مناشئ الضلال ومباعث الانحراف
نماذج من الصوفية ومنتحلي المهدوية والفرق المبتدعة مثالاً
تقريراً لمحاضرات التفسير لسماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي
المقرر: الشيخ أبو الحسن الإسماعيلي
الطبعة الخامسة
1439ه - 2018 م
منشورات: موسسة التقی الثقافیة
النجف الأشرف
7810001902 00964
ص: 1
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
ص: 2
دروس في التفسير والتدبر5
مناشئ الضلال ومباعث الانحراف
نماذج من الصوفية ومنتحلي المهدوية والفرق المبتدعة مثالاً
تقريراً لمحاضرات التفسير لسماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي
المقرر: الشيخ أبو الحسن الإسماعيلي
ص: 3
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ
صدق الله العلي العظيم
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لازال الصراع بين الحق والباطل قائماً منذ أن وطأت قدما الإنسان الأرضَ إن لم نقل إنه أقدم من ذلك!! ولازالت البشرية تتعثر في سيرها ومسيرتها نحو أهدافها ورقيها, وفي كل جولة من جولات هذا الصراع يسقط قوم وينهض آخرون, ثم يدخل هؤلاء الآخرون في جولات جديدة من هذا الصراع القائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولكل أمة من تلكما الأمتين أسباب للنجاح والنهوض, وأسباب
ص: 5
للفشل والسقوط, نجا من خلال معرفة ذلك من كتب الله له الحسنى وسعى في إصلاح نفسه ومجتمعه, وهوى من لم يتبصر بعواقب الأمور, وشذ عن ولاة أمره الهادين المهديين إلى الحق بأذن الله تعالى.
قال تعالى: «وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً»(1).
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لكل ضلة علة, ولكل ناكث شبهة»(2)، وقال (علیه السلام): «انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم - إلى أن قال - ولا تسبقوهم فتضلوا, ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا»(3).
إن سبيل الضلال يتسع بالجهل وقلة المعرفة, كما إن استنارة سبيل الهداية تحصل بالعلم والتدبر والتروي، وإن أعظم الجهل هو الجهل بالخالق ومبدأ المبادئ وهو أول انحراف وضلال يأخذ بيد الإنسان إلى مهاوي المهالك, وأوعر المسالك، لقول الله تعالى: «وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ»(4)، وقوله تعالى: «إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(5).
ص: 6
إن الاستكبار والعناد يحرمان صاحبهما من سماع الحق والإنصات إليه, بل ويأخذان بيده إلى معاداة الحق مع علمه به في طيات نفسه، لأن سطوة الكبر والعناد تطغى على وداعة الحق والإنصاف.
قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ»(1) لأنها تؤدي إلى الضلال والانحراف عن الحق, فإن الشيطان لا مهمة له فيما بقي من الحياة إلا إضلال الإنسان وسوقه إلى نار جهنم - والعياذ بالله - ومن هنا أصبح كيد الشيطان باباً واسعاً لغوية وإضلال أجيال كثيرة على مر التاريخ.
لقد أوجد الله تعالى الإنسان، وركّب فيه غرائز وشهوات يميل إليها، وهذه الشهوات إذا تُركت دون ضابط شرعيّ ولن تهذّب، فإنها تسوق الإنسان إلى المعاصي والضلال، وإذا كان الله قد حرم على عباده بعض الشهوات والملذات المفسدة فقد أباح لهم الطيبَ منها.
يتأثر الإنسان - سلباً أو إيجاباً - بالبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، فإن كانت البيئة صالحة، قادته إلى الصلاح، وإن كانت فاسدةً قادته إلى الفساد
ص: 7
والضلال, وقد لا يكون للإنسان دخل في اختيار بيئته الاجتماعية لأنها عادة ما تفرض عليه إلا أن ذلك لايعفيه من التحول إلى بيئة أخرى مناسبة لتوجهاته الحقة, ومن هنا أوجب الله الهجرة إذا خاف الإنسان على نفسه من الضلال والضياع.
ولعل أهم ما ينجي الإنسان من الضلال والانحراف هو اتباع القرآن والعترة الطيبة الطاهرة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا أن هذا - من وجهة نظرنا - حل وعلاج بشكل عام وصالح لكل زمان ومكان, أما زماننا هذا - وهو زمان الغيبة الكبرى - فإن العاصم من الضلال إضافة إلى القران والعترة, أن يدور المؤمن في فلك المرجعية الناطقة بالحق، والمرشدة إلى الفلاح والصلاح ولا يشذ عن توجيهاتها وقيادتها ما استطاع إلى ذلك سبيلا, فهي العاصمة من الضلال وهي المرشدة إلى الحق والصواب بإذن الله تعالى، وهي المنصبة من قبل الله ورسوله وأهل بيته (علیهم السلام) لقيادة الأمة وإرشادها.
قال الإمام الثاني عشر (عجل الله تعالی فرجه الشریف): «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله عليهم»(1)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه»(2).
هذه أهم أسباب الضلال والغواية ومجمل الحلول باختصار وإيجاز؛ إلا
ص: 8
أننا بحاجة إلى بسط في الكلام ورؤية أعمق وأشمل لأهمية الموضوع (الضلال والانحراف) وأهمية المأل الذي سنأول إليه جميعنا.وهذا ما سنطلع عليه في هذه البحوث القيمة العالية التي ألقاها على مسامعنا سماحة أية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي (حفظه الله تعالى) في حاضرة العلم والعلماء النجف الاشرف - على مشرفها ألآف التحية والسلام والصلوات -، وكان لي الشرف في تدوينها وتقريرها - بفضل الله - وقد وحرصت على أن لا أترك منها كل صغيرة وكبيرة، لأن فيها علماً جماً وكنوزاً وفيرةً لمن تدبر في طياتها وأخذ بأحسنها، والله ولي التوفيق.
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بها وجميع المؤمنين والمؤمنات والعاقبة للمتقين ولا حول ولاقوة الا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.
أبو الحسن هادي الأسماعيلي
النجف الأشرف
1 شهر رمضان المبارك 1436ه
ص: 9
ص: 10
الضلال لغة هو المصدر عن الفعل ضَلّ، ويعني إضاعة الهدف وفقد المقصد، وهو ضياع الشيء وذهابه في غير حقه، وكل جائر عن القصد ضال، فالمفردة تعني أنه موجود في جوهره، لكنه أخطأ في مقصده، مع فقدان الاهتداء إليه، وفي العدول عن المنهج الصائب والطريق المستقيم، عن عمد كان أو سهو أو خطأ أو جهل أو غواية أو سواها.
والضلال يكون في مقابلة الهدى، وأن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً.
وللضلال مناشئ مختلفة، يختلف باختلافها، بقيمته ومعياره وتوجهاته.
والإضلال في كلام العرب ضد الهداية والإرشاد، ف (أضلّه) بمعنى وجهه للضلال، فهو المصدر للفعل أضل، وهو ضرْبان: أحدهما يكون سببه الضلال - وهو فعل ذاتي -، والثاني يكون الإضلال فيه سبباً للضلال ومنتجاً له - وهو بفعل خارجي ذي مقصد - ويكون الضلال لاحقاً منتجاً
ص: 11
للانحراف.
والانحراف لغةً هو المصدر عن الفعل انحرف، وهو نتيجة للضلال ومخرجاته، ويعني الميل والعدول والمجانبة، وهو الإعوجاج والخروج عن جادّة الصواب، والميل عن الطريق المستقيم، والابتعاد عنه بمقدار زاوية الانحراف. حيث تتوسع مسافة الانحراف معياراً في حركتها عن نقطة الانحراف، مع تقادم عامل الزمن، كون مسار الانحراف يكون بخط غير متوازٍ للاتجاه الصحيح.
والانحراف اصطلاحاً - في علم النفس الاجتماعي - هو الخروج عن الثابت المجتمعي والمتبنيات العقدية في السلوكيات والتوجهات، ميلاً عن قيم الثقافة في المجتمع، فهو تحوّل إحدى الوظائف عن غايتها الطبيعية.
فالانحراف العقلي هو اضطراب ذهني يوقع المرء في الخطأ، وهو إما انحراف قيمي ناتج عن فكرة وقناعة، أو انحراف أخلاقي مرتبط بالسلوك حصراً، قد يكون عن هوى في النفس؛ ويعد علماء النفس والاجتماع إن الانحراف القيمي هو الأكثر خطورة، لأنه يحمل مفاهيم ومدركات ينتج عنها سلوك، فهو يعد انحراف مركّب منتج للانحراف الأخلاقي فضلاً عن الاجتماعي.وعليه فالانحراف القيمي العقلي، يتماهى وأشكال الانحرافات في الفكر والعقيدة والمذهب والمنهج، فضلاً عن المتبنيات الإيمانية، وهو ينتج عن تأثيرات الضلال والإضلال، التي تكون بمقاصد مسبقة ومخطط لها، وذات نظم ومناهج وأهداف، تخلص إلى غايات محددة، ضمن متجهات هذا
ص: 12
الانحراف. وهو الذي تضمنه موضوع البحث في الكتاب، لما يمثله من ضرورات بحثية، تلقى المسؤولية فيها على قادة الفكر والمجتمع.
فالضلال هو مقدمة للانحراف الذي هو نتيجة له، بمعنى أن الضلال بمدخلات مناشئه المختلفة، في الحجج والدلائل والطرائق الباطلة، وفقدان الرؤية للمسلك الصحيح ومتجهاتها صوب الحق، تكون مخرجاته، أشكالاً من الانحراف، على اختلاف بواعثها، وهو اتخاذ الطريق المنحرف عن جادة الصواب، في العقل والقيم ابتداءً، ثم في الفكر والسلوك والعقيدة، وفي المتبنيات الفقهية والعقدية، وكذا المدركات الإيمانية، والاتجاهات الناتجة عن المعارف الضالة والباطلة، وهذا هو عنوان الكتاب وموضوعه في مقاربة مناشئ الضلال وبواعث الانحراف.
هنالك طرائق ومناهج وحجج مختلفة، تسلكها الفرق الضالة، لتكون مناشئ للضلال، وبالتالي بواعث للانحراف، والتي يمكن تمثيل بعضها بشكل من أشكال التنويم الإيحائي العام، في مقارنتها بالشكل الخاص التقليدي، فهو يستهدف تعطيل العقل وتعويق الذهن، وإبطال القدرة على التفكير، مما يؤشر الأهمية البالغة لموضوع البحث، وبالتالي الحاجة والضرورة للدراسة فيه، وتبيان مسبباته ومقدماته، ومن ثم آثاره ونتائجه، بغرض استنتاج الحلول والمعالجات الرصينة لها، من خلال اختيار وانتقاء نماذج بحثية، هي الأكثر تأثيراً في هذه الفرق المضلة والضالة، كبعض الفرق الصوفية والمهدوية.
ص: 13
وتكمن أهمية موضوع الدراسة وآثارها، في مقاربة علل وأسباب الضلال والانحراف، فالأسباب الخارجية منها، تستهدف الانحراف عن العقيدة، وهي نتاج للتأثر بثقافات وافدة ومدركات غريبة ودخيلة، أو في خرق المتبنيات العقدية، بمفاهيم ومناهج فكرية وفلسفية محرفة لها، غالباً ما تكون عن مقاصد مسبقة ومخطط لها، لأغراض كيدية وكارثية.
أما الأسباب الداخلية للانحراف فهي ذاتية في الأساس من خلال التعصّب والتطرّف والغلو والإفراط والجهل والضعف المنهجي في التعامل مع النقل و في معرفة مساحات نفوذ العقل وفي التأويل دون دليل وحجة قطعية أو معللة، وفي الاستعداد الذاتي لسلوك الانحراف، ونتيجتها تستهدف المتبنيات الإيمانية والمدركات العقدية.
والضلال عادة هو نتيجة لتأثيرات فكرية وإيحاءات ذهنية ووعظية وتوجيهية، تؤثر بتوجهات المتلقين ومتبنياتهم ومعتقداتهم، من بينها إعاقة العقل والفكر والذهن، وتعطيل القدرة على الإدراك والاستيعاب والتقييم والفهم، وبما يتماهى وطرائق التأثير الإعلامي بالرأي العام، وهو يؤكد أهمية الموضوع، كونه دالّة لكشف الإضلال والضلال وبالتالي الانحراف، في تعويق الذهن وتعطيل العقل وإبطال القدرة على التفكير.تتبع مناشئ الضلال وسائل وطرائق مختلفة، لتنتج الانحراف عن المسلك القويم، ومن أظهر مفرداتها استخدام القوة الناعمة، كطرق السيطرة على العالم، في صناعة الأديان والسيطرة عليها، وإشاعة الفوضى الفكرية والعقدية؛ وكذا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، في
ص: 14
الاختراقات الدولية والإقليمية، واستراتيجياتها المخطط لها، والمنتجة في مراكز الدراسات البحثية المتخصصة، في اعتماد فلسفة صنع المذاهب والفرق والأديان، لتكوين قوى موازية وبديلة عن الأصل، وبالنتيجة تفريق الكلمة وضياعها، مما يؤشر أهمية موضوع الدراسة، وضرورات الحاجة لمعالجتها.
تم استبيان معضلة البحث في الكتاب، من خلال مقاربة الأسباب الرئيسة لوقوع الضلال، وبالتالي بواعث الانحراف بنتيجته، وفي مقدمتها استحقاقاً للبحث والدراسة، هو الجهل بوجوهه المختلفة، كونه من أوضح مسببات ومناشئ الضلال، فالإضلال يستهدف أهل الجهل بمقتل، ليصابوا بدائه، فقد يكون الجهل في الاقتصاد أو في مرتكزات الاستراتيجية الأخرى، في علوم السياسة والاجتماع والدفاع.
ونتيجتها انحراف في القدرة على صنع القرار السليم واتخاذه، وبالتالي الخيار غير الصائب في اختيار المنهج المناسب لإدارة الدولة والمجتمع، والانحراف في رسم السياسة الاقتصادية المطلوبة للتنمية والنماء والازدهار المجتمعي، ورفع مستوى المعيشة والحياة، وحتى الانحراف في ترتيبات نظم الدفاع والأمن، الفردي والمجتمعي، وعلى المستوى الوطني، فهي معضلة تستوجب البحث والدراسة.
والجهل الأخطر يكون في الفكر أو في الاعتقاد، ونتيجته الانحراف في العقيدة والمذهب، كمثال الجهل في بصائر النصوص القرآنية المقدسة،
ص: 15
وتفسيراتها وبيان التدبر فيها، أو الجهل في فقه الحديث الشريف، وتفريعاته في علوم الدراية والرواية والرجال والتراجم وعلوم العربية والبحث التاريخي وغيرها، ونتيجتها تمسك أهل الضلال في بعض الروايات، من غير بصيرة بمعناها، «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ»(1).
أو يكون الإضلال في اتباع الروايات الضعيفة والموضوعة، وخلط بعضها مع بعض، في الدليل والحجة الظنية غير القطعية، «وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتبِعُونَ إِلا الظن وَإِن الظن لَا يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئا»(2)، من خلال استقراء ناقص ومسبق النتيجة، لا يقارب القطع أو اليقين، في أشكاله المعللة أو الكاملة، وذلك ما يلائم أهواء المضللين، ومتبنياتهم الفكرية.وعليه فالمعضلة البحثية تكمن في استشعار المخاطر التي تنتج عن أنشطة دعاة الضلال، وفعالياتهم وتأثيراتهم، خاصة في جوانب الضلال العقلي القيمي، وبالتالي استهداف الضلال لحجم واسع من الأهداف المقصودة.
مما يتوجب معالجة الضلال والانحراف، منهجاً وفكراً ودراسة، وفي مقارعة الحجج الضالة ودحض أدلتها، وذلك ما يجعل البحث في الكتاب، موضوعاً مطلوباً، حاكماً وضرورياً، تحتاجه المنظومة الفكرية الإسلامية، فضلاً عن الوسائل الإجرائية والتطبيقية المطلوبة، في التوعية والتوجيه الفكري والعقدي.
ص: 16
يتحرك نطاق البحث في تفريعات السبل إلى الهداية، من خلال عرض ونقد وإبطال مسالك الضلال، والوسائل المختلفة التي تتبعها فرق الضلالة والتحريف، فإذا كان سبيل الهداية يستنير بالعلم الذي دل عليه النقل الصحيح وقبله العقل، فإن سبيل الضلال يكون بالجهل والإعراض عن المنهج القويم، ورفض صوت الحق، إذ يتأثر الإنسان إيجاباً وسلباً بالبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبين»(1).
فالضلال والانحراف عن الطريق القويم، من الظواهر التي قد يُبتلى بها الإنسان، ولا ريب في أنها وليد مجموعة من العوامل والأسباب التي ينصرف إليها نطاق البحث والدراسة، في مقدماته ومدخلاته.
إنّ للغرائز والميول تأثيراً مهماً في بقاء واستمرار الحياة الإنسانية، فإذا ما سلبت من الإنسان أحاسيسه، فإنه سيفنى ويندثر لا محالة؛ ولكنها إذا لم تعدّل وتوزن، ويرسم لها حدودها ومسار حركتها، بنحو لا يقع الإنسان في قبضتها، وسيطرتها على استقامة اتجاهاته وصوبها، «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها»(2)، سيعمد أهل الضلالة لهذه الجماعة الضعيفة نفسياً، في تحريف معتقداتهم وتعطيل عقولهم، فإنّ النتيجة تكون في
ص: 17
ضلالتهم، وبالتالي انحرافهم عن الطريق القويم، واتبّاع اتجاه المضللين لهم.
وذلك يستوجب دراسة النفس الإنسانية، وفق العلم المنهجي الرصين، وبالتالي تبيان ما قد يصيب الإنسان من أمراض نفسية، فكرية وعقدية، على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة، وبالتاليالمجتمع، والتي تذهب بالجماعة أو الأفراد، إلى مسالك الانحراف، وهذه من مقاصد الدراسة في نطاق الكتاب، لتكون مخرجاتها، في وضع الحلول والمعالجات الناجعة لها، «وَلا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبيلِ الله»(1).
فالعقل ميزان، والفكرة ينبغي أن تؤيدها الأدلة النقلية التي تتطابق مع المنطق والواقع، ومن أسباب الضلال الفكرية، غزو بعض الأعمال الخارقة، لتؤثر في تعطيل عقل الإنسان وفكره، وكذا اعتماد الفلسفة المجردة، خاصة الفلسفة الوجودية المادية أو الظاهرية التي تعتمد الحس حصراً وتنكر كلّ مغيب عن الظاهر، وبالتالي تولد الضلال العقدي والإيماني، ومن ثم الاستكبار والاستعلاء الفكري، الذي يصنع من النظريات الموضوعة صنماً معظماً، وذلك نطاق الكتاب في فصوله التأسيسية والتأصيلية.
فالمكامن الرئيسة للضلال هي في الجانب الفكري وفي الجانب النفسي، فالعقيدة الصحيحة لها مسالك، ولها مداخل ولها طرق، وِمن هذه المسالك اليقين الحسي الذي يتماهى والمنهج الإمبريقي(2)، إذ (من
ص: 18
فقد حسّاً فقد فقد علماً).
ومن مسالك العقيدة الصحيحة أيضاً، مسلك اليقين العقلي، وهو الاستنباطي الاستنتاجي، إذ يقول النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله): «لا دين لمن لا عقل له»(1)، ويقول الإمام الكاظم (علیه السلام): «إن لله على الناس حجتين، حجة ظاهرة وحجة باطنة. فأمّا الظاهرة، فالرّسل والأنبياء والأئمّة. وأمّا الباطنة فالعقول»(2).
وكذا المسلك التجريبي العلمي الاستقرائي، والذي أقر المفكر الإسلامي العلامة الحلي (رحمة الله) ذلك منهجاً.
ومسلك اليقين الإخباري، وهو النقلي المحقق والمسند، في النص المقدس والحديث الشريف، فقهاً وأصولاً.
فالخروج عن المسالك الصحيحة منهجاً وحجة ودليلاً، هو منشأ للضلال الفكري والعقلي والعقدي، إذ تنحرف مخرجاتها عن اتجاهات العقيدة الصحيحة، لتنتج سلوكاً منحرفاً، على مستوى الفردوالجماعة والمجتمع، وهذه القضايا هي ما سينصرف نطاق الكتاب للبحث فيها، في مقاربته لموضوع الضلال والإنحراف، ولتكون مخرجاته البحثية، في بيان الحلول لها ومعالجاتها.
سينصرف الكتاب في أهدافه وغاياته لتشخيص ومقاربة مناشئ
ص: 19
الضلال، وإلقاء الضوء على بواعث الانحراف، وتحديد مساحاتها وفضاءاتها ومنطلقاتها، من خلال نماذج للدراسة والبحث، في بعض الصوفية والمهدوية والفرق الضالة، التي تشترك في اعتمادها وسائل متشابهة في الإيحاء والخداع والتأثير الذهني، وتعطيل العقل وتعويق الفكر، وبالتالي إيجاد الحلول الناجعة لمواجهتها، والمعالجات النظرية والعملية والتطبيقية لها.
كدأب سماحته فقد سلك السيد الأستاذ المؤلف (حفظه الله)، منهج الاستضاءة والاستبصار بالنص القرآني المقدس في وحدة الموضوع وفق الآيتين الشريفتين: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ»(1)، و«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا»(2)، اللتين تمثّلان الأساس القرآني الشريف، في كشف بواطن الضلال والإنحراف، وفي كيفية التعامل معه.
ويستكمل منهج البحث النقلي أبعاده الدراسية البحثية في استقصاء الروايات المعتبرة في السنة الشريفة، وهو المنهج البحثي الرصين الذي أسسه سماحة المؤلف حفظه الله، معتمداً النص القرآني المقدس في تأصيلاته، وفق منهجه التفسيري، والحديث المحقق الصحيح والمسند، المرتبط بمادة الموضوع، في استباط أحكامه ومبانيه، بما يجعله ملامساً للبحث والتحقيق الفقهي والعقدي.
ص: 20
ويتفرع في منهجياته بما يلامس المنهج المنطقي الاستنباطي والعقلي والمنهج العلمي الاستقرائي، ضمن رؤيته الشخصية للاستقراء، وفق اشتراطاته في رفض الشكل الناقص منه، لإيغاله في الظن، وعدم التحدد في شكله الكامل لاستحالته، ومن ثم قبوله بالاستقراء المعلل، كونه يلبي المتطلبات البحثية والمنهجية، المعقولة والموضوعية، والقدر المقبول من القطع، فيبسط سماحة المؤلف رؤاه وتصوراته، في موضوع البحث، اعتماداً على ثوابت الفكر الإسلامي، ومتبنياته العقدية والإيمانية.
لقد استند البحث إلى مصادر ومراجع بحثية، رصينة ومعتمدة، سواء في كتب التراث العربي الإسلامي الرصينة وأمهات مصادر ومراجع الفقه والعقيدة والأصولية، أم في الأدبيات المعاصرة التي عرضت لمجمل القضايا، ذات الصلة بالموضوع، وقد توفر للباحث الاطمئنان لعلميتها وموضوعيتها.
اشتمل الكتاب على ثمانية فصول بحثية، تفرعت إلى مباحث ومحاور رئيسة وعناوين ثانوية، إذ بحث سماحة السيد الفصل الأول في الحجج والأدلة التي يتناولها أهل الضلالة والبدع ليوهموا بها ضحاياهم من خلال تعطيل عقولهم وتعويق قدراتهم الذهنية، والطرائق التي تسلكها الفرق الضالة لتكون مناشئ للضلال، وبالتالي بواعث للانحراف.
ص: 21
وعرض سماحته الفصل الثاني بالتعريف بالتنويم الإيحائي وتبيان الطرائق والأساليب التي تعتمدها فرق الضلالة للتأثير المركز والمعطل للعقول والمعيق للأذهان، وتوجيه الأتباع خارج شعور الوعي، وقد سيقت الصوفية والمهدوية وطرائقهما، نموذجاً في إجهاد العقول والأبدان، بهدف توجيه الأتباع وفق متبنياتهم ومدركاتهم الضالة والباعثة للانحراف.
وقارب الفصل الثالث وسائل السيطرة على الجماهير من خلال الايحاء، الخداع، المغالطة، والعلم كسلاح ذي حدين، فالقرآن الكريم قد بشَّر بالعلم وأمر بتحصيله، لكن أهل الضلالة يستخدمونه بجوانبه السلبية، كما أن المخادعة تجري باستخدام الأسماء بالباطل، والوسائل المضللة واستخدام الخدع العلمية.
وناقش سماحته الفصل الرابع مناشئ الانحراف والضلالة، عارضاً لحالات وظواهر الغرور والاستعلاء، والجهل الشامل، ثم خسارة الأصل والأرباح والآمال والأعمار والتجربة، والخسارة العظمى في الكفر بآيات الله تعالى، والفرق بين الكفر بالشيء والكفر بالآيات والعلامات الدالة على الشيء.
وعرض الفصل الخامس لمناشئ الضلال وبواعث الانحراف، في مقاربته للمؤامرات الدولية على الأديان والمذاهب، وموقع مراكز الدراسات في بلورة الرؤى والاستراتيجيات واسترشاد الاستعمار بمراكز الدراسات والجامعات التخصصية، للسيطرة على العالم والاستحواذ على أكبر قدر من الطاقة والمال والاقتصاد، مبيناً أن الطرق المهمة للسيطرة على العالم هي في
ص: 22
صناعة الأديان والسيطرة عليها، وذلك من أظهر مفردات القوة للسيطرة على العالم والشعوب ومقدراتها.
والفصل السادس يدور حول «الأخْسَرِينَ أعْمَالاً» في الحياة الدنيا وأبرز ملامحهم ومعالمهم، ومناشئ ضلالاتهم ومباعث انحرافهم.
مبينا أن الأساليب والحيل التي استخدمها بعض في الزمن السابق، يستخدمها الآن المدّعون للسفارة والنيابة الجدد.وعرض سماحته الفصل السابع لمخرجات الكتاب الاستدلالية والاستقرائية، في نقد وإبطال أدلة الضلال وأسباب الانحراف وحجياته، بما يعدّ مكملاً للفصل السادس الذي قارب الحلول والمعالجات العملية لها، وفي استنساخ الضُلَّال لأسلحة المنحرفين في القاديانية نموذجاً، كالاستخارة والأحلام.
وقارب سماحة السيد الفصل الثامن سبل العلاج والحلول لمناشئ الضلال وبواعث الانحراف، والفصل يمثل مخرجات الكتاب ورؤاه البحثية، فيعرض سماحته ابتداء لمشكلات الفراغ الفكري، ومعاضل الحاجات الفردية المتنوعة، والإضلال في مؤامرات إشاعة الفوضى ونظام المحاكاة، فيناقش الحلول في عناوين ترشيد روافد المعرفة، وفي إنشاء مراكز الدراسات المتخصصة في شؤون الأديان والمذاهب والفرق المبتدعة الضالة، وفي سد منافذ المفاسد، ومعالجة تهيئة الأنفس لتقبل الأفكار المنحرفة.
وأخيراً عرضت خاتمة الكتاب للمفاهيم والأفكار الرئيسة التي ناقشها البحث، وبينت مقدماته البحثية وحقائقه، ثم المخرجات التي خلص إليها
ص: 23
البحث بشكل استنتاجات وتوصيات، في مجالات النظرية والتطبيق، وهي الحلول والمعالجات التي خلص إليها الكتاب، في سد منافذ الضلال والانحراف.
ص: 24
من مناشئ الضلال والحجج الباطلة للفرق الضالة:
* الأحلام والاستبصار
* الاستخارة
* الكرامات المتوهمة
* الكهانة
* السحر الأسود
ص: 25
ص: 26
يقول الله تعالى:
«مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا»(1).
سيدور البحث بالنقد والتحليل لبعض الحجج المبتدعة الباطلة التي يستدل بها بعض أصحاب المذاهب المبتدعة، وذلك بعد أن نتوقف عند بصيرة قرآنية هامة، وهي:
ص: 27
إن الله عزوجل يقول: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ»، ولكن يبرز هنا سؤال على ضوء إشكال متوهم، وهو: إن هذه الآية لا تنسجم من جهةٍ مع آيات أخرى من قبيل قوله تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْوَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»(1)، فمع كونهم كفاراً إلا أنه تعالى لا ينهى عن البر إليهم والقسط في حقهم، وليس البر والقسط إليهم شدة عليهم، بل هما رحمة؛ وفي الجهة المقابلة نجد مثل قوله تعالى: «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله»(2)، فإن هذا القتال ليس رحمة بل هو نقمة عليهم، فكيف التوفيق؟!
الجواب عنها: إن هناك وجوهاً عديدة للجمع، نذكر منها:
الوجه الأول: أن يقال إن قوله تعالى: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ» قاعدة وأصل عام، لها مستثنيات، منها الآية الشريفة: «لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».
بعد وضوح أن الكفار على أقسام: فمنهم من قاتلنا، ومنهم من لم
ص: 28
يقاتلنا، ومنهم من أخرجنا من ديارنا، ومنهم من لم يخرجنا؛ فمن لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجهم من ديارهم فلم يظلمهم في دينهم ولا في دنياهم، فإنه يستثنى من قانون الشدة في الآية الشريفة.
إضافة إلى أن المستثنى هو نوع خاص من الشدة، وهو البرّ والقسط لا مطلقها(1).
وكذلك الأمر في قوله تعالى: «رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ»، فإنه قانون عام، خرج منه ما لو بغى أحدهم ولم يرضخ للإصلاح والصلح، فإنه يُقاتَل حتى يفيء إلى أمر الله تعالى.
الوجه الثاني: أن يقال بالخروج الموضوعي(2) أو المنزّل منزلته، وذلك بأن يقال إن ذلك ليس استثناءً ليكون خارجاً، بل هما من حيث الجوهر موضوعان مختلفان متباينان،انطلاقاً من قاعدة إن الحيثيات الدخيلة في ثبوت الحكم للموضوع هي حيثيات تقييدية، فتكون هي جزء الموضوع، ففاقدها(3) موضوع آخر، أو من أن حيثية العنوان هي الموضوع واقعاً، فالموضوع لا بلحاظه هو موضوع آخر.
توضيح ذلك: إن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، ففي قوله تعالى: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ» نجد أن الحكم بالشدة منوط بالكفار، ولا ريب
ص: 29
أن ذلك ليس لذواتهم - أي لكونهم بشراً - بل من حيث إنهم كفار، ومن حيث سترهم للحقيقة وعنادهم للحق تعالى، فكونوا - أيها المؤمنون - أشداء عليهم، لكنهم من حيثية جوهر ذواتهم أي إنسانيتهم أو من حيثيات أخرى طارئة كما لو أحسنوا إليكم، فإنه لا بأس بالبر والإحسان إليهم، فإنها عناوين أخرى مزاحِمة.
وذلك مثل الفقير الفاسق فإنه تحسن مساعدته من حيثية فقره وشدة احتياجه، أما من حيث فسقه وعصيانه فإنه لا يحسن الإحسان إليه، بل ينبغي مجابهته وردعه بالوسائل المشروعة؛ والفرق بين الحيثيتين فرق واضح وكبير، إذ الحيثية في مساعدة الفقير حيثية تقييدية، أي إن مساعدته إنما هي من حيث إنه فقير وليست لأنه فاسق عاص، بل إن في مثل ذلك تعود الحيثية التعليلية - لو كانت - إلى حيثية تقييدية وقد يقع التزاحم بين الحيثيتين.
وفي الآية الكريمة «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ» نجد أن حيثية الكفر بما هي حيثية تقتضي الشدة على الكافر وليست علة تامة، فلو كانت فيه حيثيات أخرى مزاحمة ككونه رحماً أو من حيث إنه إنسان أو غير ذلك، فإنه لا تتحدث عنه الآية الشريفة.
وكذلك «وَالَّذِينَ مَعَهُ» فإن المعية قد تكون زمانية أو مكانية أو اقتصادية أو غير ذلك، فإذا كنتَ بمعية شخصٍ في تجارة ما، فإنه لا يستلزم أن توافقه سياسياً أو فكرياً، بل قد تختلف معه أشد الاختلاف، إلا أن ذلك لا يمنع من المعية التجارية، والعكس بالعكس.
والحاصل: إن المعية لها أبعاد، والمعية مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) لها أكثر من
ص: 30
بُعد ولون، فمن كان معه (صلی الله علیه و آله) زماناً أو مكاناً، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون كاذباً أو منافقاً، فلا تشمله الرحمة من حيث هذه الجهة.
وبتعبير آخر: الحيثيات التقييدية مفصّلة(1) إما في الجملة أو بنحو الاقتضاء أو شبه ذلك، سواء قلنا بالاستثناء أم الخروج الموضوعي أم ما يشبهه، فتأمل(2)!وبتعبير أبسط: إن قاعدة الشدة شأنها شأن كل عامٍ له استثناءات، وما أشير إليه في الآية الكريمة من مواردها.
ومن موارد الاستثناءات الحديث الآتي الذي سيكون منطلق حديثنا حول بعض الاستدلالات الواهية لبعض أصحاب المذاهب المبتدعة، والذي عبر عنه السيد الوالد (رحمة الله) في موسوعة الفقه كتاب الحج (3) ب(صحيحة زرارة): قال زرارة: (كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر (علیه السلام) وهو محتب(4)
مستقبل الكعبة، فقال (علیه السلام): «أَمَا إِنَّ النَّظَرَ إِلَيْهَا عِبَادَةٌ».
ص: 31
فجاءه رجل من بجيلة يقال له عاصم بن عمر، فقال لأبي جعفر (علیه السلام): إِنَّ كعب الأحبار كان يقول إنَّ الكعبة تسجد لبيت المقدس في كلِّ غداةٍ، فقال أبو جعفر (علیه السلام): «فَمَا تَقُولُ فِيمَا قَالَ كَعْبٌ؟».
فقال: صدق القول ما قال كعبٌ.
فقال أبو جعفر (علیه السلام): «كَذَبْتَ وَكَذَبَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ مَعَكَ» وغضب (علیه السلام) قال زرارة: ما رأيته استقبل أحداً بقول كذبت غيره ...)(1).فإن الأصل هو الرفق واللين مع الآخرين، لكن يستثنى من ذلك مثل هذا المورد، وهو ما لو ابتدع شخص بدعة في الدين، فإنَ من الواجب مجابهته والرد عليه بكامل الحزم وبمقتضى الشدة على مستوى هذه الرواية، بأن يصرح له: أنت كاذب! فهذا المورد مستثنى من ذلك العام الداعي إلى التعامل الودي مع المؤمنين وغيرهم.
إن الفرق الضالة والمنحرفة كانت ولا تزال تُستحدث باستمرار، وذلك لأن الشيطان حي يمارس هوايته المفضلة في إغواء بني آدم ويلقي بشباكه إلى اليوم الذي أنظره الله تعالى فيه، لذا نجد أنه وباستمرار يختلق ويبتدع بدعاً جديدة، بل إن ذلك هو عمله ودأبه وديدنه في مقابل خط الأنبياء (علیهم السلام)
ص: 32
والصالحين على مر التاريخ؛ وهكذا نشاهد في كل يوم خروج راية ضلالة، وتظهر للناس في كل يوم أفك وبدعة، وفي كل يوم فتنة وابتلاء، وقد امتدت البدع لتحتضن حتى دائرة (الحجج والأدلة)، فيختلق ادعياء الضلال بدعاً في عالم الحجج، للاستدلال على عقائدهم ومتبنياتهم، ومن بين هذه الحجج والأدلة الباطلة والتي تعد من أهم مناشيء الضلالة ما يلي:
فإن بعض الضُلاّل ذهب إلى أن الطريق إلى معرفة الحق من الباطل، واستكشاف الحق والهدى، هو الاستخارة!!
ومنهم من قال: بإن المنامات حجة في العقائد، وهي من أهم الأدلة على صحة هذا المذهب أو الدين المختلق!
واستند بعض إلى ما يدّعي أنه كرامة، كدليل على حقانية مذهبه المختلق أو ذلك الدين المدعى، ومن الكرامات التي استندوا - ولا يزالون يستندون - إليها كثيراً هي حالات من شفاء المرضى.
ومن حججهم التي أضلوا بها عدداً من الناس ما يسمى في علم النفس ب(الاستبصار) أو ما يسمى بقراءة المستقبل إضافة إلى قراءة الأفكار
ص: 33
وما يجول في الخواطر.وهناك مناشئ للضلال عديدة، وبعضهم اتخذ بعضها حجة أيضاً، ومنها:
* الكهانة * السحر الأسود * التنويم المغناطيسي
* المخادعة * العلم * مغالطة الاسم والمسمى
* الجهل الشامل * المؤامرات الدولية * مؤامرة إشاعة الفوضى
* الاستعلاء والاستكبار والغرور والعجب * المحاكاة
وسنستعرضها ضمن فصول الكتاب باذن الله تعالى.
بعد أن اتضحت بعض الطرق والحجج المبتدعة في الاستدلال على المدعيات الكاذبة، نأتي إلى مناقشتها:
إن اعتبار الاستخارة دليلاً على حقانية مذهب أو دين أو حتى فكرة أو معلومة، أمر يرفضه كافة العلماء والمفكرين والعقلاء وعلى طول خط التاريخ، بل لم يستند إليها نبي أو وصي، فهل سُمع أن نبياً قال للناس: إني رسول الله إليكم وإن كذبتموني فاستخيروا الله في ذلك!!
فإن كانت الاستخارة دليلاً من الأدلة، لكان الأولى بالأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) أن يحتجوا بها ولو لمرة واحدة! مع أننا لم نجد في سيرتهم (علیهم السلام) - وهي فيما بين أيدينا - أن نبياً أو إماماً قد استدل لدعواه بالاستخارة، وارجع الأمة في تبيين صدقه إليها.
ص: 34
ثم هل يرضى المتشبثون بالاستخارة كحجة ودليل باللجوء إليها في مثل العلوم الدنيوية والتجريبية؟
فليتصور: إن مجموعة من الطلاب مع أستاذهم في مختبر الجامعة، يدرسون تركيبات مختلفة للمواد الكيماوية، ثم شكّوا في أن محلولاً معيناً لو أضيف إلى الخلطة الكيماوية، فإنه هل يحدث انفجاراً هائلاً يؤدي بالجامعة وساكنيها، أو قد يسفر عن مادة جديدة مفيدة للبشرية، فهل يقول عاقل - حينئذٍ - بحل المسألة وإزالة الشك عن طريق الاستخارة؟
إن التفكير بهذه الطريقة مرفوض عقلاً وعقلائياً، بل إن العقلاء يعدون من يفكر بهكذا طريقة شخصاً غير سوي.ومن الواضح أنه لا يمكن معالجة الأمور الخطيرة بهذا الشكل، وغير خفي أن المسائل العقدية من أخطر المسائل - إن لم يكن أخطرها وأدقها على الإطلاق - كونها تحدد مصير الإنسان في الدنيا والآخرة، فكيف يعقل أن يلتجأ للاستخارة لمعرفة الحق من الباطل في أخطر المسائل الاعتقادية؟
ثم إن باب الاستخارة لو كان مفتوحاً في العقائد، لما استقر حجر على حجر، بل ستتسلّح الأديان الباطلة بسلاح جديد؛ وذلك لأنها قد تظهر - بالتلاعب أو غيره فيها - لصالح أي دين منحرف، فإذا قيل للناس: استخيروا على أحقية الأديان الرئيسية الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية، بل والبوذية والمجوسية بل وحتى الإلحاد، فإنها قد لا تظهر دائماً بجانب الحق، بل ستظهر مرة مع هذا وأخرى مع ذاك وثالثة مع اليهودية، أو حتى مع من ينكر أصل وجود الله.
ص: 35
وكذا الشان في من ينكر أي بديهي آخر، كاستحالة التناقض والدور والتسلسل، أو من ينكر حتى الحقائق العلمية المسلمة كالجاذبية، فهل يصح إيكال الأمر إلى الاستخارة فيستخير على أنه هل الجاذبية موجودة أو لا؟ فاعاد الأمر جذعة كما كان، وذلك لأن الله تعالى لم يجعل الاستخارة طريقاً إلى معرفة الحق أبداً.
كذلك نوضح - لمزيد من البيان الذي يلامس وجدان المغرر بهم - لمن يدعي أن الاستخارة لا تقبل الخطأ، وهي طريق صحيح لمعرفة الحق من الباطل، ونقول له: إذن فلتصعد إلى قمة جبل أو إلى أعلى السطح، وتأخذ استخارة على أن ترمي نفسك منه، فإن وافقت الخيرة فارمِ بها منها؟!
والمؤسف إن بعض الفرق الضالة تسوّق هذا الأمر - حجية الاستخارة ومرجعيتها -، مستغلة بساطة الناس وطيبتهم أو جهلهم بأصل الدين وأسسه وقواعده والأدلة عليه(1).
وقد ورد في الأحاديث الشريفه التحذير الشديد الأكيد من اختلاق حجج فاقدة للاعتبار والحجية ما أنزل الله بها من سلطان، واتباعها و جعلها دليلاً لمطلب أو عقيدة ما.
ص: 36
فعن الحلبي قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): ما أدنى ما يكون به العبد كافراً؟ قال (علیه السلام): «أَنْ يَبْتَدِعَ بِهِ شَيْئاً فَيَتَوَلَّى عَلَيْهِ وَ يَتَبَرَّأَ مِمَّنْ خَالَفَهُ»(1).
ومن مصاديق ذلك ابتداع القول بأن الاستخارة ونظائرها حجة في العقائد مثلاً، وإن هذا الدين المدّعى أو المذهب هو الصحيح، بدليل موافقة الخيرة أو المنامات والأحلام أو شبه ذلك، فيتولى من كان معه ويتبرأ ممن يخالفه.
والحاصل: إن الاستخارة ليست حجة في أمور الدين أبداً، بل لا اقتضاء فيها للحجية في مثل تلك، نعم تبقى دائرتها خاصة بالأمور الشخصية(2)(3).
ومحصل القول: إن الأمور العقدية يجب - بحكم العقل والعقلاء - أن تستند إلى أدلة عقيلة قطعية أو سمعية قطعية.
وستأتي تتمة البحث حول الاستخارة في آخر الكتاب باذن الله تعالى.
قد يجد الإنسان أحدهم يخبره ببعض الأحداث المستقبلية فيكون الأمر كما قال، أو يخبر عن بعض حالاته العائلية والشخصية الخاصة، أو حتى عن ما يشتهيه أو يفكر فيه، فيعتقد ومن مثله من البسطاء أن ذلك حجة
ص: 37
بالفعل، وأنه - المخبر - على حق فيما يدعيه من بدعة أو ضلالة.
فنقول: من الناحية العلمية - كما من الناحية الشرعية - ليست هذه حجة بالمرة أيضاً، ويكفي في ذلك أن نعلم بوجود علم يسمى بعلم النفس الموازي (الباراسايكولوجي) وهو يُعنى بالإدراك فيماوراء الإحساس، فإن الإدراك تارة يكون عن إحساس، كإدراك الحرارة عن طريق اللمس، أو الجمال عن طريق النظر، وكذا بقية الحواس الخمس، وتارة يكون عما وراء الحواس، فقد يحس الإنسان بالشيء من غير طريق الحواس المعروفة، فينظر وهو مغمض العينين، ويرى حتى ما وراء الجدار أو يخبر عن المستقبل أو عن الماضي بما لم يشهده.
وهنالك قدرات (باراسايكولوجية) أخرى، قد يتمتع بها بعض الأشخاص بشكل طاقة غير اعتيادية أو قدرة على الحدس أو سواها، كحالات الإدراك العقلي أو التأثير على الأجسام الفيزيائية، دون تماس مباشر معها، أو اتصال عن طريق وسيلة معروفة، ويجري استخدامها في العلاج الطبي غير التقليدي، وقد جرى توظيفها في أنشطة الإستخبارات وتحليل المعلومات، وكانت عقائد الدول الشيوعية ترفضها لأنها تتناقض مع فكرتها المادية التي لا ترى وجوداً إلا للمادة، ولا تؤمن بما وراء المادة، غير أنها قد قبلت بها لاحقاً، بعدما تبين لها أن الغرب قد سبقها إليها، فإن ذلك علم له قواعده وأصوله، وهو لا يصيّر من يتقنه نبياً أو
ص: 38
وصياً أو حجة فيما يقول.
وعلم النفس الموازي له من العمر حوالي مائة عام، ففي العشرينات من القرن الماضي، وفي ولاية كارولينا في أمريكا أسس العالم (ج. ب. راين) أول مختبر لعلم النفس الموازي في جامعة (ديوك) في مدينة دورهام، وقد تطور هذا العلم كثيراً فيما بعد، شأن نظائرها من العلوم المادية والتي تطورت إلى أن وصل الإنسان إلى الفضاء، وأصبح يبصر في الظلام ما لا يبصره بعينه المجردة عبر منظار مزود بالأشعة تحت الحمراء، فوصلت إلى منح الإنسان إمكانية التحليق فيما لا يمكن للإنسان العادي أن يحلّق فيه، وذلك عن طريق قوة التركيز أو عبر رياضات معينة تعطي للنفس قوة كبيرة أو عبر التواصل مع الجن والشياطين، ولكن هذا الأخير يدخل في نطاق العنوان اللاحق دون دائرة علم النفس الموازي، وإن أمكن تعميمه له توسعاً لكنه مجاز.
وقد كان معروفاً متداولاً عند العرب قديماً أيضاً، وكانوا يطلقون عليه تسمية الكهانة، ولم يكن يخفى على الناس أن الكاهن مرتبط بالجن أو بالشياطين، وهم يزودونه ببعض الأخبار - لامتلاكهم بعض القدرات التي لم تعط َ للإنسان -، فإذا قام الإنسان - الضالّ - بالتواصل مع الجن أو الشياطين أو بتسخير الجن، فإنهم يأتونه ببعض الأخبار عن أفكار هذا، وما جرى في بيت ذاك، وما الذي سيحدث وما أشبه؛ ومن الواضح أنهم يمزجون حقاً بباطل وصواباً بخطأ.
ص: 39
ومن سنن الابتلاء الكوني أن تكون هناك قدرات متفاوتة يستفيد منها الأشرار لأغراضهم الشريرة.ولقد كان من أبرز شخصيات العرب، شخص اسمه (شق)(1)، وآخر اسمه (سطيح)(2)، وكلاهما كانا كاهنين يخبران بالمغيبات، وقد صدقت أخبارهما في كثير من الأحيان.
والغريب أن المعادلة التي يذعن لها الكهنة وأدعياء الفرق الضالة هي: أننا لا نتضرر شيئاً من دعاوانا وإخباراتنا الغيبية، فمن صدق فيه إخبارنا آمن بنا، ومن لم يصدق معه فلا ضر ولا ضير علينا، لأننا لم نخسر شيئاً، بل ربحنا من آمن بنا وكفى!!
وهكذا المبطلون في هذا الزمن، فإنه يخبر بكذا وكذا، فيصيب مع عشرة فيتصورونه نبياً أو سفيراً، ويخطئ مع عشرة فيخسرهم، لكنه لا يهمه ذلك بعد أن ربح العشرة الأوائل!
فلو تنبأ المخبر المدعي بعشرين حدثاً لعشرين شخصاً، وصدق في بعضها، وآمن به خمسة منهم، وأخفق في الباقي، فإنه يعتبر مَن آمن به من هؤلاء الخمسة ربحاً له، وبهم وأشباههم يصطنع له حزباً وفرقة ومذهباً وعساكر!
ص: 40
إن الإخبار ببعض المغيبات ومصادفتها للواقع ليس دليلاً على الحقّانية، وإلا لكان كل كاهن وساحر على حق، ولكان كل منجّم على حق، ولكان كل قارئ للكف أو الفنجان أو الرمل والاسطرلاب على حق، بل إن بعضهم يرمي الزيت على الماء فيقرأ طريقة تشكلاته، وقد يصيب بعضها فيخبر بأنه سيولد له ذكر وبنتان مثلاً، وقد يحدث له ولا يحدث لغيره ما قاله، ولكن ما الذي يضره إذ إن شعارهم (حجارة ببلاش عصفور بفلس) كما يقول المثل الشعبي!
وهناك ما يسمى ب(السحر الأسود)، وهذا ما يمارسه أيضاً بعض رؤساء الفرق الضالة، إذ يسحرون طفلاً أو شابة فيمرض ويشتد مرضه - صدعاً كان أو غيره - حتى يصل إلى حدالموت، ثم يأتي شخص إلى الأب أو الولي فيقول له: راجعت الأطباء ولم تصل إلى نتيجة، فتوسل بفلان - وهو رئيس فرقة ضالة -، فإنه يشفي ابنك، فإذا ما توسل عمدوا إلى الطلسم أو السحر فأبطلوه، فيشفى الطفل من فوره؛ ومن خلال هذه العملية، يتوهم بعض البسطاء من الناس، والذين لا يعرفون من أساليب المكر والخداع شيئاً، يتوهمون أن فلاناً متصل بالفعل بالسماء، وأنه ولي من الأولياء أو سفير من السفراء أو حتى نبي من الأنبياء!
وكمثال على استعانة بعض بالسحر كدليل لصدق دعواه، ما جاء في
ص: 41
أحوالات إحدى شخصيات الهند، وهو (ساتيا ساي بابا)((1)، وهو من مواليد 1926م، وكان يدعي الخوارقوالاتصال بالسماء، ولعله كان يدعي
ص: 42
الألوهية، إذ كان الناس يسجدون له، وكان يقوم ببعض الأفعال التي توحي بأنها من الكرامات التي يعجز الآخرون عن القيام بمثلها.
وكان من أعماله أن يحوّل الماء في الكوز إلى عصير لذيذ أو إلى بنزين أمام أعين الناس، وكان يرش الماء من الكوز على الناس حتى لا يبقى فيه شيء، ثم بعد ذلك يقلبه ويحركه ويجعله ينبع عصيراً فيرشه مرة أخرى على الناس(1)، وكان أحياناً يستخرج من يده تراباً ثم يعطيه للناس للبركة.وقد وجه له استشاريان من جامعة (بنغالور) الهندية دعوة رسمية عام (1976م) كي يقوم بكراماته المزعومة في ظروف محايدة تماماً - كي لا يقوم بحيلة كيماوية أو عبر خفة اليد وغيرها -، إلا أنه رفض وأجاب بجواب استعلائي: أنتم لا تعرفون إلا المعادلات العلمية المادية وعقولكم ضيقة، ولا يقبل هذه الأمور الروحية إلا ذوي النفوس السامية العالية!
ونحن بدورنا أيضاً نوجه دعوة إلى كل من يدعي المهدوية أو السفارة أو شبه ذلك، فنقول لهم:
فليأتوا إلى مكان معروف للكل كحرم أبي الفضل العباس (علیه السلام)، أو حتى إلى إحدى المستشفيات العالمية الشهيرة، وفي ظروف موضوعية مناسبة، وسيقوم جمع من المحايدين بانتخاب مرضى ثبت علمياً مرضهم أو نقصان
ص: 43
أعضائهم كمقطوعي اليد أو الرجل أو العين أو الفاقدين لإحدى الكليتين، ليشهد الجميع صنيعهم بهم. وهل يستطيعون أن يرجعوا لهم يداً أو عيناً؟!
فلا يجديهم شيئاً أن يحددوا شخصاً سبق لهم أن سحروه، ثم يأتون ويبطلون السحر فيعتبرونه كرامة، ودليل صدق.
إنما ما يجدي في صدق دعواهم، أن يستطيعوا إرجاع يدي أو رجلي أو عيني من فقد يديه أو رجليه أو عينيه، فإن هذه هي الكرامة أو أشباهها و هي التي لا يمكن الشك فيها.
أما أن يستعينوا بقواعد علم النفس الموازي، وهو علم أرضي مادي، أو بالسحر الأسود أو بالرياضات الروحية، ثم يدّعون ما يشاؤون لبسطاء الناس، فإن ذلك ليس إلا مجرد خدعة لا تنطلي على العقلاء.
إن النفس تمتلك قدرات كبيرة جداً، ويمكن لمن ارتاض جيداً، ووفق قواعد وأصول معروفة، أن يعالج من كان يعاني من الصرع أو الوسوسة والهلوسة وغير ذلك، ويرمم ذلك بقدرته الروحية.
كما أن من الممكن - عبر التنويم المغناطيسي - أن يستخرج المنوِّم من الشخص الآخر كل المعلومات الكامنة في خبايا باطنه ولاوعيه، حتى المنسيّة منها، ويخبره بأحداث من ماضي حياته وأسرته، فيذهل لها، من غير أن يعلم بأنه عبر التنويم المغناطيسي قد ولج إلى باطنه وأخذ منه كافة معلوماته، وسيأتي تفصيل الكلام عن التنويم المغناطيسي والتنويم الإيحائي في الفصلين
ص: 44
القادمين بإذن الله تعالى.إن استخدام قواعد علم النفس الموازي - الباراسايكولوجي - أو تسخير الجن أو استخدام التنويم المغناطيسي أو السحر أو غير ذلك، لا يعد من الأدلة والحجج المعتبرة الشرعية المرضية، بل ليس إلا مغالطة باردة!
ومن الواجب على الجميع أن يرجعوا إلى العلماء الصالحين والخبراء بشؤون الدنيا والدين، وأن يتعرفوا على الحجج الصحيحة المستقاة من الكتاب والسنة والعقل.
وعلى الجميع الحذر كل الحذر من الذين يأتون بالبدع ثم يتظاهرون بالصلاح وبالارتباط بالسماء!
ومن المعلوم أن الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) لعن العديد من الضالين، فما كان من أحدهم عندما بلغه اللعن إلا أن سجد لله شكراً أمام الناس!! فقيل له: ماذا تفعل؟ قال لجماعته: لا تعرفون أي مقام شرفني به الإمام (علیه السلام)!
قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأن اللعن هو الإبعاد والطرد، مما يعني أن الإمام أبعدني عن غضب الله تعالى وعذابه، أي عن النار!!
ختاماً: إن من يُدخل في الدين ما ليس منه، ويختلق حججاً لم يدل عليها الشارع الأقدس ولا العقلاء، ويدعي مقامات غيبية كالسفارة ونظائرها، فإن على المجتمع الإيماني و من يهمه أمر دينه ودنياه، أن يكون أشداء معه غاية الشدة، وأن يجهر للناس بأنه كاذب مبطل، ولا يسمح له بالعبث بدين الله تعالى، قال عز وجل: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَالله
ص: 45
مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(1).
وقد ورد في الرواية: «بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفَ بِالشَّلْمَغَانِيِّ عَجَّلَ الله لَهُ النِّقِمَةَ وَلَا أَمْهَلَهُ قَدِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَفَارَقَهُ وَأَلْحَدَ فِي دِينِ الله وَادَّعَى مَا كَفَرَ مَعَهُ بِالْخَالِقِ جَلَّ وَتَعَالَى وَافْتَرَى كَذِباً وَزُوراً وَ قَالَ بُهْتَاناً وَإِثْماً عَظِيماً كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِالله وَضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً وَخَسِرُوا خُسْراناً مُبِيناً وَإِنَّا بَرِئْنَا إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَاتُهُ مِنْهُ وَلَعَنَّاهُ عَلَيْهِ لَعَائِنُ الله تَتْرَى فِي الظَّاهِرِ مِنَّا وَالْبَاطِنِ وَالسِّرِّ وَالْجَهْرِ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ وَعَلَى كُلِّ مَنْ شَايَعَهُ وَبَلَغَهُ هَذَا الْقَوْلُ مِنَّا فَأَقَامَ عَلَى تَوَلَّاهُ بَعْدَهُ أَعْلِمْهُمْ تَوَلَّاكَ الله أَنَّنَا فِي التَّوَقِّي وَالْمُحَاذَرَةِ مِنْهُ عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ نُظَرَائِهِ مِنَ السَّرِيعِيِّ وَالنُّمَيْرِيِّ وَالْهِلَالِيِّ وَالْبِلَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَعَادَةُ الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَعَ ذَلِكَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ عِنْدَنَا جَمِيلَةٌ وَبِهِ نَثِقُ وَإِيَّاهُ نَسْتَعِينُ وَهُوَ حَسْبُنَا فِي كُلِّ أُمُورِنَا وَنِعْمَ الْوَكِيل»(2).
ص: 46
التنويم المغناطيسي والإيحائي السلاح الأكبر بأيدي الأديان والفرق الضالة
ص: 47
ص: 48
يقول الله تعالى :
«مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ»(1)، ويقول جل اسمه: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً»(2).
في الآية الشريفة الثانية تنقيح لموضع الآية الشريفة الأولى، فإن متعلق الشدة في قوله تعالى: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ» هو الكفار، والآية الثانية «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً»، تنقح الموضوع في الآية الأولى، وتذكر الكفر بدائرته الواسعة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وفي الآية الثانية بصائر كثيرة، نقتصر فيها على ما يرتبط بصلب
ص: 49
البحث الماضي في الفصل السابق حول الأدلة والحجج الباطلة التي تسوقها الفِرَق والأديان الباطلة وبعض طرائقها.
1. إن الآية الشريفة تعتبر من هو جاهل مركب أو القريب منه هم الأخسرون أعمالاً أو هم من «الْأَخْسَرِينَ
أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»، أي الذين يتصورون أنهم بالفعل على حق.على أنه قد يقال إن المراد ليس الجهل المركب المطبق، بل المراد ما كان شبه الجهل المركب، أي مشوباً باحتمال الخلاف - على ضعفٍ - مع تقصير بالمقدمات، فهو كالجهل المركب على تفصيل ليس ههنا محله.
وقد يقال إن الآية «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» أعم من الجاهل المركب وغيره، فهم قسمان: أحدهما: قاطع بالفعل، وثانيهما: شبه القاطع، بحيث لو بحثت في أعماق وجدانه، لوجدته شاكاً، وليس قاطعاً حقيقةً، لكنه يسير بالأمر وكأنه قاطع، وفاقاً للجو المحيط به أو ما شاهده مما تخيل أنه حجة! فقد يُستفاد من الآية التعميم، مع قطع النظر عن الروايات الآتية بعد قليل، إن شاء الله تعالى.
2. ثم إن مطلع الآية الشريفة: «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» مطلق، أي أن مطلق الذين ضل سعيهم في الحياة
ص: 50
الدنيا هم ممن كفروا بآيات ربهم ولقاءه.
كما إن الروايات الشريفة تبرهن ذلك أيضاً، ففي تفسير الصافي في قوله تعالى: «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» قال: (ضاع وبطل لكفرهم وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعاً لعجبهم واعتقادهم أنّهم على الحقّ)(1).
وفي تفسير القمي قال: (نزلت في اليهود وجرت في الخوارج)(2)(3)، وعن الإمام الباقر (علیه السلام): «هم النصارى والقسيسون والرهبان وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة والحرورية وأهل البدع»(4)، فالآية إذن عامة، تشمل حتى أهل البدع وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة والمسلمين.
وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه سئل عن هذه الآية، فقال (علیه السلام): «كَفَرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ فَابْتَدَعُوا فِي أَدْيَانِهِمْ وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ثُمَّنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِ ابْنِ الْكَوَّاءِ ثُمَّ قَالَ يَا ابْنَ الْكَوَّاءِ وَمَا أَهْلُ النَّهْرَوَانِ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ»(5).
ص: 51
وفي عيون(1) أخبار الرضا (علیه السلام)، فيما كتبه للمأمون، يجب «الْبَرَاءَةُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِيثَارِ وَمِنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ(2) وَأَهْلِ وَلَايَتِهِ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَبِوَلَايَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) وَلِقائِهِ كَفَرُوا بِأَنْ لَقُوا الله بِغَيْرِ إِمَامَتِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً فَهُمْ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَقَادَةِ الْجَوْرِ كُلِّهِمْ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ»(3).
وقد فصلنا الحديث في بعض الكتب(4)، عن أن للكفر إطلاقات خمسة: ومنها ما يقابل الإسلام، ومنها ما يقابل الإيمان، ومنها الكفر العملي .. إلى غير ذلك.
كما ظهر بذلك إن الأخسرين أعمالاً أعمّ وأوسع دائرة، فتشمل كل من ضل عن أي أصل من أصول الدين.
ثم إن ههنا سؤالاً هاماً، وهو لماذا كانوا «الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً»؟ الشامل بإطلاقه(5) الكافر المعاند، والضال المعاند، وغيرهم؟
وسنبحث ذلك لاحقاً، إن شاء الله تعالى.
ص: 52
لكن هنا يبرز سؤال يحتاج إلى تحليل، وهو سؤال مهم يدور في أذهان الكثيرين، وهو: قد يكون من الغريب إن أكثر من (5) مليارات من البشر في العالم، بمختلف ألوانهم وأشكالهم، لا يزالون كفاراً أو مشركين أو ملحدين، مع أن الكثير جداً منهم - إنْ لم يكن أغلبهم - سمعوا عن الإسلام، وعن رسول الإنسانية محمد المصطفى (صلی الله علیه و آله)، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام)، فلا أقل عندئذٍ من تولد احتمال لديهم أن هذا الدين الكبير على حق، إذن لماذا لا يبحثون عن الحقيقة؟!
ثم ما الذي وجدوه في الهندوسية - كمثال - حتى يتشبثوا بها؟! وما الداعي العقلائي لعبادة البقر والتبرك بشرب بولها؟!.
أليس هذا مدعاة للاستغراب و الاستفسار؟ والأغرب أن فيهم شرائح ذات مستويات، كالشباب الجامعي والأساتذة في الطب والهندسة، وفيهم محامون وسياسيون ومدرسون وغيرهم.
وكذلك ما الذي وجده المسيحيون في المسيحية المثلثة؟ فتراهم يؤمنون أن الثلاثة تساوي واحداً، وأن الواحد يساوي ثلاثة، مع أن بطلانه من أبده البديهيات.
ص: 53
أو أولئك القائلون بتجسيم الله عزوجل - تعالى عن ذلك علواً كبيراً(1)-، أو إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة(2) أو ليلة نصف من شعبان!! فكيف يعقل أن يذعنوا بذلك؟أو أولئك الذين ينكرون فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام)، وينكرون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نصبه خليفة للمسلمين، مع أن الروايات في ذلك بأعلى درجات التواتر؟!
فلماذا هذا الإصرار بالبقاء على الطريق الباطل؟ مع أن العالم اليوم منفتح، وباستطاعة أي أحد أن يتعرف على الحقيقة، بقليل من البحث والتنقيب في المكتبات أو عبر الشبكة العنكبوتية؟!
والجواب: إن هناك وجوهاً عديدة للإجابة، وهي معروفة، لكن سنركز على الوجه غير المعروف عادة.
أما الوجوه المعروفة فهي تلك التي تتنوع ما بين عامل داخلي وهو
ص: 54
النفس الأمارة بالسوء وسلوك سبل الغي والضلالة، وعامل داخلي آخر هو الخوف من فقدان المصالح وخسارة الامتيازات، إن هم أقروا بالحقيقة، وبين عامل خارجي مساعد وهو ايحاءات الشيطان الذي أخذ عهداً على نفسه بإضلال الناس و إغوائهم، وغيرها من العوامل.
أما الوجه الذي لا يطرح عادة وهو سبب رئيس جوهري فهو:
إن الفرق الضالة كالصوفية ومدعي السفارة، وكذا الملحدون والمشركون وأضرابهم، يقومون بما يسمى بالتنويم الإيحائي وهو نفس (التنويم المغناطيسي) بتسمية أخرى، فالهندوس والمسيحيون والصوفية يقومون بذلك ،كلٌ على طريقته الخاصة، بل يمكن القول بإن مشركي مكة أيضاً قاموا بصورة من صور ذلك، قال تعالى «وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً»(1) والمكاء هو الصفير(2)، والتصدية هي التصفيق، وما ذلك إلا بإيحاء من الشياطين.
وهو يعتمد على فلسفة شيطانية عامة، عند كل الفرق الضالة والمنحرفة.
ومن هنا سنتوقف قليلاً عند التنويم الإيحائي هذا.
إن علماء الأعصاب والمخ البشري قاموا بدراسة عميقة لكيفية استجابة المخ للمؤثرات، فوجدوا أن المخ يحتوي على أمواج كهربائية،
ص: 55
تختلف أعدادها باختلاف الحالات التي تتوارد عليه، فإذا ما أصدر المخ من (13 إلى 15) موجة كهربائية في الثانية الواحدة، فإن الإنسان سيكون في حالة يقظة تامة، وتسمى هذه الحالة (بيتا)، أما إذا أصدر المخ من (8 إلى 13) موجات، فهي حالة ما قبل النوم، أو في بدايات الاستيقاظ، والتي تسمى حالة (ألفا)، وفي هذه الحالة تأتي أحلام اليقظة، وهي تعني أن الدماغ واع ويدرك ما حوله، ولكنه غير نشيط أو فعال، أما إذا وصلت الموجات الكهربائية من (4 إلى 8) فيحصل النوم، وقد تظهر أحياناً بحالات التأمل الطويل والعميق وتسمى هذه الحالة (ثيتا) كما أنها مسؤولة عن سحب حواسنا من التركيز على الوسط المحيط، إلى التركيز على الإشارات التي يتم توليدها ضمن الدماغ، أما إذا وصلت الموجات الكهربائية من (0.5 إلى 4) فتسمى (دلتا) وهي أبطأ الموجات الدماغية من حيث سرعة الانتشار، ويتم توليد هذه الأمواج في الحالات التي تتسم بنشاطٍ عقلي عميق، مثل حالات التأمل الهادئ أو النوم العميق.
والتنويم الإيحائي - المغناطيسي - يعتمد على الحالة الثانية (ألفا)، وهي حالة من الإسترخاء العميق تقع بين حالتي اليقظة والمنام وهي ليست بحالة نوم بل حالة من الاسترخاء العضلي والهدوء الذهني ولا يغيب فيها الوعي، فهو أقرب ما يكون إلى التأثر بالإيحاء والتلقين، فإن هذه الحالة أضعف حالات النفس الإنسانية.
ص: 56
إن التنويم المغناطيسي له نوعان: عام وخاص، والثاني هو المعروف، وهو التنويم المغناطيسي الشخصي، حيث يطلب المنوِّم من الشخص بأن يرخي إزاره، كي لا تضغط عليه ملابسه أو أي شيء آخر، وبأن يجلس على كرسي مثلاً، ويطلب منه النظر إلى نقطة معينة والتحديق فيها، ثم يردد على مسامعه كلمات، من قبيل (الآن نم .. الآن ستنام .. نم الآن ..)، فإذا به تدريجياً يدخل في حالة نوم مغناطيسية.
قال أحد العلماء: ذهبت إلى منوم شهير في إحدى العواصم الكبيرة، فقال لي: لقد بلغت قدرتي في التنويم المغناطيسي إلى درجة أنني استطيع أن أنوّم أي شخص!
فقلت له: لكنك لا تستطيع أن تنومني!يقول فنظر إليّ مليّاً وقال: إن تنويمك بسيط جداً بالنسبة إليّ!!
فقال لي: اصعد على السرير وحدق أمامك، ثم بدء بأساليبه المعروفة، فحاول جهده إلى أن عرق عرقاً شديداً، ولم يفلح!! ثم أعلن عن عجزه واستغرابه، فسألني عن السرّ؟ فضحكت وقلت له: إنني كنت متسلحاً بتلاوة الآيات القرآنية والدعاء وروايات أهل البيت (علیهم السلام)، فكيف يمكن لك أن تنومني مع ذلك؟
ص: 57
لكن هناك نوعاً آخر من التنويم، وهو التنويم المغناطيسي العام(1)، وهو لا يحتاج إلى مثل الطرق السابقة، بل يعتمد على طرق أكثر مرونة وأوسع نطاقاً وأذكى فاعليةً، فقد أثبت علماء الأعصاب والنفس بأن قابلية الإنسان الاستيحائية تقوى وتشتد عندما يبتلى بأحد شيئين:
1. الإجهاد البدني.
2. الإجهاد الفكري.
ولذا تجد أن إحدى الطرق التي يستخدمها المنوّمون تنويماً شخصياً هو العد تنازلياً، والقفز ثلاثة ثلاثة نازلاً، كأن يقول له: قل 100 ثم 97 ثم
ص: 58
94 ثم 91 وهكذا، وهذا الأمر مرهق للذهن ومجهد له، كما هو واضح، وفلسفة ذلك: إن الفكر إذا أصيب بالإجهاد، فإن السيطرة والهيمنة عليه ستكون سهلة وممكنة، والفلسفة هي هي في التنويم العام لكن بشكل آخر.
وكذلك إذا أصيب البدن - وليس الفكر - بالإجهاد، وذلك هو ما يقوم به الصوفية، ومثله المكاء والتصدية عند مشركي مكة، فإن التعاليم الوثنية والضالة تتركز بشكل أقوى عندئذ، ولذا يقوم الصوفية بالرقص والتمايل الشديد إلى أن يصلوا إلى حالة الوجد - كما يعبرون عنها - حتى يسقط أحدهم إلى الأرض من شدة التعب والإرهاق في شبه غيبوبة!
ونظير ذلك نجده في طرق التنويم الشخصية، إذ قد يطلب منه الجلوس على الكرسي الهزاز،؛ لأنه يفقد الإنسان توازنه مما يسهل السيطرة عليه.
وجوهر هذه الأعمال هو جوهر شيطاني، لأن الشيطان معلم الجن والشياطين الآخرين، وهو يعرف الكثير من الأمور التي يجذب من خلالها أتباعه إلى النار، ومنها التنويم المغناطيسي العام، والتنويم الإيحائي العام(1).
أما الغرب فقد استخدم طرقاً كثيراً وأساليب عديدة من طرق التنويم العام المغناطيسي - كما سبق -، ونمطاً آخر من التنويم نسميه العام الإيحائي
ص: 59
الذي يعتمد على تأثير المعلومة - صادقة كانت أم كاذبة - في حد ذاتها، وتتابع المعلومات وتكاتفها وتأثيراتها الذاتية، باعتبارها مما يقتحم الذهن، ويشكل نوعاً من أنواع الوجود الذهني الذي يعايش الشخص في داخلها.
ومن الأساليب: ما يشهده الجميع من أن الغرب يمطر الناس بالمعلومات المختلفة، بل يقذفهم بسيل هادر من المعلومات، كي لا تبقى لهم فرصة التفكير أبداً، فيتأثرون لا شعورياً بكل ما يقال له عن طريق الإنترنيت والأقراص المدمجة والفضائيات والكتب والصحف وغير ذلك. فمعلومة بعد معلومة، وصورة وراء صورة، وفلم أثر فلم، وهكذا تلقين وإيحاء يجهد الفكر ويحاصره من كل الجهات، كي لا يبقى له وقت للتأمل والتمحيص والتدبر(1).
ص: 60
ولقد كانت هذه إحدى أدوات سيطرة الغرب على شعوبه، وهذا ما كشف عنه عدد من علمائهم، وكتبوه في كتبهم ومقالاتهم ودراساتهم، فالإمْطار بالمعلومات الرياضية والمعلومات الكونية والمعلومات الإباحية أو غير ذلك، من الغث والسمين، يُعد من الأدوات السياسية للسيطرة في عالم اليوم، لأنه يسبب إجهاداً فكرياً ونفسياً وضغطاً هائلاً على الناس والأمم، ولا يسمح لهم بالتفكير الهادئ المتروي، فيكونون أقرب إلى الهيمنة والسيطرة عليهم، إذ لا تبقى لهم فرصة للتحقيق عن أبعاد وخفايا وزوايا وحيثيات الأمور، فتتكرس المعلومة الباطلة والمزيفة، كما أرادوها في أذهان العامة(1).
ص: 61
والصوفية المنحرفة تقوم بمثل هذا الإيحاء والتلقين المستمر والمتواصل لأتباعهم عبر تكرار الدعاوى الهرطقية الكبرى والكرامات الغريبة، فمثلا يقول أبو يزيد البسطامي(1): (سبحاني سبحاني ما أعظم سلطاني)، وفي موضع آخر يقول: (كنت أطوف حول البيت أطلبه، فلما وصلت إليه، رأيت البيت يطوف حولي).
وقال أيضاً: (حججت أول حجة فرأيت البيت، وحججت الثانية فرأيت صاحب البيت ولم أر البيت، وحججت الثالثة فلم أرَ البيت ولا صاحب البيت ..)(2)(3)،
ويقول أيضاً: (والله إن لوائي أعظم من لواء محمد (صلی الله علیه و آله))!!.ويقول ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس): قد حكي عن أبي زيد أنه قال: وما النار؟ والله لئن رأيتها لأطفأنها بطرف مرقعتي أو نحو هذا!!.
ص: 62
ثم يعقب ابن الجوزي: (ومن قال هذا ،كائناً من كان، فهو زنديق يجب قتله، فإن الإهوان للشيء ثمرة الجحد، لأن من يؤمن بالجن يقشعر في الظلمة، ومن لا يؤمن لا ينزعج، وربما قال: يا جن خذوني. ومثل هذا القائل ينبغي أن يقرب إلى وجهه شمعة، فإذا انزعج قيل له هذه جذوة من نار فما بالك بالنار)(1)(2).
كما روى المحدث القمي عن السيد مرتضى الرازي بسنده عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب قال: كنت مع الهادي علي بن محمد(علیهما السلام)في مسجد النبيّ (صلی الله علیه و آله)، فأتاه جماعة من أصحابه، منهم أبو هاشم الجعفري، وكان رجلاً بليغاً وله منزلة عظيمة عنده، ثم دخل المسجد جماعة من الصوفية، وجلسوا في جانب منه مستديرين، وأخذوا بالتهليل، فقال (علیه السلام): «لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخدّاعين، فإنّهم خلفاء الشياطين، ومخرّبوا قواعد الدِّين، يتزهّدون لإراحة الأجسام، ويتهجّدون لتصيّد الأنعام، يتجوّعون عُمراً حتّى تدبّخوا للإكاف حُمُراً، لا يهلّلون إلّا لغرور الناس، ولا يقلّلون الغذاء إلّا لِمَلأ العِساس واختلاس قلب الدِفناس (3)، يُكلّمون بإملائهم في الحبّ، ويطرحونهم بأذليلائهم في الجبّ، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنّم والتغنية، فلا يتبعهم إلّاالسفهاء ولا
ص: 63
يعتقدهم إلّاالحمقاء، فمَن ذهب إلى زيارة أحدٍ منهم حيّاً أو ميّتاً، فكأنّما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، ومَن أعان أحداً منهم فكأنّما أعان يزيد ومعاوية وأبا سفيان»(1).وصفوة القول: إن الرقص والتصدية والمكاء، والتكرار المكثف للدعاوى الباطلة والإمطار بالمعلومات ونظائرها، كلها تعتمد على فلسفة التنويم الإيحائي.
وهنا تنجلي لنا عقدة السؤال المطروح وهي: لماذا الملايين من الناس، إنْ لم يكونوا بالمليارات، يؤمنون بالخرافات والإلحاد والأديان والفِرق الضالة والمنحرفة؟
فنقول: لقد ظهر بوضوح مما سبق، أن الكثير منهم خاضع لا شعورياً أو منومٌ إيحائياً بمختلف أنواع التنويم الإيحائي.
وفي الحادثة التالية عبرة وشاهد:
ففي الهند، حيث كانت مستعمرة تابعة لبريطانيا، كان هناك بعض المرتاضين والمشعوذين - ولا زالوا - يقومون بأفعال غريبة، ومنها: إن أحدهم كان يأتي إلى قاعة فيها مجموعة من الناس يتفرجون، ومعه حبل وكيس وطفل، فيرمي الحبل إلى الأعلى في الفضاء، أمام الناس، فيبقى الحبل واقفاً عمودياً معلقاً بالفضاء، ثم كان يأمر الطفل بأن يصعد عليه، فإذا اعتلاه
ص: 64
اختفى، وبعد اختفاء الطفل، كان يصعد المرتاض خلف الطفل فيغيب أيضاً لفترة، حتى يسمع الناس - بعده - صراخ الطفل، ومن ثم كانت تُقذف من الأعلى أعضاء الطفل المقطعة والمدماة قطعة قطعة إلى الأرض، ثم بعد ذلك كان الناس الضاجّون في الصدمة والبكاء، يرون المشعوذ ينزل من الحبل، فيقوم بتجميع الأعضاء المتبعثرة ويضعها في الكيس، ويهزه فإذا بالطفل يخرج سالماً صحيحاً.
وكانت تستولي على الجمهور حالة انبهار من صنيع المشعوذ، وكان أكثرهم يذعن، بعد رؤيته لما حدث بكل ما كان يقوله المرتاض لهم، لكن العلماء لما شاهدوا هذه الظاهرة الغريبة، دعوا المرتاض إلى لندن ليقوم بذلك أمامهم، فاستجاب للتحدي، وسافر إلى لندن، وعينت قاعة كبرى جداً لذلك، وحضر ما يقارب 4000 من العلماء والباحثين والصحفيين والمهتمين بهذا الشأن، والغريب أن قام المرتاض بهذه الأعمال أمامهم، فانبهر الجميع بمشاهدة هذا المنظر الرهيب.
لكن العلماء وحيث كانوا قد وضعوا كاميرات للتصوير، - مع العلم بأن الآلات ليس لها نفس وروح كي يمكن التأثير عليها وتنويمها مغناطيسياً - اطلعوا على الشريط بعد ذلك، فظهرت صورة المرتاض، وهو واقف في مكانه فقط، ومعه أدواته - الحبل والطفل والكيس -، متمتماً ببضع كلمات فحسب ومن غير أن يحدث شيء آخر أبداً، لكنه بهذه الكلمات هيمن على المشاهدين، وتحكم في قواهم العقلية، فخيل إليهم أنهم شاهدوا ما شاهدوا!، وهذا هو نوع من أنواع التنويم المغناطيسي العام.
ص: 65
بل في بعض الحالات إن المرتاض أو المشعوذ قد يوهم الإنسان أنه يرى الملائكة تنزل عليه!!
وهذا أيضا ينطبق على ما يدعيه العديد من العرفاء والصوفية، ودعاواهم عن المكاشفات التي حدثت لهم، وهم ما بين كاذب أو مهلوس أو داخل في حالة التنويم الذاتي، أي إنه - الصوفي أو غيره - يدخل نفسه في حالة التنويم الذاتي، فتبطئ الأمواج الكهربائية، لتنخفض من 14 إلى 8 فيدخل في حالة (ألفا)، وقد يرى بالفعل أن الملائكة تنزل عليه! أو أن الله تعالى يكلمه! أو غير ذلك، فيتصور أنه على حق!!.
وهذا باب شيطاني واسع(1).
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، دعاوى ابن عربي وكشوفاته الكثيرة التي ملأ بها فتوحاته! ومنها ما قاله في كتابه الفتوحات المكية:
(.. ولقد رأيت رؤى لنفسي في هذا النوع، وأخذتها بشرى من الله، فإنّها مطابقة لحديث نبوي عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، حين ضرب لنا مثله في الأنبياء عليهم السلام، فقال صلى الله عليه [وآله] وسلم: «مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى حائطاً فأكمله إلا لبنة واحدة، فكنت أنا تلك اللبنة، فلا رسول بعدي ولا نبي»(2) فشبّه النبوة بالحائط والأنبياء باللبن
ص: 66
التي قام بها هذا الحائط، وهو تشبيه في غاية الحسن. فإن مسمّى الحائط هنا المشار إليه لم يصح ظهوره إلا باللبن، فكان صلى الله عليه [وآله] وسلم خاتم النبيين. فكنت بمكة سنة تسع وتسعين وخمسمائة أرى فيما يرى النائم الكعبة مبنية بلبن فضة وذهب ولبنة فضة ولبنة ذهب، وقد كملت بالبناء، وما بقي فيها شيء، وأنا أنظر إليها وإلى حسنها، فالتفت إلى الوجه الذي بين الركن اليماني والشامي، هو إلى الركن الشامي، أقرب فوجدت موضع لبنتين لبنة فضة ولبنة ذهب ينقص من الحائط في الصفين، في الصف الأعلى ينقص لبنة ذهب وفي الصف الذي يليه ينقص لبنة فضة، فرأيت نفسي قد انطبعت في موضع تلك اللبنتين، فكنت أنا عين تينك اللبنتين!! وكمل الحائط ولم يبق في الكعبة شيء ينقص، وأنا واقف أنظر، واعلم إني واقف، واعلم إني عين تينك اللبنتين، لا أشك في ذلك وأنّهما عين ذاتي!!.واستيقظت فشكرت الله تعالى وقلت متأولاً: إنّي في الاتباع في صنفي كرسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم في الأنبياء عليهم السلام، وعسى أن أكون ممن ختم الله الولاية بي(1)
و«وَما ذلِكَ عَلَى الله بِعَزيز»، وذكرت حديث النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم في ضربه المثل بالحائط، وأنه كان تلك اللبنة. فقصصت رؤاي على بعض علماء هذا الشأن بمكة من أهل توزر، فأخبرني في تأويلها بما وقع لي، وما سميت له الرائي من هو. فالله أسأل أن يتمّها علي بكرمه فإن الإختصاص الإلهي!! لا يقبل التحجير ولا الموازنة
ص: 67
ولا العمل، وإن «ذلِك من فَضْلِ الله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ من يَشاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»)(1)
انتهى كلامه.
والغريب: إنه في مكاشفته أو منامه يرى نفسه أعلى وأسمى وأفضل من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فالرسول الأعظم مجرد لبنة في حائط - بحسب الحديث الذي نقله! - أما هو فإنه لبنة ذهب ولبنة فضة في جدار الكعبة المشرفة بنفسها! وواضح أنه كاذب فيما يدعيه، فإن كابر مكابر وقال إنه صادق فلا ريب أنه مهلوس أو واقع تحت تأثير التنويم المغناطيسي الذاتي ووحي الشياطين.
وموجز القول: إن أئمة الضلال يسيطرون على أتباعهم من خلال أنماط من التاثير المغناطيسي الخاص أو العام والإيحائي العام أو الخاص أيضاً، والتنويم الإيحائي والمغناطيسي، وهذا أمر أثبته العلم الحديث، بل هو ضارب بجذوره في عمق التاريخ، فقد كان الفراعنة والبابليون واليونانيون يستخدمون مثل هذه الطرق، الأمر الذي يكشف سراً من أسرار بقاء خط الضالين وغوايتهم للناس، على مرّ التاريخ، في مقابل خط الأنبياء والمرسلين (علیهم السلام)، رغم أن المرسلين هم رسل الله تعالى، وذووا المعاجز الحقة والبراهين الصادقة!
ص: 68
من مناشئ الضلال ووسائل السيطرة على الجماهير:
* التنويم الإيحائي
* الخداع
* العلم المسيّس والمغالطة (1)
ص: 69
ص: 70
يقول الله تعالى:
«مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ»(1).
ويقول جل اسمه: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا»(2).
سبق البحث حول الأديان المنحرفة وحول الفرق الضالة، وكيف يعقل أن يتبعها الملايين من البشر ومنهم الكثير من الفلاسفة والعرفاء وأساتذة الجامعات والنخب الثقافية أو غيرهم وحتى في داخل الدائرة الإسلامية الواحدة.
وقد سبقت بعض الإجابات عن أسباب اتباع البشر للأديان المنحرفة
ص: 71
والفرق الضالة، لكننا سنتوقف عند بصيرة أخرى من البصائر التي تضئ شعلتها الآيات الكريمة مما يرتبط بمساق البحث وثماره.
يقول تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً»؟ ليأتي الجواب أنهم: «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا».
وههنا مشكلة علمية متوهمة، وهي: إن الأسوأ أعمالاً هو المعاند العالم العامد المخالف، وليس الجاهل المركب، وذلك لأن أصناف الناس من حيث العلم والجهل أربعة:
1. الجاهل البسيط: وهو من لا يعلم وهو يعلم بأنه لا يعلم.
وعلاج هذا النوع سهل، لأن معرفة الداء نصف الدواء ومعرفة المريض بمرضه هو نصف الحل.
2. الجاهل المركب: وهو من لا يعلم وهو لا يعلم بعدم علمه، زاعماً أنه يعلم.
وعلاج هذا النوع صعب إلى حد كبير.
3. الجاهل الشبيه بالمركب: وهو برزخ بين القسمين السابقين، أي هو الجاهل المركب المشوب جهله ببصيص نور، كمن يعتقد مثلاً بنسبة 99% أنه على الحق، ويحتمل بدرجة 1% فقط أنه على الباطل، لكنه يقوم بإلغاء هذا الاحتمال، ويبني على أنه على الحق 100%، والكثير من الناس على هذه الشاكلة؛ ولذا ذهب الكثير من العلماء إلى عدم وجود جاهل قاصر
ص: 72
حقيقي، بدعوى أنهم من هذا القسم من أنواع الجاهل الشبيه بالمركب، أو لأنه وإنْ وجد الجاهل المركب فإنه لا محالة مقصر في المقدمات التي أوصلته إلى النتائج التي وصل إليها وآمن بها(1).
ولعل الآية الشريفة تشير إلى هذا القسم، أي إن الذي (ضل) هو مابين الجاهل البسيط والجاهل المركب.
4. وهو العالم المعاند وهو الجاحد، وهذا هو أسوأ الأقسام على حسب الظاهر! ومع ذلك فكيف يوصف من «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» ب«الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً»؟
هناك عدة وجوه للإجابة نذكر منها:
أولاً: إن الحصر هنا حصر إضافي وليس حقيقياً، فليس المراد من «الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً» ما يقابل المعاند، الذي هو الأخسر من الأخسر، وإنما ما يقابل الجاهل البسيط، أي المراد هو الجاهل الشبيه بالمركب الذي هو البرزخ بين الأمرين، وهو الممسوخ فكرياً، فإنه أسوأ من الجاهل البسيط، وذلك لأن فعله خطأ، كما أن نفسه مشوبة وملوثة.ثانياً: أن نلتزم بأن الحصر حقيقي، حيث يكون هؤلاء هم الأخسر أعمالاً، حتى من العالم المعاند.
ويتضح الأمر بدراسة المثال التقريبي الآتي:
لو كان هناك شخصان في الصحراء، يعلم الاول منهما بأن هذا الطريق متاهة توصل إلى مسبعة(2)
أو إلى قطاع طرق، لكنه رغم علمه
ص: 73
بذلك، أصر على السير في ذلك الطريق الخطر، عناداً. والثاني يعتقد بأن الطريق سالك لا مشكلة فيه، بل إن به النجاة، وذلك اعتماداً على معلومات خاطئة اطمأن بها أو بوصلة غير منضبطة تصورها وثيقة.
وهنا سنجد الفارق بين الشخصين - الجاهل الذي يحسب أنه عالم، والعالم المعاند - كبيراً، فإن الجاهل الذي يحسب أنه يحسن صنعاً بسلوكه هذا الطريق الخاطئ، لهو أسوأ حالاً من العالم المعاند، وأكثر خسارة منه من عدة جهات:
الأولى: من جهة أنه يُغِذُّ السير(1) ويسرع في المسير الذي ستؤول إلى الوصول إلى المسبعة والهلاك فيها أسرع؛ لأنه يتوهم أن بذلك النجاة.
الثانية: ومن جهة أنه سوف لا يتوقف ليتمتع بالمباهج والمناظر الجميلة أثناء الطريق؛ لأنه يعتقد بأن الخلاص من الأخطار، لهو في سرعة طي هذا البيداء، وإن الجنة والسعادة في الوصول إلى تلك المسبعة التي توهم أنها هي الجنة المنشودة!!
وفي المقابل نجد أن العالم المعاند من جهة، لا يجد داعياً أكيداً لكي يغذ السير، لأنه يعلم بأنه سيصل إلى المسبعة المهلكة، فلا يرى بأساً بالتمهل لساعات أو أيام مثلاً، كما أنه يجد وقتاً طيباً لكي يستمتع بالملذات أثناء الطريق.
وذلك مما يلقي الضوء على حال أتباع الفرق الضالة، الذين يضحون
ص: 74
بكل شيء في سبيل المعتقد الباطل، لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فيما نجد رئيس الفرقة حيث إنه عالم ببطلان مسلكه وضلاله، فلا يضحي بحياته ولا بثرواته ولا بموقعه، بل نجده حريصاً على الاستمتاع بمباهج الحياة، ولذا تجدهم أيضاً يرتبطون بالشرق والغرب إلى أن تأتي نهايتهم السيئة.
ويشهد لذلك: ما قد يظهر أن أكثر الانتحاريين الإرهابيين، هم من المضللين المخدوعين، فتجدهم يفجرون أنفسهم ليقتلوا العشرات من الأبرياء والصالحين، من أتباع أهل البيت (علیهم السلام) أو غيرهم،متوهمين أنهم بذلك يحسنون صنعاً، وأنهم يقتلون المشركين أو كفاراً حربيين، وإنهم سيصلون بذلك إلى الجنة سريعاً بزعمهم؛ أما الذين يعلمون منهم بأنهم على باطل، فقلما بل ندر بل عدم، أن يستعد أحد منهم أن يفجر نفسه، لعلمه بمصيره إلى النار مباشرة.
الثالثة: ومن جهة أخرى فإن الصدمة ستكون أكبر وأعظم عند الجاهل، لأن العالم كان قد أعد نفسه، طوال أيام أو سنين، لمواجهة تلك النتيجة، بينما الجاهل سيفاجئ بالعاقبة الوخيمة التي كان يحسبها الجنة والسعادة!!
ثم إن الآية الشريفة فيها مزيد من الدقة لمن تدبر وتفكر، فإنها لم تقل الأخسرين أنفساً! بل قالت: الأخسرين أعمالاً، وذلك لأن المعاند عقوبته أشد، أما الجاهل البسيط والمركب وكذا شبه المركب أخف عقوبة منه، لمكان
ص: 75
جهله، لكن أعماله هي الأخسر من المعاند، والمثال السابق خير مرشد لذلك، إذ نجد أن أعمال الجاهل أسوأ من جهة إنه يغذّ السير ولا يتمتع بمباهج الحياة ويفاجأ مفاجئة كبيرة وغير ذلك، فكلها خسارات تفوق الخسارة العملية أو السلوكية من هذه الجهات.
الرابعة: ومن جهة أن المعاند يمكن أن يتوب ويتراجع؛ لعلمه على ما هو عليه من البطلان، فقد يصحو ضميره أو يستيقظ وجدانه أو يبتلى ببلية، فيخاف من أخرى أشد منها أو غير ذلك، كما نشاهد ونسمع عن الكثيرين من المعاندين الذين اهتدوا في نهاية المطاف، بينما من يعتقد أنه يحسن صنعاً، فإنه لمكان تصوره أنه على حق، لا يخطر بباله أن يتوب أو يتراجع عن مسيره، ولأن ضميره يعمل بالضد من الحق الواقعي، فلا وجه لأن يتوب أو يتراجع إلا أن يأتي عامل خارجي فيطهر نفسه ويوقظه بقوة تكوينية(1).ومن هنا نجد أن بعض القتلة يسلمون أنفسهم إلى القضاء، بعد فترة من جريمتهم، وما ذلك إلا لأن ضميره يؤرقه، حتى إنه قد لا يستطيع النوم طوال الليل، بينما مثل هذا الضمير الوخْز(2) والمنبه لا يجد طريقاً له
ص: 76
في نفس الجاهل المركب.
الإيحاء، الخداع، العلم والمغالطة
لنعد إلى السؤال السابق: فإننا عندما نتصفح حال الكثيرين من أتباع الفرق الضالة والأديان المنحرفة أو العلمانيين، نراهم بالفعل يعتقدون أنهم على صواب، إما بجهل مركب أو بالجهل البرزخي، فكيف يسيطر قادة الفرق الضالة على اتباعهم؟
والجواب: هناك طرق عديدة، وقد سبق الحديث عن بعضها، وسنشبعه مرة أخرى بوجهٍ آخر، كما سيأتي الحديث عن طرق وأساليب أخرى، فمنها:
التنويم الإيحائي، وهو أعم دائرة من التنويم المغناطيسي، وقد سبق(1)
لكن نضيف هنا:إنه بحسب إحصاءات (منظمة الصحة العالمية)، فإن نسبة الذين لهم
ص: 77
قابلية الوقوع ضحية التنويم الإيحائي تصل إلى 90% من سكان العالم، وهو رقم مهول حقاً، ويدخل تحته الآلاف من علماء الذرة أو الفيزياء أو الطب أو الدين أو غيرهم، فضلاً عن عامة الناس، بل قد يدخل تحت هذا الرقم، عباقرة العلماء في شتى التخصصات، والسر في ذلك: أن الكثير من علماء الفيزياء أو الفلك أو الطب أو غير ذلك، وإن برع وتخصص في مجاله المعين إلا أنه في شؤون العقيدة يبقى كعامة الناس فاقداً للتخصص فيها، غير عارفٍ ولا ملم بالمعادلات والأدلة والبراهين، لا يميزنها عن المغالطات والخطابة ونظائرها، مما يسهل التأثير عليهم وخداعهم فيها.
وهكذا نجد أن الفرق الضالة تستفيد - أكبر الاستفادة - من هذه النافذة، بل هذه البوابة الكبرى المشرعة لابتلاع الملايين من الناس.
وهنا نقطة هامة جداً، وهي إن التنويم الإيحائي سلاح ذو حدين، ومثله كمثل السكين، فقد يصب استخدامها في سبيل الشر، وقد يستخدم لأهداف نبيلة.
ولذا كان الأنبياء والصالحون يستخدمون الطرق الصحيحة من الإيحاء والتلقين على نطاق واسع، بل إن بُعداً هاماً من أبعاد فلسفة (شعائر الله)، هو الإيحاء الجمعي الإيجابي، ولا نسميه تنويماً إيحائياً لأنه إيقاظ إيحائي، وهذا يكشف أيضاً سراً من أسرار ضراوة الغرب والشرق وأتباعهم في محاربة الشعائر الدينية والحسينية بشكل عام، لعلمهم بمدى تأثيرها الإيحائي على الملايين من
ص: 78
الناس، وعلمهم بإن هذه الوسيلة والطريقة ناجعة ومؤثرة، لكنهم يرفضون المضمون، ويحاربون المعاني الإسلامية والولائية الصحيحة الكامنة فيها.
وبذلك يتضح لنا وجه حضاري مشرق من وجه تشريع الشعائر الدينية والحسينية، كالطواف ورمي الجمار والبكاء واللطم والتطبير وغيرها، فإن جزءاً من فلسفتها الأساسية هو هذا التأثير الإيحائي الفعال، وإن توهمها بعض قاصري العلم والمعرفة أفعالاً روتينية، بل رآها لغواً أو همجية، وذلك ما يكشف عن بعض عمق قوله تعالى: «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله»(1)، فتدبر جيداً!
تعتبر المخادعة من الأسلحة الفعالة التي يستخدمها أرباب الفرق الضالة، قال تعالى: «إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ»(2)، والمشكلة أن البسطاء من الاتباع لا يفطنون لمكامن الخداع التي بنى رؤساء الفرق الضالة عليها ضلالاتهم؛ كونهم يقيسون الآخرين على قرارة أنفسهم في البساطة والطيبة.
في زمن أحد السلاطين وعندما دخل الهند، وجد الكثير من الناس يعبدون الصنم، وقد سمع عن ظاهرة غريبة جعلت الكثير من البسطاء
ص: 79
يؤمنون أو يزدادون إيماناً بألوهية الأصنام، فقد كان هناك معبد كبير، في وسطه صنم ضخم معلق في الهواء، من غير أن يكون على الأرض أو مشدوداً بالحبل من الأعلى! وكان الناس يرون في ذلك آية دالة على ألوهية الصنم بزعمهم! ففكر السلطان مستغرباً، كيف يمكن ذلك؟ وما هي الخدعة وراء ذلك؟ إذ كيف يمكن بقاء الصنم معلقاً في الفضاء بلا سند أو عماد!
وكان له مستشار فطن، قلّب الأمر على وجهه، حتى اكتشف أخيراً أن المسالة تعتمد على معادلة علمية، وهي وجود ألواح ضخمة من المغناطيس - بقطبيها السالب والموجب - من جانبي الصنم، في داخل الحائطين بكميات كبيرة محسوبة بدقة بالغة، كما وضع في داخل الصنم كميات من الحديد، وجرت هندسة ذلك عبر موازنة دقيقة، كي لا يختل التوازن، وبحيث لا تجذب ألواح المغناطيس التي في أحد الجانبين، الصنم إلى جهتها إذ تكافأها الألواح الموجودة في الجانب الآخر، ولذلك ظل الجسم - الصنم - معلقاً بالهواء بين الحائطين، مما أوهم البسطاء أن الرب - الصنم المصنوع - يقف في الهواء غير مستند إلى شيء!
وهنا اقترح المستشار أن يزيل بعض الجنود ألواح المغناطيس الموضوعة في أحد الحائطين، وسرعان ما شاهد الجميع الصنم ينجذب بقوة هائلة إلى الجانب الآخر لقوة الجذب المغناطيسي، فيصطدم بالجدار بكل عنف وشدة!!
وبعدها عرف الناس الخدعة ورجع الكثير عن الاعتقاد بالمعجزة الموهومة.
و مؤخراً، قدمت فضائية أمريكية تحقيقاً كشفت فيه عن خدعة رجل
ص: 80
يمشي على الماء أمام أنظار الناس، وأظهرت من خلال فيديو، رجلاً يمشي على سطح ماء بركة فيها مجموعة من السباحين، وهم ينظرون إلى الرجل الخارق يسير على الماء دون أن يغرق، بل إن بعض السباحين غاصوا وسبحوا أسفل أقدام الرجل.وأظهر التحقيق التلفزيوني اندهاش المتفرجين مما يحدث أمامهم، وعلى مرأى منهم.
ثم كشف التحقيق عن الطريقة التي أوهم بها الرجل الناس، وكأنه يمشي - فعلاً - على الماء، وكان السر يكمن في مادة ال(بليكسيغلاس) أو (الصناعي الشفاف) الموضوع على قوائم شفافة من ال (بليكسيغلاس) داخل البركة، حين تغمره المياه، ويُصور من زوايا معينة، يكون ال(بليكسيغلاس) غير مرئي، وتستحيل مشاهدته، لكن مع تغيّر زاوية الكاميرا، يصبح ال(بليكسيغلاس) مرئياً.
أما السر الآخر الذي كشف كذب الرجل الخارق، هو أن الذين كانوا معه في البركة، تقاضوا المال للتظاهر بأنهم لا يستطيعون رؤية منصات ال(بليكسيغلاس)، وقد تم بناء المنصات بواسطة ألواح متعددة الأحجام، وهي قائمة على القوائم الشفافة التي تبلغ قعر بركة الماء، والمنصات طويلة وضيقة، ويمكن مشاهدتها بشكل أفضل من الزوايا المنخفضة، حيث تصعب مشاهدة المنصات من الجوانب، لذا تم اختيار زوايا الكاميرات بعناية لجعل الخدعة قابلة للتصديق، كما أن حركة المياه تضيف صعوبة أخرى على إمكانية مشاهدة المنصات التي يسير عليها الرجل الخارق، والموجودة تحت
ص: 81
سطح ماء البركة.
يعتبر العلم هو الآخر سلاحاً ذا حدين، ولذا استخدمه المحقون والمبطلون على مر الأعصار، وقد استخدم الغرب فروعاً من سلاح العلم(1) كثيراً جداً لضرب الأديان ولضرب الإسلام، وخاصة في القضية المهدوية، وقد أسسوا معهداً متخصصاً في القضية المهدوية، يصرفون عليه أموالاً طائلة جداً، معرفة منهم بمدى خطورة المنقذ العالمي المهدي المنتظر (علیه السلام) على مصالحهم الاستراتيجية وحكوماتهم الاستعمارية.
وقد ذهب بعض من نعرفه إلى ذلك المعهد عبر طريقة خاصة، واطلع عن كثب على بعض برامجه وبعض الدراسات المهدوية، فوجد أن الباحثين فيه يُخضعون كتب الفريقين لتدقيق وتمحيص وتحليل، وفي بُعد آخر كانوا يدرسون مدى إمكانية تقليد هذه التجربة أو تقليد بعض جوانبها على الأقل، وابتداع مذهب أو فرقة تتسلح بهذه الدعوى، ومعها محاكاة لبعض تلك الغرائب، وعلى سبيل المثال كانت إحدى الدراسات تنصب على مدى إمكانية تقليد ما أشارت إليه إحدى الآيات القرآنية: «وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ»(2) بأن يصنعوا دابة تخرج من الأرض فتتكلم بكلام، وتتصرف كمخلوقأعلى
ص: 82
متطور جداً(1)
وتقول ما يبرمج لها، وبما ينسجم مع معتقداتهم ومتبنياتهم، ثم يُعِدّون المشهد والسيناريو بحيث ينطلي على الكثير من البسطاء.
وكانت إحدى الدراسات تنصب على صناعة مدّعٍ للسفارة، يتم تسليحه بالحجج العلمية الغيبية، مثل أن يستدل على الناس بنزول أربعة من الملائكة أو أكثر يشهدون له بذلك، عبر عملية الخداع البصري من خلال العلم الحديث، وليس فقط عبر سحر الأعين، كما قال تعالى: «سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ»(2)، بل بطرق علمية وتقنيات حديثة جداً أهمها الهولوجرام(3) كما سيأتي.
والحاصل: إن العلم والتكنولوجيا سلاح آخر إلى جوار السحر والإيحاء، والذي يمكن تسخيره لخداع الناس وصناعة المذاهب والأديان، ودعاوي السفارة والارتباط بالله.
فلربما ياتي آت مدعياً بأنه نبي مرسل، مستشهداً لصدق دعواه بالقول إن من معاجزه: إنه قادر على جعل الشخص الواحد متواجداً في آن واحد في مكانين مختلفين أو أماكن متعددة، ويشاهده فيها الجميع، فيتصل الإنسان بصديقه في الصين، فيخبره أن هذا الشخص موجود الآن هناك في الصين،
ص: 83
ويتصل بصديقه الآخر في اليابان مثلاً، فيجده يخبره أنه موجود هناك! كما هو موجود الآن هنا في العراق مثلاً، مما يجعل يؤمن بذلك كمعجزة وإعجاز وشاهد صدق.
وكان هذا الأمر يطرح قبل عقود،كقصة من قصص الخيال العلمي، لكن العلم الحديث وصل إليه عبر تقنية الهولوجرام، وهي تقنية تعمل بالليزر، وتقوم بإيجاد صورة ثلاثية الأبعاد(1) دقيقة جداً، متفوقاً على التلفزيون ثنائي الأبعاد - نقل الطول والعرض فقط -، فيجد المرء أمامه شخصاً كاملاً من غير أن يعرف أنه صورة جسدتها أشعة الليزر إلا إذا لامس الصورة ليعرف حقيقتها.
وقد نقل لي - قبل سنتين - أحد أصدقائنا، وهو يدير فرعاً من فروع شركة عالمية، فقال: إنه شاهد هذا الأمر بنفسه، بعد أن دعته الشركة الأم إلى حضور اجتماع قمة مع رئيس الشركة وباقي الأعضاء من أنحاء العالم، وكان رئيس الشركة في أمريكا، لكن عن طريق تكنولوجيا الهولوكرام حضر إلى مقرّالشركة، وألقى محاضرة لساعة كاملة، وكان يتمشى ويضع يديه خلف ظهره أحياناً، ويجلس أحياناً - كأي شخص حاضر حقيقي - وغير ذلك.
ويقول صاحبنا: اقشعر بدني عندما شاهدت هذا المنظر لعلمي بتواجده في أمريكا، لكنه كان قد حضر معنا، وكأنه شخص حقيقي في الاجتماع(2)!
ص: 84
وقد تعمم هذه التجربة لاحقاً فيُخدع بها الملايين من الناس.
ومن هنا علينا أن نميز بدقة بين التطور العلمي أو الخدعة السحرية أو الرياضة النفسانية وبين المعجزة الإلهية بالفعل.
ولذلك كله نجد أن القرآن الكريم فتح أبواب العقل والمعرفة والتعلم والقراءة والكتابة على مصراعيه كمصدر رئيسي أول للحكم على نبوة نبينا (صلی الله علیه و آله)، باعتباره عصر خاتم الأديان ونبيه محمد (صلی الله علیه و آله) خاتم الأنبياء، فهذا العصر هو عصر مرجعية العقل الفطري أولاً كحَكم أساسي، وتبقى المعجزات والكرامات عوامل حقيقية مساعدة، عكس عهود سائر الأنبياء (علیهم السلام) حيث كان العقل مما لا شك فيه دليلاً، إلا أن السلاح الأكثر فعالية بيد الانبياء (علیهم السلام) للهداية والإقناع والاحتجاج على الكثير من الناس، كان هو المعاجز، كإبراء الأكمه والأبرص و إحياء الموتى بإذن الله تعالى لنبي الله عيسى (علیه السلام)، وكالدم والجراد والقمل والعصا لنبي الله موسى (علیه السلام)، إلى غير ذلك.
وهذه نقطة جوهرية ينبغي الالتفات إليها، فلو أن شخصاً الآن أحيا - فرضاً - ميتاً أو ألف ميت، فهل يصيره ذلك نبياً؟ كلا، حيث إن المقياس هو العقل، وهو يحكم بأن العلم متطور الآن جداً، وقد يمكنه أن يقوم بمثل ذلك، فيتحقق بالعلم ما لم يكن يمكن أن يتحقق سابقاً.
إننا الآن في عصر الحجج والأدلة والبراهين، ولسنا في عصر خوارق
ص: 85
العادات كأدلة نهائية على صحة الأديان والمذاهب.ومن هنا كانت أولى الكلمات القرآنية النازلة هي هذه الآيات الخمسة: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»(1)، كما عليه المشهور من المفسرين(2).
إن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) افتتح عصر العقل والعلم، ومن هنا نجد ذلك الحث الشديد و الأكيد، في الآيات والروايات على التدبر والتفكر، وهي بالعشرات.
إن خوارق العادة قد تصدر من العامي أو الصوفي أو المسيحي أوالبوذي أو المشرك أوغيرهم، وهي ليست المقياس، بل المقياس هو العقل والحجج الحقة.
ولجريان الخوارق التي قد تتوهم أنها من الكرامات أو المعاجز، على أيدي هؤلاء، حِكَم إلهية في عالم الامتحان والابتلاء، قد نتحدث عن ذلك بتفصيل لاحقاً إن شاء الله تعالى.
الطريق الآخر هو مغالطة الصغرى والكبرى، ومغالطة الشاخص والشخص، ومغالطة الكلي والجزئي؛ وهذه معادلة تعتمد على نوع من سرقة الشخصية وانتحالها، والتقمص بها، وهذا النوع من السرقة يعد من
ص: 86
أهم أسلحة المبطلين.
فمثلاً: حيث إن الامام المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) حقيقة لا شك فيها، وقد بشر بها الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة والأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من قبل، لذا يرى بعض المبطلين بأن أفضل طريقة للصعود المفاجئ وخداع السذج، هو دعوى كونه المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، أو كونه سفيره المنشود، فيقوم بسرقة اسم هذه الشخصية الإلهية أو تلك، ويتلبس بلباسها ظلماً وزوراً لأغراض دنيوية شيطانية أو مادية مستحقرة.
ومن هنا، فقد جاء في الروايات: إن خمسين شخصاً من الدجالين انتحلوا شخصية موسى كليم الله، في الفاصل بين وفاة يوسف الصديق على نبينا وآله وعليه السلام، وظهور موسى كليم الله (علیه السلام) (1)، كماادعى العشرات - ومنهم من كان في زمن الأئمة (علیهم السلام) - إنهم هم المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وادعى بعض آخر أنه ابن الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)؛ وهذا نوع من المغالطة يشبه مغالطة الصغرى والكبرى، ومغالطة العنوان والمعنون والاسم والمسمى.
بل قد وصل الأمر ببعضهم إلى ادعاء الربوبية بدلاً عن الله تعالى خالق
ص: 87
الكائنات، أعاذنا الله وإياكم من شرور هذه الفتن، ومن محنة الإيمان المستعار، ورزقنا البصيرة الثاقبة في الدين والفكر والمعرفة والإيمان المستقر بلطفه وكرمه إنه سميع الدعاء.
ص: 88
من مناشئ الضلال والانحراف:
* الغرور والاستعلاء
* الجهل الشامل
ص: 89
ص: 90
يقول تعالى:
«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا»(1).
«بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»
في هذه الآية الشريفة مجموعة من البصائر فيما يتعلق بالضلالة والضُلال، نشير إلى بعضها:
تتعلق هذه البصيرة بقوله تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً»، فلِم كان الأخسرون - وهم الجاهلون بالجهل المركب أو الجهل الشبيه بالجهل المركب - أخسر أعمالاً؟!
ص: 91
نقول: هناك ست جهات اجتمعت فجعلت منهم الأخسرين أعمالاً، وهي بالوقت نفسه تعد أنواعاً وصنوفاً من الخسران، والخسارة وهي بإيجاز:
1) لأنهم خسروا الأرباح.2) لأنهم خسروا رأس المال.
3) لأنهم خسروا الآمال.
4) لأنهم خسروا الأعمال والأعمار.
5) لانهم لم يربحوا استثماراً علمياً، فلم يربحوا في الحقل العلمي إزاء ماخسروه من الأعمال، وبالتالي لم يكسبوا التجربة.
6) وهناك جهة سادسة ستأتي قريباً إن شاء الله.
توضيح ذلك: إن الإنسان يخسر تارة الربح، لكنه لا يخسر رأس المال، فهو في مقياس الربح والخسارة يعتبر خاسراً، لكنه أقل الخاسرين ضرراً.
وتارة يخسر الإنسان الربح ورأس المال، وهذا أسوأ حالاً من سابقه.
وتارة ثالثة يخسرهما معاً، من غير أن يخسر عمره، كمن أعطى ماله لشخص آخر ليتاجر به، فخسر الربح ورأس المال، لكنه لم يخسر أوقاته وعمره، إذ كان يستغلها مثلاً في الدراسة أو العمل أو حتى في تجارة أخرى.
وفي المقابل هناك من يخسر الثلاثة معاً: ماله وربحه وعمره، كمن يقضي عشرين سنة من عمره في تجارة خاسرة تماماً؛ وهذا هو مثل الضال الذي يقضي عمره في الضلال، فإنه يكون قد خسر المال والأرباح والعمر.
ص: 92
إضافة إلى أنه قد خسر من جهة رابعة، الآمال؛ إذ كان يؤمل أن يجزيه الله تعالى الكثير عما قدم، لكنه سيجد أعماله سراباً، «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا * وَوَجَدَ الله عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الْحِسَابِ»(1).
ثم إن الإنسان قد يتاجر فيخسر، لكنه يربح عوضاً عن ذلك التجربة، والتجربة ثروة وأية ثروة، وفي الحديث الشريف: «وَفِي التَّجَارِبِ عِلْمٌ مُسْتَأْنَفٌ»(2)؛ وأقل ما فيها أنه يعلم بأن هذا الطريق مريب، وإن هذه الشركة أو ذلك البلد لا ينبغي أن يتعامل معه.إن الفشل قد يعتبر فرصة تقدم لمن إنتبه إلى فشله وخطأه وخسارته، محاولاً التوقي عن تلك الأخطاء في المستقبل، فكما توجد في المخاطر فرصٌ كذلك تكمن في الفشل فرصٌ إن استثمرها وتعرف على الأسباب، فمن فشل في تجارة أو في مسيرة أو في طريق علم، من خلال ذلك، يعرف أن هذا لم يكن طريقاً مربحاً، فيكون هو أول المنتفعين بفشله، كما أنه قد ينفع الآخرين أيضاً، بنقل التجربة المرة لهم، وبتحذيرهم من المخاطر الكبيرة.
لكن «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» لا يستفيدون من التجربة، إذ أنهم إما يرونها نجاحاً أو أنهم اذا أذعنوا بالفشل فإنهم يقيمونها على أساس أنها تضحية! فالخسارة بالنسبة إليهم
ص: 93
خسارة مزدوجة: فعلية ومستقبلية مالية وخبروية، إذ لم يربحوا من الحكمة والتجارب ما يعوضهم عن الخسارة.
هذا فيما يخص الجهات الخمس من الخسارة، أما الجهة السادسة فهي المستفادة من ظاهر الآية الشريفة، إذ تقول الآية: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا».
من هم هؤلاء؟ إنهم «أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ»، مما يتضح أن خسارتهم الحقيقية تتجلى في كفرهم بآيات الله تعالى، والفرق دقيق وكبير بين الكفر بالشيء، والكفر بالآيات والعلامات الدالة على الشيء، فقد يكفر الإنسان بشيء خفي، فهو خاسر بلا شك، لكنه تارة أخرى يكفر بآية وعلامة واضحة على الشيء، فهذا أكثر خسارة وأوضح خسراناً، كما أنه أشد لوماً واستحقاقاً للعتاب أو العقاب.
ويوضح ذلك ما لو كان هناك كنز خفي في باطن أرض مزرعة مثلاً، و لم يكن المالك عالماً به، فإنه وإن كان خاسراً بعدم استخراجه وتملكه، إلا أن خسارته ستكون أشد إيلاماً وأفدح فيما لو كانت هناك أشارات وعلامات واضحة على أن ههنا كنزاً ومجوهرات، وقد أباحها صاحبها لكل من أرادها، ومع ذلك أغض النظر عنها، غير ملتفت لتلك العلامات.
فالآية المباركة توضح إحدى جهات كون أولئك أخسر أعمالاً، لأنهم «كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ»، فأي عذر يبقى لهم بعد ذلك؟
ص: 94
تتعلق هذه البصيرة بكلمة «ضَلَّ» في الآية المباركة، حيث لم تعبّر الآية (فنيت أعمالهم)، وإنما عبرت ب«الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ».
ولعل من النكات في ذلك، أن الضلال يدل على بقاء الجوهر والذات، وإضاعة الهدف وفقد المقصد، فقولنا: فلان ضل في الصحراء، فإنه لا يعني أنه هلك أو اضمحلّ أو فني، بل لفظه (ضل) بما هي هي، تعني أنه موجود لكنه أخطأ في مقصده.
فقوله تعالى: «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ» يفيد بحسب المستظهر أن السعي باق بذاته، لكنه ضل مقصده وأضاع هدفه.
ولعل في ذلك إشارة دقيقة إلى مسألة بقاء الأعمال وتجسمها، وقد ثبت ذلك علمياً أيضاً، فمن كذب - لا سمح الله - كذبة واحدة، فإنها لا تفنى بمجرد الانتهاء من الكلام، بل تبقى في الأرشيف الكوني، وهو (الأثير) الذي يختزن كل شيء ويحفظه، وقد يخترع العلماء جهازاً متطوراً يلتقط الأصوات الموجودة في الأثير، فسيلتقطون أيضاً - ولو بعد مليون سنة - تلك الكذبة، بذلك الصوت الخاص من ذلك الكاذب المعين، المحفوظة في طيات الأثير المحيط بالكون! بل حتى الحركات والسكنات والصور، فإنها تبقى محفوظة في الأثير ولا تضمحل أبداً!
وإذا استغرب بعض من ذلك، فإن مما يقربه للذهن الفيديوهات التي
ص: 95
تحفظ الصور المتحركة، وتبث بعد عدة سنين أو عدة عقود، حركة فنيت ظاهراً منذ زمن بعيد، وهي مع ذلك، تُظهر الأشياء بأدق التفاصيل.
إن سعي الإنسان لا يفنى بل يبقى، بل حتى مثل التوبة، فإنها ترفع العقوبة بلا شك - إذا قُبلت من صاحبها -، لكن الأثر الوضعي باقٍ، والتائب مهما كانت توبته مقبولة، فإن صفحته تبقى كمن سوّد صفحاتٍ ثم محاها بالممحاة، فهل الصفحة البكر كالصفحة المستعملة الملوثة؟ وإن نظفت بعد ذلك!
نعم في الروايات الكريمات ذكرت طرق لإزالة حتى هذا الأثر الوضعي(1).ومحل الشاهد: إن السعي موجود بذاته لا يفنى، وقد يراه الإنسان أمامه، لكنه سعي فَقَدَ مقصده الحقيقي، وأخطأ طريقه إلى حيث الضياع والعذاب، الأمر الذي يؤلمه أكثر ويؤرقه أكثر، حيث يرى سعيه أمامه، وقد قاده إلى ما لا يحمد عقباه، وهذا هو الخسران الكبير، بل الأخسر الأخسر.
بعد أن عرفنا من هم الأخسرون أعمالاً، نعاود البحث عن مناشئ الضلال
ص: 96
والانحراف، والأسباب الموجبة لضلال الناس عن الطريق المستقيم، فيكونوا كفاراً أو أتباعاً لسفارة كاذبة أو دعوى مهدوية منتحلة بلا تثبت وتروي!
نقول: مناشئ الضلال كعلة محدثة، ومن ثم الانحراف كعلة مبقية، كثيرة، مر بعضها فيما سبق، وسوف نشير إلى بعضها الآخر، ونتوقف عند اثنين منها، وهي:
1) الاستعلاء والاستكبار والغرور والإعجاب.
2) الجهل والغفلة أو ضحالة الخبرة والتجربة.
3) ردة الفعل، إذ كثيراً ما يضل الإنسان، إثر ردة فعل عنيفة، أو إزاء تصرف معين لا مساس له بالدين، كما قد يرى الرائي رجل دين أو سياسياً معيناً يقوم بتصرف مشين عن عمد أو سهو، فتحدث عنده ردة فعل اتجاه الدين فيسقط تلك التصرفات والسلوكيات على الدين، في حين أنه لا ترابط بين الأمرين، فهل يصح أن يكفر أحدهم بعلم الطب أو الهندسة بالمرة، إذا شاهد أخطاء بعض الأطباء غير المهرة القاتلة، أو حتى لو كان بعضهم انتهازياً منحرفاً؟!
4) الانبهار. 5) ذُل الحاجة.ولكل هذه مباحث، كما أن هناك الكثير من المناشئ الأخرى، لكن نتوقف هنا عند السببين الأولين فقط:
من مناشئ الضلال: الاستعلاء والغرور والكبرياء، فهذه الصفات من أهم مناشئ الانحراف والضلال، قال تعالى: «فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا
ص: 97
نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ»(1)، وكان ذلك من العوامل الأساسية التي ساقت الكثير من الأفراد والجماعات والشعوب نحو الضلال والانحراف، على مر التاريخ.
وهذا هو ما يصدق على بعض الخطوط الانحرافية مما توضحها الصورة الاتية:
كتب احد الكتاب كتاباً تضمّن فكرة جوهرية واقعية، بأسلوب جميل، حيث قرب أعقد الأفكار الفلسفية للأذهان بصيغة قصة متخيلة.
ومجمل القصة المتخيلة: إنه قبل ملايين من السنين، عقد اجتماع قمة، كان مؤسسه ومديره إبليس بنفسه، بينما تشكل الحضور من مردة الشياطين والأبالسة.
افتتح طرح إبليس المؤتمر بقوله: إن الله تعالى أخرجنا من الجنة وطردنا ولعننا بسبب آدم ولا غير، والمهمة الكبرى لنا الآن هي الانتقام من آدم وأبنائه، والطريق الأعظم لذلك أن نسوقهم إلى جهنم، لكن ما هي أنجع وأنجح الطرق لذلك؟
فدار نقاش طويل، وطرح كبار الشياطين ما عندهم من صنوف الحيل والطرق الإبليسية، لكن كلما طرحت طريقة وحيلة، كان يجابههم إبليس: انها ليست بأنجع الطرق!
ص: 98
إلى أن تفتق ذهن أحد كبار الأبالسة عن طريقة مبتكرة إبداعية، فصفق له إبليس فرحاً ورضاً بهذه الحيلة، وصفق معه جميع الشياطين الحاضرين، وكانت الفكرة والطريقة هي: إن مفتاح الحل هو أن نبحث عن أقوى نقطة هداية للبشرية على مر التاريخ، ولا شك في أنها وجود الأنبياء والمرسلين وأوصيائهم (علیهم السلام)، والحل أن نستحدث خطاً موازياً لخط الأنبياء (علیهم السلام)، وفي الاتجاه المعاكس تماماً.
فقالوا له: وكيف ذلك؟فقال: من خلال دغدغة مكامن الكبرياء وحب الاستكبار في نفوس الناس، وذلك من خلال خلق أديان وخلق مذاهب، وفي طليعتها خلق فلسفة وعرفان تصرح بوحدة الوجود والموجود!
وأضاف المارد: المسيحيون جعلوا الواحد ثلاثة، لكن هذا لا يثير الاستكبار في النفوس، إذ لا ربط للثلاثة بنا، إذ هم حقيقة أخرى، أما أن تقول إنك أنت الله! وكل شيء هو الله تعالى! فهذا هو أقصى ما تطمح به الأنانية الإنسانية، وحب العلو والاستكبار في الأرض.
وقد تجلت حقيقة الاذعان بوحدة الوجود او الموجود في كلام بعض من الفلاسفة والعرفاء، مما لو قرأها القارئ بانصاف وحيادية لوجدها ظاهرة في ما أرادوا غير قابلة للتاويل أو التبرير.
يقول ابن عربي في الفتوحات المكية: (أما وصفه بالغني عن العالم،
ص: 99
فإنما هو لمن توهم أن الله تعالى ليس عين العالم)(1).
فمن يرى أن الله عين العالم، فلا يجد إثنينية في المقام ليوصف الله معها بالغني عن العالم!!
ويقول القيصري في شرحه على الفصوص: (أنا وأعيان العالم عين الله)!!
ويقول ابن عربي ضمن محاولة تصحيحية لعمل عبدة العجل: (وكان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل(2)
لعلمه بأن الله قد قضى بأن لا يعبد إلا إياه(3)، وما حكمالله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون، لما وقع الأمر في إنكاره(4)
وعدم اتساعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء)(5).
وقال ملا صدرا في الأسفار: (في إظهار شيء من الخبايا، فكما وفقني الله تعالى بفضله ورحمته الاطلاع على الهلاك السرمدي والبطلان الأزلي
ص: 100
للماهيات الإمكانية والاعيان الجوازية(1) فكذلك هداني بالبرهان النير العرشي إلى صراط مستقيم من كون الموجود والوجود منحصراً في حقيقة واحدة شخصية، لا شريك له في الموجودية الحقيقية!! ولا ثاني له في العين وليس في دار الوجود غيره ديار..، فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات!! فمن حيث هوية الحق هو وجوده ومن حيث اختلاف المعاني والأحوال المفهومة منها والمنتزعة عنها(2) بحسب العقلالفكري والقوة الحسية، فهو أعيان الممكنات الباطلة الذوات، وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ماله وجود حقيقي!! فهذا حكاية ما ذهبت إليه العرفاء الإلهيون والأولياء المحققون)(3)(4).
فمفاد كلامه إن الموجود كله منحصر في واحد بالشخص(5)؛ فنحن
ص: 101
نقول: إن الله لا شريك له، بينما يقول هو: إن الموجود - أي كل ما ندركه من الأشياء - لا شريك له!!.
وقال ملا صدرا أيضاً: (كل ما في الكون وهم أو خيال أو عكوس في مرايا أو ظلال) (1)!
ونقول: لا ندعي إن كل الفلاسفة والعرفاء، يقولون بوحدة الوجود والموجود، بل إن بعضهم كذلك - كابن عربي وملا صدرا - ومن يقول بمثل هذا الكلام، فأمره - شرعاً - بينٌ واضح لا غبار عليه.
وقد جلست مع بعضهم عياناً، فكانوا يصرّحون بوحدة الموجود، وأن كل شيء هو الله تعالى، وأنه هو بنفسه الله، بل وكل شيء!! فقلت له: أيعقل أن تكون أنت، وأنت عين الفقر والحاجة عين الله تعالى، وهو عين الغنى والكبرياء!
وصفوة القول: إن أحد مناشئ الضلال هو الاستكبار والاستعلاء؛ إذ يرى في الإيمان بأمثال تلك النظريات عظمة وسمواً وكبرياء لا نظير لها ولا مثيل! فكيف يقبل ممن ينزله من عليائه، ولو أقام له ألف دليل؟
ومن جهة أخرى: ثبت بالاستقراء أن العامل الأساس في شأن كثير ممن يتبع الفرق الضالة وينتمي لها، هو حدوث الإحساس بقيمة زائفة لديه، كما في من يعطى منصباً يشعره بالأهمية أو السلطة والرياسة، كما أن بعضهم يلوّح لهم بالأحلام العريضة، ويرينهم البوابة الخضراء إلىمستقبل مشرق أو من خلال وعد كاذب لهم بأنه لو أمن فسيكون له في دولة المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) مثلاً
ص: 102
الموقع البارز والحفاوة البالغة وغيرها.
وغير خفي أن طريقة معالجة أو مواجهة هذا النوع من الضلال يختلف عن طرق معالجة المناشئ الأخرى.
ومن مناشئ الضلال وبواعث الانحراف الجهل، والمشاهد أن الكثير من الناس يحب ما هو عليه من الجهل وعدم المعرفة راغباً فيه مريداً له، فيغلق سمعه وبصره عمداً، «وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً»(1).
مفضلاً أن لا ينال المعرفة والعلم، وذلك لأنهم يرون انهيار مصالحهم فيما لو علموا بالحق أو أظهروا علمهم به؛ فمثلاً لا يعجب الكثير أن يقول له قائل: إن صلواتك كلها باطلة! لأن ذلك يقتضي أن يعيد صلاته لخمسين سنة فائتة! وهو لا يريد ذلك، ولذا يصم سمعه عن سماع الحقيقة. أو قد لا يريد بعض أن يعرف أن زوجته هي أخته من الرضاعة؛ إذ عليه حينئذٍ أن ينفصل عنها وكيف يسهل عليه ذلك!
والأمر كذلك في الشؤون العقدية، فترى إن الكثير من الناس لا يحبون المعرفة ولا يرغبون في العلم أو الإذعان بأنهم على باطل.
كما أن العديد منهم لا يريد أن يسمع ولا أن يعلم أو يذعن أن الفيلسوف الفلاني - كملا صدرا -، والعارف الفلاني - كابن عربي -، كان يؤمن بوحدة الوجود والموجود وغير ذلك، إذ أنه كان يعتبره قديساً لسنوات
ص: 103
طويلة! فكيف تسمح نفسه بأن ينهار أمامه في لحظات؟! لذلك يصرّ على الإنكار والمكابرة!
ثم إن الجهل أنواع: من الجهل الفكري، والجهل الاعتقادي، والجهل الاقتصادي وغيرها، وهناك الجهل (بفقه الحديث)، وهذا الأخير طالما تمسك به المبطلون، فتراهم يأتون إلى الروايات من غير بصيرة بمعناها ولا بفقه الحديث، فيذرونها ذرو الريح، ويخلطون بعضها مع بعض، ليخرجوا بنتيجة توافق أهواءهم الباطلة، «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ»(1)!والذين يدّعون السفارة هم من هذا القبيل، وقد يدّعي أحدهم أنه ابن الإمام المهدي (علیه السلام)، ويستند إلى أدلة روائية تكشف عن جهله بأبسط قواعد علم الحديث، بل بأبسط القواعد والأصول الأدبية والفكرية والاعتقادية.
إن مثل هذا الضلال والانحراف والجهل الغريب، هو ما يشير إليه الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) في حديث له، حيث يقول (علیه السلام): «ورجل قمش جهلاً»(2)،- قمش أي جمع من هنا وهناك جهلاً، ومنه سمي القماش قماشاً، لأنه جمع قطع القماش من هنا وهناك - والتشبيه جداً دقيق في من يجمع ويخبط بالروايات بغير هدى، فلا يكون نصيبه إلا الضلال والانحراف.
ص: 104
ادّعاء السفارة والبنوة للإمام المهدي (علیه السلام)(1)
وكشاهد على الجهل بفقه الحديث ما تمسك به بعض مدّعي السفارة عن الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) إذ أنهم تمسكوا برواية رواها الشيخ الطوسي (رحمة الله) في الغيبة وهي:
(يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يَا عَلِيُّ إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً وَمِنْ بَعْدِهِمْ اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيّاً فَأَنْتَ يَا عَلِيُّ أَوَّلُ الِاثْنَيْ عَشَرَ إِمَاماً سَمَّاكَ الله تَعَالَى فِي سَمَائِهِ عَلِيّاً الْمُرْتَضَى وَأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالصِّدِّيقَ الْأَكْبَرَ وَالْفَارُوقَ الْأَعْظَمَ وَالْمَأْمُونَ وَالْمَهْدِيَّ فَلَا تَصِحُّ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لِأَحَدٍ غَيْرِكَ.
يَا عَلِيُّ أَنْتَ وَصِيِّي عَلَى أَهْلِ بَيْتِي حَيِّهِمْ وَمَيِّتِهِمْ وَعَلَى نِسَائِي فَمَنْ ثَبَّتَّهَا لَقِيَتْنِي غَداً وَمَنْ طَلَّقْتَهَا فَأَنَا بَرِي ءٌ مِنْهَا لَمْ تَرَنِي وَلَمْ أَرَهَا فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ وَأَنْتَ خَلِيفَتِي عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي، فَإِذَا حَضَرَتْكَ الْوَفَاةُ فَسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِيَ الْحَسَنِ الْبَرِّ الْوَصُولِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِيَ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِالزَّكِيِّ الْمَقْتُولِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ سَيِّدِ الْعَابِدِينَ ذِي الثَّفِنَاتِ(2)
عَلِيٍّ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ فَإِذَا
ص: 105
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ مُوسَى الْكَاظِمِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ عَلِيٍّ الرِّضَا فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ مُحَمَّدٍ الثِّقَةِ التَّقِيِّ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ عَلِيٍّ النَّاصِحِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ الْفَاضِلِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ مُحَمَّدٍ الْمُسْتَحْفَظِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيّاً (فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ) فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ أَوَّلِ الْمُقَرَّبِينَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسَامِيَ اسْمٌ كَاسْمِي وَاسْمِ أَبِي وَهُوَ عَبْدُ الله وَأَحْمَدُ وَالِاسْمُ الثَّالِثُ الْمَهْدِيُّ هُوَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ»(1).
وهذه الرواية تمسك بها مؤخراً مَنْ لا يفرق بين المبتدأ والخبر، فخرج بنتيجة منحرفة مفادها أن للإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ابناً يظهر قبله، يمهد له، وعلى الناس أن يطيعوه ويرجعوا إليه.
الجواب: ولكن الحقيقة أن هذه الرواية لا يصح الاستدلال بها أبداً لوجوه كثيرة نذكر منها:
الأول: إن سند الرواية غير تام، فإن الحر العاملي في (الإيقاض من الهجعة في برهان الرجعة) يقول: إن الشيخ الطوسي إنما ذكر هذه الرواية في كتاب الغيبة من باب الإلزام للمخالفين، لأنها وردت من طرق المخالفين،
ص: 106
والشيخ الطوسي أراد اثبات الغيبة والرجعة عليهم، فاستدل بهذه الرواية.
والحاصل: إن في سند الرواية مجاهيل، إضافة إلى وجود بعض العامة في سندها.
الثاني: لو تنزلنا واعتبرنا سندها، فنقول: المشهور والذي كاد أن يكون إجماعاً، أن خبر الواحد ليس بحجة في الاعتقاديات أبداً، وقضية السفارة عن الإمام الثاني عشر، والنيابة الخاصة له على الخلق كلهم، وكون البنوة دليلاً على ذلك، هي من المسائل الاعتقادية المهمة.
فكيف يبعث الله سفيراً إلى الناس كافة، ثم يقيم عليهم دليلاً ضعيفاً لا يعتبره مشهور العلماء، وفيهم كبار الزهاد والأتقياء والورعين - على مر التاريخ - حجةً؟والحاصل: ينبغي أن تكون الحجة في قضية الإمامة والنيابة الخاصة واضحة بينة أوضح من الشمس، فكيف يستدل بهذه الرواية على أن له (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ابناً الآن، وإنه هو اليماني، وهو سفيره ونائبه الخاص؟!
كما جاء في الرواية: «فَقَالَ إِنَّ أَمْرَنَا قَدْ كَانَ أَبْيَنَ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ، ثُمَّ قَالَ يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ هُوَ الْإِمَامُ بِاسْمِهِ وَ يُنَادِي إِبْلِيسُ لَعَنَهُ الله مِنَ الْأَرْضِ كَمَا نَادَى بِرَسُولِ الله (صلی الله علیه و آله) لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ»(1).
الثالث: لو سلمنا، فنتسائل: ما هو ربط الرواية بما يعتقدون، فالنبي (صلی الله علیه و آله) قال - بحسب الرواية -: «من بعده اثنا عشر مهدياً»، وما يدّعونه هو من قبله لا من بعده.
ص: 107
الرابع: و لو تنزلنا أيضاً، نسأل هل ولد للإمام المهدي (علیه السلام) ولد الآن؟ إن الرواية لا تصرح بذلك، ولا تقول إن الإمام له ولد الآن، نعم هي تصرح أن في وقت حضور وفاته (عجل الله تعالی فرجه الشریف) - وهي بعد الظهور المبارك والظهور ولا نعلم متى هو لعله بعد سنة أو ألف سنة أو أقل أو أكثر لا يجليها لوقتها إلا هو - سيكون له ولد(1)، أما قبل ذلك أو الآن، فليست في الرواية حتى إشارة إلى ذلك.
الخامس: ثم لو فرضنا أن له (علیه السلام) ابناً الآن، فما هو الدليل على أن هذا المدّعي للسفارة هو ابنه؟ وهو ما أشرنا إليه سابقاً من مغالطة الاسم والمسمى والصغرى والكبرى.
السادس: قرينة السياق: إن النبي (صلی الله علیه و آله) يصرح بأن الإمام الحسين (علیه السلام) إذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه، وهكذا الإمام السجاد والباقر إلى آخر الأئمة (علیهم السلام)، فالمقصود هو الابن المباشر إلا الإمامين الحسنين، فإنهما أخوان للدليل الخاص كما هو واضح.
فكيف يدّعي هذا المدّعي أنه الابن الخامس للإمام المهدي (علیه السلام)؟ وإنه الخلف له من بعده، والحال إن الرواية تتحدث بظاهر لفظ (ابنه) وبسياقها عن الأبناء المباشرين للأئمة (علیهم السلام)، وليس عن الأحفاد وأحفاد الأحفاد، فلم تقل الرواية فليسلمها إلى حفيده أو ابن حفيده!!السابع: إن الرواية معارضة بالأصح منها سنداً، والمشهورة والثابتة لدى عامة الشيعة، من أن الإمام المهدي (علیه السلام) يسلم الإمامة للإمام
ص: 108
الحسين (علیه السلام) من بعده، وليس لأحد أبنائه(1).
والمأساة كل المأساة أن الضالين والمبطلين، يتخذون - على مر التاريخ -، جهل الناس بفقه الحديث وبأوليات المسائل طريقاً لإضلال الناس وغوايتهم.
أعاذنا الله وإياكم من شرورهم وشِرارهم.
ص: 109
ص: 110
المؤامرات الدولية على الأديان والمذاهب
ص: 111
ص: 112
يقول تعالى:
«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا»(1).
سيتمحور البحث بإذن الله تعالى حول مناشئ الضلال والانحراف الناشئة عن استهداف المؤامرات الدولية للأديان والمذاهب، ومخرجات مراكز الدراسات في بلورة الرؤى والإستراتيجيات،على ضوء هذه الآية الشريفة، ولكننا سنبدأ الحديث ببعض البصائر القرانية الكريمة التي تلقي الضوء على ما يرتبط بذلك.
وسوف نتوقف عند مادة «نُنَبِّئُكُمْ» تارة، وعند هيأة «نُنَبِّئُكُمْ» أخرى، إذ فيهما بصائر مهمة:
ص: 113
لا بد من التدبر في وجه الحكمة في استخدام القرآن الكريم مفردة (النبأ)، في هذا المساق «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً»! بدلاً عن توظيف كلمة (نخبركم) أو (نعلمكم) مثلاً!فنقول: هناك فوارق عديدة - تكشف مدى ثراء اللغة العربية، ومدى دقة استعمالات القرآن الكريم، بين (النبأ) وبين (الخبر)، نشير إلى بعضها الآن:
الفرق الأول: إن لفظ (النبأ) لا يطلق على كل خبر، بل هو أخص منه مطلقاً، حيث يطلق على ما كان منه عظيماً هاماً، أما في مثل الخبر العادي فلا يستخدم فيه (النبأ)، وإنْ استخدم فيه فهو غلط أو مجاز(1).
ومن هنا نلاحظ أن القرآن الكريم استخدم (النبأ) في الأنباء العظيمة:
قال تعالى: «نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالحقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»(2).
وقال جل اسمه: «عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ»(3).
ولفظ (النبأ) كمادة يدل على العظمة، فكيف لو وصف بالعظيم؟! وقد فسّر النبأ في الآية الشريفة بأنحاء كلها تدل على العظمة والشأن الكبير، منها: إنه رسالة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ومنها: إنه القرآن الكريم، ومنها: إنه
ص: 114
يوم القيامة(1)، ومنها: ما جاء في الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) إن النبأ العظيم هو الولاية(2)، وفي الروايات العديدة: إن النبأ هو علي ابن أبي طالب 3(3).
وكل هذه التفسيرات صحيحة، لأنها من باب التفسير بالمصداق، غير أن بعضها أظهر من بعض.
وعلى ضوء ذلك ندرك مدلول كلمة النبأ في قوله تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً» وموقعيتها في الآية الشريفة، إذ تكشف لنا أن مسألة الأخسرين أعمالاً مسألة خطيرة جداً وحساسة، يتوقف عليها مصير الملايين، بل المليارات من البشر، فيجب علينا - نحن المؤمنين - أن نحتاط لها ونحترس، وأن نحقق وندقق ونبحث عن المناشئ والأسباب، وعن الحلول والبلاسم.كما نجد أن مطلع الآية الشريفة يرشد إلى عظمة وخطر الأمر، فإنه (نبأ) يريد الله تعالى أن يخبرنا عنه، ما يتحتم علينا أن نعرف من هم «الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً»؟ فإن أمرهم عظيم وخطرهم على أنفسهم وعلى غيرهم جسيم.
الفرق الثاني: إن لفظ (النبأ) لا يطلق - عادة - إلا فيما لو حصل به العلم أو الظن المعتبر، عكس الخبر فإن الخبر هو ما يحتمل - بنفسه - الصدق
ص: 115
والكذب، أما النبأ فلا يحتمل ذلك، لأن مادته أصلاً وضعت للخبر الصادق، بينما الخبر الكاذب لا يطلق عليه النبأ إلا بنحو التجوز.
ثم إنه كثيراً ما يستخدم لفظ (النبأ) في التهديد والوعيد، مثلاً يقال: لأُعَرِفَنّك أو لأُنبِئَنّك، عندما تريد أن تهدد شخصاً ما، وقد استخدم القرآن الكريم هذه المادة أحياناً في التهديد.
ولعل مقامنا من هذا القبيل، فإن في «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً» تحذيراً وتخويفاً للمخاطبين، بمعنى: إن ههنا موطن احتراس، فيمكن أن يقال: إن في الآية الشريفة طابع تهديد وتحذير، فعليكم أن تحتاطوا وتحترسوا عند الإحاطة بهذا النبأ، وعليكم أن تتخذوا مختلف سبل الوقاية والدفع قبل الرفع.
كما لا بد من التدبر في وجه الحكمة، في قوله تعالى: «هَلْ نُنَبِّئُكُمْ»، حيث استخدمت هيأة الجمع مرتين: مرة للفاعل، وأخرى للقابل، فلم يقل تعالى: (هل أنبئكم) بهيأة المفرد للفاعل المنبِئ، كما لم يقل (هل ننبئك) بهيئة المفرد للقابل المنبَأ؟ ولعل السبب في ذلك:
أ) إما في القابل فلأن الآية الشريفة تشير - إن لم تكن ظاهرة - إلى أن المسؤولية لهي مسؤولية جماعية، وعلى الجميع أن يعرف هذه الحقيقة، وليس الكلام موجهاً إلى طبقة خاصة من الناس، فكأن معرفة هذا النبأ واجب عيني(1).
ص: 116
ذلك أن كل شخص قد يقع في دائرة احتمال «الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً»، ولذا لم يقتصر الإنباء على الأطباء فقط أو المهندسين أو المحامين أو الفقهاء أو الأصوليين أو مطلق العلماء فقط، ولا الجهال فقط، بل الجميع داخل في أطراف محتملات هذه الدائرة الخطرة.
وإذا كان ذلك كذلك، فلنسأل الآن: هل الجميع يعلم ماهي ضوابط ومقاييس الاخسرين اعمالاً؟! لعل الكثير بل الأكثر لا يعلم ذلك، ولذا يقع الكثير في متاهات شتى كاتباع دعوى سفارة أو مذهب ضال أو غير ذلك.
إن على المسلم أن يحقق في كل دعوة جديدة غامضة، لا أن يسير وراءها بدون تروٍ أو سؤال من أهل الخبرة والعلم، فإن الاحتياط مطلوب، بل واجب مادام الأمر يتعلق بالمصير الأبدي للإنسان.
ب) وأما الوجه في استعمال الجمع في الفاعل «هَلْ نُنَبِّئُكُمْ»، إذ لم يقل (هل أُنبئكم)، مع أن المنبِئ هو الله تعالى أو النبي (صلی الله علیه و آله) فوجهان:
الأول: للدلالة على التفخيم، كما أن فيه دلالة على التهويل أيضاً، لأن القائل عندما يُفخم، فإن ذلك يكشف عادة عن خطورة وأهمية المضمون والمقول، كما في قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، فإن استخدام (إنا) للتفخيم، وهو يقتضي عرفاً أن يكون المنزل في ليلة القدر عظيماً ومهمّاً كذلك.
الثاني: لعل في استعمال الجمع في «هَلْ نُنَبِّئُكُمْ» إشارة إلى دور القادة ومسؤوليتهم الجماعية، أي إن الأنباء ليس مسؤولية شخص واحد، وهو رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ومن ثم الإمام (علیه السلام)، فمرجع التقليد مثلاً، بل هو
ص: 117
مسؤولية للقادة الذين يديرون المجتمع، وقد يكونون مراجع أو خطباء أو قادة أحزاب أو رؤساء عشائر أو غير ذلك.
والحاصل: إن الأمر بمكان فائق من الأهمية ما استدعى التعبير بمادة (النبأ) التي لا تستخدم إلا في الأمر العظيم، ولعل فيها نوعاً من التهديد أو التحذير، كما استدعت أن يستخدم في طرفي الفاعل والقابل صيغة الجمع التي ربما تدل على أن هذه المسؤولية مسؤولية جماعية للجميع فاعلاً وقابلاً.
بعد أن اتضح ذلك، نواصل البحث عن مناشئ الضلال وأسبابه، فلماذا يعبد ملايين من الناس الحجر أو المدر أو البقر؟ ولماذا الكثير يميل مع كل ريح، وينعق مع كل ناعق، كما قال امير المؤمنين (علیه السلام)(1)؟
واذا عرفنا السبب بطل العجب - كما قيل -، والأهم إن ذلك يرشدنا إلى الحلول الناجعة بإذن الله تعالى.
وقد ذكرنا في البحوث السابقة بعض المناشئ والتي منها: الجهل المطبق ومنها: الغرور والكبرياء.
ونشير في هذا الفصل إلى منشأ آخر هو:
ص: 118
وهو منشأ مهم جداً، وعادة ما يكون مغفولاً عنه، وهو المؤامرات الدولية العالمية، والتي وراءها الدول العظمى أو الإقليمية، ومؤامرات الدول لاستغفال شعوبها،حتى الجهات المحلية، فنقول:
إن من المعروف كثرة المؤامرات على الساحة الدولية، فقد تتآمر دولة على دولة، أو رئيس حكومة على رئيس آخر، أو سياسي من بلده أو من بلد آخر على بلد آخر، وغير ذلك من المؤامرات المعروفة، لكن من غير المعروف عند الناس - عادة - أن أصل أو بعض أبعاد المؤامرات الدولية ينصب على الأديان والمذاهب، بمعنى التآمر لخلق وصناعة دين أو مذهب جديد يولد في رحم الدهاليز السرية لأجهزة الاستخبارات الدولية.
وربما يتراءى أن المؤمرات في السابق - الذي لم يتطور الحال كما هو الحال من التطور التكنولوجي و التعقيدات السياسية - كانت مؤامرات أقل تعقيداً، ثم تطورت بعد ذلك وازدادت تعقيداً ودهاءً، وذلك لأن الشيطان وأتباعه يزدادون خبرة وخبثاً بمرور الزمن، ويحدّثون من أساليبهم وحيلهم وخططهم الماكرة.ولعل جذر القضية في صنع المذاهب المزيفة يعود بعضها إلى هوى النفس واتباع الشهوات، كما أن بعضها يرجع إلى تدخل السياسة في ذلك، كما يتضح من سرد بعض النماذج المعاصرة والتاريخية سرداً سريعاً.
ص: 119
فمثلاً أحدث معاوية بدعة شغل الناس بها(1)، كما برّر بها أعماله الظالمة، فقال ب(الجبر)، وأن كل ما يصدر من الإنسان - ومنه الحاكم المسمى بالإسلامي بطبيعة الحال - إنما هو من قضاء الله وقدره، فمن يقتله الحاكم أو يسجنه، فإن ذلك كان بقضاء من الله وقدر! ومَنْ لم يقبل بقضاء الله وقدره فهو كافر لابد من قتله.
فمن أجل تبرير أفعال السلطان الجائر، حُرّف هذا المفهوم الديني الصحيح (القضاء والقدر)، وأُلبس ثوب الجبر جبراً وقسراً.بينما تصرح الروايات الواردة عن أهل البيت (علیهم السلام) أنه: «لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْن»(2)، إلا أن الأمويين قالوا إن كل شيء بقضاء الله وقدره، فإذا فعل الحاكم الظالم ما فعل فلا تسألوه، بل اسألوا الله تعالى عن ذلك!!
ص: 120
كما أثار المأمون العباسي - بشدة وبقوة - مسألة خلق القرآن الكريم، وقد أشغل الناس بها سنين طويلة، وأثار بذلك فتنة عامة في الحواضر الإسلامية، وأصبح الناس قسمين: قسماً يقول بخلق القرآن الكريم، والقسم الآخر يقول بقدمه وعدم خلقه، وكل يكفّر غيره، وكان المأمون يطارد ويسجن ويعذب ويجلد، وأحياناً يقتل مَنْ يقول بقدم القرآن، فقتل خلق كثير لذلك، وكذلك سار المعتصم ثم الواثق.
ولم يعلم إلا الخواص والمنتبهين، بأنها كانت مؤامرة شيطانية دبرتها أجهزة الحكم آنذاك، لإلهاء الناس عن واقع ما يجري في البلاد، وعن مصالحهم الحقيقة، ولإشغالهم عن التفكير في جرائم وموبقات الحاكم الجائر(1).
ص: 121
لكن هذه المؤامرات كانت في العهد الغابر، وهي قد لا تجد صداها في الوقت الحاضر، بعد أن تطورت البشرية إلى حد كبير، فكان على الأعداء والاستعمار أن يفكروا بمؤامرات جديدة أكثر تطوراً، كان منها صناعة وخلق الأديان والمذاهب بتخطيط دولي واسع مترامي الأطراف، وقد بدأ المستعمرون هذه السلسلة من المؤامرات منذ بضع مئات من السنين.
فقد استطاع الاستعمار البريطاني في الهند، أن يبقى أكثر من (300) سنة مستعمراً ناهباً لثروات الهند وخيراتها، وما ذلك إلا عبر الخطط الشيطانية التي كان يحيكها في الظلام ضد الشعب الهندي.
وكان من ذلك صناعة دين جديد لهم، ففي القرن السادس عشر ابتدعوا لهم ديناً جديداً، رفع شعار (لا مسلمون ولا هندوس) بل الطريقة الوسط.
ولا يزال هذا الدين قائماً في الهند إلى الآن، كما انتشر أتباعه في الكثير من الدول، وما يزال قادته يُعتبرون أذرعاً للحكومة البريطانية يأتمرون بأوامرهم، ولا يخرجون عن إرادتهم عادة.
وقد بلغ عدد السيخ في العالم (23) مليون شخصاً(1)!! ولهم معابد ومراكز ضخمة ودور كبيرة في شتى أنحاء العالم، وكنت قد رأيت قسماً منها في أكثر من دولة.
ص: 122
وقد قمت ببحث عن عدد الاديان في العالم، وكان مما وجدت:
أنه بحسب إحصاء موسوعة باريت عام 2001م، يوجد هناك عشرة آلاف دين في العالم! منها (22) ديناً مشهوراً، كما أن عدد الأديان التي لها أكثر من مليون من الأتباع تقدر ب(150) ديناً.
ومن هذه الأديان المخترعة: دين الوثنيين الجدد، وله من الأتباع أكثر من مليون شخص حالياً منتشرون في أنحاء العالم.
والوثنيون الجدد يعتمدون بالأساس على السحر والأساطير ونظائرهما، و من ورائهم الاستعمار الذي يسندهم بالمال والخبرات، وببعض الأجهزة الحديثة جداً التي تستعمل كدليل على أن السحر حق، وإن الأساطير واقع.
إن الغرب الذي لا يغفل عن الشيء البسيط في سبل السيطرة على الأمم، كيف يغفل عن موقعية الأديان وسلطتها وسيطرتها على الإنسان؟ ذلك أن الدين والمذهب له تأثير كبير قد لا يشابهه شيء في السيطرة على الناس، وقد التفتوا إلى ذلك منذ مئات السنين - كما أسلفنا - فصاغوا المؤامرات تلو المؤامرات لصناعة الأديان والمذاهب والفرق.
ألا يكفي ما سبق لكي نحتاط، ولكي نحتمل على الأقل، أن الدين الجديد الذي يُطرح على الناس أو المذهب أو الفرقة المستحدثة - ومنها دعاوى اليمانية والسفارة ونظائرهما -، قد يكون من صناعة مؤامرة دولية؟!
ص: 123
ومما يؤكد ذلك ويبرهنه: وضوح أن الاستعمار يعمل ليلاً نهاراً، مسترشداً بمراكز الدراسات والجامعات التخصصية للسيطرة على العالم، والاستحواذ على أكبر قدر من الطاقة والمال والاقتصاد وغير ذلك، وإن من الطرق المهمة للسيطرة على العالم هي:أولاً صناعة الأديان، وثانياً السيطرة على الأديان.
وذلك من أظهر مفردات القوة الناعمة، وهي خطة فعّالة وماضية، فقد سيطروا على المسيحية واليهودية، وأصبحا من أدوات الاستعمار، - وإن كان كثير من أتباعهما لا يعلمون ذلك -.
كما أنهم خططوا للسيطرة على الإسلام من الداخل، حتى وقع بعض كبار المفكرين والشخصيات في دائرة خططهم وحيلهم، ولعله لا يعلم بأنه داخل في مؤامراتهم، وسائر بركابهم، فأضحى يقدم التنازلات العقدية والفكرية، واحدة إثر الأخرى للحضارة الغربية!! ولعلنا نتحدث عن ذلك بشيء من التفصيل لاحقاً بإذن الله تعالى.
إذن من مناشئ الضلال هي المؤامرات الدولية التي تصنع ديناً كاملاً أو مذهباً كاملاً كالوهابية أو البابية أو كالوثنية الجديدة أو السفارة وغير ذلك.
ص: 124
استنساخ الضُلَّال لأسلحة المنحرفين
القاديانية مثالاً:
أسلحة الاستخارة والأحلام والتحدي
ص: 125
ص: 126
يقول تعالى:
«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً»(1).
«أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ»
يدور البحث حول الأخسرين أعمالاً في الحياة الدنيا وملامحهم ومعالمهم، ومناشئ ضلالاتهم ومباعث انحرافهم وسبل الحل والمواجهة، وقد مضى شطر من الحديث من البحث في الفصول السابقة.
وسنبدأ حديثنا ببعض البصائر القرآنية التي ترتبط بصلب الحديث عن ذلك:
ص: 127
يقول تعالى: «أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ»، من هذه الفقرة الواحدة التي تتحدث بالدلالة المطابقية عن صورة واحدة، نستكشف وجود صورٍ أربعٍ أخرى، فتكون الصور والحالات خمسة، والناجي منها هو فرقة واحدة في دائرة صورة واحدة فقط، وأما البقية فهم خارجون عن دائرة النجاة.
أما الدلالة المطابقية للآية الشريفة: فهي في سلب النجاة عن الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه، فهم ليسوا بناجين، ولا على منجاة ولا على طريق نجاة.أما الدلالة الالتزامية للآية الشريفة فهي أربع صور: علينا أن نحذر من ثلاثة منها أشد الحذر، كما علينا أن نكون من الصنف الرابع فقط كما سيأتي.
توضيح ذلك: إن مدلول هذه الآية له نقيض وله أضداد ثلاثة:
أما نقيضها فهو الذين لم يكفروا بآيات ربهم ولقائه، وهذا النقيض بما هو هو ليس بمنجاة، بمعنى أنه لا يكفي الإنسان أن لا يكفر بآيات الله ولقائه فحسب!، بل عليه مضافاً إلى ذلك أن يؤمن بآيات الله، ذلك أنه يوجد ههنا ضدان(1) ونقيض، والضدان هما أن يكفر الإنسان بآيات الله، أي: أن
ص: 128
يرفضها، أو أن يؤمن بها، أي: أن يقبلها، أما عدم الكفر فهو النقيض، وأما أن لا يؤمن ولا يكفر، فهذه حالة ثالثة، بمعنى أن لا يعقد قلبه لا على هذا ولا على هذا(1)، ولا شك في أن مثل هذا ليس بناجٍ قطعاً.
وهذه الصورة تدخل في دائرة الشك وأحكامه، ولا ريب في أن الشاك ليس بمؤمن أكيداً، وهو منزّل منزلة الكافر حكماً كما لايخفى، إلا أنه - بحسب الظاهر - يقال عنه، أو هو يقول عن نفسه: إنه غير مؤمن وغير كافر؛ وكلامنا في التشخيص الموضوعي الدقيق.
وبالنتيجة، إن الصورة الثانية هي من لم يكفر بآيات الله تعالى من غير أن يؤمن بها، وهو صادق في حق من تلبس بالشك.
وهنا أذّكر بأمر هام جداً، وأدعو الأفاضل ممن يكون بمقدوره أن يؤلف كتاباً أو يكتب دراسة أو بحثاً عن عنوان ومنطلق يعتمد عليه الغرب في المعرفة، ويعتبرونه منهجاً علمياً أساسياً، وكان عليناأن نبدي رأينا فيه كدراسة علمية مستوعبة ومركزة، ولكن في حدود معلوماتي لم أجد دراسة مستوفية في هذا الحقل المعرفي الكبير.
وموجز الكلام عن ذلك: إن الغرب بَنى على نظرية مفادها إن الشك
ص: 129
هو طريق المعرفة، بمعنى أن أيةٍ نظرية تطرح أو أي دين سماوي أو غير ذلك فعلى الإنسان أن ينظر إليه بعين التشكيك وبنظرة حيادية منصفة بحسب تعبيرهم!
وعليه أن يبدأ بالشك أولاً، بحيث يعتبر هذا الأمر المطروح أمامه يمكن أن يكون صحيحاً، ويمكن أن يكون باطلاً.
وهذه النظرية مهمة جداً، سواء قبلنا بها أم رفضناها أم فصّلنا فيها، - كما هو رأينا في المسألة -، وسنشير لاحقاً إلى أحد جوانب التفصيل كما سيأتي.
لكن في المقابل يقول الإمام علي بن الحسين السجاد 3: «إن الشكوك والظنون لواقح الفتن، ومكدرة لصفو المنائح والمنن»(1)، كما أن أي تردي في الهاوية، فإن بدايته الشك، بينما نجد أن الغرب يعتبر أن الشك طريقاً للمعرفة، كحقيقة مسلّمة لا ريب فيها.
لكن الصحيح أن نقول - وهذا هو جانب من التفصيل -:
كما أن الشك قد يكون طريقاً للمعرفة، فإنه قد يكون طريقاً للضلال وإنكار البديهيات العلمية أو الفلسفية أو العقلية أو غير ذلك، وبالتالي فنظرية الغرب في الشك ليست صحيحة على إطلاقها، بل في صورة دون أخرى.
ص: 130
وما نريد تأكيده هو ضرورة أن نبلور ونطرح رأينا التفصيلي في المسألة، فنحن كمتدينين وكعقلاء وكعلماء، هل نشجع الناس على التشكيك ثم البحث؟ أو نشجعهم على الإيمان الابتدائي أو الانطلاق من منطلق قوي صلب ثم البحث؟ أو هناك حل آخر؟
وههنا بحث مفصل ليس هذا محله، لكن نشير إشارة إلى إحدى مفرداته فنقول:إن الشك على قسمين: شك بنّاء، وشك هدّام، أو فقل هناك شك قاتل، وهناك شك موصل، ويجب التمييز بينهما بدقة.
فمثلاً: لو أن جماعة ضلوا الطريق في الصحراء، وكان فيهم خبير فاهتدى بالنجوم أو البوصلة، ثم قال إن هذا هو الطريق الصحيح - مثلاً - ، فإن قوله كثيراً ما لا يورث العلم، لكنه حجة عقلائية، ولا يصح أن يقول اولئك الذين لا خبرة لهم إننا نشك في صحة ذلك! وما دمنا شاكين، فعلينا أن لا نتبع هذا الخبير، بل علينا أن نقوم بالتحقيق والفحص بأنفسنا - مع أنهم غير خبراء -، ومن الواضح أن تشكيكهم هذا قد يورث الهلاك، لأن التأخير في الصحراء إلى حين الانتهاء من التحقيق، أو إلى حين وصول غير أهل الخبرة إلى نتائج أخرى غير ما قاله الخبير، سيكون السبب الأساس في الهلاك في الصحراء القاحلة، إما بعطش قاتل أو بافتراس السباع والأسود أو غير ذلك، فبالتالي ليس الشك دائماً طريق النجاة، بل الشك في ضمن ضوابط وأطر.
ومن هنا جاءت دعوتنا إلى كتابة دراسة معمقة حول الشك، وماهي
ص: 131
القيمة العلمية له؟ وما هي ضوابط الشك الموصل؟ وماهي ضوابط الشك القاتل؟(1)
وعوداً على بدأ نقول إن الصور الممكنة للإيمان والكفر بآيات الله هي:
ما صرحت به الآية الشريفة: «أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ»، ولاشك في أنهم الذين عبرّت عنهم الآية الشريفة ب «الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً».
نقيض الصورة الأولى، أي: الذين لم يكفروا بآيات الله تعالى كما لم يؤمنوا بها، وهؤلاء هم حكماً، كفار وليسوا بمؤمنين.
والصور الثلاثة الأخيرة هي الأضداد، والضد: هو الأمر الوجودي في مقابل أمر وجودي أخر يزاحمه وجوداً ويضاده مفهوماً.
الذين آمنوا بآيات ربهم بما فيها الغيب، قال تعالى: «الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»(2)، فهؤلاء هم المؤمنون فقط، وليس من يشكك بالغيب، أو يحاول أن يخرجه عن إطاره ويصبغه بصبغة مادية، كمحاولة البعض تفسير الوحي بما يتناسب مع العقلية المادية، وفي حق
ص: 132
هؤلاء المؤمنين بآيات الله وبالغيب تسري الهداية القرانية «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ»، وقال تعالى: «الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ»(1)، فهؤلاء لهم الجنة والسعادة الأبدية، أي الذين آمنوا وليس من شككوا.
وهذه هي الصورة الوحيدة المطلوبة من بين الصور الخمس المحتملة، كما أن هذه هي الصورة المنتجة، ألا ترى أن المهندس - مثلاً - إذا بقي شاكاً ومتردداً، فإنه لا يستطيع أن ينجز أي عمل، لأن الإنجاز والبناء هو وليد اليقين والإقدام، وليس وليد الشك والإحجام.
الذين آمنوا بآيات غير ربهم، أي الذين آمنوا بآيات معينة، إلا إنها لم تكن آيات ربهم الحق، كمن يؤمن بآيات الكهنة والسحرة، قال تعالى: «وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ»(2). فالشيطان أيضاً يوحي، فمن يؤمن بآية غير ربه كالسحر أو الكهانة، وهو كلام الجن والشياطين الموحى إلى البشر، فإنه لم يؤمن بآيات ربه ولقائه، وعلى منوال السحر والكهانة، كل طرق الضلال والانحراف التي سمعناها أو نشاهدها في هذه العصور، من دعاوى السفارة والنيابة الخاصة في زمن الغيبة الكبرى، وغير ذلك.
أن يؤمنوا بغير آيات ربهم، كمن يؤمن بالأحلام مثلاً.
ص: 133
وفرق هذه الصورة عن الصورة السابقة، أن السابقة كانت عمن يؤمن بآية عن غير الله تعالى، كالشياطين والجن، وذلك هو ما يقوم به الكاهن، أما في هذه الصورة فهي في حق من يؤمن بما لم يعتبرها الله تعالى آيات ودوالّ على الحقائق الاعتقادية أو العلمية.
ومن أمثلة (غير آيات ربهم) هي الأحلام والمنامات، على ما مضى تفسيره بداية البحث، فإن من يعتقد بأن هذا الشخص سفير من قبل الإمام (علیه السلام) أو من قبل الله تعالى، مستنداً إلى أحلام رووها له أو شاهدها فرضاً بنفسه! فهو يعتقد بعلامة لم يجعلها الله دليلاً وعلامة في أصول الدين، ولا في فروع الدين، ولا في الأحكام الشرعية، وليست بطريق موصل حتى في الحقائق العلمية؛ وهكذا الاستخارة في أصول الدين أو القضايا العلمية، فإنها فاقدة للحجية و للدالية والعلامية كما مضى.
و تاكيداً لما سبق نقول: إن من الغريب أن مَنْ يقبل بأن الاستخارة حجة في شؤون العقائد - وهي أخطر الأمور التي تتعلق بها السعادة أو الشقاوة الأبدية - كيف لا يستخير على أن يلقي نفسه من شاهق؟ فإذا خرجت جيدة فليلق نفسه، مطمئناً بأنه لا يصيبه مكروه!!
أو يستخير على إلقاء نقوده في النار، وقد جمعها بتعب شديد ووقت كثير، ومن فعل ذلك فإنه لا يعد من العقلاء ولا من المتشرعة بشيء.
ص: 134
إن الاستخارة ليست حجة في دائرة المحرمات ولا الواجبات، فهل يصح أن يستخير شخص على أداء صلاة الصبح أو الظهر لهذا اليوم أو لا؟ أو أن يستخير على أن صلاة الصبح واجبة أو لا؟ أو أن يستخير على أن يكذب أو لا؟ أو هل يشرب الخمر أو لا؟
لوضوح أن موطن ومحل الاستخارة إنما هو في الموضوعات الصرفة، وفي خصوص حالة الحيرة فقط، كمن يتحير بين المتاجرة في القمح أو الزيت مثلاً؛ وقد صرح الفقهاء بأن الخيرة عند الحيرة، لذا لا مجال للاستخارة حتى في الموضوعات الصرفة، إذا لم يكن الشخص متحيراً. لذا لا تصح الاستخارة على الذهاب إلى هذا الدرس أو ذاك أو الشراء من هذا المحل أو ذاك، إذا كان غير متحير، إذ لا موضوع لها عندئذٍ اصلاً، بل عليه أن يستشير ويفحص ويحقق، فإن أوصله التحقيق أو المشورة إلى أحد الطرفين، اختاره وبنى عليه من دون استخارة، وإن تكافأ الطرفان وتحير حقاً، فله أن يستخير، فلو كان متحيراً في أمر كالبيع أو الزواج من امرأتين مختلفتين في بعض المواصفات والكمالات، فهنا عليه أن يستشير ويتفكر ويتدبر، فإن تحير رغم المشورة فهنا يمكن أن يستخير ولا بأس بذلك.
فالصورة الخامسة هي: أولئك الذين آمنوا بالله ورسله وأوصيائهم ونوابهم، من حيث المبدأ، إلا أنهم أخطأوا الطريق، ولم يعتمدوا على آيات ربهم التي جاءتهم حتى توصلهم إلى الحقيقة، بل اعتمدوا على آيات غيره كالأحلام والاستخارة.
وهذا الطريق واضح البطلان ومن البديهيات، ومن المؤسف أن عقول
ص: 135
طوائف من الناس أسفّت وانحطت ووصل بها الحال إلى اعتماد مثل هذه الأمور كطرق موصلة إلى أعظم حقيقةعرفها الوجود! ونحن مضطرون إلى مناقشة مثل هذه الأمور، رغم بداهة بطلانها، وذلك لأن المستضعفين علمياً ومعرفياً ابتلوا بها وصدقوها فعلينا أن نناقشهم ونبين لهم الحقيقة.
وقد سبق بعض الكلام عن الاستخارة في أول الكتاب أيضاً.
من أدلة أدعياء الضلالة هي التحدي بمناسبة وغير مناسبة، والتحدي من حيث المبدأ منهج صحيح، فيما إذا توفرت شروطه، من كون الشخص محقاً و كونه على مستوى التحدي للآخرين، وليس التحدي سلاحاً يلوح به كل شخص حتى إذا كان مبطلاً! فكيف إذا كان مبطلاً جاهلاً؟
إن من الواضح أن العقلاء لا يعيرون أية أهمية للعامي الجاهل إذا تحدى أستاذاً في الجامعة، ودعاه للمناظرة في علم الرياضيات أو سائر التخصصات، لمجرد أنه رفع عقيرته هنا وهناك وأين ما حلّ بأنه تحدى هذا الأستاذ الجامعي، كما أنهم لا يعيرون بالاً لمنطق المتحدي الجاهل، بالقول: إنه حيث لم يستجب ذلك الأستاذ الشهير للتحدي، فيكون - أي العامي الجاهل - هو الغالب، وهو على الحق، وإلا لماذا جبن الأساتذة عن مناظرته! فإن مثل هذا الجاهل، هو مثل ذاك الضال الذي تحدى - بزعمه - كل علماء النجف الأشرف وقم المقدسة ودعاهم إلى مناظرته!
ص: 136
إن هذا النوع من التحدي لا يجعل من صاحبه - أو أي شخص مشابه - جديراً بالمناظرة والمناقشة أو حتى الاهتمام به، إذ للتحدي ضوابط وشروط، ولابد من معرفة مستوى هذا الطرف العلمي ومستوى حججه معرفياً، وما هو حجمه، ومن هم أساتذته أو تلامذته؟
أما أن ينبع من بين الركام والجهالات شخص يدعي أنه أعلم الأولين والآخرين، أو إنه سفير الإمام الحجة (علیه السلام)، فإن هذا الكلام لا يعدو أن يكون تخريصاً أو لغواً لا يعتني به العقل والعقلاء، ولا يعيرون له أهمية أبداً.
وهل هو إلا كجاهل ادعى أنه نبي ثم تحدى العلماء الكبار لمناظرته؟ أو هو كجاهل ادعى أنه الله تعالى - تعالى الله عن ذلك - ثم تحدى العلماء للمباهلة!
نعم لو كان التحدي صادراً ممن عرف بالعلم والمعرفة والفضل وكان له مستواه العلمي المعروف، فهنا قد تصح الاستجابة إلى مثل هذا التحدي.
بل إن تحدي الشخص الجاهل للعلماء ودعوتهم للمناظرة أو المباهلة لا ينبغي الاستجابة لها، لأن ذلك يعد إهانة للعلم والعلماء، فهل من الحكمة الاستجابة إلى تحدي جاهل مغرور أو مدفوع منجهات خارجية أو داخلية، لإثارة البلابل والقلاقل في المجتمع الإسلامي، أليس ذلك نوع استخفاف بالعقل البشري، وإهانة للكرامة الإنسانية؟!
لكن مع ذلك وإحقاقاً للحق و درءاً للفتنة نرى أن العلماء الأعلام انبروا للتصدي الموضوعي الحكيم لمثل هذه الحركات وشبهاتها تواضعاً منهم وتسامحاً، فأجابوا وكتبوا كتباً تضمنت براهين ساطعة، تتكفل بالرد العلمي
ص: 137
الشامل عن ادعاءات المفترين والمدعين(1).
و انطلاقاً من أن الشياطين يوحي بعضها بعضاً، نرى الضلّال والمنحرفين يقومون باستنساخ التجارب السابقة في الدعاوي الباطلة، ليطبقوها على حركتهم، وهذا ما يشاهد في دعاوي السفارة وحركة اليمانية واستنساخها لتجربة القادياني و سيرها على منوالها وبنفس الخطوات.
فقبل أكثر من قرن، ظهر شخص يسمى ب (ميرزا غلام أحمد القادياني)، وقد ولد عام 1839 في مدينة (بنجاب) في الهند، وتوفي في (لاهور) الباكستانية عام 1908م، وكان في بداية أمره داعية إلى الإسلام، إلا أنه بعد أن اشتهر وعرف من قبل الناس، استحوذ الشيطان على قلبه، فادعى أول الأمر أنه مُلهم!! وحيث رأى أن دعواه تلك زادته شهرة واتباعاً، ادعى ثانيةً أنه شبيه المسيح، فالتفت الجهال حوله مصدقين إياه ما زاده جرأة على جرأته، فادعى ثالثةً أنه هو المسيح بنفسه!! ثم ادعى النبوة في نهاية المطاف! وراج أمره ومازال له إلى اليوم بعض الأتباع!.
وقد إدعى النيابة، أو أنه الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) نفسه، وبعد وفاته خلفه
ص: 138
خمسة من أتباعه، بصفتهم نواباً له، آخرهم الميرزا مسرور أحمد، ومقره في لندن، وتدعى الجماعة بالأحمدية، ويدعمها الإعلام الغربي.
إن دعاوى السفارة والنيابة الخاصة واليمانية وشبهها التي ظهرت أخيراً على السطح، تشابه إلى حد كبير ادعاءات أحمد القادياني، فبادئ ذي بدء تجدهم يدّعون شيئاً بسيطاً ثم يتطور الأمر إلى أنيدّعوا المهدوية أو السفارة أو حتى النبوة، وقد يدّعون حلول الإله فيهم! وكل ذلك بإيحاء من الشيطان، و بمساندة من دول إقليمية وجهات محلية ودولية وبخطوات مدروسة متتالية(1).
وفيما يلي بعض النماذج من التشابه فيما بين حركة القادياني و الحركات الوليدة الجديدة كاليمانية ومدعي السفارة وغيرهما.
يقول القادياني: (..اعلموا رحمكم الله ورزقكم رزقاً حسناً من التفضلات الجلية والألطاف الخفية هذه رسالتي قد تمت بالعناية الإلهية محفوفة بالأسرار الأنيقة الربانية .. فنحن نقبل الآن على زمر تلك(2) المنكرين ولقد وعيت أسمائهم فيما سبق من ذكر المكفرين والمكذبين فليناضلوني بهذا(3) ولو متظاهرين بأمثالهم وليبرهنوا على كمالهم وإلا كشفت عن سبّهم وأخزيتهم في
ص: 139
أعين جهالهم. ومن يكتب منهم كتاباً كمثل هذه الرسالة ثلاثة أشهر أو إلى الأربعة فقد كذبني صدقاً وعدلاً، وأثبت أني لست من الحضرة الأحدية(!)، فهل في الحي حيٌ يقضي هذه الخطة وينجي من التفرقة الأمة، وليستظهر بالادباء(1) إن كان جاهلاً لا يعرف طريق الإنشاء، وليعلم أنه من المغلوبين وسيذهب الله ببصره ببرق من السماء(2) فيعشيه كما يُعشي الهجير عين الحرباء ويطفئ وطيس المفترين. أيها المكذبون الكذابون مالكم لا تجيئون ولا تناضلون وتدعون ثم لا تبارزون ويل لكم ولما تفعلون يا معشر الجاهلين)(3).فهذا غاية دليله ومن يشابهه، وهو التحدي الفارغ لكل العلماء والمختصين، مضافاً إلى تشبثه في دعواه الكاذبة بالأحلام والمنامات والنبوءات والاستخارة.
فقد ذكر القادياني في بعض كتبه إنه شاهد، في فترة وجيزة، ألفي منام ورؤيا، تدل على أنه من قبل الله تعالى، وأنه الملهم، وأنه نبي، معتبراً ذلك حجة شرعية ربانية.
قال: (ولما بلغت أشدّ عمري وبلغت أربعين سنة جاءتني نسيم الوحي برَيَّا عنايات ربي ليزيد معرفتي ويقيني، ويرتفع حجبي، وأكون من المستيقنين، فأوّل ما فُتِحَ عليَّ بابه هو الرؤيا الصالحة، فكنت لا أرى رؤيا
ص: 140
إلا جاءت مثل فلق الصبح، وإنّي رأيت في تلك الأيام رؤيا [!] صالحة صادقة قريباً من ألفين أو أكثر من ذلك، منها محفوظ في حافظتي وكثير منها نسيتها، ولعلَّ الله يكرّرها في وقت آخر ونحن من الآملين)(1).
وفي موضع آخر ودعوى أخرى يدعي أنه وصل إلى مقامات عجيبة منذ اثنتي عشرة سنة، إلا أنه كان غافلاً عنها! ولذا لم يدع فيما سبق ما يدعيه الآن، وتتمة لتخرصاته يدعي أن الله تعالى لم يشأ أن يستمر هو في هذه الغفلة، فنبهه إلى أنه المسيح الموعود من خلال الوحي.
قال ما نص عبارته: (فممَّا يدلُّ على بساطتي المتناهية وذهولي البالغ أنَّ الوحي الإلهي كان يَعُدُّني مسيحاً موعوداً، ولكنَّني مع ذلك سجَّلت في (البراهين الأحمدية) تلك العقيدة التقليدية نفسها. إنَّني لأستغرب بنفسي كيف كتبت هذه العقيدة التقليدية في (البراهين الأحمدية) مع أنَّ الوحي الإلهي البيِّن المذكور في الكتاب نفسه كان يعتبرني مسيحاً موعوداً؟!
ثمّ ضللتُ غافلاً وذاهلاً تماماً إلى اثني عشر عاماً - وهي مدَّة طويلة - عن حقيقة أنَّ الله تعالى كان قد عدَّني بوضوح تامّ وفي راحة متناهية مسيحاً موعوداً في (البراهين الأحمدية)، وظللتُ متمسِّكاً بالاعتقاد التقليدي عن المجيء الثاني لعيسى (علیه السلام)، وبعد مرور اثني عشر عاماً حان الأوان لتُكتشف الحقيقة عليَّ، فبدأت الإلهامات تنزل عليَّ بالتواتر، قائلة بأنَّك أنت المسيح الموعود، فحين بلغ الوحي الإلهي بهذا الشأن منتهاه، وأُمرت: «فَاصْدَعْ بِمَا
ص: 141
تُؤْمَرُ»(1)، وأُعطيت آيات كثيرة، وأُلقي في روعي يقين قوي وبوضوح تامّ كوضح النهار، بلَّغتُ هذه الرسالة للناس)(2).
كما استدل بإنباءاته الغيبية، فقال مثلاً: (ومن آياتي التي ظهرت في هذه السنوات هو أنّي أشعتُ قبل الوقت أنَّ الطاعون ينتشر في جميع الجهات، ولا يبقى خطّة من هذه الخطط المبتلاة بالآفات، إلا ويدخلها كالغضبان، ويعيث فيها كالسرحان، وقلت: قد كُشِفَ عليَّ من ربيّ سرّ مكنون، وهو أنَّ أرضاً من الأرضين لا تخلو من شجرة الطاعون، وثمرة المنون ..، فانتشر الطاعون بعد ذلك في البلاد، وجعل ذوي الأرواح كالجماد ..، فإن شئت فاقرأ ما أشعت في جميع هذه البلاد، ثمّ استحي واتَّق الله رب العباد.
ومن آياتي التي ظهرت في هذه المدَّة، موت رجال عادوني وآذوني وعزوني إلى الكفرة، وسبّوني على المنابر، وجرّوني إلى الحكومة، فاعلم أنَّ الله كان خاطبني، وقال: يا أحمدي أنت مرادي ومعي، اخترتك لنفسي، وسرّك سرّي، وأنت معي وأنا معك، وأنت منّي بمنزلة لا يعلمها الخلق، إذا غضبتَ غضبتُ، وكلّ ما أحببتَ أحببتُ، إنّي مهينٌ من أراد إهانتك، وإنّي معين من أراد إعانتك، إنّي أنا الصاعقة تخرج الصدور إلى القبور، إنّا تجالدنا
ص: 142
فانقطع العدوّ وأسبابه)(1).
كما أن القادياني استدل أيضاً بالاستخارة، فقال مثلاً: (إنّي دعوتُ قومي ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً، ثمّ إنّي دعوتهم جهاراً، ثمّ إنّي أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً، فقلت: استغفروا ربّكم واستخيروا واستخبروا، وادعوا الله في أمري يمددكم بإلهامات، ويُظهر عليكم أخباراً، فما سمعوا كلمتي، وأعرضوا عتوّاً واستكباراً، ورضوا بأن يكونوا لإخوانهم مكفِّرين، وما كان حجَّتهم إلا أن قالوا: ائتوا بأحاديث شاهدة على ذلك إن كنتم صادقين)(2).
أقول: إن هذه الأساليب والحيل التي استخدمها القادياني، في الزمن السابق، يعيد استخدمها الآن المدّعون للسفارة والنيابة الجدد، فاعلنوا - مثلاً - تحديهم للعلماء والفقهاء، مع أنهم لا يملكون حظاً من العلم والمعرفة، ومع ذلك أجاب العلماء في كتب ومقالات كثيرة عن مدعياتهم، كما أن بعض المختصين ناظرهم، وكشف عن زيفهم وجهلهم، إلا أنهم بقوا مصرين على غيهم وضلالاتهم(3).وقد تحداهم عدد من الأفاضل وأعلنوا إنْ أراد ذلك المدّعي أن يباهل، فليأت إلى حرم أبي الفضل العباس (علیه السلام)، وعلى منظر ومسمع من
ص: 143
العلماء والطلبة الأفاضل الموجودين هناك، ولتجري المباهلة في هذا الحرم الطاهر، وما زال هذا التحدي قائماً إلى اليوم، لكن هؤلاء المدّعين أكثر جبناً من أن يستجيبوا للتحدي! ذلك أن المبطلين يعلمون بأنهم مغلوبون على أمرهم، ولذا لا ينصتون إلى هذا التحدي الواضح والصريح.
ص: 144
من مناشئ الضلال والانحراف
* مؤامرة إشاعة الفوضى
* نظام المحاكاة
ص: 145
ص: 146
يقول الله تعالى:
«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً»(1).
«أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ»
في الآية الشريفة بصائر كثيرة نتوقف عند أربع منها في المفردتين القرآنيتين «بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ»:
إن في إضافة مفردة (آيات) إلى (الرب) وليس إلى (الله) مثلاً، دلالات مهمة فينبغي التأمل فيها، واستكشاف ما يمكننا من وجوهها، فقد كان من
ص: 147
الممكن أن يقول تعالى: (أولئك الذين كفروا بآيات الله ..) أو (.. بآيات الرحمن) أو غير ذلك.
ولعل من الوجوه: إن ذلك أشبه بالتعليل لكونهم الأخسرين أعمالاً، بمعنى أنهم قد صاروا من الأخسرين أعمالاً، لأنهم كفروا بآيات ربهم، المربي لهم والمنعم عليهم، فإن الذي يكفر بالعلامة التي جاءته من مربيه، هو أشد كفراً وأعظم خسارة مما لو أتته من صديقه مثلاً.
وذلك مثله مثل من أرشده صديقه إلى الدرب، فإن خالفه فإنه لا يلام كما يلام لو أرشده معلمه ومربيه نحو الدرب إذا كان بالحق فخالف وعصى، خاصة إذا كان يعرف ماضيه ومستقبله وأغلب شؤونه، فكيف بما لو كان مربيه المحيط بكل شؤونه؟!وبذلك يظهر بوضوح أن الإنسان إذا كفر بآيات ربه الحقيقي، بكل ما للكلمة من معنى، فعندئد سيكون هو الخاسر بل الأخسر بلا شك.
وبعبارة أخرى: حيث أذعن الإنسان إلى أن الله تعالى هو ربه والمنعم عليه، فلابد أن يؤمن بكل آياته وأوامره ونواهيه، فإذا كفر بها فسيكون أخسر أعمالاً من غيره.
إن الكفر تارة يكون كفراً بذات الآية أو قل بأصل الآية، وتارة يكون بآيتية الآية(1)، وثالثاً يكون بالمرسِل، ورابعة يكون بالرسول، والفرق بينها
ص: 148
كبير جداً.
توضيح ذلك: تارة يكفر الإنسان بالشيء أي بالعلامة بذاتها، وتارة يكفر بعلاميّتها، وثالثة يكفر بالرسول أي الوسيط، ورابعةً يكفر بالباعث لها والمرسِل.
ومثال ذلك: ما لو جاء إلى الانسان رسولٌ من قبل مرجع في الدين أو في الطب أو في السياسة أو غير ذلك، فإنه توجد ههنا حالات للكفر والرفض:
الأولى: تارة لا يقبل المرسل إليه ذلك المرجع أصلاً، فيكون كافراً بالمرسِل - بالكسر -، ويكون كفره بالمرسَل - بالفتح - تبعاً، و بسبب كفره بالمرجع والمنبع نفسه.
الثانية: وتارة أخرى يكون المرسل إليه، ممن يقبل المرسِل، ولكنه لا يرتضي الرسول والمندوب عنه، إذ إنه لا يعجبه أن يأتيه هذا الشخص بالذات بهذه الرسالة.
الثالثة:وتارة لا يقبل مضمون الرسالة ومحتواها.
الرابعة:والأخرى لا يقبل كونها رسالة منه، أي يرفض الإسناد والنسبة.
ومحل الكلام هنا كذلك، فتارة يكفر الكافر بآيات الله تعالى، لأنه يكفر بالله تعالى وهو المُرسِل، ولكنه تارة يكفر بالرسول، ويعترض على إرسال هذا الرسول بالذات، كما كفر بنوا إسرائيل، واعترضوا على إرسال الله تعالى نبينا الأكرم محمد (صلی الله علیه و آله)، فالمشكلة عندهم لم تكن في المصدر، بل في الرسول؛ ولذا كانوا يكرهون جبرائيل (علیه السلام) ويعتبرونه خائناً، لأنه نزل
ص: 149
على النبي (صلی الله علیه و آله)، وهو من ذرية إسماعيل ولم ينزل على أحد منهم - وهم من ذرية إسحاق -.وثالثة يكفر بمضمون الرسالة ومحتواها، كما لو أمره الله تعالى بالجهاد أو الخمس فرفض وكفر بهما.
ورابعة يكفر بالانتساب والإسناد والنسبة.
والسؤال هنا: إن الآية الشريفة: «أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ * فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ» تتحدث عن أي قسم من الأقسام؟ هل المراد الكفر بالمرسِل أو بالمرسَل أو الكفر بالرسالة أي بمضمونها؟ أو الكفر بكونها رسالة منه؟ سيأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.
هل عنوان « الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ» عنوان آلي أم هو عنوان استقلالي؟
وهذا بحث فقهي وعقدي مهم، فإن قلنا إنه عنوان استقلالي(1)
فالكافر بآيات الله كافرٌ، وإنْ لم يرجع إنكاره إلى إنكار الرسول، ولا إلى إنكار الرسالة، ولا إلى إنكار التوحيد والألوهية.
وإنْ قلنا إنه عنوان آلي، فلا يكون المنكر للآية بما هي آية، وإنْ كانت ضروريةً، كافراً(2).
ص: 150
وتوضيح ذلك: إن الفقهاء اختلفوا حول مقياس منكر الضروري من الدين، وهل إنه كافر فيما لو كان كفره آلياً؟ أي مرآة للكفر بالمرسِل أو مقدمة موصلة له، أو إنه كافر استقلالياً؟ بمعنى إنكار هذا المضمون بذاته مستلزم للكفر، مع قطع النظر عن ملزوماته وملازماته ولوازمه.
ولاشك في أن منكر أصل وجود الله يعتبر كافراً بلا خلاف، وكذلك منكر وحدانيته أو النبوة، والأكثر على أن منكر المعاد كذلك، وفي الدرجات اللاحقة، يأتي العدل والإمامة على حسب تعدد إطلاقات الكفر، كما فصلناه سابقاً، وأما بالإطلاق الأول، فيجري البحث أنه كافر آلي - لو جرّ إلى إنكار المرسِل أو الرسول - فقط أو استقلالي، والمشهور أنه ليس بكافر استقلالياً بالإطلاق الأول، ولذا تحل مناكحته وليس بنجس، إلى غيره من الأحكام.لكن ما هو الحكم فيما لو أنكر حرمة الكذب مثلاً، مع أن ذلك من الضروريات في ديننا الحنيف؟
وهنا يأتي أيضاً هذا البحث:
فتارة نقول أن منكر الضروري إنما يكون كافراً، إذا علم أن القرآن والرسول (صلی الله علیه و آله) يصرحان بحرمة الكذب، ومع ذلك أنكر وخالف بهذا اللحاظ، فيكون في جوهره وواقعه وعقد قلبه، منكراً لرسول الله مباشرة، فهو كافر دون شك، لكنه ليس بكافر إذا أنكر ذلك لا بهذا اللحاظ.
وتارة نقول بالأعم، وإن منكر الضروري كافر لأنه أنكر ضرورياً،
ص: 151
سواء عاد إلى إنكار الأصول الثلاثة أم لا، فيكون حالها(1) كحال منكر الرسالة فإنه كافر، وإنْ لم يعد ذلك إلى إنكار الله تعالى؛ ويتضح ذلك إذا لاحظنا إن الإنسان أحياناً يفكك بين الحقائق الارتباطية، فيفكك مثلاً بين اللازم والملزوم، بل قد يفكك بين اليقين بالشيء وبين عقد القلب عليه بنفسه، كما قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا»(2).
والحاصل: إنه قد يعتقد الشخص بأن الرسول مرسَل، لكنه لا يؤمن ببعض ما جاء به، كحرمة الكذب أو حرمة شرب الخمر أو وجوب لبس الحجاب أو غير ذلك، بأن يفكك بين علمه برسالته وعلمه بأنه قال الكذب حرام مثلاً، وبين عقد قلبه على حرمة الكذب، فتدبر!
والآية الشريفة تحدد الأخسرين أعمالاً بأنهم «أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ * فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُم»، فإنْ كان المراد ب «كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ»، أي جوهر الآيات بما هي هي، فهو كافر وتحبط أعماله إذا كفر بالمضمون، وإنْ لم يكفر بالمرسَل ولا كذّبه في أقواله؛ أما لو قلنا إن الكافر من كفر بآيتية الآية من حيث إشاريتها وارتباطها ودلالتها على رسالته (صلی الله علیه و آله) وصدقه، فعندئذٍ يكون كافراً إذا رجع إنكار ذلك الضروري إلى إنكار أحد الأصول، والبحث طويل في هذا الحقل نتركه لمظانه.
ثم إن هذه الآية تصلح لأن نعدها من آيات الأحكام، فيستدل بها على كفر منكر الضروري، أما لذاته أو لطريقيته - على الأخذ والرد في
ص: 152
ذلك - إضافة إلى ما ذكروه من الآيات التي أشارت إلى الأحكام الفقهية.
وههنا بصيرة أخرى هامة، تنبثق عن التدبر في وجه عدم ورود (آيات) بصيغة المفرد، أي أن يقال: أولئك الذين كفروا بآية ربهم، بل جاءت بصيغة الجمع «بِآَيَاتِ». هناك وجوه ومنها:
الأول: لأن الكلام عن الجميع في مقابل الجميع، فهم جمع وجماعات، وكل جمع أو جماعة من المبطلين، يكفر بآية أو عدة آيات مختلفة، فهذا ينكر النبوة، وآخر ينكر الإمامة أو العدل، وذاك ينكر عمومية أحكام القرآن لكل الأزمان ويؤمن بالهرمنيوطيقيا حسب إحدى مذاهبها، أو غيره مَنْ ينكر الصوم أو الحجاب وغير ذلك.
والحاصل: إن الكثير من الناس ينكرون كثيراً من الحقائق ف«أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ» كل واحد منهم مقابل آية من آيات الله تعالى.
الثاني: وقد يقال لأن الحكم والجزاء في الآية معلق على الكفر بالآيات دون الآية الواحدة، فتأمل!
الثالث: وهو وجه آخر دقيق، من غير مانعة جمع بينه وبين الوجه الأسبق أو السابق وهو:
إن الذي يكفر بآية واحدة، فإنه يجره ذلك عادة إلى الكفر بآيات
ص: 153
أخرى، وهنا مكمن الخطر، فإذا رأيت أحداً في الجامعة أو في الحوزة أو رأيت شخصاً من عامة الناس بدأ يشكك في رواية، لمجرد أن نفسه لا تقبل مضمونها ولا تطيب بها، وإنه لا يرى هذه الرواية صحيحة، فاعلموا بأنه في طريق خطر، وقد يجره إلى الأكثر فالأكثر، بل قد يجرّ ذلك بعض الناس إلى الكفر! قال تعالى: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»(1).
فإنهم حتى في أنفسهم ينبغي أن يكونوا راضين بحكم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو من ينوب منابه من الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين).
وذلك لأن موجة التشكيك إذا بدأت فإنها لا تقف عادة عند حد، ما لم تُتدارك بالعلاج، بالرجوع إلى العلماء الربانيين، وبالتضرع إلى الله تعالى، والتوسل بالرسول وأهل البيت الأطهار (علیهم السلام) لثبات القدم، وقد رأينا بعضهم يبدأ بالتشكيك في حكم من الأحكام أو في آية أو رواية واحدة، ثم انتهى إلى إنكار النبوة أو الإمامة أو غير ذلك من أصول الدين، وقد يصل إلى الإلحاد والعياذ بالله تعالى.
وعلى ذلك إذا رأى الإنسان عدم رضا نفسي من حكم ما أو آية أو رواية أو غير ذلك، فعليه أن يسلّم «وَيُسَلِمُوا تَسْلِيمَاً»، أما إذا كانت الرواية مجهولة، فعليه أنْ يَكِل علمها إلى أهلها (علیهم السلام)، كما صرّح بذلك أهل البيت (علیهم السلام).
ص: 154
وقد كنت ذات يوم أتحدث مع بعض، فقال لي: من قال إن مصافحة المرأة الأجنبية حرام؟! أنا لا أرى ذلك!
فقلت له: ومَنْ أنا وأنت حتى نقول: قال الله وأقول؟ - والعياذ بالله - وأنني أرى كذا أو لا أرى كذا؟!
فقال: لا توجد رواية ولا آية واحدة تدل على حرمة مصافحة الأجنبية!
فقلت له: هل طالعت كتاب الجواهر أو أي كتاب فقهي استدلالي آخر؟ وهل حققت في المسألة في الكتب الفقهية المعدة لذلك، ثم لم تجد دليلاً؟ ثم هل أنت متخصص بمباحث الاجتهاد وضوابط الاستدلال؟
قال: لا! قلت: فهل يصح الإنكار في أية مسألة دون تحقيق وبحث وفحص؟ ثم قلت: المشكلة إن بعضنا يعيش في لا شعوره - وشعوره - حالة من الإحساس بالضغط الأجوائي المحلي أو العالمي باتجاه تحليل المحرمات أو تحريم المحللات، إضافة إلى أن ابتلاء بعض شخصياً بمواقف محرجة هو الذي دفعهم للتشكيك لا عن تحقيقٍ بهذه المسألة البديهية(1)!
ولو كان المقياس هو (أرى ولا أرى! ومن قال؟) من غير تحقيق، ومن
ص: 155
غير استجماع المحقق لشرائط التحقيق وكونه قادراً عليه، فسيكون كل الدين محل تأمل وإشكال، إذ لكل من هبّ ودبَ أن يقول: من يقول إن السجود واجب!! أنا لا أرى ذلك؟ ومن يقول إن الصلاة بهذه الطريقةواجبة؟! وهكذا يسري الشك إلى كل الأحكام والتشريعات، وتهدم عُرى الدين عروة عروة لمجرد أهواء النفس وتخرصاتها.
وعوداً على بدء، نقول قد يكون من وجوه جمع «آيَاتِ رَبِهِم» هذه الحالة هي حالة ترابطية، فإذا شكك الشخص بآية أو رواية واحدة، ولم يمنع نفسه من التردي في مجاهيل الحيرة و وديان الضلالة، فإنه عادة ينتهي به الشك إلى الإنكار بالكلية، إلا مَنْ عصمه الله تعالى.
ولذا يقول تعالى: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ»(1)، فلا يشفع له أنه يؤمن ببعض أحكام الله تعالى، بل لابد من الإيمان الكامل بكل آيات الله وأوامره ونواهيه سبحانه وتعالى.
في القسم الثاني من البحث على ضوء هذه الآية القرآنية الكريمة، نتوقف بعض الشيء كي نكمل الحديث عن بعض مناشئ الضلال
ص: 156
والانحراف والبدع، وأسباب ولادة العديد من المذاهب المبتدعة والأديان المختلقة، وقد سبقت الإشارة إلى أن إحدى المناشئ هي المؤامرات الدولية في صناعة الأديان أو المذاهب أو الدس فيها وتحريفها أو استثمارها بالنحو السيء، ونضيف هنا:
إن أحد أهم مفردات ومصاديق هذه المؤامرات هو مؤامرة إشاعة الفوضى الفكرية والعقدية، إضافة إلى إشاعة الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية في المجتمع، فهذا النمط من الفوضى نمط متطور من أنماط المؤامرات الدولية والإقليمية أيضاً.
ولقد ابتكروا لإشاعة الفوضى الهدامة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية وغيرها، مصطلح (الفوضى الخلّاقة) التي كانت هي الفكرة الأساس المحرك لما أسموه بالربيع العربي(1)،
وذلك هو ما صرحت به بعض مراكز دراساتهم، وجوهر الفوضى الخلاقة يعني تخريب الوضعالقائم لأجل تغيير قواعد اللعبة السياسية، ومن ثم صناعة واقع جديد، يكون العملاء الجدد فيه أفضل لهم من القدامى وأكثر خدمة وعمالة و تسييراً لمصالحهم.
ونتائج الفوضى الخلاقة نجدها واضحة في سوريا وفي مصر وليبيا وغير
ص: 157
ذلك، والتي لم تنتج إلا دمار هذه البلدان، كما أنه كان ضمن ما أرادوه من الفوضى الخلاقة بيع مخزون الأسلحة المختلفة من قبل شركات صناعة السلاح العسكرية التابعة لهم، وتفعيل عجلة صناعاتهم العسكرية عبر هذا الطريق المدمّر.
وهذه بعض تجليات الفوضى الخلاقة في السياسة أو غيرها، و لكن هناك فوضى خلاقة أخرى تستهدف الأديان، وتهدف إلى إيجاد فوضى متعددة الأبعاد، عبر صناعة الأديان والفرق المنحرفة الضالة أو عبر تحريف أسسها أو اتجاهها.
وقد كانت هذه فلسفة قديمة، شجّع عليها شياطين الإنس والجن والأهواء والشهوات، وهي تفكيك الأديان وإيجاد انشقاقات ومذاهب متناحرة داخل جسم الدين الواحد، فمع أن الأمة الإسلامية هي أمة واحدة، ومذهب أهل البيت (علیهم السلام) مذهب واحد، إلا أن الأيادي عمدت إلى تفكيك الإسلام أو التشيع حتى يكون مثل القنابل العنقودية أو الانشطارية.
وقد أخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بذلك، حيث قال: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَة»(1).
ومن الواضح أن الجاهل المقصر ومن كان معانداً، فإنه يستحق العقاب والدخول في النار كما أخبر النبي (صلی الله علیه و آله)، نعم من كان يجهل الحق فعلاً عن
ص: 158
قصور ولم يكن معانداً، فإن الامتحان سيعاد عليه يوم القيامة، وهذا الأمر عام سيّال جارٍ حتى على الكفار والمشركين الذين يجهلون الحق تماماً قاصرين لا مقصرين.
وما يزال أعداء الدين يعتمدون على هذه الفلسفة، إيجاد مذاهب أخرى، وفرق أخرى في ذلك الدين أو ذلك المذهب، لتشتيت الكلمة وتفكيك القوة، ما يعبد الطريق للسيطرة عليهم و نهب ثرواتهم ومقدراتهم.
و من هذا المنطلق أوجدوا البهائية، التي ظهر مؤسسها الميرزا حسين علي بهاء الله في إيران، وتوفي في عكا العام 1892م والقاديانية التي توفي مؤسسها عام 1908 م في لاهور.وكذلك الأمر في المسيحية وغيرها، وبحسب إحصاء رسمي فإن عدد الطوائف المسيحية يصل إلى (33830) طائفة،وإن أكبرها طائفة (الكاثوليك)(1) وأصغرها طائفة تسمى (شَيكرز)(2)، وهذه الطوائف انشطر بعضها طبيعياً، بحسب طبيعة النفس البشرية، كالبغي أو الجهل
ص: 159
الذي يؤدي إلى ذلك، لكن بعضها الآخر كان من صناعة الدول الغربية، وبحسب نظرية الفوضى الخلاقة التي اعتمدت كسبيل للسيطرة على الشعوب والبلدان والأديان.
إن فكرة انقسام الأديان، تساعد كثيراً في السيطرة والتحكم بمقدرات الشعوب والدول، بينما نجد أن تضامن وتعاون أبناء البلد الواحد أو الدين الواحد أو المذهب الواحد، يشكّل حجر عثرة في طريق مخططاتهم وأهدافهم التوسعية والاستعمارية.
فعن طريق الانشطار والانقسام تسهل السيطرة على قسم كبير من الناس، والتحكم بهم يميناً أو شمالاً، كما نرى ذلك الآن ظاهراً في الخريف العربي والتكفيري.
لكن قَلَّ الملتفتون إلى عمق ذلك و الواعون لخطره و نتائجه المدمرة.
بازاء ذلك كله، فإن أعداء الدين لم يكتفوا بنشر الفوضى الخلاقة فحسب، بل عمدوا إلى نظام آخر ضمن منهجيتهم المعهودة في اتباع الخطط المركبة المتعددة الابداع والاضلاع، هو نظام المحاكاة.
وهو يستخدم كثيراً في العلوم العسكرية، فمثلاً لو أرادوا التنبؤ بنتائج مهاجمة الدولة الفلانية، فإنهم يدرسون ذلك عبر تفعيل عملية محاكاة المعركة الحقيقية، فتجري محاكاة خط سير المعركة على أرض الواقع، من خلال برامج على الكمبيوتر، فيتوصلون إلى توقعات مسبقة لردود فعل
ص: 160
العدو وللمفاجآت المحتملة.
وكانت المحاكاة العسكرية في الحروب فيما مضى تتم على الورق، مشفوعة ببعض الرسوم أو على منضدة الرمل، أما الآن ومع تطور الوضع التكنولوجي فإنهم يقومون بذلك عبر الكمبيوتر، وبشكل متطور جداً، إذ يرسم الكمبيوتر - بحسب الكم الهائل من المعلومات والمحتملات المعطاة له - أرض المعركة، ووضع الجنود والأسلحة، وما للطرفين من الفرص والمخاطر، ومن نقاط القوة ونقاط الضعف، ويطرح مختلف السيناريوهات والاحتمالات الممكنة، والمسالك والبدائل المحتملة، ويتنبأ بخطوات العدو، خطوة خطوة، ومسالكه الأكثر احتمالاً أو الأكثر خطورة، بما يعبر عنه بالتحطيط للعمليات في المستويات العليا، في مستوى العمليات والسوق الاستراتيجية.
وذلك كله تحرزاً من كل خطر، ولوضع حل لكل مشكلة أو مفاجأة محتملة.
وهذا نظام معروف في الأنظمة العسكرية، لكن لقد عمموا مثل هذا النظام إلى مجالات أخرى غير العسكرية منذ فترة ليست بالقريبة، وجرى تطبيقه على الأديان والمذاهب، فيما لو أرادوا السيطرة على أي دين أو مذهب أو أية قوة صاعدة في العالم، حيث يلجأون فيما يلجأون إلى نظام المحاكاة، ويدرسون كل الاحتمالات والبدائل والسبل والوسائل.
ص: 161
و قد مضى في الفصل السابق بعض الحديث عن القاديانية و أفكارها ومنهجيتها و محاكاة بعض الحركات المشبوهة في الوقت الحاضر لها، واستنساخها لتجربها، فإن الاستعمار كثيراً ما يستنسخ تجارب سابقة اعتبرها ناجحة ليعيد صناعتها مع بعض التطوير والتغيير بما يناسب العصر.ومن أبرز الأمثلة على ذلك مدعو السفارة أو النيابة واليمانية، فإن كل مراقب سوف يجد بوضوح أنهم في الحقيقة نسخة مقلدة طبق الأصل من القاديانية(1)، فتجربة ما قبل 100 سنة تعاد صناعتها الآن من جديد، والفرق أن ذلك كان في العالم السني أما هذا فهو في العالم الشيعي، وفيما عدا ذلك، تجد أن الكلام هو نفس الكلام، والأدلة والحجج هي نفس الأدلة والحجج، من الأحلام والمنامات و المعاجز المتوهمة والتنبؤ بالمستقبل كما مضى كلامه.
وهذه الحجج هي بنفسها تطرح الآن في الوسط الشيعي، لكن عبر واجهة دعوى السفارة والنيابة الخاصة.
وصفوة القول: إن المؤامرات الدولية في خلق المذاهب والأديان أو خلق الفوضى فيها بغرض تحطيمها أو السيطرة عليها، لعلها تعدّ من أهم مناشئ وأسباب الانحراف والضلال، واللازم علينا أن نقوم بدراسة ذلك، بمختلف
ص: 162
جوانبه بشكل موسع، فإن من لم يعرف عدوه بشكل جيد، فإنه لا يمكنه عادة أن يواجهه ويتغلب عليه.
فما هي طريقته؟ وما هي آلياته؟ وما هي مكامن قوته ونقاط ضعفه؟ وسنكمل البحث حول الموضوع في الفصل القادم.
ومن ضمن برامج المحاكاة هو محاكاة الشخصيات فقد ذكر مستر همفر العميل البريطاني الشهير الذي جنّد محمد بن عبد الوهاب كعميل مهم، لتأسيس مذهب تكفيري مهمته تمزيق وحدة المسلمين وتدمير البلاد والعباد إلى مئات السنين، وقد نماه وغذاه وجعل بيده نجد والحجاز - في مذكراته ضمن مشاهداته عند عودته إلى بريطانيا بعد نجاحه المذهل، أنه أطلعته وزارة المستعمرات البريطانية - كنوع تقدير و شكر لنجاحه في المخطط المرسوم له - على بعض مخططاتهم الشديدة السرية(1).فأدخلوه في قاعة كبيرة داخل الوزارة، وقد ذهل عندما رأى طاولة مستطيلة والسلطان العثماني عبد الحميد بنفسه يجلس في صدرها والذي التقى به قبل أيام فقط، كما رأى حاكماً إسلامياً آخر أيضاً جالساً، وهكذا مجموعة أخرى من الرؤساء وكبار المسؤولين الآخرين، فاستغرب كثيراً، إلا إنه بعد التدقيق رأى أن هؤلاء هم نسخ مقلدة ومشابهة بحد كبير لأولئك وليسوا هم.
ص: 163
فقال له الضابط المسؤول عنه: أنظر ما الذي يجري، فرأيت أحد السياسيين المحنكين طرح مسألة سياسية معينة على مشابه السلطان عبد الحميد، مثلا: ماذا لو حدث في تركيا الحدث الفلاني؟
يقول مستر همفر: فبدأ السلطان المزيف يجيب متقمصاً شخصية السلطان عبد الحميد وبنفس الحركات والسكنات، بل وجدته متقارباً معه حتى في طريقة تفكيره! إذ كانت اجوبته تحاكي وتقترب مع ما كنت أتوقع أن يجيب به السلطان العثماني. إلى آخر كلامه.
وذلك يعني فيما يعني أنهم قاموا بدراسات مستفيضة، تاريخية ونفسية وشخصية وعلمية عن السلطان عبد الحميد وتاريخه ومستواه العلمي والسياسي، وكل ما يتعلق به، يجمع ذلك كله في ملفات وأضابير، وتعطى إلى ذلك الشبيه، ويوكلون إليه مهمة أن يفكر كما يفكر عبد الحميد العثماني - أو غيره - حتى إذا ما طرحوا عليه مسألة سياسية، تنبأ بردود فعله وطريقة تفكيره، وعند ذلك يعيدون تقييم الأجوبة، ويضعون مختلف السيناريوهات على ضوء ذلك.
ومن الغريب أيضاً أن الاستعمار صنع فسيفساء عجيبة من الأديان المختلفة والمذاهب المبتدعة والأحزاب المتنوعة، ففي كل حقل تجد أن له مفتاحاً أو عدة مفاتيح للتخريب والهدم و جر الشعوب إلى ضحالة المعتقد والسلوك، ومن نماذج ذلك:
ص: 164
فقد أسسوا حزباً قبل عقود من الزمن في الغرب باسم (حزب الحمير)، ومن جملة عاداتهم أن تحيتهم هي تحية الحمار! فعند التقاء بعضهم ببعض يخرجون من أفواههم ما يشبه صوت الحمار! مع أن اللهتعالى يقول: «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ»(1)، وهناك كتب عديدة تتحدث عن هذا الحزب، كما أن له دستوراً وقوانين وبرامج متنوعة.
ولا شك في أن من هم وراء هذا الحزب والأحزاب المشابهة، يطرحون فلسفة برّاقة تخدع بعض الناس وتبرر ذلك، لعلمهم بأن الناس ألوان وأذواق مختلفة، فلا بد من تأسيس أحزاب وجماعات ونوادٍ مختلفة تتلائم مع أذواق ونفسيات أغلب الناس - إن لم يكن الجميع - وبذلك تتم السيطرة على مجاميع بشرية كبيرة عبر قيادتها أو بعضها على الأقل وتوجيهها من حيث تدري أو لا تدري!
كما أسسوا حزباً آخر باسم حزب الضاحكين، وقد رأى أحد أصدقائنا بعضهم، إذ كان في إحدى البلاد، فيقول بعد أن صليت صلاة الصبح نمت قليلاً، لكنني استيقظت على أصوات عالية جداً، بدت لي كأنها انفجارات من القهقهة العالية جداً، ففتحت النافذة لأتحقق من الأمر، فرأيت في الساحة المجاورة المئات من الناس رجالاً ونساء، وهم وقوف
ص: 165
يضحكون بصوت عالٍ وبشكل غريب! ثم سألت عنهم فيما بعد، فتبين أنهم حزب سياسي يسمى حزب الضاحكين!!
وقد حاولوا أن يفلسفوا ذلك بالقول إن ذلك لتخفيف التوتر الذي ينجم من العمل طوال اليوم، ومن شتى ضغوطات الحياة، فتعالوا وقهقهوا بصوت عالٍ وبشكل مختلط في حديقة عامة، كي تبدأوا حياتكم بنشاط! وهم يسعون من خلال فلسفة هذا العمل سيكولوجياً بهذا النحو، لكي يكون مقبولاً و ينجذب إليها الأتباع والمريدون.
وهناك في الكثير من الدول والدول الغربية بالذات مافيات وعصابات(1)،
ولقد أضحى من الواضح لدى الجميع أن كثيراً من المافيات والعصابات تحركها من وراء الستار دول عظمى أو إقليمية، وإلا فهل يعقل مثلاً أن الأفيون يزرع في أفغانستان بكميات هائلة جداً، وعلى أراضي هائلة جداً جداً، ثم يُصدّر منها عبر الباكستان وإيران وغيرها إلى كل دول العالم وأرباحه بالمليارات والحكومة الأفغانية - مثلاً - لا تستطيع أن تصنع شيئاً؟! مع أن مزارع الأفيون لا يمكن إخفائها لأنها تغطي مساحات شاسعة جداً جداً، مما لا يخفى على ذي فطنة إن وراء هذا الأمر دولاً عظمى وإقليمية وأيادي لهم في حكومات بعض الدول وأحزاب منتفعة، بل قد يبلغ الأمر حداً أخطر من ذلك، وهو تحكم بعض عصابات المخدرات وغيرها ببعض
ص: 166
الحكومات بطريقة وأخرى، فتكون تلك الدول تابعة إلى مجموعة من العصابات الخطرة التي لا هم لها إلا جني الأرباح والسيطرة بكل وسيلة.إن من لا يعرف ذلك، ولا يعرف أساليب الأعداء وطرقهم التي تتطور يوماً بعد يوم، ولا يميز عدوه من صديقه، قد يقع في الشباك والمصائد وينخدع وقد يسحق، بل قد ينخرط في عملهم بإرادته أو دون إرادته وبوعي منه أو دون وعيه، وهو لا يعلم بذلك، ومن هنا قال أهل البيت (علیهم السلام): «الْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِس»(1).
ومن الغريب أيضاً أنه توجد في العديد من الدول عصابات تتحكم بالمدارس، وهي عصابات متنافسة أو متناحرة فيما بينها، فإذا جاء الطالب إلى المدرسة وجد عصابتين أو أكثر، كلها تدعوه للإنضمام إليهم لكي يكون محمياً من قبل العصابة التي ينتمى إليها، فإن أجاب فعليه الامتثال لما يقولون ويخططون - وهي غالباً ما تتعامل مع مافيات خارجية، وقسم كبير منها يتعامل بالمخدرات -، أما إذا لم ينضم أي منهما فسيتعرض لمضايقات مزعجة، بل قد يكون عرضة إلى الخطر، وبالتالي فلابد أن ينضم إلى أحدهما شاء أم أبى!
والظاهر إنهم يهدفون من وراء ذلك السيطرة ضمنياً على الشباب الذين يعيشون في ضمن حريات كبيرة قد تستغل ضدهم - أي ضد حكوماتهم - في بحر الانفلات الهائل الذي يعيشه الغرب.
وقبل فترة قد نشرت إحدى المجلات تقريراً عن شخص في الولايات
ص: 167
المتحدة، ادعى النبوة واشترط شروطاً مخزية للانضمام إلى دعوته فآمن به (4000) شخص!!
وهكذا تتكامل حلقات السيطرة، المافيات والعصابات والأحزاب والمذاهب المبتدعة والأديان المُسخّرة!
ص: 168
الحلول والبلاسم
ص: 169
ص: 170
بعد أن بيّننا بعض المناشئ في الفصول السابقة، لا بد أن نتحدث عن سبل الحل وطرق العلاج، فنقول:
بعد أن أنبأنا الله تعالى بالكبرى الكلية «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا» يجب علينا أن نبحث عن الصغريات الجزئية، كما علينا أن نبحث عن الحلول وسبل المواجهة، خاصة إذا عرفنا أن أكثر الناس في خسر، إلا من استثني، قال تعالى: «وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ»(1). والآية الكريمة لعلها تشير إلى الكلي الطبيعي، أي إن هذه الطبيعة - الإنسان بما هو إنسان - في خسر إلا من آمن وعمل صالحاً، فاقتضاء الخسران، إذاً فيه كبير وشديد!!
ثم إن الإنسان وإن آمن فهو ما يزال في خسر، إلا إذا عمل صالحاً أيضاً وشفعه بالتواصي بالحق والصبر معاً، فإن المتصف بمجموع هذه
ص: 171
الصفات هو المستثنى.
وهنا نذكر عدة مفاتيح من مفاتيح الحل:
الأول: من المفاتيح التي تُري الطريق - وهو من السبل العلمية لإدراك وجه العلاج وطريق الحل، وليس هو حلاً عملياً بنفسه(1) - إنشاء مراكز الدراسات المتخصصة في شأن الأديان والمذاهب والفرق المبتدعة الضالة، ومهمة هذه المراكز دراسة حركة هذه الأديان وامتداداتها ونقاط قوتها وضعفها ورسمها البياني.فمثلاً الكثير منا لا يعرف عن البهائية أو الوهابية أو القاديانية أو مدعي السفارة شيئاً إلا الإسم، كيف نشأوا؟ وكم عددهم؟ ومدى تاثيرهم؟ ماهي نقاط قوتهم؟ وماهي نقاط ضعفهم؟ وما هي الأسباب وراء تقدمهم أو انكسارهم؟ وماهي الحلول؟ وغير ذلك .
ألا يستحق هذا الأمر الدراسة؟ إذ يمكن أن يُستنسخ وينشأ دين آخر أكثر تطوراً وتأثيراً، فيغزو العالم ويكتسح الحقيقة إلى درجة كبيرة!!
فهل يوجد عندنا مركز من هذا النوع؟ في حدود علمي لم أجد مثل ذلك! ومن هنا نعرف نقطة من نقاط ضعفنا، وسبباً من أسباب ضعف مناعة شبابنا، كما نعرف أكثر، كيف إننا تخلفنا في الكثير من الحقول الحيوية والمفتاحية، وسبقنا فيها غيرنا، فأصبح يتحكم فينا على باطله ووضوح حقنا!!
ص: 172
ولنستشهد على ذلك وعلى مدى أهمية مراكز الدراسات بالدراسة المسحية التالية:
ففي عام 2013م تواصَل (9) آلاف شخص متخصص - كل بحسب اختصاصه - من شتى أرجاء العالم عبر وسائل الارتباط، وهم بين مفكر وخبير وصحفي وقانوني وأفراد من القطاعين الخاص والعام وغير ذلك، كلهم اشتركوا في دراسة مسحية فريدة من نوعها، واستمرت هذه الدراسة ما يقرب من (18) شهراً !
وكان محور هذه الدراسة هو مسح تحقيقي عن مراكز الدراسات في العالم، فقاموا بدراسة عن (6826) مركزاً للدراسات!!
ومن الواضح أن العالم العربي احتلّ ذيل القائمة، بل لعل الكثير منا لا يعرف ما هي مراكز الدراسات أصلاً!
وكان 26% من مراكز الدراسات من نصيب أمريكا، وإن 18% منها من نصيب أوروبا، وأقل من 6% منها من نصيب العالم العربي - على ضحالة أكثرها نسبياً -، والباقي موزع على جميع أنحاء العالم الأخرى.
كما توصل باحثون إلى أن بعض هذه المراكز هي مراكز دراسات قيادية، وهي المراكز التي تقوم بمهمة إعطاء الأفكار والخطط لقادة دولهم والوزراء والمعاونين والمستشارين، وتطرح لهم الرؤى والخيارات والآليات التي يمكّنهم من التأثير على الرأي العام وعلى الدول الأخرى، والتي
ص: 173
تمكنهم أيضاً من السيطرة، وبسط النفوذ بشكل أكبر بغض النظر - طبعاً - عن الدين والأخلاق والإنسانية، إلا بالقدر الذي يشكل غطاءً لسياساتهم التوسعية!ومن أهم الاستراتيجيات المتبناة هي استراتيجية صناعة قوة خشنة كالقاعدة وطالبان وداعش من جهة، وصناعة قوة ناعمة كالبهائية أو مدعي السفارة أو غيرها من جهة أخرى.
ومن الواضح إن ما يقوم به داعش من أعمال همجية استفزازية، لا يخفى على بسيط أنه يؤلب العالم كله ضدهم، إذ إن من البديهي أن إحراق شخص أو عدة أشخاص يثير الجميع ضدهم، لكنهم مع ذلك يفعلون ما يفعلون، لأنهم عبيد مأمورون بذلك، ليتم هدفهم من هؤلاء وأعمالهم من تصوير الإسلام وإظهاره بمظهر دين خشن عنيف، ما يوجب نفور الناس عنه.
ولا يخفى أن التنظيمات الإرهابية، وهي تمارس أعمالها الإجرامية الوحشية ضد المدنيين الأبرياء، في العديد من بلاد العالم، تستند في أدلتها لشرعنة ما تقوم به إلى سيرة بعض الصحابة(1).
ص: 174
ويمكن القول بضرس قاطع إن كل هذا القتل الممنهج بالشيعة، نظر له ووضع قواعده ابن تيمية صاحب كتاب (منهاج السنة)، ثم أخذه محمد بن عبد الوهاب، وبمساعدة أموال بعض الدول الراعية للارهاب، انتشر هذا الفقه التكفيري الدموي في أجزاء من جزيرة العرب، ويرى عدد من علماء الاجتماع في الشرق الأوسط، أن فكر ابن تيمية كاد يندثر في بيئة الشام الحضرية، التي خرج منها ابن تيمية، والتي ترفض أساليب القتل العشوائي والسلب والنهب، لكنه وبعد قرون أحياه محمد بن عبد الوهاب، وساعده على ذلك، بيئة نجد البدوية التي تستهوي السلب والنهب والقتل.
ص: 175
لذا فإن لب مشكلة الإرهاب التكفيري تكمن بأنه ظاهرة تستند إلى أساس فقهي، وإن مصادر تشريعه موجودة، وقد قتل أتباع هذا الفقه في السنوات العشر الأخيرة أكثر من ربع مليون شيعي في العراق وسوريا وأفغانستان وباكستان ونيجيريا وغيرها! وبالتالي فإن الإرهاب يستند إلى فقه يُتعبَد به، وتاريخ يبرر قتل ملايين الناس، كما برر قتل سيد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) الذي قال فيه جده نبي الإسلام (صلی الله علیه و آله): «حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً»(1).بموازاة ذلك، فإن ظهور داعش تمخضت عنه دعوات لمراجعة فكرية وفقهية وتاريخية لأسس الوهابية، فقد أكد مفكرون أن الخطر الإرهابي كامن في الوهّابية، ويتضح ذلك جلياً عبر المقارنة بين مواقف وسلوكيات داعش مع ما جاء في كتب الوهابية، فمقارنة تعتمد على إيراد نصوص وآراء فقهاء، ثم عرض كل ذلك على القرآن والسنة، وآراء وفتاوى علماء من مختلف المذاهب الإسلامية، ينتج عنها استنتاج مفاده أن الوهابية ومرجعيتها الأولى أحمد بن حنبل، ومرجعيتها المباشرة ابن تيمية، هي حركة إرهابية، وأن داعش بتطرفه ووحشيته وإرهابه امتداد ل(الوهّابية).
وموخراً، ومن عقر بلاد الوهابية، خلص مثقفون إلى أن الوهّابية اليوم باتت في سجن الاتهام، بل هي في سجن السقوط والإدانة، كما أن عموم المسلمين ينسب حركات التطرّف والإرهاب إلى الوهّابية.
وبالعودة إلى سلوكيات داعش الوحشية، فإنه ليس من المعقول أن
ص: 176
يؤلب من وصل إلى الحكم كل العالم ضده بطرق همجية استفزازية، لولا أنه عميل صرف، ومأمور بذلك من أجهزة مخابرات دولية.
وفي المقابل نجد أن بعضاً يستخدم أقدس اسم في الكون، بعد الخمسة الطيبة من أصحاب الكساء، وهو اسم الإمام المهدي (علیه السلام)، وذلك لتحقيق مآرب أخرى ناعمة.
وهكذا يقاد العالم بالقوتين الخشنة والناعمة، وهو التعبير العصري عما اصطلح عليه بعض الأدباء من سياسة العصا الغليظة والجزرة الحلوة!!
وعوداً إلى تلك الدراسة المسيحية: وجدت هذه الدراسة أن إحدى مراكز الدراسات(1) تستخدم بمفردها (1600) موظفاً!! وأغلبهم متخصصون في علم الاجتماع أو علم النفس أو علم الأنثربولوجيا والتكنولوجيا الرفيعة والسياسة، وفي مختلف العلوم والاختصاصات الأخرى التي تصب في الهدف من إنشاء المركز.
أليس من الأجدر بنا أن تكون لدينا مراكز دراسات تخصصية لدراسة الأديان المنحرفة والفرق الضالة؟! خاصة وقد أصابنا منها ما أصابنا، وقد أخذت من شبابنا وبناتنا الكثير الكثير!
ويكفي مثلاً على ذلك، الوهابية التي تغزو دول العالم الإسلامي، من ليبيا ومصر إلى اليمن والباكستان وأندونيسيا، وهي كالسرطان الجاثم، وورائها دولة - بل دول - تضخ بالمال والسلاح، وليس لها مهمة إلا الإفساد في الأرض والقتل وتكفير عامة المسلمين، ويكفي شاهداً على ذلك، مارآه
ص: 177
الجميع طوال العقود الثلاثة الماضية في العراق وسوريا وأفغانستان وباكستان وغيرها من مشاهد الدمار والخراب والإرهاب والتفجيرات والاغتيالات التي قادتها جماعات الطالبان والقاعدة وجيش الصحابة وداعش وغيرها، بأموال وتخطيط مخابرات دول إقليمية وأخرى دولية! وكل ذلك لا يهدف إلا تشويه صورة السلام المحمدي الأصيل.
الثاني: من الممكن أن يعيش الناس فترة من الزمن على الأحلام والآمال والوعود بالعدل والحرية والشورى والأخلاق وحقوق الإنسان والضمان الاجتماعي وغير ذلك، ولكن إلى متى؟
إن علينا إذا أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الناس، أن نعمل على تحقيق ذلك على الأرض، وذلك كي تتكامل أطروحتنا على المستويين، مستوى الوعد ومستوى الفعل والتطبيق.
ولكن: إذا لم تكن رؤيتنا الإسلامية متبلورة على مستوى النظرية، فكيف يمكن تفعيلها بالتطبيق؟! فمثلاً ما هي نظريتنا في الاقتصاد الإسلامي؟ ثم بعد النظرية، ما هو علم الاقتصاد الإسلامي؟ وما هي نظرتنا الاقتصادية في الزراعة مثلاً؟ وما هي رؤيتنا الإسلامية - النظرية والعملية - لتطوير الزراعة والصناعة والتجارة، والتي لم يصل الغرب إليها بفكره المادي والبشري، والتي فاقهم الإسلام بها - بلا شك - بأبعاده وامتداداته السماوية!
ألا نقول - وهو حق دون ريب - إن الإسلام هو خاتم الأديان على مستوى النظرية والتطبيق؟ بينما واقعنا الصناعي والتجاري والزراعي في
ص: 178
الدول الإسلامية كلها بلا استثناء، يكشف عن تخلف مأساوي في العديد من الجوانب.
وماهي نظريتنا في البنوك والمصارف؟ صحيح أننا نؤمن بالبنك اللاربوي في الإسلام، ولكن ثم ماذا؟
وهل يمكن أن ندير الأموال الطائلة من شتى أنحاء العالم ببنك أكثر تطوراً من بنوك الغرب بمجرد شعار لغو الربا؟ وهل المصرف قائم على ثنائية ربا ولا ربا فقط بكل تعقيداته؟
وقد ذكر السيد الوالد (رحمة الله) - كمثال - إن هناك ثلاثة آلاف مسألة فقهية تتعلق بالبنك فقط - في أدنى الفروض -.
فمثلاً لنتصور أن أحدنا عيّن مديراً للبنك المركزي، فما الذي يصنعه؟ وهل إنه في أفضل الفروض يكون تلميذاً جيداً ومنفذاً ممتازاً لما اقتاته من علوم على موائد الشرق والغرب؟ أم إنه يمتلك نظرية إسلامية وعلماً إسلامياً أكثر تطوراً مما جاء به علماء الغرب والشرق؟ وليس المقصود من ذلك منع التحصيل العلمي المتخصص، أو رفض الدراسة في الجامعات العالمية، بل المسلم مأمور بطلب العلم، وإنْ كان في الصين(1)، ليواكب الحركة العلمية وتطورها، إلا إن ذلك لا يتقاطع معتحصيل المنتج العلمي الإسلامي المعاصر، ونظرياته ومدركاته ورؤاه، وحتى الموروث في التراث العلمي العربي الإسلامي.
إن المفروض إذاً أن تكون الرؤية الإسلامية متبلورة على صعيد النظرية
ص: 179
ثم نسعى جاهدين نحو التطبيق.
نعم هناك محاولات مهمة ورائدة، لكن المطلوب أكثر وأكبر مما نتصور، فقد كتب العديد من الفقهاء في الاقتصاد(1)، وهو أمر فائق الأهمية، كونها خطوات في طريق تشييد الاقتصاد الإسلامي بكامله.
ومما يزيد في أهمية كتابة كتابات ودراسات عن الاقتصاد الإسلامي بكامله اشتداد الحاجة إليه في عصرنا الحاضر، فلو أصبح أحد الإسلاميين وزيراً للاقتصاد أو الزراعة أو حتى النفط مثلاً، فما هو المنهج الاقتصادي الذي ينبغي علينا أن نطبقه؟ وهل غاية كمالنا أن نطبق ما قرأنا في الشرق والغرب عن ذلك؟
إن جزءاً من الحل يكمن في بلورة رؤية واضحة حول مختلف القضايا الحيوية والاستراتيجية، السياسية والاقتصادية والصناعية والعلمية على مستوى النظرية أولاً، ثم في حقل التخصصات الرفيعة في علوم تلك الأبعاد ثانياً، حتى يمكننا أن نتقدم خطوة إلى الأمام على صعيد التطبيق أيضاً، ولا نبقى نراوح في مكاننا في الصف الأخير من صفوف البلدان النامية، وإلا ومن دون ذلك، فسوف تكون بلادنا أسيرة تدور في فلك الغرب، علمياً وصناعياً واقتصادياً و... وسوف يكون شبابنا لقمة سائغة للمبادئ الهدامة والفرق الضالة التي تفرّخ الجهات الاستعمارية المزيد منها يوماً بعد يوم! و«إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»(2)، و«إِنْ تَنصُرُوا اللهيَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
ص: 180
أَقْدَامَكُمْ»(1)، و«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ»(2).
الثالث: إن روافد المعرفة في المجتمعات المتخلفة عادة ما تكون ضعيفة جداً، ولذا كان الآخرون الأعرف بنا من أنفسنا أقرب للسيطرة علينا، ويكفي كنموذج على ذلك ما تضمنه هذا البحث، فإن من لا يعرفه ولا يعرف ما الذي يصنعه الاستعمار، فإنه مغلوب على أمره، ولا يمكن له أن ينتصر على عدوه وعلى ألاعيبه وحيله.
إن روافد المعرفة كثيرة وهي بالعشرات، والكثير منا ما يزال يعاني من جوانب ضعف معرفية في العديد من الحقول، ومن الروافد الهامة ما يسمى ب(الدورات)، وهو أمر سهل وممكن، لكننا لا نرى حضوراً فاعلاً، بل حتى متوسطاً للدورات التخصصية المعرفية في حوزاتنا أو مدارسنا وجامعاتنا، فهل هناك مثلاً دورات تخصصية في المسيحية أو اليهودية أو في الدعوات الإلحادية أو في الخطط الاستعمارية أو شبه ذلك؟!
إن من يدعي اليمانية أو السفارة أو حتى النبوة أو حتى الألوهية، قد يؤمن به جمع من الناس - قل أو كثر - وهم غالباً عديمو المعرفة في هذا الحقل، والمقطوع به أن 99% منهم، هم ممن لم يدخلوا في دورات معرفية وتثقيفية بهذا
ص: 181
الأمر، كي يتبين لهم الغث من السمين، على أيدي أساتذة مهرة.
وفي المقابل نجد أن إحدى الجهات التي تدعي الانتماء إلى الإسلام، وجدتُ إذ راجعت ملفها في الدورات إنهم سنوياً يقيمون ألوف الدورات الدعوية في شتى الحقول التبليغية وسبلها، نورد بعضها سريعا:
دورة في (العصف الذهني)، و (القبعات الست)، و(كيفية إدارة الجلسات والاجتماعات) وهي علم وفن بحد ذاته، ودورة في (أسس وفنيات إدارة النادي الاجتماعي)، كونها من طرق حفظ الشباب إذا تمالتخطيط لها ووضع برامج لها، حيث إن تأسيس النوادي الاجتماعية عشوائياً، ومن دون حسن تخطيط قد تأتي بنتائج عكسية، أو على الأقل هي غير ذات جدوى.
ودورة أخرى باسم (علم أنماط الشخصية)، وهو يبحث في مختلف أنواع الشخصيات وعلائمها ومواصفاتها، خصوصاً وإن رجل الدين أو الخطيب أو المعلم أو الصحفي أو السياسي المتدين، يتعامل مع مختلف الشخصيات، فلا بد أن يدخل مثل هذه الدورة المهمة للاطلاع على أسس هذا العلم وأولياته على الأقل.
كما أن هناك دورة باسم (كيف تهزم اليأس؟)، إذ كثير من الناس يُصاب باليأس لأي سبب كان، فما هو الحل وكيف يواجه ذلك؟
وهناك دورات أخرى مختلفة تقيمها هذه الجهة أيضاً: مثل (كيفية تحسين الخطوط)، و(فن التعامل مع الناس)، و(أفكار تطوير إدارة
ص: 182
المنتديات)، و(إدارة الوقت) و(حل المشكلات)، و(فهم وقراءة النصوص)، و(فهم وتدريب قراءة الكتب) وغير ذلك.
من منا يقرأ كتاباً حول كيفية القراءة؟ وقد طالعت شخصياً عدة كتب في هذا المجال، وهو علم وفن قائم بحد ذاته، وإذا اطلع الإنسان على ذلك، فسيجد ويكتشف تقنيات أو آليات أو طرق لم يسمع بها من قبل، تسعفه كثيراً في استثمار مطالعاته بشكل أفضل.
وهناك دورة تخصصية حول (كيفية القراءة السريعة)، فتتعلم كيف تقرأ كتاباً، من 500 صفحة مثلاً، في خمس دقائق وتدرك أساسياته، وقد طالعت في هذا المجال كتاباً وتمرنت عليه، ولاحظت كم هو مفيد ونافع، لأن الإنسان قد لا يجد الوقت الكافي لمطالعة كل الكتاب بدقة، لكنه يريد أن يطلع على جوهره ولبابه، و فيساعد هذا العلم على ذلك، وعلى كيفية النظر إلى سطور الكتاب وفصوله وفهارسه بشكل فني متقدم.
وهناك دورات أقاموها أيضاً حول العناوين التالية: (الحياة بلا توتر) أو (الطباعة السريعة)، أو (معوقات التفكير لدى الطلاب)، أو (كيف نفجر الابداع في أبناءنا؟)، أو (كيف تدرب نفسك على تعلم العادات الإيجابية؟)، أو (فن الاتصال)، وغيرها كثير كثير.
بينما لا تجد عندنا دورات تخصصية في أغلب المجالات إلا نادراً، مع أن عقد الدورات أمر سهل وبسيط وغير مكلف، وهي فرصة جيدة ونافعة، وبوقت قصير يتعرف من خلالها الطالب على هذا المعتقد المنحرف أو ذاك بثلاث جلسات مثلاً، فإن أراد الاستزادة فهناك دورة أخرى تستمر لمدة شهر
ص: 183
أو ثلاثة أشهر وهكذا.
فمثلاً الإنترنيت الآن غزا البيوت، وبكل أشكاله وألوانه من الواتس آب والفيس بوك والتويتر إلى غير ذلك، وكل شبابنا وأبنائنا في معرض الخطر، خطر الغزو الفكري والعقدي، وخطرالانحلال الأخلاقي، فمن منا دخل في دورة تخصصية عن ذلك، للتعلم والتدريب على سبل مواجهة الأخطار الأخلاقية والفكرية التي يحملها إلينا الإنترنت والواتس آب وغيرهما؟
ولذلك ولغيره من أنحاء النقص في الروافد المعرفية، نجد إنه عندما يخترع دين أو مذهب جديد أو فكرة ضالة مبتدعة، فإنها تغزو الكثيرين، حتى أصبح الكثير من شبابنا كمدينة بلا أسوار!!
وصفوة القول: إن من الحلول لمواجهة الانحرافات العقدية والسلوكية تقوية وتعزيز الروافد المعرفية ومنها الدورات التخصصية، والحديث حالياً يدور عن الدورات التخصصية في الأديان والمعتقدات والفرق المنحرفة، فلا بد من إقامة ألوف الدورات في كافة بلاد الإسلام سنوياً، والتي ينبغي أن تبدأ من الحوزة العلمية والجامعات، وتصل إلى كل بيت بيت في كل بلدة وقرية.
كما ينبغي أن تأخذ تلك حيزاً من تفكيرنا واستراتيجيتنا في الهداية والإرشاد إلى ما فيه فلاح وصلاح الدنيا والآخرة.
هناك نظرية معروفة، لنا أن نستفيد منها في هذا البحث، وهي نظرية الأواني المستطرقة، فإذا كانت هناك مجموعة أواني مختلفة الأحجام
ص: 184
والأشكال، فبعضها عريض وبعضها ضيق وبعضها طويل وبعضها قصير وغير ذلك، وكانت متصلة من أسفلها أو وسطها بأنبوب، فاذا صببنا الماء النظيف أو الآسن المتعفن في إحداها، فإنه سيجري عبر الأنبوب إلى بقية الأواني الأخرى، وسيكون مستوى الماء واحداً في جميع الأواني، وذلك يعني أن كل إناء من هذه الأواني لا يتحمل الفراغ، مادام متصلاً بالأنبوب من الأسفل، وما دامت هناك مادة تمده وترفده. وهذا أمر واضح وبين.
هذه هي قاعدة الأواني المستطرقة، ومن خلالها نأتي إلى معادلة تشبهها في منطقة القلب وإلى العقل، فنلاحظ أن القلب من طبيعته أنه لا يتحمل الفراغ العاطفي، كما أن من طبيعة العقل أن لا يتحمل الفراغ الفكري والاعتقادي، فلا بد أن يُملأ إما بالحق أو يُملأ بالباطل، فما دام هناك فراغ، وما دامت هناك مادة من محق أو مبطِل، فإنها ستصب فيه سواءً أكانت عفنة أم كانت نظيفة.
إن العقل لا يتحمل الفراغ، فالإنسان إما أن يؤمن بالحق أو أن يكون مصيدة للشياطين، كما أن العاطفة كذلك أيضاً، فعاطفة الإنسان إما أن تكون موجهة إلى أهل البيت (علیهم السلام) والصالحين والقدوات الإيمانية، أو إلى غيرهم، فإذا لم تُملأ عواطفُه وأحاسيسه بالقدوات الصالحة، فسيتخذ عادة - لنفسه قدوات من نوع آخر كالظلمة الأقوياء أو نجوم السينما أو نجوم الرياضة والألعاب وغير ذلك.
والخلاصة: إن الفراغ لا يبقى فراغاً، والفارغ لا يبقى فارغاً، بل لا بد
ص: 185
أن يُملأ طبيعياً بأية مادة، سواء أكانت صالحة أم طالحة.
وهنا تأتي مهمة العلماء والصالحين في ملأ الفراغ، فلا يصح أبداً أن يُترك الأمر للفاسدين والمدعين كي يعيثوا في الأرض الفساد.
ومن ذلك كله نعرف أن المشكلة في الحقيقة، هي مشكلتان وليست مشكلة واحدة، فهي بحاجة إلى نوعين من الحلول:
الأول: الفراغ الفكري، وهذا ما تحدثنا عنه في البحوث الماضية، فلابد من إقامة دورات مكثفة تربوية توعوية توضح الحقائق، ولا بد من إنشاء مراكز دراسات تحليلية وإرشادية، ولا بد من مدارس تخصصية لتربية المبلغين والوعاظ الصالحين الأكفاء الذين يتصدون لهذه الضلالات ويفندونها، ويغذّون عقول الناس بالعلم والمعرفة.
الثاني: منافذ المفاسد، فإن هناك منافذ كثيرة للفساد والإفساد في الأرض، وهي ليست فكرية بالضرورة بل إنها تهيء الأنفس لتقبل الأفكار المنحرفة، وهذه المنافذ يلزم أن تُسد قدر الإمكان، وإلاّ تحولت إلى أدوات بأيدي المدّعين المتنفذين، يعبرون من خلالها إلى مآربهم ومدّعياتهم.
الرابع: إن المبطلين عرفوا هذه الحقيقة المزدوجة تماماً، أي عرفوا أن المشكلة ليست في الفراغ الفكري عند عامة الناس فقط، بل إن هناك أيضاً منافذ وممهدات يجري استدراج الناس من خلالها إلى ما يريدون.
ص: 186
والسبب الأساس في فاعلية هذه المنافذ وتأثيرها، هو إن الإنسان كتلة من الحاجات: بدءاً من الحاجات الجسدية، ومروراً بالحاجات الروحية، ووصولاً إلى الحاجات الفكرية، ولذا نجد أن الإنسان يحتاج إلى المال والدار والسيارة والزوجة، كما أنه يحتاج إلى الفكر الذي يملأ عقله وإلى العاطفة الصحيحة التي تملك جوانحه.فالحل - لأزمة الفرد المتمثلة في فراغه الفكري وحاجاته الضرورة المفقودة - ليس بالأجوبة النظرية العلمية فقط، بل لا بد من سد منافذ المفاسد بمختلف أنواعها الجسدية والعاطفية وشبهها، فإنها ممهدات للانحراف والضلال.
إن الناس عندما يعانون من مشكلة البطالة أو الفقر مثلاً، فإنه لا يجديهم نفعاً أن نقدم لهم الدراسات النظرية التي تفلسف وتبرر الفقر والبطالة، مثل أن البلد لا يستوعب كل أعدادهم الكبيرة، وإن الميزانية المالية للبلد لا تكفي لتوظيف الجميع دفعة واحدة في سنة واحدة أو حتى سنتين - حتى وإن صح ذلك فرضاً -، بل المجدي والنافع لهم هو إيجاد فرص عمل لهم، للتغلب على مشكلة البطالة والفراغ في المجتمع، ومن دون ذلك، فإن أوضاع المجتمع ستزداد سوءاً وتدهوراً، لأن الفقر والبطالة ونظائرها - بطبيعتهما - تجر المفاسد، بل والخراب والدمار للبلاد، ولذا قال النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله): «كاد الفقر أن يكون كفراً»(1)، وقال الشاعر:
مَفسَدَةٌ لِلمَرءِ أَيُّ مَفسَدَة
إنَّ الشَبابَ وَالفَراغَ وَ الجِدَة
ص: 187
إحدى الفرق الضالة التي تأسست قبل قرنين تقريباً، والتي ادعت أنها دين بعد ذلك، عندما نبحث في معتقداتها وأفكارها، نجد العجب العجاب من الضحالة الفكرية، وقد نستغرب لاستمكانهم من عقول أولئك الذين يتبعونهم.
ولكن عندما تتبعت أحوالهم، اكتشفت أن إحدى عوامل قوتهم الظاهرية هي إنهم عرفوا هذه المعادلة، وهي وجود منافذ عملية للسيطرة على أفكار الناس، وقد عبروا من خلالها إلى تأسيس مذهبهم المزيف ثم دينهم المحرف؛ وأهم هذه المنافذ هي حاجات الناس، إذ ههنا معادلة طبيعية، إنك متى ما لبيت حاجات الناس فإنهم - أي الكثير منهم - سيتبعونك ويسيرون خلفك!
وقد أشار أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى مبدأ الإحسان إذ يقول: «امْنُنْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ وَاحْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ»(1)، وذلك بغضّ النظر عن أحقية المحسن أو بطلانه، ومن المشهود إنه ليس كل إنسان يهرب من إحسان المبطلين، بل إن الكثيرين إذا رأوا إحساناً فإنهميُسلِسون قيادهم إلى من أحسن إليهم، وقد قال الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله): «جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا»(2).
ص: 188
وكنت قد قرأت تقريراً عن تلك الفرقة الضالة صدر في عام 2001م جاء فيه: إنهم أسسوا 17 ألف مؤسسة في العالم، حتى سنة 2001م(1)، وهو رقم مهول! لأن تأسيس ميتم واحد يكلف الكثير من المال والجهد، فكيف بتأسيس مستشفيات ومياتم ومراكز عبادة بزعمهم وغير ذلك؟!
إن الطفل الذي يتربى بمدارسهم أو الشاب الذي يكمل دراسته في معاهدهم أو ذاك المريض الذي يعالج في مستشفياتهم أو تلك الأرملة التي توفرت حاجاتها من خلال مصارفهم وبنوكهم، من الطبيعي أن يكون أولئك أقرب لتقبل أفكارهم ومعتقداتهم، وأن يسهل عليهم أن يملأوا عقولهم وعواطفهم بما شاؤوا من ضلالاتهم وانحرافاتهم.
إذن ليس العلاج بالأجوبة والمناقشة العلمية فقط، لأن كثيراً من المنحرفين يعلمون بأنهم على ضلال، لكن المشكلة في أنهم أصبحوا أسرى شباك حاجاتهم الدنيوية.
ولذا تقول الآية الشريفة: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»(2).
وإذا كان الله تعالى يقول ما مفاده ومؤداه: (إنني وفرت لكم العقيدة السليمة، وأية عقيدة هي أسلم وأوضح وأكثر فطرية من كونه تعالى رب هذا البيت؟ كما أنني وفرت لكم الحاجات المهمة والضرورية، إذ وفرت لكم الطعام - وهو حاجة الجسد - ، ووفرت لكم الأمن - وهو حاجة الروح -
ص: 189
فاعبدوني إذاً) فما بالك بالمؤسسة الدينية؟!
إن المؤسسة الدينية إذا لم توفر للناس حاجاتهم - قدر المستطاع - فإنها قد لا تستطيع أن تكون الحصن الحصين بالشكل المتكامل الشامل للدين وأهله.
ختاماً: كان السيد الوالد (قدس سرّه) يقترح اقتراحاً مجدياً نافعاً عملياً، ولو أن كل رجل دين عمل به، فإن الوضع سيتغير كثيراً نحو الأحسن فالأحسن فالأحسن، وهو:
إن كل رجل دين عندما ينتقل إلى منطقة ما أو يرجع إلى منطقته، فعليه أن يؤسس في السنوات الخمس الأولى خمس مؤسسات مختلفة، فيؤسس مسجداً في السنة الأولى، ثم حسينية ومكتبة ومستوصفاً وميتماً في السنين اللاحقة، ومن الطبيعي إنه لو أسس في البداية لجنة من الشباب وأهل الخير، لكان من السهل تطبيق ذلك وأكثر.
وأتوسع في الوصية هذه وأضيف: بأن هذه الوصية صالحة للتعميم، وهي جارية في كل الأصناف الأخرى من المؤمنين كل بحسب اختصاصه، كالطبيب المتدين والمهندس المتدين وغيرهما، فكما أن الطبيب المتخرج يفكر بأن يفتتح عيادة له في المدينة، فليفكر أيضاً في أن يؤسس - إلى جوار ذلك - ميتماً أو مسجداً أو مكتبة أو غير ذلك من وجوه البر والخير والإحسان.
فلو غُرست هذه الفكرة في أذهان المؤمنين من مختلف الاختصاصات،
ص: 190
فإن النسيج الاجتماعي سيكون متماسكاً، وستكون شبكة المجتمع شبكة متكاملة لا تتخللها الثغرات والنواقص، ولا تستطيع عندئذٍ فرق الضلال من العبور عبر منافذ المفاسد. والله ولي التوفيق وهو الناصر المعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ص: 191
إن مناشئ الضلال المختلفة، هي مقدمة للانحراف وبواعث لها، فينشأ الضلال من خلال الحجج والدلائل والطرائق الباطلة، وفقدان الرؤية للمسلك الصحيح، وتكون مخرجاته أشكالاً من الانحراف، في اتخاذ الطريق المنحرف عن جادة الصواب، في العقل والقيم إبتداءً، ثم في الفكر والسلوك والعقيدة، وفي المتبنيات الفقهية والعقدية، والمدركات الإيمانية.
يتبين من دراسة النفس الإنسانية، وفق العلم المنهجي الرصين، إن الضلال من أمراض الإنسان النفسية والعقلية، في الفكر والعقيدة، على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة، وبالتالي المجتمع، والتي تذهب بضحاياها إلى مسالك الانحراف، فالعقل ميزان والفكرة ينبغي أن تؤيدها الأدلة النقلية والعقلية التي تتطابق مع المنطق والواقع.
إن من أسباب وعلل الضلال الفكرية، غزو بعض الأعمال الخارقة، التي تعطل عقل الإنسان وفكره، وكذا اعتماد الفلسفة المجردة والفكر الظاهري، الذي ينكر كل مغيب عن الظاهر، فيتولد الضلال العقدي والإيماني، ومن ثم الاستكبار والاستعلاء الفكري، الذي يصنع من
ص: 192
النظريات الموضوعة، صنماً معظماً.
هنالك طرائق مختلفة تسلكها الفرق الضالة، لتشكل مناشئ للضلال، وبالتالي بواعث للانحراف، في الحجج والأدلة، التي يتناولها أهل الضلالة والبدع، ليوهموا بها ضحاياهم ومريديهم، من خلال تعطيل عقولهم وتعويق قدراتهم الذهنية، كتسخير الجن أو استخدام الإيحاء أو السحر، ولتكون مغالطة باردة، فمن الواجب على الجميع، أن يرجعوا اإلى العلماء الصالحين، والخبراء بشؤون الدنيا والدين، وأن يتعرفوا على الحجج والأدلة الصحيحة المستقاة من الكتاب والسنة والعقل، والحذر من الذين يأتون بالبدع ثم يتظاهرون بالصلاح وبالارتباط بالسماء.
يتوجب على قادة الفكر والمتصدين للمسؤولية المجتمعية والشرعية، والمكلفين عموماً، أن يكونوا أشدّاء صارمين مع من يدخل في الدين ما ليس منه، ويختلق حججاً لم يدل عليها الشارع الأقدس، ولا العقلاء، ويدّعي مقامات غيبية كالسفارة ونظائرها، وأن يجهروا بأنه كاذب مبطل ومضلل، وبعدم السماح له ومنعه من العبث بدين الله.يسيطر أئمة الضلال على أتباعهم، من خلال أنماط من التنويم والايحاء النفسي، وقد أثبت ذلك العلم الحديث، فضلاً عن التجربة التاريخية، في مختلف الحضارات القديمة، وهي من أسرار بقاء خط الضالين، وغوايتهم للناس على مرّ التاريخ، في مقابل خط الأنبياء والمرسلين (علیهم السلام)، رغم أن المرسلين هم رسل الله تعالى، وذوي المعاجز الحقة والبراهين الصادقة.
في التبصّر التفسيري في الآية الكريمة: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ
ص: 193
أَعْمَالاً»، التي تمثّل الأساس القرآني الشريف، في كشف بواطن الضلال والانحراف، يتبين أن الأسوأ أعمالاً هو المعاند العالم العامد المخالف، وليس الجاهل المركب؛ فمن وسائل السيطرة على الجماهير، الإيحاء والخداع، والمغالطة واستخدام العلم بجوانبه السلبية، كما أن المخادعة الفكرية، تجري باستخدام الأسماء بالباطل، وسواها من الوسائل المضللة، فالغرور والاستعلاء، والاستكبار والجهل الشامل، تكون نتائجه خسارة الأصل والأرباح والآمال والأعمار والتجربة.
إن الخسارة الكبرى هي أن أهل الضلال والانحراف، قد كفروا بآيات الله تعالى، والفرق كبير بين الكفر بالشيء والكفر بالآيات، والعلامات الدالّة على الشيء، فتارة يكفر الإنسان بشيء خفي، فهو خاسر بلا شك، لكنه تارة أخرى يكفر بآية وعلامة واضحة على الشيء، فهذا أكثر خسارة وأوضح خسراناً، كما أنه يكون أشدّ لوماً واستحقاقاً، للعتاب بل العقاب.
فقوله تعالى: «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ»، يفيد بحسب المستظهر، إن السعي باقٍ بذاته، لكن المضل قد ضل مقصده وأضاع هدفه، فالضلال لفظاً وعرفاً، يدل على بقاء الجوهر والذات، وإضاعة الهدف وفقد المقصد، فهو لم يهلك أو يضمحل أو يفني، بل تفيد المفردة أنه موجود، لكنه أخطأ في مقصده؛ فالجهل والغفلة وضحالة الخبرة والتجربة، تري الضال في الإيمان، بنظرياته ومدركاته، عظمة وسمواً، وقد أثبت الاستقراء أن من يتبع الفرق الضالة، يكون العامل الأساس له، أنه يحس معها بالقيمة الزائفة.
إن الجهل بفقه الحديث، ومبانيه الدخلية والموضوعية، في الدراية
ص: 194
والرواية والرجال والتراجم، واللغة فقهاً وعرفاً، والبحث التاريخي، طالما كان ضالة المبطلين، فيقاربون الروايات من غير بصيرة بمعناها، بما يعكس جهلهم بمقدمات فقه الحديث وأصوله، فتخلط الروايات ببعضها، ليخرجوا بنتيجة توافق أهواءهم الباطلة، ومن بينهم دعاة السفارة والمهدوية، في استنادهم إلى أدلة روائية، تكشف عن جهلهم بقواعد علم الحديث، وبأبسط الأصول الأدبية والفكرية والاعتقادية.
يعمل الاستعمار مسترشداً بمراكز الدراسات والجامعات التخصصية، بهدف السيطرة على العالم، والاستحواذ على أكبر قدر من الطاقة والمال والاقتصاد، وإن من الطرق المهمة للسيطرة على العالم، هي صناعة الأديان والسيطرة عليها، وهي من أظهر مفردات القوة الناعمة؛ والحال أن الكثير من المفكرين والمقامات السياسية والأكاديمية والقيادية، ربما دون إدراك ودراية، يقدموا التنازلات العقدية والفكرية، إزاء الحضارة الغربية، فالمؤامرات الدولية ومخرجات مراكز البحث والتطوير، في مجالات الفكر البديل والعقيدة الموازية، هي مناشئ رئيسة للضلال.يعتمد الوثنيون الجدد على السحر والأساطير ونظائرهما، في استخدام المال السياسي، وإسناد دوائر الاستعمار، وتقديم الخبرات والتقنيات الحديثة التي توهم أن السحر حقٌ، وأن الأساطير واقع، ذلك أن الغرب لن يغفل عن موقعية الأديان، وعن سلطتها وسيطرتها على الإنسان، الذي لا يشابهه شيء في السيطرة على الناس، فكانت المؤامرات لصناعة الأديان والمذاهب والفرق الضالّة، لتكون موازياً بديلاً للأصل.
ص: 195
قد تستهدف المؤامرات على الساحة الدولية، الرؤساء والقادة والزعماء السياسيين، وربما تكون من داخل البلد الضحية أو خارجه، غير أن بعض أبعاد تلك المؤامرات الدولية، يستهدف أصلاً الأديان والمذاهب، بما يصنع بديلاً موازياً لها، في مراكز المعلومات والاستخبارات، بهدف خرقها وبالتالي السيطرة على أتباعها، وتوجيههم وفق رؤاه ومقاصده.
إن أحد أهم مفردات ومصاديق المؤامرات الدولية، هي إشاعة الفوضى الفكرية والعقدية، إضافة إلى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية في المجتمع، كنمط متطور من أنماط الاختراقات الدولية والإقليمية، ولا يزال أعداء الدين يعتمدون على الفلسفة الوجودية والظاهرية، بهدف تشتيت الكلمة وتفكيك القوة، لتسهل السيطرة على مقدرات الشعوب، ونهب ثرواتها.
إن فكرة انقسام الأديان، تساعد كثيراً في السيطرة والتحكم بمقدرات الشعوب والدول، بينما يشكل تضامن وتعاون أبناء البلد الواحد، أو الدين الواحد، أو المذهب الواحد، حاجزاً في طريق المخططات والأهداف التوسعية والاستعمارية، فعن طريق الانشطار والانقسام، تسهل السيطرة على قسم كبير من الناس والتحكم بهم، كأدوات يستخدمها المّدعون المتنفذون والمبطلون، تعبيراً عن مآربهم ومدعياتهم، كما يتبين في الساحة السياسية المعاصرة، ومخرجات الربيع العربي، الذي يجري اختطافه ليكون خريفاً تكفيرياً.
من البصائر القرآنية في صور الإيمان والكفر، إن الغرب بني على
ص: 196
نظرية أن الشك هو طريق المعرفة، بمعنى إن أية نظرية أو فكر أو دين، ينظر إليه ابتداءً بعين التشكيك، أو بنظرة حيادية منصفة، بحسب تعبيرهم، ثم يكون البحث من خلال الشك القاتل والشك الموصل، فهو قد يكون طريقاً للمعرفة، كمثل الشك الذي يكون نافذة لليقين، في مخرجات البحث والمعرفة الطبيعية، الذي يعد جسراً يوصل إلى الحقيقة، وقد يكون طريقاً للضلال، وإنكار البديهيات العلمية أو الفلسفية العقلية؛ وبالتالي فنظرية الغرب في الشك، ليست صحيحة على إطلاقها، بل في صورة دون أخرى، كمثل الشك المعاند، الذي يحمل ذهناً مسبقاً، فهو يبقي على الضلالة والحيرة، وفقدان السبيل الصائب، كونه معطلاً للعقل والفكر، وغالقاً مانعاً للإنفتاح والبصيرة.
ولذلك كله نجد أن القرآن الكريم، قد افتتح أبواب عصر العلم والمعرفة على مصراعيه، من خلال العقل والمعرفة والتعلم والقراءة والكتابة، باعتباره عصر خاتم الأديان والأنبياء، الرسول الأكرم
محمد (صلی الله علیه و آله)، فهو عصر العقل الفطري كحكم أساسي وتبقى المعجزات والكرامات عوامل مساعدة.وعليه فقد خلص البحث من خلال مخرجاته واستنتاجاته إلى جملة من التوصيات النظرية والفكرية، وكذا التطبيقية والإجرائية العملية، لأغراص المعالجات والحلول لمعضلة البحث، تحتاج إليها المنظومة الفكرية الإسلامية، في التوعية والتوجيه الفكري والعقدي، من بينها إنشاء مراكز الدراسات البحثية المتخصصة، في شأن الأديان والمذاهب والفرق المبتدعة
ص: 197
الضالة؛ ومهمة هذه المراكز، دراسة حركة هذه الفرق، وامتداداتها ونقاط قوتها وضعفها ومساراتها البيانية، كونها من المفاتيح الرئيسة في إنهاء الضلال والإنحراف.
وفي معالجة مشكلات الفراغ الفكري والنقص في الحاجات الفردية المتنوعة، خلص البحث إلى التوصية في إقامة الدورات التربوية والتوعوية والمكثفة، التي من شأنها توضح الحقائق، ونشر الوعي والفكر المستنير، مع إنشاء مراكز الدراسات التحليلية والإرشادية والمدارس التخصصية في توعية وتربية المبلغين والخطباء والوعّاظ الصالحين والأكفاء، الذين يتولون مهمة التصدي للضلالات وتفنيدها، وتغذية عقول الناس بالعلم والمعرفة، وسد منافذ المفاسد، التي تهيء الأنفس لتقبل الأفكار المنحرفة، مما يتطلب معالجتها فكراً وعقلاً وعقيدة وإجراءً تطبيقياً.
ص: 198
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صَلِّ عَلَى حُجَّتِكَ وَوَلِيِّ أَمْرِكَ وَصَلِّ عَلَى جَدِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِكَ السَّيِّدِ الْأَكْبَرِ وَصَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَبِيهِ السَّيِّدِ الْقَسْوَرِ وَحَامِلِ اللِّوَاءِ فِي الْمَحْشَرِ وَسَاقِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ نَهَرِ الْكَوْثَرِ وَالْأَمِيرِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ الَّذِي مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدْ ظَفَرَ(1) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ(2) خَطَرَ وَكَفَرَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ وَعَلَى نَجْلِهِمَا الْمَيَامِينِ الْغُرَرِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا أَضَاءَ قَمَرٌ وَعَلَى جَدَّتِهِ الصِّدِّيقَةِ الْكُبْرَى فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ بِنْتِ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى وَعَلَى مَنِ اصْطَفَيْتَ مِنْ آبَائِهِ الْبَرَرَةِ وَعَلَيْهِ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَأَدْوَمَ وَأَكْبَرَ وَأَوْفَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيَائِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ.
وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً لَا غَايَةَ لِعَدَدِهَا وَلَا نِهَايَةَ لِمَدَدِهَا وَلَا نَفَادَ لِأَمَدِهَا اللهمَّ وَأَقِمْ(3) بِهِ الْحَقَّ وَأَدْحِضْ بِهِ الْبَاطِلَ وَأَدِلْ بِهِ أَوْلِيَاءَكَ وَأَذْلِلْ بِهِ أَعْدَاءَكَ.
وَصِلِ اللهمَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وُصْلَةً تُؤَدِّيَ إِلَى مُرَافَقَةِ سَلَفِهِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِحُجْزَتِهِمْ وَيُمَكَّنُ(4) فِي ظِلِّهِمْ وَ أَعِنَّا عَلَى تَأْدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ
ص: 199
وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ وَ هَبْ لَنَا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَخَيْرَهُ مَا نَنَالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَ فَوْزاً عِنْدَكَ وَ اجْعَلْ صَلَاتَنَا بِهِ مَقْبُولَةً وَ ذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً وَ دُعَائَنَا بِهِ مُسْتَجَاباً وَاجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً وَهُمُومَنَا بِهِ مَكْفِيَّةً وَحَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِيَّةً وَأَقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ وَانْظُرْ إِلَيْنَا نَظِرَةً رَحِيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِهَا الْكَرَامَةَ عِنْدَكَ ثُمَّ لَا تَصْرِفْهَا عَنَّا بِجُودِكَ وَاسْقِنَا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِكَأْسِهِ وَبِيَدِهِ رَيّاً رَوِيّاً هَنِيئاً سَائِغاً لَا ظَمَأَ بَعْدَهُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.
ص: 200
مقدمة المقرر 5
أسباب الضلال 6
الجهل 6
الاستكبار والعناد 7
كيد الشيطان 7
الشهوات وإتباع الهوى 7
البيئةُ الاجتماعية 7
الحل والعلاج 8
مقدمة
منهجية/11
مدخل تعريفي 11
أهمية الدراسة 13
معضلة الدراسة 15
نطاق البحث 17
أهداف الكتاب 19
مناهج الدراسة 20
ص: 201
مصادر البحث 21
هيكلية البحث 21
الفصل الأول
من مناشئ الضلال
والحجج الباطلة للفرق الضالة/25
بصائر حول قوله تعالى: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» 27
الجمع بين «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ» و«أَنْ تَبَرُّوهُمْ» و«قَاتِلُوا» 28
1. تقييد العام بالخاص 28
2. الخروج الموضوعي أو المنزَّل منزلته 29
الشدة مع الكاذبين في شؤون الدين 31
من أهم مناشيء الضلال والحجج الباطلة للفرق الضالة 32
الاستخارة 33
الأحلام 33
الكرامات المتوهمة 33
الاستبصار 33
محاكمة بعض الطرق السابقة 34
الاستخارة، لم يستدل بها نبي ولا وصي، ولا عالم ولا عاقل 34
احذروا أن تكونوا كفاراً باختلاق الحجج المبتدعة 36
الكرامات المتوهمة والإخبار بالمغيبات 37
علم النفس الموازي 38
ص: 202
الكهانة 39
السحر الأسود 41
الساحر الهندي والكرامات العجيبة 41
دعوة وتحدي 43
الرياضة والتنويم المغناطيسي 44
الفصل
الثاني
التنويم المغناطيسي والإيحائي/47
بصائر حول قوله تعالى: «الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً» 49
الجاهل المركب وشبيهه هما «الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً» 50
الأخسرون أعمالاً هم الكفار والمشركون وأهل البدع 50
التنويم المغناطيسي والإيحائي السلاح الأكبر بأيدي الأديان والفرق الضالة 53
لماذا يتبع أكثر الناس الباطل رغم وضوح بطلانه؟ 53
الشيطان والنفس والمغريات والمصالح 54
التنويم الايحائي والمغناطيسي 55
أمواج ألفا وبيتا وثيتا ودلتا في المخ 55
أنواع التنويم المغناطيسي: 57
أ. التنويم المغناطيسي الشخصي 57
ب. التنويم المغناطيسي العام للجماهير 58
منهج الغرب في التنويم الإيحائي للجماهير 59
منهج الصوفية في التنويم الإيحائي والمغناطيسي للأتباع 62
ص: 203
الإمام الهادي (علیه السلام) يحذر من الصوفية 63
المرتاض وممارسة التنويم المغناطيسي العام! 64
الهلوسة في المكاشفات أو الكذب أو التنويم الذاتي! 66
قول ابن عربي: الرسول (صلی الله علیه و آله) لبنة في حائطٍ، وأنا ذهب وفضة في الكعبة! 66
الفصل الثالث
من مناشئ الضلال ووسائل السيطرة على الجماهير/69
بصائر حول قوله تعالى: «الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً» 71
هل المعاند أخسر أعمالاً أم الضال الجاهل المركب؟ 72
الفوارق العملية بين العالم المعاند والجاهل المركب 74
الفرق بين (الأخسرين أنفساً) و(الأخسرين أعمالاً) 75
وسائل السيطرة على الجماهير: الإيحاء، الخداع، العلم والمغالطة 77
التنويم الإيحائي 77
التنويم الإيحائي سلاح ذو حدين 78
المخادعة 79
خدعة الصنم المعلق في الهواء 79
خدعة الرجل الماشي على سطح ماء 80
العلم 82
تكنولوجيا الهولوجرام 83
القرآن يفتتح عصر العلم والمعرفة 85
مغالطة الاسم والمسمى 86
ص: 204
الفصل الرابع
من مناشئ الضلال والانحراف
الغرور والاستعلاء والجهل الشامل/89
بصائر حول قوله تعالى:«بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» 91
البصيرة الأولى: الخسران وأنواعه 91
خسارة الأصل والأرباح والآمال والأعمار والتجربة 92
الجهة السادسة من جهات الخسارة 94
البصيرة الثانية: الضلال/ بقاء الجوهر وفقد المقصَد! 95
من مناشئ الضلال والانحراف: الغرور والاستعلاء، والجهل الشامل 96
الاستعلاء والاستكبار والغرور والإعجاب 97
مؤتمر الشياطين!! 98
وحدة الموجود في كلمات ابن عربي وملا صدرا 99
الجهل الشامل 103
الجهل بفقه الحديث 104
ادّعاء السفارة والبنوة للإمام المهدي (علیه السلام) 105
الرواية غير تامة سنداً ولا دلالة 106
الفصل الخامس
المؤامرات الدولية على الأديان والمذاهب/111
بصائر حول قوله تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ» 113
البصيرة الأولى: في مادة (النبأ) 114
ص: 205
فوارق (النبأ) عن (الخبر) 114
البصيرة الثانية: في هيأة (النبأ) 116
دلالات صيغة الجمع في النبأ 116
المؤامرات الدولية والحكومية على الأديان والمذاهب 118
المؤامرات الدولية والحكومية 119
الجبر الأموي 120
مسالة خلق القرآن الكريم 121
صناعة الأديان والمذاهب مؤامرات حديثة 122
ابتداع دين السيخ في الهند 122
عشرة آلاف دين في العالم! 123
الفصل السادس
استنساخ الضُلَّال لأسلحة المنحرفين/125
بصائر حول قوله تعالى:«أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ» 127
الصور الخمسة للإيمان أو الكفر بآيات الله 128
الذين لم يكفروا بآيات ربهم ولقائه 128
الغرب ونظرية (الشك طريق المعرفة) 129
إحدى مناقشات نظرية الشك 130
الشك القاتل والشك الموصل 130
أ. الذين كفروا بآيات ربهم 132
ب. الذين لم يكفروا بها 132
ص: 206
ج. الذين آمنوا بآيات ربهم 132
د. الذين آمنوا بآيات غير ربهم 133
ه. الذين آمنوا بغير آيات ربهم 133
الأحلام والاستخارة 134
لا حجية للاستخارة في شؤون الدين 134
التحدي هي إحدى أدلة الأدعياء 136
من ضوابط التحدي 136
القادياني وادعاء النبوة واستنساخ مدّعي السفارة للتجربة! 138
تحدي القادياني - على جهله - للعلماء! 139
ألفا رؤيا شاهدها! 140
كان المسيح الموعود لكنه لم يدرِ! 141
استدلاله بإنباءاته الغيبية 142
استدلاله بالاستخارة! 143
الفصل السابع
مؤامرة إشاعة الفوضى ونظام المحاكاة/145
بصائر حول قوله تعالى:«أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ» 147
البصيرة الأولى:دلالات إضافة (آيات) إلى (الرب) 147
البصيرة الثانية:الكفر بذات الشيء أو بعلامِيّته أو بالمرسِل أو بالرسول 148
البصيرة الثالثة:الكفر بالايات آلي أم أستقلالي؟ 150
البصيرة الرابعة:وجه جمع (الآيات) 153
ص: 207
التشكيك في حكم أو آية يستتبع تشكيكات 153
موجة التشكيك لا تتوقف عند حد 154
من مناشئ الضلال والانحراف الفوضى والمحاكاة 156
مؤامرة إشاعة الفوضى 157
إشاعة الفوضى الخلاقة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها 157
إشاعة الفوضى الفكرية والعقدية 158
الاستعمار ونظام المحاكاة، المحاكاة العسكرية 160
محاكاة الأديان والمذاهب والشخصيات 161
محاكاة القاديانية 162
مستر همفر والسلطان عبد الحميد! 163
فسيفساء الأديان والمذاهب والفِرق والأحزاب! 164
أ. حزب الحمير! 165
ب. حزب الضاحكين! 165
ج. المافيات والعصابات 166
الفصل الثامن
الحلول والبلاسم/169
الحلول والبلاسم 171
إنشاء مراكز الدراسات المتخصصة 172
مركز دراسات عن مراكز الدراسات! 173
بلورة رؤيتنا الإسلامية على مستوى النظرية 178
ص: 208
ترشيد وتفعيل الروافد المعرفية 181
الدورات التخصصية والعامة 181
نماذج من دورات إحدى المذاهب الضالة 182
الأواني المستطرقة والعقول الفارغة 184
مشكلتان: الفراغ الفكري ومنافذ المفاسد 186
تلبية متطلبات الإنسان وحاجاته المتنوعة 186
تأسيس 17 ألفاً مؤسسة للاستقطاب! 188
ليؤسس كل رجل دين خمس مؤسسات 190
وكذلك كل طبيب ومهندس ومحام و... 190
خاتمة الكتاب 192
الفهرس 201
ص: 209
1. أضواء على حياة الإمام علي (علیه السلام)، مطبوع.
2. التصريح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.
3. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.
4. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، مطبوع.
5. شعاع من نور فاطمة الزهراء (علیها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، مطبوع.
6. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية (علیها السلام)، مطبوع.
7. لمحات من حياة الإمام الحسن (علیه السلام)، مطبوع.
8. الإمام الحسين (علیه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(علیه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.
9. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (علیه السلام)، مطبوع.
10. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.
11. السيدة نرجس (علیها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.
12. دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.
13. بحوث في العقيدة والسلوك، مجموعة محاضرات على ضوء الآيات القرآنية الكريمة، ألقيت في الحوزة الزينبية وفي النجف الأشرف، مطبوع.
ص: 210
14. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.
15. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقل والجهل، مخطوط.
16. كونوا مع الصادقين، بحوث تفسيرية في الآية الشريفة «كونوا مع الصادقين»، مطبوع.
17. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.
18. توبوا إلى الله، مطبوع.
19. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.20. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.
21. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.
22. مقتطفات قرآنية، مطبوع.
23. ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة، بحث عن هندسة اتجاهات الفقر والغنى في المجتمع، مطبوع.
24. مقاصد الشريعة و مقاصد المقاصد اللين والرحمة نموذجاً، مطبوع.
25. شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية بحث اصولي فقهي على ضوء الكتاب والسنة والعقل ، مطبوع.
26. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.
ص: 211
27. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.
28. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.
29. فقه المكاسب مباحث البيع، مخطوط.
30. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.
31. فقه المكاسب المحرمة - مباحث الرشوة، مطبوع.
32. فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.
33. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.
34. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.
35. فقه المكاسب المحرمة - أحكام اللهو واللغو واللعب وحدودها، مطبوع.
36. فقه المكاسب المحرمة - رسالتان في النجش والدراهم المغشوشة، مطبوع.
37. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، مخطوط.
38. رسالة في الحق والحكم التعريف والضوابط والاثار، مخطوط.
39. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.
40. الأصول مباحث القطع، مخطوط.
ص: 212
41. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.
42. بحوث تمهيدية في الاجتهاد والتقليد، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الاشرف، مطبوع.
43. التبعيض في التقليد، مخطوط.
44. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.
45. التقليد في مبادئ الاستنباط، مطبوع.
46. الحجة؛ معانيها ومصاديقها، مطبوع.
47. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.
48. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.
49. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.
50. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.
51. مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.
52. مباحث الأصول، رسالة في الحكومة والورود، مخطوط.
53. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.
54. المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.
55. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.
ص: 213
56. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.
57. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.
58. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.
59. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.
60.
معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.
61. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.
62. الحوار الفكري، مطبوع.63. الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، مطبوع.
64. قاعدة اللطف، مخطوط.
ص: 214