ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة

هویة الکتاب

ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة

بحث عن هندسة اتجاهات الفقر والغنى في المجتمع

محاضرات السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1438 ه - 2017 م

منشورات: مؤسسة التقى الثقافية

النجف الأشرف

7810001902 00964

m-alshirazi.com

ص: 1

اشارة

دروس في التفسير والتدبر 7

ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة

بحث عن هندسة اتجاهات الفقر والغنى في المجتمع

محاضرات السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

ص: 2

بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ

ص: 3

بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ

صدق الله العلي العظيم

ص: 4

اَللّهُمَّ کُنْ لِوَلِیِّکَ الْحُجَّةِ بْنِ الْحَسَنِ صَلَواتُکَ عَلَیْهِ وَعَلى آبائِهِ فی هذِهِ السّاعَةِ وَفی کُلِّ ساعَةٍ وَلِیّاً وَحافِظاً وَقائِداً وَناصِراً وَدَلیلاً وَعَیْناً حَتّى تُسْکِنَهُ أَرْضَکَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فیها طَویلاً.

ص: 5

ص: 6

كلمة مؤسسة التقى الثقافية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

بين يدي القارئ الكريم سلسلة محاضرات السيد مرتضى الحسيني الشيرازي عن الفقر والفاقة والغنى والثروة، وموقف الشريعة منها(1)، والتي ألقاها في الحوزة العلمية المباركة في النجف الأشرف، وتقع ضمن فصلين: يتطرق الفصل الأول إلى البصائر التي يمكن استخراجها من الآيات المباركات: «هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» و« خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً» «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ».

كما يتحدث الفصل الثاني عن موقف الشريعة الإسلامية من الفقر والغنى، وذلك لوجود طائفتين من الروايات تبدوان في الوهلة الأولى متضادتين؛ طائفة تمدح الفقر وتذم الغنى، وطائفة أخرى تمدح الغنى وتذم الفقر، وبعد استعراض نماذج من الطائفتين، تطرق سماحة السيد إلى فقه الحديث فيها، وذكر أن هنالك وجوهاً سبعة يمكن عبرها الجمع بين الطائفتين، مبرهناً بذلك أنه لا تضاد ولا

ص: 7


1- من محاضرة 255 تاريخ 16 جمادى الأخرة، حتى محاضرة 262 بتاريخ: 20 شعبان المعظم من سنة 1438 هجري قمري.

تدافع بين الطائفتين، وموضحاً بذلك وجه الحكمة في اختلاف الروايات و المعادلة السليمة ضمن المنظومة الفكرية الاسلامية العامة.

وكان من تلك الوجوه السبعة قوله: (وبذلك تتكامل لدينا الصورة في موقفنا تجاه الثروة والغنى وكيف يجب ان نوجه الناس؟ فان الموقف هو:

أ - أن ننظر إلى الدنيا والمال والشهرة والرياسة وأشباهها كما ننظر إلى المَيتة القذرة المنتنة، وكما ننظر إلى عفطة عنز منكرة، وان نخاف منها ومن فتنتها ومزالقها أشد الخوف ونحذرها أشد الحذر.ب - ولكن وفي الوقت نفسه علينا ان نشجع الناس ليكونوا أغنياء وأثرياء طريقياً، أي ان يسعوا للحصول على المال بل والمال الكثير لكي يبذلوه وعلى نطاق واسع أيضاً في سبيل الله تعالى.

فهذا الثنائي المزيج من الكُره الموضوعي والذاتي للأموال، ومن الرغبة الشديدة في الوصول إلى الغنى والثروة طريقياً لأجل عون العباد وإعمار البلاد وبناء المؤسسات الدينية وشبه ذلك، هو الذي يصنع الإنسان المتكامل).

وإذ تشكر مؤسسة التقى الثقافية جمع الأخوة الكرام المساهمين والمتابعين للكتاب في مختلف مراحله من البداية حتى الطباعة، نسأل الله أن يتقبل ذلك منا ومنهم بقبول حسن، وأن يوفقنا للمزيد من الخدمة المرضية لأئمة أهل البيت (صلی الله علیه و آله) وأن يعجّل لوليه الأعظم الفرج، وأن يجعلنا من خيرة أنصاره وأعوانه والمجاهدين والمستشهدين بين يديه، إنه سميع الدعاء قريب مجيب وهو المستعان.

مؤسسة التقى الثقافية

النجف الأشرف

1/ شهر رمضان المبارك / 1438

من الهجرة النبوية الشريفة

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

ملامح النظرية الإسلامية

في الغنى والثروة والفقر والفاقة

قال الله العظيم في كتابه الكريم: «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ»(1).

وقال تعالى: «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً»(2).

وقال جل اسمه: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»(3).

وقال سبحانه: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ

ص: 9


1- سورة هود: 61.
2- سورة البقرة: 29.
3- سورة التوبة: 34.

بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ»(1).يدور البحث في هذه السلسلة حول الغنى والثروة والفقر والفاقة في ضمن منظومة القيم الإسلامية، وحول وجوه الجمع بين طوائف الروايات التي تبدو - في بادئ النظر - مختلفة متضاربة في تقييم الثروة والمال والغنى أو الفقر والحاجة والإفلاس والفاقة من جهة أخرى، وذلك لكي نصل إلى استكشاف منظومة الفكر الإسلامي والرؤية القرآنية - الحديثية - العقلية المتكاملة في هذا الحقل الحيوي الهام.

وتمهيداً لذلك نتطرق لبصائر قرآنية مفتاحية تتعلق بفقه المال والثراء والثروات وموقع المادة والماديات في معادلة الدنيا والآخرة بما يلقي الضوء أيضاً على بعض وجوه الجمع الآتية وصولاً لنظرية متكاملة متماسكة العرى والأركان بإذن الله تعالى.

ص: 10


1- سورة الشورى: 27.

الفصل الأول: من بصائر النور في آية الاستعمار والرزق والخلق

اشارة

ص: 11

ص: 12

(1) بصائر النور في آية الاستعمار

اشارة

في هذه الآية الكريمة: «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» بصائر متعددة نشير الى بعضها :

البصيرة الأولى: تعليل «اعْبُدُوا اللَّهَ» بأنه «أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»

الأولى: إن قوله تعالى: «هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» كأنه واقع موقع التعليل(1) ل«اعْبُدُوا اللَّهَ» وذلك هو مقتضى القاعدة؛ فإنه إذا كان أصل خلقة الإنسان من الله بنحو العلة المحدثة، ثم كان عمره وامتداده أو عمرانه للأرض من الله وبإذنه وإقداره للناس على ذلك بتوفير مختلف الآلات الممكّنة للعباد من ذلك بنحو العلة المبقية، كان من (الشكر الواجب) أن يعبدوه ثم أن يستغفروه ويتوبوا إليه!

البصيرة الثانية: احتمالان في معنى «اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»

اشارة

الثانية: إن قوله سبحانه «اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» يحتمل فيها احتمالان:

ص: 13


1- والمراد الحكمة.

الأول: إن المراد: طلب منكم العمر والحياة والبقاء فيها بأن تتمسكوا بعوامل البقاء من الحفاظ على الصحة والأمن وغير ذلك.

الثاني: إن المراد: طلب عمرانكم لها بصنوف العمران وألوان الإعمار.

ولعل الثاني هو الأرجح بجهات عديدة نتطرق لها لاحقاً بإذن الله تعالى.

أنواع من إعمار الأرض

وعلى أي تقدير فإنه قد يقال: بأن إعمار الأرض ملازم للثراء؛ فإن إعمار الأرض يكون بالزراعة والصناعة والسقي والرعي وغير ذلك؛ ومن الواضح أن ذلك هو طريق الثراء وأنه كلما عمّر الإنسان الأرض أكثر ازداد ثراءً أكثر فأكثر.

كما أن من إعمار الأرض بناء الطرق الواسعة السريعة والجسور والأنفاق والسدود وشق الجداول والترع واجراء الانهار وحفر الآبار وغيرها.

ومن إعمارها أيضاً إعمارها ببناء المساجد والمدارس والمكتبات والمستوصفات وسائر المؤسسات أيضاً.

البصيرة الثالثة: الاستعمار تمسَّك بالاستغلال، وتَرَكنا نحن الاستعمار

الثالثة: إن الاستعمار سمّي بالاستعمار من باب تسمية الشيء باسم ضده فإنه استغلال ودمار؛ ألا ترى أن ما حل ببلادنا من قتل وذبح واستبداد وطغيان وما بها من عنف وظلم وعدوان، يقف وراءه الاستعمار من جهة وعملاؤهم من الحكام المستبدين من جهة أخرى؟!

وإن من المؤلم حقاً هو أننا تركنا العمل بهذه الآية الشريفة والمعنى الصحيح لاستعمار الأرض ليأخذ به الأخرون، فتجد غالب بلادنا يباباً وخراباً، وقد كان

ص: 14

العراق سابقاً بلد السواد رغم أنه لم يكن يتمتع بثروة النفط المذهلة ولا بسائر الثروات المستجدة ولم تكن الأجهزة الحديثة متوفرة ولا علم الزراعة متطوراً، لكنه الآن أضحى بلداً يكاد يلتحق ببلاد القرون الوسطى في الكثير من قُراه، بل ومدنه أيضاً - في الكهرباء وفي الشوارع وفي مختلف المرافق العامة -.

البصيرة الرابعة: من غايات الخِلقة عمرانُ الأرض وهو محبذ ومطلوب

اشارة

الرابعة: إنه قد يستظهر من الآية إن من غايات خِلقة الإنسان على الأرض: (عمران الأرض والبلاد)، وإن عمرانها راجح شرعاً محبوب لله تعالى ومطلوب، ويمكن على ضوء ذلك أن نقصد بإعمارها - بالزراعة والبناء وغير ذلك - القربة إلى الله تعالى فتكون عبادةً نستحق بها الأجر والثواب.

وذلك لكون قوله تعالى «اسْتَعْمَرَكُمْ» تعني: طلب عمرانكم لها على ما مضى من الاحتمالين وقوة هذا الاحتمال، ومن الواضح أن طلب المولى الحكيم من عبيده شيئاً دليل علىمحبوبيته لديه، وعلى حسنه، بل وعلى وجود المصلحة فيه؛ فإن الأحكام ونظائرها(1) تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات.

هل مطلوبية العمران تدل على وجوبها؟

ولكن هل تدل مطلوبية عمران الأرض على وجوبها؟!

إذ قد يقال: بأن المطلوبية أعم من الوجوب والاستحباب؛ فإن الطلب يتعلق بالواجب والمستحب، أي إن كليهما مطلوب لكن هذا مع المنع من الترك وذاك بدونه.

ص: 15


1- من مطلوبات المولى.
الدليل على افادة الطلب للوجوب

يمكن الاستدلال على دلالة الطلب على الوجوب بعدد من الوجوه التي استدل بها عدد من أعلام الأصوليين على دلالة الأمر على الوجوب، فبناء على مبناهم في الأمر واستدلالهم عليه يتم الاستدلال ههنا على وجوب امتثال طلب المولى ولزوم تحقيق مطلوبه، والوجوه بعد تطويرها بما تتناسب مع الطلب هي:

الإطلاق ومقدمات الحكمة تفيد الإرادة الشديدة

أولاً: ما ذهب إليه المحقق العراقي(رحمة الله) في الأمر، إذ يمكن القول بنظيره في الطلب وهو: إن الطلب - وكذا الأمر - تابع للإرادة ونابع منها فإن الشخص إذا أراد شيئاً طلبه، والإرادة درجات فمنها الشديد ومنها الضعيف وكذلك الطلب، والطلب الشديد يفيد الوجوب أما الضعيف فيفيد الاستحباب، والشديد بسيط غير مركب فإن ما به الامتياز هو نفس ما به الاشتراك، فليس محدوداً بحد زائد على الإرادة نفسها فلا يحتاج إلى إقامة قرينة عليه، بل إن نفس الطلب بدون قرينة على الخلاف يدل عليه فإنه هو هو، أما الضعيف فهو عبارة عن الطلب أو الإرادة مع حد عدمي أي الطلب زائداً النفي أي عدم الشدة فإن الضعف مزيج من الشيء والعدم فإذا أراد الضعيف لزم أن يقيم عليه القرينة عكس ما لو أراد القوي الشديد، فإذا لم يُقِم قرينة تمّت مقدمات الحكمة، إذ إنه كان في مقام البيان ولم يُقِم قرينة على الخلاف وهو إرادة المرتبة الضعيفة ولم يكن قدر متيقن في مقام التخاطب، وبذلك يدل الطلب المجرد عن أية ضميمة على الوجوب، إذ إن الإطلاق محمول على الرتبة الشديدة من الإرادة المساوية للوجوب أو المنطبقة عليه.

ص: 16

مقام المولوية يقتضي وجوب امتثال الطلب

ثانياً: إن الطلب إذا كان من المولى دل عقلاً على الوجوب استناداً إلى قرينة مقام المولوية والعبودية فإن مقام العبودية يقتضي تحقيق ما يطلبه المولى منه ما لم يرخص في الترك، كما ذهب إلى ذلك في مصباح الأصول(1).

انصراف الطلب للوجوب

ثالثاً: إن الطلب منصرف إلى الطلب الوجوبي وإن كان أعم وضعاً من الوجوبي والندبي، ولذا صح العقاب إذا طلب فلم يمتثل وليس له أن يتعلل بالأعمية، فتأمل!

البصيرة الخامسة: استحباب إعمار الأرض وقصد القربة بإعمارها

الخامسة: ومن البصائر القرآنية في هذه الآية الكريمة أنه قد يستفاد منها - مع قطع النظر عما سبق من وجوه الوجوب -: استحباب إعمار الأرض وصحة قصد القربة بإعمارها، والاستحباب مبني على دعوى الملازمة بين مطلوبية الشيء للشارع وبين استحبابه، أما قصد القربة فإن أمره أهون لبداهة صحة قصد التقرب إلى المولى في كل ما ثبتت مطلوبيته له.

وعلى ذلك فإنه يمكن التقرب إلى الله تعالى بكافة أنحاء إعمار الأرض من زراعة وحرث وريّ ومن شق الجداول والأنهار ومن إصلاح الطرق وتعبيدها وحفر الأنفاق وبناء الجسور واستحداث الحدائق والغابات، وكذلك إعمارها

ص: 17


1- مصباح الأصول: ج1 ق1 ص291.

ببناء المعامل والمصانع والبيوت وغيرها، إضافة إلى إعمارها بالمساجد والحسينيات والمكتبات والمدارس والمستشفيات وغيرها، وقبل ذلك إعمارها بالعبادة والسجود والركوع والصلاة في أرجائها.

وذلك كله مبني على صدق (الإعمار) عرفاً وبالحمل الشائع على ذلك كله ونظائره، وإن الانصراف إلى بعضها إن كان فبدوي، فتأمل!

وعليه: فللمزارع والمقاول والبنّاء وغيرهم قصد القربة في أعمالهم وأفعالهم هذه، والأثر التربوي والعمراني لذلك كبير جداً:

أما الأثر التربوي؛ فلأن لكل إنسان انشغل بنوعٍ من أنواع إعمار الأرض أن يقصد القربة فتكون كافة أنواع الإعمار روابط للبشرية إلى الله تعالى، فكما أن الصلاة هي حلقة ربط بالله تعالى مذكِّرة به فكذلك تكون الزراعة والصناعة وسائر الأعمال لو استحضر الإنسان هذا المعنى العظيم وقصد القربة لله تعالى - على اختلاف في الدرجات طبعاً -.وأما الأثر العمراني؛ فلأن ذلك مما يزيد محركية الناس في كافة أرجاء الأرض ويقوّي من باعثيتهم للعمل في إعمار الأرض؛ إذ يجدون أن في ذلك الأجر والثواب أيضاً، إضافة إلى أنه مما تقوم به دنياهم وتصلح به أمورهم.

البصيرة السادسة: استعمار الجميع أو المجموع لجميع الأرض أو مجموعها

السادسة: إن المحتملات في «اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» هي أربعة:

إذ قد يكون المراد استعمار الجميع - أي جميع البشر - للجميع، أي لجميع قطعات الأرض، فالعمران مطلوب من الجميع للجميع.

وقد يكون المراد استعمار المجموع للجميع.

ص: 18

وقد يكون المراد استعمار المجموع للمجموع.

وقد يكون المراد استعمار الجميع للمجموع.

والمراد من (الجميع): الآحاد أي كل فرد فرد من أفراد البشر وكل قطعة قطعة من قطعات الأرض.

والمراد من (المجموع): ما كانت الهيئة الاجتماعية ذات مدخلية فيه بحيث يكون كل فردٍ جزءً من صورة أوسع ومن مكوّن أكبر، أي من منظومة عمرانية متكاملة أو من مجموعة بشرية متماسكة.

فالآحاد: مثل زيد وعمروٍ وبكر، وهكذا المجموع: كالحزب والعشيرة والاتحادية والنقابة ثم الشعب فالأمة، إذ قد يتصدى هذا الفرد أو ذاك لإعمار هذه الأرض أو تلك، وقد يتصدى الحزب الحاكم أو المعارض أو مجموع الأحزاب لإعمار الأرض والبلاد أو تتصدى العشيرة أو النقابة مثلاً وقد يتصدى الشعب كله لإعمار الأرض في خطة متكاملة متناسقة.

والأرض كذلك فقد نعمّر هذه الأرض وتلك وتلك دون خطة عمرانية جامعة متكاملة، وقد يعمِّر كل فرد كل قطعةٍ في ضمن مخطط عمراني شامل بحيث يكون كل عمل وإعمار متكاملاً مع العمل والإعمار الآخر حتى تكون مخرجات ذلك كله مدينة متكاملة تستوعب كافة حاجات الناس بتناسب وتناغم وانسيابية.

وبذلك يظهر أن المقصود من «اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» ليس إعمار كل الأراضي فقط، بل أن يكون بنحو متكامل متجانس متناغم فإنه يصدق عليه بالحمل الشائع أنه عمران واستعمار، بل هو المصداق الأجلى للعمران والاستعمار.

ص: 19

البصيرة السابعة: لنبتدأ كل عمل بذكر الله ولنختتم به ولنضمّنه في الأثناء!

السابعة: إن إحدى أهم البصائر التي يمكن أن نستلهمها من هذه الآية الكريمة هي: إن المطلوب في كل أمر دنيوي هو أن نبتدأه بذكر الله تعالى وأن نختتمه بذكر الله تعالى وأن يتخلله ذكر الله تعالى ويتوسطه كذلك، فقد إبتدأ النبي صالح (على نبينا وآله وعليه السلام) دعوة قومه ب:«قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ» ثم ختمها ب:«فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» كما توسط بين الدعوة لعبادة الله تعالى وبين الدعوة لاستغفاره والتوبة إليه، قوله تعالى: «هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»، فهذا الأمر الدنيوي المتوسط قد توسطه ذكره تعالى وملأ أركانه بالضمير «هُوَ» ثم الضمير المستتر في «أَنشَأَكُمْ» ثم الضمير المستتر في «اسْتَعْمَرَكُمْ» أيضاً.

ومما يستفاد من ذلك: إن الحركة التبليغية ينبغي أن تكون بهذا النمط أيضاً؛ ذلك أن الله تعالى «هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(1) و«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»(2).

ولتكن سيرتنا كذلك في كافة المسائل الاقتصادية بل في كل عمل ونشاط وحركة وقول أو فعل أو حتى نية وتفكير.

ص: 20


1- سورة الحديد: 3.
2- سورة البقرة: 156.

(2) من بصائر النور في آيتي الاستعمار والرزق

اشارة

من بصائر النور في آيتي الاستعمار والرزق(1)

فقه الغايات وفقه المآلات

لكي يتضح لنا موقع الآيتين الكريمتين - آية الاستعمار وآية بسط الرزق - من (فقه الحياة)، علينا أن نلقي نظرية سريعة على بعض أنواع الفقه، فإن (الفقه) يتنوع إلى أنواع مختلفة جداً وهي تتراوح بين المشهور منها والمأثور وبين المهمل منها والمهجور، هي:

الأنواع الخمسة للفقه

فقه الواجبات والمحرمات

أولاً: فقه الواجبات والمحرمات، وهو الذي تمحورت حوله المئات من الكتب الفقهية بدءاً من الموسوعات الكبرى كالمسالك والجواهر والفقه وانتهاءً بالرسائل العملية.

فقه المقدّمات

ثانياً: فقه المقدّمات، وهو الذي تمحورت حوله إحدى أهم مسائل علم

ص: 21


1- هما قوله تعالى: «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» وقوله تعالى: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ»

الأصول في مبحث مقدمة الواجب؛ حيث قُسمت إلى مقدمة العلم ومقدمة الوجود ومقدمة الوجوب ومقدمة الصحة وإلى المقدمة الموصلة وغيرها، وغير ذلك.

فقه المقارِنات

ثالثاً: فقه المقارِنات، والذي تمحورت حوله مثلاً مباحث قاعدة الملازمة بأطرافها الأربعة:

1- كلما حكم بحسنه العقل حكم بحسنه الشرع، وكلما حكم بقبحه العقل حكم بقبحه الشرع.

2- كلما حكم بوجوبه العقل حكم بوجوبه الشرع.

3 -كلما حكم بحسنه أو قبحه الشرع حكم بحسنه أو قبحه العقل.4 كلما حكم بوجوبه الشرع حكم بوجوبه العقل.

فهذه القواعد الأربع بهذه الصياغة هي الصحيحة، وليس من الصحيح وجود ملازمة بين حكم العقل بالقبح وحكم الشرع بالحرمة أو حكمه بالحسن وحكم الشرع بالوجوب كما ما عليه المشهور(1).

فقه الغايات والمآلات

رابعاً: فقه الغايات، والمراد فقه الأغراض والأهداف، وهو ذات فقه مقاصد الشريعة.

خامساً: فقه المآلات، والمراد منه فقه النتائج.

وقد أسهب الفقهاء والأصوليون رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بجهد مشكور في البحث عن الأنواع الثلاثة الأولى، ولكنهم لم يبحثوا عن فقه الغايات

ص: 22


1- فصلنا الكلام عن ذلك في كتاب (قاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع).

إلا بنحو الإشارة العابرة، وقد فصلنا الكلام عن مقاصد الشريعة وفقه الغايات في رسالة (مقاصد الشريعة) وفي مباحث التفسير السابقة(1).

وأما فقه المآلات والنتائج فمما لا نجد له موقعاً في البحوث الفقهية والأصولية والتفسيرية وغيرها إلا كإشارات.

والآية الأولى: «هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» فهي تندرج في فقه الغايات.

أما الآية الثانية: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ» فتندرج في فقه المآلات.

وذلك لأن الآية الأولى تفيد: إن الله تعالى انشأنا من الأرض لكي نعمرها، بمعنى أن من غايات إنشائنا من الأرض أن نقوم بإعمارها استناداً إلى صيغة الاستفعال التي وردت بها مادة العمران «اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» وغير ذلك، وقد سبق بعض الكلام عن ذلك.كما أن الآية الثانية تفيد: إن من مآلات بسط الرزق للعباد، طغيانهم فإن القدرة والمال والسلطة من عوامل الطغيان كما قال تعالى: «إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى»(2).

وهناك الكثير من الآيات التي تندرج في فقه المآلات أو فقه الغايات:

آيات قرآنية من دائرة فقه الغايات أو فقه المآلات

الأولى: آية «لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ» والتعددية والتنافس

فمثلاً قوله تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ

ص: 23


1- المحاضرات 245 - 254 تحت عنوان (مقاصد الشريعة في معادلة الرحمة والاستشارية في شؤون الحكم والحياة).
2- سورة العلق: آية 6 - 7.

الأَرْضُ»(1) وفي آية أخرى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً»(2).

حيث إن حفظ الأرض من الفساد يعدّ من الغايات والأهداف المطلوبة للشارع الأقدس، وقد هندس الله تعالى الحياة الاجتماعية على قاعدة: «دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» كي لا تفسد الأرض ولكي لا تهدم صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً.

وقاعدة دفع الناس بعضهم ببعض هي جوهر ومحور الحياة المتطورة في الديمقراطيات الحديثة؛ ذلك إن (التعددية) و(التنافس الإيجابي) و(التداول السلمي للسلطة) ونظائر ذلك تعود في جوهرها إلى قاعدة «دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» فإنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لاستبد الحزب الواحد بالأمور كلها، لكن الله يدفع بعض الناس ببعض فيدفع قوة السلطة بقوة اللوبيات الضاغطة كما يدفع قوة السلطة التنفيذية بالسلطة الرابعة الإعلامية وبالسلطة القضائية المستقلة.

بل إن قاعدة دفع الناس بعضهم ببعض لا تقتصر على الحكومات الديمقراطية أو الشورية فحسب، بل تمتد لتكون فاعلاً أساسياً في تحجيم سلطات حكام البلاد المستبدة إذ تُدفع قوة الجيش بقوة العشائر مثلاً كما تُدفع قوة حاكم مستبد بقوة حاكم آخر في بلاد بعيد أو مجاور، بدرجة أو أخرى.

ومن الآية الشريفة يستفاد:إن حفظ الأرض من الفساد هو من غايات الشريعة ولذلك دفع الله الناس بعضهم ببعض تكويناً كي لا تفسد الأرض، ولفساد الأرض أنواع ومصاديق مختلفة؛ ومنها: فساد البيئة، ولعله يمكن أن نعد

ص: 24


1- سورة البقرة: 251.
2- سورة الحج: 40.

هذه الآية الكريمة من الأدلة الدالة على حرمة إفساد البيئة كإحراق الغابات أو قطع أشجارها بدون ضابطة علمية حتى لو لم تخلّ فرضاً بالحياة الحيوانية، وكذلك القيامبتفجيرات في الصحاري بحيث تفسدها أو العبث بالتوازن البيئي في البحار أو القرى والأرياف أو غيرها، فإن ذلك كله بين ما هو محرم قطعاً وما هو مكروه قطعاً وما هو بينهما مما يحتاج إلى المزيد من التثبت والدراسة والتمحيص.

الثانية: آية الدُّولة بين الأغنياء

وكذلك قوله تعالى: «كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ»(1) مما يحتاج إلى بحث مستوعب فقهي عن معيارية الدُّولة وعن مرجوحية بل ورفض احتكار الثروات بيد الأغنياء ومنها الطبقة الحاكمة(2)، فهذه الآية الكريمة تعد من آيات فقه الغايات والمقاصد.

الثالثة: آية اليسر

وقوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ»(3) وهي الآية شبه الوحيدة من آيات فقه الغايات والمقاصد التي أسهب الفقهاء في البحث عنها في القواعد الفقهية وفي الأصول بنحو الاستطراد.

الرابعة: آية التطهير والتزكية والسَّكَن

وقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ

ص: 25


1- سورة الحشر: 7.
2- كما في الدول الشيوعية حيث تحتكر الدولة لنفسها كل الثروات، وفي الدول الاشتراكية حيث تحتكر منابع الثروة الكبرى باسم التأميم، بل ومختلف الدول إذ تحتكر منابع الثروة العامة كالنفط باسم ملكية الدولة!
3- سورة البقرة: 185.

صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ»(1) فتطهير الناس وتزكية الأنفس والسكن هي من الغايات المطلوبة للشارع الأقدس.

الخامسة: آية إكمال الحجة

وقوله تعالى: «لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»(2) وتحتاج هذه الآية وسابقتها وبعض اللواحق إلى دراسات مستوعبة.

السادسة: آية القضاء على الفتنة

وقوله تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ»(3) والفتنة سواء أفسرت بالشرك كما دلت عليه بعض الروايات(4)، أم بمعنى الفتنة والفوضى واختلال النظام والهرج والمرج(5)، مما تحتاج في حدودها ومعالمها ومصاديقها إلى كتب علمية مفصلة، ومن التفسير بالمصداق تفسيرها بالحركات الإلحادية أو تلك التي تروج للشذوذ الأخلاقي أو تدعو لدعم الحركات الإرهابية.

السابعة: آية الحياة في القِصَاصِ

وقوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(6)

ص: 26


1- سورة التوبة: 103.
2- سورة النساء: 165.
3- سورة البقرة: 193.
4- منها ما جاء في الكافي الشريف: (عن مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَ «وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» فَقَالَ (علیه السلام): «لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ » رَخَّصَ لَهُمْ لِحَاجَتِهِ وَ حَاجَةِ أَصْحَابِهِ فَلَوْ قَدْ جَاءَ تَأْوِيلُهَا لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ لَكِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ حَتَّى يُوَحَّدَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ وَحَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ»). الكافي: ج8 ص201.
5- فتأمل!
6- سورة البقرة: 179.

فالحياة من دائرة فقه الغايات، وذلك مما يفتح باباً واسعاً على تحديد حكم مختلف العوامل التي تقضي على بعض مصادر الحياة، كتجفيف مصادر المياه وتحويل مساراتها بما يقضي على حياة أراض زراعية شاسعة أو على حياة حيوانات المنطقة، وكذلك زيادة انبعاث الغازات السامة كثاني أوكسيد الكربون مما قد يخلق ثغرة في طبقة الأوزون أو قد يسبب انتشار أمراض وأوبئة كثيرة، كما أن مثل هذه الآية قد تعد من الأدلة التي تشرعن لتقنين الضوابط والقوانين التي توضع للحفاظ على أرواح الناس كقوانين السير وقيادة السيارات وغيرها(1).

الثامنة: آية إخفاء الزينة

وقوله تعالى: «وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ»(2)، والملفت في الآية الكريمة أنها تنهى بظاهرها عما يسبب مجرد علم الأجنبي بأنها تلبس خلخالاً فما بالك بمفاكهة الأجنبية أو الجلوس معها على سفرة واحدة والأكل سوية، مع أن ذلك في مظان الوقوع في الحرام بشكل شبه قطعي؛ إذ ينكشف عادة بعض يدها أو رقبتها أثناء الطعام.

كما أنه يكسر الحاجز النفسي بين الأجنبية والأجنبي مما يعد من المقدمات القريبة أو البعيدة للوقوع في الآثام.

التاسعة: آية عوامل الخوف والجوع

ومن فقه المآلات قوله تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً

ص: 27


1- وقد ورد في بعض الاحصاءات أن حوادث السير في إيران تقضي على حياة 22 ألف شخص سنوياً! وهو رقم كبير جداً، ويعود السبب في جزء منها إلى الحكومة (الطرق الضيقة أو غير المعبدة أو ....) وإلى الناس من جهة أخرى من جهة عدم مراعاة قوانين المرور وقواعد قيادة السيارات.
2- سورة النور: 31.

يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ»(1).

والآية صريحة في أن كفران الناس لنعم الله تعالى يستتبع أن يلبسهم الله لباس الخوف والجوع؛ وقد نرى تجسيداً لذلك المآل البشع، في الولادة المنحوسة للحركات الإرهابية والفوضوية أمثال داعش وطالبان والقاعدة والوهابية النواصب وشبههم.

وكفران نعم الله له تجليات ومظاهر وأشكال عديدة ومنه الإعراض عن مناهجه المثلى في العدل والإحسان والشورى والتعددية والإنصاف في المعاملات وغيرها؛ فإن مناهجه هي من أعظم نعمه، فإن ذلك الإعراض هو الذي وفّر الأرضية الحاضنة لنمو وتطور تلك الفيروسات الخطيرة الهدامة.

كلام الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) عن غايات الشرائع

كما أن هنالك الكثير من الروايات التي تتحدث عن فقه الغايات، ومن أهمها وأجمعها ما ورد في خطبة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (علیها السلام) حيث قالت:

«فَجَعَلَ اللَّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْرِ، وَالزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ، وَنَمَاءً فِي الرِّزْقِ، وَالصِّيَامَ تَثْبِيتاً لِلْإِخْلَاصِ، وَالْحَجَّ تَشْيِيداً لِلدِّينِ، وَالْعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ.

وَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلْإِسْلَامِ، وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجَابِ الْأَجْرِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ.

وَبِرَّ الْوَالِدَيْنِ وِقَايَةً مِنَ السَّخَطِ، وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ مَنْمَاةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ، وَالْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِيضاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ تَغْيِيراً لِلْبَخْسِ.

ص: 28


1- سورة النحل: 112.

وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهاً عَنِ الرِّجْسِ، وَاجْتِنَابَ الْقَذْفِ حِجَاباً عَنِ اللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ السَّرِقَةِ إِيجَاباً لِلْعِفَّةِ.

وَحَرَّمَ اللَّهُ الشِّرْكَ إِخْلَاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، ف«اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»(1)»(2).

ص: 29


1- سورة آل عمران: آية 102.
2- الاحتجاج: ج1 ص97.

(3) من بصائر النور في آية «خَلَقَ لَكُمْ»

اشارة

إن فقه قوله تعالى: «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً» يستدعي بحوثاً معمقة مستوعبة ويحتاج إلى دراسات منوعة وشاملة لكننا سنشير ههنا إلى إحدى مفاتيح البحث الأساسية إشارة عابرة وهي:

إن اللام في قوله تعالى: «لَكُمْ» تختزن كنزاً من المعارف، كما أنها تختزل العلة الغائية من خلق ما في الأرض جميعاً من معادن وبحار وأنهار وغابات وجبال وثروات طبيعية وغيرها، وهي في ضمن ذلك تعتبر إحدى مفاتيح اكتشاف الرؤية القرآنية تجاه الثروات الطبيعية في علاقتها بالإنسان.

الجسر الرابط بين البحوث التفسيرية ومباحث الفقه التحليلية

ويمكننا في البدء أن نضع هذه الآية: «خَلَقَ لَكُمْ...» إلى جوار آيات كريمة أخرى استخدمت حرف اللام نفسه مثل قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...»(1) و«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى...»(2)، ثم إنه لا بد أن نتوقف في عملية استنباطية لاستنطاق مجموع الآيات والروايات والعقل لمعرفة المعنى المراد من «لَكُمْ» وهي التي حملها الفقهاء على الشأنية، بينما استفاد منها الشيوعيون والاشتراكيون الإسلاميون الاشتراكية!

ص: 30


1- سورة التوبة: آية 60.
2- سورة الأنفال: آية 41.

وحيث إن الفقهاء لم يتصدوا لبحث دلالات «لَكُمْ» في هذه الآية الشريفة، بينما تصدوا لبحث دلالاتها في آيتي الخمس والزكاة والصدقات، فإنه يمكننا أن نسلك هذا الطريق وهو: إقامة جسر رابط بين البحوث التفسيرية والبحوث الفقهية، فنستعين بالعمق الفكري والإبداع العلمي الذي تجلى في بحث الفقهاء للزكاة: في كيفية تعلق حق الفقراء والمساكين و... بها، وللمستفاد من (اللام) في «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...» باعتبار الزكاة واجباً شرعياً عظيماً وباباً من أهم أبواب الفقه، ونستعير مباحثهم هنالك في كتاب الزكاة من الفقه لنستثمرها في آية «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً» بعد تكييفهاوتطويرها بما يتناسب وطبيعة هذا البحث المتغاير بالجوهر مع ذلك البحث، لكن روح الكثير من مباحثه هي التي ستثري البحث في آيتنا الكريمة .. فنقول:

إن مما لا شك أن للفقراء حقاً في أموال الأغنياء قال تعالى: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»(1) ومما لا شك فيه أن الزكاة حق مالي واجب ثابت بصريح القرآن الكريم والروايات وضرورة المسلمين، ولكن السؤال المطروح: ما هي كيفية تعلق حق الفقراء بالزكاة؟!

المحتملات والأقوال في كيفية تعلق حق الفقراء بالزكاة

لقد تعددت الأقوال وتنوعت إلى الأقوال التالية:

فبعد الفراغ عن أن الزكاة لا تتعلق بالذمة المحضة فقط، ذهب كل مجموعة من الفقهاء إلى إحدى الأقوال التالية:

الأول: الزكاة حق يتعلق بمالية النصاب(2)، لا بمشخصاته الوجودية

ص: 31


1- سورة المعارج: 24 25.
2- وهو شاة من أربعين شاة، أو ربع مثال شرعي إذا بلغ الذهب عشرين مثقالاً شرعياً (يعادل العشرون مثقالاً: 72 غراماً تقريباً) أو شاة واحدة إذ بلغ عدد الإبل خمسة... وهكذا.

وأوصافه، أي بالروح السارية فيه لا بعينه وشخصه وخصوصياته، كما ذهب إليه الميرزا النائيني (رحمة الله).

الثاني: إنها حق يتعلق بعين النصاب بمشخصاته وإن الشرع قد رتب عليه آثاراً مختلفة كما ذهب إليه السيد حسن القمي (رحمة الله).

الثالث: واختلفوا في أنه من قبيل الشركة في المالية ومع ذلك يجوز التصرف كما ذهب إليه السيد الجد (رحمة الله).

الرابع: أو أنه من قبيل الشركة على نحو الإشاعة، كما ذهب إليه السيد عبد الهادي الشيرازي (رحمة الله).

الخامس: إنه على نحو الإشاعة لكن لا يترتب عليه جميع آثار الإشاعة كما ذهب إليه السيد أحمد الخوانساري (رحمة الله) والسيد الكبايكاني (رحمة الله).

السادس: أو إنه على وجه الكلي في المعين كما لو باع صاعاً من صبرة، كما ذهب إليه صاحب العروة (رحمة الله) وكما يظهر من صاحب المستند (رحمة الله) - على ما نقل عنه آقا ضياء العراقي (رحمة الله) -.

السابع: أو إنه من قبيل حق الرهانة.الثامن: أو إنه من قبيل حق الجناية، كما احتمله السيد حسن القمي (رحمة الله).

التاسع: أو إنه من قبيل منذور الصدقة، كما قرّبه السيد الوالد (رحمة الله).

العاشر: أو إنه من قبيل استثناء الأرطال مع كون التلف عليهما، كما قواه المحقق العراقي (رحمة الله).

الحادي عشر: أو إنه لا شيء منها بل هو نحوٌ آخر في مقابل الحقوق المعروفة كما استظهره السيد محسن الحكيم (رحمة الله).

الثاني عشر: أو التفصيل: ففي الغلات تكون الشركة على نحو الإشاعة،

ص: 32

وفي الغنم على نحو الكلي في المعين، وفي الإبل على نحو الشركة في المالية، كما ذهب إليه السيد تقي القمي (رحمة الله) واحتاط لمخالفته للمشهور(1)؟

والفوارق بين هذه الأقوال والمحتملات وتفصيل الاستدلال فيها يوكل للمباحث التخصصية في كتاب الزكاة، إلا أن موطن البحث والشاهد هو أن العديد من تلك المحتملات تجري في «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً» بين ما هو باطل قطعاً وما هو صحيح قطعاً وما هو مطروح للبحث والنقاش والتدبر.

فمما هو باطل قطعاً: إن المراد ملكية كافة ما في الأرض لكافة الناس بالفعل على نحو المشاع.

ومن الصحيح قطعاً: ملكية الناس لها على نحو الشأنية.

ولكن يبقى البحث في بعض المحتملات الأخرى فبعد الفراغ عن الشأنية هل للناس في كافة الثروات حق كحق المتصدَّق له في منذور الصدقة؟ أو هو حق كحق الرهانة؟ أو هو حق نظير الكلي في المعين؟ أو هو حق آخر من سنخ آخر؟ أو غير ذلك.

وتبتني على ذلك بحوث كثيرة: مثل هل لشخص واحد أو لشركة كبرى أن تقوم بحيازة كافة الأراضي المحيطة بالنجف الأشرف مثلاً أو حيازة الغابة أو الغابات أو المعادن وآبار النفط كلها بما يحرم سائر الناس من فرصة حيازتها واستثمارها؟!

وتحقيق الكلام في كل ذلك بحاجة إلى مجلد ضخم، فلنكتف ههنا بهذه الإشارة المقتضبة.

ص: 33


1- يراجع (العروة الوثقى والتعليقات عليها) المحشاة بحواشي 41 فقيهاً من الفقهاء ج11 ص166 فصاعداً/ إعداد وتحقيق مؤسسة السبطين العالمية.

ص: 34

الفصل الثاني: موقف الشريعة من الغنى والثروة والفقر والفاقة ...

اشارة

موقف الشريعة من الغنى والثروة والفقر والفاقة

ووجوه الجمع بين طائفتين

من الروايتين مادحة وذامة

ص: 35

ص: 36

محور البحث في هذه السلسلة يدور حول: ما هو الموقف الشرعي من الغنى والثروة، ومن الفقر والفاقة؟

وهل المطلوب من المتدين أن يسعى لكسب الثروة وأن يكون من الأغنياء؟ أو إن المطلوب منه أن يقنع بالكفاف وأن يتخذ من الزهد شعاراً ودثاراً له مدى الحياة؟!

أسئلة حيوية يجب تحديد الموقف منها مسبقاً

هذا السؤال يقع في ضمن سلسلة من المسائل الحيوية والمصيرية التي يجب على كل متدين يؤمن بالله جل جلاله والرسول » والقرآن الكريم والعترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين كمصدر للفكر والثقافة والعلم والمعرفة وكموجّه لشتى مناحي الحياة، أن يبحث عن الجواب عنه على ضوء الآيات الكريمة والروايات الشريفة، وأن يحدّد موقفه مسبقاً منها مستضيئاً بنور الآيات ومستهدياً بهدي الروايات الشريفة.

ولنشِر في البداية إلى فهرس قائمة من الأسئلة الهامة الأخرى التي يجب على كل مسلم بما هو مسلم متدين أن يبحث عن الإجابة عليها لدى الشرع الأقدس، ثم نعود للإجابة التفصيلية عن السؤال مورد البحث، وهذه الاسئلة:

1. هل الأفضل أن يختار الإنسان الهندسة أو الطب أو المحاماة؟ أو الأفضل أن يختار التجارة أو الصناعة؟ أو إن الأفضل أن يختار الزراعة أو تربية الدواجن والماشية؟!

2. وهل الأفضل أن يكون موظفاً في مؤسسة أهلية أو حكومية؟ أو إن

ص: 37

الأفضل هو أن يفتتح محلاً خاصاً لنفسه ولو كخياط أو عطار أو بقال أو كهربائي أو غير ذلك؟!

3. وهل الأفضل لرجل الدين أن يصبح خطيباً؟ أو مؤلفاً ومحققاً؟ أو قاضياً؟ أو إمام جماعة؟ أو مدرِّساً؟ أو مربّياً؟ أو مؤسّساً؟ أو مرجع تقليد؟!

مسؤولية الحوزة العلمية في الإجابة على تلك الأسئلة

وتنبع أهمية وضرورة استنطاق الآيات والروايات للعثور على أجوبة على ذلك كله وعلى نظائره، من أن الحوزة العلمية تقع على عاتقها مسؤولية توجيه المجتمع على ضوء البحوث الاجتهادية في الآيات والروايات، إضافة إلى ضرورة العثور على إجابة على تلك الأسئلة ليحددوا مستقبلهم هم بأنفسهم.

وتتأكد ضرورة ذلك أكثر عندما نلاحظ أن عامة الشيعة والمسلمين يتخذون القرار في مدار تلك المفردات السابقة الذكر بوحي من قناعات ذاتية تستند إلى تجارب محدودة أو إلى توجيه أحد الأبوين أو تأثير الأصدقاء أو شبه ذلك، من دون أن يستند اتخاذ القرار في ذلك إلى بحث موسع يستلهم فيهمن النصوص الدينية الأولويات كما يراها إله الكائنات باعتباره الأعرف ببني آدم الذين خلقهم وسوّاهم بيد قدرته، فإنه الأعرف بما يصلحهم أو يفسدهم وبالأصلح من دوائر الخيارات الصالحة، للفرد ديناً ودنياً وأخرى.

هذا إضافة إلى أن اتخاذ الناس القرار في تلك الأعمال والوظائف أو التخصصات لا يستند عادة إلى دراسات تقوم بها مراكز دراسات ضليعة تستقرأ وضع المجتمع والبلد بأكمله وتضع على ضوء ذلك قائمة بسلم الأولويات والحاجات المحتاج إليها المجتمع أو الدولة، كما لا تستند إلى دراسة تفصيلية ميدانية عن كفاءات هذا الفرد بخصوصياته وطاقاته ومجالات تميزه أو إبداعه.

ص: 38

السؤال المطروح: هل الفقر خير للمؤمن أم الغنى؟!

ونعود إلى السؤال المطروح من جديد: هل الفقر خير للمؤمن أو الغنى؟ وهل الثروة خير أو شرّ وهل الفقر ممدوح أو مذموم؟!

الجواب: طائفتان من الروايات مادحة للفقر و مادحة للغنى

وفي الجواب على ذلك نقول: إن هنالك المئات من الروايات والعديد من الآيات التي تتحدث عن هذا المحور وما يقاربه أو يشابهه من وجه ويتقاطع معه في دائرة أو دوائر مما يسمى ب(العموم والخصوص من وجه)، وهي تنقسم إلى طوائف وقد تبدو في ظواهرها متضاربة لذلك يحتاج استخلاص المحصلة النهائية والنتيجة بشكل علمي إلى بحث استنباطي اجتهادي في تلك الروايات لنصل إلى أن الأفضل للمؤمن أن يسعى للثروة لكي يكون من الأغنياء؟ أو أن يزهد في الدنيا ويكون من الفقراء(1)؟ أو أن يسلك فيما بين ذلك سبيلاً؟ أو هنالك تفصيل بل تفصيلات أخرى في المسألة؟!

الطائفة الأولى: الروايات التي تمدح الفقر وتعتبره علامة الإيمان

اشارة

الروايات الكثيرة المستفيضة بل المتواترة التي تدعو إلى الإعراض عن الثروة وتذم المال ومتاع الحياة الدنيا وتحرِّض على التجلبب بجلباب الفقر، بل أن يفتخر المؤمن بكونه فقيراً، وأن الفقر وسام كوسام الشهادة، وأنه علامة على حب الله للمؤمن، وأن الثراء هو عقوبة إلهية معجلة على معصية صادرة من الإنسان.

الأولى: كلما ازداد إيماناً ازداد ضيقاً في معيشته

فمنها: ما ورد في الكافي عن المفضّل قال: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) «كُلَّمَا

ص: 39


1- سيأتي أن الزهد أمر والفقر أمر آخر.

ازْدَادَ الْعَبْدُ إِيمَاناً ازْدَادَ ضِيقاً فِي مَعِيشَتِهِ»(1).والرواية تصرح بقضية شرطية تفيد التلازم بين زيادة درجات الإيمان وزيادة الضيق في المعيشة، فيمكن أن نكتشف إذاً درجات إيمانه من دركات ضيق معيشته (إذا لم يقترن ذلك بما يحطم إيمانه وينسف منزلته - كما سيأتي).

وعليه: فإنه - وبالبرهان الإنّي - يعلم أنه كلما زادت السعة في معيشة المؤمن نقص إيمانه أكثر!

وقال (علیه السلام): «لَوْلَا إِلْحَاحُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ لَنَقَلَهُمْ مِنَ الْحَالِ الَّتِي هُمْ فِيهَا إِلَى حَالٍ أَضْيَقَ مِنْهَا»(2) مما يظهر منه أن مقتضى الحكمة هو عدم الإلحاح في طلب الرزق لأن الله تعالى يرى الأصلح لعبده الضيق الأكثر!

الثانية: فليستعد للفقر جلباباً

ومنها: الحديث المشهور: «مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَاباً»(3).

والجلباب: الثوب الواسع الذي يغطي البدن كاملاً، فقد قيل: إن الجلباب هو الملحفة وكلما يستتر به من كساء أو غيره. وقيل: بأنه ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء(4) أو هو القميص، فمن أحب أهل البيت فليستعد ليحيط به الفقر من كل الجوانب!

الثالثة: أكرَمُ ما تكون عند الله أن تطلب درهماً فلا تجده!

ومنها: عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «أَكْرَمُ مَا يَكُونُ

ص: 40


1- الكافي: ج2 ص261.
2- الكافي: ج2 ص261.
3- نهج البلاغة: باب المختار من حكمه (علیه السلام)، الحكمة: 112.
4- مجمع البحرين: ج2 ص23.

الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَطْلُبَ دِرْهَماً فَلَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ»، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) هَذَا الْكَلَامَ وَعِنْدِي مِائَةُ أَلْفٍ وَأَنَا الْيَوْمَ مَا أَمْلِكُ دِرْهَماً(1).

والرواية صريحة في أن حالة الإفلاس والفاقة إلى الدرهم ثم لا يجده، هي الحالة التي يكون المؤمن فيها أكرم لدى الله تعالى من أية حالة أخرى.

والملفت في الرواية أن الراوي ربما لم يكن ملتفتاً إلى عمق مغزى الرواية حين صدورها، بل تصوّر أنها مجردة قاعدة كلية ذكرها له الإمام (علیه السلام) للفائدة العامة، ولم يلتفت إلى أن الإمام (علیه السلام) كان قد قرأ مستقبله وإن كلامه تضمن رسالة مبكّرة جداً له، نعم لم يعرف ذلك إلا عندما ابتلي بالفقر الشديد بعد ذلك بفترة من الزمن.والملفت أيضاً أنه كان حين صدور الرواية من الأثرياء حقاً فإن مائة ألف درهم تساوي عشرة آلاف دينار ذهبي، والدينار كان يُشترى به في بعض الأحيان خروف أو شاة وذلك يعني ما يعادل عشرة آلاف شاة(2) وهي ثروة كبيرة حقاً.

الرابعة: الفقر عند الله مثل الشهادة

ومنها: ما عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «الْمَصَائِبُ مِنَحٌ مِنَ اللَّهِ، وَالْفَقْرُ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلُ الشَّهَادَةِ وَلَا يُعْطِيهِ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا مَنْ أَحَبَّ»(3).

ومن الواضح أن للشهداء درجة كبيرة جداً عند الله تعالى ترجح على الدنيا بما فيها، فإن الشهداء يأتون بعد النبيين والصديقين مباشرة كما يأتون قبل الصالحين، قال تعالى: «وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ

ص: 41


1- التمحيص: ص45.
2- فاضربها في 300 دولار (قيمة الشاة في العراق) تبلغ ثروته ما يقارب 3 ملايين دولار!!
3- التمحيص: ص46.

عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً»(1) و«وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»(2).

والرواية تفيد أن الله تعالى يعتبر الفقر منحة وهدية استثنائية لا يعطيها إلا من أحب من عباده المؤمنين!

الخامسة: الرسول (صلی الله علیه و آله): الفقر فخري

اشارة

ومنها: وفي الخبر: أنّه (صلی الله علیه و آله) تعوّذ من الفقر وأنّه قال: «الْفَقْرُ فَخْرِي وَ بِهِ أَفْتَخِرُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ»(3).

إذاً الفقر فخر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وليس الغنى أو الثروة فخراً له.

تأويل الحديث من صاحب مجمع البحرين والمناقشة

ولكن صاحب مجمع البحرين (رحمة الله) حاول الجمع بين القولين في الفقر بقوله: (وقد جمع بين القولين بأن الفقر الذي تعوّذ منه الفقر إلى الناس والذي دون الكفاف، والذي افتخر به (صلی الله علیه و آله) هو الفقر إلى الله تعالى. وإنما كان هذا فخراً له على سائر الأنبياء مع مشاركتهم له فيه لأن توحيده واتصاله بالحضرة الالهية وانقطاعه إليه كان في الدرجة التي لم يكن لأحد مثلها في العلوّ، ففقره إليه كان أتمّ وأكمل من فقر سائر الأنبياء (صلی الله علیه و آله) انتهى)(4).

لكن كلامه قد يتأمل فيه ب: أن تفسيره للفقر الذي يفتخر به الرسول (صلی الله علیه و آله) بالفقر إلى الله تفسير بخلاف الظاهر عرفاً ولا يصار إليه إلا مع تعذر المعنى الحقيقي،

ص: 42


1- سورة النساء: 69.
2- سورة الزمر: 69.
3- عوالي اللئالي: ج1 ص39.
4- مجمع البحرين: ج3 ص443.

لكن المعنى الحقيقي غير متعذر ولا مستبعد بل هو حسن صحيح واقع فلا يصح رفع اليد عنه إلى ما فسره به، غاية الأمر أن يُجمع بينهما من دون أن ينفي إرادة الفقر المعهود ب:أن يكون المراد الجامع، أو نقول بصحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى وإن كان أحدهما حقيقة والآخر مجازاً، ولم نتصور لهما جامعاً، لكن لا على أن يكون كل منهما تمام المراد وبشرط لا؛ لاستحالته حينئذٍ.

وذلك لأن من المعروف أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يعاني من الفقر فترات طويلة حتى أنه كان يشد حجر المجاعة على بطنه(1) وفي رواية أخرى: عن أمير المؤمنين عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ » فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ إِذْ جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ (علیها السلام) وَ مَعَهَا كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَدَفَعَتْهَا إِلَى النَّبِيِّ » فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ؟ قَالَتْ (علیها السلام): قُرْصاً خَبَزْتُهَا لِلْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ جِئْتُكَ مِنْهُ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ! فَقَالَ النَّبِيُّ »: أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكَ مُنْذُ ثَلَاثٍ»(2).

وروي أيضاً: عن الحسين بن الحسن عن آبائه قال: قال لي أمير المؤمنين (علیه السلام): «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ » فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْجُوعَ، فَاسْتَقَيْتُ لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ عَشْرَ دِلَاءٍ فَأَخَذْتُ مِنْهَا تَمَرَاتٍ وَ أَسِرَّةً مِنْ كُرَّاثٍ فَجَعَلْتُهَا فِي حَجْرِي ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِهَا فَأَطْعَمْتُهُ»(3).

وشدّ حجر المجاعة لعله لوجهين:

الأول: أن يقلص ذلك من حركة المعدة الانقباضية؛ إذ إنها تطحن نفسها بنفسها عند فقدان الطعام بشكل كامل مما قد يسبب، بالتدريج، قرحة المعدة.

ص: 43


1- قول رسول الله »: «ألم أربط حجر المجاعة على بطني؟». قالوا: بلى يا رسول الله لقد كنت لله صابراً. الأمالي للصدوق: 634.
2- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج 2 ص40.
3- المحاسن: ج2 ص511.

الثاني: إن ذلك يخفف من الإحساس بالجوع.

بل إن الرسول (صلی الله علیه و آله) حتى عندما كانت تصله الأموال الطائلة كان ينفقها فوراً فكان يعود فقيراً بالفعل وإن كان غنياً بالقوة، فتأمل!

فليكن المراد إذاً: إنني افتخر بهذا الفقر الذي هو في سبيل الله، ولو شاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) لوضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره على أن يترك هذا الأمر لكنه لم يتركه أبداً(1)؛ بل لو شاء لاكتفى بالتجارة في أموال خديجة أو غيرها، وصار من أثرى الناس، لكنه (صلی الله علیه و آله) رجّح الفقر في ذات الله على الغنى الذي لا قيمة له.

وفوق ذلك فإن الفقر زين للقائد «لِئَلَّا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ»(2) كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام)، فإن من مفاخر القائد أن يعيش كأضعف الناس لا أن يترفع عليهم. فليكن لذلك كله ولغيره، قوله (صلی الله علیه و آله): «الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ»(3).

السادسة: الفقر شعار الصالحين، والغنى ذنب عُجِّلت عقوبته

ومنها: عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قَالَ فِي مُنَاجَاةِ مُوسَى (علیه السلام): يَا مُوسَى إِذَا رَأَيْتَ الْفَقْرَ مُقْبِلًا فَقُلْ مَرْحَباً بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ وَ إِذَا رَأَيْتَ الْغِنَى مُقْبِلًا فَقُلْ ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ»(4).

ص: 44


1- عندما اجتمعت قريش عند أبي طالب (علیه السلام) على أن لا يبلغ رسول الله » رسالته، قالوا ضمن ما قالوا له: فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْعُدْمَ جَمَعْنَا لَهُ مَالًا حَتَّى يَكُونَ أَغْنَى رَجُلٍ فِي قُرَيْشٍ وَ نُمَلِّكَهُ عَلَيْنَا. فَأَخْبَرَ أَبُو طَالِبٍ رَسُولَ اللَّهِ » بِذَلِكَ، فَقَالَ »: «لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَ الْقَمَرَ فِي يَسَارِي مَا أَرَدْتُهُ».
2- الإختصاص: ص152.
3- بحار الأنوار: ج69 ص32.
4- الكافي: ج2 ص263.

والتعبير بشِعار الصالحين دقيق وغريب معاً؛ فإن الشِعار هو الملابس اللصيقة بجسد الإنسان في مقابل الدثار الذي يتدثر به فوق الملابس، فالشِعار: ما تحت الدثار من اللباس، وقد سمي شِعاراً لأنه ملتصق بشعر البدن فهو أقرب شيء للإنسان(1).والفقر حسب هذه الرواية شِعار الصالحين وليس دثاراً، مع أنه لو كان دثاراً لكان قريباً من الإنسان، لكنّ الفرق أن الشِعار لا يفارق جسد الإنسان عادة أما الدثار فيخلعه أوقات الاستراحة والشِعار لا يُنزع إلا في حالات استثنائية، فكذلك الفقر للصالحين.

وفي عالم اليوم نجد إطلاق الشِعار على شعار الشركة أو شعار الأحزاب أو حتى الشعارات الدينية كما يقال: (شعارنا: يا لثارات الحسين (علیه السلام))، وفي حديث الصحابة: «شِعَارُنَا يَوْمَ بَدْرٍ يَا نَصْرَ اللهِ اقْتَرِبْ، وَشِعَارُنَا يَوْمَ بَنِي قَيْنُقَاعَ يَا رَبَّنَا لَا يَغْلِبُنَّكَ، وَشِعَارُنَا يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ يَا سَلَامُ سَلِّمْ، وَيَوْمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَلَا إِلَى اللهِ الْأَمْرُ، وَيَوْمَ خَيْبَرَ يَا عَلِيُّ ائْتِهِمْ مِنْ عَلُ، وَيَوْمَ بَنِي الْمُلَوَّحِ أَمِتْ أَمِتْ»(2)) والوجه في ذلك: إن هذا الشعار أصبح لصيقاً بالشركة أو الجماعة، دالاً عليها مؤشراً لها كما الشعار ببدن الإنسان، فالشعار هو العلامة.

وأما الغنى فهو: (ذنب عجلت عقوبته) فلعله كان قد ارتشى أو رابى أو كذب أو اغتاب أو نظر نظرة محرمة فعجل الله له العقوبة بأن جعل الغنى يقبل نحوه قال تعالى: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ»(3) ومن جهات ذلك أن الغنى مدعاة للعجب والغرور

ص: 45


1- قال في مجمع البحرين: الشعار بالكسر ما تحت الكساء من اللباس، وهو مايلي شعر الجسد. مجمع البحرين: ج3 ص349.
2- مجمع البحرين: ج3 ص350.
3- سورة المؤمنون: 55 - 56.

والكبرياء والطغيان وارتكاب المآثم والقسوة والعنف والعصيان.

رائعة من صحابِيَّين للرسول (صلی الله علیه و آله): غني وفقير

وفي الرواية والقصة التالية العِبَر البالغة: عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «جَاءَ رَجُلٌ مُوسِرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) نَقِيُّ الثَّوْبِ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) فَجَاءَ رَجُلٌ مُعْسِرٌ دَرِنُ الثَّوْبِ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ الْمُوسِرِ فَقَبَضَ الْمُوسِرُ ثِيَابَهُ مِنْ تَحْتِ فَخِذَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله): «أَخِفْتَ أَنْ يَمَسَّكَ مِنْ فَقْرِهِ شَيْ ءٌ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَخِفْتَ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ غِنَاكَ شَيْ ءٌ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَخِفْتَ أَنْ يُوَسِّخَ ثِيَابَكَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَمَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرِيناً يُزَيِّنُ لِي كُلَّ قَبِيحٍ وَيُقَبِّحُ لِي كُلَّ حَسَنٍ وَقَدْ جَعَلْتُ لَهُ نِصْفَ مَالِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) لِلْمُعْسِرِ: «أَتَقْبَلُ؟» قَالَ: لَا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَلِمَ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَدْخُلَنِي مَا دَخَلَكَ»(1).

وفي الرواية دروس وعبر:

عبر ودروس في الرواية

الأولى: لا تترك منكراً إلا وتنهى عنه

إن الرسول (صلی الله علیه و آله) لم يدع ذلك الموقف «فَقَبَضَ الْمُوسِرُ ثِيَابَهُ» يمرّ من دون أن يُتحِف ذلك الغني بل والناس على امتداد التاريخ، بالموعظة والنصيحة والإرشاد، فإن مسؤولية الأنبياء (صلی الله علیه و آله) على مرّ التاريخ هي التزكية إلى جوار التعليم.

وعلينا أن نتعلم هذه المنهجية من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلا نترك منكراً إلا ونردع عنه حسب مقتضيات الحكمة، ولا معروفاً إلا ونأمر به، وعلينا أن لا نراعي في ذلك غنياً ولا مفكراً ولا حاكماً ولا سلطاناً، وإلا كان الأمر كما أنذرنا

ص: 46


1- الكافي: ج2 ص262.

رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسْتَعْمَلَنَّ عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ»(1).

الثانية: لا تكابر إذا نُصحت!

إن ذلك الغني الذي أخطأ ذلك الخطأ لم يكابر ويعاند ويصرّ ويستكبر، بل تراجع عن موقفه واعترف بذنبه وإثمه «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرِيناً يُزَيِّنُ لِي كُلَّ قَبِيحٍ وَيُقَبِّحُ لِي كُلَّ حَسَنٍ» بل إنه لم يقتصر على ذلك بل قام بأكثر من ذلك فحاول التكفير عن فعلته تلك بأن وهب نصف أمواله لذلك الفقير!

وفي ذلك أكبر العبرة لكل من إذا نصح استكبر وإذا وعظ أنِف، فإن البعض إن اغتاب فنُصح غاظه ذلك وثار على الناصح، أو إذا كذب ونظر أو إذا اختلس المال العام أو الخاص وارتشى أو إذا فعل ما فعل فانه يضاعف جريمته بتهديد كل من يقف في طريقه أو حتى مجرد من ينهاه عن المنكر، وقد يسجنه أو يصادر أمواله أو يواجهه بحملة من التشهير المضاد!

ولكن ذلك الغني وموقفه المشرف بالاعتراف بالخطأ أولاً، ثم محاولة التكفير ببذل نصف ثروته ثانياً، يصلح أسوة لنا وقدوة ومثالاً يُحتذى.

كما أن من الملفت أن ذلك الغني لم يهب الفقير شيئاً مّا - عشر ثروته مثلاً -، مع أنه كان مما يرضى الفقير بذلك، بل وهبه نصف ثروته، وما أصعب ذلك على الأثرياء، ولكن هكذا يجب أن يكون الصلحاء.

الثالثة: لا تقبل الأموال من الأغنياء!

إن ذلك الفقير كان بدوره ذكياً حصيفاً لمّاحاً؛ إذ رفض أن يأخذ الأموال قائلاً: «أَخَافُ أَنْ يَدْخُلَنِي مَا دَخَلَكَ»! وكم فقيراً يوجد مثل ذلك الفقير!

ص: 47


1- الكافي: ج5 ص56.

الرابعة: إن تقرير النبي (صلی الله علیه و آله) لرفض الفقير للمال الممنوح له، هي الحجة علينا مما يستفاد منه - حسب الطائفة الأولى من الروايات - إن الثراء مذموم وإن الغنى أمر مرجوح، وإلا لقال (صلی الله علیه و آله) للفقير خذ المبلغ واستعن به على حوائجك الشخصية مثلاً.

ص: 48

الطائفة الثانية: الروايات التي تمدح الغنى وطلب المال

اشارة

وهذه الطائفة تتضمن روايات كثيرة أيضاً:

الأولى: لا خير فيمن لا يحب جمع المال

فمنها: ما عن الإمام الصادق (علیه السلام): «لَا خَيْرَ فِي مَنْ لَا يُحِبُّ جَمْعَ الْمَالِ مِنْ حَلَالٍ يَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ وَيَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ وَيَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ»(1).

وفي هذه الرواية إشارة إلى إحدى وجوه الجمع بين الطائفتين أو الطوائف.

الثانية: سلوا الله الغنى

ومنها: عن عبد الأعلى عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «سَلُوا اللَّهَ الْغِنَى فِي الدُّنْيَا وَالْعَافِيَةَ، وَفِي الْآخِرَةِ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ»(2)، فالإمام (علیه السلام) يأمرنا بأن نسأل الله تعالى الغنى لا الفقر، ولو كان الغنى مذموماً والفقر مطلوباً لَعَكَسَ.

الثالثة: من النعم سعة المال

ومنها: ما عنه (علیه السلام): «أَلَا وَإِنَّ مِنَ النِّعَمِ سَعَةَ الْمَالِ، وَأَفْضَلُ مِنْ سَعَةِ الْمَالِ صِحَّةُ الْبَدَنِ، وَأَفْضَلُ مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ تَقْوَى الْقَلْبِ»(3) وهل النعمة مذمومة؟!

الرابعة: أحق أهل الدنيا بالدنيا الأبرار والمؤمنون والمسلمون

ومنها: «أُخْبِرُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) كَانَ فِي زَمَانٍ مُقْفِرٍ جَدْبٍ، فَأَمَّا إِذَا

ص: 49


1- الكافي: ج5 ص72.
2- الكافي: ج5 ص71.
3- تحف العقول: ص203.

أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا فَأَحَقُّ أَهْلِهَا بِهَا أَبْرَارُهَا لَا فُجَّارُهَا، وَمُؤْمِنُوهَا لَا مُنَافِقُوهَا، وَمُسْلِمُوهَا لَا كُفَّارُهَا، فَمَا أَنْكَرْتَ يَا ثَوْرِيُّ، فَوَ اللَّهِ، إِنَّنِي لَمَعَ مَا تَرَى، مَا أَتَى عَلَيَّ مُذْ عَقَلْتُ صَبَاحٌ وَلَا مَسَاءٌ وَلِلَّهِ فِي مَالِي حَقٌّ أَمَرَنِي أَنْ أَضَعَهُ مَوْضِعاً إِلَّا وَضَعْتُه»(1).

وصريح الرواية: «فَأَحَقُّ أَهْلِهَا بِهَا أَبْرَارُهَا لَا فُجَّارُهَا، وَمُؤْمِنُوهَا لَا مُنَافِقُوهَا، وَمُسْلِمُوهَا لَا كُفَّارُهَا» فإذا كنا نحن (الأبرار، أو المؤمنون، أو المسلمون - وهذه دوائر ومراتب ثلاث كما لا يخفى)، الأحق بها كان الأرجح لنا طلبها؛ أفلا ترى أن الناصبي والوهابي والصهيوني لو كان ثرياً موّلالإرهابيين والدواعش والقاعدة وطالبان وغيرها؟ وإن الفساد المستشري في العالم تقف وراءه جهات دولية تنفق بسخاء على تسويق الفساد الأخلاقي وغيره؟

وألا ترى أن المؤمن - في الاتجاه المقابل - لو كان ثرياً أنفق أمواله في بناء المساجد والحسينيات والمدارس والمياتم والفضائيات الدينية الهادفة وفي نشر الفضيلة والتقوى؟!

الخامسة: الغنى عون على التقوى والاخرة

اشارة

ومنها: عن السكوني عن أبي عبد الله (علیه السلام) عن آبائه (صلی الله علیه و آله): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ الْغِنَى»(2).

وعن ذريح المحاربي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «نِعْمَ الْعَوْنُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ»(3).

ص: 50


1- الكافي: ج5 ص65.
2- الكافي: ج5 ص71.
3- الكافي: ج5 ص72.

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «نِعْمَ الْعَوْنُ الدُّنْيَا عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ»(1).

هذا مضافاً إلى ما ورد من روايات تذم الفقر كقوله: «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ»(2).

ومنها: «الْفَقْرُ سَوَادُ الْوَجْهِ فِي الدَّارَيْنِ»(3) على ما هو ظاهره لو لم نأوّله بضرب من التأويلات الآتية.

فالفقر إذاً هو المذموم فإنه يكاد أن يكون كفراً وليس مجرد فسق أو حتى فجور، وهو سواد الوجه في الدارين.

والروايات التي تذم الفقر - أشد الفقر وتنعته بوصف شديد بشع - كثيرة، نكتفي منها بهذا المقدار.

والروايات في الطائفتين كثيرة جداً، لا مجال لذكر أجمعها.

وإذا ظهر ذلك: فماذا نفعل إذاً؟!

هل نطلب الغنى كما هو مفاد الطائفة الثانية؟ أم نأنس بالفقر كما هو مؤدى الطائفة الاولى؟وهل نوجه الناس لهذا أم لذاك؟!

وجوه الجمع السبعة بين الطائفتين المادحة للفقر والذامة له

هذا وهناك وجوه جمع قد تبلغ الإثني عشر وجهاً أو أكثر، بين طوائف الروايات المختلفة وسنقتصر في هذه السلسلة على سبعة وجوه منها، عسى أن نوفق في بحوث قادمة لإكمالها بلطف الله تعالى.

ص: 51


1- الكافي: ج5 ص73.
2- الكافي: ج2 ص307.
3- عوالي اللئالي: ج1 ص40.

وبعض هذه الوجوه مما عليه شاهد جمع من الروايات أو مما تؤيده وتعضده مناسبات الحكم والموضوع أو غيرها، وبعضها مما قد يُعد من دائرة الجمع التبرعي، فلو استقصينا البحث أكثر في مطاوي مختلف الروايات الأخرى ولم نجد عليها شاهداً فلا سبيل للبناء عليها، ولعل الله تعالى يقيِّض من يستقصي الروايات لاحقاً بشكل أوسع فيصل إلى ما يكمل ما بدأناه في هذا المشوار الطويل.

كما أن بعض وجوه الجمع الآتية تتكفل بمفردها بحل الإعضال بأكمله وتميز دوائر كافة الروايات الواردة عن الفقر والغنى ومواقعها بحيث لا يبقى مجال لأدنى توهمِ تعارضٍ بين بعضها والبعض الآخر، بينما سنجد أن بعض وجوه الجمع الآتية تتكفل بحل مشكلة تعارض بعض مجاميع الروايات ولا يكتمل الحل والعلاج لتعارض مجمل الروايات إلا بضميمة وجه جمع آخر من سلسلة الوجوه.

ص: 52

إطلاقات (الفقر) وأنواعه، وهل هو قمة الكمال أو مجمع الرذائل؟

(1) الوجه الأول من وجوه الجمع: تعدد إطلاقات الفقر
اشارة

إن فقه الحديث والتدبر المعمق والدراسة الدقيقة لمفردتي الفقر والغنى الواردتين في العشرات من الروايات التي صنفناها إلى طائفتين تبدوان متعارضتين في بادئ النظر، يقودنا إلى أن للفقر إطلاقات متعددة وأن له معاني مختلفة، وأنه أريد في بعض الروايات معنىً، وفي بعضها الآخر معنى آخر، وفي بعضها معنى ثالث، وفي غيرها معنى رابع.

وعليه: فلا تضاد ولا تناقض، وإنما نشأ توهم التعارض من وحدة اللفظ، لكن اختلاف المعنى المراد في كل موطن هو مفتاح الحل وهو البلسم الذي ترتفع به الشبهة.

وهذا الاختلاف لمعاني مفردة الفقر قد يدعى أن الوجه فيه هو الاشتراك اللفظي الناشئ لا من تعدد الوضع التعييني بل من الوضع التعيُّني المستفاد من تراكم الاستعمال في المعنى الآخر حتى بلغ مرتبة انسباقه منه بدون قرينة لكن مع عدم هجر المعنى الأول وإلا كان من المنقول.

وقد يدعى أن الوجه فيه هو: الاشتراك المعنوي، وإن كافة تلك المعاني هي أصناف للفقر مندرجة تحت جامع واحد هو الموضوع، وان إرادة هذا الصنف هنا وذاك هناك يستفاد من قرائن داخلية كامنة في الروايات أو خارجية في ضمن دوائر أخرى كما سيتضح لاحقاً بإذن الله تعالى والإحاطة بهذه الإطلاقات المتعددة هو الذي

ص: 53

سيتكفل بإعطائنا رؤية أكثر شمولية للفقر والغنى في دائرة منظومة الفكر الإسلامي.

إطلاقات الفقر الأربع
اشارة

وإطلاقات الفقر حسب الاستقراء الناقص، ولعله تنجلي لنا لاحقاً إطلاقات أخرى، هي أربع:

الأول: إن المراد من الفقر: الفقر إلى الله تعالى.

الثاني: إن المراد منه: الفقر من الدين، وهو معنى يضاد الأول تماماً.

الثالث: إن المراد منه: فقر النفس.

الرابع: إن المراد منه: الفقر المادي أو الفقر إلى المادة والماديات.

فلنستعرض مختلف الروايات لكي يتجلى لنا بوضوح أنها تتوزع على هذه المحاور الأربع، وإن مشكلة التعارض بين طوائف من الروايات ترتفع بذلك:

أولاً: الفقر إلى الله تعالى
اشارة

من معاني الفقر وإطلاقاته: (الفقر إلى الله تعالى)، وقد دلت على هذا المعنى آية قرآنية كريمة صريحة، كما أن المراد من الكثير من الروايات المادحة للفقر هو هذا المعنى بالذات؛ أما بمفرده أو على نحو مانعة الخلو بينه وبين بعض المعاني الأخرى، أو على نحو البشرط شيئية، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(1).

الفقر فخري

كما قال (صلی الله علیه و آله): «الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ»(2).

ص: 54


1- سورة فاطر: 15.
2- عوالي اللئالي: ج1 ص39.

ذلك إن فقر الإنسان إلى أي شيء آخر غير الخالق جل اسمه ليس إلا فقراً مجازياً محدوداً، أما افتقاره إلى الله تعالى كأنه فقر ذاتي حقيقي كما هو مطلق عام شامل لكل الجهات؛ فإن الإنسان في أصل خلقته ووجود جسده ونفسه وروحه وعقله - وهي حقائق أربع -، محتاج إلى الله تعالى ثم إنه محتاج إليه جل اسمه وإلى فيضه في كل آنٍ وزمان ومكان وفي كل وضع وحال فهو الفقير حقاً إلى الله تعالى.

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ» في حركتكم وسكونكم وقولكم وفعلكم وفي تعلمكم وتعليمكم وفي تجارتكم وصناعتكم وفي كل حقل وبُعد وفعل ودور.

ولو ان الإنسان سعى ليستشعر فقره المطلق إلى الله تعالى وأحس به عند كل حركة وسكون وقبض وبسط وشدة ورخاء وفقر وغناء، فإنه سيكون الغني حقاً وإن كان من الناحية الظاهرية في فقر مدقع.

اللهم أغنني بالافتقار إليك

كما ورد في الدعاء: «اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك»(1).

فإن الغنى حقاً هو في الافتقار إلى الله والاحساس العميق بالحاجة إليه والافتقار له، فإن الله هو مصدر كل القوى والثروات والعلوم والمعارف والخيرات والحسنات والبركات فلو رجع المرء إليه بصدق كان قد طرق باب الكريم حقاً فولجه من دون سدود أو حواجز.

أما المستغني عن الله تعالى على مستوى مشاعره وأحاسيسه وادراكاته فإنه هو الفقير حقاً؛ ألا ترى في مثال عرفي: ان من توهم ان مفتاح حل معضلته

ص: 55


1- بحار الأنوار: ج69 ص30.

السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعيةهي بيد رجل عاجز عن حلها تماماً، فإنه إذا طرق بابه فإنه الفقير حقاً والمخدوع واقعاً، أما إذا عرف مصدر الأمور ومَن بيده حل العقدة مائة بالمائة فطرق بابه مستجمعاً لشرائط الاستجابة فإنه الغني حقاً، فإنه وإن لم تكن معضلته محلولة بالفعل إلا أنه حيث سلك طرق المقدمات الموصلة فإنه يكون بذلك الغني ويكون قد حلّ المشكلة حقاً وإن فصلت بينه وبينها ثوان أو أيام، فإن وعد الحر دين.

استمداد الفيض والطاقة آناً فآناً من الله تعالى

ولأن المعقول يتضح للقوى المتخيلة بشكل أكثر جلاء عند تشبيهه بالمحسوس، فيمكننا أن نمثل فقرنا الدائم إلى الله تعالى لحظة بلحظة وثانية بثانية، ب: الشاحن لأجهزة النقال أو المحمول أو غيرها فإن الجهاز يستمد الطاقة من الكهرباء آناً بآن ولو فصلته عنه فإنه سينقطع الإمداد والاستمرار فوراً ودون إبطاء.

ولو أن الإنسان استشعر فقره إلى الله تعالى عند كل حركة وسكون، لامتنع أن يتجرأ على معصية الله تعالى قط؛ إذ كيف يعصيه بكذبة أو غيبة أو تهمة أو سرقة أو غش واختلاس ورشوة ونظرة محرمة وغيرها، وهو يستشعر أنه في هذه الثانية وفي هذه الحالة يستمد وجوده من الله كما يستمد طاقته وقدرته منه جل اسمه؟ وأنه لا ملجأ منه إلا إليه وإن حساب الخلق إليه وثوابهم وعقابهم عليه؟! وإنه «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»(1) وإنه المحيط بأفعاله وأعماله وأفكاره كما لم يحط بها شيء قط!

وبذلك يوجّه أيضاً قوله (صلی الله علیه و آله): «الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ» فإن فقره » إلى الله تعالى هو فخره الأعظم على سائر الأنبياء (صلی الله علیه و آله)، من غير

ص: 56


1- سورة ق: آية 18.

أن ينفي ذلك أن المراد أيضاً الفقر المادي كما سبق(1)، وسيأتي أيضاً ما يوضح المقصود أكثر عند الحديث عن وجه الجمع الثاني.

ثانياً: الفقر من الدين
اشارة

ومن معاني الفقر وإطلاقاته: (الفقر من الدين)، وبذلك تفسر مجموعة من الروايات:

الفقر سواد الوجه في الدارين

«الْفَقْرُ سَوَادُ الْوَجْهِ فِي الدَّارَيْنِ»(2) لوضوح أن الفقر المادي إن كان سواداً للوجه فهو سواد للوجه في الدنيا لا في الآخرة؛ إذ ما أعظم مقام الفقراء إذا صبروا(3)! فالمنصرف إن لم يكن الظاهر من الرواية هو أن المراد الفقر من الدين.

الفقر الموت الأحمر

وبعض الروايات الأخرى صريحة في الدلالة على هذا المعنى من معاني الفقر فقد ورد في الكافي «عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) قَالَ: الْفَقْرُ الْمَوْتُ الْأَحْمَرُ، فَقُلْتُ

ص: 57


1- في قولنا (فليكن المراد إذاً: إنني افتخر بهذا الفقر الذي هو في سبيل الله! ولو شاء (صلی الله علیه و آله) لوضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره على أن يترك هذا الأمر لكنه لم يتركه أبداً.. بل لو شاء لاكتفى بالتجارة في أموال خديجة أو غيرها وصار من أثرى الناس لكنه (صلی الله علیه و آله) رجّح الفقر في ذات الله على الغنى الذي لا قيمة له. وفوق ذلك فإن الفقر زين للقائد «لِئَلَّا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ» كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) فإن من مفاخر القائد أن يعيش كأضعف الناس لا أن يترفع عليهم. فليكن لذلك كله ولغيره، قوله (صلی الله علیه و آله): «الْفَقْرُ فَخْرِي وَ بِهِ أَفْتَخِرُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ»).
2- عوالي اللئالي: ج1 ص40.
3- وسيأتي وجه آخر للمراد من هذا الحديث بإذن الله تعالى.

لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام): الْفَقْرُ مِنَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ مِنَ الدِّينِ»(1).

ولعل وجه التعبير بالموت الأحمر هو: ان الموت الأحمر أشد رهبةً وأقوى في إثارة الرعب والخوف في النفوس، فان الموت إذا كان حتف انفه كان هادئاً ولربما كان مرعباً إلا أن الموت لو كان بالذبح أو بالسيف أو شبه ذلك مما تتطاير فيه الدماء ويتلطخ فيه بدن المقتول وثيابه بالدم الأحمر فانه يكون أكثر تخويفاً وارعاباً، فالفقر هو الموت الأحمر.

ولعل المقصود من الفقر ههنا الدرجة العليا منه، وهي التي قيل: انه سمي بالفقر؛ لأنه يكسر فِقار الظهر؛ فان شدة الفقر قد تبعث على ذلك بل على الاسوأ منه.

الفقر الموت الأكبر

كما ورد في الرواية «والْفَقْرُ الْمَوْتُ الْأَكْبَرُ...»(2) ولعل وجه تسميته بالأكبر: إن الموت يحدث مرة واحدة، وينتهي أما الفقر من الدين(3) فإنه قد يستمر لعشرات السنين ثم ومن وراء ذلك يُخلّدالإنسان - لا سمح الله - في عذاب جهنم فهو الموت الأكبر لا الموت الذي قد يكون بوابة الدخول إلى «جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ»(4).

قصة تخيير الأمير (علیه السلام) للفقير بين الولاية والمال!

وفي القصة التالية أكبر العبرة: فقد نُقل ما يقارب هذا المضمون وهو: إن

ص: 58


1- الكافي: ج2 ص266.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص39.
3- وكذلك الفقر المادي إذا بلغ مرحلة الفقر المدقع الذي يكسر فقار الظهر.
4- سورة آل عمران: 133.

أحد الصالحين كان يعاني من الفقر فترة من الزمن ثم اشتد به الفقر وضاقت به الأحوال حتى التجأ إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) عند ضريحه المقدس وطلب بإلحاح أن يفتح عليه صلوات الله عليه أبواب الرزق، ولعله خاطبه بما يقرب من أن الكريم يبذل ويعطي ويمنح وإن خسر بذلك بعض ثروته بل جميعها وأنت يا سيدي سيد الكرماء ولا تخسر شيئاً أبداً بالتوسط لدى الله لتفريج كربتي وتغيير حالتي من فقر مدقع إلى غنى ممتع.. فهلّا تطولت يا سيدي وتفضلت؟!

والظاهر أنه حدثت لديه لحظة انقطاع؛ بعد ذلك وفي الليل رأى في المنام أمير المؤمنين (علیه السلام) وكأنه في ساحة دار في نهايتها دهليز شبه مظلم، فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام) اذهب واحمل مما تجد بعضَه، فذهب إلى الدهليز فوجد فيه عقارب وحيات ميتة!! ومن الطبيعي أن يكون المنظر مقززاً مرعباً، فإنه تجسيد لأموال الدنيا وحطامها، إلا أنه حيث كان أمير المؤمنين (علیه السلام) قد أمره لذلك حمل بعضها على خوف ووجل، وكان في ساحة الدار حوض فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام) ضعها فيها، فلما وضع الحيات والعقارب في ماء الحوض انقلبت إلى ذهب خالص مصفى.

ولقد دهش الرجل لذلك ورآها ثروة طائلة هبطت عليه ببركة أمير المؤمنين (علیه السلام)، إلا أنه صلوات الله عليه فاجأه بموقف صعب جداً فقال له: أنت مخيّر: فإما ولايتي ومحبتي وأما هذه الأموال! فإن أخذتها صرت ثرياً لكنك ستفقد الولاية! وإن تمسكت بحبل ولايتي فأرمها وستبقى فقيراً!!

ولقد كان الموقف صعباً حقاً على من ذاق مرارة الفقر الشديد، إلا أن حكمته وإيمانه كانا فوق أن يفرط بخير الدنيا والآخرة مقابل عَرَض زائل فقال: كلا يا أمير المؤمنين لا أفضل على ولايتك شيئاً؛ ورمى الذهب، وهنا استيقظ

ص: 59

من المنام لكنه كان مطمئناً إلى ما قسمه الله له من الفقر فأحسّ ببرد اليقين واكتسى ببرد السكينة والطمأنينة.

ومن الواضح أن الأحلام لا حجية فيها، إنما الكلام هو أنها لو طابقت المستفاد من الآيات أو الروايات أو المستقلات العقلية أو شبه ذلك كانت الحجة هي الآيات والروايات والعقل وأما الأحلام فهي منبّهة فقط.ومن الواضح أن بعض الناس يُطغيه الثراء ويسلبه إيمانه، فالأصلح له الفقر وقد وردت بذلك روايات عديدة ومنها: «وأن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك»(1)، ويبدو أن هذا الرجل الفقير كان منهم فكان فقره المادي هو الضمانة كي لا يسقط في هاوية الفقر من الدين، وكان غناه هو السبب في الهلاك بالفقر من الدين وقد صرح له أمير المؤمنين (علیه السلام) بالمعادلة التي تتحكم في مصيره بأكمله وكان الرجل من الحكمة والذكاء والإيمان والولاء بحيث رجح الآخرة على الدنيا والولاية على عرضها الزائل الفاني، وبدون أدنى تردد.

ثالثاً: فقر النفس
اشارة

ومن معاني الفقر وإطلاقاته: (فقر النفس) وتدل على هذا المعنى مجموعة من الروايات:

ومنها: قوله (علیه السلام): «خَيْرَ الْغِنَى غِنَى النَّفْس»(2) فإن مضاد الغنى هو الفقر فيفيد الحديث أن (أشرف الفقر هو فقر النفس) وفي الآية الشريفة «وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ»(3).

ص: 60


1- عوالي اللئالي: ج2 ص108.
2- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص402.
3- سورة النساء: 32.

وفقر النفس رذيلة من أكبر الرذائل فانه يعني الجشع والحرص والطمع، ويعني التحسر الدائم على ما لا يملك وإن كان يملك الملايين، ويعني التذلل للأمراء والأثرياء طمعاً في بعض الفتات أو بعض حطام الدنيا الزائلة.

مظاهر فقر النفس ودناءتها

إن الجشع والحرص على جمع الأموال وعلى السلطة والرياسة وعلى الشهرة والمدح، يكشف عن فقر النفس ودناءتها فإن غني النفس مستغنٍ بذاته، وهو أكبر من أن تملكه الأهواء أو تأسره الشهوات أو أن يبيع المبادئ والقيم والنزاهة لقاء حفنة من المال وإن بلغت المليارات، كما أن غني النفس أعظم من أن يتنازل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كي يبقى في منصبه أو كي يُسمح له بأن يحظى بترقية في السّلّم الوظيفي أو أن يكون له وسام إلقاء بعض الكلمات في مجالس الكبراء.

إن المؤمن غني بالله تعالى وهو غني النفس حينئذٍ بذلك، وفي الحديث: «إِذَا أَرَدْتَ عِزّاً بِلَا عَشِيرَةٍ وَهَيْبَةً بِلَا سُلْطَانٍ، فَاخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَى عِزِّ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»(1) فإن العز حقاً والهيبة صدقاً هي في عز طاعة الله فإن الأمر كله بيده وهو الذي لا يقال لغيره: «قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُوَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(2).

وأما المعصية فهي الذل حقاً؛ إذ يكون المرء بالمعصية قد باع أشرف وأعزّ وأغلى شيء لديه وهو شرف نفسه مقابل كذبة أو غيبة أو نميمة أو نظرة محرمة أو

ص: 61


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص258.
2- سورة آل عمران: 26.

رشوة أو شبه ذلك، و أليست نفسه ذليلة فقيرة هيِّنة عليه عندئذٍ؟ وقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَه»(1) وما أرخصها لديه لو عصى به بارئه؟!

وإذا كان المرء غنيّ النفس فإنه سوف لا يتتبع عثرات الآخرين، كما أنه إذا كان فقير النفس وجدته فضولياً بأشد أنحاء الفضولية تجاه ما يملكه الآخرون من أموال وبنين أو مكانة ومنزلة أو سلطة وسطوة وشهرة، دائم التفكير فيما يملك هذا أو ذاك، دائم الحرص على أن يحصل على مثل ما حصلوا عليه وأكثر، وإذا حُرِم غضب ونقم وأسِف وحَزِن وتحطمت أعصابه.

وفي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ فِي الْمَقْدُرَةِ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ فِي الْمَقْدُرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْنَعُ لَكَ بِمَا قُسِمَ لَكَ وَأَحْرَى أَنْ تَسْتَوْجِبَ الزِّيَادَةَ مِنْ رَبِّكَ...»(2) وذلك من علامات المؤمن أنه غني النفس، كما انه يعدّ من عِلَل المحافظة على غناها في امتداد الزمن!

ومن القصص في هذا الحقل و التي تكشف عن بعض أنواع فقر النفس - أجارنا الله وأياكم منها -، ما واجهته شخصياً قبل سنين: فقد كنت في جولة تبليغية في بعض البلاد الغربية فطلِبتْ رابطة الشباب هنالك اللقاء بي فاجتمعت معهم في إحدى الحسينيات المباركة وافتتحت الحديث، بعد البسملة والحمد، بالسؤال التالي موجهاً الخطاب للشباب:

افترضوا أنكم ربحتم في اليانصيب مليون بوند دفعة واحدة فماذا كنتم تفعلون بها؟! (و قد شرحت لهم أن اليانصيب قمار وهو حرام وإن هنالك تخريجات فقهية لبعض أنواعه).

ص: 62


1- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكمة:2.
2- الكافي: ج8 ص244.

ثم سألتهم واحداً واحداً، فأجاب الأول وقال: سوف أبني به مسجداً، وقال الثاني: سأعطيه لوالدي ليوفي به ديونه المتراكمة عليه، وقال الثالث: سأرسله إلى فقراء العراق، وقال الرابع:سأتخذه رأسمالاً للتجارة، وهكذا.. لكن الغريب أن أحدهم قال: سأشتري به سيارة فيراري، فقلت وكم قيمتها فقال: أفخر أنواعها قيمته ثلاثمائة ألف بوند(1).

قلت: حسناً للمبلغ فائض وهو 700 ألف فماذا تصنع به؟ قال: سأشتري سيارة فيراري أخرى! فضحك الشباب! فقلت: حسناً ولا يزال عندنا فائض فماذا تفعل؟ قال: سوف اشتري سيارة فيراري ثالثة! فقلت: فلو أنك ربحت عشرة ملايين أخرى! فقال: اشتري بها سيارات فيراري إلى ما شاء الله، ولقد ضحك الشباب عليه كثيراً؛ لكنني فكرت مع نفسي أنه يعاني من فقر في النفس تجاه هذه السيارة أو فسمها عقدة نفسية..! ثم فكرت إننا نحن، في الكثير من الأحيان، نسخة أخرى من هذا الشاب وإن كان بنحو آخر، أوليس أننا نمتلك الشهرة ثم نريد منها المزيد ثم المزيد، أو السلطة ثم نطمع في المزيد والمزيد، أو نمتلك المال ثم نجمع المزيد والمزيد، أو نمتلك داراً هنا ثم نشتري أخرى في المصيف وثالثة في البلد الآخر وهكذا، إن ذلك كله مما يكشف عن فقر النفس أو عن العُقد النفسية.

رابعاً: الفقر المادي
اشارة

ومن معاني الفقر وإطلاقاته: (الفقر المادي والفقر من المال ومن سائر مقومات الحياة المادية)، وهذا هو المعنى المعهود من الفقر، وقد وردت به روايات كثيرة أيضاً:

ص: 63


1- يعادل 500 مليون دينار عراقي!

ومنها: «مَنْ أَكْرَمَ فَقِيراً مُسْلِماً لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَنْهُ رَاض»(1) وعن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: «مَنْ لَقِيَ فَقِيراً مُسْلِماً فَسَلَّمَ عَلَيْهِ خِلَافَ سَلَامِهِ عَلَى الْغَنِيِّ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»(2)، والملفت في الحديث أنه يكشف لنا عن أن اللازم علينا أن نتعامل مع الفقير كما نتعامل مع الغني تماماً؛ فلا نسلم عليه ببرود وعلى الغني بحفاوة، بل أن نسلم عليه كما نسلم على الأغنياء بدون أي لون من ألوان الاقتصاد في الحفاوة والاحتضان والترحيب والإكرام والإجلال.

وهذا النوع من الفقر هو مشكلة العالم اليوم، وقد ورد في إحصاء منظمة الأمم المتحدة للزراعة والتغذية: إن طفلاً واحداً يموت كل عشر ثوان في العالم، وذلك رهيب حقاً فإن أحدنا لو تمرّض إبنه وبدأ يئِن ويبكي فإنه لا يكاد يتحمل ذلك، فكيف إذا رأى إبنه أمامه يتضور جوعاً ويزداد ساعة بعد ساعة إلى أن ينهار من الجوع ويموت، ومن الواضح أن هذا النوع من الموت هو نوع بطيء تدريجي ومؤلم جداً وقد يستمر أياماً، وعليك أن تتصور حال الأبوين وهما يشاهدان ولدهما في هذه الحالة المؤلمة بل المرعبة وهما لا يستطيعان أن يفعلا شيئاً!

فهذا هو الفقر الذي وردت في ذمه العديد من الروايات، وأن على الإنسان أن يستعيذ بالله منه:ومنها: قال أمير المؤمنين (علیه السلام) لابنه محمد ابن الحنفية: «يَا بُنَيَّ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدِّينِ مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ دَاعِيَةٌ لِلْمَقْتِ»(3) نعم يمكن تفسير الحديث بفقر النفس والفقر من الدين أيضاً، لكن لعل الأظهر هو الفقر

ص: 64


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص13.
2- الأمالي للصدوق: ص442.
3- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكمة: 319.

المادي (أي النوع الشديد منه على انه لا مانعة جمع بين المعاني).

لماذا على من أحبّ أهل البيت (صلی الله علیه و آله) أن يستعدّ للفقر؟

ومنها: ما ورد في الحديث «مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَاباً»(1).

والظاهر من الحديث - بدواً - أن المراد هو الفقر المادي، والسبب في ذلك واضح وهو: إن أتباع أهل البيت (صلی الله علیه و آله) كانوا على مر التاريخ مضطهَدين محاصَرين مطارَدين وكانت السلطات تقصيهم عن المناصب وتحرمهم من العطاء بل كانت السلطات تضيّق عليهم مصادر رزقهم، بل كثيراً ما كانت تصادر أموالهم وأراضيهم وممتلكاتهم، وكانت في أفضل الفروض لا تمنحهم التسهيلات التي تمنحهم لغيرها في التجارة والاستيراد والتصدير أو في الزراعة والصناعة وغير ذلك.

ولقد كانت هذه هي السمة الغالبة لوضع الشيعة على مر التاريخ.

اضطهاد الشيعة اقتصادياً في السعودية والبحرين وغيرهما

وفي العصر الحديث نجد أن بعض الحكومات(2) لا تزال تحاصر الشيعة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وحقوقياً، بل وتحاربهم في مختلف الحقول، ففي البحرين مثلاً وقبل حوالي عشر سنين - أي قبل الأحداث الأخيرة وفي عزّ فترة مشاركة نواب الشيعة في مجلس الأمة - وضعت السلطات خطة اقتصادية معقدة لضرب تجار الشيعة بطرق غير مباشرة، فانهارت على إثر ذلك شركات وأفلس تجار أعرف بعضهم شخصياً، بل حاربوهم حتى على الأدوار والأعمال المحدودة التأثير والقليلة الانتاج، فمثلاً أوعزوا إلى مختلف الشركات والمؤسسات المرتبطة

ص: 65


1- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكمة: 112.
2- كالسعودية والبحرين وبلاد الشمال الأفريقي وغيرها.

بهم أو تلك التي تدور في فلكهم أو التي تحذر مخالفتهم ب: عدم إرسال الموظفين أو المتعاقدين إلى مركز التدريب والتأهيل الفلاني، لوجود شبهات حوله، وقد صرحوا لمن كان من داخل دوائرهم بأن هؤلاء شيعة وتجب مقاطعتهم ومحاصرتهم اقتصادياً حتى يفتقروا ويحتاجوا إلينا!وقد اضطر عدد من مدراء ومؤسسي العديد من المراكز لإغلاقها بعد أن كسدت أسواقهم وأعرض أكثر الناس، خوفاً من الموالي أو حسداً أو حقداً من العدو، عن المشاركة في هذه المراكز أو التعاقد معها.

وعليه: فإن قوله (علیه السلام): «مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَاباً» كان يُعِدّ إعداداً مسبقاً للشيعة لكي يتهيأوا نفسياً لتحمل شتى تبعات استمرارهم على خط الرسالة والولاية وعلى خط النهي عن المنكر والأمر بالمعروف والجهاد ضد الحكومات الجائرة، فلا يهولنّهم إذا ما رأوا الفقر محدقاً بهم فإن ذلك ضريبة الإيمان والجهاد؛ ولا يتصوروا أن ذلك لهوانهم على الله أو لنقص في الكفاءات أو لتميّز الأعداء عليهم بالكفاءة الأكثر، بل عليهم أن يعلموا أن ذلك بعين الله وأنه الثمن الذي يجب أن يدفعه أولياء الله قال تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ»(1).

نعم، القضية غالبية ولا إطلاق لها إذ كانت توجد فترات تراخي وحرية وسعة لذا كان الشيعة ينطلقون فيها أشد الانطلاق وكانوا يتجاوزون غيرهم ممن حظوا بالاستقرار مئات السنين، بسرعة كبيرة.

وسيأتي إن الرواية تحتمل وجهاً آخر لا يتنافى مع هذا الوجه.^img5.«ng

ص: 66


1- سورة البقرة: 155 - 156 - 157.

على القادة والمسؤولين أن يعيشوا فقراء

(2) الوجه الثاني: عيشة الفقراء واجبة على المسؤولين، والغنى مطلوب لعامة الناس
اشارة

إن الفقر بمعنى أن يكون صفر اليدين من حطام الدنيا ذاتاً أو بالعرض، بالفعل أو بالقوة، مطلوب من القادة والمسؤولين والرؤساء - كرؤساء الأحزاب وغيرها -، والموجهين ومنهم: الخطباء والعلماء ونظائرهم، ومطلق من هو في موقع متقدم تربوي - توجيهي، أو قيادي - أو عملي، وذلك كلما صدق عليهم عنوان (أئمة العدل) بالحمل الشائع الصناعي بدرجة أو أخرى.

أما عامة الناس وغيرهم فالغنى هو المطلوب لهم.

والمراد من (صفر اليدين ذاتاً) أن لا يكون ذا مال ولا ذا مصدر مولّد للأموال.

والمراد من (صفر اليدين عَرَضاً) أن يكون ممن ينفق الأموال فوراً وإن كانت له مصادر ترفده بالمال، لكنه كلما حصل على دفعة منها أنفقها فوراً في نفس اليوم ولا يدّخرها في المصارف ولا على شكل عقارات أو غيرها.

وعلى ذلك فإن المطلوب من القادة والمسؤولين أن يزهدوا في حطام الدنيا في حياتهم الشخصية وأن لا يأكلوا طيب الطعام ولا يلبسوا فاخر اللباس ولا يركبوا فاره المراكب، وأن لا يكنزوا الأموال، وأن لا تنتفخ أرصدتهم في المصارف، وأن يكون هؤلاء بحيث كلما وصلت إلى أيديهم أموال أن ينفقوها في سبيل الله تعالى

ص: 67

فوراً وبدون إبطاء قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَلَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَلَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً وَلَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَلَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ وَلَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وَأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ...»(1).

وعليهم في المقابل أن يمنحوا الناس كافة الثروات التي بحوزتهم، وأن يوجهونهم للتمتع بملذات الحياة المحللة وان يخططوا لينتشلوا الناس من الفقر والفاقة، وان يجعلوهم أغنياء سعداء.

الأصل: الطيبات للعباد، وعلى القادة الزهد والعيش عيشة الفقراء

فالقاعدة العامة هي: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ»(2) وقد خرج منها القادة والمسؤولون بالأدلة الخاصة الآتية:

من الأدلة على خروج القادة عن الأصل:

أ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ»

ومن الأدلة على خروج القادة عن هذا الأصل العام، وأن عليهم الزهد في ملذات الحياة والعيش كما يعيش الفقراء ما علّل به أمير المؤمنين (علیه السلام) ذلك بقوله: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ»

وتمام الرواية يُعدّ من الأدلة على وجه الجمع الآنف وهي «فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ، قَالَ: وَمَا لَهُ؟ قَالَ: لَبِسَ الْعَبَاءَةَ

ص: 68


1- نهج البلاغة: من كتاب له (علیه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على بصرة.
2- سورة الأعراف: آية 32.

وَتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا، قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ؟ أَتَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا؟ أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ!

قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ؟

قَالَ وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ»(1).

و(إستَهَامَ) مأخوذ من الهُيام بضم الهاء، والهُيام هي: حالة تعرض العاشق شبيهة بالجنون إذ يغفل معها عن أي شيء آخر، وقد استهام بك الخبيث أي: سيطر على لبّك وعقلك فلم تعد تعرف الحق من الباطل فعشقت الزهد وغفلت عن واجبك تجاه زوجتك وأولادك وغفلت عن أن الله تعالى أحل لك الطيبات لتأكلها لا لتمتنع عنها!

وعندما أشكل عليه أخو علاء بأنه - أي أمير المؤمنين (علیه السلام) - زهد في الدنيا «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ؟» وأنه - في معنى كلامه - اقتدى به! أجابه أمير المؤمنين ب«وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ» وهي رواية صريحة في الفرق بين عامة الناس وبين أئمة العدل، فإن أئمة العدل لو زهدوا في الدنيا حقاً لأمكن للفقراء أن يتحملوا مضاضة الفقر؛ إذ يجدون سيدهم يعيش مثلهم، أما لو لم يزهدوا فإن فقر الفقراء سيهيج بهم، ويتبيغ يعني يهيج ويتهيج، وهيجان الفقر يستلزم مفاسد عظمى؛ فإن من هاج به الفقر قد يتحول مسار حياته بأكمله، لذا تجده قد يسرق أو يرتشي أو يغشويخدع ويدلس أو قد يصاب بعقد نفسية واضطرابات روحية تجره إلى العدوان وإلى العنف الاجتماعي

ص: 69


1- نهج البلاغة: ص324-325.

والقسوة والطغيان.

ومن اللطيف أن نشير إلى أن (الهيام) ورد بالضم والفتح والكسر:

أما الهُيام - بالضم - كالجنون وقيل أشد العطش(1).

وأما الهِيام - بالكسر - فهو داء يصيب الابل عن بعض المياه(2).

وأما الهَيام بالفتح فهو الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد لِلِينه(3).

ومن المعنى الأول ما يقال: هام على وجهه إذا ضاع مثلاً، ويقال هام بها وشبه ذلك.

ب: سليمان النبي (علیه السلام) يأكل الشعير ويطعم الناس الحُوَّاري

كما أن من الشواهد على هذا الجمع في الجملة ما ورد من أن سليمان النبي (علیه السلام) كان يأكل الشعير ويطعم الناس الحُوَّاري، وفي الحديث: «وَإِنْ شِئْتَ نَبَّأْتُكَ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ (علیه السلام) مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ، كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيُطْعِمُ النَّاسَ الْحُوَّارَى وَكَانَ لِبَاسُهُ الشَّعْرَ وَكَانَ إِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ شَدَّ يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ فَلَا يَزَالُ قَائِماً يُصَلِّي حَتَّى يُصْبِحَ...»(4).

ولعل السر في ذلك أن القدرة توجب قوة شهوات النفس وتدعو إلى الطغيان فكان لا بد من تقييدها وإخضاعها للسيطرة الدائمة بوضع اللجام عليها، واللجام أمران:

الأول: الضغط على البدن بحرمانه من ملذات الطعام والشراب ونظائرهما.

الثاني: تزكية النفس بالعبادة والتهجد والتذلل إلى الله تعالى، فكلما ازداد

ص: 70


1- لسان العرب: ج12 ص627 مادة (هيم).
2- لسان العرب: ج12 ص627 مادة (هيم).
3- لسان العرب: ج12 ص626 مادة (هيم).
4- مكارم الأخلاق: ص448.

المرء قدرةً كان عليه أن يتعبد لله تعالى ويتذلل له أكثر وأن يضغط على ملذات الجسد أكثر فأكثر.

والحُوَّاري هو الدقيق الأبيض، ويمكن أن تكون النسخة هي (الحُوَار) والحُوَار هو ولد الناقة قبل أن يُفصل عنها فإذا فُصل عنها سمي الفصيل، ومن الواضح أن هذا طعام فاخر، فإن ولد الناقة أو البقرة أو الشاة مادام رضيعاً فإن لحمه طري جداً لذيذ حقاً(1) ولعل الظاهر المعنى الأول بقرينة المقابلة مع أكله (علیه السلام) الشعير.

ج: الإمام السجاد (علیه السلام) يقدم مائدة عامرة ويأكل الزيت والخل فقط!

وقد ورد عن الإمام السجاد (علیه السلام) أنه كان يأكل الزيت والخل، ويطعم الناس أطايب الأطعمة فقد جاء في الرواية:

(عَنِ الثُّمَالِيِّ قَالَ: لَمَّا دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ(علیهما السلام)دَعَا بِنُمْرُقَةٍ فَطُرِحَتْ فَقَعَدْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيتُ بِمَائِدَةٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا قَطُّ، فَقَالَ لِي: «كُلْ»، فَقُلْتُ: مَا لَكَ جُعلت فداك لَا تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: «إِنِّي صَائِمٌ»، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أُتِيَ بِخَلٍّ وَزَيْتٍ فَأَفْطَرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُؤْتَ بِشَيْ ءٍ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي قُرِّبَ إِلَيَّ) (2).

والنمرقة هي الوسادة، والغريب أنه (علیه السلام) قدّم لضيفه ما لذّ وطاب من الأطعمة لكنه (علیه السلام) كان لا يأكل إلا الخل والزيت!! مما يكشف عن اختلاف وظيفة القادة بالنسبة إلى أنفسهم وبالنسبة إلى الناس الوافدين عليهم.

د: الرسول (صلی الله علیه و آله): يضع التمر على الأرض إذ لا إناء في البيت!

وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَهْدَى إِلَى

ص: 71


1- وهو ما يسمى باللهجة الدارجة بالقوزي.
2- المحاسن: ج2 ص440.

رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) صَاعاً مِنْ رُطَبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) لِلْخَادِمِ الَّتِي جَاءَتْ بِهِ: ادْخُلِي فَانْظُرِي هَلْ تَجِدِينَ فِي الْبَيْتِ قَصْعَةً أَوْ طَبَقاً فَتَأْتِيَنِي بِهِ؟ فَدَخَلَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: مَا أَصَبْتُ قَصْعَةً وَلَا طَبَقاً، فَكَنَسَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) بِثَوْبِهِ مَكَاناً مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ لَهَا: ضَعِيهِ هَاهُنَا عَلَى الْحَضِيضِ»(1).

ومن الواضح أن الرسول (صلی الله علیه و آله) كان يعلم بأنه لا توجد قصعة(2) في البيت (وهي الغرفة) إلا أنه أمر الخادم أن تدخل فتبحث كي تتجلى هذه الحقيقة؛ حقيقة زهده في الدنيا وكونه صفر اليدين منها أكثر فأكثر.

كما أن في قوله: «ضَعِيهِ هَاهُنَا عَلَى الْحَضِيضِ» دلالة أخرى إذ كان من الممكن أن يقول (ضعيه على الأرض) لكن التعبير بالحضيض جاء لكي تعيش القوة المتخيلة حالة رسول الله » وزهده وإعراضه عن ملذات الدنيا ومستلزماتها بشكل أوضح وأجلى.

ه: الرسول (صلی الله علیه و آله) يضطجع على الخَصَفة وعلى التراب!

كما ورد: «فِي الْحَدِيثِ أَنَّ فلاناً قَالَ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي مَشْرَبَةِ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّهُ لَمُضْطَجِعٌ عَلَى خَصَفَةٍ(3) وَإِنَّ بَعْضَهُ (صلی الله علیه و آله) عَلَى التُّرَابِ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مَحْشُوَّةٌ لِيفاً»(4).وهذا يعني لأنه (صلی الله علیه و آله):

أولاً: لم يكن يمتلك فراشاً يبيت عليه فكان ينام على خَصَفة، ومن الواضح أن النوم على الجِلّة أو الكيس المصنوع من الخوص غير مريح أبداً.

ص: 72


1- التمحيص: ص48.
2- فلا توجد صينية ولا إناء ولا ماعون ولا غير ذلك في بيت رسول الله!.
3- جُلة تُعمل من الخُوص ليحفظ فيها التمر.
4- بحار الأنوار: ج63 ص320.

ثانياً: إن هذه الخصفة أيضاً لم تكن كافية وافية بالحاجة، لذا كان بعض بدنه المبارك على التراب.

ثالثاً: إن وسادته كانت غير مريحة أصلاً إذ كيف يكون حال وسادة محشوة ليفاً وكيف يكون غطاؤها؟ والظاهر أنها كانت وسادة الفقراء إن لم تكن للأشد فقراً منهم.

و: الأمير (علیه السلام) يمتنع عن أكل الفالوذج

وورد (عَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ قَالَ: أُتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) بِخِوَانِ فَالُوذَجٍ فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَنَظَرَ إِلَى صَفَائِهِ وَحُسْنِهِ فَوَجَأَ بِإِصْبَعِهِ فِيهِ حَتَّى بَلَغَ أَسْفَلَهُ ثُمَّ سَلَّهَا وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئاً تَلَمَّظَ إِصْبَعَهُ، وَقَالَ (علیه السلام): «إِنَّ الْحَلَالَ طَيِّبٌ وَمَا هُوَ بِحَرَامٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُعَوِّدَ نَفْسِي مَا لَمْ أُعَوِّدْهَا، ارْفَعُوهُ عَنِّي»، فَرَفَعُوه)(1).

والخِوان لعله يشبه الصينية أو الماعون، والفالوذج معرب فالوده، وهو أنواع(2)؛ ومنها: ما كان يُعمل من العسل والسمن وغيرهما، ومن الواضح أن البدن بحاجة إلى مختلف الأطعمة والفواكه والحلويات، أي المغذية والمقوية منها الغنية بالفيتامينات والبروتينات والألياف وغيرها، خاصة وأنه (علیه السلام) كان جمّ النشاط كثير الحركة إلى درجة مذهلة، وكان يقوم الليل ويدير شؤون العباد والبلاد بالنهار، ولكنه مع ذلك كله كان يُعرض عن ملاذ الأطعمة وجيد الغذاء فكان طعامه خبز الشعير والملح أو الخل أو شبه ذلك.

كما لعله تلمَّظ اصبعه (أي لحسه) كي لا يُتصوَّر أن هذا الطعام وأشباهه حرام أو أنه موضع شبهة فأكد فعله بقوله: «إِنَّ الْحَلَالَ طَيِّبٌ وَمَا هُوَ بِحَرَامٍ

ص: 73


1- المحاسن: ج2 ص409.
2- ومنها: فالوده (سيب) أي التفاح، مثلاً.

وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُعَوِّدَ نَفْسِي...» إلى قاعدة ذهبية في حياة القادة والزعماء والرؤساء والمسؤولين بل وعامة الناس وهي: لا تعود نفسك على ما لم تتعوده من الرخاء والراحة وصنوف المأكولات وأنواع الحلوة، فان الإنسان بطبعه ميال إلى الشهوات، المحلل منها للمؤمن أو المحرم لا سمح لله لغيره، وهي محللة بالذات لكن التعود عليها مذموم، وهي على القادة أمر ممنوع.

ز: أول أعمال الأمير (علیه السلام) عند التصدي للخلافة الظاهرية
اشارة

(عَنْ عَلِيٍّ (علیه السلام) قَالَ: لَمَّا رَجَعَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ أَمَرَ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيِّهَانِ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ فَقَالَ: «اجْمَعُوا النَّاسَ ثُمَّ انْظُرُوا مَا فِي بَيْتِ مَالِهِمْ وَاقْسِمُوا بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ»، فَوَجَدُوا نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ فَأَمَرَهُمْ يَقْعُدُونَ لِلنَّاسِ وَيُعطُونَهُمْ قَالَ وَأَخَذَ مِكْتَلَهُ وَمِسْحَاتَهُ ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى بِئْرِ الْمَلِكِ(1) يَعْمَلُ فِيهَا) (2).

والرواية صريحة في أن أول عملين قام (علیه السلام) بهما بعد تصديه للخلافة الظاهرية هما:

تقسيم كل ما في بيت المال، فوراً

أولاً: تقسيم بيت المال فوراً على عامة الناس، وفي ذلك أكبر عبرة وأعظم دروس القيادة السياسية للأمة وهي: أن لا يكنز المسؤولون المال، وأن لا يخزنوها في المصارف على شكل أرصدة، أو في الشركات الكبرى على شكل رأسمال، ولا أن يحولوها إلى ذهب وعمارات ومزارع ومتاجر وأسواق وغيرها، مدّعين

ص: 74


1- وَكَانَتْ بِئْرٌ لِتُبَعَ سُمِّيَتْ بِئْرُ الْمَلِكِ فَاسْتَخْرَجَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) وَغَرَسَ عَلَيْهَا النَّخْلَ فَهَذَا مِنْ عَدْلِهِ فِي الرَّعِيَّةِ وَقَسْمِهِ بِالسَّوِيَّةِ.
2- الخرائج والجرائح: ج1 ص186.

انها تشكل الخلفية والغطاء لنقد البلاد!

ولعل من أسرار ذلك: إن المال مفسِد للمسؤولين وأنهم قد يبدأون بداية صحيحة وبنية الاستثمار لصالح البلاد لكنهم - بالتدريج - يتحولون إلى ملّاك لتلك الأموال، ثم تنتقل منهم إلى أولادهم بالإرث.

هذا إضافة إلى أن ثروات البلاد هي ملك للناس أصلاً وليست ملكاً للحكام، وإلى أن العمل التجاري وشبهه يشغل المسؤولين عن المسؤولية الأهم وهي إشاعة العدل والأمن والاستقرار في البلاد.

العمل في البئر بالمكتلة والمسحاة!

ثانياً: مواصلة مسيرة الاكتفاء الذاتي في الحياة الشخصية وإدارة شؤونه الشخصية بحرفة أو عمل مهما بدا متواضعاً، وفي هذا بلاغ وابلاغ أن على المسؤول أن لا يعيش على بيت المال ولا يشكّل - حتى بمقدار راتبه - عبئاً على المسلمين، بل عليه أن يقوم بتأمين حياته من كدّ يده، وما أجمل ذلك وما أعظمه وما أصعبه، وهل وجدتم على مرّ التاريخ حاكماً يقوم بمثل ذلك؟

ولو طبق ملوك وحكام ورؤساء وقادة ومسؤولوا الدول الإسلامية هاتين القاعدتين، وعملوا على ضوء هاتين السيرتين العلويتين، فقط ولا غير(1)، لتغيّر وجه الأرض بل زال الفقر من البلاد وانتهت البطالة وولى التضخم إلى غير رجعة.

ح: زهد الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (علیها السلام) الذي زلزل أعماق اليهودي فأسلم

كما ورد في قصة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (علیه السلام) وسلمان المحمدي واليهودي ما يذهل، فقد ورد عن ابن عباس في حديث طويل عن قصة الإعرابي

ص: 75


1- فكيف بما لو عملوا بكل تعاليمه وبكافة مفاصل ومحطات سيرته ومسيرته؟

والضب أنه قال: (فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ ثُمَّ الْتَفَتَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ: «عَلِّمُوا الْأَعْرَابِيَّ سُوَراً مِنَ الْقُرْآنِ»، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ عُلِّمَ الْأَعْرَابِيُّ سُوَراً مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «هَلْ لَكَ شَيْ ءٌ مِنَ الْمَالِ؟» قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيّاً إِنَّا أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مَا فِيهِمْ أَفْقَرُ مِنِّي وَلَا أَقَلُّ مَالًا!

ثُمَّ الْتَفَتَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ يَحْمِلِ الْأَعْرَابِيَّ عَلَى نَاقَةٍ أَضْمَنْ لَهُ عَلَى اللَّهِ نَاقَةً مِنْ نُوقِ الْجَنَّةِ»، قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي عِنْدِي نَاقَةٌ حَمْرَاءُ عُشَرَاءُ وَهِيَ لِلْأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «يَا سَعْدُ تَفْخَرُ عَلَيْنَا بِنَاقَتِكَ أَلَا أَصِفُ لَكَ النَّاقَةَ الَّتِي نُعْطِيكَهَا بَدَلًا مِنْ نَاقَةِ الْأَعْرَابِيِّ» فَقَالَ: بَلَى فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! فَقَالَ »: «يَا سَعْدُ نَاقَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَحْمَرَ وَقَوَائِمُهَا مِنَ الْعَنْبَرِ وَوَبَرُهَا مِنَ الزَّعْفَرَانِ وَعَيْنَاهَا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَعُنُقُهَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ الْأَخْضَرِ وَسَنَامُهَا مِنَ الْكَافُورِ الْأَشْهَبِ وَذَقَنُهَا مِنَ الدُّرِّ وَخِطَامُهَا مِنَ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ عَلَيْهَا قُبَّةٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ يُرَى بَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا تَطِيرُ بِكَ فِي الْجَنَّةِ».

ثُمَّ الْتَفَتَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ يُتَوِّجِ الْأَعْرَابِيَّ أَضْمَنْ لَهُ عَلَى اللَّهِ تَاجَ التُّقَى» قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) وَقَالَ: «فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي وَمَا تَاجُ التُّقَى؟» فَذَكَرَ مِنْ صِفَتِهِ، قَالَ: فَنَزَعَ عَلِيٌّ (علیه السلام) عِمَامَتَهُ فَعَمَّمَ بِهَا الْأَعْرَابِيَّ. ثُمَّ الْتَفَتَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) فَقَالَ: «مَنْ يُزَوِّدِ الْأَعْرَابِيَّ وَأَضْمَنَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ زَادَ التَّقْوَى» قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي وَمَا زَادُ التَّقْوَى؟ قَالَ »: «يَا سَلْمَانُ إِذَا كَانَ آخِرُ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا لَقَّنَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ

ص: 76

قَوْلَ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ أَنْتَ قُلْتَهَا لَقِيتَنِي وَلَقِيتُكَ وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَقُلْهَا لَمْ تَلْقَنِي وَلَمْ أَلْقَكَ أَبَداً».

قَالَ: فَمَضَى سَلْمَانُ حَتَّى طَافَ تِسْعَةَ أَبْيَاتٍ مِنْ بُيُوتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئاً فَلَمَّا أَنْ وَلَّى رَاجِعاً نَظَرَ إِلَى حُجْرَةِ فَاطِمَةَ (علیها السلام) فَقَالَ إِنْ يَكُنْ خَيْرٌ فَمِنْ مَنْزِلِ فَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) فَقَرَعَ الْبَابَ فَأَجَابَتْهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ: «مَنْ بِالْبَابِ؟» فَقَالَ لَهَا: أَنَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ! فَقَالَتْ لَهُ: «يَا سَلْمَانُ وَمَا تَشَاءُ؟» فَشَرَحَ قِصَّةَ الْأَعْرَابِيِّ وَالضَّبِّ مَعَ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله).

قَالَتْ (علیها السلام) لَهُ: «يَا سَلْمَانُ وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً (صلی الله علیه و آله) بِالْحَقِّ نَبِيّاً إِنَّ لَنَا ثَلَاثاً مَا طَعِمْنَا وَإِنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ قَدْ اضْطَرَبَا عَلَيَّ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ ثُمَّ رَقَدَا كَأَنَّهُمَا فَرْخَانِ مَنْتُوفَانِ وَلَكِنْ لَا أَرُدُّ الْخَيْرَ إِذَا نَزَلَ الْخَيْرُ بِبَابِي، يَا سَلْمَانُ خُذْ دِرْعِي هَذَا ثُمَّ امْضِ بِهِ إِلَى شَمْعُونَ الْيَهُودِيِّ وَقُلْ لَهُ تَقُولُ لَكَ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ أَقْرِضْنِي عَلَيْهِ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ وَصَاعاً مِنْ شَعِيرٍ أَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى». قَالَ فَأَخَذَ سَلْمَانُ الدِّرْعَ ثُمَّ أَتَى بِهِ إِلَى شَمْعُونَ الْيَهُودِيِّ فَقَالَ لَهُ: يَا شَمْعُونُ هَذَا دِرْعُ فَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) تَقُولُ لَكَ أَقْرِضْنِي عَلَيْهِ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ وَصَاعاً مِنْ شَعِيرٍ أَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.قَالَ: فَأَخَذَ شَمْعُونُ الدِّرْعَ ثُمَّ جَعَلَ يُقَلِّبُهُ فِي كَفِّهِ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ بِالدُّمُوعِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا سَلْمَانُ هَذَا هُوَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا هَذَا الَّذِي أَخْبَرَنَا بِهِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَأَسْلَمَ وَ حَسُنَ إِسْلَامُه...»(1).

ومن المعروف أن اليهود كانوا على مر التاريخ كما قال تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ

ص: 77


1- بحار الأنوار: ج43 ص71 - 72.

قَالُوا إِنَّا نَصَارَى»(1) كما أن من المعروف شدة تشبثهم بالدنيا وحرصهم الشديد على جمع الأموال كما لا تجد نظيراً لهم في ذلك بين الأمم كلها.

ولكن اليهودي شمعون أهتز وجدانه وضميره من الأعماق عندما شاهد عظمة الزهراء (علیها السلام) بنت محمد (صلی الله علیه و آله) متجليةً في زهدٍ لا نظير له بين بنات قادة العالم كله مع أنه كان يعلم أنها كان من الممكن أن تعيش كبنات الملوك.

ومقتضى القاعدة: أن شمعون كان قد سمع أخبار النبي (صلی الله علیه و آله) ودرس براهين نبوته إلا أنه كان بحاجة إلى مشهد عملي تجسيدي يشكل الصدمة الأخيرة ليتحول إلى مسلم حقاً.. وهكذا كان.

وصدّقوني إن قادتنا ومسؤولينا لو ساروا في خط الزهراء وعلي(علیهما السلام)ومن قبل المصطفى محمد » وسائر المعصومين (صلی الله علیه و آله) ل«رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً»(2).

ص: 78


1- سورة المائدة: آية 82.
2- سورة النصر: آية 3.

الفقر والغنى في الميزان

الفقر مطلوب ذاتي للمؤمنين والغنى مرجوح ومطلوب طريقي

(3) الوجه الثالث: الفقر راجح ذاتاً والغنى مرجوح لولا طريقيته
اشارة

وربما يجمع بين طوائف الروايات التي تبدو مختلفة في تقييم الغنى والثروة والفقر والفاقة ب: أن الفقر بما هو هو وفي حد ذاته هو الأرجح ميزاناً وأنه الأفضل للمؤمن لو عقدت المقارنة بينه وبين الغنى، وأن الغنى مرجوح في حد ذاته، ولا يكون أرجح إلا لو وقع طريقاً لإغاثة الملهوف ونجدة المكروب وإعمار الخير وإعمار الدنيا والآخرة.

المحتملات الخمس في الخير والشر في كل أمر

وإذا أردنا تحديد المعادلة بشكل أدق فلا بد أن نستعين بالمعادلة الكلامية التالية وهي:

إن الشيء؛ إما أن يكون خيراً محضاً، وإما أن يكون شراً محضاً، وإما أن يكون خيره هو الغالب، أو يكون شره هو الغالب، أو يكون متساوي الطرفين.

الأول: فما هو خير محض، فمثل الإيمان والعدل والنبي والإمام (صلی الله علیه و آله).

الثاني: وما هو شر محض، فمثل الظلم والكفر.

الثالث: وما خيره غالب، فمثل الصدق؛ إذ يمكن أن يكون شراً لو أدى إلى قتل مؤمن أو هتك عِرض أو سرقة مال مثلاً.

ص: 79

الرابع: وما شره غالب، فمثل الكذب؛ إذ يمكن أن يكون خيراً كما لو أدى إلى إنقاذ مؤمن من يد ظالم جبار وعدو قهار.

الخامس: وما هو متساوي الطرفين، فمثل شرب الماء أو المشيء في الشارع في حد ذاته.

الفقر خيره غالب، والغنى شره غالب

والمستظهر، استناداً إلى عدد من الروايات الآتية: إن الفقر هو من قبيل ما خيره غالب، ولكنه قد يكون شراً بل شراً عظيماً إذا وقع مقدمة لشر أعظم كالكفر وقتل النفس المحترمة وشبههما، وإن الغنى هو من قبيل ما شره غالب، ولكنه يكون خيراً بل خيراً عظيماً إذا وقع مقدمة لحمل الكَلّ والعطاء في النائبة وصلة الرحم والاخوان وقضاء الحوائج وشبه ذلك وانه يكون هو الأرجح حينئذٍ من الفقر.

الروايات الدالة على وجه الجمع الثالث

وتدل على هذا الجمع مجموعة من الروايات الكريمة:

ومنها: قول رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) «الْفَقْرُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْغِنَى إِلَّا مَنْ حَمَلَ كَلًّا وَأَعْطَى فِي نَائِبَةٍ»(1).

وهو صريح في المقصود إذ حدَّدت الرواية الأصل الأولي ثم الاستثناء منه.

والكَلّ هو: الثقل ويطلق على العيال لأنهم، من الناحية المادية، ثقل على الإنسان كما يطلق على اليتيم أيضاً.

ومنها: قول الإمام الصادق (علیه السلام): «وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله): مَا أَحَدٌ يَوْمَ

ص: 80


1- التمحيص: ص49.

الْقِيَامَةُ غَنِيٌّ وَلَا فَقِيرٌ إِلَّا يَوَدُّ أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنْهَا إِلَّا الْقُوتَ»(1) والقوت ما يُتقوَّت به وما يمنحك القوة على أداء أعمالك فقط(2) فلا كماليات ولا جماليات، أو أن ذلك لما يَرَى من مقام الفقراء ولما سيشهده من أوزار الأغنياء.

الأصل في ضيق ذات اليد أنه حسن نظر من الله تعالى

ومما هو صريح في هذا المعنى أيضاً: قول أمير المؤمنين (علیه السلام): «مَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ حُسْنُ نَظَرٍ مِنَ اللَّهِ لَهُ فَقَدْ ضَيَّعَ مَأْمُولًا، وَمَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللَّهِ فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفاً»(3).

فالأصل في ضيق ذات اليد أنه حُسنُ نظرٍ من الله تعالى، وهو المأمول الذي ينبغي أن لا يُضيّع فانه عند ضيق ذات اليد يرجى الخير الكثير من الله تعالى وعند العسر والفاقة يكون مقام القرب منه جل اسمه.

وفي المقابل فإن الأصل في التوسعة على الإنسان أنه استدراج من الله تعالى لعبده للمعصية والطغيان، فهو المخوف حقاً وعلى أن الإنسان أن يحذر عند التوسعة عليه أشد الحذر من مآلات الأمر.

السر في ذلك: القدرة والثروة مدعاة للطغيان والقسوة!

والسر في ذلك واضح؛ فإن المال والثروة والشهرة والرئاسة وغيرها مدعاة للعجب والغرور والطغيان، قال تعالى: «إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى»(4) والقدرة والثروة مادة الشهوات والآثام والمعاصي والسيئات، عكس

ص: 81


1- التمحيص: ص49.
2- (ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام) أو (ما يؤكل ليمسك الرمق). مجمع البحرين:ج2 ص215.
3- تحف العقول عن آل الرسول (صلی الله علیه و آله): ص206.
4- سورة العلق: آية 6-7.

الفقر الذي يدعو الإنسان ليتقرب إلى الله تعالى أكثر فأكثر إذ يستشعر حاجته إلى الله تعالى بشكل أعمق وأوضح وأكبر.

ما أنزلت الدنيا من نفسي إلا بمنزلة المَيتة

ومما يفيد هذا الجمع أيضاً ما ور د عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «قَالَ يَا حَفْصُ مَا أَنْزَلْتُ الدُّنْيَا مِنْ نَفْسِي إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ إِذَا اضْطُرِرْتُ إِلَيْهَا أَكَلْتُ مِنْهَا»(1).

والمَيتة بفتح الميم هي ما يموت من الحيوان حتف أنفه، أما المِيتة بكسر الميم فهو الحالة والهيئة، تقول مات مِيتة سَوء أي بحالة سيئة ووضع مشؤوم كما لو مات وهو على معصية من معاصي الله تعالى - لا سمح الله -، أو مات وهو في شدة الكرب وقسوة آلام النزع والاحتضار.

وقد قيل: بأن الفرق بين ميتة الإنسان وميتة الحيوان هو شدة واحدة فقط، فالمَيتة بفتح الميم بلا تشديد هي ميتة الحيوان، والميّت والميّتة بتشديد الياء هي ميتة الإنسان.

والرواية صريحة في أن الدنيا بالنسبة إلى المؤمن هي بمنزلة المَيتة التي لا يؤخذ منها ولا ينال ويؤكل منها إلا لدى الاضطرار وبقدر الضرورة، ومن المهم أن ندرك أن الدنيا تشمل المال والثروة والشهرة والرياسة والموقع الاجتماعي وغير ذلك.

ويمكننا تقريب العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الإنسان والدنيا ب: من اضطر لتنظيف بالوعة قذرة، بل بمن اضطر لنزح بئر المرحاض، فإنه لا ريب يتقزز من ذلك أشد التقزز وإن كان مضطراً لذلك أشد الاضطرار أو كان عمله ذلك وكان يسترزق منه اضطراراً، فهل تراه يلتذ بذلك؟ أم تراه في حالة نفور وامتعاض وتقزز وحزن وترح مما اضطر إلى لمسه من القاذورات واستشمامه من الروائح؟

ص: 82


1- وسائل الشيعة: ج24 ص103.
السر في التحذير من الدنيا

ولعل من وجوه الحكمة في أن الروايات الشريفة شددت على وصف الدنيا بقبيح الصفات، وعلى تحذير المؤمن منها أشد الحذر حتى ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الدنيا جيفة وطالبها كلاب»(1): أن الدنيا بطبعها خدّاعة غرارة تفتن بل تسحر من يعيش فيها أو يقترب منها أو يلامسها بوجه، وأن طبيعة الدنيا هي أنها كالمغناطيس الذي كلما اقتربت قطعة الحديد منه ازدادت قوة وسرعة جاذبيتهله، فلاحظ الشهرة أو الرياسة مثلاً فكلما ازداد الشخص قوة ازداد تعطشاً لمزيد من القدرة، وهكذا الشهرة والمال حتى ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ دُنْيَا وَ طَالِبُ عِلْمٍ فَمَنِ اقْتَصَرَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ سَلِمَ وَ مَنْ تَنَاوَلَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا هَلَكَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ أَوْ يُرَاجِعَ وَ مَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِهِ وَ عَمِلَ بِعِلْمِهِ نَجَا وَ مَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا فَهِيَ حَظُّهُ»(2).

الدنيا رمال متحركة ومستنقعات خطرة

ولعل مما يقرب فتنة الدنيا للناس ووقوعهم أسرى، ومن ثم صرعى، في شباكها كلما اقتربوا منها أكثر فأكثر: الرمال المتحركة إذا علق بها الإنسان فإن الرمال الطبيعية متماسكة لذلك لا يغوص فيها الشخص، أما الرمال المتحركة فهي رمال ناعمة هشة غير متماسكة فإذا وقف الإنسان عليها فإنها تسحبه للأسفل لأنها خفيفة غير متماسكة والإنسان ثقيل فيبدأ يغوص فيها تدريجياً.. إلى الساق فالركبة، ثم الصدر فالرقبة، ثم الرأس حتى يقبر وهو حي.

والغريب أن من يعلق في الرمال المتحركة فإنه كلما ازداد حركة وسعياً لإنقاذ

ص: 83


1- مصباح الشريعة: ص137.
2- الكافي: ج1 ص46.

نفسه منها ازداد غوصاً بالرمال(1)!

ولأن الدنيا هي كذلك، لذلك وردت فيها الروايات الآنفة الذكر كما ورد في الحديث القدسي أيضاً: «خُذْ مِنَ الدُّنْيَا خِفّاً مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ وَلَا تَدَّخِرْ شَيْئاً لِغَدٍ وَدُمْ عَلَى ذِكْرِي»(2) والخِف - بكسر الخاء - أي الخفيف، و«لَا تَدَّخِرْ شَيْئاً لِغَدٍ» لأن الادّخار هو من مظاهر، بل ومن أسباب التعلق بالدنيا كما أنه من علائم ضعف التوكل على الله؛ بل عليك أن تزهد في الدنيا حتى بهذا المقدار.

وفي المقابل: الغني المعطاء البذول أفضل من الفقر والموصول

وفي مقابل ذلك كله: فإن الغنى لو وقع طريقاً إلى العمل الصالح وإعمار الآخرة كان ذلك هو الاستثناء الوحيد من ذلك الكلي، بل كان الغني المستعين حقاً بغناه على صلة الرحم وبر الإخوان وكفالة الأيتام وبناء المساجد والمكتبات والمياتم والحسينيات ونظائرها من أعمال الخير، خيراً من الفقير.

وتدل على ذلك الروايات العديدة:ومنها: ما ورد في تفسير القمّيّ: (ذَكَرَ رَجُلٌ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) الْأَغْنِيَاءَ فَوَقَعَ فِيهِمْ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام): «اسْكُتْ فَإِنَّ الْغَنِيَّ إِذَا كَانَ وَصُولًا لِرَحِمِهِ وَبَارّاً بِإِخْوَانِهِ أَضْعَفَ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ ضِعْفَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ»(3)»)(4).

ص: 84


1- وقيل إن أفضل طريقة لكي لا يغوص الشخص في هذه الرمال هي أن ينام عليها بهدوء، على ظهره باسطاً يديه ورجليه وينتظر حتى يأتيه المدد والفرج!
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص48.
3- سورة سبأ: آية 37.
4- تفسير القمي: ج2 ص203.

كما نقلنا من قبل قوله (علیه السلام): «الْفَقْرُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْغِنَى إِلَّا مَنْ حَمَلَ كَلًّا وَأَعْطَى فِي نَائِبَةٍ».

ثنائي الكُره الذاتي للمال والمطلوبية الطريقية

وبذلك تتكامل لدينا الصورة في موقفنا تجاه الثروة والغنى وكيف يجب أن نوجه الناس؟! فإن الموقف هو:

أ - أن ننظر إلى الدنيا والمال والشهرة والرياسة وأشباهها كما ننظر إلى المَيتة القذرة المنتنة، وكما ننظر إلى عفطة عنز منكرة، وأن نخاف منها ومن فتنتها ومزالقها أشد الخوف ونحذرها أشد الحذر.

ب - ولكن وفي الوقت نفسه علينا أن نشجع الناس ليكونوا أغنياء وأثرياء طريقياً، أي أن يسعوا للحصول على المال بل والمال الكثير لكي يبذلوه وعلى نطاق واسع أيضاً في سبيل الله تعالى.

فهذا الثنائي المزيج من الكُره الموضوعي والذاتي للأموال، ومن الرغبة الشديدة في الوصول إلى الغنى والثروة طريقياً لأجل عون العباد وإعمار البلاد وبناء المؤسسات الدينية وشبه ذلك، هو الذي يصنع الإنسان المتكامل فإن من يكره الأموال لا يعقل أن يرتشي أو يسرق أو يغش ويخدع ويرابي لأجل حفنة منها مهما كثرت، ولكنه في الوقت نفسه إذا كان يمتلك تجارة طائلة أو أراضي زراعية واسعة أو مواشي كثيرة تدر عليه الأموال من الحلال فإنه سينفق منها بلا حساب في سبيل الله وفي طريق خدمة المجتمع وإعمار البلاد وهداية العباد.

ولقد عرفتُ بعض الأخيار ممن اجتمعت فيه الخصلتان معاً، فوجدته شديد الكرم كثير الإنفاق حتى صدق عليه أنه ممن ينفق ولا يبالي، ولكنه في قرارة نفسه كان ممن يكره الدنيا والأموال والثروة، وإنما اتخذها وسيلة لآخرته ولا غير.

ص: 85

من شواهد الجمع: معنى الزهد

ولنختم البحث هذا بقوله (صلی الله علیه و آله): «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا»(1) يَعْنِي الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى: يَا مُوسَى إِنَّهُ لَنْ يَتَزَيَّنَ الْمُتَزَيِّنُونَ بِزِينَةٍ أَزْيَنَ فِي عَيْنَيَّ مِثْلَ الزُّهْدِ»(2) ولو كانت الدنيا في حد ذاتها هي الأفضل وكان الغنى للمؤمن هو الأحب إلى الله تعالى لكان ينبغي القول بعكس ذلك.

والزهد هو كما قيل: (ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد ألا يملكك شيء) وقول الإمام علي (علیه السلام): «الزُّهْدُ كُلُّهُ فِي كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ»(3) فَمَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَهُوَ الزَّاهِدُ»(4) وبذلك، يجمع أيضاً بين عدد من الروايات فان الثري وإن كان ذا أموال طائلة إلا أنه إذا كان زاهداً فيها ولم تملكه فإنه ينفق منها بسخاء، إذ هو المالك لها والحاكم عليها والمهيمن والأمير وليست هي الحاكمة عليه وهو العبد الذليل الأسير

ص: 86


1- سورة مريم: آية 12.
2- مكارم الأخلاق: ص446.
3- سورة الحديد: آية 23.
4- بحار الأنوار: ج75 ص70.

فقه الغايات وفقه المآلات وهندسة القيادة الإسلامية لاتجاهات الغنى والفقر

(4) الوجه الرابع: الروايات صادرة بنحو القضايا الخارجية أو الحقيقية أو بالاختلاف
اشارة

(القضية الحقيقية) هي: التي يثبت فيها المحمول والحكم الشرعي لذات الموضوع بما هو كلي طبيعي بحيث لا يكون ثبوته له مرتهناً بزمان دون زمان أو مكان دون مكان أو بظرف طارئ، ولذلك ورد «حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ حَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

أما (القضية الخارجية) فهي: تلك المرتهنة بظرف زماني خاص أو مكاني خاص أو ظروف طارئة وهي تعني الحكم المؤقت الثابت للموضوع لا بما هو هو، بل بما هو مقيد بزمان أو مكان أو حالة خاصة وظرف معين(2).

ومن ذلك: ما ورد من نهي رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن أكل الحمر الأهلية في حرب خيبر(3) وما ورد في رواية أخرى من أن ذلك كان لحاجة الجيش الإسلامي إلى التنقل عليها.

(عن أبي جعفر (علیه السلام) قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ أَكْلِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَقَالَ (علیه السلام):

ص: 87


1- الكافي: ج1 ص58.
2- والتعريف تقريبي وقد ذكرنا تحديده وإطلاقاته في بعض بحوث الأصول والفقه السابقة ومنها كتاب (المعاريض والتورية).
3- راجع الدرس 222 من دروس الاجتهاد والتقليد على موقع التقى الثقافية: m-alshirazi.com

«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) عَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ حَمُولَةً لِلنَّاسِ وَإِنَّمَا الْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ»(1).

ومن ذلك: ما ورد من أن بعض الأئمة الأطهار (صلی الله علیه و آله) قد أباحوا الخمس للشيعة في بعض السنين.

ومن ذلك: عموم الأحكام الولائية (الولوية) وغيرها.ومن ذلك أيضاً: ما ورد من ذم بعض البلاد وأهلها كالكوفة وأصفهان ومصر والشام وغيرها.

فإن هذه الروايات - على فرض تماميتها سنداً ودلالة، صدوراً وصادراً ومتناً ومضموناً - ليست إلا قضايا خارجية وليست حقيقية، أي أن الذم كان متوجهاً لأهل الكوفة أو أهل الشام أو مصر مثلاً في زمن صدور النص لاتصافهم بصفات سلبية أو لتقاعسهم عن أداء واجب رسالي والامتثال لأمر ديني إلهي، فما داموا كذلك فالذم ثابت، لكنهم إذ غيروا ما بأنفسهم غيرّ الله ما بهم وانقلبوا من طالحين إلى صالحين.

فمثلاً: كان أهل أصفهان(2) فترة من الزمن معروفين بالنصب لأهل البيت (صلی الله علیه و آله) فورد الذم عليهم لذلك، ثم إنهم تحولوا إلى شيعة موالين بل من خيرة أولياء أهل البيت (صلی الله علیه و آله) فاستحقوا بذلك كل الثناء والمدح.

وكذلك كان حال أهل الكوفة، على أن بعض المحققين قام بدراسة الروايات الذامة لأهل الكوفة فوصل إلى أنها مجعولة وأن الأمويين هم الذين دسّوا هذه الروايات ضد أهل الكوفة لتسقيطهم لأنهم كانوا هم حاضنة التشيع.

وعلى أي، فلو وصل المحقق المؤرخ إلى ذلك فهو، وإلا فالذم إنما هو بنحو

ص: 88


1- علل الشرائع: ج2 ص563.
2- أي معظمهم أو الكثير منهم.

القضية الخارجية، ويتضح ذلك أكثر بملاحظة حالة ذم الأفراد فإن الشخص إذا كان طالحاً ظالماً أو مرتشياً مرابياً استحق الذم الشديد ثم إنه إذا تاب وأصلح «فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»(1) واستحق صنوف المدح، فلا المدح للأشخاص على نحو القضية الحقيقية ولا الذم لهم، وكذلك حال الشعوب والبلدان فلا المدح لهم ولا الذم على نحو الحقيقية، بل ذلك تابع لحالاتهم وصفاتهم ومدى اضطلاعهم بأداء مسؤولياتهم وقد قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»(2).

تفسير روايات الغنى والفقر بانها من القضايا الخارجية

والغنى والفقر من هذا القبيل تماماً، فقد يكون الفقر هو الأصلح والمطلوب للشيعة أو لهذا الشيعي فندفعه نحوه ونحضه عليه، وقد يكون الغنى هو الأصلح والمطلوب فندفعه نحوه.

وبذلك يمكن تفسير الكثير من الروايات المادحة أو الذامة بكونها من القضايا الخارجية، أو بكون بعضها من القضايا الحقيقية، وبعضها من القضايا الخارجية.فهذا الوجه يرجع في واقعه إلى أحد وجوه ثلاثة على سبيل البدل:

الوجه الأول: إن كل الروايات صادرة بنحو القضية الخارجية، ومرجع هذا إلى: أنه لا أصل في المقام، بل الأمر يدور مدار الظروف والوجوه والاعتبارات.

الوجه الثاني: إن بعض الروايات صادرة بنحو القضية الحقيقية، وبعضها الآخر بنحو القضية الخارجية، ومرجع هذا إلى: ثبوت الأصل في المقام وهو القضية الحقيقية، والاستثناء وهو القضية الخارجية، لكن هل الغنى هو المطلوب

ص: 89


1- سورة الشورى: 40.
2- سورة الرعد: 11.

بنحو القضية الحقيقية ليكون الفقر مطلوباً بنحو القضية الخارجية أو العكس هو الصحيح؟!

الوجه الثالث: إنها جميعاً على نحو القضية الحقيقية، لكن على موضوعين بحثيتيتين تقييديتين وذلك مثل الصلاة للمسافر والحاضر.

ومنها: «مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَاباً»(1) و «أَكْرَمُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَطْلُبَ دِرْهَماً فَلَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ»، قال عبد الله بن سنان: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام): «هَذَا الْكَلَامَ وَعِنْدِي مِائَةُ أَلْفٍ وَأَنَا الْيَوْمَ مَا أَمْلِكُ دِرْهَماً»(2).

وفي المقابل «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ»(3) و«الْفَقْرُ سَوَادُ الْوَجْهِ فِي الدَّارَيْنِ»(4) وهل يعقل أن يقال: «مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَاباً»، ويقال: إنه «سَوَادُ الْوَجْهِ فِي الدَّارَيْنِ» و(كاد أن يكون كفراً) لدى التفسير بالقضية الحقيقية لكل منهما. فإذا فسرنا بعضها بالحقيقية وبعضها بالخارجية أو فسرناها جميعاً بالخارجية، ارتفع توهم التعارض والتناقض، والوجه الأول(5) هو الأرجح.

ويدل على وجه الجمع هذا: قول الإمام الصادق (علیه السلام): «أُخْبِرُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) كَانَ فِي زَمَانٍ مُقْفِرٍ جَدْبٍ، فَأَمَّا إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا فَأَحَقُّ أَهْلِهَا بِهَا أَبْرَارُهَا لَا فُجَّارُهَا، وَمُؤْمِنُوهَا لَا مُنَافِقُوهَا، وَمُسْلِمُوهَا لَا كُفَّارُهَا، فَمَا أَنْكَرْتَ يَا ثَوْرِيُّ، فَوَ اللَّهِ، إِنَّنِي لَمَعَ مَا تَرَى، مَا أَتَى عَلَيَّ مُذْ عَقَلْتُ صَبَاحٌ وَلَا مَسَاءٌ وَلِلَّهِ فِي مَالِي

ص: 90


1- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكمة 112.
2- التمحيص: ص45.
3- الكافي: ج2 ص307.
4- عوالي اللئالي: ج1 ص40.
5- بعضها بنحو القضية الحقيقية وبعضها بنحو القضية الخارجية.

حَقٌّ أَمَرَنِي أَنْ أَضَعَهُ مَوْضِعاً إِلَّا وَضَعْتُه»(1).فالفقر والعيش عيشة الفقراء حَسَنٌ في زمان ومكان، وغير مطلوب في زمان أو مكان آخر، فإذا عاش الإنسان مثلاً في العراق وسط ملايين الفقراء والأرامل والأيتام فعليه أن يعيش مثلهم، وإذا عاش فرضاً في طوكيو أو في وادي السيليكون واشتغل في تجارة البرمجيات معهم فرضاً فليعش عيشة الأغنياء من غير أن ينسى الفقراء.

معنى رواية «وَلَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ لَهُ مِائَةُ أَلْفٍ»

ويمكن أن تفسر بهذا الوجه - القضية الخارجية - الروايات الهامة التالية التي تحيّر البعض في معناها، واضطر البعض - غفلةً - إلى طرحها حيث لم يجدوا مخرجاً.

والروايات هي: «وَلَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ لَهُ مِائَةُ أَلْفٍ وَلَا خَمْسُونَ أَلْفاً وَلَا أَرْبَعُونَ أَلْفاً وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ ثَلَاثُونَ أَلْفاً لَقُلْتُ! وَمَا جَمَعَ رَجُلٌ قَطُّ عَشَرَةَ آلَافٍ مِنْ حِلِّهَا»(2).

و: «مَا أَعْطَى اللَّهُ عَبْداً ثَلَاثِينَ أَلْفاً وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ خَيْراً»(3) و «مَا جَمَعَ رَجُلٌ قَطُّ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ حِلٍّ وَقَدْ يَجْمَعُهَا لِأَقْوَامٍ إِذَا أُعْطِيَ الْقُوتَ وَرُزِقَ الْعَمَلَ فَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ»(4).

موقع القائد: الموازنة بين شتى العوامل المتزاحمة المتدافعة

وتوضيح المعنى المراد من هذه الروايات يعتمد على تمهيد مقدمة هامة، وهي:

ص: 91


1- الكافي: ج5 ص65.
2- بحار الأنوار: ج69 ص66.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص328.
4- تهذيب الأحكام: ج6 ص328.

إن موقع القائد يختلف عن موقع المفتي، فالمفتي شأنه التصدي لبيان القضايا الحقيقية.

أما القائد والولي للأمر - كالإمام أو كالأب وكرئيس النقابة أو الدولة في حدود ولايته التي منحها له الناس في النظم الانتخابية أو على حسب التراضي والتوافق والتعاقد بين الأطراف في مثل رئيس الشركة بل وفي مثل مرجع التقليد والقيادة الإسلامية حسبما فصلناه في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) - فمهمته: التصدي للقضايا الخارجية، بمعنى أن يلاحظ مختلف الكبريات والعناوين الأولية والثانوية التي يمكن أن تنطبق على صغرى المقام والحالة الخارجية المعينة، وأن يقوم بدراسة مختلف أنواع التزاحم التي تتدافع بينها وتتجاذب هذه المفردة أو تلك، ثم الموازنة العلمية الدقيقة بينها، وصولاً لوضع الحل وإصدار الحكم والرأي العملي المتطابق مع خصوصيات الحادثة الواقعة، فمهمته إذاً - وبعبارة أخرى - هي:

التقييم والموازنة بين مختلف العوامل الدخيلة في تحديد الموقف الشرعي من الحادثة الواقعة والقضية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الحقوقية المعينة.

مسؤولية شورى الفقهاء والقادة: تحديد الاتجاه العام للأمة ولشرائح المجتمع

ولنضرب لذلك عدداً من الأمثلة لتصدي قادة الأمة لتحديد الاتجاه العام للامة وشرائح المجتمع:

الأول: هل يجب دفع الشباب المؤمن بشكل عام - في الدول الإسلامية وغيرها - باتجاه تعلم الطب؟ أو باتجاه الهندسة أو المحاماة؟ أو باتجاه التجارة أو الزراعة أو الصناعة؟!

ص: 92

الثاني: هل علينا أن نشجع على الهجرة إلى الغرب أو نثبط عنها؟!

الثالث: هل اللازم توجيه الشعب بشكل عام للاستثمار في الزراعة أو في الصناعة؟ وفي أي نوع من أنواعها؟!

الرابع: هل نحرِّض الطلبة الكرام بشكل عام على التخصص في الفقه أو الأصول أو التفسير أو الكلام أو السيرة أو الأخلاق والروحانيات أو غير ذلك؟!

وقد يكون الجواب: إن لكل فرد خصوصيته الخاصة وحالته وظروفه التي لا بد على ضوئها من اتخاذ القرار السليم، وذلك صحيح لكن الكلام الآن ليس على مستوى الأفراد بل على صعيد الشعب ثم الأمة كلها؛ وذلك بالضبط هو مسؤولية القائد أو شورى الفقهاء والقادة: دراسة مجمل الظروف الموضوعية للبلاد واحتياجاتها وللوضع الإقليمي والدولي وتحديات الحاضر والمستقبل.

ثم وعلى ضوء كل تلك المعطيات يجب تشجيع الشباب (بل والتخطيط لذلك ودراسة السبل ووضع الآليات المناسبة لتحقيق ذلك) للاتجاه نحو الصناعة لا الزراعة أو العكس، أو نحو الاستثمار - بشكل أساسي - في البرمجيات والتكنولوجيا الرفيعة لا الصناعات الثقيلة أو العكس، أو نحو التخصص في العلوم الإنسانية لا الفيزياء والكيمياء أو العكس.

وتبقى مع ذلك لبعض الأفراد خصوصيتهم الخاصة التي تُلزمنا بتوجيههم بما يتناسب مع كفاءاتهم وطاقاتهم الفكرية والنفسية وظروفهم العائلية وغيرها مما قد يناسب أن يدفعوا باتجاه حقل معين يغاير اتجاه التيار العام.

ومن الضروري الإشارة ههنا إلى: أن هندسة الاتجاه العام للأمة يقع على عاتق المراجع والقادة بالتشاور المكثف مع الخبراء، أما هندسة اتجاه وتخصص هذا الشخص أو ذاك فتقع عهدتها إضافة إلى الشخص نفسه على عاتق المشرفين

ص: 93

والموجهين التربويين في المدارس والكليات، وأيضاً الآباء والأمهات والمستشارين الشخصيين.

توجيه حركة المجتمع باتجاه الثراء العريض أو الزهد والتقشف

وأما بالنسبة إلى الفقر أو الغنى، فالأمر يقع كذلك بعهدة القادة والمسؤولين والموجهين الكبار أن يوجهوا حركة المجتمع باتجاه الثراء العريض والاستثمار المتصاعد للأموال أو باتجاه الزهد والتقشف والاكتفاء بالكفاف، وذلك أيضاً على ضوء معطيات المرحلة:

فإذا كانت حاجة البلاد ماسة لاستنهاض شامل في الصناعات الصغيرة ليرتفع المستوى العام للأمة، وجب التشجيع نحوها والتزهيد في تجميع وتركيز الرساميل الضخمة، أو العكس فبالعكس.ولو كانت الحاجة ماسة إلى نهضة زراعية، أو - على العكس - كانت التحديات تفرض الاستثمار الأكبر في النهضة الصناعية أو العمرانية أو المعرفية أو نظائرها وجب ذلك من غير أن ينفي ذلك ضرورة فسح هامش متحرك لسائر الحقول والذي يخضع أيضاً لدراسة مكثفة من القادة والمسؤولين.

والهجرة أيضاً كذلك، على حسب ظروف البلاد والبلاد الأخرى المهاجَر إليها، ومدى فاعلية الشباب وحصانتهم، وهل يتحولون عندما يهاجرون إلى مشاعل نور في تلك البلاد أو انهم ينقلبون إلى شخصيات مشوهة زائفة؟! وهل المهاجرون عادة أو غالباً يستثمرون الحريات هناك وآفاق العلم والمعرفة للتأثير في ساسة أو سياسة تلك البلاد أو للتزود العلمي والحصول على الخبرات والكفاءات الميدانية الضرورية لاستنهاض بلادهم عندما يرجعون إليها؟! أو يكونون بدل أن يكونوا فاعلين منفعلين، وبدل أن يكتسبوا النافع ويتجنبوا الضار تراهم يعكسون

ص: 94

فلا يأخذون منهم إلا سيء صفاتهم ورذيل أفعالهم؟ وهكذا وهلم جرا.

وفي شأن الحوزة العلمية، لا بد على القادة والموجهين من دراسة نقاط الفراغ ومواطن الضعف فلربما أصيب حقل بالتخمة من كثرة الأساتذة والكتابات، وعانى حقل آخر كالكلام والتفسير من الضمور والجدب في الدراسات والمقالات والدروس والبحوث، أو العكس، وهكذا وعلى ضوء ذلك يجب إعادة التوازن بالتوجيه نحو الحقول المهجورة أو الضعيفة أو الهشة.

فلسفة رواية تحديد الثروات بسقف منخفض كمائة ألف أو عشرة آلاف

والذي قد يستظهر: إن ظروف الإمامين الباقرين(علیهما السلام)- وهما اللذان صدرت منهما روايات المائة ألف وصولاً للعشرة آلاف - كانت مختلفة، فكان اللازم في بعض الظروف توجيه الشيعة للاتجاه نحو الاستثمار الكبير في التجارة ولذا وردت روايات عديدة عنهما(علیهما السلام)تشجع الشيعة على التجارة، بل وترشدهم ميدانياً إلى المجالات أحياناً وإلى البلاد التي تكون فيها نسبة الأرباح عالية كمصر في بعض تلك الفترات أحياناً أخرى، وقد نقل السيد الوالد (رحمة الله) العديد من تلك الروايات في كتاب (المال أخذاً وعطاءً وصرفاً).

وكانت الظروف أحياناً قاسية والحكومات شديدة الحساسية تجاه الشيعة والأثرياء منهم، وكان وضع عامة الشيعة اقتصادياً مزرياً لذا ورد التوجيه، بحكم ولائي قيادي، بتوزيع الأموال على الناس وعدم تركيز الثروات بيد أقلية معينة، وذلك لجهات:

الأولى: النهوض بالوضع الشيعي العام، بشكل هادئ متدرج.

الثانية: الحيلولة دون تحسس السلطات الجائرة تجاه الأسر الشيعية الثرية أو

ص: 95

الأثرياء منهم كي لا يتعرضوا للمطاردة والسجن أو مصادرة الأموال أو شبه ذلك، فكان أفضل خيار هو توجيههم لتفتيت الثروة بتوزيعها على عامة الشيعة فينهض عامة الشيعة من جهة ولا تبقى بأيدي تجارهم إلا مبالغ طفيفة لا تستدعي حساسية السلطات.الثالثة: إنه عندما تتحسس السلطات تجاه أشخاص وشخصيات فإنها كثيراً ما تسعى - في اتجاه عكس الاتجاه السابق المذكور في النقطة الثانية - إلى احتوائهم واستدراجهم وتحويلهم إلى أذرع وعملاء أو حتى جواسيس، وفي مثل هذه الظروف يكون الأسلم العزلة والابتعاد عن الأضواء وعن البروز والابتعاد - من جملة ذلك - عن الثراء العريض.

ولقد شهدنا زمان صدام أن التركيز كان كبيراً على التجار، وكانت النتيجة أن التاجر لا بد له من أن يتعاون مع الأمن والاستخبارات وأن ينمّ على هذا ويخبر عن ذاك ويتجسّس على آخر كي يسلم منهم أو كي يسمحوا له بالاستيراد والتصدير أو إجراء العقود مع مختلف الجهات، فكان الأسلم للدين والدنيا معاً أن ينسحب التاجر من حقل التجارة ويوزع ثروته على عامة الفقراء ويعيش عيشتهم كي ينجو بدينه ويسلم في دنياه أيضاً، وكذلك فعل الكثير من التجار الأخيار أو هاجروا من البلاد، ومن بقي اضطر إلا من عصمه الله للتعاون والرضوخ.

ولعل بعض أزمنة الإمامين الصادقين(علیهما السلام)كانت من قبيل الحالة الثالثة وبعضها كانت من قبيل الحالة الثانية، أو الأولى.

وعلى حسب ذلك كله وجب التشجيع نحو الغنى والثراء أو نحو الفقر والزهد وكان كل منهما بعد عملية الموازنة بين الأرباح والخسائر العامة للأمة وللشخص نفسه، دينا ودنياً وآخرة.

ص: 96

ومما لعله يشهد لهذا الوجه: اختلاف الأرقام في الروايات من مائة ألف إلى خمسين فثلاثين فعشرة آلاف مما يكشف عن أن القضية خارجية وليست حقيقية، وإلا لما كان من المعقول التذبذب في الأرقام، ولما كان لذلك وجه سالم عن الإشكال، والله العالم بحقيقة الحال.

ص: 97

المجاهدون والنهضويون في مرحلة بناء الأمة

(5) الوجه الخامس: التقشف في مرحلة النهضة وبناء الأمة
اشارة

هناك وجه آخر من وجوه الجمع قد يصلح لحل معضلة التعارض بين بعض الروايات كما يعطي رؤية أكثر وضوحاً للموقف الإسلامي تجاه الثروة والغنى أو الفقر والفاقة وهو:

إن التقشف والزهد والعيش عيشةَ الفقراء مطلوب من عامة الناس أو من أكثريتهم(1) إذا كانت الأمة في حالة النهضة الشاملة: النهضة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والفكرية والثقافية والعسكرية وغيرها، وحينئذٍ يكون المطلوب من الجميع تجنيد كافة الطاقات والإمكانات والثروات لاستنهاض الوضع العام كلما اقتضت النهضة ذلك، وعليهم عدم تكديس الثروات ولا الانشغال بالماديات والكماليات والجماليات وهوامش الحياة؛ وذلك لأن كل ذلك يشكل عائقاً أمام حركة الأمة السريعة الشاملة نحو بناء حضارة متكاملة.

والحاصل: إن الفقر مطلوب طريقي، بل قد يقال: بأن مرجع هذا إلى تشخيص صغرى القضية الخارجية، فتأمل.

وحيث كان الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) في حالة نهضة شاملة إذ كان في طور تشييد دعائم دين سماوي خالد، وفي مرحلة بناء أمة وحضارة لذلك دفع الأمة

ص: 98


1- أو من شرائح واسعة، وذلك على حسب أن النهضة تتوقف على مساهمة الجميع أو الأكثرية أو مجرد شرائح واسعة من المجتمع.

الإسلامية دفعاً لصب كافة الطاقات في طريق هذا الهدف الأسمى وعدم الانشغال بجمع الأموال وتوافه الحياة بل وحتى الكماليات كلما اصطدم ذلك بهذا المشروع السماوي العظيم.

ولعله يمكن بهذا الوجه تفسير مثل قوله (صلی الله علیه و آله): «الْفَقْرُ فَخْرِي...» وقول الإمام الصادق (علیه السلام): «الْفَقْرُ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلُ الشَّهَادَةِ»(1) و«كُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إِيمَاناً ازْدَادَ ضِيقاً فِي مَعِيشَتِهِ» و«فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَاباً»، فتأمل!

ولعل لذلك لم يقسِّم (صلی الله علیه و آله) الثروات الكبرى التي نالها في معركة حُنين على المسلمين بل قسمها على المؤلفة قلوبهم، حتى ضج المسلمون بالاستنكار ودهشوا لذلك واعترض الكثيرون منهم فقال رسول الله » لهم: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ أَمْرٍ فَأَجِيبُونِي عَنْهُ» فَقَالُوا: قُلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ »: «أَ لَسْتُمْ كُنْتُمْضَالِّينَ فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟» فَقَالُوا: بَلَى فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ »: «أَ لَمْ تَكُونُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمُ اللَّهُ بِي؟» قَالُوا: بَلَى فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ »: «أَلَمْ تَكُونُوا قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمُ اللَّهُ بِي؟» قَالُوا: بَلَى فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ »: «أَلَمْ تَكُونُوا أَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِي؟» قَالُوا: بَلَى فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ وَلِرَسُولِهِ.

ثُمَّ سَكَتَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) هُنَيْئَةً ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تُجِيبُونِي بِمَا عِنْدَكُمْ؟» قَالُوا: بِمَ نُجِيبُكَ فِدَاؤُكَ آبَاؤُنَا وَأُمَّهَاتُنَا قَدْ أَجَبْنَاكَ بِأَنَّ لَكَ الْفَضْلَ وَالْمَنَّ وَالطَّوْلَ عَلَيْنَا. قَالَ »: «أَمَا لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ وَأَنْتَ قَدْ كُنْتَ جِئْتَنَا طَرِيداً فَآوَيْنَاكَ وَجِئْتَنَا خَائِفاً فَآمَنَّاكَ وَجِئْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ».

فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْبُكَاءِ وَقَامَ شُيُوخُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ إِلَيْهِ فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ قَالُوا: رَضِينَا بِاللَّهِ وَعَنْهُ وَبِرَسُولِهِ وَعَنْهُ وَهَذِهِ أَمْوَالُنَا بَيْنَ يَدَيْكَ فَإِنْ شِئْتَ فَاقْسِمْهَا عَلَى قَوْمِكَ وَإِنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَّا عَلَى غَيْرِ وَغْرِ صَدْرٍ وَغِلٍّ فِي قَلْبٍ

ص: 99


1- والظاهر أنه - كلاحقه - أعم من المقام.

وَلَكِنَّهُمْ ظَنُّوا سَخَطاً عَلَيْهِمْ وَتَقْصِيراً لَهُمْ وَقَدِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ ولِأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ غَيْرُكُمْ بِالشَّاءِ وَالنَّعَمِ وَتَرْجِعُونَ أَنْتُمْ وَفِي سَهْمِكُمْ رَسُولُ اللَّهِ؟» قَالُوا: بَلَى رَضِينَا! قَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) حِينَئِذٍ: الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ»(1).

التقشف في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ومما يكشف عن ملامح هذا المنهج ما ورد عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) يُفْطِرُ عَلَى الْأَسْوَدَيْنِ» قلت رَحِمَكَ اللَّهُ: وَمَا الْأَسْوَدَانِ؟ قَالَ (علیه السلام): «التَّمْرُ وَالْمَاءُ وَالزَّبِيبُ وَالْمَاءُ وَيَتَسَحَّرُ بِهِمَا»(2) كما قالت عائشة: (مَا زَالَتِ الدُّنْيَا عَلَيْنَا عَسِرَةً كَدِرَةً حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) فَلَمَّا قُبِضَ صُبَّتِ الدُّنْيَا عَلَيْنَا صَبّاً)(3) وعن عائشة أنها قالت: (كانت تأتي علينا أربعون ليلة وما يوقد في بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) نار ولا مصباح، قيل لها: فبم كنتم تعيشون؟ فقالت: بالأسودين التمر والماء)(4).

تناقض منهج الصحابة كما تكشف عنه عائشة

والغريب أن عائشة تكشف - من حيث تدري أو لا تدري - عن أمرين في

ص: 100


1- الإرشاد: ج1 ص145.
2- تهذيب الأحكام: ج4 ص198.
3- مكارم الأخلاق: ص29.
4- سنن ابن ماجه.

غاية الخطورة:الأول: إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان قد أمسك زمام الأمور بكل قوة وشدة كي لا تخضم أزواجه وقراباته مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، فمع أن الثروات الهائلة كانت تصب على الرسول الأعظم » صباً من كل الجهات من الغزوات والحروب والفتوحات وغيرها، وكانت ثروات مذهلة حقاً، إلا أنه (صلی الله علیه و آله) لم يسمح حتى لعائلته أن تعيش عيشة الأمراء بل ولا عيشة الطبقة المتوسطة بل (مَا زَالَتِ الدُّنْيَا عَلَيْنَا عَسِرَةً كَدِرَةً حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله)...).

الثاني: إن الدنيا صبت على عائشة ونظائرها بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) صبّاً، وكان ذلك خلافاً لمنهج رسول الله (صلی الله علیه و آله) لكن الانقلاب على الأعقاب كان شمولياً في كل الجهات؛ ومنها: هذه الجهة، إذ حدث الانقلاب في طريق التعاطي مع ثروات البلاد بمجرد أن قُبِضَ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قال تعالى: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(1).

وقد استمر الانقلاب طوال فترة الخلفاء الثلاثة حتى إذا رجع الأمر إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) أعاد الأمور إلى نصابها الصحيح فقسّم بيت المال على عامة المسلمين وساوى بين أعاظم الصحابة والقادة والساسة والمسؤولين وكبار القوم وبين عامة الناس حتى ثار عليه أمثال طلحة والزبير وغيرهم ممن اعتادوا على المفاضلة في العطاء وعلى قطائع عثمان وغيرها.

لو استمرت النهضة المحمدية لتحوّلت الأرض فردوساً، ولكنهم انقلبوا على الأعقاب

والسبب في المعادلة واضح؛ فإن نهضة الرسول (صلی الله علیه و آله) الشاملة كان يجب لها أن

ص: 101


1- سورة آل عمران: 144.

تستمر بعد شهادته بقيادة وصيه علي (علیه السلام) كي تترسخ دعائمها وتؤتي أكلها وثمارها كاملة فكان الواجب الاستمرار على هذا المنهج حتى ينضج ويثمر كامل أثماره، لكن الانقلاب أطاح بكثير من المنجزات وبالعديد من البنى التحتية الأساسية لنهضة الأمة ومنه التقشف العام والزهد وصبّ كل شيء في طريق الهدف.

صمود القلة من الصحابة على المنهج النبوي

ولذا نجد في الاتجاه المقابل أن الثلة الطيبة من الأقلية التي آمنت بالرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) قولاً وفعلاً والتزمت بمنهجه سراً وجهراً، بقيت ملتزمة بهذا المنهج حتى بعد شهادة الرسول (صلی الله علیه و آله) وتكشف عن ذلك روايات عديدة ومنها الرواية التالية:

تحسر سلمان لأنه امتلك سيفاً وجَفْنَة ودَستاً!

(تَحَسَّرَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: عَلَامَ تَأَسُّفُكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَيْسَ تَأَسُّفِي عَلَى الدُّنْيَا وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) عَهِدَ إِلَيْنَا وَقَالَ لِيَكُنْ بُلْغَةُ أَحَدِكُمْ كَزَادِ الرَّاكِبِ وَأَخَافُ أَنْنَكُونَ قَدْ جَاوَزْنَا أَمْرَهُ وَحَوْلِي هَذِهِ الْأَسَاوِدُ وَأَشَارَ إِلَى مَا فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: هُوَ دَسْتٌ وَسَيْفٌ وَجَفْنَةٌ)(1).

والدست من الثياب: ما يلبسه الإنسان ويكفيه لتردده في حوائجه، وقيل كلما يلبس من العمامة إلى النعل، والجمع (دسوت) مثل فلس وفلوس(2)، والجفنة هي القصعة الكبيرة.

أي إن سلمان الذي مات بعد شهادة الرسول (صلی الله علیه و آله) بسنين ورغم أنه كان حاكماً للمدائن معاً إلا انه كان لا يملك إلا جفنة وطقماً واحداً من الثياب وسيفاً

ص: 102


1- عدة الداعي: ص115.
2- مجمع البحرين: ج2 ص30.

فقط، ومع ذلك كان يخشى أن لا يكون قد التزم وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله)!

ولو بقيت أزمّة الأمور بيد أمير المؤمنين (علیه السلام) وأمثال هؤلاء الصحابة لاستمرت النهضة وأثمرت وأورقت واينعت بأفضل الثمار ولتحولت الأرض إلى الجنة التي وعدناها في زمن الظهور المبارك.

ريشة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (علیها السلام) ترسم لوحة شاملة للانقلاب على النبي (صلی الله علیه و آله) وآثاره

وفي اللوحة التاريخية التحليلية الآتية التي ترسمها الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء (علیها السلام) نجد الصورة الكبرى الشاملة لما كان عليه أصحاب رسول الله »، ولما صاروا عليه، ولما كان يجب عليهم أن يكونوا عليه، قالت الزهراء (علیها السلام): «أَصْبَحْتُ وَاللَّهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ قَالِيَةً لِرِجَالِكُنَّ لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ وَشَنَأْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ وَاللَّعِبِ بَعْدَ الْجِدِّ وَقَرْعِ الصَّفَاةِ وَصَدْعِ الْقَنَاةِ وَخَطَلِ الْآرَاءِ وَزَلَلِ الْأَهْوَاءِ وَبِئْسَ «ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ»(1) لَا جَرَمَ لَقَدْ قَلَّدْتُهُمْ رِبْقَتَهَا وَحَمَّلْتُهُمْ أَوْقَتَهَا وَشَنَنْتُ عَلَيْهِمْ غَارَهَا فَجَدْعاً وَعَقْراً وَ«بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(2).

وَيْحَهُمْ أَنَّى زَعْزَعُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلَالَةِ وَمَهْبِطِ الرُّوحِ الْأَمِينِ وَالطَّبِينِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ «أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ»(3) وَمَا الَّذِي نَقَمُوا مِنْ أَبِي الْحَسَنِ نَقَمُوا مِنْهُ وَاللَّهِ نَكِيرَ سَيْفِهِ وَقِلَّةَ مُبَالَاتِهِ بِحَتْفِهِ وَشِدَّةَ وَطْأَتِهِ وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ.

ص: 103


1- سورة المائدة: 80.
2- سورة هود: 44.
3- سورة الزمر: 15.

وَتَاللَّهِ لَوْ مَالُوا عَنِ الْمَحَجَّةِ اللَّائِحَةِ وَزَالُوا عَنْ قَبُولِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً لَا يَكْلُمُ خِشَاشُهُ وَلَا يَكِلُّ سَائِرُهُ وَلَا يُمَلُّ رَاكِبُهُ وَلَأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلًا نَمِيراً صَافِياًرَوِيّاً تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ وَلَا يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ وَلَأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً وَنَصَحَ لَهُمْ سِرّاً وَإِعْلَاناً وَلَمْ يَكُنْ يُحَلَّى مِنَ الْغِنَى بِطَائِلٍ وَلَا يَحْظَى مِنَ الدُّنْيَا بِنَائِلٍ غَيْرَ رَيِّ النَّاهِلِ وَشُبْعَةِ الْكَلِّ وَلَبَانَ لَهُمُ الزَّاهِدُ مِنَ الرَّاغِبِ وَالصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»(1) «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ»(2).

أَلَا هَلُمَّ فَاسْتَمِعْ وَمَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرَ عَجَباً «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ»(3) لَيْتَ شَعْرِي إِلَى أَيِّ سِنَادٍ اسْتَنَدُوا وَعَلَى أَيِّ عِمَادٍ اعْتَمَدُوا وَبِأَيَّةِ عُرْوَةٍ تَمَسَّكُوا وَعَلَى أَيَّةِ ذُرِّيَّةٍ أَقْدَمُوا وَاحْتَنَكُوا لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ وَبِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا اسْتَبْدَلُوا وَاللَّهِ الذَّنَابَى بِالْقَوَادِمِ وَالْعَجُزَ بِالْكَاهِلِ فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»(4) «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ»(5) وَيْحَهُمْ «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(6).

أَمَا لَعَمْرِي لَقَدْ لَقِحَتْ فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ ثُمَّ احْتَلَبُوا مِلْ ءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً وَذُعَافاً مُبِيداً هُنَالِكَ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَيُعْرَفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أُسِّسَ الْأَوَّلُونَ ثُمَّ

ص: 104


1- سورة الأعراف: 96.
2- سورة الزمر: 51.
3- سورة الرعد: 5.
4- سورة الكهف: 104.
5- سورة البقرة: 12.
6- سورة يونس: 35.

طِيبُوا عَنْ دُنْيَاكُمْ أَنْفُساً وَاطْمَئِنُّوا لِلْفِتْنَةِ جَأْشاً وَأَبْشِرُوا بِسَيْفٍ صَارِمٍ وَسَطْوَةِ مُعْتَدٍ غَاشِمٍ وَبِهَرْجٍ شَامِلٍ وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ يَدَعُ فَيْئَكُمْ زَهِيداً وَجَمْعَكُمْ حَصِيداً فَيَا حَسْرَةً لَكُمْ وَأَنَّى بِكُمْ وَقَدْ عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ...»(1).

أنموذج من زهد بضعة الرسول (علیها السلام)، و«إِنَّ ابْنَتِي لَفِي الْخَيْلِ السَّوَابِأقِ»

وعوداً إلى نهضوية الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته وأصحابه، نستحضر القصة التالية ذات الدلالات الشاملة العميقة المتعددة الأبعاد:

(مِنْ كِتَابِ زُهْدِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) لِأَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ الْقُمِّيِّ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ»(2) بَكَى النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) بُكَاءً شَدِيداً وَبَكَتْ صَحَابَتُهُ لِبُكَائِهِ وَلَمْ يَدْرُوا مَا نَزَلَ بِهِ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام)، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْ صَحَابَتِهِ أَنْ يُكَلِّمَهُ.

وَكَانَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله) إِذَا رَأَى فَاطِمَةَ (علیها السلام) فَرِحَ بِهَا، فَانْطَلَقَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى بَابِ بَيْتِهَا فَوَجَدَ بَيْنَ يَدَيْهَا شَعِيراً وَهِيَ تَطْحَنُ فِيهِ وَتَقُولُ: «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى»(3) فَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَأَخْبَرَهَا بِخَبَرِ النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) وَبُكَائِهِ فَنَهَضَتْ وَالْتَفَّتْ بِشَمْلَةٍ لَهَا خَلِقَةٍ قَدْ خِيطَتْ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَكَاناً بِسَعَفِ النَّخْلِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ نَظَرَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ إِلَى الشَّمْلَةِ وَبَكَى وَقَالَ: وَاحُزْنَاهُ إِنَّ بَنَاتِ قَيْصَرَ وَكِسْرَى لَفِي السُّنْدُسِ وَالْحَرِيرِ وَابْنَةُ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) عَلَيْهَا شَمْلَةُ صُوفٍ خَلِقَةٌ قَدْ خِيطَتْ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَكَاناً.

ص: 105


1- الاحتجاج: ج1 ص108.
2- سورة الحجر: 43 - 44.
3- سورة القصص: 60.

فَلَمَّا دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَى النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ سَلْمَانَ تَعَجَّبَ مِنْ لِبَاسِي، فَوَ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا لِي وَلِعَلِيٍّ مُنْذُ خَمْسِ سِنِينَ إِلَّا مَسَكُ(1) كَبْشٍ نَعْلِفُ عَلَيْهَا بِالنَّهَارِ بَعِيرَنَا فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ افْتَرَشْنَاهُ وَإِنَّ مِرْفَقَتَنَا لَمِنْ أَدَمٍ(2) حَشْوُهَا لِيفٌ». فَقَالَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه و آله): «يَا سَلْمَانُ إِنَّ ابْنَتِي لَفِي الْخَيْلِ السَّوَابِقِ»، ثُمَّ قَالَتْ: «يَا أَبَتِ فَدَيْتُكَ مَا الَّذِي أَبْكَاكَ فَذَكَرَ لَهَا مَا نَزَلَ بِهِ جَبْرَئِيلُ مِنَ الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ...»(3).

دروس وعِبَر في رواية سلمان

وفي هذه القصة المذهلة في كافة أبعادها، عِبَر مفتاحية كثيرة ولكن سنقتصر على موطن الشاهد وبعض العِبر والدروس فقط، إذ إن الذي يبدو:أولاً: إن سلمان قصد بتصريحه ذلك «وَاحُزْنَاهُ إِنَّ بَنَاتِ قَيْصَرَ وَكِسْرَى لَفِي السُّنْدُسِ وَالْحَرِيرِ وَابْنَةُ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) عَلَيْهَا شَمْلَةُ صُوفٍ خَلَقَةٌ قَدْ خِيطَتْ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَكَاناً» إن تبلغ هذه الصورة النموذجية للعالم كله لتكون حجة على كافة خلائق الله وأنموذجاً لكافة القادة والمسؤولين وبناتهم وأقربائهم.

ثانياً: وإن الزهراء (علیها السلام) تعمدت أن تعلن للملأ أمام أبيها المصطفى أنها وعلي كانا كذلك «فَوَ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا لِي وَلِعَلِيٍّ مُنْذُ خَمْسِ سِنِينَ إِلَّا مَسَكُ كَبْشٍ نَعْلِفُ عَلَيْهَا بِالنَّهَارِ بَعِيرَنَا فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ افْتَرَشْنَاهُ وَإِنَّ مِرْفَقَتَنَا لَمِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ»، ليكون درساً بليغاً لكل الأجيال على مر الأزمان وليحظى ذلك بتوقيع الرسول الأعظم وتصديقه كي لا يبقى مجال لتكذيب المرجفين وتشكيك المشككين وكي يكون فيه أكبر العبرة والعظة للنهضويين.

ص: 106


1- والمَسك: بفتح الميم هو الجلد أي جلد الخروف والجمع مسوك. (مجمع البحرين: ج4 ص204).
2- وأَدَم: بفتحتين جمع أديم وهو الجلد المدبوغ. (مجمع البحرين: ج1 ص54).
3- الدروع الواقية: ص274 - 276. ونقله المجلسي في بحار الأنوار: ج43 ص87.

ثالثاً: وإن الرسول (صلی الله علیه و آله) صرح: «يَا سَلْمَانُ إِنَّ ابْنَتِي لَفِي الْخَيْلِ السَّوَابِقِ» كي تكون شهادة صريحة واضحة لها بذلك على مر التاريخ.

الفرق بين التقشف الطوعي والتقشف القسري

وبذلك وغيره نعرف إحدى الفوارق الرئيسية بين فاطمة الزهراء (علیها السلام) من جهة وبين أمثال عائشة من جهة أخرى: فلقد كان فقر عائشة قسرياً لا يد لها فيه ولا حيلة ولم يكن طوعياً وقد كشف عن ذلك موقفها من الثروة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث صبت عليها الدنيا صباً فاستجابت لها أية استجابة!

أما الزهراء وعلي(علیهما السلام)فقد كان زهدهما طوعياً؛ إذ كانت أسهم علي (علیه السلام) من نصيبه من أسهم الغزاة والمجاهدين كبيرة جداً ولو شاء أن يعيش بها وأهله عيشة مميزة مادياً لفعلوا ذلك لكنهم لم يفعلوا أبداً، بل لو أراد (علیه السلام) أن يعمل بعض الوقت ليدرّ على أهله بالرزق دراً لامكنه، لكنه أبى إلا تجنيد كل الطاقات والثروات في سبيل إعلاء راية (لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه) في الأرض.

والذي يدل أيضاً على الطوعية أن الزهراء (علیها السلام) كانت تنفق حتى القليل الضئيل مما تملك كما مضى في رواية سابقة وكما تدل عليه عشرات الروايات بل وتشهد له آية: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً»(1).

ويكشف عن ذلك كله أن علياً صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه الأوفياء كسلمان وغيره لم يغيروا بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيرتهم ومسيرتهم بل بقوا متقشفين زهاداً عكس ما صنعت عائشة وعثمان ومعاوية والكثير غيرهم من الصحابة.

ص: 107


1- سورة الإنسان: 8 - 9.

وهذه الرواية تعطينا تصوراً شاملاً عن المدينة الفاضلة التي أرسى دعائمها الرسول (صلی الله علیه و آله) والتي لو استمرت لكانت الجنة الحقيقية على وجه الأرض.

النهضة على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأمم

ثم إن النهضة قد تكون على مستوى الفرد وقد تكون على مستوى الأسرة أو الحزب أو العشيرة وقد تكون على مستوى الشعب أو الأمة.

وعلى كل التقادير فإن الشرط الأساسي لنجاح النهضة هو الزهد فيما عدا الهدف الذي اختطه الفرد أو التجمع لنفسه، فإذا كان الهدف رسالياً سامياً كان التقشف والعيش عيشة الفقراء أو الإعراض عن الثروة والماديات والفقر بنفسه هو الطريق الأقصر والأسلم والأسمى للوصول إلى الأهداف.

نهضوية العلامة الأميني (رحمة الله) وتضحياته

وفي حياة وسلوك ومواقف العلامة الأميني (رحمة الله) صاحب الغدير العبرة البالغة والدلالة الأكيدة على ذلك، فلقد جنّد هذا الرجل العظيم كل طاقاته وقواه نحو نهضة ثقافية - عقدية - موضوعية حتى أنه كان لا ينام في اليوم والليلة في أحايين كثيرة إلا ثلاث أو أربع ساعات، وعندما أنهى موسوعة الغدير الخالدة وعزم على طباعتها لم يجد من يتكفل النفقات رغم كثرة أولئك الذين يدّعون محبة أمير المؤمنين (علیه السلام) بل وعشقه والذوبان فيه! لكن العلامة الأميني(رحمة الله) لم يكن ليترك عقبة المال تحول دون النجاحات الكبرى ودون إنجاز هذا العمل النهضوي الخالد، فقرر أن يبيع داره ليطبع ذلك السفر الكبير؛ وهكذا صنع وطبع الغدير في 25 ألف دورة تتكون كل دورة من 11 مجلداً!

وهكذا يكون النهضويون، فأية قيمة للمال إذا لم يقع في طريق الهدف

ص: 108

الأسمى؟ وكما يمكن العيش في دار مملوكة يمكن العيش في دار مستأجرة، وكما يمكن أن تعيش عيشة الأمراء يمكنك أن تعيش عيشة الفقراء، وما الضير في أن تعيش عيشة الفقراء إذا كان ذلك أسرع إيصالاً للهدف بل إذا كان هو الطريق للوصول إليه بأن تبذل كل شيء لأجله؟

والغريب في الأمر أن أحد تجار طهران أطلع بعد ذلك على إنجازات العلامة الأميني (رحمة الله) فاتصل به وأخبره بأنه سيتكفل كافة نفقات أعماله المتنوعة (من شراء النسخ الخطية الغالية.. إلى غيره) وقد وفى بوعده فأمد الأميني (رحمة الله) بالمال وبدأ يبيع ما يملك ليكفل له ذلك حتى أنه لعله باع داره أيضاً، والأغرب أنه - حسب المنقول - اشترط على العلامة الأميني (رحمة الله) أن لا يذكر اسمه لأحد.

وهكذا يكون المجاهدون والنهضويون وهكذا يجب علينا أن نكون أيضاً.

وإذا كان الشخص الواحد نهضوياً حقاً كما كان العلامة الأميني (رحمة الله) فترك بذلك أعظم الآثار، فما بالك بما لو كان كافة الشيعة نهضويين؟! بل لو كان الملايين منهم أو حتى مئات الألوف منهم نهضويين؟! ألم يكن وجه الأرض يتغير حينئذٍ وألم يكن نور الإسلام والولاية وقيم السماء والرسالة ومعارف أهل البيت تملأ وجه الأرض عندئذٍ؟

ص: 109

الأصول الخمسة في معادلة الفقر والثروة

وضمانات توازن الثروات عالمياً عبر العفاف والكفاف

(6) الوجه السادس: الحركة المتعاكسة للفقراء نحو الغنى، وللأغنياء نحو الفقر، والملتقى (الكفاف)
اشارة

وأما وجه الجمع السادس والذي يلقي الضوء بدوره على الرؤية الإسلامية الكلية العامة للغنى والثروة والفقر والفاقة، فيتضح في ضمن النقاط التالية:

مقتضى القاعدة الأولية

النقطة الأولى: إن المستظهر هو أن مقتضى القاعدة الأولية هي: أن نحثّ الأغنياء ليعيشوا عيشة الزهاد والفقراء وأن ينفقوا أموالهم بسخاء بالغ(1)، وأن نحضّ في المقابل الفقراء ليصبحوا أغنياء وأن يتعلموا ويسلكوا سبل الثروة والأثرياء.

وذلك يعني وبعبارة أخرى: ضروري أن يبتني المخطط الاقتصادي - الاجتماعي - التربوي الإسلامي العام على دَفْع الفقراء ليقلعوا من حضيض الفقر وينهضوا من قاع الحاجة ليصلوا إلى مستوى الغنى والأغنياء، وفي المقابل: دَفْع الأغنياء لينزلوا من (عرش) الثروة والغنى إلى (فرش) الزهد والفقر أو العيش عيشة الفقراء.

فهذا المزيج الإبداعي من الحركة المتصاعدة للفقراء والحركة المتنازلة للأغنياء

ص: 110


1- عبر منهجية ستأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.

هو الأفضل من بين كافة المناهج الاقتصادية - الاجتماعية، للناس بشكل عام وللأغنياء والفقراء جميعاً بشكل خاص وذلك كله كمقدمة موصلة نحو الهدف الأقصى وهو (الكفاف).

وبعبارة أخرى:

أولاً: أن يتجه الأثرياء لا إلى زيادة ثرواتهم وكنزها يوماً بعد يوم أكثر فأكثر، بل إلى أنفاقها على المجتمع الذي يدينون له بثروتهم؛ على التعليم والمدارس والمكتبات، وعلى المعنويات والمساجد والحسينيات، وعلى الفقراء والمياتم والمستشفيات .. وغير ذلك.

ثانياً: وأن يتجه الفقراء للإقلاع نحو الثروة والثراء.

ثالثاً: وملتقى الفريقين في منتصف الطريق عند جِنان (الكفاف).وسيتضح الوجه في هذا الدعوى المركبة التي قد تبدو غريبة في بادئ النظر، في ثنايا البحث ومطاويه:

قاعدتان واستثناءان

النقطة الثانية: إن تلك الثَّنائية السابقة؛ التوجه العام للأغنياء المتعاكس مع التوجه العام للفقراء، تتفصَّل - في نظرة أكثر دقة وتفصيلاً - إلى رُباعية تتضمن قاعدتين واستثنائين بما يفتح لنا افقاً أرحب لفهم النظرية الإسلامية بشكل أوسع وأدق في الوقت نفسه، والرباعية هي:

تزهيد الأغنياء في الثروة إلا ما كان طريقياً
اشارة

وتزهيد الفقراء في الفقر إلا ما كان رسالياً!

أ - ب - (الأغنياء) علينا أن نزهّدهم في الاستحواذ على الثروات، أو

ص: 111

التمسك بالغنى وكنز الثروات، إلا ما كان منها طريقياً.

ج - د - (الفقراء) علينا أن نزهّدهم في الفقر في كلتا مرحلتي العلة المحدثة والمبقية، إلا ما كان منه هادفاً رسالياً.

فههنا قاعدتان تشكلان الإطار العام للمنهج الذي يجب أن يسير عليه الأغنياء والفقراء، واستثناءان - وقد يكون كل منهما عريضاً جداً أو ضيقاً جداً - يفتحان نوافذ ومخارج وأبواباً في جدران القاعدتين.

وعلى ذلك فإن طوائف الروايات يمكن تصنيفها في ضمن هذه الرباعية:

أ- طوائف الروايات الذامّة للمال والثراء مشيرة الى القاعدة الاولى
اشارة

أولاً: طوائف الروايات التي تذم المال والثراء وتردع عنه، وتعتبره منشأ المفاسد والإضرار، وهذه تشير إلى القاعدة الأولى:

ومنها: قوله (علیه السلام): «أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى (علیه السلام) يَا مُوسَى (علیه السلام) لَا تَفْرَحْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَلَا تَدَعْ ذِكْرِي عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ تُنْسِي الذُّنُوبَ وَإِنَّ تَرْكَ ذِكْرِي يُقْسِي الْقُلُوبَ»(1).

والوجه في أن كثرة المال تنسي الذنوب هو: إن المال يستحوذ على مشاعر الإنسان ويشغله بأشد أنحاء الانشغال، بل انه يورثه العُجب والكبر والكبرياء والطغيان فلا يعود يهتم بذنب صدر منه، بل إنه سرعان ما ينساه؛ إذ تراه يغرق في بحار تصريفات أمواله وفي مختلف منطلقات شهواته.

ومنها: ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «الْمَالُ مَادَّةُ الشَّهَوَاتِ»(2).ومنها: قوله (علیه السلام): «مَا قَرُبَ عَبْدٌ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا تَبَاعَدَ مِنَ اللَّهِ، وَلَا كَثُرَ

ص: 112


1- الكافي: ج2 ص497.
2- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام): الحكمة: 58.

مَالُهُ إِلَّا اشْتَدَّ حِسَابُهُ، وَلَا كَثُرَ تَبَعُهُ إِلَّا وَكَثُرَ شَيَاطِينُهُ»(1).

والرواية تعد من أهم الروايات المفتاحية التي تعطينا أسس الحياة الإيمانية السعيدة ومقوماتها الرئيسية؛ إذ تشير إلى قواعد ثلاثة جوهرية:

كلما اقتربت من السلطان ابتعدت عن الله تعالى

القاعدة الأولى: «مَا قَرُبَ عَبْدٌ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا تَبَاعَدَ مِنَ اللَّهِ...» ذلك إن السلطة تمتلك إغراء شديداً، وهي منطقة رمال متحركة خطرة يغرق فيها الناس، إلا النادر، بالتدريج شيئاً فشيئاً إذ «إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى»(2) بل إنها عبارة عن حقل ألغام خطير فإن حب السلطة يدفع أكثر الناس إلى التشبث بها ولو بسحق حقوق الآخرين وظلمهم والارتشاء والسرقات المقنّعة، بل إن الاقتراب من السلطان يتوقف على أن تتخذه إلهاً بدل أن يكون الخالق جل وعلا إلهك، والسر واضح فإن منهج الحكام والسلاطين يتعارض مع منهج الرب جل وعلا في العدل والإحسان والإنصاف وأن تكون الأولوية لإحقاق حقوق الرعية لا للتسبيح بحمد الحاكم ومجده، فكلما اقترب الشخص من أصحاب القوة والسطوة ومن الحاكم والرئيس أو السلطان والقائد - الضرورة كان عليه أن يقدم تنازلات أكثر من مواقفه الإنسانية والرسالية والدينية وكان عليه أن يكون التابع المخلص له، لا الآمر له بالمعروف والناهي له عن المنكر! وهل يعقل أن يستبقي السلطان أمثال أبي ذر ممن يرفعون عقيرتهم ضده عند اجتراح أدنى مخالفة للشرع أو العقل أو الضمير والوجدان؟

ص: 113


1- النوادر للرواندي: ص4.
2- سورة العلق: 6 - 7.
كلما كثر مالك اشتد حسابك!

القاعدة الثانية: «وَلَا كَثُرَ مَالُهُ إِلَّا اشْتَدَّ حِسَابُهُ...»، فإن كل درهم يحصل عليه الإنسان يحاط بحساب ثنائي الأبعاد شديد: من أين اكتسبه؟ وفي أين انفقه؟ ونضيف بعداً ثالثاً وهو: كيف استبقاه؟!(1).

كلما كثر أتباعك كثرت شياطينك

القاعدة الثالثة: «وَلَا كَثُرَ تَبَعُهُ إِلَّا وَكَثُرَ شَيَاطِينُهُ» وليس المراد: إن الاتباع كلهم شياطين، بل المراد: زيادة الكمّ في إطار النسبة بزيادة المجموع، فلو كان له من الأتباع ألف مثلاً كان شياطينه منهم مائة، إذا افترضنا إن نسبة الفاسدين هم 10% ،ولو كان له من الأتباع مليون كان شياطينه منهم مائة ألف، إذا افترضنا النسبة ثابتة.

ومن الواضح أن إحاطة مائة ألف شيطان بالإنسان ولو في ضمن مليون أخطر على الإنسان جداً من إحاطة مائة شيطان في ضمن ألف، خاصة إذا تذكرنا أن طرق الشياطين وشباكهم وأحابيلهم متطورة جداً، وتذكرنا معادلة الأكثرية الصامتة.

ب - طوائف الروايات الدالة على الاستثناء

ثانياً: طوائف الروايات التي تؤكد على الاستثناء من القاعدة الأولى، أي: فيما لو وقعت الثروة والغنى طريقاً للعطاء والبذل ودعم الفقراء واستنهاض المؤسسات والمجتمع بشكل عام.

ومنها: ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) «إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً يَخْتَصُّهُمُ اللَّهُ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ فَيُقِرُّهَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَى

ص: 114


1- ويمكن إدراجه في (اين أنفقه) توسعاً.

غَيْرِهِمْ»(1) وذلك - كنظائره - بنحو المقتضي الذي لا يمنع الاستثناء بل ولا كثرة الاستثناءات، إضافة إلى أن الرواية لا تُصدِر حكماً كلياً ولا هي مسوّرة بسور الكل، بل ظاهرها أنها مسورة بسور البعض وأن بعض الأثرياء كذلك فلاحظ قوله: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً...» ولم يقل: إن كل من أثرى فهو ممن اختصه الله بالثروة لمنافع العباد فإذا منعوها.

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «مَيَاسِيرُ شِيعَتِنَا أُمَنَاؤُنَا عَلَى مَحَاوِيجِهِمْ فَاحْفَظُونَا فِيهِمْ يَحْفَظْكُمُ اللَّهُ»(2) والروعة تكمن - فيما تكمن - في قوله (علیه السلام): «أُمَنَاؤُنَا» وقد يفسر ذلك بالملكية الطولية إذ ملكية الله تعالى للأشياء حقيقية مطلقة بالقيومية وملكيتنا اعتبارية محضة، وبينهما ملكية الرسول (صلی الله علیه و آله) وآله (صلی الله علیه و آله) إذ «بِيُمْنِهِ رُزِقَ اَلْوَرَى وَبِوُجُودِهِ ثَبَتَتِ اَلْأَرْضُ وَاَلسَّمَاءُ»(3).

وقد روى علي بن إبراهيم القمي في تفسيره قال: ذَكَرَ رَجُلٌ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) الْأَغْنِيَاءَ فَوَقَعَ فِيهِمْ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام): «اسْكُتْ فَإِنَّ الْغَنِيَّ إِذَا كَانَ وَصُولًا لِرَحِمِهِ وَبَارّاً بِإِخْوَانِهِ أَضْعَفَ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ ضِعْفَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَصالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ»(4)»(5).

كما قال (علیه السلام): «الْفَقْرُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْغِنَى إِلَّا مَنْ حَمَلَ كَلّا أَوْ أَعْطَى فِي نَائِبَةٍ. قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله): مَا أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةُ غَنِيٌّ وَ لَا فَقِيرٌ إِلَّا يَوَدُّ أَنَّهُ لَمْ

ص: 115


1- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكمة: 425.
2- الكافي: ج2 ص265.
3- كليات مفاتيح الجنان: من دعاء العديلة.
4- سورة سبأ: 37.
5- تفسير القمي: ج2 ص203.

يُؤْتَ مِنْهَا إِلَّا الْقُوتَ»(1).

ج - طوائف الروايات المحذّرة من الفقر؛ القاعدة الثانية

ثالثاً: طوائف الروايات التي تزهّد في الفقر بل التي تحذّر منه وتشير إلى مفاسده وأضراره ومنها: كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمحمد بن الحنفية: «يَا بُنَيَّ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ فَإِنَّ الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدِّينِ مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ دَاعِيَةٌ لِلْمَقْتِ»(2).

وقوله «مَنْقَصَةٌ لِلدِّينِ» لأن الفقر يجرّ الكثير من الناس إلى السرقة والاختلاس والارتشاء وغير ذلك.

و«مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ» لوجوه عديدة؛ منها: إن الفقر يعد من أهم عوامل توتر الأعصاب ومرض الكآبة وسائر الأمراض الروحية والعقلية المختلفة.

و«دَاعِيَةٌ لِلْمَقْتِ» قد يراد به: أ - مقت الناس للفقير، ب - أو مقت الفقير للناس أو للحياة أو حتى للخالق جل وعلا - والعياذ بالله -، وكل من المحتملين بل المحتملات له وجه، والتفصيل في محله.

ومنها: «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً»(3).

ومنها: «الْفَقْرُ الْمَوْتُ الْأَكْبَرُ»(4).

ومنها: «الْفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ وَ الْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ»(5).

ص: 116


1- التمحيص: ص49.
2- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكمة: 319.
3- الكافي: ج2 ص307.
4- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكمة: 163.
5- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكمة: 3.
د - طوائف الروايات الدالة على الاسثتناء

رابعاً: طوائف الروايات التي يستفاد منها استثناء (الفقر الهادف)، أو إن شئت فقل (الفقر الرسالي):

ومنها: قوله (صلی الله علیه و آله): «الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ»(1) فإنه (صلی الله علیه و آله) بفقره كان أفضل أسوة للحكام والرؤساء والقادة على مر التاريخ، وكان (صلی الله علیه و آله) أفضل معلِّم نهضوي جنّد كل طاقاته وقدراته وثرواته للهدف الأسمى وهو إشاعة الإيمان والعدل والإنصاف والإحسان في ربوع الأرض عبر المنهج النبوي القويم ومن بوابة إقامة أقوى وأفضل وأكمل وأنزه حكومة على وجه الأرض. من غير ان ينفي هذا المعنى، المعنى الآخر للرواية الذي سبق بيانه(2).

ومنها: قوله (علیه السلام): «مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَاباً»(3) وقد سبق الكلام عن وجهه.

كما أن من أروع الشواهد على حسن الفقر الهادف بل وضرورته القصة التالية:

التجارة كطريق للقضاء على الفوارق القومية والعرقية وغيرها

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «أَتَتِ الْمَوَالِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) فَقَالُوا: نَشْكُو إِلَيْكَ هَؤُلَاءِ الْعَرَبَ! إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) كَانَ يُعْطِينَا مَعَهُمُ الْعَطَايَا بِالسَّوِيَّةِ وَزَوَّجَ سَلْمَانَ وَبِلَالًا وَصُهَيْباً وَأَبَوْا عَلَيْنَا هَؤُلَاءِ وَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ.

فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) فَكَلَّمَهُمْ فِيهِمْ.

ص: 117


1- عوالي اللئالي: ج1 ص39.
2- وهو الفقر إلى الله تعالى.
3- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكمة: 112.

فَصَاحَ الْأَعَارِيبُ: أَبَيْنَا ذَلِكَ يَا أَبَا الْحَسَنِ أَبَيْنَا ذَلِكَ!!

فَخَرَجَ وَهُوَ مُغْضَبٌ يُجَرُّ رِدَاؤُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمَوَالِي، إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ صَيَّرُوكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَتَزَوَّجُونَ إِلَيْكُمْ وَلَا يُزَوِّجُونَكُمْ وَلَا يُعْطُونَكُمْ مِثْلَ مَا يَأْخُذُونَ، فَاتَّجِرُوا بَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ، فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) يَقُولُ: الرِّزْقُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، تِسْعَةُ أَجْزَاءٍ فِي التِّجَارَةِ وَوَاحِدَةٌ فِي غَيْرِهَا»(1).

وفي الرواية الشريفة دروس وعبر كثيرة:ومنها: إن الإمام (علیه السلام) لم يكتف بالنهي عن المنكر، بل إنه مارس دور القائد الرحيم إذ أراهم خارطة طريق الخلاص من الاستضعاف وهي أن يتحولوا إلى تجار وأثرياء، وحينئذٍ ستجد نفس أولئك الأعاريب يخطبون وُدَّهم ويتقربون إليهم، فهذه من طرق القضاء على الفوارق القومية واللونية والعرقية المبتدعة.

وقد ذكرنا في كتاب (استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي (علیه السلام)):

(وهذا الحديث يستبطن دلالات كثيرة ومنها:

1- تصدِّي الإمام (علیه السلام) لهموم الناس، وتربيته وتميزه بعيشه بين ظهرانيهم.

2 -تواضع الإمام (علیه السلام) وهو حجة الله على الخلائق؛ حيث ذهب بشخصه الكريم إلى الأعاريب ولم يكتف بإرسال مندوب إليهم.

3 - إن الإمام (علیه السلام) تصدى بدور قيادي هام وهو إعطاء المشورة الاقتصادية للموالي وهي:

4 - إن على الطبقة الفقيرة والمتوسطة، أن تتوجه للتجارة، كي تخرج عن دائرة التهميش والإهمال والعزلة الاجتماعية والاستضعاف.

ص: 118


1- الكافي: ج5 ص318.

وعلى أئمة المسلمين والعلماء والخطباء والمفكرين والأساتذة، التأسي به صلوات الله عليه في كل ذلك.

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «تعرّضوا للتجارة فإنّ فيها غنى لكم عمّا في أيدي الناس»(1)(2).

القاعدة الخامسة: أمّ القواعد الأربع: (الكفاف) لا الفقر ولا الثراء

النقطة الثالثة: إن هنالك قاعدة خامسة تعد أصل الأصول الأربعة السابقة، أي إنها هي القاعدة الأولية العامة وتلك الأربعة (القاعدتان والاستثناءان) هي الاستثناء منها، وهذه القاعدة هي التي تشكل جوهر التعاليم الدينية في الموقف العام - المبدئي من الغنى والثروة أو الفقر والفاقة، وهي أن المطلوب الأولي والأساس الأولي - لولا الطوارئ والعناوين الثانوية التي تحتضنها القواعد الأربعة السابقة - والذي ينبغي أن يبني عليها المجتمع المؤمن حياته في البعد الاقتصادي هو: (الكفاف) لا الغنى ولا الفقر.

والغرض الأساس من (الحركة المتعاكسة) السابقة هو: الوصول لهذه المرحلة الجوهرية.

ص: 119


1- وسائل الشيعة: ج12 ص5 ب1 ح11.
2- ومن الواضح أن المقصود ليس هو أن يترك كافة الناس أعمالهم ويتجهوا للتجارة ولذا قيّدنا ب(لو دار أمره بين التوظف والتجارة)، بل المقصود هو أن من يتوظف لمجرد أن تكون الوظيفة مصدراً للرزق له، فالأفضل أن يتجه للتجارة مع توفير شروط النجاح فيها. أما الذين يمارسون أدواراً أخرى وذووا الاختصاص في الفيزياء والكيمياء والطب والهندسة والتكنولوجيا المتطورة، والبحوث العلمية والأكاديمية ونظائرها، فليس الحديث عنهم فإن تلك الحقول واجبات كفائية كالتجارة ولا تقل عنها أهمية، بل يجب أن تتكامل وتتلاحم التجارة والاختصاصات وغيرها لبناء الوطن المزدهر والمجتمع السعيد - استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي (علیه السلام): ص 172 - بتصرف.

وذلك هو ما تدل عليه الرواية التالية: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله): «اللَّهُمَّ ارْزُقْ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ وَمَنْ أَحَبَّ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ الْعَفَافَ وَالْكَفَافَ، وَارْزُقْ مَنْ أَبْغَضَ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ الْمَالَ وَالْوَلَدَ»(1).

والعفاف: يراد به العفاف عن المعاصي وعفّ عنه أي تركه وزهد فيه، ومنه عافت نفسه كذا.

والكفاف: ما لا يزيد عن الحاجة ولا ينقص عنها بل يكون بقدر الحاجة تماماً.

كما جاء في الرواية: «طُوبَى لِمَنْ أَسْلَمَ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافاً»(2).

وورد أيضاً: «وَلَا تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ وَلَا تَطْلُبُوا مِنْهَا(3) أَكْثَرَ مِنَ الْبَلَاغِ»(4).

الحكمة الكبرى وراء أصالة (الكفاف) العامة

ولعل من أسرار ذلك ومن حِكَمِه(5)الحقيقة الهامة التالية:

مجموع الثروات لمجموع البشر، وما عدا ذلك إفراطٌ أو تفريط.

وهي أن ثروات الأرض محدودة، وقد خلقت كمجموع للبشر كمجموع؛ ولذا قال تعالى: «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً»(6) وقد جرت حكمة الله

ص: 120


1- الكافي: ج2 ص140.
2- الكافي: ج2 ص140.
3- الدنيا.
4- نهج البلاغة: المختار من خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) وأوامره: ومن خطبة له (علیه السلام) و هو بعض خطبة طويلة خطبها يوم الفطر و فيها يحمد الله و يذم الدنيا: الخطبة 45.
5- وجوه الحكمة فيه عديدة قد نتطرق لها في وقت لاحق فنقتصر هنا على وجهٍ وحِكمةٍ وفلسفةٍ واحدة.
6- سورة البقرة: 29.

البالغة ان تكون ثروات الأرض - كمجموع - لو وُزِّعت على البشر - كمجموع - بحيث ينال كل إنسان منها قدر (الكفاف)، وذلك من غرائب صنع الله تعالى.

وعليه: فكل إفراط في هذا الجانب بزيادة ثروة أشخاص عن حدّ الكفاف يؤدي إلى تضييع حقوق أناس آخرين في الجانب الآخر، وقد صرح بذلك أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين في قوله: «مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ»(1) فلو قسمت ثروات الأرض توزيعاً عادلاً على البشر كافة لما بقي فقير أبداً.

لغة الأرقام والإحصاءات تشهد!

وقد يعترض: بأن أعداد البشر تزداد باستمرار ولكن الأرض محدودة لا تتوسع، فكيف تتكفل الأرض المحدودة بالزيادة المضطردة في نفوس البشر كل عام؟ فالبشر الآن 7 مليارات والنصف تقريباً وحسب الإحصاء فإنهم سيصلون عام 2050 إلى 9.7 مليارات، فكيف تتكفل الارض باحتياجاتهم؟!

والجواب هو: أن تحسُّن وسائل الإنتاج وتطور التكنولوجيا، وزيادة الخبرة والتراكم المعرفي زائداً (الحكمة)، وعدم الإسراف والهدر والحيلولة دون إتلاف المحصولات عمداً بالمباشرة أو بالواسطة عبر الحروب أو الإهمال، وسوء التخزين والنقل، وغير ذلك، كفيل بإعادة التوازن دوماً بين كمية الثروات والمحاصيل الزراعية والدواجن والماشية وغيرها وبين حاجات البشر.

800 مليون يعانون نقص التغذية ومليار يعانون سوء التغذية!

وتشهد الأرقام الإحصاءات العلمية على ذلك ولنقتبس بعضها ههنا:(ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة (FAO)، فإن هناك في العالم

ص: 121


1- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكمة: 328.

اليوم 800 مليون إنسان يعانون من نقص التغذية - أي لا يأكلون بمقادير كافية. وهو ذات الرقم الذي كان موجوداً العام 2000، أو العام 1995، أو... العام 1900! وإلى هؤلاء سيُضاف مليار من البشر يعانون من سوء التغذية - أي أولئك الذين لا يتغذّون بغذاءٍ يكون على قدرٍ كافٍ من التنوّع، والذين يعانون من تدهور صحتهم بسبب القصورات والنقص "في الفيتامينات والبروتينات، والعناصر المعدنية... الخ")(1).

مليار طن وثلاثمائة مليون طن من الأطعمة ترمى سنوياً!

وفي مقابل ذلك كله نتوقف عند التقرير التالي:

(وثمّة اختلال آخر ينبغي له أن يستثير انتباهنا: هو الهدر: إذ تعتبر منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة (FAO) أن 1.3 مليار طنّ من الأغذية تُرمى سنوياً، وتمثل ثلث المحصول العالمي. وتقع هذه الخسارة في بلدان الجنوب أساساً بسبب فقدان تجهيزات التخزين والنقل المناسبة فيها. أما في بلدان الشمال فإن نمط الحياة هو ما يسبّب هذا الهدر. وعلى هذا، بات من الملحّ والعاجل تقليص هذا الهدر في كل مراحله: من الحقل إلى المائدة!)(2).

ورقم الهدر السابق قريب من حل كلتا معضلي نقص التغذية (800 مليون)، وسوء التغذية (مليار)، خاصة وأن نقص التغذية لا يعني انعدام التغذية بالكامل، وإن سوء التغذية لا يتلازم مع النقص الكمي في التغذية، وذلك لأنه لو وزعت هذه ال1.3 مليار طن من الأغذية على الجياع الذين يعانون من نقص

ص: 122


1- أوضاع العالم 2016، حضارة واحدة - مؤسسة الفكر العربي، إشراف: برتران بادي ودومينيك فيدال: ص148.
2- أوضاع العالم 2016، حضارة واحدة - مؤسسة الفكر العربي، إشراف: برتران بادي ودومينيك فيدال: ص151.

التغذية وهم ثمانمائة مليون وأعطينا كل واحد منهم ألف كيلو من الأغذية سنوياً لبقي لنا فائض قدره 500 مليون طن وهي تكفي إذا تمتعت بالتنوع الكافي، لحل مشكلة سوء التغذية للمليار بشر الذين يعانون منها(1).ويكشف ذلك عن عمق القول ب: (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع) و«مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ»(2).

والغريب أن شطراً وافراً من هذا الهدر متعمد، تتعمده الدول الكبرى والوسطى والشركات العابرة للقارات وغيرها، لأجل المحافظة على الأسعار لأن العرض كلما ازداد انخفضت الأسعار، فكي يربحوا أكثر يعدمون - إضافة إلى ما يتلف أساساً لنقص الخبرات أو الأجهزة والمخازن أو سوء التخزين - آلاف الأطنان سنوياً كما تشهد عليه الإحصاءات، وليَمُت بعد ذلك (في كل عشر ثوان طفل واحد) كما جاء في الإحصاء الرسمي أيضاً، وليعانِ بعد ذلك 800 مليون من نقض التغذية ومليار من سوء التغذية.

الجوع ظاهرة سياسية!

ولأجل ذلك كله نجد بعض الخبراء يصرحون: (وعلى هذا، فإن الجوع هو ظاهرة سياسية، إنه نتيجة:

1 - الجهل.

2 - والحرب.

3 - وقصورات السلطات العامة.

4 - والنزاعات التي تدور حول الاستيلاء على الموارد الطبيعية.

ص: 123


1- وذلك حسب الحدس العام والتقريب، وهو بحاجة إلى دراسة علمية - ميدانية ليست شأن هذا المقال.
2- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكمة: 328.

5 - وهو إلى هذا يتحول يوماً بعد يوم، إلى نتيجة فرعية من نتائج العولمة: عقيدة (السوق الحرة) التي تبثها المؤسسات المالية الدولية وتنشرها.

6 - وغياب الرقابة العامة عن الشركات المتعددة الجنسيات، تحمل كلها مسؤولية ثقيلة في ذلك. فقد مارس (القوم) سياسات معقدة من نشر الجوع. وهذا خبرٌ سيءٌ وخبرٌ جيدٌ في آنٍ معاً. ذلك أنّ ما صنعه الإنسان، يستطيع هو نفسه تقويضه. وإذا كان الجوع بادئاً، حدثاً سياسياً، فإنّ اجتثاثه يكون سياسياً أيضاً)(1).وسيأتي البحث تفصيلاً عن أن الرأسمالية الجشعة والطمع الوحشي أنتج أجيالاً وشركات ودولاً بل وشعوباً لا تعرف الرحمة ولا تفهم إلا المال ثم المال ثم المال، ثم المزيد من المال، ولذلك استحلّوا إتلاف المحاصيل وبيع الأسلحة الفتاكة وإثارة الحروب وترويج المخدرات وإشاعة الجريمة المنظمة وغير ذلك مما سيأتي لاحقاً، عكس الإسلام الذي يدعوا إلى (الكفاف) دون الطمع والجشع والاستغلال والإسراف والتبذير.

ولنعد إلى لغة الأرقام من جديد لنجد أنه كان من نتائج سياسة الجشع البشري المقرف أنه قد ارتفعت في أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء أعداد من يعانون نقص التغذية بين العامين 1970 و 2010، من 87 مليوناً إلى 234 مليون نسمة، وكذلك في شبهة القارة الهندية حيث يظل العدد ثابتاً، وعلى نحوٍ يبعث على اليأس، أي في حدود 220 مليون نسمة)(2).

وذلك رغم تطور التكنولوجيا ووسائل الإنتاج وزيادة الثروات والمحاصيل في

ص: 124


1- أوضاع العالم 2016، حضارة واحدة - مؤسسة الفكر العربي، إشراف: برتران بادي ودومينيك فيدال: ص147.
2- أوضاع العالم 2016، حضارة واحدة - مؤسسة الفكر العربي، إشراف: برتران بادي ودومينيك فيدال:ص149 - 150.

العالم بشكل مذهل.

عدد البشر في العام 2050 ومعضلة الطعام!

وسوف نذهل أكثر من المصير المظلم الذي ينتظر البشرية لو استمرت وتيرة الجشع الحالية كما هي ولم نَعُد إلى سياسة الكفاف الإسلامية، عندما نعرف الحقيقة التالية: (لابدّ لكي يأكل الجميع من إنتاج ما يكفي الآكلين، ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة، فإنه ينبغي زيادة الإنتاج الزراعي العالمي، من الآن حتى حدود العام 2050، بنسبة 70%. ويفسر هذا الرقم بالتأليف بين عاملين. زيادة سكان العالم الذين يُفترض أن يصلوا إلى 9.7 مليار نسمة في العام 2050 "أي بزيادة 33% عما كانوا عليه العام 2015")(1).

وهل يعقل حل هذه المعضلة إلا بالعودة إلى سياسة (الكفاف)، لا طريق غير ذلك إذا أردنا الوصول إلى سياسة (الجوع - صفر) أو (صفر جوع).

ولقد توصل الخبراء أخيراً إلى عدد من الحلول التي صرحت بها الروايات العديدة قبل مئات السنين كما سيأتي تفصيله لاحقاً بإذن الله تعالى.

(النهضة الاقتصادية) عبر مخطَّط (الشبكة) ووقف رؤوس الأموال

خياران: إما أن تنفق كل ما تملك وإما أن تعيش كما الفقراء!ونضيف هنا: إن دعوتنا هذه لا تعني بالضرورة أن يتحول الأغنياء إلى الفقراء، بل وكما سبق: (أن نحثّ الأغنياء ليعيشوا عيشة الزهاد والفقراء وأن ينفقوا أموالهم بسخاء).

بل لقد كانت الدعوة تضع أمام الأغنياء أحد خيارين: (وفي المقابل: دَفْع

ص: 125


1- أوضاع العالم 2016، حضارة واحدة - مؤسسة الفكر العربي، إشراف: برتران بادي ودومينيك فيدال: ص150.

الأغنياء لينزلوا من (عرش) الثروة والغنى إلى (فرش) الزهد والفقر أو العيش عيشة الفقراء) وهذا يعني أنه:

أ - قد يكون من الأفضل أن يبذل الغني أمواله حتى يصل إلى درجة أن يتحول إلى فقير أن احتاج المجتمع إلى ذلك، وذلك هو ما قد يستظهر من جملة من الآيات والروايات كقوله تعالى: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»(1) والإيثار فوق المواساة بمراتب، والإيثار يعني أن تؤثر غيرك على نفسك بما يحتاجه وإن كان ذلك يشكّل كل ما تملك، فهذه الآية الكريمة تصلح شاهداً على هذا الشق من وجه الجمع السادس.

ب - وقد يكون من الأفضل (العيش عيشة الفقراء)، ولا يستلزم هذا الخيار إنفاق كل الثروة، بل قد يستبقي منها شيئاً لنفسه ولقراباته وذوي شأنه، لكنه في الوقت نفسه يزهد في فاخر المسكن والمشرب والملبس والمطعم وغيرها، ولكن قد يبقى السؤال عن جدوائية ذلك. فنقول:

الحكمة في دعوة الأغنياء ليعيشوا عيشة الفقراء

إن من الواضح أن الزهد في مباهج الحياة الدنيا جميعاً يصقل الروح ويسمو بالنفس إلى أفق الكمال الأعلى، فيهُونُ على الأغنياء حينئذٍ إنفاق أي قدر من المال احتاجته الأمة أو الفقراء في قادم الأيام حتى وإن اقتضى الأمر إنفاق أموالهم جميعاً فيكونون كخازن المال لحاجة غيره في الوقت المعلوم، والذي تومئ إليه الرواية التالية أيضاً: «مَيَاسِيرُ شِيعَتِنَا أُمَنَاؤُنَا عَلَى مَحَاوِيجِهِمْ فَاحْفَظُونَا فِيهِمْ يَحْفَظْكُمُ اللَّهُ»(2) و«إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً يَخْتَصُّهُمُ اللَّهُ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ فَيُقِرُّهَا فِي

ص: 126


1- سورة الحشر: 9.
2- الكافي: ج2 ص265.

أَيْدِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ»(1).

ويزيد الأمر إيضاحاً أن من اعتاد أن يركب أفخم السيارات وأن يسكن القصور ويلبس ويأكل ويشرب الأفضل فالأفضل، يصعب عليه جداً أن ينقلع عن كل ذلك لينفق أمواله إن احتاجته الأمة - وهي عادة محتاجة - لبناء مستشفيات أو مدارس أو مساجد أو حسينيات أو مياتم أو تأسيس معاهد أو غيرها، عكس من عاش عيشة الفقراء وإن كانت له تجارة تدر عليه الملايين فإن إنفاقه لها بأكملها أو بأكثرها أو بأي قدر منها يكون أسهل بدرجة كبيرة.

الأكثر تطوراً: اعطوا الفقراء الشبكة لا السمكة

وهذا كله وإن كان صحيحاً، ولكن هنالك طريقة أخرى أكثر تطوراً ونفعاً، ولو في جملة من الحالات، وهذه الفكرة الآتية هي التي تعتبر المكمل الاستراتيجي للوجه السادس والتي نوصي إخوتنا العلماء والخطباء والمفكرين والكتاب وغيرهم بتثقيف الناس عليها والتركيز عليها أشد التركيز، والفكرة هي:

أن نحرّض الأغنياء لكي يعطوا الفقراء الشبكة لا السمكة، وهذا يعني: أنهم بدل أن يحتكروا الأموال الطائلة ويستثمروها لتزداد يوماً بعد يوم، بدل ذلك عليهم أن يبذلوها للفقراء لتكون لهم كرأسمال يستثمرونه ليدر عليهم ما يكفل حياتهم طوال السنة، وقد يستدعي ذلك توفير الاستشارات المجانية لهم وإرشادهم، ونقل التجارب اليهم، وأيضاً توفير بعض الآليات الضرورية لهم كي يقفوا على أقدامهم.

وهذا يعني ان تاجراً يملك مليار دولار فرضاً يمكنه ان يوفر الرأسمال الكافي الوافي لعشرة آلاف شخص يعيلون عشرة آلاف عائلة على افتراض ان الرأسمال

ص: 127


1- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكمة:425 .

الوافي لتجارة مربحة نسبياً هو مائة ألف دولار، وإن فرضناه أقل أو أكثر فأقل وأكثر.

والآن نسأل أيهما أفضل: أن يمتلك رجل واحد المليارات ويزداد ثراء يوماً بعد يوم؟ أو أن يحوله إلى رأسمال لعشرة آلاف عائلة ينتشلها من الفقر بشكل دائم؟!

ولَكُم أن تتصورا حالة عامة الناس لو التزم كافة الأغنياء بذلك وأبقوا لأنفسهم سهماً كسهم الآخرين فقط، ألم يكن الفقر يقتلع من جذوره حينئذٍ؟ وألا تشهد على ذلك، في بُعد من أبعاده على الأقل، الرواية المعروفة: «مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ» والمقولة المشهورة: (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع)؟!

وذلك كله بالضبط هو معنى أن تعطي الفقير شبكة ليصطاد بها الأسماك على مرّ الأيام بدل أن تعطيه سمكة يأكلها وينتهي به الأمر إلى الاستجداء يوم غدٍ من جديد.

فالشبكة هي الرأسمال للعمل أو الحرفة وقد تكون - في مصاديق أكثر تواضعاً - ماكينة خياطة أو جراراً أو ثوراً يحرث به الأرض أو جهاز حاسوب يقوم عبره بسلسلة من الأعمال في حقل البرمجيات أو غيرها، أو قد تكون (الشبكة) هي رأسمال يشتري به قطيعاً من الغنم أو قطعة أرض يزرعها أو متجراً يتخذه منطلقاً أو رأسمالاً يتاجر به بأنحاء أخرى كثيرة.

تبرع بأموالك لمؤسسة خيرية ثم استثمرها لصالحهم

وهناك فكرة أخرى مقاربة للفكرة السابقة وهي: أن يهب الثري أمواله كلها لمؤسسة خيرية تقوم بالنيابة عنه بالعمل على ضوء المقترح السابق.

كما يمكن أن يكون هو المستثمر لها لكن لا على أنها أمواله، بل على أنها أموال الصندوق الخيري أو المؤسسة الخيرية.

ص: 128

كما يمكنه أن يؤسِّس بنفسه مؤسسة خيرية ويهب أمواله كلها لها ويكون هو الذي يدير عملية الاستثمار أو يفوضه للغير.

كما أن من الطرق أن يؤسس بأمواله صندوقاً للإقراض الخيري اللاربوي يتكفل بتوفير القروض اللاربوية لعامة المحتاجين.

(وقف الأموال) حسب تخريج بعض الفقهاء

كما يمكن أن (يَقِف) الثري أمواله على مؤسسة خيرية أو على المؤسسة التي أنشأها هو، وذلك بناء على رأي بعض الفقهاء كالسيد الوالد (رحمة الله) الذي ذهب صناعياً إلى صحة أن يقف المالك (مالية المال) أي قيمته المالية وجوهره وروحه السارية وقوته الشرائية لا حجمه ومشخصاته الفردية.

توضيح ذلك: إن المشهور هو أن الوقف (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) وهذا التعريف مستفاد من بعض الروايات المقاربة له في المضمون، فعن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ»(1) وقد استفاد الفقهاء منه: إن قوام الوقف ببقاء الأصل والانتفاع بالثمرة كوقف الدار للسكن أو البستان للانتفاع بثمره وهكذا، وإنه لا يصح وقف ما يتوقف الانتفاع به على زوال عينه أو يتوقف على تحولها وانتقالها كالأموال النقدية.

ولكن وفي المقابل استظهر بعض الأعلام - كما سبق - استناداً إلى «الْوُقُوفُ عَلَى حَسَبِ مَا يَقِفُهَا أَهْلُهَا»(2) صحة ذلك لأن وقف القيمة الشرائية هو نوعُ وقفٍ عرفاً وهو مصداق «عَلَى حَسَبِ مَا يَقِفُهَا أَهْلُهَا».

وأما تحبيس الأصل فإنه صادق بالحمل الشائع أيضاً إذ الأصل هنا هو القوة

ص: 129


1- عوالي اللئالي: ج2 ص260.
2- الكافي: ج7 ص37.

الشرائية والروح السيالة فقد حبسها هي دون المشخصات الفردية، إلا أن يدعى الانصراف، فتأمل!

فإذا ذهبنا إلى هذا الرأي صحَّ أن يقف الإنسان أمواله وينصب نفسه أو غيره من الأكفاء ولياً عليها، ثم وحسب ما يراه الولي من المصلحة يتاجر بها لصالح الفقراء والأيتام والأرامل أو المؤسسات الإنسانية أو الدينية أو يفوض لغيره استثمارها؛ وإلا كان الحل بالطرق السابقة عبر الهبة أو غير ذلك.

الثري الذي تبرع ب30 مليار دولار

والغريب والمؤسف معاً أن الآخرين سبقونا في هذا المضمار أيضاً، فلقد تبرع أحد كبار أثرياء الغرب بعشرات المليارات من ثروته لصالح مؤسسة خيرية تهتم بشؤون الصحة والتعليم، فقد تبرع في البداية بمبلغ 30 مليار دولاراً وشجع شخصاً آخر فتبرع ب29 مليار وتبرع غيرهما بمليارفصارت مؤسسة خيرية رأسمالها 60 مليار دولاراً، ثم تبرع بباقي ثروته التي وصلت في إحدى مراحلها إلى 85 مليار دولار(1)، وتفرغ لإدارة المؤسسة الخيرية واستثماراتها، وأما أولاده فقد خصّص لكل واحد منهم مليون دولار فقط، والمليون لمن لا يملك شيئاً مبلغ كبير لكنه لا يعد رقماً بالنسبة لمن يملك عشرات المليارات من الدولارات، كما يندر أن يفعل أحد مثل ذلك؛ وكان منطقه أن على أولادي أن يشقوا دربهم بأنفسهم وأن الفقراء أولى بأموالي منهم!

ولو كان أثرياؤنا السابقين إلى مثل هذه الخطوة، لَكُنّا أقرب إلى رحمة الله تعالى من جهة، ولحظيت بلادنا بالأمن والرخاء، أو لكانت أكثر استقراراً وازدهاراً، ولكُنّا بين الأمم الاعلى كعباً وألاكثر عزةً.

ص: 130


1- وقيل وصلت إلى 105 مليارات.

مرجعية قواعد باب التزاحم بين الدنيا والآخرة

(7) الوجه السابع: معادلة التزاحم بين الدنيا والآخرة
اشارة

وهناك وجه سابع للجمع بين طوائف الروايات وهو:

إن الروايات في مجملها مبتنية على معادلة التزاحم بين الدنيا والآخرة، فإن تلك التي تحرض على الزهد وتذكر محاسن الفقر وتحث عليه تتجه بوصلتها نحو توفير ضمانات أكثر للآخرة ولإحراز الأجر الأعظم والمقام الأسمى هنالك، وأما تلك التي تحض على الغنى والثروة فإنها تتجه نحو ما يصحّ أو يحسن أن يكون للإنسان من النصيب في دار الدنيا قال تعالى: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا»(1).

ومن تلك الآيات التي تتحدث عن النصيب في دار الدنيا قوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2) فهي «زِينَةَ اللهِ» وقد أخرجها الله لعباده فهي إذاً أمر حَسَن «قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» فقد خلقت لهم بالأساس لا لغيرهم لكن دنيا الامتحان اقتضت ان يشركهم فيها غيرهم في الدنيا أما في الآخرة فهي «خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لهم.

فزينة الحياة الدنيا هي لعباد الله فذلك حَسَن لكن الأحسن هو ما أشارت إليه

ص: 131


1- سورة القصص: 77.
2- سورة الأعراف: 32.

آيات أخرى كقوله تعالى: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»(1) فهذه هي الفضيلة العظمى والميزة الكبرى وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّلَهُمْ الْجَنَّةَ»(2) و«أَمْوَالَهُمْ» جمع مضاف يفيد العموم فقد اشترى الله كل أموالنا وليس بعضها وذلك في مقابل أن لنا الجنة، ونِعمتِ المعاملة المربِحة هذه؛ إذ الدنيا أيام زائلة والآخرة باقية دائمة، ثم أين نعيم الدنيا من نعيم الآخرة!

الموازنة بين الدنيا والآخرة عبر فلسفة التحذير من الدنيا

والمشكلة العظمى التي تُعد من أفدح أخطائنا هي: أننا لا نوازن بين الدنيا والآخرة الموازنة الصحيحة، ولذا تجد كفة الدنيا ترجح لدينا في أغلب مراحل الحياة ومفاصلها.

ولأن الإنسان يصعب عليه أن ينفق ما جمعه بكد اليمين وعرق الجبين وبكل صعوبة ومشقة ولأنه يميل إلى الدنيا وإلى التشبث بالمادة والماديات بشكل كبير بل وبنحو متزايد لذلك كان التحذير الشديد في الروايات من الثروة والمال:

ومنها: «أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى (علیه السلام) يَا مُوسَى (علیه السلام) لَا تَفْرَحْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَلَا تَدَعْ ذِكْرِي عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ تُنْسِي الذُّنُوبَ وَإِنَّ تَرْكَ ذِكْرِي يُقْسِي الْقُلُوبَ»(3).

ومنها: «مَا قَرُبَ عَبْدٌ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا تَبَاعَدَ مِنَ اللَّهِ وَلَا كَثُرَ مَالُهُ إِلَّا اشْتَدَّ حِسَابُهُ وَلَا كَثُرَ تَبَعُهُ إِلَّا وَكَثُرَ شَيَاطِينُهُ»(4).

ص: 132


1- سورة الحشر: 9.
2- سورة التوبة: 111.
3- الكافي: ج2 ص497.
4- النوادر للرواندي: ص4.

ومنها: «مَا أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةُ غَنِيٌّ وَ لَا فَقِيرٌ إِلَّا يَوَدُّ أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنْهَا إِلَّا الْقُوتَ»(1).

ومنها: (تَحَسَّرَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: عَلَامَ تَأَسُّفُكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَيْسَ تَأَسُّفِي عَلَى الدُّنْيَا وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) عَهِدَ إِلَيْنَا وَقَالَ لِيَكُنْ بُلْغَةُ أَحَدِكُمْ كَزَادِ الرَّاكِبِ وَأَخَافُ أَنْ نَكُونَ قَدْ جَاوَزْنَا أَمْرَهُ وَحَوْلِي هَذِهِ الْأَسَاوِدُ وَأَشَارَ إِلَى مَا فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: هُوَ دَسْتٌ وَسَيْفٌ وَجَفْنَةٌ)(2)

وغير ذلك.

معادلة «اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً..

والرواية التالية توضح المعادلة بين الدنيا والآخرة والإعداد لتلك وقضاء ضروري الوطر من هذه، بشكل دقيق، فقد ورد: «اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً وَاعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً»(3) ولكن ظاهر الرواية قد يبدو متناقضاً؛ إذ من يعلم أنه يموت غداً ينشغل بتصفية أموره وإرضاء خصومه وتسديد ديونه وقضاء حقوق الله الواجبة عليه والاستعداد للآخرة ولا تراه ينشغل بمتجره أو مصنعه أو مخبزه أو غير ذلك، أما الذي يبقى أبداً ويعيش لألوف بل ملايين السنين فإنه يجب أن يدّخر ما يكفيه لملايين السنين وليس ما يكفيه ليوم أو سنة، فكيف التوفيق؟!

معنى الرواية وحلُّ التناقض البدوي المتوهم

والجواب دقيق وسهل ويوضح لنا معادلة الدنيا والآخرة في الوقت نفسه

ص: 133


1- التمحيص: ص49.
2- عدة الداعي: ص115.
3- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص156.

ومن جوانبه: ان على المرء ان يعمل عمل من يعيش أبداً لا أن يدخر من الثروات ما تكفي للعيش أبداً، والفرق كبير فمن يعيش أبداً عليه أن يوفر ما يرجع به إلى كفاية بأن يكون له مصدر رزق يدر عليه باستمرار كأرض يزرعها أو شركة يديرها، لا أن يدخر الأموال بعد الأموال، بل أنه كلما حصل على ربح من حاصل عمله أو تجارته انفقه لآخرته فكان بذلك قد جمع الخير من طرفيه وامتثل قوله (علیه السلام): «اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً وَاعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً».

ولكن تلك هي القاعدة الأولى، أما القاعدة الثانية التي تكتمل بها المعادلة والصورة الكاملة فهي: إن وزن الدنيا بالنسبة للآخرة، وزن ضئيل حقير محدود فعلى المؤمن أن يعطيها وزنها لا أكثر من ذلك، ألا ترى حالة من عزم على السفر غداً إلى بلد ناء كالصين مثلاً وحجز التذاكر وأعد كل شيء لهجرة بلا عودة، فما الذي يعمله؟ هل تراه يدخر ثرواته ههنا ويكنزها أو انه سينقلها معه إلى البلد الذي سيهاجر إليه؟ لا شك انه سينقلها معه إلى البلد الآخر أو يبعثها مسبقاً إليه، ولكنه من جهة أخرى لا يغفل عن أنه بشر يجب أن يلبي حاجاته في هذا اليوم المتبقي من المأكل والمشرب والملبس، فهكذا حال الدنيا بالنسبة للآخرة:

إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلٍّ زَائِلٍ *** حَلَّ فِيهِ رَاكِبٌ ثُمَّ رَحَل

لو ساد هذا المنهج لما بقي فقير على وجه الأرض

ولو أن هذا المنهج: (منهج المعادلة في ظل باب التزاحم بين الدنيا والآخرة مع إعطاء كل منهما حجمه ووزنه الذي يستحقه) و(منهج الحركة المتعاكسة للأغنياء باتجاه الفقر أو العيش عيش الفقراء وللفقراء باتجاه الغنى)، كان هو الحاكم في العالم لما بقي فقير على وجه الأرض قط إذ (ما رأيت نعمة موفورة إلا

ص: 134

وإلى جانبها حق مضيع) و«مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ»، ولكن المنهج السائد اليوم هو منهج الطمع والحرص والجشع وهو منطق السوق وقواعده والفرد وانانيته، ولذانجد أن من الطبيعي جداً بعد ذلك أن تكون من أبشع إفرازات الحضارة المادية (والآخرين الذين قلدوها في العمل والسيرة واختطوا خطواتها في المسيرة) هي: الفقر المخيم على ربوع العالم والمرض والبطالة وغير ذلك من المآسي بل الفجائع.

إحصاءات مفزعة

والأرقام التالية تكشف لنا عن بعض الحقائق المرّة التي تحكم العالم نتيجة تلك المنهجية المادية البغيضة: (وتُقَدِّر منظمة الصحة العالمية أن 100 مليون فرد يغرقون في الفقر كل عام لأنهم اضطروا إلى دفع كلفة الخدمات الصحية التي تلقوها مباشرة)(1).

والرقم غريب حقاً ومؤلم إلى أبعد الحدود بل قد يبدو خيالياً لولا ان منظمة معتمدة دولياً هي التي قامت بتقدير ذلك الرقم المذهل، تصوروا مائة مليون يغرقون في مستنقع الفقر كل سنة لمجرد أنهم اضطروا للاقتراض لتسديد فاتورة علاج ضروري احتاجوا إليه أو احتاجه قريب أو عزيز والسبب هو: أن أكثر الناس يعيشون على حافة الفقر ثم يهوون إليه بأبسط ضغط وأقل كلفة إضافية.

و:(في ليبيريا مثلاً، هناك طبيب واحد لكل 100.000 من السكان، أي أقل من 50 طبيباً لمجمل السكان "أدنى بحوالي 330 ضعفاً مما هو الحال في فرنسا". وتفاوتات في إمكان الحصول على الدواء بعد ذلك: فليس هناك أي علاج نوعي

ص: 135


1- أوضاع العالم 2016، حضارة واحدة - مؤسسة الفكر العربي، إشراف: برتران بادي ودومينيك فيدال: ص164.

خاص بمرض فيروس إيبولا، ولكن علاجات اختبارية أجريت على مرضى نُقلوا إلى الخارج أو جرت معالجتهم في البلدان النامية أو المتحقّقة النموّ)(1).

و: (في أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء لا يزال معدّل وفيات الأطفال لما دون سنّ الخامسة هو 98 في كل ألف ولادة، أي أرفع من معدلات وفيات الأطفال في البلدان النامية أو المتحققة النمو، بخمس عشرة مرة)(2) وموت طفل واحد في الأسرة مؤلم مقرح يترك جروحاً في القلب قد لا تندمل مدى الحياة، فكيف بأمة يموت ما يقارب العشرة بالمائة من أطفالهم دون سن الخامسة!

التاجر الذي كان يتشدد في الحساب ثم ينفق بلا حساب!

وعوداً إلى الرواية السابقة: «اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً وَاعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً»، فإن القصة التالية تفصح لنا عن المعادلة التي ترفع التناقض المتوهم، بوجه آخر رائع، فقد نقل السيد الوالد (رحمة الله): إن أحد رجال الدين انشغل بتشييد صرح ديني مكلف فسأل عن الأثرياء من أهل الخير والبذل والعطاء فأرشدوه إلى أحدهم واثنوا عليه وعلى يده الكريمة المعطاء وأنه رجل سبّاق إلى العطاء، فشد العالم رحاله إلى منطقة التاجر وعندما وصل إليها سأل عنه، فقيل: إنه في متجره بالسوق فقصده، ولما وصل أكرمه التاجر وقدم له كرسياً واستأذنه في أن يكمل جرد الحسابات مع موظفيه ثم ينصرف إليه.

يقول العالم: كانوا بالقرب مني ولقد هالني ما سمعت؛ إذ رأيت التاجر شديد المداقّة حتى على الفلس الواحد، يلاحقهم على أبسط الأمور ولا يترك

ص: 136


1- أوضاع العالم 2016، حضارة واحدة - مؤسسة الفكر العربي، إشراف: برتران بادي ودومينيك فيدال: ص157.
2- أوضاع العالم 2016، حضارة واحدة - مؤسسة الفكر العربي، إشراف: برتران بادي ودومينيك فيدال: ص158.

شاردة ولا واردة إلا أحصاها عليهم وشدّد في الحساب على من فرّط حتى بحبة حنطة أو فنجان شاي مثلاً!

يقول العالم: فتندمت على المجيء إليه أشد الندم إذ اكتشفت من طريقة تعامله وتشدده أنه بالغ البخل شديد الطمع فكيف يبذل ما كنت أؤمله من أموال طائلة لمشروع خيري بعيد؟!

يقول: فاستأذنت للانصراف، لكن التاجر ألح عليَّ بالبقاء ثم أكمل الحسابات وجاء إليَّ وسألني عن أي أمر أو خدمة يمكنه أن يقدمها، فقلت كنت قد جئت لغرض لكن بدا لي وتغير رأيي، فألح عليَّ أن أخبره فرفضت فقال - متوسماً - الظاهر إنك جئت لأمر مشروع خيري لكنك حيث رأيت مني ما رأيت عَدَلت، فقلت: نعم، فقال: كلا .. إن لكل شيء محلاً وموضعاً فإنني وحسب مقتضى الحكمة أضبط الأمور أشد الضبط لأن الانفلات والتسيّب يبدأ صغيراً وينتهي كبيراً، ومن جهة أخرى فإن مقتضى الإحسان والكرم أن أنفق بلا حساب، ولولا ضبطي الأمر التجارية بكل دقة لما أمكنني الإنفاق بكل سخاء، فهذا إذاً مقدمة لذاك، ثم سألني عن المشروع وتبرع بمبلغ كبيراً جداً!

وبتلك المعادلات الدقيقة والتوازنات الحكيمة يمكن أن يتم إعمار الأرض على أفضل وجه قال تعالى: «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ»(1).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 137


1- سورة الأعراف: 73.

بسم الله الرحمن الرحيم

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى حُجَّتِكَ وَوَلِيِّ أَمْرِكَ وَصَلِّ عَلَى جَدِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِكَ السَّيِّدِ الْأَكْبَرِ وَصَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَبِيهِ السَّيِّدِ الْقَسْوَرِ وَحَامِلِ اللِّوَاءِ فِي الْمَحْشَرِ وَسَاقِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ نَهَرِ الْكَوْثَرِ وَالْأَمِيرِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ الَّذِي مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدْ ظَفَرَ(1) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ(2) خَطَرَ وَكَفَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ وَعَلَى نَجْلِهِمَا الْمَيَامِينِ الْغُرَرِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا أَضَاءَ قَمَرٌ وَعَلَى جَدَّتِهِ الصِّدِّيقَةِ الْكُبْرَى فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ بِنْتِ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى وَعَلَى مَنِ اصْطَفَيْتَ مِنْ آبَائِهِ الْبَرَرَةِ وَعَلَيْهِ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَأَدْوَمَ وَأَكْبَرَ وَأَوْفَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيَائِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ.

وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً لَا غَايَةَ لِعَدَدِهَا وَلَا نِهَايَةَ لِمَدَدِهَا وَلَا نَفَادَ لِأَمَدِهَا اللَّهُمَّ وَأَقِمْ(3) بِهِ الْحَقَّ وَأَدْحِضْ بِهِ الْبَاطِلَ وَأَدِلْ بِهِ أَوْلِيَاءَكَ وَأَذْلِلْ بِهِ أَعْدَاءَكَ.وَصِلِ اللَّهُمَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وُصْلَةً تُؤَدِّيَ إِلَى مُرَافَقَةِ سَلَفِهِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِحُجْزَتِهِمْ وَيُمَكَّنُ(4) فِي ظِلِّهِمْ وَ أَعِنَّا عَلَى تَأْدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.

ص: 138


1- (شَكَرَ).
2- (وَ مَنْ أَبَا فَقَدْ).
3- (أَعِزَّ).
4- (وَيَمْكُثُ).

وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ وَ هَبْ لَنَا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَخَيْرَهُ مَا نَنَالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَ فَوْزاً عِنْدَكَ وَ اجْعَلْ صَلَاتَنَا بِهِ مَقْبُولَةً وَ ذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً وَ دُعَائَنَا بِهِ مُسْتَجَاباً وَاجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً وَهُمُومَنَا بِهِ مَكْفِيَّةً وَحَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِيَّةً وَأَقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ وَانْظُرْ إِلَيْنَا نَظِرَةً رَحِيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِهَا الْكَرَامَةَ عِنْدَكَ ثُمَّ لَا تَصْرِفْهَا عَنَّا بِجُودِكَ وَاسْقِنَا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِكَأْسِهِ وَبِيَدِهِ رَيّاً رَوِيّاً هَنِيئاً سَائِغاً لَا ظَمَأَ بَعْدَهُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.

ص: 139

ص: 140

فهرس المصادر

* القرآن الكريم

* نهج البلاغة، المختار من كلام الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، لجامعه الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى (رحمة الله)

* الصحيفة السجادية

* الكافي الشريف/ للشيخ محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني (رحمة الله)، الناشر دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة: 1407.

1. الأمالي/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق (رحمة الله)، الناشر: كتابجي، الطبعة السادسة: 1416 ه.

2. الاحتجاج على أهل اللجاج/ للشيخ أحمد بن علي الطبرسي (رحمة الله)، الناشر: نشر المرتضى (علیه السلام)، الطبعة الأولى: 1403ه.

3. الاختصاص/ للشيخ المفيد (رحمة الله)، الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأولى: 1413 ه

4. الإرشاد/ للشيخ المفيد (رحمة الله)، الناشر: مؤتمر الشيخ المفيد - قم، 1413ه.

5. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار أئمة الأطهار (صلی الله علیه و آله)/ للشيخ محمد باقر المجلسي (رحمة الله)، الناشر: مؤسسة الأعلمي، الطبعة الأولى: 2008م.

ص: 141

6. تحف العقول عن آل الرسول »/ للشيخ حسن بن علي بن شعبة الحراني (رحمة الله)، الناشر: جامعة المدرسين، الطبعة الثانية: 1404 ه

7. تفسير القمي/ للشيخ علي بن إبراهيم القمي (رحمة الله)، الناشر: دار الكتاب، الطبعة الثالثة:1404 ه.

8. تهذيب الاحكام/ للشيخ ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رحمة الله)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة: 1407ه9. التمحيص/ للشيخ محمد بن همام الإسكافي (رحمة الله)، الناشر: مدرسة الإمام المهدي (علیه السلام) ، الطبعة الأولى: 1404ه

10. الخرائج والجرائح/ للشيخ سعيد بن هبة الله القطب الراوندي (رحمة الله)، الناشر: مؤسسة الإمام المهدي (علیه السلام)، الطبعة الأولى: 1409

11. الدروع الواقية/ للسيد علي بن موسى ابن الطاووس (رحمة الله)، الناشر: مؤسسة آل البيت (صلی الله علیه و آله)، الطبعة الأولى: 1415 ه.

12. عدة الداعي ونجاح الساعي/ للشيخ أحمد بن فهد الحلي (رحمة الله)، الناشر: دار الكتب الإسلامي، الطبعة الأولى: 1407 ه.

13. علل الشرائع/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق 6، الناشر: داوري، الطبعة الأولى: 1966 م.

14. عيون أخبار الرضا (علیه السلام)/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق (رحمة الله)، الناشر: نشر جهان، الطبعة الأولى: 1378 ه

15. عوالي الليالي العزيزية في الأحاديث الدينية/ للشيخ محمد بن زين الدين بن ابي جمهور (رحمة الله)، الناشر: دار سيد الشهداء للنشر، الطبعة الأولى: 1405 ه.

ص: 142

16. المحاسن/ لأحمد بن محمد بن خالد البرقي(رحمة الله)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة: الثانية 1371 ه.

17. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل/ للشيخ محمد حسين بن محمد تقي النوري (رحمة الله)، الناشر: مؤسسة آل البيت (صلی الله علیه و آله)، الطبعة الأولى:1408 ه.

18. مصباح الشريعة/ المنسوب إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام)، الناشر: مؤسسة الأعلمي، الطبعة الأولى: 1400 ه.

19. مكارم الأخلاق/ للشيخ حسن ابن فضل الطبرسي (رحمة الله)، الناشر: الشريف الرضي (رحمة الله)، الطبعة الرابعة: 1412 ه.

20. من لا يحضره الفقيه/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق(رحمة الله)، الناشر: جماعة المدرسين بقم، الطبعة الثانية: 1413 ه.

21. النوادر/ للشيخ فضل بن علي الراوندي الكاشاني، الناشر: دار الكتب، الطبعة الأولى.

22. وسائل الشيعة/ للشيخ محمد حسن الحر العاملي (رحمة الله)، الناشر: مؤسسة آل البيت (صلی الله علیه و آله)، الطبعة الأولى: 1409 ه.23. مصباح الأصول/ للسيد أبي القاسم الخوئي (رحمة الله)، الناشر: مكتبة الداوري، الطبعة الخامسة: 1417 ه.

24. مجمع البحرين/ للشيخ فخر الدين بن محمد الطريحي (رحمة الله)، الطبعة الثالثة: 1427.ه.

25. لسان العرب

ص: 143

ص: 144

الفهرس

كلمة مؤسسة التقى الثقافية 7

ملامح النظرية الإسلامية 9

في الغنى والثروة والفقر والفاقة 9

الفصل الأول

من بصائر النور في آية الاستعمار والرزق والخلق/11

بصائر النور في آية الاستعمار 13

البصيرة الأولى: تعليل «اعْبُدُوا اللَّهَ» بأنه «أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» 13

البصيرة الثانية: احتمالان في معنى «اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» 13

أنواع من إعمار الأرض 14

البصيرة الثالثة: الاستعمار تمسَّك بالاستغلال، وتَرَكنا نحن الاستعمار 14

البصيرة الرابعة: من غايات الخِلقة عمرانُ الأرض وهو محبذ ومطلوب 15

هل مطلوبية العمران تدل على وجوبها؟ 15

الدليل على افادة الطلب للوجوب 16

الإطلاق ومقدمات الحكمة تفيد الإرادة الشديدة 16

مقام المولوية يقتضي وجوب امتثال الطلب 17

انصراف الطلب للوجوب 17

البصيرة الخامسة: استحباب إعمار الأرض وقصد القربة بإعمارها 17

ص: 145

البصيرة السادسة: استعمار الجميع أو المجموع لجميع الأرض أو مجموعها 18

البصيرة السابعة: لنبتدأ كل عمل بذكر الله ولنختتم به ولنضمّنه في الأثناء! 20

من بصائر النور في آيتي الاستعمار والرزق 21

فقه الغايات وفقه المآلات 21

الأنواع الخمسة للفقه 21

فقه الواجبات والمحرمات 21

فقه المقدّمات 21

فقه المقارِنات 22

فقه الغايات والمآلات 22

آيات قرآنية من دائرة فقه الغايات أو فقه المآلات 23

الأولى: آية «لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ» والتعددية والتنافس 23

الثانية: آية الدُّولة بين الأغنياء 25

الثالثة: آية اليسر 25

الرابعة: آية التطهير والتزكية والسَّكَن 25

الخامسة: آية إكمال الحجة 26

السادسة: آية القضاء على الفتنة 26

السابعة: آية الحياة في القِصَاصِ 26

الثامنة: آية إخفاء الزينة 27

التاسعة: آية عوامل الخوف والجوع 27

كلام الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) عن غايات الشرائع 28

من بصائر النور في آية «خَلَقَ لَكُمْ» 30

ص: 146

الجسر الرابط بين البحوث التفسيرية ومباحث الفقه التحليلية 30

المحتملات والأقوال في كيفية تعلق حق الفقراء بالزكاة 31

الفصل الثاني

موقف الشريعة من الغنى والثروة والفقر والفاقة ووجوه الجمع بين طائفتين من الروايتين مادحة وذامة/35

أسئلة حيوية يجب تحديد الموقف منها مسبقاً 37

مسؤولية الحوزة العلمية في الإجابة على تلك الأسئلة 38

السؤال المطروح: هل الفقر خير للمؤمن أم الغنى؟! 39

الجواب: طائفتان من الروايات مادحة للفقر و مادحة للغنى 39

الطائفة الأولى: الروايات التي تمدح الفقر وتعتبره علامة الإيمان 39

الأولى: كلما ازداد إيماناً ازداد ضيقاً في معيشته 39

الثانية فليستعد للفقر جلباباً 40

الثالثة: أكرَمُ ما تكون عند الله أن تطلب درهماً فلا تجده! 40

الرابعة: الفقر عند الله مثل الشهادة 41

الخامسة: الرسول (صلی الله علیه و آله): الفقر فخري 42

تأويل الحديث من صاحب مجمع البحرين والمناقشة 42

السادسة: الفقر شعار الصالحين، والغنى ذنب عُجِّلت عقوبته 44

رائعة من صحابِيَّين للرسول (صلی الله علیه و آله): غني وفقير 46

عبر ودروس في الرواية 46

الأولى: لا تترك منكراً إلا وتنهى عنه 46

الثانية: لا تكابر إذا نُصحت! 47

ص: 147

الثالثة: لا تقبل الأموال من الأغنياء! 47

الطائفة الثانية: الروايات التي تمدح الغنى وطلب المال 49

الأولى: لا خير فيمن لا يحب جمع المال 49

الثانية: سلوا الله الغنى 49

الثالثة: من النعم سعة المال 49

الرابعة: أحق أهل الدنيا بالدنيا الأبرار والمؤمنون والمسلمون 49

الخامسة: الغنى عون على التقوى والاخرة 50

وجوه الجمع السبعة بين الطائفتين المادحة للفقر والذامة له 51

إطلاقات (الفقر) وأنواعه، وهل هو قمة الكمال أو مجمع الرذائل؟ 53

الوجه الأول من وجوه الجمع: تعدد إطلاقات الفقر 53

إطلاقات الفقر الأربع 54

أولاً: الفقر إلى الله تعالى 54

الفقر فخري 54

اللهم أغنني بالافتقار إليك 55

استمداد الفيض والطاقة آناً فآناً من الله تعالى 56

ثانياً: الفقر من الدين 57

الفقر سواد الوجه في الدارين 57

الفقر الموت الأحمر 57

الفقر الموت الأكبر 58

قصة تخيير الأمير (علیه السلام) للفقير بين الولاية والمال! 58

ثالثاً: فقر النفس 60

ص: 148

مظاهر فقر النفس ودناءتها 61

رابعاً: الفقر المادي 63

لماذا على من أحبّ أهل البيت (صلی الله علیه و آله) أن يستعدّ للفقر؟ 65

اضطهاد الشيعة اقتصادياً في السعودية والبحرين وغيرهما 65

على القادة والمسؤولين أن يعيشوا فقراء 67

الوجه الثاني: عيشة الفقراء واجبة على المسؤولين، والغنى مطلوب لعامة الناس 67

الأصل: الطيبات للعباد، وعلى القادة الزهد والعيش عيشة الفقراء 68

أ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ» 68

ب: سليمان النبي (علیه السلام) يأكل الشعير ويطعم الناس الحُوَّاري 70

ج: الإمام السجاد (علیه السلام) يقدم مائدة عامرة ويأكل الزيت والخل فقط! 71

د: الرسول (صلی الله علیه و آله): يضع التمر على الأرض إذ لا إناء في البيت! 71

ه: الرسول (صلی الله علیه و آله) يضطجع على الخَصَفة وعلى التراب! 72

و: الأمير (علیه السلام) يمتنع عن أكل الفالوذج 73

ز: أول أعمال الأمير (علیه السلام) عند التصدي للخلافة الظاهرية 74

تقسيم كل ما في بيت المال، فوراً 74

العمل في البئر بالمكتلة والمسحاة! 75

ح: زهد الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (علیها السلام) الذي زلزل أعماق اليهودي فأسلم 75

الفقر والغنى في الميزان 79

الفقر مطلوب ذاتي للمؤمنين والغنى مرجوح ومطلوب طريقي 79

الوجه الثالث: الفقر راجح ذاتاً والغنى مرجوح لولا طريقيته 79

المحتملات الخمس في الخير والشر في كل أمر 79

ص: 149

الفقر خيره غالب، والغنى شره غالب 80

الروايات الدالة على وجه الجمع الثالث 80

الأصل في ضيق ذات اليد أنه حسن نظر من الله تعالى 81

السر في ذلك: القدرة والثروة مدعاة للطغيان والقسوة! 81

ما أنزلت الدنيا من نفسي إلا بمنزلة المَيتة 82

السر في التحذير من الدنيا 83

الدنيا رمال متحركة ومستنقعات خطرة 83

وفي المقابل: الغني المعطاء البذول أفضل من الفقر والموصول 84

ثنائي الكُره الذاتي للمال والمطلوبية الطريقية 85

من شواهد الجمع: معنى الزهد 86

فقه الغايات وفقه المآلات وهندسة القيادة الإسلامية لاتجاهات الغنى والفقر 87

الوجه الرابع: الروايات صادرة بنحو القضايا الخارجية أو الحقيقية أو بالاختلاف 87

تفسير روايات الغنى والفقر بانها من القضايا الخارجية 89

معنى رواية «وَلَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ لَهُ مِائَةُ أَلْفٍ» 91

موقع القائد: الموازنة بين شتى العوامل المتزاحمة المتدافعة 91

مسؤولية شورى الفقهاء والقادة: تحديد الاتجاه العام للأمة ولشرائح المجتمع 92

توجيه حركة المجتمع باتجاه الثراء العريض أو الزهد والتقشف 94

فلسفة رواية تحديد الثروات بسقف منخفض كمائة ألف أو عشرة آلاف 95

المجاهدون والنهضويون في مرحلة بناء الأمة 98

الوجه الخامس: التقشف في مرحلة النهضة وبناء الأمة 98

التقشف في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) 100

ص: 150

تناقض منهج الصحابة كما تكشف عنه عائشة 100

لو استمرت النهضة المحمدية لتحوّلت الأرض فردوساً، ولكنهم انقلبوا على الأعقاب 101

صمود القلة من الصحابة على المنهج النبوي 102

تحسر سلمان لأنه امتلك سيفاً وجَفْنَة ودَستاً! 102

ريشة الصديقة الكبرى (علیها السلام) ترسم لوحة شاملة للانقلاب على النبي (صلی الله علیه و آله) وآثاره 103

أنموذج من زهد بضعة الرسول (علیها السلام)، و«إِنَّ ابْنَتِي لَفِي الْخَيْلِ السَّوَابِقِ» 105

دروس وعِبَر في رواية سلمان 106

الفرق بين التقشف الطوعي والتقشف القسري 107

النهضة على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأمم 108

نهضوية العلامة الأميني (رحمة الله) وتضحياته 108

الأصول الخمسة في معادلة الفقر والثروة 110

وضمانات توازن الثروات عالمياً عبر العفاف والكفاف 110

الوجه السادس: الحركة المتعاكسة للفقراء نحو الغنى، وللأغنياء نحو الفقر 110

مقتضى القاعدة الأولية 110

قاعدتان واستثناءان 111

تزهيد الأغنياء في الثروة إلا ما كان طريقياً 111

وتزهيد الفقراء في الفقر إلا ما كان رسالياً! 111

أ طوائف الروايات الذامّة للمال والثراء مشيرة الى القاعدة الاولى 112

كلما اقتربت من السلطان ابتعدت عن الله تعالى 113

كلما كثر مالك اشتد حسابك! 114

كلما كثر أتباعك كثرت شياطينك 114

ص: 151

ب - طوائف الروايات الدالة على الاستثناء 114

ج - طوائف الروايات المحذّرة من الفقر؛ القاعدة الثانية 116

د - طوائف الروايات الدالة على الاسثتناء 117

التجارة كطريق للقضاء على الفوارق القومية والعرقية وغيرها 117

القاعدة الخامسة: أمّ القواعد الأربع: (الكفاف) لا الفقر ولا الثراء 119

الحكمة الكبرى وراء أصالة (الكفاف) العامة 120

لغة الأرقام والإحصاءات تشهد! 121

800 مليون يعانون نقص التغذية ومليار يعانون سوء التغذية! 121

مليار طن وثلاثمائة مليون طن من الأطعمة ترمى سنوياً! 122

الجوع ظاهرة سياسية! 123

عدد البشر في العام 2050 ومعضلة الطعام! 125

(النهضة الاقتصادية) عبر مخطَّط (الشبكة) ووقف رؤوس الأموال 125

الحكمة في دعوة الأغنياء ليعيشوا عيشة الفقراء 126

الأكثر تطوراً: اعطوا الفقراء الشبكة لا السمكة 127

تبرع بأموالك لمؤسسة خيرية ثم استثمرها لصالحهم 128

(وقف الأموال) حسب تخريج بعض الفقهاء 129

الثري الذي تبرع ب30 مليار دولار 130

مرجعية قواعد باب التزاحم بين الدنيا والآخرة 131

الوجه السابع: معادلة التزاحم بين الدنيا والآخرة 131

الموازنة بين الدنيا والآخرة عبر فلسفة التحذير من الدنيا 132

معادلة «اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً.. 133

ص: 152

معنى الرواية وحلُّ التناقض البدوي المتوهم 133

لو ساد هذا المنهج لما بقي فقير على وجه الأرض 134

إحصاءات مفزعة 135

التاجر الذي كان يتشدد في الحساب ثم ينفق بلا حساب! 136

فهرس المصادر 141

الفهرس 145

كتب أخرى للمؤلف 154

ص: 153

كتب أخرى للمؤلف

1. أضواء على حياة الإمام علي (علیه السلام)، مطبوع.

2. التصريح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

3. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.

4. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، مطبوع.

5. شعاع من نور فاطمة الزهراء (عليها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، مطبوع.

6. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.

7. لمحات من حياة الإمام الحسن (علیه السلام)، مطبوع.

8. الإمام الحسين (علیه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(علیه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.

9. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (علیه السلام)، مطبوع.

10. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

11. السيدة نرجس (عليها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.

12. دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.

13. بحوث في العقيدة والسلوك، مجموعة محاضرات على ضوء الآيات القرآنية الكريمة، ألقيت في الحوزة الزينبية وفي النجف الأشرف، مطبوع.

14. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.

ص: 154

15. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقل والجهل، مخطوط.

16. كونوا مع الصادقين، بحوث تفسيرية في الآية الشريفة «كونوا مع الصادقين»، مطبوع.

17. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

18. توبوا إلى الله، مطبوع.

19. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.20. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.

21. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.

22. مقتطفات قرآنية، مطبوع.

23. مناشئ الضلال ومباعث الانحراف، مطبوع.

24. مقاصد الشريعة و مقاصد المقاصد اللين والرحمة نموذجاً، مطبوع.

25. شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية، مطبوع.

26. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

27. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

28. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.

29. فقه المكاسب مباحث البيع، مخطوط.

30. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

31. فقه المكاسب المحرمة - مباحث الرشوة، مطبوع.

32. فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.

33. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.

ص: 155

34. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.

35. فقه المكاسب المحرمة - احكام اللهو واللغو واللعب وحدودها، مطبوع.

36. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، مخطوط.

37. فقه المكاسب المحرمة - مبحث النجش، مخطوط.

38. فقه المكاسب المحرمة - مبحث التعامل بالدراهم المغشوشة والبضائع المقلدة، مخطوط.

39. رسالة في الحق والحكم التعريف والضوابط والاثار، مخطوط.

40. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

41. الاجتهاد والتقليد والاحتياط، تقريرات درس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

42. الأصول مباحث القطع، مخطوط.

43. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

44. التبعيض في التقليد، مخطوط.

45. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

46. التقليد في مبادئ الاستنباط، مخطوط.

47. الحجة؛ معانيها ومصاديقها، مطبوع.

48. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.

49. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.

50. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

51. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة

ص: 156

والعقل والعلم، مطبوع.

52. مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.

53. مباحث الأصول، رسالة في الحكومة والورود، مخطوط.

54. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.

55. المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.

56. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.

57. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.

58. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

59. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.

60. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

61. معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.62. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

63. الحوار الفكري، مطبوع.

64. الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، مطبوع.

ص: 157

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.