221

فلا بدّ في تعيين أنّ المناط في الاتحاد هو الموضوع العرفي أو غيره، من بيان أنّ خطاب «لا تنقض» قد سيق بأيّ لحاظ.

فالتحقيق أن يقال: إنّ قضيّة إطلاق خطاب «لا تنقض» هو أن يكون بلحاظ الموضوع العرفي؛ لأنّه المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفيّة، ومنها الخطابات الشّرعيّة، فما لم يكن هناك دلالة على أنّ النّهي فيه بنظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم، لا محيص عن الحمل على أنّه بذاك اللحاظ، فيكون المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد

___________________________________________

موضوع العنب دليليّاً، فإنّ القول بعدم حرمة الزبيب لا يكون نقضاً {فلا بدّ في تعيين أنّ المناط في الاتحاد} الموضوعي بين القضيّتين {هو الموضوع العرفي أو غيره، من بيان أنّ خطاب «لا تنقض» قد سيق بأيّلحاظ؟} لحاظ العرف أو العقل أو الدليل.

{فالتحقيق أن يقال: إنّ قضيّة إطلاق خطاب «لا تنقض»} بدون تقييد بالنّظر الدّليلي أو الدقّي، فإنّه لم يقل: لا تنقض بالنّظر الدقّي، ولم يقل: لا تنقض بالنّظر الدّليلي، فمقتضى الإطلاق - كسائر إطلاقات الأدلّة - {هو أن يكون} النّقض {بلحاظ الموضوع العرفي؛ لأنّه} أي: المعنى العرفي هو {المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفيّة، ومنها الخطابات الشّرعيّة} إذ {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1)، فكلّما صدق النّقض عرفاً كان منهيّاً عنه وإن كان بنظر العقل أو بنظر الدليل ليس بنقض لذهاب الموضوع في نظرهما.

{فما لم يكن هناك دلالة على أنّ النّهي فيه} أي: في الخطاب الشّرعي {بنظر آخر} غير النّظر العرفي {غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم لا محيص عن الحمل على أنّه} أي: الخطاب {بذاك اللحاظ} العرفي {فيكون المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد} بين الموضوع السّابق في زمان اليقين والموضوع اللّاحق في زمان

ص: 222


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

بحسب نظر العرف - وإن لم يحرز بحسب نظر العقل، أو لم يساعده النّقل - فيستصحب مثلاً ما يثبت بالدليل للعنب إذا صار زبيباً؛ لبقاء الموضوع واتحاد القضيّتين عرفاً. ولا يستصحب في ما لا اتحاد كذلك، وإن كان هناك اتحاد عقلاً، كما مرّت الإشارة إليه في القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّي، فراجع.المقام الثّاني:

___________________________________________

الشّكّ {بحسب نظر العرف وإن لم يحرز} الموضوع {بحسب نظر العقل} فيرى أنّ الباقي غير السّابق {أو لم يساعده النّقل} لأنّه أخذ في الموضوع خصوصيّة قد زالت {فيستصحب - مثلاً - ما يثبت بالدليل للعنب} من الحرمة إذا غلى ماؤه {إذا صار زبيباً لبقاء الموضوع واتحاد القضيّتين عرفاً} فالقضيّة المشكوكة هي القضيّة المتيقّنة في نظر العرف. ولا يخفى أنّ هذا غير الاستصحاب العقلي الّذي ذكرناه سابقاً.

{ولا يستصحب في ما لا اتحاد كذلك} بين القضيّتين {وإن كان هناك اتحاد عقلاً} بأن رأى العقل أنّ هذا الموضوع الباقي هو ذاك الموضوع السّابق {كما مرّت الإشارة إليه في القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّي، فراجع} كما لو علم بارتفاع الإيجاب وشكّ في بقاء الاستحباب، فإنّه لا يستصحب مع أنّ الاستحباب مرتبة من مراتب الإيجاب عقلاً واتحاد بين السّابق واللّاحق، إلّا أنّ العرف لمّا يرى الاثنينيّة بينهما لم يصحّ الاستصحاب، وكذا بين الحرمة والكراهة.

[المقام الثّاني اعتبار عدم جريان الأمارة في مورد الاستصحاب]

{المقام الثّاني} في أنّ الأمارات مقدّمة على الاستصحاب، سواء كانت الأمارة موافقة للاستصحاب - كما لو دلّت الأمارة على أنّ من توضّأ ثمّ شكّ حكم بالوضوء - أم مخالفة له - كما لو دلّت الأمارة في المثال على عدم الوضوء -

ص: 223

أنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحابمع الأمارة المعتبرة في مورده، وإنّما الكلام في أنّه للورود، أو الحكومة، أو التوفيق بين دليل اعتبارها وخطابه؟

___________________________________________

{أنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة} عقلاً أو شرعاً {في مورده} أي: مورد الاستصحاب {وإنّما الكلام في أنّه} أي: تقدّم الأمارة عليه {للورود} الّذي هو عبارة عن رفع دليل الوارد لموضوع دليل المورود حقيقةً أو تنزيلاً، كما لو قال: «رفع ما لا يعلمون»(1)

وقال: (الخمر نجس)، فإنّ الدليل الثّاني يرفع موضوع الدليل الأوّل، إذ «لا يعلمون» انقلب إلى «يعلمون» بواسطة دليل نجاسة الخمر.

{أو الحكومة} الّتي هي عبارة عن نظر دليل الحاكم إلى المحكوم، بحيث ينشأ الحكم في مورده ويصحّ أن يفسّر دليل الحاكم ب- (أي) كما لو قال: (صلّ بطهارة) ثمّ قال: «الطّواف بالبيت صلاة»(2)

فإنّ دليل الطّواف حاكم على دليل الصّلاة، فيصحّ أن يقال: الصّلاة - أي: الطّواف وما فيه الأركان - تحتاج إلى الطّهارة.

{أو التوفيق بين دليل اعتبارها} أي: اعتبار الأمارة {وخطابه} أي: خطاب الاستصحاب، بأن يقال: إنّ العرف يجمع بين هذين بتقديم الأمارة لكون دليلها أظهر من دليله، من قبيل الجمع بين (اغتسل للجمعة) و(لا بأس بترك غسل الجمعة) حيث يحمل الأوّل على الثّاني لكون الثّاني أظهر من الأوّل، أو لأجل أنّه لا يبقى مورد للأمارة لو تقدّم عليها الأصل، إذ في جميع موارد الأمارات أُصول معتبرة، فتقديم الأصل على الأمارةموجب للغويّتها بخلاف العكس، فإنّ كثيراً من موارد الأصول لا أمارة فيها، أو يكون تقدّم الأمارة لأجل التخصيص، فهو من

ص: 224


1- الخصال 2: 417.
2- غوالي اللئالي 1: 214؛ مستدرك الوسائل 9: 410.

والتحقيق: أنّه للورود؛ فإنّ رفع اليد عن اليقين السّابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ، بل باليقين. وعدم رفع اليد عنه مع الأمارة على وفقه ليس لأجل أن لا يلازم نقضه به، بل من جهة لزوم العمل بالحجّة.

لا يقال: نعم، هذا

___________________________________________

قبيل تقدّم (لا تكرم زيداً) على (أكرم العلماء) وسيأتي في باب التعارض تفصيل معاني الورود والحكومة وغيرهما.

{والتحقيق أنّه للورود} وأنّ دليل الأمارة رافعة لموضوع دليل الاستصحاب {فإنّ رفع اليد عن اليقين السّابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ} الّذي نهي عنه في خطاب «لا تنقض» {بل} نقض لليقين {باليقين} فإنّ المراد من اليقين ليس إلّا الحجّة، لا اليقين الّذي هو حالة نفسانيّة، فإذا قامت الأمارة فقد تيقّنّا بالحكم، وبهذا اليقين نرفع اليد عن اليقين السّابق {وعدم رفع اليد عنه} أي: عن اليقين السّابق {مع الأمارة على وفقه} أي: وفق اليقين السّابق، بأن كان مؤدّى الاستصحاب والأمارة واحداً، فإنّه حينئذٍ لا يعمل بالاستصحاب، بل بالأمارة الّتي في المقام {ليس لأجل أن لا يلازم نقضه} أي: نقض اليقين {به} أي: بالشكّ، فإن عملنا في مورد توافقهما ليس لأجل الاستصحاب {بل من جهة لزوم العمل بالحجّة} الموجودة في المقام وهي الأمارة، ففي كلتا الصّورتين لا عمل بالاستصحاب.{لا يقال: نعم} صحيح ما ذكرتم من أنّه لو أخذنا بدليل الأمارة - المخالفة للحالة السّابقة - لم يكن من نقض اليقين بالشكّ، بل كان من نقض اليقين باليقين، لكن {هذا} إنّما يتمّ بعد إثبات مقدّمة، وهي أنّه يؤخذ بدليل الأمارة - يعني يجب أن نثبت أوّلاً وجوب الأخذ بدليل الأمارة ثمّ نرفع التنافي بين الأمارة والاستصحاب - .

ص: 225

لو أُخذ بدليل الأمارة في مورده، ولكنّه لم لا يؤخذ بدليله، ويلزم الأخذ بدليلها؟

فإنّه يقال: ذلك إنّما هو لأجل أنّه لا محذور في الأخذ بدليلها، بخلاف الأخذ بدليله، فإنّه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصّص إلّا على وجه دائر؛

___________________________________________

ولقائلٍ أن يقول: نأخذ بدليل الاستصحاب حتّى لا يرد إشكال أصلاً، فإنّه {لو أُخذ بدليل الأمارة في مورده} أي: مورد الاستصحاب، احتجنا إلى تجشّم هذا الجواب والجمع بينهما {ولكنّه لم لا يؤخذ بدليله} أي: بدليل الاستصحاب {و} لم {يلزم الأخذ بدليلها؟}

وإن شئت قلت: إنّ في المقام دليلين: دليل الاستصحاب، ودليل الأمارة، فما الّذي يلزمنا على الأخذ بدليل الأمارة دون دليل الاستصحاب؟

{فإنّه يقال}: إنّ في المقام دليلين متنافيين، فلو أخذنا بدليل الأمارة لا يلزم محذور، ولو أخذنا بدليل الاستصحاب يلزم محذور التخصيص بلا مخصّص، ولذا يجب الأخذ بما لا محذور فيه، ف- {ذلك} التقديم لدليل الأمارة {إنّما هو لأجل أنّه لا محذور في الأخذبدليلها} أي: دليل الأمارة {بخلاف الأخذ بدليله} أي: دليل الاستصحاب {فإنّه يستلزم تخصيص دليلها} أي: دليل الأمارة {بلا مخصّص إلّا على وجه دائر} فإنّه إذا أخذنا بالاستصحاب يلزم أحد أمرين: إمّا التخصيص بلا مخصّص، أو الدّور، إذ دليل الاستصحاب إمّا شامل لمورد الأمارة أو لا يشمل موردها، فعلى فرض عدم الشّمول يلزم تخصيص دليل الأمارة بلا مخصّص، وعلى فرض الشّمول يلزم الدور، غايته أنّ تخصيص دليل الاستصحاب لدليل الأمارة متوقّف على حجيّته بحيث يشمل مورد الأمارة، وحجيّته هكذا متوقّفة على تخصيص الاستصحاب لدليل الأمارة، وهو دور صريح.

أمّا المقدّمة الأُولى - وهي كون التخصيص متوقّفاً على حجيّة دليل الاستصحاب - فواضحة، إذ لولا حجيّة الاستصحاب لم يتمكّن من تخصيص دليل الأمارة.

ص: 226

إذ التخصيص به يتوقّف على اعتباره معها، واعتباره كذلك يتوقّف على التخصيص به؛ إذ لولاه لا مورد له معها، كما عرفت آنفاً.

وأمّا حديث الحكومة: فلا أصل له أصلاً؛ فإنّه لا نظر لدليلها إلى مدلول دليله

___________________________________________

وأمّا المقدّمة الثّانية - وهي أنّ حجيّة دليل الاستصحاب متوقّفة على تخصيصه لدليل الأمارة - فلأنّه لولا أن تخصّص دليل الأمارة تكون الأمارة يقينيّاً فيجب رفع اليد عن الاستصحاب بها، وذلك بخلاف رفع اليد عن دليل الاستصحاب بسبب دليل الأمارة، فإنّ الأمارة تحدث اليقين، فرفع اليد عن دليل الاستصحاب إنّما هو بارتفاع موضوع الاستصحاب الّذي هو الشّكّ في الحكم، فلا يلزم التخصيص بغير مخصّص، ولا يلزم الدور.

وإن شئت قلت: إنّ هذين الدليلين لا يجتمعان، فرفع اليد عن دليلالاستصحاب على القاعدة، إذ قال الدّليل: «بل انقضه بيقين آخر».

أمّا رفع اليد عن دليل الأمارة فهو دور {إذ التخصيص به} أي: بدليل الاستصحاب {يتوقّف على اعتباره} أي: اعتبار دليل الاستصحاب {معها} أي: مع الأمارة - حتّى يخصّص دليلها - {واعتباره} أي: دليل الاستصحاب {كذلك} أي: مع وجود الأمارة {يتوقّف على التخصيص به} أي: بالاستصحاب {إذ لولاه} أي: لولا التخصيص {لا مورد له} أي: للاستصحاب {معها} أي: مع الأمارة {كما عرفت آنفاً} من أنّه لولا تخصيصه لها لكانت الأمارة رافعة لموضوعه.

{وأمّا حديث الحكومة} وأنّ دليل الأمارة حاكمة على دليل الاستصحاب - كما يظهر من الشّيخ(1) - {فلا أصل له أصلاً، فإنّه لا نظر لدليلها} أي: دليل الأمارة {إلى مدلول دليله} أي: دليل الاستصحاب، فإنّ قول زرارة مثلاً: (العصير حرام) لا نظر له إلى الاستصحاب الجاري في حليّته، فالقولُ بأنّه حاكم عليه - إذ دليل

ص: 227


1- فرائد الأصول 3: 314.

إثباتاً، وبما هو مدلول الدليل، وإن كان دالّاً على إلغائه معها ثبوتاً وواقعاً؛ لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها، كما أنّ قضيّة دليله إلغاؤها كذلك؛ فإنّ كلّاً من الدليلين

___________________________________________

الاستصحاب يعتبر الشّكّ، و(صدّق العادل) الّذي هو دليل الأمارة يلغي الشّكّ ويقول: (ألغ احتمال الخلاف) - غيرُ تامٍّ، إذ دليل الأمارة إنّما يدلّ على مفادها{إثباتاً} في مقام الإثبات والدلالة {وبما هو مدلول الدليل} فمعنى (صدّق العادل): اتّبع قوله، وخذ بما قال، وليس فيه (ألغ احتمال الخلاف) حتّى يكون ناظراً إلى الأحكام الثابتة للشكّ في حال الأخذ باحتمال الخلاف - كدليل الاستصحاب - {وإن كان} دليل الأمارة {دالّاً على إلغائه} أي: إلغاء الاستصحاب {معها} أي: مع الأمارة {ثبوتاً وواقعاً} إذ العمل بالأمارة لازمه ترك العمل بما يخالفها {لمنافاة لزوم العمل بها} أي: بالأمارة {مع العمل به} أي: بالاستصحاب {لو كان} الاستصحاب {على خلافها} أي: خلاف الأمارة.

فتحصّل أنّ الحكومة عبارة عن نظر الحاكم إلى دليل المحكوم - من قبيل (لا شكّ لكثير الشّكّ)(1)

النّاظر إلى قوله: «إذا شككت فابن على الأكثر»(2)

- وليس ل- (صدّق العادل) نظر إلى دليل «لا تنقض اليقين بالشكّ» - في عالم الإثبات والدلالة - وإن كان لازم تصديق العادل عدم العمل بمفاد الاستصحاب الّذي هو على خلاف قول العادل.

{كما أنّ قضيّة} أي: مقتضى {دليله} أي: دليل الاستصحاب {إلغاؤها كذلك} أي: إلغاء الأمارة، فإنّ لازم العمل بالحالة السّابقة عدم العمل بمفاد الأمارة المخالفة لذلك، لكن ليس ذلك من باب الحكومة، بل من باب أنّ العمل بكلّ شيء لازمه ترك العمل بما يخالفه {فإنّ كلّاً من الدليلين} المتعارضين

ص: 228


1- راجع وسائل الشيعة 8: 227.
2- الفصول المهمة في أصول الأئمة 2: 115.

بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل، فيطرد كلّ منهما الآخر مع المخالفة، هذا.

مع لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة، ولا أظنّ أن يلتزم به القائل بالحكومة، فافهم، فإنّ المقام لا يخلو من دقّة.

وأمّا التوفيق: فإن كان بما ذكرنا فنعم الاتفاق، وإن كان بتخصيص دليله بدليلها فلا وجه له؛

___________________________________________

{بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل} فعلاً {فيطرد كلّ منهما الآخر مع المخالفة} بينهما، إذ لا يمكن العمل بالمخالفين.

{هذا مع} أنّه لو كان سبب تقديم الأمارة على الاستصحاب كونها حاكمة عليه لزم أن نقول باعتبار الاستصحاب والأمارة معاً في صورة التوافق بينهما، كما لو كان هناك استصحاب الحليّة ودليل على الحليّة، إذ لا يكون حينئذٍ منافاة حتّى تكون الأمارة طاردة لدليل الاستصحاب، فالقول بالحكومة غير تامّ، ل- {لزوم اعتباره} أي: الاستصحاب {معها} أي: مع الأمارة {في صورة الموافقة} بينهما {ولا أظنّ أن يلتزم به} أي: باعتبارهما معاً {القائل بالحكومة} إذ لا مجال للاستصحاب مع الأمارة إطلاقاً {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ الحكومة آتية حتّى مع الموافقة، إذ لو كان دليل الأمارة ناظراً لم يكن فرق بين صورتي المخالفة والموافقة، فتأمّل {فإنّ المقام لا يخلو من دقّة} وبهذا كلّه تحقّق أنّ دليل الأمارة وارد لا أنّه حاكم.

{وأمّا} الجمع بين الدليلين ب- {التوفيق} بكون دليل الأمارة أظهر من دليل الاستصحاب {فإن كان} مراد القائل {ب-} -ه {ماذكرنا} من الورود {فنعم الاتفاق} بيننا وبينه {وإن كان} مراده {بتخصيص دليله} أي: دليل الاستصحاب {بدليلها} أي: بدليل الأمارة {فلا وجه له} إذ يلزم في التخصيص بقاء الموضوع مع الخروج عن الحكم نحو (أكرم العلماء ولا تكرم زيداً) فإنّ زيداً موضوعاً

ص: 229

لما عرفت من أنّه لا يكون مع الأخذ به نقض يقين بشكّ، لا أنّه غير منهيّ عنه مع كونه من نقض اليقين بالشكّ.

خاتمة: لا بأس ببيان النّسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول العمليّة؛ وبيان التعارض بين الاستصحابين:

___________________________________________

عالم لكنّه خارج عن حكم العلماء وهو وجوب الإكرام، وليس ما نحن فيه كذلك، إذ دليل الاستصحاب لا يشمل مورد الأمارة أصلاً، فإنّه نقض اليقين باليقين الحاصل من الأمارة، لا أنّه نقض اليقين بالشكّ حتّى يكون من أفراد الاستصحاب {لما عرفت من أنّه لا يكون مع الأخذ به} أي: بدليل الأمارة {نقض يقين بشكّ} أصلاً، فلا موضوع للاستصحاب {لا أنّه غير منهيّ عنه مع كونه من نقض اليقين بالشكّ} حتّى يكون نقضاً غير منهيّ عنه فيصحّ تسميته تخصيصاً، وإن كان مراد القائل بالتوفيق الجمع العرفي، كما هو بين الظّاهر والأظهر - وإن لم يكن وروداً أو حكومة أو تخصيصاً - ففيه أنّه لا تصل النّوبة إلى ذلك مادام يمكن أحد الثلاثة.

[خاتمة تعارض الاستصحابين]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، فصل في الاستصحاب، تعارض الاستصحابين

{خاتمة: لا بأس ببيان النّسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول العمليّة} وأنّه لو كان فيالمقام احتياط أو براءة أو تخيير، عقليّةً كانت أو شرعيّةً، وكان استصحاب، فهل يقدّم الاستصحاب عليها أو تقدّم تلك على الاستصحاب؟ {وبيان التعارض بين الاستصحابين} وأنّ أيّهما يقدّم على الآخر، كما لو غسل يده في الماء المشكوك الكريّة مع كون الماء سابقاً كرّاً، فاستصحاب نجاسة اليد يقول بالنجاسة، واستصحاب كريّة الماء يقتضي الطّهارة، فهل يقدّم ذلك الاستصحاب أم هذا؟

ص: 230

أمّا الأوّل: فالنسبة بينه وبينها هي بعينها النّسبة بين الأمارة وبينه، فيقدّم عليها، ولا مورد معه لها؛ للزوم محذور التخصيص إلّا بوجه دائر في العكس، وعدم محذور فيه أصلاً،

___________________________________________

{أمّا الأوّل} وهو النّسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول {فالنسبة بينه} أي: بين الاستصحاب {وبينها} أي: بين سائر الأصول {هي بعينها النّسبة بين الأمارة وبينه} أي: بين الاستصحاب {ف-} كما أنّ الأمارة تقدّم على الاستصحاب كذلك الاستصحاب {يقدّم عليها} أي: على سائر الأصول {ولا مورد معه} أي: مع وجود الاستصحاب {لها} أي: لسائر الأصول، فلو كان لشيء سابق الحرمة كان اللّازم استصحاب حرمته ولا مورد للتمسّك بأصالة الحلّ، كما أنّه لو دار أمر شيء بين الوجوب والتحريم وكان سابقاً واجباً لم يبق مورد للتخيير وحكم بوجوبه، كما أنّه لو تردّد الوجوب بين شيئين وكان أحدهما واجباً سابقاً كان مقتضى الاستصحاب ولم يبق مورد للاحتياط.

وإنّما يكون المورد للاستصحاب {للزوم محذور التخصيصإلّا بوجه دائر في العكس} أي: في تقديم الأصول على الاستصحاب {وعدم محذور فيه} أي: في تقديم الاستصحاب عليها {أصلاً} وتقرير المحذور - كما تقدّم في الاستصحاب والأمارة - وبيانه:

أمّا عدم المحذور في تقديم الاستصحاب؛ فلأنّ الأصول الأُخر قد أُخذ في موضوعها الجهل والاستصحاب رافع للجهل.

فمثلاً: «كلّ شيء حلال» يقول: ما لم تعلم أنّه حلال أو حرام فهو حلال، ودليل الاستصحاب يقول: إنّك تعلم أنّه حرام؛ لأنّ الشّارع حكم بجرّ الحالة السّابقة وهي الحرمة. مثلاً - إلى هذا الحال، وكذا «أخوك دينك» يقول: احتط في ما لا تعلم من الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، ودليل الاستصحاب يقول:

ص: 231

هذا في النّقليّة منها.

وأمّا العقليّة: فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها؛ بداهة عدم الموضوع معه لها؛ ضرورة أنّه إتمام حجّة وبيان، ومؤمّن من العقوبة وبه الأمان، ولا شبهة في أنّ الترجيح به عقلاً صحيح.

___________________________________________

لا شبهة لك؛ لأنّ الشّارع أمر بجرّ الحالة السّابقة إلى هنا، وكذا «إذن فتخيّر» يقول: إن شئت فعلت وإن شئت تركت في الدوران بين المحذورين، ودليل الاستصحاب يقول: لا دوران، إذ الحالة السّابقة باقية تعبّداً.

وأمّا المحذور في تقديم سائر الأصول، فإنّ فيه محذور تخصيص دليل الاستصحاب بلا مخصّص، إذ تخصيص دليل الاستصحاب بدليل الأمارة متوقّف على حجيّة دليل الأمارة حتّى في حال الاستصحاب، وحجيّته كذلك موقوفة على تخصيص دليل الأمارة - كما سبق تقريره - .

{هذا} كلّه {في النّقليّة منها} أي: من الأصول العمليّة{وأمّا} الأصول {العقليّة} وهي البراءة العقليّة لقبح العقاب بلا بيان، والاحتياط العقلي لوجوب الإطاعة، والتخيير العقلي لعدم إمكان الجمع بين المحذورين {فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه} أي: الاستصحاب {عليها} أي: على هذه الأصول العقليّة {بداهة عدم الموضوع معه} أي: مع الاستصحاب {لها} أي: للأُصول العقليّة.

{ضرورة أنّه} أي: الاستصحاب {إتمام حجّة وبيان} فلو قام على ثبوت التكليف يكون الشّارع قد بيّن الحكم، فلا مجال للبراءة العقليّة القائلة بقبح العقاب بلا بيان {ومؤمّن من العقوبة وبه الأمان} فلو قام على نفي التكليف لم يبق مجال للاشتغال العقلي والاحتياط القائل بأنّ التكليف يحتاج إلى الامتثال وإلّا لم يؤمّن العقوبة {ولا شبهة في أنّ الترجيح به} أي: بالاستصحاب {عقلاً صحيح} فلو قام على ثبوت حكم أو نفيه لم يبق مجال للتخيير الّذي يكون مقوّمه العلم

ص: 232

وأمّا الثّاني: فالتعارض بين الاستصحابين:

إن كان لعدم إمكان العمل بهما، بدون علم بانتقاض الحالة السّابقة في أحدهما - كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما التضادّ في زمان الاستصحاب - فهو من باب تزاحم الواجبين.

___________________________________________

بأحد المحذورين من دون تعيين.

{وأمّا الثّاني} وهو التعارض بين الاستصحابين {ف-} هو على أقسام أربعة:

لأنّه إمّا أن يكون بينهما تزاحم، وإمّا أن يكون تعارض، والثّاني إمّا أن يكون أحدهما مسبّباً عن الآخر أم لا، والثّاني إمّا أن يلزم من إجرائهما محذورالمخالفة القطعيّة أم لا.

فالأوّلى: أن يكون بينهما تزاحم.

والثّاني: أن يكون بينهما تعارض مع كون أحدهما من آثار الآخر.

والثّالث: أن يكون بينهما تعارض بدون أن يكون أحدهما من آثار الآخر ولكن لزم من إجرائهما المخالفة القطعيّة.

والرّابع: هو الثّالث بدون أن يلزم مخالفة قطعيّة.

إذا عرفت ذلك قلنا: {التعارض بين الاستصحابين إن كان لعدم إمكان العمل بهما بدون علم بانتقاض الحالة السّابقة في أحدهما} كما لو وقع نفران في الماء وكانا سابقاً واجبي الإنقاذ وشككت في وجوب إنقاذهما فعلاً لاحتمال كفرهما قبل أن يغرقا فإنّه يجري الاستصحاب فيهما ويجب إنقاذهما، لكن إذا لم يقدر إلّا من إنقاذ أحدهما صار التزاحم بينهما، فهو {كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما التضادّ في زمان الاستصحاب} لأنّهما وقعا في الماء في الحال {فهو من باب تزاحم الواجبين}.

وفي تعليق المصنّف(رحمة الله): «فيتخيّر بينهما إن لم يكن أحد المستصحبين أهمّ،

ص: 233

وإن كان مع العلم بانتقاض الحالة السّابقة في أحدهما:

فتارةً يكون المستصحب في أحدهما من الآثار الشّرعيّة للمستصحب الآخر، فيكون الشّكّ فيه مسبّباً عن الشّكّ فيه، كالشكّ في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطّهارة وقد كان طاهراً، وأُخرى لا يكون كذلك.

___________________________________________

وإلّا فتعيّن الأخذ بالأهم، ولا مجال لتوهّم أنّه لا يكاد يكون هناك أهمّ، لأجل أنّ إيجابهما إنّما يكون من باب واحد - وهو استصحابهما - من دون مزيّة في أحدهما أصلاً، كما لا يخفى، وذلك لأنّ الاستصحاب إنّما يتّبع المستصحب، فكما يثبت به الوجوب والاستصحاب، يثبت به كلّ مرتبة منهما، فتستصحب فلا تغفل»(1)،

انتهى.

{وإن كان} التعارض بين الاستصحابين {مع العلم بانتقاض الحالة السّابقة في أحدهما}:

{فتارةً يكون المستصحب في أحدهما من الآثار الشّرعيّة للمستصحب الآخر} كما لو علم بنجاسة الثوب وطهارة الماء القليل الّذي غسل ذلك الثوب، فإنّ الطّهارة في الثوب من الآثار الشّرعيّة لطهارة الماء {فيكون الشّكّ فيه} أي: في المستصحب الأوّل - وهو المسبّب - {مسبّباً عن الشّكّ فيه} أي: في المستصحب الثّاني - وهو السّبب - {كالشكّ في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطّهارة وقد كان} الماء سابقاً {طاهراً} فإنّ شكّنا حينئذٍ في طهارة الثوب ناشٍ عن شكّنا في طهارة الماء، إذ لو كان الماء طاهراً لم نشكّ في طهارة الثوب ولو كان الماء نجساً لم نشكّ في بقاء نجاسة الثوب، فهنا استصحابان: استصحاب طهارة الماء واستصحاب نجاسة الثوب، لكن الثّاني مسبّب عن الأوّل.

{وأُخرى لا يكون} المستصحب في أحدهما {كذلك} أي: من الآثار الشّرعيّة

ص: 234


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 5: 16.

فإن كان أحدهما أثراً للآخر، فلا مورد إلّا للاستصحاب في طرف السّبب؛ فإنّالاستصحاب في طرف المسبّب موجب لتخصيص الخطاب، وجواز نقض اليقين بالشكّ في طرف السّبب بعدم ترتيب أثره الشّرعي، فإنّ من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته، بخلاف استصحاب طهارته؛ إذ لا يلزم منه

___________________________________________

لمستصحب آخر، وسيأتي أنّ هذا القسم ينقسم إلى ما يستلزم جريانهما المخالفه القطعيّة وما لا يستلزم ذلك {فإن كان أحدهما أثراً للآخر فلا مورد إلّا للاستصحاب في طرف السّبب} فيجري استصحاب طهارة الماء ويحكم به بطهارة الثوب المغسول فيه، ولا يجري استصحاب نجاسة الثوب {فإنّ الاستصحاب في طرف المسبّب موجب لتخصيص الخطاب وجواز نقض اليقين بالشكّ في طرف السّبب بعدم ترتيب أثره الشّرعي} فلو أجرينا استصحاب نجاسة الثوب كان لازمه أن نرفع اليد عن «لا تنقض» في طرف طهارة الماء، إذ لو كان الماء طاهراً لم يبق وجه لنجاسة الثوب، وذلك بخلاف ما لو أجرينا استصحاب طهارة الماء وقلنا بطهارة الثوب، فإنّه لم نستصحب النّجاسة في الثوب لعدم تماميّة أركان الاستصحاب فيه، لا أنّا تركنا الاستصحاب في النّجاسة اعتباطاً، وذلك لأنّ رفع اليد عن نجاسة الثوب ليس من نقض اليقين بالنجاسة بالشكّ فيها حتّى يمتنع، بل هو من نقض اليقين باليقين؛ لأنّ الحكم بطهارة الماء يوجب اليقين بطهارة الثوب - ظاهراً - فرفع اليد عن النّجاسة إنّما هو باليقين، ويكون ذلك مشمول ذيل الخطاب حيث قال: «ولكن أنقضه بيقين آخر» {فإنّ من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته} لأنّ الشّارع رتّب هذا الأثر على الطّهارة {فاستصحابنجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته} أي: طهارة الماء {بخلاف استصحاب طهارته} المستلزم لطهارة الثوب {إذ لا يلزم منه} أي: من استصحاب

ص: 235

نقض يقين بنجاسة الثوب بالشكّ، بل باليقين بما هو رافع لنجاسته، وهو غَسله بالماء المحكوم شرعاً بطهارته.

وبالجملة: فكلّ من السّبب والمسبّب وإن كان مورداً للاستصحاب، إلّا أنّ الاستصحاب في الأوّل بلا محذور، بخلافه في الثّاني، ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلّا بنحو محال،

___________________________________________

طهارة الماء {نقض يقين بنجاسة الثوب بالشكّ، بل} قد نقضنا يقيننا بنجاسة الثوب {باليقين بما هو رافع لنجاسته وهو} أي: ما هو رافع لنجاسته {غسله بالماء المحكوم شرعاً بطهارته} فكما يرفع اليد عن النّجاسة باليقين الخارجي وبالأمارة، كذلك يرفع اليد عنها بما حكم الشّارع بأنّه طاهر ولو كان بالاستصحاب.

{وبالجملة فكلّ من السّبب} وهو طهارة الماء {والمسبّب} وهو نجاسة الثوب {وإن كان مورداً للاستصحاب} لتماميّة أركانه فيه {إلّا أنّ الاستصحاب في الأوّل} الّذي هو السّبب {بلا محذور، بخلافه} أي: الاستصحاب {في الثّاني} الّذي هو المسبّب {ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلّا بنحو محال} إذ التخصيص بجريان استصحاب النّجاسة موقوف على اعتبار الشّارع إيّاه في حال جريان استصحاب طهارة الماء، واعتبار الشّارع إيّاه موقوف على التخصيص - كما تقدّمبيانه سابقاً - .

وقد علّق المصنّف هنا بقوله: «وسرّ ذلك أنّ رفع اليد عن اليقين في مورد السّبب يكون فرداً لخطاب «لا تنقض اليقين» ونقضاً لليقين بالشكّ مطلقاً بلا شكّ، بخلاف رفع اليد عن اليقين في مورد المسبّب، فإنّه إنّما يكون فرداً له إذا لم يكن حكم حرمة النّقض يعمّ النّقض في مورد السّبب، وإلّا لم يكن بفرد له، إذ حينئذٍ يكون من نقض اليقين باليقين، ضرورة أنّه يكون رفع اليد عن نجاسة الثوب - المغسول بماء محكوم بالطهارة شرعاً، باستصحاب طهارته - لليقين بأنّ

ص: 236

فاللّازم الأخذ بالاستصحاب السّببي.

نعم، لو لم يجر هذا الاستصحاب بوجه لكان الاستصحاب المسبّبي جارياً، فإنّه لا محذور فيه حينئذٍ مع وجود أركانه وعموم خطابه.

___________________________________________

كلّ ثوب نجس يغسل بماء كذلك يصير طاهراً شرعاً.

وبالجملة: من الواضح - لمن له أدنى تأمّلٍ - أنّ اللّازم - في كلّ مقامٍ كان للعام فردٌ مطلقٌ، وفردٌ كان فرديّته له معلّقة على عدم شمول حكمه لذاك الفرد المطلق، كما في المقام، أو كان هناك عامّان كان لأحدهما فرد مطلق، وللآخر فردٌ كانت فرديّته معلّقة على عدم شمول حكم ذاك العامّ لفرده المطلق، كما هو الحال في الطّرق في مورد الاستصحاب - هو الالتزام بشمول حكم العامّ للفرد المطلق، حيث لا مخصّص له، ومعه لا يكون فرد آخر يعمّه أو لا يعمّه، ولا مجال لأن يلتزم بعدم شمول حكم العامّ للفرد المطلق، ليشمل حكمه لهذا الفرد، فإنّه يستلزم التخصيص بلا وجه، أو بوجه دائر، كما لا يخفى على ذوي البصائر»(1)،

انتهى.

{فاللّازم الأخذ بالاستصحاب السّببي} وهواستصحاب طهارة الماء ليحكم بطهارة الثوب المغسول به.

{نعم، لو لم يجر هذا الاستصحاب} السّببي {بوجه} أصلاً، كما لو كان معارضاً، مثل أنّه كان هناك ماءان طاهران ثمّ تنجّس أحدهما إجمالاً، فإنّه لا يجري استصحاب الطّهارة في أحد الماءين، وحينئذٍ لو غسل ثوب بأحدهما كان استصحاب النّجاسة - في المسبّب - محكماً، إذ لا أصل في الماء حاكم عليه {لكان الاستصحاب المسبّبي جارياً، فإنّه لا محذور فيه حينئذٍ} أي: حين لم يجر الاستصحاب السّببي {مع وجود أركانه} أي: أركان الاستصحاب المسبّبي {وعموم خطابه} أي: خطاب «لا تنقض» للمسبّبي.

ص: 237


1- راجع كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 5: 20.

وإن لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار للآخر، فالأظهر جريانهما في ما لم يلزم منه محذور المخالفة القطعيّة للتكليف الفعلي المعلوم إجمالاً؛

___________________________________________

وإلى هنا قد بيّن قسمين من أقسام التعارض الأربعة، وهما: التزاحم بين الاستصحابين، والتعارض إذا كان بينهما سببيّة ومسببيّة {وإن لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار للأُخر} بأن كان هناك استصحابان متعارضان بدون سببيّة بينهما {فالأظهر جريانهما في ما لم يلزم منه} أي: من جريانهما {محذور المخالفة القطعيّة للتكليف الفعلي المعلوم إجمالاً} كما لو دار الأمر بين الفعل والترك، فإنّه يجوز استصحاب عدم الحرمة واستصحاب عدم الوجوب، وبين هذين الاستصحابين تعارض لوضوح أنّ الشّيء المردّد في الواقع إمّا واجب أو حرام، لكنّه حيث لميلزم مخالفة عمليّة من إجراء هذين الاستصحابين، إذ المكلّف لا يخرج عن كونه فاعلاً أو تاركاً - بالاضطرار - لم يكن بأس في إجرائهما، لكنّه ربّما يقال بعدم جواز إجراء الاستصحابين لأُمور ثلاثة:

الأوّل: لزوم المخالفة الالتزاميّة، إذ لازم جريانهما جواز الالتزام بكونه ليس بحرام ولا بواجب، والمخالفة الالتزاميّة لا تجوز.

والجواب: أنّه لا دليل لنا على لزوم الموافقة الالتزاميّة في الواجبات وحرمة المخالفة الالتزاميّة في التكاليف، وإلّا لزم أن يكون لكلّ واجب ثوابان الموافقة العمليّة والموافقة الالتزاميّة، وكذا لكلّ فعل محرّم عقابان عقاب المخالفة العمليّة وعقاب المخالفة الالتزاميّة، وهو خلاف البديهة.

الثّاني: أنّ جريان الاستصحابين متناقض للعلم، إذ علمنا الإجمالي بأنّ هذا حرام أو واجب مناقض لاستصحاب عدم الحرمة وعدم الوجوب، ولا يمكن التعبّد بما يعلم خلافه.

الثّالث: أنّه يلزم من شمول الدليل للاستصحابين التناقض في أطراف الدليل،

ص: 238

لوجود المقتضي إثباتاً، وفقد المانع عقلاً:

أمّا وجود المقتضي: فلإطلاق الخطاب وشموله للاستصحاب في أطراف المعلوم بالإجمال؛ فإنّ قوله(علیه السلام) - في ذيل بعض أخبار الباب - : «ولكن تنقض اليقين باليقين»(1)

لو سُلّم أنّه يمنع عن شمول قوله(علیه السلام) - في صدره - : «لا ينقض اليقين بالشكّ» لليقين والشّكّ في أطرافه؛ للزوم المناقضة في مدلوله؛

___________________________________________

إذ قوله(علیه السلام): «لا ينقض اليقين بالشكّ»(2) مقتضاه عدم نقض عدم الحرمة وعدم الوجوب المعلومين بالشكّ فيها، وقوله(علیه السلام) في ذيل الحديث: «ولكن ينقضه بيقين آخر» موجب للنقض وعدم استصحابهما، إذ قد علم وتيقّن بخلاف الحالة السّابقة إجمالاً.

والجواب: أنّ كلّ أحاديث الاستصحاب ليست مذيّلة بهذا الذيل، فما له هذا الذيل لا نقول بشموله للمقام، أمّا ما ليس له ذيل فلا مانع عن شموله للمقام.

فكلّ استصحابين متعارضين لم يلزم منهما مخالفة عمليّة لا بأس بإجرائهما {لوجود المقتضي إثباتاً} أي: في عالم الدليل واللفظ {وفقد المانع عقلاً} وشرعاً: {أمّا وجود المقتضي فلإطلاق الخطاب} أي: خطاب «لا تنقض» {وشموله} أي: الخطاب {للاستصحاب في أطراف المعلوم بالإجمال} الّذي علم إجمالاً بأنّه إمّا واجب أو حرام.

{فإنّ قوله(علیه السلام) في ذيل بعض أخبار الباب: «ولكن تنقض اليقين باليقين» لو سلّم أنّه} أي: هذا الذيل {يمنع عن شمول قوله(علیه السلام) في صدره} أي: صدر ذلك البعض من الأخبار {«لا ينقض اليقين بالشكّ» لليقين والشّكّ في أطرافه} أي: في أطراف المعلوم إجمالاً {للزوم المناقضة في مدلوله} أي: مدلول ذلك الخبر، لما تقدّم في

ص: 239


1- وسائل الشيعة 2: 356، وفيه: «وإنما تنقضه بيقين آخر».
2- تهذيب الأحكام 1: 8.

ضرورة المناقضة بين السّلب الكلّي والإيجاب الجزئي، إلّا أنّه لا يمنع عن عموم النّهي في سائر الأخبار - ممّا ليس فيهالذّيل -

___________________________________________

الإشكال الثّالث من أنّ الصّدر يقتضي الاستصحاب والذيل يقتضي عدم الاستصحاب.

{ضرورة المناقضة بين السّلب الكلّي} الّذي اقتضاه الاستصحابان، فإنّهما يقتضيان سلب التكليف إطلاقاً {والإيجاب الجزئي} الّذي اقتضاه العلم بوجود أحد الحكمين، والسّلب الكلّي مقتضى الصّدر والإيجاب الجزئي مقتضى الذيل.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال ليس مختصّاً بهذا المقام - أي: دوران الأمر بين المحذورين - بل هو جارٍ في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً.

فمثلاً: لا يجري الاستصحاب في الإناءين الطّاهرين - سابقاً - اللّذين علم بنجاسة أحدهما، فشمول «لا تنقض اليقين» لكلّ طرفٍ مناقضٌ لشمول «ولكن انقضه» للمقام، حيث علم إجمالاً بنجاسة أحدهما وإذا لزم من شمول «لا تنقض» للأطراف المناقضة في مدلول الحديث وجب القول بعدم الشّمول لئلّا يلزم التناقض المحال، وإنّما قال: «لو سلم» لأنّ المصنّف لا يسلّم المناقضة بينهما لما ذكره في الحاشية من أنّ الذيل ليس وارداً في مقام البيان، وحينئذٍ لا يستفاد منه الإطلاق بالنسبة إلى العلم الإجمالي؛ لأنّ لفظ اليقين من المطلقات بخلاف الصّدر فإنّه في مقام البيان فيستفاد منه الشّمول لكلّ يقين، ولو فرض العلم الإجمالي على خلافه، انتهى.

وكيف كان فلو سلّمنا عدم شمول هذا الخبر لأطراف العلم الإجمالي للزوم المناقضة {إلّا أنّه لا يمنع عن عموم النّهي} في «لا تنقض» {في سائر الأخبار} الواردة لإفادة الاستصحاب {ممّا ليس فيه الذيل} إذ كلّ أخبار الباب ليست مذيّلة

ص: 240

وشموله لما في أطرافه؛ فإنّ إجمال ذاك الخطاب لذلك لا يكاد يسري إلى غيره ممّا ليس فيه ذلك.

وأمّا فقد المانع: فلأجل أنّ جريان الاستصحاب في الأطراف لا يوجب إلّا المخالفة الالتزاميّة، وهو ليس بمحذور، لا شرعاً ولا عقلاً.

ومنه قد انقدح: عدم جريانه في

___________________________________________

بهذا الذيل {و} عن {شموله} أي: شمول النّهي {لما في أطرافه} أي: أطراف العلم الإجمالي {فإنّ إجمال ذاك الخطاب} المذيّل {لذلك} الّذي ذكرناه من لزومه المناقضة {لا يكاد يسري إلى غيره} من سائر أحاديث الاستصحاب {ممّا ليس فيه ذلك} الذيل.

{وأمّا فقد المانع} لجريان الاستصحاب في أطراف المعلوم بالإجمال إذا لم يلزم مخالفة قطعيّة {فلأجل أنّ جريان الاستصحاب في الأطراف} للعلم {لا يوجب إلّا المخالفة الالتزاميّة} لأنّ لازم عدم وجوبه وعدم حرمته الالتزام بأنّه مباح، وهو مخالف للعلم إجمالاً، بأنّه إمّا واجب وإمّا حرام.

{وهو} أي: الالتزام بما هو مخالف للعلم، وبعبارة أُخرى: المخالفة الالتزاميّة {ليس بمحذور لا شرعاً ولا عقلاً} إذ المخالفة العمليّة فيها المحذور دون الالتزاميّة، لما عرفت.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا في القسم الثّالث من أقسام تعارض الاستصحابين - وهو ما لم يلزم منه مخالفة عمليّة - {قد انقدح عدم جريانه} أي: الاستصحاب {في} القسم الرّابع الّذي يلزم منه مخالفة عمليّة، كما لو علمسابقاً بطهارة الإناءين ثمّ علم بنجاسة أحدهما، فإنّه لا يجري الاستصحاب في أحدهما لاستلزامه المخالفة الاحتماليّة، ولا في كليهما لاستلزامه المخالفة القطعيّة.

وقد سبق في مبحث العلم الإجمالي من عدم جواز المخالفة العمليّة الاحتماليّة

ص: 241

أطراف العلم بالتكليف فعلاً أصلاً، ولو في بعضها؛ لوجوب الموافقة القطعيّة له عقلاً، ففي جريانه لا محالة يكون محذور المخالفة القطعيّة أو الاحتماليّة، كما لا يخفى.

تذنيب لا يخفى: أنّ مثل قاعدة التجاوز في حال الاشتغال بالعمل،

___________________________________________

والمخالفة العمليّة القطعيّة، فلا يجري الاستصحاب في {أطراف العلم بالتكليف فعلاً أصلاً} أي: ما علمنا بتكليف فعليّ فيه {ولو في بعضها} أي: بعض الأطراف {لوجوب الموافقة القطعيّة له} أي: للعلم بالتكليف {عقلاً} لإلزام العقل بإطاعة المولى الّتي لا تتحقّق إلّا بالموافقة القطعيّة {ففي جريانه} أي: الاستصحاب {لا محالة يكون محذور المخالفة القطعيّة} إذا جرى في جميع الأطراف {أو الاحتماليّة} إذا جرى في بعضها {كما لا يخفى}.

فتحقّق أنّ في قسم من الأقسام الأربعة يجري الاستصحاب في كليهما - وهو صورة دوران الأمر بين المحذورين - وفي قسم لا يجري في كليهما - وهو صورة العلم بتكليف فعليّ - وفي قسم يجري في أحدهما - وهو السّببي والمسبّبي - وفي قسم يتخيّر بينهما - وهو صورة التزاحم - .

[تذنيب النسبة بين الاستصحاب والقواعد]

المقصد السابع: في الأصول العمليّة، فصل في الاستصحاب، تذنيب{تذنيب} في بيان النّسبة بين الاستصحاب وبين قاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصّحّة والقرعة وما أشبهها.

{لا يخفى أنّ مثل قاعدة التجاوز في حال الاشتغال بالعمل} وهي قاعدة تقتضي بأن نحكم بإتيان الشّيء المشكوك إذا جاوزناه إلى غيره، كما أنّه لو شكّ في القراءة بعد الدخول في الرّكوع، أو شكّ في الرّكوع بعد الدخول في السّجود، وهكذا المستفادة من عدّة روايات، منها قوله(علیه السلام): «إذا خرجت من شيء ثمّ

ص: 242

وقاعدة الفراغ بعد الفراغ عنه، وأصالة صحّة عمل الغير... إلى غير ذلك من القواعد المقرّرة في الشّبهات الموضوعيّة - إلّا القرعة - تكون مقدّمة على استصحاباتها المقتضية لفساد ما شكّ فيه من الموضوعات؛ لتخصيص دليله بأدلّتها.

___________________________________________

دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء»(1)، وقوله(علیه السلام): «إنّما الشّكّ إذا كنت في شيء لم تجزه»(2).

{وقاعدة الفراغ بعد الفراغ عنه} أي: عن العمل، كما لو شكّ في أنّه صلّى ثلاثاً أم أربعاً بعد الخروج من الصّلاة، أو أتى بالغسل صحيحاً أو فاسداً بعد الفراغ منه، وهكذا المستفاد من قوله(علیه السلام): «كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه»(3).

{وأصالة صحّة عمل الغير} كما لو شكّ في أنّ ذبح هذاالشّخص كان صحيحاً أم لا؟ وغسله للميّت كان صحيحاً أم لا؟ وهكذا المستفادة من قوله(علیه السلام): «ضع أمر أخيك على أحسنه»(4) {إلى غير ذلك من القواعد المقرّرة في الشّبهات الموضوعيّة} كقاعدة اليد، وقاعدة السّوق للمسلمين، وقاعدة أرض المسلمين وغيرها {إلّا القرعة} الّتي يأتي الكلام حولها {تكون مقدّمة على استصحاباتها} فاستصحاب عدم الإتيان بالقراءة، وعدم الإتيان بالركعة الرّابعة، وعدم اجتماع شرائط الذبح، وعدم كون هذا الشّيء ملكاً لذي اليد وهكذا لا يجري، بل تجري القواعد المذكورة، فإنّ الاستصحابات {المقتضية لفساد ما شكّ فيه من الموضوعات} أو لوجوب ترتيب أثرٍ عليها لا تجري في موارد القواعد المذكورة {لتخصيص دليله} أي: دليل الاستصحاب {بأدلّتها} أي: أدلّة هذه القواعد.

ص: 243


1- تهذيب الأحكام 2: 352.
2- تهذيب الأحكام 1: 101.
3- تهذيب الأحكام 2: 344.
4- وسائل الشيعة 12: 302.

وكون النّسبة بينه وبين بعضها عموماً من وجه، لا يمنعُ عن تخصيصه بها بعد الإجماع على عدم التفصيل بين مواردها، مع لزوم قلّة الموارد لها

___________________________________________

فمثلاً: قاعدة التجاوز تحكم بإتيان ما شكّ فيه والاستصحاب يحكم بالعدم، ومن المعلوم أنّ الاستصحاب أعمّ؛ لأنّه يجري في كلّ مورد، سواء كان من موارد التجاوز أم لا، بخلاف التجاوز فإنّ لها موارد خاصّة، ومن المعلوم أنّ الخاصّ مقدّم على العام.

{و} إن قلت: هذا صحيح بالنسبة إلى القواعد الّتي هي أخصّ من الاستصحاب، لكنّه لا يصحّ بالنسبة إلى ما تكون النّسبة بينها وبين الاستصحابعموماً من وجه كأصل الصّحّة، فإنّ بعض موارد الاستصحاب ليس مورد أصل الصّحّة، كاستصحاب عدم البلوغ، وبعض موارد الاستصحاب مورد أصل الصّحّة، كاستصحاب عدم إتيان الأجير بما يخلّ بالصلاة أو بالحجّ في ما شكّ في أنّه هل جاء بشيء زائد مفسد أم لا؟ وبعض موارد أصالة الصّحّة ليس مورداً للاستصحاب، كما لو شكّ في أنّ المخلّ الّذي وقع منه في حال الصّلاة هل هو مبطل كنقص الرّكوع أم لا كنقص القراءة؟ فإنّ أصالة الصّحّة حاكمة بصحّة الصّلاة مع عدم جريان الاستصحاب للتعارض - فتأمّل - فلم تقدّم على الاستصحاب؟!

قلت: {كون النّسبة بينه} أي: بين الاستصحاب {وبين بعضها عموماً من وجه} كالمثال {لا يمنع عن تخصيصه} أي: تخصيص الاستصحاب {بها} أي: بتلك القاعدة {بعد الإجماع على عدم التفصيل بين مواردها} فإنّ الإجماع قام على أنّ هذه الأصول مقدّمة على الاستصحاب، من غير فصل بين ما كان منها أخصّ مطلقاً من الاستصحاب، وما كان منها أخصّ من وجه من الاستصحاب.

{مع} أنّ لنا أن نجيب بجواب آخر، وهو {لزوم قلّة الموارد لها} أي: لهذه

ص: 244

جدّاً، لو قيل بتخصيصها بدليلها؛ إذ قلّ مورد منها لم يكن هناك استصحاب على خلافها، كما لا يخفى.

وأمّا القرعة: فالاستصحاب في موردها يقدّم عليها؛ لأخصيّة دليله من دليلها؛ لاعتبار سبق الحالة السّابقة فيه دونها.

واختصاصُها بغير الأحكام إجماعاً، لا يوجب الخصوصيّة في دليلها بعد عموم لفظهالها،

___________________________________________

الأصول {جدّاً لو قيل بتخصيصها بدليلها، إذ قلّ مورد منها لم يكن هناك استصحاب على خلافها} فيبعد أن يكون الشّارع أطلق القاعدة لتلك الموارد القليلة جدّاً {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

هذا كلّه في النّسبة بين الاستصحاب وبين القواعد المذكورة {وأمّا القرعة} بأن كان هناك أمر مشتبه كان مقتضى الاستصحاب فيه شيئاً {ف-} هل يستصحب من دون إقراع أو يقرع ولا يستصحب؟ لا إشكال في أنّ {الاستصحاب في موردها} أي: مورد القرعة {يقدّم عليها لأخصيّة دليله} أي: دليل الاستصحاب {من دليلها لاعتبار سبق الحالة السّابقة فيه} أي: في الاستصحاب {دونها} أي: دون القرعة.

{و} إن قلت: بينهما عموم من وجه؛ لأنّ القرعة أخصّ من حيث جريانها في الموضوعات فقط، وأعمّ من حيث وجود الحالة السّابقة لها أم لا، والاستصحاب بالعكس، فهو أعمّ من حيث الأحكام والموضوعات، وأخصّ من حيث لزوم الحالة السّابقة له، ففي الموضوع مع الحالة السّابقة يجتمعان، وتختصّ القرعة بالموضوع ممّا ليس له حالة سابقة، ويختصّ الاستصحاب بالحكم الّذي له حالة سابقة.

قلت: {اختصاصها} أي: القرعة {بغير الأحكام إجماعاً} فلا تجري إلّا في الموضوعات {لا يوجب الخصوصيّة في دليلها} أي: دليل القرعة حتّى يكون أخصّ من دليل الاستصحاب {بعدم عموم لفظها} أي: لفظ القرعة {لها} أي: للأحكام.

ص: 245

هذا.

مضافاً إلى وهن دليلها بكثرة تخصيصه،حتّى صار العمل به في مورد محتاجاً إلى الجبر بعمل المعظم - كما قيل(1)

- وقوّة دليله بقلّة تخصيصه بخصوص دليل.

لا يقال: كيف يجوز تخصيص دليلها بدليله؟ وقد كان دليلها رافعاً لموضوع دليله، لا لحكمه،

___________________________________________

والحاصل: أنّ كلّاً من دليل القرعة ودليل الاستصحاب شامل للأحكام والموضوعات إلّا أنّه خصّص دليل القرعة من الخارج، وهذا لا يوجب انقلاب النّسبة كما يأتي - إن شاء اللّه تعالى - من أنّ النّسبة إنّما تلاحظ بالنّظر إلى اللفظ المجرّد، لا بملاحظة تخصيصاته الخارجيّة.

{هذا مضافاً إلى} أنّ القرعة لا تتمكّن من معارضة الاستصحاب، ل- {وهن دليلها بكثرة تخصيصه} حتّى لم يبق لها ظهور قوي يعارض ظهور دليل الاستصحاب {حتّى صار العمل به} أي: بدليل القرعة {في مورد محتاجاً إلى الجبر بعمل المعظم} من الأصحاب بها {كما قيل} بل هو المشهور وخاصّة بين المتأخّرين، فلا يعملون بالقرعة في كلّ مورد مشتبه {وقوّة دليله} أي: دليل الاستصحاب {ب-} سبب {قلّة تخصيصه بخصوص دليل} أي: إنّ الاستصحاب لم يخصّص إلّا بأدلّة قليلة، كدليل اليد والصّحّة والفراغ والتجاوز ونحوها.

{لا يقال}: لا مجال لدليل الاستصحاب مع وجود القرعة، إذ القرعة حجّة ومهما وجدت الحجّة لا يكون من نقض اليقين بالشكّ، بل من نقض اليقين باليقين، كسائر الأمارات الّتي تقدّم على الاستصحاب، ف- {كيف يجوز تخصيص دليلها} أي: دليل القرعة {بدليله} أي:بدليل الاستصحاب {و} الحال أنّه {قد كان دليلها رافعاً لموضوع دليله لا لحكمه} فإنّ القرعة دليل لا يبقى معه شكّ، لا أنّ

ص: 246


1- الفصول الغرويّة: 362.

وموجباً لكون اليقين باليقين بالحجّة على خلافه، كما هو الحال بينه وبين أدلّة سائر الأمارات، فيكون - هاهنا أيضاً - من دوران الأمر بين التخصيص - بلا وجه غير دائر - والتخصّص.

فإنّه يقال: ليس الأمر كذلك؛ فإنّ المشكوك ممّا كانت له حالة سابقة، وإن كان من المشكل والمجهول والمشتبه(1)

- بعنوانه الواقعي -

___________________________________________

الشّكّ باقٍ ونريد تخصيص دليل الاستصحاب به {وموجباً} عطف على «رافعاً» {لكون} نقض {اليقين} السّابق {باليقين بالحجّة} الّتي هي القرعة {على خلافه} أي: خلاف اليقين السّابق {كما هو الحال بينه} أي: بين دليل الاستصحاب {وبين أدلّة سائر الأمارات} الّتي ترفع موضوع الاستصحاب من رأس {فيكون هاهنا أيضاً} كسائر الأمارات {من دوران الأمر بين التخصيص بلا وجه دائر} إذا قدّمنا الاستصحاب {والتخصّص} إذا قدّمنا القرعة، وذلك بعين التقرير الّذي ذكر في وجه تقديم الأمارات على الاستصحاب، فإنّ بعض أدلّة القرعة دالّة على أنّها أمارة كقوله(علیه

السلام): «ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه ثمّ اقترعوا إلّا خرج سهمالمحقّ»(2).

{فإنّه يقال}: الأمر بالعكس، فإنّ دليل الاستصحاب رافع لموضوع دليل القرعة، إذ دليل القرعة يقول: إنّها لكلّ أمر مشكل غير معلوم الحكم، ودليل الاستصحاب يقول: إنّ المورد غير مشكل، وحكمه معلوم، وهو الأخذ بالحالة السّابقة، ف- {ليس الأمر كذلك} الّذي ذكرتم من أنّ دليل القرعة يرفع موضوع الاستصحاب {فإنّ المشكوك ممّا كانت له حالة سابقة} كالماء المشكوك طهارته الّذي كان سابقاً طاهراً {وإن كان من المشكل والمجهول والمشتبه - بعنوانه الواقعي -}

ص: 247


1- تهذيب الأحكام 9: 258 «مشكوك فيه»؛ وسائل الشيعة 26: 280 «المشتبه»؛ مستدرك الوسائل 4: 80 «المجهول» و 17: 374 «الملتبس»؛ هداية الأمّة إلى أحكام الأئمة 8: 348 «المشكل».
2- تهذيب الأحكام 6: 238؛ وسائل الشيعة 27: 257.

إلّا أنّه ليس منها بعنوان ما طرأ عليه من نقض اليقين بالشكّ، والظاهرُ من دليل القرعة أن يكون منها بقول مطلق، لا في الجملة، فدليل الاستصحاب الدالّ على حرمة النّقض - الصّادق عليه حقيقة - ، رافع لموضوعه أيضاً، فافهم.

فلا بأس برفع اليد عن دليلها عند دوران الأمر بينه وبين رفع اليد عن دليله؛ لوهن عمومها وقوّة عمومه، كما أشرنا إليه آنفاً.

والحمد للّه أوّلاً وآخراً، وصلّى اللّه على محمّد وآله باطناً وظاهراً.

___________________________________________

إذ لا نعلم أنّه طاهر واقعاً أو نجس {إلّا أنّه ليس منها} أي: من هذه العناوين الثلاثة {بعنوان ما طرأ عليه من نقض اليقين بالشكّ} فإنّ هذا العنوان الطّارئ يخرجه عن المجهول؛ لأنّهيحكم عليه بأنّه كحالته السّابقة، فهو طاهر ظاهراً.

{والظاهر من دليل القرعة} الحاكم بأنّها لكلّ مجهول {أن يكون} الشّيء {منها} أي: من المجهول والمشكل والمشتبه {بقول مطلق} ظاهراً وواقعاً {لا} واقعاً فقط {في الجملة} لأنّه الظاهر من إطلاق دليلها.

{فدليل الاستصحاب الدالّ على حرمة النّقض الصّادق عليه} أي: على هذا المورد المشتبه {حقيقةً} قيد للصادق {رافع لموضوعه} أي: موضوع دليل القرعة {أيضاً} كما يرفع موضوعه سائر أدلّة القواعد والأمارات، مع أنّ تلك القواعد أيضاً ظاهريّة ولا ترفع الجهل بالواقع، فكما أنّه لو شكّ في شيء كانت قاعدة اليد جارية لتقدّم هذه القاعدة على القرعة، مع أنّها قاعدة ظاهريّة، كذلك يقدّم الاستصحاب عليها {فافهم، فلا بأس برفع اليد عن دليلها عند دوران الأمر بينه} أي: بين رفع اليد عن دليلها {وبين رفع اليد عن دليله} أي: دليل الاستصحاب {لوهن عمومها} أي: عموم القرعة {وقوّة عمومه} أي: عموم الاستصحاب {كما أشرنا إليه آنفاً} قبل سطر.

{والحمد للّه أوّلاً وآخراً، وصلّى اللّه على محمّد وآله باطناً وظاهراً} سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 248

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات

اشارة

ص: 249

ص: 250

بسم اللّه الرحمن الرحيم

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات

فصل: التّعارض هو: «تنافي الدليلين أو الأدلّة - بحسب الدلالة ومقام الإثبات - على وجه التناقض أو التضادّ حقيقة، أو عرضاً، بأن عُلم بكذب أحدهما إجمالاً، مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً».

___________________________________________

{بسم اللّه الرّحمن الرّحيم}

[المقصد الثّامن في تعارض الأدلّة والأمارات]

{المقصد الثّامن} من مقاصد الكتاب {في تعارض الأدلّة والأمارات}.

[فصل ضابط التعارض]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، ضابط التعارض

{فصل: التعارض} في اصطلاح الأصوليّين {هو «تنافي الدليلين أو الأدلّة} كما لو وقع التنافي بين ثلاثة أدلّةٍ قال أحدها بالوجوب، والآخر بالتحريم، والثّالث بالإباحة {بحسب الدلالة ومقام الإثبات} لا في مقام الثبوت والواقع، إذ مضافاً إلى أنّه لا يقع هناك تنافٍ أنّ الكلام الآن في مقتضيات الأدلّة والألفاظ {على وجه التناقض} كما دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على عدم الوجوب {أو التضاد} كما لو دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على التحريم {حقيقةً} كالأمثلة المتقدّمة، فإنّه لا يعقل اجتماع الوجوب مع اللّاوجوب أومع التحريم {أو عرضاً} أي: تنافياً عرضيّاً {بأن علم بكذب أحدهما إجمالاً مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً»} كما لو دلّ دليل على أنّه لا يملك الأب، ودلّ دليل آخر على أنّه يصحّ

ص: 251

وعليه، فلا تعارض بينهما بمجرّد تنافي مدلولهما، إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة، بأن يكون أحدهما قد سيق ناظراً إلى بيان كميّة ما أُريد من الآخر، مقدّماً كان أو مؤخّراً.

أو كانا

___________________________________________

عتق الأب، ودلّ دليل ثالث على أنّه لا عتق إلّا في ملك، فإنّ الدليلين الأوّلين ليس بينهما تنافٍ أصلاً.

أمّا حيث علمنا بأنّه لا يصحّ العتق إلّا في ملك كان اللّازم كذب أحدهما: إمّا صحّة عتق الأب، وإمّا إنّه لا يملك الأب، وكذا إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعة وآخر على وجوب الظهر يومها، فإنّه لا تنافي بينهما، أمّا حيث علمنا بأنّه لا تشرع صلاتان في يوم واحد وقع التنافي بين الدليلين.

{وعليه} أي: بناءً على ما ذكرنا من كون التعارض هو التنافي تناقضاً أو تضادّاً {فلا تعارض بينهما} أي: بين الدليلين {بمجرّد تنافي مدلولهما} بدواً {إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة} وذلك {بأن يكون أحدهما قد سيق ناظراً إلى بيان كميّة ما أُريد من الآخر} كما لو قال: «إذا شككت فابن على الأكثر»(1) ثمّ قال: (لا شكّ لكثير الشّكّ)(2) فإنّ الثّاني حاكم على الأوّل، وقدسيق ناظراً إلى كميّة ذاك؛ لأنّ الأوّل يشمل كلّ شكّ، فالثّاني يخرج بعض أقسام الشّكّ عن تحته، سواء {مقدّماً كان} الحاكم {أو مؤخّراً} إذ الحاكم ما له صلاحيّة النّظر والتفسير وإن أتى المنظور إليه والمفسّر بعداً، خلافاً لما يظهر من الشّيخ(رحمة الله) من اعتبار تقدّم المحكوم عليه على الحاكم.

{أو كانا} عطف على قوله: «إذا كان» أي: كان المتنافيان - بدواً -

ص: 252


1- الفصول المهمة في أصول الأئمة 2: 115.
2- راجع وسائل الشيعة 8: 227.

على نحو إذا عُرِضا على العرف وفّق بينهما بالتصرّف في خصوص أحدهما، كما هو مطّرد في مثل الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوليّة، مع مثل الأدلّة النّافية للعسر والحرج والضّرر والإكراه والاضطرار، ممّا يتكفّل لأحكامها بعناوينها الثانويّة حيث يقدّم في مثلهما الأدلّة النّافية ولا تلاحظ النّسبة بينهما أصلاً، ويتفق في غيرهما، كما لا يخفى.

___________________________________________

{على نحو إذا عُرِضا على العرف وفّق بينهما} بأحد نحوين: إمّا {بالتصرّف في خصوص أحدهما، كما هو} أي: التصرّف في أحدهما {مطّرد في مثل الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوليّة} نحو (الصّلاة الكاملة واجبة، العقد لازم، الخمر حرام) {مع مثل الأدلّة النّافية للعسر والحرج والضّرر والإكراه والاضطرار} والخطأ والنّسيان {ممّا يتكفّل لأحكامها} أي: أحكام الموضوعات {بعناوينها الثانويّة} أي: بعنوان كونها عسرة أو مضطرّاً إليها، فالصلاة الكاملة إذا صارت عسرة، والعقد إذا كان ضرريّاً، والخمر إذا صارت مضطرّاً إليها، لا تجب ولا يلزم ولا تحرم {حيث يقدّمفي مثلهما} أي: مثل هذين المتنافيين، أي: الأدلّة المتكفّلة للعناوين الأوّليّة والأدلّة المتكفّلة للعناوين الثانويّة {الأدلّة النّافية} للتكليف أو للوضع {ولا تلاحظ النّسبة بينهما أصلاً} فلا يقال: إنّ بين حرمة الضّرر وبين الضّرر عموماً من وجه، فاللّازم ملاحظة الترجيح بينهما في مورد الاجتماع.

{ويتّفق} بين الدليلين المتنافيين ظاهراً {في غيرهما} أي:غير المتكفّلة للأحكام بعناوينها الأوليّة وعناوينها الثانويّة {كما لا يخفى} فيقدّم الخاصّ على العامّ في نحو (أكرم العلماء ولا تكرم زيداً)، والمقيّد على المطلق في (أعتق رقبة ولا تكون الرّقبة كافرة)، والمبيّن على المجمل في {فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا}(1) و{أَنَّ

ص: 253


1- سورة المائدة، الآية: 38.

أو بالتصرّف فيهما، فيكون مجموعهما قرينة على التصرّف فيهما، أو في أحدهما المعيّن لو كان الآخر أظهر.

ولذلك تقدّم الأمارات المعتبرة على الأصول الشّرعيّة؛ فإنّه لا يكاد يتحيّر أهل العرف في تقديمها عليها

___________________________________________

ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ}(1)، والنّصّ على الظاهر في (اغتسل للجمعة) و(لا بأس بترك غسل الجمعة) وهكذا.

{أو بالتصرّف فيهما} عطف على قوله: «بالتصرّف في خصوص»، أي: يتصرّف في الدليلين الظاهر تنافيهما {فيكون مجموعهما قرينة على التصرّف فيهما} كما لو قال: (افعل) ثمّ قال: (لا تفعل)، فيحمل الأوّل على الاستحباب والثّاني على نفيالإلزام، أو كما لو قال: «ثمن العذرة سحت»(2) وقال: «لا بأس ببيع العذرة»(3) حيث يحمل الأوّل على عذرة الإنسان، والثّاني على عذرة غيره.

{أو} بالتصرّف {في أحدهما المعيّن لو كان الآخر أظهر} نحو (أكرم العلماء) و(لا يحبّ اللّه الفاسق) فإنّه وإن كان بينهما عموم من وجه إلّا أنّ الثّاني أظهر في مفاده من الأوّل فيتصرّف في الأوّل بقرينة الثّاني.

وقد يقال: إنّ هذا المثال ونحوه إنّما هو لقوله: «ويتّفق في غيرهما» ومثال الخاص والعامّ... الخ، إنّما هو لقوله: «أو في أحدهما»، ولا يبعد أن يكون هذا أقرب إلى ظاهر اللفظ {ولذلك} الجمع العرفي {تقدّم الأمارات المعتبرة على الأصول الشّرعيّة} فتقدّم الأخبار على البراءة والاحتياط والتخيير مثلاً {فإنّه لا يكاد يتحيّر أهل العرف في تقديمها} أي: الأمارات {عليها} أي: على الأصول

ص: 254


1- سورة الجن، الآية: 18.
2- تهذيب الأحكام 6: 372، وفيه: «ثمن العذرة من السحت».
3- تهذيب الأحكام 6: 372.

بعد ملاحظتهما، حيث لا يلزم منه محذور تخصيص أصلاً. بخلاف العكس، فإنّه يلزم منه محذور التخصيص بلا وجه، أو بوجه دائرٍ، كما أشرنا إليه.

وليس وجه تقديمها حكومتها على أدلّتها؛ لعدم كونها ناظرة إلى أدلّتها بوجه.

___________________________________________

{بعد ملاحظتهما} وأنّ الخبر الواحد حاكٍ عن الواقع، والبراءة إنّما تجرى في زمان الجهل بالواقع {حيث لا يلزم منه} أي: من تقديمالأمارة على الأصل {محذور تخصيص أصلاً} بل هو عدم الحكم بالبراءة، مثلاً، لعدم الموضوع لها الّذي هو الجهل بالواقع {بخلاف العكس} الّذي هو تقديم الأصل على الأمارة {فإنّه يلزم منه} أحد {محذور} ين:

{التخصيص بلا وجه} بأن نقول: دليل الخبر القائل بأنّ: (كلّ خبر حجّة) مخصّص بدليل الأصل القائل: «رفع ما لا يعلمون»(1).

{أو} التّخصيص {بوجه دائر} إذ يتوقّف تخصيص الأمارات بالأصول على اعتبار الشّارع الأصول مطلقاً حتّى في مورد الأمارات، واعتبار الشّارع الأصول مطلقاً يتوقّف على تخصيص الأمارات بها ولا يلزم من العكس ذلك، إذ تقديم الأمارة على الأصل لوجود موضوع الأمارة دون الأصل، إذ مع وجود الأمارة لا جهل بالواقع حتّى يتحقّق موضوع الأصل {كما أشرنا إليه} في أواخر الاستصحاب.

{وليس وجه تقديمها} أي: الأمارات على الأصول {حكومتها} أي: حكومة الأمارات {على أدلّتها} أي: أدلّة الأصول؛ لأنّ الشّرط في الحكومة أن يكون الحاكم ناظراً إلى دليل المحكوم، وليس هنا كذلك {لعدم كونها} أي: الأمارات {ناظرة إلى أدلّتها بوجه} فإنّ (صدّق العادل) الّذي هو دليل الأمارة ليس بناظر إلى «رفع ما لا يعلمون» الّذي هو دليل الأصل.

ص: 255


1- الخصال 2: 417.

وتعرّضها لبيان حكم موردها لا يوجب كونها ناظرة إلى أدلّتها وشارحة لها، وإلّا كانت أدلّتها أيضاً دالّة - ولو بالالتزام - على أنّ حكم مورد الاجتماع فعلاً هو مقتضى الأصل لا الأمارة، وهومستلزم عقلاً نفي ما هو قضيّة الأمارة، بل ليس مقتضى حجيّتها إلّا نفي ما قضيّته عقلاً من دون دلالة عليه لفظاً؛ ضرورة أنّ نفس الأمارة لا دلالة له إلّا على الحكم الواقعي،

___________________________________________

{و} إن قلت: كيف لا تكون أدلّة الأمارات ناظرة إلى الأصول والحال أنّ الأمارات طاردة للأصل؟

قلت: إنّ كلّ دليلين متنافيين لا بدّ وأن يكون لازم كلّ نفي الآخر، وليس ذلك من النّظر في شيء وإلّا لزم القول بحكومة الأصول على الأمارات أيضاً؛ لأنّ الأصول أيضاً لازمها نفي الأمارة، ف- {تعرّضها} أي: الأمارات {لبيان حكم موردها} أي: الأصول {لا يوجب كونها} أي: الأمارات {ناظرة إلى أدلّتها} أي: الأصول {وشارحة لها، وإلّا كانت أدلّتها} أي: الأصول {أيضاً دالّة - ولو بالالتزام - على أنّ حكم مورد الاجتماع} بين دليلي الأصل والأمارة {فعلاً هو مقتضى الأصل لا الأمارة، وهو} أي: كون مورد الاجتماع مقتضى الأصل {مستلزم عقلاً نفي ما هو قضيّة الأمارة} لأنّه لو قيل بمقتضى الأصل وأنّ المشكوك - مثلاً - حلال كان لازمه طرد الأمارة القائلة بأنّه حرام - مثلاً - .

{بل ليس مقتضى حجيّتها} أي: حجيّة الأمارة {إلّا نفي ما قضيّته} أي: نفي الحكم الّذي هو قضيّة الأصل {عقلاً} لأنّه لا يجتمع هذا وذاك {من دون دلالة} للأمارة {عليه} أي: على نفي مقتضى الأصل {لفظاً} حتّى يكون دليلها ناظراً إلى أدلّة الأصول ويكون حاكماً عليها، وذلك ل- {ضرورة أنّ نفس الأمارة لا دلالةله إلّا على الحكم الواقعي} فخبر الواحد القائم على حرمة الغراب - مثلاً - لا دلالة له إلّا على التحريم الواقعي.

ص: 256

وقضيّة حجيّتها ليست إلّا لزوم العمل على وفقها شرعاً، المنافي عقلاً للزوم العمل على خلافه، وهو قضيّة الأصل، هذا.

مع احتمال أن يقال: إنّه ليس قضيّة الحجيّة شرعاً إلّا لزوم العمل على وفق الحجّة عقلاً، وتنجّز الواقع مع المصادفة، وعدم تنجّزه في صورة المخالفة.

___________________________________________

{وقضيّة حجيّتها} أي: حجيّة هذه الأمارة {ليست إلّا لزوم العمل على وفقها شرعاً} بالاجتناب عن لحم الغراب {المنافي عقلاً للزوم العمل على خلافه} فلا يعمل على خلاف التحريم {وهو} أي: الخلاف {قضيّة الأصل} لأنّ الأصل يقول: «كلّ شيء لك حلال».

فتحصّل أنّه لا نظر للأمارة إلى الأصل، وإنّما لازمها نفي الأصل، وليس هذا بحكومة اصطلاحيّة، فالقول بحكومة الأمارات على الأصول لا وجه له.

{هذا} كلّه تقريب عدم الحكومة بناءً على أن يكون جعل الأمارات جعلاً للأحكام في مؤدّياتها - كما هو المشهور - {مع احتمال أن يقال: إنّه} ليس معنى جعل الأمارة جعل الحكم الظاهري في مؤدّاها، بل معنى الجعل ليس إلّا جعل الحجيّة، بمعنى أنّ الشّارع جعل خبر الواحد منجّزاً لدى الإصابة ومعذّراً لدى الخطأ بدون إنشاء حكم في مؤدّاه أصلاً - كما اختاره المصنّف -، وعلى هذا فعدم حكومة الأمارة على الأصل أوضح، إذ ليس معنى الجعل إلّا إعطاء الحجيّة.

ومن المعلوم أنّ معنى «هذا منجّز ومعذّر» ليس ناظراً إلى «رفع ما لايعلمون» ف- {ليس قضيّة الحجيّة} للأمارة {شرعاً إلّا لزوم العمل على وفق الحجّة عقلاً} وأنّ العقل يرى التنجيز والإعذار لدى إعطاء الشّارع الحجيّة لشيء {و} أنّه ليس إلّا {تنجّز الواقع مع المصادفة} للواقع {وعدم تنجّزه في صورة المخالفة} وأين هذا المعنى من الحكومة والنّظر إلى الأصول كما قيل؟

ص: 257

وكيف كان، ليس مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبّداً كي يختلف الحال، ويكون مفاده في الأمارة نفي حكم الأصل، حيث إنّه حكم الاحتمال؛ بخلاف مفاده فيه؛ لأجل أنّ الحكم الواقعي ليس حكم احتمال خلافه، كيف؟ وهو حكم الشّكّ فيه واحتماله. فافهم وتأمّل جيّداً.

___________________________________________

{وكيف كان} معنى جعل الأمارة جعل الحكم أو جعل الحجيّة ف- {ليس مفاد دليل الاعتبار} كما ذكره الشّيخ(رحمة الله)(1) - في بيان حكومة الأمارة على الأصل - بما حاصله: أنّ معنى (صدّق العادل) الغ احتمال الخلاف، فيكون ناظراً إلى الخلاف الّذي يذكره الأصل.

مثلاً: لو قام خبر الواحد على حرمة شرب التتن كان معناه الغ احتمال الحليّة، والحليّة هي مفاد الأصل القائل بأنّ: «كلّ شيء لك حلال» لكنّه غير تامّ، إذ ليس مفاد (صدّق) {هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبّداً كي يختلف الحال} في مفاد الأمارة ومفاد الأصل {ويكون مفاده} أي: مفاد دليل الاعتبار {في الأمارة نفيحكم الأصل، حيث إنّه} أي: حكم الأصل {حكم الاحتمال} الّذي قال دليل الأمارة (الغه) {بخلاف مفاده} أي: مفاد دليل الاعتبار {فيه} أي: في الأصل، فمعنى «رفع ما لا يعلمون» ليس (الغ احتمال الخلاف) فيقال: إنّ الحكم المستفاد من دليل الأمارة احتمال الخلاف أيضاً {لأجل أنّ الحكم الواقعي} الّذي هو مفاد الأمارة {ليس حكم احتمال خلافه} أي: خلاف الأصل.

و{كيف} يكون الحكم الواقعي حكم احتمال خلاف الأصل {وهو} أي: حكم الأصل {حكم الشّكّ فيه} أي: في الحكم الواقعي {واحتماله} أي: احتمال الحكم الواقعي {فافهم وتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك الأمر.

ص: 258


1- فرائد الأصول 3: 315.

فانقدح بذلك: أنّه لا يكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الأصل والأمارة إلّا بما أشرنا سابقاً وآنفاً، فلا تغفل. هذا.

ولا تعارض أيضاً إذا كان أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر، كما في الظاهر مع النّصّ أو الأظهر، مثل العام والخاص والمطلق والمقيّد، أو مثلهما ممّا كان أحدهما نصّاً أو أظهر؛ حيث إنّ بناء العرف على كون النّصّ أو الأظهر قرينة على التصرّف في الآخر.

وبالجملة: الأدلّة في هذه الصّور

___________________________________________

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من الجمع العرفي - لا الحكومة - {أنّه لا يكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الأصل والأمارة إلّا بما أشرنا سابقاً وآنفاً} من أنّ العرف يرى ذلك وأنّه لو خصّصتالأمارة بالأصل لكان تخصيصاً بلا وجه أو بوجه دائر {فلا تغفل}.

{هذا و} قد تبيّن سابقاً أيضاً أنّه {لا تعارض أيضاً} كما لا تعارض بين الأصل والأمارة {إذا كان أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر كما في الظاهر مع النّصّ} فإنّ النّصّ قرينة على التصرّف في الظاهر، مثل «زر الحسين(علیه السلام)»(1)

و(لا بأس بترك الزيارة) {أو} الظاهر مع {الأظهر} نحو (رأيت أسداً يرمي) حيث إنّ (يرمي) أظهر في مفاده الّذي هو رمي السّهم من رمي الحجارة الملائم مع الحيوان المفترس، من ظهور الأسد في معناه الّذي هو الحيوان المفترس {مثل العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد} فالخاص والمقيّد نصّان غالباً، فيرفع بهما ظهور العام والمطلق {أو مثلهما ممّا كان أحدهما نصّاً أو أظهر، حيث إنّ بناء العرف على كون النّصّ أو الأظهر قرينة على التصرّف في الآخر} الّذي هو الظاهر.

{وبالجملة الأدلّة في هذه الصّور} الّتي بينها حكومة أو جمع عرفيّ أو ما

ص: 259


1- وسائل الشيعة 14: 441.

- وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها - إلّا أنّها غير متعارضة؛ لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الإثبات، بحيث تبقى أبناء المحاورة متحيّرة، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها، يتصرّف في الجميع أو في البعض عرفاً، بما ترتفع به المنافاة الّتي تكون في البين.

___________________________________________

أشبههما {- وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها - إلّا أنّها غير متعارضة، لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الإثبات} واللفظ {بحيث تبقى أبناء المحاورة متحيّرة} لا يدرون أيّها المقدّم وأيّها المؤخّر {بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها يتصرّف في الجميع} كما في مثال (افعل) و(لا تفعل) {أو في البعض} كما في مثال (اغتسل) و(لا بأس بترك الغسل) {عرفاً بما ترتفع به المنافاة الّتي تكون في البين} بدواً.

ثمّ إنّ الحديث لا بدّ أن يكمل فيه أُمور ثلاثة حتّى يحكم به:

الأوّل: السّند، بأن يكون حجّة معتبرة عند الشّارع، ولا فرق في الحجّة بين القطعيّة والظنيّة.

الثّاني: الدلالة، بأن يكون للفظ ظهور في المعنى عرفاً، فلا يكون مجمولاً.

الثّالث: جهة الصّدور، بأن يكون صدور الحديث لبيان الحكم الواقعي لا للتقيّة ونحوها. فإذا تمّت هذه الجهات الثلاث أُخذ بالحديث.

ثمّ لدى التعارض لا بدّ وأن يقدّم الأمر الثّالث على الأمر الثّاني والأمر الأوّل، فإذا كان هناك حديثان: أحدهما قطعيّ السّند، منصوص الدلالة، والآخر ظنّيّ السّند، ظاهر الدلالة، لكن كان القطعي للتقيّة والظنّي لبيان الحكم الواقعي، قدّم هذا على ذاك؛ لأنّه حجّة صدر لبيان الحكم الواقعي، والأوّل - وإن كان أقوى سنداً ودلالة - لكنّه ليس لبيان الحكم الواقعي حتّى يؤخذ به، كما أنّه لا بدّ أن يقدّم الأمر الثّاني على الأمر الأوّل حال التعارض، فإذا كان هناك حديثان:

ص: 260

ولا فرق فيها بين أن يكون السّند فيها قطعيّاً، أو ظنيّاً، أو مختلفاً، فيقدّمالنّصّ أو الأظهر - وإن كان بحسب السّند ظنيّاً - على الظاهر، ولو كان بحسبه قطعيّاً.

وإنّما يكون التعارض في غير هذه الصّور، ممّا كان التنافي فيه بين الأدلّة بحسب الدلالة ومرحلة الإثبات.

وإنّما يكون التعارض بحسب السّند، في ما إذا كان كلّ واحد منها قطعيّاً دلالة وجهة، أو ظنيّاً

___________________________________________

أحدهما قطعيّ السّند، ظاهر الدلالة، والآخر ظنّيّ السّند، نصّ الدلالة، جمع بينهما بحمل الظاهر على النّصّ وإن كان سند الظاهر قطعيّاً وسند النّصّ ظنيّاً، وذلك لأنّ المعيار - بعد حجيّة كليهما - الأقوى دلالة، والنّصّ أقوى دلالة.

{و} على هذا ف- {لا فرق فيها} أي: في الصّور الّتي حكمنا بالجمع بحمل الظاهر على الأظهر أو النّصّ {بين أن يكون السّند فيها} أي: في المتعارضات {قطعيّاً أو ظنيّاً} ظنّاً معتبراً {أو مختلفاً} بعضها ظنّيّ وبعضها قطعيّ {فيقدّم النّصّ أو الأظهر - وإن كان بحسب السّند ظنيّاً - على الظاهر ولو كان} الظاهر {بحسبه} أي: بحسب السّند {قطعيّاً} وذلك لأنّه ليس تعارض بحسب السّند حتّى يقدّم الأقوى سنداً {وإنّما يكون التعارض في غير هذه الصّور} أي: غير الصّور الّتي فيها جمع عرفي {ممّا كان التنافي فيه} الضّمير عائد إلى «ما» {بين الأدلّة بحسب الدلالة ومرحلة الإثبات} كما لو قال أحدهما: (يحرم بيع الميتة) وقال الآخر: (يجوز) ممّا ليس لهما جمع عرفي.

والحاصل: أنّك قد عرفت أنّ بعض الصّور لا تعارض فيه لا من حيث الدلالةولا من حيث السّند، وإنّ بعض الصّور فيه تعارض من حيث الدلالة {وإنّما يكون التعارض بحسب السند في ما إذا كان كلّ واحد منها قطعيّاً دلالة} بأن كانا نصّين {وجهة} بأن صدرا لبيان الحكم الواقعي لا للتقيّة {أو ظنيّاً} دلالةً وجهةً،

ص: 261

في ما إذا لم يمكن التوفيق بينها، بالتصرّف في البعض أو الكلّ، فإنّه حينئذٍ لا معنى للتعبّد بالسند في الكلّ؛ إمّا للعلم بكذب أحدهما، أو لأجل أنّه لا معنى للتعبّد بصدورها مع إجمالها، فيقع التعارض بين أدلّة السّند حينئذٍ، كما لا يخفى.

___________________________________________

ظنّاً معتبراً {في ما إذا لم يمكن التوفيق بينها} أي: بين هذه المتعارضات {بالتصرّف في البعض أو الكلّ، فإنّه حينئذٍ} يقع التعارض {لا معنى للتعبّد بالسند في الكلّ إمّا للعلم بكذب أحدهما} إذ لا يمكن أن يصدر حكمان واقعيّان متعارضان من الإمام(علیه السلام)، فلا بدّ وأن يكون أحد السّندين خطاءً. وقوله: «إمّا للعلم» راجع إلى صورة كون كلّ واحد منهما قطعيّاً.

ولا يقال: كيف يجمع بين قطعيّة السّند والدلالة والعلم بالكذب؟

لأنّا نقول: المراد من قطعيّة السّند والدلالة كون كلّ واحد في نفسه كذلك، كما لو أخبر بكلّ واحد من الخبرين أُناس متواترون، بحيث لو كان هذا الخبر وحده لكان قطعيّاً.

والحاصل: أنّ المراد بالقطعيّة القطعيّة الشّأنيّة لا القطعيّة الفعليّة.{أو لأجل أنّه لا معنى للتعبّد بصدورها} أي: لا معنى لأن يعبّدنا الشّارع بأنّ هذه الأخبار كلّها حجّة وصادرة {مع إجمالها} النّاشئ من تعارضها.

وقوله: «أو لأجل» راجع إلى صورة كون كلّ واحد منهما ظنيّاً، إذ في صورة الظنيّة لا بدّ وأن يعبّدنا الشّارع بها لعدم حجيّتها في نفسها، فإذا كانا ظنّيي السّند - سواء كانا قطعيي الدلالة أو ظنّييها - لا يمكن الاعتماد عليهما معاً {فيقع التعارض بين أدلّة السّند حينئذٍ} فيعارض أصالة حجيّة هذا - سنداً - أصالة حجيّة ذاك - سنداً - {كما لا يخفى} إذ لا يمكن حجيّة كليهما، فيأتي دور المرجّحات أو التخيير.

ص: 262

فصل: التعارض وإن كان لا يوجب إلّا سقوط أحد المتعارضين عن الحجيّة رأساً؛ - حيث لا يوجب إلّا العلم بكذب أحدهما، فلا يكون هناك مانع عن حجيّة الآخر - ، إلّا أنّه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعاً، - فإنّه لم يعلم كذبه إلّا كذلك، واحتمال كون كلّ منهما كاذباً - ،

___________________________________________

[فصل مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين

{فصل} في بيان أنّ التعارض موجب للتساقط أو لا؟ فنقول: قد اختلفوا في كون الأخبار حجّة من باب الطّريقيّة - بمعنى أنّه لا مصلحة في نفس الخبر وإنّما المصلحة في المؤدّى والواقع - أو أنّها حجّة من باب السّببيّة والموضوعيّة وأنّ المصلحة في نفس الخبر سواء طابق الواقع أم لا، وعلى فرض كونها حجّة من باب السّببيّة فهل أنّها حجّة مطلقاً سواء علمنا بكونها مخالفة للواقع أم لا، أم أنّها حجّة في صورة عدم علمنا بكونها مخالفة للواقع؟ فالاحتمالات ثلاثة.

إذا عرفت ذلك قلنا: إذا تعارض خبران فعلى القول بالطريقيّة لا بدّ من القولبسقوطهما للعلم الإجمالي بكذب أحدهما. نعم، يمكن نفي الثّالث بهما، فلو دلّ أحدهما على الحرمة لصلاة الجمعة والآخر على الوجوب نفيا الاستحباب؛ لأنّ الحجّة المجهولة بينهما نافية له، وعلى القول بالسببيّة المطلقة يكون الأمر من باب التزاحم ويأتي دور مرجّحات المتزاحمين من الأهميّة ونحوها، وعلى القول بالسببيّة في الجملة يتساقطان أيضاً. هذا خلاصة البحث.

إذا عرفت ذلك نقول: {التعارض وإن كان لا يوجب إلّا سقوط أحد المتعارضين عن الحجيّة رأساً} لا سقوط كليهما {- حيث لا يوجب} التعارض {إلّا العلم بكذب أحدهما، فلا يكون هناك مانع عن حجيّة الآخر - إلّا أنّه} أي: السّاقط عن الحجيّة {حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعاً، فإنّه لم يعلم كذبه إلّا كذلك} أي: مجملاً بينهما {واحتمال كون كلّ منهما كاذباً} كما هو مقتضى الاشتباه، وهذا عطف على

ص: 263

لم يكن واحد منهما بحجّة في خصوص مؤدّاه؛ لعدم التعيين في الحجّة أصلاً، كما لا يخفى.

نعم، يكون نفي الثّالث بأحدهما؛ لبقائه على الحجيّة وصلاحيّته - على ما هو عليه من عدم التعيّن - لذلك، لا بهما. هذا بناءً على حجيّة الأمارات من باب الطّريقيّة - كما هو كذلك - ؛ حيث لا يكاد يكون حجّة طريقاً إلّا ما احتمل إصابته،

___________________________________________

«لم يعلم» من عطف الجملة الاسميّة على الجملة الفعليّة {لم يكن واحد منهما بحجّة} هذا خبر قوله: «إلّا أنّه»، فإنّ كلّ واحد منهمايسقط عن الحجيّة {في خصوص مؤدّاه} ومعناه {لعدم التعيين في الحجّة أصلاً} فلا يمكن القول بالوجوب ولا القول بالحرمة - في مثال الجمعة - {كما لا يخفى}.

{نعم، يكون نفي} الحكم {الثّالث} كالاستحباب للجهل {بأحدهما} لأنّه سواء كان واجباً أو حراماً لم يكن بمستحبّ {لبقائه} أي: بقاء ذلك الواحد المردّد المجهول {على الحجيّة وصلاحيّته على ما هو عليه من عدم التعيّن لذلك} أي: إنّ الواحد الّذي هو حجّة واقعاً على ما هو عليه من عدم كونه معيّناً صالح لنفي الثّالث، إذ سواء كان التحريم واقعاً أو الإيجاب لم يكن مجال للاستحباب {لا بهما} عطف على «بأحدهما» مقابل القائل بأنّ نفي الثّالث بهما، بتقريب أنّ كلّ خبر له جهتان: إثبات نفيه، ونفي ما عداه، والمتعارضان إنّما يتعارضان في الجهة الأُولى، أمّا بالنسبة إلى نفي ما عداه ففي كلّ منهما صلاحيّة ذلك بالنسبة إلى الحكم الثّالث، فتدبّر.

و{هذا} الّذي ذكرناه من تساقط المتعارضين {بناءً على حجيّة الأمارات من باب الطّريقيّة} وأنّ المصلحة في المؤدّى فقط {كما هو كذلك} إذ أدلّة اعتبارها لم تدلّ على أكثر من ذلك {حيث لا يكاد يكون حجّة طريقاً إلّا ما احتمل إصابته} احتمالاً محضاً بدون معارضة، وإنّما قيّدنا بذلك لأنّ في كلّ من

ص: 264

فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما مانعاً عن حجيّته.

وأمّا بناءً على حجيّتها من باب السّببيّة، فكذلك لو كان الحجّة هو خصوص ما لم يعلم كذبه، بأن لا يكون المقتضي للسببيّة فيهاإلّا فيه، كما هو المتيقّن من دليل اعتبار غير السّند منها،

___________________________________________

المتعارضين أيضاً يحتمل الإصابة {فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما مانعاً عن حجيّته} أي: حجيّة كلّ واحد منهما.

{وأمّا بناءً على حجيّتها} أي: حجيّة الأمارات {من باب السّببيّة} وأنّ في نفس الأمارة مصلحة طابقت الواقع أو لم تطابق، سواء كانت مصلحة سلوكيّةً، كما لا بأس به عند العدليّة، أو مصلحة حكميّة، كما عند غيرهم {فكذلك} يتساقطان لدى التعارض {لو كان الحجّة هو خصوص ما لم يعلم كذبه} فكلّ خبر لم يعلم كذبه يكون سبباً للمصلحة، بأن لا يعلم إجمالاً بكذبه أو كذب معارضه {بأن لا يكون المقتضي للسببيّة فيها} أي: في الأمارات {إلّا فيه} أي: في ما لم يعلم كذبه، وذلك لأنّ دليل حجيّة الظهور ودليل كون الصّدور لبيان الواقع لا للتقيّة ونحوها - وهو بناء العقلاء - إنّما يدلّ على حجيّة ظهور، وواقعيّة صدور، لم يعلم بكذبه لا تفصيلاً ولا إجمالاً.

فلو علم بأنّ أحد الظهورين أو أحد الصّدورين كاذب لم يكن هناك بناء من العقلاء على الأخذ به، وكذلك بالنسبة إلى السّند، فإنّ دليل حجيّة السّند إمّا بناء العقلاء وإمّا الآيات والأخبار، وعلى كلا التقديرين لا يشمل ما علم إجمالاً أو تفصيلاً كذبه، فما ذكره الشّيخ(رحمة الله)(1) من إطلاق القول بأنّه على السّببيّة لا يتساقط المتعارضان ويكونان بحكم المتزاحمين، ليس في محلّه.

{كما هو المتيقّن} أي: كون الحجّة ما لم يعلم كذبه لا تفصيلاً ولا إجمالاً، المتيقّن {من دليل اعتبار غير السّندمنها} أي: من جهات الأمارات، وهي الدلالة

ص: 265


1- فرائد الأصول 4: 37.

وهو بناء العقلاء على أصالتَي الظهور والصّدور، لا للتقيّة ونحوها؛ وكذا السّند، لو كان دليل اعتباره هو بناؤهم أيضاً، وظهورُه فيه لو كان هو الآيات والأخبار؛ ضرورة ظهورها فيه، لو لم نقل بظهورها في خصوص ما إذا حصل الظنّ منه أو الاطمئنان.

وأمّا لو كان المقتضي للحجيّة في كلّ واحد من المتعارضين،

___________________________________________

والجهة والسّند، فما دلّ على اعتبار الدلالة والجهة مقيّد بما إذا لم يعلم بكذبه، فلو علم بالخدشة في أحد الظهورين أو بالصدور تقيّة في أحد الخبرين لم يدلّ دليل الاعتبار {وهو بناء العقلاء على أصالتي الظهور والصّدور لا للتقيّة ونحوها} على الحجيّة.

{وكذا السّند} إنّما دلّ اعتباره على الاعتبار ما لم يعلم بكذبه تفصيلاً أو إجمالاً {لو كان دليل اعتباره} الّذي هو دليل حجيّة الخبر الواحد {هو بناؤهم} أي: بناء العقلاء {أيضاً} كما هو دليل اعتبار الظهور والصّدور لا للتقيّة {وظهوره} أي: ظهور دليل اعتبار السّند {فيه} أي: في خصوص ما لم يعلم كذبه لا تفصيلاً ولا إجمالاً {لو كان هو} أي: دليل اعتبار السّند {الآيات والأخبار} فإنّ قوله - تعالى - : {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ}(1)، وقوله(علیه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنّا ثقاتنا»(2)، وغيرهما ظاهرة في ما لم يعلم كذب نبأ العادل ورواية الثقة.

{ضرورة ظهورها} أي: الآيات والأخبار {فيه} أي: في خصوصما لم يعلم كذبه {لو لم نقل بظهورها} أي: ظهور الآيات والأخبار {في خصوص ما إذا حصل الظنّ منه} بأن يكون الخبر المظنون الصّدور حجّة {أو الاطمئنان} بأن يكون الخبر المطمئن إليه حجّة.

{وأمّا لو كان المقتضي للحجيّة في كلّ واحد من المتعارضين} بناءً على السّببيّة

ص: 266


1- سورة الحجرات، الآية: 6.
2- وسائل الشيعة 27: 150.

لكان التعارض من تزاحم الواجبين، في ما إذا كانا مؤدّيين إلى وجوب الضّدّين، أو لزوم المتناقضين، لا في ما إذا كان مؤدّى أحدهما حكماً غير إلزامي، فإنّه حينئذٍ لا يزاحم الآخر؛ ضرورة عدم صلاحيّة ما لا اقتضاء فيه أن يزاحَم به ما فيه الاقتضاء.

إلّا أن يقال: بأنّ

___________________________________________

المطلقة فحال الخبر حال الغريق، فكما يجب إنقاذ الغريق مطلقاً كذلك يجب العمل بالخبر مطلقاً، ولو علمنا بكذب أحدهما {لكان التعارض} بينهما {من} باب {تزاحم الواجبين} فيجب العمل بأحدهما على سبيل البدل في ما لا أهميّة في البين {في ما إذا كانا} أي: الخبران {مؤدّيين إلى وجوب الضّدّين} كما لو قال أحدهما بلزوم كونه في عرفات يوم عرفة، وقال الآخر بلزوم كونه في حرم الحسين(علیه السلام) {أو لزوم المتناقضين} كما لو قال أحدهما بوجوب كونه في عرفات، وقال الآخر بوجوب عدم كونه في عرفات، و{لا} يكونان من باب التزاحم {في ما إذا كان مؤدّى أحدهما حكماً غير إلزامي} كما لو دلّ أحدهما على الوجوب والآخر علىالاستحباب {فإنّه} أي: غير الإلزامي {حينئذٍ لا يزاحم الآخر} بل يقدّم الاقتضائي، ولذا لا شبهة في تقدّم حكم الحرمة على الاستحباب لو تعارضا في ما لو التمس المسلم محرّماً من آخر، فإنّ إجابة دعوة المسلم مستحبّة والفعل حرام - فرضاً - فيقدّم التحريم على الاستحباب.

{ضرورة عدم صلاحيّة ما لا اقتضاء فيه} بمعنى أنّه ليس فيه اقتضاء إلزام وإن كان فيه اقتضاء ندب وكره {أن يزاحم به} الضّمير يرجع إلى «ما» {ما فيه الاقتضاء} وكذا كلّ متزاحمين كان أحدهما إلزاماً والآخر غير إلزام.

{إلّا أن يقال: بأنّ} الاستحباب - مثلاً - وإن كان غير اقتضائي في نفسه إلّا أنّ مقتضى القول بالسببيّة أن يكون الاستحباب اقتضائيّاً أيضاً؛ لأنّ قيام الأمارة على الاستحباب - بناءً على السّببيّة - يجعل المصلحة في الاستحباب، فيكون حال

ص: 267

قضيّة اعتبار دليل غير الإلزامي أن يكون عن اقتضاء، فيزاحَم به حينئذٍ ما يقتضي الإلزامي، ويحكم فعلاً بغير الإلزامي، ولا يزاحم بمقتضاه ما يقتضي غير الإلزامي؛ لكفاية عدم تماميّة علّة الإلزامي في الحكم بغيره.

نعم،

___________________________________________

المتعارضين للذين قام عليهما الدّليل حال ما لو قال المولى هذا مستحبّ وقال هذا واجب، فكما أنّه لا يمكن إعمال قاعدة - الاقتضائي واللّااقتضائي - في كلامه كذلك في المقام، بل لا بدّ من معاملة المتزاحمين، فإنّ {قضيّة اعتبار} الشّارع {دليل غير الإلزامي أن يكون عن اقتضاء} فكما أنّ معنى (هذا واجب): أنّه ليس بمستحبّ كذلكمعنى (هذا مستحبّ): أنّه ليس بواجب {فيزاحم به} أي: بهذا اللّااقتضائي {حينئذٍ ما يقتضي الإلزامي} فكلاهما اقتضائي.

وإذا تحقّق هذا يقدّم غير الإلزامي {ويحكم فعلاً بغير الإلزامي ولا يزاحم بمقتضاه} أي: بمقتضى الإلزامي {ما يقتضي غير الإلزامي} أي: لا يزاحم مقتضى الوجوب مقتضى الاستحباب {لكفاية عدم تماميّة علّة الإلزامي} إذ لو كانت علّته تامّة لما كان مجال للاستحباب، فتزاحم الاستحباب له دليل على عدم تماميّة علّته {في الحكم بغيره} أي: بغير الإلزامي.

{نعم} ما ذكرناه من التفصيل في باب التعارض - من أنّه بناءً على الطّريقيّة يوجب التساقط وبناءً على السّببيّة قد يوجب التساقط وقد يوجب التزاحم ممّا يقتضي الأخذ بأحدهما تخييراً - إنّما هو بالنسبة إلى الموافقة العمليّة، وأمّا بالنسبة إلى الموافقة الالتزاميّة - لو قلنا بوجوبها وأنّ لكلّ حكم موافقتين العمليّة والالتزاميّة - لم يكن فرق بين الطّريقيّة والموضوعيّة في وجوب الالتزام؛ لأنّه يمكن الالتزام بأحدهما تخييراً وإن لم يكن الإنسان يعلم الحكم بعينه. نعم، لو قلنا بأنّ الموافقة الالتزاميّة إنّما تجب إذا كان الحكم معلوماً لم تجب أيضاً في

ص: 268

يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقاً، لو كان قضيّة الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام بما يؤدّي إليه من الأحكام، لا مجرّد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به.

وكونهما من تزاحم الواجبين حينئذٍ وإن كان واضحاً؛ - ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الأحكام - ، إلّاأنّه لا دليل - نقلاً ولا عقلاً - على الموافقة الالتزاميّة للأحكام الواقعيّة، فضلاً عن الظاهريّة، كما مرّ تحقيقه.

وحكم التعارض - بناءً على السّببيّة - في ما كان من باب التزاحم - هو التخيير،

___________________________________________

صورة التعارض.

والحاصل: أنّه {يكون} الخبران المتعارضان في {باب التعارض من باب التزاحم مطلقاً} ولو على الطّريقيّة {لو كان قضيّة الاعتبار} أي: مقتضى الاعتبار الأمارة {هو لزوم البناء} القلبي {والالتزام بما يؤدّي إليه} الأمارة {من الأحكام لا مجرّد العمل على وفقه} أي: وفق مؤدّى الأمارة {بلا لزوم الالتزام به} وذلك لأنّ دليل الالتزام قاض بأن نلتزم بهما إذا أمكن وإذا لم يمكن - للتعارض - اقتضى التخيير بينهما.

{و} لكن يقع الكلام في أنّه لا دليل على وجوب الموافقة الالتزاميّة، ف- {كونهما من تزاحم الواجبين حينئذٍ} أي: حين قلنا بلزوم الالتزام {وإن كان واضحاً}.

{ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين} متخالفين {في موضوع واحد من الأحكام} بيان قوله: «بحكمين» {إلّا أنّه لا دليل نقلاً ولا عقلاً على} وجوب {الموافقة الالتزاميّة للأحكام الواقعيّة} بأن علمنا بالحكم قطعاً {فضلاً عن} الأحكام {الظاهريّة} الّتي قامت الأمارة عليها {كما مرّ تحقيقه} في أوّل الكتاب.

{وحكم التعارض - بناءً على السّببيّة} وأنّالأمارات فيها المصلحة سواء طابقت الواقع أم لا {في ما كان من باب التزاحم} وهذا القيد لإخراج السّببيّة في ما إذا كان من باب التعارض، لما تقدّم من تقسيم السّببيّة إلى قسمين - {هو التخيير} بين

ص: 269

لو لم يكن أحدهما معلومَ الأهميّة أو محتملَها في الجملة، - حسب ما فصّلناه في مسألة الضّدّ - ، وإلّا فالتعيين.

وفي ما لم يكن من باب التزاحم هو لزوم الأخذ بما دلّ على الحكم الإلزامي، لو لم يكن في الآخر مقتضياً لغير الإلزامي، وإلّا فلا بأس بأخذه والعمل عليه؛ لما أشرنا إليه - من وجهه - آنفاً، فتأمّل.

هذا هو قضيّة القاعدة في تعارض الأمارات، لا الجمع بينها

___________________________________________

المتعارضين، فإن شاء أخذ بهذا وإن شاء أخذ بذاك {لو لم يكن أحدهما معلوم الأهميّة أو محتملها} إذ لو كان أحدهما كذلك قدّم على الآخر، كما لو غرق نبيّ ومسلم أو غرق اثنان يحتمل أن يكون أحدهما نبيّاً {في الجملة حسب ما فصّلناه في مسألة الضّدّ} في الجلد الأوّل.

{وإلّا} بأن عرفت الأهميّة أو احتملت {فالتعيين} لدوران الأمر حينئذٍ بين التعيين والتخيير، والأوّل مقدّم؛ لأنّه موجب للبراءة قطعاً بخلاف الثّاني {وفي ما لم يكن} التعارض {من باب التزاحم} فحكمه {هو لزوم الأخذ بما دلّ على الحكم الإلزامي لو لم يكن في الآخر مقتضياً لغير الإلزامي} فلو تعارض ما دلّ على الوجوب أو الحرمة بما دلّ على الأحكام الثلاثة الأُخر قدّم ما دلّ على الإلزام؛ لأنّه عن اقتضاء والآخر ليس عن اقتضاء،والحكم الاقتضائي مقدّم على اللّااقتضائي.

لكنّه إذا لم يكن ما دلّ على الأحكام الثلاثة عن اقتضاء {وإلّا فلا بأس بأخذه والعمل عليه لما أشرنا إليه من وجهه آنفاً} وأنّه إذا كان عن اقتضاء قابل الحكم الإلزامي وجاز الأخذ بأيّهما شاء {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّه دائماً يكون الحكم غير الإلزامي عن اقتضاء، فلا وجه للتفصيل.

و{هذا} الّذي ذكرناه من كون القاعدة أحياناً تقديم أحد المتعارضين على الآخر وأحياناً التخيير بينهما {هو قضيّة القاعدة في تعارض الأمارات لا الجمع بينها}

ص: 270

بالتصرّف في أحد المتعارضين أو في كليهما، كما هو قضيّة ما يترائى ممّا قيل(1)

من «أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطّرح»؛ إذ لا دليل عليه في ما لا يساعد عليه العرف، ممّا كان المجموع أو أحدهما قرينة عرفيّة على التصرّف في أحدهما بعينه أو فيهما، كما عرفته في الصّور السّابقة.

مع أنّ في الجمع كذلك أيضاً طرحاً للأمارة أو الأمارتين؛

___________________________________________

أي: بين الأمارات {بالتصرّف في أحد المتعارضين أو في كليهما} كما لو قال: (هذا واجب، وهذا مستحبّ) نتصرّف في الأوّل بتأكّد الاستحباب، أو قال: (هذا واجب، وهذا حرام) نتصرّف في كليهما بحمل أحدهما على القادر والآخر على العاجز - مثلاً - {كما هو} أي: الجمع {قضيّة ما يترائى ممّا قيل من أنّ«الجمع مهما أمكن أولى من الطّرح»} بحمل الإمكان على الإمكان العقلي، لا الإمكان العرفي الّذي هو الجمع بين الظاهر والنّصّ والمطلق والمقيّد وأشباههما.

والحاصل: أنّ مراد القائل لو كان هو الجمع الاعتباطي، ورد عليه أنّ مثل هذا الجمع لا دليل عليه عقلاً ولا شرعاً، وإن أراد الجمع في ما كان العرف يرى الجمع، فلا يرتبط كلامه بما نحن فيه الّذي هو المتعارضان {إذ لا دليل عليه في ما لا يساعد عليه العرف ممّا} أي: الجمع العرفي الّذي يساعد عليه العرف هو ما {كان المجموع} أي: المتعارضين {أو أحدهما قرينة عرفيّة على التصرّف في أحدهما بعينه أو فيهما} معاً {كما عرفته في الصّور السّابقة} من الجمع بين (اغتسل للجمعة) و(لا بأس بترك غسل الجمعة) و(افعل) و(لا تفعل) {مع أنّ في الجمع كذلك} اعتباطاً بدون فهم عرفي {أيضاً طرحاً للأمارة} في ما لو تصرّف في أحدهما {أو الأمارتين} في ما لو تصرّف فيهما معاً، فلا وجه لكونه أولى من الطّرح.

وهذا بخلاف ما كان له جمع عرفي فإنّ الظهور في الأضعف لا حجيّة له،

ص: 271


1- غوالي اللئالي 4: 136.

ضرورة سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه.

وقد عرفت: أنّ التعارض بين الظهورين في ما كان سنداهما قطعيّين، وفي السّندين إذا كانا ظنيّين.

وقد عرفت: أنّ قضيّة التعارض إنّما هو سقوط المتعارضين في خصوص كلّ ما يؤدّيان إليه من الحكمين، لا لبقائهما على الحجيّة بما يتصرّف فيهما أو في أحدهما، أو بقاء سنديهما عليها كذلك،

___________________________________________

لعدم بناء العقلاء على الأخذ به، فليس عدم العمل به طرحاً له.

وهذا بخلاف الجمع الاعتباطي، إذ الظهور في كلّ واحد منهما معتبر، فالجمع طرح لهذا الظهور.

{ضرورة سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه} أي: مع الجمع فقاعدة «الجمع مهما أمكن» ليس في المتعارضين أصلاً {وقد عرفت أنّ التعارض بين الظهورين في ما كان سنداهما قطعيّين} فيلزم الأخذ بأحدهما أو بهما تخييراً {وفي السّندين إذا كانا ظنيّين} وإنّما كان التعارض بين السّندين هنا دون القطعيّين، إذ السّند القطعي لا يمكن طرحه بالتعارض بخلاف السّند الظنّي على التفصيل المتقدّم.

{وقد عرفت أنّ قضيّة التعارض إنّما هو سقوط المتعارضين في خصوص كلّ ما يؤدّيان إليه من الحكمين} فإذا قام أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة لم نقل بأحدهما، وإن كانا حجّة بالنسبة إلى نفي الحكم الثّالث الّذي هو الاستحباب مثلاً {لا لبقائهما على الحجيّة بما يتصرّف فيهما} بإلغاء ظاهر كلّ واحد منهما {أو في أحدهما} بإلغاء ظاهره فقط، عملاً بمقتضى «الجمع مهما أمكن أولى» {أو بقاء سنديهما} عطف على قوله: «بقائهما» أي: ولا بقاء سنديهما {عليها} أي: على الحجيّة {كذلك} أي: كما يبقى سنداهما في صورة

ص: 272

بلا دليل يساعد عليه من عقل أو نقل.

فلا يبعد أن يكون المراد، من إمكان الجمع هو: إمكانه عرفاً. ولا ينافيهالحكم بأنّه أولى مع لزومه حينئذٍ وتعيّنه؛ فإنّ أولويّته من قبيل الأولويّة في أُولي الأرحام،

___________________________________________

التصرّف في الدلالة {بلا دليل يساعد عليه من عقل أو نقل}.

والحاصل: إنّ المحتملات ثلاثة:

الأوّل: أن يسقطا بالنسبة إلى المدلول المطابقي ويبقيا بالنسبة إلى نفي الحكم الثّالث، كما هو مختار المصنّف.

الثّاني: أن يبقيا سنداً ودلالة ويتصرّف فيهما أو في أحدهما كما يتصرّف في سائر أقسام الجمع العرفي، وقد عرفت أنّه غير تامّ.

الثّالث: أن يبقى سنداهما على الحجيّة وتلغى دلالتهما بالمرّة بالنسبة إلى المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي، وهذا غير صحيح، إذ لا معنى للتعبّد بالسند بدون الدلالة أصلاً، فإنّه لغو، كما لا يخفى.

{فلا يبعد أن يكون المراد من إمكان الجمع} في القضيّة المدّعى عليها الإجماع من أنّ «الجمع مهما أمكن أولى من الطّرح» {هو إمكانه عرفاً} من أقسام الجمع بين المطلق والمقيّد والعامّ والخاصّ والظاهر والأظهر وغيرها.

{و} إن قلت: فما معنى «إنّه أولى» مع أنّ هذا النّحو من الجمع واجب؟

قلت: {لا ينافيه الحكم بأنّه أولى مع لزومه} أي: لزوم هذا الجمع {حينئذٍ} أي: حين كان مفهوماً لدى العرف {وتعيّنه} عطف على «لزومه» {فإنّ أولويّته} تعيّنيّة لا على نحو الأفضليّة، فهي {من قبيل الأولويّة في} آية{أُولي الأرحام} حيث قال سبحانه: {وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ}(1)، والمراد

ص: 273


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

وعليه لا إشكال فيه ولا كلام.

فصل: لا يخفى أنّ ما ذكر من قضيّة التعارض بين الأمارات، إنّما هو بملاحظة القاعدة في تعارضها، وإلّا فربّما يُدّعى الإجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في الأخبار، كما اتفقت عليه كلمة غير واحد من الأخيار.

ولا يخفى: أنّ اللّازم في ما إذا لم تنهض حجّة على التعيين أو التخيير بينهما، هو الاقتصار على الرّاجح منهما؛ للقطع بحجيّته - تخييراً أو تعييناً - بخلاف الآخر؛ لعدم القطع بحجيّته،

___________________________________________

الأولويّة التعيّنيّة {وعليه} أي: بناءً على أن يراد الأولى تعيّناً {لا إشكال فيه ولا كلام} واللّه العالم.

[فصل مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين

{فصل} في بيان القاعدة الثانويّة في باب تعارض الأخبار.

{لا يخفى أنّ ما ذكر} في المبحث السّابق {من قضيّة التعارض بين الأمارات} وأنّ الأصل السّقوط {إنّما هو بملاحظة القاعدة} الأوّليّة {في تعارضها وإلّا ف-} بملاحظة القاعدة الثانويّة {ربّما يدّعى الإجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في} باب {الأخبار، كما اتفقت عليه كلمة غير واحد من} علمائنا{الأخيار}.

{ولا يخفى أنّ اللّازم} بناءً على عدم السّقوط {في ما إذا لم تنهض حجّة على التعيين} لأحد الخبرين {أو التخيير بينهما هو الاقتصار على الرّاجح منهما} فإذا علمنا بأنّه لا تساقط في المتعارضين ولم نعلم بأنّه هل أحدهما حجّة تعييناً أم كلاهما تخييراً، كان اللّازم الأخذ بذي المرجّح منهما {للقطع بحجيّته تخييراً أو تعييناً} فإنّ ذا المرجّح حجّة قطعاً سواء كان وحده حجّة أم كان كلاهما حجّة {بخلاف الآخر} الفاقد للمرجّح {لعدم القطع بحجيّته} لاحتمال حجيّة ذي المرجّح فقط

ص: 274

والأصل عدم حجيّة ما لم يقطع بحجيّته، بل ربّما ادّعي الإجماع أيضاً على حجيّة خصوص الرّاجح.

واستدلّ عليه بوجوه أُخر، أحسنُها الأخبار.

وهي على طوائف:

منها: ما دلّ على التخيير على الإطلاق.

كخبر الحسن بن الجهم، عن الرِّضا(علیه

السلام)، قلت: يجيئنا الرّجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين، ولا يُعلم أيّهما الحقّ؟ قال: «فإذا لم يُعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»(1).

___________________________________________

{والأصل عدم حجيّة ما لم يقطع بحجيّته} لأنّ الحجيّة أمر حادث، فإذا شكّ فيه كان الأصل عدمه، ولذا يقولون: إنّ الشّكّ في الحجيّة هو موضوع عدم الحجيّة.والحاصل: أنّ الأصل في الدوران بين التعيين والتخيير في الحجيّة هو التعيين، فإذا علمت بأنّ هاهنا حجّة وشككت بأنّ الحجّة هل هو قول زيد قطعاً، أو واحد من قول زيد وعمرو، كان الأخذ بقول زيد جائزاً قطعاً؛ لأنّه حجّة على كلّ تقدير، بخلاف قول عمرو لاحتمال أن يكون قول زيد فقط حجّة، فيشكّ في حجيّة قول عمرو والأصل عدمها.

{بل ربّما ادّعي الإجماع أيضاً على حجيّة خصوص الرّاجح} من الخبرين {واستدلّ عليه بوجوه أُخر} يأتي التعرّض لبعضها {أحسنها الأخبار، وهي} أي: الأخبار الواردة في مقام التعارض مطلقاً سواء منها ما دلّ على الترجيح أو على غيره {على طوائف} ذكر المصنّف(رحمة الله) أربعة منها.

{منها: ما دلّ على التخيير على الإطلاق} بدون تقييد بفقد المرجّحات {كخبر الحسن بن الجهم، عن الرّضا(علیه السلام) قلت: يجيئنا الرّجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا يعلم أيّهما الحقّ؟ قال: «فإذا لم يعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»}.

ص: 275


1- وسائل الشيعة 27: 121، مع اختلاف يسير.

وخبر الحارث بن المغيرة، عن أبي عبداللّه(علیه السلام): «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة، فموسّع عليك حتّى ترى القائم فتردّ عليه»(1).

ومكاتبة عبداللّه بن محمّد إلى أبي الحسن(علیه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبداللّه(علیه السلام) في ركعتيالفجر، فروى بعضهم: صلّ في المحمل، وروى بعضهم: لا تصلّها إلّا في الأرض، فوقّع(علیه السلام): «موسّع عليك بأيّة عملت»(2).

ومكاتبة الحميري إلى الحجّة(علیه السلام)... إلى أن قال في الجواب عن ذلك حديثان... إلى أن قال(علیه

السلام): «وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»(3) إلى غير ذلك من الإطلاقات.

___________________________________________

{وخبر الحارث بن المغيرة، عن أبي عبداللّه(علیه السلام): «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم فتردّ عليه»} والمراد بالقائم الإمام الحاضر لا المهدي الموعود - عليه الصّلاة والسّلام - فقط {ومكاتبة عبداللّه بن محمّد إلى أبي الحسن(علیه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبداللّه(علیه السلام) في ركعتي الفجر فروى بعضهم صلّ في المحمل وروى بعضهم لا تصلّها إلّا في الأرض؟ فوقّع(علیه السلام): «موسّع عليك بأيّه عملت»}.

هذا بناءً على أنّه سُئل عن المسألة الأصوليّة والإمام أجاب عن ذلك، أمّا بناءً على أنّه تخيير في المسألة الفرعيّة فلا دلالة فيه على المقام {ومكاتبة الحميري إلى الحجّة(علیه السلام)... إلى أن قال في الجواب عن ذلك حديثان... إلى أنقال(علیه السلام) «وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً» إلى غير ذلك من الإطلاقات} كخبر الكافي: «بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم»(4).

ص: 276


1- وسائل الشيعة 27: 122.
2- وسائل الشيعة 27: 122.
3- وسائل الشيعة 27: 121.
4- الكافي 1: 66.

ومنها: ما دلّ على التوقّف مطلقاً.

ومنها: ما دلّ على ما هو الحائط منها.

ومنها: ما دلّ على الترجيح بمزايا مخصوصه ومرجّحات منصوصة - من مخالفة القوم، وموافقة الكتاب والسّنّة، والأعدليّة، والأصدقيّة، والأفقهيّة، والأورعيّة، والأوثقيّة، والشّهرة - ، على اختلافها في الاقتصار على بعضها، وفي الترتيب بينها.

___________________________________________

{ومنها: ما دلّ على التوقّف مطلقاً} كخبر سماعة، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قلت: يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه؟ قال(علیه السلام): «لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأله». قلت: لا بدّ أن نعمل بواحد منهما؟ قال: «خذ بما فيه خلاف العامّة»(1).

ومكاتبة محمّد بن عليّ بن عيسى إلى عليّ بن محمّد(علیه السلام)، يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك^، قد اختلف علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه؟ أو الرّدّ إليك في ما اختلف فيه؟ فكتب(علیه السلام): «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردّوه إلينا»(2).

{ومنها: ما دلّ على} الأخذ ب- {ما هو الحائطمنها} قال في الحقائق: «لم أجد في ما يحضرني ما دلّ على الاحتياط مطلقاً، غير ما دلّ على التوقّف. نعم، في مرفوعة زرارة(3)

ذكر الاحتياط بعد عدم المرجّح»(4).

{ومنها: ما دلّ على الترجيح بمزايا مخصوصة ومرجّحات منصوصة من مخالفة القوم وموافقة الكتاب والسّنّة والأعدليّة والأصدقيّة والأفقهيّة والأورعيّة والأوثقيّة والشّهرة على اختلافها} أي: اختلاف الرّوايات {في الاقتصار على بعضها وفي الترتيب بينها}

ص: 277


1- الاحتجاج 2: 358؛ وسائل الشيعة 27: 122.
2- وسائل الشيعة 27: 302.
3- بحار الأنوار 2: 245؛ عن غوالي اللئالي 4: 133.
4- حقائق الأصول 2: 565.

___________________________________________

فبعضها قدّم صفة على صفة وبعضها عكس، وإليك جملة منها ذكرها في الوسائل، وإن كانت أكثر كما يجدها المتتبّع في المستدرك(1) وغيرها.

فعن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبداللّه(علیه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السّلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال(علیه السلام): «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً؛ لأنّه أخذ بحكم الطّاغوت، وإنّما أمر اللّه أن يكفر به». قال اللّه - تعالى - : {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ}(2).

قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران إلى من كان منكم من قد روى حديثناونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ وعلينا قد ردّ، والرّادّ علينا كالرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشّرك باللّه».

قلت: فإن كان كلّ رجل يختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا النّاظرين في حقّهما فاختلفا في ما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».

قلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما، ويترك الشّاذّ الّذي ليس بمشهور عند

ص: 278


1- مستدرك الوسائل 17: 302.
2- سورة النساء، الآية: 60.

___________________________________________

أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الأُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيتجنّب، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى اللّه». قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشّبهات نجى من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات، وهلك من حيث لا يعلم».

قال: قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: «ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسّنّة وخالف العامّة فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسّنّة ووافق العامّة».

قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسّنّة فوجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال: «ما خالف العامّة ففيه الرّشاد».فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: «ينظر إلى ما هم أميل إليه من حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر».

قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال: «إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشّبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1).

وعن ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي عن العلّامة مرفوعاً إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال(علیه السلام): «يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشّاذّ النّادر».

فقلت: يا سيّدي إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم؟ فقال: «خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك».

ص: 279


1- الكافي 1: 67؛ تهذيب الأحكام 6: 301؛ الاحتجاج 2: 356؛ وسائل الشيعة 27: 136.

___________________________________________

فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان؟ فقال: «انظر ما وافق منهما العامّة فاتركه، وخذ بما خالف فإنّ الحقّ في ما خالفهم».

قلت: ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال: «إذن فخذ بما فيه من الحائطة لدينك واترك الآخر».

قلت: فإنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال: «إذن تتخيّر أحدهما وتأخذ به ودع الآخر»(1).

وعن الصّدوق عن الرّضا(علیه

السلام) في حديث طويل قال فيه: «فما ورد عليكم من حديثين مختلفين فاعرضوهما على كتاب اللّه، فما كان في كتاب اللّه موجوداً حلالاً أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوهماعلى سنن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فما كان في السّنّة موجوداً منهيّاً عنه نهي حرام أو مأموراً به عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أمر إلزام فاتّبعوا ما وافق نهي النّبيّ(صلی الله علیه و آله) وأمره، وما كان في السّنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر خلافه فذلك رخصة في ما عافه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أو كرهه ولم يحرّمه، وذلك الّذي يسع الأخذ بهما جمعاً أو بأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والرّدّ إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا»(2).

وعن القطب الرّاوندي، عن الصّادق(علیه السلام): «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فردّوه، وإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فاعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق

ص: 280


1- بحار الأنوار 2: 245؛ عن غوالي اللئالي 4: 133.
2- عيون أخبار الرّضا(علیه السلام) 2: 20؛ وسائل الشيعة 27: 113.

___________________________________________

أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(1).

وعن الحسين ابن السّري قال: قال أبو عبداللّه(علیه السلام): «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم»(2).

وعن الحسن بن الجهم في حديث قلت له - يعني العبد الصّالح(علیه السلام) - : يروى عن أبي عبداللّه شيء ويروى عنه أيضاً خلاف ذلك فبأيّهمانأخذ؟ قال: «خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه»(3).

وعن محمّد بن عبداللّه قال: قلت للرضا(علیه السلام): كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال: «إذا ود عليكم خبران مختلفان فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه، وانظروا ما يوافق أخبارهم فدعوه»(4).

وعن المعلّى بن الخنيس قال: قلت لأبي عبداللّه(علیه السلام): إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ قال: «خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله». قال: ثمّ قال أبو عبداللّه(علیه السلام): «إنّا واللّه لا ندخلكم إلّا في ما وسعكم»(5).

وعن الحسين بن المختار، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه، فبأيّهما كنت تأخذ»؟ قال: كنت آخذ بالأخير. فقال: «رحمك اللّه - تعالى - »(6).

ص: 281


1- وسائل الشيعة 27: 118.
2- وسائل الشيعة 27: 118.
3- وسائل الشيعة 27: 118.
4- وسائل الشيعة 27: 119، وفيه: «فذروه».
5- الكافي 1: 67؛ وسائل الشيعة 27: 109.
6- الكافي 1: 67؛ وسائل الشيعة 27: 109.

ولأجل اختلاف الأخبار، اختلفت الأنظار:

فمنهم من أوجب الترجيح بها، مقيّدين بأخباره إطلاقات

___________________________________________

وعن أبي عمرو الكناني، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «يا أبا عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئت بعد ذلك تسألني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك، بأيّهما كنت تأخذ؟» قلت: بأحدثهما وأدع الآخر.

قال: «قد أصبت يا أبا عمرو، أبى اللّه إلّا أن يعبد سرّاً، أما واللّه لأن فعلتم ذلكإنّه لخير لي ولكم، أبى اللّه لنا ولكم في دينه إلّا التقيّة»(1).

وعن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبداللّه(علیه السلام): ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لا يتّهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال: «إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن»(2).

وعن أبي حيّون مولى الرّضا(علیه السلام): «أنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا»(3).

وعن داود بن فرقد، عن أبي عبداللّه(علیه السلام) قال: «أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب»(4).

{ولأجل اختلاف الأخبار} كما رأيت {اختلفت الأنظار: فمنهم من أوجب الترجيح بها} أي: بالمرجّحات {مقيّدين بأخباره} أي: أخبار الترجيح {إطلاقات}

ص: 282


1- الكافي 2: 218؛ وسائل الشيعة 27: 112.
2- الكافي 1: 64؛ وسائل الشيعة 27: 108.
3- وسائل الشيعة 27: 115.
4- وسائل الشيعة 27: 117.

التخيير.

وهم بين من اقتصر على الترجيح بها، ومن تعدّى منها إلى سائر المزايا، الموجبة لأقوائيّة ذي المزيّة وأقربيّته - كما صار إليه شيخنا العلّامة أعلى اللّه مقامه(1) - ، أو المفيدة للظنّ، كما ربّمايظهر من غيره(2).

فالتحقيق أن يقال: إنّ أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الأخبار هو المقبولة والمرفوعة، مع اختلافهما وضعف سند المرفوعة جدّاً.

___________________________________________

أخبار {التخيير} المتقدّمة {وهم بين من اقتصر على الترجيح} أي: بالمرجّحات المنصوصة {ومن تعدّى منها إلى سائر المزايا الموجبة لأقوائيّة ذي المزيّة وأقربيّته} إلى الواقع سواء أوجب الظنّ أو لم يوجب {كما صار إليه شيخنا العلّامة} المرتضى {أعلى اللّه مقامه} فإنّه بعد ما ذكر خبري أبي حيّون وابن فرقد قال: «وفي هاتين الرّوايتين الأخيرتين دلالة على وجوب الترجيح بحسب قوّة الدلالة»(3)، {أو المفيدة للظنّ} فكلّ مزيّة أفادت الظنّ توجب الترجيح سواء أفادت قوّة الدلالة أم لا {كما ربّما يظهر من غيره} أي: غير الشّيخ المرتضى(رحمة الله).

ولكن حيث إنّ الأخبار مضطربة {فالتحقيق أن يقال: إنّ أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الأخبار هو المقبولة} لعمر بن حنظلة، وإنّما سمّيت مقبولة لأنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول {والمرفوعة} المتقدّمة عن العلّامة، وسمّيت مرفوعة لأنّ الوسائط بين العلّامة وبين زرارة ساقطة {مع اختلافهما} في المرجّحات {وضعف سند المرفوعة جدّاً} لأنّها بالإضافة إلى الرّفع إنّما رويت عن الغوالي الّذي رُمِيَ بالضّعف.

ص: 283


1- فرائد الأصول 4: 75-78.
2- قوانين الأصول 2: 299؛ مفاتيح الأصول: 688.
3- فرائد الأصول 4: 68.

والاحتجاج بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال؛ لقوّة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة، لرفع المنازعة وفصل الخصومة، كما هو موردهما، ولا وجه للتعدّي منه إلى غيره، كما لا يخفى.

ولا وجه لدعوى تنقيح المناط، مع ملاحظة أنّ رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين، وتعارض ما استند إليه من الرّوايتين، لا يكاد يكون إلّا بالترجيح، ولذا

___________________________________________

{والاحتجاج بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى} مقابل مقام الحكومة {لا يخلو عن إشكال لقوّة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة} بين المتخاصمين {كما هو موردهما} أي: مورد المقبولة والمرفوعة، لكن لا يخفى أنّ المرفوعة ليست في مقام التنازع والخصومة.

والحاصل: أنّ الكلام الآن في باب الترجيح فى مقام الفتوى والمقبولة متعرّضة للترجيح في مقام الخصومة، فلا ربط لها بالمقام.

{و} إن قلت: نتعدّى من مقام الخصومة إلى مقام الفتوى.

قلت: {لا وجه للتعدّي منه} أي: مورد المقبولة {إلى غيره} الّذي هو مقام الفتوى {كما لا يخفى}.

{و} إن قلت: إنّ المناط في بابي الفتوى والمنازعة واحد، إذ هو الوصول إلى الواقع، فكلّما ورد ترجيح للمنازعة يصلح ترجيحاً للفتوى.

قلت: {لا وجه لدعوى تنقيح المناط مع ملاحظة} الفرق بين المقامين ف- {إنّ رفع الخصومةبالحكومة في صورة تعارض الحكمين وتعارض ما استند إليه من الرّوايتين} بيان «ما» {لا يكاد يكون إلّا بالترجيح} إذ التخيير لا يفصل الأمر، إذ يختار كلّ خصم ما ينفعه من التخيير.

{ولذا} أي: حيث يحتاج إلى الترجيح لفصل الخصومة ولا يكاد يمكن

ص: 284

أمر(علیه السلام) بإرجاء الواقعة إلى لقائه(علیه السلام) في صورة تساويهما في ما ذكر من المزايا، بخلاف مقام الفتوى.

ومجرّد مناسبة الترجيح لمقامها أيضاً، لا يوجب ظهور الرّواية في وجوبه مطلقاً، ولو في غير مورد الحكومة، كما لا يخفى.

وإن أبيت إلّا عن ظهورهما في الترجيح في كلا المقامين، فلا مجال لتقييد إطلاقات التخيير في مثل زماننا - ممّا لا يتمكّن من لقاء الإمام(علیه السلام) - بهما؛ لقصور المرفوعة سنداً،

___________________________________________

التخيير {أمر} الإمام {(علیه السلام) بإرجاء الواقعة إلى لقائه(علیه السلام) في صورة تساويهما في ما ذكر} (علیه السلام) {من المزايا} وذلك {بخلاف مقام الفتوى} إذ يمكن فيه التخيير، ولذا خيّر(علیه السلام) في غير واحد من الأخبار.

{ومجرّد مناسبة الترجيح} بالمرجّحات {لمقامها} أي: مقام الفتوى {أيضاً} كما هو مناسبة لمقام المنازعة {لا يوجب ظهور الرّواية} المقبولة {في وجوبه} أي: وجوب الترجيح {مطلقاً ولو في غير موردالحكومة، كما لا يخفى} وإن قلنا بالمرجّحات في تعارض الخبرين، فإنّما نقول بها استحباباً لهذه المناسبات لا إيجاباً، كما هو رأي القائل بلزوم الترجيح.

{وإن أبيت إلّا عن ظهورهما} أي: المقبولة والمرفوعة {في الترجيح في كلا المقامين} لأنّ المرفوعة مطلقة ليس فيها دليل على كونها في مقام الخصومة، والمقبولة - وإن كانت ابتداءً في مقام الخصومة - إلّا أنّها أخيراً انتقلت إلى الترجيح بين الرّوايات بما هو أعمّ من الحكم وفصل الخصومة، فإنّ في علّة الترجيح - «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» - ممّا لا يمكن اختصاصه بمقام الخصومة.

{فلا مجال لتقييد إطلاقات التخيير في مثل زماننا ممّا لا يتمكّن} الشّخص {من لقاء الإمام(علیه السلام) بهما} أي: بالمقبولة والمرفوعة {لقصور المرفوعة سنداً} فلا حجيّة

ص: 285

وقصور المقبولة دلالة؛ لاختصاصها بزمان التمكّن من لقائه(علیه السلام)، ولذا ما أرجع إلى التخيير بعد فقد الترجيح.

مع أنّ تقييد الإطلاقات الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين - بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين، مع ندرة كونهما متساويين جدّاً -

___________________________________________

فيها حتّى يمكن التقييد بها {وقصور المقبولة دلالة لاختصاصها بزمان التمكّن من لقائه(علیه السلام)} لأنّه قال في آخرها: «فأرجه حتّى تلقى إمامك» فهي حاكمة بالمرجّحات فيظرف إمكان رؤية الإمام حتّى إذا لم يكن مرجّح صبر المكلّف إلى لقاء الإمام حتّى يأخذ منه الحكم {ولذا ما أرجع} الإمام(علیه السلام) {إلى التخيير بعد فقد الترجيح}.

ومن المعلوم أنّ مع تخالف المطلق والمقيّد لا يقيّد الإطلاق، فلو قال أحد الدليلين: (أكرم العلماء) وقال الآخر: (لا تكرم زيداً العالم، أمام أبيه) لم يقيّد هذا المقيّد إطلاق (أكرم العلماء) بحيث يحكم بأنّه لا يجب إكرام زيداً مطلقاً، إذ المقيّد مقيّد في ظرف خاصّ لا مطلقاً حتّى يصلح لتقييد المطلق، وهنا من هذا القبيل؛ لأنّ أحد الدليلين قال: في صورة التعارض بين الخبرين أنت مخيّر، وقال الدليل الآخر: في صورة التعارض رجح وإلّا فاسأل من الإمام، فإنّ الترجيح بقرينة الذيل خاصّ بزمان وجود الإمام، فلا يمكن أن يحكم به حتّى في زمان غيبته، فتدبّر.

{مع أنّ تقييد الإطلاقات} لأخبار التخيير {الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين} حيث سألوا عن المتعارضين، فأجاب الإمام بكونه مخيّراً بأيّهما أخذ {بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين} فلم يقل الإمام في الجواب: إن كانا متعادلين فتخيّر، وإن كان أحدهما أرجح فخذ الأرجح {- مع ندرة كونهما متساويين جدّاً} حتّى يكون الجواب بملاحظة الأفراد الغالبة وهي

ص: 286

بعيد قطعاً، بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص لوجب حملها عليه، أو على ما لا ينافيها من الحمل على الاستحباب - كما فعله بعض الأصحاب(1)

- . ويشهد به الاختلاف الكثير بين ما دلّعلى الترجيح من الأخبار.

ومنه قد انقدح حال سائر أخباره.

___________________________________________

حالة التعادل - {بعيد قطعاً} خبر قوله: «مع أنّ تقييد» {بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص} بزمان حضور الإمام، بأن كانت المقبولة لبيان حكم المتعارضين مطلقاً، سواء زمان الحضور أم زمان الغيبة {لوجب حملها} أي: المقبولة {عليه} أي: على زمان الحضور {أو} الحمل {على ما لا ينافيها} أي: لا ينافي أخبار التخيير {من الحمل على الاستحباب} حتّى يلزم حمل أخبار التخيير على النّادر.

والحاصل: أنّ الأمر دائر بين أن نقول بأنّ أخبار التخيير خاصّة بما لم يكن ترجيح حتّى يبقى ظهور المقبولة على حاله، وهذا موجب لحمل هذه الأخبار على صورة نادرة، وبين أن نقول بأنّ المقبولة محمولة على صورة زمان وجود الإمام، أو نقول بإطلاقها ولكن نقول باستحباب المرجّحات، وهذا الحمل الثّاني أهون حتّى في ما إذا لم يكن في نفس المقبولة قرينة على التصرّف.

كيف وقد عرفت أنّ نفس المقبولة مشتملة على قرينة كونها فى زمان الإمام(علیه السلام) لا مطلقاً {كما فعله بعض الأصحاب، ويشهد به} أي: بالحمل على الاستحباب {الاختلاف الكثير بين ما دلّ على الترجيح من الأخبار} فإنّ الاختلاف يلائم الاستحباب لا الوجوب، إذ لو كان الترجيح واجباً لم يعقل هذا الاختلاف الكثير بين المرجّحات.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا في المقبولة والمرفوعة {قد انقدح حال سائر أخباره}

ص: 287


1- نسبه في فرائد الأصول 4: 55 إلى السيد الصدر.

مع أنّ في كون أخبار موافقة الكتاب،أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظراً، وجهه: قوّة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجّة؛ بشهادة ما ورد: في أنّه زخرف، وباطل، وليس بشيء، أو أنّه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار. وكذا الخبر الموافق للقوم؛ ضرورة أنّ أصالة عدم صدوره تقيّةً - بملاحظة الخبر المخالف لهم، مع الوثوق بصدوره لولا القطع به - غير جارية؛ للوثوق حينئذٍ بصدوره كذلك.

___________________________________________

أي: أخبار الترجيح ممّا تقدّم جملة منها {مع أنّ في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب} وأنّ هذين من المرجّحات {نظراً} واضحاً {وجهه قوّة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجّة} فهذه الأخبار المشتملة على إسقاط ما يخالف الكتاب والأخذ بما وافقه إنّما هي لتمييز الحجّة عن اللّاحجّة لا أنّها لتمييز الرّاجح من المرجوح {بشهادة ما ورد في أنّه} أي: الخبر المخالف للكتاب {زخرف وباطل، وليس بشيء، أو أنّه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار} ممّا يدلّ على أنّ المخالف ليس بحجّة إطلاقاً لا أنّه حجّة وإنّ غيره يقدّم عليه، كما هو المستفاد من القائلين بالترجيح {وكذا الخبر الموافق للقوم} ليس بحجّة أصلاً لا أنّه حجّة وأنّ غيره يقدّم عليه {ضرورة أنّ أصالة عدم صدوره تقيّة} الّتي تصحّح جهة الصّدور لا تجري مع موافقة القوم، فإنّه يعتبر في الخبر السّند والدلالة والجهة، فإذا سقطت الجهة لموافقته للقوم لم يكن الخبر حجّة في نفسه، فلو ورد خبران أحدهما يقول بإباحة استعمال الميتة الموافقة للعامّة والآخريقول بحرمتها المخالفة للعامّة، فأصالة عدم صدور الأوّل {بملاحظة الخبر} الثّاني {المخالف لهم} القائل بالحرمة {مع الوثوق بصدوره} أي: بصدور المخالف لهم {لولا القطع به} أي: بالصدور {غير جارية} خبر قوله: «فأصالة» {للوثوق حينئذٍ} أي: حين وجود الخبر المخالف لهم {بصدوره} أي: صدور الخبر الموافق {كذلك} أي: تقيّة.

ص: 288

وكذا الصّدور أو الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهوناً، بحيث لا يعمّه أدلّة اعتبار السّند، ولا الظهور، كما لا يخفى.

فتكون هذه الأخبار في مقام تمييز الحجّة عن اللّاحجّة لا ترجيح الحجّة على الحجّة، فافهم.

___________________________________________

وإنّما تختلّ الجهة في الخبر الموافق للعامّة إذا كان هناك خبر مخالف، وإلّا فمجرّد الموافقة لهم لا توجب إسقاط أصالة عدم الصّدور إلّا لبيان الحكم الواقعي.

{وكذا} تختلّ أصالة الظهور أو أصالة الصّدور بالنسبة إلى الخبر الّذي يخالف الكتاب، إذ الخبر إذا صار مخالفاً للكتاب لم يجر العقلاء أصالة الظهور أو أصالة الصّدور، فلا يكون ظاهره معتمداً عليه، ولذا يسقط عن الحجيّة؛ لأنّهم إذا رأوه مخالفاً علموا بأنّه إمّا أن لم يصدر وأنّ سنده مختلّ، وإمّا أن صدر ولكن لم يرد ظاهره فدلالته مختلّة، ف- {الصّدور أو الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهوناً} على سبيل منع الخلوّ {بحيث لا يعمّه أدلّة اعتبار السّند ولا الظهور، كما لا يخفى}.

لكن لا يخفى أنّ هذا الوهن إنّما هو في ما إذا كان هناك خبر موافق للكتاب،أمّا إذا لم يكن فظهور الخبر المخالف وصدوره لم يكونا موهومين، إذا لم يكن الخبر مخالفاً بنحو المباينة.

والحاصل: أنّ الخبر الموافق للعامّة والمخالف للكتاب - غير المخالف المباين - إن لم يبتليا بالمعارض اعتبر العقلاء جهاتهما الثلاث - السّند والدلالة والجهة - أمّا إذا ابتليا بالمعارض سبّب المعارض عدم الوثوق بجهاتهما فيسقطان عن الحجيّة {فتكون هذه الأخبار} الدالّة على ترجيح الموافقة للكتاب والمخالفة للعامّة {في مقام تمييز الحجّة عن اللّاحجّة} فالموافق للعامّة ليس بحجّة وكذا المخالف للكتاب {لا ترجيح الحجّة على الحجّة} أي: إنّ كلا المتعارضين حجّة لكن المخالف للعامّة والموافق للكتاب أرجح {فافهم} لعلّه

ص: 289

وإن أبيت عن ذلك، فلا محيص عن حملها - توفيقاً بينها وبين الإطلاقات - إمّا على ذلك، أو على الاستحباب، كما أشرنا إليه آنفاً، هذا.

ثمّ إنّه لولا التوفيق بذلك للزم التقييد أيضاً في أخبار المرجّحات، وهي آبية عنه،

___________________________________________

إشارة إلى أنّ المخالفة للكتاب والموافقة للعامّة إن أسقطا الخبر عن الحجيّة كان اللّازم القول بذلك حتّى في صورة عدم معارضتهما بشيء، وإن لم يسقطا الخبر عن الحجيّة كان اللّازم القول بأنّ المخالفة للعامّة والموافقة للكتاب من المرجّحات لا ممّا يميّز الحجّة عن اللّاحجّة، فالتفكيك بكونهما غير مسقطين في صورة الانفراد ومسقطين في صورة التعارض لا وجه له.

{وإن أبيت عن ذلك} الّذي ذكرنا من كون المخالفة للكتاب والموافقة للعامّة تسقطان عن الحجيّة لا أنّهما ترجّحان المعارض، وقلت بلإنّهما مرجّحان لا مسقطان {فلا محيص عن حملها} أي: حمل الأخبار المشتملة على الموافقة للكتاب والمخالفة للعامّة {- توفيقاً بينها} أي: بين هذه الأخبار {وبين الإطلاقات -} الدالّة على التخيير {إمّا على ذلك} الّذي ذكرنا من كونها تمييزاً للحجّة عن اللّاحجّة {أو على الاستحباب} حتّى تبقى الإطلاقات سليمة {كما أشرنا إليه آنفاً} واستبعدنا أن يكون الإمام(علیه السلام) قد أطلق التخيير في هذه الأخبار، مع كون التخييير منزلته بعد اليأس عن المرجّحات.

{هذا ثمّ إنّه لولا التوفيق بذلك} الّذي ذكرنا - من الحمل على الاستحباب، أو كونها لتمييز الحجّة عن اللّاحجّة - لزم أن نقول: إنّ الخبرين إذا كانا مخالفين للكتاب - كما لو دلّ الكتاب على الحرمة ودلّا على الاستحباب والوجوب - كانا حجّة من هذه النّاحية، وذلك ممّا لا يمكن، فإن لم نقل بالتوفيق على نحو ما ذكرنا {للزم التقييد أيضاً} كما تقيّد أخبار التخيير {في أخبار المرجّحات وهي آبية عنه} أي: عن التقييد.

ص: 290

كيف يمكن تقييد مثل: «ما خالف قول ربّنا لم أقله» أو: «زخرف أو باطل»؟! كما لا يخفى.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ إطلاقات التخيير محكمّة، وليس في الأخبار ما يصلح لتقييدها.

نعم، قد استدلّ على تقييدها - ووجوب الترجيح في المتفاضلين - بوجوه أُخر:

منها: دعوى الإجماع على الأخذ بأقوى الدليلين(1).وفيه: أنّ دعوى الإجماع - مع مصير مثل الكليني إلى التخيير، وهو في عهد الغيبة الصّغرى، ويخالط النّوّاب والسّفراء، قال في ديباجة الكافي: «ولا نجد شيئاً أوسع ولا أحوط من التخيير»(2)

- مجازفة.

___________________________________________

و{كيف يمكن تقييد مثل «ما خالف قول ربّنا لم أقله» أو «زخرف» أو «باطل» كما لا يخفى} هذا تمام الكلام في باب أنّه مع التعارض هل يرجع إلى المرجّحات أو يخيّر بين المتعارضين ابتداءً.

{فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ إطلاقات التخيير محكمّة وليس في الأخبار} الّتي ادّعي دلالتها على الترجيح وأنّ التخيير إنّما هو بعد اليأس عن المرجّحات {ما يصلح لتقييدها} بعدم المرجّحات.

{نعم، قد استدلّ على تقييدها ووجوب الترجيح في المتفاضلين بوجوه أُخر: }

{منها: دعوى الإجماع على الأخذ بأقوى الدليلين} والأقوى هو الأرجح.

{وفيه أنّ دعوى الإجماع} مضافاً إلى أنّه محتمل الاستناد ومثله ليس بحجّة، كما سبق في مبحث الإجماع {مع مصير مثل الكليني إلى التخييير، وهو في عهد الغيبة الصّغرى ويخالط النّوّاب والسّفراء} فإنّه {قال في ديباجة الكافي: «ولا نجد شيئاًأوسع ولا أحوط من التخيير»} انتهى {مجازفة} خبر قوله: «إنّ دعوى».

ثمّ إنّ قول الكليني: «أوسع» واضح، إذ التخيير أوسع من الترجيح، وأمّا قوله:

ص: 291


1- فرائد الأصول 4: 48.
2- الكافي 1: 9.

ومنها: أنّه لو لم يجب ترجيح ذي المزيّة لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح، وهو قبيح عقلاً، بل ممتنع قطعاً(1).

وفيه: أنّه إنّما يجب الترجيح لو كانت المزيّة موجبة لتأكّد ملاك الحجيّة في نظر الشّارع؛

___________________________________________

«أحوط» فلعلّ وجهه أنّ في العمل بأحدهما إعراضاً عن الآخر وهو خلاف الاحتياط في خبر اشتمل على شرائط الحجيّة.

{ومنها: أنّه لو لم يجب ترجيح ذي المزيّة لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح} فإنّ مقابل الرّاجح مرجوح، فإذا لم يلزم الأخذ بالراجح جاز الأخذ بالمرجوح، ومع الأخذ به ترجيح للمرجوح على الرّاجح {وهو} أي: الترجيح {قبيح عقلاً، بل ممتنع قطعاً} لأنّ الترجيح مستلزم للترجيح بلا مرجّح وذلك ممتنع.

والفرق بين الترجيح بغير مرجّح والترجّح بغير مرجّح: أنّ الأوّل مستند إلى الفاعل، وذلك قبيح، بخلاف الثّاني فإنّه ترجّح تلقائي، وذلك ممتنع؛ لأنّ ارتفاع أحد طرفي المتساويين بدون علّة، معناه: وجود المعلول بدون علّة، وذلك محال، كما لا يخفى.

{وفيه} أنّ المرجّح قد يرجّح جهة الحكم ومناطه وقد لا يرجّح ذلك.مثلاً: لو كان مناط حجيّة الخبر إفادته الظنّ فالمرجّح قد يوجب تقوية الظنّ فيصلح أن يكون مرجّحاً ومعيّناً، وقد لا يوجب ذلك - بل الظنّ في ذي المرجّح كالظنّ في غيره - وحينئذٍ فحيث لا نعلم نحن مناط الحجيّة لا نعلم أنّ هذه المرجّحات المذكورة تقوي المناط أم لا، فلا نعلم الترجيح فلا يمكن الترجيح بالمذكورات ف- {إنّه إنّما يجب الترجيح} بالمرجّح {لو كانت المزيّة موجبة لتأكّد ملاك الحجيّة في نظر الشّارع} الجار متعلّق ب- «ملاك».

ص: 292


1- مفاتيح الأصول: 687.

ضرورة إمكان أن تكون تلك المزيّة بالإضافة إلى ملاكها، من قبيل الحجر في جنب الإنسان، وكان الترجيح بها بلا مرجّح، وهو قبيح، كما هو واضح، هذا.

مضافاً إلى ما هو في الإضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع، من أنّ الترجيح بلا مرجّح في الأفعال الاختياريّة - ومنها الأحكام الشّرعيّة - لا يكون إلّا قبيحاً، ولا يستحيل وقوعه إلّا على الحكيم - تعالى - ، وإلّا فهو بمكان من الإمكان؛ لكفاية إرادة

___________________________________________

{ضرورة إمكان أن تكون تلك المزيّة بالإضافة إلى ملاكها} أي: ملاك الحجيّة {من قبيل الحجر في جنب الإنسان} الّذي لا يكون موجباً لزيادة إنسانيّته {و} حين احتملنا ذلك وأنّ المرجّح - الموهوم - لا يزيد ملاكاً {كان الترجيح بها} أي: بهذه المزيّة {بلا مرجّح} وسبب {وهو قبيح، كما هو واضح} فقد أصبح دليل المستدلّ - على الترجيح - دليلاً على عكسه وأنّه لا ترجيح.{هذا} هو الجواب عن هذا القائل {مضافاً إلى ما هو} أي: إلى الإشكال {في الإضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع} حيث إنّ المستدلّ قال: وهو

قبيح عقلاً بل ممتنع قطعاً {من أنّ} بيان «ما» يعني: أنّ هذا الإضراب فيه إشكال واضح، فإنّ الترجيح بلا مرجّح إنّما هو في الأفعال الاختياريّة، والترجّح بلا مرجّح بالنسبة إلى المعلول الّذي يكون بلا علّة، والمقام من قبيل الأوّل لا الثّاني، وهما لا يجتمعان في مكان فكيف يضرب عن أحدهما إلى الآخر؟!

فإنّ {الترجيح بلا مرجّح في الأفعال الاختياريّة - ومنها الأحكام الشّرعيّة - لا يكون إلّا قبيحاً} فإنّ الأحكام الشّرعيّة إنّما هي أوامر ونواهي من الشّارع {ولا يستحيل وقوعه} أي: القبيح {إلّا على الحكيم - تعالى -} إذ القبح ناشئ إمّا من خبث أو جهل أو عجز، واللّه - سبحانه - منزّه عن الجميع {وإلّا فهو} أي: القبيح {بمكان من الإمكان} الذاتي ولذا يصدر من غيره {لكفاية إرادة} الشّخص

ص: 293

المختار علّة لفعله، وإنّما الممتنع هو وجود الممكن بلا علّة، فلا استحالة في ترجيحه - تعالى - للمرجوح، إلّا من باب امتناع صدوره منه - تعالى - ، وأمّا غيره فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح ممّا باختياره.

وبالجملة: الترجيح بلا مرجّح بمعنى: بلا علّة محال، وبمعنى: بلا داع عقلائي قبيح ليس بمحال، فلا تشتبه.ومنها: غير ذلك(1)

ممّا لا يكاد يفيد الظنّ، فالصفح عنه أولى وأحسن.

___________________________________________

{المختار علّة لفعله} أي: فعل القبيح، وقوله: «لكفاية» علّة لقوله: «بمكان من الإمكان» {وإنّما الممتنع هو وجود الممكن بلا علّة} وهو الترجّح بلا مرجّح {فلا استحالة} ذاتيّة {في ترجيحه - تعالى - للمرجوح إلّا من باب امتناع صدوره منه - تعالى -} لأنّه لا يفعل قبيحاً، كما تقرّر في علم الكلام {وأمّا غيره} أي: غير اللّه سبحانه {فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح ممّا} يكون {باختياره} أي: اختيار ذلك الغير.

{وبالجملة الترجيح بلا مرجّح بمعنى} الوجود {بلا علّة محال، وبمعنى بلا داعٍ عقلائي} الّذي هو الترجيح بلا مرجّح {قبيح، ليس بمحال، فلا تشتبه} بينهما.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مراد المستدلّ استحالته في حقّ اللّه - سبحانه - إذ الكلام في الأحكام الشّرعيّة الّتي مصدرها اللّه - تعالى - أو يقرّب بأنّ مرجع الترجيح بلا مرجّح إلى الترجّح بلا مرجّح، كما قرّرناه في دليل المستدل.

{ومنها غير ذلك} من الوجوه الّتي ذكروها للترجيح {ممّا لا يكاد يفيد الظنّ} بالترجيح فكيف بالإلزام {فالصفح عنه أولى وأحسن} وقد ذكر بعضها المشكيني وغيره(2)، فراجع.

ص: 294


1- راجع فرائد الأصول 4: 53.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 5: 185؛ فرائد الأصول 4: 53-54؛ مفاتيح الأصول: 687.

ثمّ إنّه لا إشكال في الإفتاء بما اختاره من الخبرين، في عمل نفسه وعمل مقلّديه.

ولا وجه للإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعيّة؛ لعدم الدليل عليه فيها.

نعم،

___________________________________________

{ثمّ إنّه} بقي في المقام أمران:

الأوّل: أنّ المجتهد إذا ظفر بالمتعارضين وتخيّر بينهما إمّا ابتداءً، كما هو خيرة المصنّف، أو بعد العجز عن المرجّح، كما نسب إلى المشهور، فهل له التخيير في المسألة الفرعيّة أو لا، بل ينحصر التخيير بالمسألة الأصوليّة؟ فمثلاً: إذا ورد خبران أحدهما يقول: (لا تشرب التبغ) والآخر يقول: (لا بأس بشرب التّبغ) فالتخيير في المسألة الفرعيّة معناه: أنّه مخيّر بين الشّرب وتركه، ويكون حال التّبغ حال الماء في أنّه يجوز أن يشربه ويجوز أن لا يشربه، والتخيير في المسألة الأصوليّة معناه: أنّ في المقام حجّتين يجوز أن يأخذ بأحدهما، فإذا أخذ ب- (لا تشرب) كان التبغ محرّماً عليه حتّى أنّه لا يجوز شربه، وإذا أخذ ب- (لا بأس) كان التبغ مباحاً، حتّى أنّه يجوز شربه وتركه.

ثمّ هل يجوز له أن يفتي بالتخيير أو ليس له إلّا أن يفتي بما أخذه حجّة لنفسه؟ المصنّف على أنّه {لا إشكال في الإفتاء بما اختاره من الخبرين في عمل نفسه وعمل مقلّديه} فإذا اختار خبر التحريم أفتى بالحرمة وعمل هو في نفسه بمقتضى التحريم {ولا وجه للإفتاء بالتخيير} بأن يقول: أيّها المقلّدون أنتم مخيّرون في جعل التبغ لأنفسكم محرّماً وفي جعله مباحاً {في المسألة الفرعيّة لعدم الدليل عليه} أي: على التخيير{فيها} أي: في المسألة الفرعيّة، إذ ما دلّ على التخيير إنّما دلّ على التخيير في المسألة الأصوليّة بأخذ أحد الحجّتين والعمل على طبقه.

{نعم} إذا صار رأي المجتهد أنّه مخيّر بين الحجّتين جاز له أن يفتي بذلك بأن يقول: أيّها المقلّدون هنا خبران يتخيّر كلّ واحد منكم أن يأخذ بأحدهما حتّى

ص: 295

له الإفتاء به في المسألة الأصوليّة، فلا بأس حينئذٍ باختيار المقلّد غيرَ ما اختاره المفتي، فيعمل بما يفهم منه، بصريحه أو بظهوره الّذي لا شبهة فيه.

وهل التخيير بدويّ أو استمراريّ؟

قضيّة الاستصحاب - لو لم نقل بأنّه قضيّة الإطلاقات أيضاً - كونُه استمراريّاً.

وتوهّم(1)

«أنّ المتحيّر

___________________________________________

يجوز للمقلّد أن يأخذ بالخبر الدالّ على الإباحة وإن أخذ مجتهده بالخبر الدالّ على التحريم، ف- {له الإفتاء به} أي: بالتخيير {في المسألة الأصوليّة، فلا بأس حينئذٍ} أي: حين إفتاء المجتهد بأنّهم مخيّرون بين الأخذ بأحد الخبرين {باختيار المقلّد غير ما اختاره المفتي، فيعمل بما يفهم منه} أي: من الخبر الّذي اختاره هو بنفسه {بصريحه أو بظهوره الّذي لا شبهة فيه} ولو قلّد المجتهد في المسألة الفرعيّة لم يكن له إلّا الأخذ بما اختاره المجتهد، كما لا يخفى.

الثّاني: {وهل التخيير} في الأخذ بأحد الخبرين {بدويّ} حتّى أنّ المجتهد أو المقلّد لو أخذ بما دلّ على التحريم لم يجز له أن يأخذ في مرتبة أُخرى بما يدلّ على الإباحة {أو استمراريّ} ففي كلّ مرّة يجوزله أن يأخذ بالتحريم وأن يأخذ بالإباحة {قضيّة الاستصحاب} القائل بأنّ الشّخص استمرار حاله حال الشّخص في الابتداء {- لو لم نقل بأنّه} أي: ما سيجيء من التخيير الاستمراري {قضيّة الإطلاقات} الدالّة على التخيير الحاكمة بأنّه مستمرّ {أيضاً - كونه} أي: التخيير {استمراريّاً} لا بدويّاً فقط.

{وتوهّم «أنّ المتحيّر} هو موضوع الحكم بالتخيير، فإذا أخذ الشّخص بأحد الخبرين ذهب تحيّره فلا موضوع للإطلاق ولا بقاء لموضوع الاستصحاب، وحينئذٍ يجب أن يكون التخيير بدويّاً لا استمراريّاً، إذ المتحيّر

ص: 296


1- فرائد الأصول 4: 43.

كان محكوماً بالتخيير، ولا تحيّر له بعد الاختيار، فلا يكون الإطلاق ولا الاستصحاب مقتضياً للاستمرار، لاختلاف الموضوع فيهما».

فاسد؛ فإنّ التحيّر بمعنى تعارض الخبرين باق على حاله، وبمعنى آخر لم يقع في خطابٍ موضوعاً للتخيير أصلاً، كما لا يخفى.

فصل: هل على القول بالترجيح يُقتصر فيه على المرجّحات المخصوصة المنصوصة، أو يتعدّى إلى غيرها؟

قيل:

___________________________________________

{كان محكوماً بالتخيير ولا تحيّر له} أي: للشخص {بعد الاختيار} لأحد الخبرين {فلا يكون الإطلاق} إذ بذهاب موضوع المطلق يذهب حكمه {ولا الاستصحاب} لما سبق في مبحث الاستصحاب من لزوم بقاء الموضوع.

فلا يكون في المقام دليل {مقتضياً للاستمرار لاختلافالموضوع فيهما»} أي: في الإطلاقات والاستصحاب {فاسِدٌ} خبر قوله: «وتوهّم» {فإنّ التحيّر بمعنى تعارض الخبرين باقٍ على حاله} فموضوع المطلق باقٍ، ولو فرض أنّه لا إطلاق فالاستصحاب حاكم بالبقاء لبقاء موضوعه {وبمعنى آخر} كما لو قلنا بأنّ المراد من المتحيّر الّذي لم يعمل إلى الآن - وهو مرتفع بعد العمل بأحدهما - {لم يقع في خطاب موضوعاً للتخيير أصلاً} حتّى نقول بزوال الموضوع بسبب العمل ولو مرّة واحدة {كما لا يخفى} واللّه العالم.

[فصل في المرجحات غير المنصوصة]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، المرجحات غير المنصوصة

{فصل} في التعدّي عن المرجّحات المنصوصة {هل على القول بالترجيح} وأنّه يلاحظ المرجّحات، فإذا فقدت يخيّر بين الخبرين {يقتصر فيه} أي: في الترجيح {على المرجّحات المخصوصة المنصوصة أو يتعدّى إلى غيرها} من كلّ ما يوجب أقوائيّة أحد الخبرين وإن لم ينصّ عليه؟ {قيل} والقائل الشّيخ

ص: 297

بالتعدّي؛ لما في الترجيح بمثل الأصدقيّة والأوثقيّة ونحوهما، ممّا فيه من الدلالة على أنّ المناط في الترجيح بها، هو كونها موجبة للأقربيّة إلى الواقع.

ولما في التعليل ب- : «أنّ المشهور ممّا لا ريب فيه» من استظهار أنّ العلّة هو: عدم الرّيب فيه، بالإضافة إلى الخبر الآخر، ولو كان فيه ألف ريب.

ولما في التعليل بأنّ الرّشد في خلافهم.

ولا يخفى ما في الاستدلال بها:

أمّا الأوّل: فإنّ جعل خصوص شيءٍ فيه جهةالإراءة

___________________________________________

المرتضى(رحمة الله) ونسبه إلى المجتهدين(1)

{بالتعدّي ل-} وجوه:

الأوّل: {ما في الترجيح بمثل الأصدقيّة والأوثقيّة ونحوهما} كالأفقهيّة {ممّا فيه من الدلالة على أنّ المناط في الترجيح بها} أي: بهذه الصّفات {هو كونها موجبة للأقربيّة إلى الواقع} فكلّ شيء يوجب الأقربيّة يكون مرجّحاً وإن لم ينصّ عليه.

{و} الثّاني {لما في التعليل ب-«أنّ المشهور ممّا لا ريب فيه» من استظهار أنّ العلّة} في الترجيح بالشهرة {هو عدم الرّيب} النّسبي {فيه بالإضافة إلى الخبر الآخر ولو كان فيه ألف ريب} فكلّ ما هو يوجب أن يكون الخبر أقلّ ريباً من معارضه يرجّح الخبر وإن لم يكن منصوصاً.

{و} الثّالث {لما في التعليل بأنّ الرّشد في خلافهم} أي: خلاف العامّة، ممّا يدلّ على أنّ ما يحتمل أن يكون الرّشد فيه مقدّم على ما لا يحتمل ذلك، وإن كان السّبب لاحتمال الرّشد غير منصوص عليه.

{ولا يخفى ما في الاستدلال بها} أي: بهذه الوجوه:

{أمّا الأوّل: فإنّ جعل خصوص شيء فيه جهة الإراءة} للواقع

ص: 298


1- فرائد الأصول 4: 294.

والطّريقيّة حجّةً أو مرجّحاً، لا دلالة فيه على أنّ الملاك فيه بتمامه جهة إراءته،بل لا إشعار فيه، كما لا يخفى؛ لاحتمال دخل خصوصيّته في مرجّحيّته أو حجيّته، لاسيّما قد ذكر فيها ما لا يحتمل الترجيح به إلّا تعبّداً، فافهم.

وأمّا الثّاني: ف-

___________________________________________

{والطّريقيّة حجّة أو مرجّحاً} كما جعل الأصدقيّة في المقام مرجّحاً {لا دلالة فيه} أي: في هذا الجعل {على أنّ الملاك فيه بتمامه} هو {جهة إراءته، بل لا إشعار فيه، كما لا يخفى} فلا يتعدّى إلى كلّ شيء له جهة الإراءة {لاحتمال دخل خصوصيّته} أي: خصوصيّة المجعول {في مرجّحيّته أو حجيّته}.

نعم، يفيد الظنّ ولكن الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، فإذا جعل المولى خبر الواحد حجّة لا يدلّ ذلك على أنّ كلّ شيء مظنون مطابقته للواقع حجّة وإن كان أقوى من الخبر في إراءة الواقع، إذ لم يعلم أنّ الملاك في الحجيّة هو إراءة الواقع فقط {لاسيّما قد ذكر فيها} أي: في المرجّحات {ما لا يحتمل الترجيح به إلّا تعبّداً} كالأورعيّة، فإنّها لا تكشف عن الواقع إطلاقاً، فهي قرينة على عدم كون الملاك الأقربيّة إلى الواقع {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ جميع المرجّحات المذكورة حتّى الأورعيّة ممّا توجب الأقربية إلى الواقع في الجملة.

{وأمّا الثّاني ف-} نقول: قد تكون الشّهرة موجبة للأقربيّة وقد تكون موجبة للاطمئنان، فإذا كان المراد بالشهرة الأوّل كان دليلاً للقائل بالتعدّي، لكن الظاهر الثّاني، إذ الشّهرة في زمان الأئمّة كانت موجبة للاطمئنان.

وعليه فلا دلالة في الرّواية على أنّ كلّ ما يوجب الأقربيّة يكون مرجّحاً، بل تدلّ على أنّ كلّ شيء يوجب الاطمئنان يكون مرجّحاً، ولا بأس بمثل هذاالتعدّي، لكن مراد القائل بالتعدّي غير هذا، فإنّه يتعدّى إلى كلّ شيء يوجب

ص: 299

لتوقّفه على عدم كون الرّواية المشهورة في نفسها ممّا لا ريب فيها، مع أنّ الشّهرة في الصّدر الأوّل بين الرّواة وأصحاب الأئمّة^ موجبة لكون الرّواية ممّا يطمأنّ بصدورها، بحيث يصحّ أن يقال - عرفاً - : «إنّها ممّا لا ريب فيها» كما لا يخفى.

ولا بأس بالتعدّي منه إلى مثله، ممّا يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور، لا إلى كلّ مزيّة ولو لم توجب إلّا أقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع، من المعارض الفاقد لها.

وأمّا الثّالث: فلاحتمال أن يكون الرّشد في نفس المخالفة؛ لحسنها.

___________________________________________

الأقربيّة، فكون هذا التعليل موجباً للتعدّي ليس تامّاً مطلقاً {لتوقّفه على عدم كون الرّواية المشهورة في نفسها ممّا لا ريب فيها} بأن يكون «لا ريب» إضافيّاً حتّى يقال: بكلّ مرجّح إضافي، لا أن يكون «لا ريب» حقيقيّاً {مع} أنّه حقيقي.

ف- {إنّ الشّهرة في الصّدر الأوّل بين الرّواة وأصحاب الأئمّة^} كانت {موجبة لكون الرّواية ممّا يطمأنّ بصدورها، بحيث يصحّ أن يقال - عرفاً - «إنّها ممّا لا ريب فيها»} وإن كان فيها ريب دقّيّ عقليّ {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{ولا بأس بالتعدّي منه} أي: من هذا المرجّح - الّذي هو الشّهرة - الموجب لوصف الرّواية بأنّها «لا ريب فيها» {إلى مثلهممّا يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور} فإذا كان خبران متعارضان أحدهما مطمئنّ بصدوره والآخر غير مطمئنّ إليه قدّم الأوّل {لا} التعدّي {إلى كلّ مزيّة ولو لم توجب إلّا أقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع من} الخبر {المعارض} له {الفاقد لها} أي: للأقربيّة.

{وأمّا الثّالث فلاحتمال أن يكون} وجه جعل الرّشد في خلافهم أنّ نفس المخالفة مرغوبة ولو لم توجب المخالفة الأقربيّة، بأن يكون في نفس المخالفة جهة رجحان، فإنّ نفس التشبّه بقوم منحرف - ولو في الأُمور المباحة - مرغوب عنه شرعاً، ف- {الرّشد في نفس المخالفة لحسنها} أي: حسن نفس المخالفة.

ص: 300

ولو سُلم أنّه لغلبة الحقّ في طرف الخبر المخالف، فلا شبهة في حصول الوثوق بأنّ الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدوراً، أو جهةً، ولا بأس بالتعدّي منه إلى مثله، كما مرّ آنفاً.

ومنه انقدح حال ما إذا كان التعليل لأجل انفتاح باب التقيّة فيه؛ ضرورة كمال الوثوق بصدوره كذلك، مع الوثوق بصدورهما - لولا القطع به -

___________________________________________

{ولو} قيل بأنّه ليس كذلك و{سلّم أنّه} أي: جعل المخالفة مرجّحة {لغلبة الحقّ في طرف الخبر المخالف} لهم {ف-} نقول: إنّه ليس لمجرّد الأقربيّة، بل لكونه موجباً للاطمئنان، ولا بأس بالتعدّي إلى كلّ ما يوجب الاطمئنان، إذ {لا شبهة في حصول الوثوق بأنّ الخبر الموافق} للعامّة {المعارضبالمخالف} لهم {لا يخلو من الخلل صدوراً أو جهة} فهو إمّا غير صادر عن الأئمّة^ أو صادر لأجل التقيّة لا لبيان الحكم الواقعي {ولا بأس بالتعدّي منه إلى مثله} من كلّ ما يوجب وثوقاً بأنّ المعارض فيه خلل سنداً أو جهة {كما مرّ آنفاً} في الجواب الثّاني.

{ومنه} أي: من الجواب الّذي ذكرناه في قولنا: «ولو سلّم» {انقدح حال ما إذا كان التعليل} بقوله(علیه السلام): «لأنّ الرّشد في خلافهم» {لأجل انفتاح باب التقيّة فيه} أي: في الخبر الموافق للعامّة.

والفرق بين هذا وسابقه أنّ «لو سلّم» كأن يقول: المرجّح كون الحقّ في طرف المخالف غالباً، وهذا يقول: إنّ الموافق يحتمل فيه ما لا يحتمل في المخالف، فتقديم المخالف إمّا لأجل أنّه أقرب، وإمّا لأجل أنّ معارضه محتمل الخلل.

ثمّ إنّ المصنّف(رحمة الله) علّل وجه احتمال الخبر الموافق للتقيّة بقوله: {ضرورة كمال الوثوق بصدوره} أي: الموافق {كذلك} أي: تقيّة {مع الوثوق بصدورهما} أي: إذا وثقنا بصدور الخبرين نثق بأنّ الموافق صادر تقيّة {لولا القطع به} أي: بالصدور

ص: 301

في الصّدر الأوّل؛ لقلّة الوسائط ومعرفتها، هذا.

مع ما في عدم بيان الإمام(علیه السلام) للكليّة، كي لا يحتاج السّائل إلى إعادة السّؤال مراراً، وما في أمره(علیه السلام) ب-الإرج-اء - بعد فرض التساوي ف-ي ما ذكره من المزاي--ا المنصوصة -

___________________________________________

تقيّة {في الصّدر الأوّل} في زمان الأئمّة^ {لقلّة الوسائط ومعرفتها} فإذا كان هناك واسطتان للخبرين - زرارة، عن محمّد بن مسلم، عن الإمام(علیه السلام) - كان كلاهما موثوق الصّدور، فيوثق بكون الموافق للعامّة صادراً عن تقيّة، وهذا بخلاف زماننا ممّا كثرت الوسائط ولا نعرف كثيراً منهم ممّا يوجب أن لا نثق بصدور كثير من الأخبار.

والحاصل: أنّ الخبر الموافق في ذاك الزّمان كان موثوقاً بأنّه صادر عن تقيّة، فحيث يحتمل هذا في الموافق كان سبباً للأخذ بالمخالف.

ووجه الانقداح في قوله: «انقدح» أنّه إذا كان وجه الأخذ بالمخالف انفتاح باب التقيّة في الموافق لم يكن وجه للتعدّي منه إلى كلّ مزيّة. نعم، له وجه في التعدّي إلى كلّ ما يوجب الوثوق بخلل في الخبر، وهذا ليس مقصد القائل بالتعدّي.

{هذا} تمام الجواب عن الوجوه الّتي ذكروها للتعدّي إلى كلّ مزيّة، مضافاً إلى أنّه لو كان المرجّح كلّ مزيّة لبيّن الإمام(علیه السلام) قاعدة كليّة لذلك. مثلاً: قال: (كلّما يوجب القرب إلى الواقع) فحيث لم يبيّن كشف ذلك عن خصوصيّة هذه المرجّحات المنصوصة دون كلّ مزيّة.

و إلى هذا أشار بقوله: {مع ما في عدم بيان الإمام(علیه السلام) للكليّة} وأنّ كلّ مزيّة توجب الترجيح {كي لا يحتاج السّائل إلى إعادة السّؤال مراراً} كما في المقبولة والمرفوعة {وما في أمره(علیه السلام) بالإرجاء بعد فرض التساوي في ما ذكره من المزايا المنصوصة} حيث لو كانت مزايا أُخر لم تصل النّوبة إلى الإرجاء، بل صارت النّوبة

ص: 302

من الظهور في أنّ المدار في الترجيحعلى المزايا المخصوصة، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه بناءً على التعدّي، حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظنّ بذي المزيّة، ولا أقربيّته - كبعض صفات الرّاوي، مثل الأورعيّة أو الأفقهيّة، إذا كان موجِبهما ممّا لا يوجب الظنّ أو الأقربيّة، كالتورّع من الشّبهات، والجهد في العبادات، وكثرة التتبّع في المسائل الفقهيّة، أو المهارة في القواعد الأصوليّة - فلا وجه للاقتصار على التعدّي إلى خصوص ما يوجب الظنّ أو الأقربيّة، بل

___________________________________________

إلى تلك المزايا {من الظهور} بيان «ما» {في أنّ المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة} فقط {كما لا يخفى} دون غيرها.

{ثمّ إنّه بناءً على التعدّي} عن المرجّحات المنصوصة فلا وجه للتعدّي إلى كلّ ما يوجب الأقربيّة فقط، بل اللّازم التعدّي إلى كلّ مزيّة ولو لم توجب أقربيّة، إذ المرجّحات المنصوصة على قسمين: قسم يرجّح به بمناط الأقربيّة كالأصدقيّة، وقسم يرجّح به لا بهذا المناط كالأورعيّة.

فإذا قلنا بالتعدّي لزم القول بالتعدّي عنهما معاً لا عن القسم الأوّل خاصّة، ف- {حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظنّ بذي المزيّة} أي: الخبر الحاوي لها {ولا أقربيّته} إلى الواقع {كبعض صفات الرّاوي - مثل الأورعيّة أو الأفقهيّة - إذا كان موجبهما} أي: ما يوجب الأورعيّة والأفقهيّة {ممّا لا يوجب الظنّ} بالواقع {أو الأقربيّة} إليه {كالتورّع من الشّبهات} فإنّه غير موجب لأنْ نظنّ بخبره أكثر من ظنّنا بخبر غيره، كما لا يوجب أقربيّة خبره إلى الواقع {والجهد في العبادات} بإتيان النّوافل وسائرالمستحبّات {وكثرة التتبّع في المسائل الفقهيّة} ممّا لا يرتبط بعالم الرّواية {أو المهارة في القواعد الأصوليّة}.

وقوله: «كالتورّع» الخ مرتبط بقوله: «مثل الأورعيّة»، وقوله: «كثرة» الخ مرتبط بقوله: «الأفقهيّة»، وقوله: «وحيث» مرتبط بقوله: {فلا وجه للاقتصار على التعدّي إلى خصوص ما يوجب الظنّ أو الأقربيّة} إلى الواقع {بل} يلزم التعدّي

ص: 303

إلى كلّ مزيّة، ولو لم تكن بموجبة لأحدهما، كما لا يخفى.

وتوهّم: «أنّ ما يوجب الظنّ بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجّح، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجيّة؛ للظنّ بكذبه حينئذٍ».

فاسد؛ فإنّ الظنّ بالكذب لا يضرّ بحجيّة ما اعتبر من باب الظنّ نوعاً، وإنّما يضرّ في ما أُخذ في اعتباره عدم الظنّ بخلافه، ولم يؤخذ في اعتبار الأخبار - صدوراً ولا ظهوراً ولا جهةً -

___________________________________________

{إلى كلّ مزيّة ولو لم تكن بموجبة لأحدهما} كالشهرة في الفتوى وإعراض بعض الأصحاب القدماء وأشباه ذلك {كما لا يخفى}.

{و} إن قلت: كيف ذكرتم أنّ الظنّ بصدق أحد الخبرين من المرجّحات والحال أنّه من المعيّنات، إذ بقيام الظنّ على صدق خبر يظنّ بكذب الخبر المعارض له، فيسقط ذاك عن الحجيّة رأساً ويكون المظنون حجّة فقط، فليس الباب من الترجيح - كما ذكرتم - بل من تمييز الحجّة عن اللّاحجّة.

قلت: {توهّم «أنّ ما يوجب الظنّ بصدق أحدالخبرين لا يكون بمرجّح} للخبر المظنون {بل موجب لسقوط الآخر عن الحجيّة للظنّ بكذبه حينئذٍ»} أي: حين ظنّ بصدق مخالفه، فإذا ظنّ بصدق الدليل القائل بحليّة التبغ فقد ظنّ بكذب الدليل القائل بحرمته {فاسد} إذ الظنّ المعتبر في الأخبار هو الظنّ النّوعي، وهو حاصل في الخبر بمجرّد كونه خبراً، سواء ظنّ - شخصيّاً - بصدقه أو كذبه أم شكّ فيه {فإنّ الظنّ بالكذب لا يضرّ بحجيّة ما اعتبر من باب الظنّ نوعاً} فكلا الخبرين حجّة ويكون الظنّ مرجّحاً لأحدهما لا مسقطاً للآخر عن الحجيّة {وإنّما يضرّ} الظنّ بالكذب ويسقط الخبر عن الحجيّة {في ما أُخذ في اعتباره عدم الظنّ بخلافه} بأن يكون منوطاً بالظنّ الشّخصي {ولم يؤخذ في اعتبار الأخبار صدوراً} أي: سنداً {ولا ظهوراً} أي: دلالة {ولا جهة} أي: كونها صادرة لبيان الحكم

ص: 304

ذلك، هذا.

مضافاً إلى اختصاص حصول الظنّ بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما صدوراً، وإلّا فلا يوجب الظنّ بصدور أحدهما؛ لإمكان صدورهما مع عدم إرادة الظهور في أحدهما أو فيهما، أو إرادته تقيّة، كما لا يخفى.

نعم،

___________________________________________

الواقعي لا للتقيّة ونحوها {ذلك} أي: اشتراط عدم الظنّ بالخلاف، فالسند والدلالة والجهة كلّها مستندة إلى بناء العقلاء وهم لا يشترطون عدم الظنّ بالخلاف.

{هذا مضافاً إلى} أنّ الظنّ بأحد الخبرين لا يستلزم الظنّبكذب الآخر لاحتمال صدورهما معاً، وكون ظاهر أحدهما غير مراد، لا أن يكون الآخر مكذوباً من أصله حتّى يكون الظنّ من باب تمييز الحجّة عن اللّاحجّة، ل- {اختصاص حصول الظنّ بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما صدوراً} بأن علم بأنّ أحدهما لم يصدر إطلاقاً {وإلّا} فلو لم يكن له هذا العلم {فلا يوجب الظنّ بصدور أحدهما} الظنّ بكذب الآخر {لإمكان صدورهما} معاً {مع عدم إرادة الظهور في أحدهما أو فيهما أو إرادته} أي: الظهور {تقيّة} لا لبيان الحكم الواقعي {كما لا يخفى}.

{نعم} لو كانت الدلالة وجهة الصّدور في كليهما قطعيّاً كان اللّازم من الظنّ بصدق أحدهما كذب الآخر.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من أنّه لا وجه للتعدّي إلى خصوص ما أوجب القرب إلى الواقع، بل اللّازم التعدّي إلى كلّ مزيّة؛ لأنّ في الأخبار ذكرت بعض المزايا الّتي لا توجب أقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع إنّما هو في ما إذا كان مناط التعدّي الأخبار أو تنقيح المناط.

ص: 305

لو كان وجه التعدّي اندراجَ ذي المزيّة في أقوى الدليلين، لوجب الاقتصار على ما يوجب القوّة في دليليّته، وفي جهة إثباته وطريقيّته، من دون التعدّي إلى ما لا يوجب ذلك، وإن كان موجباً لقوّة مضمون ذيه ثبوتاً، كالشهرة الفتوائيّة أو الأولويّة الظنيّة ونحوهما؛ فإنّ المنساق من قاعدة: «أقوى الدليلين» - أو المتيقّن منها - ، إنّما هو الأقوى دلالة، كما لا يخفى، فافهم.

فصل: قد عرفت سابقاً أنّه لا تعارض فيموارد الجمع والتوفيق العرفي، ولا يعمّها

___________________________________________

وأمّا {لو كان وجه التعدّي اندراج ذي المزيّة في أقوى الدليلين} الّذي ادّعي عليه {لوجب الاقتصار على ما يوجب القوّة في دليليّته وفي جهة إثباته وطريقيّته} بأن تكون دلالة أحدهما أقوى من دلالة الآخر فكلّ ما أوجب ذلك كان مرجّحاً {من دون التعدّي إلى ما لا يوجب ذلك، وإن كان موجباً لقوّة مضمون ذيه ثبوتاً كالشهرة الفتوائيّة} الّتي لا توجب قوّة الدلالة وإنّما توجب قوّة المضمون {أو الأولويّة الظنيّة ونحوهما} ممّا لا يقوّي الدلالة {فإنّ المنساق من قاعدة «أقوى الدليلين»} الّتي هي مصبّ الإجماع في باب الترجيح {أو المتيقّن منها} أي: من تلك القاعدة {إنّما هو الأقوى دلالة، كما لا يخفى، فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ الظاهر من «أقوى الدليلين» الأعمّ من المرجّحات الدلاليّة أو غيرها لا خصوص المرجّحات الموجبة لقوّة الدلالة.

[فصل الكلام في شمول أخبار العلاج لموارد الجمع العرفي]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، الكلام في شمول أخبار العلاج ...

{فصل} في أنّ أخبار العلاج هل تعمّ موارد الجمع العرفي أيضاً أم هي خاصّة بما لا يمكن الجمع العرفي فيه؟ {قد عرفت سابقاً أنّه لا تعارض} حقيقة وبنظر العرف {في موارد الجمع والتوفيق العرفي} كالنّصّ والظاهر أو الأظهر والظاهر ممّا يرى العرف جمعاً بينهما {ولا يعمّها} أي: لا يعمّ تلك الموارد

ص: 306

ما يقتضيه الأصل في المتعارضين، من سقوط أحدهما رأساً، وسقوط كلّ منهما، في خصوص مضمونه كما إذا لم يكونا فيالبين؛ فهل التخيير أو الترجيح يختصّ أيضاً بغير مواردها أو يعمّها؟

___________________________________________

{ما يقتضيه الأصل في المتعارضين} فإنّ الأصل في المتعارضين - كما عرفت - سقوطهما عن الحجيّة بالنسبة إلى مفاد كلّ واحد منهما، فلا يمكن الأخذ بما دلّ على الوجوب ولا بما دلّ على التحريم، وإن أمكن الأخذ بما لازم الأمرين من نفي الثّالث كالاستحباب مثلاً، لعدم التعارض بينهما في نفي الثّالث.

وقوله: {من سقوط أحدهما رأساً} بيان قوله: «ما يقتضيه» أي: إنّ الأصل يقتضي سقوط أمر المتعارضين إطلاقاً في مفهومه وفي لازمه، إذ التعارض يدلّ على عدم ورود أحدهما قطعاً {وسقوط كلّ منهما في خصوص مضمونه} المطابقي مقابل الالتزامي، كما عرفت {كما إذا لم يكونا في البين} تشبيه لقوله: «وسقوط».

والحاصل: أنّ أصالة السّقوط لا تشمل الموارد الّتي بينها جمع عرفي، فليس الأصل في (أكرم كلّ عالم) و(لا تكرم زيداً) سقوطهما، وإنّما الأصل الجمع بينهما بحمل الظاهر - وهو العام - على النّصّ - وهو الخاص - {فهل التخيير} في مورد التساوي {أو الترجيح} في مورد الرّجحان {يختصّ أيضاً} كالأصل {بغير مواردها} أي: موارد الجمع العرفي {أو يعمّها} أي: يعمّ كلّ من التخيير والترجيح موارد الجمع العرفي، فهل ما في الرّوايات من التخيير والترجيح جار في موارد الجمع العرفي حتّى أنّه لا يصحّ الجمع العرفي، بل اللّازم إعمال قواعد المرجّحات في العام والخاص والمطلق والمقيّد ونحوهما، أم حال الرّوايات حال الأصل لا تشمل موارد الجمع؟

وإن شئت قلت: إنّ العقلاء يرون التساقط في المتعارضين ويرون الجمع فيالظاهر والأظهر، فهل الرّوايات كذلك، أم أنّ ما دلّ من إعمال قواعد التعادل

ص: 307

قولان:

أوّلهما المشهور(1)،

وقصارى ما يقال في وجهه: أنّ الظاهر من الأخبار العلاجيّة - سؤالاً وجواباً - هو التخيير أو الترجيح في موارد التحيّر، ممّا لا يكاد يستفاد المراد هناك عرفاً، لا في ما يستفاد ولو بالتوفيق، فإنّه من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.

ويشكل: بأنّ

___________________________________________

والترجيح جار في كلّ متعارض، وإن كان من قبيل الظاهر والأظهر؟ {قولان} للأصحاب {أوّلهما} أي: اختصاص قواعد التعادل والترجيح بغير موارد الجمع العرفي {المشهور}.

{وقصارى ما يقال في وجهه} أي: وجه عدم شمول القواعد لموارد الجمع العرفي: {أنّ الظاهر من الأخبار العلاجيّة سؤالاً وجواباً} أي: سؤال الرّواة عمّا إذا ورد خبران متعارضان، وجواب الأئمّة^ عن ذلك بالعلاج ترجيحاً أو تخييراً {هو التخيير أو الترجيح في موارد التحيّر} العرفي، كما لو دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على التحريم {ممّا لا يكاد يستفاد المراد هناك عرفاً لا في ما يستفاد} المراد {ولو بالتوفيق} العرفي كالظاهر والنّصّ والأظهر والظاهر.

{فإنّه} أي: الجمع {من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة} فقول الإمام والسّائل منصرف عن مواردالجمع العرفي، فإذا سأل السّائل عن المتعارضين يريد بذلك ما لا يمكن الجمع بينهما، وإذا أجاب الإمام كان جواباً لمورد السّؤال، فلا يشمل السّؤال والجواب لما يمكن الجمع بينهما عرفاً.

{ويشكل} هذا القول المشهور {بأنّ} الأسئلة وأجوبة الإمام مطلقة فتشمل مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم زيداً) أيضاً كما تشمل مثل: (أكرم زيداً) و(لا

ص: 308


1- راجع فرائد الأصول 4: 82.

مساعدة العرف على الجمع والتوفيق، وارتكازه في أذهانهم على وجه وثيق، لا يوجب اختصاص السّؤالات بغير موارد الجمع؛ لصحّة السّؤال بملاحظة التحيّر في الحال، لأجل ما يترائى من المعارضة، وإن كان يزول عرفاً بحسب المآل، أو للتحيّر في الحكم واقعاً، وإن لم يتحيّر فيه ظاهراً، وهو كافٍ في صحّته قطعاً.

___________________________________________

تكرم زيداً) لأنّه بالنسبة إلى زيد يشمل قوله: (هذا يأمرنا وهذا ينهانا) منتهى الأمران: الأمر في (أكرم العلماء) بالعموم وفي (أكرم زيداً) بالخصوص، ف- {مساعدة العرف على الجمع والتوفيق} في موارد النّصّ والظاهر، والظاهر والأظهر {وارتكازه} أي: الجمع والتوفيق {في أذهانهم على وجه وثيق} حتّى أنّهم بمجرّد ورودهما يجمعون بينهما بلا توقّف أصلاً {لا يوجب اختصاص السّؤالات} من السّائلين {بغير موارد الجمع} العرفي.

إن قلت: كيف والحال أنّ ظاهر الأسئلة مورد التحيّر ولا تحيّر في موارد الجمع.

قلت: ليس كذلك {لصحّة السّؤال بملاحظة التحيّرفي الحال} يعني: أنّ السّائل إذا سأل عن توارد أمر ونهي متحيّر حين السّؤال عمّاذا يعمل، وإن كان إذا رأى (أكرم العلماء) و(لا تكرم زيداً) ساقه ذهنه العرفي إلى الجمع ولم يتحيّر، فإنّ التحيّر عند السّؤال عن الإمام موجود {لأجل ما يترائى من المعارضة وإن كان يزول عرفاً بحسب المآل} حين يرى الظاهر والأظهر الورادين {أو} إنّ التحيّر موجود - لا بدواً فقط، بل استمراراً - {ل-} أجل {التحيّر في الحكم} الواقعي، فإنّه لا يعلم في باب العام والخاصّ حكم زيد {واقعاً وإن لم يتحيّر فيه} أي: في الحكم {ظاهراً} للجمع العرفي {وهو كافٍ} أي: وجود التحيّر البدوي أو التحيّر في الحكم الواقعي كاف {في صحّته} أي: صحّة السّؤال عن موارد الجمع العرفي {قطعاً} فتكون الأدلّة شاملة لما لا يمكن الجمع بينهما ولما يمكن الجمع

ص: 309

مع إمكان أن يكون لاحتمال الرّدع شرعاً عن هذه الطّريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة، وجلّ العناوين المأخوذة في الأسئلة - لولا كلّها - يعمّها، كما لا يخفى.

ودعوى: «أنّ المتيقّن منها غيرها» مجازفة، غايته أنّه كان كذلك خارجاً، لا بحسب مقام التخاطب.

___________________________________________

بينهما، ويجب إعمال قواعد الترجيح والتخيير في (أكرم العلماء) و (لا تكرم زيداً) كما يجب إعمالها في (أكرم زيداً) و(لا تكرم زيداً) {مع إمكان أن يكون} السّؤال والجواب {لاحتمال الرّدع شرعاً عن هذه الطّريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة} فالسائلون كانوا يحتملون أنّ الشّريعة لا ترضى بالجمعالعرفي، ولذا كانوا يسألون سؤالاً مطلقاً، والإمام كان يجيب جواباً مطلقاً دلالة على أنّ الشّارع لا يرضى بالجمع العرفي.

{و} إن قلت: هذا تابع لكون الأسئلة والأجوبة مطلقة.

قلت: هي كذلك؛ لأنّ {جلّ العناوين المأخوذة في الأسئلة لولا كلّها يعمّها} أي: يعمّ موارد الجمع العرفي {كما لا يخفى} لمن نظر إليها كقوله: «بحديثين مختلفين»، وقوله: «إذا سمعت من أصحابك الحديث»، وقوله: «في ذلك حديثان»، إلى غير ذلك ممّا تقدّم.

{و} إن قلت: سلّمنا أنّ الرّوايات مطلقة سؤالاً وجواباً إلّا أنّ المتيقّن منها ما لا يمكن الجمع العرفي فيها.

قلت: {دعوى «أنّ المتيقّن منها} أي: من الأسئلة والأجوبة في الرّوايات {غيرها»} أي: غير موارد الجمع العرفي {مجازفة} إذ لا متيقّن في المقام {غايته} أي: غاية الأمر {أنّه كان كذلك خارجاً} أي: أنّ المتيقّن في الخارج كذلك {لا بحسب مقام التخاطب} والقدر المتيقّن المضرّ بالإطلاق والعموم هو القدر المتيقّن في مقام التخاطب، حيث يوجب تضييقاً في الكلام، أمّا المتيقّن

ص: 310

وبذلك ينقدح وجه القول الثّاني.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ التوفيق في مثل الخاصّ والعامّ، والمقيّد والمطلق، كان عليه السّيرة القطعيّة من لدن زمان الأئمّة^ وهي كاشفة - إجمالاً - عمّا يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفي، لولا دعوى اختصاصها به، وأنّها -سؤالاً وجواباً - بصدد الاستعلاج والعلاج في موارد التحيّر والاحتياج، أو دعوى الإجمال،

___________________________________________

الخارجي فلا يخلو منه عموم أو إطلاق وذلك لا يضرّ بهما.

{وبذلك} الّذي ذكرنا من وجه عموم الأدلّة سؤالاً وجواباً لمورد الجمع العرفي {ينقدح وجه القول الثّاني} الّذي هو خلاف قول المشهور من لزوم إعمال قواعد الترجيح حتّى في موارد الجمع العرفي.

{اللّهمّ إلّا أن يقال} في تقوية قول المشهور: {إنّ التوفيق في مثل الخاصّ والعامّ والمقيّد والمطلق كان عليه السّيرة القطعيّة من لدن زمان الأئمّة^} كما يظهر ذلك لمن راجع كلام الإمام أميرالمؤمنين(علیه السلام) حيث يقول: «إنّ في القرآن مطلقاً ومقيّداً وعامّاً وخاصّاً»(1)،

وما يفهم منه ومن غيره من كون العام يحمل على الخاصّ والمطلق يحمل على المقيّد {وهي} أي: السّيرة {كاشفة إجمالاً عمّا يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفي} فهي كالقرينة العقليّة القطعيّة الموجبة لكون مصبّ أخبار العلاج ما لا يمكن الجمع العرفي فيه {لولا دعوى اختصاصها} أي: اختصاص أخبار العلاج {به} أي: بغير موارد الجمع العرفي {وأنّها} أي: أخبار العلاج {سؤالاً وجواباً بصدد الاستعلاج} أي: طلب العلاج في الأسئلة {والعلاج} في الأجوبة {في موارد التحيّر والاحتياج، أو دعوىالإجمال}

ص: 311


1- لم نعثر على الرواية. نعم، ورد عن سليم بن قيس الهلالي - في حديث طويل - : «... فما نزلت على رسول اللّه|، آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عَليّ، فكتبتها بخطي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ...» الكافي 1: 62؛ وسائل الشيعة 27: 206-208.

وتساوي احتمال العموم مع احتمال الاختصاص.

ولا ينافيها مجرّد صحّة السّؤال لما لا ينافي العموم ما لم يكن هناك ظهور أنّه لذلك.

فلم يثبت بأخبار العلاج ردع عمّا عليه بناء العقلاء وسيرة العلماء، من التوفيق، وحمل الظاهر على الأظهر، والتصرّف في ما يكون صدورهما قرينة عليه، فتأمّل.

___________________________________________

في الأخبار العلاجيّة، وأنّها هل تشمل موارد الجمع العرفي أم لا؟ {وتساوي احتمال العموم} في أخبار العلاج {مع احتمال الاختصاص} بمورد لا يمكن الجمع العرفي.

وإذا كانت أخبار العلاج محتملة للأمرين كان القدر المتيقّن منها مورد عدم إمكان الجمع العرفي، فلا تشمل مورد إمكان الجمع، ويكون المرجع في مورد الظاهر والأظهر العرف الّذي يرى الجمع بينهما، فلا يعمل قواعد التعادل والتراجيح هناك.

{ولا ينافيها} أي: لا ينافي دعوى الإجمال {مجرّد صحّة السّؤال لما لا ينافي العموم} فلا يمكن أن يقال: إنّ الأخبار محتملة للعموم فيؤخذ بالعموم، إذ {ما لم يكن هناك ظهور} في السّؤال والجواب {أنّه} أي: السّؤال {لذلك} العموم لم يمكن التمسّك بالعموم بعد ما عرفت من الإجمال {فلم يثبت بأخبار العلاج ردع} من الشّرع {عمّا عليه بناء العقلاء وسيرة العلماء من التوفيق وحملالظاهر على الأظهر} والظاهر على النّصّ {والتصرّف في ما} أي: في الظاهر الّذي {يكون صدورهما} أي: المتنافيين {قرينة عليه} أي: على التصرّف فيه {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّ الأخبار شاملة لمورد الجمع، إلّا أنّ الإجماع أو السّيرة مخصّصة، لا أنّ الأخبار لا تشمله، وفرق بين التخصيص والتخصّص، كما لا يخفى.

ص: 312

فصل: قد عرفت حكم تعارض الظاهر والأظهر، وحمل الأوّل على الآخر، فلا إشكال في ما إذا ظهر أنّ أيّهما ظاهر وأيّهما أظهر.

وقد ذكر في ما اشتبه الحال لتمييز ذلك ما لا عبرة به أصلاً، فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها وبيان ضعفها:

منها: ما قيل(1) في ترجيح ظهور العموم على الإطلاق، وتقديم التقييد على التّخصيص - في ما دار الأمر بينهما - من: «كون ظهور العام في العموم تنجيزيّاً،

___________________________________________

[فصل المرجحات النوعية]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، المرجحات النوعية

{فصل} في بيان المرجّحات الّتي ذكروها لتقديم بعض الظواهر على بعض:

{قد عرفت حكم تعارض الظاهر والأظهر وحمل الأوّل على الآخر} نحو (أكرم العلماء) الّذي هو ظاهر في إكرام زيد العالم، و(لا تكرم زيداً) الّذي هو أظهر في عدم إكرامه {فلا إشكال في ما إذا ظهر أنّ أيّهما ظاهر وأيّهما أظهر} بأنّ فهم العرف ذلك {وقد ذكر في مااشتبه الحال لتمييز ذلك ما لا عبرة به أصلاً، فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها وبيان ضعفها} وأنّها لا تصلح لترجيح أحد الظاهرين على الآخر.

{منها: ما قيل في ترجيح ظهور العموم على الإطلاق} كما لو قال: (أكرم العالم ولا تكرم الفسّاق) بأن دار أمر زيد العالم الفاسق بين وجوب الإكرام لإدراجه في المطلق الّذي هو العالم، وبين حرمته لإدراجه في العام الّذي هو الفسّاق، فإنّه قيل بتقديم العموم وأنّه يحرم إكرامه {وتقديم التقييد} للمطلق الّذي هو العالم - مثلاً - {على التخصيص} للعام الّذي هو الفسّاق {في ما دار الأمر بينهما، من «كون} بيان «ما قيل» {ظهور العام في العموم تنجيزيّاً} لأنّه موضوع له فليس معلّقاً على

ص: 313


1- فرائد الأصول 4: 97-98.

بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق، فإنّه معلّق على عدم البيان، والعام يصلح بياناً، فتقديم العام حينئذٍ لعدم تماميّة مقتضي الإطلاق معه، بخلاف العكس، فإنّه موجب لتخصيصه بلا وجه إلّا على نحو دائر»؛ ومن: «أنّ التقييد أغلبُ من التّخصيص».

وفيه: أنّ عدم البيان - الّذي هو جزء المقتضي في مقدّمات الحكمة - إنّما هو عدم البيان في مقام التخاطب.

___________________________________________

شيء {بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق، فإنّه} تعليقيّ، إذ هو {معلّق على عدم البيان} الّذي هو من مقدّمات الحكمة {والعام يصلح بياناً} فإنّ ظهور العالم في كلّ عالم مقيّد بعد بيان على خلافه، والفسّاق ما كان شاملاً لزيد بالوضع يصلحأن يكون بياناً لإخراج بعض أفراد العالم من تحته.

{فتقديم العام حينئذٍ لعدم تماميّة مقتضى الإطلاق} الّذي هو مقدّمات الحكمة {معه} أي: مع وجود العام {بخلاف العكس} في ما لو قيل بتقديم المطلق على العام وإدراج زيد الجامع للوصفين في (أكرم العالم) بأن يجب إكرامه {فإنّه موجب لتخصيصه} أي: العام {بلا وجه إلّا على نحو دائر»} فإنّ تقييد المطلق للعام متوقّف على تماميّة الإطلاق، وتماميّة الإطلاق متوقّف على تقييده للعام - إذ لو لم يقيّد العام كان العام مقدّماً عليه - .

{ومن «أنّ التقييد أغلب من التخصيص»} وهذا وجهٌ ثانٍ لتقديم التقييد على التخصيص، عطف على قوله: «من كون». ومن المعلوم أنّ الظنّ يلحق الشّيء بالأعمّ الأغلب، فإذا دار الأمر بينهما قدّم ما هو الأغلب في الكلام.

{وفيه} أنّ عدم البيان وإن كان من مقدّمات الحكمة لكن العام لا يصلح أن يكون قيداً للمطلق - إذا كان منفصلاً عنه - وحينئذٍ فالإطلاق منعقد بسبب تماميّة مقدّماته والعموم تامّ فيقع التعارض بينهما، ف- {إنّ عدم البيان - الّذي هو جزء المقتضي} للإطلاق {في} باب {مقدّمات الحكمة - إنّما هو عدم البيان في مقام التخاطب} بأن

ص: 314

لا إلى الأبد.

وأغلبيّة التقييد مع كثرة التخصيص - بمثابةٍ قد قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» - غير مفيد؛ ولا بدّ في كلّ قضيّة من ملاحظة خصوصيّاتها الموجبة لأظهريّة أحدهما من الآخر، فتدبّر.ومنها: ما قيل(1)

في ما إذا دار بين التخصيص والنّسخ - كما إذا ورد عامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ،

___________________________________________

يكون المطلق عارياً عن قرينة على خلافه {لا إلى الأبد} وإلّا انعقد الإطلاق واحتاج في التقديم عليه إلى الأظهريّة.

{و} أمّا الاستدلال الثّاني وهو {أغلبيّة التقييد} ففيه أنّه {مع كثرة التخصيص - بمثابة قد قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خُصّ»} ممّا يظهر منه كثرة هائلة في باب التخصيص - {غير مفيد} لتقديم التقييد للمطلق على تخصيص العام.

{و} على هذا ف- {لا بدّ في كلّ قضيّة} تعارض فيها الإطلاق والعموم {من ملاحظة خصوصيّاتها الموجبة لأظهريّة أحدهما من الآخر} كما لو كان أحدهما معلّلاً، بأن قال: (أكرم العالم) لأنّه يحمل ما هو نور، ثمّ قال: (لا تكرم الفسّاق) أو انعكس بأن قال: (أكرم العالم ولا تكرم الفسّاق، فإنّهم بعيدون عن رحمة اللّه ورضوانه) وهكذا {فتدبّر} لعلّه إشارة إلى أنّ الأظهر عند العرف هو العام لا المطلق، وإن لم نقل بذينك الدليلين.

ثمّ إنّه إن بقي التعارض ولم يكن أظهر في البين فهل يجري التعارض هنا فيؤخذ بالمرجّحات أو يتساقطان ويرجع إلى الأصل؟ فيه تفصيل.

{ومنها} أي: من الموارد الّتي اشتبه في كون أيّ الدليلين أظهر {ما قيل في ما إذا دار} الأمر {بين التخصيص والنّسخ، كما إذا ورد عامّ بعد حضور وقتالعمل بالخاصّ}

ص: 315


1- فرائد الأصول 4: 93-94.

حيث يدور بين أن يكون الخاصّ مخصّصاً، أو يكون العامّ ناسخاً؛ أو ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعام، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصّصاً للعام، أو ناسخاً له ورافعاً لاستمراره ودوامه - في وجه تقديم التخصيص على النّسخ من: «غلبة التّخصيص وندرة النّسخ».

ولا يخفى: أنّ دلالة الخاصّ أو العامّ على الدوام والاستمرار إنّما هو بالإطلاق، لا بالوضع،

___________________________________________

كما لو أمر بإكرام زيد ثمّ بعد شهر قال: (لا تكرم الفسّاق) {حيث يدور بين أن يكون الخاصّ} المقدّم {مخصّصاً} للعام المؤخّر فيجب إكرام زيد مستمرّاً {أو يكون العام ناسخاً} للخاص المقدّم فيحرم إكرام زيد.

وإنّما قيّد ورود العام بكونه بعد حضور وقت العمل لأنّه لو ورد قبل وقت العمل كان العام مخصّصاً بالخاصّ قطعاً؛ لأنّه لا يمكن النّسخ إلّا بعد حضور وقت العمل {أو ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعام} كما لو قال: (أكرم العلماء) وبعد شهر قال: (لا تكرم زيداً) {حيث يدور} الأمر {بين أن يكون الخاصّ مخصّصاً للعام} فيحرم إكرام زيد من أوّل الأمر {أو ناسخاً له} أي: للعام {ورافعاً لاستمراره ودوامه} حتّى يحرم الإكرام من الآن.

والنّتيجة تظهر في الآثار، فلو كان للإكرام قضاء إذا لم يؤدّه أو كفّارة لتركه لا يجبان على الأوّل لأنّه كشف عن عدم الوجوب من أوّل الأمر، ويجبان على الثّاني؛ لأنّه كان واجباً سابقاً وإنّما نسخ من الآن، ف- {في} مثل هذا الدوران وجهان:[1] {وجه} التعارض والتساقط والرّجوع إلى الأصل. [2] ووجه {تقديم التخصيص على النّسخ} وذلك {من} جهة {«غلبة التخصيص وندرة النّسخ»} والظنّ يلحق الشّيء بالأعمّ الأغلب.

{و} لكن {لا يخفى} ما فيه، ف- {إنّ دلالة الخاصّ أو العامّ على الدوام والاستمرار إنّما هو بالإطلاق} ومقدّمات الحكمة {لا بالوضع} إذ استمرار الحكم ليس شيئاً

ص: 316

فعلى الوجه العقلي في تقديم التقييد على التخصيص، كان اللّازم في هذا الدوران تقديم النّسخ على التخصيص أيضاً.

وأنّ غلبة التخصيص إنّما توجب أقوائيّة ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العامّ في العموم، إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة، بمثابةٍ تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام، وإلّا فهي وإن كانت مفيدة للظنّ بالتخصيص، إلّا أنّها غير موجبة لها، كما لا يخفى.

___________________________________________

مستفاداً من اللفظ، وإنّما تماميّة مقدّمات الحكمة تفيده {فعلى الوجه العقلي} المذكور سابقاً {في تقديم} العام على المطلق و{التقييد على التخصيص كان اللّازم في هذا الدوران تقديم النّسخ على التخصيص أيضاً} إذ الإطلاق أفاد دوام الأوقات، والعام أفاد عموم الإطلاق، فإذا دار الأمر بين أن ينسخ إكرام زيد - أي: يقيّد إطلاقه الزماني - ب- (أكرم العلماء)، وبين أن يخصّص العلماء بإطلاق (أكرم زيداً) كان التقييد مقدّماً.{و} أمّا ما ذكر من غلبة التخصيص على النّسخ وأنّها توجب تقديم ذاك ففيه {أنّ غلبة التخصيص} لا توجب تقوية الظهور مطلقاً، والظهور معيار التفاهم لا الوجوه العقليّة، فإنّ الغلبة {إنّما توجب أقوائيّة ظهور الكلام في الاستمرار والدوام} حتّى يخصّص العام {من ظهور العام في العموم} حتّى ينسخ الخاصّ {إذا كانت} الغلبة {مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام} حتّى إذا أُلْقِيَ خاصّ وعامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ على العرف لم يشكّ في أظهريّة الثّاني على الأوّل - فإنّ الأظهريّة معيار التقديم - {وإلّا} تكن الغلبة من القرائن {فهي وإن كانت مفيدة للظنّ بالتخصيص} للعام {إلّا أنّها} أي: الغلبة {غير موجبة لها} أي: للإفادة {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

ص: 317

ثمّ إنّه بناءً على اعتبار عدم حضور وقت العمل في التخصيص - لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة - يُشكل الأمر في تخصيص الكتاب أو السّنّة بالخصوصات الصّادرة عن الأئمّة^؛ فإنّها صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتها، والتزام نسخها بها - ولو قيل بجواز نسخهما بالرواية عنهم - كما ترى.

___________________________________________

{ثمّ} إنّه اشتهر بلزوم صدور التخصيص قبل حضور وقت العمل بالعام، وإنّه إذا صدر بعد حضور وقت العمل كان ناسخاً، واشتهر أيضاً أنّ الخصوصات الصّادرة عن الأئمّة^ بعد حضور وقت العمل بعمومات الكتاب والسّنّة لا تكون ناسخة، بل هي مخصّصة، فكيف يمكن الجمع بين هذين الأمرين؟والجواب: الإشكال في القاعدة الأُولى، فإنّا لا نسلّم أنّ الخاصّ إذا صدر بعد وقت العمل بالعام يكون ناسخاً لا محالة، بل نقول: إنّ الخاصّ على قسمين: الأوّل: أن يكون ناسخاً، والثّاني: أن يكون مخصّصاً، ويكون صدوره بعد حضور وقت العمل لمصلحة، كما لو أراد المولى من أوّل الأمر إكرام العلماء غير زيد وقال: (أكرم العلماء) وأخفى استثناء زيد لمصلحة، فإنّه إذا أظهره لا يكون ناسخاً وإنّما يكون مخصّصاً أخفى إلى الحال لمصلحة.

وقد أشار المصنّف(رحمة الله) إلى الإشكال بقوله: {إنّه بناءً على اعتبار عدم حضور وقت العمل في التخصيص} أي: في كون الخاصّ مخصّصاً - لا ناسخاً - {لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة} إذ وقت العمل هو وقت الحاجة {يشكل الأمر في تخصيص الكتاب أو السّنّة} العامّة الواردة في زمان الرّسول(صلی

الله علیه و آله) مثلاً {بالخصوصات الصّادرة عن الأئمّة^ فإنّها} أي: الخصوصات {صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتها} أي: عمومات تلك الخصوصات {والتزام نسخها} أي: العمومات {بها} أي: بالخصوصات {- ولو قيل بجواز نسخهما} أي: عمومات الكتاب والسّنّة {بالرواية عنهم - كما ترى} فإنّ الجواز المستفاد من قوله(علیه

السلام): «الحديث ينسخ كما

ص: 318

فلا محيص في حلّه من أن يقال: إنّ اعتبار ذلك حيث كان لأجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة - وكان من الواضح أنّ ذلك في ما إذا لم يكن هناك مصلحة في إخفاء الخصوصات، أو مفسدة في إبدائها، كإخفاء غير واحد من التكاليف في الصّدرالأوّل - ، لم يكن بأس بتخصيص عموماتها بها، واستكشاف أنّ موردها

___________________________________________

ينسخ القرآن»(1)

غير الفعليّة والخارجيّة، وقد اشتهر عند الفقهاء انقطاع النّسخ بانقطاع الوحي، فالقول بهذا القدر الهائل من النّسخ من أبعد الأشياء.

{فلا محيص في حلّه} أي: حلّ هذا الإشكال {من أن يقال: إنّ اعتبار ذلك} أي: اعتبار اشتراط عدم حضور وقت العمل في التخصيص {حيث كان لأجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة} إذ وقت الحاجة وقت تعلّق غرض الحكيم بمراده، فتأخير بيان مراده عن ذلك الوقت نقض للغرض وهو قبيح.

{وكان من الواضح أنّ ذلك} القبح {في ما إذا لم يكن هناك مصلحة} للمولى {في إخفاء الخصوصات أو} لم يكن {مفسدة في إبدائها} أي: الخصوصات، كما لو قال: (أكرم العلماء) وكانت مصلحة إخفاء (لا تكرم زيداً) أنّه يحضر لمحاربة الأعداء إذا لم يعلم باستثنائه، أو كانت مفسدة إظهار الاستثناء أنّه يوقع فتنة بين المسلمين وهم الآن ضعاف لا يتمكّنون من صدّه وإن قووا بعد ذلك حين الإظهار فلا يحتاجون إلى معاونته ولا يضرّهم كيده {كإخفاء غير واحد من التكاليف في الصّدر الأوّل} حيث كان الرّسول(صلی الله علیه و آله) يكتفي منهم بإظهار الشّهادتين فقط مع معلوميّة أنّ جميع التكاليف كانت مرادة للّه - تعالى - {لم يكن بأس} خبر قوله: «إنّ اعتبار ذلك حيث كان» {بتخصيص عموماتها} أي: عمومات الشّريعة المستفادة من الكتاب والسّنّة {بها} أي: بالخصوصات الواردة بعد حضور وقت العمل {واستكشاف أنّ موردها} أي:مورد الخصوصات

ص: 319


1- الكافي 1: 65.

كان خارجاً عن حكم العام واقعاً، وإن كان داخلاً فيه ظاهراً.

ولأجله لا بأس بالالتزام بالنسخ، بمعنى رفع اليد بها عن ظهور تلك العمومات - بإطلاقها - في الاستمرار والدوام أيضاً، فتفطّن.

فصل:

___________________________________________

{كان خارجاً عن حكم العام واقعاً} وفي نفس الأمر، فزيد كان مستثنى عن (أكرم العلماء) من أوّل الأمر {وإن كان داخلاً فيه} أي: في العام {ظاهراً}.

{ولأجله} أي: لأجل كون المصلحة في تأخير البيان {لا بأس بالالتزام بالنسخ} في هذه الخصوصات، لكن لا بمعنى أنّ إكرام زيد - مثلاً - كان مراداً واقعيّاً للّه - تعالى - ثمّ نسخ، بل {بمعنى رفع اليد بها} أي: بسبب هذه الخصوصات {عن ظهور تلك العمومات ب-} سبب {إطلاقها في الاستمرار والدوام أيضاً} كما أجزنا التخصيص بعد حضور وقت العمل.

والحاصل: أقول: إنّ هذه الخصوصات إمّا تخصيصات أُخفيت لمصلحة وإمّا نواسخ، بمعنى اقتضاء المصلحة الثانويّة كونها داخلة في حكم العام ظاهراً إلى أن يأتي دور إبدائها.

والفرق بين هذا النّسخ والنّسخ المصطلح أنّ هذا كان محكوماً بالحكم السّابق لمصلحة ثانويّة، وذاك كان محكوماً بالحكم السّابق لمصلحة ذاتيّة {فتفطّن} واللّه العالم.

ثمّ لا يخفى أنّ بناء الفقهاء على كون الخصوصات مخصّصات مطلقاً - علمتاريخها أم جهل، أم اختلف، كان العام مقدّماً أم مقارناً أم مؤخّراً - كما لا يخفى على من له إلمام بالفقه.

[فصل عدم انقلاب النسبة]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، عدم انقلاب النسبة

{فصل} قد يكون في المقام عامّ وخاصّ فلا إشكال في تقديم الخاصّ على

ص: 320

لا إشكال في تعيين الأظهر - لو كان في البين - إذا كان التعارض بين الاثنين. وأمّا إذا كان بين الزائد عليهما فتعيّنه ربّما لا يخلو عن خفاء.

ولذا وقع بعض الأعلام(1)

في اشتباه وخطأ، حيث توهّم: أنّه إذا كان هناك عامّ وخصوصات، وقد خصّص

___________________________________________

العامّ - وهكذا المطلق والمقيّد - ، وقد يكون عامّان من وجه فلا إشكال في تنازعهما في مورد الاجتماع، وقد يكون في المقام ثلاثة أدلّة كما لو ورد (أكرم العلماء) وورد (لا تكرم فسّاق العلماء) وورد (لا تكرم النّحويّين)، وهنا يكون دليل أعمّ مطلقاً وهو (أكرم) ودليلان أخصّ مطلقاً وهما (لا تكرم) و(لا تكرم)، واللّازم أن يقدّما على العام، فيحرم إكرام الفسّاق ويحرم إكرام النّحويّين، وقد وقع اشتباه لبعض الأعلام حيث توهّم انقلاب النّسبة بأن يخصّص (أكرم العلماء) أوّلاً ب- (لا تكرم الفسّاق) مثلاً، وحينئذٍ تكون النّسبة بين (أكرم العلماء غير الفسّاق) وبين (لا تكرم النُّحاة) عموماً من وجه؛ لأنّهما يجتمعان في النحوي العادل ويختصّ الأوّل بالفقيه العادل والثّاني بالنحوي الفاسق.

وهذا الاشتباه ممّا لا وجه له، إذ لماذا لا يقدّم أحد التخصيصين على التخصيص الآخر حتّى يوجب هذا الانقلاب ويقع التعارض في مادّة الاجتماع؟

وقد انعقد هذا الفصل لدفع هذا التوهّم فنقول: {لا إشكال فيتعيين الأظهر لو كان} الأظهر {في البين} في ما {إذا كان التعارض بين الاثنين} أي: دليلين فقط.

{وأمّا إذا كان} التعارض {بين الزائد عليهما} أي: على الدليلين {فتعيّنه} أي: الأظهر {ربّما لا يخلو عن خفاء، ولذا وقع بعض الأعلام} وهو النّراقي(قدس

سره) {في اشتباه وخطأ} وفرّع على ذلك فروعاً {حيث توهّم أنّه إذا كان هناك عامّ} ك- (أكرم العلماء) {وخصوصات} نحو (لا تكرم فسّاقهم) و(لا تكرم النّحويّين) {وقد خصّص} العام

ص: 321


1- عوائد الأيام: 349.

ببعضها، كان اللّازم ملاحظة النّسبة بينه وبين سائر الخصوصات بعد تخصيصه به، فربّما تنقلب النّسبة إلى عموم وخصوص من وجه، فلا بدّ من رعاية هذه النّسبة، وتقديم الرّاجح منه ومنها، أو التخيير بينه وبينها لو لم يكن هناك راجح، لا تقديمها عليه، إلّا إذا كانت النّسبة بعده على حالها.

وفيه: أنّ النّسبة إنّما هي بملاحظة الظهورات،

___________________________________________

{ببعضها} نحو (لا تكرم الفسّاق) {كان اللّازم ملاحظة النّسبة بينه} أي: العام {وبين سائر الخصوصات} نحو (لا تكرم النُّحاة) {بعد تخصيصه} أي: العام {به} أي: ببعضها، وهو الخاصّ الأوّل {فربّما تنقلب النّسبة} الّتي كانت بين العام والخاصّ الثّاني {إلى عموم وخصوص من وجه} بعد ما كانت عموماً وخصوصاً مطلقاً {فلا بدّ من رعاية هذهالنّسبة وتقديم الرّاجح منه} أي: من العام {ومنها} أي: الخصوصات الباقية في مثل: (النّحوي العادل) الّذي هو مورد الاجتماع بعد الانقلاب وهل أنّه يجب إكرامه أم يحرم {أو التخيير بينه وبينها لو لم يكن هناك راجح} خارجيّ يوجب إلحاق المجمع بأحد الطّرفين {لا تقديمها} أي: الخصوصات الباقية {عليه} أي: على العام {إلّا إذا كانت النّسبة بعده} أي: بعد التخصيص الأوّل {على حالها} السّابق من كونها عموماً وخصوصاً مطلقاً، كما لو لم يكن في النّحاة عدول أصلاً حتّى لا يبقى مورداً للاجتماع، بل كان النُّحاة أخصّ مطلقاً عن العلماء حتّى بعد إخراج الفسّاق منه.

{وفيه} أنّ ظهور العام في العموم باقٍ وإن خرج عنه بعض الأفراد بمخصّص فقوله: (أكرم) فيه ظهور بالنسبة إلى كلّ عام وإن علمنا بخروج الفسّاق، وهذا الظهور أعمّ من ظهور النّحويّين فهو أخصّ مطلقاً ف- {إنّ النّسبة إنّما هي بملاحظة الظهورات} لا بملاحظة المرادات حتّى يقال: بأنّ المراد من (العلماء) العلماء

ص: 322

وتخصيص العام بمخصّص منفصل - ولو كان قطعيّاً - لا ينثلم به ظهوره، وإن انثلم به حجيّته، ولذلك يكون بعد التّخصيص حجّةً في الباقي؛ لأصالة عمومه بالنسبة إليه.

لا يقال: إنّ العام بعد تخصيصه بالقطعي لا يكون مستعملاً في العموم قطعاً، فكيف يكون ظاهراً فيه؟

فإنّه يقال: إنّ المعلوم عدم إرادة العموم، لا عدم استعماله فيه

___________________________________________

العدول ونسبته إلى النّحويّين عموم من وجه {وتخصيص العام بمخصّص منفصل - ولو كان قطعيّاً -} أي: ذلك المخصّص {لا ينثلم به} أي: بهذا المخصّص {ظهوره} أي: ظهور العام في العموم {وإن انثلم به} أي: بالمخصّص {حجيّته} أي: حجيّة العام فهو ظاهر في العموم غير حجّة فيه.

{ولذلك} الظهور الموجود له - وإن خصّص - {يكون بعد التخصيص حجّة في الباقي} من الأفراد المشكوكة وغيرها، ولو انثلم ظهور العام بسبب التخصيص لم يبق له حجّة أصلاً، إذ ما لا ظاهر له لا حجيّة له، فهو حجّة في الباقي {لأصالة عمومه} أي: عموم العام {بالنسبة إليه} أي: إلى الباقي.

{لا يقال}: المراد من العلماء في (أكرم العلماء) هو العدول فقط - بعد تخصيصه بقوله: (لا تكرم الفسّاق) - والنّسبة بين العلماء العدول وبين النّحويّين عموم من وجه ف- {إنّ العامّ بعد تخصيصه ب-} المخصّص {القطعي لا يكون مستعملاً في العموم قطعاً} إذ المراد منه ليس عامّاً {فكيف يكون} العامّ {ظاهراً فيه} أي: في العموم الّذي غير مستعمل فيه؟

{فإنّه يقال: إنّ المعلوم عدم إرادة العموم لا عدم استعماله فيه} أي: في العموم، وفرق بين الإرادة والاستعمال، فالعام مستعمل في العموم ولذا يصحّ تخصيصه ولو كان غير مستعمل في العموم لم يصحّ تخصيصه، فإذا قال المولى: (أكرم العلماء) فقد أراد بالإرادة الاستعماليّة كلّ عالم، وهذه الإرادة الاستعماليّة باقية

ص: 323

لإفادة القاعدة الكليّة، فيعملبعمومها ما لم يعلم بتخصيصها، وإلّا لم يكن وجه في حجيّته في تمام الباقي؛ لجواز استعماله حينئذٍ فيه وفي غيره من المراتب الّتي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص.

وأصالة عدم مخصّص آخر لا يوجب انعقاد ظهور له، لا فيه ولا في غيره من المراتب؛ لعدم الوضع

___________________________________________

حتّى بعد التخصيص، وإنّما يستعمل اللفظ في العموم وإن لم يرد جميع الأفراد {لإفادة القاعدة الكليّة} وأنّ الحكم عامّ إلّا ما أُخرج {فيعمل بعمومها} أي: بعموم هذه القاعدة {ما لم يعلم بتخصيصها} فإذا علم بالتخصيص خرج عن المراد لا عن ظاهر اللفظ حتّى ينثلم الظهور.

{وإلّا} فلو انثلم الظهور بسبب التخصيص {لم يكن وجه في حجيّته} أي: العام {في تمام الباقي} إذا كان للفظ ظهور واحد وقد انثلم، فأيّ ظهور له في ما بقي من الأفراد؟ {لجواز استعماله} أي: العام {حينئذٍ} أي: حين انثلام الظهور بسبب التخصيص {فيه} أي: في تمام الباقي {وفي غيره من المراتب الّتي يجوز أن ينتهي} العام {إليها} لدى {التخصيص} فمثلاً يجوز أن يخصّص العام الّذي له ألف فرد إلى أن يبقى ربعه، أمّا أن يخصّص إلى أن يبقى ثلاثة أفراد فهو مستهجن، فإذا انثلم الظهور كان من المحتمل بقاء الرّبع والنّصف وثلاثة أرباع وهكذا، فيسقط عن الحجيّة في تمام الباقي.

{و} إن قلت: إنّا نقول بعدم الظهور في تمام الباقي لكن إنّما نعيّنه بأصالة عدم التخصيص، إذ كلّ إخراج يحتاج إلى تخصيص جديد، فالأصل عدمه.قلت: {أصالة عدم مخصّص آخر لا يوجب انعقاد ظهور له} أي: للعام {لا فيه} أي: في تمام الباقي {ولا في غيره من المراتب} فبأيّ ملاك يقال: إنّ اللّازم إكرام عالم ولو عالم واحد، إذ لا ظهور يتمسّك به {لعدم الوضع} للعام المخصّص

ص: 324

ولا القرينة المعيّنة لمرتبة منها، كما لا يخفى؛ لجواز إرادتها وعدم نصب قرينة عليها.

نعم، ربّما يكون عدم نُصب قرينة مع كون العام في مقام البيان قرينةً على إرادة التمام، وهو غير ظهور العام فيه في كلّ مقام.

فانقدح بذلك: أنّه لا بدّ من تخصيص العام بكلّ واحد من الخصوصات مطلقاً، ولو كان بعضها مقدّماً أو قطعيّاً، ما لم يلزم منه

___________________________________________

لمرتبة من المراتب {ولا القرينة المعيّنة لمرتبة منها} أي: من المراتب {كما لا يخفى} فيبقى اللفظ مجملاً لا يستدلّ به على شيء {لجواز إرادتها} أي: مرتبة من المراتب {وعدم نصب قرينة عليها} أي: على تلك المرتبة المرادة.

{نعم} إن تمّت مقدّمات الحكمة انعقد للعام ظهور إطلاقي، ف- {ربّما يكون عدم نصب قرينة} على المراد {مع كون العام في مقام البيان} وعدم قدر متيقّن في البين {قرينة على إرادة التمام} أي: تمام الباقي.

{وهو} أي: هذا الّذي ذكر من انعقاد الإطلاق في بعض المواضع {غير ظهور العام فيه} أي: في تمام الباقي {في كلّ مقام}سواء انعقد الإطلاق بتماميّة مقدّمات الحكمة أم لم ينعقد.

{فانقدح بذلك} الّذي ذكرنا من عدم انقلاب النّسبة، وإنّما النّسبة بعد التخصيص بين العام وبين مخصّص ثان كالنسبة قبل التخصيص {أنّه لا بدّ من تخصيص العام بكلّ واحد من الخصوصات مطلقاً} وأراد بالإطلاق ما بيّنه بقوله: {ولو كان بعضها} أي: الخصوصات {مقدّماً} على بعضها الآخر من جهة الدلالة أو من جهة الزمان، بأن قال: (يوم الجمعة أكرم العلماء) وقال يوم السّبت: (لا تكرم الفسّاق) ويوم الأحد (لا تكرم النُّحاة) لما عرفت من أنّ ظهور العام لا ينثلم مطلقاً {أو قطعيّاً} سنداً أو دلالة.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من تقدّم الخصوصات مطلقاً إنّما هو {ما لم يلزم منه} أي: من

ص: 325

محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفاً، ولو لم تكن مستوعبة لأفراده، فضلاً عمّا إذا كانت مستوعبة لها، فلا بدّ حينئذٍ من معاملة التباين بينه وبين مجموعها، ومن ملاحظة الترجيح بينهما وعدمه.

فلو رُجّح جانبها، أو اختير - في ما لم يكن هناك ترجيح - فلا مجال للعمل به أصلاً.

___________________________________________

تقدّم الخصوصات {محذور} بأن كانت الخصوصات مستوعبة للعام، كما لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم فسّاقهم) وقال: (لا تكرم عدولهم) أو لا يبقى بعد الخصوصات إلّا أفراد قليلة يستهجن استعمال العام وإرادة هذه الأفراد القليلة، كما لو كان هناك ألف عالم تسعمائة منهم نحاة وخمسون منهم صرفيّون فقال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم النُّحاة) وقال: (لا تكرم الصّرفيّين) حتّى أنّه لم يبق ل- (أَكْرِمْ) إلّا خمسين، فإنّه مستهجن استعمال العلماء في خمسينفقط، فلو استلزم من إعمال جميع الخصوصات محذور {انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفاً} كما عرفت في المثال الثّاني.

{ولو لم تكن} الخصوصات {مستوعبة لأفراده} أي: العام {فضلاً عمّا إذا كانت مستوعبة لها} أي: لأفراد العام {فلا بدّ حينئذٍ من معاملة التباين بينه} أي: بين العام {وبين مجموعها} أي: مجموع الخصوصات، فهي كلّها في طرف والعام في طرف آخر.

{و} لا بدّ {من ملاحظة الترجيح بينهما} بين العامّ وبين الخصوصات {وعدمه} أي: عدم الترجيح {فلو رجّح جانبها} أي: الخصوصات {أو اختير} جانب الخصوصات إذا وصلت النّوبة إلى قوله(علیه السلام): «إذن فتخيّر»(1)

{في ما لم يكن هناك ترجيح فلا مجال للعمل به} أي: بالعام {أصلاً} حتّى بالنسبة إلى تلك

ص: 326


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 255.

بخلاف ما لو رجّح طرفه، أو قدّم تخييراً، فلا يطرح منها إلّا خصوص ما لا يلزم - مع طرحه - المحذور من التخصيص بغيره؛ فإنّ التباين إنّما كان بينه وبين مجموعها، لا جميعها، وحينئذٍ فربّما يقع التعارض بين الخصوصات، فيخصّص ببعضها ترجيحاً أو تخييراً، فلا تغفل.

___________________________________________

الأفراد القلائل في ما لم تكن الخصوصات مستوعبة، وذلك لأنّ العام سقط عن الحجيّة رأساً فلا يعمل به أصلاً {بخلاف ما لو رجّح طرفه} أي:العام {أو قدّم} العام {تخييراً} إذا وصلت النّوبة إلى التخيير {فلا يطرح منها} أي: من الخصوصات {إلّا} بعضها، ففي المثال الثّاني يطرح فقط (لا تكرم النُّحاة)، إذ بإعماله يستلزم التخصيص المستهجن، أمّا (لا تكرم الصّرفيّين) فلا يطرح، بل يعمل في العام ويخصّصه إذ لا يلزم من تخصيص العام به استهجان أبداً.

نعم، لو كانت الخصوصات على حدّ سواء - كما لو خصّص بعشرة تخصيصات كلّ تخصيص حاو على مائة أو على تسعين - لم يبق بعض التخصيصات أولى بالطرح من بعضها الآخر، فيطرح {خصوص ما لا يلزم مع طرحه المحذور من التخصيص بغيره} أي: يطرح مثلاً: (النُّحاة) الّذي لا يلزم من طرحه وتخصيص العام بغيره الّذي هو (الصّرفيّون) المحذور المتقدّم من الاستهجان أو الاستغراق.

وإنّما نقول بطرح بعض الخصوصات دون جميعها {فإنّ التباين إنّما كان بينه} أي: بين العام {وبين مجموعها} أي: مجموع الخصوصات {لا جميعها} أي: كلّ واحد واحد منها، فمجموعها لا يمكن أمّا بعضها فيمكن {وحينئذٍ} أي: حين كون التباين بين العام وبين المجموع {فربّما يقع التعارض بين الخصوصات} وأنّ أيّها تخصّص العام في ما كانت متساويات لا كمثل (النُّحاة) و(الصّرفيّين) في المثال {فيخصّص} العام {ببعضها ترجيحاً} على بعضها الأُخر لكونه قطعيّاً أو مشهوراً {أو تخييراً} بينها لتساويها {فلا تغفل}.

ص: 327

هذا في ما كانت النّسبة بين المتعارضات متّحدة.

وقد ظهر منه حالُها في ما كانت النّسبة بينها متعدّدة، كما إذا ورد هناك عامان من وجه، مع ما هو أخصّ مطلقاً من أحدهما،وأنّه لا بدّ من تقديم الخاصّ على العام، ومعاملة العموم من وجه بين العامّين، من الترجيح أو التخيير بينهما، وإن انقلبت النّسبة بينهما إلى العموم المطلق بعد تخصيص أحدهما؛

___________________________________________

لكن لا يخفى أنّ هذا الكلام بطوله متوقّف على فهم العرف، وإلّا فالوجوه العقليّة لا تصلح مرجّحات للأدلّة اللفظيّة.

{هذا} تمام الكلام {في ما كانت النّسبة بين المتعارضات متّحدة} كما لو كان أدلّة ثلاثة بين الجميع عموم مطلق، كما عرفت في المثال السّابق الّذي كان عام واحد وخصوصان.

{وقد ظهر منه} أي: من الكلام في النّسبة المتحدة وإنّه لا تنقلب النّسبة {حالها} أي: حال النّسبة {في ما كانت النّسبة بينها} أي: بين المتعارضات {متعدّدة} كما لو كانت النّسبة بين بعضها مع بعض العموم المطلق وبين بعضها مع بعض العموم من وجه {كما إذا ورد هناك عامان من وجه} نحو (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق) {مع ما هو أخصّ مطلقاً من أحدهما} نحو (لا تكرم النُّحاة من العلماء) الّذي هو أخصّ مطلقاً من (أكرم العلماء) {وأنّه لا بدّ من تقديم الخاصّ على العامّ} فيخصّص (أكرم العلماء) ب- (لا تكرم النُّحاة) {ومعاملة العموم من وجه بين العامّين} أي: أكرم العلماء، ولا تكرم الفسّاق.

ففي مورد الاجتماع وهو الصّرفي الفاسق - مثلاً - يعامل بمقتضى القاعدة {من الترجيح أو التخيير بينهما} إذا لم يكن مرجّح لأحدهما على الآخر {وإن انقلبت النّسبة بينهما} أي: بين العامّين من وجه {إلى العموم المطلقبعد تخصيص أحدهما} كما لو كان الباقي تحت (أكرم العلماء) - بعد إخراج النُّحاة - أخصّ

ص: 328

لما عرفت من أنّه لا وجه إلّا لملاحظة النّسبة قبل العلاج.

نعم، لو لم يكن الباقي تحته بعد تخصيصه إلّا ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص، أو كان بعيداً جدّاً، لقدّم على العامّ الآخر، لا لانقلاب النّسبة بينهما، بل لكونه كالنصّ فيه، فيقدّم على الآخر الظاهر فيه بعمومه، كما لا يخفى.

___________________________________________

مطلقاً من (لا تكرم الفسّاق) لأنّ الباقي كانوا فسقة {لما عرفت من أنّه لا وجه إلّا لملاحظة النّسبة قبل العلاج} إذ المعيار الظهور وهو باقٍ، فلا تنقلب نسبة العامّين من وجه إلى عموم وخصوص مطلق.

{نعم} لو بقي تحت (أكرم العلماء) - بعد إخراج النُّحاة - عشرة أفراد ممّا لا يجوز أن يخصّص بعد ذلك لأنّه مستهجن، أو بقي خمسون - مثلاً - ممّا يبعد تجاوز التخصيص عنه كان هذا العامّ مقدّماً على العامّ الآخر ولا تلاحظ النّسبة بينهما.

ف- {لو لم يكن الباقي تحته} أي: تحت (أكرم العلماء) {بعد تخصيصه} ب- (لا تكرم النُّحاة) {إلّا ما} أي: أفراد {لا يجوز} ولا يصحّ {أن يجوز عنه} أي: يتعدّى هذا الباقي {التخصيص} فلا يحتمل تخصيصاً آخر لقلّة الأفراد الباقية {أو كان} التّخصيص {بعيداً جدّاً} وإن جاز {لقدّم} هذا العامّ المخصّص {على العام الآخر} الباقي سليماً {لا لانقلاب النّسبةبينهما} بأن يقال: إنّ هذا العامّ المخصّص صار أخصّ من العامّ الآخر الّذي كان بينهما عموم من وجه {بل لكونه} أي: العامّ المخصّص {كالنصّ فيه} أي: في الأفراد الباقية تحته، وضمير «فيه» يعود إلى «ما» {فيقدّم على} العامّ {الآخر الظاهر فيه} أي: في الأفراد الباقية {بعمومه} أي: إنّ العامّ السّالم عن التخصيص ظاهر في العشرة أو الخمسين مثلاً، والعامّ المخصّص نصّ فيه فيقدّم النّصّ على الظاهر {كما لا يخفى} فتأمّل.

ص: 329

فصل لا يخفى: أنّ المزايا المرجّحة لأحد المتعارضين، الموجبة للأخذ به وطرح الآخر - بناءً على وجوب الترجيح - وإن كانت على أنحاء مختلفة، ومواردها متعدّدة - من راوي الخبر، ونفسِهِ، ووجه صدوره، ومتنه، ومضمونه، مثل الوثاقة، والفقاهة، والشّهرة، ومخالفة العامّة، والفصاحة، وموافقة الكتاب، والموافقة لفتوى الأصحاب إلى غير ذلك ممّا يوجب مزيّة في طرف من أطرافه، خصوصاً

___________________________________________

[فصل رجوع جميع المرجحات إلى المرجح الصدوري وعدم الترتيب بينها]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، رجوع جميع المرجحات إلى المرجح ...

{فصل} في بيان أنّ المرجّحات إنّما توجب ترجيح أحد السّندين وحجيّته فعلاً وإن كانت المرجّحات في غير السّند ابتداءً، وذلك لأنّ الشّارع إذا رجّح أحد الخبرين لجهة من الجهات لا معنى بعد ذلك؛ لأن يعبّدنا بسند الخبر المرجوح الّتي لا ثمرة عمليّة مترتّبة عليه.

{لا يخفى أنّ المزايا المرجّحة لأحد المتعارضين الموجبة للأخذ به} أي: بذي المزيّة{وطرح الآخر} الفاقد لها {- بناءً على وجوب الترجيح -} الّذي هو مبنى المشهور {وإن كانت} تلك المرجّحات {على أنحاء مختلفة ومواردها متعدّدة} فبعضها مرتبط بالسند، وبعضها بالجهة، وبعضها بالمضمون، وبعضها بالمتن {من} مرجّحات {راوي الخبر} بأن يكون أحد الرّاويين أوثق من الآخر {و} مرجّحات {نفسه} أي: نفس الخبر، كأن يكون هذا الخبر مشهوراً في كتب الحديث لا نادراً {ووجه صدوره} كأن يكون مخالفاً للعامّة صادراً لبيان الحكم الواقعي {ومتنه} كأن يكون فصيحاً لا كمعارضه ممّا لا فصاحة فيه {ومضمونه} كأن تكون الشّهرة الفتوائيّة موافقة له {مثل الوثاقة والفقاهة} للسند {والشّهرة} الخبريّة لنفسه {ومخالفه العامّة} لوجه الصّدور {والفصاحة} لمتنه {وموافقة الكتاب والموافقة لفتوى الأصحاب} لمضمونه {إلى غير ذلك ممّا يوجب مزيّة في طرف من أطرافه} الخمسة {خصوصاً}ما

ص: 330

لو قيل بالتعدّي من المزايا المنصوصة - ، إلّا أنّها موجبة لتقديم أحد السّندين وترجيحه وطرح الآخر؛ فإنّ أخبار العلاج دلّت على تقديم رواية ذات مزيّة في أحد أطرافها ونواحيها.

فجميع هذه من مرجّحات السّند، حتّى موافقة الخبر للتقيّة؛ فإنّها أيضاً ممّا يوجب ترجيح أحد السّندين وحجيّته فعلاً، وطرح الآخر رأساً.

و

___________________________________________

ما {لو قيل بالتعدّي من المزايا المنصوصة}إلى غيرها ممّا يسبّب كثرة المزايا والمرجّحات.

{إلّا أنّها} جميعها {موجبة لتقديم أحد السّندين وترجيحه وطرح الآخر} فإذا كان أحد الخبرين أفصح دلالة وقلنا بتقديم الأفصح كان معنى ذلك الأخذ بسند الأفصح وطرح سند معارضه وهكذا {فإنّ أخبار العلاج دلّت على تقديم رواية ذات مزيّة في أحد أطرافها ونواحيها} فالرواية مقدّمة على تلك الأُخرى، وهذا معناه تقديم السّند.

{فجميع هذه} المرجّحات {من مرجّحات السّند حتّى موافقة الخبر للتقيّة} الّتي ترتبط بالجهة الخارجة عن السّند والدلالة إطلاقاً {فإنّها أيضاً ممّا يوجب ترجيح أحد السّندين وحجيّته فعلاً وطرح الآخر رأساً} إذ لا معنى للتعبّد بسند لا ثمرة له عملاً، فإنّ التعبّد ليس إلّا بلحاظ العمل، فإذا لم يكن للمرجوح عمل لم يكن بالنسبة إليه تعبّد.

{و} إن قلت: لو كان هناك خبران مقطوع صدورهما وكان أحدهما أرجح دلالة أو جهة مثلاً، فإنّه لم يوجب سقوط سند الآخر - لفرض كونه مقطوعاً - فإنّه وإن لم يعمل به لكنّه لا يطرح فليكن الخبران الحجّتان غير المقطوعين كذلك فلم يطرح سند المرجوح؟

ص: 331

كونها في مقطوعي الصّدور متمحّضة في ترجيح الجهة، لا يوجبُ كونها كذلك في غيرهما؛ ضرورة أنّه لا بمعنى للتعبّد بسند ما يتعيّن حمله على التقيّة، فكيف يقاس على ما لا تعبّد فيه؛ للقطع بصدوره؟

ثمّ إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات، لو قيل بالتعدّي وإناطة الترجيح بالظنّ، أو بالأقربيّة إلى الواقع؛ ضرورة أنّ قضيّة ذلك تقديم الخبرالّذي ظُنّ صدقُه، أو كان أقرب إلى الواقع منهما، والتخييرُ بينهما إذا تساويا، فلا وجه لإتعاب النّفس في بيان أنّ أيّها يقدّم أو يؤخّر، إلّا

___________________________________________

قلت: {كونها} أي: المرجّحات {في مقطوعي الصّدور متمحّضة في ترجيح الجهة} بحيث لا تتعدّى إلى السّند {لا يوجب كونها} أي: المرجّحات {كذلك} متمحّضة في ترجيح الجهة {في غيرهما} أي: غير المقطوعين {ضرورة} أنّ هناك القطع بالسند باقٍ وإن سقطت الدلالة وليس كذلك في غير المقطوع ف-{إنّه لا معنى للتعبّد بسند ما يتعيّن حمله على التقيّة} أو نحو ذلك {فكيف يقاس} ما يكون التعبّد بسنده {على ما لا تعبّد فيه للقطع بصدوره} فإنّه قياس مع الفارق.

{ثمّ} إنّا قد نقتصر على المرجّحات المنصوصة وقد نتعدّى عنها، فعلى الأوّل لا بدّ من الترتيب بينهما كما ذكر في الرّوايات، أمّا على الثّاني ف- {إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات} كأن نقدّم مرجّحات السّند على مرجّحات الدلالة وهكذا {لو قيل بالتعدّي} عن المنصوصة {وإناطة الترجيح بالظنّ} فكلّ مظنون الصّدور أرجح {أو بالأقربيّة إلى الواقع} فكلّ أقرب إلى الواقع أرجح {ضرورة أنّ قضيّة ذلك} التعدّي وكون المناط الظنّ أو الأقربيّة {تقديم الخبر الّذي ظنّ صدقه أو كان أقرب إلى الواقع منهما} أي: من الخبرين {والتخيير بينهما إذا تساويا} فلم يكن أحدهما مظنوناً أو أقرب بحسب المرجّحات {فلا وجه لإتعاب النّفس}كما صدر عن بعض الأعاظم {في بيان أنّ أيّها} أي: المرجّحات {يقدّم أو يؤخّر إلّا} إذا أُريد بذلك

ص: 332

تعيين أن أيّها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر.

وأمّا لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فله وجه؛ لما يترائى من ذكرها مرتّباً في المقبولة والمرفوعة.

مع إمكان أن يقال: إنّ الظاهر كونهما - كسائر أخبار الترجيح - بصدد بيان أنّ هذا مرجّح وذاك مرجّح، ولذا اقتصر في غير واحد منها على ذكر مرجّح واحد، وإلّا لزم تقييد جميعها - على كثرتها - بما في المقبولة، وهو بعيدٌ جدّاً.

___________________________________________

{تعيين أنّ أيّها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر} كما لو كان أحد الخبرين أرجح جهة والآخر أرجح متناً فهل تقدّم الجهة أو المتن، من باب أنّ أيّها يتّصف حينئذٍ بالأقربيّة إلى الواقع أو بكونه موجباً للظنّ، فالنزاع في الصّغرى لا في الكبرى.

هذا في ما لو قيل بالتعدّي وعدم الخصوصيّة للمزايا المذكورة في الرّوايات {وأمّا لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة} في الأخبار {فله} أي: للترتيب بين المرجّحات {وجه لما يترائى من ذكرها} أي: المرجّحات {مرتّباً} بعضها على بعض {في المقبولة} لابن حنظلة {والمرفوعة} للعلّامة(رحمة الله).

{مع إمكان أن يقال} بعدم الترتيب بين المرجّحات ولو اقتصرنا على المزايا المذكورة في الأخبار، ف- {إنّ الظاهر كونهما}أي: المقبولة والمرفوعة {كسائر أخبار الترجيح بصدد بيان أنّ هذا مرجّح وذاك مرجّح} من دون قصد إفادة الترتيب بينها.

{ولذا اقتصر في غير واحد منها} أي: من الأخبار {على ذكر مرجّح واحد} فقط {وإلّا} فلو كان ترتيب بين المرجّحات {لزم تقييد جميعها} أي: جميع تلك الأخبار المقتصرة على ذكر مرجّح واحد {على كثرتها بما في المقبولة} بأن يقال: إنّ المذكور في هذا الخبر - مثلاً - مقيّد بعدم مرجّح سابق عليه ممّا ذكر في المقبولة سابقاً {وهو بعيد جدّاً} إذ مثل هذه التقييدات الكثيرة خلاف الظواهر

ص: 333

وعليه فمتى وجد في أحدهما مرجّح، وفي الآخرُ آخر منها، كان المرجع هو إطلاقات التخيير، ولا كذلك على الأوّل، بل لا بدّ من ملاحظة الترتيب، إلّا إذا كانا في عرض واحد.

وقد انقدح بذلك: أنّ حال المرجّح الجهتي

___________________________________________

الّتي حجيّتها منوطة ببناء العقلاء.

ألا ترى أنّه لو سأل شخص المولى عمّا يتصدّق فقال له: ديناراً، وسأل آخر وثالث ورابع فأجابهم مثل هذا الجواب، ثمّ سأل آخر فقال له: درهماً، فإن لم يكن عندك فربع دينار، فإن لم يكن عندك فثوب، لم ير العرف أنّ تلك على وجه الجواز، لا أنّها تقيّد تلك الأقوال المطلقة بإعطاء دينار.

{وعليه} أي: على هذا الّذي ذكرنا من عدم الترتيب بين المرجّحات {فمتى وجد في أحدهما مرجّح وفي الآخر} مرجّح {آخر منها} أي: من المرجّحات، كما لو كان أحدهما مشهوراً والآخرمخالفاً للعامّة {كان المرجع هو إطلاقات التخيير} إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر {ولا كذلك} أي: لا يكون المرجع التخيير {على الأوّل} أي: بناءً على لزوم الترتيب بين المرجّحات {بل لا بدّ من ملاحظة الترتيب}.

فإذا كانت المخالفة للعامّة مقدّمة على الشّهرة - مثلاً - كان الخبر المخالف أرجح ويترك الآخر؛ لأنّ المخالف فيه رجحان في هذه المرتبة ولم تصل النّوبة إلى الترجيح بالشهرة حتّى يعارض الخبر ذو الشّهرة للخبر المخالف للعامّة {إلّا إذا كانا في عرض واحد} بأن جعلا في المرجّحات في مرتبة واحدة، كما لو كان أحد الرّاويين أعدل والآخر أفقه ممّا ذكرا في مرتبة واحدة في مقبولة ابن حنظلة مثلاً.

{وقد انقدح بذلك} الّذي: ذكرنا من أنّه لا ترتيب بين المرجّحات {أنّ حال المرجّح الجهتي} المرتبط بجهة الصّدور - أعني: كون الحكم صادراً لبيان الواقع

ص: 334

حال سائر المرجّحات، في أنّه لا بدّ في صورة مزاحمته مع بعضها، من ملاحظة أنّ أيّهما فعلاً موجب للظنّ بصدق ذيه بمضمونه، أو الأقربيّة كذلك إلى الواقع، فيوجب ترجيحه وطرح الآخر؛ أو أنّه لا مزيّة لأحدهما على الآخر، كما إذا كان الخبر الموافق للتقيّة - بما له من المزيّة - مساوياً للخبر المخالف لها بحسب المناطين، فلا بدّ حينئذٍ من التخيير بين الخبرين.

فلا وجه لتقديمه على غيره، كما عنالوحيد البهبهاني(قدس سره)(1) وبالغ فيه بعض أعاظم المعاصرين

___________________________________________

لا للتقيّة - {حال سائر المرجّحات في أنّه لا بدّ في صورة مزاحمته} أي: مزاحمة هذا المرجّح {مع بعضها} كما لو كان أحدهما مخالفاً للعامّة والآخر موافقاً للشهرة {من ملاحظة أنّ أيّهما فعلاً موجب للظنّ بصدق ذيه بمضمونه أو} أيّهما يوجب {الأقربيّة كذلك} أي: لذيه {إلى الواقع فيوجب} المرجّح الموجب للظنّ بالصدق أو القرب إلى الواقع {ترجيحه وطرح الآخر} في مقام العمل {أو أنّه لا مزيّة لأحدهما على الآخر، كما إذا كان الخبر الموافق للتقيّة بما له من المزيّة مساوياً للخبر المخالف لها} أي: للتقيّة {بحسب المناطين} أي: الظنّ بالصدق والأقربيّة إلى الواقع، بأن كانا في مرتبة واحدة من احتمال الصّدق أو القرب إلى الواقع {فلا بدّ حينئذٍ من التخيير بين الخبرين، فلا وجه لتقديمه} أي: تقديم الخبر المشتمل على المرجّح الجهتي بأن كان مخالفاً للعامّة {على غيره} الموافق لهم المشتمل على مرجّح آخر كموافقة الشّهرة {كما عن الوحيد البهبهاني} الآقا باقر {(قدس سره)} لما عرفت من أنّ أحد المرجّحين لو صار سبباً للأقربيّة أو الظنّ بالصدق قدّم ذوه وإلّا تخيّر بينهما {وبالغ فيه} أي: في تقديم ذي المرجّح الجهتي {بعض أعاظم المعاصرين} الشّيخ حبيب

ص: 335


1- الفوائد الحائرية: 219.

- أعلى اللّه درجته(1)

- .

ولا لتقديم غيرها عليه، كما يظهر من شيخنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - ، قال: «أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصّدور - بأن كان الأرجح صدوراً موافقاً للعامّة - فالظاهر تقديمه على غيره، وإن كان مخالفاً للعامّة، بناءً على تعليل الترجيح بمخالفة العامّة باحتمال التقيّة في الموافق؛ لأنّ هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعاً كما في المتواترين، أو تعبّداً كما في الخبرين، بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما، وترك التعبّد بصدور الآخر،

___________________________________________

اللّه الرّشتي تلميذ الشّيخ المرتضى {أعلى اللّه درجته}.

{و} كما لا وجه لتقديم المرجّح الجهتي على غيره كذلك {لا} وجه {لتقديم غيرها} وهي المرجّحات الصّدوريّة {عليه} أي: على المرجّح الجهتي {كما يظهر من شيخنا} المرتضى {العلّامة أعلى اللّه مقامه} حيث {قال: «أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصّدور} بأن كان أحد الخبرين أوثق راوياً والآخر مخالفاً للعامّة {بأن كان الأرجح صدوراً موافقاً للعامّة} والمخالف للعامّة أضعف صدوراً {فالظاهر تقديمه} أي: الأرجح صدوراً {على غيره وإن كان} ذلك الغير {مخالفاً للعامّة بناءً على تعليل} الأخبار {الترجيحبمخالفة العامّة باحتمال التقيّة في الموافق} لهم، لا أنّه ترجيح تعبّديّ محض {لأنّ هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض} الفراغ عن سنديهما بأن علمنا {صدورهما قطعاً كما في المتواترين أو} علمنا ذلك {تعبّداً كما في الخبرين} المشمولين لأدلّة الحجيّة {بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما وترك التعبّد بصدور الآخر} فلا يمكن أخذ سند أحدهما وطرح سند الآخر، يعني أنّ الشّارع إنّما جعل المخالفة للعامّة

ص: 336


1- بدائع الأفكار: 434.

وفي ما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصّدور.

إن قلت: إنّ الأصل في الخبرين: الصّدور، فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكمَ بصدور الموافق تقيّة، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما، فيكون هذا المرجّح - نظير الترجيح بحسب الدلالة - مقدّماً على الترجيح بحسب الصّدور.

___________________________________________

مرجّحاً بعد أن يكون سنداهما معتبراً حتّى لا يمكن الأخذ بأحد السّندين، إذ لو أمكن الأخذ بأحد السّندين دون الآخر لم تصل النّوبة إلى الأخذ بالمرجّحات الجهتيّة، فإنّ المرجّح الجهتي فرع الفراغ عن تماميّة السّند، فإذا أمكن في مقام جعل الترجيح في مقام السّند لم تصل النّوبة إلى مخالفة العامّة وموافقتهم.

{وفي ما نحن فيه} وهو الّذي كان سند أحدهما أقوى من سند الآخر، وإن كان الآخر الضّعيف السّند مخالفاً للعامّة {يمكن ذلك} الترجيح الصّدوري {بمقتضى أدلّة الترجيح من حيثالصّدور} فلا تصل النّوبة إلى المرجّح الجهتي.

{إن قلت}: لا بدّ من الترجيح بالجهة إذ الصّدور في الخبرين مسلّم، ف- {إنّ الأصل في الخبرين الصّدور} بعد تماميّة الحجيّة بالنسبة إليهما {فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك} التعبّد {الحكم بصدور الموافق} للعامّة {تقيّة} إذ لمّا فرغنا عن أصل الصّدور وصلت النّوبة إلى جهة الصّدور، فالمخالف أرجح من الموافق {كما يقتضي ذلك} التعبّد بالصدور {الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما} دلالة بأن كان بينهما نصّ وظاهر أو ظاهر وأظهر، فكما أنّ الجمع الدلالي مقدّم على ملاحظة الترجيح بين السّندين كذلك المرجّح الجهتي {فيكون هذا المرجّح} الجهتي {نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّماً على الترجيح بحسب الصّدور} ولذا كان اللّازم ملاحظة الترجيح بحسب الجهة أوّلاً، فإن لم يكن ثمّة ترجيح كان اللّازم الترجيح بحسب الصّدور.

ص: 337

قلت: لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقيّة؛ لأنّه إلغاء لأحدهما في الحقيقة»(1).

وقال - بعد جملة من الكلام - : «فمورد هذا الترجيح تساوي الخبرين من حيث الصّدور، إمّا علماً كما في المتواترين، أو تعبّداً كما في المتكافئين من الأخبار. وأمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر، فلا وجه لإعمال هذا المرجّح فيه؛ لأنّ جهة الصّدور فرع على أصلالصّدور»(2).

___________________________________________

{قلت: لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقيّة؛ لأنّه} أي: الحمل على التقيّة {إلغاء لأحدهما} الموافق للعامّة {في الحقيقة»} إذ لا معنى لأن يقول الشّارع: تعبّد بأنّ هذا الخبر الموافق للعامّة، صادرٌ لكنّه لا تعمل به، فإنّ التعبّد ليس إلّا بملاحظة العمل، فإذا لم يكن في البين عمل لم يكن وجه للتعبّد.

وعلى هذا فاللّازم تقديم المرجّح الصّدوري على المرجّح الجهتي، فإذا كان أحدهما أرجح صدوراً عمل به، وإذا تساويا من هذا الحيث رجعنا إلى المرجّح الجهتي.

{وقال} الشّيخ {بعد جملة من الكلام: «فمورد هذا الترجيح} الجهتي {تساوي الخبرين من حيث الصّدور إمّا علماً} بأن علمنا أنّ كلا الخبرين صادران {كما في المتواترين أو تعبّداً كما في المتكافئين من الأخبار} بحيث لا يكون لأحدهما مزيّة على الآخر {وأمّا ما} أي: المقام الّذي كان فيه الخبر ذو المرجّح الصّدوري، بأن كان أحدهما أوثق مثلاً الّذي {وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر، فلا وجه لإعمال هذا المرجّح} الجهتي {فيه} بل اللّازم تقديم الأرجح صدوراً على غيره {لأنّ جهة الصّدور فرع على أصل الصّدور»} فمع الأصل لا مجال للفرع

ص: 338


1- فرائد الأصول 4: 136-137.
2- فرائد الأصول 4: 137-138.

انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علوّ مقامه.وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت - أنّ حديث فرعيّة جهة الصّدور على أصله، إنّما يفيد إذا لم يكن المرجّح الجهتي من مرجّحات أصل الصّدور، بل من مرجّحاتها. وأمّا إذا كان من مرجّحاته - بأحد المناطين - ، فأيّ فرق بينه وبين سائر المرجّحات؟ ولم يقم دليل بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبّد بصدور الرّاجح منهما من حيث غير الجهة، مع كون الآخر راجحاً بحسبها، بل هو أوّل الكلام، كما لا يخفى.

فلا محيص

___________________________________________

{انتهى موضع الحاجة من كلامه} أي: كلام الشّيخ(رحمة الله) {زيد في علوّ مقامه}.

هذا {و} لكن {فيه مضافاً إلى ما عرفت} من عدم الدليل على تقديم بعض المرجّحات على بعض بل كلّها في مرتبة واحدة {إنّ حديث فرعيّة جهة الصّدور على أصله} أي: أصل الصّدور {إنّما يفيد إذا لم يكن المرجّح الجهتي من مرجّحات أصل الصّدور} بأن لم تكن رتبته في رتبة الأوثقيّة - مثلاً - {بل من مرجّحاتها} أي: مرجّحات الجهة الّتي هي مرتبة أُخرى غير أصل الصّدور.

{وأمّا إذا كان} المرجّح الجهتي {من مرجّحاته} أي: مرجّحات أصل الصّدور {بأحد المناطين} بمناط الأقربيّة إلى الواقع أو الظنّ بالصدق {فأيّ فرق بينه} أي: بين المرجّح الجهتي {وبين سائر المرجّحات} الصّدوري وغيره، فكلّ مرجّح أوجب كون ذيه أقرب إلى الواقع أو كونه مظنوناً كان سبباً لتقديم ذيه على غيره سواء كان مركز المرجّح الجهة أو الصّدور أو المتن أو غيرها كما تقدّم {ولم يقمدليل بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبّد بصدور الرّاجح منهما من حيث غير الجهة} أي: من حيث الصّدور {مع كون الآخر راجحاً بحسبها} أي: بحسب الجهة {بل هو أوّل الكلام، كما لا يخفى} فلا يمكن أن يجعل المدّعى دليلاً.

{ف-} تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه {لا محيص} عن أحد أمرين:

ص: 339

من ملاحظة الرّاجح من المرجّحين بحسب أحد المناطين، أو من دلالة أخبار العلاج على الترجيح بينهما مع المزاحمة، ومع عدم الدلالة - ولو لعدم التعرّض لهذه الصّورة - فالمحكّم هو إطلاق التخيير، فلا تغفل.

___________________________________________

الأوّل: الترجيح بمناط الأقربيّة إلى الواقع أو الظنّ، أو الترجيح بما إذا قدّم بعض المرجّحات على بعض - في الأخبار - لا الترجيح بحب السّند أو الجهة أو غيرهما وتقديم بعضها على بعض لتلك الوجوه الاعتباريّة.

الثّاني: التخيير مطلقاً إذا لم يكن هناك دليل على الترجيح أصلاً - كما اخترنا - أو كان دليل على الترجيح لكن لم يتحقّق مرجّح في أحد الخبرين، فلا بد {من ملاحظة الرّاجح من المرجّحين} الواقع كلّ واحد منهما في أحد الخبرين المتعارضين {بحسب أحد المناطين} الأقربيّة إلى الواقع أو الظنّ {أو من دلالة أخبار العلاج على الترجيح بينهما مع المزاحمة} بين المرجّحات لو لم نقل بأحد المناطين {ومع عدم الدلالة} لأخبار العلاج {ولو لعدم التعرّض لهذه الصّورة} كصورة معارضة الجهة بالصدور {فالمحكّم هو إطلاق التخيير} ويخيّر بينالخبرين {فلا تغفل} هذا تمام الكلام مع الشّيخ(رحمة الله).

وقد تحقّق أنّ الشّيخ يقدّم المرجّح الصّدوري وتلميذه يقدّم المرجّح الجهتي والمصنّف قائل بالتخيير، وعلى فرض الترجيح يقول بما فيه مناط الأقربيّة أو الظنّ.

ثمّ إنّ الشّيخ(رحمة الله) لمّا ذكر أنّه لا يعقل التعبّد بصدور الخبرين المختلفي السّند إذا حمل أحدهما على التقيّة، بل اللّازم أوّلاً ملاحظة الترجيح بين السّندين، أورد عليه الشّيخ حبيب اللّه الرّشتي بأنّه لو لم يعقل التعبّد بصدورهما في المختلفين سنداً مع حمل أحدهما على التقيّة لكان اللّازم أن لا يعقل التعبّد بصدورهما في

ص: 340

وقد أورد بعض تلاميذه(1)

عليه: بانتقاضه بالمتكافئين من حيث الصّدور؛ فإنّه لو لم يعقل التعبّد بصدور المتخالفين من حيث الصّدور، مع حمل أحدهما على التقيّة، لم يعقل التعبّد بصدورهما مع حمل أحدهما عليها، لأنّه إلغاء لأحدهما أيضاً في الحقيقة.

___________________________________________

المتساويين سنداً مع حمل أحدهما على التقيّة، فكيف يجوّز الشّيخ المرجّح الجهتي بعد تكافؤ السّندين؟

وإن شئت قلت: إن أمكن التعبّد بالسندين جاز ذلك حتّى في المختلفين، وإن لم يمكن لم يجز حتّى في المتساويين فما الفرق؟

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: {وقد أورد بعض تلاميذه} وهو الرّشتي {عليه} أي: على الشّيخ {بانتقاضه} أي: انتقاض كلامالشّيخ في مختلفي السّند {بالمتكافئين} سنداً {من حيث الصّدور، فإنّه لو لم يعقل التعبّد بصدور المتخالفين من حيث الصّدور} بأن كان أحدهما أرجح من الآخر من حيث الصّدور - كما لو كان أحدهما أوثق - {مع حمل أحدهما على التقيّة} لأنّه لا معنى للقول بأنّك تعبّد بهذا السّند ولا تعمل بمضمونه {لم يعقل التعبّد بصدورهما} أي: صدور المتكافئين {مع حمل أحدهما} أي: الخبرين {عليها} أي: على التقيّة {لأنّه إلغاء لأحدهما أيضاً في الحقيقة} كإلغاء أحدهما في صورة عدم التكافؤ.

وإن شئت قلت: نسأل من الشّيخ ماذا تصنع بالمتكافئين مع موافقة أحدهما للعامّة؟ فلا بدّ أن يكون الجواب أنّه لا ترجيح من حيث الصّدور ويتعبّد بهما لكن يحمل الموافق على التقيّة، فنقول: فافعلوا مثل هذا في المختلفين سنداً فتعبّدوا بصدورهما واحملوا الموافق على التقيّة، ولم قلتم أنّه لا يعقل التعبّد بسند يحمل على التقيّة؟

ص: 341


1- بدائع الأفكار: 457.

وفيه ما لا يخفى من الغفلة وحِسبانِ أنّه التزم - في مورد الترجيح بحسب الجهة - باعتبار تساويهما من حيث الصّدور، إمّا للعلم بصدورهما، وإمّا للتعبّد به فعلاً، مع بداهة أنّ غرضه - من التساوي من حيث الصّدور تعبّداً - : تساويهما بحسب دليل التعبّد بالصدور قطعاً؛ ضرورة أنّ دليل حجيّة الخبر لا يقتضي التعبّد فعلاً بالمتعارضين، بل ولا بأحدهما، وقضيّة دليل العلاج ليس إلّا العبّد بأحدهما تخييراً أو ترجيحاً.

___________________________________________

{وفيه ما لا يخفى} إذ الشّيخ لا يقول بأنّ المتكافئين كلاهماحجّة ثمّ يحمل أحدهما على التقيّة، بل يقول الشّيخ بأنّ إعمال المرجّح الجهتي إنّما هو في ما إذا تساوى الخبران من حيث شمول دليل التعبّد لهما.

وبهذا يظهر ما في إشكال الرّشتي {من الغفلة وحسبان أنّه} أي: الشّيخ {التزم - في مورد الترجيح بحسب الجهة} الّذي هو في صورة التكافؤ سنداً - {باعتبار تساويهما من حيث الصّدور إمّا للعلم بصدورهما} للتواتر ونحوه {وإمّا للتعبّد به} أي: بصدورهما {فعلاً} فيرى الشّيخ أنّهما حجّة لكن يجب حمل الموافق للعامّة على التقيّة.

{مع بداهة أنّ غرضه} أي: الشّيخ(رحمة الله) {- من التساوي من حيث الصّدور تعبّداً -} ليس التعبديّة الفعليّة بل {تساويهما بحسب دليل التعبّد بالصدور قطعاً} قوله: «قطعاً» متعلّق بقوله: «غرضه» أي: إنّ غرض الشّيخ هذا قطعاً لا الحجيّة الفعليّة {ضرورة أنّ دليل حجيّة الخبر لا يقتضي التعبّد فعلاً بالمتعارضين، بل ولا بأحدهما} لما عرفت سابقاً من أنّ مقتضى الدليل الأوّلي سقوط كلا المتعارضين، وإنّما نقول باختيار أحدهما لدليل ثانوي هو أخبار الترجيح والتخيير {وقضيّة دليل العلاج ليس إلّا التعبّد بأحدهما} أي: أحد الخبرين {تخييراً أو ترجيحاً} فكيف يقول الشّيخ بأنّ كليهما حجّة فعليّة كما توهّمه المحقّق الرّشتي؟

ص: 342

والعجب كلّ العجب أنّه(رحمة الله) لم يكتفِ بما أورده من النّقض، حتّى ادّعى استحالةَ تقديم الترجيح بغير هذا المرجّح علىالترجيح به، وبَرهنَ عليه بما حاصله: «امتناعُ التعبّد بصدور الموافق؛ لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله، وبين صدوره تقيّة، ولا يعقل التعبّد به على التقديرين بداهةً، كما أنّه لا يعقل التعبّد بالقطعي الصّدور الموافق، بل الأمرُ في الظنّي الصّدور أهون؛ لاحتمال عدم صدوره، بخلافه».

___________________________________________

{والعجب كلّ العجب أنّه} أي: الرّشتي {(رحمة الله) لم يكتف بما أورده من النّقض} على الشّيخ بصورة تساوي الخبرين سنداً {حتّى} زاد الإشكال على الشّيخ القائل بملاحظة المرجّحات السّنديّة قبل المرجّحات الجهتيّة و{ادّعى استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجّح} الجهتي {على الترجيح به} فما ذكره الشّيخ من تقديم الأقوى سنداً على الأضعف المخالف للعامّة محال عقلاً {وبرهن} الرّشتي {عليه} أي: على كون ذلك محالاً {بما حاصله: «امتناع التعبّد بصدور} الخبر {الموافق} للعامّة {لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله وبين صدوره تقيّة} فلا يمكن التعبّد بما لا سند له أو لا جهة واقعيّة لصدوره {ولا يعقل التعبّد به على التقديرين بداهة} إذ لا فائدة في التعبّد بمثل ذلك {كما أنّه لا يعقل التعبّد بالقطعي الصّدور الموافق} للعامّة؛ لأنّه صادر تقيّة فلا معنى للتعبّد به، والتعبّد به مستلزم لطرح المخالف الّذي هو حكم اللّه - تعالى - {بل الأمر في الظنّي الصّدور أهون} فطرحه لا مانعفيه {لاحتمال عدم صدوره} أي: الظنّي {بخلافه»} أي: بخلاف القطعي الصّدور.

والحاصل: أنّه لا يمكن التعبّد بالحكم الصّادر تقيّة سواء كان قطعيّ الصّدور أو ظنيّة. نعم، في ظنّي الصّدور دائرة احتمال الخلل أوسع لاحتمال الخلل في كلّ من السّند والجهة بخلاف القطعي المنحصر خلله في جهته.

ص: 343

ثمّ قال: «فاحتمال تقديم المرجّحات السّنديّة على مخالفة العامّة، - مع نصّ الإمام(علیه السلام) على طرح موافقهم(1) - ، من العجائب والغرائب الّتي لم يُعهد صدورها(2) من ذي مُسكة، فضلاً عمّن هو تالي العصمة علماً وعملاً». ثمّ قال: «وليت شعري أنّ هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه؟ مع أنّه في جودة النّظر يأتي بما يقرب من شقّ القمر»(3).

وأنت خبير بوضوح فساد برهانه؛ ضرورة عدم دوران أمر الموافق بين الصّدور تقيّةً، وعدم الصّدور رأساً؛ لاحتمال صدوره لبيان حكم اللّه واقعاً، وعدم صدور المخالف المعارض له أصلاً،

___________________________________________

{ثمّ قال} الرّشتي(رحمة الله): {«فاحتمال تقديم المرجّحات السّنديّة على مخالفة العامّة} بأن يؤخذ بالخبر الأقوى سنداً وإن كان موافقاً للعامّة، ويترك الأضعف المخالف لهم - كما يقوله الشّيخ - {مع نصّ الإمام(علیه السلام) على طرحموافقهم} أي: طرح الخبر الموافق لهم {من العجائب والغرائب الّتي لم يعهد صدورها من ذي مسكة} يتمكّن من إمساك قلمه ولسانه لئلّا يجريان كما يشاءآن، بل يجريان كما يشاء العقل {فضلاً عمّن هو تالي} أهل بيت {العصمة علماً وعملاً»} كالشيخ المرتضى(رحمة الله).

{ثمّ قال} الرّشتي(رحمة الله): {«وليت شعري إنّ هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه مع أنّه في جودة النّظر يأتي بما يقرب من شقّ القمر»} انتهى.

{وأنت خبير بوضوح فساد برهانه، ضرورة عدم دوران أمر الموافق} للعامّة {بين الصّدور تقيّة وعدم الصّدور رأساً} كما ذكره الرّشتي {لاحتمال صدوره لبيان حكم اللّه واقعاً وعدم صدور المخالف} للعامّة {المعارض له} أي: للموافق لهم {أصلاً} أو

ص: 344


1- في المصدر: «ما يوافقهم».
2- في المصدر: «صدوره».
3- بدائع الأفكار: 457.

ولا يكاد يحتاجُ في التعبّد إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك بداهةً.

وإنّما دار احتمال الموافق بين الاثنين، إذا كان المخالف قطعيّاً صدوراً وجهةً ودلالةً؛ ضرورة دوران معارضته حينئذٍ بين عدم صدوره وصدوره تقيّة، وفي غير هذه الصّورة كان دوران أمره بين الثلاثة لا محالة؛ لاحتمال صدوره لبيان الحكم الواقعي حينئذٍ أيضاً.

ومنه قد انقدح إمكان التعبّد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي أيضاً،

___________________________________________

صدوره لغرض آخر غير ما يظهر من ظاهره {ولا يكاد يحتاج في التعبّد} بالخبر {إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك} أي: حكم اللّه الواقعي {بداهة} فكلّ من الخبرين محتمل الصّدور ويكون لهما في أنفسهما صلاحيّة شمول أدلّة الحجيّة والتعبّد له، ولذا يصحّ الترجيح بينهما من جهة الصّدور، كما صنعه الشّيح(رحمة الله).

{وإنّما دار} أي: يدور {احتمال} الخبر {الموافق} للعامّة {بين الاثنين} عدم الصّدور رأساً أو الصّدور تقيّة {إذا كان} الخبر {المخالف} للعامّة {قطعيّاً صدوراً وجهة ودلالة} بأن علمنا أنّه صدر عن الإمام لبيان الحكم الواقعي وكانت دلالته واضحة {ضرورة دوران معارضته حينئذٍ} الّذي هو الخبر الموافق للعامّة {بين عدم صدوره وصدوره تقيّة، وفي غير هذه الصّورة} بأن لم يكن جميع أطرافه قطعيّاً {كان دوران أمره} أي: الموافق للعامّة {بين الثلاثة} عدم الصّدور، والصّدور تقيّة، والصّدور لبيان الحكم الواقعي.

لكن هذا إذا كان جميع أطرافه غير قطعيّ، أمّا لو كان صدوره قطعيّاً كان دوران أمره بين اثنين وهكذا {لا محالة لاحتمال صدوره لبيان الحكم الواقعي حينئذٍ أيضاً}.

{ومنه قد انقدح إمكان التعبّد بصدور} الخبر {الموافق} للعامّة {القطعي لبيان الحكم الواقعي أيضاً} بأن يكون الخبر المخالف للعامّة لبيان بعض المصالح

ص: 345

وإنّما لم يمكن التعبّد بصدوره لذلكإذا كان معارضه المخالف قطعيّاً بحسب السّند والدلالة، لتعيين حمله على التقيّة حينئذٍ لا محالة.

ولعمري إنّ ما ذكرنا أوضح من أن يخفى على مثله، إلّا أنّ الخطأ والنّسيان كالطبيعة الثّانية للإنسان، عصمنا اللّه من زلل الأقدام والأقلام في كلّ ورطة ومقام.

ثمّ إنّ هذا كلّه إنّما هو بملاحظة أنّ هذا المرجّح مرجّح من حيث الجهة، وأمّا بما هو موجب لأقوائيّة دلالة ذيه من معارضه

___________________________________________

{وإنّما لم يمكن التعبّد بصدوره} أي: صدور الموافق للعامّة {لذلك} أي: لبيان الحكم الواقعي {إذا كان معارضه المخالف} للعامّة {قطعيّاً بحسب السّند والدلالة لتعيين حمله على التقيّة حينئذٍ لا محالة} ولا يخفى أنّ للكلام تفصيلاً أضربنا عنه؛ لأنّه خارج عن وضع الشّرح.

{ولعمري إنّ ما ذكرنا أوضح من أن يخفى على مثله} أي: المحقّق الرّشتي(رحمة الله) {إلّا أنّ الخطأ والنّسيان كالطبيعة الثّانية للإنسان، عصمنا اللّه من زلل الأقدام والأقلام في كلّ ورطة ومقام} وهو العاصم.

{ثمّ إنّ هذا كلّه} الّذي أرجعنا فيه المرجّح الجهتي إلى السّند {إنّما هو بملاحظة أنّ هذا المرجّح} الجهتي - الّذي هو مخالفة العامّة - {مرجّح من حيث الجهة} بلا ارتباط له بالدلالة أصلاً، ولذا يكون هذا المرجّح في عرض سائر المرجّحات.

{وأمّا} لو قلنا بأنّ كون الخبر موافقاً للعامّة يسبّب ضعف دلالته لاحتمال التَّوْرِيَة فيه ممّا يستلزم قوّة دلالة الخبر المعارض له، فيكون هذا المرجّح فيعداد الأظهريّة والمنصوصيّة ولا تصل النّوبة إلى المرجّحات، فإنّ الجمع الدلالي مانع عن التعارض حتّى يأتي دور الترجيح، فكون الخبر خلاف العامّة {بما هو موجب لأقوائيّة دلالة ذيه} أي: الخبر المخالف {من معارضه} الّذي هو

ص: 346

- لاحتمال التورية في المعارض المحتمل فيه التقيّة، دونه - فهو مقدّم على جميع مرجّحات الصّدور، بناءً على ما هو المشهور من تقدّم التوفيق - بحمل الظاهر على الأظهر - على الترجيح بها.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ باب احتمال التورية وإن كان مفتوحاً في ما احتمل فيه التقيّة، إلّا أنّه حيث كان بالتأمّل والنّظر، لم يوجب أن يكون معارُضه أظهر، بحيث يكون قرينة على التصرّف عرفاً في الآخر، فتدبّر.

___________________________________________

الخبر الموافق {لاحتمال التورية في المعارض المحتمل فيه} أي: المعارض {التقيّة دونه} أي: دون ذي المرجّح {فهو مقدّم على جميع مرجّحات الصّدور بناءً على ما هو المشهور} المنصور {من تقدّم التوفيق بحمل الظاهر على الأظهر على الترجيح بها} أي: الترجيح بالمرجّحات لدى التعارض.

{اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ} احتمال خلاف الظاهر في الخبر الموافق للعامّة لا يوجب جعل معارضه أظهر حتّى يسبّب دخول الخبرين في ما له جمع دلالي، فإنّ {باب احتمال التورية وإن كان مفتوحاً في ما احتمل فيه التقيّة} ممّايقلّل اعتماد الإنسان على ظهوره {إلّا أنّه} أي: هذا الاحتمال {حيث كان بالتأمّل والنّظر لم يوجب أن يكون معارضه} المخالف للعامّة {أظهر بحيث يكون} المخالف {قرينة على التصرّف عرفاً في الآخر} الّذي هو الموافق، فلو قال: (صلّ أوّل غروب الشّمس) - ممّا يوافق العامّة - وقال: (صلّ بعد الغروب بربع ساعة ولا تصلّ إلّا أوّل المغرب) لا يكون الثّاني قرينة على أن يراد ب- الأوّل الإتيان بصلاة النّافلة مثلاً، فإنّه بعيد عن متفاهم العرف {فتدبّر} لعلّه إشارة إلى ردّ «اللّهمّ إلّا أن يقال»، ووجهه أنّ الظهور متّبع عند العقلاء إذا لم يكن في المقام شيء صارف له - ولو احتمال التورية والتقيّة إذا كان احتمالاً عقلائيّاً - فكون المخالف أظهر في مفاده لا بأس بالقول به، واللّه العالم.

ص: 347

فصل: موافقة الخبر لما يوجب الظنّ بمضمونه - ولو نوعاً - من المرجّحات في الجملة - بناءً على لزوم الترجيح - لو قيل بالتعدّي عن المرجّحات المنصوصة، أو قيل بدخوله في القاعدة المجمع عليها - كما ادّعي - وهي: لزوم العمل بأقوى الدليلين.

وقد عرفت: أنّ التعدّي محلّ نظر، بل منع؛ وأنّ الظاهر من القاعدة هو ما كان الأقوائيّة من حيث الدليليّة والكشفيّة.

___________________________________________

[فصل المرجحات الخارجية]

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات، المرجحات الخارجية

{فصل} في أنّ ما لم يذكر كونه مرجّحاً - في الأخبار - هل يكون مرجّحاً أم لا؟ نقول: {موافقة الخبر لما يوجب الظنّ بمضمونه - ولو نوعاً -} أي: ظنّاً نوعيّاً وإن لم يورث الظنّ في هذا المقام {من المرجّحات في الجملة} أي: {بناءً على} أحد أمرين:الأوّل: تماميّة مقدّمتين:

الأُولى: {لزوم الترجيح} بخلاف ما لو قلنا بالتخيير مطلقاً، فإنّه لم يكن ترجيح.

الثّانية: {لو قيل بالتعدّي عن المرجّحات المنصوصة} بخلاف ما لو لم نقل بذلك، فإنّه لا يتعدّى إلى المرجّحات المضمونيّة كالشهرة الفتوائيّة - مثلاً - .

الثّاني: {أو قيل بدخوله} أي: ما له الترجيح - غير المنصوص عليه - {في القاعدة المجمع عليها - كما ادّعي - وهي: لزوم العمل بأقوى الدليلين} فإنّ الخبر الّذي وافقته الشّهرة يكون أقوى من المخالف لها فيدخل في هذه الكبرى الكليّة.

{و} لكن كلا الأمرين لا يستقيمان:

أمّا الأمر الأوّل: فلما {قد عرفت} من {أنّ التعدّي محلّ نظر، بل منع} بالإضافة إلى ما رجّحنا من عدم الترجيح مطلقاً وإنّما الحكم لدى التعارض التخيير.

{و} أمّا الأمر الثّاني: فل- {أنّ الظاهر من القاعدة} أي: قاعدة أقوى الدليلين {هو ما كان الأقوائيّة من حيث الدليليّة والكشفيّة} بأن يكون كشف أحدهما عن

ص: 348

وكونُ مضمون أحدهما مظنوناً - لأجل مساعدة أمارة ظنيّة عليه - لا يوجب قوّة فيه من هذه الحيثيّة، بل هو على ما هو عليه، من القوّة لولا مساعدتها، كما لا يخفى.

ومطابقة أحد الخبرين لها لا يكون لازمُهالظنّ بوجود خلل في الآخر: إمّا من حيث الصّدور، أو من حيث جهته، كيف؟ وقد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجيّة المخالف، لولا معارضة الموافق.

___________________________________________

الواقع أقوى أو سند أحدهما أقوى.

{و} من المعلوم أنّ {كون مضمون أحدهما مظنوناً - لأجل مساعدة أمارة ظنيّة عليه -} أي: على المظنون لكون الشّهرة موافقة له {لا يوجب قوّة فيه من هذه الحيثيّة} أي: حيثيّة التصادق مع أمارة خارجيّة {بل هو على ما هو عليه من القوّة لولا مساعدتها} فكيف ما كان قبل الشّهرة يكون كذلك بعدها {كما لا يخفى}.

{و} إن قلت: وجه الترجيح بالمرجّح المضموني أنّه إذا كان أحد الخبرين موافقاً للشهرة صار ذلك سبباً للظنّ بأنّ الخبر المخالف مشتمل على خلل مسقط لحجيّته، فيكون ضعف المعارض سبباً للأخذ بهذا، لا أنّ المرجّح المضموني يوجد فيه قوّة توجب الأخذ به.

قلت: {مطابقة أحد الخبرين لها} أي: للأمارة الظنيّة كالشهرة {لا يكون لازمه الظنّ بوجود خلل في} الخبر {الآخر} المعارض له {إمّا من حيث الصّدور أو من حيث جهته} بحيث يظنّ أنّ صدور المعارض أو جهته عليل، و{كيف} تكون موافقة الخبر للأمارة الظنيّة موجبة للظنّ بخلل في الآخر {و} الحال أنّه {قد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجيّة المخالف} بأن كان سنده صحيحاً ودلالته صريحة وجهته كاملة، إذ كانت مخالفة للعامّة {لولا معارضة الموافق} أي: إنّشرائط الحجيّة غير جهة المعارضة كاملة في الخبر المخالف للأمارة الظنيّة.

ص: 349

والصّدق واقعاً لا يكاد يعتبر في الحجيّة، كما لا يكاد يضرّ بها الكذبُ كذلك، فافهم.

هذا حال الأمارة غير المعتبرة، لعدم الدليل على اعتبارها.

أمّا ما ليس بمعتبر بالخصوص - لأجل الدليل على عدم اعتباره بالخصوص، كالقياس - : فهو وإن كان كغير المعتبر لعدم الدليل، بحسب ما يقتضي الترجيح به من الأخبار - بناءً على التعدّي - والقاعدة - بناءً على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين - ،

___________________________________________

{و} إن قلت: هذا الخبر المخالف للشهرة يسقط عن الحجيّة لوجه آخر، وهو أنّه يحتمل كذبه، والخبر لا بدّ وأن يكون مقطوع الصّدق حتّى يؤخذ به.

قلت: هذا غير تامّ، بل شرط الحجّيّة احتمال الصّدق وهو موجود في الخبر المخالف للشهرة، ولو كان القطع بالصدق شرطاً لم يمكن الأخذ بأكثر الأخبار، فإنّ {الصّدق واقعاً لا يكاد يعتبر في الحجيّة} إذ لم يدلّ عليه دليل {كما لا يكاد يضرّ بها} أي: بالحجيّة {الكذب كذلك} أي: واقعاً، بل اللّازم أن لا يقطع بالكذب {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ المناط في حجيّة الخبر بناء العقلاء، وليس بنائهم على الأخذ بما يعارض المشهور.

{هذا} كلّه {حال} توافق أحد الخبرين مع {الأمارة غير المعتبرة لعدم الدليل على اعتبارها} كما عرفت من الشّهرة، و{أمّا ما ليس بمعتبر بالخصوص}كما لو تطابق أحد الخبرين مع القياس أو الأولويّة أو الاستحسان {لأجل الدليل على عدم اعتباره بالخصوص كالقياس فهو وإن كان ك-} المرجّح {غير المعتبر} في عدم الأخذ به {لعدم الدليل بحسب ما يقتضي الترجيح به} أي: بغير المعتبر {من الأخبار} فإنّ القياس والشّهرة مشتركان في عدم دليل على الترجيح بها {بناءً على التعدّي} عن المرجّحان المنصوصة إلى غيرها {والقاعدة بناءً على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين}.

ص: 350

إلّا أنّ الأخبار النّاهية عن القياس؛ - و«أنّ السّنّة إذا قيست مُحق الدين»(1)

- مانعةٌ عن الترجيح به؛ ضرورة أنّ استعماله في ترجيح أحد الخبرين، استعمال له في المسألة الشّرعيّة الأصوليّة، وخطرهُ ليس بأقلّ من استعماله في المسألة الفرعيّة.

وتوهّم: «أنّ حال القياس ها هنا ليس في تحقّق الأقوائيّة به، إلّا كحاله في ما ينقّح به موضوع آخر ذو حكم، من دون اعتماد عليه في مسألة أُصوليّة ولا فرعيّة».

___________________________________________

والظاهر السّقط أو التحريف في العبارة، والأجود جعل كلمة «باستثناء» مكان «بحسب» أي: لا دليل بالخصوص باستثناء الأخبار المستفاد منها التعدّي عن القاعدة {إلّا أنّ الأخبار النّاهية عن القياس و«أنّ السّنّة إذا قيست محق الدين»} من الأخبار المتكثّرة {مانعة عن الترجيح به، ضرورة أنّاستعماله} أي: القياس {في ترجيح أحد الخبرين} على الآخر {استعمال له في المسألة الشّرعيّة الأصوليّة، وخطره} أي: خطر استعمال القياس في المسائل الأصوليّة {ليس بأقلّ من استعماله في المسألة الفرعيّة} بل الأوّل أكثر خطراً، إذ تترتّب على المسألة الأصوليّة مسائل فرعيّة كثيرة.

{و} إن قلت: استعمال القياس في مثل هذه المسائل الأصوليّة لا بأس به، فهو مثل استعماله في الموضوعات الخارجيّة ليس إدخالاً له في الدين، فكما إذا رأينا ما يشبه الماء نقيسه على الماء في الأحكام إذا كان الشّبه يوجب الصّدق العرفي، كذلك إذا نقّحنا المسألة الأصوليّة بالقياس وقلنا: إِنّ الأمر بالشيء ينهى عن الضّدّ بالقياس، أو أنّ القياس يوجب أقوائيّة الخبر الموافق له، وهكذا.

قلت: {توهُّمُ «أنّ حال القياس ها هنا} أي: في باب الترجيح {ليس في تحقّق الأقوائيّة به إلّا كحاله في ما ينقّح به موضوع آخر ذو حكم} والأجود تأخير لفظة «ليس» فيقول: «ليس إلّا كحاله» {من دون اعتماد عليه في مسألة أُصوليّة ولا فرعيّة}

ص: 351


1- الكافي 1: 57.

قياس مع الفارق؛ لوضوح الفرق بين المقام والقياس في الموضوعات الخارجيّة الصّرفة؛ فإنّ القياس المعمول فيها ليس في الدين، فيكون إفساده أكثر من إصلاحه.

وهذا بخلاف المعمول في المقام، فإنّه نحو إعمال له في الدين؛ ضرورة أنّه لولاه لَما تعيّن الخبر الموافق له للحجيّة بعد سقوطه عن الحجيّة - بمقتضى أدلّة الاعتبار - والتخيير بينه وبين معارضه - بمقتضى أدلّة العلاج - ، فتأمّل جيّداً.وأمّا إذا اعتضد بما كان دليلاً مستقلّاً في نفسه - كالكتاب والسّنّة القطعيّة - : ف-

___________________________________________

فلا مانع منه» {قياس مع الفارق} خبر قوله: «وتوهّم» {لوضوح الفرق بين المقام} الّذي هو ترجيح أحد الخبرين {و} بين {القياس في الموضوعات الخارجيّة الصّرفة، فإنّ القياس المعمول فيها} أي: في الموضوعات {ليس} قياساً {في الدين، فيكون} أي: حتّى يكون {إفساده أكثر من إصلاحه} كما في الخبر.

{وهذا بخلاف} القياس {المعمول في المقام} في باب الترجيح {فإنّه نحو إعمال له في الدين، ضرورة أنّه لولاه} أي: لولا هذا القياس الموافق لأحد الخبرين {لما تعيّن الخبر الموافق له للحجيّة بعد سقوطه عن الحجيّة بمقتضى أدلّة الاعتبار} لما تقدّم من أنّ دليل اعتبار الخبر لا يشمل المتعارضين، فكلا الخبرين ليسا بحجّة والقياس يريد أن يجعل أحدهما حجّة {و} قد كان اللّازم {التخيير بينه} أي: بين الخبر الموافق للقياس {وبين معارضه بمقتضى أدلّة العلاج} القائلة «إذن فتخيّر» {فتأمّل جيّداً} حتّى تدرك ما ذكرناه من أنّ الترجيح بالقياس إدخال له في الدين.

{وأمّا إذا اعتضد} أحد الخبرين المتعارضين {بما كان دليلاً مستقلّاً في نفسه كالكتاب والسّنّة القطعيّة} بأن كان أحد المتعارضين موافقاً للكتاب أو للسنة القطعيّة {ف-} المخالف على قسمين:

الأوّل: المخالف بالمباينة.

ص: 352

المعارض المخالف لأحدهما إن كانت مخالفته بالمباينة الكليّة، فهذه الصّورة خارجة عن مورد الترجيح؛ لعدم حجيّة الخبر المخالف كذلك من أصله، ولو مع عدم المعارض، فإنّه المتيقّن من الأخبار الدالّة على أنّه: «زخرف» أو «باطل»، أو أنّه: «لم نقله» أو غير ذلك.

وإن كانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق، فقضيّة القاعدة فيها وإن كانت ملاحظةَ المرجّحات بينه

___________________________________________

الثّاني: المخالف بالعموم والخصوص.

أمّا الأوّل: فكما إذا قال الكتاب {لِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ}(1)، وقال الخبر: (يجب الحجّ على كلّ مستطيع)، وقال الخبر الآخر المعارض له: (لا يجب الحجّ على المستطيع)، فإنّه لا شكّ في وجوب إسقاطه حتّى ولو لم يكن له معارض في باب الأخبار.

وأمّا الثّاني: كما لو قال الخبر المعارض - في المثال السّابق - : (لا يجب الحجّ على المرأة المستطيعة)، وقال الخبر الموافق: (يجب الحجّ على المرأة المستطيعة)، فإنّه يخير بينهما وإذا أخذ بالمخالف خصّص به الكتاب.

وبذلك تبيّن أنّ {المعارض المخالف لأحدهما} أي: الكتاب والسّنّة القطعيّة {إن كانت مخالفته بالمباينة الكليّة} كالقسم الأوّل {فهذه الصّورة خارجة عن مورد الترجيح لعدم حجيّة الخبر المخالف} لهما {كذلك} بنحو المباينة {من أصله ولو مع عدم المعارض} له {فإنّه المتيقّن من الأخبارالدالّة على أنّه} أي: المخالف للكتاب {«زخرف» أو «باطل» أو أنّه}(علیه السلام) {«لم نقله» أو غير ذلك} ك-«ضربه بالحائط».

{وإن كانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق} كالقسم الثّاني {فقضيّة القاعدة فيها} أي: في المخالفة بهذا النّوع {وإن كانت ملاحظة المرجّحات بينه} أي: بين

ص: 353


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

وبين الموافق، وتخصيصَ الكتاب به تعييناً أو تخييراً، لو لم يكن الترجيح في الموافق - بناءً على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد - ، إلّا أنّ الأخبار الدالّة على أخذ الموافق من المتعارضين، غير قاصرة عن العموم لهذه الصّورة، لو قيل بأنّها في مقام ترجيح أحدهما، لا تعيين الحجّة عن اللّاحجّة، كما نزّلناها عليه.

ويؤيّده أخبار العرض على الكتاب، الدالّة على عدم حجيّة المخالف من أصله،

___________________________________________

هذا الخبر المخالف {وبين الموافق} للكتاب {وتخصيص الكتاب به} أي: بالمخالف {تعييناً} لو كان المرجّح للمخالف {أو تخييراً} لو لم يكن في أحدهما مرجّح {لو لم يكن الترجيح في الموافق} وإلّا أخذ به {بناءً على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد} متعلّق بقوله: «وتخصيص».

{إلّا} أنّ الظاهر الأخذ بالخبر الموافق للكتاب ولو كان مخالفه أخصّ منالكتاب - كما في المثال الثّاني - ف- {إنّ الأخبار الدالّة على أخذ الموافق} للكتاب {من المتعارضين} أعمّ من كون المخالف مبايناً أو أخصّ مطلقاً؛ لأنّ هذه الأخبار {غير قاصرة عن العموم لهذه الصّورة} أي: صورة أخصيّة المعارض {لو قيل بأنّها} أي: الأخبار الدالّة على أخذ الموافق {في مقام ترجيح أحدهما} على الآخر {لا} في مقام {تعيين الحجّة عن اللّاحجّة كما نزّلناها} أي: نزّلنا أخبار العلاج المرجّحة لموافقة الكتاب {عليه} أي: على كونها في مقام تعيين الحجّة عن اللّاحجّة.

وعلى هذا فالخبر المخالف ولو بنحو الأخصيّة ليس حجّة أصلاً لا أنّه حجّة في نفسه ولكنّه ساقط بالمعارضة.

{ويؤيّده} أي: يؤيّد كون أخبار العلاج المشتملة على موافقة الكتاب في مقام تعيين الحجّة عن اللّاحجّة - لا في مقام الترجيح - {أخبار العرض} لمطلق الأخبار {على الكتاب الدالّة} تلك الأخبار {على عدم حجيّة المخالف من أصله} ولو مع عدم معارض خبري له، وإنّما جعل هذه الأخبار مؤيّدة لتنزيلنا المذكور

ص: 354

فإنّهما تفرغان عن لسان واحد، فلا وجه لحمل المخالفة في أحدهما على خلاف المخالفة في الأُخرى، كما لا يخفى.

اللّهمّ إلّا أن يقال: نعم، إلّا أنّ دعوى اختصاص هذه الطّائفة بما إذا كانت المخالفة بالمباينة، - بقرينة القطع بصدور المخالف غير المباين عنهم^ كثيراً، وإباء مثل: «ما خالف قول ربّنا لم أقله»، أو: «زخرف»، أو: «باطل»، عن التخصيص - غير بعيدة.

___________________________________________

{فإنّهما} أي: أخبار العرض وأخبار العلاج بموافقة الكتاب {تفرغان عن لسان واحد} ممّا يدلّ على أنّهما في مقام بيان الحجّة واللّاحجّة.

{فلا وجه لحمل المخالفة في أحدهما} كأخبار العلاج {على خلاف المخالفة في الأُخرى} كأخبار العرض، بأن يحمل الأُولى على الترجيح والثّانية على تعيين الحجّة {كما لا يخفى} هذا كلّه لتقريب أنّ المخالف الأخصّ أيضاً يطرح إذا كان له معارض موافق للكتاب.

{اللّهمّ إلّا أن يقال:} كما أنّه لا يطرح الأخصّ مطلقاً إذا كان بدون معارض كذلك لا يطرح إذا كان له معارض، فإنّه {نعم} صحيح أنّ كلتا الطّائفتين من أخبار العرض وأخبار العلاج تفرغان عن لسان واحد {إلّا أنّ دعوى اختصاص هذه الطّائفة} أي: أخبار العلاج المشتملة على مخالفة الكتاب {بما إذا كانت المخالفة بالمباينة - بقرينة القطع بصدور المخالف غير المباين} أي: الأخصّ مطلقاً {عنهم^ كثيراً و} بقرينة {إباء مثل: «ما خالف قول ربّنا لم أقله» أو «زخرف» أو «باطل» عن التخصيص -} بأن يقال: إنّ «ما خالف» وإن كان أعمّ من التباين ومن الأخصّ المطلق، لكنّه خصّص وأُريد به خصوص التباين، فالمخالفة في أخبار العلاج أعمّ وفي أخبار العرض مخصوص بالمباينة {غير بعيدة} خبر قوله: «إلّا أنّ دعوى»، فيكون المراد بالمخالف في أخبار العلاج هو التباين فقط.

ص: 355

وإن كانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه، فالظاهر أنّها كالمخالفة في الصّورة الأُولى، كما لا يخفى.وأمّا الترجيح بمثل الاستصحاب - كما وقع في كلام غير واحد من الأصحاب(1)

- فالظاهر أنّه لأجل اعتباره من باب الظنّ والطّريقيّة عندهم. وأمّا بناءً على اعتباره تعبّداً من باب الأخبار،

___________________________________________

{وإن كانت المخالفة} الموجودة في أحد الخبرين للكتاب {بالعموم والخصوص من وجه} كما لو قال الكتاب {حَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ}(2) وورد خبر بتحريم الرّبا، وورد خبر معارض مخالف قائلاً: (أحلّ كلّ قرض ولو بالربا) حيث إنّه يخالف الكتاب بالعموم من وجه فيجتمعان في القرض الرّبوي ويفترق الأوّل في البيع الرّبوي والثّاني في القرض غير الرّبوي {فالظاهر أنّها كالمخالفة في الصّورة الأُولى} أي: بالتباين، فيقدّم الموافق للكتاب على المخالف له ويكون الكتاب مرجّحاً للموافق فيحرم الرّبا القرضي {كما لا يخفى} وفيه نظر، إذ ليس هذا بأشدّ من الأخصّ مطلقاً، فتأمّل.

{وأمّا الترجيح} لأحد الخبرين {بمثل الاستصحاب} كما لو قال أحد الخبرين بطهارة ماء الزبيب المغلي والآخر بنجاسته، وكان الاستصحاب موافقاً للثاني {كما وقع في كلام غير واحد من الأصحاب} حيث يذكرون الاستصحاب مرجحاً لأحد الخبرين المعارضين {فالظاهر أنّه} أي: أنّ الترجيح به {لأجل اعتباره} أي: الاستصحاب {من باب الظنّ والطّريقيّة عندهم} فهو أمارة كالخبر الواحد، وحينئذٍ يكون في عرض الخبر - لا في طوله كما نحن نذهب إليه - .{وأمّا بناءً على اعتباره} أي: الاستصحاب {تعبّداً من باب الأخبار} الدالّة على

ص: 356


1- الفصول الغروية: 445؛ بحر الفوائد: 66؛ فرائد الأصول 4: 151.
2- سورة البقرة، الآية: 275.

وظيفة للشاكّ - كما هو المختار، كسائر الأصول العمليّة الّتي تكون كذلك عقلاً أو نقلاً - ، فلا وجه للترجيح به أصلاً؛ لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته، ولو بملاحظة دليل اعتباره، كما لا يخفى.

هذا آخر ما أردنا إيراده، والحمد للّه أوّلاً وآخراً وباطناً وظاهراً.

___________________________________________

أنّه «لا ينقض اليقين بالشكّ» {وظيفة للشاكّ - كما هو المختار -} عندنا {كسائر الأصول العمليّة} كالبراءة والاحتياط والتخيير {الّتي تكون كذلك} وظيفة للشاكّ {عقلاً أو نقلاً} أي: قام عليها دليل عقليّ كقبح العقاب بلا بيان أو نقليّ نحو «رفع ما لا يعلمون»(1)

{فلا وجه للترجيح به} أي: بالاستصحاب {أصلاً} لأنّه ليس في عرض الخبر {لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته} أي: موافقة الاستصحاب {ولو بملاحظة دليل اعتباره} وهو «لا تنقض» {كما لا يخفى} فهو كالحجر في جنب الإنسان.

{هذا آخر ما أردنا إيراده} في باب التراجيح {والحمد للّه أوّلاً وآخراً وباطناً وظاهراً} وصلّى اللّه على محمّد وآله الطّاهرين.

ص: 357


1- الخصال 2: 417.

ص: 358

الخاتمة : في الاجتهاد والتقليد

اشارة

ص: 359

ص: 360

أمّا الخاتمة فهي في ما يتعلّق بالاجتهاد والتقليد

فصل: الاجتهادُ لغةً(1):

تحمّل المشقّة.

واصطلاحاً - كما عن الحاجبي(2)

والعلّامة(3)

- : «استفراغُ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشّرعي».

وعن غيرهما: «ملكةٌ يقتدر بها على استنباط الحكم الشّرعي الفرعي من الأصل،

___________________________________________

[خاتمة]

{أمّا الخاتمة} للكتاب {فهي في ما يتعلّق بالاجتهاد والتقليد} وفيها فصول:

[فصل تعريف الاجتهاد]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، تعريف الاجتهاد

{فصل الاجتهاد لغة تحمّل المشقّة} وفي كلام الإمام أميرالمؤمنين(علیه

السلام): «ولا يؤدّي حقّه المجتهدون»(4)،

إذ هو من (الجهد) الّذي هو المشقّة {واصطلاحاً} أُصوليّاً {كما عن الحاجبي والعلّامة} الحلّي(رحمة الله) {«استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشّرعي»} والمراد بالاستفراغ هو المتعارف منه لا المستغرق، كما لا يخفى {وعن غيرهما} تعريفه بأنّه {«ملكة يقتدر بها على استنباط الحكمالشّرعي الفرعي من الأصل} المقرّر، وهو الأصول الأربعة: الكتاب، والسّنّة، والإجماع والعقل.

والفرق بين التعريفين: أنّ الأوّل ناظر إلى مقام الفعليّة والثّاني ناظر إلى مقام

ص: 361


1- كتاب العين 3: 386؛ الصحاح 2: 460؛ معجم مقاييس اللغة 1: 486.
2- شرح مختصر الأصول: 460.
3- مبادئ الوصول: 240.
4- نهج البلاغة، الخطبة الأولى.

فعلاً أو قوّة قريبة».

ولا يخفى: أنّ اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحاً، ليس من جهة الاختلاف في حقيقته وماهيّته؛ لوضوح أنّهم ليسوا في مقام بيان حدّه أو رسمه، بل إنّما كانوا في مقام شرح اسمه، والإشارة إليه بلفظ آخر، وإن لم يكن مساوياً له بحسب مفهومه، كاللغوي في بيان معاني الألفاظ، بتبديل لفظ بلفظ آخر، ولو كان أخصّ منه مفهوماً أو أعمّ.

ومن هنا انقدح: أنّه لا وقع للإيراد على تعريفاته بعدم الانعكاس أو الاطّراد،

___________________________________________

القوّة {فعلاً أو قوّة قريبة»} قيد للاستنباط، وأمّا القوّة البعيدة - أي: الصّلاحيّة الكامنة في كلّ إنسان - فليس ذلك اجتهاداً.

{ولا يخفى أنّ اختلاف عباراتهم في بيان معناه} أي: معنى الاجتهاد {اصطلاحاً ليس من جهة الاختلاف في حقيقته وماهيّته} بأن يكون كلّ واحد يرى الاجتهاد شيئاً غير ما يراه الآخر {لوضوح أنّهم ليسوا في مقام بيان حدّه أو رسمه} الّذي هو ذكر الفصل أو الخاصّة حتّى يكشف اختلاف ألفاظهم عن اختلاف مقصودهم {بل إنّما كانوا في مقام شرح اسمه} لفظاً {والإشارة إليه} أي: إلى ذلك المعنى الواحد الّذي هو مراد الجميع {بلفظ آخر وإن لم يكن مساوياً بحسب مفهومه} فكانمفهوم الاجتهاد أعمّ وأخصّ من مفهوم تلك التعريفات {كاللغوي في بيان معاني الألفاظ بتبديل لفظ بلفظ آخر} كتعريف (سعدانة) بأنّه نبت، وتعريف (الإنسان) بأنّه حيوان بادي البشرة {ولو كان} المفسِّر {أخصّ منه} من المفسَّر {مفهوماً أو أعمّ} أو كان بينهما عموم من وجه.

{ومن هنا} الّذي ذكرنا أنّ المقصود في تعريفهم للاجتهاد التوضيح في الجملة، وأنّهم في مقام شرح الاسم، لا الحدّ والرّسم {انقدح أنّه لا وقع للإيراد على تعريفاته} أي: تعريفات الاجتهاد {بعدم الانعكاس أو الاطّراد} أي: ليس جامعاً أو مانعاً، وهذا مأخوذ من قولهم: «كلّما صدق الحدّ صدق المحدود

ص: 362

كما هو الحال في تعريف جُلّ الأشياء - لولا الكلّ - ؛ ضرورةَ عدم الإحاطة بها بكُنهها، أو بخواصّها - الموجبةِ لامتيازها عمّا عداها - لغير علّام الغيوب، فافهم.

وكيف كان، فالأولى: تبديل «الظنّ بالحكم» ب- «الحجّة عليه»؛ فإنّ المناط فيه هو تحصيلها قوّة أو فعلاً، لا الظنّ، عند العامّة القائلين بحجيّته مطلقاً، أو بعض الخاصّة

___________________________________________

وكلّما لم يصدق الحدّ لم يصدق المحدود»(1) ولذا سمّي انعكاساً واطّراداً؛ لأنّ إحدى الكلّيّتين عكس الأُخرى، فراجع الشّمسيّة في المنطق(2)

وغيرها {كما هو الحال في تعريف جلّ الأشياء} ممّا يراد شرح اسمه {لولا الكلّ} وإنّما يقتنعون بشرح الاسم ولا يأتون بالفصل أو الخاصّةليكون حدّاً أو رسماً محيطاً بالأفراد مانعاً عن الأغيار؛ لأنّهم لا يعرفون الفصل والخاصّة.

{ضرورة عدم الإحاطة بها} أي: بالأشياء {بكنهها} جنساً وفصلاً {أو بخواصّها الموجبة لامتيازها عمّا عداها لغير علّام الغيوب} كما أشار إليه في الكبرى وغيره.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ مراد العلماء بيان الحدّ والرّسم لا شرح الرّسم، ولذا نرى بعضهم يستشكل على بعض بعدم الاطّراد والانعكاس ويفرّون من التعريف السّابق؛ لأنّه مخدوش إلى تعريف جديد، مضافاً إلى أنّ عدم الإحاطة بالحقائق الخارجيّة لا ينافي الإحاطة بالمفاهيم المخترعة.

{وكيف كان، فالأولى تبديل} لفظة {«الظنّ بالحكم»} كما وقع في تعريف العلّامة {ب-«الحجّة عليه»} فيقال: «الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم الشّرعي» {فإنّ المناط فيه} أي: في باب الاجتهاد {هو تحصيلها} أي: تحصيل الحجّة {قوّة أو فعلاً، لا الظنّ حتّى عند العامّة القائلين بحجيّته} أي: حجيّة الظنّ {مطلقاً} في حال الانسداد وغيره {أو} عند {بعض الخاصّة}

ص: 363


1- الحاشية على تهذيب المنطق: 256.
2- شروح الشمسيّة: 43-44 و 135.

القائل بها عند انسداد باب العلم بالأحكام(1)، فإنّه مطلقاً عندهم، أو عند الانسداد عنده من أفراد الحجّة؛ ولذا لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره من أفرادها - من العلم بالحكم أو غيره، ممّا اعتبر من الطّرق التعبّديّة غيرالمفيدة للظنّ ولو نوعاً - اجتهاداً أيضاً.

ومنه انقدح: أنّه لا وجه لتأبّي الأخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى، فإنّه لا محيصَ عنه، كما لا يخفى.

غاية الأمر، له

___________________________________________

كصاحب القوانين {القائل بها} أي: بحجيّة الظنّ {عند انسداد باب العلم بالأحكام}.

وإنّما قلنا أنّ المهمّ تحصيل الحجّة لا الظنّ إذ الظنّ لو كان مستنداً، فإنّه من جهة كونه حجّة لا بما هو هو {فإنّه} أي: الظنّ {مطلقاً عندهم} أي: عند العامّة {أو عند الانسداد عنده} أي: عند بعض الخاصّة {من أفراد الحجّة}.

{ولذا} الّذي ذكرنا من كون المهمّ تحصيل الحجّة - لا الظنّ - أنّ كلّ حجّة ولو لم يكن ظنّاً يكون تحصيلها اجتهاداً، فإنّه {لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره} أي: غير الظنّ {من أفرادها} أي: الحجّة {- من العلم بالحكم أو غيره} أي: غير العلم، وقوله: «من» بيان لقوله: «غيره» {ممّا اعتبر من الطّرق التعبّديّة غير المفيدة للظنّ ولو نوعاً -} أي: الّذي لا يفيد حتّى الظنّ النّوعي {اجتهاداً أيضاً} خبر «كون» وقوله: «ممّا» بيان لقوله: «أو غيره».

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من كون الاجتهاد هو تحصيل الحجّة على الحكم {انقدح أنّه لا وجه لتأبّي الأخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى} وإن كان له وجه إذا تأبّى عن الاجتهاد بمعنى تحصيل الظنّ، فإنّ الظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً {فإنّه} أي: الاجتهاد بمعنى تحصيل الحجّة {لا محيص عنه، كما لايخفى} حتّى الأخباري بنفسه إنّما يحصل الحجّة على الحكم {غاية الأمر له} أي: للأخباري

ص: 364


1- قوانين الأصول 1: 282.

أن ينازع في حجيّة بعض ما يقولُ الأصولي باعتباره، ويمنع عنها، وهو غير ضائر بالاتفاق على صحّة الاجتهاد بذاك المعنى؛ ضرورة أنّه ربّما يقع بين الأخباريّين، كما وقع بينهم وبين الأصوليّين.

فصل: ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجزٍ:

فالاجتهادُ المطلق هو: ما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعليّة من أمارة معتبرة، أو أصل معتبر عقلاً أو نقلاً،

___________________________________________

{أن ينازع في حجيّة بعض ما يقول الأصولي باعتباره ويمنع عنها} أي: عن تلك الّتي يقول الأصولي بحجيّتها، كأن يمنع حجيّة الاستصحاب أو البراءة أو الشّهرة أو ما أشبهها {وهو} أي: هذا المنع عن بعض الصّغريات {غير ضائر بالاتفاق} بين الأصولي والأخباري {على صحّة الاجتهاد بذاك المعنى} الّذي ذكرناه من كونه تحصيل الحجّة.

{ضرورة أنّه} أي: الاختلاف في بعض الصّغريات {ربّما يقع بين الأخباريّين كما وقع} الخلاف {بينهم وبين الأصوليّين} والقول بأنّه لم يرد لفظ (المجتهد) و(الاجتهاد) في الأخبار وإنّما اللفظ هو الفقيه وما أشبه غير ضائر بعد جواز استعمال الألفاظ وعدم كونها توقيفيّة بالنسبة إلى غير اللّه - سبحانه - فالاستيحاش من اللفظ لا معنى له.

[فصل في الاجتهاد المطلق والمتجزّي]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، الاجتهاد المطلق والمتجزي{فصل} في الاجتهاد المطلق والمتجزّي {ينقسم الاجتهاد إلى مطلق و} إلى {تجز} فالأوّل مجتهد مطلق والثّاني مجتهد متجزّي.

{فالاجتهاد المطلق: هو ما يقتدر} الشّخص {به} أي: بسببه {على استنباط الأحكام الفعليّة} مقابل الأحكام الواقعيّة الّتي لا يتمكّن من معرفتها إلّا الإمام(علیه السلام) {من أمارة معتبرة} كخبر الواحد {أو أصل معتبر عقلاً أو نقلاً}

ص: 365

في الموارد الّتي لم يظفر فيها بها.

والتجزّي هو: ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام.

ثمّ إنّه لا إشكال في إمكان المطلق وحصوله للأعلام.

وعدم التمكّن من الترجيح في المسألة وتعيين حكمها، والتردّدُ منهم في بعض المسائل، إنّما هو بالنسبة إلى حكمها الواقعي، لأجل عدم دليل مساعد في كلّ مسألة عليه، أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللّازم، لا لقلّة الاطّلاع أو قصور الباع، وأمّا بالنسبة إلى حكمها الفعلي فلا تردّد لهم أصلاً.

___________________________________________

كالبراءة العقليّة أو النّقليّة {في الموارد} متعلّق بقوله: «أصل» {الّتي لم يظفر فيها} أي: في تلك الموارد {بها} أي: بأمارة معتبرة لوضوح أنّ الأصل بعد الأمارة.

{والتجزّي: هو ما يقتدر} الشّخص {به على استنباط بعض الأحكام} لا جميعها.{ثمّ إنّه لا إشكال في إمكان} الاجتهاد {المطلق وحصوله للأعلام}.

{و} إن قلت: كيف يكون الاجتهاد المطلق حاصلاً لهم ونراهم يتردّدون في بعض المسائل ويحتاطون أو يستشكلون ويخرجون عن المسألة بدون تعيين حكمها؟

قلت: {عدم التمكّن من الترجيح في المسألة و} عدم التمكّن من {تعيين حكمها والتردّد منهم في بعض المسائل} ليس لعدم الاجتهاد المطلق، و{إنّما هو بالنّسبة إلى حكمها} أي: حكم المسألة {الواقعي لأجل عدم دليل مساعد في كلّ مسألة عليه} أي: على الحكم الواقعي {أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه} الضّميران للدليل {بالمقدار اللّازم} فيكون عدم فتواهم احتياطاً منهم وتورّعاً {لا لقلّة الاطّلاع أو قصور الباع، وأمّا بالنسبة إلى حكمها} أي: حكم المسألة {الفعلي} الّذي يقتضيه ظواهر الأمارات والأصول {فلا تردّد لهم أصلاً} فيه، كما لا يخفى.

ص: 366

كما لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتصف به.

وأمّا لغيره فكذا لا إشكال فيه، إذا كان المجتهد ممّن كان باب العلم أو العلمي بالأحكام مفتوحاً له، على ما يأتي من الأدلّة على جواز التقليد.

بخلاف ما إذا انسدّ عليه بابُهما، فجواز تقليد الغير عنه في غاية الإشكال؛ فإنّ رجوعه إليه ليس من رجوع الجاهل إلىالعالم،

___________________________________________

{كما لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد} المطلق {لمن اتصف به} لوجوب عمل الإنسان بعلمه شرعاً وعقلاً.

{وأمّا} العمل باجتهاد المجتهد المطلق {لغيره} من سائر المقلّدين فالكلام فيه يقع في مقامين: المجتهد الانفتاحي، والمجتهد الانسدادي {فكذا لا إشكال فيه إذا كان المجتهد ممّن كان باب العلم أو العلمي بالأحكام مفتوحاً له} بأن كان يرى الانفتاح {على ما يأتي من الأدلّة} الدالّة {على جواز التقليد} «فمن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه» {بخلاف ما إذا انسدّ عليه بابهما} أي: باب العلم والعلمي، بأن كان يرى الانسداد {فجواز تقليد الغير عنه} أي: عن هذا المجتهد {في غاية الإشكال} وإن كان الإنصاف أنّه لا إشكال فيه من جهة أنّ المجتهد الانسدادي كالمجتهد الانفتاحي يستنبط الأحكام من الأدلّة مع جميع الخصوصيّات، منتهى الأمر أنّ أحدهما يعتمد على الأدلّة بما هي أدلّة والآخر يعتمد عليها بما أنّها تورث الظنّ، وإنّما الاختلاف بينهما في بعض الصّغريات كالاختلاف بين المجتهدين الانفتاحيّين، وهل يتردّد أحد في شمول أدلّة التقليد لصاحب القوانين كشموله لصاحب الفصول؟!

وكيف كان {ف-} الإشكال في جواز تقليده من جهة {أنّ رجوعه} أي: المقلّد {إليه} أي: إلى الانسدادي {ليس من رجوع الجاهل إلى العالم} الّذي هو ضابط

ص: 367

بل إلى الجاهل، وأدلّة جواز التقليدإنّما دلّت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم، كما لا يخفى.

وقضيّةُ مقدّمات الانسداد ليست إلّا حجيّة الظنّ عليه، لا على غيره.

فلا بدّ في حجيّة اجتهاد مثله على غيره من التماس دليل آخر، غير دليل التقليد، وغير دليل الانسداد الجاري في حقّ المجتهد، من إجماع أو جريان مقدّمات دليل الانسداد في حقّه، بحيث تكون منتجة بحجيّة الظنّ - الثابت حجيّته بمقدّماته - له أيضاً.

___________________________________________

جواز التقليد عقلاً وشرعاً {بل} هو من رجوع الجاهل {إلى الجاهل، وأدلّة جواز التقليد} العقليّة والنّقليّة {إنّما دلّت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم، كما لا يخفى} وفيه أنّه من رجوع الجاهل إلى العالم قطعاً.

{و} إن قلت: مقدّمات الانسداد إنّما دلّت على حجيّة مطلق الظنّ، فهو كما يكون حجّة بالنسبة إلى المجتهد يكون حجّة بالنسبة إلى المقلّد.

قلت: {قضيّة مقدّمات الانسداد ليست إلّا حجيّة الظنّ عليه} أي: على المجتهد الانسدادي {لا على غيره، فلا بدّ في حجيّة اجتهاد مثله على غيره من التماس دليل آخر غير دليل التقليد} لأنّه يقول برجوع الجاهل إلى العالم والانسدادي ليس عالماً {وغير دليل الانسداد الجاري في حقّ المجتهد} لأنّه إنّما يثبت حجيّة اجتهاده لنفسه لا لغيره {من إجماع} بأن يدّعي قيام الإجماع على جواز الرّجوع إلى الانسدادي {أو جريان مقدّمات دليلالانسداد في حقّه} أي: حقّ المقلّد {بحيث تكون} المقدّمات {منتجة بحجيّة الظنّ الثابت حجيّته} للمجتهد {بمقدّماته له} أي: للمقلّد {أيضاً} كأن يقال: إنّ المقلّد يقطع بأنّه مكلّف، وأنّه انسدّ عليه باب العلم والعلمي، وإنّ الاحتياط موجب للعسر والحجر عليه، فلا بدّ وأن يكون قول المجتهد الانسدادي حجّة عليه، وإلّا فلو رجع إلى ظنّ نفسه أو شكّه أو وهمه لكان من ترجيح المرجوح على الرّاجح.

ص: 368

ولا مجال لدعوى الإجماع. ومقدّماتُه كذلك غير جارية في حقّه؛ لعدم انحصار المجتهد به، أو عدم لزوم محذور عقليّ من عمله بالاحتياط، وإن لزم منه العسر، إذا لم يكن له سبيل إلى إثبات عدم وجوبه مع عسره.

نعم، لو جرت المقدّمات كذلك، - بأن انحصر المجتهد، ولزم من الاحتياط المحذور، أو لزم منه العسرُ مع التمكّن

___________________________________________

{و} لكن {لا مجال لدعوى الإجماع} إذ المسألة مستحدثة، بالإضافة إلى أنّ الإجماع لو ادّعي فهو محتمل الاستناد {ومقدّماته} أي: الانسداد {كذلك غير جارية في حقّه} أي: حقّ المقلّد {لعدم انحصار المجتهد به} أي: بالانسدادي، فيرجع إلى مجتهد انفتاحي {أو عدم لزوم محذور عقليّ من عمله بالاحتياط وإن لزم منه العسر}.

إن قلت: الاحتياط العسر غير واجب.

قلت: من الّذي يتمكّن من إثبات عدم وجوبه على المقلّد الجاهل، فإنّ العقل يرى لزوم الاحتياط لامتثال أوامر المولى - كأطراف الشّبهة المقرونة بالعلمالإجمالي - والمقلّد هو بنفسه لا يتمكّن من الاجتهاد حتّى يعرف عدم وجوبه، والمجتهد الانسدادي المفروض عدم حجيّة رأيه بالنسبة إليه.

وإلى هذا أشار المصنّف(رحمة الله) بقوله: {إذا لم يكن له} أي: للعامي {سبيل إلى إثبات عدم وجوبه} أي: الاحتياط {مع عسره}.

نعم، إذا استلزم الاحتياط الاختلال بالنظام استقلّ العقل بعدم وجوبه.

{نعم} استدراك عن عدم جريان مقدّمات الانسداد في حقّ العامي {لو جرت المقدّمات كذلك} الّذي ذكرنا {بأن انحصر المجتهد} في الانسدادي ولم يكن هناك مجتهد انفتاحي {ولزم من الاحتياط المحذور} العقلي لاستلزامه اختلال النّظام {أو لزم منه} أي: من الاحتياط {العسر مع التمكّن} أي: تمكّن العامي

ص: 369

من إبطال وجوبه حينئذٍ - كانت منتِجةً لحجيّته في حقّه أيضاً، لكن دونه خَرطُ القتاد.

هذا على تقدير الحكومة.

وأمّا على تقدير الكشف وصحّته، فجواز الرّجوع إليه في غاية الإشكال؛ لعدم مساعدة أدلّة التقليد على جواز الرّجوع إلى من اختصّ حجيّة ظنّه به. وقضيّة مقدّمات الانسداد

___________________________________________

{من إبطال وجوبه} أي: الاحتياط {حينئذٍ} أي: حين الانسداد {كانت} مقدّمات الانسداد الجارية بالنسبة إلى العامي {منتجة لحجيّته} أي: حجيّة قول المجتهد الانسدادي {في حقّه أيضاً}أي: كما هو حجّة بالنسبة إلى المجتهد نفسه {لكن دونه خرط القتاد}.

و{هذا} كلّه {على تقدير} إنتاج مقدّمات الانسداد لدى المجتهد الانسدادي {الحكومة} أي: كان الظنّ حجّة لديه من باب حكومة العقل {وأمّا على تقدير الكشف وصحّته} أي: صحّة الكشف {ف-} ربّما يقال: إنّه لا بأس برجوع العامي إليه، إذ المفروض أنّ المجتهد يعمل حينئذٍ بما جعله الشّارع حجّة.

وأيّ فرق بين من يعمل بخبر الواحد الانفتاحي وبين من يعمل بالظنّ المطلق الّذي جعله الشّارع حجّة الانسدادي؟ ولكن مع ذلك {جواز الرّجوع إليه في غاية الإشكال} إذ أدلّة التقليد منحصرة في الدليل العقلي والإجماع والأخبار والانسداد، أمّا الأوّلان فلا يجريان كما عرفت، وأمّا الأخيران ف-{لعدم مساعدة أدلّة التقليد على جواز الرّجوع إلى من اختصّ حجيّة ظنّه به} أي: بنفسه، إذ مقدّمات الانسداد تجعل الظنّ حجّة بالنسبة إلى من جرت المقدّمات بالنسبة إليه والعامي لم تجر عنده المقدّمات، ولذا يكون الظنّ المطلق حجّة خاصّة للمجتهد، فلا تشمله أدلّة التقليد.

{وقضيّة مقدّمات الانسداد} المنتجة لحجيّة مطلق الظنّ إنّما هي

ص: 370

اختصاص حجيّة الظنّ بمن جرت في حقّه، دون غيره؛ ولو سلم أنّ قضيّتها كونُ الظنّ المطلق معتبراً شرعاً، كالظنون الخاصّة الّتي دلّ الدليل على اعتبارها بالخصوص، فتأمّل.

إن قلت: حجيّة الشّيء شرعاً، مطلقاً، لاتوجب القطع بما أدّى إليه من الحكم ولو ظاهراً،

___________________________________________

{اختصاص حجيّة الظنّ بمن جرت} المقدّمات {في حقّه} الّذي هو المجتهد {دون غيره} الّذي هو العامي {ولو سلم أنّ قضيّتها} أي: المقدّمات {كون الظنّ المطلق معتبراً شرعاً كالظنون الخاصّة} كالخبر الواحد ونحوه {الّتي دلّ الدليل على اعتبارها بالخصوص} إذ الاعتبار شرعاً لا ينافي عدم الحجيّة إلّا بالنسبة إلى من جرت عنده المقدّمات وهو المجتهد فقط، وقوله: «ولو سلم» وصليّة، جواب عن الإشكال المقدّر الّذي أوضحناه بقولنا: «ربّما يقال».

{فتأمّل} لعلّه إشارة إلى أنّه على الكشف يكون الظنّ حجّة مطلقاً على الجميع، فلا اختصاص له بالمجتهد.

{إن قلت}: المجتهد على ثلاثة أقسام:

الانسدادي: وقد تبيّن المنع عن الرّجوع إليه.

ومن حصل له العلم: ولا إشكال في الرّجوع إليه.

ومن حصل له العلمي: كعامّة المجتهدين الّذين يعملون بالأمارات والأصول، والرّجوع إلى هؤلاء فيه إشكال؛ لأنّهم لا يعلمون الأحكام الواقعيّة وإنّما قيام الأمارات لديهم يوجب التنجيز والإعذار فقط، ودليل التقليد يقول بجواز الرّجوع إلى العالم لا إلى من قام لديه التنجيز والإعذار، فإنّ {حجيّة الشّيء شرعاً مطلقاً} أي: أيّ قسم من أقسام الحجّة كان - الأمارة أو الأصل أو الطّريق - {لا توجب القطع بما أدّى إليه من الحكم ولو ظاهراً} أي: لا يوجب القطع بالحكم الواقعي ولا

ص: 371

كما مرّ تحقيقه(1)،

وأنّه ليس أثره إلّا تنجّزَ الواقع مع الإصابة، والعذر مع عدمها، فيكون رجوعه إليه - مع انفتاح باب العلمي عليه أيضاً - رجوعاً إلى الجاهل، فضلاً عمّا إذا انسدّ عليه.

قلت: نعم، إلّا أنّه عالم بموارد قيام الحجّة الشّرعيّة على الأحكام، فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم.

إن قلت: رجوعه إليه في موارد فقد الأمارة المعتبرة عنده - الّتي يكون المرجع فيها الأصول العقليّة - ليس إلّا الرّجوع إلى الجاهل.

___________________________________________

الحكم الظاهري {كما مرّ تحقيقه} في أنّه ليس لنا أحكام ظاهريّة {وأنّه ليس أثره} أي: أثر كون الشّيء حجّة {إلّا تنجّز الواقع مع الإصابة والعذر مع عدمها} أي: عدم الإصابة {فيكون رجوعه} أي: العامي {إليه} أي: إلى المجتهد العلمي {مع انفتاح باب العلمي عليه أيضاً} كالانسدادي {رجوعاً إلى الجاهل فضلاً عمّا إذا انسدّ} باب العلمي {عليه}.

{قلت: نعم} صحيح أنّه لا يعلم الواقعيّات {إلّا أنّه عالم بموارد قيام الحجّة الشّرعيّة على الأحكام} فإنّه يعلم أنّ التتن - مثلاً - قامت عليه الحجّة الشّرعيّة الكذائيّة وهكذا {فيكون} تقليده {من} باب {رجوع الجاهل إلى العالم} فتشمله أدلّة التقليد.{إن قلت}: صحيح ما ذكرتم لكنّه بالنسبة إلى ما قامت عليه أمارة شرعيّة أو أصل شرعيّ، لكن {رجوعه} أي: العامي {إليه في موارد فقد الأمارة المعتبرة عنده} أي: عند المجتهد {الّتي يكون المرجع فيها الأصول العقليّة} كالتخيير العقلي، وقبح العقاب بلا بيان {ليس إلّا الرّجوع إلى الجاهل} فلا تشمله أدلّة التقليد.

ص: 372


1- في أوائل بحث الأمارة، حيث قال: «... والحجيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية...»؛ الوصول إلى كفاية الأصول 3: 363.

قلت: رجوعه إليه فيها إنّما هو لأجل اطّلاعه على عدم الأمارة الشّرعيّة فيها، وهو عاجز عن الاطّلاع على ذلك.

وأمّا تعيين ما هو حكم العقل، وأنّه مع عدمها هو: البراءة أو الاحتياط، فهو إنّما يرجع إليه؛ فالمتّبع ما استقلّ به عقلُه، ولو على خلاف ما ذهب إليه مجتهدهُ، فافهم.

وكذلك لا خلافَ ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق، إذا كان باب العلم أو العلمي له مفتوحاً.

وأمّا إذا انسدّ عليه بابهما: ففيه

___________________________________________

{قلت: رجوعه} أي: العامي {إليه} أي: إلى المجتهد {فيها} أي: في موارد فقد الأمارة {إنّما هو لأجل اطّلاعه} أي: المجتهد {على عدم الأمارة الشّرعيّة فيها} أي: في تلك الموارد {وهو} أي: العامي {عاجز عن الاطّلاع على ذلك}.

فإن قلت: وعلى هذا فلم يأخذ بقول المجتهد بالنسبة إلى الاحتياط أو البراءة في الموارد الّتي لا أمارة فيها؟!قلت: {وأمّا تعيين ما هو حكم العقل وأنّه مع عدمها} أي: عدم الأمارة {هو البراءة أو الاحتياط فهو} أي: العامي {إنّما يرجع إليه} أي: إلى العقل {فالمتّبع ما استقلّ به عقله ولو على خلاف ما ذهب إليه مجتهده} كما لو كان العامي فاضلاً وكانت له مستقلّات عقليّة.

{فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ غالب العوام الّذين لا مستقلّات لهم في مثل هذه المسائل ليس وظيفتهم الرّجوع إلى عقولهم، بل إلى المجتهد لاستقلال العقل بذلك وشمول أدلّة التقليد له.

{وكذلك لا خلاف ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق} مقابل المتجزّي الّذي يأتي الكلام فيه {إذا كان باب العلم أو العلمي له مفتوحاً} بأن كان ممّن يرى الانفتاح {وأمّا إذا انسدّ عليه بابهما ففيه} أي: في نفوذ قضائه

ص: 373

إشكالٌ - على الصّحيح، من تقرير المقدّمات على نحو الحكومة - فإنّ مثله - كما أشرت آنفاً - ليس ممّن يعرف الأحكام، مع أنّ معرفتها معتبرة في الحاكم، كما في المقبولة.

إلّا أن يدّعي عدم القول بالفصل؛ وهو وإن كان غيرَ بعيد، إلّا أنّه ليس بمثابة يكون حجّةً على عدم الفصل.

إلّا أن يقال بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الإجماعات، والضّروريّات من الدين أو المذهب والمتواترات، إذا كانتجملة يعتدّ بها، وإن انسدّ باب العلم بمعظم الفقه، فإنّه يصدق عليه حينئذٍ:

___________________________________________

{إشكال - على الصّحيح من تقرير المقدّمات على نحو الحكومة -} وأنّ العقل يحكم بحجيّة الظنّ لدى الانسداد {فإنّ مثله} أي: المجتهد الانسدادي {- كما أشرت آنفاً - ليس ممّن يعرف الأحكام} الصّادرة عن النّبيّ والأئمّة^ {مع أنّ معرفتها معتبرة في الحاكم، كما في المقبولة} حيث قال: «وعرف أحكامنا».

لكنّك قد عرفت أنّه عالم عارف كالانفتاحي {إلّا أن يدّعي عدم القول بالفصل} إذ لم يفصل أحد بين الحاكم الانفتاحي والانسدادي في نفوذ حكومة الأوّل دون الثّاني {وهو} أي: عدم القول بالفصل {وإن كان غير بعيد إلّا أنّه ليس بمثابة يكون حجّة على عدم الفصل} فإنّ الحجّة هو القول بعدم الفصل - أي: الإجماع - لا عدم القول بالفصل.

{إلّا أن يقال بكفاية انفتاح باب العلم} لدى الانسدادي {في موارد الإجماعات والضّروريّات من الدين أو المذهب} كحرمة قول: «آمين» بعد الحمد، فإنّه من ضروريّ المذهب لا الدين {والمتواترات إذا كانت} هذه الأُمور {جملة يعتدّ بها، وإن انسدّ باب العلم بمعظم الفقه} وإنّما قلنا بكفاية هذا المقدار في نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي {فإنّه يصدق عليه حينئذٍ} أي: حين علم الإجماعات

ص: 374

أنّه ممّن روى حديثهم^ ونظر في حلالهموحرامهم، وعرف أحكامَهُم عرفاً حقيقة.

وأمّا قوله(علیه السلام) في المقبولة: «فإذا حكم بحكمنا» فالمراد: أنّ مثله إذا حَكَم كان بحُكمِهم^ حكم؛ حيث كان منصوباً منهم، كيف؟ وحكمه غالباً يكون في الموضوعات الخارجيّة، وليس مثل ملكيّة دار لزيد، أو زوجيّة امرأة له من احكامهم، فصحّة إسناد حكمه إليهم^ إنّما هو لأجل كونه من المنصوب من قِبَلهم.

وأمّا التجزّي في الاجتهاد ففيه مواضع من الكلام:

___________________________________________

والضّروريّات والمتواترات {أنّه ممّن روى حديثهم^ ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم عرفاً حقيقة} أي: يصدق عرفاً أنّه روى وعرف ونظر حقيقة.

{و} إن قلت: إنّ الحكم الّذي يحكم به حينئذٍ يكون ظنّاً لا أنّه حكمهم^، وقد ورد في المقبولة «بحكمنا».

قلت: {أمّا قوله(علیه السلام) في المقبولة: «فإذا حكم بحكمنا» ف-} ليس المراد منه أنّ الحكم بشخصه صادراً عنهم^، بل {المراد أنّ مثله} أي: مثل هذا الفقيه الجامع للشرائط {إذا حكم كان بحكمهم^ حكم} لا بحكم غيرهم {حيث كان منصوباً منهم} وقاضياً من قبلهم.

و{كيف} يلزم أن يكون شخص الحكم منهم^ {و} الحال أنّ {حكمه غالباً يكون في الموضوعات الخارجيّة} كهذا ملك زيد، وهذه زوجته {وليس مثل ملكيّة دار لزيدٍ أو زوجيّة امرأة له من أحكامهم} وإنّما يكون تطبيقاًلكليّات أحكامهم على هذه الموارد {فصحّة إسناد حكمه إليهم^ إنّما هو لأجل كونه} أي: الحكم صادراً {من المنصوب من قبلهم} كما لا يخفى.

{وأمّا التجزّي في الاجتهاد} بأن يتمكّن من تحصيل بعض الأحكام عن الأدلّة دون بعض {ففيه مواضع من الكلام} يذكر المصنّف(رحمة الله) منها ثلاثة:

ص: 375

الأوّل: في إمكانه؛ وهو وإن كان محلّ الخلاف بين الأعلام(1)،

إلّا أنّه لا ينبغي الارتياب فيه حيث كان أبواب الفقه مختلفةً مدركاً، والمدارك متفاوتة سهولةً وصعوبةً، عقليّةً ونقليّةً، مع اختلاف الأشخاص في الاطّلاع عليها، وفي طول الباع وقصوره بالنسبة إليها، فربّ شخص كثير الاطّلاع وطويل الباع في مدرك بابٍ؛ بمهارته في النّقليّات أو العقليّات، وليس كذلك في آخر؛ لعدم مهارته فيها وابتنائه عليها. وهذا بالضرورة ربّما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها؛ لسهولة مدركه، أو لمهارة الشّخص فيه مع صعوبته،

___________________________________________

{الأوّل: في إمكانه} أي: أنّ التجزّي هل هو ممكن أم لا؟ بل إمّا يكون الشّخص عاميّاً أو مجتهداً مطلقاً {وهو وإن كان محلّ الخلاف بين الأعلام إلّا أنّه لا ينبغي الارتياب فيه} أي: في إمكانه {حيث كان أبواب الفقه مختلفة مدركاً} فلكلّ باب مدرك وأدلّه خاصّة.

{والمدارك متفاوتة سهولة وصعوبة} فما يكوناستنباطه متوقّفاً على فهم روايات صريحةٍ أسهل ممّا يتوقّف استنباطه على الاستصحاب التعليقي أو استصحاب العدم الأزلي - مثلاً - {عقليّةً ونقلّةً، مع اختلاف الأشخاص في الاطّلاع عليها} أي: على تلك المدارك {وفي طول الباع وقصوره بالنسبة إليها} أي: إلى المدارك {فربّ شخص كثير الاطّلاع وطويل الباع في مدرك باب} من أبواب الفقه {ب-} سبب {مهارته في النّقليّات أو العقليّات وليس كذلك} مطّلعاً {في} باب {آخر لعدم مهارته فيها} أي: في النّقليّات أو العقليّات {وابتنائه} أي: الباب الآخر {عليها}.

{وهذا} الّذي ذكرنا {بالضرورة ربّما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها} أي: بعض الأبواب {لسهولة مدركه، أو لمهارة الشّخص فيه مع صعوبته}

ص: 376


1- معالم الدين: 238.

مع عدم القدرة على ما ليس كذلك.

بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق - عادة - غير مسبوق بالتجزّي؛ للزوم الطّفرة.

وبساطةُ الملكةُ وعدم قبولها التجزئة، لا تمنعُ من حصولها بالنسبة إلى بعض الأبواب، بحيث يتمكّن بها من الإحاطة بمداركه، كما إذا كانت هناك ملكة الاستنباط في جميعها.

ويقطع بعدم دخل ما في سائرها به أصلاً،

___________________________________________

وإن كان صعباً في نفسه، كما لو كان الباب مبتنياً على العقليّات وكان هذا الشّخص ماهراً فيها {مع عدم القدرة على ما ليسكذلك} بأن كان صعباً أو كان سهلاً لكنّه غير ماهر فيه {بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزّي} إذ الملكات - لغير المعصومين والخارقين - تدريجيّة {للزوم الطّفرة} المحال لو وصل إلى درجة الاجتهاد في آن.

{و} إن قلت: كيف يمكن التجزّي والحال أنّ الاجتهاد ملكة، والملكة بسيطة؛ لأنّها عبارة عن حالة للنفس بها يتمكّن من الاستنباط، فالحالة إمّا حاصلة أو ليست بحاصلة، ولا وسط لها حتّى يمكن التجزّي؟

قلت: {بساطة الملكة وعدم قبولها التجزئة لا تمنع من حصولها} أي: الملكة {بالنسبة إلى بعض الأبواب} فقط، كباب الطّهارة - مثلاً - {بحيث يتمكّن} الشّخص {بها} أي: بواسطة الملكة المرتبطة بذلك الباب {من الإحاطة بمداركه} أي: مدارك ذلك الباب {كما إذا كانت هناك} للشخص {ملكة الاستنباط في جميعها} فكما أنّ المجتهد المطلق يتمكّن من الإحاطة بمدارك باب الطّهارة كذلك المتجزّي العالم بباب الطّهارة فقط يكون متمكّناً من الإحاطة بهذا الباب فقط {ويقطع} هذا المتجزّي {بعدم دخل ما في سائرها} أي: سائر الأبواب {به} أي: بهذا الباب الّذي عرفه {أصلاً} فيعلم بأنّه ليس هناك في كتاب الصّلاة وغيره

ص: 377

أو لا يعتنى باحتماله؛ لأجل الفحص بالمقدار اللّازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله، كما في الملكة المطلقة؛ بداهة أنّه لا يعتبر في استنباط مسألة معها من الاطّلاع فعلاً على مدارك جميع المسائل، كما لا يخفى.

الثّاني: في حجيّة ما يؤدّي إليه علىالمتصف به؛ وهو أيضاً محلّ الخلاف، إلّا أنّ قضيّة أدلّة المدارك: حجيّته؛ لعدم اختصاصها بالمتصف بالاجتهاد المطلق؛

___________________________________________

رواية أو قاعدة ترتبط بباب الطّهارة {أو لا يعتني باحتماله} بأن يكون في سائر الأبواب ما يرتبط بهذا الباب {لأجل الفحص بالمقدار اللّازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله} أي: دخل ما في سائر الأبواب بهذا الباب {كما في الملكة المطلقة} الّتي يعلم صاحبها بأنّ ما في الصّلاة لا يرتبط بما في الطّهارة وهكذا.

{بداهة أنّه لا يعتبر في استنباط مسألة معها} أي: مع الملكة المطلقة {من الاطّلاع فعلاً على مدارك جميع المسائل، كما لا يخفى} فالقولُ بعدم إمكان التجزّي في الاجتهاد مستنداً إلى هذين الوجهين - كون الملكة بسيطة، وكون المستنبط يحتمل أن يكون في سائر الأبواب ما يرتبط بهذا الباب فلا يتمكّن من استخراج الحكم - غيرُ سديدٍ.

{الثّاني: في حجيّة ما يؤدّي إليه} نظره من الحكم وهل أنّ نتائج نظره حجّة {على المتّصف به} أي: بالتجزّي، أي: بالنسبة إلى نفسه {وهو أيضاً محلّ الخلاف} قالوا: لأنّ القدر المتيقّن من حجيّة الآراء إنّما هو بالنسبة إلى المجتهد المطلق {إلّا أنّ قضيّة أدلّة المدارك} كأدلّة حجيّة خبر الواحد الّذي هو دليل حرمة الخمر، ووجوب الصّلاة، واستحباب دعاء الهلال {حجيّته} أي: حجيّة آرائه {لعدم اختصاصها} أي: ادلّة المدارك {بالمتّصف بالاجتهاد المطلق} فقوله(علیه السلام): «لا عذر لأحد من موالينافي التشكيك في ما يرويه عنّا ثقاتنا»(1)

شامل لكلّ من قام عنده

ص: 378


1- وسائل الشيعة 27: 150.

ضرورة أنّ بناء العقلاء على حجيّة الظواهر مطلق، وكذا ما دلّ على حجيّة خبر الواحد، غايته تقييده بما إذا تمكّن من دفع معارضاته، كما هو المفروض.

الثّالث: في جواز رجوع غير المتصف به إليه في كلّ مسألة اجتهد فيها. وهو أيضاً محلّ الإشكال: من أنّه من رجوع الجاهل إلى العالم، فتعمّه أدلّة جواز التقليد. ومن دعوى عدم إطلاق فيها، وعدم إحراز أنّ بناء العقلاء، وسيرة المتشرّعة على الرّجوع إلى مثله أيضاً؛ وستعرفُ - إن شاء اللّه تعالى - ما هو قضيّة الأدلّة.

___________________________________________

الخبر سواء كان مجتهداً مطلقاً أو متجزّياً.

{ضرورة أنّ بناء العقلاء على حجيّة الظواهر مطلق} فيدلّ على جواز الأخذ بالظاهر لكلّ من ثبت لديه ظاهر وإن لم يكن مجتهداً مطلقاً {وكذا ما دلّ على حجيّة خبر الواحد} مطلق لمن قام عنده الخبر {غايته تقييده} أي: دليل حجيّة الظاهر والخبر {بما إذا تمكّن من دفع معارضاته} واستنباط الحكم منه {كما هو المفروض} إذ المفروض أنّ المتجزّي قادر على ذلك.

{الثّالث: في جواز رجوع غير المتصف به} أي: بالاجتهاد - وهو العامي - {إليه} أي: إلى المتجزّي في أخذ الحكم منه{في كلّ مسألة اجتهد فيها} كما هو بديهيّ {وهو أيضاً محلّ الإشكال} وجه الجواز {من أنّه من رجوع الجاهل إلى العالم} لأنّ المتجزّي عالم في هذه المسألة {فتعمّه أدلّة جواز التقليد، و} وجه المنع {من دعوى عدم إطلاق فيها} أي: في أدلّة التقليد {وعدم إحراز أنّ بناء العقلاء وسيرة المتشرّعة على الرّجوع إلى مثله أيضاً} ولكن الإنصاف عموم الأدلّة وإحراز بناء العقلاء وسيرة المتشرّعة، فإنّهم كانوا يسألون عن الرّواة مع أنّهم - جميعهم - لم يكونوا فقهاء في جميع المسائل {وستعرف - إن شاء اللّه تعالى - ما هو قضيّة الأدلّة} وأنّه الإطلاق في الاجتهاد أو كفاية التجزّي.

ص: 379

وأمّا جواز حكومته ونفوذ فصل خصومته فأشكل.

نعم، لا يبعدُ نفوذه في ما إذا عرف جملة معتدّاً بها، واجتهد فيها، بحيث يصحّ أن يقال في حقّه - عرفاً - : إنّه ممّن عرف أحكامهم، كما مرّ في المجتهد المطلق المنسدّ عليه باب العلم والعلمي في معظم الأحكام.

فصل: لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربيّة في الجملة، ولو بأن يقدر على معرفة ما يبتنى عليه الاجتهاد في المسألة بالرجوع إلى ما دوّن فيه.

___________________________________________

{وأمّا جواز حكومته} أي: حكومة المتجزّي {ونفوذفصل خصومته فأشكل} نعم، على مبنى صاحب الجواهر(1)

- وأنّه يجوز حتّى بالنسبة إلى المقلّد العارف بالمسائل - فلا يبعد القول بجوازه، وذلك لصدق الدليل بالنسبة إليه.

{نعم، لا يبعد نفوذه} أي: نفوذ قضائه {في ما إذا عرف جملة معتدّاً بها واجتهد فيها بحيث يصحّ أن يقال في حقّه - عرفاً - : إنّه ممّن عرف أحكامهم} كما في النّصّ {كما مرّ في المجتهد المطلق المنسدّ عليه باب العلم والعلمي في معظم الأحكام} من أنّه إذا صدق عليه أنّه يعرف أحكامهم لما يعرف من الضّروريّات والإجماعات والمتواترات جاز تقليده، فراجع.

[فصل مبادئ الاجتهاد]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، مبادئ الاجتهاد

{فصل} في ذكر العلوم الّتي يحتاج الاجتهاد إليها.

{لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربيّة في الجملة} لا مطلقاً {ولو بأن يقدر على معرفة ما يبتنى عليه الاجتهاد في المسألة بالرجوع إلى ما دوّن فيه} فلا يلزم أن يكون مستحضراً للمسائل العربيّة، أمّا العلوم الضّروريّة فهي اللّغة والنّحو ومقدار قليل من الصَّرْف والبلاغة.

ووجه احتياج الاجتهاد إلى هذه العلوم واضح، إذ لمّا كان الكتاب والسّنّة

ص: 380


1- جواهر الكلام 40: 34.

ومعرفةِ التفسير كذلك.

وعمدة ما يحتاج إليه هو علمُ الأصول؛ ضرورة أنّه ما من مسألة إلّا ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد بُرهَن عليها في الأصول، أو برهن عليها مقدّمةفي نفس المسألة الفرعيّة، كما هو طريقة الأخباري.

وتدوين تلك القواعد المحتاج إليها على حدة لا يوجب كونها بدعةً. وعدمُ تدوينها في زمانهم^ لا يوجب ذلك، وإلّا كان تدوين الفقه والنّحو والصّرف

___________________________________________

باللغة العربيّة وتفسيرها بسائر اللغات لا يفي بالمرادات لدى الاجتهاد كان المريد للاستنباط لا بدّ له من معرفة اللغة ومعرفة اللغة تتوقّف على هذه العلوم.

{و} إلى {معرفة التفسير كذلك} في الجملة، إذ في القرآن الكريم جملة من الآيات المتضمّنة للأحكام، فعدم معرفة تلك موجب لعدم التمكّن من الاجتهاد.

{وعمدة ما يحتاج إليه هو علم الأصول، ضرورة أنّه ما من مسألة إلّا ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد برهن عليها في} علم {الأصول، أو برهن عليها مقدّمة في نفس المسألة الفرعيّة، كما هو طريقة الأخباري} حيث يبرهن على المسائل الأصوليّة في نفس الفقه.

{و} ربّما أُشكل على علم الأصول من قبل بعض الأخباريّين بأنّ علم الأصول لم يكن مدوّناً في زمن الأئمّة^، فتدوينه حينئذٍ بدعة لا يجوز؛ لأنّه من محدثات الأُمور، و«شرّ الأمور محدثاتها» كما في الخبر(1).

لكن فيه أنّ {تدوين تلك القواعد المحتاج إليها} في الفقه ككون الأمر للوجوب والنّهي للتحريم وهكذا {على حدة} في علم خاصّ {لا يوجب كونها بدعة} إذ البدعة إدخالما ليس من الدين في الدين، وهذا ليس إدخالاً {وعدم تدوينها في زمانهم^ لا يوجب ذلك} أي: كونه بدعة {وإلّا كان تدوين الفقه والنّحو والصّرف}

ص: 381


1- الكافي 8: 81.

بدعةً.

وبالجملة: لا محيص لأحدٍ في استنباط الأحكام الفرعيّة من أدلّتها، إلّا الرّجوعُ إلى ما بني عليه في المسائل الأصوليّة، وبدونه لا يكاد يتمكّن من استنباط واجتهاد، مجتهداً كان أو أخباريّاً.

نعم، يختلف الاحتياجُ إليها بحسب اختلاف المسائل والأزمنة والأشخاص؛ ضرورة خفّةِ مؤونة الاجتهاد في الصّدر الأوّل، وعدم حاجته

___________________________________________

بل وهذا النّحو من تدوين الحديث - كالخصال والعلل وما أشبههما - {بدعة} وذلك ما لم يقل به أحد.

{وبالجملة لا محيص لأحد في استنباط الأحكام الفرعيّة من أدلّتها} التفصيليّة {إلّا الرّجوع إلى ما بني عليه} من القواعد {في المسائل الأصوليّة} ومن قال لسنا بحاجة إلى ذلك فإنّما يأخذ النّتيجة غير النّاضجة أصلاً مسلّماً يبني عليها المسألة الفقهيّة {وبدونه} أي: بدون الرّجوع إلى المسائل الأصوليّة {لا يكاد يتمكّن} الشّخص {من استنباط واجتهاد} سواء {مجتهداً كان أو أخباريّاً}.

هذا {نعم، يختلف الاحتياج إليها} أي: إلى المسائلالأصوليّة {بحسب اختلاف المسائل والأزمنة والأشخاص} فمسألة تحتاج إلى إعمال قواعد متعدّدة من الأصول، ومسألة لا تحتاج إلّا إلى قاعدة واحدة، وفي زمان يحتاج المجتهد إلى كثرة التعب لكثرة آراء المجتهدين حتّى يتمكّن من استخلاص الحقّ بنظره، وفي زمان ليس كذلك، وبعض الأشخاص لهم من صفاء الذهن ما يكفيهم أقلّ تعب وعناء، بخلاف بعض الأشخاص الآخرين.

{ضرورة خفّة مؤونة الاجتهاد في الصّدر الأوّل} لحضور الإمام(علیه السلام) وعدم جمع الأحكام، فكان مجال البراءة بالنسبة إليهم وسيعاً {وعدم حاجته} أي: المجتهد

ص: 382

إلى كثير ممّا يحتاج إليه في الأزمنة اللّاحقة، ممّا لا يكاد يُحقّق ويُختار عادة إلّا بالرجوع إلى ما دُوّن فيه من الكتب الأصوليّة.

فصل: اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليّات، واختلفت في الشّرعيّات:

فقال أصحابنا بالتخطئة فيها أيضاً، وأنّ له - تبارك وتعالى - في كلّ مسألة حكماً يؤدّي إليه الاجتهاد تارة، وإلى غيره مرّة أُخرى(1).

___________________________________________

{إلى كثير ممّا يحتاج إليه في الأزمنة اللّاحقة ممّا لا يكاد يحقّق} وينضج {ويختار} أي: يصحّ الاختيار للنتيجة {عادة إلّا بالرجوع إلى ما دوّن فيه من الكتب الأصوليّة}.

ثمّ لا يخفى أنّ الاجتهاد يحتاج إلى مقدار من علم الفلك لتحقيق القبلة، ومقدارمن الحساب لمسائل الإرث، ومقدار من الهندسة لتحديد الأحواض، وما أشبه.

[فصل في التخطئة والتصويب]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، التخطئة والتصويب

{فصل} في التخطئة والتصويب {اتفقت الكلمة} من الشّيعة والسّنّة {على التخطئة في العقليّات} فالأحكام العقليّة - كوجود اللّه، سبحانه، وصفاته والنّبوّة والإمامة والمعاد والأُمور المرتبطة بعالم الآخرة وما أشبه - هي حقائق قد تصل إليها الأفهام فيكون الفكر والنّظر صواباً، وقد لا تصل فتكون الآراء والأفكار المتعلّقة بها خطأً.

وهكذا في سائر الأُمور العقليّة نحو (النّقيضان لا يجتمعان)، والأُمور الخارجيّة نحو (زيد إنسان) {واختلفت في الشّرعيّات} أي: الأحكام الشّرعيّة، مثل أنّ هذا واجب أو حرام، وذاك صحيح أو باطل، وهكذا.

{فقال أصحابنا} الشّيعة {بالتخطئة فيها} أي: في الشّرعيّات {أيضاً} كالعقليّات {وإنّ له - تبارك وتعالى - في كلّ مسألة حكماً} واحداً {يؤدّي إليه الاجتهاد تارةً وإلى غيره مرّة أُخرى} فحكم صلاة الجمعة - مثلاً - الحرمة، فتارة

ص: 383


1- العدّة في أصول الفقه 2: 725؛ قوانين الأصول 1: 449؛ فرائد الأصول 2: 284.

وقال مخالفونا بالتصويب، وأنّ له - تعالى - أحكاماً بعدد آراء المجتهدين، فما يؤدّي إليه الاجتهاد هو حكمه - تبارك وتعالى(1) - .

ولا يخفى: أنّه لا يكاد يعقل الاجتهاد في حكم المسألة، إلّا إذا كان لها حكم واقعاً، حتّى صار المجتهد بصدد استنباطه من أدلّته، وتعيينه بحسبها ظاهراً.

فلو كان غرضهم من التصويب هو: الالتزامبإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء - بأن تكون الأحكام المؤدّي إليها الاجتهاداتُ أحكاماً واقعيّة، كما هي ظاهريّة -

___________________________________________

يؤدّي اجتهاد المجتهد إليه وتارة يؤدّي إلى خلافه فيقول بالوجوب أو التخيير.

{وقال مخالفونا} السّنّة {بالتصويب} وأنّ كلّ مجتهد مصيب {وأنّ له - تعالى - أحكاماً بعدد آراء المجتهدين، فما يؤدّي إليه الاجتهاد} من كلّ مجتهد {هو حكمه، تبارك وتعالى}.

فإن أرادوا أنّ للّه أحكاماً متعدّدة في اللوح المحفوظ فكلّ مجتهد يصيب أحدها فذلك معقول، لكنّه باطل بالأدلّة.

وإن أرادوا أنّ اللّه ليس له حكم أصلاً وإنّما ما يراه المجتهد يكون حكماً للّه سبحانه، فذلك محال؛ لأنّه لو لم يكن له حكم لم يعقل فحص المجتهد عن الحكم.

{ولا يخفى أنّه لا يكاد يعقل الاجتهاد في حكم المسألة إلّا إذا كان لها حكم واقعاً} قبل اجتهاد المجتهد {حتّى صار المجتهد بصدد استنباطه} أي: ذلك الحكم الواقعي {من أدلّته و} بصدد {تعيينه} أي: تعيين ذلك الواقع {بحسبها} أي: بحسب الأدلّة {ظاهراً} أي: تعييناً ظاهريّاً.

{فلو كان غرضهم من التصويب هو الالتزام بإنشاء أحكام} متعدّدة {في الواقع بعدد الآراء} فتكون صلاة الجمعة - مثلاً - واقعاً واجبة ومحرّمة ومخيّرة ومستحبّة ومكروهة {بأن تكون الأحكام المؤدّي إليها الاجتهادات أحكاماً واقعيّة كما هي ظاهريّة}

ص: 384


1- إرشاد الفحول: 261.

فهو وإن كان خطأ من جهة تواتر الأخبار، وإجماع أصحابنا الأخيار على أنّ له - تبارك وتعالى - في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه الكلّ، إلّا أنّه غير محال.

ولو كان غرضهم منه: الالتزامَ بإنشاء الأحكام على وفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد، فهو ممّا لا يكاد يعقل، فكيف يتفحّص عمّا لا يكون له عين ولا أثر؟ أو يُستظهر من الآية أو الخبر؟

إلّا أن يراد: التصويب بالنسبة إلى الحكم الفعلي، وأنّ المجتهد

___________________________________________

حسب الاجتهادات {فهو وإن كان خطأ من جهة تواتر الأخبار وإجماع أصحابنا الأخيار على أنّ له - تبارك وتعالى - في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه الكلّ} العالم والجاهل والمستنبط وغيره {إلّا أنّه غير محال} لأنّه لا يلزم منه اجتماع أو ارتفاع للنقيضين أو اجتماع للضدّين أو ما أشبه.

{ولو كان غرضهم منه} أي: من التصويب {الالتزام بإنشاء الأحكام على وفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد} فاللوح المحفوظ لا حكم فيه إطلاقاً، فإذا اجتهد زيد وأدّى نظره إلى أنّ صلاة الجمعة واجبة ثبتت في اللوح وجوبها.

وهكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام {فهو ممّا لا يكاد يعقل فكيف يتفحّص} الشّخص {عمّا لا يكون له عين ولا أثر} في الواقع {أو يستظهر} المسألة {من الآية أو الخبر} فهو فحص عن معدوم؟{إلّا أن يراد} أنّ الحكم له مرتبتان: الإنشاء وهو الثابت واقعاً، والفعليّة ولا يكون ذلك إلّا إذا وصل إلى الحكم الإنشائي رأي المجتهد، فليس في الواقع أحكام فعليّة، وبوصول رأي المجتهد إلى ما في الواقع يصل الحكم إلى الفعليّة.

ف- {التصويب} إنّما يكون {بالنسبة إلى الحكم الفعلي وأنّ المجتهد} إنما يتفحّص عن ذلك الإنشائي، فإذا وصل إليه صار فعليّاً وإذا لم يصل إليه ورأى غيره أنشأ ذلك الغير.

ص: 385

وإن كان يتفحّص عمّا هو الحكم واقعاً وإنشاءً، إلّا أنّ ما أدّى إليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي حقيقة، وهو ممّا يختلف باختلاف الآراء ضرورةً، ولا يشترك فيه الجاهل والعالم بداهةً، وما يشتركان فيه ليس بحكم حقيقةً، بل إنشاءً، فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى، بل لا محيص عنه في الجملة، بناءً على اعتبار الأخبار من باب السّببيّة والموضوعيّة، كما لا يخفى.

___________________________________________

فمثلاً: كان التتن في الواقع حراماً إنشائيّاً، فإذا وصل المجتهد إليه صار حراماً فعليّاً وإذا تمخّض اجتهاده عن الحليّة أنشأ اللّه - سبحانه - حليّة في الواقع للتتن بالنسبة إلى هذا المجتهد، وإن كان الحكم الواقعي الأوّلي للتتن وهو الحرمة على حاله، فالمجتهد {وإن كان يتفحّص عمّا هو الحكم واقعاً وإنشاءً إلّا أنّ ما أدّى إليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي حقيقة} سواء طابق الواقع الأوّلي أم لم يطابقه.

{وهو} أي: ما أدّى إليه اجتهاد المجتهد {ممّا يختلفباختلاف الآراء ضرورة} كما نرى من اختلاف المجتهدين {ولا يشترك فيه الجاهل والعالم بداهة} لأنّ المفروض أنّ المخالف للواقع إنّما هو حكم من وصل اجتهاده إلى ذلك لا بالنسبة إلى كلّ أحد {وما يشتركان فيه} أي: الجاهل والعالم، ومصداق «ما» الحكم الإنشائي الّذي يتفحّص عنه المجتهد {ليس بحكم حقيقة} فعلاً {بل} هو حكم {إنشاءً} فقط {فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى، بل لا محيص عنه في الجملة} وإن كان خلاف تصريحات المصوّبة.

وإنّما قلنا إنّه لا محيص عنه {بناءً على اعتبار الأخبار من باب السّببيّة والموضوعيّة} بأنّ الخبر موجب للمصلحة سواء كان مصادفاً للواقع أم مخالفاً له، فإنّه لا يتصوّر الصّلاح في الخبر بذاته إلّا بنحو التصويب وأن يكون للخبر صلاح كما يكون للواقع صلاح {كما لا يخفى} فإذا قامت أمارة على شيء خلاف الواقع كان هناك حكمان: واقعيّ إنشائي، وظاهريّ فعلي.

ص: 386

وربّما يشير إليه ما اشتهرت بيننا: «أنّ ظنيّة الطّريق لا تنافي قطعيّة الحكم».

نعم، بناءً على اعتبارها من باب الطّريقيّة - كما هو كذلك - فمؤدّيات الطّرق والأمارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقيّة نفسيّة، ولو قيل بكونها أحكاماً طريقيّة.

___________________________________________

{وربّما يشير إليه} أي: إلى هذا المعنى من التصويب والالتزام بالحكم الظاهري {ما اشتهرت بيننا} نحن الخاصّةونقل عن العلّامة(رحمة الله)(1) من {«أنّ ظنيّة الطّريق لا تنافي قطعيّة الحكم»} فالطريق وإن كان ظنّيّ السّند أو الدلالة إلّا أنّ الحكم المستفاد منه قطعيّ؛ لأنّا نقطع بأنّه الحكم الظاهري لنا، فالمراد قطعيّة الحكم الظاهري لا قطعيّة الحكم الواقعي.

{نعم} في جعل الطّريق احتمالان آخران:

الأوّل: المصلحة السّلوكيّة، فلو قام خبر زرارة على حكم وكان مخالفاً للواقع أُعطي العامل مصلحة لسلوكه هذا الطّريق، كما احتمله الشّيخ المرتضى.

الثّاني: التنجيز والإعذار فقط، بأن لا مصلحة إلّا للواقع، فإذا أدركه الشّخص بواسطة الأمارة تنجز عليه، وإذا أخطأت الأمارة كان معذوراً.

فهذان الاحتمالان مع احتمالي: جعل الحكم الواقعي - الّذي هو التصويب - وجعل الحكم الظاهري كما عن العلّامة، تكون أربعة بالنسبة إلى جعل الأمارات والطّرق: الحكم الواقعي، الحكم الظاهري، المصلحة السّلوكيّة، التنجيز والإعذار.

ف- {بناءً على اعتبارها} أي: الأخبار {من باب الطّريقيّة - كما هو كذلك -} إذ لا دليل لنا على التصويب ولا على الحكم الظاهري {فمؤدّيات الطّرق والأمارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقيّة نفسيّة} كسائر الأحكام الواقعيّة {ولو قيل بكونها أحكاماً طريقيّة} بأنّ قيام الأمارة موجب لجعل حكم طريقيّ غيريّ لا حكم نفسيّ واقعي.

ص: 387


1- تهذيب الأصول: 47.

وقد مرّ غير مرّة(1):

إمكان منع كونهاأحكاماً كذلك أيضاً، وإنّ قضيّة حجيّتها ليست إلّا بتنجّز مؤدّياتها عند إصابتها، والعذرُ عند خطائها، فلا يكون حكمٌ أصلاً إلّا الحكم الواقعي، فيصير منجّزاً في ما قام عليه حجّةٌ من علم أو طريق معتبر، ويكون غيرَ منجّز - بل غير فعليّ - في ما لم تكن هناك حجّة مصيبة، فتأمّل جيّداً.

فصل: إذا اضمحلّ الاجتهاد السّابق - بتبدّل الرّأي - الأوّل بالآخر،

___________________________________________

{و} لكن {قد مرّ غير مرّة إمكان منع كونها} أي: الأمارات والطّرق {أحكاماً كذلك} أي: أحكاماً طريقيّة غيريّة {أيضاً} كما نمنع كونها أحكاماً واقعيّة أو أحكاماً ظاهريّة {وإنّ قضيّة حجيّتها} أي: الأمارات والطّرق {ليست إلّا بتنجّز مؤدّياتها عند إصابتها} للواقع {والعذر عند خطأها} بأن خالفت الواقع {فلا يكون حكم أصلاً إلّا الحكم الواقعي} المشترك فيه الكلّ {فيصير منجّزاً في ما قام عليه حجّة من علم أو طريق معتبر} «من» بيان «حجّة» {ويكون غير منجّز - بل غير فعليّ - في ما لم تكن هناك حجّة مصيبة} للواقع {فتأمّل جيّداً} فتحقّق أنّ الأقوى هو التخطئة، بمعنى عدم الحكم رأساً لا واقعاً ولا ظاهراً ولا طريقيّاً في ما إذا خالف الاجتهاد الواقع، واللّه العالم.

[فصل تبدل رأي المجتهد]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، تبدل رأي المجتهد{فصل} في بيان وجوب القضاء والإعادة وما أشبههما بالنسبة إلى الأعمال السّابقة إذا تبدّل الاجتهاد إلى اجتهاد ثان.

{إذا اضمحلّ الاجتهاد السّابق بتبدّل الرّأي الأوّل بالآخر} كما لو كان نظر المجتهد وجوب صلاة القصر لمن سافر من محلّ إقامته إلى ما دون المسافة ثمّ

ص: 388


1- مرّ في أوّل بحث الأمارات (3: 363)، حيث قال: «والحجيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية...». وفي ثاني تنبيهات الاستصحاب (5: 104)، حيث قال: «أنّ قضية حجيّة الأمارة ليست إلا تنجّز التكاليف مع الإصابة، والعذر مع المخالفة».

أو بزواله بدونه - ، فلا شبهة في عدم العبرة به في الأعمال اللّاحقة، ولزوم اتّباع الاجتهاد اللّاحق مطلقاً، أو الاحتياط فيها.

وأمّا الأعمال السّابقة الواقعة على وِفقه، المختلُّ فيها ما اعتبر في صحّتها بحسب هذا الاجتهاد:

فلا بدّ من معاملة البطلان معها،

___________________________________________

تبدّل رأيه إلى التمام وقد صلّى هو أو مقلّده على حسب رأيه الأوّلِ صلواتٍ {أو بزواله} أي: الرّأي الأوّل {بدونه} أي: بدون أن يحدث له رأي، كما لو شكّ في صحّة رأيه السّابق ولم يرتأ بعد رأياً آخر.

ومثلهما من بعض الجهات في ما لو تبدّل ذو الرّأي، بأن كان يقلّد زيداً ثمّ قلّد عمراً كانا مختلفي الرّأي {فلا شبهة في عدم العبرة به} أي: برأيه السّابق {في الأعمال اللّاحقة ولزوم اتّباع الاجتهاد اللّاحق مطلقاً} في جميع الأحكام والموضوعات {أو الاحتياط فيها} بما تيقّن معه من إدراك الواقع أو درك العمل على طبق حجّة معتبرة - كالاحتياط بين رأي المجتهدين - .

{وأمّا الأعمال السّابقة الواقعة على وفقه} أي: وفْق الاجتهاد السّابق {المختلّ فيها} أي: في تلكالأعمال {ما اعتبر في صحّتها} من الأجزاء والشّرائط {بحسب هذا الاجتهاد} متعلّق بقوله: «المختلّ»، كما لو صلّى وصام وذبح واستعمل الطّهارة وباع وتزوّج ثمّ تبدّل رأي المجتهد إلى وجوب السّورة في الصّلاة، وإبطال الارتماس للصوم، واشتراط الذبيحة بكون الذابح مسلماً، وكون عرق الجنب من الحرام نجساً ولزوم العربيّة في العقد، ونشر عشرة رضعات الحرمة، وقد صلّى بلا سورة وارتمس في الصّوم وذبح له النّصراني واستعمل ألبسة أجنب فيها وباع بالفارسي وامرأته رضيعته بالعشر {فلا بدّ من معاملة البطلان معها} أي:

ص: 389

في ما لم ينهض دليلٌ على صحّة العمل في ما إذا اختلّ فيه لعذر، كما نهض في الصّلاة وغيرها مثل: «لا تعاد»(1)

وحديث الرّفع(2)، بل الإجماع على الإجزاء في العبادات على ما ادّعي(3).

وذلك في ما كان بحسب الاجتهاد الأوّل قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحلّ، واضح؛ بداهة أنّه لا حكم معه شرعاً، غايته المعذوريّة في المخالفة عقلاً.

وكذلك في ما كان هناك طريق معتبر شرعاً عليه

___________________________________________

مع الأعمال السّابقة {في ما لم ينهض دليل على صحّة العمل في ما إذا اختلّ فيه لعذر} يعني أنّ جميع أعماله السّابقة محكومة بالبطلان إلّا إذا دلّ الدليل على صحّتها العذريّة، فاللّازمترتيب الآثار من القضاء والكفّارة والضّمان وعدم الإرث - مثلاً - على تلك الأعمال، فلو ماتت زوجته الرّضيعة وورث منها كان ضامناً لذويها وهكذا.

نعم، لو دلّ دليل ثانوي على الصّحّة في حال العذر لم يجب ترتيب الأثر {كما نهض في الصّلاة وغيرها مثل} حديث {«لا تعاد» وحديث الرّفع} بناءً على أنّه يرفع الجزئيّة والشّرطيّة وسائر الأحكام الوضعيّة في حال الجهل {بل الإجماع على الإجزاء في العبادات على ما ادّعي} فلا يلزم إعادة عبادة أو قضائها أو كفّارة ما يجب الكفّارة في الاختلال بالنسبة إليه كبعض كفّارات الحجّ.

{وذلك} الّذي ذكرنا من لزوم ترتيب الأثر على البطلان {في ما كان بحسب الاجتهاد الأوّل قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحلّ واضح، بداهة أنّه لا حكم معه} أي: مع القطع {شرعاً، غايته المعذوريّة في المخالفة عقلاً} إذ القطع حجّة عقلاً كما تقدّم {وكذلك في ما كان هناك طريق معتبر شرعاً عليه} أي: على الحكم

ص: 390


1- الخصال: 284؛ وسائل الشيعة 1: 371.
2- التوحيد: 353؛ وسائل الشيعة 15: 369.
3- راجع مطارح الأنظار 1: 169.

بحسبه، وقد ظهر خلافه، - بالظفر بالمقيّد، أو المخصِّص، أو قرينة المجاز، أو المعارِض - ، بناءً على ما هو التحقيق من اعتبار الأمارات من باب الطّريقيّة، قيل بأنّ قضيّة اعتبارها إنشاء أحكام طريقيّة، أم لا، على ما مرّ منّا غير مرّة، من غير فرق بين تعلّقه بالأحكام، أو بمتعلّقاتها؛ ضرورة أنّ كيفيّة اعتبارها فيهما على نهج واحد.

___________________________________________

السّابق {بحسبه} أي: بحسب اجتهاده الأوّل، بأن قام لديه دليل على عدموجوب العربيّة في العقد ثمّ اجتهد ثانياً فصار رأيه وجوبها {وقد ظهر خلافه} بحسب الاجتهاد الثّاني {بالظفر بالمقيّد أو المخصّص أو قرينة المجاز أو المعارض} الأقوى بعد ما أفتى بالمطلق والعام والمعنى الحقيقي والمعارض الأضعف مثلاً.

وإنّما يكون حال الأمارة حال القطع {بناءً على ما هو التحقيق من اعتبار الأمارات من باب الطّريقيّة} لا السّببيّة والموضوعيّة سواء {قيل بأنّ قضيّة اعتبارها} أي: الأمارات {إنشاء أحكام طريقيّة} مقابل الأحكام النّفسيّة الواقعيّة والأحكام الظاهريّة {أم لا} ليس هناك حكم أصلاً، بل تنجيز وإعذار فقط {على ما مرّ منّا غير مرّة} من كون الأمارات والطّرق توجب التنجيز والإعذار فقط {من غير فرق بين تعلّقه} أي: الاجتهاد الثّاني المخالف للاجتهاد الأوّل {بالأحكام} كما لو رأى وجوب الدعاء سابقاً ثمّ رأى عدم وجوبه {أو بمتعلّقاتها} كما لو رأى سابقاً أنّ الصّلاة جزؤها السّورة، أو أنّ العقد يقوم طرفاه بشخص واحد أو أنّ الطّلاق يكفي فيه العدالة الظاهريّة.

وإنّما قلنا بعدم الفرق بين الأحكام ومتعلّقاتها ل- {ضرورة أنّ كيفيّة اعتبارها} أي: الأمارات والطّرق {فيهما} أي: في الأحكام ومتعلّقاتها {على نهج واحد} وكيفيّة متساويّة.

ثمّ إنّ صاحب الفصول فصّل بين المتعلّق والحكم، فقال بالبطلان بالنسبة إلى الحكم وبالصحّة بالنسبة إلى المتعلّق.

ص: 391

ولم يُعلم وجه للتفصيل بينهما

___________________________________________

فمثلاً: إذا كان يرى أنّ العقد لا يحتاج إلى تقدّم الإيجاب على القبول وعقد،ثمّ اجتهد إنّه يحتاج إلى ذلك فإنّ عقده السّابق صحيح ويترتّب عليه الآثار ولو بعد الاجتهاد الثّاني، بخلاف ما لو كان نظره أنّ صلاة الجمعة واجبة وصلّى ثمّ تبيّن لديه باجتهاده الثّاني أنّ صلاة الظهر واجبة فإنّه يلزم عليه قضاء تلك الصّلوات الّتي لم يصلّها.

واستدلّ لذلك بأدلّة أربعة:

الأوّل: أنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين، والظاهر أنّ المراد بذلك أنّ الموضوعات - أي: متعلّقات الأحكام - لا تغيّر فيها ولا تبدّل بخلاف الأحكام، فالعقد - مثلاً - أمر خارجيّ إمّا يشترط تقدّم الإيجاب فيه على القبول أم لا، أمّا أن يكون في وقت كذا لا في وقت كذا فغير ممكن، بخلاف الأحكام فإنّه من الممكن أن يكون الحكم في وقت على خلاف الحكم في وقت آخر.

الثّاني: لزوم العسر والحرج، فإنّه إذا قيل له: (اقض جميع صلواتك، وأعد جميع عقودك، وإيقاعاتك) فهو حرج شديد جدّاً، بل هرج ومرج مخلّ بالنظام، لكن الفصول لم يذكر الهرج والمرج.

الثّالث: ارتفاع الوثوق في العمل لو لم يكن مجزياً، فإنّ كلّ عاقدٍ ومصلٍّ ومن أشبههما لا يعتمد بأعماله حينئذٍ، إذ من المحتمل أن يرى هو أو مجتهد، بطلان عمله بعد زمان، ولم يذكره المصنّف(رحمة الله).

الرّابع: استصحاب آثار الواقعة، فإنّ التصرّف في هذا المال المشترى بالعقد المقدّم القبول كان جائزاً إلى حين تبدّل الاجتهاد، فإن شككنا في الحرمة بعد ذلك كان الأصل بقاء الجواز، ولم يذكره المصنّف(رحمة الله) أيضاً.

{و} كيف كان {لم يعلم وجه للتفصيل بينهما} أي: بين الأحكام وبين

ص: 392

- كما في الفصول(1)

- وأنّ المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادَين، بخلاف الأحكام، إلّا حِسبان أنّ الأحكام قابلة التغيير والتبدّل، بخلاف المتعلّقات والموضوعات.

وأنت خبيرُ بأنّ الواقع واحد فيهما، وقد عُيّن أوّلاً بما ظهر خطأه ثانياً.

___________________________________________

متعلّقاتها {كما في الفصول} حيث فصّل بينهما {و} قال: {إنّ المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادين} فإنّ للموضوعات في الخارج واقعاً محفوظاً لا يتبدّل بتبدّل اجتهاد المجتهد {بخلاف الأحكام} فإنّها تابعة للجعل وهو قابل للتغيير والتبديل {إلّا حسبان أنّ الأحكام قابلة للتغيير والتبدّل بخلاف المتعلّقات والموضوعات} كالشرطيّة والجزئيّة وسائر مباحث العبادات والعقود والإيقاعات. وقوله: «إلّا» استثناء من قوله: «لم يعلم».

{وأنت خبير بأنّ} هذا الوجه غير تامّ، فإنّ الواقع واحد في كلّ واحد من الأحكام والموضوعات، فكما أنّ الواقع كون الإيجاب مقدّماً على القبول في باب الموضوعات كذلك الواقع كون صلاة الظهر واجبة - مثلاً - فكما لا تغيير في الموضوع كذلك لا تغيير في الحكم.

هذا بالنسبة إلى الخارج، وأمّا بالنسبة إلى الإمكان العقلي فكلاهما يمكن فيهما التغيّر والتبدّل، فمن الممكن أن يجعل الشّارع العقد النّافذ هو ما قدّم إيجابه على قبوله - إلى مدّة - ثمّ يجعل خلاف ذلك، وأنّ العقد النّافذ لديه هو ما قدّم قبوله مثلاً، ف- {الواقع واحد فيهما} في المتعلّقات والأحكام - على حدّ سواء - {وقد عيّن أوّلاً} بالاجتهاد الأوّل{بما} أي: على نحو {ظهر خطأه ثانياً} بالاجتهاد الثّاني، فبالاجتهاد الثّاني ظهر خطأ جواز تقديم القبول على الإيجاب، كما ظهر خطأ وجوب الجمعة تعييناً - مثلاً - .

ص: 393


1- الفصول الغرويّة: 409.

ولزومُ العسر والحرج والهرج والمرج، المخلّ بالنظام، والموجب للمخاصمة بين الأنام - لو قيل بعدم صحّة العقود والإيقاعات والعبادات الواقعةِ على طبق الاجتهاد الأوّل، الفاسدة بحسب الاجتهاد الثّاني، ووجوب العمل على طبق الثّاني: من عدم ترتيب الأثر على المعاملة، وإعادة العبادة - لا يكونُ إلّا أحياناً، وأدلّة نفي العسر لا تنفي إلّا خصوصَ ما لزم منه العسر فعلاً.

مع عدم اختصاص ذلك

___________________________________________

{و} إلّا حسبان {لزوم العسر والحرج} من بطلان العقود والإيقاعات والصّلوات وسائر العبادات، وأيّ عسر أعظم من أن يقال للشخص: أعِدْ جميع أعمالك الّتي عملت بها طيلة ثلاثين سنة؟ {و} إلّا حسبان لزوم {الهرج والمرج المخلّ بالنظام} فإنّ تبدّل الاجتهاد يوجب انتقال جميع المبيعات إلى أصحابها الأوّلين، فهذا يأخذ أمواله من مختلف المشترين وبالعكس وهكذا، ويجب على النّاس أجمعين أن يفرغوا أوقاتهم لإعادة الصّلوات ونحوها {والموجب للمخاصمة بين الأنام} هذا يقول: هذا مالي، وذاك يقول: ليس مالك، وهكذا {لو قيل بعدم صحّه العقود والإيقاعات والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الأوّل، الفاسدة} تلك الأُمور {بحسب الاجتهاد الثّاني}.{و} أنت خبير بأنّ {وجوب العمل على طبق الثّاني} عطف على قوله سابقاً: «وأنت خبير بأنّ الواقع واحد» {من عدم ترتيب الأثر على المعاملة، و} من {إعادة العبادة لا يكون إلّا أحياناً} إذ قليلاً ما يتغيّر رأي المجتهد بحيث يلزم بطلان العقد السّابق أو العبادة السّابقة، كما نرى في تغيّر فتاوى المجتهدين، فإنّه ليس بحيث يلزم كلّ هذه المحاذير المذكورة {وأدلّة نفس العسر} والحرج {لا تنفي إلّا خصوص ما لزم منه العسر فعلاً} إذ العسر شخصيّ فيقدّر بقدره وليس نوعيّاً حتّى يكون الشّارع قد رفعه، كما في السِّواك ونحوه {مع عدم اختصاص ذلك} العسر

ص: 394

بالمتعلّقات، ولزومِ العسر في الأحكام كذلك أيضاً، لو قيل بلزوم ترتيب الأثر على طبق الاجتهاد الثّاني في الأعمال السّابقة.

وباب الهرج والمرج ينسدّ بالحكومة وفصل الخصومة.

وبالجملة: لا يكون التفاوت بين الأحكام ومتعلّقاتها - بتحمل الاجتهادين وعدمِ التحمّل - بيّناً ولا مبيّناً، بما يرجع إلى محصّلٍ في كلامه - زيد في علوّ مقامه - فراجع وتأمّل.

___________________________________________

{بالمتعلّقات} فقط كما خصّصه الفصول.

{ولزوم العسر في الأحكام كذلك} كالعسر اللّازم في المتعلّقات {أيضاً} فأيّ فرق بينهما حتّى قال بعدم الإعادة بالنسبة إلى المتعلّقات دون الأحكام، فإنّه {لو قيل بلزوم ترتيب الأثر على طبق الاجتهاد الثّاني في الأعمالالسّابقة} لزم العسر بالنسبة إلى تبدّل رأي المجتهد في الأحكام كما يلزم بالنسبة إلى تبدّل رأي المجتهد في الموضوعات.

{وباب الهرج والمرج ينسدّ بالحكومة} أي: القضاء، فإنّ الحكومة الإسلاميّة تمنع من الهرج والمرج {و} ذلك يكون ب- {فصل الخصومة} بين النّاس، فلا يلزم اختلال النّظام.

{وبالجملة لا يكون التفاوت بين الأحكام ومتعلّقاتها} كما ذكره الفصول واستدلّ عليه {بتحمّل الاجتهادين} في الأوّل {وعدم التحمّل} في الثّاني {بيّناً} واضحاً {ولا مبيّناً} فإنّه لم يبيّن المراد منه في الفصول، وكأنّه إشارة إلى ما ذكره العلّامة الرّشتي قال: «ذكر أُستاذنا العلّامة الآشتياني(قدس سره) في مجلس بحثه أنّه قال الشّيخ الأنصاري(رحمة الله): قد أرسلت الفصول إلى صاحبه بتوسّط الحاج الميرزا السّيّد علي التستري لاستفادة المراد من هذا العنوان فلم يحصل من بيانه ما يرفع الإجمال»(1) {بما يرجع إلى محصّل في كلامه، زيد في علوّ مقامه، فراجع وتأمّل}.

ص: 395


1- شرح كفاية الأصول 2: 357؛ وراجع الرسائل التسع: 106؛ نهاية الدراية 6: 393.

وأمّا بناءً على اعتبارها من باب السّببيّة والموضوعيّة: فلا محيصَ عن القول بصحّة العمل على طبق الاجتهاد الأوّل، عبادة كان أو معاملة، وكونِ مؤدّاه - ما لم يضمحلّ - حكماً حقيقة. وكذلك الحال إذا كان بحسب الاجتهاد الأوّل مجرى الاستصحاب أو البراءة النّقليّة، وقد ظفر في الاجتهاد الثّاني بدليل على الخلاف، فإنّه عمل بما هو وظيفته على تلك الحال، وقد مرّ في مبحث الإجزاء تحقيق المقال،فراجع هناك(1).

___________________________________________

هذا كلّه بناءً على اعتبار الأمارات من باب الطّريقيّة {وأمّا بناءً على اعتبارها من باب السّببيّة والموضوعيّة} وأنّ في نفس الأمارة مصلحة؛ لأنّها تنشئ الأحكام {فلا محيص عن القول بصحّة العمل على طبق الاجتهاد الأوّل} مطلقاً سواء {عبادة كان أو معاملة} بمعناها الأعمّ الشّامل للعقود والإيقاعات وغيرهما من سائر الأُمور الشّرعيّة {و} عن القول ب- {كون مؤدّاه} أي: مؤدّى الطّريق {- ما لم يضمحلّ - حكماً حقيقة} ويكون تبدّل الاجتهاد من باب تبدّل الأحكام، كما يتبدّل حكم المسافر والحاضر.

{وكذلك الحال إذا} لم يكن الاجتهاد الأوّل مستنداً إلى الأمارة، بل {كان بحسب الاجتهاد الأوّل مجرى الاستصحاب أو البراءة النّقليّة} أي: كان مجرى الأصول {وقد ظفر في الاجتهاد الثّاني بدليل على الخلاف، فإنّه عمل بما هو وظيفته على تلك الحال} بناءً على السّببيّة ويكون الكلام فيه - بناءً على الطّريقيّة - كما مرّ من الخلاف والتفصيل {وقد مرّ في مبحث الإجزاء تحقيق المقال، فراجع هناك}.

وذكر العلّامة المشكيني(رحمة الله) أنّ بين ذلك المبحث وهذا المبحث عموماً من وجه(2)،

كما أنّ الرّشتي جعل هذه المسألة أعمّ مطلقاً من تلك(3)،وبعضهم

ص: 396


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 492 وما بعدها.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 412.
3- شرح كفاية الأصول 2: 357.

فصل: في التقليد. وهو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيّات، أو للالتزام به في الاعتقاديّات تعبّداً، بلا مطالبة دليل على رأيه(1).

ولا يخفى: أنّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل؛ ضرورة سبقه عليه، وإلّا كان بلا تقليد، فافهم.

___________________________________________

عكس فجعل تلك أعمّ مطلقاً من هذه، فراجع.

[فصل في التقليد]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، التقليد

{فصل: في التقليد} وحيث ذكرنا طرفاً منه في الفقه، فلا داعي إلى الإطالة ومناقشة آراء المصنّف، فنجري عادة الشّرح في هذا الفصل أيضاً من توضيح المراد.

{وهو} عند المصنّف^ {أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيّات} فليس التقليد عملاً ملوّناً بكونه بلون اتّباع الغير {أو للالتزام به في الاعتقاديّات} ويكون الأخذ {تعبّداً بلا مطالبة دليل على رأيه} وهذا المعنى ليس اصطلاحيّاً بحتاً بل هو المعنى اللغوي بتطوير يناسب المقام.

{ولا يخفى أنّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل} بأن يقال: «التقليد هو العمل بقول الغير» كما نقل ذلك عن صاحب المعالم(2)

وغيره {ضرورة سبقه} أي: التقليد {عليه} أي: على العمل {وإلّا} فلو لم يكن التقليد سابقاً على العمل {كان} العمل {بلاتقليد} وإذا كان التقليد سابقاً على العمل فكيف يكون هو العمل {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ التقليد كون العمل وليس سابقاً عليه، فالعمل المستند فيه إلى الغير يسمّى تقليداً، كما تسمّى الحركات الّتي تحكي حركات الغير تقليداً له - إذا صدر عن استناد - وقد اخترنا هذا المعنى في شرح العروة.

ص: 397


1- معارج الأصول: 200؛ الفصول الغرويّة: 411.
2- معالم الدين: 242.

ثمّ إنّه لا يذهب عليك: أنّ جواز التقليد، ورجوع الجاهل إلى العالم - في الجملة - يكونُ بديهيّاً جبلّيّاً فطريّاً، لا يحتاج إلى دليل، وإلّا لزم سدُّ باب العلم به على العاميّ مطلقاً غالباً؛ لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه كتاباً وسنّة، ولا يجوز التقليد فيه وإلّا لدار أو تسلسل،

___________________________________________

{ثمّ إنّه لا يذهب عليك} أنّ جواز التقليد بهذا المعنى قد استدلّ عليه بالأربعة: الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل، لكن المصنّف أشكل في ذلك وأرجع أمر الجواز إلى الفطرة، لمناقشات في غيرها وإن كان نقاشه في ما عدا الإجماع لا يخلو من نظر.

وكيف كان ف- {إنّ جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة} مع قطع النّظر عن تفاصيله وخصوصيّاته، ككون المرجع لا بدّ أن يكون عادلاً أو نحوه {يكون بديهيّاً} غير محتاج إلى إقامة البرهان {جبلّيّاً فطريّاً} فبالجبلّة والفطرة يعرف الإنسان لزوم رجوع الجاهل إلى العالم {لا يحتاج إلى دليل، وإلّا} فلو احتاج جواز التقليد إلى دليل {لزم سدّ باب العلم به} أي: بجوازه {على العاميّ مطلقاً غالباً} مقابل غير الغالب وهو في ما كان العاميّ له حظّ من المعرفة ويتمكّن من إقامة الأدلّة على جواز التقليد.وإنّما قلنا بلزوم سدّ بابه غالباً عليه {لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه} أي: على الجواز {كتاباً وسنّة، ولا يجوز التقليد فيه} أي: في جواز التقليد {وإلّا لدار أو تسلسل} فإنّا إذا فرضنا جميع المسائل الّتي منها جواز التقليد كتلة واحدة واستدللنا على جواز التقليد فيها بمسألة جواز التقليد لزم الدور، وإن فرضنا سائر المسائل - غير مسألة جواز التقليد - كتلة واحدة واستدللنا لجواز التقليد فيها بمسألة جواز التقليد انتقل الكلام إلى مسألة جواز التقليد وأنّها من أين يجوز، وهكذا حتّى يتسلسل.

ص: 398

بل هذه هي العمدة في أدلّته.

وأغلب ما عداه قابل للمناقشة:

لبعد تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة، ممّا يمكن أن يكون القول فيه لأجل كونه من الأُمور الفطريّة الارتكازيّة. والمنقول منه غير حجّة في مثلها - ولو قيل بحجيّتها في غيرها - لوهنه بذلك.

ومنه قد انقدح: إمكانُ القدح في دعوى كونه من ضروريّات الدين؛ لاحتمال أن يكون من ضروريّات العقل وفطريّاته، لا من ضروريّاته.

___________________________________________

وإن شئت قلت: جواز التقليد في المسائل إمّا مستند إلى الفطرة وإمّا مستند إلى الأدلّة وإمّا مستند إلى التقليد، لكن الثّالث مستلزم للمحذور - إذ جواز التقليد أوّل الكلام - والمفروض أنّ العاميّ عاجز من إقامة الأدلّة فلم يبق إلّا الفطرة.

{بل هذه} أي: الفطرة {هي العمدة في أدلّته} أي: أدلّة جواز التقليد {وأغلب ما عداه قابل للمناقشة}: أمّا الإجماع ف- {لبعد تحصيل الإجماع في مثل هذهالمسألة ممّا يمكن أن يكون القول فيه} بالجواز {لأجل كونه من الأُمور الفطريّة الارتكازيّة} في أذهان العقلاء، فالإجماع على تقدير تحصيلنا له وأنّ نزاع الأخباري ليس في التقليد بهذا المعنى لم يكن حجّة؛ لأنّه محتمل الاستناد والإجماع المحتمل الاستناد ليس حجّة، كما تقرّر في موضعه.

{والمنقول منه} أي: من الإجماع {غير حجّة في مثلها} أي: مثل هذه المسألة {ولو قيل بحجيّتها} أي: حجيّة الإجماعات المنقولة {في غيرها} أي: غير هذه المسألة {لوهنه} أي: الإجماع المنقول {بذلك} أي: باحتماله الاستناد.

{ومنه} أي: ممّا ذكرنا من كونه من الارتكازيّات {قد انقدح إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريّات الدين} وذلك الانقداح {لاحتمال أن يكون من ضروريّات العقل وفطريّاته لا من ضروريّاته} أي: لا من ضروريّات الدين

ص: 399

وكذا القدح في دعوى سيرة المتديّنين.

وأمّا الآيات: فلعدم دلالة آية النّفر والسّؤال على جوازه؛ لقوّة احتمال أن يكون الإرجاعُ لتحصيل العلم، لا الأخذ تعبّداً.

مع أنّ المسؤول - في آية السّؤال - هم أهل الكتاب، كما هو ظاهرها، أو أهل بيت العصمة الأطهار، كما فسّر به في الأخبار.

___________________________________________

{وكذا} انقدح {القدح في دعوى سيرةالمتديّنين} على التقليد والسّيرة حجّة لاتصالها بزمان المعصوم ولم يردع عنها فيكون تقريراً منه(علیه السلام).

{وأمّا} الاستدلال ب- {الآيات} على جواز التقليد {ف-} فيه مناقشة {لعدم دلالة آية النّفر} وهي قوله - تعالى - : {وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}(1)، حيث استدلّ بها على أنّ أخذ الباقين من النّافرين تقليد منهم لأُولئك وقد أجازه - سبحانه - {و} آية {السّؤال} وهي قوله - تعالى - : {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(2)، فإنّ السّؤال لو كان لغير الأخذ والقبول كان لغواً، وإذا كان القبول إِثر السّؤال جائزاً كان تقليداً {على جوازه} أي: جواز التقليد {لقوّة احتمال أن يكون الإرجاع لتحصيل العلم} ويدلّ عليه قوله: {إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} {لا الأخذ تعبّداً} فهو على غرار (فاسأل إن كنت لا تعلم) إذ ليس معناه: اقبل تعبّداً، بل معناه: حتّى تتعلّم.

{مع أنّ} الآية الثّانية بتفسيرها وتأويلها خارجة عمّا نحن فيه، فإنّ {المسؤول - في آية السّؤال - هم أهل الكتاب - كما هو ظاهرها} أي: ظاهر الآية بمناسبة ما قبلها وما بعدها {أو أهل بيت العصمة} والطّهارة {الأطهار، كما فسّر} أهل الذكر {به} أي: بأهل البيت {في الأخبار} وإن كان يرد عليه أنّ ذلك لا ينافي عمومها.

ص: 400


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- سورة النحل، الآية: 43.

نعم، لا بأس بدلالة الأخبار عليهبالمطابقة أو الملازمة؛ حيث دلّ بعضها على وجوب اتّباع قول العلماء، وبعضها على أنّ للعوام تقليد العلماء، وبعضها على جواز الإفتاء مفهوماً - مثل ما دلّ على المنع عن الفتوى بغير علم - ،

___________________________________________

{نعم، لا بأس بدلالة الأخبار عليه} أي: على جواز التقليد {بالمطابقة أو الملازمة}.

قال المشكيني(رحمة الله): «الأوّل: في الطّائفتين الأوليين والثّاني: في الطّائفتين الأخيرتين، إذ المفهوم في أُولاهما والمنطوق في الأُخرى جواز الإفتاء، وهو ملازم عرفاً مع حجيّة قوله في حقّه وجواز رجوعه إليه»(1)،

انتهى.

{حيث دلّ بعضها على وجوب اتّباع قول العلماء} كقوله(علیه السلام) لشعيب العقرقوفي: «عليك بالأسدي» يعني أبا بصير(2)،

وقول الرّضا(علیه السلام) لعليّ بن المسيّب - لمّا قال له: شقّتي بعيدة، ولست أصل إليك كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ - «من زكريّا ابن آدم القمّي المأمون على الدين والدنيا»(3)،

إلى غير ذلك.

{و} دلّ {بعضها على أنّ للعوام تقليد العلماء} كقوله(علیه السلام): «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه»(4) {وبعضها على جواز الإفتاء مفهوماً، مثل ما دلّ على المنع عن الفتوى بغير علم} كقوله(علیه السلام): «منأفتى النّاس بغير علم لعنته ملائكة السّماوات والأرض»(5)

ممّا يدلّ على جواز الفتوى مع العلم.

ص: 401


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 5: 321.
2- رجال الكشّي 1: 400؛ وسائل الشيعة 27: 142.
3- رجال الكشّي 2: 858؛ وسائل الشيعة 27: 146.
4- تفسير الإمام الحسن العسكري(علیه السلام): 300؛ وسائل الشيعة 27: 131.
5- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 46؛ وسائل الشيعة 27: 190.

أو منطوقاً - مثل ما دلّ على إظهاره(علیه السلام) المحبّة لأن يرى في أصحابه من يفتي النّاس بالحلال والحرام - .

لا يقال: إنّ مجرّد إظهار الفتوى للغير لا يدلّ على جواز أخذه واتّباعه.

فإنّه يقال: إنّ الملازمة العرفيّة بين جواز الإفتاء وجواز اتّباعه واضحة، وهذا غير وجوب إظهار الحقّ والواقع؛ حيث لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبّداً، فافهم وتأمّل.

وهذه الأخبار على اختلاف مضامينها وتعدّد أسانيدها؛

___________________________________________

ومن المعلوم أنّ جواز الإفتاء يلازم جواز التقليد وإلّا لكان لغواً {أو} دلّ على جواز الإفتاء {منطوقاً، مثل ما دلّ على إظهاره(علیه السلام) المحبّة لأن يرى في أصحابه من يفتي النّاس بالحلال والحرام} كقوله(علیه السلام) لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة وافت النّاس، فإنّي أُحبّ أن يرى في شيعتي مثلك»(1).

{لا يقال: إنّ مجرّد إظهار الفتوى للغير لا يدلّ على جواز أخذه واتّباعه} فلعلّه لئلّا يكون كاتماً للحقّ؛ ولأن يحصل العلم لذلك الغير بالاطمئنان إلى المفتي أو من تعدّدمن يقول له الحكم أو نحو ذلك.

{فإنّه يقال}: إنّه وإن تكن ملازمة عقليّة إلّا {أنّ الملازمة العرفيّة} الّتي تستفاد من اللفظ حتّى تكون من الظواهر {بين جواز الإفتاء وجواز اتّباعه} للمستفتي {واضحة، وهذا غير وجوب إظهار الحقّ والواقع} وحرمة كتمانه {حيث لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبّداً} إذ إظهار الحقّ إنّما هو لمصلحة ظهوره، بخلاف الإفتاء فإنّه ليس لمصلحة ظهور الفتوى وإنّما لمصلحة الأخذ {فافهم وتأمّل} جيّداً.

{وهذه الأخبار على اختلاف مضامينها وتعدّد أسانيدها} وكثرتها كما يجدها

ص: 402


1- رجال النجاشي: 10؛ مستدرك الوسائل 17: 315.

لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها، فيكون دليلاً قاطعاً على جواز التقليد، وإن لم يكن كلّ واحد منها بحجّة، فيكون مخصّصاً لما دلّ على عدم جواز اتّباع غير العلم، والذمّ على التقليد، من الآيات والرّوايات، قال اللّه - تبارك وتعالى - : {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1)، وقوله - تعالى - : {إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ}(2).

___________________________________________

المتتبّع في الوسائل والمستدرك وذكرنا جملة منها في الفقه(3) {لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها، فيكون دليلاً قاطعاً على جواز التقليد وإن لم يكن كلّواحد منها بحجّة} ولا منافاة بين عدم حجيّة كلّ واحد وحجيّة الجميع كما في الخبر المتواتر، مضافاً إلى عدم المنافاة بين القطع بصدور البعض وعدم حجيّة كلّ واحد للجهل التفصيلي بحجيّة كلّ واحد، فلا تهافت في الكلام، كما ربّما يتوهّم.

هذا مع أنّ بعض تلك الأخبار مشتملة على شرائط الحجيّة، وإذا ثبت كون بعض هذه الأخبار حجّة {فيكون مخصّصاً لما دلّ على جواز اتّباع غير العلم والذمّ على التقليد من الآيات والرّوايات} مضافاً إلى إمكان أن يقال: إنّ الآيات والرّوايات لا تشمل إطلاقاً مورد التقليد، فإنّ العرف يرى عدم المنافاة بينهما، إذ الرّجوع إلى أهل الخبرة لا يسمّى عملاً بغير علم ولا تقليداً مذموماً كما هو المنصرف من التقليد المنهيّ عنه.

ألا ترى أنّ المولى إذا نهى عبده عن العمل في الدار بغير علم ثمّ أمره ببناء غرفة فيها، فجاء العبد بأحد الخبراء في فنّ البناء وبنى الغرفة لم يكن في نظر العقلاء ملوماً ومشمولاً للنهي، فما {قال اللّه - تبارك وتعالى - : {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ} وقوله - تعالى - : {إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ}}

ص: 403


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة الزخرف، الآية: 23.
3- وسائل الشيعة 27: 136؛ مستدرك الوسائل 17: 311؛ موسوعة الفقه 1: 38.

مع احتمال أنّ الذمّ إنّما كان على تقليدهم للجاهل، أو في الأصول الاعتقاديّة الّتي لا بدّ فيها من اليقين.

وأمّا قياس المسائل الفرعيّة على الأصول الاعتقاديّة - في أنّه كما لا يجوز التقليد فيها مع الغموض فيها؛ كذلك لا يجوز فيها بالطريق الأولى؛ لسهولتها - فباطل.

مع أنّه مع الفارق؛ ضرورة أنّ الأصول الاعتقاديّة مسائل معدودة، بخلافها، فإنّها ممّا لا تعدّ ولا تحصى، ولا يكاد يتيسّر منالاجتهاد فيها - فعلاً - طولَ العمر إلّا للأوحديّ في كليّاتها، كما لا يخفى.

___________________________________________

مخصّص بأدلّة التقليد أو غير مشمول له أصلاً {مع احتمال أنّ الذمّ إنّما كان على تقليدهم للجاهل} أو على تقليدهم لمن كانوا يعرفون منه التعصّب والرّشوة وعدم المبالاة بالحقّ، ممّن دلّ العقل على عدم جواز قبول قوله، كما ألمح إلى ذلك الخبر حيث سأل الرّاوي عن الفرق بين تقليد اليهود لعلمائهم وتقليدنا لعلمائنا {أو} أنّ الذمّ إنّما كان على تقليدهم {في الأصول الاعتقاديّة الّتي لا بدّ فيها من اليقين} كما يدلّ على ذلك سياق بعض الآيات والرّوايات.

{وأمّا قياس المسائل الفرعيّة على الأصول الاعتقاديّة في أنّه كما لا يجوز التقليد فيها} أي: في الأصول الاعتقاديّة {مع الغموض فيها} وصعوبة تحصيلها عن دليل وبرهان {كذلك لا يجوز} التقليد {فيها} أي: في المسائل الفرعيّة {بالطريق الأولى لسهولتها} ويسر تحصيلها {فباطل} إذ ليس من مذهبنا القياس {مع أنّه مع الفارق، ضرورة أنّ الأصول الاعتقاديّة مسائل معدودة} فيمكن تحصيل اليقين فيها ولو مع صعوبتها {بخلافها} أي: المسائل الفرعيّة {فإنّها ممّا لا تعدّ ولا تحصى، ولا يكاد يتيسّر من الاجتهاد فيها - فعلاً - طول العمر إلّا للأوحديّ في كليّاتها} ورؤوسها {كما لا يخفى} فكيف يمكن الأمر باجتهاد كلّ أحد فيها؟ مضافاً إلى عدم تسليم أسهليّة الفروع من الأصول، فإنّ براهين الأصول الاعتقاديّة متيسّرة جدّاً. نعم،

ص: 404

فصل: إذا علم المقلّد اختلاف الأحياء في الفتوى، مع اختلافهم في العلم والفقاهة، فلا بدّ من الرّجوع إلى الأفضل إذا احتمل تعيّنه؛ للقطع بحجيّته، والشّكّ في حجيّة غيره، ولا وجه لرجوعه إلى الغير في تقليده إلّا على نحو دائر.

نعم، لا بأس برجوعه إليه إذا استقلّ عقله بالتساوي، وجواز الرّجوع إليه

___________________________________________

المناقشات في كلّ برهان حالها كحال المناقشة في أدلّة الفروع.

[فصل تقليد الأعلم]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، تقليد الأعلم

{فصل} في تقليد الأعلم، ونتكلّم تارةً حول العامي المحض، وتارةً حول الفاضل، فنقول: {إذا علم المقلّد اختلاف الأحياء في الفتوى} كما لو علم بأنّ أحد المجتهدين يوجب دعاء الرّؤية والآخر يقول باستحبابه {مع} علمه ب- {اختلافهم في العلم والفقاهة} وأنّ بعضهم أفضل من بعض {فلا بدّ} له {من الرّجوع إلى الأفضل} الأعلم منهم {إذا احتمل تعيّنه} من بينهم.

وإنّما يحكم عقله بتعيّنه {للقطع بحجيّته} أي: الأفضل {والشّكّ في حجيّة غيره} إذ يستقلّ عقله بأنّه لو قلّد الأفضل برئت ذمّته، ولو لم يقلّده - بأن قلّد المفضول - يشكّ في براءة الذمّة، فالعقل يلزمه بتقليد الأفضل دفعاً للضرر المحتمل وأمناً عن العقاب {ولا وجه لرجوعه إلى الغير} أي: غير الأفضل {في تقليده} بأن يسأل عن غير الأفضل بأنّه يجوز تقليدك أم لا، فإن أجاز قلّده {إلّا على نحو دائر} إذ تقليد غير الأفضل في جميع المسائل - الّتي منها مسألة التقليد - متوقّف على تقليد غير الأفضل، فجواز تقليد غير الأفضل توقّف على جواز تقليده.وإن شئت قلت: حجيّة قول المفضول متوقّفة على جواز تقليده، وجواز تقليده متوقّف على حجيّة قوله.

{نعم، لا بأس برجوعه} أي: المقلّد {إليه} أي: المفضول {إذا استقلّ عقله بالتساوي} بين الفاضل والمفضول في جواز التقليد {وجواز الرّجوع إليه} أي:

ص: 405

أيضاً، أو جوّز له الأفضل بعد رجوعه إليه.

هذا حال العاجز عن الاجتهاد، في تعيين ما هو قضيّة الأدلّة في هذه المسألة.

وأمّا غيره: فقد اختلفوا في جواز تقديم المفضول وعدم جوازه:

ذهب بعضهم(1) إلى الجواز. والمعروف بين الأصحاب - على ما قيل(2) - عدمه(3)،

وهو الأقوى؛ للأصل، وعدم دليل على خلافه.

و

___________________________________________

المفضول {أيضاً} كما يجوز الرّجوع إلى الفاضل {أو جوّز له الأفضل} تقليد المفضول {بعد رجوعه إليه} أي: الأفضل واستعلام الحال منه.

{هذا حال العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو قضيّة الأدلّة في هذه المسألة} أي: مسألة تقليد الفاضل أو المفضول {وأمّا غيره} أي: غير المقلّد {فقد اختلفوا في جواز تقديم المفضول} أي: جواز تقليدهمع وجود الأفضل {وعدم جوازه ذهب بعضهم} وهم جماعة من الفقهاء والأصوليّين ولا أستبعده كما شرحناه في الفقه(4) {إلى الجواز، والمعروف بين الأصحاب - على ما قيل - عدمه} فلا يجوز تقليد المفضول {وهو الأقوى} عند المصنّف {للأصل} إذ الشّكّ في الحجيّة موضوع عدم الحجيّة، فالاشتغال محكم {وعدم دليل على خلافه} أي: خلاف الأصل عدا ما يذكر من وجوه أربعة للمجوّزين {و} هي إطلاق الأدلّة فإنّها لم تقيّد الجواز بالأعلم، بل قال مثلاً: «من كان من الفقهاء» و«أهل الذكر» والسّيرة المستمرّة لدى المتشرّعة حيث يقلّدون كلّاً من الفاضل والمفضول، وأنّ وجوب تقليد

ص: 406


1- الفصول الغرويّة: 424.
2- مطارح الأنظار 2: 525.
3- راجع الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 801؛ معالم الدين: 246.
4- موسوعة الفقه 1: 126.

لا إطلاق في أدلّة التقليد - بعد الغضّ عن نهوضها على مشروعيّة أصله - ؛ لوضوح أنّها إنّما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم، لا في كلّ حال، من غير تعرّض أصلاً لصورة معارضته بقول الفاضل، كما هو شأن سائر الطّرق والأمارات، على ما لا يخفى.

ودعوى السّيرة على الأخذ بفتوى أحد المخالفين في الفتوى، من دون فحص عن أعلميّته، مع العلم بأعلميّة أحدهما، ممنوعة.

ولا عسر في تقليد الأعلم، لا عليه؛

___________________________________________

الأعلم عسر على الأعلم وعلى المقلّدين ولا عسر في الشّريعة، وأنّ تشخيص الأعلم مشكل، فإيجاب تقليده إلقاء النّاس في الحرج.

لكن في هذه الأدلّة مناقشات، إذ {لا إطلاق في أدلّةالتقليد - بعد الغضّ عن نهوضها} أي: الأدلّة {على مشروعيّة أصله -} إذ قد تقدّمت المناقشة في دلالة الآيات، وقد نوقش في الرّوايات أيضاً بضعف السّند أو الدلالة.

وإنّما قلنا بعدم الإطلاق فيها {لوضوح أنّها إنّما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم لا} أنّها بصدد الإطلاق وأنّه يجوز الأخذ بقوله {في كلّ حال} ليرجع في كلّ شكّ إليه {من غير تعرّض أصلاً لصورة معارضته} أي: قول المفضول {بقول الفاضل، كما هو شأن سائر الطّرق والأمارات} الّتي لا تعرّض لها بصورة التعارض. وإنّما تثبت أصل حجيّة الأمارة أو الطّريق {على ما لا يخفى} ولذا احتجنا إلى العلاج في صورة التعارض.

{ودعوى السّيرة على الأخذ بفتوى أحد المخالفين} بصيغة التثنية {في الفتوى من دون فحص عن أعلميّته، مع العلم بأعلميّة أحدهما ممنوعة} بل الأخذ إنّما يكون إذا لم يعلم بوجود أعلم في البين، بل ربّما يدّعى وجود السّيرة بالعكس وأنّهم يفحصون عن الأعلم.

{ولا عسر في تقليد الأعلم لا عليه} أي: على الأعلم، فإنّه توهّم أنّه إذا أراد

ص: 407

لأخذ فتاواه من رسائله وكتبه، ولا لمقلّديه؛ لذلك أيضاً.

وليس تشخيص الأعلميّة بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد.

مع أنّ قضيّة نفي العسر: الاقتصارُ على موضع العسر، فيجب في ما لا يلزم منهعسر، فتأمّل جيّداً.

وقد استدلّ للمنع أيضاً بوجوه:

أحدها: نقل الإجماع على تعيين تقليد الأفضل.

___________________________________________

جميع النّاس أخذ المسائل منه استغرقت أوقاته وهو عسر عليه، فالمنّة تقتضي عدم توجيه الشّارع النّاس جميعاً إليه {لأخذ فتاواه من رسائله وكتبه} فلا يرجع إليه في كلّ مسألة {ولا لمقلّديه} حيث توهّم أنّه لو وجب على جميع النّاس الأخذ منه وجب السّفر إلى بلد الأعلم وذلك حرج {لذلك أيضاً} إذ يأخذون فتاواه من رسائله كما هو المتعارف.

{وليس تشخيص الأعلميّة بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد} فكما يجب تشخيص المجتهد يجب تشخيص الأعلم ولا عسر فيه {مع} أنّه لو سلّم العسر على المجتهد أو المقلّد أو في تشخيص الأعلم لم يقتض ذلك عدم وجوب تقليد الأعلم مطلقاً، بل {إنّ قضيّة نفي العسر} والحرج {الاقتصار على موضع العسر} إذ هو شخصيّ لا نوعيّ {فيجب} تقليد الأعلم {في ما لا يلزم منه عسر} ويجوز تقليد غيره في ما يلزم منه العسر {فتأمّل جيّداً} وراجع الفقه(1) حتّى تعرف الجواب عن هذه المناقشات.

{وقد استدلّ للمنع} عن تقليد المفضول {أيضاً بوجوه} أُخر:

{أحدها: نقل الإجماع على تعيين تقليدالأفضل} فلا يجوز تقليد المفضول.

ص: 408


1- موسوعة الفقه 1: 131.

ثانيها: الأخبار الدالّة على ترجيحه مع المعارضة، كما في المقبولة وغيرها، أو على اختياره بين النّاس، كما دلّ عليه المنقول عن أميرالمؤمنين(علیه السلام): «اختر للحكم بين النّاس أفضلَ رعيّتك»(1).

ثالثها: أنّ قول الأفضل أقرب من غيره جزماً، فيجب الأخذ به عند المعارضة عقلاً.

ولا يخفى ضعفها:

أمّا الأوّل: فلقوّة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين للكلّ - أو الجلّ - هو الأصل،

___________________________________________

{ثانيها: الأخبار الدالّة على ترجيحه} أي: الأفضل {مع المعارضة} مع غيره {كما في المقبولة وغيرها} حيث قال(علیه السلام): «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما»(2)،

وفي خبر داود: «ينظر إلى أفقههما»(3)، وفي خبر موسى: «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما»(4) {أو على اختياره بين النّاس} للقضاء {كما دلّ عليه المنقول عن أميرالمؤمنين(علیه السلام)} في عهده الطّويل إلى مالك الأشتر {«اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك»} وباب القضاء والفتوى واحد، كما أنّ باب الرّواية والإفتاء واحد.{ثالثها: أنّ قول الأفضل أقرب من غير جزماً} إلى الواقع {فيجب الأخذ به عند المعارضة عقلاً} إذ ملاك الحجيّة فيه أقوى.

{ولا يخفى ضعفها} أي: ضعف هذه الوجوه الثلاثة:

{أمّا الأوّل} أي: الإجماع {فلقوّة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين} للأفضل {للكلّ أو الجلّ} الجار متعلّق ب- «القول» {هو الأصل} أي: أصالة

ص: 409


1- نهج البلاغة، الكتاب: 53.
2- الكافي 1: 68.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 8.
4- تهذيب الأحكام 6: 301.

فلا مجال لتحصيل الإجماع مع الظفر بالاتفاق، فيكون نقله موهوناً؛ مع عدم حجيّة نقله ولو مع عدم وهنه.

وأمّا الثّاني: فلأنّ الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة - لأجل رفع الخصومة الّتي لا تكاد ترتفع إلّا به - لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى، كما لا يخفى.

وأمّا الثّالث: ممنوع، صغرى وكبرى:

أمّا الصّغرى: فلأجل أنّ فتوى غير الأفضل ربّما يكونُ أقرب من فتواه؛ لموافقته لفتوى من هو أفضل منه، ممّن مات.

___________________________________________

الاشتغال الّتي ذكرناها سابقاً {فلا مجال لتحصيل الإجماع} الّذي هو حجّة حتّى {مع الظفر بالاتفاق} من الكلّ، وحيث كان الإجماع محتمل الاستناد {فيكون نقله موهوناً} من هذه الجهة ولو قلنا بحجيّة الإجماع المنقول، فكيف {مع عدم حجيّة نقله} أصلاً {ولو مع عدم وهنه} بكونه محتمل الاستناد مضافاً إلى مخالفة غير واحد، فكيف يمكن دعوى الإجماع؟!{وأمّا الثّاني} وهي الأخبار الدالّة على الترجيح {فلأنّ الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة} وفصل المنازعات {لأجل رفع الخصومة الّتي لا تكاد ترتفع إلّا به} أي: بالترجيح {لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى} فلا مجال لاستفادة الملاك والمناط {كما لا يخفى} بأدنى تأمّل.

{وأمّا الثّالث} وهو كون قول الأفضل أقرب فيجب الأخذ به، فهو {ممنوع صغرى وكبرى: أمّا الصّغرى} وهي أنّ قول الأفضل أقرب {فلأجل أنّ فتوى غير الأفضل ربّما يكون أقرب من فتواه} أي: فتوى الأفضل {لموافقته} أي: فتوى المفضول {لفتوى من هو أفضل منه} أي: من الأفضل {ممّن مات} كما لو كان فتوى المفضول مطابقاً لفتوى الشّيخ المرتضى(رحمة الله).

ص: 410

ولا يُصغى إلى: أنّ فتوى الأفضل أقربُ في نفسه؛ فإنّه لو سلّم أنّه كذلك، إلّا أنّه ليس بصغرى لما ادّعي عقلاً من الكبرى؛ بداهة أنّ العقل لا يرى تفاوتاً بين أن يكون الأقربيّة في الأمارة لنفسها، أو لأجل موافقتها لأمارة أُخرى، كما لا يخفى.

وأمّا الكبرى: فلأنّ ملاك حجيّة الغير تعبّداً - ولو على نحو الطّريقيّة - لم يعلم أنّه القرب إلى الواقع،

___________________________________________

{و} إن قلت: هذا الإيراد غير وارد، إذ مرادنا أنّ فتوى الأفضل أقرب في نفسه من غير نظر إلى جهة خارجيّة.قلت: {لا يصغى إلى أنّ فتوى الأفضل أقرب في نفسه، فإنّه لو سلّم أنّه كذلك} ولم يناقش بأنّه حيث كان باب الواقع منسدّاً كانت الأقربيّة بالنسبة إلى ما يستفاد من الرّوايات ونحوها لا بالنسبة إلى الواقع {إلّا أنّه ليس بصغرى لما ادّعي عقلاً من الكبرى} الّتي هي وجوب الأخذ بملاك الأقربيّة.

{بداهة أنّ العقل} لا يعتبر الأقرب في نفسه، بل يعتبر الأقرب من جميع الحيثيّات الداخليّة والخارجيّة، إذ {لا يرى تفاوتاً بين أن يكون الأقربيّة في الأمارة لنفسها أو لأجل موافقتها لأمارة أُخرى} كفتوى المفضول الّذي هو موافق لفتوى أفضل ميّت {كما لا يخفى}.

وعلى هذا فلو كان الملاك الأقربيّة إلى الواقع يجب أن يلاحظ الأفضل بقول مطلق من الأحياء والأموات، وينظر أيّ الفتويين مطابق له فيؤخذ به، سواء كان للأفضل أو المفضول الحيّين.

{وأمّا الكبرى} وهو وجوب الأخذ بقول الأقرب إلى الواقع {فلأنّ ملاك حجيّة قول الغير} أي: المجتهد {تعبّداً - ولو على نحو الطّريقيّة - لم يعلم أنّه القرب إلى الواقع} حتّى يلزم الأخذ بالأقرب، وإنّما قال: «ولو» لأنّه لو كانت الحجيّة من باب السّببيّة لم يكن الملاك القرب، إذ لا يلاحظ فيه الواقع وإنّما يلاحظ نفس

ص: 411

فلعلّه يكون ما هو في الأفضل وغيره سيّان، ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلاً.

نعم، لو كان تمام الملاك هو القرب، - كما إذا كان حجّة بنظر العقل - لتعيّن الأقربُ قطعاً، فافهم.فصل: اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي:

والمعروف بين الأصحاب: الاشتراط.

وبين العامّة: عدمه، وهو خيرة الأخباريّين وبعض المجتهدين من أصحابنا(1).

وربّما نُقل تفاصيل، منها: التفصيل بين

___________________________________________

السّبب {فلعلّه} أي: الملاك {يكون ما} أي: شيء {هو في الأفضل و} في {غيره سيّان ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلاً} فلعلّه كون الأخذ من تلاميذ الأئمّة^ مناطاً، كما ورد «من فسّر القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ»(2).

{نعم، لو كان تمام الملاك هو القرب} إلى الواقع {كما إذا كان حجّة بنظر العقل} الّذي لا يرى الحجيّة في شيء إلّا لمصلحة إدراك الواقع {لتعيّن الأقرب قطعاً} لكن أنّى لنا بإثبات هذا الملاك {فافهم} لعلّه إشارة إلى أنّ ما يستفاد من أخبار التعارض هو كون الملاك، ذلك لأنّها ذكرت مرجّحات مقربة إلى الواقع - غالباً - .

[فصل تقليد الميت]

خاتمة في الاجتهاد والتقليد، تقليد الميت

{فصل} في اشتراط حياة المفتي {اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي} وأنّه هل يجوز تقليد الميّت أم لا؟

على أقوال {والمعروف بين الأصحاب الاشتراط} مطلقاً {وبين العامّة عدمه} مطلقاً {وهو} أي: عدم الاشتراط{خيرة الأخباريّين وبعض المجتهدين} كالميرزا القمّي صاحب القوانين {من أصحابنا. وربّما نقل تفاصيل: منها التفصيل بين}

ص: 412


1- الفوائد المدنيّة: 149؛ الأصول الأصليّة: 150؛ قوانين الأصول 1: 270.
2- وسائل الشيعة 27: 205.

البدوي فيشترط الحياة، والاستمراري فلا يشترط(1).

والمختار: ما هو المعروف بين الأصحاب؛ للشكّ في جواز تقليد الميّت، والأصل عدم جوازه.

ولا مخرج عن هذا الأصل إلّا ما استدلّ به المجوّز على الجواز من وجوه ضعيفة:

منها: استصحاب جواز تقليده في حال حياته(2).

___________________________________________

التقليد {البدوي} كما لو لم يقلّد هذا الشّخص {فيشترط الحياة} فلا يجوز تقليد الميّت ابتداءً {و} بين التقليد {الاستمراري} بأن قلّد شخصاً ثمّ مات فيجوز البقاء على تقليده {فلا يشترط} الحياة، ومنها التفصيل بين وجود المجتهد الحيّ فلا يجوز تقليد الميّت، وبين عدمه فيجوز، ومنها التفصيل بين كون المجتهد مفتياً طبق مضامين الأخبار كالصدوقين فيجوز، وبين غيره فلا يجوز، ومنها غير ذلك.

{والمختار} عند المصنّف {ما هو المعروف بين الأصحاب} من عدم الجواز مطلقاً، وإن كنّا لم نستبعد مقالة صاحب القوانين في الفقه. وإنّما اختار المصنّف العدم مطلقاً {للشكّ في جواز تقليد الميّت والأصل عدم جوازه} لأنّ الشّكّ في الحجيّة موضوع عدم الحجيّة، كما عرفت مراراً {ولا مخرج عن هذاالأصل إلّا ما استدلّ به المجوّز على الجواز من وجوه ضعيفة} ذكر المصنّف(رحمة الله) منها أربعة: الاستصحاب، والإطلاقات، والسّيرة، ودليل الانسداد. والتأمّل قاضٍ بصحّة الثلاثة الأُوَل وإن ناقش فيها المصنّف.

وكيف كان، ف- {منها استصحاب جواز تقليده في حال حياته} فكما جاز في ذلك الوقت جاز بعد موته.

ص: 413


1- الفصول الغرويّة: 422.
2- مفاتيح الأصول: 624.

ولا يذهب عليك: أنّه لا مجال له، لعدم بقاء موضوعه عرفاً؛ لعدم بقاء الرّأي معه، فإنّه متقوّمٌ بالحياة بنظر العرف - وإن لم يكن كذلك واقعاً - ؛ حيث إنّ الموت عند أهله موجب لانعدام الميّت ورأيه.

ولا ينافي ذلك صحّة استصحاب بعض أحكام حال حياته، كطهارته ونجاسته، وجواز نظر زوجته إليه؛ فإنّ ذلك إنّما يكون في ما لا يتقوّم بحياته عرفاً، بحسبان بقائه ببدنه الباقي بعد موته،

___________________________________________

{ولا يذهب عليك أنّه لا مجال له} أي: لهذا الاستصحاب {لعدم بقاء موضوعه} أي: موضوع جواز التقليد {عرفاً لعدم بقاء الرّأي معه} أي: مع الموت {فإنّه} أي: الرّأي {متقوّم بالحياة بنظر العرف وإن لم يكن} الرّأي {كذلك} متقوّماً بالحياة {واقعاً} ودقّة، وإنّما يرى العرف انعدام الموضوع {حيث إنّ الموت عند أهله} أي: أهل العرف {موجب لانعدام الميّت ورأيه} كليهما.{و} إن قلت: لو كان الموضوع غير باق بعد الموت فكيف يستصحب بعض أحوال الميّت الّتي كانت في حال الحياة؟

قلت: {لا ينافي ذلك} الّذي ذكرنا من انعدام الموضوع بالنسبة إلى جواز التقليد {صحّة استصحاب بعض أحكام حال حياته كطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إليه} وجواز نظره إلى زوجته الميتة ونحوها {فإنّ ذلك} الاستصحاب {إنّما يكون في ما} أي: في موضوع {لا يتقوّم بحياته عرفاً} فيرى العرف بقاء الموضوع ولو بعد الموت {بحسبان بقائه} أي: الميّت {ببدنه الباقي بعد موته} فقسم من الأحكام قد رُتّبَ على موضوع بحيث يرى العرف ذهاب ذلك الموضوع بالموت، وقسم من الأحكام قد رتبت على موضوع بحيث يرى العرف بقاءه.

فالشهادة لدى الطّلاق وجواز الوطي للزوجين وأشباههما مرتّبة على الموضوع الزائل وإن كان روحه تشهد الطّلاق وجسمه الممكن من الاستمتاع به باقٍ.

ص: 414

وإن احتمل أن يكون للحياة دخل في عروضه واقعاً.

وبقاءُ الرّأي لا بدّ منه في جواز التقليد قطعاً، ولذا لا يجوز التقليد في ما إذا تبدّل الرّأي، أو ارتفع لمرض أو هرم إجماعاً.

وبالجملة: يكون انتفاء الرّأي بالموت - بنظر العرف - بانعدام موضوعه، ويكون حشره في القيامة إنّما هو من باب إعادة المعدوم، وإن لم يكن كذلك حقيقة؛ لبقاء موضوعه، وهو النّفس النّاطقة الباقية حال الموت لتجرّده.

___________________________________________

وجواز النّظر والطّهارة في المسلم والنّجاسة في الكافر قد رتبت على الموضوع الباقي {وإن احتمل أن يكون للحياة دخل في عروضه} أي: عروض هذا الحكم المراد استصحابه {واقعاً} وفي الحقيقة، لكن هذا الاحتمال غير ضائر بعد بقاء الموضوع العرفي.

{و} إذ قد عرفت زوال الرّأي الّذي هو موضوع جواز التقليد عرفت عدم جواز تقليده؛ لأنّ {بقاء الرّأي لا بدّ منه في جواز التقليد قطعاً، ولذا لا يجوز التقليد في ما إذا تبدّل الرّأي أو ارتفع لمرض أو هرم إجماعاً} وإن كان في المقيس عليه مناقشة، وهي أنّ تبدّل الرّأي من وادٍ آخر؛ لأنّ معناه ظهور خطأ الرّأي الأوّل، وارتفاعه لمرض أو هرم أوّل الكلام في كونه سبباً لارتفاع جواز التقليد، إذ الإجماع محصّله غير حاصل ومنقوله غير ناتج.

{وبالجملة يكون انتفاء الرّأي بالموت بنظر العرف ب-} سبب {انعدام موضوعه} وإن كان الرّأي باق حقيقة وواقعاً {ويكون حشره} أي: المجتهد {في القيامة} مع رأيه {إنّما هو من باب إعادة المعدوم} بنظرهم {وإن لم يكن كذلك حقيقة} ودقّة {لبقاء موضوعه} أي: موضوع الرّأى المتقوّم به {وهو النّفس النّاطقة الباقية حال الموت لتجرّده} وإن كان في تجرّد النّفس نظر بيّن، إذ لا دليل عليه لكن بقاؤها لا

ص: 415

وقد عرفت في باب الاستصحاب: أنّ المدار في بقاء الموضوع وعدمه هو العرف، فلا يجدي بقاء النّفس عقلاً في صحّةالاستصحاب مع عدم مساعدة العرف عليه، وحِسبانِ أهله أنّها غير باقية، وإنّما تعاد يوم القيامة بعد انعدامها، فتأمّل جيّداً.

لا يقال: نعم، الاعتقاد والرّأي وإن كان يزول بالموت - لانعدام موضوعه - إلّا أنّ حدوثه في حال حياته، كافٍ في جواز تقليده في حال موته، كما هو الحال في الرّواية.

___________________________________________

إشكال فيه، قال - سبحانه - : {وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ}(1)، وقال عليّ(علیه السلام): «خلقنا وإيّاكم للبقاء لا للفناء»(2).

{وقد عرفت في باب الاستصحاب أنّ المدار في بقاء الموضوع وعدمه هو العرف} وقد عرفت أنّهم لا يرون بقاء الموضوع في محلّ الكلام، لكن فيه إشكالاً حيث يرى العرف ذلك، بل لو قيل للعرف أنّ المجتهد بموته ليس رأيه حجّة؛ لأنّه فنى، يتعجّب من ذلك ولا يرى للموت دخلاً في رأيه {فلا يجدي بقاء النّفس} النّاطقة الّتي هي موضوع الرّأي {عقلاً في صحّة الاستصحاب} لجواز التقليد {مع عدم مساعدة العرف عليه} أي: على البقاء {وحسبان أهله} أي: أهل العرف {أنّها} أي: النّفس {غير باقية وإنّما تعاد يوم القيامة} بقدرة اللّه - سبحانه - {بعد انعدامها، فتأمّل جيّداً} حتّى لا يشتبه عليك الأمر.

{لا يقال: نعم الاعتقاد والرّأي وإن كان}كلّ واحد منهما {يزول بالموت} بنظر العرف فلا مجال للاستصحاب من هذه الجهة {لانعدام موضوعه إلّا أنّ حدوثه} أي: حدوث الرّأي {في حال حياته كاف في جواز تقليده في حال موته، كما هو الحال في الرّواية} فإنّ صدور الرّواية في آنٍ كافٍ في جواز العمل به ولو بعد موت الرّاوي.

ص: 416


1- سورة المؤمنون، الآية: 100.
2- الأمالي (للشيخ الطوسي): 216؛ بحار الأنوار 74: 403.

فإنّه يقال: لا شبهة في أنّه لا بدّ في جوازه من بقاء الرّأي والاعتقاد، ولذا لو زال بجنون وتبدّل ونحوهما لما جاز قطعاً، كما أُشير إليه آنفاً.

هذا بالنسبة إلى التقليد الابتدائي.

وأمّا الاستمراري: فربّما يقال بأنّه قضيّة استصحاب الأحكام الّتي قلّده فيها؛ فإنّ رأيه وإن كان مناطاً لعروضها وحدوثها، إلّا أنّه عرفاً من أسباب العروض، لا من مقوّمات الموضوع والمعروض.

___________________________________________

{فإنّه يقال: لا شبهة في أنّه لا بدّ في جوازه} أي: التقليد {من بقاء الرّأي والاعتقاد، ولذا لو زال بجنون وتبدّل ونحوهما} كالهرم {لما جاز} البقاء {قطعاً كما أُشير إليه آنفاً} وذلك بخلاف الرّواية، فإنّها غير متقوّمة بالرأي، ولذا لو جنّ الرّاوي أو خرج عن العدالة لم يضرّ ذلك بروايته، فقياس التقليد على أخذ الرّواية مع الفارق.

{هذا} كلّه {بالنسبة إلى التقليد الابتدائي} كأن يقلّد شخص الشّيخ المرتضى(رحمة الله) فعلاً {وأمّا} التقليد{الاستمراري} بأن كان مقلّداً لمجتهد ثمّ مات ذلك المجتهد، فهل يجوز البقاء على تقليده أم لا؟ {فربّما يقال: بأنّه} أي: جواز البقاء {قضيّة استصحاب الأحكام الّتي قلّده فيها} فكان سابقاً الغسالة في حقّه نجساً وصلاة الجمعة واجبة - مثلاً - فإذا مات وشكّ في أنّه هل بقيت تلك الأحكام أم لا استصحبها {فإنّ رأيه} أي: المجتهد {وإن كان مناطاً لعروضها} أي: عروض تلك الأحكام {وحدوثها} على موضوعاتها، إذ رأي المجتهد سبب لعروض النّجاسة على الغسالة والوجوب على صلاة الجمعة {إلّا أنّه} أي: الرّأي {عرفاً من أسباب العروض لا من مقوّمات الموضوع والمعروض} كالتغيّر الّذي هو من أسباب عروض النّجاسة على الماء لا من مقوّماتها حتّى تزول بزواله.

ص: 417

ولكنّه لا يخفى: أنّه لا يقين بالحكم شرعاً سابقاً؛ فإنّ جواز التقليد إن كان بحكم العقل وقضيّةِ الفطرة - كما عرفت - فواضحٌ؛ فإنّه لا يقتضي أزيد من تنجّز ما أصابه من التكليف، والعذر في ما أخطأ، وهو واضح.

وإن كان بالنقل، فكذلك، على ما هو التحقيق: من أنّ قضيّة الحجيّة شرعاً ليست إلّا ذلك، لا إنشاء أحكام شرعيّة على طبق مؤدّاها، فلا مجال لاستصحاب ما قلّده؛ لعدم القطع به سابقاً،

___________________________________________

{ولكنّه لا يخفى} أنّ هذا الاستصحاب مبنيّ على أن يكون سابقاً حكم، بأن تكون نجاسة ووجوب - مثلاً - لكن ذلك غير مسلّم، إذ قول المجتهد لا يوجب إلّا التنجيز والإعذار، فإنّا لا نعلم بالأحكام الواقعيّة وقد سبق أنّه لاحكم ظاهريّ لنا فلا حكم سابقاً حتّى يستصحب، ف- {إنّه لا يقين بالحكم شرعاً} أي: بالحكم الشّرعي {سابقاً} في حال حياته حتّى يستصحب {فإنّ جواز التقليد إن كان بحكم العقل} ولزوم رجوع الجاهل إلى العالم {وقضيّة الفطرة، كما} سبق و{عرفت} أنّه عمدة الدليل {فواضح} أنّه لا يقين بالحكم سابقاً {فإنّه} أي: العقل {لا يقتضي أزيد من تنجّز ما أصابه} المجتهد {من التكليف والعذر في ما أخطأ} فإنّ العقل لا يقول بأنّ مقالة المجتهد هي الحكم الواقعي، وإنّما يقول: بأنّك معذور إن أخطأ ومنجز عليك إن أصاب {وهو واضح} لا مرية فيه.

{وإن كان} جواز التقليد {بالنقل} وبالآيات والأخبار {فكذلك} لا حكم في البين وإنّما هو تنجيز وإعذار {على ما هو التحقيق من أنّ قضيّة الحجيّة شرعاً} لأيّ شيء سواء كان خبراً أو إجماعاً أو فتوى أو غيرها {ليست إلّا ذلك} التنجيز والإعذار {لا إنشاء أحكام شرعيّة على طبق مؤدّاها} أي: مؤدّى الحجّة.

وعلى هذا {فلا مجال لاستصحاب ما قلّده} من الأحكام الشّرعيّة التكليفيّة والوضعيّة {لعدم القطع به} أي: بالحكم {سابقاً} حتّى يستصحب لاحقاً

ص: 418

إلّا على ما تكلّفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب، فراجع.

ولا دليل على حجيّة رأيه السّابق في اللّاحق.

وأمّا بناءً على ما هو المعروف بينهم -من كون قضيّة الحجيّة الشّرعيّة: جعلُ مثل ما أدّت إليه من الأحكام الواقعيّة التكليفيّة، أو الوضعيّة شرعاً في الظاهر - فلاستصحاب ما قلّده من الأحكام وإن كان مجال، بدعوى: بقاء الموضوع عرفاً؛ لأجل كون الرّأي عند أهل العرف من أسباب العروض، لا من مقوّمات المعروض.

___________________________________________

{إلّا على ما تكلّفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب} وهو التنبيه الثّاني {فراجع} فإنّه أشكل هناك بأنّ مؤدّى الأمارة والطّريق ليس حكماً فكيف يستصحب إذا شكّ؟

وأجاب بأنّ الاستصحاب في الحقيقة إثبات للملازمة الشّرعيّة بين الثبوت والبقاء، فيستصحب الحكم على تقدير ثبوته، فعند موت المجتهد يستصحب الحكم الّذي كان مؤدّى الفتوى على تقدير ثبوت الحكم ويرتّب عليه ما له من الأثر.

{و} لكن {لا دليل على حجيّة رأيه السّابق في اللّاحق} إذ حجيّته كانت حين وجوده، فإذا انعدم الرّأي - حسب النّظر العرفي - فلا يبقى مجال للاستصحاب.

هذا كلّه بناءً على ما رأيناه من أنّ معنى الحجيّة ليس إلّا جعل التنجيز والإعذار {وأمّا بناءً على ما هو المعروف بينهم من كون قضيّة الحجيّة الشّرعيّة} إنشاء أحكام ظاهريّة ب- {جعل مثل ما أدّت} الأمارة والطّريق {إليه من الأحكام الواقعيّة التكليفيّة أو الوضعيّة} فإذا أدّت الأمارة إلى وجوب الجمعة وإلى نجاسة العصير كان معنى ذلك جعل وجوب ونجاسة لهما {شرعاً في الظاهر} سواء طابق الواقع أم لا {فلاستصحاب ما قلّده من الأحكاموإن كان مجال} لوجود الحكم الظاهري المجعول سابقاً، فيستصحب حال الشّكّ لاحقاً {بدعوى بقاء الموضوع عرفاً، لأجل كون الرّأي عند أهل العرف من أسباب العروض} أي: عروض الوجوب للجمعة والنّجاسة للعصير - مثلاً - {لا من مقوّمات المعروض}.

ص: 419

إلّا أنّ الإنصاف: عدمُ كون الدعوى خاليةً عن الجزاف؛ فإنّه من المحتمل - لولا المقطوع - أنّ الأحكام التقليديّة عندهم أيضاً ليست أحكاماً لموضوعاتها بقول مطلق، بحيث عدّ من ارتفاع الحكم - عندهم - من موضوعه، بسبب تبدّل الرّأي ونحوه، بل إنّما كانت أحكاماً لها بحسب رأيه، بحيث عدّ من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه - عند التبدّل - ، ومجرّدُ احتمال ذلك يكفي في عدم صحّة استصحابها؛ لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفاً، فتأمّل جيّداً.

___________________________________________

{إلّا أنّ الإنصاف عدم كون الدعوى خالية عن الجزاف} فإنّا لا نسلّم كون العرف يرى بقاء الموضوع {فإنّه من المحتمل - لولا المقطوع - أنّ الأحكام التقليديّة} أي: الّتي يجب التقليد فيها {عندهم} أي: عند أهل العرف {أيضاً} كما هو محتمل واقعاً {ليست أحكاماً لموضوعاتها بقول مطلق} بأن تكون النّجاسة للعصير والوجوب للصلاة مطلقاً، سواء كان هناك رأي المجتهد أم لا {بحيث} لو زال الحكم بالموت {عدّ من ارتفاع الحكم - عندهم - من موضوعه بسبب تبدّل الرّأي ونحوه} كزوالهبجنون أو هرم أو مرض {بل إنّما كانت} الأحكام {أحكاماً لها} أي: للموضوعات {بحسب رأيه بحيث عدّ من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدّل}.

والحاصل: أنّ من المحتمل كون العرف يرى أنّ زوال الحكم بالموت زوالاً بسبب زوال الموضوع لا زوالاً مع بقاء الموضوع {ومجرّد احتمال ذلك} أي: احتمال عدم بقاء الموضوع العرفي {يكفي في عدم صحّة استصحابها} أي: استصحاب الأحكام السّابقة للمجتهد الميّت {لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفاً} في صحّة الاستصحاب {فتأمّل جيّداً} حتّى لا تقول: إنّ الموضوع العرفي باقٍ وإنّ الرّأي كان بنظرهم من قبيل الواسطة في العروض، كما يرون بقاء الأحكام بعد موت الرّواة.

ص: 420

هذا كلّه، مع إمكان دعوى: أنّه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال الرّأي - بسبب الهرم أو المرض - إجماعاً، لم يجز في حال الموت بنحو أولى قطعاً، فتأمّل.

ومنها: إطلاق الآيات الدالّة على جواز التقليد.

وفيه: - مضافاً إلى ما أشرنا إليه من عدم دلالتها عليه - منعُ إطلاقها على تقدير دلالتها، وإنّما هو مسوق لبيان أصل تشريعه، كما لا يخفى.

ومنه انقدح حال إطلاق ما دلّ من الرّوايات على التقليد،

___________________________________________

{هذا كلّه} لبيان عدم جواز البقاء على التقليد استمراراً {معإمكان دعوى} دليل آخر لعدم جواز البقاء، ف- {إنّه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال الرّأي بسبب الهرم أو المرض} أو الجنون {إجماعاً لم يجز في حال الموت بنحو أولى قطعاً} إذ هناك الحياة باقية والنّفس النّاطقة على حالها بنظر العرف، وفي حال الموت لا حياة ولا نفس ناطقة {فتأمّل} لعلّه إشارة إلى عدم صحّة القياس لوجود الفارق الّذي هو الإجماع أوّلاً، وأنّ الرّأي قد زال هناك قطعاً بخلافه هنا، فإنّه لا يعلم بزوال الرّأي عن النّفس النّاطقة ثانياً.

{ومنها} أي: من الأدلّة الّتي استمسك بها القائل بجواز تقليد الميّت {إطلاق الآيات} والأخبار {الدالّة على جواز التقليد} فيشمل حال الموت كما يشمل حال الحياة.

{وفيه مضافاً إلى ما أشرنا إليه} سابقاً {من عدم دلالتها} أي: الآيات {عليه} أي: على أصل التقليد، لما عرفت من المناقشات فيها {منع إطلاقها على تقدير دلالتها وإنّما هو} أي: الكلام {مسوق لبيان أصل تشريعه} أي: تشريع التقليد والإطلاق لها {كما لا يخفى}.

{ومنه انقدح حال إطلاق ما دلّ من الرّوايات على التقليد} فإنّها وإن كانت دالّة،

ص: 421

مع إمكان دعوى الانسباق إلى حال الحياة فيها.

ومنها: دعوى أنّه لا دليل على التقليد إلّا دليل الانسداد، وقضيّته جواز تقليد الميّت كالحيّ، بلا تفاوت بينهما أصلاً، كمالا يخفى(1).

وفيه: أنّه لا يكاد تصلُ النّوبة إليه؛ لما عرفت من دليل العقل والنّقل عليه.

___________________________________________

كما اخترنا، لكنّها لا إطلاق لها {مع إمكان دعوى الانسباق إلى حال الحياة فيها} لأنّه قال: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ}(2)، وقال: {وَلِيُنذِرُواْ}(3)، وقال: «انظروا إلى رجل منكم»(4)،

وهكذا، والكلّ لا يصدق بعد الموت.

لكن فيه أنّ الانسباق لو كان فهو بدويّ لا يعتني به العرف، كما يقال مثل ذلك في باب الرّواية.

{ومنها:} أي: من أدلّة القائل بجواز التقليد للميّت {دعوى أنّه لا دليل على التقليد إلّا دليل الانسداد} لأنّ الآيات والرّوايات وبناء العقلاء لا دلالة لها على ذلك، فينسدّ باب العلم بالأحكام على العاميّ فلا بدّ من التقليد {وقضيّته} أي: مقتضى دليل الانسداد {جواز تقليد الميّت كالحيّ بلا تفاوت بينهما أصلاً، كما لا يخفى} إذ المناط هو الظنّ النّوعي وهو حاصل منهما على حدّ سواء.

{وفيه: أنّه} غير تامّ، إذ الأدلّة الاجتهاديّة موجودة لجواز التقليد كما عرفت سابقاً، ف- {لا يكاد تصل النّوبة إليه} أي: إلىالانسداد {لما عرفت من دليل العقل والنّقل عليه} أي: على جواز التقليد.

ص: 422


1- قوانين الأصول 2: 266.
2- سورة النحل، الآية: 43.
3- سورة التوبة، الآية: 122.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 2؛ الكافي 7: 412.

ومنها: دعوى السّيرة على البقاء؛ فإنّ المعلومَ من أصحاب الأئمّة^ عدمُ رجوعهم عمّا أخذوه تقليداً بعد موت المفتي(1).

وفيه: منعُ السّيرة في ما هو محلّ الكلام. وأصحابُهم^ إنّما لم يرجعوا عمّا أخذوه من الأحكام، لأجل أنّهم غالباً إنّما كانوا يأخذونها ممّن ينقلها عنهم^ بلا واسطة أحد، أو معها من دون دخل رأي النّاقل فيه أصلاً، وهو ليس بتقليد، كما لا يخفى، ولم يعلم إلى الآن حالُ من تعبّد بقول غيره ورأيه، أنّه كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته.

___________________________________________

{ومنها:} أي: من أدلّة جواز تقليد الميّت {دعوى السّيرة على البقاء} على تقليد الميّت {فإنّ المعلوم من أصحاب الأئمّة^ عدم رجوعهم عمّا أخذوه تقليداً بعد موت المفتي} والسّيرة حجّة لما تتضمّنها من تقرير المعصوم.

{وفيه: منع السّيرة في ما هو محلّ الكلام} من التقليد الّذي هو أخذ فتوى الغير تعبّداً ممّا لرأيه دخل في الاستنباط {وأصحابهم^ إنّما لم يرجعوا عمّاأخذوه من الأحكام} بعد موت الوسائط {لأجل أنّهم غالباً إنّما كانوا يأخذونها ممّن ينقلها عنهم^ بلا واسطة أحد أو معها} أي: مع الواسطة {من دون دخل رأي النّاقل فيه أصلاً} فإنّه كان نقل رواية {وهو ليس بتقليد، كما لا يخفى}.

{و} إن قلت: قد كان فيهم من يفتي كما قال(علیه السلام) لأبان: «أفت النّاس»(2) قلت: {لم يعلم إلى الآن حال من تعبّد بقول غيره ورأيه} هل {أنّه كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته} وهل أنّ الإمام كان قد قرّره على تقدير عدم رجوعه، وإن كان الظاهر صحّة دعوى السّيرة؛ لأنّها أمر طبيعي.

ص: 423


1- راجع مطارح الأنظار 2: 629.
2- مستدرك الوسائل 17: 315.

ومنها: غير ذلك ممّا لا يليق بأن يسطر أو يذكر.

___________________________________________

{ومنها: غير ذلك} مثل أنّ أنبياء بني إسرائيل كان يجوز العمل بقولهم بعد موتهم فكذلك العلماء لعموم قوله(علیه السلام): «علماء أُمّتي كأنبياء بني إسرائيل»(1)، ومفهوم قوله(علیه السلام): «ذروا ما رأوا»(2)،

حيث دلّ على جواز الأخذ برأي من لم ينحرف مطلقاً، وأنّ الرّجوع إلى تقليد الحيّ موجب للعسر لاحتياجه إلى تعلّم المسائل من جديد مع قطع النّظر عن لزوم الإعادة والقضاء في بعض عباداته ومعاملاته، إلى غيرها {ممّا لا يليق بأن يسطر أو يذكر} لوهنها وضعفها.وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الشّرح.

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

وقد تمّ بيد شارحه

محمّد بن المهدي الحسيني الشيرازي

ص: 424


1- بحار الأنوار 2: 22.
2- وسائل الشيعة 27: 142.

فهرست المحتويات

فهرست المحتويات

فصل: في الاستصحاب... 5

تعريف الاستصحاب.... 5

الاستصحاب مسألة أصوليّة..... 8

اعتبار اتّحاد القضية المشكوكة والمتيقنة...... 10

لا فرق في استصحاب الحكم الشرعي بين المستند إلى النقل أو العقل..... 15

حجيّة الاستصحاب مطلقاً والأدلة عليها..... 20

الوجه الأوّل: بناء العقلاء.... 20

الوجه الثّاني: الاستصحاب يفيد الظن بالبقاء.... 23

الوجه الثّالث: الإجماع...... 24

الوجه الرّابع: الأخبار المستفيضة..... 25

صحيحة زرارة الأولى...... 25

تقريب الاستدلال بالرواية..... 27

عدم اختصاص الصحيحة بالوضوء... 29

عدم اختصاص الصحيحة بالشك في الرافع...... 32

الاستدلال على اختصاص الأخبار بالشك في الرافع..... 35

عموم الرواية لاستصحاب الموضوع والحكم..... 43

صحيحة زرارة الثّانية... 44

تقريب الاستدلال بالرواية..... 46

صحيحة زرارة الثّالثة... 57

تقريب الاستدلال بالرواية..... 58

رواية محمد بن مسلم...... 62

ص: 425

تقريب الاستدلال بالرواية..... 63

الفرق بين قاعدة اليقين والاستصحاب.... 63

مكاتبة القاساني... 64

تقريب الاستدلال بالمكاتبة... 65

أخبار الحلية والطهارة..... 66

تقريب دلالة الروايات..... 67

الأحكام الوضعية...... 73

النزاع في أن الوضع محصور في أمور مخصوصة أم لا؟..... 75

هل الحكم الوضعي مجعول مستقلاً كالتكليف أم لا؟... 77

أقسام الحكم الوضعي..... 77

ما لا يقبل التشريع أصلاً...... 79

ما يقبل التشريع تبعاً للتكليف..... 85

ما يقبل التشريع أصالةً وتبعاً... 88

وهم ودفع...... 91

حكم الاستصحاب بالنسبة إلى أقسام الحكم الوضعي... 95

تنبيهات الاستصحاب... 98

التنبيه الأوّل: اعتبار فعلية الشك واليقين...... 98

التنبيه الثّاني: دفع الإشكال عن الاستصحاب في مؤدى الأمارات... 101

التنبيه الثّالث: استصحاب الكلي... 106

القسم الأول...... 108

القسم الثاني...... 108

القسم الثالث..... 112

التنبيه الرّابع: الاستصحاب في التدريجيّات.... 117

أقسام الأمور التدريجيّة...... 120

الزمان والزمانيّات.... 120

الفعل المقيد بالزمان وحكم أقسام الشك فيه... 123

ص: 426

إزاحة وهم..... 131

التنبيه الخامس: الاستصحاب التعليقي..... 133

الإشكال بعدم المقتضي..... 135

الإشكال بوجود المانع... 137

التنبيه السّادس: استصحاب الشرائع السابقة.... 140

التنبيه السّابع: الأصل المثبت...... 150

الفرق بين الطرق والأمارات..... 153

عدم حجية الأصل المثبت... 155

موارد الاستثناء... 156

حجية مثبتات الأمارات...... 159

التنبيه الثّامن: دفع توهم مثبتية الأصل في موارد ثلاثة... 161

المورد الأوّل: استصحاب الفرد لترتيب أثر الطبيعي عليه... 162

المورد الثّاني: استصحاب الشرط والمانع لترتيب الشرطيّة والمانعيّة... 164

المورد الثّالث: استصحاب نفي التكليف لترتيب آثاره...... 166

التنبيه التّاسع: ترتّب بعض الآثار العقليّة والعاديّة على الأصل... 168

التنبيه العاشر: اعتبار ترتّب الأثر على المستصحب بقاءً لا حدوثاً... 171

التنبيه الحادي عشر: أصالة تأخّر الحادث...... 173

الشك في تقدّم الحادث وتأخّره بالإضافة إلى أجزاء الزمان..... 174

الشك في تقدّم الحادث وتأخّره بالإضافة إلى حادث آخر...... 177

الكلام في مجهولي التاريخ وأقسامه..... 177

الكلام في ما لو كان أحدهما معلوم التاريخ وبيان أقسامه... 187

الكلام في تعاقب الحالتين المتضادّتين...... 191

التنبيه الثّاني عشر: استصحاب الأمور الاعتقادية.... 192

ما كان الواجب فيه الاعتقاد فقط..... 193

ما كان الواجب فيه المعرفة واليقين...... 194

لا مجال لاستصحاب النبوة...... 197

ص: 427

لا مجال لتشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى(علیه السلام)... 200

التنبيه الثّالث عشر: استصحاب حكم الخاص...... 202

أقسام العام والخاص بملاحظة الزمان... 204

ما لو كان الزمان ظرفاً لحكم العام والخاص.... 205

ما لو كان الزمان قيداً للموضوع في العام والخاص..... 207

ما لو كان الزمان ظرفاً للعام وقيداً للخاص...... 208

ما لو كان الزمان قيداً للعام وظرفاً للخاص...... 208

التنبيه الرّابع عشر: جريان الاستصحاب مع الظن بالخلاف..... 209

المقصود من الشك في الأخبار..... 209

تتمّة للاستصحاب..... 214

المقام الأوّل: اعتبار بقاء الموضوع..... 215

هل العبرة في الاتحاد بنظر العرف أو الدليل أو العقل؟..... 217

تحقيق المسألة هي العبرة بنظر العرف...... 222

المقام الثّاني: اعتبار عدم جريان الأمارة في مورد الاستصحاب..... 223

تقدّم الأمارة على الاستصحاب بالورود لا بالحكومة... 225

خاتمة: تعارض الاستصحابين..... 230

تقدّم الاستصحاب على الأصول العمليّة بالورود.... 231

تعارض الاستصحابين وصوره... 233

استصحاب المتضادّين في زمان الامتثال... 233

استصحاب السبب والمسبب.... 235

استصحاب العرضيّين مع العلم بانتقاض أحدهما...... 238

تذنيب: النسبة بين الاستصحاب والقواعد...... 242

تقديم بعض القواعد على الاستصحاب..... 242

تقديم الاستصحاب على القرعة.... 245

ص: 428

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات

المقصد الثّامن: في تعارض الأدلّة والأمارات... 249

فصل: ضابط التعارض..... 251

تعريف التعارض..... 251

خروج موارد الجمع الدلالي عن التعارض...... 252

1- الحكومة..... 252

2- التوفيق العرفي... 253

تقدّم الأمارات على الأصول الشرعيّة بالورود لا بالحكومة..... 254

3- حمل الظاهر على الأظهر... 259

فصل: مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين...... 263

الأصل الأوّلي بناءً على الطريقيّة هي التساقط... 263

نفي الثالث بأحد المتعارضين... 264

الأصل الأولي بناءً على السببية...... 265

الإشكال على قاعدة «أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح»...... 270

توجيه القاعدة.... 273

فصل: مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين..... 274

الأصل هو عدم سقوط كلا المتعارضين ولزوم الأخذ بأحدهما..... 274

لزوم الأخذ بالراجح في دوران الحجيّة بين التعيين والتخيير.... 274

الاستدلال بالأخبار على عدم سقوط المتعارضين ولزوم الأخذ بأحدهما... 275

الاختلاف في وجوب الترجيح ولزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة...... 282

قصور المقبولة والمرفوعة عن إفادة وجوب الترجيح.... 283

قصور سائر أخبار الترجيح عن إفادة الوجوب... 287

أدلة أخرى على وجوب الترجيح..... 291

آثار القول بالتخيير... 294

التخيير استمراريّ.... 296

فصل: في المرجحات غير المنصوصة...... 297

ص: 429

وجوه القول بالتعدّي..... 297

بعض القرائن الدالة على لزوم الاقتصار..... 302

التعدّي إلى كل مزيّة ولو لم توجب الظن أو الأقربيّة.... 303

الإشكال على القول بالتعدّي من باب الظن الفعلي..... 304

فصل: الكلام في شمول أخبار العلاج لموارد الجمع العرفي.... 306

وجه القول بعدم الشمول..... 308

وجه آخر في إثبات القول بعدم الشمول...... 311

فصل: المرجحات النوعية..... 313

ترجيح العموم على الإطلاق..... 313

ترجيح التخصيص على النسخ...... 315

فصل: عدم انقلاب النسبة..... 320

التعارض بين أكثر من دليلين مع اتحاد النسبة... 321

التحقيق عدم انقلاب النسبة..... 325

التعارض بين أكثر من دليلين مع تعدد النسبة... 328

فصل: رجوع جميع المرجحات إلى المرجح الصدوري وعدم الترتيب بينها..... 330

المزايا المرجحة كلها من مرجحات السند..... 330

لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجحات.... 332

لا وجه لتقديم المرجح الجهتي على سائر المرجحات.... 334

تقديم مخالفة العامة على المرجحات الصدورية بسبب أقوائية الدلالة.... 346

فصل: المرجحات الخارجية... 348

1- الترجيح بالظن غير المعتبر...... 348

2- الترجيح بالقياس.... 350

3- ترجيح موافق الكتاب أو السنة القطعية على مخالفهما..... 352

الصورة الأولى: المخالفة بالمباينة... 353

الصورة الثّانية: المخالفة بالعموم والخصوص المطلق...... 353

الصورة الثّالثة: المخالفة بالعموم من وجه...... 356

ص: 430

4- الترجيح بالأصول العمليّة... 356

الخاتمة في الاجتهاد والتقليد

الخاتمة: في الاجتهاد والتقليد..... 359

فصل: تعريف الاجتهاد.... 361

الاجتهاد لغةً واصطلاحاً...... 361

تعاريف الاجتهاد ليست حقيقيةً..... 362

فصل: في الاجتهاد المطلق والمتجزّي..... 365

تعريف الاجتهاد المطلق والمتجزّي.... 365

أحكام الاجتهاد المطلق... 366

1- إمكان وقوعه..... 366

2- جواز عمل المجتهد المطلق باجتهاده...... 367

3- جواز تقليد المجتهد المطلق الانفتاحي.... 367

4- الإشكال في تقليد المجتهد الانسدادي على تقدير الحكومة...... 367

5- نفوذ قضاء المجتهد المطلق الانفتاحي..... 373

أحكام التجزّي في الاجتهاد... 375

1- إمكانه وقوعاً..... 376

وجهان لامتناع التجزّي في الاجتهاد.... 377

2- حجية رأي المتجزّي في حق نفسه...... 378

3- رجوع المقلّد إلى المتجزّي..... 379

4- قضاء المتجزّي...... 380

فصل: مبادئ الاجتهاد..... 380

احتياج الاجتهاد إلى معرفة علوم العربيّة والتفسير والأصول.... 380

اختلاف الاحتياج إلى الأصول حسب اختلاف الأزمنة وغيرها..... 382

فصل: في التخطئة والتصويب..... 383

اتفاق الإمامية على التخطئة في الشرعيّات..... 383

ص: 431

قول المخالفين بالتصويب... 384

الوجوه المحتملة في معنى التصويب... 384

فصل: تبدل رأي المجتهد...... 388

عدم جواز الرجوع إلى الاجتهاد السابق في الأعمال اللاحقة... 388

بطلان حكم الأعمال السابقة المبتنية على القطع أو الأمارة بناءً على الطريقية..... 389

عدم الفرق في البطلان بين تعلّق الاجتهاد أو بمتعلقاتها.... 391

صحة الأعمال السابقة بناءً على اعتبار الأمارات من باب السببيّة... 396

إذا كان الاجتهاد مستنداً إلى الأصول العمليّة وقد ظفر بدليلٍ على الخلاف.... 396

فصل: في التقليد...... 397

تعريف التقليد... 397

أدلة جواز التقليد..... 398

تمامية دلالة الأخبار على جواز التقليد...... 401

أدلة المنع عن التقليد.... 403

فصل: تقليد الأعلم.... 405

وظيفة العامي في مسألة تقليد الأعلم... 405

أدلة جواز تقليد غير الأعلم...... 406

سائر أدلة وجوب تقليد الأعلم... 408

فصل: تقليد الميت.... 412

أدلة عدم جواز تقليد الميّت...... 413

أدلة جواز تقليد الميّت... 413

1- الاستصحاب..... 413

2- إطلاق الأدلة اللفظيّة..... 421

3- دليل الانسداد.... 422

4- سيرة المتشرعة... 422

فهرست المحتويات... 425

ص: 432

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.